الكتاب: الرد على المنطقيين المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ) المحقق: - الناشر: دار المعرفة، بيروت، لبنان الطبعة: - عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الرد على المنطقيين ابن تيمية الكتاب: الرد على المنطقيين المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ) المحقق: - الناشر: دار المعرفة، بيروت، لبنان الطبعة: - عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مقدمة ... كتاب الرد على المنطقيين للإمام ابن تيمية بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن قال شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العلامة مفتي الفرق، شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة مفتي الفرق مجد الدين عبد السلام بن تيمية: الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. أما بعد فإني كنت دائما أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد ولكن كنت أحسب أن قضاياه صادقة لما رأيت من صدق كثير منها. ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه وكتبت في ذلك شيئا ثم لما كنت بالإسكندرية اجتمع بي من رأيته يعظم المتفلسفة بالتهويل والتقليد فذكرت له بعض ما يستحقه من التجهيل والتضليل. واقتضى ذلك أني كتبت في قعدة بين الظهر من الكلام على المنطق ما علقته تلك الساعة. ثم تعقبته بعد ذلك في مجالس إلى أن تم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ولم يكن ذلك من همتي فإن همتي إنما كانت فيما كتبته عليهم في الإلهيات. وتبين لي أن كثيرا مما ذكروه في أصولهم في الإلهيات وفي المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات، مثل ما ذكروه من تركيب الماهيات من الصفات التي سموها ذاتيات وما ذكروه من حصر طرق العلم في ما ذكروه من الحدود والأقيسة البرهانية بل وفيما ذكروه من الحدود التي يعرف التصورات بل ما ذكروه من صور القياس ومواده اليقينيات. فأراد بعض الناس أن يكتب ما علقته إذ ذاك من الكلام عليهم في المنطق فأذنت في ذلك لأنه يفتح باب معرفة الحق، وإن كان ما فتح من باب الرد عليهم يحتمل أضعاف ما علقته تلك الساعة فقلت: فصل: ملخص أصول المنطق واصطلاحاته بنوا المنطق على الكلام في الحد ونوعه والقياس البرهاني ونوعه قالوا لأن العلم أما تصور وأما تصديق وكل منهما بديهي وأما نظري فإنه من المعلوم أنه ليس الجميع بديهيا ولا يجوز أن يكون الجميع نظريا لافتقار النظري إلى البديهي فيلزم الدور القبلي أو التسلسل في العلل التي هي هنا أسباب العلم وهي الأدلة وهما ممتنعان. والنظري منهما لا بد له من طريق ينال به فالطريق الذي ينال به التصور هو الحد والطريق الذي ينال به التصديق هو القياس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 فالحد اسم جامع لكل ما يعرف التصور وهو القول الشارح فيدخل فيه الحقيقي والرسمي واللفظي أو هو الحقيقي خاصة فيقرن به الرسمي واللفظي ليس من هذا الباب أو والحد اسم للحقيقي والرسمي دون اللفظي فان كل نوع من هذه الثلاثة اصطلاح طائفة منهم كما قد بسطته وذكرت أسماءهم في غير هذا الموضع والقياس أن كانت مادته يقينية فهو البرهان خاصة وإن كانت مسلمة فهو الجدلى وإن كانت مشهورة فهو الخطابي وإن كانت مخيلة فهو الشعري وإن كانت مموهة فهو السوفسطائي ولهذا قد يتداخل البرهاني والخطابي والجدلي وبعض الناس يجعل الخطابي هو الظني وبعضهم يجعله الاقناعي ولهم اصطلاحات أخر بعضها موافق لاصطلاح المعلم الأول أرسطو وبعضها مخالف له فان كثيرا من المصنفين فيه خرجوا في كثير منه عن طريقة معلمهم الأول ولكن ليس المقصود هنا بسط هذا ثم الحد إنما يتألف من الصفات الذاتية أن كان حقيقيا وإلا فلا بد من العرضية وكل منهما أما أن يكون مشتركا بين المحدود وغيره وأما أن يكون مميزا له عن غيره فالمشترك الذاتي الجنس والمميز الذاتي الفصل والمؤلف منهما النوع والمشترك العرضي هو العرض العام والمميز العرضى هو الخاصة وقد يعبر ب الخاصة عما يعرض ل النوع وإن لم يكن عاما لأفراده لكن تلك الخاصة لا يحصل بها التمييز كما قد يعبر ب النوع عن الأنواع الإضافية التي هي بالنسبة إلى ما فوقها نوع وبالنسبة إلى ما تحتها جنس ولكن هذا وأمثاله من جزئيات المنطق التي ليس هنا المقصود الكلام فيها فان للكلام على ما ذكروه في الجنس والنوع مقاما آخر غير ما علق في هذه العجالة فهذه الكليات الخمس وبإزاء الكلي الجزئي وهو ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه والكلام في المركب مسبوق بالكلام على المفرد ودلالة اللفظ عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 والقياس مؤلف من مقدمتين والمقدمة قضية أما موجبة وأما سالبة وكل منهما أما كلية وأما جزئية فلا بد من الكلام في القضايا وأنواعها وجهاتها. وقد يستدل عليها ب نقيضها وبعكسها وبعكس نقيضها فإنها إذا صحت بطل نقيضها وصح عكسها وعكس نقيضها فتكلم في تناقض القضايا وعكسها المستوى وعكس نقيضها. والقضية أما حملية وأما شرطية متصلة وأما شرطية منفصلة فانقسم القياس باعتبار صورته إلى قياس تداخل وهو الحملي وقياس تلازم وهو الشرطي المتصل وقياس تعاند وهو التقسيم والترديد وهو الشرطي المنفصل هذا باعتبار صورته وباعتبار مادته إلى الأصناف الخمسة المتقدمة. فلا بد من الكلام في مواد القياس وهي القضايا التي يستدل بها على غيرها وهذا كله في قياس الشمول وأما قياس التمثيل والاستقراء فله حكم آخر فإنهم قالوا الاستدلال ب الكلى على الجزئي هو قياس الشمول وب الجزئي على الكلى هو الاستقراء أما التام أن علم شموله للأفراد وإلا ف الناقص والاستدلال بأحد الجزئيين على الآخر هو قياس التمثيل. مع أنا قد بسطنا في غير هذا الموضع الكلام على أن كل قياس شمول فانه يعود إلى التمثيل كما أن كل قياس تمثيل فانه يعود إلى شمول وأن جعلهم قياس الشمول يفيد اليقين دون قياس التمثيل خطأ. وذكرنا تنازع الناس في اسم القياس هل يتناولهما جميعا كما عليه جمهور الناس أو هو حقيقة في التمثيل مجاز في قياس الشمول كما اختاره أبو حامد الغزالي وأبو محمد المقدسي أو بالعكس كما اختاره ابن حزم وغيره من أهل المنطق والكلام على هذا مبسوط في مواضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 والمقصود هنا ذكر شيء آخر فنقول: الكلام في أربع مقامات مقامين سالبين ومقامين موجبين. فالأولان: أحدهما: في قولهم أن التصور المطلوب لا ينال إلا بالحد. والثاني: أن التصديق المطلوب لا ينال إلا بالقياس. والآخران: في أن الحد يفيد العلم بالتصورات وأن القياس أو البرهان الموصوف يفيد العلم بالتصديقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 المقام الأول: المقام السلبي في الحدود والتصورات. في قولهم: أن التصورات غير البديهية لا تنال إلا بالحد والكلام على هذا من وجوه:. أحدها: أن يقال لا ريب أن النافي عليه الدليل إذا لم يكن نفيه بديهيا كما أن على المثبت الدليل فالقضية سواء كانت سلبية أو إيجابية إذا لم تكن بديهية فلا بد لها من دليل وأما السلب بلا علم فهو قول بلا علم فقول القائل: أنه لا تحصل هذه التصورات إلا بالحد قضية سالبة وليست بديهية فمن أين لهم ذلك وإذا كان هذا قولا بلا علم كان في أول ما أسسوه القول بلا علم فكيف يكون القول بلا علم أساسا لميزان العلم ولما يزعمون أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الثاني: أن يقال الحد يراد به نفس المحدود وليس هذا مرادهم ههنا ويريدون به القول الدال على ما هيه المحدود وهو مرادهم هنا وهو تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال. فيقال: إذا كان الحد قول الحاد فالحاد أما أن يكون قد عرف المحدود بحد وأما أن يكون عرفه بغير حد فان كان الأول فالكلام في الحد الثاني كالكلام في الأول وهو مستلزم للدور القبلى أو التسلسل في الأسباب والعلل وهما ممتنعان باتفاق العقلاء وإن كان عرفه بغير حد بطل سلبهم وهو قولهم أنه لا يعرف إلا بالحد. الثالث: أن الأمم جميعهم من أهل العلم والمقالات وأهل العمل والصناعات يعرفون الأمور التي يحتاجون إلى معرفتها ويحققون ما يعانونه من العلوم والأعمال من غير تكلم بحد منطقي ولا نجد أحدا من أئمة العلوم يتكلم بهذه الحدود لا أئمة الفقه ولا النحو ولا الطب ولا الحساب ولا أهل الصناعات مع أنهم يتصورون مفردات علمهم فعلم استغناء التصور عن هذه الحدود. الرابع: أنه إلى الساعة لا يعلم للناس حد مستقيم على أصلهم بل أظهر الأشياء الإنسان وحده ب الحيوان الناطق عليه الاعتراضات المشهورة وكذلك حد الشمس وأمثال ذلك حتى أن النحاة لما دخل متأخروهم في الحدود ذكروا ل الاسم بضعة وعشرين حدا وكلها معترض عليها على أصلهم بل أنهم ذكروا ل الاسم سبعين حدا لم يصح منها شيء كما ذكر ذلك ابن الأنباري المتأخر والأصوليون ذكروا ل القياس بضعة وعشرين حدا وكلها معترض على أصلهم وعامة الحدود المذكورة في كتب الفلاسفة والأطباء والنحاة والاصوليين والمتكلمة معترضة على أصلهم وإن قيل بسلامة بعضها كان قليلا بل منتفيا فلو كان تصور الأشياء موقوفا على الحدود لم يكن إلى الساعة قد تصور الناس شيئا من هذه الأمور والتصديق موقوف على التصور فإذا لم يحصل تصور لم يحصل تصديق فلا يكون عند بني آدم علم في عامة علومهم وهذا من أعظم السفسطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الخامس: أن تصور الماهية إنما يحصل عندهم بالحد الذي هو الحقيقي المؤلف من الذاتيات المشتركة والمميزة وهو المركب من الجنس والفصل وهذا الحد أما متعذر أو متعسر كما قد أقروا بذلك وحينئذ فلا يكون قد تصور حقيقة من الحقائق دائما أو غالبا وقد تصورت الحقائق فعلم استغناء التصورات عن الحد. السادس: أن الحدود الحقيقية عندهم إنما تكون الحقائق المركبة وهي الأنواع التي لها جنس وفصل وأما ما لا تركيب فيه وهو ما لا يدخل مع غيره تحت جنس كما م ثله بعضهم ب العقول فليس له حد وقد عرفوه وهو من التصورات المطلوبة عندهم فعلم استغناء التصورات عن الحد بل إذا أمكن معرفة هذه بلا حد فمعرفة تلك الأنواع أولى لأنها أقرب إلى الحس وان أشخاصها مشهودة. وهم يقولون أن التصديق لا يقف على التصور التام الذي يحصل بالحد الحقيقي بل يكفي فيه أدنى تصور ولو ب الخاصة وتصور العقول من هذا الباب وهذا اعتراف منهم بأن جنس التصور لا يقف على الحد الحقيقي لكن يقولون الموقوف عليه هو تصور الحقيقة أو التصور التام وسنبين أن شاء الله أنه ما من تصور إلا وفوقه تصور أتم منه وأنا نحن لا نتصور شيئا بجميع لوازمه حتى لا يشذ عنا منها شيء وأنه كلما كان التصور لصفات المتصور أكثر كان التصور أتم. وأما جعل بعض الصفات داخلة في حقيقة الموصوف وبعضها خارجة فلا يعود إلى أمر حقيقي وإنما يعود ذلك إلى جعل الداخل ما دل عليه اللفظ ب التضمن والخارج اللازم ما دل عليه اللفظ ب اللزوم فتعود الصفات الداخلة في الماهية إلى ما دخل في مراد المتكلم بلفظه والخارجة اللازمة للماهية إلى ما يلزم مراده بلفظه وهذا أمر يتبع مراد المتكلم فلا يعود إلى حقيقة ثابتة في نفس الأمر للموصوف وقد بسطنا ألفاظهم في غير هذا الموضع وبينا ذلك بيانا مبسوطا يبين أن ما سموه الماهية أمر يعود إلى ما يقدر في الأذهان لا إلى ما يتحقق في الأعيان والمقدر في الأذهان بحسب ما يقدره كل أحد في ذهنه فيمتنع أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 تكون الحقائق الموجودة تابعة لذلك. السابع: أن مستمع الحد يسمع الحد الذي هو مركب من ألفاظ كل منها لفظ دال على معنى فان لم يكن عارفا قبل ذلك بمفردات تلك الألفاظ ودلالتها على معانيها المفردة لم يمكنه فهم الكلام والعلم بأن اللفظ دال على المعنى أو موضوع له مسبوق بتصور المعنى فمن لم يتصور مسمى الخبر والماء والسماء والأرض والأب والأم لم يعرف دلالة اللفظ عليه وإذا كان متصورا لمسمى اللفظ ومعناه قبل استماعه وإن لم يعرف دلالة اللفظ عليه امتنع أن يقال أنه إنما تصوره باستماع اللفظ لأن في ذلك دورا قبليا إذ يستلزم أن يقال لم يتصور المعنى حتى سمع اللفظ وفهمه ولم يمكن أن يفهم المراد باللفظ حتى يكون قد تصور ذلك المعنى قبل ذلك وهذا كما أنه مذكور في دلالة الأسماء على مسمياتها المفردة فهو بعينه وارد في دلالة الحدود على المحدودات إذ كلاهما إنما يدل على معنى مفرد لكن الحد يفيد تفصيل ما دل عليه الاسم بالاجمال. وقد يكون فيه عند المنطقين تفصيل صفاته المشتركة والمختصة وإن كان للمتكلمين في الحد طريق آخر إذ لا يحدون إلا ب الخاصة المميزة الفاصلة دون المشتركة بل يمنعون من التركيب الذي يوجبه المنطقيون وهو لعمري أقرب إلى المقصود كما سنبينه أن شاء الله تعالى ونبين أن فائدة الحدود التمييز لا التصوير. وإذا كان المطلوب التمييز فإنما ذاك بالمميز فقط دون المشترك ولأنه كلما كان أوجز واجمع وأخص كان أحسن كالأسماء فليس الحد في الحقيقة إلا اسما من الأسماء أو اسمين أو ثلاثة كقولك: حيوان ناطق وكذلك قيل في تعليم آدم الأسماء كلها تعليم حدودها وهي من جنس الحدود المحدود المذكورة في قوله تعالى: {وَأَجْدَرُ إلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} التوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الثامن: أن الحد إذا كان هو قول الحاد فمعلوم أن تصور المعاني لا يفتقر إلى الألفاظ فان المتكلم قد يتصور معنى ما يقوله بدون لفظ والمستمع قد يمكنه تصور تلك المعاني من غير مخاطب بالكلية فكيف يمكن أن يقال لا تتصور المفردات إلا بالحد الذي هو قول الحاد. التاسع: أن الموجودات المتصورة أما أن يتصورها الإنسان بحواسه الظاهرة كالطعم واللون والريح والأجسام التي تحمل هذه الصفات وأما أن يتصورها بمشاعره الباطنة كما تتصور الأمور الحسية الباطنة الوجدية مثل الجوع والشبع والحب والبغض والفرح والحزن واللذة والألم والإرادة والكراهية والعلم والجهل وأمثال ذلك وكل من الأمرين قد يتصوره معينا وقد يتصوره مطلقا أو عاما وهذه التصورات جميعها غنية عن الحد ولا يمكنه تصور شيء بدون مشاعره الظاهرة والباطنة وما غاب عنه يعرفه بالقياس والاعتبار بما شاهده. العاشر: أنهم يقولون أن للمعترض أن يطعن على حد الحاد ب النقض والمعارضة. والنقض أما في الطرد وأما في العكس أما الطرد فهو أنه حيث وجد الحد وجد المحدود فيكون الحد مانعا فإذا بين وجود الحد ولا محدود لم يكن مطردا ولا مانعا بل دخل فيه غيره كما لو قال في حد الإنسان أنه الحيوان وأما العكس وهو أن يكون حيث انتفى الحد انتفى المحدود لكون الحد جامعا وإذا لم يكن جامعا انتفى الحد مع بقاء بعض المحدود كما لو قال في حد الإنسان أنه العربي فلا يكون الحد منعكسا ولو استعمل لفظ الطرد في موضع العكس لكان سائغا والمقصود أنه لا بد من اتفاق الحد والمحدود في العموم والخصوص فلا بد أن يكون مطابقا للمحدود لا يدخل فيه ما ليس من المحدود ولا يخرج منه ما هو من المحدود فمتى كان أحدهما اعم كان باطلا بالاتفاق وسمى ذلك نقضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فان النقض يرد على الحد والدليل والقضية الكلية والعلة لكن الدليل والقضية الكلية لا يجب فيهما الانعكاس إلا بسبب منفصل مثل المتلازمين إذا استدل بأحدهما على الآخر فهنا يكون الدليل مطردا منعكسا وأما الحد فلا بد فيه من الانعكاس. والعلة أن كانت تامة وجب طردها وإن لم تكن تامة جاز تخلف الحكم عنها لفوات شرط أو وجود مانع ويسمى ذلك تخصيصا ونقضا أما وجود الحكم بلا علة فيسمى عدم عكس وعدم تاثير ونفس الحكم المتعلق بها ينتفي لا بانتفائها ولا يجب انتفاء نظيره إذا كان له علة أخرى فمجرد عدم الانعكاس لا يدل على فساد العلة إلا إذا وجد الحكم بدون العلة من غير أن تخلفها علة أخرى وهو في الحقيقة وجود نظير الشخص وهو نوعه فهنا تكون العلة عديمة التأثير فتكون باطلة وبهذا يظهر أن عدم التأثير مبطل لها وعدم الانعكاس ليس مبطلا لها فإنها إذا انتفت انتفى الحكم المعلق بها وإذا وجد الحكم بعلة أخرى فان كانت العلة مساوية هي كالآخرى فهي هي وإن كانت مجانبة لها فلا بد أن يختلف الحكم كما أن حل الدم كان اسم جنس فالحل الحاصل بالردة نوع غير النوع الحاصل بالزنا والحل الحاصل بالقتل فان الحل الحاصل بالقتل يجوز فيه الفداء والمعافاة والحل الحاصل بالردة يجوز فيه الغفران بالتوبة والحل الحاصل بالزنا فيه حد الرجم بالحجارة وبحضور شهود وكثير نظائر هذا فإلى في احد الحلين أن كان مماثلا للآخر فالعلتان واحدة وإن اختلف الحكم اختلف العلة وانتقاض الوضوء بالبول والغائط نوع واحد ليس هو من باب تغاير الحكم بعلتين كالقتل بالحدود قال المعترض: "هذه الأوصاف لا تأثير لها في حل الدم فان الردة وزنا المحصن وحراب الكافر الأصلي يبيح الدم مع انتفاء هذه الأوصاف" فيقال له: فان الحل وجد لسبب آخر لا لعدم تأثر هذه الأوصاف كما يستحق الابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الإرث بالنسب والنكاح والولاء ويثبت الملك بالمعاوضة والإرث والإيهاب والاغتنام وتلك المباحات لو كان للمستدل فيجب القود فياسا على القتل لم يرد عليه هذا السؤال لأن الواجب بالردة والزنا ليس قودا. وأما عدم التأثير مبطل لما هو العلة لأن تأثير الدلالة الذي يجمع فيه لا يدل على العلة فان الدليل لا يجب انعكاسه كما لو قال من يركب القياس في مسألة زكوة الصبي ملبوس فلا يجب له الزكاة كلباس الكبير قيل له لا تأثير لكونه لباسا لا في الفرع ولا في الأصل بل هذا الحكم ثابت عند أهل الشرع في جميع مال الصغير وهذه كلمات جوامع في هذه الكليات التي يكثر فيها اضطراب الناس. وأما المعارضة للحد بحد آخر فظاهر. فإذا كان المستمع للحد يبطله ب النقص تارة وب المعارضة أخرى ومعلوم أن كليهما لا يمكن إلا بعد تصور المحدود علم أنه يمكن تصور المحدود بدون الحد وهو المطلوب. الحادي عشر: أن يقال هم معترفون بأن من التصورات ما يكون بديهيا لا يحتاج إلى حد وإلا لزم الدور أو التسلسل. وحينئذ فيقال كون العلم بديهيا أو نظريا هو من الأمور النسبية الإضافية مثل كون القضية يقينية أو ظنية إذ قد يتيقن زيد ما يظنه عمرو وقد يبده زيدا من المعاني ما لا يعرفه غيره إلا بالنظر وقد يكون حسيا لزيد من العلوم ما هو خبرى عند عمرو وإن كان كثير من الناس يحسب أن كون العلم المعين ضروريا أو كسبيا أو بديهيا أو نظريا هو من الأمور اللازمة له بحيث يشترك في ذلك جميع الناس وهذا غلط عظيم وهو مخالف للواقع. فان من رأى الأمور الموجودة في مكانه وزمانه كانت عنده من الحسيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 المشاهدات وهي عند من علمها بالتواتر من المتواترات وقد يكون بعض الناس إنما علمها بخبر ظنى فتكون عنده من باب الظنيات فان لم يسمعها فهي عنده من المجهولات وكذلك العقليات فان الناس يتفاوتون في الإدراك تفاوتا لا يكاد ينضبط طرفاه ولبعضهم من العلم البديهي عنده والضروري ما ينفيه غيره أو يشك فيه وهذا بين في التصورات والتصديقات. وإذا كان ذلك من الأمور النسبية الإضافية أمكن أن يكون بديهيا عند بعض الناس من التصورات ما ليس بديهيا لغيره فلا يحتاج إلى حد وهذا هو الواقع وإذا قيل فمن لم يحصل له تلك المحدودات بالبداهة حصلت له بالحد قيل كثير منهم يجعل هذا حكما عاما في جنس النظريات لجنس الناس وهذا خطا واضح ومن تفطن لما ذكرناه يقال له ذلك الشخص الذي لم يعلمها بالبديهة يمكن أن تصير بديهة له بمثل الأسباب التي حصلت لغيره فلا يجوز أن يقال لا يعلمها إلا بالحدود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 المقام الثاني: المقام الايجابي في الحدود والتصورات وهو أنه هل يمكن تصور الأشياء بالحدود. فيقال المحققون من النظار يعلمون أن الحد فائدته التمييز بين المحدود وغيره كالاسم ليس فائدته تصوير المحدود وتعريف حقيقته وإنما يدعى هذا أهل المنطق اليوناني أتباع أرسطو ومن سلك سبيلهم وحذا حذوهم تقليدا لهم من الإسلاميين وغيرهم فأما جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين وغيرهم فعلى خلاف هذا. وإنما دخل هذا في كلام من تكلم في أصول الدين والفقه بعد أبي حامد في أواخر المائة الخامسة وأوائل المائة السادسة فأما أبو حامد فقد وضع مقدمة منطقية في أول المستصفى وزعم أن من لم يحط بها علما فلا ثقة له بشي من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 علومه وصنف في ذلك محك النظر ومعيار العلم ودواما اشتدت به ثقته وأعجب من ذلك أنه وضع كتابا سماه القسطاس المستقيم ونسبه إلى أنه تعليم الأنبياء وإنما تعلمه من ابن سينا وهو تعلمه من كتب أرسطو وهؤلاء الذين تكلموا في الحدود بعد أبى حامد هم الذين تكلموا في الحدود بطريقة أهل المنطق اليوناني. وأما سائر طوائف النظار من جميع الطوائف المعتزلة والأشعرية والكرامية والشيعة وغيرهم ممن صنف في هذا الشأن من اتباع الأئمة الأربعة وغيرهم فعندهم إنما تفيد الحدود التمييز بين المحدود وغيره بل أكثرهم لا يسوغون الحد إلا بما يميز المحدود عن غيره ولا يجوز أن يذكر في الحد ما يعم المحدود وغيره سواء سمي جنسا أو عرضا عاما وإنما يحدون بما يلازم المحدود طردا وعكسا ولا فرق عندهم بين ما يسمى فصلا وخاصة ونحو ذلك مما يتميز به المحدود من غيره. وهذا مشهور في كتب أهل النظر في مواضع يطول وصفها من كتب المتكلمين من أهل الإثبات وغيرهم كأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر إسحاق وأبي بكر بن فورك والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي المعالي الجويني وأبي الميمون النسفي الحنفي وغيرهم وقبلهم أبو علي وأبو هاشم وعبد الجبار وأمثالهم من شيوخ المعتزلة وكذلك ابن النوبخت والموسى والطوسي وغيرهم من شيوخ الشيعة وكذلك محمد بن الهيصم وغيره من شيوخ الكرامية فإنهم إذا تكلموا في الحد قالوا أن حد الشىء وحقيقته خاصته التي تميزه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 قال أبو القاسم الأنصاري في شرح الإرشاد: "قال إمام الحرمين: القصد من التحديد في اصطلاح المتكلمين التعرض لخاصة الشيء وحقيقة التي يقع بها الفصل بينه وبين غيره". قال الأستاذ: "حد الشيء معناه الذي لأجله كان بالوصف المقصود بالذكر" قال أبو المعالي: "ولو قال قائل حد الشيء معناه واقتصر عليه كان سديد أو قال حد الشيء حقيقته أو خاصته كان حسنا". قال: "فإن قيل: إذا قلتم حد العلم أو حقيقة ما يعلم به فلم تذكروا خاصة العلم لأن العلم يشتمل على مختلفات ومتماثلات لا يجمع جميعها في خاصة واحدة فان المجتمعين في الأخص متماثلان؟ فنقول: إنما غرضنا أن نبين أن المذكور حدا هو خاصة وصف المحدود في مقصود الحد إذ ليس الغرض بالسؤال عن العلم التعرض لتفصيله وإنما الغرض معرفة العلمية بأخص وصف العلم الذي يشترك فيه ما يختلف منه وما يتماثل بما ذكرناه حيث قلنا أنه المعرفة أو ما يعلم به أو التبيين". وهذا على طريقة الأستاذ ومن رام ذكر حد من قبيل المعلومات فإنما غرضه الوقوف على صفة يشترك فيها القبيل المسئول عنه على وجه يتضح للسائل. قال أبو المعالي: "فان قيل الحد يرجع إلى قول المخبر أو إلى صفة في المحدود قلنا: ما صار إليه كافة الأئمة أن الحد صفة المحدود سكت عنه الواصفون أم نطقوا وهو بمعنى الحقيقة" وقد ذكر القاضي في التقريب أن الحد قول الحاد المنبئ عن الصفة التي تشترك فيها آحاد المحدود ووافق الأصحاب في أن حقيقة الشيء ومعناه راجعان إلى صفة دون قول القائل وإنما بين ذلك في الحد لمشابهته الوصف ومشابهة الحقيقة الصفة ونحن نفصل بين الوصف والصفة" ثم قال القاضي: "من الأشياء ما يحد ومنها ما لا يحد وما من محقق إلا وله حقيقة ومن صار إلى أن الحد يرجع إلى حقيقة المحدود" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 يقول: "ما من ذي حقيقة إلا وله حد نفيا كان أو إثباتا والغرض من التحديد التعرض لحقيقة الشيء التي بها يتميز عن غيره والشيء إنما يتميز عن غيره بنفسه وحقيقته لا بقول القائل". ثم قال أبو المعالي: "قال المحققون الاطراد والانعكاس من شرائط الحد وإذا كان الغرض من الحد تمييز المحدود بصفة عما ليس منه فليس يتحقق ذلك إلا مع الاطراد والانعكاس ف الطرد هو تحقق المحدود مع تحقق الحد والعكس هو انتفاء المحدود مع انتفاء الحد. وإذا قيل حد العلم هو العرض لم يطرد ذلك إذ ليس كل عرض علما فهذا نقض الحد ولو قلنا في حد العلم كل معرفة حادثة فهذا لا ينعكس إذ ثبت علم ليس بحادث والسائل عن حد العلم لم يقصد حد ضرب منه تخصيصا وإنما أراد الإحاطة بمعنى سائر العلوم. وإذا قلنا العلم هو المعرفة فكل معرفة علم وكل علم معرفة وكل ما ليس بعلم فليس بمعرفة وكل ما ليس بمعرفة فليس بعلم وهذه عبارات أربع: عبارتان في النفي وعبارتان في الإثبات ولا تستقيم الحدود دون ذلك". قال أبو المعالي: "فان قال قائل: هل يجوز تركيب الحد من وصفين أم لا؟ قلنا: اختلف المتكلمون:. فذهب كثير منهم إلى أن المركب ليس بحد وشيخنا أبو الحسن يميل إلى ذلك ويقدح في التركيب وليس المراد بمنع التركيب تكليف المسئول أن يأتي في حد ما يسأل عنه بعبارة واحدة إذ المقصود إتحاد المعنى بدون اللفظ والعبارات لا تقصد لأنفسها وليست هي حدودا بل هي منبئة عن الحدود وقال شيخنا أبو الحسن في حد العلم مع منعه التركيب: "هو ما أوجب كون محله عالما وهذا يشتمل على كلمات ولم يعد هذا تركيبا فان المقصود بالحد التعرض لصفة واحدة هو إيجاب العلم حكمه وكذلك إذا قيل في حد الجوهر ما قبل العرض فليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 بمركب وإن ذكر العرض وقبوله إياه ولكن المقصود بالحد التعرض للقبول فقط. ثم التركيب فيه تقسيم فمنه باطل بالاتفاق ومنه مختلف فيه فالمتفق عليه هو أن يذكر الحاد معنيين يقع الاستقلال بأحدهما وذكر الآخر لغو في مقصود الحد وشرطه وأما المختلف فيه فكما يقول المعتزلة في حد المرئي ما يكون لونا أو متلونا فهم يصححون هذا الحد ولا يرون هذا التركيب قادحا قالوا لأن المقصود من الحد حصر المحدود مع التعرض للحقيقة فإذا قامت الدلالة على أن المتحيز يرى وعلى أن الألوان مرئية ولا يجتمع الألوان والجوهر في حقيقة واحدة إذ الأوصاف الجامعة لها محدودة منها الوجود والحدوث وباطل تحديد المرئي بالموجود أو المحدث إذ يلزم منه رؤية الطعوم والروائح والعلوم ونحوها فإذا لم يمكن الجمع بين الجواهر والألوان في صفة جامعة لها في حكم الرؤية غير منتقضة فلا وجه إلا ذكر الجواهر بخاصتها وذكر الألوان بحقيقتها. ومعظم المتكلمين على الامتناع من مثل ذلك في الحدود وقالوا المتحيز وكون اللون هيئة حكمان متنافيان فينبغي أن لا يثبت لهما مع تباينهما حكم لا تباين فيه وهو كون المرئي مرئيا". قال الأستاذ أبو المعالي: "وأحسن طريقة في هذا ما ذكره القاضي فإنه قال: "ما يذكر من معرفة الحدود ينقسم فربما يتأتى ضبط آحاد المحدود بصفة واحدة يشترك فيها جملة الآحاد نحو تحديدنا العلم ب المعرفة والشيئية ب الوجود وربما لا يتأتى ضبط جميع آحاد المحدود في صفة واحدة يشترك جميعها فيها فلو ذكر في حدها صفة جامعة لبطل فإذا كان الأمر كذلك وتأتي ضبط ما يسأل عنه بذكر صفتين يشتمل إحداهما على قبيل من المسئول والآخرى على القبيل الآخر لصح تحديده" قال القاضي: "ولو حقق ذلك لزال فيه الخلاف فان الذي يحد بصفتين لو قيل له أتدعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 اجتماع القبلين في صفة واحدة؟ لما ادعاه ولو قيل لمطالبة أتنكر تحقيق الانحصار عند ذكر الصفتين لما وجد سبيلا إلى إنكار ذلك والحد ليس بموجب وإنما هو بيان وكشف وهذا المعنى يتحقق في الصفتين تحققه في الصفة الواحدة فإن الكلام إلى مناقشة في العبارة". وقال القاضي أبو بكر بن الطيب: "وان قال لنا قائل: ما حد العلم عندكم قلنا: حده معرفة المعلوم على ما هو به والدليل على ذلك أن هذا الحد يحصره على معناه ولا يدخل فيه ما ليس منه ولا يخرج منه شيء هو فيه والحد إذا أحاط بالمحدود على هذا السبيل وجب أن يكون حدا ثابتا صحيحا فكلما حد به العلم وغيره وكانت حاله في حصر المحدود وتميزه من غيره وإحاطته به حال ما حددنا به العلم وجب الاعتراف بصحته وقد ثبت أن كل علم تعلق بمعلوم فأنه معرفة له على ما هو به وكل معرفة بمعلوم فإنها علم به فوجب توفيق الحد الذي حددنا به العلم وجعلناه تفسيرا لمعنى منه بأنه علم". قلت: فقد بين القاضي أن كل ما أحاط بالمحدود بحيث لا يدخل فيه ما ليس منه ولا يخرج منه ما هو منه كان حدا صحيحا. اعتراف الغزالي باستعصاء الحد: وقد ذكر الغزالي في كتابه الكبير في المنطق الذي سماه معيار العلم مذهب المتكلمين هذا بعد أن ذكر استعصاء الحد على طريقة المنطقيين فقال: الفصل السابع: في استعصاء الحد على القوى البشرية إلا عند غاية التشمير والجهد: ومن عرف ما ذكرناه من مثارات الاشتباه في الحد عرف عن أن القوة البشرية لا تقوى على التحفظ عن كل ذلك إلا على الندوز وهي كثيرة وأعصاها على الذهن أربعة أمور: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 أحدها: أن شرطنا أن نأخذ الجنس الأقرب ومن أين للطالب أن لا يغفل عنه فيأخذ جنسا يظن أنه أقرب وربما يوجد ما هو أقرب منه فيحد الخمر بأنه مائع مسكر ويذهل عن الشراب الذي هو تحته وهو أقرب منه ويحد الإنسان بأنه جسم ناطق مائت ويغفل عن الحيوان وأمثاله. الثاني: أنا إذا شرطنا أن تكون الفصول ذاتية كلها واللازم الذي لا يفارق في الوجود والوهم يشتبه بالذاتي غاية الاشتباه ودرك ذلك من أغمض الأمور فمن أين له أن لا يغفل فيأخذ لازما فيورده بدل الفصل ويظن أنه ذاتي. الثالث: أنا شرطنا أن يأتي بجميع الفصول الذاتية حتى لا يحل بواحد ومن أين يأمن من شذوذ بعضها عنه لا سيما إذا وجد فصلا حصل به التمييز والمساواة في الاسم في الحمل كالجسم ذي النفس الحساس ومساواته لفظ الحيوان مع إغفال المتحرك بالإرادة وهذا من أغمض ما يدرك. الرابع: أن الفصل مقوم ل النوع مقسم ل الجنس فإذا لم يراع شرط التقسيم اخذ في القسمة فصولا ليست أولية ل الجنس وهو غير مرضى في الحدود فان الجسم كما أنه ينقسم إلى النامي وغير النامي انقساما ب فصل ذاتي فكذلك ينقسم إلى الحساس وغير الحساس والى الناطق وغير الناطق فمهما قيل الجسم ينقسم إلى الناطق وغير الناطق فقد قسم بما ليس هو الفصل القاسم أوليا بل ينبغي أن يقسم أولا إلى النامي وغير النامي ثم النامي ينقسم إلى الحيوان وغير الحيوان ثم الحيوان إلى الناطق وغير الناطق وكذلك الحيوان ينقسم إلى ذي رجلين والى ذي أرجل ولكن هذا التقسيم ليس ل فصول أولية بل ينبغي أن يقسم الحيوان إلى ماش وغير ماش ثم الماشي ينقسم إلى ذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 رجلين وذي أرجل إذ الحيوان لم يستعد ل الرجلين والأرجل باعتبار كونه حيوانا بل باعتبار كونه ماشيا واستعد لكونه ماشيا باعتبار كونه حيوانا. فرعاية الترتيب في هذه الأمور شرط للوفاء بصناعة الحد وهي في غاية العسر. ولذلك لما عسر اكتفى المتكلمون بالتمييز وقالوا أن الحد هو القول الجامع المانع ولم يشترطوا فيه إلا التمييز. ويلزم عليه الاكتفاء ب الخواص فيقال في حد الفرس أنه الصهال وفي حد الإنسان أنه الضحاك وفي الكلب أنه النباح وذلك في غاية البعد عن غرض التعريف لذات المحدود. ولأجل عسر التحديد قد رأينا أن نورد جملة من الحدود المعلومة المحررة في الفن الثاني من كتاب الحدود". ثم قال: الفن الثاني: في الحدود المفصلة إعلم أن الأشياء التي يمكن تحديدها لا نهاية لها لأن العلوم التصديقية غير متناهية وهي تابعة ل التصورات وأقل ما يشتمل عليه التصديق تصوران وعلى الجملة فكل ما له اسم يمكن تحرير حده ورسمه أو شرح اسمه وإذا لم يكن في الاستقصاء مطمع فالأولى الاستقصار على القوانين المعروفة لطريقه وقد حصل ذلك بالفن الأول. ولكنا أوردنا حدودا مفصلة لفائدتين:. إحداهما: أن تحصل الدربة بكيفية تحرير الحد وتأليفه فان الامتحان والممارسة للشيء يفيد قوة عليه لا محالة. الثانية: أن يقع الاطلاع على معاني أسماء أطلقها الفلاسفة وقد أوردناها في كتاب تهافت الفلاسفة إذ لم يمكن مناظرتهم إلا بلغتهم وعلى حكم اصطلاحهم وإذا لم نفهم ما أوردناه من اصطلاحهم لا يمكن مناظرتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فقد أوردنا ألفاظ أطلقوها في الإلهيات والطبيعات وشيئا قليلا من الرياضيات. فلتؤخذ هذه الحدود على أنها شرح الاسم فان قام البرهان على أن ما شرحوه هو كما شرحوه اعتقد حدا وإلا اعتقد شرحا للاسم. كما يقال: حد الجني حيوان هوائي ناطق مشف الجرم من شانه أن يتشكل بأشكال مختلفة فيكون هذا شرحا للاسم في تفاهم الناس فأما وجود هذا الشيء على هذا الوجه فيعرف بالبرهان فان دل على وجوده كان حدا بحسب الذات وإن لم يدل عليه بل دل على أن الجني المراد به في الشرع موجود آخر كان هذا شرحا للاسم في تفاهم الناس. وكما تقول في حد الخلاء أنه بعد يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة قائم لا في مادة من شأنه أن يملأه جسم ويخلو عنه وربما دل الدليل على أن ذلك محال فيؤخذ على أنه شرح للاسم في إطلاق النظار. وإنما قدمنا هذه المقدمة ليعلم أن ما نورده من الحدود شرح لما أراده الفلاسفة بالاطلاق لا حكم بأن ما ذكروه كما ذكروه فان ذلك مما يتوقف على ما يوجبه البرهان". الرد على كلام الغزالي: قلت: ما ذكره من صعوبة الحد على الشروط التي ذكرها حق لو كان المقصود بالحد تصوير الحدود كما يدعونه وكان ذلك ممكنا لكن ما ذكروه في الحد باطل فإنه يمتنع أن يحصل بمجرد الحد تصور المحدود وما ذكروه من الفرق بين الصفات الذاتية المقومة الداخلة في الماهية والصفات الخارجة اللازمة أمر باطل لا حقيقة له وما أوجبوه من ذكر الصفتين في الحدود هو مما يحظره المتكلمون فيمتنعون منه في الحد والتحقيق أنه لا واجب ولا محظور كما قد بيناه في موضع آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وكل ما يذكرونه من الحدود فانما يفيد التمييز وإذا كان لا يحصل بالحد إلا التمييز فالتمييز قد يحصل ب الفصل والخاصة فعلم أن طريقة المتكلمين أسد في تحصيل المقصود الصحيح بالحدود. وأما قوله: "إن ذلك في غاية البعد عن التعريف لذات المحدود" فيقال وكذلك سائر الحدود هي غير محصلة لتصوير ذات المحدود كما سنبينه إن شاء الله تعالى. وما ذكره من الوجوه حجة عليهم. فان ما ذكره من لزوم اخذ الجنس القريب أمر اصطلاحي وذلك أنه إذا أخذ البعيد كان الفصل يدل على القريب بالتضمن أو الالتزام كدلالة القريب على البعيد ف الناطق عندهم يدل على الحيوان والمسكر على الشراب كما يدل الحيوان على الجسم وكما يدل الشراب على المائع سواء جعلوا هذه دلالة تضمن أو التزام فان كانوا يكتفون بمثل هذه الدلالة كان الفصل كافيا وإن كانوا لا يكتفون إلا بما يدل على الذاتيات بالمطابقة لم يكن ذكر الجنس القريب وحده كافيا. فإذا قال: مائع مسكر كان لفظ المسكر يدل عل أنه الشراب فان المسكر ههنا اخص عندهم من الشراب ومن المائع وهو فصل كالناطق ل الإنسان ومعلوم حينئذ أن كل مسكر شراب كما أن كل ناطق حيوان كما أنه إذا قيل في الإنسان جسم ناطق ف الناطق عندهم اخص من الجسم ومن الحيوان وهو يدل على الحيوان بالتضمن أو الالتزام ودل لفظ المائع على الجنس البعيد بالمطابقة. وإذا قال: شراب مسكر دل قوله شراب على أنه مائع بالتضمن أو الالتزام عندهم ودل على الجنس القريب بالمطابقة فصار الفرق بينهما أنه تارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 يدل على الجنس البعيد بالمطابقة والقريب بالتضمن وتارة بالعكس. فإذا قالوا الأحسن أن يدل على القريب بالمطابقة لأنه اخص بالمحدود وكلما كان اخص كان أكثر تمييزا قيل ليس في ذلك اختصاص احد الحدين بتصوير الماهية دون الآخر بل بأنه أتم تمييزا. وهذا تكلم على المعنى الذي ذكره في حد الخمر بحسب ما قاله ف الخمر اسم ل المسكر عند الشارع سواء كان مائعا أو جامدا طعاما أو شربا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر" فلو كان الخمر جامدة وأكلها كانت خمرا باتفاق المسلمين. وأما الوجه الثاني: فقوله: "اللازم الذي لا يفارق في الوجود والوهم يشتبه بالذاتي غاية الاشتباه" كلام صحيح بل ليس بينهما في الحقيقة فرق إلا بمجرد الوضع والاصطلاح كما قد بين في غير هذا الموضع وبين أنهم في هذا الوضع المنطقي والاصطلاح المنطقي فرقوا بين المتماثلين وسووا بين المختلفين. وهذا وضع مخالف لصريح العقل وهو أصل صناعة الحدود الحقيقية عندهم فتكون صناعة باطلة إذ الفرق بين الحقائق لا يكون بمجرد أمر وضعي بل بما هي عليه الحقائق في نفسها وليس بين ما سموه ذاتيا وما سموه لازما للماهية في الوجود والذهن فرق حقيقي في الخارج وإنما هي فروق اعتبارية تتبع الوضع واختيار الواضع وما يفرضه في ذهنه وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع وذكرنا ألفاظ أئمتهم في هذا الموضع وتفسيرها. وإن حاصل ما عندهم أن ما يسمونه ماهية هي ما يتصوره الذهن فان أجزاء الماهية هي تلك الأمور المتصورة فإذا تصور جسما ناميا حساسا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 متحركا بالإرادة ناطقا أو ضاحكا كان كل جزء من هذه الأجزاء المعنى المتصور وكان داخلا في هذا التصور وإن تصور حيوانا ناطقا كان أيضا كل منهما جزءا مما تصوره داخلا فيه وكان ما يلزم هذه الصورة الذهنية مثل كونه حيا وحساسا وناميا هو لازما لهذا المتصور في الذهن فالماهية بمنزلة المدلول عليه بالمطابقة وجزؤها المقوم لها الداخل فيها الذي هو وصف ذاتي لها بمنزلة المدلول عليه التضمن واللازم لها الخارج عنها بمنزلة المدلول عليه بالالتزام ومعلوم أن هذا أمر يتبع ما يتصوره الإنسان سواء كان مطابقا أو غير مطابق ليس هو تابع للحقائق في نفسها. وأصل غلط هؤلاء أنه اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان فالإنسان إذا حد شيئا كالإنسان مثلا بمن هو جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق كان هذا القول له لفظ ومعنى فكل لفظ من ألفاظه له معنى من هذه المعاني جزء هذا الكلام. وأما قوله في الثالث: "إنه يشترط جميع الفصول" فهذا كاشتراط الجنس وليس في ذلك ما يفيد تصوير الماهية وأما التمييز فيحصل بدون ذلك وهذا أمر وضعي والمتكلمون قد اتفقوا على أنه لا يجوز الجمع بين وصفين متساويين في العموم والخصوص ضد ما يوجبه هؤلاء فلا يجمع بين فصلين وهذا كما إذا حد الحيوان بأنه جسم نام حساس متحرك بالإرادة ف الحساس والمتحرك بالإرادة فصلان والمنطقيون يوجبون ذكرهما والمتكلمون يمنعون من ذكرهما جميعا ويأمرون بالاقتصار على أحدهما. أما الوجه الرابع: فانه من جنس احد الجنس البعيد بدل القريب فان تقسيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الجنس بالفصول الآخرية دون الأولية مثل تقويم النوع ب الأجناس الأولية دون الآخرية. صناعة الحد وضع اصطلاحي غير فطري: وقوله: "رعاية الترتيب في هذه الأمور شرط للوفاء بصناعة الحد وهو في غاية العسر" فيقال:. هذه صناعة وضعية اصطلاحية ليست من الأمور الحقيقة العلمية وهي مع ذلك مخالفة لصريح العقل ولما عليه الوجود في مواضع فتكون باطلة ليست من الأوضاع المجردة كوضع أسماء الأعلام فان تلك فيها منفعة وهي لا تخالف عقلا ولا وجودا وأما وضعهم فمخالف لصريح العقل والوجود ولو كان وضعا مجردا لم يكن ميزانا للعلوم والحقائق فان الأمور الحقيقية العلمية لا تختلف باختلاف الأوضاع والاصطلاحات كالمعرفة بصفات الأشياء وحقائقها فالعلم بأن الشيء حي أو عالم أو قادر أو مريد أو متحرك أو ساكن أو حساس أو غير حساس ليس هو من الصناعات الوضعية بل هو من الأمور الحقيقية الفطرية التي فطر الله تعالى عباده عليها كما فطرهم على أنواع الإرادات الصحيحة والحركات المستقيمة. لاسيما وهؤلاء يقولون: أن المنطق ميزان العلوم العقلية ومراعاته تعصم الذهن عن أن يغلط في فكره كما أن العروض ميزان الشعر والنحو والتصريف ميزان الألفاظ العربية المركبة والمفردة وآلات المواقيت موازين لها. ولكن ليس الأمر كذلك فان العلوم العقلية تعلم بما فطر الله عليه بني آدم من أسباب الإدراك لا تقف على ميزان وضعي لشخص معين ولا يقلد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 العقليات أحد بخلاف العربية فإنها عادة لقوم لا تعرف إلا بالسماع وقوانينها لا تعرف إلا بالاستقراء بخلاف ما به يعرف مقادير المكيلات والمذونات والمزروعات والمعدودات فإنها تفتقر إلى ذلك غالبا لكن تعيين ما به يكال ويوزن بقدر مخصوص أمر عادي كعادة الناس في اللغات. وقد تنازع علماء المسلمين في مسمى الدرهم والدينار هل هو مقدر بالشرع أو المرجع فيه إلى العرف؟ على قولين أصحهما الثاني وعلى ذلك يبنى النصب الشرعي هل هو مائتا درهم يوزن معين أو مائتا درهم مما يتعامل بها الناس؟ باعتبار تقررها. وأما ما ذكروه من صناعة الحد فلا ريب أنهم وضعوها وهم معترفون بأن الواضع لها أرسطو وهم يعظمونه بذلك ويقولون لم يسبقه احد إلى جميع أجزاء المنطق وتنازعوا هل سبق بعض أجزائه على قولين. وأجزاء المنطق ثمانية: 1- المفرادات وهى المقولات المعقولة المفردة و 2- التركيب الأول وهو تركيب القضايا و 3- التركيب الثاني وهو تركيب القياس من القضايا ثم 4- البرهاني و 5- الجدلي و 6- الخطابي و 7- الشعري و 8- السفسطة. ويسمون الجزء الأول إيساغوجى وقد يقولون أن فرفوريوس هو الذي أدخل ذلك المنطق بعد أرسطو. وقد يجعلون القياس والبرهان واحدا ويجعلون أجزاءه سبعة ويقولون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 هذا قول أرسطو. والجزء الثاني الذي يشتمل على المقدمات يسمونه هرمينياس ومعناه العبارات. والثالث الذي يشتمل على القياس المطلق يسمونه انولوطيقيا الأول. والبرهاني يسمونه انولوطيقا الثاني. والجدلي يسمونه طوبيقا. والخطابي يسمونه ديطويقا. والشعري يسمونه اوقيوطيقا. والسفسطة يسمونه سوفسطيقا. وهذه عبارات يونانية فإذا تكلمت بها العرب فإنها تعربها وتقربها إلى لغاتها كسائر ما تكلمت به العرب من الألفاظ المعجمة فلهذا توجد ألفاظها مختلفة. وقد كانت الأمم قبلهم تعرف حقائق الأشياء بدون هذا الوضع وعامة الأمم بعدهم تعرف حقائق الأشياء بدون وضعهم فان أرسطو كان وزيرا للاسكندر بن فيلبس المقدوني وليس هذا ذا القرنين المذكور في القرآن كما يظنه كثير منهم بل هذا كان قبل المسيح بنحو ثلثمائه سنة. وجماهير العقلاء من جميع الأمم يعرفون الحقائق من غير تعلم منهم بوضع أرسطو وهم إذا تدبروا أنفسهم وجدوا أنفسهم تعلم حقائق الأشياء بدون هذه الصناعة الوضعية. ثم أن هذه الصناعة زعموا أنها تفيد تعريف حقائق الأشياء ولا تعرف إلا بها وكلا هذين غلط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ولما راموا ذلك لم يكن بد من أن يفرقوا بين بعض الصفات وبعض إذ جعلوا التصور بما جعلوه ذاتيا فلا بد أن يفرقوا بين ما هو ذاتي عندهم وما ليس كذلك ولا بد أن يرتبوا ذكرها على ترتيب مخصوص إذ لا تذكر على كل ترتيب فكانت الصفات الذاتية مادة الحد الوضعي والترتيب الذي ذكروه هو صورته. ولما كان ذلك مستلزما للتفريق بين المتماثلين أو المتقاربين كان ممتنعا أو عسرا إذ يفرقون بين صفة وصفة يجعل أحدهما ذاتية دون أخرى مع تساويهما أو تقاربهما ويفرقون بين ترتيب وترتيب بجعل أحدهما معرفا للحقيقة دون الآخر مع تساويهما أو تقاربهما وطلب الفرق بين المتماثلات طلب ما لا حقيقة له فهو ممتنع وإن كان بين المتقاربين كان عسرا فالمطلوب أما متعذرا وأما متعسرا فان كان متعذرا بطل بالكلية وإن كان متعسرا فهو بعد حصوله ليس فيه فائدة زائدة على ما كان يعرف قبل حصوله فصاروا بين أن يمتنع عليهم ما شرطوه أو ينالوه ولا يحصل به ما قصدوه وعلى التقديرين ليس ما وضعوه من الحد طريقا لتصور الحقائق في نفس من لا يتصورها بدون الحد وإن كان الحد قد يفيد من تنبيه المخاطب وتمييز المحدود ما قد تفيده الأسماء كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وما ذكروه من الفرق بين الحد وشرح الاسم فتلخيصه أن المحدود المميز عن غيره إذا تصورت حقيقته فقد يكون هو الموجود الخارجي وقد يكون هو المراد الذهني وقد يراد بالحد تمييز ما عناه المتكلم بالاسم وتفهيمه سواء كان ذلك المعنى الذي أراده بالاسم ثابتا في الخارج أو لم يكن وقد يراد به تمييز ما هو موجود في الخارج وهذا شأن كل من فسر كلام متكلم أو شرحه فقد يفسر مراد المتكلم ومقصودة سواء كان مطابقا للخارج أو لم يكن وقد يتبين مع ذلك أنه مطابق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 للأمر الخارج وأنه حق في نفسه. وإذا كان الكلام غير حق لم يكن مطابقا للخارج فيريد المستمع أن يطابق بينه وبين الواقع فلا يطابقه ولا يوافقه حتى قد يظن الظان أن الشارح أو المستمع لم يفهم مقصود المتكلم لعسرته ولا يكون كذلك بل لأن ما ذكره من الكلام ليس بمطابق للواقع فلا يمكن مطابقته إياه وقد يكون ظن من ظنه مطابقا للخارج إحسانا للظن بالمتكلم ويكون قد ظن أنه لم يفهمه لدقته عليه فلا يكون كذلك. وقولهم في الحد الحقيقي أنه متعسر وإنه لا يتوقف عليه إلا آحاد الناس هو من هذا الباب فان الحد الحقيقي إذا أريد به ما زعموه فإنه لا حقيقة له في الخارج إذ يريدون به أن الموصوف في نفسه مؤلف من بعض صفاته اللازمة له التي بعضها اعم منه وبعضها مطابق له دون بعض صفاته اللازمة المساوية لتلك العامة في العموم وللمطابقة في المطابقة دون بعض وأن حقيقته هي مركبة من تلك الصفات دون غيرها وان تلك الحقيقة يصورها الحد دون غيره فهذا ليس بحق. فدعواهم تأليفه من بعض الصفات اللازمة دون بعض باطلة بل دعواهم أنه مركب من الصفات باطلة ودعواهم له حقيقة ثابتة في الخارج يصورها الحد دون غيره باطلة وإنما الواقع أن المحدود الموصوف الذي ميز بالاسم أو الحد عن غيره قد يكون ثابتا في الخارج وقد يكون ثابتا في نفس المتكلم بالاسم أو الحد وهو يظن ثبوته في الخارج وليس كذلك. وبهذا يقال الحد يكون تارة بحسب الاسم وتارة بحسب المسمى ويقال الحد يكون تارة بحسب اسم الشيء وتارة بحسب حقيقته وإن كان الحد بحسب الاسم قد يكون مطابقا للخارج لكن المقصود أن الحد تارة يميز بين المراد باللفظ وغير المراد وتارة يميز بين الموجود في الخارج من الأعيان وبين غيره وهذا التمييز إنما يحصل بواسطة ذلك فالتمييز الذي في النفس يجب أن يكون مطابقا للتمييز في الخارج والتمييز الذي يحصل للمستمع هو بواسطة التمييز الذي في نفس المتكلم والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 خلط مقالات أهل المنطق بالعلوم النبوية وإفساد ذلك للعقول والأديان: وقد تفطن أبو عبدا لله الرازي بن الخطيب لما عليه أئمة الكلام وقرر في محصله وغيره أن التصورات لا تكون مكتسبة وهذا هو حقيقة قول القائلين أن الحد لا يفيد تصوير المحدود. لكنه لم يهتد هو وأمثاله إلى ما سبق إليه أئمة الكلام في هذا المقام. وهذا مقام شريف ينبغي أن يعرف فانه بسبب إهماله دخل الفساد في العقول والأديان على كثير من الناس إذ خلطوا ما ذكره أهل المنطق في الحدود بالعلوم النبوية التي جاءت به الرسل التي عند المسلمين واليهود والنصارى بل وسائر العلوم كالطب والنحو وغير ذلك. وصاروا يعظمون أمر الحدود ويدعون أنهم هم المحققون لذلك وأن ما يذكره غيرهم من الحدود إنما هي لفظية لا تفيد تعريف الماهية والحقيقة بخلاف حدودهم ويسلكون الطرق الصعبة الطويلة والعبارات المتكلفة الهائلة وليس لذلك فائدة إلا تضييع الزمان وإتعاب الأذهان وكثرة الهذيان ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان وشغل النفوس بما لا ينفعها بل قد يضلها عما لا بد لها منه وإثبات الجهل الذي هو أصل النفاق في القلوب وإن ادعوا أنه أصل المعرفة والتحقيق. وهذا من توابع الكلام الذي كان السلف ينهون عنه وإن كان الذي نهوا عنه خيرا من هذا وأحسن إذ هو كلام في أدلة وأحكام ولم يكن قدماء المتكلمين يرضون أن يخوضوا في الحدود على طريقة المنطقيين كما دخل في ذلك متأخروهم الذين يظنون ذلك من التحقيق وإنما هو زيغ عن سواء الطريق. ولهذا لما كانت هذه الحدود ونحوها لا تفيد الإنسان علما لم يكن عنده وإنما تفيده كثرة كلام سموهم أهل الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وهذا - لعمرى - في الحدود التي ليس فيها باطل فأما حدود المنطقين التي يدعون أنهم يصورون بها الحقائق فإنها باطلة يجمعون بها بين المختلفين ويفرقون بين المتماثلين. الأدلة على بطلان دعواهم أن الحدود تفيد تصوير الحقائق: ونحن نبين أن الحدود لا تفيد تصوير الحقائق وان حدود أهل المنطق التي يسمونها حقيقية تفسد العقل والدليل على ذلك وجوه: الوجه الأول: الحد -سواء جعل مركبا أو مفردا- لا يفيد معرفة المحدود احدها: أن الحد مجرد قول الحاد ودعواه فإنه إذا قال حد الإنسان مثلا أنه الحيوان الناطق أو الضاحك فهذه قضية خبرية ومجرد دعوى خلية عن حجة فإما أن يكون المستمع لها عالما يصدقها بدون هذا القول وأما أن لا يكون فان كان عالما بذلك ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد وإن لم يكن عالما يصدقه بمجرد قول المخبر الذي لا دليل معه لا يفيده العلم كيف وهو يعلم أنه ليس بمعصوم في قوله فقد تبين أنه على التقديرين ليس الحد هو الذي يفيده معرفة المحدود. فإن قيل: الحد ليس هو الجملة الخبرية وإنما هو مجرد قولك حيوان ناطق وهذا مفرد لا جملة وهذا السؤال وارد على احد اصطلاحيهم فإنهم تارة يجعلون الحد هو الجملة كما يقول الغزالي وغيره وتارة يجعلون الحد هو المفرد المفيد كالاسم وهو الذي يسمونه التركيب التقييدي كما يذكر ذلك الرازي ونحوه قيل التكلم بالمفرد لا يفيد ولا يكون جوابا للسائل سواء كان موصوفا تركيبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 مركبا تركيبا تقييديا أو لم يكن كذلك. ولهذا لما مر بعض العرب بمؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله بالنصب قال: فعل ماذا. فإذا قيل: ما هذا قيل طعام فهذا خبر مبتدأ محذوف باتفاق الناس تقديره هذا طعام كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} إلى قوله: {قُلِ اللَّهُ} وكقوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُم} أي هم ثلاثة وهم خمسة وهم سبعة. ومنه قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} أي هذا الحق من ربكم ليس كما يظنه بعض الجهال أي قل القول الحق فان هذا لو أريد لنصب لفظ الحق والمراد إثبات أن القرآن حق ولهذا قال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} ليس المراد ههنا بقول حق مطلق بل هذا المعنى مذكور في قوله: {وإذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} وقوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} . ثم إذا قدر أن الحد هو المفرد فالمفرادات أسماء وغاية السائل أن يتصور مسماها لكن من أين له إذا تصور مسماها أن هذا المسمى هو المسئول عنه وأن هذا المسمى هو حقيقة المحدود؟. فان قيل يفيده مجرد تصور المسمى من غير أن يحكم أنه هو ذلك أو غير ذلك بل تصور إنسان قيل فحينئذ يكون هذا كمجرد دلالة اللفظ المفرد على معناه وهو دلالة الاسم على مسماه كما لو قيل الإنسان وهذا يحقق ما قلناه من أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 دلالة الحد كدلالة الاسم وهذا هو قول أهل الصواب الذين يقولون الحد تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال وحينئذ فيقال أن لا نزاع بين العقلاء أن مجرد الاسم لا يوجب تصوير المسمى لمن لم يتصوره بدون ذلك وإنما الاسم يفيد الدلالة عليه والإشارة إليه. ولهذا قالوا أن المقصود باللغات ليس هو دلالة اللفظ المفرد على معناه وذلك لأن اللفظ المفرد لا يعرف دلالته على المعنى أن لم يعرف أنه موضوع له ولا يعرف أنه موضوع له حتى يتصور اللفظ والمعنى فلو كان المقصود بالوضع استفادة معاني الألفاظ المفردة لزم الدور. وإذا لم يكن المقصود من الأسماء تصوير معانيها المفردة ودلالة الحد كدلالة الاسم لم يكن المقصود من الحد تصوير معناه المفرد وإذا كان دلالة الاسم على مسماه مسبوقا بتصور مسماه وجب أن تكون دلالة الحد على المحدود مسبوقا بتصور المحدود وإذا كان كل من المحدود والمسمى متصورا بدون الاسم والحد وكان تصور المسمى والمحدود مشتركا في دلالة الحد والاسم على معناه امتنع أن تتصور المحدودات بمجرد الحدود كما يمتنع تصور المسميات بمجرد الأسماء وهذا هو المطلوب. ولهذا كان من المتفق عليه بين جميع أهل الأرض أن الكلام المفيد لا يكون إلا جملة تامة كاسمين أو فعل واسم. هذا مما اعترف به المنطقيون وقسموا الألفاظ إلى اسم وكلمة وحرف يسمى أداة وقالوا المراد ب الكلمة ما يريده النحاة بلفظ الفعل لكنهم مع هذا يناقضون ويجعلون ما هو اسم عند النحاة حرفا في اصطلاحهم فالضمائر ضمائر الرفع والنصب والجر والمتصلة والمنفصلة مثل قولك رأيته ومر بي فان هذه اسماء ويسميها النحاة الأسماء المضمرة والمنطقيون يقولون أنها في لغة اليونان من باب الحروف ويسمونها الخوالف كأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 خلف عن الأسماء الظاهرة. فأما الاسم المفرد فلا يكون كلاما مفيدا عند أحد من أهل الأرض بل ولا أهل السماء وإن كان وحده كان معه غيره مضمرا أو كان المقصود به تنبيها أو إشارة كما يقصد بالأصوات التي لم توضع لمعنى لا أنه يقصد به المعاني التي تقصد بالكلام. ولهذا عد الناس من البدع ما يفعله بعض النساك من ذكر اسم الله وحده بدون تأليف كلام فان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله" رواه أبو حاتم في صحيحه وقال: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" رواه مالك وغيره. وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلم أمته ذكر الله تعالى بالجمل التامة مثل "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله" "أفضل الكلام بعد القرآن: أربع وهي من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" رواه مسلم وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأن أقول سبحان الله والحمد لله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" وقال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" وأمثال ذلك. فظن طائفة من الناس أن ذكر الاسم المفرد مشروع بل ظنه بعضهم أفضل في حق الخاصة من قول لا إله إلا الله ونحوها وظن بعضهم أن ذكر الاسم المضمر وهو (هو) هو أفضل من ذكر الاسم المظهر. وأخرجهم الشيطان إلى أن يقولوا لفظا لا يفيد إيمانا ولا هدى بل دخلوا بذلك في مذهب أهل الزندقة والإلحاد أهل وحده الوجود الذين يجعلون وجود المخلوقات وجود الخالق ويقول احدهم ليس إلا الله والله فقط ونحو ذلك. وربما احتج بعضهم عليه بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} وظنوا أنه مأمور بان يقول الاسم مفردا وإنما هو جواب الاستفهام حيث قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} أي الله انزل الكتاب الذي جاء به موسى. وإذا عرف أن مجرد الإسم ومجرد الحد لا يفيد ما يفيده الكلام بحال علم أن الحد خبر مبتدإ محذوف لتكون جملة تامة. ثم قد بينا فساد قولهم سواء جعل الحد مفردا كالأسماء أو مركبا كالجمل وأنه على التقديرين لا يفيد تصوير المسمى وهو المطلوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ودعوى المدعى أن الحد مجرد المفرد المفيد كدعواهم أن التصور الذي هو احد نوعى العلم هو التصور المجرد عن كل نفي وإثبات ومعلوم أن مثل هذا لا يكون علما عند أحد من العلماء بل إذا خطر ببال الإنسان شيء ما ولم يخطر له ثبوته ولا انتفاءه بوجه من الوجوه لم يكن قد علم شيئا مثل من خطر له بحر زئبق أو جبل ياقوت خاطرا مجردا عن كون هذا التصور ثابتا في الخارج أو منتفيا ممكنا أو ممتنعا فان هذا من جنس الوسواس لا من جنس العلم. وقد بسطنا الكلام على هذا في مواضع متعددة مثل الكلام على المحصل وبينا أن المشروط في التصديق من جنس العلم المشروط في القول فمن صدق بما لم يتصوره كان قد تكلم بغير علم ومن صدق بما تصوره كان كالمتكلم بعلم فقولهم في الحدود ألقولية من جنس قولهم في التصورات الذهنية. الوجه الثاني: خبر الواحد بلا دليل لا يفيد العلم الثاني: أنهم يقولون الحد لا يمنع ولا يقوم عليه دليل وإنما يمكن إبطاله ب النقض والمعارضة بخلاف القياس فانه يمكن فيه الممانعة والمعارضة. فيقال: إذا لم يكن الحاد قد أقام دليلا على صحة الحد امتنع أن يعرف المستمع المحدود به إذا جوز عليه الخطأ فإنه إذا لم يعرف صحة الحد إلا بقوله وقوله محتمل للصدق والكذب امتنع أن يعرفه بقوله للصدق والكذب امتنع أن يعرفه بقوله. ومن العجب أن هؤلاء يزعمون أن هذه طرق عقلية يقينية ويجعلون العلم بالمفرد أصلا للعلم بالمركب ويجعلون العمدة في ذلك على الحد الذي هو قول الحاد بلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 دليل وهو خبر واحد عن أمر عقلي لا حسي يحتمل الصواب والخطأ والصدق والكذب ثم يعيبون على من يعتمد في الأمور السمعية على نقل الواحد الذي معه من القرائن ما يفيد المستمع العالم بها العلم اليقيني زاعمين أن خبر الواحد لا يفيد العلم ولا ريب أن مجرد خبر الواحد الذي لا دليل على صدقة لا يفيد العلم لكن هذا بعينه قولهم في الحد وإنه خبر واحد لا دليل على صدقه بل ولا يمكن عندهم إقامة دليل على صدقه فلم يكن الحد مفيدا لتصور المحدود. ولكن أن كان المستمع قد تصور المحدود قبل هذا أو تصوره معه أو بعده بدون الحد وعلم أن ذلك حده علم صدقه في حده وحينئذ فلا يكون الحد أفاد التصوير وهذا بين. وتلخيصه أن المحدود بالحد لا يمكن بدون العلم بصدق قول الحاد وصدق قوله لا يعلم بمجرد الخبر فلا يعلم المحدود بالحد. ومن قال أنا أريد بالحد المفرد لم يكن قوله مفيدا لشيء أصلا فإن التكلم ب الاسم المفرد لا المستمع شيئا بل أن كان تصور المحدود بدون هذا اللفظ كان قد تصوره بدون هذا اللفظ المفرد وإن لم يكن تصوره لا قبله ولا بعده. الوجه الثالث: لو حصل تصور المحدود بالحد لحصل ذلك قبل العلم بصحة الحد الثالث: أن يقال لو كان مفيدا لتصور المحدود لم يحصل ذلك إلا بعد العلم بصحة الحد فانه دليل التصور وطريقه وكاشفه فمن الممتنع أن نعلم صحة المعرف المحدود قبل العلم بصحة المعرف والعلم بصحة الحد لا يحصل إلا بعد العلم بالمحدود إذ الحد خبر عن مخبر هو المحدود فمن الممتنع أن يعلم صحة الخبر وصدقه قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 تصور المخبر عنه من غير تقليد المخبر وقبول قوله فيما يشترك في العلم به المخبر والمخبر ليس هو من باب الأخبار عن الأمور الغائبة. الوجه الرابع: معرفة المحدود يتوقف على العلم بالمسمى واسمه فقط الرابع: أنهم يحدون المحدود بالصفات التي يسمونها الذاتية ويسمونها أجزاء الحد وأجزاء الماهية والمقومة لها والداخلة فيها ونحو ذلك من العبارات. فان لم يعلم المستمع أن المحدود موصوف بتلك الصفات امتنع أن يتصوره وإن علم أنه موصوف بها كان قد تصوره بدون الحد فثبت أنه على تقدير النقيضين لا يكون قد تصوره بالحد وهذا بين. فإنه إذا قيل الإنسان هو الحيوان الناطق فان لم يكن قد عرف الإنسان قبل هذا كان متصورا لمسمى الحيوان الناطق ولا يعلم أنه الإنسان احتاج إلى العلم بهذه النسبة وإن لم يكن متصورا لمسمى الحيوان الناطق احتاج إلى شيئين إلى تصور ذلك وإلى العلم بالنسبة المذكورة وإن عرف ذلك كان قد تصور الإنسان بدون الحد. الحد قد ينبه تنبيها: نعم الحد قد ينبه على تصور المحدود كما ينبه الاسم فان الذهن قد يكون غافلا عن الشيء فإذا سمع اسمه أو حده اقبل بذهنه إلى الشيء الذي اشير إليه بالاسم أو الحد فيتصوره فيكون فائدة الحد من جنس فائدة الاسم وهذا هو الصواب وهو التمييز بين الشيء المحدود وغيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ويكون الحدود للانواع بالصفات كالحدود للاعيان بالجهات كما إذا قيل حد الأرض من الجانب القبلي كذا ومن الجانب الشرقي كذا وميزت الأرض باسمها وحدها وحد الأرض يحتاج إليه إذ خيف من الزيادة في المسمى أو النقص منه فيفيد إدخال المحدود جميعه وإخراج ما ليس منه كما يفيد الاسم وكذلك حد النوع. وهذا يحصل بالحدود اللفظية تارة وبالوصفية أخرى وحقيقة الحد في الموضعين بيان مسمى الاسم فقط وتمييز المحدود عن غيره لا تصوير المحدود وإذا كان فائدة الحد بيان مسمى الاسم والتسمية أمر لغوي وضعي رجع في ذلك إلى قصد ذلك المسمى ولغته ولهذا يقول الفقهاء من الأسماء ما يعرف حده ب اللغة ومنه ما يعرف حده ب الشرع ومنه ما يعرف حده ب العرف. ومن هذا تفسير الكلام وشرحه إذا أريد به تبيين مراد المتكلم فهذا يبنى على معرفة حدود كلامه وإذا أريد به تبيين صحته وتقريره فانه يحتاج إلى معرفة دليل صحة الكلام فالأول فيه بيان تصوير كلامه والثاني بيان تصديق كلامه. وتصوير كلامه كتصوير مسميات الأسماء ب الترجمة تارة لمن يكون قد تصور المسمى ولم يعرف أن ذلك اسمه وتارة لمن لم يكن قد تصور المسمى فيشار له إلى المسمى بحسب الإمكان أما إلى عينة وأما إلى نظيره ولهذا يقال الحد تارة يكون ل الاسم وتارة يكون ل المسمى. وأئمة المصنفين في صناعة الحدود على طريقة المنطقيين يعترفون عند التحقيق بهذا كما ذكر أبو حامد الغزالي في كتاب معيار العلم الذي صنفه في المنطق بعد أن قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 "البحث النظري الجاري في الطلب أما أن يتجه إلى تصور أو إلى تصديق فالموصل إلى التصور يسمى قولا شارحا فمنه حد ومنه رسم والموصل إلى التصديق يسمى حجة فمنه قياس ومنه استقراء وغيره". قال الغزالي: "مضمون هذا الكتاب تعريف مبادئ القول الشارح لما أريد تصوره حدا كان أو رسما وتعريف مبادئ الحجة الموصلة إلى التصديق قياسا كان أو غيره مع التنبيه على شروط صحتها ومثار الغلط فيها". قال: "فان قلت: كيف يجهل الإنسان العلم التصوري حتى يفتقر إلى الحد؟ قلنا: بان يسمع الإنسان اسما لا يعرف معناه كمن قال ما الخلاء؟ وما الملاء؟ وما الشيطان؟ وما العقار؟ فيقال: العقار الخمر فان لم يعرفه باسمه المعروف يفهمه بحده فيقال الخمر هو شراب مسكر معتصر من العنب فيحصل له علم تصوري بذات الخمر". قلت: فقد بين أن فائدة الحدود من جنس فائدة الأسماء وان ذلك كمن سمع اسما لا يعرف معناه فيذكر له اسم فان لم يتصوره وإلا ذكر له الحد. وهذا مما يعترف به حذاقهم حتى بين معلمهم الثاني أبو نصر الفارابي وهو أعظم الفلاسفة كلاما في المنطق وتفاريعه من برهانه. ومعلوم أن الاسم لا يفيد بنفسه تصوير المسمى وإنما يفيد التمييز بينه وبين غيره وأما تصور المسمى فتارة يتصوره الإنسان بذاته بحسه الباطن أو الظاهر وتارة يتصوره بتصور نظيره وهو ابعد فمن عرف عين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الخمر إذا لم يعرف مسمى لفظ العقار قيل له هو الخمر أو غيرها من الأسماء فعرفها ومن لم يعرف عين الخمر بحال عرف بنظيرها فقيل له هو شراب فإذا تصور القدر المشترك بين النظيرين ذكر له ما يميزها فقيل مسكر. ولكن الكلام في تصوره لمعنى المسكر كالكلام في تصوره لمعنى الخمر فان لم يعرف عين المسكر وإلا لم يمكن تعريفه إلا بنظيره فيقال هو زوال العقل وهذا جنس يشترك فيه النوم والجنون والاغماء والسكر فلا بد أن يميز السكر فيقال زوال العقل بما يلتذ به ثم اللذة لا بد أن يكون قد تصور جنسها ب الأكل والشرب وغيرهما. وهذا يبين أن فائدة الحدود قد تكون اضعف من فائدة الأسماء لأنها تفيد معرفة الشيء بنظيره والاسم يكتفى به من عرفه بنفسه. وحقيقة الأمر أن الحد هو أن تصف المحدود بما تفصل به بينه وبين غيره والصفات تفيد معرفة الموصوف خبرا وليس المخبر كالمعاين ولا من عرف المشهود عليه بعينه كمن عرفه بصفته وحليته فمن عرف المسمى بعينه كان الاسم مغنيا له عن الحد كما تقدم ومن لم يعرفه بعينه لم يفده الحد ما يفيد الاسم لمن عرفه بعينه إذ الاسم هناك يدل على العين التي عرفها بنفسها والحد لمن لم يعرف العين إنما يفيده معرفة النوع لا معرفة العين كما يتصور اللذه بشرب الخمر من لم يشربها قياسا على اللذة ب الخبز واللحم ومعلوم فرق ما بين اللذتين. وليس مقصودنا أن فائدة الحدود اضعف مطلقا وإنما المقصود أنها من جنس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فائدة الأسماء وأنها مذكرة لا مصورة أو معرفة بالتسمية مميزة للمسمى من غيره أو معرفة بالقياس. اعتراف ابن سينا بأن من الأمور ما هو متصور بذاته: وهكذا يقول حذاقهم في تحديد أمور كثيرة قد حدها غيرهم يقولون لا يمكن تحديدها تحديد تعريف لماهياتها بل تحديد تنبيه وتمييز كما قال ابن سينا في الشفاء قال: "فنقول: إن الموجود والشئ والضروري معانيها ترتسم في النفس إرتساما أوليا ليس ذلك الارتسام مما يحتاج أن يجلب بأشياء هو أعرف منها. فانه كما أنه في باب التصديق مباديء أولية يقع التصديق بها لذاتها ويكون التصديق لغيرها بسببها وإذا لم يخطر بالبال أو يفهم اللفظ الدال عليها لم يمكن التوصل إلى معرفة ما يعرف بها وإذا لم يكن التعريف الذي يحاول إخطارها بالبال أو يفهم ما يدل عليها من الألفاظ محاولا لافادة علم ما ليس في الغريزة بل منبها على تفهيم ما يريده القائل أو يذهب إليه وربما كان ذلك بأشياء هي في أنفسها أخفى من المراد تعريفه لكنها لعلة ما وعبارة ما صارت أعرف. كذلك في التصورات أشياء هي مباديء للتصور هي متصورات لذاتها وإذا أريد أن يدل عليها لم يكن ذلك في الحقيقة تعريفا لمجهول بل تنبيها وإخطارا بالبال باسم العلامة وربما كانت في نفسها أخفى منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 لكنها لعلة ما وحال ما تكون أظهر دلالة فإذا استعملت تلك العلامة نبهت النفس على إخطار ذلك المعنى بالبال من حيث أنه هو المراد لا غيره من غير أن تكون العلامة بالحقيقة معلمة إياه. ولو كان كل تصور يحتاج إلى أن يسبقه تصور قبله لذهب الأمر إلى غير النهاية أو لدار وأولى الأشياء بأن تكون متصورة لأنفسها الأشياء العامة للأمور كلها كالموجود والشيء والواحد وغيره ولهذا ليس يمكن أن يبين شيء منها ببيان لا دور فيه ألبتة أو ببيان وشيء أعرف منها. وكذلك من حاول أن يقول فيها شيئا وقع في اضطراب كمن يقول أن من حقيقة الموجود أن يكون فاعلا أو منفعلا وهذا وإن كان ولا بد فمن أقسام الموجود والموجود أعرف من الفاعل والمنفعل وجمهور الناس يتصورون حقيقة الموجود ولا يعرفون ألبتة أنه يجب أن يكون فاعلا أو منفعلا وأنا إلى هذه الغاية لم يتضح لي ذلك إلا بقياس لاغير فكيف يكون حال من يروم أن يعرف الشيء الظاهر بصفة له تحتاج إلى بيان حتى يثبت وجودها له. وكذلك قول من قال أن الشيء هو الذي يصح عنه الخبر فان يصح أخفى من ل الشيء والخبر أخفى من الشيء فكيف يكون هذا تعريفا ل الشيء وإنما تعرف الصحة ويعرف الخبر بعد أن يستعمل في بيان كل واحد منهما أنه شيء أو أنه أمر أو أنه ما أو أنه الذي وجميع ذلك كالمرادفات لاسم الشيء فكيف يصح أن يعرف الشيء تعريفا حقيقيا بما لا يعرف إلا به نعم ربما كان في ذلك وأمثاله تنبيه ما وأما بالحقيقة فانك إذا قلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 أن الشيء هو ما يصح أن يخبر عنه تكون كأنك قلت أن الشيء هو الشيء الذي يصح عنه الخبر لأن معنى ما والذي والشيء معنى واحد فتكون قد أخذت الشيء في حد الشيء على أننا لا ننكر أن يقع بهذا وما أشبهه مع فساد مأخذه تنبيه بوجه ما على الشيء ونقول أن معنى الموجود ومعنى الشيء متصوران في الانفس وهما معنيان والموجود والمثبت والمحصل اسماء مترادفة على معنى واحد ولا شك أن معناها قد حصل في نفس من يقرأ هذا الكتاب". وكذلك قال في حد الواحد والكثير قال: "فصل في تحقيق الواحد والكثير وإبانة أن العدد عرض والذي يصعب علينا تحقيقه ما هية الواحد وذلك انا إذا قلنا أن الواحد الذي لا ينقسم فقد قلنا أن الواحد الذي لا يتكثر ضرورة فأخذنا في بيان الواحد الكثرة وأما الكثرة فمن الضرورة أن تحد ب الواحد لأن الواحد مبدأ الكثرة ومنه وجودها وماهيتها. ثم أي حد حددنا به الكثرة استعملنا فيه الواحد بالضرورة فمن ذلك ما نقول أن الكثرة هو المجتمع من وحدات فقد اخذنا الوحدة في حد الكثرة ثم عملنا شيئا آخر وهو أنا أخذنا المجمتع في حدها والمجتمع يشبه أن يكون هو الكثرة نفسها وإذا قلنا من الوحدات أو الوحدان أو الآحاد فقد أوردنا بدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 لفظ الجمع هذا اللفظ ولا يفهم معناه ولا يعرف إلا ب الكثرة وإذا قلنا أن الكثرة هي التي تعد بالواحد فنكون قد أخذنا في حد الكثرة الوحدة ونكون أيضا أخذنا في حدها العدد والتقدير وذلك إنما يفهم ب الكثرة أيضا. فما أغنى علينا أن نقول في هذا الباب شيئا يعتد به لكنه يشبه أن تكون الكثرة أيضا أعرف عند تخيلنا ويشبه أن تكون الوحدة والكثرة من الأمور التي يتصورها بديا فذكر الكثرة نتخيلها أولا والوحدة نعقلها من غير مبدأ لتصورها ثم أن كان ولابد فخيالي ثم تعريفنا الكثرة ب الوحدة تعريفا عقليا وهنالك نأخذ الوحدة متصورة بذاتها ومن أوائل التصور يكون تعريفنا الوحدة ب الكثرة تنبيها يستعمل فيه المذهب الخيالي النومي إلى معقول عندنا لا يتصور حاضرا في الذهن. فإذا قالوا أن الوحدة هي الشيء الذي ليست فيه كثرة دلوا على أن المراد بهذه اللفظة الشيء المعقول عندنا بديا الذي يقابل هذا الآخر وليس هو فينبه عليه بسلب هذا عنه. والعجب ممن يحدد العدد ويقول أن العدد كثرة مؤلفة من وحدة أو آحاد والكثرة نفس العدد ليس كالجنس ل العدد وحقيقة الكثرة أنها مؤلفة من وحدات فقولهم أن الكثرة مؤلفة من وحدات كقولهم أن الكثرة كثرة فان الكثرة ليس إلا اسما ل المؤلف من الوحدات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فان قال قائل: إن الكثرة قد تؤلف من أشياء غير الوحدات مثل الناس والدواب فنقول أنه هذه كما أن الأشياء ليست كثرات بل أشياء موضوعة ل الكثرة وكما أن تلك الأشياء وحدان لا وحدات فكذلك هي كثيرة لا كثرة والذين يحسبون أنهم إذا قالوا أن العدد كمية منفصلة ذات ترتيب فقد تخلصوا من هذا فما تخلصوا فان الكمية تحوج تصورها للنفس إلى أن تعرف ب الجزء أأو القسمة أو المساوة أما الجزء والقسمة فانما يمكن تصورهما ب الكثرة وأما المساوة فان الكمية أعرف منها عند العقل الصريح لأن المساواة من الأعراض الخاصة ب الكمية التي يجب أن توخذ في حدها الكمية فيقال أن المساوة هي اتحاد في الكمية والترتيب الذي أخذ في حد العدد أيضا هو ما لا يفهم إلا بعد فهم العدد. فيجب أن يعلم أن هذه كلها تنبيهات مثل الشبيه بالأمثلة والأسماء المترادفة فان هذه المعاني متصورة كلها أو بعضها لذواتها وإنما يدل عليها بهذه الأشياء لينبه عليها وتميز فقط". قلت: فهذا الكلام الذي ذكره ابن سينا هنا قد تلقوه عنه بالقبول كما يذكر مثل ذلك أبو حامد والرازي والسهروردي وغيرهم. فيقال: هذا الذي ذكروه في حدود هذه الأمور هو موجود في سائر ما يرومون بيانه بحدودهم عند التدبر والتأمل لكن منها ما هو بين لكل أحد كالأمور العامة ومنها ما هو بين لبعض الناس كما يعرف أهل الصناعات والمقالات أمورا لا يعرفها غيرهم فحدودها بالنسبة إلى هؤلاء كحدود تلك الأمور التي يعم علمها بالنسبة إلى العموم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وأما الأمور التي تخفى فمجرد الحدود لا تفيد تعريف حقيقتها بعينها وإنما تفيد تمييزها ونوعا من التعريف الشبهي. وهذا يتبين بتقرير قاعدة في ذلك فنقول: التحقيق السديد في مسألة التحديد: المقول في جواب (ما هو) المطلوب تعريفه بالحد هو جواب لقول سائل قال ما كذا كما يقول ما الخمر؟ أو ما الإنسان؟ أو ما الثلج؟. فهذا الاسم المستفهم عنه المذكور في السؤال أما أن يكون السائل غير عالم بمسماه وأما أن يكون عالما بمسماه. مطلوب السائل المتصور للمعنى الجاهل بدلالة اللفظ عليه: فالأول كالسائل عن اسم تحديد في غير لغته أو عن اسم غريب في لغته أو عن اسم معروف في لغته لكن مقصوده تحديد مسماه مثل العربي إذا سأل عن معاني الأسماء الأعجمية إذا سأل عن معاني الأسماء العربية وبعض الأعاجم إذا سأل بعضا عن معاني الأسماء التي تكون في لغة المسئول دون السائل وهذا هو الترجمة. الترجمة وأحكامها: فالمترجم لا بد أن يعرف اللغتين التي يترجمها والتي يترجم بها وإذا عرف أن المعنى الذي يقصد بهذا الاسم في هذه اللغة هو المعنى الذي يقصد به في اللغة الأخرى ترجمه كما يترجم اسم الخبز والماء والأكل والشرب والسماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر ونحو ذلك من أسماء الأعيان والأجناس وما تضمنته من الأشخاص سواء كانت مسمياتها أعيانا أو معاني. والترجمة تكون للمفردات وللكلام المؤلف التام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وإن كان كثير من الترجمة لا يأتي بحقيقة المعنى التي في تلك اللغة بل بما يقاربه لأن تلك المعاني قد لا تكون لها في اللغة الأخرى ألفاظ تطابقها على الحقيقة لا سيما لغة العرب فان ترجمتها في الغالب تقريب. ومن هذا الباب ذكر غريب القرآن والحديث وغيرهما بل وتفسير القرآن وغيره من سائر أنواع الكلام وهو في أول درجاته من هذا الباب فان المقصود ذكر مراد المتكلم بتلك الأسماء أو بذلك الكلام. وهذا الحد هم متفقون على أنه من الحدود اللفظية مع أن هذا هو الذي يحتاج إليه في إقراء العلوم المصنفة بل في قراءة جميع الكتب بل في جميع أنواع المخاطبات بتلك فان من قرأ كتب النحو والطب أو غيرهما لا بد أن يعرف مراد أصحابها بتلك الأسماء ويعرف مرادهم بالكلام المؤلف وكذلك من قرأ كتب الفقه والكلام والفلسفة وغير ذلك. معرفة الحدود الشرعية من الدين: وهذه الحدود معرفتها من الدين في كل لفظ هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم قد تكون معرفتها فرض عين وقد تكون فرض كفاية ولهذا ذم الله تعالى من لم يعرف هذه الحدود بقوله تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} والذي أنزله على رسوله فيه ما قد يكون الاسم غريبا بالنسبة إلى المستمع كلفظ ضيزى وقسورة وعسعس وأمثال ذلك. وقد يكون مشهورا لكن لا يعلم حده بل يعلم معناه على سبيل الإجمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج فان هذه وإن كان جمهور المخاطبين يعلمون معناها على سبيل الإجمال فلا يعلمون مسماها على سبيل التحديد الجامع المانع إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي التي يقال لها الأسماء الشرعية. كما إذا قيل صلاة الجنازة وسجدة السهو وسجود الشكر والطواف هل تدخل في مسمى الصلاة في قوله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم " فقيل هل كل ذلك صلاة تجب فيها الطهارة وهل لا تجب الطهارة لمثل ذلك فهل تجب لما تحريمه التكبير وتحليله التسليم وهي كصلاة الجنازة وسجد السهو دون الطواف سجود التلاوة. وكذلك اسم الخمر والربا والميسر ونحو ذلك يعلم أشياء من مسمياتها ومنها ما لا يعلم إلا ببيان آخر فانه قد يكون الشيء داخلا في اسم الربا والميسر والإنسان لا يعلم ذلك إلا بدليل يدل على ذلك شرعي أو غيره. ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن حد الغيبة فقال: "ذكرك أخاك بما يكره فقال له: أرأيت أن كان في أخي ما أقول فقال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته". وكذلك قوله لما قال: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فقال رجل: يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا أفمن الكبر ذلك؟ فقال: "لا الكبر بطر الحق وغمط الناس ". وكذلك لما قيل له ما الإسلام وما الإيمان وما الإحسان ولما سئل عن أشياء أهي من الخمر وغير ذلك. بالجملة فالحاجة إلى معرفة هذه الحدود ماسة لكل أمة وفي كل لغة فان معرفتها من ضرورة التخاطب الذي هو النطق الذي لا بد منه لبني آدم. أقسام الحدود اللفظية: وهذا الذي يقال له حد بحسب الاسم والمقول في جواب ما هو من هذا النوع وقد يكون اسما مرادفا وقد يكون مكافيا غير مرادف بحيث يدل على الذات مع صفة أخرى كما إذا قال: ما الصراط المستقيم؟ فقال: هو الإسلام واتباع القرآن أو طاعة الله ورسوله والعلم النافع والعمل الصالح وما الصارم فقيل هو المهند وما أشبه ذلك. وقد يكون الجواب ب المثال كما إذا سئل عن لفظ الخبز ورأى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 رغيفا فقال: هذا فان معرفة الشخص يعرف منه النوع. وإذا سئل عن المقتصد والسابق والظالم فقال: المقتصد الذي يصلي الفريضة في وقتها ولا يزيد والظالم الذي يؤخرها عن الوقت والسابق الذي يصليها في أول الوقت ويزيد عليها النوافل الراتبة ونحو ذلك من التفسير الذي هو تمثيل يفيد تعريف المسمى ب المثال لإخطاره بالبال لا لأن السائل لم يكن يعرف المصلي في أول الوقت وفي أثنائه والمؤخر عن الوقت لكن لم يكن يعرف أن هذه الثلاثة أمثلة الظالم والمقتصد والسابق فإذا عرف ذلك قاس به ما يماثله من المقتصر على الواجب والزائد عليه والناقص عنه. ثم إن معرفة حدود هذه الأسماء في الغالب تحصل بغير سؤال لمن يباشر المتخاطبين بتلك اللغة أو يقرأ كتبهم فان معرفة معاني اللغات تقع كذلك. وهذه الحدود قد يظن بعض الناس أنها حدود لغوية يكفي في معرفتها العلم باللغة والكتب المصنفة في اللغة وكتب الترجمة وليس كذلك على الإطلاق. بل الأسماء المذكورة في الكتاب والسنة ثلاثة أصناف: - منها ما يعرف حده باللغة كالشمس والقمر والكوكب ونحو ذلك. - ومنها مالا يعرف إلا بالشرع كأسماء الواجبات الشرعية والمحرمات الشرعية كالصلاة والحج والربا والميسر. - ومنها ما يعرف ب العرف العادي وهو عرف الخطاب باللفظ كاسم النكاح والبيع والقبض وغير ذلك. هذا في معرفة حدود ها التي هي مسمياتها على العموم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الاجتهاد والتأويل: وأما معرفة دخول الأعيان الموجودة في هذه الأسماء والألفاظ فهذا قد يكون ظاهرا وقد يكون خفيا يحتاج إلى اجتهاد وهذا هو التأويل في لفظ الشارع الذي يتفاضل الفقهاء وغيرهم فيه فإنهم قد اشتركوا في حفظ الألفاظ الشرعية بما فيها من الأسماء أو حفظ كلام الفقهاء أو النحاة أو الأطباء وغيرهم ثم يتفاضلون بأن يسبق أحدهم إلى أن يعرف أن هذا المعنى الموجود هو المراد أو مراد هذا الاسم كما يسبق الفقيه الفاضل إلى حادثة فينزل عليها كلام الشارع أو كلام الفقهاء وكذلك الطبيب يسبق إلى مرض لشخص معين فينزل عليه كلام الأطباء إذ الكتب والكلام المنقول عن الأنبياء والعلماء إنما هو مطلق بذكر الأشياء لصفاتها وعلاماتها فلا بد يعرف أن هذا المعين هو ذاك. وإذا كان خفيا فقد يسميه بعض الناس تحقيق المناط فان الشارع قد ناط الحكم بوصف كما ناط قبول الشهادة بكونه ذا عدل وكما ناط العشرة المأمور بها بكونها بالمعروف وكما ناط النفقة الواجبة بالمعروف وكما ناط الاستقبال في الصلاة بالتوجه شطر المسجد الحرام يبقي النظر في هذا المعين هل هو شطر المسجد الحرام وهل هذا الشخص ذو عدل وهل هذه النفقة نفقة بالمعروف وأمثال ذلك لابد فيه من نظر خاص لا يعلم ذلك بمجرد الاسم. وقد يكون الاجتهاد في دخول بعض الأنواع في مسمى ذلك الاسم كدخول الأشربة المسكرة من غير العنب والنخل في مسمى الخمر ودخول الشطرنج والنرد ونحوهما في مسمى الميسر ودخول السبق بغير محلل في سباق الخيل ورمى النشاب في ذلك ودخول الرمل ونحوه في الصعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الذي في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} ودخول من خرج منه منى فاسد في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} ودخول الساعد في قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ودخول البياض الذي بين العذار والأذن في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ودخول الماء المتغير بالطهارات أو ما أوقعت به نحاسة ولم تغيره في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ودخول المائع الذي لم يغيره ما مات فيه من الطيبات أو الخبائث ودخول سارق الأموال الرطبة في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} ودخول النباش في ذلك ودخول الحلفة بما يلزم لله في مسمى الإيمان ودخول بنات البنات والجدات في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} . ومثل هذا الاجتهاد متفق عليه بين المسلمين ممن يثبت القياس ومن ينفيه فان بعض الجهال يظن أن من نفى القياس يكفيه في معرفة مراد الشارع مجرد العلم ب اللغة وهذا غلط عظيم جدا. ولهذا قال ابن عباس: "التفسير على أربعة أوجه: - تفسير تعرفه العرب من كلامها. - وتفسير لا يعذر أحد بجهالته. - وتفسير يعلمه العلماء. - وتفسير لا يعلمه إلا الله". والتفسير الذي يعلمه العلماء فيتضمن الأنواع التي لا تعلم بمجرد اللغة كالأسماء الشرعية ويتضمن أعيان المسميات وأنواعها التي يفتقر دخولها في المسمى إلى اجتهاد العلماء. فصل: ثم إن هذا الاسم المسئول عنه الذي لا يعلم السائل معناه إذا أجيب عنه بما يقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 في جواب ما هو ينقسم حال السائل فيه إلى نوعين: أحدهما: أن يكون قد تصور المعنى بغير ذلك اللفظ ولكن لم يعرف أنه يعنى بذلك اللفظ فهذا لا يفتقر إلا إلى ترجمة اللفظ كالمعاني المشهورة عند الناس من الأعيان والصفات والأفعال كالخبز والماء والأكل والشرب والبياض والسواد والطول والقصر والحركة والسكون ونحو ذلك. مطلوب السائل الغير المتصور للمعنى الجاهل باسمه: والثاني: أن يكون غير متصور المعنى كما أنه غير عالم بدلالة اللفظ عليه وهذا يحتاج إلى شيئين إلى ترجمة اللفظ وإلى تصور المعنى إلى حد الاسم والمسمى. وهذا مثل من يسأل عن لفظ الثلج وهو لم يره قط أو يسأل عن اسم نوع من الفاكهة أو الحيوان الذي لم يره أو لم يكن في بلاده أو يسأل عن اسم المسجد والصلاة والحج وكان حديث عهد بالإسلام لم يتصور هذه المعاني أو يسأل عن اسم نوع من الأطعمة والأشربة التي لا يعرفها أو اسم نوع من أنواع الثياب والمساكن التي لا يعرفها. وبالجملة فكل ما لا يعرفه الشخص من الأعيان والأفعال والصور إذا سمع اسمه أما في كلام الشارع أو كلام العلماء أو كلام بعض الناس فانه إذا كان ذلك المعنى هو لم يتصوره ولا له في لغته لفظ فهنا لا يمكن تعريفه إياه بمجرد ترجمة اللفظ بل الطريق في تعريفه إياه أما التعيين وأما الصفة. وأما التعيين فانه بحضور الشيء المسمى ليراه أن كان مما يرى أو يذوقه أو يلمسه ونحو ذلك بحيث يعرف المسمى كما عرفه المتكلمون بذلك الاسم. فإذا رأى الثلج وذاقه ورأى الفاكهة أو الطبيخ أو الحلوى وذاقه أو رأى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الحيوان الذي لم يألفه أو رأى العبادات أو الأعمال التي لم يكن يعرفها فحينئذ يتصورها ويتصور اسمها كما تصورها أهل اللغة وهم على قسمين منهم من علم ذلك بالمشاهدة ولم يذق حقيقته ومنهم من يكون قد ذاقه. وأما الطريق الثاني وهو أن يوصف له ذلك والوصف قد يقوم مقام العيان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها". ولهذا جاز عند جمهور العلماء بيع الأعيان الغائبة ب الصفة. هذا مع أن الموصوف شخص وأما وصف الأنواع فأسهل. ولهذا التعريف ب الوصف هو التعريف ب الحد فانه لا بد أن يذكر من الصفات ما يميز الموصوف والمحدود من غيره بحيث يجمع أفراده وأجزاءه ويمنع أن يدخل فيه ما ليس منه وهي في الحقيقة تعريف بالقياس والتمثيل إذ الشيء لا يتصوره إلا بنفسه أو بنظيرة. وبيان ذلك أنه يذكر من الصفات المشتركة بينه وبين غيره ما يكون مميزا لنوعه فكل صفة من تلك الصفات إنما تدل على القدر المشترك بينه وبين غيره من النوع مثلا والقدر المشترك إنما يفيد المعرفة للعين ب المثال لا يفيد معرفة العين المختصة إذ الدال على ما به الاشتراك لا يدل على ما به الامتياز لكن يكون مجموع الصفات مميزا له تمييز تمثيل لا تمييز تعيين فان غير نوعه لا تجمع له تلك الصفات وهو نفسه لا يميز إلا بما يخصه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فالحد يفيد الدلالة عليه لا تعريف عينه بمنزلة من يقال له فلان في هذه الدار يدل عليه قبل أن يراه وهو قد يصور المشترك بينه وبين غيره بدون هذه الدلالة. ومن تدبر هذا تبين له أن الحدود المصورة للمحدود لمن لا يعرفه إنما هي مؤلفة من الصفات المشتركة لا يدخل فيها وصف مختص به إذ المختص وإن كان لا بد منه في الحد المميز فهو لم يتصوره وأنها لا تفيد تعريف عينه فضلا عن تصوير ما يتنبه له وإنما يفيد تعريفه بطريق التمثيل المقارب إذ لو عرف المثل المطابق لعرف حقيقة. ثم قد يكون المخصص صفة واحدة وقد يكون الاختصاص بمجموع الصفتين. ولو عرف المستمع الوصف الذي يخصه كان قد تصوره بعينه فيكون هو من القسم الأول الذي يترجم له اللفظ فقط. مثال ذلك أنه إذا سمع لفظ الخمر وهو لا يعرف اللفظ ولا مسماه فيقال له هو الشراب المسكر ولفظ الشراب جنس ل الخمر يدخل فيه الخمر وغيرها من الأشربة وهذا واضح وكذلك لفظ المسكر الذي يظن أنه فصل مختص ب الخمر وهو في الحقيقة جنس فيه يشترك الشراب وغيره فان لفظ المسكر ومعناه لا يختص ب الشراب بل قد يكون ب طعام وقد يحصل السكر بغير طعام وشراب فحينئذ فلا فرق بين أن يقول هو المسكر من الأشربة أو ما اجتمع فيه الشرب والسكر أو يقول الشراب المسكر إنما هو كما يقول ثوب خز وباب حديد ورجل طويل أو قصير فان الرجل أعم من الطويل والطويل اعم من الرجل ولكن باجتماع هذين يتميز. وكذلك قولهم في حد الإنسان هو الحيوان الناطق فلما نقضوا عليهم ب الملك زاد المتآخرون المائت وهي زيادة فاسدة فان كونه مائتا ليس بوصف ذاتي له إذ يمكن تصور الإنسان مع عدم خطور موته بالبال بل ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 هو صفة لازمة فضلا عن أن تكون ذاتية فان الإنسان في الآخرة هو إنسان كامل وهو حي أبدا. وهب أن من الناس من يشك في ذلك أو يكذب به أليس هو مما يمكن تصوره في العقل فإذا قدر الإنسان على الحال الذي أخبرت به الرسل عليهم السلام أليس هو إنسانا كاملا وهو غير مائت. ثم يقال أيضا والملك يموت عند كثير من المسلمين واليهود والنصارى أو أكثرهم وهب أنه لا يموت كما قالته طائفة من أهل الملل وغيرهم كما يقوله من يقوله ولكن ليس ذلك معلوما للمخاطب بالحد لا سيما والنفس الناطقة من جنس ما يسمونه الملائكة وهي العقول والنفوس الفلكية عندهم فظهر ضعف ما يذكره الفارابي وأبو حامد وغيرهما من هذا الاحتراز. ولكن يقال اسم الحيوان عندهم مختص ب النامي المغتذي وهذا يخرج الملك فالحيوان يخرج الملك وحينئذ فالناطق اعم من الإنسان إذ قد يكون إنسانا وغير إنسان كما أن الحيوان أعم منه. وهب أنا نقبل فصلهم ب المائت فنقول المائت أيضا ليس مختصا بالإنسان بل هو من الصفات التي يشترك فيها الحيوان. فقد تبين أن كل صفة من هذه الصفات الحيوان والناطق والمائت ليس منها واحد مختص بنوع الإنسان فبطل قولهم أن الفصل لا يكون إلا بالصفات المختصة بالنوع فضلا عن كونها ذاتية وإنما يحصل التمييز بذكر المجموع أما الوصفين وأما الثلاثة. هذا إذا جعل الفصل مصورا للمحدود في نفس من لم يتصوره وأما إذا جعل الفصل مميزا له عن غيره فلا ريب أنه يكون بالصفات المختصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 والمقصود أنه من تصور المحدود بنفسه فلا بد أن يتصور ما يختصه ويميزه عن غيره وهذا لا يحتاج في تصوره إلى حد ولكن يترجم له الاسم الدال عليه ويميز له المسمى عن غيره لكن الحد يكون منبها له على الحقيقة كما ينبهه الاسم إذا كان عارفا بمسماه. وأما من لم يكن متصورا له فلا يمكن أن يذكر له صفة واحدة تختص بالمحدود فلا يمكن تعريفه إياه لا ب فصل ولا خاصة سواء ذكر الجنس والعرض العام أو لم يذكر لأن الصفة التي تختص المحدود لا تتصور بدون تصور المحدود إذ لا وجود لها بدونه والعقل إنما يجرد الكليات إذا تصور بعض جزئياتها فمن لم يتصور الشيء الموجود كيف يتصور جنسه ونوعه. ولكن يتصور ب التثميل والتشبيه ويتصور القدر المشترك بين تلك الصفة الخاصة وبين نظيرها من الصفات والقدر المشترك ليس هو فصلا ولا خاصة ولكن قد ينتظم من قدر مشترك وقدر مشترك ما يخص المحدود كما في قولك شراب مسكر. وعلى هذا فإذا قيل في الفرس أنه حيوان صاهل وفي الحمار أنه حيوان ناهق وفي البعير أنه حيوان راغ وفي الثور أنه حيوان خائر وفي الشاة أنها حيوان ثاغ وفي الظبي أنه حيوان باغم وأمثال ذلك فهذه الأصوات مختصة بهذه الأنواع لكن لا تفيد تعريف هذه الحيوانات لمن لم يكن عارفا بها فمن لم يعرف الفرس لا يعرف الصهيل ومن لم يعرف الحمار لا يعرف النهيق أعنى لا يعرف معناه وإن سمع اللفظ فإذا أريد تعريف النهيق قيل له هو صوت الحمار فيلزم الدور إذ يكون قد عرف الحمار ب النهيق والنهيق ب الحمار. وهكذا سائر الخواص المميزة للمحدود لا يعرف بها المحدود لمن لم يكن عرفه. فتبين أن تعريف الشيء إنما هو بتعريف عينه أو بذكر ما يشبهه فمن عرف عين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الشيء لا يقتصر في معرفته إلى حد ومن لم يعرفه فإنما يعرف به إذا عرف ما يشبهه ولو من بعض الوجوه فيؤلف له من الصفات المشتبهة المشتركة بينه وبين غيره ما يخص المعرف. ومن تدبر هذا وجد حقيقته وعلم معرفة الخلق بما أخبروا به من الغيب من الملائكة واليوم الآخر وما في الجنة والنار من أنواع النعيم والعذاب بل عرف أيضا ما يدخل من ذلك في معرفتهم بالله تعالى وصفاته ولم قال كثير من السلف المتشابه هو الوعد والوعيد والمحكم: هو الأمر والنهى ولم قيل القرآن يعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه وعلم أن تأويل المتشابه الذي هو العلم بكيفية ما أخبرنا به لا يعلمه إلا الله وإن كان العلم بتأويله الذي هو تفسيره ومعناه المراد به يعلمه الراسخون في العلم كما قد بسطناه في غير هذا الموضع. هذا كله إذا كان السائل القائل ما هو غير عالم بالمسمى. وأما إن كان عالما بالمسمى ودلالة الاسم عليه فلا يحتاج إلى التمييز بين المسمى وغيره ولا إلى تعريفه دلالة الاسم عليه فيكون مطلوبه قدرا زائدا على التمييز بينه وبين غيره وهذا هو الذي يجعلونه مطلوبا للسائل عن المحدود وجوابه هو عندهم المقول في جواب ما هو. ومعلوم أن مطلوب هذا قد يكون ذكر خصائص له باطنة لم يطلع عليها وقد يكون مطلوبه بيان علته الفاعلية أو الغائية وقد يكون مطلوبه معرفة ما تركب منه شيء ما وقد يكون مطلوبه معرفة حقيقته التي لا يعلمها المسئول أو علمها ولا عبارة تدل السائل عليها كالسائل عن حقيقة النفس وأمثال ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وجواب مثل هذا لا يجب أن يحصل بذكر صفة مشتركة مع الصفات المختصة بل قد لا يحصل إلا بذكر جميع المشتركات وقد يحصل بذكر بعض المختصات وقد يحصل بغير ذلك بحسب غرض السائل ومقصوده. الوجه الخامس: التصورات المفردة يمتنع أن تكون مطلوبة الخامس: أن التصورات المفردة يمتنع أن تكون مطلوبة فيمتنع أن تطلب بالحد وذلك لأن الذهن أما أن يكون شاعرا بها وأما أن لا يكون شاعرا بها فان كان شاعرا بها امتنع طلب الشعور وحصوله لأن تحصيل الحاصل ممتنع وإنما قد يطلب دوام الشعور وتكرره أو قوته وإن لم يكن شاعرا بها امتنع من النفس طلب ما لا تشعر به فان الطلب والقصد مسبوق بالشعور. فان قيل فالإنسان يطلب تصور الملك والجن والروح وأشياء كثيرة وهو لا يشعر بها قيل هو قد سمع هذه الأسماء فهو يطلب تصور مسماها كما يطلب من سمع ألفاظا لا يفهم معانيها تصور معانيها سواء كانت المعاني متصورة له قبل ذلك أو لم تكن وهو إذا تصور مسمى هذه الأسماء فلا بد أن يعلم أنها مسماة بهذا الاسم إذ لو تصور حقيقة ولم يكن ذلك الاسم فيها لم يكن تصور مطلوبه فهنا المتصور ذات وأنها مسماة بكذا من جنس ما يرى الثلج من لم يكن يعرفه فيراه ويعلم أن اسمه الثلج وهذا ليس تصورا للمعنى فقط بل للمعنى ولا سمه وهذا لا ريب أن يكون مطلوبا ولكن هذا لا يوجب أن يكون المعنى المفرد مطلوبا فان المطلوب هنا تصديق وفيه أمر لغوي. وأيضا فان المطلوب هنا لا يحصل بمجرد الحد بل لا بد من تعريف المحدود بالإشارة إليه أو غير ذلك مما لا يكتفى فيه بمجرد اللفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فان قيل جعلتم امتناع الطلب لازما للنقيضين والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان وإذا عدم اللازم عدم الملزوم فإذا كان امتناع الطلب وهو اللازم معدوما لزم عدم النقيضين وعدم النقيضين محال قيل هذا الامتناع لازم على تقدير هذا النقيض أو تقدير هذا النقيض فأيهما كان ثابتا في نفس الأمر كان الامتناع لازما له يلزم به في نفس الأمر وليس في هذا جمع بين النقيضين ولا رفع للنقيضين وهذا يقوى المقصود فان هذا الامتناع إذا لزم من انتفائه المحال لم يكن منتفيا بل يكون هذا الامتناع ثابتا وهو المطلوب وإذا كان عدم هذا الامتناع مستلزما للنقيضين كان محالا فيكون نقيضه وهو ثبوت هذا الامتناع حقا فيكون امتناع الطلب للتصورات المفردة ثابتا وهو المراد. وإذا لم تكن التصورات المفردة مطلوبة فاما أن تكون حاصلة للإنسان فلا تحصل بالحد فلا يفيد الحد التصوير وأما أن تكون حاصلة فمجرد حصول الحد لا يوجب ذكر الأسماء تصور المسميات لمن لا يعرفها ومتى كان له شعور بها لم يحتج إلى الحد في ذلك الشعور إلا من جنس ما يحتاج إلى الاسم. والمقصود هو التسوية بين فائدة الحدود وفائدة الاسم لكن الحد إذا تعددت فيه الألفاظ كان كتعداد الأسماء سواء كانت مشتقة أو غير مشتقة. الوجه السادس: التفريق بين الذاتي والعرضي باطل: السادس: أن يقال المفيد لتصور الحقيقة عندهم هو الحد التام وهو الحقيقي وهو المؤلف من الجنس والفصل من الذاتيات المشتركة والمميزة دون العرضيات التي هي العرض العام والخاصة والمثال المشهور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 عندهم أن الذاتي المميز الإنسان الذي هو الفصل هو الناطق والخاصة هي الضاحك. فنقول مبنى هذا الكلام على الفرق بين الذاتي والعرضي. وهم يقولون المحمول الذاتي داخل في حقيقة الموضوع أي الوصف الذاتي داخل في حقيقة الموصوف بخلاف المحمول العرضي فانه خارج عن حقيقة. ويقولون الذاتي هو الذي تتوقف الحقيقة عليه بخلاف العرضي ويقسمون العرضي إلى لازم وعارض واللازم إلى لازم لوجود الماهية دون حقيقتها كالظل للفرس والموت للحيوان والى لازم للماهية كالزوجية والفردية للأربعة والثلاثة. والفرق بين لازم الماهية ولازم وجودها أن لازم وجودها يمكن أن تعقل الماهية موجودة دونه بخلاف لازم الماهية لا يمكن أن يعقل موجودا دونه. وجعلوا له خاصة ثانيه وهو أن الذاتي ما كان معلولا للماهية بخلاف للازم ثم قالوا من اللوازم ما يكون معلولا للماهية بغير وسط وقد يقولون ما كان ثابتا لها بواسطة وقالوا أيضا الذاتي ما يكون سابقا للماهية في الذهن والخارج بخلاف اللازم فانه ما يكون تابعا. فذكروا هذه الفروق الثلاثة وطعن محققوهم في كل واحد من هذه الفروق الثلاثة وبينوا أنه لا يحصل به الفرق بين الذاتي وغيره كما قد بسطت كلامهم في غير هذا الموضع. وقد يقولون أيضا هو المقوم للماهية الذي يكون متقدما عليها في الوجود وهذه الماهية وهو أن يسبق الذاتي للماهية فانه لا يتأخر عن الماهية في التصور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 والفرق الثالث أنه لازم لها بواسطة والعرض اللازم لازم لها بوسط والوسط عند أئمتهم كابن سينا وغيره وهو ما يسمونه باللازم في ذلك ولأنه معناه الدليل لبعض متأخريهم كالرازي. ثم قد تناقضوا في هذا المقام كما قد بسطته في غير هذا المقام لما حكيت ألفاظهم وتناقضهم كما ذكرته من أقوال ابن سينا في الإشارات وغير ذلك من أقوالهم إذ لم نحك هنا نفس ألفاظهم وإنما القصد التنبيه على جوامع تعرف ما يظهر به بطلان كثير من أقوالهم المنطقية. وهذا الكلام الذي ذكروه مبني على اصلين فاسدين الفرق بين الماهية ووجودها ثم الفرق بين الذاتي لها واللازم لها. الكلام على الفرق بين الماهية ووجودها: فالأصل الأول قولهم أن الماهية لها حقيقة ثابتة في الخارج غير وجودها وهذا هو قولهم بان حقائق الأنواع المطلقة التي هي ماهيات الأنواع والأجناس وسائر الكليات موجودة في الأعيان وهو يشبه من بعض الوجوه قول من يقول المعدوم شيء وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وهذا من افسد ما يكون. وإنما اصل ضلالهم أنهم رأوا الشيء قبل وجوده يعلم ويراد ويميز بين المقدور عليه والمعجوز عنه ونحو ذلك فقالوا ولو لم يكن ثابتا لما كان كذلك كما أنا نتكلم في حقائق الأشياء التي هي ماهياتها مع قطع النظر عن وجودها في الخارج فنتخيل الغلط أن هذه الحقائق والماهيات أمور ثابتة في الخارج. والتحقيق أن ذلك كله أمر موجود وثابت في الذهن لا في الخارج عن الذهن والمقدر في الأذهان قد يكون أوسع من الموجود في الأعيان وهو موجود وثابت في الذهن وليس هو في نفس الأمر لا موجودا ولا ثابتا فالتفريق بين الوجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 والثبوت مع دعوى أن كليهما في الخارج غلط عظيم وكذلك التفريق بين الوجود والماهية مع دعوى أن كليهما في الخارج. وإنما نشأت الشبهة من جهة أنه غلب على أن ما يوجد في الذهن يسمى ماهية وما يوجد في الخارج يسمى وجودا لأن الماهية مأخوذة من قولهم ما هو كسائر الأسماء المأخوذة من الجمل الاستفهامية كما يقولون الكيفية والاينية ويقال ماهية ومايية وهي أسماء مولدة وهي المقول في جواب ما هو بما يصور الشيء في نفس السائل. فلما كانت الماهية منسوبة إلى الاستفهام ب ما هو والمستفهم إنما يطلب تصوير الشيء في نفسه كان الجواب عنها هو المقول في جواب ما هو بما يصور الشيء في نفس السائل وهو الثبوت الذهني سواء كان ذلك المقول موجودا في الخارج أو لم يكن فصار بحكم الاصطلاح أكثر ما يطلق الماهية على ما في الذهن ويطلق الوجود على ما في الخارج فهذا أمر لفظي اصطلاحي. وإذا قيد وقيل الوجود الذهبي كان هو الماهية التي في الذهن وإذا قيل ماهية الشيء في الخارج كان هو عين وجوده الذي في الخارج. فوجود الشيء في الخارج عين ماهيته في الخارج كما اتفق على ذلك أئمة النظار المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة وسائر أهل الإثبات من المتكلمة الصفاتية وغيرهم كأبي محمد بن كلاب وأبى الحسن الأشعري وأبى عبد الله بن كرام وأتباعهم دع أئمة أهل السنة والجماعة من السلف والأئمة الكبار. واتفقوا على أن المعدوم ليس له في الخارج ذات قبل وجوده وأما في الذهن فنفس ماهيته التي في الذهن هي أيضا وجوده الذي في الذهن وإذا أريد ب الماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج كانت هذه الماهية غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الوجود لكن ذلك لا يقتضى أن يكون وجود الماهيات التي في الخارج زائدا عليها في الخارج وأن يكون للماهيات ثبوت في الخارج غير وجودها في الخارج. ومما يوضح الكلام في الأصل الأول أن المتفلسفة أتباع أرسطو كابن سينا ودونه لا يقولون أن كل معدوم من الأشخاص وغيرها هو ثابت في الخارج. وإنما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة والشيعة وهم أحسن حالا من المتفلسفة فان المتفلسفة على قولين. وأما قد ماؤهم كفيثاغورس وأتباعه وأفلاطون وأتباعه فقد كانوا في ذلك على ضلال مبين رد عليهم أرسطو وأتباعه كما ذكر ذلك ابن سينا في الشفاء وغيره. كان أصحاب فيثاغورس يظنون أن الأعداد والمقادير أمور موجودة في الخارج غير المعدودات والمقدرات. ثم أصحاب أفلاطون تفطنوا لفساد هذا وظنوا أن الحقائق النوعية كحقيقة الإنسان والفرس وأمثال ذلك ثابتة في الخارج غير الأعيان الموجودة في الخارج وأنها أزلية لا تقبل الاستحالة وهذه التي تسمى المثل الأفلاطونية والمثل المعلقة. ولم يقتصروا على ذلك بل أثبتوا ذلك أيضا في المادة والمدة والمكان فأثبتوا مادة مجردة عن الصور ثابتة في الخارج وهي الهيولى الأولية التي غلطهم فيها جمهور العقلاء من إخوانهم وغير إخوانهم وأثبتوا مدة وجودية خارجة عن الأجسام وصفاتها وأثبتوا خلاء وجوديا خارجا من الأجسام وصفاتها وتفطن أرسطو وذووه أن هذه كلها أمور مقدرة في الأذهان لا ثابتة في الأعيان كالعدد مع المعدود ثم زعم أرسطو وذووه أن المادة موجودة في الخارج غير الصور المشهودة وأن الحقائق النوعية ثابتة في الخارج غير الأشخاص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 المعينة وهذا أيضا باطل كما بسط في غير هذا الموضع وبين أن قول من يقول أن الجسم مركب من الهيولى والصورة باطل كما أن قول من يقول أنه مركب من الجواهر المفردة باطل وأن أكثر فرق أهل الكلام من المسلمين وغيرهم كالكلابية والنجارية والضرارية والهشامية وكثير من الكرامية لا يقولون بهذا ولا بهذا كما عليه جماهير أهل الفقه وغيرهم. والكلام على من فرق بين الوجود والماهية مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على أن ما ذكروه في المنطق من الفرق بين الماهية ووجود الماهية في الخارج هو مبنى على هذا الأصل الفاسد. وحقيقة الفرق الصحيح أن الماهية هي ما يرتسم في النفس من الشيء والوجود هو نفس ما يكون في الخارج منه وهذا فرق صحيح فان الفرق بين ما في النفس وما في الخارج ثابت معلوم لا ريب فيه وأما تقدير حقيقة لا تكون ثابتة في العلم ولا في الوجود فهذا باطل. ومعلوم أن لفظ الماهية يراد به ما في النفس والموجود في الخارج ولفظ الوجود يراد به بيان ما في النفس والموجود في الخارج فمتى أريد بهما ما في النفس ف الماهية هي الوجود وإن أريد بهما ما في الخارج ف الماهية هي الوجود أيضا وأما إذا بأحدهما ما في النفس وبالآخر ما في الوجود الخارج ف الماهية غير الوجود. وكلامهم إنما يستلزم ثبوت ماهية في الذهن لا في الوجود الخارجي وهذا لا نزاع فيه ولا فائدة فيه إذ هذا خبر عن مجرد وضع واختراع إذ يقدر كل إنسان أن يخترع ماهية في نفسه غير ما اخترعه الآخر وإذا ادعى هذا أن الماهية هي الحيوان الناطق أمكن الآخر أن يقول بل هي الحيوان الضاحك وإذا قال هذا أن الحيوانية ذاتية ل الإنسان بخلاف العددية ل الزوج والفرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أمكن الآخر أن يعارضه ويقول بل العدد ذاتي ل الزوج والفرد واللون ذاتي ل السواد بخلاف الحيوان فليس ذاتيا ل الإنسان إذ مضمون هذا كله أن يأتي شخص إلى صفات متماثلة في الخارج فيدعى أن الماهية التي يخترعها في نفسه هي هذه الصفة دون هذه فأنه أن جعل هذا مطابقا للأمر في نفسه وهو قولهم كان مبطلا وإن قال هذا اصطلاح اصطلحته قوبل باصطلاح آخر وكان هذا مما لا فائدة فيه. فان قيل فهم يردون بذلك ما ذكره ابن سينا وغيره من أن كون العدد زوجا وفردا ليس وصفا بينا لكل عدد بل تارة يعلم ثبوته ل العدد بلا وسط كما يعلم أن الاثنين نصف الأربعة وتارة لا يعلم ثبوته إلا بوسط به يعلم أن هذا نصف هذا كما يعلم أن ألفا وثلاثمائة واثنين وسبعين لها نصف بخلاف الحيوانية ل الحيوان فإنها بينة بلا وسط إذ كل حيوان أنه حيوان. قيل هذا باطل من وجهين: أحدهما: أن هذا أمر يرجع إلى علم الإنسان بأن هذه الصفة ثابتة للموصوف بلا وسط وإلى أن علمه بأن هذه الصفة ثابتة لا بد له من وسط وليس هذا فرقا يعود إلى الموجودات في نفسها فان كون هذا العدد زوجا أو فردا هو مثل كون هذا العدد زوجا أو فردا سواء علم الإنسان بذلك أو لم يعلم وإذا كان علمه بأحدهما يحتاج إلى دليل دون الآخر لم يوجب ذلك الفرق بينهما في نفس الأمر ولكن هذا مما يبين حقيقة قولهم الذي بيناه في غير هذا الموضع وهو أن الماهية عندهم عبارة عما دل عليه اللفظ ب المطابقة وجزؤها الداخل فيها ما دل عليه اللفظ ب التضمن واللازم الخارج عنها ما دل عليه ب الالتزام فترجع الماهية وجزؤها الداخل واللازم الخارج إلى مدلول المطابقة والتضمن والالتزام وهذا أمر يتبع قصد المتكلم وغايته وما دل عليه بلفظه لا يتبع الحقائق الموجودة في نفسها فان تصور المتكلم قد يكون مطابقا وقد يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 غير مطابق. وهم هنا فرقوا بين الصفات المتماثلة فجعلوا بعضها ذاتيا داخلا في الحقيقة وبعضها عرضيا خارجا لازما للحقيقة. الوجه الثاني: أن يقال علم الناس بلزوم الصفات للموصوف وعدم لزومها أمر يتفاوت فيه الناس فقد يشك بعض الناس في بعض الأشياء أنه حيوان أو أنه لون حتى يعلم ذلك كما يشك في بعض الأعداد أنه زوج حتى يعلم ذلك بالوسط فلا فرق حينئذ بين ما جعلوه ذاتيا وما جعلوه عرضيا لازما للحقيقة وهو المطلوب. وأما اللازم للماهية والعرض لوجودها فملخصه أنه يمكن أن يفرض في الذهن ماهية خالية عن هذا اللازم بخلاف الآخر كما يفرض في الذهن فرس لا ظل لها وفرس غير مخلوقة بل كما يفرض في الذهن زنجي غير أسود وغراب غير أسود وأمثال ذلك. فيقال إذا قدر أن هذا الذي في الذهن هو الحقيقة فان عني به هو حقيقة ما في الذهن فهذا حق وهذا وجود ما في الذهن فلا فرق بين الماهية ووجودها وإن عني به أن هذا هو الماهية التي في الخارج كان بمنزلة أن يقال هذا هو الموجود الذي في الخارج فانه أن جعلت الماهية التي في الخارج مجردة عن هذه الصفات اللازمة أمكن أن يجعل الوجود الذي في الخارج مجردا عن هذه الصفات اللازمة وإن جعل هذا هو نفس الماهية بلوازمها كان هذا بمنزلة أن يقال هذا الوجود بلوازمه. وعلى التقديرين فلا فرق بين الوجود والماهية إلا فرق بين ما في الذهن وما في الخارج وتقدير ماهية في الخارج بدون هذا اللازم كتقدير وجود في الخارج بدون هذا اللازم وهما باطلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الكلام على التفريق بين الذاتي واللازم: الأصل الثاني: وهو المقصود أن ما ذكروه من الفرق بين العرضي اللازم للماهية والذاتي لا حقيقة له فان الزوجية والفردية للعدد الزوج والفرد مثل الناطقية والصاهلية للحيوان الإنسان والفرس وكلاهما إذا خطر بالبال منه الموصوف والصفة لم يمكن تقدير الموصوف دون الصفة. وإذا قيل أنه يمكن أن يخطر بالبال الأربعة والثلاثة فيفهم بدون أن يخطر بالبال كون ذلك عددا شفعا أو وترا قيل يمكن أن يخطر بالبال الإنسان مع أنه لم يخطر بالبال أنه ناطق ولا أنه حيوان وإذا قيل أن هذا لا يكون تصورا تاما ل الإنسان قيل أن هذا لا يكون تصورا تاما ل الأربعة أو الثلاثة. وكذلك العرض الذي هو سواد إذا خطر بالبال أنه سواد ولم يخطر أنه لون أو لم يخطر بالبال أنه عرض أو صفة لغيره أو قائم بغيره ونحو ذلك فأنه لا يمكن أن يقدر في الذهن سواد أو بياض ويقدر أنه ليس ب قائم بغيره بل إذا خطر بالبال معا فلا بد أن يعلم أنه قائم بغيره كما إذا خطر بالبال الجسم الحساس النامي المتحرك بالإرادة مع الإنسان فلا بد أن يعلم أنه موصوف بذلك بل لزوم ذلك ل اللون في الذهن آكد. فجعل هذه الصفات اللازمة في الذهن لهذه الموصوفات ليست ذاتية لها وهذه ذاتية ل الإنسان تحكم محض ولعلة إلى العكس أقرب أن صح التفريق بينهما. لهذا يتناقضون في التمثيل فهم يقولون الحيوانية ذاتية ل الحيوان كالإنسان والفرس وغيرهما ف الحيوان هو الذاتي المشترك والناطق هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الذاتي المميز ويقولون العددية ليست ذاتية مشتركة ل الزوج والفرد ولا الزوجية والفردية ذاتية مميزة ل الزوج والفرد وأما اللونية فتارة يجعلونها ك الحيوانية فيجعلونها ذاتية وتارة يجعلونها ك العددية فيجعلونها غير ذاتية وسبب ذلك دعواهم أن كون العدد المعين زوجا أو فردا قد يخفى فلا يعلم إلا بوسط هو الدليل بخلاف كون الإنسان والفرس والجمل والحمار والقرد ونحو ذلك حيوانا فإنه بين لكل أحد. ومعلوم أن جميع الصفات اللازمة منها ما هو خاص بالموصوف يصلح أن يكون فصلا ومنها ما هو مشترك بينه وبين غيره وكل منهما في الخارج واحد فكما أن السواد هو اللون وهو العرض القائم بغيره والثلاثة هي العدد وهي الفرد ف الإنسان هو الحيوان وهو الناطق والفرس هو الحيوان وهو الصاهل وهكذا سائر المحدودات. وما ذكروه من أن ما جعلوه هو الذاتي يتقدم تصوره في الذهن لتصور الموصوف دون الآخر فباطل من وجهين: أحدهما: أن هذا خبر عن وضعهم إذ هم يقدمون هذا في أذهانهم ويؤخرون هذا وهذا تحكم محض فكل من قدم هذا دون هذا فإنما قلدهم في ذلك ومعلوم أن الحقائق الخارجية المستغنية عنا لا تكون تابعة لتصوراتنا بل تصوراتنا تابعة لها فليس إذا فرضنا هذا مقدما وهذا مؤخرا يكون هذا في الخارج كذلك وسائر بني آدم الذين لم يقلدوهم في هذا الوضع لا يستحضرون هذا التقديم والتأخير ولو كان هذا فطريا لكانت الفطرة تدركه بدون التقليد المغير لها كما تدرك سائر الأمور الفطرية والذي في الفطرة أن هذه اللوازم كلها لوازم للموصوف وقد تخطر بالبال وقد لا تخطر وكلما خطرت كان الإنسان أعلم بالموصوف وإذا لم تخطر كان علمه بصفاته أقل أما أأن يكون هذا خارجا عن الذات وهذا داخلا في الذات فهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 تحكم ليس له شاهد لا في الخارج ولا في الفطرة. لاسيما وهم يقولون الذاتي يتقدم على الماهية في الذهن وفي الخارج ويسمونه الجزء المقوم لها ويقولون أجزاء الماهية متقدمة عليها في الذهن وفي الخارج لأن الماهية مركبة منها وكل مركب فانه مسبوق بمفرداته. ومعلوم أن صفات الموصوف قائمة به يمتنع أن تكون مقدمة عليه في الخارج وأما تسمية الصفة جزء فسبب ذلك أنها أجزاء في التصور الذهني وفي اللفظ فانك إذا قلت جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق كان هذا المجموع لفظه ومعناه مركبا من هذه الألفاظ ومعانيها وتلك من أجزاء هذا المركب ولكن هذا تحقيق ما قلناه من أن ما سموه الماهية وجزئها الداخل فيها ولازمها الخارج منها يعود إلى المعاني المتصورة في الذهن التي يدل عليها اللفظ ب المطابقة وجزؤها هو ما دل عليه ب التضمن وخارجها اللازم ما دل عليه ب الالتزام. وهم تارة يقولون الذاتي يسبق الماهية وتارة يقولون لا يتأخر عنها ويجعلون كلا من هذين فرقا وهما متداخلان فان ما يتقدم عنها يمتنع أن يتأخر عنها. الوجه الثاني: أن كون الوصف ذاتيا للموصوف هو أمر تابع للحقيقة التي هو بها سواء تصورته أذهاننا أو لم تتصوره فلا بد إذا كان احد الوصفين ذاتيا دون الآخر أن يكون بينهما أمرا يعود إلى حقيقتهما الخارجة الثابتة بدون الذهن وأما أن يكون الفرق بين الحقائق الخارجة لا حقيقة له إلا بمجرد التقدم والتأخر في الذهن فهذا لا يكون حقا إلا أن تكون الحقيقة والماهية هي ما تقدر في الذهن لا ما يوجد في الخارج وذلك أمر يتبع تقدير صاحب الذهن وحينئذ فيعود حاصل هذا الكلام إلى أمور مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الخارج وهي التخيلات والوهميات الباطلة وهذا كثير في أصولهم كما بيناه في غير موضع في بيان ما ذكروه في الهيولي والعقول والماهيات وغير ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وهنا وجه ثالث يظهر به فساد ما ذكروه وهو أنهم قالوا الذاتيات هي أجزاء الماهية وهي متقدمة عليها في الذهن وفي الخارج والأجزاء هي هذه الصفات فجعلوا صفة الموصوف متقدمة عليه في الخارج وهذا مما يعلم بصريح العقل بطلانه. وسبب غلطهم أن ذلك الوصف إذا تكلم به كان جزءا من الكلام متقدما على سائر الجملة في التصور والتعبير وهو في الذهن واللسان جزء من الجملة التي هي في الحقيقة وما به الماهية عندهم فلما كان ما يشتبه عليهم ما في الأذهان وما في الأعيان فظنوا أن صفات الأعيان المقومة لماهياتها الثابتة في الخارج هي متقدمة عليها في الخارج وكان هذا من أظهر الغلط لمن تصور ما قالوا وقد يثبتون ماهيته متقدم عليها. الوجه السابع: اشتراط الصفات الذاتية المشتركة أمر وضعي محض: الوجه السابع: أن يقال قولهم أن الحد التام يفيد تصوير الحقيقة واشتراطهم أن يكون مؤلفا من الذاتي المميز والذاتي المشترك وهو الجنس. يقال لهم هل تشترطون فيه أن تتصور جميع صفاته الذاتية المشتركة بينه وبين غيره أم لا فان اشترطتم ذلك لزم أن تقولوا مثلا جسم نام حساس متحرك بالإرادة فأما لفظ الحيوان فلا يدل على هذه الصفات ب المطابقة ولا ب فصلها وإن لم تشترطوا ذلك فاكتفوا بمجرد المميز ك الناطق مثلا فان الناطق يدل على الحيوان كما يدل الحيوان على النامي إذ النامي جنس قريب ل الحيوان يشترك فيه الحيوان والنبات فإذا أردت حد الحيوان على وضعهم قلت: الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة كما تقول في الإنسان حيوان ناطق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 والمقصود أنهم أن اكتفوا في الدلالة على الصفات المشتركة بما يدل ب التضمين أو بالالتزام فالفصل يدل على ذلك وإن أرادوا تفصيلها بدلالة المطابقة فلم يفعلوا ذلك. وهذا يبين أن إيجابهم في الحد التام الجنس القريب دون غيره تحكم محض ونظير هذا دعواهم أن البرهان لا بد أن يكون مؤلفا من مقدمتين لا أقل ولا أكثر فان اكتفى فبه ب مقدمة واحدة قالوا الآخرى محذوفة وسموه قياس الضمير وإن احتج فيه إلى مقدمات قالوا هذه قياسات متداخلة. فاصطاحوا على أنه لابد في الحد من لفظين جنس وفصل ولابد في القياس من مقدمتين وكل هذا تحكم. فان البرهان قد يكتفى فيه ب مقدمة وقد لا يتم إلا ب مقدمتين وقد لا يتم إلا بثلاث مقدمات وأربع وخمس بحسب حاجة المستدل وما يعلم مما لا يعلم من المقدمات. وكذلك اكتفاؤهم في الحد بلفظين لفظ يدل على المشترك ولفظ يدل على المميز وزعمهم أن الحد التام لا يحصل إلا بهذا لا يحتاج إلى زيادة عليه ولا يحصل بدونه فانه يقال أن أريد ب الحد التام ما يصور الصفات الذاتيات على التفصيل مشتركها ومميزيها فالجنس القريب مع الفصل لا يحصل ذلك وإن أريد بما يدل على الذاتيات ولو ب التضمن أو الالتزام ف الفصل بل الخاصة يدل على ذلك. وإذا عارضهم من يوجب ذكر جميع الأجناس أو يحذف جميع الأجناس لم يكن لهم عنه جواب إلا أن هذا وضعهم واصطلاحهم ومعلوم أن العلوم الحقيقية لا تختلف باختلاف الأوضاع فقد تبين أن ما ذكروه هو من باب الوضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 والاصطلاح الذي جعلوه من باب الحقائق الذاتية والمعارف وهذا عين الضلال والإضلال كمن يجيء إلى شخصين متماثلين يجعل هذا مؤمنا وهذا كافرا وهذا عالما وهذا جاهلا وهذا سعيدا وهذا شقيا من غير افتراق بين ذاتيهما وصفاتهما بل بمجرد وضعه واصطلاحه فهم مع دعواهم القياس العقلي يفرقون بين المتماثلات ويسوون بين المختلفات. ولهذا كان الذي عليه عامة الناس من نظار المسلمين وغيرهم الاقتصار في الحدود على الوصف المميز الفاصل بن المحدود وغيره إذ التمييز يحصل بهذا وذلك هو الوصف المطابق للمحدود في العموم والخصوص إلى أخرها بحيث يدخل فيه جميع أفراد المحدود وأجزائه ويخرج منه ما ليس منه فهذا هو الحد الذي عليه نظار المسلمين كما بسطنا قولهم في غير هذا الموضع. وأما سائر الصفات المشتركة فقد لا يمكن الإحاطة بها ولا ريب أنه كلما كان الإنسان بها أعلم كان بالموصوف اعلم وأنه ما من تصور إلا وفوقه تصور أكمل منه ونحن لا سبيل إلى أن نعلم شيئا من كل وجه. ولا نعلم لوازم كل مربوب ولوازم لوازمه إلى آخرها فانه ما من مخلوق إلا وهو مستلزم للخالق والخالق مستلزم لصفاته التي منها علمه وعلمه محيط بكل شيء فلو علمنا لوازم لوازم الشيء إلى آخرها لزم أن نعلم كل شيء وهذا ممتنع من البشر فان الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم الأشياء كما هي عليه من غير احتمال زيادة وأما نحن فما من شيء نعلمه إلا ويخفى علينا من أموره ولوازمه ما لا نعلمه. يوضح ذلك أنهم يقولون ما ذكره أبو حامد في معيار العلم: "إن دلالة التضمن كدلالة لفظ البيت على الحائط ودلالة لفظ الإنسان على الحيوان وكذلك دلالة كل وصف اخص على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الوصف الأعم الجوهري. ودلالة الالتزام والاستتباع كدلالة لفظ السقف على الحائط فانه مستتبع له استتباع الرفيق اللازم الخارج عن ذاته ودلالة لفظ الإنسان على قابل صنعة الخياطة ومعلمها". قال: "والمعتبر في التعريفات دلالة المطابقة والتضمن فأما دلالة الالتزام فلا لأن المدلول عليه فيها غير محدود ولا محصور إذ لوازم الأشياء ولوازم لوازمها لا تنضبط ولا تنحصر فيؤدي إلى أن يكون اللفظ الواحد على ما لا يتناهى من المعاني وهو محال". فقد جعل دلالة الخاص على الاسم دلالة تضمن كدلالة الإنسان على الحيوان وذكر أنها معتبرة في التعريفات ومعلوم أن دلالة الحيوان على الحساس المتحرك بالإرادة ودلالة الحساس على النامي ودلالة النامى على الجسم هو كذلك عندهم ومعلوم أن دلالة الناطق على الحيوان كدلالة النامى على الجسم فكان الواجب حينئذ أن يكتفى ب الناطق أو لا يكتفي معه بلفظ الحيوان فإنهم أن اكتفوا بدلالة التضمن لزم الحذف وإن لم يكتفوا لزم التفصيل. الوجه الثامن: اشتراط ذكر الفصول مع التفريق بين الذاتي واللازم غير ممكن: الوجه الثامن: وهو أن اشتراطهم مثلا ذكر الفصول التي هي الذاتيات المميزة مع تفريقهم بين الذاتي والعرضى اللازم للماهية غير ممكن إذ ما من مميز هو من خواص المحدود المطابقة له في العموم والخصوص إلا ويمكن شخصا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 أن يجعله ذاتيا مميزا ويمكن الآخر أن يجعله عرضيا لازما للماهية. الوجه التاسع: توقف معرفة الذات على معرفة الذاتيات وبالعكس يستلزم الدور: الوجه التاسع: أن يقال هذا التعليم دوري قبلي فلا يصح. وذلك أنهم يقولون أن المحدود لا يتصور ولا يحد حدا حقيقيا إلا بذكر صفاته الذاتية ثم يقولون الذاتي هو ما لا يمكن تصور الماهية بدون تصوره فيفرقون بين الذاتي وغير الذاتي أن الذاتي ما يتوقف عليه تصور الماهية فلا بد أن يتصور قبلها. ويقولون تارة لا بد أن يتصور معها فلا يمكن عندهم أن يتأخر تصوره عن تصور الماهية وبذلك يعرف أنه وصف ذاتي. فحقيقة قولهم أنه لا يعلم الذاتي من غير الذاتي حتى تعلم الماهية ولا تعلم الماهية حتى تعلم الصفات الذاتية التي منها تؤلف الماهية وهذا دور. فإذا كان المتعلم لا يتصور المحدود حتى يتصور صفاته الذاتية ولا يعرف أن الصفة ذاتية حتى يتصور الموصوف الذي هو المحدود حتى تتصور فلا يعلم أنها ذاتية حتى يتصور الموصوف ولا يتصور الموصوف حتى يتصور الصفات الذاتية ويميز بينها وبين غيرها داخل فيها وما هو جزء لها فان تصور كون الشيء جزءا لغيره بدون تصور ذلك الغير ممتنع. ونحن لم نقل أنه لا يتصور الوصف الذاتي حتى يتصور الموصوف بل الإنسان يتصور أشياء كثيرة ولا يتصور أنها صفات لغيرها ولا أجزاء لها فضلا عن كونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 لازمة ذاتية أو غير لازمة وإنا قلنا لا يعلم أنها جزء من الماهية وأنها ذاتية ل الماهية داخلة في حقيقة الماهية أن لم تتصور الماهية. وإن قيل أن مجرد تصور الصفات الذاتيات كاف في تصور الماهية وإن لم أعلم أن تلك الصفات ذاتية قيل من أين يعلم الإنسان أن هذه الصفات هي الذاتيات دون غيرها أن لم يعرف الماهية التي هذه الصفات ذاتية لها داخلة فيها ومن أين يعلم إذا تصور بعض الصفات اللازمة أن هذه هي الذاتية التي تتركب منها الماهية والذات دون غيرها أن لم يعلم الذات فيتوقف معرفة الذات التي هي الماهية على معرفة الذاتيات وتتوقف معرفة الذاتيات أي معرفة كونها هي الذاتيات لهذه الماهية دون غيرها من اللوازم على معرفة الذات فيتوقف معرفتها على معرفتها فلا يعرف هو ولا يعرف الذاتيات. وهذا كلام متين يجتاح اصل كلامهم ويبين أنهم متحكمون فيما وضعوه لم يثبتوه على اصل علمي تابع للحقائق ولكن قالوا هذا ذاتي وهذا غير ذاتي بمجرد التحكم ولم يعتمدوا على أمر يمكن الفرق به بين الذاتي وغيره إذ هذا غير ممكن فيما وضعوه ويبين أن ما ذكروه مما زعموا أنه صفات ذاتية لا يعرف حقيقة الموصوف أصلا بل ما ذكروه يستلزم أنه لا يمكن حده فإذا لم يعرف المحدود إلا بالحد والحد غير ممكن لم يعرف وذلك باطل. مثال ذلك إذا قدر أنه لا تتصور حقيقة الإنسان حتى تتصور صفاته الذاتية التي هي عندهم الحيوانية والناطقية وهذه الحيوانية والناطقية لا يعرف أنها صفاته الذاتية دون غيرها حتى يعرف أن ذاته لا تتصور إلا بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وأن ذاته تتصور بها دون غيرها ولا يعلم أن ذاته لا تتصور إلا بها حتى تعرف ذاته. فان قيل مجرد تصور الحيوانية والناطقية يوجب تصور الإنسان قيل مجرد تصوره بذلك لا يوجب أن يعلم أن هذا هو الإنسان حتى يعلم أن الإنسان مؤلف من هذه دون غيرها وهذا يوجب معرفته ب الإنسان قبل ذلك. وأما مجرد قوله حيوان ناطق إذا جعل مفردا ولم يكن خبر مبتدأ محذوف فانه بمنزلة الاسم المفرد وهذا لا يفيد فهم كلام. وإذا ادعى المدعى أن من تصور هذا فقد تصور الإنسان بدون دليل يقيمه على أن هذا هو حقيقة الإنسان كان بمنزلة من يقول في حده الحيوان الضاحك ويدعى أن هذا هو حقيقة الإنسان فكلاهما دعوى بلا برهان. وهذا يبين أن دلالة الحد بمنزلة دلالة الاسم إنما يفيد التمييز بين المحدود المسمى وغيره ولكنه قد يفيد تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال وذلك التفصيل يتنوع بحسب ما يذكر من الصفات لا يختص ذلك ببعض الصفات المطابقة للموصوف التي هي لازمة ملزومة دون غيرها ويبين أن الألفاظ بمجردها لا تفيد تصور الحقائق لمن لم يتصورها بدون ذلك لكنها تفيد التنبيه والإشارة لمن كان غافلا معرضا. فان قيل تصوره موقوف على تصور الصفات الذاتية لا على معرفة أنها ذاتية وقد يمكن تصورها وإن لم يعرف أنها ذاتية له قيل هب أن الأمر كذلك لكن لا بد من التمييز بين الصفات الذاتية التي لا تتصور الذات إلا بها وبين العرضية التي تتصور بدونها ولا يمكن التمييز بين هذين النوعين إلا إذا عرفت ذاته المؤلفة من الصفات الذاتية ولا تعرف ذاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 حتى تعرف الصفات الذاتية ولا تميز بين الذاتيات وغيرها حتى تعرف ذاته فصار معرفة الذات موقوفا على معرفة الذات وهذا هو الدور. وكذلك معرفة الذاتيات موقوف على معرفة الذاتيات فلا تعرف الصفات التي هي ذاتية للموصوف حتى تعرف أن تصور الذات موقوف على تصورها ولا يعرف أن تصور الذات موقوف على تصورها حتى تعرف الذات ولا تعرف الذات حتى تعرف الذاتيات وهذا بين عند تأمل مقصودهم فإنهم يقولون لا يحد الشيء حدا حقيقيا إلا بذكر صفاته الذاتية فلا بد من الفرق بين صفاته الذاتية والعرضية والفرق بينهما أن الذاتي هو ما لا تتصور الحقيقة إلا به فإذا كنا لم نعرف الحقيقة لم نعرف الصفات التي يتوقف معرفة الحقيقة عليها وإذا لم نعرف هذه الصفات لم نعرف الصفات الذاتية من العرضية وهو المطلوب. وهذا بخلاف الفرق بين الصفات اللازمة والعارضة فانه فرق حقيقي ثابت في نفس الأمر. أبحاث في حد العلم والخبر: مثال ذلك أنهم يتنازعون في حد العلم والأمر والخبر ونحو ذلك من الأمور التي شاع الكلام عليها في العلوم المشهورة فمن النظار من يحدها كما يقولون في العلم معرفة المعلوم على ما هو به أو يقولون إعتقاد المعلوم على رأي ال معتزلة الذين لا يقولون أن لله علما أو يقولون العلم ما أوجب لمن قام به أن يكون عالما ونحو ذلك. ويقال في حد الخبر هو ما احتمل الصدق والكذب أو ما شاع أن يقال لصاحبه في اللغة صدقت أو كذبت ونحو ذلك. ويعترض على هذه الحدود بالاعتراضات المشهورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 مثل أن يقال المعلوم مشتق من العلم ومعرفة المشتق متوقفة على معرفة المشتق منه فلو عرف المشتق بالمشتق منه لزم الدور. أو يقال العلم هو المعرفة وهذا حد لفظي. أو يقال قولك على ما هو به زيادة. ويقال إدخال الصدق والكذب أو التصديق والتكذيب في حد الخبر لا يصلح لأنهما نوعا الخبر وتعريفهما إنما يمكن بالخبر فلو عرف الخبر بهما لزم الدور. وأمثال ذلك من الاعتراضات المشهورة على الحدود المشهورة. ومنهم من يقول هذه الأشياء لا يمكن تحديدها أو لا يحتاج إلى تحديدها بل هي غنية عن الحد. كما يقال في العلم أن غير العلم لا يعرف إلا بالعلم فلو عرف العلم بغيره لزم الدور. أو يقال تصوره العلم لا يحصل إلا بعلم وذلك العلم العين موقوف على العلم فلو توقف تصور العلم على غيره لزم الدور. أو يقال في تعريف العلم والخبر والأمر أن كل أحد يعلم جوعه وشبعه ويعلم أنه عالم بذاك والعلم بالمركب مسبوق بالعلم بالمفرد فإذن كل أحد يعلم العلم فيكون تصوره بديهيا. ويقال في الأمر والخبر كل أحد يحسن أن يأمر وأن يخبر ويعلم أن هذا أمر وهذا خبر والعلم بالمركب مسبوق بالعلم بالمفرد. فيقال له العلم بالخبر المعين والأمر المعين لا يستلزم العلم بالمطلوب بالحد لأن المطلوب بالحد تعريف الحقيقة العامة الجامعة المانعة وتصور المعين إنما يستلزم تصور الحقيقة مطلقا لا بشرط العموم والمطابقة فان الحقيقة لا توجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 عامة في الأعيان إذ الكليات بشرط كونها كليات إنما توجد في الذهن والعلم بالعين لا يستلزم العلم بالكلى بشرط كونه كليا فإذن ما علمه بالمعين ليس هو المحدود. يوضح ذلك بأن تصور خر معين وعلم معين تصور لأمر جزئي والمطلوب بالحد هو المعنى الكلي الجامع المانع فأن قيل يلزم من وجود الجزئي وجود الكلي أو قيل المطلق جزء المعين. فأن أريد بذلك أنه يوجد جزءا معينا فأن ما هو مطلق في الذهن إذا وجد في الخارج كان معينا فهذا حق ولكن لا يفيدهم وأما أن أريد بذلك أن المطلق الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه هو نفسه جزء من هذا المعين مع كونه كليا فهذا مكابرة ظاهرة ونفس تصوره كاف للعلم بفساده فأن الجزئي من معين خاص والكلي اعم وأكثر منه فكيف يكون الكثير بعض القليل وإذا كان المطلوب بالحد هو الكلي الجامع المانع الذي يطابق جميع أفراد المحدود فلا يخرج عنه شيء ولا يدخل فيه ما ليس منه فمعلوم أن تصور المعين لا يستلزم مثل هذا. وأيضا فهذا منقوض بسائر المحدودات كالإنسان وغيره مما يتصور جنس مفرداته كل أحد. ويقال قوله أن غير العلم لا يعرف إلا بالعلم فلو عرف العلم بغيره لزم الدور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أن أراد به المعلوم لا يعرف إلا بعلمه فهذا حق لكن العلم لا يعرف ب غير العلم فيعرف العلم المطلق أو العام بعلم معين فلفظ العلم في أحد المقدمتين ليس معناه معنى العلم في المقدمة الآخرى فيلزم الدور إذ قول القائل العلم لا يعرف إلا بالعلم معناه أن كل معلوم لا يعرف إلا بالعلم. وقوله فلو عرف العلم بغيره لزم الدور يقال المعرف المحدود ليس هو علما بمعلوم معين بل هو العلم الكلي والعلم الكلي يعلم بعلم جزئي مقيد ولا منافاة في ذلك كما يخبر عن الخبر بخبر فيخبر عن الخبر المطلق أو العام بخبر معين خاص. وقول القائل في الجواب أن توقف تصور غير العلم على حصول العلم بغيره أي بغير العلم لا على تصور العلم فانقطع الدور وهو أحد الجوابين فان حصول العلم بكل معلوم يتوقف على حصول العلم المعين لا على تصوره والمطلوب ما يحد تصور العلم لا حصول العلم بتلك المعلومات. والجواب الآخر أن يقال: تصور غير العلم مما يتوقف على حصول العلم بذلك المعلوم لا على حصول العلم المحدود وهو الجامع المانع والمطلوب بالحد هو هذا قدر فلو أن حصول تصور غير العلم موقوف على العلم بذلك المعلوم وعلى تصور ذلك العلم لم يكن هذا مانعا من الحاجة إلى الحد فكيف وقد يقال من علم الشيء قد يعلم أنه عالم ويعود ما ذكر. وإيضاح هذا أن في الخارج أمورا معينة كالإنسان المعين والعلم المعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 والخبر المعين وقد يتصور الإنسان أمرا مطلقا كالإنسان المطلق والعلم المطلق والخبر المطلق وهذا المطلق قد يراد به المطلق بشرط له إطلاق وهو الذي يقال أنه كل عقل وقد يراد به المطلق لا بشرط وهو الذي يسمى الكلى الطبيعي. وهذا الكلى المطلق لا بشرط قد يتنازعون هل هو موجود في الخارج أم لا والتحقيق أنه يوجد في الخارج لكن معينا مشخصا فلا يوجد في الخارج إلا إنسان معين وفيه حيوانية معينة وناطقية معينة ولا يوجد فيه إلا علم معين وخبر معين. ثم من الناس من يقول أن المطلق جزء من المعين ويقولون العام جزء من الخاص فانه حيث وجد هذا الإنسان وهذا الحيوان وجد مسمى الإنسان ومسمى الحيوان وهو المطلق. ومن الناس من ينكر هذا ويقول المطلق الكلى هو الذي لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه فيجوز أن تدخل فيه أفراد كثيرة والمعين هو جزئي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فكيف يكون الكبير بعض القليل وكيف يكون العام أو المطلق الذي يتناول أفرادا كثيرة أو يصلح ليتناول جزءا من المعين الجزئي الذي لا يتناول إلا ذلك الشخص الجزئي الموجود في الخارج. وفصل الخطاب أنه ليس في الخارج إلا جزئي معين ليس في الخارج ما هو مطلق عام مع كونه مطلقا عاما وإذا وجد المعين الجزئي فالإنسان والحيوان وجدت فيه إنسانية معينة مختصة مقيدة غير عامة ولا مطلقة. فالمطلق إذا قيل هو جزء من المعين فإنما يكون جزءا بشرط أن لا يكون مطلقا عاما والمعنى أن ما يتصوره الذهن مطلقا عاما يوجد في الخارج لكن لا يوجد إلا مقيدا خاصا وهذا كما إذا قيل أن ما في نفسي وجد أو فعل أو فعلت ما في نفسي فمعناه أن الصور الذهنية وجدت في الخارج أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وجد ما يطابقها. إذا عرف هذا فكل ما يعلم إنما يعلم بعلم معين وهذا العلم المعين فيه حصة من العلم المطلق العام ليس فيه علم مطلق عام مع كونه مطلقا عاما والإنسان إذا تصور هذا الإنسان وهذا العلم وهذا الخبر لم يتصوره مطلقا عاما وإنما يتصوره معينا خاصا. وذلك لا يستلزم أن يعلم المحدود الكلى الجامع المانع الشامل لجميع الأفراد المانع من دخول غيرها فيه فغير العلم إذا توقف على حصول العلم فإنما توقف على حصول علم معين جزئي لا على تصوره كما قيل في الجواب الأول. فلو قيل أنه موقوف أيضا على تصوره لكان موقوفا على تصور أمر جزئي معين لا على تصور المحدود المطلق الجامع المانع فان تصور هذا الكلى الجامع المانع لا يتوقف عليه وجود علم شيء من الأشياء ولا يتوقف على وجوده ولا على تصوره فلا يتوقف العلم بشيء من الأشياء على المحدود وهو العلم الجامع المانع ولا على الحد وهو العلم بهذا الجامع المانع فلا يقف لا على تصوره ولا على وجوده. وكذلك ما ذكروه في إثبات النظر ب النظر يقال فيه صحة جنس النظر ب نظر معين والنظر المعين يعلم صحته بالضرورة فالدليل نظر معين والمدلول عليه جنس النظر والنظر المعين يعلم صحته بالضرورة. وأمثال ذلك من التصورات والتصديقات التي يعلم المعين منها بالضرورة ويعلم جنسها بهذا المعين منها وليس ذلك من باب تعريف الشيء بنفسه. فإذا كان القول ب أن هذه الأمور محدودة بالحدود الممكنة ترد عليه الاعتراضات القادحة على أصلهم والقول بأنها غير مفتقرة إلى الحدود ترد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 عليه الاعتراضات الفادحة على أصلهم لم يكن القول على أصلهم لا بأنها محدودة بما يمكن من الحدود ولا بأنها مستغنية عن الحدود وإذا لم تكن غنية عن الحد بل مفتقرة إليه والحدود غير ممكنة لزم توقف تعريفها على ما لا يمكن فيلزم امتناع تعريفها ومعلوم أن معرفتها حاصلة فعلم بطلان قولهم. وأيضا فيبقى الإنسان غير متمكن لا من إثبات أن لها حدودا ولا من نفي أن يكون لها حدود وما استلزم المنع من النفي والإثبات أو رفع النفي والإثبات كان باطلا فان كل ما يذكر من الحدود يرد عليه ما يقدح فيه على أصلهم وقد ثبت عندهم أنه لا بد لها من حد فيلزم أنه لا بد لها من حد وكل حد فهو باطل فيلزم إثبات الحد ونفيه. وما استلزم ذاك إلا لأنهم جعلوا مقصود الحد تصوير المحدود وإذا قيل المقصود من الحد التمييز بين المحدود وغيره كان كل من القولين حقا ولم يتقابل النفي والإثبات بل الذين حدوها بحدودهم أفادت حدودهم التمييز بينها وبين غيرها والتمييز يحصل بما يطابق المحدود في العموم والخصوص وهو الملازم له من الطرفين في النفي والإثبات. وأما اللوازم فقد تكون أعم من المحدود كما أن الملزومات قد تكون أخص منه فان الملزوم قد يكون اخص من اللازم كما أن اللازم قد يكون أعم من الملزوم فان الإنسان مستلزم الحيوان والإنسان أخص منه والحيوان لازم له وهو أعم منه بخلاف المتلازمين فإنهما متساويان في العموم والخصوص كالإنسانية مع الناطقية والصاهلية مع الفرسية ونحو ذلك. والحدود لا تجوز إلا ب الملازم في الطرفين النفي والإثبات لا بمجرد اللوازم كما يطلقه بعضهم ولا بمجرد الملزومات ثم التمييز يحصل ب المطابق الملازم وإن كان قد لا يحتاج إلى هذا التمييز إذا حصل الاستغناء عنه بالاسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 والذين قالوا أنها غنية عن الحدود بينوا أن مطلق الحقيقة تتصور بلا حد وهذا حق بل هذا ثابت في جميع الحقائق أن مطلقها متصور بلا حد ولكن المقصود التمييز بين مسمى هذا الاسم العام وبين غيره أو التمييز بين المعنى العام المتشابه في أفراده وبين غيره وتمييز العام من غيره قد لا يكفى فيه مجرد تصوره مطلقا أو تصور بعض أفراده فليس كل من تصور معنى مطلقا تصوره عاما مميزا بينه وبين غيره فكيف إذا لم يتصوره إلا خاصا مقيدا معينا إذ قد يقطع في مواضع بأنها خبر وأنها أمر وأنها علم ويشك في مواضع كما يشك في الاعتقاد المطابق الذي يحصل للمقلد وفي أمر الأدنى للأعلى وفي الأمر الخالي عن الإرادة ونحو ذلك. فالمطلوب من الجمع والمنع الذي هو مقصود الحد لا يحصل بتصور أعيان معينة ولكن يحصل منه تصور الحقيقة في الجملة فان من تصورها معينة تصورها في الجملة وهو تصورها مع كونها مقيدة فيمكنه حينئذ أن يتصورها لا بشرط إذا جردها عن التعريف بمعنى أنه لا يشترط فيها التعريف ولا أنه يشترط عدمه. وهذا المطلق هل هو في الخارج جزء من المعين أو هذا المطلق وهو المطلق لا بشرط ليس هو في الخارج شيئا غير الأعيان الموجودة فيه قولان كما تقدم بيانه وفصل الخطاب فيه. فحينئذ فلا يكون المتصور ل الأمر المعين والخبر المعين والعلم المعين قد تصور الأشياء معينة أو تصور الحقيقة معينة لا مطلقة ولا عامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 المقام الثالث: المقام السلبي في الأقيسة والتصديقات في قولهم "إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس" : فصل: وأما القياس فالكلام في المقامين أيضا. المقام الأول: السلبي فنقول: حصر العلم على القياس قول بغير علم: قولهم: "إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس" الذي ذكروا صورته ومادته قضية سلبية نافية ليست معلومة بالبديهة ولم يذكروا على هذا السلب دليلا أصلا فصاروا مدعين مالم يبينوه بل قائلين بغير علم إذ العلم بهذا السلب متعذر على أصلهم فمن اين لهم أنه لا يمكن أحدا من بني آدم أن يعلم شيئا من التصديقات التي ليست عندهم بديهية إلا بواسطة القياس المنطقي الشمولي الذي وصفوا مادته وصورته؟. الفرق بين البديهي والنظري أمر نسبي محض: والثاني: أن يقال: هم معترفون بما لا بد منه من أن التصديقات منها بديهي ومنها نظري وأنه يمتنع أن تكون كلها نظرية لافتقار النظري إلى البديهي. وإذا كان كذلك فالفرق بين البديهي والنظري إنما هو بالنسبة والإضافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فقد يبده هذا من العلم ويبتدىء في نفسه ما يكون بديهيا له وإن كان غيره لا يناله إلا بنظر قصير أو طويل بل قد يكون غيره يتعسر عليه حصوله بالنظر وقد تقدم التنبيه على هذا في التصورات لكن نزيده هنا دليلا يختص هذا فنقول. البديهي من التصديقات هو ما يكفى تصور طرفيه موضوعه ومحموله في حصول تصديقه فلا يتوقف على وسط يكون بينهما وهو الدليل الذي هو الحد الأوسط سواء كان تصور الطرفين بديهيا أو لم يكن. ومعلوم أن الناس يتفاوتون في قوى الأذهان أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان فمن الناس من يكون في سرعة التصور وجودته في غاية يباين بها غيره مباينة كبيرة وحينئذ فيتصور الطرفين تصورا تاما بحيث تتبين بذلك التصور التام اللوازم التي لا تتبين لغيره الذي لم يتصور الطرفين التصور التام. وذلك أن من الناس من يكون لم يتصور الطرفين إلا ببعض صفاتهما المميزة فيكون من تصورهما ببعض صفاتهما المشتركة مع ذلك سواء سميت ذاتية أو لم تسم عالما بثبوت تلك الصفات لهما وثبوت كثير مما يكون لازما لهما بخلاف من لم يتصور إلا الصفات المميزة. بطلان التفريق بين الذاتي واللازم لثبوت كل منهما بغير وسط. وذلك أنهم قرروا في المنطق أن من اللوازم ما يكون لازما بغير وسط فهذا يعلم بنفس تصور الملزوم. والوسط المذكور في هذه المواضع هو عند ابن سينا ومحققيهم هو الدليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وهو الحد الأوسط. وهذا يختلف باختلاف الناس فقد يحتاج هذا في العلم ب الملزوم إلى دليل بخلاف الآخر. ومن لم يفهم مرادهم في هذا الموضع يظن أنهم أرادوا ب الوسط ما هو وسط في نفس الموصوف بحيث يكون ثبوت الوصف اللازم ل الملزوم بواسطته لا يثبت بنفسه كما قد فهم ذلك عنهم طائفة منهم الرازي وغيره وهذا مع أنه غلط عليهم كما بينا ألفاظهم في غير هذا الموضع فهو أيضا باطل في نفسه. ولا ريب أن من اللوازم ما يفتقر إلى وسط ومنها ما لا يفتقر إلى وسط عندهم وهذا احد الفروق الثلاثة التي فرقوا بها بين الذاتي والعرضي اللازم للماهية وقد أبطلوا هذا الفرق ويعبر بعضهم عن هذا الفرق ب التعليل كما يعبر به ابن حاجب. فإذا كان في اللوازم ما هو ثابت في نفس الأمر بغير وسط ولا علة لم يبق هذا فرقا بين الذاتي وبين هذه اللوازم فبطلت التصديق بهذا لكن من تصور الذات بهذه اللوازم فتصوره أتم ممن لم يتصورها بهذه اللوازم. وإذا كان المراد ب الوسط الدليل الذي يعلل به الثبوت الذهني لا الخارجي فهذا يختلف باختلاف الناس ولا ريب أن ما يستدل به سواء سمى قياسا أو برهانا أو غير ذلك قد يكون هو علة لثبوت الحكم في نفس الأمر ويسمى قياس العلة وبرهان العلة وبرهان لم وقد لا يكون كذلك وهو الدليل المطلق ويسمى قياس الدلالة وبرهان الدلالة وبرهان أن وهذا مراد ابن سينا وغيره ب الوسط وهذا مما تختلف فيه أحوال الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فالتفريق بين الذاتي والعرضي اللازم أبعد ولهذا أبطل ابن سينا الفرق بهذا كما قد ذكرنا لفظه في موضع آخر فانه على التفسيرين من اللوازم ما يثبت بغير وسط. فإذا قيل الذاتي ما يثبت بغير وسط وقد عرف أن من اللوازم ما ثبت بغير وسط تبين بطلان هذا الفرق على كل تقدير. اختلاف أحوال الناس في احتياجهم وعدم احتياجهم إلى الدليل: وأما كون الوسط الذي هو الدليل قد يفتقر إليه في بعض القضايا بعض الناس دون بعض فهذا أمر بين فان كثيرا من الناس تكون القضية عنده حسية أو مجربة أو برهانية أو متواترة وغيره إنما عرفه بالنظر والاستدلال. ولهذا كثير من الناس لا يحتاج في ثبوت المحمول ل الموضوع إلى دليل لنفسه بل لغيره ويبين ذلك لغيره بأدلة هو غنى عنها حتى يضرب له أمثالا ويقول له أليس كذا أليس كذا ويحتج عليه من الأدلة العقلية والسمعية بما يكون حدا أوسط عند المخاطب مما لا يحتاج إليه المستدل بل قد يعلم الشيء ب الحس ويستدل على ثبوته لغيره ب الدليل. وهذا أكبر من أن يحتاج إلى تمثيل فما أكثر من يرى الكواكب ويرى الهلال وغيره فيقول قد طلع الهلال وتكون هذه القضية له حسية وقد تكون عند غيره مشكوكا فيها أو مظنونة أو خبرية بل قد يظنها كذبا إذا صدق المنجم الخارص القائل أنه لا يرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 بطلان منع المنطقيين الاحتجاج بالمتواترات والمجربات والحدسيات: وقد ذكر من ذكر من هؤلاء المنطقيين أن القضايا المعلومة ب التواتر والتجربة والحدس يختص بها من علمها بهذه الطريق فلا تكون حجة على غيره بخلاف غيرها فإنها مشتركة يحتج بها على المنازع. وقد بينا في غير هذا الموضع أن هذا تفريق فاسد. فان الحسيات الظاهرة والباطنة تنقسم إلى خاصة وعامة وليس ما رآه زيد أو شمه أو ذاقة أو لمسة يجب اشتراك الناس فيه وكذلك ما وجده في نفسه من جوعه وعطشه وألمه ولذته ولكن بعض الحسيات قد تكون مشتركة بين الناس كاشتراكهم في رؤية الشمس والقمر والكواكب وأخص من ذلك اشتراك أهل البلد الواحد في رؤية ما عندهم من جبل وجامع ونهر وغير ذلك من الأمور المخلوقة والمصنوعة. وكذلك الأمور المعلومة ب التواتر والتجارب قد يشترك فيها عامة الناس كاشتراك الناس في العلم بوجود مكة ونحوها من البلاد المشهورة واشتراكهم في وجود البحر وأكثرهم ما رآه واشتراكهم في العلم بوجود موسى وعيسى ومحمد وادعائهم النبوة ونحو ذلك فان هؤلاء قد تواتر خبرهم إلى عامة بني آدم وإن قدر من لم يبلغه أخبارهم فهم في أطراف المعمورة لا في الوسط. المجربات تحصل بالحس والعقل: وكذلك المجربات فعامة الناس قد جربوا أن شرب الماء يحصل معه الري وأن قطع العنق يحصل معه الموت وأن الضرب الشديد يوجب الألم. والعلم بهذه القضية الكلية تجربي فان الحس إنما يدرك ريا معينا وموت شخص معين وألم شخص معين أما كون كل من فعل به ذلك يحصل له مثل ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 فهذه القضية الكلية لا تعلم ب الحس بل بما يتركب من الحس والعقل وليس الحس هنا هو السمع. وهذا النوع قد يسميه بعض الناس كله تجربيات وبعضهم يجعله نوعين تجربيات وخدسيات فان كان الحس المقرون ب العقل من فعل الإنسان كأكله وشربه وتناوله الدواء سماه تجربيا وإن كان خارجا عن قدرته كتغير أشكال القمر عند مقابلة الشمس سماه حدسيا والأول أشبه باللغة فان العرب تقول رجل مجرب بالفتح لمن جربته الأمور وأحكمته وإن كانت تلك من أنواع البلايا التي لا تكون باختياره. وذلك أن التجربة تحصل بنظره واعتباره وتدبره كحصول الأثر المعين دائرا مع المؤثر المعين دائما فيرى ذلك عاده مسمرة لا سيما أن شعر بالسبب المناسب فيضم المناسب إلى الدوران مع السبر والتقسيم فانه لا بد في جميع ذلك من السبر والتقسيم الذي ينفى المتزاحم وإلا فمتى حصل الأثر مقرونا بأمرين لم تكن إضافته إلى أحدهما دون الآخر بأولى من العكس ومن إضافته إلى كليهما. وما يحتج به الفقهاء في إثبات كون الوصف علة للحكم من دوران ومناسبة وغير ذلك إنما يفيد المقصود مع نفى المزاحم وذلك يعلم ب السبر والتقسيم فان كان نفى المزاحم ظنيا كان اعتقاد العلية ظنيا وإن كان قطعيا كان الاعتقاد قطعيا إذا كان قاطعا بأن الحكم لا بد له من علة وقاطعا بأنه لا يصلح للعلة إلا الوصف الفلاني. وهكذا القضايا العادية من قضايا الطب وغيرها هي من هذا الباب وكذلك قضايا النحو والتصريف واللغة من هذا الباب ولكن في اللغة يدور المعنى مع اللفظ لا هذا الباب وفي النحو والتصريف يدور الحكم مع النوع وهذا كالعلم بأن أكل الخبز ونحو هـ يشبع وشرب الماء ونحوه يروى ولبس الحشايا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 يوجب الدفأ والتجرد من الثياب يوجب البرد ونحو ذلك. لكن من لا يثبت الأسباب والعلل من أهل الكلام كالجهم وموافقيه في ذلك مثل أبي الحسن وأتباعه يجعلون المعلوم اقتران احد الأمرين بالآخر لمحض مشيئة القادر المريد من غير أن يكون أحدهما سببا للآخر ولا مولدا له. وأما جمهور العقلاء من المسلمين وغير المسلمين وأهل السنة من أهل الكلام والفقة والحديث والتصوف وغير أهل السنة من المعتزلة وغيرهم فيثبتون الأسباب ويقولون كما يعلم اقتران أحدهما بالآخر فيعلم أن في النار قوة تقتضى التسخين وفي الماء قوة تقتضى التبريد وكذلك في العين قوة تقتضى الأبصار وفي اللسان قوة تقتضى الذوق ويثبتون الطبيعة التي تسمى الغريزة والنحيزة والخلق والعادة ونحو ذلك من الأسماء. ولهذا كان السلف كأحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما يقولون العقل غريزة وأما نفاة الطبائع فليس العقل عندهم إلا مجرد العلم كما هو قول أبى الحسن الأشعري والقاضي أبى بكر والقاضي أبى يعلى وأبن عقيل وأبي الخطاب والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم وإن كان بعض هؤلاء قد يختلف كلامهم فيثبتون في موضع آخر الغرائز والأسباب كما هو مذهب الفقهاء والجمهور. فالمقصود أن لفظ التجربة يستعمل فيما جربه الإنسان ب عقله وحسه وإن لم يكن من مقدوراته كما قد جربوا أنه إذا طلعت الشمس انتشر الضوء في الآفاق وإذ غابت أظلم الليل وجربوا أنه إذا بعدت الشمس عن سمت رؤؤسهم جاء البرد وإذا جاء البرد سقط ورق الأشجار وبرد ظاهر الأرض وسخن باطنها وإذا قربت من سمت رؤوسهم جاء الحر وإذا جاء الحر أورقت الأشجار وأزهرت فهذا أمر يشترك في العلم به جميع الناس لما قد اعتادوه وجربوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ثم يعلم من يثبت الأسباب أن سبب ذلك أن شبيه الشيء منجذب إليه وضده هارب منه فإذا برد الهواء برد ظاهر الأرض وظاهر ما عليها فهربت السخونة إلى البواطن فيسخن جوف الأرض ويسخن الماء الذي في جوفه ولهذا تكون الينابيع في الشتاء حارة وتكون أجواف الحيوان حارة فتأكل في الشتاء أكثر مما تأكل في الصيف بسبب هضم الحرارة للطعام وإذا كان الصيف سخن الهواء فسخنت الظواهر وهربت البرودة إلى البواطن فيبرد باطن الأرض وأجواف الحيوان وتبرد الينابيع ولهذا يكون الماء النابع في الصيف ابرد منه في الشتاء ويضعف الهضم للطعام. فهذه القضايا ونحوها مجربات عاديات وإن كان كثير منها يقع بغير فعل بنى آدم. وكذلك ما علم من سنة الله تعالى من نصر أنبيائه وعباده المؤمنين وعقوباته لأعدائه الكافرين هو مما قد علم ويحصل به الاعتبار وإن لم يكن ذلك مما يقدر عليه المجرب نفسه وقد يعلم الإنسان من فعل غيره ما يحصل له به العلم التجربي وإن لم يكن له قدرة على فعل الغير. وأيضا فالسبب المقتضى للعلم ب المجربات هو يكرر اقتران أحد الأمرين بالآخر أما مطلقا وأما مع الشعور بالمناسب وهذا القدر يشترك فيه ما تكرر بفعله وما تكرر بغير فعله فكونه بفعله وصف عديم التأثير في اقتضاء العلم فلا يحتاج أن يجعل هذا نوعا غير النوع الآخر مع تساويهما في السبب المقتضى للعلم إلا لبيان شمول المجربات لهذين الصنفين كما يقال في الحسيات أنها تتناول ما أحسه ببصره وسمعه وشمه وذوقه ولمسه ونحو ذلك. مع أن الفرق الذي بين أنواع الحسيات تختلف فيه أنواع العلوم أعظم مما تختلف في هذا فان البصر يرى غير مباشرة المرئي والذوق والشم واللمس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 لا يحصل له الإحساس إلا بمباشرة المحسوس والسمع وإن كان يحس الأصوات فالمقصود الأعظم به معرفة الكلام وما يخبر به المخبرون من العلم. وهذا سبب تفضيل طائفة من الناس ل السمع على البصر كما ذهب إليه ابن قتيبة وغيره وقال الأكثرون البصر أفضل من السمع والتحقيق أن إدراك البصر أكمل كما قاله الأكثرون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس المخبر كالمعاين" لكن السمع يحصل به من العلم لنا أكثر مما يحصل بالبصر ف البصر أقوى وأكمل والسمع أعم وأشمل. وهاتان الحاستان هما الأصل في العلم بالمعلومات التي يمتاز بها الإنسان عن البهائم. ولهذا يقرن الله بينهما الفؤاد في مواضع: كقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أولئك كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضل أولئك هُمُ الْغَافِلُونَ} وقال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وقال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} وقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} في حق المنافقين وقال في حق الكافرين {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} وقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إليه وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَاب} وقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ حِجَاباً مَسْتُوراً وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} ونظائر هذا متعددة. وأما الشم والذوق واللمس فحس محض لا يحصل إلا بمباشرة الحيوان لذلك فالثلاثة كالجنس الواحد وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أول مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فالجلود أن خصت باللمس لم يدخل فيها الشم والذوق وإن قيل بل يدخل فيها عمت الجميع وإنما ميزت عن اللمس لاختصاصها ببعض الأعضاء وبنوع من المدركات وهو الطعوم والروائح فان سائر البدن لا يميز بين طعم وطعم وريح وريح ولكن يميز بين الحار والبارد واللين والصلب والناعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 والخشن ويميز بين ما يلتذ به وبين ما يتألم ونحو ذلك. والمقصود أنهم جعلوا المجربات والمتواترات مما يختص به من حصل له ذلك فلا يصلح أن يحتج به على غيره وهذه قد يحصل فيها اختصاص واشتراك كما أن الحسيات كذلك قد يحصل فيها اختصاص واشتراك. وأيضا فالاشتراك قد يكون في عين المعلوم المدرك وقد يكون في نوعه فالأول كاشتراك الناس في رؤية الشمس والقمر وغيرهما والثاني كاشتراكهم في معرفة الجوع والعطش والري والشبع واللذة والألم. فان المعين الذي ذاقه هذا الشخص ليس هو المعين الذي ذاقه هذا إذ كل إنسان يذوق ما في باطنه ولكن يشترك الناس في معرفة جنس ذلك. وما يسمونه من الرعد وما يرونه من البرق يشترك أهل المكان الواحد في رؤية المعين وسمعه ويشترك الناس في رؤية النوع وسمعه إذ الرعد والبرق الذي يحصل في زمان ومكان يكون غير ما يحصل في زمان آخر ومكان آخر. ومن المحسوسات المعروفة بالرؤية أنواع كثيرة من الحيوان والنبات وغير ذلك يوجد ببعض البلاد دون بعض فتكون مشهورة ومرئية لمن رآها دون سائر الناس فإنهم إنما يعلمون ذلك ب الخبر وذلك الخبر قد يكون المشتركون فيه أكثر من المشتركين في الرؤية. فتبين أن القضايا الحسية والمتواترة والمجربة قد تكون مشتركة وقد تكون مختصة فلا معنى للفرق بأن هذه يحتج بها على المنازع دون هذه. إنكار المتواترات هو من أصول الإلحاد والكفر: ثم هذا الفرق مع ظهور بطلانه هو من أصول الإلحاد والكفر فان المنقول عن الأنبياء بالتواتر من المعجزات وغيرها يقول احد هؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 بناء على هذا الفرق: "هذا لم يتواتر عندي فلا يقوم به الحجة على" فيقال له "اسمع كما سمع غيرك وحينئذ يحصل لك العلم". وإنما هذا كقول من يقول رؤية الهلال أو غيره لا تحصل إلا بالحس وأنا لم أره فيقال له أنظر إليه كما نظر غيرك فتراه إذا كنت لم تصدق المخبرين. وكمن يقول: "العلم بالنبوة لا يحصل إلا بعد النظر وأنا لا أنظر أو لا أعلم وجوب النظر حتى أنظر". ومن جواب هؤلاء أن حجة الله برسله قامت بالتمكن من العلم فليس من شرط حجة الله تعالى علم المدعوين بها. ولهذا لم يكن إعراض الكفار عن استماع القرآن وتدبره مانعا من قيام حجة الله تعالى عليهم وكذلك إعراضهم عن استماع المنقول عن الأنبياء وقراءة الآثار المأثورة عنهم لا يمنع الحجة إذ المكنة حاصلة. فلذلك قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً} . وقال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} . وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} . وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} . وقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} . ومن هذا الباب إنكار كثير من أهل البدع والكلام والفلسفة لما يعلمه أهل الحديث والسنة من الآثار النبوية والسلفية المعلومة عندهم بل المتواترة عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لهم بإحسان. فان هؤلاء يقولون: "هذه غير معلومة لنا" كما يقول من يقول من الكفار أن معجزات الأنبياء غير معلومة لهم وهذا لكونهم لم يطبلوا السبب الموجب للعلم بذلك وإلا فلو سمعوا ما سمع أولئك وقرأوا الكتب المصنفة التي قرأها أولئك تحصل لهم من العلم ما حصل لأولئك. وعدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود فهم إذا لم يعلموا ذلك لم يكن هذا علما منهم بعدم ذلك ولا بعدم علم غيرهم به بل هم كما قال الله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} . وتكذيب من كذب بالجن هو هذا الباب وإلا فليس عند المتطيب والمتفلسف دليل عقلي ينفي وجودهم لكن غايته أنه ليس في صناعته ما يدل على وجودهم وهذا إنما يفيد عدم العلم لا العلم بالعدم وقد اعترف بهذا حذاق الأطباء والفلاسفة كأبقراط وغيره. والمقصود هنا التنبيه على كليات طرق العلم التي تكلم فيها هؤلاء وغيرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 شرك الفلاسفة أشنع من شرك الجاهلية: ولهذا لما صنف طائفة في تقدير الشرك على أصولهم وأثبتوا الشفاعة التي يثبتها المشركون كان شرك هؤلاء شرا من شرك مشركي العرب وغيرهم. فان مشركي العرب وغيرهم ممن يقر بأن الرب فاعل بمشيئته وقدرته وأنه خالق كل شيء وأن السموات والأرض مخلوقة لله ليست مقارنة له في الوجود دائمة بدوامه كانوا يعبدون غير الله ليقربوهم إليه زلفى ويتخذونهم شفعاء يشفعون لهم عند الله بمعنى أنهم يدعون الله لهم فيجيب الله دعاءهم له وهؤلاء المشركون الذين بين القرآن كفرهم وجاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على شركهم. قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أوليَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أولئك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أقرب وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} قالت طائفة من السلف: "كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء فقال تعالى هؤلاء الذين تدعونهم يتوسلون إلى كما تتوسلون إلى ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَه} . وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} . ومثل هذا في القران كثير. والعرب كانوا مع شركهم وكفرهم يقولون أن الملائكة مخلوقون وكان من يقول منهم أن الملائكة بنات يقولون أيضا أنهم محدثون ويقولون أنه صاهر إلى الجن فولدت له الملائكة. وقولهم من جنس قول النصارى في أن المسيح ابن الله مع أن مريم أمه ولهذا قرن سبحانه بين هؤلاء وهؤلاء. وقول هؤلاء الفلاسفة شر من قول هؤلاء كلهم. فان الملائكة عند من آمن بالنبوات منهم هي العقول العشرة وتلك عندهم قديمة أزلية والعقل رب كل ما سوى الرب عندهم وهذا لم يقل مثله احد من اليهود والنصارى ومشركي العرب لم يقل احد أن ملكا من الملائكة رب العالم كله. ويقولون أن العقل الفعال مبدع لما تحت فلك القمر وهذا أيضا كفر لم يصل إليه احد من كفار أهل الكتاب ومشركي العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وهؤلاء يقولون ما ذكره ابن سينا واتباعه كصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها ومن وافقهم من القرامطة والباطنية من الملاحدة والجهال الذين دخلوا في الصوفية وأهل الكلام كأهل وحدة الوجود وغيرهم. يجعلون الشفاعة مبنية على ما يعتقدونه من أن الرب لا يفعل بمشيئته وقدرته وليس عالما بالجزئيات ولا يقدر أن يغير العالم بل العالم فيض فاض عنه بغير مشيئته وقدرته وعلمه. فيقولون إذا توجه المستشفع إلى من يعظمه من الجواهر العالية كالعقول والنفوس والكواكب والشمس والقمر أو إلى النفوس المفارقة مثل بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الصالحين فانه يتصل بذلك المعظم المستشفع به فإذا فاض على ذلك ما يفيض من جهة الرب فاض على هذا المستشفع من جهة شفيعة. ويمثلونه بالشمس إذا طلعت على مرآة فانعكس الشعاع الذي على المرآة على موضع آخر فأشرق بذلك الشعاع فذلك الشعاع حصل له بمقابلة المرآة وحصل للمرآة بمقابلة الشمس. فهذا الداعي المستشفع إذا توجه إلى شفيعه أشرق عليه من جهته مقصود الشفاعة وذلك الشفيع يشرق عليه من جهة الحق. ولهذا يرى هؤلاء دعاء الموتى عند القبور وغير القبور ويتوجهون إليهم ويستعينون بهم ويقولون أن أرواحنا إذا توجهت إلى روح المقبور في القبور اتصلت به ففاضت عليها المقاصد من جهته. وكثير منهم ومن غيرهم من الجهال يرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين من أهل البيت وغيرهم أفضل من الصلوات الخمس والدعاء في المساجد وأفضل من حج البيت العتيق. ومعلوم أن كفر هؤلاء بما يقولونه في الشفعاء أعظم من كفر مشركي العرب بما قالوه فيهم لأن كلتي الطائفتين عبدوا من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله لكن العرب اقروا بأن الله عالم بهم قادر عليهم يخلق بمشيئته وقدرته وقالوا أن هؤلاء ينفعونا بدعائهم لنا. وأما مشركوا الفلاسفة كما ذكره ابن سينا ومن اتبعه فيقولون أن من يستشفع به لا يدعو الله لنا بشئ والله لا يعلم دعاءنا ولا دعاءه ولا يسمع نداءنا ولا نداءه بل ولا يعرف بنا ولا نراه ولا يعرف به فانا نحن من الجزئيات والله لا يعلم الجزئيات عندهم ولا يقدر على تغيير شيء من العالم ولا يفعل بمشيئته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 لكن قالوا لكن نحن إذا توجهنا إلى هؤلاء بالدعاء لهم والسؤال منهم بل وبالعبادة لهم فاض علينا ما يفيض منهم وفاض عليهم ما يفيض من جهة الله. ثم أن طائفة من أهل الكلام يردون عليهم باطلهم بقول باطل فيردون فاسدا بفاسد وإن كان أحدهما أكثر فسادا مثل إنكار كثير منهم لكثير من الأمور الرياضية كاستدارة الفلك وغير ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة وآثار السلف مع دلالة العقل. أو يفعلون كما فعله الشهرستاني في الملل والنحل حيث اخذ يذكر المفاضلة بين الأرواح العلوية وبين الأنبياء ويجعل إثبات هذه وسائط أولى من تلك تفضيلا لأقوال الحنفاء على أقوال الصابئة وهذا غلط عظيم. فان الحنفاء لا يثبتون بين الله وبين مخلوقاته واسطة في عبادته وسؤاله وإنما يثبتون الوسائط في تبليغ رسالاته فأصل الحنفاء شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا وغيره من الرسل رسل الله. وأما الوسائط التي يثبتها المشركون فيجعلون الملائكة معبودين وهذا كفر وضلال وتوسط الملائكة بمعنى تبليغ رسالات الله أو بمعنى أنهم يفعلون ما يفعلونه بإذن الله مما اتفق عليه الحنفاء. ومعلوم أن المشركين من عباد الأصنام وغيرهم كانت الشياطين تضلهم فتكلمهم وتقضى لهم بعض حوائجهم وتخبرهم بأمور غائبة عنهم. وكان للكهان شياطين تخبرهم وتأمرهم وإن كان الكذب فيما يقولونه أكثر من الصدق. وهكذا المشركون في زماننا الذين يدعون غير الله كالشيوخ الغائبين والموتى تتصور لهم الشياطين في صور الشيوخ حتى يظنوا أن الشيخ حضر وأن الله صور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 على صورته ملكا وأن ذلك من بركة دعائه وإنما يكون الذي تصور لهم شيطان من الشياطين. وهذا مما نعرف أنه ابتلى في زماننا وغير زماننا خلق كثير أعرف منهم عددا وأعرف من ذلك وقائع متعددة. والشياطين أيضا تضل عباد القبور كما كانت تضل المشركين من العرب وغيرهم. وكانت اليونان من المشركين يعبدون الأوثان ويعانون السحر كما ذكروا ذلك عن أرسطو وغيره وكانت الشياطين تضلهم وبهم يتم سحرهم وقد لا يعرفونهم أن ذلك من الشياطين بل قد لا يقرون بالشياطين بل يظنون ذلك كله من قوة النفس أو من أمور طبيعية أو من قوى فلكية فان هذه الثلاثة هي أسباب عجائب العالم عند ابن سينا وموافقيه. وهم جاهلون بما سوى ذلك من أفعال الشياطين الذين هم أعظم تأثيرا في العالم في الشر من هذا كله وجاهلون بملائكة الله الذين يجرى بسببهم كل خير في السماء والأرض. وما يدعونه من جعل الملائكة هي العقول العشرة أو هي القوى الصالحة في النفس وأن الشياطين هي القوى الخبيئة مما قد عرف فساده بالدلائل العقلية بل بالضرورة من دين الرسول. فإذا كان شرك هؤلاء وكفرهم في نفس التوحيد وعبادة الله وحده أعظم من شرك مشركي العرب وكفرهم فأي كمال للنفس في هذه الجهالات. وهذا وأمثاله يفتقر إلى بسط كثير وقد ذكرنا منه طرفا في مواضع غير هذا. والمقصود هنا ذكر ما ادعاه هؤلاء في البرهان المنطقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 بطلان دعواهم لا بد في البرهان من قضية كلية: وأيضا فإذا قالوا العلوم اليقينية النظرية لا تحصل إلا ب البرهان الذي هو عندهم قياس شمولي وعندهم لا بد فيه من قضية كلية موجبة. ولهذا قالوا لا نتاج عن قضيتين سالبتين ولا جزئيتين في شيء من أنواع القياس لا بحسب صورته كالحملي والشرطي المتصل والمنفصل ولا بحسب مادته لا البرهاني ولا الخطابي ولا الجدلي بل ولا الشعري. فيقال إذا كان لا بد في كل ما يسمونه برهانا من قضية كلية فلا بد من العلم بتلك القضية الكلية أي من العلم بكونها كلية وإلا فمتى جوز عليها أن لا تكون كلية بل جزئية لم يحصل العلم بموجبها والمهملة وهي المطلقة التي يحتمل لفظها أن يكون كلية وجزئية في قوة الجزئية. وإذا كان لا بد في العلم الحاصل بالقياس الذي يخصونه باسم البرهان من العلم ب قضية كلية موجبة فيقال. العلم بتلك القضية أن كان بديهيا أمكن أن يكون كل واحد من أفرادها بديهيا بطريق الأولى. وإن كان نظريا احتاج إلى علم بديهي فيفضى إلى الدور المعي أو التسلسل في أمور لها مبدأ محدود فان علم ابن آدم إذا توقف على علم منه وعلمه على علم منه فعلمه له مبدأ لأنه نفسه مبدأ ليس هذا ك تسلسل الحوادث الماضية وأيضا فانه تسلسل في المؤثرات وكلاهما باطل. وهكذا يقال في سائر القضايا الكلية التي يجعلونها مبادئ البرهان ويسمونها الواجب قبولها سواء كانت حسية ظاهرة أو باطنة وهي التي يحسها بنفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 أو كانت من المجربات أو المتواترات أو الحدسيات عند من يجعل منها ما هو من اليقينيات الواجب قبولها. مثل العلم بكون ضوء القمر مستفادا من الشمس إذا رأى اختلاف أشكاله عند اختلاف محاذياته للشمس كما يختلف إذا فارقها بعد الاجتماع كما في ليلة الهلال وإذا كان ليلة الاستقبال عند الإبدار. وهم متنازعون هل الحدس قد يفيد اليقين أم لا. ومثل العقليات المحضة كقولنا الواحد نصف الاثنين والكل أعظم من الجزء والأشياء المساوية لشئ واحد متساية والضدان لا يجتمعان والنقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان. فما من قضية من هذه القضايا الكلية التي تجعل مقدمة في البرهان إلا والعلم ب النتيجة ممكن بدون توسط ذلك البرهان بل هو الواقع كثيرا. فإذا علم أن كل واحد فهو نصف كل اثنين وأن كل اثنين نصفهما واحد فانه يعلم أن هذا الواحد نصف هذين الاثنين وهلم جرا في سائر القضايا المعينة من غير استدلال على ذلك بالقضية الكلية. وكذلك كل كل وجزء يمكن العلم بأن هذا الكل أعظم من جزئه بدون توسط القضية الكلية. وكذلك هذان النقيضان من تصورهما نقيضين فانه يعلم أنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان فكل أحد يعلم أن هذا المعين لا يكون موجودا معدوما ولا يخلو من الوجود والعدم كما يعلم المعين الآخر ولا يحتاج ذلك إلى أن يستدل عليه بأن كل شيء لا يكون موجودا معدوما معا. وكذلك الضدان فان الإنسان يعلم أن هذا الشيء لا يكون اسود أبيض ولا يكون متحركا ساكنا كما يعلم أن الآخر كذلك ولا يحتاج في العلم بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 إلى قضية كلية بان كل شيء لا يكون اسود أبيض ولا يكون متحركا ساكنا وكذلك في سائر ما يعلم تضادهما فان علم تضاد المعينين علم أنهما لا يجتمعان وإن لم يعلم تضادهما لم يغنه العلم بالقضية الكلية وهي علمه بأن كل ضدين لا يجتمعان فان العلم بالقضية الكلية يفيد العلم ب المقدمة الكبرى المشتملة على الحد الأكبر وذلك لا يغنى بدون العلم ب المقدمة الصغرى المشتملة على الحد الأصغر والعلم بالنتيجة وهو أن هذين المعينين ضدان فلا يجتمعان يمكن بدون العلم بالمقدمة الكبرى وهو أن كل ضدين لا يجتمعان فلم يفتقر العلم بذلك إلى القياس الذي خصوه باسم البرهان. وإن كان البرهان في كلام الله ورسوله وكلام سائر أصناف العلماء لا يختص بما يسمونه هم البرهان وإنما خصوا هم لفظ البرهان بما اشتمل على القياس الذي خصوا صورته ومادته بما ذكروه. مثال ذلك أنه إذا أريد إبطال قول من يثبت الأحوال ويقول أنها لا موجودة ولا معدومة فقيل هذان نقيضان وكل نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان فان هذا جعل للواحد لا موجودا ولا معدوما ولا يمكن جعل شيء من الأشياء لا موجودا ولا معدوما في حال واحدة فلا يمكن جعل الحال لا موجودة ولا معدومة كان العلم بأن هذا المعين لا يكون موجودا معدوما ممكنا بدون هذه القضية الكلية فلا يفتقر العلم ب النتيجة إلى البرهان. وكذلك إذا قيل أن هذا ممكن وكل ممكن فلا بد له من مرجح لوجوده على عدمه على اصح القولين أو لأحد طرفيه على قول طائفة من الناس أو قيل هذا محدث وكل محدث فلا بد له من محدث فتلك القضية الكلية وهى قولنا كل محدث لا بد له من محدث وكل ممكن لا بد له مرجح يمكن العلم بأفرادها المطلوبة بالقياس البرهاني عندهم بدون العلم بالقضية الكلية التي لا يتم البرهان عندهم إلا بها فيعلم أن هذا المحدث لا بد له من محدث وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الممكن لا بد له من مرجح. فان شك عقله وجوز أن يحدث هو بلا محدث احدثه أو أن يكون وهو ممكن يقبل الوجود والعدم بدون مرجح يرجح وجوده جوز ذلك في غيره من المحدثات والممكنات بطريق الأولى وإن جزم بذلك في نفسه لم يحتج علمه ب النتيجة المعينة وهو قولنا وهذا محدث فله محدث أو هذا ممكن فله مرجح إلى العلم بالقضية الكلية فلا يحتاج إلى القياس البرهاني. ومما يوضح هذا أنك لا تجد أحدا من بني آدم يريد أن يعلم مطلوبا بالنظر ويستدل عليه بقياس برهاني يعلم صحته إلا ويمكنه العلم به بدون ذلك القياس البرهاني المنطقي. فساد قولهم بأنه لا بد في كل علم نظري من مقدمتين: ولهذا لا تجد أحدا من سائر أصناف العقلاء غير هؤلاء ينظم دليله من المقدمتين كما ينظمه هؤلاء بل يذكرون الدليل المستلزم للمدلول. ثم الدليل قد يكون مقدمة واحدة وقد يكون مقدمتين وقد يكون مقدمات بحسب حاجة الناظر المستدل إذ حاجة الناس تختلف. وقد بسطنا ذلك في الكلام على المحصل وبينا تخطئة جمهور العقلاء لمن قال أنه لا بد في كل علم نظري من مقدمتين لا يستغنى عنهما ولا يحتاج إلى أكثر منهما كما يقوله من يقوله من المنطقيين. وهذا ينبغي أن تأخذه من المواد العقلية التي لا يستدل عليها بنصوص الأنبياء فانه يظهر بها فساد منطقهم. الكلام على تمثيلهم كل مسكر خمر وكل خمر حرام فكل مسكر حرام. وأما إذا أخذته من المواد المعلومة بأقوال الأنبياء فانه يظهر الاحتياج إلى القضية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الكلية كما إذا أردنا بيان تحريم النبيذ المتنازع فيه فقلنا النبيذ مسكر وكل مسكر حرام أو قلنا أنه خمر وكل خمر حرام. فقولنا النبيذ المسكر خمر يعلم بالنص وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وقولنا كل خمر حرام يعلم بالنص والإجماع وليس في ذلك نزاع وإنما النزاع في المقدمة الصغرى وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مسكر خمر وكل مسكر حرام. وفي لفظ كل مسكر خمر وكل خمر حرام وقد يظن بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا على النظم المنطقي لتبيين النتيجة ب المقدمتين كما يفعله المنطقيون وهذا جهل عظيم ممن يظنه فان النبي صلى الله عليه وسلم أجل قدرا من أن يستعمل مثل هذا الطريق في بيان العلم. بل من هو أضعف عقلا وعلما من آحاد علماء أمته لا يرضى لنفسه أن يسلك طريقة هؤلاء المنطقيين بل يعدونهم من الجهال الذين لا يحسنون الاستدلال ويقولون هؤلاء قوم كانوا يحسنون الصناعات كالحساب والطب ونحو ذلك وأما العلوم البرهانية الكلية اليقينية والعلوم الإلهية فلم يكونوا من رجالها. وقد بين ذلك نظار المسلمين في كتبهم وبسطوا الكلام عليهم. وذلك أن كون كل خمر حراما هو مما علمه المسلمون فلا يحتاجون إلى معرفة ذلك ب القياس. وإنما شك بعضهم في أنواع من الأشربة المسكرة كالنبيذ المصنوع من العسل والحبوب وغير ذلك كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أنه قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 يا رسول الله عندنا شراب يصنع من العسل يقال له البتع وشراب يصنع من الذرة يقال له المزر؟ قال: -وكان قد أوتى جوامع الكلم- فقال: "كل مسكر حرام" فأجابهم صلى الله عليه وسلم بقضية كلية بين بها أن كل ما يسكر فهو محرم وبين أيضا أن كل ما يسكر فهو خمر. وهاتان قضيتان كليتان صادقتان متطابقتان العلم بأيهما كان يوجب العلم بتحريم كل مسكر إذ ليس العلم بتحريم كل مسكر متوقفا على العلم بهما جميعا. فان من علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر حرام " وهو من المؤمنين به علم أن النبيذ المسكر حرام ولكن قد يحصل له الشك هل أراد القدر المسكر أو أراد جنس المسكر وهذا شك في مدلول قوله فإذا علم مراده صلى الله عليه وسلم علم المطلوب. وكذلك إذا علم أن النبيذ خمر والعلم بهذا أو كد في التحريم فان من يحلل النبيذ المتنازع فيه لا يسميه خمرا فإذا علم بالنص أن كل مسكر خمر كان هذا وحده دليلا على تحريم كل مسكر عند أهل الإيمان الذين يعلمون أن الخمر محرم وأما من لم يعلم تحريم الخمر لكونه لم يؤمن بالرسول فهذا لا يستدل بنصه. وإن علم أن محمدا رسول الله لكن لم يعلم أنه حرم الخمر فهذا لا ينفعه قوله كل مسكر خمر بل ينفعه قوله كل مسكر حرام وحينئذ يعلم بهذا تحريم الخمر لأن الخرم والمسكر اسمان لمسمى واحد عند الشارع وهما متلازمان عنده في العموم والخصوص عند جمهور العلماء الذين يحرمون كل مسكر. وليس المقصود هنا الكلام في تقرير المسألة الشرعية بل التنبيه على التمثيل فان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 هذا المثال كثيرا ما يمثل به من صنف في المنطق من علماء المسلمين. التمثيل بصور مجردة عن المواد المعينة: والمنطقيون يمثلون بصور مجردة عن المواد لا تدل على شيء يعينه لئلا يستفاد العل بالمثال من صورته المعينة كما يقولون: كل أ: ب، وكل ب: ج، فكل أ: ج. لكن المقصود هو العلم المطلوب من المواد المعينة فإذا جردت يظن الظان أن هذا يحتاج إليه في المعينات وليس الأمر كذلك. بل إذا طولبوا بالعلم بالمقدمتين الكليتين في جميع مطالبهم العقلية التي لم تؤخذ عن المعصومين تجدهم يحتجون بما يمكن معه العلم ب المعينات المطلوبة بدون العلم بالقضية الكلية فلا يكون العلم بها موقوفا على البرهان. فالقضايا النبوية لا تحتاج إلى القياس العقلى الذي سموه برهانا وما يستفاد بالعقل من العلوم أيضا لا يحتاج إلى قياسهم البرهاني فلا يحتاج إليه لا في العقليات ولا في السمعيات. فامتنع أن يقال لا يحصل علم إلا بالقياس البرهاني الذي ذكروه. العلوم الحسية لا تكون إلا جزئية معينة: ومما يوضح ذلك أن القضايا الحسية لا تكون إلا جزئية فنحن لم ندرك بالحس إلا إحراق هذه النار وهذه النار لم ندرك أن كل نار محرقة فإذا جعلنا هذه قضية كلية وقلنا كل نار محرقة لم يكن لنا طريق يعلم به صدق هذه القضية الكلية علما يقينيا إلا والعلم بذلك ممكن في الأعيان المعينة بطريق الأولى. وإن قيل ليس المراد العلم ب الأمور المعينة فان البرهان لا يفيد إلا العلم بقضية كلية فالنتائج المعلومة ب البرهان لا تكون إلا كلية كما يقولون هم ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 والكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان. قيل فعلى هذا التقدير لا يفيد البرهان العلم بشئ موجود بل بأمور مقدرة في الأذهان لا يعلم تحققها في الأعيان وإذا لم يكن في هذا علم بشئ موجود لم يكن في البرهان علم بموجود فيكون قليل المنفعة جدا بل عديم المنفعة. وهم لا يقولوك بذلك بل يستعملونه في العلم بالموجودات الخارجة الطبيعية والإلهية. ولكن حقيقة الأمر كما بيناه في غير هذا الموضع أن المطالب الطبيعية التي ليست من الكليات اللازمة بل الأكثرية فلا تفيد مقصود البرهان. وأما الإلهيات فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعية وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة فضلا عن أن تكون قضايا صادقة يؤلف منها البرهان. ولهذا حدثونا بإسناد متصل عن فاضل زمانه في المنطق وهو الخونجي صاحب كشف أسرار المنطق والموجز وغيرهما أنه قال عند الموت: "أموت وما عرفت شيئا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى المؤثر" ثم قال: "الافتقار وصف سلبي فأنا أموت وما عرفت شيئا" وكذلك حدثونا عن آخر من أفاضلهم. فهذا أمر يعرفه كل من خبرهم ويعرف أنهم اجهل أهل الأرض بالطرق التي ينال بها العلوم العقلية والسمعية إلا من علم منهم علما من غير الطريق المنطقية فتكون علومه من تلك الجهة لا من جهتهم مع كثرة تعبهم في البرهان الذين يزعمون أنهم يزنون به العلوم ومن عرف منهم بشئ من العلوم لم يكن ذلك بواسطة ما حرروه في المنطق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 القضايا الكلية تعلم بقياس التمثيل: ومما يبين أن حصول العلوم اليقينية الكلية والجزئية لا يفتقر إلى برهانهم أن يقال إذا كان لا بد في برهانهم من قضية كلية فالعلم بتلك القضية الكلية لا بد له من سبب فان عرفوها ب اعتبار الغائب بالشاهد وان حكم الشيء حكم مثله كما إذا عرفنا أن هذا النار محرقة علمنا أن النار الغائبة محرقة لأنها مثلها وحكم الشيء حكم مثله فيقال. هذا استدلال ب قياس التمثيل وهم يزعمون أنه لا يفيد اليقين بل الظن فإذا كانوا علموا القضية الكلية بقياس التمثيل رجعوا في اليقين إلى ما يقولون أنه لا يفيد إلا الظن. وإن قالوا بل عند الإحساس بالجزئيات يحصل في النفس علم الكلى من واهب العقل أو تستعد النفس عند الإحساس بالجزئيات لأن يفيض عليها الكلى من واهب العقل أو قالوا من العقل الفعال عندهم أو نحو ذلك قيل لهم. الكلام فيها به يعلم أن ذلك الحكم الكلى الذي في النفس علم لا ظن ولا جهل. فان قالوا هذا يعلم بالبديهة والضرورة كان هذا قولا بأن هذه القضايا الكلية معلومة بالبديهة والضرورة وأن النفس مضطرة إلى هذا العلم وهذا أن كان حقا فالعلم بالأعيان المعينة وبأنواع الكليات يحصل أيضا في النفس بالبديهة والضرورة كما هو الواقع. فان جزم العقلاء ب الشخصيات من الحسيات أعظم من جزمهم ب الكليات وجزمهم بكلية الأنواع أعظم من جزمهم بكلية الأجناس والعلم ب الجزئيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أسبق إلى الفطرة فجزم الفطرة بها أقوى ثم كلما قوى العقل اتسعت الكليات. وحينئذ فلا يجوز أن يقال أن العلم ب الأشخاص موقوف على العلم ب الأنواع والأجناس ولا أن العلم ب الأنواع موقوف على العلم ب الأجناس بل قد يعلم الإنسان أنه حساس متحرك بالإرادة قبل أن يعلم أن كل إنسان كذلك ويعلم أن الإنسان كذلك قبل أن يعلم أن كل حيوان كذلك فلم يبق علمه ب أنه أو ب أن غيره من الحيوان حساس متحرك بالإرادة موقوفا على البرهان. وإذا علم حكم سائر الناس وسائر الحيوان فالنفس تحكم بذلك بواسطة علمها أن ذلك الغائب مثل هذا الشاهد أو أنه يساويه في السبب الموجب لكونه حساسا متحركا بالإرادة ونحو ذلك من قياس التمثيل والتعليل الذي يحتج به الفقهاء في إثبات الأحكام الشرعية. استواء قياس التمثيل وقياس الشمول: وهؤلاء يزعمون أن ذلك القياس إنما يفيد الظن وقياسهم هو الذي يفيد اليقين وقد بينا في غير هذا الموضع أن قولهم هذا من أفسد الأقوال وأن قياس التمثيل وقياس الشمول سواء وإنما يختلف اليقين والظن بحسب المواد فالمادة المعينة أن كانت يقينية في أحدهما كانت يقينية في الآخر وإن كانت ظنية في أحدهما كانت ظنية في الآخر. وذلك أن قياس الشمول مؤلف من الحدود الثلاثة الأصغر والأوسط والأكبر والحد الأوسط فيه هو الذي يسمى في قياس التمثيل علة ومناطا وجامعا ومشتركا وصفا ومقتضيا ونحو ذلك من العبارات. فإذا قال في مسألة النبيذ كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فلا بد له من إثبات المقدمة الكبرى وحينئذ يتم البرهان. وحينئذ فيمكنه أن يقول النبيذ مسكر فيكون حراما قياسا على خمر العنب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 بجامع ما يشتركان فيه من الإسكار فان الإسكار هو مناط التحريم في الأصل وهو موجود في الفرع. فيما به يقرر أن كل مسكر حرام به يقرر أن السكر مناط التحريم بطريق الأولى بل التقرير في قياس التمثيل أسهل عليه لشهادة الأصل له بالتحريم. فيكون الحكم قد علم ثبوته في بعض الجزئيات لا يكفى في قياس التمثيل إثباته في أحد الجزئين لثبوته في الجزء الآخر لاشتراكهما في أمر لم يقم دليل على استلزامه للحكم كما يظنه هؤلاء الغالطون بل لا بد من أن يعلم أن المشترك بينهما مستلزم للحكم والمشترك بينهما هو الحد الأوسط وهو الذي يسميه الفقهاء وأهل أصول الفقه المطالبة بتأثير الوصف في الحكم. وهذا السؤال أعظم سؤال يرد على القياس وجوابه هو الذي يحتاج إليه غالبا في تقرير صحة القياس. فان المعترض قد يمنع الوصف في الأصل وقد يمنع الحكم في الأصل وقد يمنع الوصف في الفرع وقد يمنع كون الوصف علة في الحكم ويقول لا اسلم أن ما ذكرته من الوصف المشترك هو العلة أو دليل العلة فلا بد من دليل يدل على ذلك أما من نص أو إجماع أو سبر وتقسيم أو المناسبة أو الدوران عند من يستدل بذلك فما دل على أن الوصف المشترك مستلزم الحكم أما علة وأما دليل العلة هو الذي يدل على أن الحد الأوسط مستلزم الأكبر وهو الدال على صحة المقدمة الكبرى فان اثبت العلة كان برهان علة وإن اثبت دليلها كان برهان دلالة وإن لم يفد العلم بل أفاد الظن فكذلك المقدمة الكبرى في ذلك القياس لا تكون إلا ظنية وهذا أمر بين. ولهذا صار كثير من الفقهاء يستعملون في الفقه القياس الشمولى كما يستعمل في العقليات القياس التمثيلى وحقيقة أحدهما هو حقيقة الآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 رد القول بأنه لا قياس في العقليات إنما هو في الشرعيات: ومن قال من متأخري أهل الكلام والرأي كأبي المعالي وأبي حامد والرازي وأبي محمد المقدسي وغيرهم أن العقليات ليس فيها قياس وإنما القياس في الشرعيات ولكن الاعتماد في العقليات على الدليل الدال على ذلك مطلقا فقولهم مخالف لقول جمهور نظار المسلمين بل وسائر العقلاء. فان القياس يستدل به في العقليات كما يستدل به في الشرعيات فانه إذا ثبت أن الوصف المشترك مستلزم الحكم كان هذا دليلا في جميع العلوم وكذلك إذا ثبت أنه ليس بين الفرع والأصل فرق مؤثر كان هذا دليلا في جميع العلوم وحيث لا يستدل بالقياس التمثيلي لا يستدل بالقياس الشمولي. وأبو المعالي ومن قبله من نظار المتكلمين لا يسلكون طريقة المنطقيين ولا يرضونها بل يستدلون بالأدلة المستلزمة عندهم لمدلولاتها من غير اعتبار ذلك. غير أن المنطقيين وجمهور النظار يقيسون الغائب على الشاهد إذا كان المشترك مستلزما للحكم كما يمثلون به من الجمع بالحد والعلة والشرط والدليل. ومنازعهم يقول لم يثبت الحكم في الغائب لأجل ثبوته في الشاهد بل نفس القضية الكلية كافية في المقصود من غير احتياج إلى التمثيل. فيقال لهم وهكذا في الشرعيات فانه متى قام الدليل على أن الحكم معلق بالوصف الجامع لم يحتج إلى الأصل بل نفس الدليل الدال على أن الحكم معلق بالوصف كاف لكن لما كان هذا كليا والكلى لا يوجد إلا معينا كان تعيين الأصل مما يعلم به تحقق هذا الكلى وهذا أمر نافع في الشرعيات والعقليات فعلمت أن القياس حيث قام الدليل على أن الجامع مناط الحكم أو على إلغاء الفارق بين الأصل والفرع فهو قياس صحيح ودليل صحيح في أي شيء كان. تنازع الناس في مسمى القياس: وقد تنازع الناس في مسمى القياس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فقالت طائفة من أهل الأصول: هو حقيقة في قياس التمثيل مجاز في قياس الشمول كابي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي وغيرهما. وقالت طائفة: بل هو بالعكس حقيقة في الشمول مجاز في التمثيل كابن حزم وغيره. وقال جمهور العلماء بل هو حقيقة فيهما والقياس العقلي يتناولهما جميعا وهذا قول أكثر من تكلم في أصول الدين وأصول الفقه وأنواع العلوم العقلية وهو الصواب وهو قول الجمهور من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم كالشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب وأمثالهما وكالقاضي أبي يعلى والقاضي يعقوب والحلواني وأبي الخطاب وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم فان حقيقة أحدهما هو حقيقة الآخر وإنما تختلف صورة الاستدلال. والقياس في اللغة تقدير الشيء بغيره وهذا تتناول تقدير الشيء المعين بنظيره المعين وتقديره بالأمر الكلى المتناول له ولأمثاله فان الكلى هو مثال في الذهن لجزئياته ولهذا كان مطابقا موافقا له. حقيقة قياس الشمول: وقياس الشمول هو انتقال الذهن من المعين إلى المعنى العام المشترك الكلى المتناول له ولغيره والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلى بأن ينتقل من ذلك الكلى اللازم إلى الملزوم الأول وهو المعين فهو انتقال من خاص إلى عام ثم انتقال من ذلك العام إلى الخاص من جزئى إلى كلى ثم من ذلك الكلى إلى الجزئي الأول فيحكم عليه بذلك الكلى. ولهذا كان الدليل اخص من مدلوله الذي هو الحكم فانه يلزم من وجود الدليل وجود الحكم واللازم لا يكون أخص من ملزومه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 بل أعم منه أو مساويه وهو المعنى بكونه أعم. والمدلول عليه الذي هو محل الحكم وهو المحكوم عليه المخبر عنه الموصوف الموضوع أما أخص من الدليل وأما مساويه فيطلق عليه القول بأنه اخص منه لا يكون أعم من الدليل إذ لو كان أعم منه لم يكن الدليل لازما له وإذا لم يكن لازما له لم يعلم أن لازم الدليل وهو الحكم لازم له فلا يعلم ثبوت الحكم له فلا يكون الدليل دليلا وإنما يكون إذا كان لازما ل المحكوم عليه الموصوف المخبر عنه الذي يسمى الموضوع والمبتدأ مستلزما الحكم الذي هو صفة وخبر وحكم وهو الذي يسمى المحمول والخبر. هذا كالسكر الذي هو أعم من النبيذ المتنازع فيه وأخص من التحريم. وقد يكون الدليل مساويا في العموم والخصوص للحكم ول محله. وبأي صورة ذهنية أو لفظية صور الدليل فحقيقته واحدة وإن ما يعتبر في كونه دليلا هو كونه مستلزما للحكم لازما للمحكوم عليه فهذا هو جهة دلالته سواء صور قياس شمول وتمثيل أو لم يصور كذلك. وهذا أمر يعقله القلب وإن لم يعبر عنه اللسان ولهذا كانت أذهان بني آدم تستدل ب الأدلة على المدلولات وإن لم يعبروا عن ذلك بالعبارات المبينة لما في نفوسهم وقد يعبرون بعبارات مبينة لمعانيهم وإن لم يسلكوا اصطلاح طائفة معينة من أهل الكلام ولا المنطق ولا غيرهم فالعلم بذلك الملزوم لا بد أن يكون بينا بنفسه أو بدليل آخر. حقيقة قياس التمثيل والموازنة بينه وبين قياس الشمول: وأما قياس التمثيل فهو انتقال المذهن من حكم معين إلى حكم معين لاشتراكهما في ذلك المعنى المشترك الكلى لأن ذلك الحكم يلزم ذلك المشترك الكلى ثم العلم بذلك الملزوم لا بد له من سبب إذا لم يكن بينا كما تقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فهنا يتصور المعينين أولا وهما الأصل والفرع ثم ينتقل إلى لازمهما وهو المشترك ثم إلى لازم اللازم وهو الحكم. ولا بد أن يعرف أن الحكم لازم المشترك وهو الذي يسمى هناك قضية كبرى ثم ينتقل إلى إثبات هذا اللازم للملزوم الأول المعين. فهذا هو هذا في الحقيقة وإنما يختلفان في تصوير الدليل ونظمه وإلا فالحقيقة التي بها صار دليلا وهو أنه مستلزم للمدلول حقيقة واحدة. ومن ظلم هؤلاء وجهلهم أنهم يضربون المثل في قياس التمثيل بقول القائل السماء مؤلفة فتكون محدثة قياسا على الإنسان ثم يوردون على هذا القياس ما يختص به لخصوص المادة وهذا يرد عليه لو جعل قياس الشمول فانه لو قيل السماء مؤلفة وكل مؤلف محدث لورد عليه هذه الاسئلة وزيادة. ولكن إذا اخذ قياس الشمول في مادة معلومة بينة لم يكن فرق بينه وبين قياس التمثيل بل قد يكون التمثيل أبين ولهذا كان العقلاء يقيسون به. وكذلك قولهم في الحد أنه لا يحصل بالمثال إنما ذلك في المثال الذي لا يحصل به التمييز بين المحدود وغيره بحيث يعرف به ما يلازم المحدود طردا وعكسا بحيث يوجد حيث وجد وينتفى حيث انتفى فان الحد المميز للمحدود هو ما به يعرف الملازم المطابق طردا وعكسا فكل ما حصل هذا فقد ميز المحدود من غيره وهذا هو الحد عند جماهير النظار ولا يسوغون إدخال الجنس العام في الحد. فإذا كان المقصود الحد بحسب الاسم فسأل بعض العجم عن مسمى الخبز فأرى رغيفا وقيل له هذا فقد يفهم أن هذا اللفظ يوجد فيه كل ما هو خبز سواء كان على صورة الرغيف أو غير صورته وقد بسط الكلام على ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ذكروه وذكره المنطقيون في الكلام على المحصل وغير ذلك. وجد هذا في الأمثلة المجردة إذا كان المقصود إثبات الجيم للألف والحد الأوسط هو الباء فقيل: كل ألف باء وكل باء جيم أنتج كل ألف جيم. ولكن يحتاج ذلك إلى إثبات القضية الكبرى مع الصغرى وإذا قيل. كل ألف جيم قياسا عل الدال. لأن الدال هي جيم. وإنما كانت جيما لأنها باء. والألف أيضا باء. فتكون الألف جيما لاشتراكهما في المستلزم للجيم وهو الباء. كان هذا صحيحا في معنى الأول لكن فيه زيادة مثال قيست عليه الألف مع أن الحد الأوسط وهو الباء موجود فيهما. دعواهم في البرهان أنه يفيد العلوم الكمالية: فان قيل ما ذكرتموه من كون البرهان لا بد فيه من قضية كلية صحيح ولهذا لا يثبتون به إلا مطلوبا كليا ويقولون البرهان لا يفيد إلا الكليات. ثم اشرف الكليات هي العقليات المحضة التي لا تقبل التغيير والتبديل فهي التي تكمل بها النفس وتصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود بخلاف القضايا التي تتبدل وتتغير. وإذا كان المطلوب هو الكليات العقلية التي لا تقبل التبديل والتغيير فتلك إنما تحصل ب القضايا العقلية الواجب قبولها بل إنما تكون في القضايا التي جهتها الوجوب كما يقال كل إنسان حيوان وكل موجود فاما واجب وأما ممكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ونحو ذلك من القضايا الكلية التي لا تقبل التغير. أقسام العلوم عندهم ثلاثة: ولهذا كانت العلوم عندهم ثلاثة: - أما علم لا يتجرد عن المادة لا في الذهن ولا في الخارج وهو الطبيعي وموضوعه الجسم. - وأما علم مجرد عن المادة في الذهن لا في الخارج وهو الرياضي كالكلام في المقدورات المعدودة والمقدار والعدد. - وأما ما يتجرد عن المادة فيهما وهو الإلهى وموضوعه الوجود المطلق بلواحقه التي تلحقه من حيث هو وجود كانقسامه إلى واجب وممكن وجوهر وعرض. الجواهر الخمسة: وانقسام الجوهر إلى ما هو حال، وما هو محل، وما ليس بحال ولا محل، بل هو يتعلق بذلك تعلق التدبير، والى ما ليس بحال ولا محل ولا هو متعلق بذلك. فالأول: هو الصورة. والثاني: هو المادة وهو الهيولي ومعناه في لغتهم المحل. والمركب منهما هو الجسم. والثالث: هو النفس. والرابع: هو العقل. وهذه الخمسة أقسام الجوهر عندهم. والأول مقالي يجعله أكثرهم من مقولة الجوهر ولكن طائفة من متأخريهم كابن سينا امتنعوا من تسميته جوهرا وقالوا الجوهر ما إذا وجد كان وجوده لا في موضوع أي لا في محل يستغنى عن الحال فيه وهذا إنما يكون فيما وجوده غير ماهيته والأول ليس كذلك فلا يكون جوهرا وهذا خالفو مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فيه سلفهم ونازعوهم فيه نزاعا لفظيا ولم يأتوا بفرق صحيح معقول فان تخصيص أسم الجوهر بما ذكروه أمر اصطلاحي. وأولئك يقولون بل هو كل ما ليس في موضوع كما يقول المتكلمون كل ما هو قائم بنفسه أو كل ما هو متحيز أو كل ما قامت به الصفات أو كل ما حمل الاعراض ونحو ذلك. وأما الفرق المعنوي فدعواهم أن وجود الممكنات زائد على ماهيتها في الخارج باطل ودعواهم أن الأول وجود مقيدة بالسلوب أيضا باطل كما هو مبسوط في موضعه. علم المقولات العشر: مع أن تقسيم الوجود إلى واجب وممكن هو تقسيم ابن سينا وأتباعه وأما أرسطو والمتقدمون فلا يقسمونه إلا إلى جوهر وعرض والممكن عندهم لا يكون إلا حادثا كما اتفق على ذلك سائر العقلاء وهذا العلم هو علم المقولات العشر وهو المسمى عندهم قاطيغورياس. الأدلة على بطلان دعواهم في البرهان: والمقصود هنا الكلام على البرهان فيقال:. هذا الكلام وإن ضل به طوائف فهو كلام مزخرف وفيه من الباطل ما يطول وصفه ولكن ننبه هنا على بعض ما فيه وذلك من وجوه: الوجه الأول: البرهان لا يفيد العلم بشئ من الموجودات. الأول: أن يقال إذا كان البرهان لا يفيد إلا العلم بالكليات والكليات إنما تتحقق في الأذهان لا في الأعيان وليس في الخارج إلا موجود معين لم يعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 بالبرهان شيء من المعينات فلا يعلم به موجود أصلا بل إنما يعلم به أمور مقدرة في الأذهان. ومعلوم أن النفس لو قدر أن كمالها في العلم فقط وإن كانت هذه قضية كاذبة كما بسط في موضعه فليس هذا علما تكمل به النفس إذ لم تعلم شيئا من الموجودات ولا صارت عالما معقولا موازيا للعالم الموجود بل صارت عالما لأمور كلية مقدرة لا يعلم بها شيء من العالم الموجود وأي خير في هذا فضلا عن أن يكون كمالا. الوجه الثاني: لا يعلم بالبرهان واجب الوجود ولا العقول الخ. الثاني: أن يقال اشرف الموجودات هو واجب الوجود ووجوده معين لا كلى فان الكلى لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وواجب الوجود يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإن لم يعلم منه ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه بل إنما علم أمر كلى مشترك بينه وبين غيره لم يكن قد علم واجب الوجود. وكذلك الجواهر العقلية عندهم وهي العقول العشرة أو أكثر من ذلك عند من يجعلها أكثر من ذلك عندهم كالسهروردى المقتول وأبى البركات وغيرهما كلها جواهر معينة لا أمور كلية فإذا لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيء منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وكذلك الأفلاك التي يقولون أنها أزلية أبدية وهي معينة فإذا لم يعلم إلا الكليات لم تكن معلومة. فلا يعلم لا واجب الوجود ولا العقول ولا شيء من النفوس ولا الأفلاك بل ولا العناصر ولا المولدات وهذه جملة الموجودات عندهم فأي علم هنا تكمل به النفس! الوجه الثالث: ليس العلم الإلهي عندهم علما بالخالق ولا بالمخلوق. الثالث: أن يقال العلم الأعلى عندهم الذي هو الفلسفة الأولى والحكمة العليا علم ما بعد الطبيعة باعتبار الاستدلال وما هو قبلها باعتبار الوجود وهو الذي يسميه طائفة منهم العلم الإلهي. وموضوع هذا العلم هو الوجود المطلق الكلى المنقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وجوهر وعرض. إيراد لابن المطهر الحلى وتخطئة المصنف له عليه: وقد أورد بعض المتأخرين من الشيعة المصنفين في علمهم ما ذكره أنه الأسرار الخفية في العلوم العقلية عليهم سؤالا قال: إن كان موضوعه كل موجود فلا يبحث فيه عن عوارض كل موجود وإن كان أخص من ذلك كالواجب والممكن فذلك جزء منه. التقسيم نوعان: تقسيم الكل إلى أجزائه وتقسيم الكلى إلى جزئياته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فيقال له القسمة نوعان: قسمة الكلى إلى جزئياته وقسمة الكل إلى أجزائه والقسمة الثانية هي المعروفة في الأمر العام كما يقول العلماء باب القسمة ويذكرون قسمة المواريث والمغانم والأرض وغير ذلك ومنه قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} ومنه قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} . أما تقسيم الكلى إلى جزئياته فمثل قولنا الحيوان ينقسم إلى ناطق وأعجمي وهو قسمة الجنس إلى أنواعه والنوع إلى أشخاصه. ولهذا كان النحاة إذا أرادوا أن يقسموا ما يقسمونه إلى اسم وفعل وحرف يختلف كلامهم فكثير منهم يقول الكلام ينقسم إلى اسم وفعل وحرف وهذا هو الذي يذكره قدماء النحاة. فاعترض عليهم بعض من صنف في قوانين النحو كالكرولي وقالوا كل جنس قسم إلى أنواعه أو أنواع أشخاصه فالاسم المقسوم الأعلى صادق على الأنواع والأشخاص وإلا فليست بأقسام له فصاروا يقولون الكلمة تنقسم إلى اسم وفعل وحرف ويقولون الكلمة جنس تحته أنواع الاسم والفعل والحرف. وهذا الاعتراض خطأ ممن أورده لأن أولئك لم يقصدوا تقسيم الكلى إلى جزئياته وإنما قصدوا تقسيم الكل إلى أجزائه وهو التقسيم المعروف أولا في العقول واللغات كما إذا قلت هذه الأرض مقسومة فلفلان هذا الجانب ولفلان هذا الجانب كما قال تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} والكلام مركب من الأسماء والأفعال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 والحروف كما يتركب البيت من السقف والحيطان والأرض وكما أن بدن الإنسان مركب من أعضائه المتميزة وأخلاطه الممتزجة فتقسيمه إلى الأعضاء والأخلاط تقسيم كل إلى أجزائه ومثل هذا يمتنع أن يصدق فيه اسم المقسوم على الأجزاء فليس كل واحد من أعضائه بدنا ولا كل من أخلاطه بدنا ولا كل من أجزاء السقف بيتا وكذلك الوجه إذا قيل ينقسم إلى جبين وأنف وعين وخد وغير ذلك لم يكن كل واحد من هذه الأعضاء وجها ونظائر هذا كثيرة. وأما الكلى فإنما يوجد في الذهن لا في الخارج فتبين أن تقسيم الأولين أظهر من تقسيم الآخرين. معنى الكلمة والحرف في كلام العرب: ثم أن الآخرين جعلوا أن الكلمة اسم جنس لهذه الأنواع ولفظ الكلمة لا يوجد في لغة العرب إلا اسما لجملة تامة اسمية أو فعلية كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " وقوله: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... ... ... ... وقوله في النساء: "أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله " ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} وقوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} . ومثل هذا كثير في كلام العرب. وبعض متأخرى النحاة لما سمع بعض هذا قال وقد يراد ب الكلام الكلمة. وليس الأمر كما زعمه بل لا يوجد في كلام العرب لفظ الكلمة إلا للجملة التامة التي هي كلام ولا تطلق العرب لفظ كلمة ولا كلام إلا على جملة تامة ولهذا ذكر سيبويه أنهم يحكون بالقول ما كان كلاما ولا يحكون به ما كان قولا. وأما تسمية الاسم وحده كلمة والفعل وحده كلمة والحرف وحده كلمة مثل هل وبل فهذا اصطلاح محض لبعض النحاة ليس هذا من لغة العرب أصلا وإنما تسمى العرب هذه المفردات حروفا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القران فله بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" والذي عليه محققوا العلماء أن المراد بالحرف الاسم وحده والفعل حرف المعنى لقوله: ألف حرف" وهذا اسم. ولهذا لما سأل الخليل أصحابه عن النطق بالزاء من زيد فقالوا: (زا) فقال نطقتم بالاسم وإنما الحرف زه ومنه قول أبي الأسود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الدؤلي وذكر له لفظه من الغريب وقال: "هذا حرف لم يبلغك" فقال: "كل حرف لم يبلغ عمك فافعل به كذا. ولهذا ذكر سيبويه في أول كتابه التقسيم إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فجعل الفصل من النوع الثالث أنه حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فميزه بقوله جاء لمعنى عن حروف الهجاء مثل (الف) (با) (تا) فان هذه حروف هجاء. وهذه الألفاظ أسماء تعرب إذا عقدت وركبت ولكن إذا نطق بها قبل التركيب نطق بها ساكنة كما ينطق بأسماء العدد قبل التركيب والعقد فيقال واحد اثنان ثلاثة ولهذا يعلم الصبيان في أول الأمر اسما الحروف المفردة (اب ت ث) ثم المركبة وهو (ابجد هوز حطي) ويعلمون أسماء الأعداد واحد اثنان ثلاث. عود إلى أصل الموضوع. والمقصود هنا أن التقسيم نوعان تقسيم الكل إلى أجزائه وهو أشهرهما وأعرفهما في العقول واللغات والثاني تقسيم الكلي إلى جزئياته وهو التقسيم الثاني لأن الكليات هي المعقولات الثانية. فإذا قال القائل الوجود الذي هو موضوع العلم الإلهي عندهم أما أن يكون كل موجود أو بعضه وهو الواجب أو الممكن كان هذا الحصر خطأ منه لأن موضوعه الوجود الكلي المنقسم إلى أنواعه لا الكل المنقسم إلى أجزائه ومعلوم أن الوجود الكلي يتكلمون في لواحقه الذاتيه لا في لواحق كل موجود. العلم الأعلى عند المنطقيين ليس علما بموجود في الخارج: لكن الذي تبين به خساسة ما عند القوم ونقص قدره أن هذا الوجود الكلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 إنما يكون كليا في الذهن لا في الخارج فإذا كان هذا هو العلم الأعلى عندهم لم يكن الأعلى عندهم علما بشيء موجود في الخارج بل علما بأمر مشترك بين جميع الموجودات وهو مسمى الوجود وذلك كمسمى الشيء والذات والحقيقة والنفس والعين والماهية ونحو ذلك من المعاني العامة ومعلوم أن العلم بهذا ليس هو علما بموجود في الخارج لا بالخالق ولا بالمخلوق وإنما هو علم بأمر مشترك كلي يشترك فيه الموجودات لا يوجد إلا في الذهن ومن المتصورات ما يشترك فيه الموجود والمعدوم كقولنا مذكور ومعلوم ومخبر عنه فهذا اعم من ذاك. وهذا بخلاف العلم الأعلى عند المسلمين فانه العلم بالله الذي هو في نفسه أعلى من غيره من كل وجه والعلم به أعلى العلوم من كل وجه والعلم به اصل لكل علم وهم يسلمون أن العلم به إذا حصل على الوجه التام يستلزم العلم بكل موجود. وهذا بخلاف العلم بمسمى الوجود فان هذا لا حقيقة له في الخارج ولا العلم بالقدر المشترك يستلزم العلم بأجناسه وأنواعه وما يتميز به كل شيء بل ليس فيه إلا علم بقدر مشترك لا تصور له في الخارج وإنما هو علم بهذه المشتركات. وليس في مجرد العلم بذلك ما يوجب كمال النفس بل ولا في العلم بأقسامه العامة فانا إذا علمنا أن الوجود ينقسم إلى جوهر وعرض وأن أقسام الجوهر خمسة كما زعموه مع أن ذلك ليس بصحيح ولا يثبت مما ذكروه إلا الجسم وأما المادة والصورة والنفس والعقل فلا يثبت لها حقيقة في الخارج إلا أن يكون جسما اوعرضا ولكن ما يثبتونه يعود إلى أمر مقدر في النفس لا في الخارج كما قد بسط في موضعه. وقد اعترف بذلك من ينصرهم ويعظمهم كأبي محمد بن حزم وغيره ولتعظيمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 المنطق رواه بإسناده إلى متى الترجمان الذي ترجمه إلى العربية ومع هذا فاعترف بما ذكرناه وقد بسط ذلك في موضعه. ونحن نفرض هنا وجود ذلك في الخارج فالعلم بانقسام ذلك إلى جواهر خمسة وانقسام العرض إلى الأنواع التسعة مع أنه لم يقم دليل على انقسامه إلى تسعة عند بعضهم وقد انشدوا فيها: زيد الطويل الأسود ابن مالك ... في داره بالأمس كان يتكى في يده سيف نضاه فانتضى ... فهذه عشر مقولات سوى فذكر في هذين البيتين الجوهر والكم والكيف والإضافة والأين ومتى والوضع والملك وأن يفعل وأن ينفعل. ولما لم يقم دليل على حصر أجناسها العالية في تسعة جعلها بعضهم خمسة وبعضهم ثلاثة الكم والكيف والإضافة. والمقصود هنا أنه إذا علم هذا التقسيم وعندهم كلما كان أعم كان أقرب إلى المعقول وكان البرهان عليه أقوم فانه لا يقوم برهان واجب القبول دائما إلا على ما لا يتغير وهذه الأعراض عندهم لا يقوم ب واجب الوجود بل ولا ب العقول إلا بعضها على نزاع بينهم فيعود الكمال إلى تصور وجود مطلق لا حقيقة له في الخارج كتصور ذات مطلقة وشئ مطلق وحقيقة مطلقة. وأي كمال للنفس في مجرد تصور هذه الأمور العامة الكلية إذا لم تتصور أعيان الموجودات المعينة الجزئية وأي علم في هذا برب العالمين الذي لا تكمل النفوس إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 بمعرفته وعبادته محبة وذلا كما قد بسط في موضعه. ولهذا كانت نهاية الفلاسفة إذا هداهم الله بعض الهداية بداية اليهود والنصارى الكفار فضلا عن المسلمين أمة محمد صلى الله عليه وسلم فان ما عند اليهود والنصارى الكفار بعد النسخ والتبديل مما هو من نوع كمال النفس أفضل في الجنس والكم والكيف مما عند الفلاسفة. الوجه الرابع: العلم الرياضي لا تكمل به النفوس وإن ارتضت به العقول: إن تقسيمهم العلوم إلى الطبيعي والى الرياضي والى الإلهي وجعلهم الرياضي اشرف من الطبيعي والإلهي اشرف من الرياضي هو مما قلبوا به الحقائق. فان العلم الطبيعي وهو العلم بالأجسام الموجودة في الخارج ومبدأ حركاتها وتحولاتها من حال إلى حال وما فيها من الطبائع اشرف من مجرد تصور مقادير مجردة وأعداد مجردة فان كون الإنسان لا يتصور إلا شكلا مدورا أو مثلثا أو مربعا ولو تصور كل ما في أقليدس أو لا يتصور إلا أعدادا مجردة ليس فيه علم بموجود في الخارج وليس ذلك كمالا في النفس ولولا أن ذلك يطلب فيه معرفة المعدودات والمقدرات الخارجية التي هي أجسام وأعراض لما جعل علما. وإنما جعلوا الهندسة مبدأ لعلم الهيئة ليستعينوا به على براهين الهيئة أو ينتفعوا به في عمارة الدنيا هذا مع أن براهينهم القياسية لا تدل على شيء دلالة مطردة يقينية سالمة عن الفساد إلا في هذه المواد الرياضية. فان علم الحساب الذي هو علم بالكم المنفصل والهندسة التي هي علم بالكم المنفصل علم يقيني لا يحتمل النقيض البتة مثل جمع الأعداد وقسمتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وضربها ونسبة بعضها إلى بعض. فانك إذا جمعت مائة إلى مائة علمت أنها مائتان وإذا قسمتها على عشرة كان لكل واحد عشرة وإذا ضربتها في عشرة كان المرتفع مائة. والضرب مقابل للقسمة فان ضرب الأعداد الصحيحة تضعيف آحاد احد العددين بآحاد العدد الآخر والقسمة توزيع احد العددين على آحاد العدد الآخر فإذا قسم المرتفع بالضرب على احد العددين خرج المضروب الآخر وإذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه خرج المقسوم فالمقسوم نظير المرتفع بالضرب فكل واحد من المضروبين نظير المقسوم والمقسوم عليه والنسبة تجمع هذا كله فنسبة احد المضروبين إلى المرتفع كنسبة الواحد إلى المضروب الآخر ونسبة المرتفع إلى احد المضروبين كنسبة الآخر إلى الواحد. فهذه الأمور وأمثالها مما يتكلم فيه الحساب أمر معقول مما يشترك فيه ذوو العقول وما من احد من الناس إلا يعرف منه شيئا فانه ضروري في العلم ضروري في العمل ولهذا يمثلون به في قولهم الواحد نصف الاثنين ولا ريب أن قضاياه كلية واجبة القبول لا تنتقض البتة. استطراد. وهذا مبتدأ فلسفتهم التي وضعها فيثاغورس وكانوا يسمون أصحابه أصحاب العدد وكانوا يظنون أن الأعداد المجردة موجودة خارج الذهن. ثم تبين لأفلاطون وأصحابه غلط ذلك وظنوا أن الماهيات المجردة ك الإنسان المطلق والفرس المطلق موجودات خارج الذهن وأنها أزلية أبدية. ثم تبين لأرسطو وأصحابه غلط ذلك فقالوا بل هذه الماهيات المطلقة موجودة في الخارج مقارنة لوجود الأشخاص ومشى من مشى من اتباع أرسطو من المتأخرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 على هذا وهو أيضا غلط فان ما في الخارج ليس بكلى أصلا وليس في الخارج إلا ما هو معين مخصوص. وإذا قيل الكلي الطبيعي في الخارج فمعناه أن ما هو كلي في الذهن هو مطابق للأفراد الموجودة في الخارج مطابقة العام لأفراده والموجود في الخارج معينا مختص ليس بكلي أصلا ولكن فيه حصة من الكلي. وما في الذهن يطلق عليه أنه قد يوجد الخارج كما يقال فعلت ما في نفسي وفي نفسي أمور أريد فعلها ومنه قوله تعالى: {إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها} وقول عمر كنت زورت في نفسي مقالة أحببت أن أقولها ونظائره كثيرة. والكلي إذا وجد في الخارج لا يكون إلا معينا لا يكون كليا فكونه كليا مشروط بكونه في الذهن. ومن اثبت ماهية لا في الذهن ولا في الخارج فتصور قوله تصورا تاما يكفي في العلم بفساد قوله وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع. عود إلى اصل الموضوع. والمقصود هنا أن هذا العلم هو الذي تقوم عليه براهين صادقة لكن لا تكمل بذلك نفس ولا تنجو به من عذاب ولا يحصل لها به سعادة. ولهذا قال أبو حامد الغزالي وغيره في علوم هؤلاء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 "هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها و {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} " يشيرون بالأول إلى العلوم الرياضية وبالثاني إلى ما يقولونه في الإلهيات وفي أحكام النجوم ونحو ذلك. الأسباب المغرية بالاشتغال بالعلم الرياضي وما أشبهه: لكن قد تلتذ النفس بذلك كما تلتذ بغير ذلك فان الإنسان يلتذ بعلم ما لم يكن علمه وسماع ما لم يكن سمعه إذا لم يكن مشغولا عن ذلك بما هو أهم عنده منه كما قد يلتذ بأنواع من الأفعال التي هي من جنس اللهو واللعب. وأيضا ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم الصحيح والقضايا الصادقة والقياس المستقيم فيكون في ذلك تصحيح الذهن والإدراك وتعويد النفس أنها تعلم الحق وتقوله لتستعين بذلك على المعرفة التي هي فوق ذلك. ولهذا يقال أنه كان أوائل الفلاسفة أول ما يعلمون أولادهم العلم الرياضي وكثير من شيوخهم في آخر أمره إنما يشتغل بذلك لأنه لما نظر في طرقهم وطرق من عارضهم من أهل الكلام الباطل لم يجد في ذلك ما هو حق اخذ يشغل نفسه بالعلم الرياضي كما كان يجري مثل ذلك لمن هو من أئمة الفلاسفة كابن واصل وغيره. وكذلك كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك لأن فيه تفريحا للنفس وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إذا لهوتم فالهوا بالرمي وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض" فان حساب الفرائض علم معقول مبني على اصل مشروع فتبقى فيه رياضة العقل وحفظ الشرع ولكن ليس هو علما يطلب لذاته ولا تكمل به النفس. وأولئك المشركون كانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل ويدعونها بأنواع الدعوات كما هو معروف من أخبارهم وما صنف على طريقهم من الكتب الموضوعه في الشرك والسحر ودعوة الكواكب والعزائم والأقسام التي بها يعظم إبليس وجنوده وكان الشيطان بسبب السحر والشرك يغويهم بأشياء هي التي دعتهم إلى ذلك الشرك والسحر فكانوا يرصدون الكواكب ليتعلموا مقاديرها ومقادير حركاتها وما بين بعضها وبعض من الاتصالات ليستعينوا بذلك على ما يرونه مناسبا لها. ولما كانت الأفلاك مستديرة ولم يكن معرفة حسابها إلا بمعرفة الهندسة وأحكام الخطوط المنحنية والمستقيمة تكلموا في الهندسة لذلك ولعمارة الدنيا. فلهذا صاروا يتوسعون في ذلك وإلا فلو لم يتعلق بذلك غرض إلا مجرد تصور الأعداد والمقادير لم تكن هذه الغاية مما يوجب طلبها بالسعي المذكور. وربما كانت هذه غاية لبعض الناس الذين يتلذذون بذلك فان لذات النفوس أنواع ومنهم من يلتذ بالشطرنج والنرد والقمار حتى يشغله ذلك عما هو انفع له منه. فكان مبدأ وضع المنطق من الهندسة فجعلوه أشكالا كالأشكال الهندسية وسموه حدودا كحدود تلك الأشكال لينتقلوا من الشكل المحسوس إلى الشكل المعقول وهذا لضعف عقولهم وتعذر المعرفة عليهم إلا بالطريق البعيدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 والله تعالى قد يسر للمسلمين من العلم والبيان مع العمل الصالح والإيمان ما برزوا به على كل نوع من أنواع جنس الإنسان والحمد لله رب العالمين. العلم الإلهي عندهم ليس له معلوم في الخارج: وأما العلم الإلهي الذي هو عندهم مجرد عن المادة في الذهن والخارج فقد تبين لك أنه ليس له معلوم في الخارج وإنما هو علم بأمور كلية مطلقة لا توجد كلية إلا في الذهن وليس في هذا من كمال النفس شيء. وان عرفوا واجب الوجود بخصوصه فهو علم بمعين يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وهذا مما لا يدل عليه القياس الذي يسمونه البرهان ف برهانهم لا يدل على شيء معين بخصوصه لا واجب الوجود ولا غيره وإنما يدل على أمر كلي والكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وواجب الوجود يمنع العلم به من وقوع الشركة فيه ومن لم يتصور ما يمتنع الشركة فيه لم يكن قد عرف الله. ومن لم يثبت للرب إلا معرفة الكليات كما يزعمه ابن سينا وأمثاله وظن ذلك كمالات للرب وكذلك يظن كمالا للنفس بطريق الأولى لا سيما إذا قال أن النفس لا تدرك إلا الكليات وإنما يدرك الجزئيات البدن فهذا في غاية الجهل. وهذه الكليات التي لا يعرف بها الجزئيات الموجودة لا كمال فيها البتة والنفس إنما تحب معرفة الكليات لتحيط بها بمعرفة الجزئيات فإذا لم يحصل ذلك لم تفرح النفس بذلك. الوجه الخامس: كمال النفس بمعرفة الله مع العمل الصالح لا بمجرد معرفة الله فضلا عن كونه يحصل بمجرد علم الفلسفة. الوجه الخامس: أن يقال: هب أن النفس تكمل بالكليات المجردة كما زعموه فما يذكرونه في العلم الأعلى عندهم الناظر في الوجود ولو أحقه ليس كذلك فان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 تصور معنى الوجود فقط أمر ظاهر حتى يستغني عن الحد عندهم لظهوره فليس هو المطلوب وإنما المطلوب أقسامه. ونفس انقسامه إلى واجب وممكن وجوهر وعرض وعلة ومعلول وقديم وحادث هو اخص من مسمى الوجود وليس في مجرد معرفة انقسام الأمر العام في الذهن إلى أقسام بدون معرفة الأقسام ما يقتضى علما عظيما عاليا على تصور الوجود. فإذا عرفت الأقسام فليس فيها ما هو علم بمعلوم لا يقبل التغير والاستحالة فان هذه الأقسام عامتها إنما هو في هذا العالم وكل ذلك يقبل التغير والاستحالة وليس معهم دليل أصلا يدلهم على أن العالم لم يزل ولا يزال هكذا. وجميع ما يحتجون به على دوام الفاعل والفاعلية والزمان والحركة وتوابع ذلك فانما يدل على قدم نوع ذلك ودوامه لا على قدم شيء معين ولا دوام شيء معين فالجزم بأن مدلول تلك الأدلة هو هذا العالم أو شيء منه جهل محض لا مستند له إلا عدم العلم بموجود غير هذا العالم وعدم العلم ليس علما بالعدم. ولهذا لم يكن عند القوم إيمان بالغيب الذي أخبرت به الأنبياء فهم لا يؤمنون لا بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا البعث بعد الموت. وإذا قالوا نحن نثبت العالم العقلي أو المعقول الخارج عن العالم المحسوس وذلك هو الغيب فان هذا وان كان قد ذكره طائفة من المتكلمة والمتفلسفة خطأ وضلال فان ما سواء من المعقولات إنما يعود عند التحقيق إلى أمور مقدرة في الأذهان لا موجودة في الأعيان والرسل أخبرت عما هو موجود في الخارج وهو أكمل وأعظم وجودا مما نشهده في الدنيا فأين هذا من هذا. وهم لما كانوا مكذبين بما أخبرت به الرسل في نفس الأمر واحتاجوا إلى الجمع بين قولهم وبين تصديق الرسل لما بهرهم من أمر الرسل قالوا: إن الرسل قصدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 إخبار الجمهور بما يتخيل إليهم لينتفعوا بذلك في العدل الذي أقاموه لهم". ثم منهم من يقول: "إن الرسل عرفت ما عرفناه من نفي هذه الأمور" ومنهم من يقول: "بل لم يكونوا يعرفون هذا وإنما كان كمالهم في القوة العملية لا النظرية" وأقل اتباع الرسل إذا تصور حقيقة ما عندهم وجده مما لا يرضى به أقل اتباع الرسل. وإذا علم بالأدلة العقلية أن هذا العالم يمتنع أن يكون شيء منه قديما أزليا وعلم بأخبار الأنبياء المؤيدة بالعقل أنه كان قبله عالم آخر منه خلق وانه سوف يستحيل وتقوم القيامة ونحو ذلك علم أن غاية ما عندهم من الأحكام الكلية ليست مطابقة بل هي جهل لا علم. وهب أنهم لم يعلموا ما أخبرت به الرسل فليس في العقل ما يوجب ما ادعوه من كون هذه الأنواع الكلية التي في هذا العالم أزلية أبدية لم تزل ولا تزال فلا يكون العلم بذلك علما بكليات ثابتة وعامة فلسفتهم الأولى وحكمتهم العليا من هذا النمط. وكذلك من صنف على طريقتهم كصاحب المباحث المشرقية وصاحب حكمة الإشراق وصاحب دقائق الحقائق ورموز الكنوز وصاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 كشف الحقائق وصاحب الأسرار الخفية في العلوم العقلية وأمثال هؤلاء ممن لم يجرد القول لنصر مذهبهم مطلقا ولا تخلص من إشراك ضلالهم مطلقا بل شاركهم في كثير من ضلالهم وشاركهم في كثير من محالهم وتخلص من بعض وبالهم وأن كان أيضا لم ينصفهم في بعض ما أصابوا فيه واخطأ لعدم علمه بمرادهم أو لعدم معرفته أن ما قالوه صواب. مآخذ علوم أبي علي ابن سينا وشيء من أحواله: ثم إن هؤلاء إنما يتبعون كلام ابن سينا وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبويات والمعاد والشرائع لم يتكلم فيها سلفه ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم فإنه استفادها من المسلمين وان كان إنما اخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية وكان أهل بيته من أهل دعوتهم من اتباع الحاكم العبيدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الذي كان هو أهل بيته واتباعه معروفين عند المسلمين بالإلحاد أحسن ما يظهرونه دين الرفض وهم في الباطن يبطون الكفر المحض. وقد صنف المسلمون في كشف اسرارهم وهتك استارهم كتبا كبارا وصغارا وجاهدوهم باللسان واليد إذ كانوا أحق بذلك من اليهود والنصارى ولو لم يكن إلا كتاب كشف الأسرار وهتك الأستار للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب وكتاب عبد الجبار بن احمد وكتاب أبي حامد الغزالي وكلام أبي إسحاق وكلام ابن فورك والقاضي أبي يعلى وابن عقيل والشهر ستاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وغير هؤلاء مما يطول وصفه. والمقصود هنا أن ابن سينا اخبر عن نفسه أن أهل بيته أباه وأخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة وانه إنما اشتغل بالفلسفة بسبب ذاك فانه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس. وهؤلاء المسلمين الذين كان ينتسب إليهم هم مع الإلحاد الظاهر والكفر الباطن اعلم بالله من سلفه الفلاسفة كأرسطو واتباعه فان أولئك ليس عندهم من العلم بالله إلا ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه. وقد ذكرت كلام أرسطو نفسه الذي ذكره في علم ما بعد الطبيعة في مقالة اللام وغيرها وهو آخر منتهى فلسفته وبينت بعض ما فيه من الجهل فانه ليس في الطوائف المعروفين الذين يتكلمون في العلم الإلهي مع الخطأ والضلال مثل علماء اليهود والنصارى وأهل البدع من المسلمين وغيرهم اجهل من هؤلاء ولا ابعد عن العلم بالله تعالى منهم. نعم لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد وهو كلام كثير واسع ولهم عقول عرفوا بها ذلك وهم قد يقصدون الحق لا يظهر عليهم العناد لكنهم جهال بالعلم الإلهي إلى الغاية ليس عندهم منه إلا قليل كثير الخطأ. وابن سينا لما عرف شيئا من دين المسلمين وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 من هؤلاء وبين ما أخذه من سلفه فتكلم في الفلسفة بكلام مركب من كلام سلفه ومما أحدثه مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات بل وكلامه في بعض الطبيعيات والمنطقيات وكلامه واجب الوجود ونحو ذلك. والا فأرسطو واتباعه ليس في كلامهم ذكر واجب الوجود ولا شيء من الأحكام التي ل واجب الوجود وإنما يذكرون العلة الأولى ويثبتونه من حيث هو علة غائية للحركة الفلكية يتحرك الفلك للتشبه به. فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض أصلاح حتى راجت على من لم يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار وصاروا يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض فيتكلم كل منهم بحسب ما عنده ولكن سلموا لهم أصولا فاسدة في المنطق والطبيعيات والإلهيات ولم يعرفوا ما دخل فيها من الباطل فصار ذلك سببا إلى ضلالهم في مطالب عالية إيمانية ومقاصد سامية قرانية خرجوا بها عن حقيقة العلم والإيمان وصاروا بها في كثير من ذلك لا يسمعون ولا يعقلون بل يتسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات. والمقصود هنا التنبيه على أنه لو قدر أن النفس تكمل بمجرد العلم كما زعموه مع أنه قول باطل فان النفس لها قوتان قوة علمية نظرية وقوة أرادية علمية فلا بد لها من كمال القوتين بمعرفة الله وعبادته. وعبادته تجمع محبته والذل له فلا تكمل نفس قط إلا بعبادة الله وحده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 لا شريك له والعبادة تجمع معرفته ومحبته والعبودية له وبهذا بعث الله الرسل وانزل الكتب الإلهية كلها تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وهؤلاء يجعلون العبادات التي أمرت بها الرسل مقصودها أصلاح أخلاق النفس لتستعد للعلم الذي زعموا أنه كمال النفس أو مقصودها أصلاح المنزل والمدينة وهو الحكمة العملية فيجعلون العبادات وسائل محضة إلى ما يدعونه من العلم ولهذا يرون ذلك ساقطا عمن حصل المقصود كما تفعل الملاحدة الإسماعيلية ومن دخل في الإلحاد أو بعضه وانتسب إلى الصوفية أو المتكلمين أو الشيعة أو غيرهم. تزييف القول بأن الإيمان مجرد معرفة الله: والجهمية قالوا: "الإيمان مجرد معرفة الله" وهذا القول وان كان خيرا من قولهم فانه جعله معرفة الله بما يلزم ذلك من معرفة ملائكته وكتبه ورسله وهؤلاء جعلوا الكمال معرفة الوجود المطلق ولو أحقه وهذا أمر لو كان له حقيقة في الخارج لم يكن كمالا للنفس إلا بمعرفة خالقها سبحانه وتعالى. فهؤلاء الجهمية من أعظم مبتدعة المسلمين بل جعلهم غير واحد خارجين عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 اثنتين وسبعين فرقة كما يروى ذلك عن عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وهو قول طائفة من المتأخرين من أصحاب احمد وغيرهم وقد كفر غير واحد من الأئمة كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما لمن يقول هذا القول وقالوا هذا يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون واليهود الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم مؤمنين. فقول الجهمية خير من قول هؤلاء فان ما ذكروه هو اصل ما تكمل به النفوس لكن لم يجمعوا بين علم النفس وبين أرادتها التي هي مبدأ القوة العملية وجعلوا الكمال في نفس العلم وان لم يصدقه قول ولا عمل ولا اقترن به من الخشية والمحبة والتعظيم وغير ذلك مما هو من أصول الإيمان ولوازمه. وأما هؤلاء فبعدوا عن الكمال غاية البعد. والمقصود هنا الكلام على برهانهم فقط وإنما ذكرنا بعض ما لزمهم بسبب أصولهم الفاسدة. واعلم أن بيان ما في كلامهم من الباطل والنقض لا يستلزم كونهم أشقياء في الآخرة إلا إذا بعث الله إليهم رسولا فلم يتبعوه. بل يعرف به أن من جاءته الرسل بالحق فعدل عن طريقهم إلى طريق هؤلاء كان من الأشقياء في الآخرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 والقوم لولا الأنبياء لكانوا اعقل من غيرهم لكن الأنبياء جاؤوا بالحق وبقاياه في الأمم وان كفروا ببعضه حتى مشركي العرب كان عندهم بقايا من دين إبراهيم فكانوا بها خيرا من الفلاسفة المشركين الذين يوافقون أرسطو وأمثاله على أصولهم. الوجه السادس: البرهان لا يفيد أمورا كلية واجبة البقاء في الممكنات: الوجه السادس: أنه أن كان المطلوب ب قياسهم البرهاني معرفة الموجودات الممكنة فتلك ليس فيها واجب البقاء على حال واحدة أزلا وأبدا بل هي قابلة للتغير والاستحالة وما قدر أنه من اللازم لموصوفه فنفس الموصوف ليس بواجب البقاء فلا يكون العلم به علما بموجود واجب الوجود. وليس لهم على أزلية شيء من العالم دليل صحيح كما قد بسط في موضعه وإنما غاية أدلتهم تستلزم دوام نوع الفاعلية ونوع المادة والمدة وذلك ممكن موجود عين بعد عين من ذلك النوع أبدا مع القول بأن كل مفعول محدث مسبوق بالعدم كما هو مقتضى العقل الصريح والنقل الصحيح فان القول ب أن المفعول المعين مقارن لفاعله أزلا وأبدا مما يقضي صريح العقل بامتناعه أي شيء قدر فاعله لا سيما إذا كان فاعلا باختياره كما دلت عليه الدلائل اليقينية ليست التي يذكرها المقصرون في معرفة أصول العلم والدين كالرازي وأمثاله كما بسط في موضعه. وما يذكرونه من اقتران المعلول بعلته فإذا أريد بالعلة ما يكون مبدعا للمعلول فهذا باطل بصريح العقل ولهذا تقر بذلك جميع الفطر السليمة التي لم تفسد بالتقليد الباطل ولما كان هذا مستقرا في الفطر كان نفس الإقرار بأنه خالق كل شيء وموجبا لأن يكون كل ما سواه محدثا مسبوقا بالعدم. وان قدر دوام الخالقية لمخلوق بعد مخلوق فهذا لا ينافي أن يكون خالقا لكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 شيء وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم ليس معه شيء سواه قديم بقدمه بل ذلك أعظم في الكمال والجود والأفضال. وأما إذا أريد بالعلة ما ليس كذلك كما يمثلون به من حركة الخاتم بحركة اليد وحصول الشعاع عن الشمس فليس هذا من باب الفاعل من شيء بل هو من باب المشروط والشرط قد يقارن المشروط. واما الفاعل فيمتنع أن يقارنه مفعوله المعين وان لم يمتنع أن يكون فاعلا لشيء بعد شيء فقدم نوع الفعل كقدم نوع الحركة وذلك لا ينافي حدوث كل جزء من أجزائها بل يستلزمه لامتناع قدم شيء منها بعينه. وهذا مما عليه جماهير العقلاء من جميع الأمم حتى أرسطو واتباعه فإنهم وان قالوا بقدم العالم فهم لم يثبتوا له مبدعا ولا علة فاعلة بل علة غائية يتحرك الفلك للتشبه بها لأن حركة الفلك أرادية. وهذا القول وهو "أن الأول ليس مبدعا للعالم وإنما هو علة غائية للتشبه به" وان كان في غاية الجهل والكفر فالمقصود أنهم وافقوا سائر العقلاء في أن الممكن المعلول لا يكون قديما بقدم علته كما يقول ذلك ابن سينا وموافقوه. ولهذا أنكر هذا القول ابن رشد وأمثاله من الفلاسفة الذين اتبعوا طريقة أرسطو وسائر العقلاء في ذلك وبينوا أن ما ذكره ابن سينا مما خالف به سلفه وجماهير العقلاء وكان قصده أن يركب مذهبا من مذهب المتكلمين ومذهب سلفه فيجعل الموجود الممكن معلول الواجب مفعولا له مع كونه أزليا قديما بقدمه واتبعه على إمكان ذلك اتباعه في ذلك كالسهروردي الحلبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 والرازي والآمدي والطوسي وغيرهم. زعم الرازي ما ذكره في محصلة أن القول ب كون الممكن المفعول المغلول يكون قديما للموجب بالذات مما اتفق عليه الفلاسفة والمتكلمون لكن المتكلمون يقولون بالحدوث ولكون الفاعل عندهم فاعلا بالاختيار. وهذا غلط على الطائفتين بل لم يقل ذلك احد لا من المتكلمين ولا من الفلاسفة المتقدمين الذين نقلت إلينا أقوالهم كأرسطو وأمثاله وإنما قاله ابن سينا وأمثاله. والمتكلمون إذا قالوا بقدم ما يقوم بالرب من الصفات ونحوها فلا يقولون أنها مفعولة ولا معلولة لعلة فاعلة بل الذات القديمة هي الموصوفة بتلك الصفات عندهم فصفاتها من لوازمها يمتنع تحقق كون الواجب واجبا قديما إلا ب صفاته اللازمة له كما قد بسط في موضعه ويمتنع عندهم قدم ممكن يقبل الوجود والعدم مع قطع النظر عن فاعله. وكذلك أساطين الفلاسفة يمتنع عندهم قديم يقبل العدم ويمتنع أن يكون الممكن لم يزل واجبا سواء قيل أنه واجب بنفسه أو بغيره. ولكن ما ذكره ابن سينا وأمثاله في أن الممكن قد يكون قديما واجبا بغيره أزليا أبديا كما يقولونه في الفلك هو الذي فتح عليهم في الإمكان من الأسئلة القادحة في قولهم ما لا يمكنهم أن يجيبوا عنه كما قد بسط في موضعه فان ليس موضع تقريره هذا ولكن نبهنا به على أن برهانهم القياسي إلي لا يفيد أمورا كلية واجبة البقاء في الممكنات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وأما واجب الوجود تبارك وتعالى فالقياس الذي يدعونه لا يدل على ما يختص به وإنما يدل على أمر مشترك كلى بينه وبين غيره إذا كان مدلول القياس الشمولي عندهم ليس إلا أمور كلية مشتركة وتلك لا تختص بواجب الوجود رب العالمين سبحانه وتعالى. فلم يعرفوا ببرهانهم شيئا من الأمور التي يجب دوامها لا من الواجب ولا من الممكنات. وإذا كانت النفس إنما تكمل بالعلم الذي يبقى ببقاء معلومه وهم لم يعلموا علما يبقى ببقاء معلومه لم يستفيدوا ببرهانهم ما تكمل به النفس من العلم فضلا عن أن يقال أن ما تكمل به النفس من العلم لا يحصل إلا ببرهانهم. طريقة الأنبياء في الاستدلال: ولهذا كانت طريقة الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه الاستدلال على الرب تعالى بذكر آياته وان استعملوا في ذلك القياس استعملوا القياس إلا ولى ولم يستعملوا قياس شمول يستوي أفراده ولا قياس تمثيل محض فان الرب تعالى لا مثل له ولا يجتمع هو وغيره تحت كلي يستوي أفراده بل ما ثبت بغيره من كمال لا نقص فيه فثبوته له بطريق الأولى وما تنزه عنه غيره من النقائص فتنزهه عنه بطريق الأولى. استعمال قياس الأولى في القران: ولهذا كانت الأقيسة العقلية البرهانية المذكورة في القران من هذا الباب كما يذكره في دلائل ربو بيته وإلهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وإمكان المعاد وغير ذلك من المطالب العالية السنية والمعالم الإلهية التي هي اشرف العلوم وأعظم ما تكمل به النفوس من المعارف وان كان كما لها لا بد فيه من كمال علمها وقصدها جميعا فلا بد من عبادة الله وحده المتضمنة لمعرفته ومحبته والذل له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الاستدلال بالآيات في القران: وأما استدلاله تعالى بالآيات فكثير في القران والفرق بين الآيات وبين القياس أن الآية هي العلامة وهي الدليل الذي يستلزم عين المدلول لا يكون مدلوله أمرا كليا مشتركا بين المطلوب وغيره بل نفس العلم به يوجب العلم بعين المدلول كما أن الشمس آية النهار قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} فنفس العلم بطلوع الشمس يوجب العلم بوجود النهار. وكذلك آيات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم نفس العلم بها يوجب العلم بنبوته بعينه لا يوجب أمرا كليا مشتركا بينه وبين غيره. وكذلك آيات الرب تعالى نفس العلم بها يوجب العلم بنفسه المقدسة تعالى لا يوجب علما كليا مشتركا بينه وبين غيره. والعلم بكون هذا مستلزما لهذا هو جهة الدليل. فكل دليل في الوجود لا بد أن يكون مستلزما للمدلول والعلم باستلزام المعين للمعين المطلوب أقرب إلى الفطرة من العلم بأن كل معين من معينات القضية الكلية يستلزم النتيجة والقضايا الكلية هذا شأنها فان القضايا الكلية أن لم تعلم معيناتها بغير التمثيل وإلا لم تعلم إلا بالتمثيل فلا بد من معرفة لزوم المدلول للدليل الذي هو الحد الأوسط. فلا بد أن يعرف أن كل فرد من أفراد الحكم الكلي المطلوب يلزم كل فرد من أفراد الدليل كما إذا قيل كل اب وكل ب ج فكل ج افلا بد أن يعرف أن كل فرد من أفراد الجيم يلزم كل فرد من أفراد الباء وكل فرد من أفراد الباء يلزم كل فرد من أفراد الألف ومعلوم أن العلم بلزوم الجيم المعين للباء المعين والباء المعين للألف المعين أقرب إلى الفطرة من هذا. وهذا كما قدمناه في أمثلة أقيستهم البرهانية مثل قولهم الكل أعظم من الجزء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية والضدان لا يجتمعان والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ونحو ذلك فان هذه قضايا كلية. ومعلوم أن الإنسان إذا تصور ما يتصوره من معين أو جزئه فان تصوره لكون هذا الكل المعين أعظم من جزئه أسبق إلى عقله من أن يتخيل أن كل كل أعظم من جزئه فهو يتصور أن بدنه أعظم من يده ورجله وان السماء أعظم من كواكبها والجبل أعظم من بعضه والمدينة أعظم من بعضها ونحو ذلك قبل أن يتصور القضية الكلية الشاملة لجميع هذه الأفراد. ولذلك إذا تصور شيئا معينا يعلم أنه لا يكون موجودا معدوما في حال واحدة قبل أن يتصور أن كل نقيضين لا يجتمعان ولذلك إذا تصور سوادا معينا علم أنه لا يكون اللون الواحد سوادا بياضا قبل أن يتصور أن كل ضدين لا يجتمعان وأمثال ذلك كثيرة. وإذا قيل تلك القضية الكلية تحصل في الذهن ضرورة أو بديهة من واهب العقل قيل فحصول تلك القضية المعينة في الذهن من واهب العقل أقرب. عظم الفرق بين إثبات الرب بالآيات وبين إثباته بالقياس البرهاني: ومعلوم أن كل ما سوى الله من الممكنات فانه مستلزم لذات الرب تعالى يمتنع وجوده بدون وجود ذات الرب تعالى وتقدس. وان كان مستلزما أيضا لأمور كلية مشتركة بينه وبين غيره فلأنه يلزم من وجوده وجود لوازمه وتلك الكليات المشتركة من لوازم المعين اعني يلزمه ما يخصه من ذلك الكلي العام والكلي المشترك يلزمه بشرط وجوده ووجود العالم الذي يتصور القدر المشترك وهو سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه فيعلم نفسه المقدسة بما يخصها ويعلم الكليات أنها كليات فيلزم من وجود الخاص وجود العام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 المطلق أي حصة المعين من ذلك العام كما يلزم من وجود هذا الإنسان وجود الإنسان ومن وجود هذا الإنسان وجود الإنسانية والحيوانية القائمة به. فكل ما سوى الرب مستلزم لنفسه المقدسة بعينها يمتنع وجود شيء سواه بدون وجود نفسه المقدسة فان الوجود المطلق الكلي لا تحقق له في الأعيان فضلا عن أن يكون خالقا لها مبدعا. ثم يلزم من وجوده المعين الوجود المطلق المطابق للمعين فإذا تحقق الوجود الواجب تحقق الوجود المطلق المطابق للمعين وإذا تحقق الفاعل لكل شيء تحقق الفاعل المطلق المطابق وإذا تحقق القديم الأزلي تحقق القديم المطلق المطابق وإذا تحقق الغنى عن كل شيء تحقق الغنى المطابق وإذا تحقق رب كل شيء تحقق الرب المطابق كما ذكرنا أنه إذا تحقق هذا الإنسان وهذا الحيوان تحقق الإنسان المطلق المطابق والحيوان المطلق المطابق. لكن المطلق لا يكون مطلقا إلا في الأذهان لا في الأعيان والله تعالى هو الخالق للأمور الموجودة في الأعيان والمعلم للصور الذهنية المطابقة لما في الأعيان. ولهذا كان أول ما انزل على رسوله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} بين في أول ما انزل أنه خالق الأعيان عموما وخصوصا فكما أنه خالق الموجودات العينية فهو المعلم للماهيات الذهنية فالموجودات الخارجية آيات مستلزمة لوجود عينه وإذا تصورتها الأذهان معينة أو مطلقة فهو المعلم لهذا المتصور إذ الصور الذهنية أيضا من آياته المستلزمة لوجود عينه لكنها تدل مع ذلك على هدايته وتعليمه كما قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} وقال موسى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . كما أن الموجودات العينية من آيات وجوده والصور الذهنية من حيث أنها موجودات عينيه من هذا الباب كما أنها من جهة مطابقتها للموجودات الخارجية من الباب الأول. لكن إذا علم إنسان وجود إنسان مطلق وحيوان مطلق لم يكن عالما بنفس المعين كذلك من علم واجبا مطلقا وفاعلا مطلقا وغنيا مطلقا لم يكن عالما بنفس رب العالمين وما يختص به عن غيره. وذلك هو مدلول آياته تعالى فآياته تستلزم عينه التي يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها وكل ما سواه دليل على عينه وآية له فانه ملزوم لعينه وكل ملزوم فانه دليل على لازمة ويمتنع تحقق شيء من الممكنات إلا مع تحقق عينه فكلها ملزوم لنفس الرب دليل عليه آية له. ودلالتها بطريق قياسهم على الأمر المطلق الكلى الذي لا يتحقق إلا في الذهن فلم يعلموا ب برهانهم ما يختص بالرب تعالى ولهذا ما يثبتونه من واجب الوجود عند التحقيق إنما هو أمر كلى لا يختص بالرب تعالى حتى قد يجعلونه مجرد الوجود. دلالة قياس الأولى في إثبات صفات الكمال: وأما قياس الأولى الذي كان يسلكه السلف اتباعا للقرآن فيدل على أنه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتا لغيره مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل كما لا يضبط التفاوت بين الخالق وبين المخلوق بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ومخلوق ما لا يحصر قدره وهو يعلم أن فضل الله على كل مخلوق أعظم من فضل مخلوق على مخلوق كان هذا مما يبين له أن ما يثبت للرب أعظم مما يثبت لكل ما سواه بما لا يدرك قدره فكأن قياس الأولى يفيده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 أمرا يختص به الرب مع علمه بجنس ذلك الأمر. لا بد من الأسماء المشككة من معنى كلى مشترك: ولهذا كان الحذاق يختارون أن الأسماء المقولة عليه وعلى غيره مقولة بطريق التشكيك الذي هو نوع من التواطؤ العام ليست بطريق الاشتراك اللفظي ولا بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتماثل أفراده بل بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتفاضل أفراده كما يطلق لفظ البياض والسواد على الشديد كبياض الثلج وعلى ما دونه كبياض العاج فكذلك لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن وهو في الواجب أكمل وأفضل من فضل هذا البياض على هذا البياض. لكن التفاضل في الأسماء المشككة لا يمنع أن يكون اصل المعنى مشتركا كليا بينهما فلا بد في الأسماء المشككة من معنى كلي مشترك وإن كان ذلك لا يكون إلا في الذهن وذلك مورد التقسيم تقسيم الكلي إلى جزئياته إذا قيل الموجود ينقسم إلى واجب وممكن فان مورد التقسيم مشترك بين الأقسام ثم كون وجود هذا الواجب أكمل من وجود الممكن لا يمنع أن يكون مسمى الوجود معنى كليا مشتركا بينهما. وهكذا في سائر الأسماء والصفات المطلقة على الخالق والمخلوق كاسم الحي والعليم والقدير والسميع والبصير وكذلك في صفاته كعلمه وقدرته ورحمته ورضاه وغضبه وفرحه وسائر ما نطقت به الرسل من أسمائه وصفاته. الخلاف في الأسماء التي تطلق عليه تعالى وعلى العباد: والناس تنازعوا في هذا الباب فقالت طائفة كأبي العباس الناشئ من شيوخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 المعتزلة الذين كانوا أسبق من أبي علي هي حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق. وقالت طائفة من الجهمية والباطنية والفلاسفة وبالعكس هي مجاز في الخالق حقيقة في المخلوق. وقال جماهير الطوائف هي حقيقة فيهما وهذا قول طوائف النظار من المعتزلة والأشعرية والكرامية والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وهو قول الفلاسفة. لكن كثيرا من هؤلاء يتناقض فيقر في بعضها بانها حقيقة كاسم الموجود والنفس والذات والحقيقة ونحو ذلك وينازع في بعضها لشبه نفاه الجميع والقول فيما نفاه نظير القول فيما أثبته ولكن هو لقصوره فرق بين المتماثلين ونفي الجميع يمتنع أن يكون موجودا. وقد علم أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث وغنى وفقير ومفعول وغير مفعول وأن وجود الممكن يستلزم وجود الواجب ووجود المحدث يستلزم وجود القديم ووجود الفقير يستلزم وجود الغنى ووجود المفعول يستلزم وجود غير المفعول وحينئذ فبين الوجودين أمر مشترك والواجب يختص بما يتميز به فكذلك القول في الجميع. والأسماء المشككة هو متواطئة باعتبار القدر بالمشترك ولهذا كان المتقدمون من نظار الفلاسفة وغيرهم لا يخصون المشككة باسم بل لفظ المتواطئة يتناول ذلك كله فالمشككة قسم من المتواطئة العامة وقسيم المتواطئة الخاصة. وإذا كان كذلك فلا بد في المشككة من إثبات قدر مشترك كلي وهو مسمى المتواطئة العامة وذلك لا يكون مطلقا إلا في الذهن وهذا مدلول قياسهم البرهاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ولا بد من إثبات التفاضل وهو مدلول المشككة التي هي قسيم المتواطئة الخاصة وذلك هو مدلول الأقيسة البرهانية القرآنية وهي قياس الأولى. ولا بد من إثبات خاصة الرب التي بها يتميز عما سواه وذلك مدلول آياته سبحانه التي يستلزم ثبوتها ثبوت نفسه لا يدل على هذه قياس لا برهاني ولا غير برهاني. فتبين بذلك أن قياسهم البرهاني لا يحصل المطلوب الذي به تكمل النفس في معرفة الموجودات ومعرفة خالقها فضلا عن أن يقال لا تعلم المطالب إلا به. وهذا باب واسع لكن المقصود في هذا المقام التنبيه على بطلان قضيتهم السالبة وهي قولهم أن العلوم النظرية لا تحصل إلا بواسطة برهانهم. شناعة زعمهم أن علم الله أيضا يحصل بواسطة القياس: ثم لم يكفهم هذا السلب العام الذي تحجروا فيه واسعا وقصروا العلوم على طريق ضيقه لا تحصل إلا مطلوبا لا طائل فيه حتى زعموا أن علم الله وعلم أنبيائه وأوليائه إنما يحصل بواسطة القياس المشتمل على الحد الأوسط كما يذكر ذلك ابن سينا وأتباعه. وهم في إثبات ذلك خير ممن نفى علمه وعلم أنبيائه من سلفهم الذين هم من اجهل الناس برب العالمين وبأنبيائه وبكتبه. فابن سينا لما تميز عن أولئك بمزيد عقل وعلم سلك طريقهم المنطقي في تقرير ذلك وصاروا سالكوا هذه الطريق وإن كانوا اعلم من سلفهم وأكمل فهم أضل من اليهود والنصارى وأجهل إذ كان أولئك حصل لهم من الإيمان ب واجب الوجود وصفاته ما لم يحصل لهؤلاء الضلال لما في صدورهم من الكبر والخيال وهم من أتباع فرعون وأمثاله ولهذا تجدهم لموسى ومن معه من أهل الملل والشرائع متنقصين أو معادين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} وقال: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وقال: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} وقد بسط الكلام على قول فرعون ومتابعة هؤلاء له والنمرود بن كنعان وأمثالهما من رؤوس الكفر والضلال ومخالفتهم لموسى وإبراهيم وغيرهما من رسل الله صلوات الله عليهم في مواضع. وقد جعل الله آل إبراهيم أئمة للمؤمنين أهل الجنة وآل فرعون أئمة لأهل النار. وقال تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أنهم إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأولى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} إلى قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . وقال في آل إبراهيم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} والمقصود أن متأخريهم الذين هم اعلم منهم جعلوا علم الرب يحصل بواسطة القياس البرهاني وكذلك علم أنبيائه وقد بسطنا الكلام في الرد عليهم في غير هذا الموضع. والمقصود هنا التنبيه على فساد قولهم أنه لا يحصل العلم إلا بالبرهان الذي وصفوه وإذا كان هذا السلب باطلا في حكم آحاد الناس كان بطلانه أولى في علم رب العالمين سبحانه وتعالى ثم ملائكته وأنبيائه صلوات الله عليهم أجمعين. فصل: أقوال المنطقيين في الدليل والقياس: وأيضا فإنهم قسموا جنس الدليل إلى القياس والاستقراء والتمثيل قالوا لأن الاستدلال أما أن يكون ب الكلى على الجزئي أو ب الجزئي على الكلي أو بأحد الجزئين على الآخر وربما عبروا عن ذلك ب الخاص والعام فقالوا أما أن يستدل ب العام على الخاص أو ب الخاص على العام أو بأحد الخاصين على الآخر. قالوا والأول هو القياس يعنون به قياس الشمول فإنهم يخصونه باسم القياس وكثير من أهل الأصول والكلام يخصون باسم القياس التمثيل وأما جمهور العقلاء فاسم القياس عندهم يتناول هذا وهذا. قالوا والاستدلال بالجزئيات على الكلي هو الاستقراء فان كان تاما فهو الاستقراء التام وهو يفيد اليقين وإن كان ناقصا لم يفد اليقين فالأول هو استقراء جميع الجزئيات والحكم عليه بما وجد في جزئياته والثاني استقراء أكثرها وقد يكذب كقول القائل الحيوان إذا أكل حرك فكه الأسفل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 لأنا استقريناها فوجدناها هكذا فيقال له: "التمساح يحرك الأعلى". ثم قالوا القياس ينقسم إلى الاقتراني والاستثنائي ف الاستثنائي ما تكون النتيجة أو نقيضها مذكورة فيه بالفعل والاقتراني ما تكون فيه بالقوة كالمؤلف من القضايا الحملية كقولنا كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام. والاستثنائي ما يؤلف من الشرطيات وهو نوعان: أحدهما: متصلة كقولنا أن كانت الصلاة صحيحة فالمصلى متطهر واستثناء عين المقدم ينتج عين التالي واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم. والثاني: المنفصلة هي أما مانعة الجمع والخلو كقولنا العدد أما زوج وأما فرد فان هذين لا يجتمعان ولا يخلو العدد عن أحدهما وأما مانعة الجمع فقط كقولنا هذا أما أبيض وأما اسود أي لا يجتمع السواد والبياض وقد يخلو المحل عنهما وأما مانعه الخلو فهي التي يمتنع فيها عدم الجزئين جميعا ولا يمتنع اجتماعهما. وقد يقولون مانعة الجمع والخلو هي الشرطية الحقيقية وهي مطابقة للنقيضين في العموم والخصوص ومانعة الجمع هي أخص من النقيضين فان الضدين لا يجتمعان وقد يرتفعان وهما اخص من النقيضين. وأما مانعة الخلو فإنها أعم من النقيضين وقد يصعب عليهم تمثيل ذلك بخلاف النوعين الأولين فان أمثالهما كثيرة ويمثلونه بقول القائل هذا راكب البحر أو لا يغرق فيه أي لا يخلو منهما فانه لا يغرق إلا إذا كان في البحر فإما أن لا يغرق فيه وحينئذ لا يكون راكبه وأما أن يكون راكبه وقد يجتمع أن يركب ويغرق. والأمثال كثيرة كقولنا هذا حي أو ليس بعالم أو قادر أو سميع أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 بصير أو متكلم فانه أن وجدت الحيوة فهو احد القسمين وإن عدمت عدمت هذه الصفات وقد يكون حيا من لا يوصف بذلك وكذلك إذا قيل هذا متطهر أو ليس بمصل فانه أن عدمت الصلاة عدمت الطهارة وإن وجدت الطهارة فهو القسم الآخر فلا يخلو الأمر منهما. وكذلك كل عدم شرط ووجود مشروطه فانه إذا ردد الأمر بين وجود المشروط وعدم الشرط كان ذلك مانعا من الخلو فانه لا يخلو الأمر من وجود الشرط وعدمه وإذا عدم عدم الشرط فصار الأمر لا يخلو من وجود المشروط وعدم الشرط. ثم قسموا الاقتراني إلى الأشكال الأربعة لكون الحد الأوسط أما محمولا في الأولى موضوعا في الصغرى وهو الشكل الطبيعي وهو ينتج المطالب الأربعة الجزئي والكلى والايجابي والسلبي وأما أن يكون الأوسط محمولا فيهما وهو الثاني ولا ينتج إلا السلب وأما أن يكون موضوعا فيهما ولا ينتج إلا الجزئيات والرابع ينتج الجزئيات والسلب الكلى لكنه بعيد عن الطبع. ثم إذا أرادوا بيان إنتاج الثاني والثالث وغير ذلك من المطالب احتاجوا إلى الاستدلال ب النقيض والعكس وعكس النقيض فانه يلزم من صدق القضية كذب نقيضها وصدق عكسها المستوى وعكس نقيضها فإذا صدق قولنا ليس احد من الحجاج بكافر صح قولنا ليس احد من الكفار حاجا وإذا صح قولنا كل حاج مسلم صح قولنا بعض المسلمين حاج وقولنا من ليس بمسلم فليس بحاج. رد المصنف أقوالهم في الدليل والقياس: فنقول هذا الذي قالوه أما أن يكون باطلا وأما أن يكون تطويلا يبعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الطريق على الطالب المستدل فلا يخلو عن خطأ يصد عن الحق أو طريق طويل يتعب صاحبه حتى يصل إلى الحق مع إمكان وصوله بطريق قريب كما كان يمثله بعض سلفنا بمنزلة من قيل له أين أذنك فرفع يده فوق رأسه رفعا شديدا ثم أدارها إلى أذنه اليسرى وقد كان يمكنه الإشارة إلى اليمنى أو اليسرى من طريق مستقيم وما أشبه هؤلاء بقول القائل: أقام يعمل أياما رويته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء وبقول الآخر: وإني وإني ثم إني وإنني ... إذا انقطعت نعلى جعلت لها شسعا وما أحسن ما وصف الله به كتابه بقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} فأقوم الطرق إلى أشرف المطالب ما بعث الله به رسوله وأما طريق هؤلاء فهي مع ضلالهم في البعض واعوجاج طريقهم وطولها في البعض الأخرى إنما يوصلهم إلى أمر لا ينجى من عذاب الله فضلا عن أن يوجب لهم السعادة فضلا عن حصول الكمال للأنفس البشرية بطريقهم. بطلان حصر الأدلة في القياس والاستقراء والتمثيل: بيان ذلك أن ما ذكروه من حصر الدليل في القياس والاستقراء والتمثيل حصر لا دليل عليه بل هو باطل وقولهم أيضا أن العلم المطلوب لا يحصل إلا بمقدمتين لا يزيد ولا ينقص قول لا دليل عليه بل هو باطل. واستدلالهم على الحصر بقولهم: "إما أن يستدل بالكلى على الجزئي أو بالجزئي على الكلى أو بأحد الجزئين على الآخر والأول هو القياس والثاني هو الاستقراء والثالث هو التمثيل". يقال لم تقيموا دليلا على انحصار الاستدلال في هذه الثلاثة فإنكم إذا عنيتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 بالاستدلال بجزئي على جزئي قياس التمثيل لم يكن ما ذكرتموه حاصرا وقد بقى الاستدلال بالكلى على الكلي الملازم له وهو المطابق له في العموم والخصوص وكذلك الاستدلال بالجزئي الملازم له بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ومن عدمه عدمه فان هذا ليس مما سميتموه قياسا ولا استقراء ولا تمثيلا وهذه هي الآيات. الاستدلال بالكلى على الكلى وبالجزئي على الجزئي الملازم له: وهذا كالاستدلال بطوع الشمس على النهار وبالنهار على طلوع الشمس فليس هذا استدلالا بكلى على جزئي بل الاستدلال بطوع معين على نهار معين استدلالا بجزئي على جزئي وبجنس النهار على جنس الطلوع استدلالا بكلى على كلى. وكذلك الاستدلال بالكواكب على جهة الكعبة استدلالا بجزئي على جزئي كالاستدلال ب الجدي وبنات نعش والكوكب الصغير القريب من القطب الذي يسميه بعض الناس القطب كما يسمى بعض الناس الجدي القطب وإن كان القطب في الحقيقة جزءا من الفلك قريبا من ذلك الكوكب الصغير. وكذلك الاستدلال بظهور كوكب على ظهور نظيره في العرض والاستدلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 بطلوعه على غروب آخر وتوسط آخر ونحو ذلك من الأدلة التي اتفق عليها الناس قال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} . والاستدلال على المواقيت والأمكنة بالأمكنة أمر اتفق عليه العرب والعجم وأهل الملل والفلاسفة فإذا استدل بظهور الثريا على ظهور ما قرب منها مشرقا ومغربا ويمينا وشمالا من الكواكب كان استدلالا بجزئي على جزئي لتلازمهما وليس ذلك من قياس التمثيل وإن قضى به قضاء كليا كان استدلالا بكلى على كلى وليس استدلالا بكلى على جزئي بل بأحد الكليين المتلازمين على الآخر. ومن عرف مقدار أبعاد الكواكب بعضها من بعض وعلم ما يقارن منها طلوع الفجر استدل بما رآه منها على مقدار ما مضى من الليل وما بقى منه وهو استدلال بأحد المتلازمين على الآخر ومن علم الجبال والأنهار والرياح استدل بها على ما يلازمها من الأمكنة. ثم اللزوم أن كان دائما لا يعرف له ابتداء بل هو منذ خلق الله الأرض كوجود الجبال والأنهار العظيمة النيل والفرات وسيحان وجيحان والبحر كان الاستدلال مطردا. وإن كان اللزوم أقل من ذلك مدة مثل الكعبة شرفها الله فان الخليل بناها ولم تزل معظمة لم يعل عليها جبار قط استدل بها بحسب ذلك فيستدل بها وعليها فان أركان الكعبة مقابلة لجهات الأرض الأربعة الحجر الأسود يقابل المشرق والغربي الذي يقابله ويقال له الشامي يقابل المغرب واليماني يقابل الجنوب وما يقابله يقال له العراقى إذا قيل الذي من ناحية الحجر الشامي وإن قيل لذاك الشامي قيل لهذا العراقى فهذا الشامي العراقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 يقابل الشمال وهو يقابل القطب وحينئذ فيستدل بها على الجهات ويستدل بالجهات عليها. وما كان مدته اقصر من مدة الكعبة كالأبنية التي في الأمصار والأشجار كان الاستدلال بها بحسب ذلك فيقال علامة الدار الفلانية أن على بابها شجرة من صفتها كذا وكذا وهما متلازمان مدة من الزمان. فهذا وأمثاله استدلال بأحد المتلازمين على الآخر وكلاهما معين جزئي وليس هو من قياس التمثيل. حد الدليل عند النظار: ولهذا عدل نظار المسلمين عن طريقهم فقالوا الدليل هو المرشد إلى المطلوب وهو الموصل إلى المقصود وهو ما يكون العلم به مستلزما للعلم بالمطلوب. أو ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى المطلوب وهو ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى علم أو إلى اعتقاد راجح. ولهم نزاع اصطلاحي هل يسمى هذا الثاني دليلا أو يخص باسم الإمارة والجمهور يسمون الجميع دليلا ومن أهل الكلام من لا يسمى ب الدليل إلا الأول. ثم الضابط في الدليل أن يكون مسستلزما للمدلول فكل ما كان مستلزما لغيره أمكن أن يستدل به عليه أن كان التلازم من الطرفين أمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر فيستدل المستدل مما علمه منهما على الآخر الذي لم يعلمه. ثم أن كان اللزوم قطعيا كان الدليل قطعيا وان كان ظاهرا وقد يتخلف كان الدليل ظنيا. فالأول كدلالة المخلوقات على خالقها سبحانه وتعالى وعلمه وقدرته ومشيئته ورحمته وحكمته فان وجودها مستلزم لوجود ذلك ووجودها بدون ذلك ممتنع فلا توجد إلا دالة على ذلك. ومثل دلالة خبر الرسول على ثبوت ما اخبر به عن الله فانه لا يقول عليه إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الحق إذ كان معصوما في خبره عن الله لا يستقر في خبره عنه خطأ البتة. فهذا دليل مستلزم لمدلوله لزوما واجبا لا ينفك عنه بحال وسواء كان الملزوم المستدل به وجودا أو عدما فقد يكون الدليل وجودا وعدما ويستدل بكل منهما على وجود وعدم فانه يستدل بثبوت الشيء على انتفاء نقيضه وضده ويستدل بانتقاء نقيضه على ثبوته ويستدل بثبوت الملزوم على ثبوت اللازم وبانتقاء اللازم على انتقاء الملزوم بل كل دليل يستدل به فانه ملزوم لمدلولة وقد دخل في هذا كل ما ذكروه وما لم يذكروه. فان ما يسمونه الشرطي المتصل مضمونه الاستدلال بثبوت الملزوم على ثبوت اللازم وبانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم سواء عبر عن هذا المعنى بصيغة الشرط أو بصيغة الجزم واختلاف صيغ الدليل مع اتحاد معناه لا يغير حقيقية والكلام إنما هو في المعاني لا في الألفاظ. فإذا قال القائل أن كانت الصلاة صحيحة فالمصلى متطهر وإن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وإن كان الفاعل عالما قادرا فهو حي ونحو ذلك فهذا معنى قوله: "صحة الصلاة تستلزم صحة الطهارة" وقوله: "يلزم من صحة الصلاة صحة ثبوت الطهارة" وقوله: "لا يكون مصليا إلا مع الطهارة" وقوله: "الطهارة شرط في صحة الصلاة وإذا عدم الشرط عدم المشروط" وقوله: "كل مصل متطهر فمن ليس بمتطهر فليس بمصل" وأمثال ذلك من أنواع التأليف للألفاظ والمعاني التي يتضمن هذا الاستدلال من غير حصر الناس في عبارة واحدة. أستطراد. وإذا اتسعت العقول وتصوراتها اتسعت عباراتها وإذا ضاقت العقول والتصورات بقى صاحبها كأنه محبوس العقل واللسان كما يصيب أهل المنطق اليوناني تجدهم من أضيق الناس علما وبيانا وأعجزهم تصورا وتعبيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ولهذا من كان منهم ذكيا إذا تصرف في العلوم وسلك مسلك أهل المنطق طول وضيق وتكلف وتعسف وغايته بيان البين وإيضاح الواضح من العي وقد يوقعه ذلك في أنواع من السفسطة التي عافى الله منها من لم يسلك طريقهم. مثل ما ذكروه عن يعقوب بن إسحاق الكندي الفيلسوف أنه قال في بعض مناظراته هذا من باب فقد عدم الوجود ومثل هذه العبارات الطويلة الركيكة كثير في كلامهم حتى في كلام أفضل متأخريهم مع أنه أفضلهم وأحسنهم بيانا. وكذلك تكلفاتهم في حدودهم مثل حدهم ل الإنسان والشمس بأنها كوكب يطلع نهارا وهل من يحد الشمس مثل هذا الحد ونحوه إلا من هو من أجهل الناس وهل عند الناس شيء أظهر من الشمس حتى يحد الشمس به ومن لم يعرف الشمس فأما أن يجهل اللفظ فيترجم له وليس هذا من الحد الذي ذكروه وأما أن لا يكون رآها لعماه فهذا لا يرى النهار ولا الكواكب بطرق الأولى مع أنه لا بد أن يسمع من الناس ما يعرف ذلك دون طريقهم. وهم معترفون بان الشكل الأول من الحمليات يغنى عن جميع صور القياس وتصويره نطرى لا يحتاح احد إلى تعلمه منهم مع أن الاستدلال لا يحتاج إلى تصوره على الوجه الذي يزعمونه. فصل: إبطال قولهم: "أن الاستدلال لا بد فيه من مقدمتين" وأما قولهم: "إن الاستدلال لا بد فيه من مقدمتين بلا زيادة ولا نقصان" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فان كان الدليل مقدمة واحدة قالوا الأخرى محذوفة وسموه هو قياس الضمير وإن كان مقدمات قالوا هي أقيسة مركبة ليس هو قياسا واحدا فهذا قول باطل طردا وعكسا. وذلك أن احتياج المستدل إلى المقدمات مما يختلف فيه حال الناس فمن الناس من لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة لعلمه مما سوى ذلك كما أن منهم من لا يحتاج في علمه بذلك إلى الاستدلال بل قد يعلمة بالضرورة ومنهم من يحتاج إلى مقدمتين ومنهم من يحتاج إلى ثلاث ومنهم من يحتاج إلى أربع وأكثر. فمن أراد أن يعرف أن هذا المسكر المعين محرم فان كان يعرف أن كل مسكر محرم ولكن لا يعرف هل هذا المعين مسكر أم لا لم يحتج إلا إلى مقدمة واحدة وهو أن يعمل أن هذا مسكر فإذا قيل له هذا حرام فقال ما الدليل عليه فقال المستدل الدليل على ذلك أنه مسكر فقال لا نسلم أنه مسكر فمتى أقام الدليل على أنه مسكر تم المطلوب. وكذلك لو تنازع اثنان في بعض أنواع الأشربة هل هو مسكر أم لا؟ كما يسأل الناس كثيرا عن بعض الأشربة فلا يكون السائل ممن يعلم أنها تسكر أو لا تسكر ولكن قد علم أن كل مسكر حرام فإذا ثبت عنده بخبر من يصدقه أو بغير من الأدلة أنه مسكر علم تحريمه وكذلك سائر ما يقع الشك في الدراجه تحت قضية كلية من الأنواع والأعيان مع العلم بحكم تلك القضية كتنازع الناس في النرد والشطرنج هل هما من الميسر أم لا؟ وتنازعهم في النبيذ المتنازع فيه هل هو من الخمر أم لا؟ وتنازعهم في الحلف بالنذر والطلاق والعتاق هل هو داخل في قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أم لا؟ وتنازعهم في قوله: {أو يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هل هو الزوج أو الولي المستقل؟ وأمثال ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وقد يحتاج الاستدلال إلى مقدمتين لمن لم يعلم أن النبيذ المسكر المتنازع فيه محرم ولم يعلم أن هذا المعين مسكر فهو لا يعلم أنه محرم حتى يعلم أنه مسكر ويعلم أن كل مسكر حرام. وقد يعلم أن هذا مسكر ويعلم أن كل مسكر خمر لكن لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر لقرب عهده بالإسلام أو لنشأه بين جهال أو زنادقة يشكون في ذلك. أو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر حرام" أو يعلم أن هذا خمر وان النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر لكن لم يعلم أن محمدا رسول الله أو لم يعلم أنه حرمها على جميع المؤمنين بل ظن أنه أباحها لبعض الناس وظن أنه منهم كمن ظن أنه أباح شربها للتداوي أو غير ذلك فهذا لا يكفيه في العلم بتحريم هذا النبيذ المسكر تحريما عاما إلا أن يعلم أنه مسكر وأنه خمر وأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر أو أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم كل مسكر وانه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا فما حرمه فقد حرمه الله وأنه حرمه تحريما عاما لم يبحه للتداوي ولا للتلذذ. ومما يبين أن تخصيص الاستدلال بمقدمتين باطل أنهم قالوا في حد القياس الذي يشمل البرهانى والخطابي والجدلى والشعري والسوفسطائي أنه قول مؤلف من أقوال أو عبارة عما ألف من أقوال إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر قالوا واحترزنا بقولنا من أقوال عن القضية الواحدة التي تستلزم لذاتها صدق عكسها وعكس نقيضها وكذب نقيضها وليست قياسا قالوا ولم نقل مؤلف من مقدمات لانا لا يمكننا تعريف المقدمة من حيث هي مقدمة إلا بكونها جزء القياس فلو أخذناها في حد القياس كان دورا. والقضية الخبرية إذا كانت جزء القياس سموها مقدمة وإن كانت مستفادة بالقياس سموها نتيجة وإن كانت مجردة عن ذلك سموها قضية وتسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 أيضا قضية مع تسميتها نتيجة ومقدمة وهي الخبر وليست هي المبتدأ والخبر في اصطلاح النحاة بل أعم منه فان المبتدأ والخبر لا يكون إلا جملة اسمية والقضية الخبرية قد تكون اسمية وفعلية كما لو قيل في قوله: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} وقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} فان هذه جملة خبرية وليست المبتدأ والخبر في اصطلاح النحاة. والمقصود هنا أنهم أرادوا ب القول في قولهم القياس قول مؤلف من أقوال القضية التي هي جملة تامة خبرية لم يريدوا بذلك المفرد الذي هو الحد فان القياس مشتمل على ثلاثة حدود: اصغر وأوسط واكبر كما إذا قيل النبيذ المتنازع فيه مسكر وكل مسكر حرام فالنبيذ والمسكر والحرام كل منها مفرد وهي الحدود في القياس فليس مرادهم بالقول هذا بل مرادهم أن كل قضية قول كما فسروا مرادهم بذلك ولهذا قالوا قول مؤلف من أقوال إذا سلمت لزم عنها قول آخر واللازم إنما هو النتيجة وهي قضية وخبر وجملة تامة ليست مفردا ولذلك قالوا القياس قول فسموا مجموع القضيتين قولا. وإذا كانوا قد جعلوا القياس مؤلفا من أقوال وهي القضايا لم يجب أن يراد بذلك قولان فقط لأن لفظ الجمع أما أن يكون متناولا ل اثنين فصاعدا كقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} وأما أن يراد به الثلاثة فصاعدا وهو الأصل عند الجمهور. ولكن قد يراد به جنس العدد فيتناول الاثنين فصاعدا ولا يكون الجمع مختصا ب اثنين فإذا قالوا هو مؤلف من أقوال أن أرادوا جنس العدد كان المعنى من اثنين فصاعدا فيجوز أن يكون مؤلفا من ثلاث مقدمات وأربع مقدمات فلا يختص بالاثنين وإن أرادوا الجمع الحقيقي لم يكن مؤلفا إلا من ثلاثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 فصاعدا وهم قطعا ما أرادوا هذا لم يبق إلا الأول. فإذا قيل هم يلتزمون ذلك ويقولون نحن نقول أقل ما يكون القياس من مقدمتين وقد يكون من مقدمات فيقال أولا هذا خلاف ما في كتبكم فإنكم لا تلتزمون إلا مقدمتين فقط وقد صرحوا أن القياس الموصل إلى المطلوب سواء كان اقترانيا أو استثنائيا لا ينقص عن مقدمتين ولا يزيد عليهما. وعللوا ذلك بان المطلوب المتحد لا يزيد على جزئين مبتدأ وخبر فان كان القياس اقترانيا فكل واحد من جزئي المطلوب لا بد وان يناسب مقدمة منه أي يكون فيها أما مبتدأ وأما خبرا ولا يكون هو نفس المقدمة قالوا وليس المطلوب أكثر من جزئين فلا يفتقر إلى أكثر من مقدمتين وإن كان القياس استثنائيا فلا بد فيه من مقدمة شرطية متصلة أو منفصلة تكون مناسبة لكل مطلوب أو نقيضه ولا بد من مقدمة استثنائية فلا حاجة إلى ثالثة. قالوا لكن ربما أدرج في القياس قول زائد على مقدمتي القياس أما غير متعلق بالقياس أو متعلق به والمتعلق بالقياس أما لترويج الكلام وتحسينه أو لبيان المقدمتين أو إحداهما ويسمون هذا القياس المركب قالوا وحاصله يرجع إلى أقيسة متعددة سيقت لبيان مطلوب واحد إلا أن القياس المبين للمطلوب بالذات منها ليس إلا واحدا والباقي لبيان مقدمات القياس قالوا وربما حذوا بعض مقدمات القياس أما تعويلا على فهم الذههن لها أو لترويج المغلطة حتى لا يطلع على كذبها عند التصريح بها قالوا ثم أن كانت الأقيسة لبيان المقدمات قد صرح فيها بنتائجها فيسمى القياس مفصولا وإلا ف موصول. ومثلوا الموصول بقول القائل كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم وكل جسم جوهر فكل إنسان جوهر. والمفصول بقولهم كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم فكل إنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 جسم ثم يقول كل حيوان جسم وكل جسم جوهر فكل إنسان حيوان فيلزم منهما أن كل إنسان جوهر. فيقال لهم أما المطلوب الذي لا يزيد على جزئين فذاك في النطق به والمطلوب في العقل إنما هو شيء واحد لا اثنان وهو ثبوت النسبة الحكمية أو انتفاؤها وإن شئت قلت اتصاف الموصوف بالصفة نفيا أو إثباتا وإن شئت قلت نسبة المحمول إلى الموضوع والخبر إلى المبتدأ نفيا أو إثباتا وأمثال ذلك من العبارات الدالة على المعنى الواحد المقصود ب القضية. فإذا كان النتيجة أن النبيذ حرام أو ليس بحرام أو الإنسان حساس أو ليس بحساس أو نحو ذلك فالمطلوب ثبوت التحريم للنبيذ أو انتفاؤه وكذلك ثبوت الحس للإنسان أو انتفاؤه والمقدمة الواحدة إذا ناسبت ذلك المطلوب حصل بها المقصود وقولنا النبيذ خمر يناسب المطلوب وكذلك قولنا الإنسان حيوان. فإذا كان الإنسان يعلم أن كل خمر حرام ولكن يشك في النبيذ المتنازع فيه هل يسمى في لغة الشارع خمرا فقيل النبيذ حرام لأنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مسكر حرام كانت هذا القضية وهي قولنا قد قال النبي صلى الله عليه وسلم أن كل مسكر خمر يفيد تحريم النبيذ وإن كان نفس قوله قد تضمن قضية أخرى. والاستدلال بذلك مشروط بتقديم مقدمات معلومة عند المستمع وهي أن ما صححه أهل العلم بالحديث فقد وجب التصديق بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله وإن ما حرمه الرسول فهو حرام ونحو ذلك. فلو لزم أن يذكر كل ما يتوقف عليه العلم وإن كان معلوما كانت المقدمات أكثر من اثنتين بل قد تكون أكثر من عشر وعلى ما قالوه فينبغي لكل من استدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 بقول النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: "النبي حرم ذلك وما حرمه فهو حرام" فهذا حرام وكذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أوجب وما أوجبه النبي فقد وجب فهذا قد وجب". وإذا احتج على تحريم الأمهات والبنات ونحو ذلك يحتاج أن يقول أن الله حرم هذا في القران وما حرمه الله فهو حرام وإذا احتج على وجوب الصلاة والزكاة والحج بمثل قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} يقول أن الله أوجب الحج في كتابه وما أوجبه الله فهو واجب وأمثال ذلك ما يعده العقلاء لكنه وعيا وإيضاحا للواضح وزيادة قول لا حاجة إليها. وهذا التطويل الذي لا يفيد في قياسهم نظير تطويلهم في حدودهم كقولهم في حد الشمس أنها كوكب يطلع نهارا وأمثال ذلك من الكلام الذي لا يفيد إلا تضييع الزمان وإتعاب الأذهان وكثرة الهذيان ثم أن الذين يتبعونهم في حدودهم وبراهينهم لا يزالون مختلفين في تحديد الأمور المعروفة بدون تحديدهم ويتنازعون في البرهان على أمور مستغنية عن براهينهم إبطال قولهم: "ليس المطلوب أكثر من جزئين": وقولهم: "ليس المطلوب أكثر من جزئين فلا يفتقر إلى أكثر من مقدمتين" فيقال: أن أردتم ليس له إلا اسمان مفردان فليس الأمر كذلك بل قد يكون التعبير عنه بأسماء متعددة مثل من شك في النبيذ هل هو حرام بالنص أم ليس حراما لا بنص ولا قياس فإذا قال المجيب النبيذ حرام بالنص كان المطلوب ثلاثة أجزاء وكذلك لو سأل هل الإجماع دليل قطعي فقال الإجماع دليل قطعي كان المطلوب ثلاثة أجزاء فإذا قال هل الإنسان جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق أم لا فالمطلوب هنا له ستة أجزاء. وفي الجملة فالموضوع والمحمول الذي هو مبتدأ وخبر وهو جملة خبرية قد تكون جملة مركبة من لفظين وقد تكون من ألفاظ متعددة إذا كان مضمونها مقيدا قيود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 كثيرة مثل قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أولئك يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأولئك مِنْكُمْ} وأمثال ذلك من القيود التي يسميها النحاة الصفات والعطف والأحوال وظرف المكان وظرف الزمان ونحو ذلك. فإذا كانت القضية مقيدة بقيود كثيرة لم تكن مؤلفة من لفظين بل من ألفاظ متعددة ومعان متعددة. وإن أريد أن المطلوب ليس إلا معنيان سواء عبر عنهما بلفظين أو ألفاظ متعددة قيل وليس الأمر كذلك بل قد يكون المطلوب معنى واحدا وقد يكون معنين وقد يكون معاني متعددة فان المطلوب بحسب طلب الطالب وهو الناظر المستدل والسائل المتعلم المناظر وكل منهما قد يطلب معنى واحدا وقد يطلب معنيين وقد يطلب معاني والعبارة عن مطلوبه قد تكون بلفظ واحد وقد تكون بلفظين وقد تكون بأكثر فإذا قال النبيذ حرام قيل له نعم كان هذا اللفظ وحده كافيا في جوابه كما لو قيل له هو حرام. فان قالوا القضية الواحدة قد تكون في تقدير قضايا كما ذكرتموه من التمثيل ب الإنسان فان هذه القضية الواحدة في تقدير خمس قضايا وهي خمس مطالب والتقدير هل هو جسم أم لا وهل هو حساس أم لا وهل هو نام أم لا وهل هو متحرك بالإرادة أم لا وهل هو ناطق أم لا وكذلك فيما تقدم هل النبيذ حرام أم لا فإذا كان حراما فهل تحريمه بالنص أو بالقياس. فيقال إذا رضيتم بمثل هذا وهو أن تجعلوا الواحد في تقدير عدد فالمفرد قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 يكون في معنى قضية فإذا قال النبيذ المسكر حرام فقال المجيب نعم فلفظ نعم في تقدير قوله هو حرام. وإذا قال ما الدليل عليه فقال الدليل عليه تحريم كل مسكر أو أن كل مسكر حرام أو قول النبي صلى الله عليه وسلم "كل مسكر حرام" ونحو ذلك من العبارات التي جعل الدليل فيها اسما مفردا وهو جزء واحد لم يجعله قضية مؤلفه من اسمين مبتدأ وخبر فان قوله تحريم كل مسكر اسم مضاف. وقوله أن كل مسكر حرام بالفتح مفرد أيضا فان أن وما في حيزها في تقدير المصدر المفرد وإن المكسورة وما في حيزها جملة تامة ولهذا قال النحاة قاطبة أن إن تكسر إذا كانت في موضع الجملة والجملة خبر وقضية وتفتح في موضع المفرد الذي هو جزء القضية ولهذا يكسرونها بعد القول لأنهم إنما يحكون ب القول الجملة التامة. وكذلك إذا قلت الدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم أو الدليل عليه النص أو اجماع الصحابة أو الدليل عليه الآية الفلانية أو الحديث الفلاني أو الدليل عليه قيام المقتضى للتحريم السالم عن المعارض المقاوم أو الدليل عليه أنه مشارك لخمر العنب فيما يستلزم التحريم وامثال ذلك مما يعبر فيه عن الدليل اسم مفرد لا بالقضية التي هي جملة تامة ثم هذا الدليل الذي عبر عنه باسم مفرد هو إذا فصل عبر عنه بألفاظ متعددة. والمقصود أن قولكم أن الدليل الذي هو القياس لا يكون إلا جزئين فقط أن أردتم لفظين فقط وإن ما زاد على لفظين فهو أدلة لا دليل واحد لأن ذلك اللفظ الموصوف بصفات تحتاج كل صفة إلى دليل قيل لكم وكذلك يمكن أن يقال في اللفظين هما دليلان لا دليل واحد فان كل مقدمة تحتاج إلى دليل. وحينئذ فتخصيص العدد باثنين دون ما زاد تحكم لا معنى له فانه إذا كان المقصود قد يحصل بلفظ مفرد وقد لا يحصل إلا بلفظين وقد لا يحصل إلا بثلاثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 أو أربعة وأكثر فجعل الجاعل اللفظين هما الأصل الواجب دون ما زاد وما نقص وان الزائد أن كان في المطلوب جعل مطالب متعددة وان كان في الدليل يذكر مقدمات جعل ذلك في تقدير أقيسة متعددة تحكم محض ليس هو أولى من أن يقال بل الأصل في المطلوب أن يكون واحدا ودليله جزء واحد فإذا زاد المطلوب على ذلك جعل مطلوبين أو ثلاثة أو أربعة بحسب زيادته وجعل الدليل دليلين أو ثلاثة أو أربعة بحسب دلالته وهذا إذا قيل فهو أحسن من قولهم لأن اسم الدليل مفرد فيجعل معناه مفردا والقباس هو الدليل ولفظ القياس يقتضى التقدير كما يقال قست هذا بهذا والتقدير يحصل بواحد كما يحصل باثنين وبثلاثة فأصل التقدير بواحد وإذا قدر باثنين أو ثلاثة يكون تقديرين وثلاثة لا تقديرا واحدا فكون تلك التقديرات أقيسة لا قياسا واحدا. فجعلهم ما زاد على الاثنين من المقدمات في معنى أقيسة متعددة وما نقص عن الاثنتين نصف قياس لا قياس تام اصطلاح محض لا يرجع إلى معنى معقول كما فرقوا بين الصفات الذاتية والعرضية اللازمة ل الماهية والوجود بمثل هذا التحكم. تنازع اصطلاحي في مسمى العلة والدليل:. وحينئذ فيعلم أن القوم لم يرجعوا فيما سموه حدا وبرهانا إلى حقيقة موجودة ولا إلى أمر معقول بل إلى اصطلاح مجرد كتنازع الناس في العلة هل هي اسم لما يستلزم المعلوم بحيث لا يختلف عنها بحال فلا يقبل النقيض والتخصيص أو هو اسم لما يكون مقتضيا للمعلول وقد يتخلف عنه المعلول لفوات شرط أو وجود مانع وكاصطلاح بعض أهل النظر والجدل في تسمية احدهم الدليل ل ما هو مستلزم للمدلول مطلقا حتى يدخل في ذلك عدم المعارض والآخر يسمى الدليل ل ما كان من شأنه أن يستلزم المدلول وإنما يتخلف استلزامه لفوات شرط أو وجود مانع وتنازع أهل الجدل هل على المستدل أن يتعرض في ذكر الدليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 لتبيين المعارض جملة أو تفصيلا حيث يمكن التفصيل أو لا يتعرض لتبيينه لا جملة ولا تفصيلا أو يتعرض لتبيينه جملة لا تفصيلا. وهذه أمور وضعية اصطلاحية بمنزلة الألفاظ التي يصطلح عليها الناس للتعبير عما في أنفسهم وبمنزلة ما يعتاده الناس في بعض الأفعال لكونهم رأوا ذلك أولى بهم من غيره وإن كان غيره أولى منه ليست حقائق ثابتة في أنفسها لأمور معقولة يتفق فيها الأمم كما يدعيه هؤلاء في منطقهم. بل هؤلاء الذين يجعلون العلة والدليل يراد به هذا أو هذا أقرب إلى المعقول من جعل هؤلاء الدليل لا يكون إلا من مقدمتين فان هذا تخصيص لعدد دون عدد بلا موجب وأولئك لحظوا صفات ثابتة في العلة والدليل وهو وصف التمام أو مجرد الاقتضاء فكان ما اعتبره أولئك أولى بالحق والعقل مما اعتبره هؤلاء الذين لم يرجعوا إلا إلى مجرد التحكم. المنطق أمر اصطلاحي وضعه رجل من اليونان: ولهذا كان العقلاء العارفون يصفون منطقهم بأنه أمر اصطلاحي وضعه رجل من اليونان لا يحتاج إليه العقلاء ولا طلب العقلاء للعلم موقوفا عليه كما ليس موقوفا على التعبير بلغاتهم مثل فيلاسوفيا وسوفسطيقا وانولوطيقا وإثولوجيا وقاطيغورياس وإيساغوجى ومثل تسميتهم للفعل ب الكلمة وللحرف ب الأداة ونحو ذلك من لغاتهم التي يعبرون بها عن معانيهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 تعلم العربية فرض على الكفاية بخلاف المنطق: فلا يقول احد أن سائر العقلاء يحتاجون إلى هذه اللغة لا سيما من كرمه الله بأشرف اللغات الجامعة لأكمل مراتب البيان المبينة لما تتصوره الأذهان بأوجز لفظ وأكمل تعريف. وهذا ما احتج به أبو سعيد السيرافي في مناظرته المشهورة لمتى الفيلسوف لما اخذ متى يمدح المنطق ويزعم احتياج العقلاء إليه ورد عليه أبو سعيد بعدم الحاجة إليه وأن الحاجة إنما تدعو إلى تعلم العربية لأن المعاني فطرية عقلية لا تحتاج إلى اصطلاح خاص بخلاف اللغة المتقدمة التي يحتاج إليها في معرفة ما يجب معرفته من المعاني فانه لا بد فيها من التعلم ولهذا كان تعلم العربية التي يتوقف فهم القران والحديث عليها فرضا على الكفاية بخلاف المنطق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 بطلان القول بأن تعلم المنطق فرض على الكفاية: ومن قال من المتأخرين: "أن تعلم المنطق فرض على الكفاية" فانه يدل على جهلة بالشرع وجهله بفائدة المنطق وفساد هذا القول معلوم بالاضطرار من دين الإسلام وأجهل منه من قال أنه فرض على الأعيان مع أن كثيرا من هؤلاء ليسوا مقرين بإيجاب ما أوجبه الله ورسوله وتحريم ما حرمه الله ورسوله. ومعلوم أن أفضل هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين عرفوا ما يجب عليهم وكمل علمهم وإيمانهم قبل أن يعرف منطق اليونان فكيف يقال: أنه لا يوثق بالعلم أن لم يوزن به أو يقال أن فطر بني آدم في الغالب لا تستقيم إلا به. فان قالوا نحن لا نقول أن الناس يحتاجون إلى اصطلاح المنطق بل إلى المعاني التي توزن بها العلوم قيل لا ريب أن المجهولات لا تعرف إلا بالمعلومات والناس يحتاجون إلى أن يزنوا ما جهلوه بما علموه وهذا من الموازين التي انزلها الله حيث قال الله: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} وهذا موجود عند أمتنا وغير أمتنا ممن لم يسمع قط بمنطق اليونان فعلم أن الأمم غير محتاجة إليه. ملخص دعاوى أهل المنطق وكذبها: وهم لا يدعون احتياج الناس إلى نفس ألفاظ اليونان بل يدعون الحاجة إلى المعاني المنطقية التي عبروا عنها بلسانهم وهو كلامهم في المعقولات الثانية فان موضوع المنطق هو المعقولات الثانية من حيث يتوصل بها إلى علم ما لم يعلم فانه ينظر في أحوال المعقولات الثابتة وهي النسب الثابتة للماهيات من حيث هي مطلقة عرض لها أن كانت موصولة إلى تحصيل ما ليس بحاصل أو معينة في ذلك لا على وجه جزئي بل على قانون كلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ويدعون أن صاحب المنطق ينظر في جنس الدليل كما أن صاحب أصول الفقه ينظر في الدليل الشرعي ومرتبته فيميز بين ما هو دليل شرعي وما ليس بدليل شرعي وينظر في مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح عند التعارض وهم يزعمون أن صاحب المنطق ينظر في الدليل المطلق الذي هو أعم من الشرعي ويميز بين ما هو دليل وما ليس بدليل. ويدعون أن نسبة منطقهم إلى المعاني كنسبة العروض إلى الشعر وموازين الأموال إلى الأموال وموازين الأوقات إلى الأوقات وكنسبة الذراع إلى المذروعات. وهذا هو الذي قاله جمهور علماء المسلمين وغيرهم من العقلاء أنه باطل فان منطقهم لا يميز بين الدليل وغير الدليل لا في صورة الدليل ولا في مادته ولا يحتاج أن يوزن به المعاني بل ولا يصح وزن المعاني به على ما هو عليه وإن كان فيه ما هو حق فلا بد في كلام كل مصنف من حق بل فيه أمور باطلة إذا وزنت بها العلوم أفسدتها. ودعواهم أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره دعوى كاذبة بل من أكذب الدعاوى. والكلام معهم إنما هو في المعاني التي وضعوها في المنطق وزعموا أن التصورات المطلوبة لا تنال إلا بها والتصديقات المطلوبة لا تنال إلا بها فذكروا لمنطقهم أربع دعاوى دعوتان سالبتان ودعوتان موجبتان. أدعوا أنه لا تنال التصورات بغير ما ذكروه فيه من الطريق وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 التصديقات لا تنال بغير ما ذكروه فيه من الطريق وهاتان الدعوتان من أظهر الدعاوي كذبا وادعوا أن ما ذكروه من الطريق يحصل به تصور الحقائق التي لم تكن متصورة وهذا أيضا باطل وقد تقدم البينة على هذه الدعاوى الثلاثة وسيأتي الكلام على دعواهم الرابعة التي هي امثل من غيرها وهى دعواهم أن برهانهم يفيد العلم التصديقى. فان قالوا أن العلم التصديقي أو التصوري أيضا لا ينال بدونه فهم ادعوا أن طرق العلم على عقلاء بني آدم مسدودة إلا من الطريقين اللتين ذكروهما ما ذكروه من الحد وما ذكروه من القياس وادعوا أن ما ذكروه من الطريقين يوصلان إلى العلوم التي ينالها بنو آدم بعقولهم بمعنى أن ما يوصل لا بد أن يكون على الطريق الذي ذكروه لا على غيره فما ذكروه آلة قانونية به توزن الطرق العلمية ويميز به بين الطريق الصحيحة والفاسدة فمراعاة هذا القانون يعصم الذهن أن يزل في الفكر الذي ينال به تصور أو تصديق. هذا ملخص دعاويهم وكل هذه الدعاوى كذب في النفي والإثبات فلا ما نفوه من طرق غيرهم كلها باطل ولا ما أثبتوه من طرقهم كلها حق على الوجه الذي ادعوه فيه وإن كان في طرقهم ما هو حق كما أن في طرق غيرهم ما هو باطل فما احد منهم ولا من غيرهم يصنف كلاما إلا ولا بد أن يتضمن ما هو حق. ما معهم من الحق أقل مما مع اليهود والنصارى والمشركين: فمع اليهود والنصارى من الحق بالنسبة إلى مجموع ما معهم أكثر مما مع هؤلاء من الحق بل ومع المشركين عباد الأصنام من العرب ونحوهم من الحق أكثر مما مع هؤلاء بالنسبة إلى ما معهم في مجموع فلسفتهم النظرية والعلمية الأخلاق والمنازل والمداين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ولهذا كان اليونان مشركين كفارا يعبدون الكواكب والأصنام شرا من اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل بكثير ولولا أن الله من عليهم بدخول دين المسيح إليهم فحصل لهم من الهدى والتوحيد وما استفادوه من دين المسيح ما داموا متمسكين بشريعته قبل النسخ والتبديل لكانوا من جنس أمثالهم من المشركين. ثم لما غيرت ملة المسيح صاروا على دين مركب من حنيفية وشرك بعضه حق وبعضه باطل وهو خير من الدين الذي كان عليه أسلافهم. وقد قيل أن آخر ملوكهم كان صاحب المجسطى بطلميوس. والمشهور المتواتر أن أرسطو وزير الاسكندر بن فيلبس كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة وكثير من الجهال يحسب أن هذا هو ذو القرنين المذكور في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 القرآن ويعظم أرسطو بكونه كان وزيرا له كما ذكر ذلك ابن سينا وأمثاله من الجهال بأخبار الأمم. مقالات سخيفة للمتفلسفة والمتصوفة في الأنبياء المرسلين: ومن ملاحدة المتصوفة من يزعم أن أرسطو كان هو الخضر خضر موسى. وهؤلاء منهم من يفضل الفلاسفة على الأنبياء في العلم ويقول أن هارون كان أعلم من موسى وإن عليا كان أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم كما يزعمون أن الخضر كان أعلم من موسى وأن عليا وهارون والخضر كانوا فلاسفة يعلمون الحقائق العقلية العلمية أكثر من موسى وعيسى ومحمد لكن هؤلاء كانوا في القوة العلمية أكمل ولهذا وضعوا الشرائع العلمية. وهؤلاء يفضلون فرعون على موسى ويسمونه أفلاطن القبطي وقد يقولون أن صاحب مدين الذي تزوج موسى بنته هو أفلاطن اليوناني أستاذ أرسطو ويقولون أن موسى كان أعلم من غيره بالسحر وإنه استفاد ذلك من حموه إذ كان عندهم ليست المعجزات إلا قوى نفسانية أو طبيعية أو فلكية من جنس السحر ولكن موسى كان مبرزا على غيره في ذلك. إلى أمثال ذلك من المقالات التي تقولها الملاحدة المتفلسفة المنتمون إلى الإسلام في الظاهر من متشيع ومتصوف كابن سبعين وابن عربي وأصحابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ولهم من هذا الجنس ما يطول حكايته مما يدل على أنهم من اجهل الناس بالمعقول والمنقول ولم يكفهم جهلهم بما جاءت به النبوات حتى ضموا إلى ذلك الجهل بأخبار العالم وأيام الناس والجهل بالعقليات. فان أفلاطن أستاذ أرسطو كان قبل المسيح بأقل من أربعمائة سنة وذلك بعد موسى بمدة طويلة تزيد على فكيف يتعلم منه. إبطال القول بحياة الخضر: وقولهم أن الخضر هو أرسطو من اظهر الكذب البارد والخضر على الصواب مات قبل ذلك بزمان طويل والذين يقولون أنه حي كبعض العباد وبعض العامة وكثير من اليهود والنصارى غالطون في ذلك غلطا لا ريب فيه. وسبب غلطهم أنهم يرون في الأماكن المنقطعة وغيرها من يظن أنه من الزهاد ويقول أنا الخضر وقد يكون ذلك شيطانا قد يتمثل بصورة آدمي. وهذا مما علمنا في وقائع كثيرة حتى في مكان الذي كتبت فيه هذا عند الربوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 بدمشق رأى شخص بين الجبلين صورة رجل قد سد ما بين الجبلين وبلغ رأسه راس الجبل وقال أنا الخضر وأنا نقيب الأولياء وقال للرجل الرائي أنت رجل صالح وأنت ولي الله ومد يده إلى فأس كان الرجل نسيه في مكان وهو ذاهب إليه فناوله اياه وكان بينه وبين ذلك المكان نحو ميل ومثل هذه الحكاية كثير. وكل من قال أنه رأى الخضر وهو صادق أما أن يتخيل له في نفسه أنه رآه ويظل ما في نفسه كان في الخارج كما يقع لكثير من أرباب الرياضات وأما أن يكون جنيا يتصور له بصورة إنسان ليضله وهذا كثير جدا قد علمنا منه ما يطول وصفه وأما أن يكون رأى انسيا ظن أنه الخضر وهو غالط في ظنه فان قال له ذلك الجني أو الإنسي أنه الخضر فيكون قد كذب عليه لا يخرج الصدق في هذا الباب عن هذه الأقسام الثلاثة. وأما الأحاديث فكثيرة ولهذا لم ينقل عن احد من الصحابة أنه رأى الخضر ولا اجتمع به لأنهم كانوا أكمل علما وإيمانا من غيرهم فلم يكن يمكن الشيطان التلبيس عليهم كما لبس على كثير من العباد ولهذا كثير من الكفار اليهود والنصارى يأتيهم من يظنون أنه الخضر ويحضر في كنائسهم وربما حدثهم بأشياء وإنما هو شيطان جاء إليهم فيضلهم. ولو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيؤمن به ويجاهد معه كما اخذ الله الميثاق على الأنبياء وأتباعهم بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} والخضر قد أصلح السفينة لقوم من عرض الناس فكيف لا يكون بين محمد وأصحابه. وهو أن كان نبيا فنبينا أفضل منه وان لم يكن نبيا فأبو بكر وعمر أفضل منه وهذا مبسوط في موضعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 حقيقة شخصيات أرسطو والاسكندر وذي القرنين: وكلامنا هنا في ضلال هؤلاء المتفلسفة الذين يبنون ضلالهم بضلال غيرهم فيتعلقون بالكذب في المنقولات وبالجهل في المعقولات كقولهم أن أرسطو وزير ذي القرنين المذكور في القرآن لأنهم سمعوا أنه كان وزير الاسكندر وذو القرنين يقال له الاسكندر. وهذا من جهلهم فان الاسكندر الذي وزر له أرسطو هو ابن فيلبس المقدوني الذي يؤرخ له تاريخ الروم المعروف عند اليهود والنصارى وهو إنما ذهب إلى ارض القدس لم يصل إلى السد عند من يعرف أخباره وكان مشركا يعبد الأصنام وكذلك أرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام. وذو القرنين كان موحدا مؤمنا بالله وكان متقدما على هذا ومن يسميه الاسكندر يقول هو الاسكندر بن دارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ولهذا كان هؤلاء المفلسفة إنما راجوا على ابعد الناس عن العقل والدين كالقرامطة والباطنية الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض وكجهال المتصوفة وأهل الكلام وإنما ينفقون في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والإيمان أما كفارا وأما منافقين كما نفق منهم من نفق على المنافقين الملاحدة ثم نفق على المشركين الترك وكذلك إنما ينفقون دائما على اعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين. مزيد الكلام على تحديدهم الاستدلال بمقدمتين فقط: وكلامنا الآن فيما احتجوا به على أنه لا بد في الدليل من مقدمتين لا أكثر ولا أقل وقد عرف ضعفه. ثم أنهم لما علموا أن الدليل قد يحتاج إلى مقدمات وقد يكفى فيه مقدمة واحدة قالوا أنه ربما أدرج في القياس قول زائد أي مقدمة ثالثة زائدة على مقدمتين لغرض فاسد أو صحيح كبيان المقدمتين ويسمونه المركب قالوا ومضمونه أقيسة متعددة سيقت لبيان مطلوب واحد إلا أن المطلوب منها بالذات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ليس إلا واحدا قالوا وربما حذفت إحدى المقدمات أما للعلم بها أو لغرض فاسد وقسموا المركب إلى مفصول وموصول كما تقدم. فيقال هذا اعتراف منكم بان من المطالب ما يحتاج إلى مقدمات ومنها ما يكفى فيه مقدمة واحدة ثم قلتم أن ذلك الذي يحتاج إلى مقدمات هو في معنى أقيسة متعددة فيقال لكم إذا ادعيتم أن الذي لا بد منه إنما هو قياس واحد يشتمل على مقدمتين وان ما زاد على ذلك هو في معنى أقيسة كل قياس لبيان مقدمة من المقدمات فقولوا أن الذي لا بد منه هو مقدمة واحدة وان ما زاد على تلك المقدمة من المقدمات فإنما هو لبيان تلك المقدمة. وهذا أقرب إلى المعقول فانه إذا لم يعلم ثبوت الصفة للموصوف وهو ثبوت الحكم للمحكوم عليه وهو ثبوت الخبر للمبتدأ أو المحمول للموضوع إلا بوسط بينهما هو الدليل فالذي لا بد منه هو مقدمة واحدة وما زاد على ذلك فقد يحتاج إليه وقد لا يحتاج إليه. وأما دعوى الحاجة إلى القياس الذي هو المقدمتان للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب فهو كدعوى الاحتياج في بعضها إلى ثلاث مقدمات وأربع وخمس للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب وليس تقدير عدد بأولى من عدد وما يذكرونه من حذف إحدى المقدمتين لوضوحها أو للتغليط يوجد مثله في حذف الثالثة والرابعة. ومن احتج على مسألة بمقدمة لا تكفي وحدها في بيان المطلوب أو مقدمتين أو ثلاثة لا تكفي طولب بالتمام الذي يحصل به الكفاية وإذا ذكرت المقدمات منع منها ما يقبل المنع وعورض منها ما يقبل المعارضة حتى يتم الاستدلال كمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 طلب منه الدليل على تحريم شراب خاص حين قال هذا حرام فقيل له لم قال لأنه نبيذ مسكر فهذه المقدمة كافية أن كان المستمع ممن يعلم أن كل مسكر حرام إذا سلم له تلك المقدمة. وان منعه إياها وقال لا نسلم أن هذا مسكر احتاج إلى بيانها بخبر من يوثق بخبره أو بالتجربة في نظيرها وهذا قياس تمثيل وهو مفيد لليقين فان الشراب الكثير إذا جرب بعضه وعلم أنه مسكر علم أن الباقي منه مسكر لأن حكم بعضه مثل بعض وكذلك سائر القضايا التجربية كالعلم بأن الخبز يشبع والماء يروي وأمثال ذلك إنما مبناها على قياس التمثيل بل وكذلك سائر الحسيات التي علم أنها كلية إنما هو بواسطة قياس التمثيل. وان كان ممن ينازعه في أن النبيذ المسكر حرام احتاج إلى مقدمتين إلى إثبات أن هذا مسكر والى أن كل مسكر خمر فيثبت الثانية بأدلة متعددة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر" و"كل شراب اسكر فهو حرام " وبأنه سئل عن شراب يصنع من العسل يقال له البتع وشراب يصنع من الذرة يقال له المزر وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال: " كل مسكر حرام" وهذه الأحاديث في الصحيح وهي وأضعافها معروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أنه حرام كل شراب اسكر. فان قال أنا اعلم أنه خمر لكن لا اسلم أن الخمر حرام أو لا اسلم أنه حرام مطلقا اثبت هذه المقدمة الثالثة وهلم جرا. مزيد البيان أن المقدمة الواحدة قد تكفي: ومما يبين لك أن المقدمة الواحدة قد تكفي في حصول المطلوب أن الدليل هو ما يستلزم الحكم المدلول عليه كما تقدم بيانه ولما كان الحد الأول مستلزما للأوسط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 والأوسط للثالث ثبت أن الأول مستلزم للثالث فان ملزوم الملزوم ملزوم ولازم اللازم لازم فالحكم لازم من لوازم الدليل لكن لم يعرف لزومه إياه إلا بوسط بينهما والوسط ما يقرن بقولك لأنه. وهذا مما ذكره المنطقيون ابن سينا وغيره ذكروا الصفات اللازمة للموصوف وان منها ما يكون بين اللزوم وردوا بذلك على من فرق من أصحابهم بين الذاتي واللازم للماهية بأن اللازم ما افتقر إلى وسط بخلاف الذاتي فقالوا له كثير من الصفات اللازمة لا يفتقر إلى وسط وهي البينة اللزوم والوسط عند هؤلاء هو الدليل. وأما ما ظنه بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطا في نفس الأمر بين اللازم القريب واللازم البعيد فهذا خطا ومع هذا يتبين حصول المراد على التقديرين فنقول. إذا كانت اللوازم منها ما لزومه للملزوم بين بنفسه لا يحتاج إلى دليل يتوسط بينهما فهذا نفس تصوره وتصور الملزوم يكفي في العلم بثبوته له وإذا كان بينهما وسط فذاك الوسط إذا كان لزومه للملزوم الأول ولزوم الثاني له بينا لم يفتقر إلى وسط ثان. وان كان احد الملزومين غير بين بنفسه احتاج إلى وسط وان لم يكن واحد منهما بينا احتاج إلى وسطين وهذا الوسط هو حد تكفي فيه مقدمة واحدة. فإذا طلب الدليل على تحريم النبيذ المسكر فقيل لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر خمر أو كل مسكر حرام" فهذا الوسط وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يفتقر عند المؤمن لزوم تحريم المسكر له إلى وسط ولا يفتقر لزوم تحريم النبيذ المتنازع فيه لتحريم المسكر إلى وسط فان كل احد يعلم أنه إذا حرم كل مسكر حرم النبيذ المسكر المتنازع فيه وكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 مؤمن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حرم شيئا حرم. ولو قال الدليل على تحريمه أنه مسكر فالمخاطب أن كان يعرف أن ذلك مسكر والمسكر محرم سلم له التحريم ولكنه كان غافلا عن كونه مسكرا أو جاهلا بكونه مسكرا. وكذلك إذا قال لأنه خمر فان اقر أنه خمر ثبت التحريم وإذا اقر بعد إنكاره فقد يكون كان جاهلا فعلم أو غافلا فذكر فليس كل من علم شيئا كان ذاكرا له. الخلاف في أن العلم بالمقدمتين كاف في العلم بالنتيجة أم لا: ولهذا تنازع هؤلاء المنطقيون في العلم بالمقدمتين هل هو كاف في العلم بالنتيجة أم لا بد من التفطن لأمر ثالث وهذا الثاني هو قول ابن سينا وغيره قالوا لأن الإنسان قد يكون عالما ب أن البغلة لا تلد ثم يغفل عن ذلك ويرى بغلة منتفخة البطن فيقول أهذه حامل أم لا فيقال له أما تعلم أنها بغلة فيقول بلى ويقال له أما تعلم أن البغلة لا تلد فيقول بلى قال فحينئذ يتفطن لكونها لا تلد. ونازعه الرازي وغيره وقالوا هذا ضعيف لأن اندراج إحدى المقدمتين تحت الأخرى أن كان مغايرا للمقدمتين كان ذلك مقدمة أخرى لا بد فيها من الإنتاج ويكون الكلام في كيفية التيامها مع الأوليين كالكلام في كيفية التيام الأوليين ويفضى ذلك إلى اعتبار ما لا نهاية له من المقدمات وان لم يكن ذلك معلوما مغايرا للمقدمتين استحال أن يكون شرطا في الإنتاج لأن الشرط مغاير للمشروط وهنا لا مغايرة فلا يكون شرطا وأما حديث البغلة فذلك إنما يمكن إذا كان الحاضر في الذهن إحدى المقدمتين فقط أما الصغرى وأما الكبرى وأما عند اجتماعهما في الذهن فلا نسلم أنه يمكن الشك أصلا في النتيجة. قلت: وحقيقة الأمر أن هذا النزاع لزمهم في ظنهم الحاجة إلى مقدمتين فقط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وليس الأمر كذلك بل المحتاج إليه هو ما به يعلم المطلوب سواء كانت مقدمة أو اثنتين أو ثلاثا والمغفول عنه ليس بمعلوم حال الغفلة فإذا تذكر صار معلوما بالفعل وهنا الدليل هو العلم بأن البغلة لا تحبل وهذه المقدمة كان زاهلا عنها فلم يكن عالما بها العلم الذي يحصل به الدلالة فان المغفول عنه لا يدل حين ما يكون مغفولا عنه بل إنما يدل حال كونه مذكورا إذ هو بذلك يكون معلوما علما حاضرا. والرب تعالى منزه عن الغفلة والنسيان لأن ذلك يناقض حقيقة العلم كما أنه منزه عن السنة والنوم لأن ذلك يناقض كمال الحياة والقيومية فان النوم اخو الموت ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون كما لا يموتون وكانوا يلهمون التسبيح كما يلهم احدنا النفس. والمقصود هنا أن وجه الدليل العلم بلزوم المدلول له سواء سمي استحضارا أو تفطنا أو غير ذلك فمتى استحضر في ذهنه لزوم المدلول له علم أنه دال عليه وهذا اللزوم أن كان بينا له وإلا فقد يحتاج في بيانه إلى مقدمة أو ثنتين أو ثلاثة أو أكثر. والأوساط تتنوع بتنوع الناس فليس ما كان وسطا مستلزما للحكم في حق هذا هو الذي يجب أن يكون وسطا في حق الآخر بل قد يحصل له وسط آخر. فالأوساط هو الدليل وهو الواسطة في العلم بين اللازم والملزوم وهما المحكوم والمحكوم عليه فان الحكم لازم للمحكوم عليه ما دام حكما له والأواسط التي هي الأدلة مما يتنوع ويتعدد بحسب ما يفتحه الله للناس من الهداية كما إذا كان الوسط خبر صادق فقد يكون الخبر لهذا غير الخبر لهذا. وإذا رأى الناس الهلال وثبت عند دار السلطان وتفرق الناس فأشاعوا ذلك في البلد فكل قوم يحصل لهم العلم بخبر من غير المخبرين الذين اخبروا غيرهم. والقران والسنة الذي بلغه الناس عن الرسول بلغ كل قوم بوسائط غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وسائط غيرهم لا سيما في القرن الثاني والثالث فهؤلاء هم مقرئون ومعلمون وهؤلاء مقرئون ومعلمون وهؤلاء هم وسائط وهم الأواسط بينهم وبين معرفة ما قاله الرسول وفعله وهم الذين دلوهم على ذلك بإخبارهم وتعليمهم. وكذلك المعلومات التي تنال بالعقل أو الحس إذا نبه عليها منه وارشد إليها مرشد فذلك أيضا مما يختلف ويتنوع ونفس الوسائط العقلية تتنوع وتختلف. وأما من جعل الوسط في اللوازم هو وسطا في نفس ثبوتها للموصوف فهذا باطل من وجوه كما قد بسط في موضعه وبتقدير صحته فالوسط الذهني اعم من الخارجي كما أن الدليل اعم من العلة فكل علة يمكن الاستدلال بها على المعلول وليس كل دليل يكون علة في نفس الأمر. وكذلك ما كان متوسطا في نفس الأمر أمكن جعله متوسطا في الذهن فيكون دليلا ولا ينعكس لأن الدليل هو ما كان مستلزما للمدلول فالعلة المستلزمة للمعلول يمكن الاستدلال بها والوسط الذي يلزم الملزوم ويلزمه اللازم البعيد هو مستلزم لذلك اللازم فيمكن الاستدلال به. فتبين أنه على كل تقدير يمكن الاستدلال على المطلوب بمقدمة واحدة إذا لم يحتج إلى غيرها وقد لا يمكن إلا بمقدمات فيحتاج إلى معرفتهن وان تخصيص الحاجة بمقدمتين دون ما زاد وما نقص تحكم محض. لا يلتزم الاستدلال بمقدمتين فقط إلا أهل المنطق: ولهذا لا تجد في سائر طوائف العقلاء ومصنفي العلوم من يلتزم في استدلاله البيان بمقدمتين لا أكثر ولا أقل ويجتهد في رد الزيادة إلى ثنتين وفي تكميل النقص بجعله مقدمتين إلا أهل منطق اليونان ومن سلك سبيلهم دون من كان باقيا على فطرته السليمة أو سلك مسلك غيرهم كالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وسائر أئمة المسلمين وعلمائهم ونظارهم وسائر طوائف الملل. وكذلك أهل النحو والطب والهندسة لا يدخل في هذا الباب إلا من اتبع في ذلك هؤلاء المنطقيين كما قلدوهم في الحدود المركبة من الجنس والفصل وما استفادوا بما تلقوه عنهم علما إلا علما يستغني عن باطل كلامهم أو ما يضر ولا ينفع لما فيه من الجهل أو التطويل الكثير. ولهذا لما كان الاستدلال تارة يقف على مقدمة وتارة على مقدمتين وتارة على مقدمات كانت طريقة نظار المسلمين أن يذكروا من الأدلة على المقدمات ما يحتاجون إليه ولا يلتزمون في كل استدلال أن يذكروا مقدمتين كما يفعله من يسلك سبيل المنطقيين بل كتب نظار المسلمين وخطبائهم وسلوكهم في نظرهم لأنفسهم ومناظرتهم لغيرهم تعليما وإرشادا ومجادلة على ما ذكرت وكذلك سائر أصناف العقلاء من أهل الملل وغيرهم إلا من سلك طريق هؤلاء. وما زال نظار المسلمين يعيبون طريق أهل المنطق ويبينون ما فيها من العي واللكنة وقصور العقل وعجز النطق ويبينون أنها إلى إفساد المنطق العقلي واللساني أقرب منها إلى تقويم ذلك ولا يرضون أن يسلكوها في نظرهم ومناظرتهم لا مع من يوالونه ولا مع من يعادونه. الإمام الغزالي وعلم المنطق: وإنما كثر استعمالها من زمن أبي حامد فانه ادخل مقدمة من المنطق في أول كتابه المستصفى وزعم أنه لا يثق بعلمه إلا من عرف هذا المنطق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وصنف فيه معيار العلم ومحك النظر. وصنف كتابا سماه القسطاس المستقيم ذكر فيه خمس موازين الضروب الثلاثة الحمليات والشرطي المتصل والشرطي المنفصل وغير عبارتها إلى أمثلة أخذها من كلام المسلمين وزعم أنه اخذ تلك الموازين من الأنبياء وذكر أنه خاطب بذلك بعض أهل التعليم. وصنف كتابا في مقاصدهم وصنف كتابا في تهافتهم وبين كفرهم بسبب مسألة قدم العالم وإنكار العلم بالجزئيات وإنكار المعاد. وبين في آخر كتبه أن طريقهم فاسدة لا توصل إلى يقين وذمها أكثر مما ذم طريقة المتكلمين لكن بعد أن أودع كتبه المضنون بها على غير أهلها وغيرها من معاني كلامهم الباطل المخالف لدين المسلمين ما غير عبارته وعبر عنه بعبارة المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 التي لم يريدوا بها ما أراده كما يأخذ لفظ الملك والملكوت والجبروت. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة والجبروت والملكوت فعلوت الجبر والملك كالرحموت والرغبوت والرهبوت فعلوت من الرحمة والرغبة والرهبة والعرب تقول رهبوت خير من رحموت أي أن ترهب خير من أن ترحم. ف الجبروت والملكوت يتضمن من معاني أسماء الله تعالى وصفاته ما دل عليه معنى الملك الجبار وأبو حامد يجعل عالم الملك عالم الأجسام وعالم الملكوت والجبروت عالم النفس والعقل ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لم يقصدوا بهذا اللفظ هذا. بل ما يثبته المتفلسفة من العقل باطل عند المسلمين بل هو من أعظم الكفر فان العقل الأول عندهم مبدع كل ما سوى الله والعقل العاشر مبدع ما تحت فلك القمر وهذا من أعظم الكفر عند المسلمين واليهود والنصارى. والعقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا وهو أيضا غريزة في الإنسان فمسماه من باب الأعراض لا من باب الجواهر القائمة بأنفسها وعند المتفلسفة مسماه من النوع الثاني. والملائكة التي أخبرت بها الرسل وإن كان بعض من يريد بالجمع بين النبوة والفلسفة يقول أنها العقول فهذا من أبطل الباطل فبين ما وصف الله به الملائكة في كتابه وبين العقول التي يثبتها هؤلاء من الفروق ما لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته كما قد بسطنا ذلك في موضعه. والحديث الذي يروى أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتي ما خلقت خلقا أكرم على منك فبك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 آخذ وبك أعطى وبك الثواب وبك العقاب هو حديث موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك الدارقطني وبين من وضعه وكذلك ذكر ضعفه أبو حاتم بن حيان والعقيلي وابن الجوزي وغيرهم. ومع هذا فلفظه أول ما خلق الله العقل قال له فمدلوله أنه خاطبه في أول أوقاته خلقه ليس مدلوله أنه أول المخلوقات وفي تمامه أنه قال ما خلقت خلقا أكرم على منك فدل أنه خلق قبله غيره وفيه أنه مخلوق. وأبو حامد يفرق بين عالم الخلق وعالم الأمر فيجعل الأجسام عالم الخلق والنفوس والعقول عالم الأمر وهذا أيضا ليس من دين المسلمين بل كل ما سوى الله مخلوق عند المسلمين والله تعالى خالق كل شيء. وإذا ادعو أن العقول التي أثبتوها هي الملائكة في كلام الأنبياء فقد ثبت بالنص والإجماع أن الله خلق الملائكة بل خلقهم من مادة كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله الملائكة من نور وخلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم" فبين أن الملائكة مخلوقون من مادة موجودة قبلهم فأين هذا من قول من ينفى الخلق عنها ويقول أنها مبتدعة لا مخلوقة أو يقول أنها قديمة أزلية لم تكن من مادة أصلا وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر. والمقصود هنا أن كتب أبى حامد وإن كان يذكر فيها كثيرا من كلامهم الباطل أما بعبارتهم أو بعبارة أخرى فهو في آخر أمره يبالغ في ذمهم ويبين أن طريقهم متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها وفسادها أعظم من طريقة المتكلمين ومات وهو مشتغل ب البخاري ومسلم والمنطق الذي كان يقول فيه ما يقول ما حصل له مقصوده ولا أزال عنه ما كان فيه من الشك والحيرة بل كان متوقفا حائرا فيما هو من أعظم المطالب العالية الإلهية والمقاصد السامية الربانية ولم يغن عنه المنطق شيئا. ولكن بسبب ما وقع منه في أثناء عمره وغير ذلك صار كثير من النظار يدخلون المنطق اليوناني في علومهم حتى صار من يسلك طريق هؤلاء من المتأخرين يظن أنه لا طريق إلا هذا وأن ما ادعوه من الحد والبرهان هو أمر صحيح مسلم عند العقلاء ولا يعلم أنه ما زال العقلاء والفضلاء من المسلمين وغيرهم يعيبون ذلك ويطعنون فيه وقد صنف نظار المسلمين في ذلك مصنفات متعددة وجمهور المسلمين يعيبونه عيبا مجملا لما يرونه من آثاره ولوازمه الدالة على ما في أهله مما يناقض العلم والإيمان ويفضى بهم الحال إلى أنواع من الجهل والكفر والضلال. والمقصود هنا أن ما يدعونه من توقف كل مطلوب نظري على مقدمتين لا أكثر ليس كذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 دعواهم إضمار إحدى المقدمتين في قياس الضمير: وهم يسمون القياس الذي حذفت إحدى مقدمتيه قياس الضمير ويقولون أنها قد تحذف أما للعلم بها وأما غلطا وأما تغليطا. فيقال إذا كانت معلومة كانت كغيرها من المقدمات المعلومة وحينئذ فليس إضمار مقدمة بأولى من إضمار ثنتين وثلاثة وأربعة فان جاز أن يدعى في الدليل الذي لا يحتاج إلا إلى مقدمة أن الأخرى مضمرة محذوفة جاز أن يدعى فيما يحتاج إلى ثنتين أن الثالثة محذوفة وكذلك فيما يحتاج إلى ثلاث وليس لذلك حد ومن تدبر هذا وجد الأمر كذلك وجود الركة والعى في كلام أهل المنطق: ولهذا لا يوجد في كلام البلغاء أهل البيان الذين يقيمون البراهين والحجج اليقينية بأبين العبارات من استعمال المقدمتين في كلامهم ما يوجد في كلام أهل المنطق بل من سلك طريقهم كان من المضيقين لطريق العلم عقولا وألسنة ومعانيهم من جنس ألفاظهم تجد فيها من الركة والعى ما لا يرضاه عأقل. وكان يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف الإسلام في وقته أعنى الفيلسوف الذي في الإسلام وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين كما قالوا لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا ابن سينا من فلاسفة الإسلام فقال ليس للإسلام فلاسفة كان يعقوب يقول في أثناء كلامه لعدم فقد وجود كذا وأنواع هذه الإضافات. ومن وجد في بعض كلامه فصاحة أو بلاغة كما يوجد في بعض كلام ابن سينا وغيره فلما استفاده من المسلمين من عقولهم وألسنتهم وإلا فلو مشى على طريقة سلفه وأعرض عما تعلمه من المسلمين لكان عقله ولسانه يشبه عقولهم وألسنتهم. التباس أمر المنطق على طائفة لم يتصوروا حقائقه: وهم أكثر ما ينفقون على من لا يفهم ما يقولونه ويعظمهم بالجهل والوهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أو يفهم بعض ما يقولونه أو أكثره أو كله مع عدم تصوره في تلك الحال لحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما يعرف بالعقول السليمة وما قاله سائر العقلاء مناقضا لما قالوه وهو إنما وصل إلى منتهى أمرهم بعد كلفة ومشقه واقترن بها حسن الظن فتورط من ضلالهم فيما لا يعلمه إلا الله. ثم أن تداركه الله بعد ذلك كما أصاب كثيرا من الفضلاء الذين أحسنوا بهم الظن ابتداء ثم انكشف لهم من ضلالهم ما أوجب رجوعهم عنهم وتبر أهم منهم بل وردهم عليهم وإلا بقى في الضلال. وضلالهم في الإلهيات ظاهر لأكثر الناس ولهذا كفرهم فيها نظار المسلمين قاطبة وإنما المنطق التبس الأمر فيه على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه ولم يعرفوا ما قال سائر العقلاء في تناقضهم فيه. واتفق أن فيه أمورا ظاهرة مثل الشكل الأول ولا يعرفون أن ما فيه من الحق لا يحتاج إليهم فيه بل طولوا فيه الطريق وسلكوا الوعر والضيق ولم يهتدوا فيه إلى ما يفيد التحقيق. وليس المقصود في هذا المقام بيان ما أخطأوا في إثباته بل ما أخطأوا في نفيه حيث زعموا أن العلم النظري لا يحصل إلا ببرهانهم وهو من القياس. تلازم قياس الشمول وقياس التمثيل وبيانه بالأمثلة: وجعلوا أصناف الحجج ثلاثة القياس والاستقراء والتمثيل وزعموا أن التمثيل لا يفيد اليقين وإنما يفيده القياس الذي تكون مادته من القضايا التي ذكروها. وقد بينا في غير هذا الموضع أن قياس التمثيل وقياس الشمول متلازمان وأن ما حصل بأحدهما من علم أو ظن حصل بالآخر مثله إذا كانت المادة واحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 والاعتبار بمادة العلم لا بصورة القضية بل إذا كانت المادة يقينية سواء كانت صورتها في صورة قياس التمثيل أو صورة قياس الشمول فهي واحدة وسواء كانت صورة القياس اقترانيا او استثنائيا بعبارتهم أو بأي عبارة شئت لا سيما في العبارات التي هي خير من عباراتهم وأبين في العقل وأوجز في اللفظ والمعنى واحد. وحد هذا في أظهر الأمثلة إذا قلت هذا إنسان وكل إنسان مخلوق أو حيوان أو حساس أو متحرك بالإرادة أو ناطق أو ما شئت من لوازم الإنسان فان شئت صورت الدليل على هذه الصورة وإن شئت قلت هو إنسان فهو مخلوق أو حساس أو حيوان أو متحرك كغيره من الناس لاشتراكهما في الإنسانية المستلزمة لهذه الصفات وإن شئت قلت هذا إنسان والإنسانية مستلزمة لهذه الأحكام فهي لازمة له وإن شئت قلت أن كان إنسانا فهو متصف بهذا الصفات اللازمة للإنسان وإن شئت قلت أما أن يتصف بهذه الصفات وأما أن لا يتصف والثاني باطل فتعين الأول لأن هذه لازمة للإنسان لا يتصور وجوده بدونها. الاستقراء ليس استدلالا بجزئي على كلي: وأما الاستقراء فإنما يكون يقينيا إذا كان استقراء تاما وحينئذ فتكون قد حكمت على القدر المشترك بما وجدته في جميع الأفراد وهذا ليس استدلالا يجزئى على كلى ولا بخاص على عام بل استدلال بأحد المتلازمين على الآخر فان وجود ذلك الحكم في كل فرد من أفراد الكلى العام يوجب أن يكون لازما لذلك الكلى العام. فقولهم أن هذا استدلال بخاص جزئي على عام كلي ليس بحق وكيف ذلك والدليل لا بد أن يكون ملزوما للمدلول فانه لو جاز وجود الدليل مع عدم المدلول عليه ولم يكن المدلول لازما له لم يكن إذا علمنا ثبوت ذلك الدليل نعلم ثبوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 المدلول معه إذا علمنا أنه تارة يكون معه وتارة لا يكون معه فانا إذا علمنا ذلك ثم قلنا أنه معه دائما كنا قد جمعنا بين النقيضين. وهذا اللزوم الذي نذكره هنا يحصل به الاستدلال بأي وجه حصل اللزوم وكلما كان اللزوم أقوى وأتم وأظهر كانت الدلالة أقوى وأتم وأظهر كالمخلوقات الدالة على الخالق سبحانه وتعالى فانه ما منها مخلوق إلا وهو ملزوم لخالقه لا يمكن وجوده بدون وجود خالقه بل ولا بدون علمه وقدرته ومشيئته وحكمته ورحمته فكل مخلوق دال على ذلك كله. وإذا كان المدلول لازما للدليل فمعلوم أن اللازم أما أن يكون مساويا للملزوم وأما أن يكون أعم منه فالدليل أما أن يكون مساويا للحكم المدلول في العموم والخصوص وأما أن يكون اخص منه لا يكون الدليل أعم منه. القياس استدلال بكلى على ثبوت كلى آخر لجزئيات ذلك الكلى: وإذا قالوا في القياس يستدل بالكلى على الجزئي فليس الجزئي هو الحكم المدلول عليه إنما الجزئي هو الموصوف المخبر عنه محل الحكم فهذا قد يكون أخص من الدليل وقد يكون مساويا له بخلاف الحكم الذي هو صفة هذا وحكمه الذي اخبر به عنه فانه لا يكون إلا اعم من الدليل أو مساويا له فان ذلك هو المدلول اللازم للدليل والدليل هو لازم المخبر عنه الموصوف. فإذا قيل النبيذ حرام لأنه خمر كونه خمرا هو الدليل وهو لازم للنبيذ والتحريم لازم للخمر. والقياس المؤلف من المقدمتين إذا قلت النبيذ المتنازع فيه مسكر أو خمر وكل مسكر أو كل خمر حرام فأنت لم تستدل ب المسكر أو الخمر الذي هو كلى على نفس محل النزاع الذي هو اخص من الخمر وهو النبيذ فليس هو استدلالا بذلك الكلى عل هذا الجزئي بل استدللت به على تحريم هذا النبيذ فلما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 تحريم هذا النبيذ مندرجا في تحريم كل مسكر قال من قال أنه استدلال بالكلى على الجزئي والتحقيق أن ما ثبت للكلى فقد ثبت لكل واحد من جزئياته والتحريم أعم من الخمر وهو ثابت لها فهو ثابت لكل فرد فرد من جزئياتها فهو استدلال بكلى على ثبوت كلى آخر لجزئيات ذلك الكلى وذلك الدليل هو كالجزئي بالنسبة إلى ذلك الكلى الذي هو الحكم وهو كلى بالنسبة إلى تلك الجزئيات التي هي المحكوم عليها. وهذا مما لا يتنازعون فيه فان الدليل هو الحد الأوسط وهو اعم من الأصغر أو مساو له والأكبر اعم منه أو مساو له والأكبر هو الحكم والصفة والخبر وهو محمول النتيجة والأصغر هو المحكوم عليه الموصوف المبتدأ وهو موضوع النتيجة. قياس التمثيل هو اشتراك الجزئيين في علة الحكم: وأما قولهم في التمثيل أنه استدلال بجزئي على جزئي فان أطلق ذلك وقيل أنه استدلال بمجرد الجزئي على الجزئي فهو غلط فان قياس التمثيل إنما يدل بحد أوسط وهو اشتراكهما في علة الحكم أو دليل الحكم مع العلة فانه قياس علة أو قياس دلالة. لا تعلم صحة القياس في قياس الشبه: وأما قياس الشبة فإذا قيل به لم يخرج عن أحدهما فان الجامع المشترك بين الأصل والفرع أما أن يكون هو العلة أو ما يستلزم العلة وما استلزمها فهو دليلها وإذا كان الجامع لا علة ولا ما يستلزم العلة لم يكن الاشتراك فيه مقتضيا للاشتراك في الحكم بل كان المشترك قد يكون معه العلة وقد لا يكون فلا يعلم حينئذ أن علة الأصل موجودة في الفرع فلا يعلم صحة القياس بل لا يكن صحيحا إلا إذا اشتركا فيها ونحن لا نعلم الاشتراك فيها إلا إذا علمنا اشتراكهما فيها أو في ملزومها فان ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم فإذا قدرنا أنهما لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 يشتركا في الملزوم ولا فيها كان القياس باطلا قطعا لأنه حينئذ تكون العلة مختصة بالأصل وإن لم يعلم ذلك لم تعلم صحة القياس. وقد يعلم صحة القياس بانتفاء الفارق بين الأصل والفرع وإن لم يعلم عين العلة ولا دليلها فانه يلزم من انتفاء الفارق اشتراكهما في الحكم. وإذا كان قياس التمثيل إنما يكون تاما بانتفاء الفارق وأما بإبداء جامع وهو كلى يجمعهما يستلزم الحكم وكل منهما يمكن تصويره بصورة قياس الشمول وهو يتضمن لزوم الحكم للكلى ولزوم الكلى لجزئياته وهذا حقيقة قياس الشمول ليس ذلك استدلالا بمجرد ثبوته لجزئي على ثبوته لجزئي آخر. فأما إذا قيل بما يعلم أن المشترك مستلزم الحكم قيل مما تعلم القضية الكبرى في القياس فبيان الحد الأوسط هو المشترك الجامع ولزوم الحد الأكبر له هو لزوم الحكم للجامع المشترك كما قد تقدم التنبيه على هذا. وقد يستدل بجزئي على جزئي إذا كانا متلازمين أو كان أحدهما ملزوم الآخر من غير عكس فان كان اللزوم عن الذات كانت الدلالة على الذات وإن كان في صفة أو حكم كانت الدلالة على الصفة والحكم. فقد تبين ما في حصرهم من الخلل وأما تقسيمهم إلى الأنواع الثلاثة فكلها تعود إلى ما ذكروه في استلزام الدليل للمدلول. عود الاقتراني والاستثنائي إلى معنى واحد: وما ذكروه في الاقتراني يمكن تصويره بصورة الاستثنائي وكذلك الاستثنائي يمكن تصويره بصورة الاقتراني فيعود الأمر إلى معنى واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وهو مادة الدليل والمادة لا تعلم من صور القياس الذي ذكروه بل من عرف المادة بحيث يعلم أن هذا مستلزم لهذا علم الدلالة سواء صورت بصورة القياس أو لم تصور وسواء عبر عنها بعباراتهم أو بغيرها بل العبارات التي صقلها عقول المسلمين وألسنتهم خير من عباراتهم بكثير كثير. والاقترانى كله يعود إلى لزوم هذا لهذا وهذا لهذا كما ذكر وهذا بعينه هو الاستثنائي المؤلف من المتصل والمنفصل. فان الشرطي المتصل استدلال باللزوم بثبوت الملزوم الذي هو المقدم وهو الشرط على ثبوت اللازم هو التالي وهو الجزاء أو بانتفاء اللازم وهو التالي الذي هو الجزاء على انتفاء الملزوم هو المقدم وهو الشرط. وأما الشرطي المنفصل وهو الذي يسميه الأصوليون السبر والتقسيم وقد تسميه أيضا الجدليون التقسيم والترديد فمضمونه الاستدلال بثبوت احد النقضين على انتفاء الآخر وبانتفائه على ثبوته أو الاستدلال بثبوت أحد الضدين على انتفاء الآخر وأقسامه أربعة ولهذا كان في مانعة الجمع والخلو الاستثناءات الأربعة وهو أنه أن ثبت هذا انتفى نقيضه وكذلك الآخر وإن انتفى هذا ثبت نقيضه وكذلك الآخر. ومانعة الجمع الاستدلال بثبوت احد الضدين على انتفاء الآخر والأمران متنافيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ومانعة الخلو فيها تناقض ولزوم والنقيضان لا يرتفعان فمنعت الخلو منهما ولكن جزاءها وجود شيء وعدم آخر ليس هو وجود الشيء وعدمه ووجود شيء وعدم آخر قد يكون أحدهما لازما للآخر وإن كانا لا يرتفعان لأن ارتفاعهما يقتضى ارتفاع وجود شيء وعدمه معا. مدار الاستدلال على مادة العلم لا على صورة القياس: وبالجملة ما من شيء إلا وله لازم لا يوجد بدونه وله مناف مضاد لوجوده فيستدل عليه بثبوت ملزومه وعلى انتفائه بانتفاء لازمه. ويستدل على انتفائه بوجود منافيه ويستدل بانتفاء منافيه على وجوده إذا انحصر الأمر فيهما فلم يمكن عدمهما جميعا كما لم يمكن وجودهما جمعيا. وهذا الاستدلال يحصل من العلم بأحوال الشيء وملزومها ولوازمها وإذا تصورته الفطرة عبرت عنه بأنواع من العبارات وصورته في أنواع من صور الأدلة لا يختص شيء من ذلك بالصورة التي ذكروها في القياس فضلا عما سموه البرهان فان البرهان شرطوا له مادة معينة وهي القضايا التي ذكروها واخرجوا من الأوليات ما سموه وهميات وما سموه مشهورات وحكم الفطرة بهما لا سيما بما سموه وهميات أعظم من حكمها بكثير من اليقينيات التي جعلوها مواد البرهان. وقد بسطت القول على هذا وبينت كلامهم في ذلك وتناقضهم وأن ما أخرجوه يخرج به ما ينال به اشرف العلوم من العلوم النطرية والعلوم العملية ولا يبقى بأيديهم إلا أمور مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان ولولا أن هذا الموضع لا يتسع لحكاية ألفاظهم في هذا وما أوردته عليهم لذكرته فقد ذكرت ذلك كله في مواضعه من العلوم الكلية والإلهية فإنها هي المطلوبة. والكلام في المنطق إنما وقع لما زعموا أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 يزل في فكره فاحتجنا أن ننظر في هذه الآلة هل هي كما قالوا أو ليس الأمر كذلك. تزييف القول بأن هذه علوم قد صقلتها الأذهان الخ: ومن شيوخهم من إذا بين له من فساد أقولهم ما يتبين به ضلالهم وعجز عن دفع ذلك يقول هذه علوم قد صقلتها الأذهان أكثر من ألف سنة وقبلها الفضلاء فيقال له عن هذا أجوبة. أحدها: أنه ليس الأمر كذلك فما زال العقلاء الذين هم أفضل من هؤلاء ينكرون عليهم ويبينون خطأهم وضلالهم. فأما القدماء فالنزاع بينهم كثير معروف وفي كتب أخبارهم ومقالاتهم من ذلك ما ليس هذا موضع ذكره. وأما أيام الإسلام فان كلام نظار المسلمين في بيان فساد ما أفسدوه من أصولهم المنطقية والإلهية بل والطبيعية بل والرياضية كثير قد صنف فيه كل طائفة من طوائف نظار المسلمين حتى الرافضة. وأما شهادة سائر العلماء وطوائف أهل الإيمان بضلالهم وكفرهم فهذا البيان عام لا يدفعه إلا معاند والمؤمنون شهداء الله في الأرض. فإذا كان أعيان الأذكياء الفضلاء من الطوائف وسائر أهل العلم والإيمان معلنين بتخطئتهم وتضليلهم أما جملة وأما تفصيلا امتنع أن كون العقلاء قاطبة تلقوا كلامهم بالقبول. الوجه الثاني: أن هذا ليس بحجة فان الفلسفة التي كانت قبل أرسطو وتلقاها من قبلة بالقبول طعن أرسطو في كثير منها وبين خطأهم وابن سينا وأتباعه خالفوا القدماء في طائفة من أقاويلهم المنطقية وغيرها وبينوا خطأهم ورد الفلاسفة بعضهم على بعض أكثر من رد كل طائفة بعضهم على بعض وأبو البركات وأمثاله قد ردوا على أرسطو ما شاء الله لأنهم يقولون إنما قصدنا الحق ليس قصدنا التعصب لقائل معين ولا لقول معين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الثالث: أن دين عباد الأصنام أقدم من فلسفتهم وقد دخل فيه من الطوائف أعظم ممن دخل في فلسفتهم وكذلك دين اليهود المبدل أقدم من فلسفة أرسطو ودين النصارى المبدل قريب من زمن أرسطو فان أرسطو كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة فانه كان في زمن الاسكندر بن فيلبس الذي يؤرخ به تاريخ الروم الذي يستعمله اليهود والنصارى. الرابع: أن يقال فهب أن الأمر كذلك فهذه العلوم عقلية محضة ليس فيها تقليد لقائل وإنما تعلم بمجرد العقل فلا يجوز أن تصحح بالنقل بل ولا يتكلم فيها إلا بالمعقول المجرد فإذا دل المعقول الصريح على بطلان الباطل منها لم يجز رده فان أهلها لم يدعوا أنها مأخوذة عمن يجب تصديقه بل عن عقل محض فيجب التحاكم فيها إلى موجب العقل الصريح فصل: قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن عند المناطقة بخلاف الاستقراء: وقد احتجوا بما ذكروه من أن الاستقراء دون القياس الذي هو قياس الشمول وأن قياس التمثيل دون الاستقراء فقالوا أن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن وإن المحكوم عليه قد يكون جزئيا بخلاف الاستقراء فانه قد يفيد اليقين والمحكوم عليه لا يكون إلا كليا. قالوا وذلك أن الاستقراء هو الحكم على كلى بما تحقق في جزئياته فان كان في جميع الجزئيات كان الاستقراء تاما كالحكم على المتحرك ب الجسمية لكونها محكوما بها على جميع جزئيات المتحرك من الحيوان والجماد والنبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 والناقص كالحكم على الحيوان ب أنه إذا أكل تحرك فكه الأسفل عند المضغ لوجود ذلك في أكثر جزئياته ولعله فيما لم يستقرا على خلافه كالتمساح والأول ينتفع به في اليقينيات بخلاف الثاني وإن كان منتفعا به في الجدليات. وأما قياس التمثيل فهو الحكم على شيء بما حكم به على غيره بناء على جامع مشترك بينهما كقولهم العالم موجود فكان قديما كالباري أو هو جسم فكان محدثا كالإنسان وهو مشتمل على فرع واصل وعلة وحكم فالفرع ما هو مثل العالم في هذا المثال والأصل ما هو مثل الباري أو الإنسان والعلة الموجود أو الجسم والحكم القديم أو المحدث. قالوا ويفارق الاستقراء من جهة أن المحكوم عليه فيه قد يكون جزئيا والمحكوم عليه في الاستقراء لا يكون إلا كليا. إشكالات أوردها نظار المسلمين على قياس التمثيل: قالوا وهو غير مفيد لليقين فانه ليس من ضرورة اشتراك أمرين فيما يعمهما اشتراكهما فيما حكم به على أحدهما إلا أن يبين أن ما به الاشتراك علة لذلك الحكم وكل ما يدل عليه فظني فان المساعد على ذلك في العقليات عند القائلين به لا يخرج عن الطرد والعكس والسبر والتقسيم. أما الطرد والعكس فلا معنى له غير تلازم الحكم والعلة وجودا وعدما ولا بد في ذلك من الاستقراء ولا سبيل إلى دعواه في الفرع إذ هو غير المطلوب فيكون الاستقراء ناقصا لا سيما ويجوز أن تكون علة الحكم في الأصل مركبة من أوصاف المشترك ومن غيرها ويكون وجودها في الأوصاف متحققا فيها فإذا وجد المشترك في الأصل ثبت الحكم لكمال علته وعند انتفائه فينتفى لنقضان العلة وعند ذلك فلا يلزم من وجود المشترك في الفرع ثبوت الحكم لجواز تخلف باقي الأوصاف أو بعضها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وأما السبر والتقسيم فحاصله يرجع إلى دعوى حصر أوصاف الأصل في جملة معينة وإبطال كل ما عدى المستبقى وهو أيضا غير يقيني لجواز أن يكون الحكم ثابتا في الأصل لذات الأصل لا لخارج وإلا لزم التسلسل وان ثبت لخارج فمن الجائز أن يكون لغيرها ابدا وان لم يطلع عليه البحث عنه وليس الأمر كذلك في العاديات فانا لا نشك مع سلامة البصر وارتفاع الموانع في عدم بحر من زئبق وجبل من ذهب بين أيدينا ونحن لا نشاهده وان كان منحصرا فمن الجائز أن يكون معللا بالمجموع أو بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع وثبوت الحكم مع المشترك في صورة مع تحلف غيره من الأوصاف المقارنة له في الأصل مما لا يوجب استقلاله بالتعليل لجواز أن يكون في تلك معللا بعلة أخرى ولا امتناع فيه وان كان لا علة له سواه فجائز أن يكون علة لخصوصه لا لعمومه وان بين أن ذلك الوصف يلزمه لعموم ذاته الحكم فمع بعده يستغنى عن التمثل. قالوا والفراسة البدنية هي عين التمثيل غير أن الجامع فيها بين الأصل والفرع دليل العلة لا نفسها وهو المسمى في عرف الفقهاء ب قياس الدلالة فإنها استدلال بمعلول العلة على ثبوتها ثم الاستدلال بثبوتها على معلولها الآخر إذ مبناها على أن المزاج علة لخلق باطن وخلق ظاهر فيستدل بالخلق الظاهر على المزاج ثم بالمزاج على الخلق الباطن كالاستدلال ب عرض الأعلى على الشجاعة بناء على كونهما معلولي مزاج واحد كما يوجد مثل ذلك في الأسد. ثم إثبات العلة في الأصل لا بد فيها من الدوران أو التقسيم كما تقدم وان قدر أن علة الحكمين في الأصل واحدة فلا مانع من ثبوت أحدهما في الفرع بغير علة الأصل وعند ذلك فلا يلزم الحكم الآخر. هذا كلامهم على ما حرره لهم نظار المسلمين الذين أوردوا على قياس التمثيل هذه الإشكالات وإلا فكلام أئمتهم في قياس التمثيل ليس فيه هذا التحرير الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 حرره لهم نظار المسلمين. رد المنصف إشكالاتهم على قياس التمثيل: فيقال تفريقهم بين قياس المشمول وقياس التمثيل بأن الأول قد يفيد اليقين والثاني لا يفيد إلا الظن فرق باطل بل حيث أفاد أحدهما اليقين أفاد الآخر اليقين وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن فان إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه عل صورة أحدهما دون الآخر بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين فان كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقينا حصل به اليقين وان لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظنا لم يفد إلا الظن. والذي يسمى في أحدهما حدا أوسط هو في الآخر الوصف المشترك والقضية الكبرى المتضمنة لزوم الحد الأكبر للأوسط هو بيان تأثير الوصف المشترك بين الأصل والفرع فما به يتبين صدق القضية الكبرى به يتبين أن الجامع المشترك مستلزم للحكم فلزوم الأكبر للأوسط هو لزوم الحكم للمشترك. فإذا قلت النبيذ حرام قياسا على الخمر لأن الخمر إنما حرمت لكونها مسكرة وهذا الوصف موجود في النبيذ كان بمنزلة قولك كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فالنتيجة قولك النبيذ حرام والنبيذ هو موضوعها وهو الحد الأصغر والحرام محمولها وهو الحد الأكبر والمسكر هو المتوسط بين الموضوع والمحمول وهو الحد الأوسط المحمول في الصغرى الموضوع في الكبرى. فإذا قلت النبيذ حرام قياسا على خمر العنب لأن العلة في الأصل هو الإسكار وهو موجود في الفرع فثبت التحريم لوجود علته فإنما استدللت على تحريم النبيذ ب المسكر وهو الحد الأوسط لكن زدت في قياس التمثيل ذكر الأصل الذي ضربته مثلا للفرع وهذا لأن شعور النفس بنظير الفرع أقوى في المعرفة من مجرد دخوله في الجامع الكلي وإذا قام الدليل على تأثير الوصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 المشترك لم يكن ذكر الأصل محتاجا إليه. والقياس لا يخلو أما أن يكون ب إبداء الجامع أو بإلغاء الفارق والجامع أما العلة وأما دليلها وأما القياس بإلغاء الفارق فهنا إلغاء الفارق هو الحد الأوسط. فإذا قيل هذا مساو لهذا ومساوي المساوي مساو كانت المساواة هي الحد الأوسط وإلغاء الفارق عبارة عن المساواة فإذا قيل لا فرق بين الفرع والأصل إلا كذا وهو مهدر فهو بمنزلة قولك هذا مساو لهذا وحكم المساوي حكم مساويه. وأما قولهم كل ما يدل على أن ما به الاشتراك علة للحكم فظني فيقال لا نسلم فان هذه دعوى كلية ولم تقيموا عليها دليلا ثم نقول الذي يدل به على عليه المشترك هو الذي يدل به على صدق القضية الكبرى وكل ما يدل به على صدق الكبرى في قياس الشمول يدل به على علية المشترك في قياس الثمثيل سواء كان علميا أو ظنيا فان الجامع المشترك في التمثيل هو الحد الأوسط ولزوم الحكم له هو لزوم الأكبر للأوسط ولزوم الأوسط للأصغر هو لزوم الجامع المشترك للأصغر وهو ثبوت العلة في الفرع. فإذا كان الوصف المشترك وهو المسمى ب الجامع والعلة أو دليل العلة أو المناط أو ما كان من الأسماء إذا كان ذلك الوصف ثابتا في الفرع لازما له كان ذلك موجبا لصدق المقدمة الصغرى وإذا كان الحكم ثابتا للوصف لازما له كان ذلك موجبا لصدق المقدمة الكبرى وذكر الأصل يتوصل به إلى إثبات إحدى المقدمتين. فان كان القياس ب إلغاء الفارق فلا بد من الأصل المعين فان المشترك هو المساواة بينهما وتماثلهما وهو إلغاء الفارق وهو الحد الأوسط وإن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 القياس بإبداء العلة فقد يستغنى عن ذكر الأصل إذا كان الاستدلال على علية الوصف لا يفتقر إليه وأما إذا احتاج إثبات علية الوصف إليه فيذكر الأصل لأنه من تمام ما يدل على علية المشترك وهو الحد الأكبر. وهؤلاء الذين فرقوا بين قياس التمثيل وقياس الشمول اخذوا يظهرون كون أحدهما ظنيا في مواد معينة وتلك المواد التي لا تفيد إلا الظن في قياس التمثيل لا تفيد إلا الظن في قياس الشمول وإلا فإذا أخذوه فيما يستفاد به اليقين من قياس الشمول أفاد اليقين في قياس التمثيل أيضا وكان ظهور اليقين به هناك أتم. فإذا قيل في قياس الشمول كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم فكل إنسان جسم كان الحيوان هو الحد الأوسط وهو المشترك في قياس التمثيل بأن يقال الإنسان جسم قياسا على الفرس وغيره من الحيوانات فان كون تلك الحيوانات حيوانا هو مستلزم لكونها أجساما سواء كان علة أو دليل العلة والحيوانية موجودة في الإنسان فيكون جسما. وإذا نوزع في علية الحكم في الأصل فقيل له لا نسلم أن الحيوانية تستلزم الجسمية كان هذا نزاعا في قوله كل حيوان جسم وذلك أن المشترك بين الأصل والفرع إذا سمى علة فانما يراد به ما يستلزم الحكم سواء كان هو العلة الموجبة لوجوده في الخارج أو كان مستلزما لذلك يسمى الأول قياس علة والثاني قياس دلالة. ومن الناس من يسمى الجميع علة لا سيما من يقول أن العلة إنما يراد بها المعرف وهو الأمارة والعلامة والدليل لا يراد بها الباعث والداعي. ومن قال أنه قد يراد بها الداعي وهو الباعث وهذا قول أئمة الفقهاء وجمهور المسلمين فانه يقول ذلك في علل الأفعال وأما غير الأفعال فقد تفسر العلة فيها بالوصف المستلزم كاستلزام الإنسانية ل الحيوانية والحيوانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 للجسمية وإن لم يكن أحد الوصفين هو المؤثر في الآخر. عل أنا قد بينا في غير هذا الموضع أن ما به يعلم كون الحيوان جسما به يعلم أن الإنسان جسم حيث بينا أن قياس الشمول الذي يذكرونه قليل الفائدة أو عديمها وأن ما به يعلم صدق الكبرى في العقليات به يعلم صدق أفرادها التي منها الصغرى بل وبذلك يعلم صدق النتيجة كما في قول القائل الكل أعظم من الجزء والأشياء المساوية لشئ واحد متساوية والضدان لا يجتمعان والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. حقيقة توحيد الفلاسفة: وهذا كقولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فانه أن ثبت لهم أن الرب تعالى بمعنى الواحد الذي يدعونه وهو أنه ليس له صفة ثبوتية أصلا بل هو مسلوب لكل أمر ثبوتي لا يوصف إلا بالسلب المحض أو بما لا يتضمن إلا السلب كالإضافة التي هي معنى السلب وجعلوا إبداعه للعالم أمرا عدميا لكونه إضافة عندهم وجعلوا العلم والعالم والمعلوم والعشق والعاشق والمعشوق واللذة كل ذلك أمورا عدمية ليس فيها أمر ثبوتي وادعوا أن نفس العلم والعناية والقدرة هو نفس العالم القادر المريد ونفس العلم هو نفس القدرة ونفس القدرة هو نفس العناية وهذا كله هو العشق وهو اللذة والعشق واللذة هو العاشق الملتذ والعشق واللذة هو نفس العلم ونفس القدرة وعلمه بنفسه هو علمه بالمعلومات إلى أمثال ذلك مما يتضمنه قولهم الذي يسمونه توحيد واجب الوجود. رد قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد: فان قدر ثبوت هذا المعنى الذي يسمونه توحيدا مع أن جماهير العقلاء من جميع الأمم إذا تصوروا ذلك علموا بضرورة العقل أن هذا قول باطل متناقض فان قدر ثبوته قيل حينئذ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد يقررونه بقولهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 لأنه لو صدر عنه اثنان لكان مصدر الألف غير مصدر الجيم وكان المصدر مع هذا الصادر مخالفا لهذا المصدر مع هذا الصادر فيكون في المصدر جهتان وذلك ينافى الوحدة وبهذا اثبتوا أن الواحد لا يكون فاعلا وقابلا لئلا يكون فيه جهتان جهة فعل وجهة قبول فيكون مركبا. فيقال لهم إذا كان صدور الصادرات عنه هو فعله لها والفعل إضافة محضة إليه وهو عندكم لا يوصف بصفة ثبوتية بل لا يوصف إلا بما هو سلب وقلتم أن الإضافة هنا سلب لم يكن ولو صدر عنه ألف صادر إلا بمنزلة سلب الأشياء عنه وإذا قلتم ليس هو بعرض ولا ممكن ولا محدث ونحو ذلك لم تكن كثرة السلوب توجب أمرا ثبوتيا والإبداع عندكم لا يوجب له وصفا ثبوتيا فكثرة الإبداعات منه لا توجب له وصفا ثبوتيا. هذا مع أنهم متناقضون في جعلهم الإبداع أمرا عدميا بل في قولهم هو إضافة والإضافة أمرا عدميا قد قرروا في العلم الأعلى عندهم القاسم ل الوجود ولواحقه أن الوجود ينقسم إلى جوهر وعرض ومن الأعراض أن يفعل ومنها الإضافة والإبداع هو من مقولة أن يفعل وهو أمر وجودي وإبداع الباري أكمل من كل إبداع فكيف يكون أكمل أنواع أن يفعل عدميا. ثم هم جعلوا الإضافة جنسا غير أن يفعل فان ثبت هذا بطل جعل إبداعه للعالم مجرد إضافة وإن سلم أنه إضافة ف الإضافة عندهم من جملة الأجناس الوجودية وهذا وأمثاله مما يبين فساد ما قالوه في الإلهيات من التعطيل مما يطول وصفه. ثم إذا سلم هذا وسلم أن الإضافة عدمية وكثرة العدميات له لا توجب تكثر أمور ثبوتية فيه مثل تكثر سائر السلوب وإذا قدر أنه أبدع كل شيء بلا واسطة لم يكن في هذا إلا كثرة أمور عدمية يتصف بها وتلك لا توجب كثرة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ذاته مثل سلب جميع المبدعات عنه فإذا قيل ليس بفلك ولا كوكب ولا شمس ولا جنة ولا نار ولا هواء ولا تراب ولا حيوان ولا إنسان ولا نبات كان سلبها عنه بمنزلة إضافتها إليه عندهم وإذا لم يكن هذا إثبات كثرة في ذاته فكذلك الآخر. وقولهم مصدر ألف غير مصدر باء وهو مع هذا غير كونه مع هذا كما يقال سلب ألف عنه غير سلب باء عنه والشئ مع سلب ألف عنه ليس هو ذاك مع سلب باء عنه وإذا قيل كثرة السلوب لا توجب تعدد أمر ثبوتى له قيل وكثرة الإضافات كذلك عندكم. ثم يقال الإضافات إليه مثل كونه علة ومبدعا وخالقا وفاعلا ونحو ذلك أما أن يوجب كون الفعل أمرا ثبوتيا يقوم به وأما أن لا يوجب ذلك فان كان الفعل أمرا ثبوتيا قام به بطل نفيكم للصفات ولزم أنه موصوف بالأمور الثبوتية التي منها تهربون وإن لم يكن ثبوتيا كان عدميا فلم يكن في كثرة المفعولات إلا كثرة الأفعال التي هي عدمية وكثرة العدميات لا توجب اتصافه بأمر ثبوتى وإذا كان كونه فاعلا عندكم ليس وصفا ثبوتيا فكونه قابلا كذلك بطريق الأولى وحينئذ فلا يمتنع كون الشيء فاعلا وقابلا. ومعلوم أن هذا التناقض لزمهم لكونهم جعلوا الأمور الوجودية عدما كما جعلوا نفس الفعل والتأثير ليس إلا إضافة عدمية ثم ادعوا ذلك في أكمل الفاعلين فعلا وأحقهم بالوجود التام من سائر الموجودات وإلا فهم قد قرروا في العلم الكلى أن الفعل والانفعال أمران وجوديان وهما من الأعراض الموجودة وهما مقولة أن يفعل وأن ينفعل وأن يفعل هو الفعل وأن ينفعل هو القبول وأثبتوا في بعض الأفعال الطبيعية أنها أمور وجودية وأن الفعل هناك وجودي ولكن نقضوا ما ذكروا هناك في العلم الإلهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وكان ما نفوه أحق بالإثبات مما أثبتوه إذ كانوا معرضين عن الله ومعرفته وعبادته جاهلين بما يجب له ويستحقه يعبدون المخلوقات ويعظمونها ويعرفون من كمالها ما يتخذونها به آلهة إشراكا منهم بالله ويدعون رب العالمين لا يعرفونه ولا يعبدونه ولا يعرفون ما يستحقه من الكمال الذي به يجب أن يعبد بل الذي يعلم به أنه لا يستحق العبادة إلا هو وهذا كله مبسوط في مواضعه. وأرسطو وأصحابه القدماء لم يثبتوا له فعلا ولا جعلوه مبدعا لبعدهم عن معرفته ولهذا كان في قولهم من الفساد ما يطول وصفه ولكن ابن سينا وأتباعه لما جعلوه مبدعا ظهر في كلامهم مثل هذا التناقض. والمقصود هنا الكلام على المنطق ومثلنا بهذا إلا أن هذا من اشرف المطالب الإلهية التي يختصون هم بأثباتها والمقصود أن نبين أنه لا فرق بين القياس الشمولي والتمثيلي إذا أعطى كل منهما حقه. ما أمكن إثباته بقياس الشمول كان إثباته ب التمثيل أظهر: ثم إذا قدر أن ما ذكروه يدلهم على أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد بهذا الطريق أثبت ذلك ب قياس التمثيل وكان أحسن مثل أن يقال الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فالأول لا يصدر عنه إلا واحد لأن الواحد بسيط والبسيط لا يصدر عنه إلا بسيط كما أن الحار لا يصدر عنه إلا الحرارة والبارد لا يصدر عنه إلا البرودة وأمثال ذلك مما يذكر في الطبيعيات. ومن هنا قالوا في الإلهيات الواحد لا يصدر عنه إلا واحد لكن إذا أرادوا أن يثبتوا ذلك في الإلهيات ب قياس شمولي وقدر صحته أمكن جعله قياسا تمثيلا وإن قدر أنهم عجزوا أما مطلقا وأما في رب العالمين لكون الوحدة التي وصفوه بها تعطيلا له في الحقيقة ونفيا لوجوده وعجزوا عنه ولم يكن معهم إلا هذا القياس التمثيلي وإذا أثبتوه بالقياس التمثيلي واثبتوا فيه أن الحكم تعلق بالقدر المشترك فقد أفاد هذا ما أفاده قياس الشمول وزيادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 مثل أن يقولوا أن الواحد في مورد الإجماع إنما لم يصدر عنه إلا واحد لأنه بسيط فلو صدر عنه اثنان لكان مركبا فالنار البسيطة لا تصدر عنها إلا الحرارة ومتى قدر صدور الحر والبرد جميعا لزم أن تكون مركبة فهذا أن مشى لهم في قياس التمثيل مشى لهم في قياس الشمول وإن بطل هناك كان هناك أبطل. وأما إثباته ب قياس الشمول دون التمثيل فممتنع فلا يمكن أحدا أن يثبت قضية كلية ب قياس شمول إلا وإثباتها ب التمثيل أيسر وأظهر وإن عجز عن إثباتها ب التمثيل فعجزه عن إثباتها ب الشمول أقوى وأشد. فإنهم إذا قالوا الحار لا يصدر عنه إلا الحار لأنه واحد والواحد لا يصدر عنه إلا واحد فانه قد يقال لهم ما تعنون ب الصدور أتعنون به استقلاله بصدور الأثر عنه أو أن يكون سببا في صدور الأثر بحيث إذ انضم إلى غيره حصل المؤثر التام. ليس في الوجود واحد يفعل وحده إلا الله وحده: فان أردتم الأول لم نسلم لكم أن في الوجود ما هو مؤثر تام ولا شيء مستقل بالفعل غير الله تعالى والحار الذي اثر حرارة والبارد الذي أثر برودة إنما اثر في محل قابل للتسخين والتبريد فكانت الحرارة الحاصلة في القابل بسببه وبسبب الحار معا وأيضا فذلك مشروط بانتفاء العائق المانع وإلا فلو حصل ما يمنع وصول الأثر إليه لم يحصل وكذلك الشعاع إذا قيل الشمس مستقلة به لم يسلم ذلك فانه مشروط بالجسم الذي ينعكس الشعاع عليه ومشروط بعدم المانع كالسحاب والسقف. وعلى هذا فليس في الوجود واحد يفعل وحده إلا الله وحده قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال مجاهد وغيره: "تذكرون فتعلمون أن خالق الأرواح واحد". قال تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فنفى التولد عنه لامتناع التولد من شيء واحد وأن التولد إنما يكون بين اثنين وهو سبحانه لا صاحبة له وأيضا فانه خلق كل شيء وخلقه لكل شيء يناقض أن يتولد عنه شيء وهو بكل شيء عليم وعلمه بكل شيء يستلزم أن يكون فاعلا بإرادته فان الشعور فارق بين الفاعل بالإرادة والفاعل بالطبع فيمتنع مع كونه عالما أن يكون كالأمور الطبيعية التي يتولد عنها الأشياء بلا شعور كالحار والبارد فلا يجوز إضافة الولد إليه بوجه سبحانه قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . والذين قالوا أن العقول والنفوس صدرت عنه خرقوا له بنين وبنات بغير علم فان أولئك لم يكونوا يجعلون شيئا من البنين والبنات مبدعة لكل ما سواه وهؤلاء يجعلون احد البنين وهو العقل أبدع كل ما سواه ويجعلون العقل كالذكر والنفس كالأنثى وهذا مما صرحوا به وكانت العرب تقر بأنه خلق السموات والأرض وأحدثهما بعد أن لم تكونا ولم يكونوا يقولون أنها قديمة أزلية معه لم تزل معه وهذا مبسوط في موضع آخر. والمقصود هنا أنهم لم يعلموا في الوجود شيئا واحدا صدر عنه وحده شيء عل سبيل الاستقلال فصار قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد باطلا في قياس الشمول وباطلا في قياس التمثيل لكن الغرض أنه لو أثبت هذا وأمثاله ب قياس الشمول لكان إثباته ب قياس التمثيل أولى. وأيضا فهذا الحار الذي يفعل الحرارة والبارد الذي يفعل برودة إنما يفعل ذلك مع عدم العلم والإرادة بخلاف ما يفعل بعلم واختيار كالإنسان فان هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 يفعل أفعالا متنوعة وتصدر عنه أمور مختلفة وهم يسلمون ذلك ويقولون أن الفاعل بالطبع يتحد فعله والفاعل الاختيار يتنوع فعله وإذا كان كذلك فمعلوم أن ما يفعل بالعلم والإرادة أكمل مما يفعل بلا علم ولا أرادة فالإنسان أكمل من الجماد وحينئذ فان كان باب القياس صحيحا فقياس الرب بما يفعل بعلم واختيار أولى من قياسه بما يفعل بلا علم ولا اختيار فما بالهم شبهوا رب العالمين بالجمادات ونزهوه أن يشبهوه بالأحياء الناطقين. وهذا الخذلان أصابهم في باب صفاته وأفعاله فهم في باب الصفات يقولون إذا قلنا أنه حي عالم قادر مريد فقد شبهناه ب النفس الفلكية أو الإنسانية فيقال لهم إذا نفيم عنه العلم والحيوة والقدرة والإرادة فقد شبهتموه بالجمادات كالتراب والماء فان كنتم إنما هربتم من التشبيه فالذي إليه شر مما هربتم منه. ثم إنكم تزعمون أن الفلسفة هي التشبة بالآلة على قدر الطاقة وان الفلك يتشبه به بحسب الإمكان فتجعلون مخلوقاته قادرة على التشبه به من بعض الوجوه فان كان التشبه به منفيا عنه من كل وجه امتنع أن يكون مقدورا للمخلوقات وإن جاز أو وجب إثباته من بعض الوجوه كان هو أقدر عليه من مخلوقاته فكان إذا كان التشبه من بعض الوجوه ممكنا أن يخلق ما فيه من صفات الكمال ما يشبهه من بعض الوجوه أولى من أن يقدر ذلك لمخلوق على أن يحدث لنفسه ما يصير به مشابها له من بعض الوجوه سواء قيل أنه خالق أفعال المخلوقات أو لم يقل بذلك فانه على الأول يكون هو الخالق لما فيه شبه له وحينئذ فيبطل قولهم وعلى الثاني فيكون المخلوق بدون إعانة الخالق له يقدر على أن يحدث ما يشبه الرب والرب لا يقدر على ذلك. فتبين أن قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد لا يصح استدلالهم به في حق الله تعالى بأي قياس استدلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وإن قالو أن الواحد من الوجه الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وان صدر منه اثنان فمن وجهين أو قالوا هذا معلوم بالضرورة فلا يحتاج إلى دليل فانه لا بد بين المصدر والصادر من مناسبة والوجه الواحد لا يناسب اثنين قيل لهم هذا يبطل قولكم في نفي الصفات فان الرب قد صدر عنه مخلوقات كثيرة وإذا كان الواحد لا يصدر عنه من الوجه الواحد إلا واحد امتنع أن تصدر هذه المخلوقات عن خالقها من وجه واحد فدل ذلك على أنه متصف بأمور متنوعة من صفات متنوعة وأفعال متنوعة صدر عنه باعتبارها ما وجد من المخلوقات فكان اصل ضلالهم توهمهم إمكان صدور المخلوقات عما قدروه من الواحد الذي لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان ولقد أحسن بعض الفضلاء إذ قال الصفع أحسن من توحيد الفلاسفة بل قصر فيما قال. وإذا قالوا هو واحد ليس له صفات وأفعال تقوم به فلو صدر عنه أكثر من واحد لكان قد صدر عن الواحد من الوجه الواحد أكثر من واحد قيل لهم فذلك الأول أن كان واحدا من كل وجه لزم أن لا يصدر عنه إلا واحد من كل وجه وهذا خلاف المشاهدة وان كان فيه كثرة بوجه ما فقد صدر عن الواحد من الوجه الواحد أكثر من واحد وان قالوا تلك الوجوه التي في الصادر الأول أمور عدمية قيل فقد صدر عنه باعتبارها كثرة وإذا جاز هذا جاز أن تجعل الأمور الإضافية الكثيرة في الأول مبدأ الكثرة فكيفما أدير قولهم تبين أنه افسد من قول النصارى في التثليث. وحقيقة قولهم الذي قرره ابن سينا وأمثاله أنه أي موجود فرض في الوجود كان أكمل من رب العالمين وذلك أنه قرر أنه وجود مشروط بسلب جميع الأمور الثبوتية عنه وهو معنى قولهم هو الوجود المقيد بسلب جميع الماهيات وقولهم الوجود الذي لا يعرض له شيء من الماهيات فان هذا بناه على قوله أن وجود الماهيات عارض لها بناء على أن في الخارج لكل ممكن وجودا وماهية غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الوجود وان ذلك الوجود عرض لتلك الماهية وان كان لازما لها ولهذا قالوا أن واجب الوجود وجوده لا يعرض لشيء من الماهيات لئلا يلزم التركيب والتعليل فيكون وجودا مقيدا بأن لا يعرض لشيء من الماهيات فلا يجوز أن يكون له حقيقة في نفسه غير الوجود المحض الذي لا يتقيد بأمر ثبوتي. فيقال له فعلى هذا التقدير قد شارك جميع الموجودات في مسمى الوجود وامتاز عنها بقيد عدمي وهو سلب كل ثبوت وامتاز به كل منها عنه بما يخصه من الحقيقة الموجودة ومعلوم أن الوجود أكمل من العدم وهم يسلمون ذلك فإذا اشترك اثنان في الوجود وامتاز أحدهما عن الآخر بأمر وجودي والآخر لم يميز إلا بأمر عدمي كان الممتاز بأمر وجودي أكمل من الممتاز بأمر عدمي لأنه شارك هذا في الوجود المشترك وامتاز عنه بالوجود المختص وذلك لم يمتز عنه إلا بعدم كل وجود خاص وسواء جعل الوجود المشترك جنسا أو عرضا عاما وجعل المميز بينهما فصلا أو خاصة فعلى كل تقدير يلزم أن يكون ما لم يتميز إلا بعدم دون ما تميز بوجود. وهم يقولون إنما فررنا إلى هذا من التركيب فيقال أن كان التركيب نقصا لكان ما فررتم إليه شرا مما فررتم منه فان الذي فررتم إليه يوجب أن لا يكون له وجود في الخارج لأن الموجود الذي لا يختص بأمر ثبوتي لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان وإذا قدر ثبوته في الخارج فكل موجود ممكن أكمل منه فيلزم أن يكون كل مخلوق ولو أنه ذرة أو بعوضة أكمل من رب العالمين رب الأرض السموات والقول المستلزم هذا في غاية الفساد. فالحمد لله الذي هدانا لمعرفة الحق وبيان ما التبس على هؤلاء الذين يدعون أنهم أكمل الناس وهم اجهل الناس برب العالمين. والله تعالى اخبر عن المشركين ما ذكره في سورة الشعراء من قوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فهذا حال من سوى المخلوقات برب العالمين فكيف حال من فضل كل مخلوق على رب العالمين. وإذا قيل هم لم يفهموا ولم يقصدوه قيل ونحن لم نقل أنهم تعمدوا مثل هذا الباطل لكن هذا لازم قولهم وهو دليل على غاية فساده وغاية جهلهم بالله تعالى وأنهم أضل من اليهود والنصارى ومشركي العرب وأمثالهم من المشركين الذين يعظمون الخالق أكثر من تعظيم هؤلاء المعطلين: فان كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وان كنت تدري فالمصيبة أعظم كون لفظ التركيب مجملا يطلق على معان: وما فروا منه من التركيب قد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع وبينا أن لفظ التركيب مجمل يراد به تركيب الجسم من أجزاء كانت متفرقة فاجتمعت كتركيب السكنجبين وغيره من الأدوية بل ومن الأطعمة والأشربة والملابس والمساكن من أجزائها التي كانت متفرقة فألف بينها وركب بعضها مع بعض حتى صارت على الحال المركبة. وقد يراد ب المركب ما لا يمتزج فيه احد الاثنين بالآخر كما يقال ركب الباب في موضعه وركب المسمار في الباب وهذا التركيب اخص من الأول وهو المشهور من الكلام وقد قال تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} ومعلوم أن عاقلا لا يقول أن الله تعالى مركب بهذا المعنى الأول ولا بالثاني. وقد يقال المركب على ما يمكن مفارقة بعض أجزائه لبعض كأخلاط الإنسان وأعضائه فإنها وان لم يعقل أنها كانت مفترقة فاجتمعت بل خلقه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ولكن يمكن تفريق بعض أعضائه عن بعض ويعقل أيضا أنه إذا مات استحال فصار بعضه ترابا وبعضه هواء فتفرقت أعضائه وأخلاطه وكذلك سائر الحيوان والنبات ومعلوم أن عأقلا لا يقول أن هذا مركب بهذا الاعتبار. وأما تسمية الواحد الموصوف بصفاته مركبا كتسمية الحي العالم القادر الموصوف بالحياة والعلم والقدرة مركبا فهذا اصطلاح لهم لا يعرف شيء من الشرائع ولا اللغات ولا عقول جماهير العقلاء جعلوا هذا تركيبا وان تسميته مركبا. فإذا قالوا نحن نسميه تركيبا لأن فيه إثبات معان متعددة لذات واحدة ونحن نسمي ذلك تركيبا ونقيم الدليل العقلي على امتناعه قيل إذا كان إلا كذلك فالنظر في المعاني المعقولة لا في الألفاظ السمعية ونحن لا نوافقكم على جعل الإنسان مركبا من الحيوانية والناطقية ولا أن في الوجود شيئا مركبا من أجزاء عقلية بل المركب من الأجزاء العقلية إنما يكون في الأذهان لا الأعيان وكل ما في الوجود من المركبات فإنما هو مركب من أجزاء حسية موجودة في الخارج. والناس قد تنازعوا في الجسم هل هو مركب من أجزاء حسية وهو الجواهر المفردة أو من أجزاء عقلية وهي المادة والصورة أو لا من هذا ولا من هذا على ثلاثة أقوال والصحيح عندنا القول الثالث ثم يليه قول من جعله مركبا من الأجزاء الحسية وافسد الثلاثة قول من جعله مركبا من الأجزاء العقلية كما قد بسط في موضعه. وحينئذ فمن قال أن الباري جسم وان الجسم مركب من الأجزاء الحسية أو العقلية كان الاستدلال على بطلان هذا التركيب استدلالا مقبولا ممن يقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 فان مطلوبه صحيح لكن يبقى النظر هل يحسن هذا المستدل الاستدلال عليه أو لا يحسنه. واما من قال أنه ليس ب مركب لا هذا التركيب ولا هذا التركيب وإنما اسميه جسما أو جوهرا لأن الجسم والجوهر عندي اسم لكل موجود قائم بنفسه فهذا النزاع معه في اسم الجسم والجوهر نزاع لفظي لا عقلي ولا شرعي فان الشرع لم ينطق بهذا الاسم لا نفيا ولا إثباتا والعقل إنما ينظر في المعاني لا في مجرد اللفظ فالنظر مع هذا أما في إثبات كون الجسم مركبا احد التركيبين وهذا بحث عقلي معروف وأما في كون لفظ الجسم في اللغة لكل مركب وهذا مركب وهذا بحث لغوي له موضع آخر. وهؤلاء ليس مقصودهم بنفي التركيب هذا المعنى فقط فان هذا يوافقهم عليه كثير من مثبتة الصفات لكن مقصودهم أنه لا يتصف بصفة ثبوتية أصلا واخذوا لفظ التركيب الذي وافقتهم بعض أهل الكلام على نفي معناه وتوسعوا فيه حتى جعلوه اعم مما وافقهم عليه أولئك المتكلمون ونفوه وصاروا كالجهمية المحضة التي تنفي الأسماء والصفات أو تثبتها على وجه المجاز. دليل نفاة الصفات والرد عليه: والمقصود هنا أن نقول قولهم الموصوف بالحياة والعلم والقدرة مركب من هذا وهذا يقال لهم سموا هذا تركيبا أو تجسيما أو ما شئتم من الأسماء فما الدليل على نفي هذا عقلا أو سمعا قالوا الدليل على ذلك أن كل مركب مفتقر إلى أجزائه وجزؤه غيره ف المركب مفتقر إلى غيره والمفتقر إلى غيره ليس واجبا بنفسه. فيقال أجزاء هذا الدليل وألفاظه التي تسمونها حدودا كلها ألفاظ مجملة تحتمل حقا وباطلا واستعمال الألفاظ المجملة في الحدود والقياس من باب السفسطة. فيقال لكم قد عرف أن لفظ المركب مجمل وان المراد به هنا ذات تقوم بها صفات وحينئذ فالمراد ب الافتقار تلازم الذات والصفات بمعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 انه لا توجد الذات إلا مع وجود صفتها الملازمة لها ولا توجد الصفة إلا مع وجود الذات الملازمة لها ولو قدر أنه أريد بالتركيب التركيب من الأجزاء الحسية أو العقلية مع تلازم الأجزاء فهذا معناه. فإذا قيل كل مركب مفتقر إلى جزئه أن عني به أنه مستلزم لجزئه وانه لا يوجد إلا بوجود جزئه فهذا صحيح فان وجود المجموع بدون كل من آحاده ممتنع وان أريد أنه يفتقر إليه افتقار المفعول إلى فاعله والمعلول إلى علته الفاعلة أو القابلة أو الغائية أو الصورية فهذا باطل فان الواحد من العشرة والجزء من الجملة لا يجوز أن يكون فاعلا ولا غاية ولا هي هو الصورة. ثم قولكم وجزؤه غيره يقال لفظ الغير يراد به ما كان مباينا للشيء وما يجوز مفارقته له وما ليس إياه فان أردتم أن جزء المجموع ما هو مباين له فهذا باطل فانه يمتنع أن يكون مباينا له مع كونه جزءا منه فيمتنع أن يكون غيرا له بهذا الاعتبار وان قلتم يجوز أن يفارقه فهذا ليس عام على الإطلاق بل يجوز في بعض الأفراد أن يفارق غيره من الأجزاء ويفارق المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية ولا يلزم ذلك في كل مجموع لا سيما على أصلهم فان الفلك عندهم مركب من أجزائه وصفاته ولا يجوز عندهم على أجزائه التفرق. والمسلمون وجمهور العقلاء عندهم أن الله حي عليم قدير ولا يجوز أن يفارقه كونه حيا عالما قادرا بل لم يزل ولا يزال كذلك وكونه حيا عالما قادرا من لوازم ذاته وهي ملازمة لذاته لا يجوز عليه الافتراق بوجه من الوجوه فامتنع أن تكون صفاته هذه أغيارا بهذا الاعتبار. وان فسر الغيران بما ليس أحدهما هو الآخر أو بما يجوز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر فلا ريب أن صفة الموصوف التي يمكن معرفتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 بدونه غير له بهذا الاعتبار لكن إذا كانت تلك الصفة لازمة له وهو لازم لها لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون أحدهما مفتقرا إلى الآخر مفعولا للآخر ولا علة فاعلة ولا غائية ولا صورية أكثر ما في ذلك أن تكون الصفة مفتقرة إلى الذات افتقار الحال إلى محله القابل له وهم يسمون القابل علة قابلة لكن فيما يحدث لها من المقبولات لا فيما يكون لازما لها ازلا وأبدا وان قدر أنهم يسمون جميع ذلك علة ومعلولا فتكون الذات علة قابلة للصفة بهذا الاعتبار وكون الصفة معلولة هو معنى كونها صفة قائمة بالموصوف. مجموع الذات والصفة لا يفتقر إلى العلل الأربع: ومع هذا فليس مجموع الذات والصفة مفتقرا إلى شيء من أنواع العلل الأربع لا إلى الفاعل ولا إلى الغاية ولا إلى القابل ولا إلى الصورة فبطل أن يقال المجموع مفتقر إلى جزئه افتقار المعلول إلى علته بوجه من الوجوه لكن غايته أن فيه افتقار الصفة إلى الموصوف افتقار الحال اللازم لمحله إلى محله المستلزم له فيقال لهم وأي شيء في كونه موجودا بنفسه لا فاعل له ما يوجب نفي هذا التلازم الذي سموه افتقار نحو ذاته وصفاته. وقولهم ما افتقر إلى غيره لم يكن واجبا بنفسه يقال لهم قد علم أن المراد ب الافتقار التلازم والمراد ب الغير ما هو داخل في المجموع أما الذات وأما الصفات ليس المراد به ما هو مباين له وما يجوز مفارقته له وغايته أن يراد أن الصفة لا بد لها من الموصوف فليس المراد افتقار المعلول إلى علته الفاعلة وحينئذ فليس في هذا التلازم الذي سميتموه افتقارا ولا في هذه الصفات التي سميتموها أغيارا ما يوجب أن يكون شيء من ذلك مفعولا لفاعل ولا لعلة فاعلة. وواجب الوجود الذي دلت الممكنات عليه هو الموجود بنفسه القائم بنفسه رب العالمين الذي لا يفتقر إلى فاعل ولا علة فاعلة بل هو بنفسه وصفاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 لا يفتقر إلى شيء من العلل الأربع. كون صفاته تعالى واجبة الوجود: وأما نفس صفاته فليس لها فاعل ولا علة فاعلة ولا علة غائية ولا صورية فهي واجبة الوجود إذا عنى ب واجب الوجود احد هذه المعاني. وان عنى ب واجب الوجود ما هو اعم من ذلك حتى يدخل فيه ما ليس له محل يقوم به فليست واجبة الوجود بهذا التفسير بل هي ممكنة الوجود والذات مستلزمة لها وهي محل لها. وإذا قيل فيلزم أن يكون الذات فاعلة وقابلة وذاك باطل قيل كلا المقدمتين ممنوعة فان كون الذات مستلزمة لصفتها القائمة بها لا يقتضى أن تكون فاعلة لها بل يمتنع أن تكون الذات فاعلة للصفة اللازمة في الممكن فكيف في رب العالمين بل يمتنع أن يكون الرب فاعلا لما هو لازم له وان كان بائنا عنه كالفلك فكيف يكون فاعلا لصفته اللازمة له وان قدر أنهم سموا هذا الاستلزام فعلا وقالوا هي فاعلة بهذا الاعتبار قيل لهم فلا نسلم أنه لا يجوز كون الشيء الواحد فاعلا وقابلا بهذا الاعتبار بل ولا باعتبار آخر. فان استدلوا على ذلك بحجتهم المعروفة المبينة على نفي التركيب فلا يمكنهم جعل ذلك مقدمة في نفس الدليل لأن هذا مصادرة على المطلوب وهو جعل المطلوب مقدمة في إثبات نفسه بعبارة أخرى فإنهم إذا نفوا التركيب عن الواجب بناء على مقدمات منها أن الواحد لا يكون فاعلا وقابلا واثبتوا هذه المقدمة بناء على نفي التركيب كانوا قد اثبتوا كلا من المقدمتين بالأخرى فلا تكون واحدة منهما ثابتة. والدليل الدال على إثبات واجب الوجود دل على إثبات فاعل مبدع ل الممكنات والمبدع لها يمتنع أن يكون صفة قائمة بغيره فان ذلك الموصوف هو الفاعل حينئذ دون مجرد الصفة وهذا الواجب الذي دلت عليه آياته ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 يفتقر إلى علة من العلل الأربع مع اتصافه بصفاته اللازمة له. إذا جاز استلزام الذات للمفعولات فاستلزامها للصفات أولى: ومن أعظم تناقض هؤلاء أنهم يقولون الذات إذا استلزمت الصفات كان ذلك افتقارا منها إلى الغير فلا تكون واجبة وهم يقولون أن الذات مستلزمة لمفعولاتها المنفصلة عنها ولا يجعلون ذلك منافيا لوجوب وجودها بنفسها فان كان الاستلزام للمفعولات لا ينافي وجوب الوجود فالاستلزام للصفات أولى أن لا ينافيه. وان كان ذلك الاستلزام ينافي وجوب الوجود كان حينئذ قد عرض له أن يفعل بعد أن لم يكن فاعلا وهذا ممتنع عندهم وهذا اظهر المعقولات التي قهروا بها المتكلمين الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الأشعرية والكلابية وأتباعهم ولم يميز الطائفتان بين فاعل النوع وفاعل العين. ثم إذا جاز أن يفعل ف الفعل ثبوتي فيلزم قيامه به ودعوى أن المفعول عين الفعل مكابرة للعقل وإذا جاز قيام الفعل به كان قيام الصفات بطريق الأولى. فساد القول بأن المفعول عين الفعل: والذين جعلوا المفعول عين الفعل من أهل الكلام كالأشعرية ومن وافقهم من حنبلي وشافعي ومالكي وغيرهم إنما ألجاهم إلى ذلك فرارهم من قيام الحوادث بالقديم وتسلسل الحوادث وهذان كل منهما غير ممتنع عند هؤلاء الفلاسفة مع أن أولئك المتكلمين النفاة حجتهم على النفي ضعيفة. وجماهير المسلمين وطوائفهم على خلاف ذلك والقول بأن الخلق غير المخلوق هو مذهب السلف قاطبة وذكر البخاري في كتاب خلق أفعال العباد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 انه قول العلماء مطلقا بلا نزاع وهو قول أئمة الحديث وجمهورهم وقول أكثر طوائف الكلام كالهشامية والكلابية والكرامية وقول جمهور الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة وأحمد ومالك والشافعي وقول الصوفية كما حكاه عنهم صاحب التعرف لمذهب التصوف وهو قول أهل السنة فيما حكاه البغوي صاحب شرح السنة. وحجة هؤلاء أنه لو كان الخلق غير المخلوق لكان أما قديما وأما حادثا فان كان قديما لزم قدم المخلوق فيلزم قدم العالم وان كان حادثا فانه يفتقر إلى خلق آخر ويلزم التسلسل ويلزم أيضا كون الرب محلا للحوادث. فيقال لهم جميع هذه المقدمات مما ينازعكم الناس فيها ولا تقدرون على إثبات واحدة منها فقولكم لو كان قديما لزم قدم المخلوق يقول لكم من توافقونه على قدم الإرادة نحن وانتم متفقون على قدم الإرادة وان تأخر المراد فتأخر المخلوق عن الخلق كذلك أو أولى وهذا جواب الحنفية والكرامية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وكثير من الحنبلية والشافعية والمالكية والصوفية وأهل الحديث لهم. وإما قولهم أن كان محدثا افتقر إلى خلق آخر فهذا أيضا ممنوع فإنهم يسلمون أن المخلوقات محدثة منفصلة بدون حدوث خلق فإذا جاز هذا في الحادث المنفصل عن المحدث فلان يجوز حدوث الحادث المتصل به بدون خلق بطريق الأولى والأخرى. ولهذا كان كثير من هؤلاء أو أكثرهم هم يقولون أن الخلق الذي قام به حادث لا محدث ويقولون ما قام به من الفعل حدث بنفس القدرة والإرادة لا يفتقر إلى خلق وإنما يفتقر إلى الخلق المخلوق والمخلوق ما كان منفصلا عنه وكثير منهم يسمونه محدثا ويقولون هو محدث ليس ب مخلوق فان المخلوق ما خلقه بائنا عنه وأما نفس فعله وكلامه ورضاه وغضبه وفرحه الذي يقوم بذاته ب قدرته فانه وان كان حادثا ومحدثا فليس ب مخلوق وليس كل حادث ولا محدث مخلوقا عند هؤلاء. فان قيل النزاع في ذلك لفظي قيل هذا لا يضرهم فان من سمى ذلك القائم به مخلوقا قالوا له غايته أن المخلوق الذي هو نفس الخلق لا يفتقر إلى خلق آخر ولا يلزم من ذلك أن المخلوق الذي ليس ب خلق لا يفتقر إلى الخلق فان من المعقول أن المخلوق لا بد له من خلق وأما الخلق نفسه إذا جوز وجود مخلوق بلا خلق فتجويز خلق بلا خلق أولى والمنازع لهم يجوز وجود كل مخلوق بلا خلق فإذا جوزوا هم نوعا منه بلا خلق كان ذلك أولى بالجواز والفرق بين نفس الخلق الذي به خلق المخلوق وبين المخلوق معقول. البحث في قيام الحوادث به تعالى: وكذلك احتجاجهم بامتناع حلول الحوادث لا ينفع الفلاسفة فان هذا إنما نفوه لامتناع قيام الحادث بالقديم وهؤلاء الفلاسفة يجوزون قيام الحادث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 بالقديم ومن جوز قيام الصفات بالباري منهم جوز قيام الحوادث به مثل كثير من أساطينهم القدماء والمتأخرين كأبي البركات وغيره فهذان قولان معروفان لهم أما القول الثالث وهو تجويز الصفات دون الأفعال فهذا لا اعرف به قائلا منهم فان كان قد قاله بعضهم فالكلام معه كالكلام مع من قال ذلك من أهل الكلام. وعلى هذا فلا يلزم التسلسل وان لزم فإنما هو تسلسل في الآثار وهو وجود كلام بعد كلام أو فعل بعد فعل والنزاع في هذا مشهور وإنما يعرف نفيه عن الجهمية والقدرية ومن وافقهم من كلابي وكرامي ومن وافقهم من المتفقه وأما أئمة السلف وأئمة السنة فلا يمنعون هذا بل يجوزونه بل يوجبونه ويقولون أن الله لم يزل متكلما إذا شاء بل يقولون أنه لم يزل فاعلا يقوم به الأفعال الاختيارية بمشيئته وقدرته وهذا كله مبسوط في مواضعه. والمقصود هنا أنه يلزم من كونه فاعلا قيام الصفات به فان الفعل أمر وجودى وان يفعل من أقسام الوجود ووجود المخلوق المفعول بلا خلق ولا فعل ممتنع وإذا قام الخلق به ف العلم والقدرة لازمة الخلق وقيامهما به أولى. وأنهم أن قالوا يستلزم المفعول ولا يستلزم الصفة لكون الملزوم مفتقرا إلى اللازم فهذا من أعظم التناقض وان قالوا أنه لا يستلزمه كان ذلك أدل على بطلان قولهم في الصفات والأفعال وكان الدليل يدل على قيام الأفعال به والصفات وقيام الصفات به أولى من قيام الأفعال فبطل ما نفوا به الصفات وسموه تركيبا. والواحد الذي قالوا أنه لا يصدر عنه إلا واحد هو الواحد المسلوب عنه الصفات كلها بل هو الوجود المقيد بكل سلب وهذا لا حقيقة له إلا في الذهن وأي موجود مخلوق قدر فهو أكمل من هذا الخيال الذي لا حقيقة له في الخارج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 والتعظيم له إنما نشأ من اعتقاد أنه رب العالمين وانه واجب الوجود ونحو ذلك من الصفات التي تظهر كمالها وأما من هذه الجهة النافية السلبية فما من وجود إلا وهو أكمل منه وإذا كانوا قد جمعوا بين وصفه بذلك الكمال وهذا النقصان الذي يكون كل موجود أكمل منه دل على تناقضهم وفساد قولهم وكان ما قالوه من الحق حقا وما قالوه من الباطل باطلا وهذه المسائل الإلهية مبسوطة في موضعها. رد القول بأن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن: والمقصود هنا الكلام على المنطق وما ذكروه من البرهان وأنهم يعظمون قياس الشمول ويستخفون ب قياس التمثيل ويزعمون أنه إنما يفيد الظن وان العلم لا يحصل إلا بذلك وليس الأمر كذلك بل هما في الحقيقة من جنس واحد وقياس التمثيل الصحيح أولى بإفادة المطلوب علما كان أو ظنا من مجرد قياس الشمول ولهذا كان سائر العقلاء يستدلون ب قياس التمثيل أكثر مما يستدلون ب قياس الشمول بل لا يصح قياس الشمول في الأمر العام إلا بتوسط قياس التمثيل وكل ما يحتج به على صحة قياس الشمول في بعض الصور فانه يحتج به على صحة قياس التمثيل في تلك الصورة ومثلنا هذا بقولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فانه من أشهر أقوالهم الإلهية الفاسدة. وأما الأقوال الصحيحة فهذا أيضا ظاهر فيها فان قياس الشمولي لا بد فيه من قضية كلية موجبة ولا نتاج عن سالبتين ولا عن جزئيتين باتفاقهم والكلي لا يكون كليا إلا في الذهن فإذا عرف تحقق بعض أفراده في الخارج كان ذلك مما يعين على العلم بكونه كليا موجبا فانه إذا أحس الإنسان ببعض الأفراد الخارجية انتزع منه وصفا كليا لا سيما إذا كثرت أفراده فالعلم بثبوت الوصف المشترك لأصل في الخارج هو أصل العلم بالقضية الكلية وحينئذ ف القياس التمثيلي أصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 لـ القياس الشمولي أما أن يكون سببا في حصوله وأما أن يقال لا يوجد بدونه فكيف يكون وحده أقوى منه. وهؤلاء يمثلون الكليات بمثل قول القائل الكل أعظم من الجزء والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك وما من كلي من هذه الكليات إلا وقد علم من أفراده الخارجة أمور كثيرة وإذا أريد تحقق هذه الكلية في النفس ضرب لها المثل بفرد من أفرادها وبين انتفاء الفارق بينه وبين غيره أو ثبوت الجامع وحينئذ يحكم العقل بثبوت الحكم لذلك المشترك الكلي وهذا حقيقة قياس التمثيل. ولو قدرنا أن قياس الشمول لا يفتقر إلى التمثيل وان العلم بالقضايا الكلية لا يفتقر إلى العلم بمعين أصلا فلا يمكن أن يقال إذا علم الكلي مع العلم بثبوت بعض أفراده في الخارج كان انقص من أن يعلمه بدون العلم بذالك المعين فان العلم بالمعين ما زاده إلا كمالا فتبين أن ما نفوه من صورة القياس أكمل مما أثبتوه. ما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل هو من كلام متأخريهم: واعلم أنهم في المنطق الإلهي بل والطبيعي غيروا بعض ما ذكره أرسطو لكن ما زادوه في الإلهي خير من كلام أرسطو فاني قد رأيت الكلامين وأرسطو واتباعه في الإلهيات اجهل من اليهود والنصارى بكثير كثير وأما في الطبيعيات فغالب كلامه جيد وأما المنطق فكلامه فيه خير من كلامه في الإلهي. وما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل والاحتجاج عليه بما ذكروه هو من كلام متأخريهم لما رأوا استعمال الفقهاء له غالبا والفقهاء يستعملونه كثيرا في المواد الظنية وهناك الظن حصل من المادة لا من صورة القياس فلو صوروا تلك المادة ب قياس الشمول لم يفد أيضا إلا الظن لكن هؤلاء ظنوا أن الضعف من جهة الصورة فجعلوا صورة قياسهم يقينيا وصورة قياس الفقهاء ظنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ومثلوه بأمثلة كلامية ليقرروا أن المتكلمين يحتجون علينا بالأقيسة الظنية كما مثلوه من الاحتجاج عليهم بأن الفلك جسم أو مؤلف فكان محدثا قياسا على الإنسان وغيره من المولدات ثم اخذوا يضعفون هذا القياس لكن إنما ضعفوه بضعف مادته فان هذا الدليل الذي ذكره الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم على حدوث الأجسام أدلة ضعيفة لأجل مادتها لا لكون صورتها ظنية ولهذا لا فرق بين أن يصوروها بصورة التمثيل أو الشمول. والآمدى ونحوه ممن يصنف في الفلسفة ويكره التمثيل بمثل هذا لما فيه من التشنيع على المتكلمين فيمثل بمثال متفق عليه كقوله العالم موجود فكان قديما كالباري فان أحدا من العقلاء لا يحتج على قدم العالم بكونه موجودا وإلا لزم قدم كل موجود وهذا لا يقوله عأقل. إبطال القول بأن الدوران والتقسيم لا يفيدان إلا الظن: وما ذكروه من أن قياس التمثيل إنما يثبت بالدوران أو التقسيم وكلاهما لا يفيد إلا الظن قول باطل ويلزمهم مثل ذلك في قياس الشمول. أما التقسيم فإنهم يسلمون أنه يفيد اليقين إذا كان حاصرا وإذا كان كذلك فانه يمكن حصر المشترك في أقسام لا يزيد عليها وإبطال التعليل بجميعها إلا بواحد وان لم يمكن ذلك لم يمكن جعل ذلك المشترك حدا أوسط فلا يفيد اليقين ولو استعمل فيه قياس الشمول. جواب اعتراضهم على السبر والتقسيم بقولهم: وأما قوله يجوز أن يكون الحكم ثابتا في الأصل لذات الأصل وإلا لزم التسلسل فنقول لا يلزم التسلسل إلا إذا كان لا يثبت إلا لخارج أما إذا كان تارة يثبت لخارج وتارة لغير خارج لم يلزم التسلسل وحينئذ فلا يمتنع أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 تعلم أن الحكم في هذا الأصل المعين لم يثبت لما يختص به بل لوصف مشترك بينه وبين غيره. فائدتان في تعليل الحكم بعلة قاصرة: وهذا كما يقول الفقهاء أن الحكم يعلل تارة ب علة متعدية وتارة ب علة قاصرة والتعليل ب القاصرة إذا كانت منصوصة جائز باتفاق الفقهاء وإنما تنازعوا فيما إذا كانت مستنبطة والأكثرون على جواز ذلك وهو الصحيح وهو مذهب مالك والشافعي واحمد بن حنبل في المنصوص عنه فانه دائما يعلل بالعلل القاصرة وهو اختيار أبي الخطاب وغيره من أصحابه. ولكن القاضي أبو يعلى وطائفة وافقوا أصحاب أبي حنيفة في منعهم التعليل ب القاصرة وهذا من كلام متأخريهم وسبب ذلك النزاع في مسألة تعليل الربو في المذهب والفضة وأمثالهما هل العلة فيه متعدية أو قاصرة وأما أبو حنيفة نفسه وصاحباه لم ينقل عنهم في ذلك شيء والذي يليق بعقلهم وفضلهم أنهم لا يمنعون ذلك مطلقا كما لا يمتنع في المنصوصة. وفي ذلك فائدتان: قصر الحكم على مورد النص ومنع الإلحاق لئلا يظن الظان أن الحكم يثبت فيما سوى مورد النص كما يعلل تحريم الميتة بعلة تمنع دخول المذكي فيها ويعلل تحريم الدم بعلة تمنع دخول العرق والريق وغيرهما فيها ويعلل اختصاص الهدى والأضحية بالإنعام بعلة تمنع دخول غيرها فيها ويعلل وجوب الحد في الخمر بعلة تمنع دخول الدم والميتة فيها وأمثال ذلك كثيرة بل من يقول أن جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الأحكام يثبت بالنص يقول أنها معللة بعلل قاصرة لكن إنما يعلل بالعلة المتعدية نص يتناول بعض أنواع الحكم فيعلل ذلك الحكم بعلة تتعدى إلى سائر النوع الذي دل على ثبوت الحكم فيه نص آخر. والفائدة الثانية معرفة حكم الشرع وما اشتمل عليه من مصالح العباد في المعاش والمعاد فان ذلك مما يزيد به الإيمان والعلم ويكون أعون على التصديق والطاعة واقطع لشبه أهل الإلحاد والشناعة وانصر لقول من يقول أن الشرع جميعه إنما شرع لحكمة ورحمة لم يشرع لا لحكمة ورحمة بل لمجرد قهر التعبد ومحض المشيئة. وإذا كانت الأوصاف في الأصل قد تكون مختصة بذات الأصل وقد تكون مشتركة بينه وبين غيره خارجة عنه لم يلزم إذا كان هذا الأصل ثبت الحكم فيه لخارج مشترك أن يكون الحكم في كل اصل لخارج مشترك. جواب قولهم: قوله وان ثبت لخارج فمن الجائز أن يكون لغير ما أبدى وان لم يطلع عليه مع البحث عنه بخلاف الحسيات فيقال أما أن يكون التقسيم في العقليات قد يفيد اليقين وأما أن لا يفيده بحال فان كان الأول بطل جعلهم الشرطي المنفصل من صور القياس والبرهان وان كان الثاني بطل كلامهم هذا ومعلوم أن هذا أحق بالبطلان من ذاك فان القائل إذا قال الوجود أما أن يكون واجبا وأما أن يكون ممكنا وأما أن يكون قديما وأما أن يكون حادثا وأما أن يكون قائما بنفسه وأما أن يكون قائما بغيره وأما أن يكون مخلوقا وأما أن يكون خالقا ونحو ذلك من التقسيم الحاصر لجنس الوجود كان هذا حصرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 لكلي عقلي بل الوجود اعم الكليات وإذا أمكن العقل أن يحصر أقسامه فحصر أقسام بعض أنواعه أولى وهم يسلمون هذا كله وهذا هو العلم الأعلى عندهم فكيف يقولون أن السبر والتقسيم لا يفيد اليقين. تمثيل التقسيم الحاصر في مسألة الرؤية: ثم إذا اختلف الناس في ما يجوز رؤيته فقال بعضهم المصحح للرؤية أمر لا يكون إلا وجوديا محضا فما كان وجوده أكمل كان أحق أن يرى وقال آخر بل المصحح لها ما يختص بالوجود الناقص الذي هو أولى بالعدم مثل كون كل الشيء محدثا مسبوقا بالعدم أو ممكنا يقبل العدم كان قول من علل إمكان الرؤية بما يشترك فيه القديم والحادث والواجب والممكن أولى من هذا فان الرؤية وجود محض وهي إنما تتعلق بموجود لا بمعدوم فما كان أكمل وجودا بل كان وجوده واجبا فهو أحق بها مما يلازمه العدم ولهذا يشترط فيها النور الذي هو بالوجود أولى من الظلمة والنور الأشد كالشمس لم يمتنع رؤيته لذاته بل لضعف الإبصار فهذا يقتضى أنا نعجز عن رؤية الله مع ضعف أبصارنا ولهذا لم يطق موسى رؤية الله في الدنيا لكن لا يمتنع أن تكون رؤيته ممكنه والله قادر على تقوية أبصارنا لنراه. وإذا قيل هي مشروطة ب اللون والجهة ونحو ذلك مما يمتنع على الله قيل له كل ما لا بد منه في الرؤية لا يمتنع في حق الله فإذا قال القائل لو رؤى للزم كذا واللازم منتف كانت إحدى مقدمتيه كاذبة وهكذا كل ما اخبر به الصادق الذي اخبر بأن المؤمنين يرون ربهم كما يرون الشمس والقمر كل ما اخبر به وظن الظان أن في العقل ما يناقضة لا بد أن يكون إحدى مقدماته باطلة. فإذا قال لو رؤى لكان متحيزا أو جسما أو كان في جهة أو كان ذا لون وذلك منتف عن الله قيل له جميع هذه الألفاظ مجملة لم يأت شرع بنفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 مسماها حتى تنفى بالشرع وإنما ينفيها من ينفيها فيستفسر عن مراده إذ البحث في المعاني المعقولة لا في مجرد هذه الألفاظ. فيقال: ما تريد بأن المرئي لا بد أن يكون متحيزا فان المتحيز في لغة العرب التي نزل بها القرآن يعنى به ما يحوزه غيره كما في قوله تعالى: {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} فهذا تحيز موجود يحيط به موجود غيره إلى موجودات تحيط به وسمى متحيزا لأنه تحيز من هؤلاء إلى هؤلاء والمتكلمون يريدون بالتحيز ما شغل الحيز والحيز عندهم تقدير مكان ليس أمرا موجودا فالعالم عندهم متحيز وليس في حيز وجودي والمكان عند أكثرهم وجودي. فإذا أريد ب المتحيز ما يكون في حيز وجودي منعت المقدمة الأولى وهو قوله: "كل مرئي متحيز" فان سطح العالم يمكن أن يرى وليس في عالم آخر وإن قال: بل أريد به "لا بد أن يكون في حيز وإن كان عدميا" قيل له العدم ليس بشئ فمن جعله في الحيز العدمى لم يجعله في شيء موجود ومعلوم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق فإذا كان الخالق بائنا عن المخلوقات كلها لم يكن في شيء موجود وإذا قيل هو في حيز معدوم كان حقيقته أنه ليس في شيء فلم قلت أن هذا محال. وكذلك إذا قال يلزم أن يكون جسما ففيه إجمال التنبيه عليه. وكذلك إذا قال في جهة فان الجهة يراد بها شيء موجود وشئ معدوم فان شرط في المرئي أن يكون في جهة موجودة كان هذا باطلا برؤية سطح العالم وإن جعل العدم جهة قيل له إذا كان بائنا عن العالم ليس معه هناك غيره فليس في جهة وجودية وإذا سميت ما هنالك جهة وقلت هو في جهة على هذا التقدير منعت انتفاء اللازم وقيل لك العقل والسمع يدلان على ثبوت هذا اللازم لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 على انتفائه. وهذا التقسيم مثلنا به في مسألة الرؤية فإنها من أشكل المسائل العقلية وأبعدها من قبول التقسيم المنحصر ومع هذا فان حصر الأقسام فيها ممكن فكيف يغيرها. وحيئنذ فإذا احتج عليها ب قياس التمثيل فقيل المخلوقات الموجودة يمكن رؤيتها فالخالق أحق بإمكان الرؤية لأن المصحح للرؤية في المخلوقات أمر مشترك بين الخالق والمخلوق لا يختص بالمخلوق وإذا كان المشترك مستلزما لصحة الرؤية ثبتت صحة الرؤية. ولا يجعل المشترك المصحح هو مجرد الوجود كما يسلكه الأشعري ومن اتبعه كالقاضي أبى بكر وطائفة من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضي أبى يعلى بل يجعله القيام بالنفس كما يسلكه ابن كلاب وغيره من مثبتي الرؤية من أصحاب احمد وغيرهم كأبي الحسن الزاغونى أو لا يعين المصحح بل يجعل قدرا مشتركا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 كالتقسيم الحاصر وهو أيضا يفيد اليقين كما قد بسط في موضعه. وإذا كانت مسألة الرؤية والمصحح لها أمكن تقريره على هذا الوجه فكيف فيما هو أوضح منها إذا قيل الفاعل منا مريد وهو متصور لما يفعله فالخالق أولى أن يعلم ما خلق أو قيل إذا كان الفعل الاختياري فينا مشروطا بالعلم فهو في حق الخالق أولى لأن ما به استلزمت الإرادة العلم أما أن يختص بالعبد أو يكون مشتركا والأول باطل فتعين الثاني لأن استلزام الإرادة العلم كمال للفاعل لا نقص فيه والواجب أحق بالكمال الذي لا نقص فيه من الممكن المخلوق فإذا كان العبد يعلم ما يفعل فالباري أولى أن يعلم ما يفعل. وإذا قيل إذا كان الرب حيا أمكن كونه سميعا بصيرا متكلما وما جاز له من الصفات وجب له لأن ثبوت صفاته له لا تتوقف على غيره ولا يجعله غيره متصفا بصفات الكمال لأن من جعل غيره كاملا فهو أحق بالكمال منه وغيره مخلوقه ويمتنع أن يكون مخلوقه أكمل منه بل ويمتنع أن يكون هو الذي أعطاه صفات الكمال لأن ذلك يستلزم الدور القبلي أو غير ذلك من الأدلة التي بسطت في غير هذا الموضع. وهم في كلامهم في جنس القياس لم يتعرضوا لآحاد المسائل ونحن لا نحتاج إلى ذلك لكن الغرض التمثيل لمسائل قد يشكل على كثير من الناس استعمال القياس فيها لأجل المادة فتبين أن لها مادة يمكن أن يستخرج منها أدلة تلك المطالب وتلك المادة تصور بصورة الشمول تارة وبصورة التمثيل أخرى لكن إذا صورت بصورة الشمول علم أن أفرادها لا تتساوى وإذا صورت بصورة التمثيل علم أن الرب أحق بكل كمال لا نقص فيه أن يثبت له وأحق بنفي كل نقص عنه من نفيه عن سائر الموجودات. جواب قولهم: وإن كان منحصرا فمن الجائز أن يكون معللا بالمجموع أو بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وأما قولهم إذا انحصرت الأقسام فمن الجائز أن يكون معللا بالمجموع أو بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع فيقال هذا ممكن في بعض الصور كالمسائل الظنية من الفقه أو غيره إذا قيل خيار الأمة المعتقة تحت العبد كقصة بريرة أما أن يكون ثبت لكونها كانت تحت ناقص وأما أن يكون لكونها ملكت نفسها أمكن أن يقال وأما أن يكون لمجموع الأمرين. لكن تعليله بما يختص الأصل سواء كان هو المجموع أو بعض منه إنما يمكن العلم بنفيه كما يمكن العلم بغيره من المنفيات كما إذا قيل: "الإنسان إنما كان حساسا متحركا بالإرادة لحيوانيته لا لإنسانيته والحيوانية مشتركة بينه وبين الفرس وسائر الحيوان فيكون حساسا متحركا بالإرادة" فلا يمكن أن يدعى في مثل هذه أن المختص بالإنسان هو علة كونه حساسا متحركا بالإرادة بل العلة ليست إلا المشترك بينه وبين الحيوان. وكذلك إذا قيل القديم لا يجوز عدمه لأن قدمه أما بنفسه أو بموجب يجب قدمه بنفسه وما كان قديما بنفسه كان موجودا بنفسه بالضرورة فان القدم أخص من الوجود فيلزم من ثبوته ثبوت الوجود فإذا قديما بنفسه فهو موجود بنفسه بالضرورة وما كان موجودا بنفسه فهو واجب بنفسه وإلا لافتقر إلى فاعل فالقديم أما واجب بنفسه وأما لازم للواجب بنفسه وكلاهما ممتنع العدم لأنه يستلزم عدم الواجب بنفسه ولو عدم لكان قابلا للعدم فلا يكون واجبا بنفسه ولهذا اتفق العقلاء على هذا وهو أن القديم أما موجود واجب بنفسه وأما لازم لما هو كذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فإذا قال القائل: "لو كانت الأفلاك قديمة لامتنع عدمها لكن عدمها ممكن بالأدلة الدالة عليه فلا تكون قديمة" لم يجز أن يقال: "بل القديم لا يجوز عدمه لعلة مختصة بالقديم بنفسه دون ما كان معلولا لغيره" فالأفلاك وإن قيل هي قديمة فهي ممكنة العدم فان هذا باطل لما ذكرناه من أن المشترك بين الواجب بنفسه والواجب بغيره هو مستلزم لقدم المشترك بين القديم الموجود بنفسه والقديم الموجود بغيره فمن ادعى قديما موجودا بغيره وقال أنه مع هذا يمكن عدمه فقوله متناقض كما بسط في موضعه ولهذا لم يقل احد من العقلاء أنها قديمة يمكن عدمها الإمكان المعروف وإنما ادعوا أن لها ماهية باعتبار نفسها فقيل الوجود والعدم ولكن وجب لها الوجود من غيرها. وقد تبين بطلان هذا في غير هذا الموضع وبين أن هذا قول مخالف لجميع العقلاء حتى أرسطو واتباعه لا يكون عندهم ممكنا إلا المحدث الذي يمكن وجوده وعدمه أو حتى هؤلاء الذين قالوا بأنها قديمة يمكن وجودها وعدمها كابن سينا واتباعه تناقضوا ووافقوا سلفهم وسائر العقلاء فذكروا في عدة مواضع أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثا وان كل ما كان دائما لا يكون ممكنا وأما القديم الذي لا يمكن عدمه فليس عندهم ممكنا وان كان وجوبه بغيره. وإنما خالف في هذا طائفة من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله الذين أرادوا أن يجمعوا بين قول سلفهم وبين ما جاءت به الرسل مع دلالة العقول عليه فلم يمكنهم ذلك إلا بما خالفوا به الرسل مع مخالفة العقول مع مخالفة سلفهم فيما أصابوا فيه وموافقتهم فيما اخطئوا فيه وكان كفرا في الملل ومع تناقضهم ومخالفة جميع العقلاء. وأما قولهم: "بثبوت الحكم مع المشترك في صورة مع تخلف غيره من الأوصاف المقارنة له في الأصل مما لا يوجب استقلاله بالتعليل لجواز أن يكون الحكم في تلك معللا بعلة أخرى" فيقال هذا غلط وذلك أنه متى ثبت الحكم مع المشترك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 صورة تمتنع أن تكون الأوصاف الزائدة المقارنة له في الأصل مؤثرة في الحكم مع تخلف غيره من الأوصاف فإنها مختصة بالأصل فلو كانت مؤثرة لم يجز أن يوجد الحكم في غير الأصل وحينئذ فعدمها لا يؤثر والصورة الأخرى قد يثبت فيها وجود المشترك. وأما إمكان وجود وصف آخر مستقل بعلة فهذا لا بد من نفيه أما بدليل قاطع أو ظاهر أو بأن الأصل عدمه ويكون القياس حينئذ يقينيا أو ظنيا. والكلام فيما إذا حصرت أقسام العلة ونفي التعليل عن كل منها إلا واحد والنفي قد يكون لنفي التعليل بها من الأصل وقد يكون لنفي التعليل مطلقا فالأول يحتاج معه إلى الثاني في تلك الصورة وأما الثاني فهو يتناول النفي في تلك الصورة وغيرها. وقولهم: "وإن كان لا علة له سواه فجائز أن يكون علة لخصوصه لا لعمومه" فيقال هذا هو في معنى السؤال الأول وهو أن يكون الحكم ثبت لذات المحل لا لأمر منفصل وهو التعليل بالعلة القاصرة الواقفة على مورد النص. وأما قولهم: "أن بين أن ذلك الوصف يستلزم الحكم وأن الحكم لازم لعموم ذاته فمع بعده يستغنى عن التمثيل" فيقال لا بعد في ذلك بل كلما دل عل أن الحد الأوسط يستلزم الأكبر فانه يستدل به على جعل ذلك الحد وصفا مشتركا بين أصل وفرع ويلزمه الحكم. وأما قوله: "إنه يستغنى عن التمثيل" فيقال: نعم والتمثيل في مثل هذا يذكر للإيضاح وليتصور للفرع نظير لأن الكلى إنما وجوده كلى في الذهن لا في الخارج فإذا عرف تحققه في الخارج كان أيسر لوجود نظيره ولان المثال قد يكون ميسرا لإثبات التعليل بل قد لا يمكن بدونه وسائر ما تثبت به العلة من الدوران والمناسبة وغير ذلك إذا اخذ معه السبر والتقسيم أمكن كون القياس قطعيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وأيضا فقد يكون قياس التمثيل يقينيا في كذا فان الجمع بين الأصل والفرع كما يكون بإبداء الجامع يكون بإلغاء الفارق وهو أن يعلم أن هذا مثل هذا لا يفترقان في مثل هذا الحكم ومساوي المساوي مساو والعلم بالمساواة والمماثلة مما قد يعلم بالعقل كما يعلم بالسمع فإذا علم حكم أحد المتماثلين علم أن الآخر مثله لا سيما إذا كان الكلام فيما تجرد من المعقولات مثل القول بأن شيئا من السواد عرض مفتقر إلى المحل فيقال سائر أفراد السواد كذلك بل ويقال وسائر الألوان كذلك وكذلك أن قيل أن حركة الكواكب تحدث شيئا بعد شيء قيل وسائر الحركات كذلك. وبالجملة فقد بينا أن كل قياس لا بد فيه من قضية كلية إيجابية وبينا أن تلك القضية لا بد أن يعلم صدق كونها كلية وكل ما به يعلم ذلك به يعلم أن الحكم لازم لذلك الكلى المشترك فيمكن جعل ذلك الكلى المشترك هو الجامع بين الأصل والفرع فكل قياس شمول يمكن جعله قياس تمثيل فإذا أفاد اليقين لم يزده التمثيل إلا قوة. إذا علمت إحدى المقدمتين بنص المعصوم فاستعمال الشمول أولى: وقياس التمثيل يمكن جعله قياس شمول لكن قد يكون بيان صحته محتاجا إلى بيان إحدى مقدمتيه لا سيما الكبرى فإنها هي في الغالب التي تحتاج إلى البيان وإذا كان كذلك الأصل المقيس عليه أولا أسهل في البيان ف قياس التمثيل أعون على البيان إلا إذا كانت القضية الكلية معلومة بنص المعصوم فهنا يكون الاستدلال بها أولى من الاستدلال بقياس التمثيل لكن الدليل هنا يكون شرعيا لم تعلم إحدى مقدمتيه إلا بنص المعصوم أو الإجماع المعصوم لم تعلم بمجرد العقل وهم. والكلام مع من يجعل مواد البرهان القضايا الكلية المعلومة بدون قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 المعصوم بل قد يسمون القياس المستدل على إحدى مقدماته بقول المعصوم من الخطابي والجدلى لأنهم يجعلون تلك القضايا من المسلمات والمقبولات لا من البرهانيات اليقينيات. وهذا أيضا من ضلالهم فان القضية اليقينية ما علم أنها حق علما يقينيا فإذا علم بدليل قطعي أن المعصوم لا يقول إلا حقا وعلم بالضرورة أنه قضى بهذه القضية الكلية كما قضى ب أن الله بكل شيء عليم وأن الله خالق كل شيء وانه لا نبي بعده ونحو ذلك من القضايا الخبرية التي علم بالضرورة أن المعصوم أخبر بها عامة كلية كان هذا من أحسن الطرق في حصول اليقين وهذا الطريق لا يدخل في قياسهم البرهاني ولكن هذا لما كان مبنيا على مقدمات سمعية لم نقررها في هذا الموضع لم نحتج به عليهم بل احتججنا عليهم بما يسلمونه. وما بيناه بمجرد العقل من أن قولهم العلوم الكسبية لا تحصل إلا بقياسهم البرهاني قول باطل بل هو من أبطل الأباطيل. هذا في جانب النفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 المقام الرابع: في قولهم أن القياس يفيد العلم بالتصديقات : فصل: وأما المقام الثاني وهو المقام الرابع من المقامات الأربعة المذكورة أولا وهو أدق المقامات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 تبصرة على ما تقدم من المقامات: فان ما نبهنا عليه خطأهم في منع إمكان التصور إلا ب الحد بل ومن نفى دعوى حصول التصور ب الحد وبقى انحصار التصديق فيما ذكروه من والقياس مدركه قريب والعلم به ظاهر وخطأ المنطقيين فيه واضح بأدنى تدبر وإنما يلبسون على الناس بالتهويل والتطويل. المقامان الأول والثاني. وأظهرها خطأ دعواهم أن التصورات المطلوبة لا تحصل إلا بما ذكروه من الحد ثم أن مجرد الحد يفيد تصور الحقائق الثابتة في الخارج بمجرد قول الحاد سواء جعل الحد هو الجملة التامة الخبرية التي يسمونها القضية والتقييد الجزئي أو جعل الحد هو خبر المبتدأ المفرد وإن كان له صفات تقيده وتميزه. فإنه إذا قال ما الإنسان فقيل الحيوان الناطق أو قيل الإنسان الحيوان الناطق فقد يقال الحد هو قولك الإنسان هو الحيوان الناطق وقد يقال بل الحد الحيوان الناطق وهذا في حكم المفرد وليس هذا كلاما تاما يحسن السكوت عليه أن لم يقدر له مبتدأ يكون خبرا عنه أو جعل مبتدأ خبر محذوف ومن جعل هذا وحده هو الحد وجعله بمجرده يفيد تصور الحقيقة فقوله أبعد عن الصواب. المقام الثالث: وبعد ذلك قولهم أن شيئا من التصديقات المطلوبة لا ينال إلا بما ذكروه من القياس فان هذا النفي العام أمر لا سبيل إلى العلم به ولا يقوم عليه دليل أصلا وقد اشرنا إلى فساد ما ذكروه مع أنه معلوم البطلان بما يحصل من التصديقات المطلوبة بدون ما ذكروه من القياس كما يحصل تصورات مطلوبة بدون ما يذكرونه من الحد. بخلاف هذا المقام الرابع فان كون القياس المؤلف من مقدمتين يفيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 النتيجة هو أمر صحيح في نفسه. كون القياس المنطقي عديم التأثير في العلم: لكن الذي بينه نظار المسلمين في كلامهم على هذا المنطق اليوناني المنسوب إلى أرسطو صاحب التعاليم أن ما ذكروه من صور القياس ومواده مع كثرة التعب العظيم ليس فيه فائدة علمية بل كل ما يمكن علمه ب قياسهم المنطقي يمكن علمه بدون قياسهم المنطقي وما لا يمكن علمه بدون قياسهم لا يمكن علمه ب قياسهم فلم يكن في قياسهم لا تحصيل العلم بالمجهول الذي لا يعلم بدونه ولا حاجة به إلى ما يمكن العلم به بدونه فصار عديم التأثير في العلم وجودا وعدما ولكن فيه تطويل كثير متعب فهو مع أنه لا ينفع في العلم فيه إتعاب الأذهان وتصنييع الزمان وكثرة الهذيان. والمطلوب من الأدلة والبراهين بيان العلم وبيان الطرق المؤدية إلى العلم وقالوا يعنى نظار المسلمين هذا لا يفيد هذا المطلوب بل قد يكون من الأسباب المعوقة له لما فيه من كثرة تعب الذهن كمن يريد أن يسلك الطريق ليذهب إلى مكة أو غيرها من البلاد فإذا سلك الطريق المستقيم المعروف وصل في مدة قريبة بسعي معتدل وإذا قيض له من يسلك به التعاسيف والعسف في اللغة الأخذ عل غير طريق بحيث يدور به طرقا دائرة ويسلك به مسالك منحرفة فانه يتعب تعبا كثيرا حتى يصل إلى الطريق المستقيمة أن وصل وإلا فقد يصل إلى غير المطلوب فيعتقد اعتقادات فاسدة وقد يعجز بسبب ما يحصل له من التعب والإعياء فلا هو نال مطلوبه ولا هو استراح هذا إذا بقى في الجهل البسيط وهكذا هؤلاء. ولهذا حكى من كان حاضرا عند موت إمام المنطقيين في زمانه الخونجي صاحب الموجز وكشف الأسرار وغيرهما أنه قال عند موته أموت وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 علمت شيئا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى الواجب ثم قال الافتقار وصف سلبي أموت وما علمت شيئا. فهذا حالهم إذا كان منتهى احدهم الجهل البسيط وأما من كان منتهاه الجهل المركب فكثير والواصل منهم إلى علم يشبهونه بمن قيل له أين أذنك فأدار يده فوق رأسه ومدها إلى أذنه بكلفة وقد كان يمكنه أن يوصلها إلى أذنه من تحت رأسه فهو أسهل وأقرب. استعمال طرق غير الفطرية تعذيب للنفوس بلا منفعة: والأمور الفطرية متى جعل لها طرق غير الفطرية كانت تعذيبا للنفوس بلا منفعة لها كما لو قيل لرجل اقسم هذه الدراهم بين هؤلاء النفر بالسوية فان هذا ممكن بلا كلفة فلو قال له قائل اصبر فانه لا يمكنك القسمة حتى تعرف حدها وتميز بينها وبين الضرب فان القسمة عكس الضرب فان الضرب هو تضعيف آحاد العددين بآحاد العدد الآخر والقسمة توزيع آحاد أحد العددين على آحاد العدد الآخر ولهذا إذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه عاد المقسوم وإذا قسم المرتفع بالضرب على أحد المضروبين خرج المضروب الآخر ثم يقال ما ذكرته في حد الضرب لا يصح فانه إنما يتناول ضرب العدد الصحيح لا يتناول ضرب المكسور بل الحد الجامع لهما أن يقال الضرب طلب جملة تكون نسبتها إلى احد المضروبين كنسبة الواحد إلى المضروب الآخر فإذا قيل اضرب النصف في الربع فالخارج هو الثمن ونسبته إلى الربع كنسبة النصف إلى الواحد. فهذا وإن كان كلاما صحيحا لكن من المعلوم أن من معه مال يريد أن يقسمه بين عدد يعرفهم بالسوية إذا ألزم نفسه أنه لا يقسمه حتى يتصور هذا كله كان هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 تعذيبا له بلا فائدة وقد لا يفهم هذا الكلام وقد يعرض له فيه إشكالات. الدليل ما كان موصلا إلى المطلوب: فكذلك الدليل والبرهان فان الدليل هو المرشد إلى المطلوب والموصل إلى المقصود وكل ما كان مستلزما لغيره فانه يمكن أن يستدل به عليه ولهذا قيل الدليل ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى علم أو ظن وبعض المتكلمين يخص لفظ الدليل بما يوصل إلى العلم ويسمى ما يوصل إلى الظن أمارة وهذا اصطلاح من اصطلح عليه من المعتزلة ومن تلقاه عنهم. فالمقصود أن كل ما كان مستلزما لغيره بحيث يكون ملزوما له فانه يكون دليلا عليه وبرهانا له سواء كانا وجوديين أو عدميين أو أحدهما وجوديا والآخر عدميا فأبدا الدليل ملزوم للمدلول عليه والمدلول لازم للدليل. ثم قد يكون الدليل مقدمة واحدة متى علمت علم المطلوب وقد يحتاج المستدل إلى مقدمتين وقد يحتاج إلى ثلاث مقدمات وأربع وخمس وأكثر ليس لذلك حد مقدر يتساوى فيه جميع الناس في جميع المطالب بل ذلك بحسب علم المستدل الطالب بأحوال المطلوب والدليل ولوازم ذلك وملزوماته. فإذا قدر أنه قد عرف ما به يعلم المطلوب إلا مقدمة واحدة كان دليله الذي يحتاج إلى بيانه له تلك المقدمة كمن علم أن الخمر محرم وعلم أن النبيذ المتنازع فيه مسكر لكن لم يعلم أن كل مسكر هو خمر فهو لا يحتاج إلا إلى هذه المقدمة فإذا قيل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر خمر " حصل مطلوبه ولم يحتج إلى أن يقال: "كل نبيذ مسكر" "وكل مسكر خمر" ولا أن يقال: "كل مسكر خمر" "وكل خمر حرام" فان هذا كله معلوم له لم يكن يخفى عليه إلا أن اسم الخمر هل هو مختص ببعض المسكرات كما ظنه طائفة من علماء المسلمين أو هو شامل لكل مسكر فإذا ثبت له عن صاحب الشرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أنه جعله عاما لا خاصا حصل مطلوبه وهذا الحديث في صحيح مسلم ويروى بلفظين: "كل مسكر خمر"، "وكل مسكر حرام ". ولم يقل: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" كالنظم اليوناني وإن كان روى في بعض طرق الحديث فليس بثابت فان النبي صلى الله عليه وسلم اجل قدرا في عمله وبيانه من أن يتكلم بمثل هذيانهم فانه أن قصد مجرد تعريف الحكم لم يحتج مع قوله إلى دليل وإن قصد بيان الدليل كما بين الله في القران عامة المطالب الإلهية التي تقرر الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالحق وأحسنهم بيانا له. فعلم أنه ليس جميع المطالب يحتاج إلى مقدمتين ولا يكفى في جميعها مقدمتان بل يذكر ما يحصل به البيان والدلالة سواء كان مقدمة أو مقدمتين أو أكثر وما قصد به هدى عاما كالقرآن الذي انزله الله بيانا للناس يذكر فيه من الأدلة ما ينتفع به الناس عامة. وأما ما قد يعرض لبعضهم في بعض الأحوال من سفسطة تشككه في المعلومات فتلك من جنس المرض والوساوس وهذه إنما يمكن بيان أنواعها العامة وأما ما يختص به كل شخص فلا ضابط له حتى يذكر في كلام بل هذا يزول بأسباب تختص بصاحبه كدعائه لنفسه ومخاطبة شخص معين له بما يناسب حاله ونظرة هو فيما يخص حاله ونحو ذلك. وأيضا فما يذكرونه من القياس لا يفيد إلا العلم بأمور كلية لا يفيد العلم بشئ معين من الموجودات ثم تلك الأمور الكلية يمكن العلم بكل واحد منها بما هو أيسر من قياسهم فلا تعلم كلية بقياسهم إلا والعلم بجزئياتها ممكن بدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 قياسهم الشمولى وربما كان أيسر فان العلم بالمعينات قد يكون أبين من العلم بالكليات وهذا مبسوط في موضعه. ليس في قياسهم إلا صورة الدليل من غير بيان صحته أو فساده: والمقصود هنا أن المطلوب هو العلم والطريق إليه هو الدليل فمن عرف دليل مطلوبه عرف مطلوبه سواء نظمه بقياسهم أم لا ومن لم يعرف دليله لم ينفعه قياسهم ولا يقال أن قياسهم يعرف صحيح الأدلة من فاسدها فان هذا إنما يقوله جاهل لا يعرف حقيقة قياسهم فان قياسهم ليس فيه إلا شكل الدليل وصورته وأما كون الدليل المعين مستلزما لمدلوله فهذا ليس في قياسهم ما يتعرض له بنفي ولا إثبات وإنما هذا بحسب علمه بالمقدمات التي اشتمل عليها الدليل وليس في قياسهم بيان صحة شيء من المقدمات ولا فسادها وإنما يتكلمون في هذا إذا تكلموا في مواد القياس وهو الكلام في المقدمات من جهة ما يصدق بها وكلامهم في هذا فيه خطأ كثير كما نبه عليه في موضع آخر. الحقيقة المعتبرة في كل دليل هو اللزوم: والمقصود هنا أن الحقيقة المعتبرة في كل برهان ودليل في العالم هو اللزوم فمن عرف أن هذا لازم لهذا استدل بالملزوم على اللازم وإن لم يذكر لفظ اللزوم ولا تصور معنى هذا اللفظ بل من عرف أن كذا لا بد له من كذا أو أنه إذا كان كذا كان كذا وأمثال هذا فقد علم اللزوم كما يعرف أن كل ما في الوجود فهو أية لله فانه مفتقر إليه محتاج إليه لا بد له منه فيلزم من وجوده وجود الصانع. وكما يعلم أن المحدث لا بد له من محدث كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم أنه لما قدم في فداء الأسرى عام بدر سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور قال: فلما سمعت قوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 أحسست بفؤادي قد انصدع. فان هذا تقسيم حاصر يقول أخلقوا من غير خالق خلقهم فهذا ممتنع في بداية العقول أم هم خلقوا أنفسهم فهذا أشد امتناعا فعلم أن لهم خالقا خلقهم وهو سبحانه وتعالى ذكر الدليل بصيغة استفهام الإنكار ليبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس لا يمكن أحدا إنكارها فلا يمكن صحيح الفطرة أن يدعى وجود حادث بدون محدث أحدثه ولا يمكنه أن يقول هو أحدث نفسه. وقد بسطنا الكلام على ما قاله الناس في هذا المقام من الحدوث والإمكان وعلة الافتقار إلى المؤثر وذكرنا عامة طرائق أهل الأرض في إثبات الصانع من المتكلمين والفلاسفة وطرق الأنبياء صلوات الله عليهم وما سلكه عامة نظار الإسلام من معتزلي وكرامى وكلابي واشعري وفيلسوف وغيرهم في غير موضع مثل كتاب تعارض العقل والنقل وغير ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وكذلك بينا طرق الناس في إثبات العلم بالنبوات في شرح الأصبهانية وكتاب الرد على النصارى وغيرهما. وبينا أن كثيرا من النظار يسلك طريقا في الاستدلال على المطلوب ويقول لا يوصل إلى المطلوب إلا بهذا الطريق ولا يكون الأمر كما قاله في النفي وإن كان مصيبا في صحة ذلك الطريق فان المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج يسر الله على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 عقول الناس معرفة أدلته فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وأعلام النبوة وأدلتها كثيرة جدا وطرق الناس في معرفتها كثيرة وكثير من الطرق لا يحتاج إليه أكثر الناس وإنما يحتاج إليه من لم يعرف غيره أو من أعرض عن غيره وبعض الناس يكون الطريق كلما كان ادق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان انفع له لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة فإذا كان الدليل قليل المقدمات أو كانت جلية لم تفرح نفسه به ومثل هذا قد يستعمل معه الطريق الكلامية المنطقية وغيرها لمناسبتها لعادته لا لكون العلم بالمطلوب متوقفا عليها مطلقا فان من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم فيجب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات وهذا يسلك معه هذه السبيل. وأيضا فان النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن ويدر به ويقويه على العلم فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل تعين على قوة الرمي والركوب وإن لم يكن ذلك وقت قتال وهذا مقصد حسن. ولهذا كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة كالجبر والمقابلة وعويص الفرائض والوصايا والدور لشحذ الذهن فانه علم صحيح في نفسه ولهذا يسمى الرياضي فان لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة أنواع في رياضة الأبدان بالحركة والمشي كما يذكر ذلك الأطباء وغيرهم وفي رياضة النفوس بالأخلاق الحسنة المعتدلة والآداب المحمودة وفي رياضة الأذهان بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة. ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إذا لهوتم فالهوا بالرمي وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض" أراد إذا لهوا بعمل أن يلهوا بعمل ينفعهم في دينهم وهو الرمي وإذا لهوا بكلام لهوا بكلام ينفعهم أيضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 في عقلهم ودينهم وهو الفرائض. وعلم الفرائض نوعان: أحكام وحساب. فالأحكام ثلاثة أنواع: أحدها: علم الأحكام على مذهب بعض الفقهاء وهذا أولها ويليه علم أقاويل الصحابة والعلماء فيما اختلف فيه منها ويليه علم أدلة ذلك من الكتاب والسنة. وأما علم حساب الفرائض فمعرفة أصول المسائل وتصحيحها والمناسخات وقسمة التركات وللفرائض في ذلك طريق معلومة وكتب مصنفة وهذا الثاني كله علم معقول يعلم بالعقل كما يعلم بالعقل سائر حساب المعاملات وغير ذلك من الأنواع التي يحتاجها إليها الناس. ثم قد ذكروا حساب المجهولات الملقب بحساب الجبر والمقابلة وهو علم قديم لكن إدخاله في الوصايا والدور ونحو ذلك أول من عرف أنه ادخله في ذلك محمد بن موسى الخوارزمي وبعض الناس يذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه تكلم في ذلك وانه تعلم زيادة ذلك من يهودي وهذا كذب على علي رضي الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ونحن قد بينا في الكتاب المصنف في الدور لما ذكرنا فيه أن لفظ الدور يقال على ثلاثة أنواع: الدور الكوني الذي يذكر في الأدلة العقلية أنه لا يكون هذا حتى يكون هذا ولا يكون هذا حتى يكون هذا وطائفة من النظار كالرازي يقولون هو ممتنع والصواب أنه نوعان كما يقوله الآمدي وغيره دور قبلي ودور معي في الدور القبلي ممتنع والدور المعى ممكن. ف الدور القبلي الذي يذكر في العلل وفي الفاعل والمؤثر ونحو ذلك مثل أن يقال لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلا للآخر لأنه يفضى إلى الدور. وهو أن يكون هذا قبل ذاك وذاك قبل هذا وذاك فاعل لهذا وهذا فاعل لذاك فيكون الشيء فاعلا لفاعله ويكون قبل قبله وقد اورد الرازي وغيره عليه إشكالات ذكرناها وبينا وجه حلها طرق إثبات الصانع. وأما الدور المعى فهو كدور الشرط مع الشروط وأحد المتضائفين مع الآخر إذا قيل صفات الرب لا تكون إلا مع ذاته ولا تكون ذاته إلا مع صفاته فهذا صحيح وكذلك إذا قيل لا تكون الأبوة إلا مع النبوة ولا تكون النبوة إلا مع الأبوة. والنوع الثاني: مما يسمى دورا الدور الحكمى الفقهي المذكور في المسألة السريجية وغيرها وقد أفردنا في هذا مصنفات وبينا حقيقة هذا الدور وأنه باطل عقلا وشرعا وبينا في مصنف آخر هل في الشريعة شيء من هذا الدور أم لا. والنوع الثالث: الدور الحسابي وهو أن يقال لا يعلم هذا حتى يعلم هذا فهذا هو الذي يطلب حله بحساب الجبر والمقابلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وقد ذكر كثير من متأخري الفقهاء مسائل وذكروا أنها لا تنحل إلا بطريق الجبر والمقابلة وقد بينا أنه يمكن الجواب عن كل مسألة شرعية جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم بدون حساب الجبر والمقابلة وإن كان أيضا حساب الجبر والمقابلة صحيحا وقد كان لأبي وجدي رحمهما الله فيه من النصيب ما قد عرف. ليست شريعة الإسلام موقوفة على شيء من علومهم: فنحن قد بينا أن شريعة الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء يتعلم من غير المسلمين أصلا وإن كان طريقا صحيحا بل طريق الجبر والمقابلة فيها تطويل يغنى الله عنه بغيره كما ذكرنا في المنطق. وهكذا كل ما بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم مثل العلم بجهة القبلة والعلم بمواقيت الصلاة والعلم بطلوع الفجر والعلم بالهلال فكل هاذ يمكن العلم به بالطرق المعروفة التي كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يسلكونها ولا يحتاج معها إلى شيء آخر وإن كان كثير من الناس قد أحدثوا طرقا أخر وكثير منهم يظن أنه لا يمكن المعرفة بالشريعة إلا بها وهذا من جهلهم. العلم بجهة القبلة: كما قد يظن طائفة من الناس أن العلم بالقبلة لا يمكن إلا بمعرفة أطوال البلاد وعروضها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وعرض البلد هو بعد ما بينه وبين خط الاستواء والموازي كدائرة معدل النهار وذلك يعرف بارتفاع القطب الشمالي فان القطبين إذا كانا على دائرة الأفق كان بعد كل منها عن خط الاستواء بعدا واحدا وليس لخط الاستواء عرض فإذا بعد الإنسان عن خط الاستواء مقدار درجة فلكية ارتفع القطب في قطره عن دائرة الأفق مقدار درجة ثم إذا بعد درجتين ارتفع القطب درجتين وهلم جرأ فعرض البلد يعرف بارتفاع القطب فإذا كان البلدان عرضهما سواء ك دمشق وبغداد وعرض كل منهما ثلاثا وثلاثين درجة يكون ارتفاع القطب فيهما واحدا. وأما الطول فليس له حد في السماء يضبط به إذ هو بحسب المعمور من الأرض فيجعل الطول مبدأ العمارة وكانوا يحدون بجزائر تسمى جزائر الخالدات من جهة الغرب ويمكن أن تفرض بلدة ويجعل الطول شرقيا وغربيا كما فعل بعضهم حيث جعل مكة شرفها الله تعالى هي التي يعتبر بها الطول لأنها باقية محفوظة محروسة وجعل الطول نوعين شرقيا وغربيا. فهذا علم صحيح حسابي يعرف بالعقل لكن معرفة المسلمين بقبلتهم في الصلاة ليست موقوفة على هذا بل قد ثبت عن صاحب الشرع صلوات الله عليه أنه قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة " قال الترمذي: "حديث صحيح" وبهذا كان عند جماهير العلماء أن المصلى ليس عليه أن يستدل بالقطب ولا الجدى ولا غير ذلك بل إذا جعل من في الشام ونحوها المغرب عن يمينه والمشرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 عن شماله كانت صلوته صحيحة فان الله إنما أمر باستقبال شطر المسجد الحرام وفي الحديث المسجد قبلة مكة ومكة قبلة الحرم والحرم قبلة الأرض ولهذا لم يعرف عن الصحابة أنهم ألزموا الناس في الصلاة أن يعتبروا الجدي. كون اعتبار الجدى لمعرفة القبلة بدعة: ولهذا أنكر الإمام احمد وغيره من العلماء على من ألزم الناس باعتبار الجدي فضلا عن طول البلاد وعرضها بل المساجد التي صلى فيها الصحابة كمسجد دمشق وغيره فيه انحراف يسير عن مسامتة عين الكعبة وكذلك غيره فكان هذا من الحكمة أن يعرف إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان على أن المصلى ليس عليه مسامتة عين الكعبة بل تكفيه الجهة التي هي شطر المسجد الحرام. من بدع المتكلمين ردهم ما صح من الفلسفة: وكذلك ما يعلم بالمشاهدة والحساب الصحيح من أحوال الفلك علم صحيح لا يدفع والأفلاك مستديرة ليست مضلعة ومن قال أنها مضلعة أو جوز ذلك من أهل الكلام فهو وأمثاله ممن يرد على الفلاسفة وغيرهم ما قالوه من علم صحيح معقول مع كونه موافقا للمشروع وهذا من بدع أهل الكلام الذي ذمه السلف وعابوه فإنهم ناظروا الفلاسفة في العلم الإلهي في مسألة حدوث العالم وإثبات الصانع ومسائل المعاد والنبوات وغير ذلك بطرق فاسدة حائدة من مسلك الشرع والعقل. وكان ذلك من أسباب ضلال كثير من الناس حيث ظنوا أن ما يقوله هؤلاء المبتدعون هو الشرع المأخوذ عن الرسول وليس الأمر كذلك بل كلما علم بالعقل الصريح فلا يوجد عن الرسول إلا ما يوافقه ويصدقه. إجماع المسلمين على أن الفلك مستدير: وما نحن فيه من كرية الأفلاك واستدارتها من هذا الباب بل هذا مما أجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين لا يعرف بينهم نزاع في أن الفلك مستدير وقد حكى إجماع علماء المسلمين على ذلك غير واحد منهم أبو الحسين بن المنادى الإمام الذي له أربعمائة مصنف وكان من الطبقة الثانية من أصحاب احمد ومنهم أبو محمد بن حزم ومنهم أبو الفرج بن الجوزي والآثار بذلك معروفة ثابتة عن السلف كما دل على ذلك الكتاب والسنة. وقد ذكرنا طرفا من ذلك في جواب مسألة سئلنا عنها في هذا الباب فذكرنا دلالة الكتاب والسنة على ذلك موافقا لما علم بالحساب العقلي. وقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وقال تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . تفسير قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . وقد ذكر الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره ثنا أبى يعنى الإمام أبا حاتم الرازي ثنا نصر بن علي حدثني أبي عن شعبة بن الحجاج عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {َكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال: "في فلكة مثل فلكة المغزل". وذكر عن احمد الزبيري عن شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 قوله: (يسبحون) قال: "يدورون في أبواب السماء كما يدور المغزل في الفلكة". وقال ثنا الحسن بن الحسن ثنا إبراهيم بن عبد الله بن الهروى ثنا حجاج عن أبي جريج اخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: " {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال: "النجوم والشمس والقمر فلكة كفلكة المغزل" وقال: "مثل ذلك الحسبان -يعنى مجاهد- حسبان الرحى" وهو سفودها القائم الذي يدور عليه والحسبان في اللغة: سهام قصار الواحدة حسبانة وكان مجاهد يفسر قوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} بهذا وقال غيره: "هو من الحساب" قيل هو مصدر وقيل: جمع حساب كشهاب وشهبان. قال مجاهد: "ولا يدور المغزل إلا بالفلكة ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل ولا يدور الحسبان إلا بالرحى ولا يدور الرحى إلا بالحسبان" قال: "فكذلك النجوم والشمس والقمر هي في فلك لا يدمن إلا به ولا يدوم إلا بهن" قال: "فنقر بأصبعه" قال: فقال مجاهد: "يدمن كذلك كما نقر" قال: "فالحسبان والفلك يصيران إلى شيء واحد غير أن الحسبان في الرحى والفلك في المغزل" كل ذلك عن مجاهد. قلت: قوله: "لا يدوم إلا به" أي لا يدور إلا به ومنه الدوامة بالضم والتشديد وهي فلكة يرميها الصبي بخيط فتدوم على الأرض أي تدور ومنه تدويم الطير وهو تحليقه وهو دورانه في طيرانه ليرتفع إلى السماء وقوله نقر بأصبعه يعنى نقر بها من الأرض وأدارها ليشبه بذلك دوران الفلك. وقال ابن أبي حاتم قرى على يونس بن عبد الأعلى ثنا ابن وهب ثنا السري ابن يحيى قال: سأل رجل الحسن البصري عن قوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 قال: "يعنى استدارتهم". وقال بندة ثنا أبي ثنا عبيد الله بن عائشة ثنا عبد الواحد بن زياد ثنا أبو روق سمعت الضحاك في قوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال: "يدور ويذهب". ثنا أبي ثنا مسروق بن المرزبان ثنا يحي بن أبي زائدة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال: "الفلك كحديدة الرحى" يعنى قطب كحديدة الرحى وهو قطب الرحى وهو السفود القائم الذي يسمى أيضا حسبانا. ثنا بن على الحسين بن حنيد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا مروان بن معاوية عن جويبر عن الضحاك {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال: "الفلك السرعة والجري في الاستدارة و (يسبحون) يعملون" يريد أن لفظ الفلك يدل على الاستدارة وعلى سرعة الحركة كما في دوران فلكة المغزل ودوران الرحى. وقال ثنا أبي ثنا أبو صالح حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {فِي فَلَكٍ} يقول: "دوران" وقوله: "يسبحون يعني يجرون". وعن إياس بن معاوية قال: "السماء على الأرض مثل القبة". وقد بسط القول في ذلك بدلائله من الكتاب والسنة في غير هذا الموضع. ولفظ الفلك في لغة العرب يدل على الاستدارة قال الجوهري: "فلكة المغزل سميت بذلك لاستدارتها والفلكة قطعة من الأرض أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 الرمل تستدير وترتفع على ما حولها والجمع فلك" وقال: "ومنه قيل: فلك ثدي الجارية تفليكا وتفلك استدار". قلت: والسباحة تتضمن الجري بسرعة كما ذكر ذلك أهل اللغة. العلم بالهلال: وكذلك أيضا الهلال فان الشارع جعله معلقا بالرؤية فقال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وقال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا" وقال: "صوموا من الوضح إلى الوضح ". والعارفون بالحساب لا يتنازعون في أن الهلال لا يمكن ضبط وقت طلوعه بالحساب فإنهم وإن عرفوا أن نور القمر مستفاد من الشمس وعرفوا أنه إذا اجتمع القرصان عند الاستسرار لا يرى له ضوء فإذا فارق الشمس صار فيه النور فهم أكثر ما يمكنهم أن يضبطوا بالحساب كم بعده عند غروب الشمس عن الشمس هذا إذا قدر صحة تقويم الحساب وتعديله فإنهم يسمونه علم التقويم والتعديل لأنهم يأخذون أعلى مسير الكواكب وأدناه فيأخذون معدله فيحسبونه. فإذا قدر أنهم حزروا ارتفاعه عند مغيب الشمس لم يكن في هذا ما يدل على ثبوت الرؤية ولا انتفائها لأن الرؤية أمر حسى لها أسباب متعددة من صفاء الهواء وكدره وارتفاع المنظر وانخفاضه وحدة البصر وكلالة فمن الناس من لا يراه ويراه من هو أحد بصرا منه ويرى من مكان عال ولا يرى من منخفض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ويكون الجو صافيا فيرى ويكون كدرا فلا يرى. فلما كانت أسباب الرؤية لا تنضبط بالحساب لم تمكن معرفة وقت الرؤية بالحساب ولهذا كان قدماء علماء الهيئة كبطلميوس صاحب المجسطي وغيره لم يتكلموا في ذلك بحرف وإنما تكلم فيه بعض المتأخرين مثل كوشيار الديلمي ونحوه لما رأوا الشريعة قد جاءت باعتبار الرؤية أحبوا أن يعرفوا ذلك بالحساب فضلوا وأضلوا. ومن قال أنه لا يرى على اثنتي عشرة درجة أو عشر أو نحو ذلك فقد أخطأ فان من الناس من يراه على أقل من ذلك ومنهم من لا يراه على ذلك بل قد يراه نصف النهار إذا فارق الشمس أدنى مفارقة فلا للعقل اعتبروا ولا للشرع عرفوا ولهذا أنكر عليهم ذلك حذاق صناعتهم. العلم بطلوع الفجر: وهكذا أمر الفجر فان الزمان يوم وأسبوع وشهر وعام فأما اليوم فيعلم بالحس والمشاهدة وكذلك الشهر والعام يعرف بالعدد في القمرية وبالرؤية في الشمسية قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} كانت ثلثمائة شمسية وثلثمائة وتسع هلالية. وأما الأسبوع فليس له حد يعرف بالحس والعقل وإنما عرف بإخبار الأنبياء أن الله خلق هذا العالم في ستة أيام ثم استوى على العرش ولهذا شرع الله لأهل الملل أن يجتمعوا في الأسبوع يوما لعبادة الله وحده ويكون ذلك سببا لحفظ الأسبوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الذي به يعلم أن الله خلق هذا العالم في ستة أيام ولهذا لا توجد أسماء الأسبوع في لغة من لا يعرفون شرائع الأنبياء كالمشركين من الترك وغيرهم فإنهم لا يعرفونه والعادة تتبع التصور فمن لم يتصور شيئا لم يعرفه. واليوم يعرف بطلوع الفجر وهو النور الذي يظهر من جهة المشرق وهو أول نور الشمس المتصل الذي لا ينقطع بخلاف الفجر الأول فانه يأتي بعده ظلمة والاعتبار في الشرع في الصلاة والصيام وغير ذلك بالثاني ويعرف بالحس والمشاهدة كما يعرف الهلال ويعرف بالقياس على ما قرب منه تقريبا إذا عرف عند طلوعه مواضع الكواكب من السماء فيستدل في اليوم الثاني بذلك على وقت طلوعه. وأما تقدير حصة الفجر بأمر محدود من حركة الفلك مساو لحصة العشاء كما فعله طائفة من الموقتين فغلطوا في ذلك كما غلط من قدر قوس الرؤية تقديرا مطلقا وذلك لأن الفجر نور الشمس وهو شعاعها المنعكس الذي يكون من الهواء والأرض وهذا يختلف باختلاف مطارحة التي ينعكس عليها فإذا كان الجو صافيا من الغيوم لم يظهر فيه النور كما يظهر إذا كان فيه بخار فان البخار لغلظه وكثافته ينعكس عليه الشعاع ما لا ينعكس على الهواء الرقيق إلا ترى أن الشمس إذا طلعت إنما يظهر شعاعها على الأرض والجبال ونحو ذلك من الأجسام الكثيفة وان كانت صقيلة كالمرآة والماء كان اظهر وأما الهواء فانه وان استنار بها فان الشعاع لا يقف فيه بل يخرقه إلى أن يصل إلى جسم كثيف فينعكس. ففي الشتاء تكون الأبخرة في الليل كثيرة لكثرة ما يتصعد من الأرض بسبب رطوبتها ولا يحلل البخار فيها فينعكس الشعاع عليه فيظهر الفجر حينئذ قبل ما يظهر لو لم يكن بخار وأما الصيف فان الشمس بالنهار تحلل البخار فإذا غربت الشمس لم يكن للشعاع التابع لها بخار يرده فتطول في الصيف حصة العشاء بهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 السبب وتطول في الشتاء حصة الفجر بهذا السبب وفي الصيف تقصر حصة الفجر لتأخر ظهور الشعاع إذ لا بخار يرده لأن الرطوبات في الصيف قليلة وتقصر حصة العشاء في نهار الشتاء لكثرة الأبخرة في الشتاء فحاصلة أن كلا من الحصتين تتبع ما قبلها في الطول والقصر بسبب البخار لا بسبب فلكي. والذين ظنوا أن ذلك يكون عن حركة الفلك قدروه بذلك فغلطوا في تقديرهم وصاروا يقولون حصة الفجر في الشتاء اقصر منها في الصيف وحصة العشاء في الصيف اقصر منها في الشتاء فان هذه جزء من الليل وهذه جزء من النهار فتتبعه في قدره ولم يعرفوا الفرق بين طلوع الشمس وغروبها وبين طلوع شعاعها فان الشمس تتحرك في الفلك فحركتها تابعة للفلك والشعاع هو بحسب ما يحمله وينعكس عليه من الهواء الأبخرة وهذا أمر له سبب ارضي ليس مثل حركة الفلك. ولهذا كان ما قالوه بالقياس الفاسد أمرا يخالقه الحس ويعرف كذب ما قالوه باتفاق طوائف بني ادم فالذي يعرف بالحس والعقل الصريح لا يخالفه شرع ولا عقل ولا حس فان الأدلة الصادقة لا تتعارض مدلولاتها ولكن ما يقال بقياس فاسد وظن فاسد يقع فيه الاختلاف. كون عدد الأفلاك تسعة ليس عليه دليل: وعدد الأفلاك وكونها تسعة ليس أمرا معلوما ولا قام دليل على أنه ليس وراء التسعة شيء بل صرح أئمتهم بأنه يجوز أن تكون أشياء أخر وهذه التسعة إنما أثبتوها بما راوه من اختلاف حركات الكواكب وكذلك اثبتوا لكل كوكب من الخمسة المتحيزة عددا من الأفلاك بسبب اختلاف حركاته وعرفوا ارتفاع بعضها فوق بعض بكسوف الأسفل للأعلى وبينهم اختلاف كثير يطول وصفه في الأمور الفلكية التي لا تعرف بالحس وكثير مما يقولونه في ذلك لا يقوم عليه دليل. ولهذا لما أخبرت الأنبياء بعرش الرب وكرسيه ظن بعضهم أن الكرسي هو الفلك الثامن والعرش هو الفلك التاسع وهذا القول مع أنه لا دليل عليه أصلا فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 باطل من وجوه كثيرة قد بينا بعضها في مسألة الإحاطة. وجمهورهم يقولون بحدوث هذا العالم وإنما عرف القول بقدمه من أرسطو ومتبعيه وقد رأيت كلام أرسطو في ذلك في مقالة اللام وهي آخر العلم الإلهي ومنتهى فلسفته وتكلمنا على ما ذكره هو وغيره من الفلاسفة وبينا أن ما قاله خالف فيه جمهور الفلاسفة وأساطينهم وليس معه قط دليل يدل على قدم شيء من العالم وإنما تدل على دوام الفاعلية وتوابع ذلك. وقد بسطنا الكلام على ذلك في الكلام على هذا الأصل وما اضطربوا فيه وهم المبتدعون من المتكلمين الذين يضيفون إلى الشريعة ما لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا قاله احد من سلف الأمة ولا أئمتها فيجمعون في كلامهم بين حق وباطل والمتفلسفة في كلامهم حق وباطل وكلا الطائفتين لا يوافق ما دل عليه العقل الصريح المطابق لما جاءت به الرسل. اختلافهم في مدة بقاء العالم: ثم الجمهور منهم القائلون بحدوث هذا العالم تكلم منهم طوائف في بقائه وفي وقت فنائه من الروم والهند وغيرهم لكن بلا دليل صحيح وسبب ذلك أنهم لم يعرفوا للحوادث التي في هذا العالم سببا إلا حركة الفلك وما يتجدد فيه من الأشكال واتصالات الكواكب فقاسوا بقاءه على ذلك فمنهم من قال: "يبقى اثني عشر ألف سنة" ومنهم من قال: "ستة وثلاثين ألف سنة" ومنهم من قال: "ثلثمائة ألف وستون ألف سنة" ومنهم من قال: "ثمانية وأربعين ألف سنة أو أربعة وعشرين ألف سنة" وكل ذلك قول بلا علم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فإن منشأ النزاع أن الثوابت كان المعروف عندهم أنها تقطع الفلك كل مائة سنة درجة من درجات الفلك التي هي ثلثمائة وستون درجة فلما رصدوها زمن المأمون زعموا أن الصحيح أنها تقطعها في ثلثي هذه المدة كل سنة وستين سنة وثلثي سنة والصواب أن الرصد الأول هو الصحيح وقد اعتبر ذلك بمواضع الكواكب التي ذكرها غير واحد من القدماء في كتبهم واصطرلاباتهم ومواضعها الآن تدل على اعتبار ذلك على أن الرصد القديم هو الصحيح وأنها تقطع الدرجة في مائة سنة. وإذا ضرب ذلك في ثلثمائة وستين كان على القول الأول ستة وثلاثين ألفا وعلى القول الثاني أربعة وعشرين ألفا ومن قال ثلثمائة ألف وستون ألفا قال هذا دور في عشرة ادوار ومن قال اثنا عشر ألف سنة جعل لكل برج ألف سنة وليس معهم دليل يدل على أن هذه المدة هي مدة بقاء الفلك. والأصل الذي بنوا عليه فاسد وهو ظنهم أن الحوادث جميعها سببها حركات الفلك. تقابلهم لمنكري تأثير حركات الفلك في الحوادث مطلقا: وهذا الأصل قد تقابلوا فيه هم والمبتدعة من أهل الكلام فأولئك يقولون ليس لشيء من حركات الفلك تأثير في هذا العالم ولا شيء منها سبب في حدوث شيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 بل يطردون هذا في جميع الموجودات فلا يجعلون الله خلق شيئا لسبب ولا لحكمة ولا يجعلون للإنسان قدرة تؤثر في مقدورها ولا لشيء من الأجسام طبيعة ولا غريزة بل يقولون فعل عنده لا به وخالفوا بذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة وصرائح العقول. فان الله تعالى يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أقلتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يذكر سبحانه أنه فعل هذا بهذا كما ذكر أنه انزل الماء بالسحاب وانه أحيا الأرض بالماء. والعلماء متفقون على إثبات حكمة الله في خلقه وأمره وإثبات الأسباب والقوى كما قد ذكرنا أقوالهم في موضعها وليس من السلف من أنكر كون حركات الكواكب قد تكون من تمام أسباب الحوادث كما أن الله جعل هبوب الرياح ونور الشمس والقمر من أسباب الحوادث. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكسوف بالصلاة والذكر والدعاء والصدقة والعتاقة والاستغفار وكذلك عند سائر الآيات التي يخوف الله بها عباده. وقوله: "لا تنكسفان لموت احد ولا لحياته" رد لما كان قد توهمه بعض الناس من أن كسوف الشمس كان لأجل موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد مات وكسفت الشمس فتوهم بعض الجهال من المسلمين أن الكسوف كان لأجل هذا فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الكسوف لا يكون سببه موت احد من أهل الأرض ونفى بذلك أن يكون الكسوف معلولا عن ذلك وظنوا أن هذا من جنس اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ كما ثبت ذلك في الصحيح فنفى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وبين أن ذلك من آيات الله التي يخوف بها عباده. والتخويف إنما يكون بما يكون سببا للشر قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} فلو كان الكسوف وجوده كعدمه بالنسبة إلى الحوادث لم يكن سببا لشر وهو خلاف نص الرسول. وأيضا في السير أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر وقال لعائشة: " يا عائشة تعوذي بالله من شر هذا فان هذا هو الغاسق إذا وقب" والاستعاذة إنما تكون مما يحدث عنه شر. وأمر صلى الله عليه وسلم عند انعقاد أسباب الشر بما يدفع موجبها بمشيئتة الله تعالى وقدرته من الصلاة والدعاء والذكر والاستغفار والتوبة والإحسان بالصدقة والعتاقة فان هذه الأعمال الصالحة تعارض الشر الذي انعقد سببه كما في الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 "إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض فيعتلجان". وهذا كما لو جاء عدو فانه يدفع بالدعاء وفعل الخير وبالجهاد له وإذا هجم البرد يدفع باتخاذ الدفء فكذلك الأعمال الصالحة والدعاء. وهذا ما اتفق عليه الملل وأساطين الفلاسفة حتى يذكر عن بطلميوس أنه قال: "واعلم أن ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات يحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات". وكسوف الشمس إنما يكون وقت استسرار القمر آخر الشهر وخسوف القمر إنما يكون ليالي الابدار الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر كما أن الهلال قد يكون ليلة الثلاثين أو الحادي والثلاثين هذا الذي أجرى الله به عادته في حركات الشمس والقمر. وما ذكره بعض الفقهاء من تقدير اجتماع الكسوف وصلاة العيد فهذا لم يقله احد من الصحابة ولا ذكره أكثر العلماء لا احمد ولا غيره ولكن ذكره طائفة من الفقهاء من أصحاب الشافعي واحمد وغيرهما تبعا لما ذكره الشافعي وانه رضي الله عنه لما تكلم فيما إذا اجتمع صلاتان كيف يصنع وذكر أنه يقدم ما يفوت على ما لا يفوت ذكر من جملة التقدير صلاة العيد والكسوف طردا للقاعدة مع إعراضه عن كون ذلك يقع أو لا يقع كما يقدر الفقهاء مسائل كثيرة لطرد القياس مع إعراضهم عن وقوع ذلك في الوجود بل يقدرون ما يعلمون أنه لا يقع عادة كعشرين جدة وفروع الوصايا فجاء بعض الفقهاء فأخذ يكابر ويقول أن هذا قد يقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وذكروا عن الواقدي أنه قال: "إبراهيم مات يوم العاشر وذلك اليوم كسفت الشمس" وهذا كله باطل والواقدي ليس بحجة بالإجماع إذا اسند ما ينقله فكيف إذا كان مقطوعا وقول القائل أنها كسفت يوم العاشر بمنزلة قوله طلع الهلال في عشرين من الشهر لكن هذه عادة ظاهرة يعرفها الناس كلهم وتلك عادة يعرفها من استقراها وعرف أسبابها ومجاري النيرين من الناس. التكلم بلا علم في الشرعيات وفي العقليات وضرره: فليس لأحد أن يتكلم بلا علم بل يحذر ممن يتكلم في الشرعيات بلا علم وفي العقليات بلا علم فان قوما أرادوا بزعمهم نصر الشرع بعقولهم الناقصة وأقيستهم الفاسدة فكان ما فعلوه مما جرا الملحدين اعداء الدين عليه فلا للإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا. وأقوام يدعون أنهم يعرفون العلوم العقلية وأنها قد تخالف الشريعة وهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 أجهل الناس بالعقليات والشرعيات وأكثر ما عندهم من العقليات أمور قلدوا من قالها لو سئلوا عن دليل عقلي يدل عليها لعجزوا عن بيانه والجواب عما يعارضه ثم من العجائب أنهم يتركون اتباع الرسل المعصومين الذين لا يقولون إلا الحق ويعرضون عن تقليدهم ثم يقلدون في مخالفة ما جاءوا به من يعلمون هم أنه ليس بمعصوم وانه قد يخطىء تارة ويصيب أخرى. وهؤلاء عندهم أمور معلومة من الحسابيات مثل وقت الكسوف والخسوف ومثل كرية الأفلاك ووجود السحاب من البخاري ونحو ذلك من الأمور الطبيعية والرياضية فيحتجون بها على من يظن أنه من أهل الشرع فيسرع ذلك المنتسب إلى الشرع برد ما يقولونه بجهله فيكون رد ما قالوه من الحق سببا لتنفيرهم عما جاء به الرسول من الحق بسبب مناظرة هذا الجاهل. والله تعالى أمرنا أن لا نكذب ولا نكذب بحق وإنما مدح سبحانه من يصدق فيتكلم بعلم ويصدق ما يقال له من الحق قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} : {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وهاتان صفتان لنوع واحد وهو من يجيء بالصدق ويصدق بالحق إذا جاءه فهذا هو المحمود عند الله وأما من كذب أو كذب بما جاءه من الحق فذلك مذموم عند الله تعالى. وكذلك قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تقل ما ليس لك به علم {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} ومثل هذا متعدد في كتاب الله تعالى. حقيقة ملائكة الله تعالى وعقول الفلاسفة: ثم أن حركات الأفلاك وان كانت من جملة الأسباب فليس الحوادث كلها صادرة عن حركة الفلك بل فوق ذلك من مخلوقات الله أمور أخر. وملائكة الله الذين يدبر بهم أمر السماء والأرض وهم المدبرات أمرا والمقسمات أمرا التي اقسم الله بها في كتابه ليست هي الكواكب عند احد من سلف الأمة وليست الملائكة هي العقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة المشاون اتباع أرسطو ونحوهم كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع وبين خطأ من يظن ذلك ويجمع بين ما قالوه وبين ما جاءت به الرسل. ويقول: أن قوله: "أول ما خلق الله العقل" هو حجة لهم على العقل الأول ويسمونه القلم ليجعلوا ذلك مطابقا لقوله أول ما خلق الله القلم بسطنا الكلام على ذلك في نحو مجلد في الكلام على السبعينية وغيرها وذكرنا أن حديث العقل ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث كأبي حاتم بن حبان وأبي جعفر العقيلي وأبي الحسن الدارقطني وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم بل هو موضوع عندهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ومع هذا فلفظه: "أول ما خلق الله العقل قال له: اقبل فأقبل فقال له: أدبر فأدبر فقال: وعزتي ما خلقت خلقا أكرم على منك فبك اخذ ربك أعطى وبك الثواب وبك العقاب" فان كان الحديث صحيحا فهو حجة عليهم لأن معناه أنه خاطب العقل في أول أوقات خلقه بهذا الخطاب وفيه أنه لم يخلق خلقا أكرم عليه منه فهذا يدل على أنه خلق قبله غيره. وأيضا فالعقل في لغة الرسول وأصحابه وأمته عرض من الأعراض يكون مصدر عقل يعقل عقلا كما في قوله: {لعلهم يعقلون} و {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} و {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ونحو ذلك وقد يراد به الغريزة التي في الإنسان قال احمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما: "إن العقل غريزة". والعقل في لغة فلاسفة اليونان جوهر قائم بنفسه فأين هذا من هذا ولهذا قال في الحديث: "فبك اخذ وبك أعطى وبك الثواب وبك العقاب" وهذا يقال في عقل بني ادم. وهم يزعمون أن أول ما صدر عن رب العالمين جوهر قائم بنفسه وانه رب جميع العالم وان العقل العاشر هو رب كل ما تحت فلك القمر ومنه تنزلت الكتب على الأنبياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وعندهم أن الله لا يعرف عين موسى ولا عيسى ولا محمد ولا غير ذلك من جزئيات هذا العالم فضلا عن علمه بتفاصيل ما جرى يوم بدر ويوم احد ويوم الأحزاب وغير ذلك من الأحوال التي يذكرها الله في القران ويخبر بما كان ويكون من الأمور المعينة الجزئية. ولهذا كان قولهم في النبوة أنها مكتسبة وأنها فيض يفيض على روح النبي إذا استعدت نفسه لذلك فمن راض نفسه حتى استعدت فاض ذلك عليه وان الملائكة هي ما يتخيل في نفسه من الخيالات النورانية وكلام الله هو ما يسمعه في نفسه من الأصوات بمنزلة ما يراه النائم في منامه. ومن عرف ما اخبر الله به عن ملائكته جبريل وغيره في غير موضع علم أن هذا الذي قالوه اشد مخالفة لما جاءت به الرسل من أقوال الكفار المبدلين من اليهود والنصارى فان الله اخبر عن الملائكة لما جاءوا إلى إبراهيم في صورة البشر أضيافا ثم ذهبوا إلى لوط في غير موضع واخبر عن جبريل حين ذهب إلى مريم وتمثل لها بشرا سويا ونفخ فيها. وكان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي غير مرة واتاه مرة في صورة أعرابي وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن الحرث بن هشام قال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي قال: " يأتيني أحيانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 في مثل صلصلة الجرس وهو اشد على فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" قالت: "عائشة لقد رايته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقا". وقد قال تعالى: {أنه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} وأكثر القراء يقرءون (بظنين) يعني بمتهم وقد قرى (بضنين) أي ببخيل وزعم بعض المتفلسفة أن هذا هو العقل الفعال لأنه دائم الفيض فيقال قد قال {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ} والعقل الفعال لو قدر وجوده فلا تأثير له فيما ثم وإنما تأثيره فيما تحت فلك القمر فكيف ولا حقيقة له. بل ما يدعونه من المجردات والمفارقات غير النفس الناطقة كالعقول والنفوس إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان كما بسط الكلام عليها في الصفدية وغيرها فان ما يقولونه من العقليات في الطبيعيات غالبه صحيح وكذلك في الحساب المجرد حساب العدد والمقدار الكم والكيف فان هذا كله صحيح وإنما يغلط الإنسان فيه من نفسه. ابن سينا والعبيديون الإسماعيلية: وأما الإلهيات فكلام أرسطو وأصحابه فيها قليل جدا ومع قلته فكثير منه بل أكثره خطأ ولكن ابن سينا اخذ ما ذكروه وضم إليه أمورا أخر من أصول المتكلمين واخذ يقول ما ذكره على بعض ألفاظ الشرع وكان هو وأهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 بيته من الملاحدة الباطنية اتباع الحاكم وعيرة من العبيديين الإسماعيلية وأولئك كانوا يستعملون التأويل الباطن في جميع أمور الشريعة علميها وعمليها حتى تأولوا الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت لكن كانوا يأمرون بالشريعة لعوامهم فإنهم كانوا يتظاهرون بالتشيع. وكانت الرافضة الاثنا عشرية تدعى أن الإمامة بعد جعفر في ابنه موسى بن جعفر فادعى هؤلاء أنها في ابنه إسماعيل بن جعفر وانتقلت إلى ابنه محمد بن إسماعيل وادعوا أن ميمون القداح بن محمد هذا وسموا محمد هذا هو الإمام المخفى وإنما كان ميمون هذا يعرف بالانتساب إلى باهلة وقد ذكر غير واحد من أهل المعرفة أنه كان يهوديا وكان من أبناء المجوس كما ذكر ذلك القاضي أبو بكر ابن الطيب في كتاب كشف أسرارهم وهتك أستارهم وغيره من علماء المسلمين. وأما قرامطة البحرين أبو سعيد بن الجنابى وأصحابه فأولئك كانوا يتظاهرون بالكفر الصريح ولهذا قتلوا الحجاج والقوهم في بئر زمزم واخذوا الحجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 الأسود وبقى عندهم مدة. بخلاف العبيديين فإنهم كانوا يتظاهرون بالإسلام ويقولون أنهم شيعة فالظاهر عنهم الرفض لكن كان باطنهم الإلحاد والزندقة كما قال أبو حامد الغزالي في كتاب المستظهري ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض وهذا الذي قاله أبو حامد فيهم هو متفق عليه بين علماء المسلمين وكانوا يأمرون عامتهم بالعبادات وهم على درجات مرتبة عندهم كلما ارتفع درجة عبروا الشريعة عنده فإذا انتهى اسقطوا عنه الشرع. وكان ابن صباح من أتباعهم أحنا عن المستنصر الذي جرى في أيامه فتنه البساسيرى وهو الذي أحدث السكين وأصحاب الالموت من اتباعه والذين كانوا بالشام كسنان ونحوه هم من اتباع أولئك وباطنهم مركب من مذهب المجوس والفلاسفة واخذوا عن المجوس الأصلين النور والظلمة واخذوا عن الفلاسفة العقل والنفس وعبروا هم عن ذلك ب السابق والتالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 فلما دخل معهم المتفلسفة كابن سينا وأمثاله تبين لهم أن ما يدعونه على الرسول من التأويلات مما يعلم بطلان كثير منها بالضرورة والفيلسوف من حيث هو فيلسوف ليس له غرض فيما يعلم أنه باطل فسلكوا مسلكا بين مسلك هؤلاء الملاحدة وبين دين المسلمين فالشرائع الظاهرة أقروها ولم يتأولوها لكن قد يقولون أن بعضها يسقط عن الخاصة ودخل معهم في هذا طائفة من متصوفة الفلاسفة كابن عربي وابن سبعين وغيرهما وأما العلميات فتأولوا بعضها كاللوح قالوا هو النفس الكلية والقلم هو العقل الفعال وربما قالوا عن الكوكب والشمس والقمر التي رآها إبراهيم أنها النفس والعقل الفعال والعقل الأول وتأولوا الملائكة ونحو ذلك. وأما صفات الرب ومعاد الأبدان وغير ذلك فمذهب محققيهم كابن سينا وأمثاله أنها لا تتأول وأن ما دلت عليه ليس ثابتا في نفس الأمر ولا يستفاد منها علم قالوا بل المراد منها خطاب الجمهور بما يخيل إليهم ما يعتقدونه في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر لينتفعوا بذلك الاعتقاد وإن كان باطلا لا حقيقة له في نفس الأمر فان هذا غايته أن الأنبياء كذبوا لمصلحة الجمهور وهم يرون مثل ذلك من تمام حكمتهم وهم يعظمون شرائع الأنبياء العملية وأما العلمية فعندهم العلم في ذلك بما يقوله الفلاسفة وأما الأنبياء فلا يستفاد من جهتهم علم بذلك. ثم منهم من يقول النبي أعظم من الفيلسوف فيقولون النبي كان في الباطن على مذهب هؤلاء الفلاسفة لكن خاصته التخييل وإن كان كذبا في الحقيقة لمصلحة الجمهور ومنهم من يقول بل الفيلسوف أعظم من النبي، والنبي قد لا يكون عارفا في الباطن بما يجوز على الله وما لا يجوز وحقيقة الأمر في المعاد لكن هو حاذق في وضع الشرائع العملية. وكثير من ملاحدة المتصوفة كابن عربي وابن سبعين والقونوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 والتلمساني وغيرهم يوافقونهم في أصولهم لكن يغيرون العبارات فيعبرون بالعبارات الإسلامية عما هو قولهم وفي الكتب المضنون بها على غير أهلها وغيرها من كتب مصنفيها قطعة من هذا وبسبب ذلك وقع ابن عربي وأمثاله من ملاحدة المتصوفة مع هؤلاء ولهذا كثر كلام علماء المسلمين في مصنفيها ومن الناس من ينكر أن تكون من كلام أبي حامد لما رأى ما فيها من المصائب العظيمة وآخرون يقولون بل رجع عن ذلك وختم له بالاشتغال بالبخاري ومسلم كما قد ذكر ذلك في سيرته. وهؤلاء المتفلسفة ومتصوفوهم كابن سبعين وأتباعه يجوزون أن يكون الرجل يهوديا أو نصرانيا أو مشركا يعبد الأوثان فليس الإسلام عندهم واجبا ولا التهود والتنصر والشرك محرما لكن قد يرجحون شريعة الإسلام على غيرها وإذا جاء المريد إلى شيخ من شيوخهم وقال: "أريد أن اسلك على يديك" يقول له: "على دين المسلمين أو اليهود أو النصارى" فإذا قال له المريد: اليهود والنصارى أما هم كفار؟ يقول: لا ولكن المسلمون خير منهم" وهذا من جنس جهال التتر أول ما أسلموا فان الإسلام عندهم خير من غيره وإن كان غيره جائزا لا يوالون عليه ويعادون عليه. وهذا أيضا أكثر اعتقاد علماء النصارى أو كثير من اليهود يرون دين المسلمين واليهود والنصارى بمنزلة المذاهب في دين المسلمين فيجوز للرجل عندهم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ينتقل من هذه الملة إلى تلك أما لرجحانها عنده في الدين وأما لمصلحة دنياه كما ينتقل الإنسان من مذهب بعض أئمة المسلمين إلى مذهب إمام آخر كما ينتقل من مذهب مالك إلى الشافعي ومن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب احمد ونحو ذلك. أرسطو ومشركوا اليونان: وأما أرسطو وأصحابه فكانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب وهكذا كان دين اليونان والروم قبل ظهور دين المسيح فيهم وكان أرسطو قبل المسيح بنحو ثلثمائة سنة وكان وزير الاسكندر بن فيلبس المقدوني الذي تؤرخ له اليهود والنصارى التأريخ الرومي وكان قد ذهب إلى ارض الفرس واستولى عليها. وطائفة من الناس تظن أنه كان وزير الاسكندر ذي القرنين المذكور في القران وهذا جهل فان ذا القرنين كان مقدما على أرسطو بمدة عظيمة وكان مسلما يعبد الله وحده لم يكن مشركا بخلاف المقدوني وذو القرنين بلغ أقصى المشرق والمغرب وبنى سد يأجوج ومأجوج كما ذكر الله في كتابه والمقدوني لم يصل لا إلى هذا ولا إلى هذا ولا وصل إلى السد. وآخر ملوكهم كان بطلميوس صاحب المجسطي وبعده صاروا نصارى وكانت اليونان والروم مشركين كما ذكر يعبدون الشمس والقمر والكواكب ويبنون لها هياكل في الأرض ويصورون لها أصناما يجعلون لها طلاسم من جنس شرك النمرود بن كنعان وقومه الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل صلوات الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وسلامه عليه. وبقايا هذا الشرك في بلاد الشرق في بلاد الخطا والترك يصنعون الأصنام على صورة النمرود ويكون الصنم كبيرا جدا ويعلقون السبح في أعناقهم ويسبحون باسم النمرود ويشتمون إبراهيم الخليل. وكان من النفر القادمين إلى دمشق سنة 699 تسع وتسعين وستمائة بعض هؤلاء وهو يجمع بين أن يصلي الصلوات الخمس وبين أن يسبح باسم نمرود وهذا أيضا مذهب كثير من هؤلاء المتفلسفة وعلمائهم وعبادهم يصلون الصلوات الخمس ويعبدون الشمس والقمر أو غيرهما من الكواكب ومن هؤلاء طوائف موجودون في الشام ومصر والعراق وغير ذلك. وسبب ذلك أنه يحصل لهم أحيانا من جنس ما يظهر للمشركين الذين كانوا يعبدون الكواكب والأصنام فأنه كانت من الشياطين تدخل في الصنم وتكلم عابديه فتخبرهم بأمور مكاشفة لهم وتأمرهم بأمور يطلبون منهم قضاء حوائجهم. قال الله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً} قال ابن عباس: "كان في كل صنم شيطان يتراأى للسدنة فيكلمهم" وقال أبي بن كعب: "مع كل صنم جنية". ولهذا لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى وكانت العزى عند عرفات خرجت منها عجوز ناشرة شعرها وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه شيطانة العزى وقد يئست العزى أن تعبد بأرض العرب " وكان خالد يقول: "يا عزى كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك" وأما اللات فكانت عند الطائف ومناة الثالثة الأخرى كانت حذو قديد بالساحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 فان المدائن التي للمشركين بأرض الحجاز كانت ثلاثة: مكة والمدينة والطائف وكان لكل أهل مدينة طاغوت من هذه الثلاثة ولهذا خصصها سبحانه بالذكر في قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} أي قسمة جائرة {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فإنهم كانوا يجعلون لله أولادا إناثا وشركاء إناثا فقال: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} . أصل الشرك من تعظيم القبور وعبادة الكواكب: والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين: أولهما: تعظيم قبور الصالحين وتصوير تماثيلهم للتبرك بها وهذا أول الأسباب التي بها ابتدع الآدميون الشرك وهو شرك قوم نوح قال ابن عباس: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن نوحا أول رسول بعث إلى أهل الأرض " ولهذا لم يذكر الله في القرآن قبله رسولا فان الشرك إنما ظهر في زمانه. وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عباس وذكره أهل التفسير والسير من غير واحد من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} "أن هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم" وأن هذه الأصنام صارت إلى العرب وذكر ابن عباس قبائل العرب التي كانت فيهم مثل هذه الأصنام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 والسبب الثاني: عبادة الكواكب فكانوا يصنعون للأصنام طلاسم للكواكب ويتحرون الوقت المناسب لصنعة ذلك الطلسم ويصنعونه من مادة تناسب ما يرونه من طبيعة ذلك الكوكب ويتكلمون عليها بالشرك والكفر فتأتى الشياطين فتكلمهم وتقضى بعض حوائجهم ويسمونها روحانية الكواكب وهي الشيطان أو الشيطانة التي تضلهم. والكتاب الذي صنفه بعض الناس وسماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم فان هذا كان شرك الكلدانيين والكشدانيين وهم الذين بعث إليهم الخليل صلوات الله عليه وهذا أعظم أنواع السحر ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ". ولهذا صنف تنكلوشاه البابلي كتابه في درجات الفلك وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 شرك الهند وسحرهم من هذا مثل كتاب طمطم الهندي وكذلك أبو معشر البلغي له كتاب سماه مصحف القمر وكذلك ثابت بن قرة الحراني صاحب الزيج. حران دار الصابئة: فان حران كانت دار هؤلاء الصابئة وفيها ولد إبراهيم أو انتقل إليها من العراق على اختلاف القولين. وكان بها هيكل العلة الأولى هيكل العقل الأول هيكل النفس الكلية هيكل زحل هيكل المشتري هيكل المريخ هيكل الشمس وكذلك الزهرة وعطارد والقمر. وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانية فيهم ثم ظهرت النصرانية فيهم مع بقاء أولئك الصابئة المشركين حتى جاء الإسلام ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الإسلام إلى آخر وقت ومنهم الصابئة الذين كانوا ببغداد وغيرها أطباء وكتابا وبعضهم لم يسلم. ولما قدم الفارابي حران في أثناء المائة الرابعة دخل عليهم وتعلم منهم وأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 عنهم ما أخذ من المتفلسفة وكان ثابت بن قرة قد شرح كلام أرسطو في الإلهيات وقد رايته وبينت بعض ما فيه من الفساد فان فيه ضلالا كثيرا. وكذلك كان دين أهل دمشق وغيرها قبل ظهور دين النصرانية وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي ولهذا توجد في دمشق مساجد قديمة فيها قبله إلى القطب الشمالي وتحت جامع دمشق معبد كبير له قبلة إلى القطب الشمالي كان لهؤلاء. فان الصابئة نوعان صابئة حنفاء موحدون وصابئة مشركون فالأولون هم الذين اثنى الله عليهم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فأثنى على من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا من هذه الملل الأربع المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين. فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ والتبديل وكذلك الذين دانوا بالإنجيل قبل النسخ والتبديل والصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء كالمتبعين لملة إبراهيم إمام الحنفاء صلى الله عليه وصلى الله على محمد وعلى آل محمد كما صلى على إبراهيم وعلى آل إبراهيم أنه حميد مجيد قبل نزول التوراة والإنجيل. وهذا بخلاف المجوس والمشركين فأنه ليس فيهم مؤمن فلهذا قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فذكر الملل الست هؤلاء وأخبر أنه يفصل بينهم يوم القيمة لم يذكر في الست من كان مؤمنا إنما ذكر ذلك في الأربعة فقط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ثم أن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين أما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا ويؤمنون بأن الله محدث لهذا العالم ويقرون بمعاد الأبدان فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم. ثم المشركون من الصابئة كانوا يقرون بحدوث هذا العالم كما كان المشركون من العرب تقر بحدوثه وكذلك المشركون من الهند وقد ذكر أهل المقالات أن أول من ظهر عنه القول بقدمه من هؤلاء الفلاسفة المشركين هم أرسطو. قسطنطين أول ملك اظهر دين النصارى: وكان دين المسيح لما دخل فيه طائفة من أهل حران وفيهم هيلانة الحرانية الفندقانية فهولها ملك الروم أبو قسطنطين فتزوجها فولدت له قسطنطين فنصرت ابنها قسطنطين وهو الذي اظهر دين النصارى وبنى القسطنطينية وفي زمنه ابتدع النصارى هذه الامانة التي اتفقت عليها طوائفهم اليوم فانه اتفق عليها ثلثمائة وبضعة عشرة من علمائهم وعبادهم. قالوا وهو الذي ابتدع الصلاة إلى الشرق وإلا فلم يصل قط أحد من أنبيائهم وأتباعهم إلى الشرق ولم يشرع الله مكانا يصلى إليه إلا الكعبة. والأنبياء -الخليل ومن قبله- إنما كانوا يصلون إلى الكعبة وموسى صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلى إلى بيت المقدس بل قالوا أنه كان ينصب قبة العهد إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 العرب ويصلى إليها في التيه فلما فتح يوشع بيت المقدس بعد موت موسى نصب القبة على الصخرة فكانوا يصلون إليها فلما خرب بيت المقدس وذهبت القبة صارت اليهود يصلون إلى الصخرة لأنه موضع القبة والسامرة يصلون إلى جبل هناك قالوا لأنه كان عليه التابوت. ولما رأى علماء النصارى وعبادهم أن الروم واليونان مشركون واستصعبوا نقلهم إلى التوحيد المحض وضعوا لهم دينا مركبا من دين الأنبياء ودين المشركين فكان أولئك اليونان والروم يتخذون الأصنام المجسدة التي لها ظل فاتخذ النصارى الصور المرقومة في الحيطان والسقوف التي لا ظل لها وكان أولئك يسجدون للشمس والقمر فصارت النصارى يسجدون إليها وجعلوا السجود إليها بدلا من السجود لها. فضل محمد صلى الله عليه وسلم إمام التوحيد وأمته على من تقدم: ولهذا لما بعث الله خاتم المرسلين وأفضل النبيين محمدا صلى الله عليه وسلم إمام التوحيد الذي بعث الله به الرسل قبلة وأظهره وخلصه من شوائب الشرك فظهر التوحيد بسببه ظهورا فضله الله به وفضل به أمته على سائر من تقدم. الأنبياء كلهم كانوا مسلمين: فان الأنبياء جميعهم وأممهم كانوا مسلمين مؤمنين موحدين لم يكن قط دين يقبله الله غير الإسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أنه لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنا معشر الأنبياء ديننا واحد وإن أولى الناس بابن مريم لأنا أنه ليس بيني وبينه نبي" وقد أخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الله في القرآن عن جميع الأنبياء وأممهم من نوح إلى الحواريين أنهم كانوا مسلمين مؤمنين كما قد بسط في موضع آخر. وقد قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} فأمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وهؤلاء الخمسة هم أولوا العزم وذكرهم الله في آيتين من كتابه هذه السورة وفي قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وقال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} كما قال في يونس {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.} فالمرسلون صلوات الله عليهم أجمعين أولهم وأخرهم بعثوا بدين الإسلام وهو عبادة الله وحدة لا شريك له يعبد في كل وقت بما أمر أن يعبد به في ذلك الوقت فالصلاة إلى بيت المقدس كان لما أمر الله به من دين الإسلام ثم لما نهى عنه وأمر ب الصلاة إلى الكعبة صارت الصلاة إلى الكعبة من دين الإسلام دون الصلاة إلى الصخرة. فتنوع شرائع الأنبياء كتنوع الشريعة الواحدة ولهذا قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} فالشرعة الشريعة والمنهاج الطريق والسبيل فالشرعة كالباب الذي يدخل منه والمنهاج كالطريق الذي يسلك فيه والمقصود هو حقيقة الدين بان يعبد الله وحده لا شريك له وهذه الحقيقة الدينية التي اتفق عليها الرسل هي دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره والشرك الذي حرمه على السن رسله أن يعبد مع الله غيره. ومن لم يعبد الله أصلا كفرعون ونحوه ممن قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} فهؤلاء معطلة وهم شر الكفار ومع هذا يكون لهم ما يعبدونه دون الله كما قال تعالى في قوم فرعون: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} فقال غير واحد من السلف:" كان له آلهة يعبدها". ومن عبد مع الله إلها آخر فهو مشرك الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 كان مع ذلك يعتقد أن الله وحده خالق العالم وهذا كان شرك العرب كما أخبر الله عنهم في غير موضع من القرآن أنهم كانوا يقولون أن الله خلق العالم ولكن كانوا يتخذون الآلهة شفعاء يشفعون لهم يتقربون بهم إلى الله كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا أن الحوادث كان لها أسباب وإن كانت حركات الفلك من جملة الأسباب. فصل: القياس مع صحته لا يستفاد به علم بالموجودات. فصورة القياس لا يدفع صحتها لكن يبين أنه لا يستفاد به علم بالموجودات كما أن اشتراطهم للمقدمتين دون الزيادة والنقص شرط باطل فهو وإن حصل به يقين فلا يستفاد بخصوصه نفس مطلوب شيء من الموجودات بل ما يحصل به قد يحصل بدونه وقد يحصل بدونه ما لا يحصل به. فنقول أن صورة القياس إذا كانت مواده معلومة فلا ريب أنه يفيد اليقين وإذا قيل: كل أ: ب وكل ب: ج وكانت المقدمتان معلومتين فلا ريب أن هذا التأليف يفيد العلم بأن كل أ: ج وهذا لا نزاع فيه. فصورة القياس لا يتكلم على صحتها فان ذلك ظاهر سواء في ذلك الاقتراني المؤلف من الحمليات الذي هو قياس التداخل والاستثنائي المؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 من الشرطيات المتصلة الذي هو التلازم والتقسيم. وكذلك ما ذكروه من أن الشكل الأول من الاقتران يفيد المطالب الأربعة النتائج الأربعة: الموجبة والسالبة والجزئية والكلية وان الثاني يفيد السالبة الكلية والجزئية وأن الثالث يفيد الجزئية سالبة كانت أو موجبة. وفي التلازم استثناء عين المقدم ينتج عين التالي واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم وهو قول نظار المسلمين وجود الملزوم يقتضي وجود اللازم وانتفاء اللازم يقتضى انتفاء الملزوم بل هذا مع اختصاره فانه يشمل جميع أنواع الأدلة سواء سميت براهين أو أقيسة أو غير ذلك فان كل ما يستدل به على غيره فانه مستلزم له فيلزم من تحقق الملزوم الذي هو الدليل تحقق اللازم الذي هو المطلوب المدلول عليه ويلزم من انتفاء اللازم الذي هو المدلول عليه انتفاء الملزوم الذي هو الدليل. ولهذا كان من عرف أن المدعى باطل علم أنه لا يقوم عليه دليل صحيح فانه يمتنع أن يقوم على الباطل دليل صحيح ومن عرف أن الدليل صحيح علم أن لازمه الذي هو المطلوب حق فانه يجب إذا كان الدليل حقا أن يكون المطلوب المدلول عليه حقا وإن تنوعت صور الأدلة ومقدماتها وترتيبها. ولهذا كان الدليل الذي يصور بصورة القياس الاقتراني يصور أيضا بصورة الاستثنائي ويصور بصورة أخرى غير ما ذكروه من الألفاظ وترتيبها والمقصود هنا الكلام على ما ذكروه كما ذكرنا الكلام على الشرطي المتصل. والتقسيم قد يكون مانعا من الجمع والخلو كما يقال العدد أما شفع وأما وتر وهما في معنى النقيضين الذين لا يجتمعان ولا يرتفعان فقد يكون مانعا من الجمع دون الخلو كالضدين الذين لا يجتمعان وقد يرتفعان كما يقال هذا أما أسود وأما أحمر وقد يخلو منهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وقد يكون مانعا من الخلو دون الجمع كعدم المشروط ووجود الشرط والمراد بالشرط هنا ما يلزم من عدمه عدم الحكم سواء عرف ذلك بالشرع أو بالعقل مثل كون الطهارة شرطا في الصلاة والحيوة شرطا في العلم ليس المراد ما يسميه النحاة شرطا كالجملة الشرطية المعلقة ب أن وأخواتها فان هذا في المعنى سبب لوجود الجزاء ولفظ الشرط يقال على هذا وهذا بالاشتراك. ومن جعل لفظ الشرط ينقسم إلى الثلاثة فقد غلط فانه قد يجتمع عدم المشروط ووجود الشرط إذ وجود الشرط لا يستلزم وجود المشروط ولكن لا يرتفعان جميعا فلا يرتفع وجود الشرط وعدم المشروط لأنه حينئذ يعدم الشرط ويوجد المشروط وهذا لا يكون كما إذا قيل هذا غرق بغير ماء أو صحت صلاته بغير وضوء أو وجب رجمه بغير زنا فيقال هذا أما أن يكون في ماء وأما أن لا يغرق وأما أن يكون متطهرا وأما أن لا تصح صلاته وأما أن يكون زانيا وأما أن لا يجوز رجمه. وكذلك لو قيل ليس في الوجود واجب ولا ممكن ولا قديم ولا محدث فقيل لا بد في الوجود من واجب أو ممكن أو قديم أو محدث فهذان لا يجتمعان ولا يرتفعان. وكذلك إذا قيل الوجود أما قائم بنفسه كالجسم وأما قائم بغيره ك العرض فهذان لا يرتفعان وقد يجتمعان فكل ما لا يخلو الوجود عنهما مع إمكان اجتماعهما أو لا يخلو بعض الأنواع عنهما مع إمكان اجتماعهما فهو من هذا الباب كما إذا قيل الوارث بطريق الأصالة أما أن يرث بفرض وأما أن يرث بتعصيب وقد يجتمع في الشخص الواحد أن يكون ذا فرض وعصبة كالزوج إذا كان ابن عم أو معتقا. فالشرطي المتصل هو من التلازم والمنفصل هو في الثاني كما في الضدين والنقيضين وهذه الصورة صورة التقسيم الذي هو الشرطي المنفصل هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 أيضا تعود إلى اللزوم فانه يلزم من وجود احد الضدين عدم الآخر ومن عدمه وجوده وهذه مانعة الجمع والخلو. فهذه الأشكال وإن تكثرت فجميعها يعود إلى أن الدليل يستلزم المدلول ويمكن تصوير ذلك بصور متعددة مما ذكروه ومما لم يذكروه. فهم يقولون البرهان ينحصر في الاقتراني والاستثنائي فان الاقتراني ينحصر في أربعة أشكال والاستثنائي ينحصر في الشرطي المتصل والشرطي المنفصل فيعود إلى ستة أشكال وجمهورهم لا يذكرون الشكل الرابع من الاقترانيات لبعده عن الطبع وحصروها في أربعة بناء على حصرهم الدليل في مقدمتين تشتركان في حد أوسط ثم الأوسط أن كان محمولا في الصغرى موضوعا في الكبرى فهو الشكل الأول المنتج للمطالب الأربعة وإن كان موضوعا فيهما فهو الثاني المنتج للسلبيات وإن كان محمولا فيهما فهو الثالث المنتج للايجابيات وإن كان محمولا في الكبرى موضوعا في الصغرى عكس الأول فهو الرابع وهو أبعدها عن الطبع وأكثرهم لا يذكونه فيجعلون الأشكال خمسة هذه الثلاثة مع الاستثنائي الشرطي المتصل والشرطي المنفصل. فهذه الأشكال إذا قدر أفادتها فهي صورة من صور الأدلة لا ينحصر تصوير الأدلة في هذه الأشكال كما لا ينحصر تصوير الدليل في مقدمتين بل هذا الحصر خطأ في النفي والإثبات فقد يكون الدليل مقدمة وقد يكون مقدمات وهذه الأشكال تكثر تصوير الدليل على أشكال أخر غير هذه فلا تنحصر في خمسة أو ستة وقد يؤتى بالدليل بدون هذه الأشكال جميعها وبدون المقدمتين إذا كان مقدمة واحدة. وإذا قالوا أن جميع ما يذكر من الأدلة يرجع إلى هذه الأشكال قيل لهم بل جميع الأدلة يرجع إلى أن الدليل مستلزم للمدلول وحينئذ فإما أن يكون الاعتبار بما ذكروه من صور الأشكال ولفظها أو بما ذكروه من المعنى فان كانت العبرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 بالصورة لم يكن تخصيص صورة الدليل بخمسة أو ستة صوابا كما لم يكن تخصيصه بمقدمتين صوابا إذ كان يمكن تصويره بصور كثيرة متنوعة ليس فيها لفظ شرط لا متصل ولا منفصل ولا هو على صورة القياس الحملى كما ذكروه وإن كانت العبرة بالمعنى كان ذلك أدل عل فساد ما ذكروه فان المعنى هو أن يكون ما يستدل به مستلزما لما يستدل به عليه سواء كان مقدمة أو مقدمتان أو أكثر وسواء كان على الشكل والترتيب الذي ذكروه أو غيره. والصواب في هذا الباب أن يقال ما ذكروه إذا كان صوابا فانه تطويل للطريق وتبعيد للمطلوب وعكس للمقصود فإنهم زعموا أنهم جعلوه آلة قانونية تمنع الذهن أن يزل في فكره وما ذكروه إذا كلفوا الناظر المستدل أن يلزمه في تصوراته وتصديقاته كان أقرب إلى زلله في فكره وضلاله عن مطلوبه كما هو الواقع فلا تجد أحدا التزم وضع هؤلاء واصطلاحهم إلا كان أكثر خطأ وأقل صوابا ممن لم يلتزم وضعهم وسلك إلى المطلوب بفطرة الله التي فطر عباده عليها ولهذا لا يوجد أحد ممن حقق علما من العلوم كان ملتزما لوضعه. ولهذا يقال كثرة هذه الأشكال وشروط نتاجها تطويل قليل الفائدة كثير التعب فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقل فانه متى كانت المادة صحيحة أمكن تصويرها بالشكل الأول الفطري فبقية الأشكال لا يحتاج إليها وإنما تفيد بالرد إلى الشكل الأول أما بإبطال النقيض الذي يتضمنه قياس الخلف وأما بالعكس المستوي أو عكس النقيض فان ثبوت أحد المتناقضين يستلزم نفي الآخر إذا روعي التناقض من كل وجه فهم يستدلون بصحة القضية على بطلان نقيضها وعلى ثبوت عكسها المستوي وعكس نقيضها بل تصور الذهن بصورة الدليل يشبه حساب الإنسان لما معه من الرقيق والعقار. والفطرة تصور القياس الصحيح من غير تعليم والناس بفطرهم يتكلمون ب الأنواع الثلاثة التداخل والتلازم والتقسيم كما يتكلمون بالحساب ونحوه والمنطقيون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 قد يسلمون ذلك. ويقولون أن المقدمتين لا بد منها لا أكثر ولا أقل ويقولون أكثر الناس يحذفون إحدى المقدمتين لظهورها اختصارا ويسمون هذا قياس الضمير وإن احتجاج المطلوب إلى مقدمات جعلوا القياس معنى أقيسة متعددة بناء على قولهم أنه لابد في القياس من مقدمتين ويسمونه القياس المركب ويقسمونه إلى موصول وهو ما لا يذكر فيه إلا نتيجة واحدة والى مفصول وهو ما يذكر فيه عقب كل مقدمتين نتيجة فالأول كقولك هذا نبيذ وكل نبيذ مسكر وكل مسكر خمر وكل خمر حرام فهذا حرام والثاني كقولك هذا نبيذ وكل نبيذ مسكر فهذا مسكر ثم تقول وكل مسكر خمر وكل خمر حرام فكل مسكر حرام ثم تقول هذا مسكر وكل مسكر حرام فهذا حرام. وهذا كله مما غلطوا فيه والصواب الذي عليه جماهير النظار من المسلمين وغيرهم أن الدليل قد يتوقف على مقدمة تارة وقد يتوقف على مقدمتين تارة وعلى ثلاث تارة وعلى أكثر من تلك فما كان من المقدمات معلوما لم يحتج أن يستدل عليه وإنما يستدل على المجهول والمطلوب المجهول يعلم بدليله ودليله ما استلزمه وكل ملزوم فانه يصح الاستدلال به على لازمه وحينئذ فإذا كان المطلوب ملزوم يعلم لزومه له استدل عليه به وكفى ذلك وإن لم يكن المستدل يعلم إلا ملزوم ملزومه احتاج إلى مقدمتين وإن لم يعلم إلا ملزوم ملزوم ملزومه احتجاج إلى ثلاث وهلم جرا. بيان أن حصول العلم لا يتوقف على القياس المنطقي: وإذا كان كذلك فنقول لا ننكر أن القياس يحصل به علم إذا كانت مواده يقينية لكن نحن نبين أن العلم الحاصل به لا يحتاج فيه إلى القياس المنطقي بل يحصل بدون ذلك فلا يكون شيء من العلم متوقفا على هذا القياس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ونبين أن المواد اليقينية التي ذكروها لا يحصل بها علم بالأمور الموجودة فلا يحصل بها مقصود تزكو به النفوس. بل ولا علم بالحقائق الموجودة في الخارج على ما هي عليه إلا من جنس ما يحصل ب قياس التمثيل فلا يمكن قط أن يحصل بالقياس الشمولى المنطقي الذي يسمونه البرهاني علم إلا وذلك يحصل ب قياس التمثيل الذي يستضعفونه فان ذلك القياس لا بد فيه من قضية كلية والعلم بكون الكلية كلية لا يمكن الجزم به إلا مع الجزم بتماثل أفراده في القدر المشترك وهذا يحصل ب قياس التمثيل. وكلا القياسين ينتفع به إذا تلقت بعض مقدماته الكلية عن خبر المعصوم إذا استعملت في الإلهيات بطريق الأولى كما جاء به القران وأما بدون هذين فلا ينفع في الإلهيات ولا ينفع أيضا في الطبيعيات منفعة علمية برهانية وإنما يفيد قضايا عادية قد تنحرف فتكون من باب الأغلب. وأما الرياضي المجرد عن المادة كالحساب والهندسة فهذا حق في نفسه لكن ليس له معلوم في الخارج وإنما هو تقدير عدد ومقدار في النفس لكن ذلك يطابق أي معدود ومقدر واقعه في الخارج والبرهان لا يقوم إلا على ما في النفس لا يقوم على ما في الخارج وأكثر ما تعبوا في الهندسة ليتوصلوا بذلك إلى علم الهيئة كصفة الأفلاك والكواكب ومقادير ذلك وحركاته وهذا بعضه معلوم ب البرهان وأكثره غير معلوم ب البرهان وبينهم فيه من الاختلاف ما يطول وصفه فصار المعلوم ببراهينهم من الرياضي وغيره أمر لا تزكو به النفوس ولا يعلم به الأمور الموجودة إلا كما يعلم ب قياس الثمثيل. وهذا يظهر بالكلام في مادة القياس فنقول هم لا ريب عندهم أنه لا بد في كل قياس من قضية كلية ولا قياس في جميع الأشكال لا عن سالبتين ولا عن جزئيتين ولا عن صغرى سالبة مع كبرى جزئية لكن قد يكون عن صغرى جزئية مع كبرى سالبه كلية والمقصود أنه لا بد في القياس في جميع صورة من قضية كلية وفي أكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 القياس لا بد من موجبة كلية بل النتيجة الكلية لا تكون إلا عن موجبة كلية والسالبة الكلية لا تفيد حكما كليا إلا مع موجبه كلية. بيان أصناف اليقينيات عندهم التي ليس فيها قضية كلية: فإذا كان لا بد في كل قياس من قضية كلية فنقول المواد اليقينيات قد حصروها في الأصناف المعروفة عندهم. أحدها: الحسيات ومعلوم أن الحس لا يدرك أمرا كليا عاما أصلا فليس في الحسيات المجردة قضية كلية عامة تصلح أن تكون مقدمة في البرهان اليقيني وإذا مثلوا ذلك ب أن النار تحرق ونحو ذلك لم يكن لهم علم بعموم هذه القضية وإنما معهم التجربة والعادة التي هي من جنس قياس التمثيل لما يعلمونه من الحكم الكلى لا فرق بينه وبين قياس الشمول وقياس التمثيل وإن علم ذلك بواسطة اشتمال النار على قوة محرقة فالعلم بأن كل نار لا بد فيها من هذه القوة هو أيضا حكم كلى. وإن قيل أن الصورة النارية لا بد أن تشتمل على هذه القوة وأن ما لا قوة فيه ليس بنار فهذا الكلام إذا قيل أنه صحيح قيل أنه لا يفيد الجزم بأن كل ما فيه هذه القوة تحرق كل ما لاقاه وإن كان هو الغالب فهذا يشترك فيه قياس والتمثيل والشمول والعادة والاستقراء الناقص ومعلوم أن كل من قال أن كل نار تحرق كل ما لاقته فقد أخطأ فانه لا بد من كون المحل قابلا للإحراق إذ قد علم أنها لا تحرق كل شيء كما لا تحرق السمندل والياقوت وكما لا تحرق الأجسام المطلية بأمور مصبوغة وأما خرق العادة فمقام آخر. ولا أعلم في القضايا الحسية كلية لا يمكن نقضها مع أن القضية الكلية ليست حسية وإنما القضية الحسية أن هذه النار تحرق فان الحس لا يدرك إلا شيئا خاصا وأما الحكم العقلي فيقولون أن النفس عند رؤيتها هذه المعينات تستعد لان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 تفيض عليها قضية كلي بالعموم ومعلوم أن هذا من جنس قياس التمثيل ولا يوثق بعمومه أن لم يعلم أن الحكم العام لازم للقدر للمشترك وهذا إذا علم علم في جميع المعينات فلم يكن العلم بالمعينات موقوفا على هذا. مع أنه ليس من القضايا العاديات قضية كلية لا يمكن نقضها باتفاق العقلاء بل والفلاسفة يجوزون خرق العادات لكن يذكرون أن لها أسبابا فلكية أو قوى نفسانية أو أسبابا طبيعية فهذه الثلاثة هي أسباب خرق العادات عندهم والى ذلك ينسبون معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء والسحر وغير ذلك وقد بسطنا الكلام على ذلك في مسألة معجزات الأنبياء هل هي قوى نفسانية أم لا وبينا فساد قولهم هذا حتى عند جماهير أساطين الفلاسفة بالأدلة الصحيحة بما ليس هذا موضعه وهي المعروفة ب مسألة الصفدية. والثاني: الوجديات الباطنة كادراك كل احد جوعه وعطشه وحبه وبغضه وألمه ولذته وهذه كلها جزئيات وإنما يعلم الإنسان حال غيره والقضية الكلية ب قياس التمثيل بل هذه لا يشترك الناس في إدراك كل جزئي منها كما قد يشتركون في إدراك بعض الحسيات المنفصلة كالشمس والقمر ففيها من الخصوص في المدرك والمدرك ما ليس في الحسيات المنفصلة وإن اشتركوا في نوعها فهي تشبه العاديات. زعمهم تساوي النفوس سبب ضلالهم في معرفة النبوات: ولم يقيموا حجة على وجوب تساوي النفوس في هذه الأحوال بل ولا على النفس الناطقة أنها مستوية الأفراد وهذا من أسباب ضلالهم في معرفة النبوات فإنهم عرفوا كثيرا من الأحكام التي تشترك فيها النفوس عادة وإن جاز انخرامها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 ثم بلغهم أمور أخرى خارجة عن قياسهم فأرادوا إجراء تلك على ذلك القياس فرأوا أن لبعض النفوس قوة حدسية وانه قد يكون لها تأثير في بعض الأمور وقد يتخيل إليها ما تعلمه كما يتخيل إلى النائم ما يراه فظنوا أن جميع ما يحصل للنفوس من الوحي ونزول الملائكة وسمع كلام الله هو من هذا الباب وجعلوا خاصة النبوة هي هذه الثلاث فمن وجدت فيه كان نبيا وقالوا النبوة مكتسبة وصار فضلاؤهم تتعرض لأن يصيروا أنبياء كما جرى للسهرودي المقتول ولابن سبعين وغيرهم. وابن عربي لما علم أنه لا يمكن دعوى النبوة ادعى ختم الولاية وادعى أن خاتم الأولياء أكمل في العلم بالله من خاتم الأنبياء وانه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى النبي وكان سبب هذا اعتقاد قول هؤلاء المتفلسفة الملاحدة أن النبي يأخذ عن جبريل الذي هو خيال في نفسه وذلك الخيال يأخذ عن العقل قال فالنبي يأخذ عن هذا الخيال وأنا اخذ عن العقل الذي يأخذ منه الخيال. وضموا هذا إلى أن جميع الحوادث إنما تحدث عن حركة الفلك وهو من افسد أصولهم التي ضلوا بها. والثالث: المجريات وهي كلها جزئية فان التجربة إنما تقع على أمور معينة وكذلك المتواترات فان المتواترات إنما هو ما علم بالحس من مسموع أو مرئي فالمسموع قول معين والمرئي جسم معين أو لون معين أو عمل معين أو أمر ما معين. وأما الحدسيات أن جعلت يقينية فهي نظير المجريات إذا الفرق بينهما لا يعود إلى العموم والخصوص وإنما يعود إلى أن المجريات تتعلق بما هو من أفعال المجربين والحدسيات تكون عن أفعالهم وبعض الناس يسمى الكل تجربيات. لا تستعمل القضايا الكلية في شيء من الموجودات: فلم يبق معهم إلا الأوليات التي هي البديهيات العقلية والأوليات الكلية إنما هي قضايا مطلقة في الأعداد والمقادير ونحوها مثل قولهم الواحد نصف الاثنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك وهذه مقدرات في الذهن ليست في الخارج كلية. فقد تبين أن القضايا الكلية البرهانية التي يجب القطع بكليتها التي يستعملونها في قياسهم لا تستعمل في شيء من الأمور الموجودة المعينة وإنما تستعمل في مقدرات ذهنية فإذا لا يمكنهم معرفة الأمور الموجودة المعينة بالقياس البرهاني وهذا هو المطلوب. لا دليل لهم على حصر أقسام الوجود في المقولات العشر: ولهذا لم يكن لهم علم بحصر أقسام الوجود بل أرسطو لما حصر أجناس الموجودات من المقولات العشر الجوهر والكم والكيف والأين ومتى والوضع وأن يفعل وان ينفعل والملك وقد جمعها بعضهم في بيتين فقال: زيد الطويل الأسود ابن مالك ... في داره بالأمس كان يتكى في يده سيف نضاه فانتضى ... فهذه عشر مقولات سوى لما حصرهم المعلم الأول في الجوهر والأعراض التسعة اتفقوا على أنه لا سبيل إلى معرفة صحة هذا الحصر حتى جعل بعضهم أجناس الأعراض ثلاثة وقيل غير ذلك. لا دليل لهم على حصر الموجودات في الجواهر الخمسة: وكذلك لما قسموا الجوهر إلى خمسة أقسام العقل والنفس والمادة والصورة والجسم وجعلوا الجسم قسمين فلكيا وعنصريا والعنصري الأركان التي هي الاستقصاآت والمولدات الحيوان والنبات والمعدن كان هذا التقسيم مع فساده في الإثبات ليس حصر الموجودات فيه معلوما فانه لا دليل لهم على حصر الأجسام في الفلكيات والعنصريات وهم معترفون بإمكان وجود أجسام وراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 الأفلاك فلا يمكن الحصر فيما ذكر حتى يعلم انتفاء ذلك وهم لا يعلمون انتفاءه فكيف وقد قامت الأدلة على ثبوت أعيان قائمة بأنفسها فوق الأفلاك كما قد بسط في موضعه. وهم منازعون في واجب الوجود هل هو داخل في مقولة الجوهر فأرسطو والقدماء كانوا يجعلونه من مقولة الجوهر وابن سينا امتنع من ذلك لكن أرسطو واتباعه لم يكونوا يقولون واجب الوجود إنما يقولون العلة الأولى والمبدأ وليس في كلام أرسطو تقسيم الموجودات إلى واجب بنفسه وممكن بنفسه مع كونه قديما أزليا بل كان الممكن عندهم الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثا وإنما قسمه هذه القسمة متأخروهم من الملاحدة الذين انتسبوا إلى الإسلام كابن سينا وأمثاله وجعلوا هذا عوضا عن تقسيم المتكلمين الموجود إلى قديم وحادث وسلكوا طريقة وركبوها من كلام المتكلمين ومن كلام سلفهم مثل استدلال أولئك بالتركيب على الحدوث فاستدل هو بالتركيب على الإمكان. الكلام على قول الخليل عليه السلام {هَذَا رَبِّي} : وأولئك زعموا أن قول إبراهيم: {لا أحب الآفِلِينَ} المراد به المتحركين لأن الحركة حادثة والحادث لا يقوم إلا بحادث فهي سمة الحدوث فاستدل بالحدوث على حدوث المتحرك والمعنى لا أحب المحدثين الذين تقوم بهم الحوادث. فقال هؤلاء بل الأفول الذي هو الحركة دليل على أن المتحرك ممكن وان كان قديما أزليا قالوا والأفول هوى في حظيرة الإمكان وقوله لا أحب الآفلين أي الممكنين وان كان الممكن قديما. وكان قدماء المتكلمين يمثلون الدليل العقلي بقولهم كل متغير محدث والعالم متغير فهو محدث فجاء الرازي في محصله فجعل يمثل ذلك بقوله كل متغير ممكن والعالم متغير فهو ممكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وإبراهيم صلى الله عليه وسلم لم يرد هذا ولا هذا كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن كل واحد من الاستدلال بالحركة على الحدوث أو الإمكان دليل باطل كما يقول ذلك أكثر العقلاء من اتباع الأنبياء وأهل الكلام وأساطين الفلاسفة. ولكن كان قومه يعبدون الكواكب مع اعترافهم بوجود رب العالمين وكانوا مشركين يتخذ احدهم له كوكبا يعبده ويطلب حوائجه منه كما تقدم الإشارة إليه ولهذا قال الخليل عليه السلام: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} وقال تعالى أيضا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} فأمر سبحانه بالتأسي بإبراهيم والذين معه في قولهم لقومهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . وكذلك ذكر الله عنه في سورة الصافات أنه قال لقومه: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وقال لهم: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} . فالقوم لم يكونوا جاحدين لرب العالمين ولا كان قوله: {هَذَا رَبِّي} هذا الذي هو خلق السموات والأرض على أي وجه قاله سواء قاله إلزاما لقومه أو تقديرا أو غير ذلك ولا قال احد قط من الآدميين أن كوكبا من الكواكب أو أن الشمس والقمر أبدعت السموات كلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ولا يقول هذا عاقل بل عباد الشمس والقمر والكواكب يعبدونها كما يعبد عباد الأصنام للأصنام وكما يعبد عباد الأنبياء والصالحين لهم ولتماثيلهم وكما يعبدون آخرون الملائكة وآخرون يعبدون الجن لما يرجون بعبادتها من جلب منفعة أو دفع مضرة لا لاعتقادهم أنها خلقت العالم. بل قد يجعلونها شفعاء ووسائط بينهم وبين رب العالمين كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} وقال تعالى: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} . والشفاعة التي أخبرت بها الرسل هي أن يأذن الله للشفيع فيشفع فيكون الأمر كله لله كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} وهذا بخلاف ما اتخذه المشركون من الشفعاء. وأما الفلاسفة القائلون بقدم العالم فالشفاعة عندهم أن يفيض على المستشفع من الشفيع ما يقصده من غير قصد الشفيع ولا سؤال منه كما ينعكس شعاع الشمس من المرآة على الحائط وقد ذكر ذلك ابن سينا ومن تلقى عنه كصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها ومن اخذ عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وهذا الشرك أعظم من شرك مشركي العرب والنصارى ونحوهم فان أولئك كانوا يقولون صانع العلم فاعل مختار وان الشافع يستله ويدعوه لكن يثبتون شفاعة بغير إذنه وشفاعة لما ليس له شفاعة ويعبدون الشافع ويسألونه من دون الله ويصورون على تمثاله صورة يعبدونها وكانت الشياطين تدخل في تلك الأصنام وتكلمهم وتتراأى للسدنة أحيانا كما يوجد نظير ذلك في هذا الزمان مواضع كثيرة. بقية الكلام على الجواهر الخمسة: وأيضا فدعواهم أن الجوهر جنس تحته أربعة وهي العقل والنفس والمادة والصورة والخامس هو الجسم إذا حقق الأمر عليهم كان ما يثبتونه من العقليات إنما هو موجود في الذهن والعقل بمنزلة الكليات لا وجود لها في الخارج وقد اعترف بهذا من ينصرهم ويعظمهم كابن حزم وغيره. رد لقول من زعم أن عالم الغيب هو العالم العقلي: ومن زعم أن عالم الغيب أخبرت به الرسل هو العالم العقلي الذي يثبته هؤلاء فهو من أضل الناس فان ابن سينا ومن سلك سبيله في هذا كالشهرستاني والرازي وغيرهما يقولون أن الإلهيين يثبتون العالم العقلي ويردون على الطبيعيين منهم الذين لا يثبتون إلا العالم الحسي ويدعون أن العالم العقلي الذي يثبتونه هو ما أخبرت به الرسل من الغيب الذي أمروا بالإيمان به مثل وجود الرب والملائكة والجنة. وليس الأمر كذلك فان ما يثبتونه من العقليات إذا حقق الأمر لم يكن لها وجود إلا في العقل وسميت مجردات ومفارقات لأن العقل يجرد الأمور الكلية على المعينات. وأما تسميتها مفارقات فكان أصله أن النفس الناطقة تفارق البدن وتصير حينئذ عقلا وكانوا يسمون ما جامع المادة بالتدبير لها كالنفس قبل الموت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 نفسا وما فارقها بالكلية فلم يتعلق بها لا تعلق تدبير ولا غيره عقلا ولا ريب أن النفس الناطقة قائمة بنفسها باقية بعد الموت منعمة أو معذبة كما دل على ذلك نصوب الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ثم تعاد إلى الأبدان ومن قال من أهل الكلام أن النفس عرض من أعراض البدن أو جزء من أجزائه فقوله بدعة ولم يقل ذلك أحد من سلف الأمة. ولكن ما يدعون ثبوته في الخارج من المجردات العقلية لا يثبت على السير العقلي له تحقق إلا في الذهن. إثبات المجردات في الخارج هو مبدأ فلسفتهم: وهذا كان مبدأ فلسفة هؤلاء فإنهم نظروا في الأجسام الطبيعية فعلموا القدر المشترك الكلى فصاروا يظنون ثبوته في الخارج فكان أولهم فيثاغورس وشيعته أثبتوا أعدادا مجردة في الخارج ثم رد ذلك عليهم أفلاطون وشيعته وأثبتوا ماهيات كلية مجردة مثل إنسان كلى وفرس كلى أزلي أبدى خارج الذهن وأثبتوا أيضا زمانا مجردا سموه الدهر وأثبتوا مكانا مجردا سموه الخلاء واثبتوا مادة مجردة عن الصور وهي المادة الأولى والهيولى الأولى عندهم. فجاء أرسطو وشيعته فردوا ذلك كله عليهم ولكن أثبتوا هذه المجردات في الخارج مقارنة للأعيان وفرقوا بين الشيء الموجود في الخارج وبين ماهيتة الكلية المقارنة لأفرادها في الخارج كما ذكر ذلك ابن سينا وأمثاله وغلط هؤلاء في هذا وكذلك أثبتوا العقول العشرة وظنوا وجودها في الخارج وهم غالطون في ذلك وأدلتهم عليها في غاية الفساد وأما النفوس الفلكية فكان قدماؤهم يجعلونها أعراضنا لكن ابن سينا وطائفة رجحوا أنها جواهر قائمة بنفسها كنفس الإنسان وهذا لبسطه موضع آخر. كون منتهى محققيهم الوجود المطلق الكلى الخيالي: والمقصود هنا أن ما يثبتونه من العقليات إذا حققت لم تكن إلا ما ثبت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 عقل الإنسان كالأمور الكلية فإنها عقلية مطابقة لأفرادها الموجودة في الخارج وكذلك العدد المجرد عن المعدود والمقدار المجرد عن المقدور والماهية المجردة عن الوجود والزمان المجرد عن الحركة والمكان المجرد عن الجسم وأعراضهم. ولهذا كان منتهى محققيهم الوجود المطلق وهو الوجود المشترك بين الموجودات وهذا إنما يكون مطلقا في الأذهان لا في الأعيان والمتفلسفة يجعلون الكلي المشترك موضوع العلم الإلهي. وأما الوجود الواجب فتارة يقولون هو الوجود المقيد بالقيود السلبية كما يقوله ابن سينا وتارة يجعلونه المجرد عن كل قيد سلبي وثبوتي كما يقوله بعض الملاحدة من باطنية الرافضة والاتحادية وتارة يجعلونه نفس وجود الموجودات فلا يجعلون للممكنات وجودا غير الوجود الواجب وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع. وغايتهم أنهم يجعلون في أنفسهم شيئا ويظنون أن ذلك موجود في الخارج ولهذا تمدهم الشياطين فان الشياطين تتصرف في الخيال وتلقى في خيالات الناس أمورا لا حقيقة لها ومحققو هؤلاء يقولون ارض الحقيقة هي ارض الخيال. كون أمور الغيب موجودة ثابتة مشهودة: وأما ما أخبرت به الرسل صلى الله عليه وسلم من الغيب فهو أمور موجودة ثابتة أكمل وأعظم مما نشهده نحن في هذه الدار وتلك أمور محسوسة تشاهد وتحس ولكن بعد الموت وفي الدار الآخرة ويمكن أن يشهدها في هذه الدار من يختصه الله بذلك ليست عقلية قائمة بالعقل ولهذا كان الفرق بينها وبين الحسيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 التي تشهدها أن تلك غيب وهذه شهادة قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} . وكون الشيء غائبا وشاهدا أمر إضافي بالنسبة إلينا فإذا غاب عنا كان غيبا وإذا شهدناه كان شهادة وليس هو فرقا يعود إلى أن ذاته تعقل ولا تشهد ولا تحس بل كل ما يعقل ولا يمكن أن يشهد بحال فإنما يكون في الذهن. والملائكة يمكن أن يشهدوا ويروا والرب تعالى يمكن رؤيته بالأبصار والمؤمنون يرونه يوم القيامة وفي الجنة كما تواترت النصوص في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها. وإمكان رؤيته يعلم بالدلائل العقلية القاطعة لكن ليس هو الدليل الذي سلكه طائفة من أهل الكلام كأبي الحسن وأمثاله حيث ادعوا أن كل موجود يمكن رؤيته بل قالوا ويمكن أن تتعلق به الحواس الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس فان هذا مما يعلم فساده بالضرورة عند جماهير العقلاء. أغاليط المتكلمين والمتفلسفة: وهذا من أغاليط بعض المتكلمين كغلطهم في قولهم أن الأعراض يمتنع بقاؤها وان الأجسام متماثلة وأنها مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل قسمة ولا يتميز منها جانب من جانب فان هذا غلط وقول المتفلسفة بأنها مركبة من المادة والصورة العقليين أيضا غلط كما قد بسط هذا كله في غير هذا الموضع. وكذلك غلط من غلط من المتكلمين وادعى أن الله لم يخلق شيئا لسبب ولا لحكمة ولا خص شيئا من الأجسام بقوى وطبائع وادعى أن كل ما يحدث فان الفاعل المختار الذي يخص احد المتماثلين بلا تخصيص أصلا يحدثه وأنكر ما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 مخلوقات الله وما في شرعه من الحكم التي خلق وأمر لأجلها. فان غلط هؤلاء مما سلط أولئك المتفلسفة وظنوا أن ما يقول هؤلاء وأمثالهم هو دين المسلمين أو قول الرسول وأصحابه ولهذا كانت مناظرة ابن سينا وأمثاله في كتبهم لمبتدعة أهل الكلام فعامة مناظرة ابن سينا هي للمعتزلة وابن رشد للكلابية وكانوا إذا بينوا فساد بعض ما يقوله مبتدعة أهل الكلام يظنون أنه لم يبق حق إلا ما يقولونه هم وذلك بالعكس وليس الأمر كذلك بل ما يقوله مبتدعة أهل الكلام فيه خطأ مخالف للشرع والعقل. والخطأ فيما تقوله المتفلسفة في الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع أعظم من خطأ المتكلمين وأما فيما يقولونه في العلوم الطبيعية والرياضية فقد يكون صواب المتفلسفة أكثر من صواب من رد عليهم من أهل الكلام فإن أكثر كلام أهل الكلام في هذه الأمور بلا علم ولا عقل ولا شرع. ونحن لم نقدح فيما علم من الأمور الطبيعية والرياضية لكن ذكرنا أن ما يدعونه من البرهان الذي يفيد علوما يقينية كلية بالأمور الطبيعية ليس كما يدعونه بل غالب الطبيعيات إنما هي عادات تقبل التغير ولها شروط وموانع وهم لا يريدون بالقضايا البرهانية الواجب قبولها إلا ما يكون لزوم المحمول منها للموضوع لزوما ذاتيا لا يقبل التغير بحال فإذا قالوا كل اب لم يريدوا أن كل ما هو في الوجود افهو ب ولا كل ما جد أو سيوجد وإنما يريدون أن كل ما يفرض ويقدر في العقل بل في نفس الأمر مع قطع النظر عن الوجودين الذهني والخارجي فهو ب كما قالوا كل إنسان حيوان فالطبيعة الإنسانية من حيث هي تستلزم الحيوانية. وهم يدعون أن الماهية قد تنفك عن الوجودين الخارجي والذهني وهي من أغاليطهم ومعلوم أن هذا أن أريد به الإنسان المعروف فالإنسان المعروف لا يكون إلا حيوانا وهذا أمر واضح ليس هو مما يطلب علمه بالبراهين فالصفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 اللازمة للموصوف التي لا يكون له حقيقة إلا بها لا توجد بدونها. وقد بسط الكلام على فرقهم بين اللازمة وبين الذاتية المقومة الداخلة في الماهية وبين اللازمة للماهية واللازمة لوجودها وبين أن هذا كله باطل إلا إذا أريد ب الماهية ما يتصور في الذهن وبالوجود ما يكون في الخارج فالفرق بين مصورات الأذهان وموجودات الأعيان فرق صحيح وأما أن يدعي في الخارج جوهرين قائمين بأنفسهما أحدهما الإنسان المحسوس والآخر إنسان معقول ينطبق على كل واحد من أفراد الإنسان ويدعي أن الصفات اللازمة التي لا يمكن تحقق الموصوف إلا بها منها ما هو داخل مقوم لماهيته الموجودة في الخارج ومنها ما هو خارج عارض لماهيته الموجودة في الخارج فهذا كله باطل كما قد بسط في غير هذا الموضع. أقيستهم مبنية على القضايا الكلية لا علم لهم بها: والمقصود أن ما يذكرونه من الإلهية في العلوم الإلهية والطبيعية وما يتعلق بها فلا يفيد يقينا إلا كما يفيد قياس التمثيل إذ هي مبنية على قضية كلية لا يقين عندهم بأنها كلية إلا كاليقين الذي عندهم بقياس التمثيل ولا سبيل لهم إلى ذلك مثل قولهم في العلم الإلهي الواحد لا يصدر عنه إلا واحد والشيء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا وأمثال هذه القضايا الكلية التي لا علم لهم بها ولا يستدلون على ذلك إلا بقياس فيه قضية كلية لا علم لهم بها وإن كان يمكن إبطالها. لكن المقصود هنا بيان أنه لا علم بالموجود يحصل عن قياسهم وهذا باب واسع يظهر بالتدبر. الكلام على الواحد البسيط الذي يجعلونه مبدأ المركبات: فإن قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد قضية كلية وهم لم يعرفوا في الوجود قط شيئا واحدا من كل وجه صدر عنه شيء لا واحد ولا اثنان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 والواحد البسيط الذي يصفون به واجب الوجود من جنس الواحد البسيط الذي يجعلونه مبدأ المركبات إذا قالوا الإنسان مركب من الحيوانية والناطقية وينتهي الأمر إلى واحد بسيط لا تركيب فيه فان هذا الواحد لا يوجد إلا في الذهن لا في الخارج. فان قولهم إنسان مركب من الحيوان والناطق والحيوانية والناطقية لا يصح منه إلا ما يتصور في الذهن فان المتصور يتصور في نفسه إنسانا ناطقا وجسما حساسا متحركا بالإرادة ناطقا فيكون كل من هذه الأجزاء جزءا مما تصوره في نفسه واللفظ الدال على جميعها يدل عليها بالمطابقة وعلى أبعاضها بالتضمن وعلى لازمها بالالتزام ومجموعها هي تمام الماهية المتصورة في الذهن والداخل فيها هو الداخل في تلك الماهية والخارج عنها هو الخارج عن تلك الماهية وتلك الماهية بحسب ما يتصوره الذهن فإذا تصور إنسانا ضاحكا كان الضاحك جزء هذه الماهية. وأما دعوى المدعي أن الإنسان الموجود في الخارج مركب من وهذا فلا يصح إلا إذا أريد به أنه متصف بهذين الوصفين وهما قائمان به وهو حامل لهما كما يحمل الجوهر أعراضه والموصوف صفاته. وأما أن يقال أن الجوهر مركب من أعراض أو مركب من جواهر أحدها جسم والآخر حساس والآخر نام والآخر متحرك بالإرادة وان هذا الإنسان المعين فيه جواهر متعددة بتعدد هذه الأسماء وان الجوهر الذي هو الحساس ليس هو الذي هو متحركا بالإرادة ولا الذي هو جسم ولا الذي هو ناطق ولا الناطق هو الحساس فهذا مما يعلم فساده بعد تصوره بالصورة. توحيد واجب الوجود عند الفلاسفة: وكذلك الواحد الذي يصفون به واجب الوجود وانه مجرد عن جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الصفات الثبوتية ليس له حياوة ولا علم ولا قدرة ولا كلام ويقولون مع ذلك هو عأقل ومعقول وعقل ولذيذ وملتذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق ويقولون أن كل صفة من هذه الصفات هي الأخرى فاللذة هي العقل والعقل هي العشق ويقولون أن كل صفة من هذه الصفات هي الموصوف والعلم هو العالم واللذة واللذة هي الملتذ والعشق هو العاشق فهذا ونحوه من أقوالهم في صفات واجب الوجود مما إذا تصوره المتصور تصورا صحيحا كان مجرد تصوره يوجب العلم الضروي بفساده. وقد بسطنا الكلام عليه وبينا ما ألجأهم إلى القول بهذا وكلامهم في التركيب وبينا أن أكثر الفلاسفة المتقدمين قبل أرسطو وكثير من المتأخرين كأبي البركات صاحب المعتبر وغيره لا يقولون بهذا بل ردوا على من قاله واصل هذا كله ما ادعوه من أن إثبات الصفات تركيب ممتنع وهذا أخذوه عن المعتزلة ليس هذا من كلام أرسطو وذويه وقد تكلمنا في بيان فساده في مصنف مفرد في توحيد الفلاسفة وفي شرح الاصبهانية والصفدية وغير ذلك. ثم بنوا هذا على أن الواحد لا يكون فاعلا وقابلا لأن ذلك يستلزم التركيب وان الواحد لا يصدر عنه إلا واحد لأن صدور اثنين يقتضى تعدد المصدر فمصدر ج غير مصدر ب وذلك يستلزم التركيب الممتنع. فمدار كلامهم في التوحيد والصفات كله على لفظ التركيب وقد بسطنا القول فيه وبينا ما في هذا اللفظ من إجمال فان التركيب خمسة أنواع: أحدها: تركب الذات من وجود وماهية والثاني: تركيبها من وصف عام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ووصف خاص كالمركب من الجنس والفصل والثالث: تركيب من ذات وصفات والرابع: تركيب الجسم من المادة والصورة والخامس: تركيبه من الجواهر المنفردة. وقد بينا أن ما يدعونه من التركيب من الوجود والماهية ومن الجنس والفصل باطل وأما تركيب الجسم من هذا وهذا فأكثر العقلاء يقولون الجسم ليس مركبا لا من المادة والصورة ولا من الجواهر المنفردة لم يبق إلا ذات لها صفات. وقد بينا أن المركب يقال على ما ركبه غيره وعلى ما كانت أجزاؤه متفرقة فاجتمعت وعلى ما يقبل مفارقة بعضه بعضا وهذه الأنواع الثلاثة منتفية عن رب العالمين باتفاق المسلمين. وهم جعلوا ما يوصف بالصفات تركيبا وهذا اصطلاح لهم وحقيقة الأمر تعود إلى موصوف له صفات متعددة فتسمية المسمى هذا تركيبا اصطلاح لهم والنظر إنما هو في المعاني العقلية وأما الألفاظ فان وردت عن صاحب الشرع المعصوم كان لها حرمة وإلا لم يلتفت إلى من اخذ يعبر عن المعاني الصحيحة المعلومة بالعقل والشرع بعبارة مجملة توهم معاني فاسدة وقيل لهم البحث في المعاني لا في الألفاظ كما بسط في موضعه. الوجه الثاني: إن المعين المطلوب علمه بالقضايا الكلية يعلم قبلها وبدونها: الوجه الثاني: أن يقال إذا كان لا بد في كل قياس من قضية كلية فتلك القضية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الكلية لا بد أن تنتهي إلى أن تعلم بغير قياس وإلا لزم الدور والتسلسل فإذا كان لا بد أن تكون لهم قضايا كلية معلومة بغير قياس فنقول. ليس في الموجودات ما تعلم الفطرة له قضية كلية بغير قياس إلا وعلمها بالمفردات المعينة من تلك القضية الكلية أقوى من علمها بتلك القضية الكلية مثل قولنا الواحد نصف الاثنين والجسم لا يكون في مكانين والضدان لا يجتمعان فان العلم بأن هذا الواحد نصف هذين الاثنين أقدم في الفطرة من العلم بأن كل واحد نصف كل اثنين وهكذا كل ما يفرض من الآحاد. فيقال المقصود بهذه القضايا الكلية أما أن يكون العلم بالموجود الخارجي أو العلم بالمقدرات الذهنية أما الثاني ففائدته قليلة وأما الأول فما من موجود معين إلا وحكمه بعلم تعينه اظهر وأقوى من العلم به عن قياس كلى يتناوله فلا يحصل بالقياس كثير فائدة بل يكون ذلك تطويلا وإنما يستعمل القياس في مثل ذلك لأجل الغالط والمعاند فيضرب له المثل وتذكر الكلية ردا لغلطه وعناده بخلاف من كان سليم الفطرة. وكذلك قولهم الضدان لا يجتمعان فأي شيئين علم تضادهما فانه يعلم أنها لا يجتمعان قبل استحضار قضية كلية بأن كل ضدين لا يجتمعان وما من جسم معين إلا يعلم أنه لا يكون في مكانين قبل العلم بأن كل جسم لا يكون في مكانين وكذلك قولهم النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان فان مرادهم بذلك أن وجود الشيء وعدمه لا يجتمعان ولا يرتفعان فما من شيء معين إلا ويعلم أنه لا يكون موجودا معدوما وانه لا يخلو عن الوجود والعدم قبل العلم بهذه القضية العامة وأمثال ذلك كثير لمن تدبره. ويعلم أن المعين المطلوب علمه بهذه القضايا الكلية الأولية يعلم قبل أن تعلم هذه القضية الكلية ويعلم بدونها ولا يحتاج العلم به إلى القضية الكلية وإنما يعلم بالقضية الكلية ما يقدر في الذهن من أمثال ذلك مما لم يوجد في الخارج وأما الموجودات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الخارجية فتعلم بدون هذا القياس. قياس الشمول مبناه على قياس التمثيل: وإذا قيل أن من الناس من يعلم بعض الأعيان الخارجية بهذا القياس فيكون مبناه على قياس التمثيل الذي ينكرون أنه يقيني فهم بين أمرين أن اعترفوا بأن قياس التمثيل من جنس قياس الشمول ينقسم إلى يقيني وظني بطل تفريقهم وان ادعوا الفرق بينهما وان قياس الشمول يكون يقينيا دون التمثيل منعوا ذلك وبين لهم أن اليقين لا يحصل في مثل هذه الأمور إلا أن يحصل ب التمثيل فيكون العلم بما لم يعلم من المفردات الموجودة في الخارج قياسا على ما علم منها وهذا حق لا ينازع فيه عأقل. بل هذا من اخص صفات العقل التي فارق بها الحس إذا الحس لا يعلم إلا معينا والعقل يدركه كليا مطلقا لكن بواسطة التمثيل ثم العقل يدركها كلها مع عزوب الأمثلة المعينة عنه لكن هي في الأصل إنما صارت في ذهنه كلية عامة بعد تصوره لأمثال معينة من أفرادها وإذا بعد عهد الذهن بالمفردات المعينة فقد يغلط كثيرا بأن يجعل الحكم أما اعم وأما اخص وهذا يعرض للناس كثيرا. أنواع المفروضات الذهنية: ومن هنا يغلط كثيرا ممن يسلك سبيلهم حيث يظن أن ما عنده من القضايا الكلية صحيح ويكون عند التحقيق ليس كذلك وهم يتصورون الشيء بعقولهم ويكون ما تصوروه معقولا بالعقل فيتكلمون عليه ويظنون أنهم تكلموا في ماهية مجردة بنفسها من حيث هي هي من غير أن تكون ثابتة في الخارج ولا في الذهن فيقولون الإنسان من حيث هو هو والوجود من حيث هو هو والسواد من حيث هو هو ونحو ذلك ويظنون أن هذه الماهية التي جردوها عن جميع القيود السلبية والثبوتية محققة في الخارج على هذا التجريد وذلك غلط كغلط أوليهم فيما جردوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 من العدد والمثل الأفلاطونية وغيرها بل هذه المجردات المسلوب عنها كل قيد ثبوتي وسلبي لا تكون إلا مقدرة في الذهن. وإذا قال القائل فأنا افرض الإنسان مجردا عن الوجودين الخارجي والذهني قيل له هذا الفرض في الذهن أيضا كما تفرض سائر الممتنعات في الذهن مثل أن يفرض موجودا لا واجبا ولا ممكنا ولا قائما بنفسه ولا بغيره ولا مبائنا لغيره ولا مجانبا له وهذا كله مفروض في الذهن وليس كل ما فرضه الذهن أمكن وجوده في الخارج وليس كل ما حكم به الإنسان على ما يقدره ويفرضه في ذهنه يكون حكما صحيحا على ما يوجد في الخارج ولا كل ما أمكن تصور الذهن له يكون وجوده في الخارج. بل الذهن يتصور اشياء ويقدرها مع علمه بامتناعها ومع علمه بامكانها في الخارج ومع عدم علمه بالامتناع الخارجي والإمكان الخارجي وهذا الذي يسمى الإمكان الذهني فان الإمكان يستعمل على وجهين إمكان ذهني وامكان خارجي ف الإمكان الذهني أن يعرض الشيء على الذهن فلا يعلم امتناعه بل يقول يمكن هذا لا لعلمه بامكانه بل لعدم علمه بامتناعه مع أن ذاك الشيء قد يكون ممتنعا في الخارج. واما الإمكان الخارجي فأن يعلم إمكان الشيء في الخارج وهذا يكون بأن يعلم وجوده في الخارج أو وجود نظيره أو وجود ما هو ابعد عن الوجود منه فإذا كان الابعد عن قبول الوجود موجودا ممكن الوجود فالأقرب إلى الوجود منه أولى. طريقة القرآن في بيان إمكان المعاد: وهذه طريقة القران في بيان إمكان المعاد يبين ذلك بهذه الطريق. فتارة يخبر عمن اماتهم ثم احياهم كما اخبر عن قوم موسى بقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وكما اخبر عن المضروب بالبقرة بقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} وكما اخبر عن الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله: {مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} . وكما اخبر عن: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وعن إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وكما اخبر عن المسيح عليه السلام أنه كان يحيى الموتى باذن الله. وكما اخبر عن أصحاب الكهف أنهم لبثوا نياما في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ} وقد ذكر غير واحد من العلماء أن الناس كانوا قد تنازعوا في زمانهم هل يبعث الله الارواح فقط أو يبعث الارواح والاجساد فأعثر الله هؤلاء على أهل الكهف وعلموا أنهم بقوا نياما لا يأكلون ولا يشربون ثلثمائة سنة شمسية وهي ثلثمائة وتسع هلالية فأعلمهم الله بذلك إمكان إعادة الأبدان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 فهذه إحدى الطرق التي يبين الله بها إمكان المعاد. وتارة يستدل على ذلك بالنشأة الأولى وان الإعادة اهون من الابتداء كما في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} وكما في قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} وكما قوله: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وكما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . وتارة يستدل على إمكان ذلك بخلق السموات والأرض فان خلقها أعظم من إعادة الإنسان كما في قوله: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ} وكما في قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى أنه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وتارة يستدل على إمكانه بخلق النبات كما في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أقلتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وكما في قوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} . وقد بسطنا الكلام على هذا وأمثاله في غير هذا الموضع وبين أن ما عند أئمة النظار أهل الكلام والفلسفة من الدلائل العقلية على المطالب الإلهية فقد جاء القران بما فيها من الحق وما هو أكمل وابلغ منها على أحسن وجه مع تنزهه عن الاغاليط الكبيرة الموجودة عند هؤلاء فأن خطأهم فيها كثير جدا ولعل ضلالهم أكثر من هداهم وجهلهم أكثر من علمهم. ولهذا قال أبو عبد الله الرازي في اخر عمره في كتابه أقسام اللذات: "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروى غليلا ورايت أقرب الطرق طريقة القران اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} : {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي". فساد إثبات الإمكان الخارجي بمجرد عدم العلم بالامتناع: والمقصود هنا أن الإمكان الخارجي يعرف بالوجود لا بمجرد عدم العلم بالامتناع كما يقوله طائفة منهم الامدى إذا أرادوا وإثبات إمكان أمر قالوا لو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 قدرنا هذا لم يلزم منه ممتنع فأن هذه القضية الشرطية غير معلومة فان كونه لا يلزم منه محذور ليس معلوما بالبديهة ولا اقام عليه دليلا نظريا. وابعد من اثباته الإمكان الخارجي بالإمكان الذهني ما يسلكه طائفة من المتفلسفة والمتكلمة كابن سينا والرازي وغيرهما في إثبات الإمكان الخارجي بمجرد إمكان تصوره في الذهن كما أن ابن سينا واتباعه لما أداروا إثبات موجودفي الخارج معقول لا يكون محسوسا بحال استدلوا على ذلك بتصور الإنسان الكلي المطلق المتناول للافراد الموجودة في الخارج وهذا إنما يفيد إمكان وجود هذه المعقولات في الذهن فإن الكلي لا يوجد كليا إلا في الذهن وهذا ليس مورود النزاع وإنما النزاع في إمكان وجود مثل هذا المعقول في الخارج وليس كل ما تصوره الذهن يكون موجودا في الخارج كما يتصور الذهن فأن الذهن يتصور ما يمتنع وجوده في الخارج كما يتصور الجمع بين النقيضين والضدين. وقد تبعه الرازي على الاستدلال بهذا واستدل هو غيره على إمكان ذلك بأن قال يمكن أن يقال الموجود أما أن يكون مجانبا لغيره وأما أن يكون مبائنا لغيره وأما أن لا يكون لا مجانبا لا مبائنا فظنوا أنه بامكان هذا التقسيم العقلى يستدل على إمكان وجود كل من الأقسام في الخارج وهذا غلط فان هذا التقسيم كقو ل القائل الموجود أما أن يكون واجبا وأما أن يكون ممكنا وأما أن لا يكون واجبا ولا ممكنا وأما أن يكون قديما وأما أن يكون محدثا وأما أن لا يكون قديما ولا محدثا وأما أن يكون قائما بنفسه وأما أن يكون قائما بغيره وأما أن لا يكون قائما بنفسه ولا بغيره وأمثال ذلك من التقسيمات التي يقدرها الذهن ومعلوم أن هذا لا يدل على إمكان وجود موجود لا واجب ولا ممكن ولا قديم ولا حادث ولا قائم بنفسه ولا بغيره وكذلك ما تقدم فأين طرق هؤلاء في إثبات الإمكان الخارجي من طريقة القران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 محاولتهم معارضة الفطر وتعاليم الرسل: ثم أنهم بمثل هذه الطرق الفاسدة يريدون خروج الناس عما فطروا عليه من المعارف اليقينية والبراهين العقلية وما جاءت به الرسل من الأخبار الإلهية عن الله تعالى واليوم الآخر. وبينوا لرب العالمين من الوجود ما يستلزم الجمع بين النقيضين فيكذبوا بصريح المعقول وصحيح المنقول كقولهم لاهو مبائن للمخلوقات ولا مجانب لها ولا يشار إليه ونحو ذلك من القضايا السلبية التي يصفون بها رب العالمين مما لا يتضمن وصفه بصفة كمال بل يشاركه فيها الممتنعات والمعدومات وتستلزم كون الموصوف بها معدوما بل ممتنعا. ويريدون أن يجعلوا مثل هذه القضايا الكاذبة والخيالات الفاسدة اصولا عقلية يعارض بها ما ارسل الله به رسله وأنزل به كتبه من الايات وما فطر الله عليه عباده وما تقوم عليه الأدلة العقلية التي لا شبهة فيها. ولهذا كان أساطين الفلاسفة القدماء وكثير من المتأخرين منهم على خلاف قول هؤلاء النفاة وكانوا أقرب إلى موافقة الأنبياء وأتباع الأنبياء من هؤلاء النفاة من المتفلسفة والجهمية والمتكلمة كما قد بسطت أقوالهم في غير هذا الموضع. والمقصود هنا التنبيه على اصول سلموها أفسدوا بها العلوم العقلية والسمعية فإن مبنى العقل على صحة الفطرة وسلامتها ومبنى السمع على تصديق الأنبياء صلواة الله عليهم. كون تعليم الأنبياء جامعا للأدلة العقلية والسمعية جميعا: ثم الأنبياء صلوات الله عليهم كملوا للناس الأمرين فدلوهم على الأدلة العقلية التي بها تعلم المطالب الإلهية التي يمكنهم علمهم بها بالنظر والاستدلال وأخبروهم مع ذلك من تفاصيل الغيب بما يعجزون عن معرفته بمجرد نظرهم واستدلالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وليس تعليم الأنبياء صلوات الله عليهم مقصورا على مجرد الخبر كما يظنه كثير من النظار بل هم بينوا من البراهين العقلية التي بها يعلم العلوم الإلهية ما لا يوجد عند هؤلاء البتة فتعليمهم ص جامع للادلة العقلية والسمعية جميعا بخلاف الذين خالفوهم فان تعليمهم غير مفيد للادلة العقلية والسمعية مع ما في نفوسهم من الكبر الذي ما هم ببالغيه كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أنه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقال: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} ومثل هذا كثير في القران وقد بسطنا القول فيه في بيان درء تعارض الشرع والعقل. ولهذا لما كانوا يتصورون في اذهانهم ما يظنون وجوده في الخارج جعلوا علومهم ثلاثة أنواع ادناها عندهم الطبيعي وهو ما لا يتجرد عن المادة لا في الذهن ولا في الخارج وهو الكلام في الجسم واحكامه واقسامه واوسطها الرياضي وهو ما بتجرد عن المادة في الذهن لا في الخارج مثل الحساب والهندسة فانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 لا يوجد في الخارج ذو مقدار إلا جسما ولكن يجرد المقدار في النفس واعلاها عندهم ما يسمونه علم ما بعد الطبيعة باعتبار الوجود العيني وقد يسمونه العلم الإلهي ويسمونه الفلسفة الأولى والحكمة العليا وهو ما تجرد عن المادة في الذهن والخارج. وإذا تأمل الخبير بالحقائق كلامهم في هذه الأنواع لم يجد عندهم علما بمعلومات موجودة في الخارج إلا القسم الذي يسمونه الطبيعي وما يتبعه من الرياضي وأما الرياضي المجرد في الذهن فهو الحكم بمقادير ذهنية لا وجود لها في الخارج والذي سموه علم ما بعد الطبيعة وهو ما جردوه عن المادة في الذهن والخارج إذا تدبر لم يوجد فيه علم بمعلوم موجود في الخارج وإنما تصوروا أمورا مقدرة في أذهانهم لا حقيقة لها في الخارج ولهذا كان منتهى نظرهم وآخر فلسفتهم وحكمتهم هو الوجود المطلق الكلى أو المشروط بسلب جميع الأمور الوجودية. فموضوع العلم الالهى الناظر في الوجود ولواحقه هو الوجود الكلى المنقسم إلى جوهر وعرض وعلة ومعلول وقديم وحادث وهذا لا وجود له في الخارج وإنما يوجد في الذهن وهو العلم الأعلى عندهم فهذا العلم الأعلى مقدر في الذهن والعلى الأعلى الموجود في الخارج هو الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} . وأما واجب الوجود الذي يثبتونه فاما أن يجعلوه وجودا مجردا عن كل قيد ثبوتي وعدمى وأما أن يقولوا بل هو مقيد بالامور السلبية دون الثبوتية كقول ابن سينا وأمثاله وهذا إنما يوجد في الذهن لا في الخارج فانه يمتنع ثبوث موجود خارجي لا يوصف بشئ من الأمور الثبوتية أو لا من الثبوتية ولا السلبية بل أي موجود حقير فرضته كان خيرا من هذا الذي لا يوصف بشئ ثبوتي فانه قد شارك ذلك الموجود الحقير في مسمى الوجود ولم يمتز عنه إلا بوصف عدمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وذلك الموجود الحقير امتاز عنه بأمر وجودى الوجود خير من العدم فكان ما امتاز به ذلك الموجود الحقير خيرا مما ميزوا به واجب الوجود يزعمهم وقد بسط هذا في موضع آخر وبين أن ما يثبتونه ويجعلونه واجب الوجود هو ممتنع الوجود ولكن يفرض في الذهن كما يفرض سائر الممتنعات. والمقصود هنا أنهم كثيرا ما يدعون في المطالب البرهانية من الأمور العقلية ما يكونوا قد قدروه في أذهانهم ويقولن نحن نتكم في الأمور الكلية والعقليات المحضة وإذا ذكر لهم شيء قالوا نتكلم فيما هو أعم من ذلك وفي الحقيقة من حيث هي هى ونحو هذه العبارات فيطالبون بتحقيق ما ذكروه في الخارج ويقال يبنوا هذا أي شيء هو فهنالك يظهر بجهلهم وأن ما يقولونه هو أمر مقدر في الأذهان لا حقيقة له في الأعيان وهذا مثل أن يقال لهم اذكروا مثال ذلك والمثال أمر جزئي فإذا عجزوا عن التمثيل وقالوا نحن نتكم في الأمور الكلية فاعلم أنهم يتكلمون بلا علم وفيما لا يعلمون أن له معلوما في الخارج بل فيما ليس له معلوم في الخارج وفيما قد يمتنع أن يكون له معلوم في الخارج وإلا فالعلم بالامور الموجودة إذا كان كليا كان له معلومات ثابتة في الخارج. ولفظ الكلى يريدون به ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ثم قد يكون ممتنعا في الخارج كشريك الباري وقد يكون معدوما وإنما يقدره الذهن كما يقدر عنز ايل وهذا تمثيل أرسطو. وقد يكون موجودا في الخارج لكن لا يقبل الشركة وقد يمكن وقوع الشركة فيه ولم تقع وهم يمثلون هذا باسم الاله والشمس ويجعلون مسمى هذا كليا لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإنما امتنعت الشركة فيه لسبب خارجي فانحصر نوعه في شخصه لا لمجرد تصور معناه وهذا مشهور بينهم. وإنما يصح هذا إذا كان لفظ الاله ولفظ الشمس اسم جنس بحيث لا يقصد به الشمس المعينة ولا الاله المعين المعروف فان الكلى عندهم مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 اسم جنس في اصطلاح النحاة وهو ما علق على الشيء وعلى كل ما اشبهه والناس لا يقصدون بلفظ الشمس إلا الشمس المعينة واللام فيها لتعريف العهد لا للجنس كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فمسمى الشمس والقمر هنا جزئي لا كلى بخلاف لفظ الكوكب والنجم ونحو ذلك فانه كلى وكذلك اسم الاله عند المسلمين إنما يريدون به إلههم وهو الله لا إله إلا هو. وعلى هذا فليس هذا ولا هذا كليا مشتركا بل نفس تصور معناه يمنع من وقوع الشركة فيه فهو معين مختص وهو الذي يسمونه الجزئي ليس مطلقا مشتركا وهو الذي يسمونه الكلى. وكان الخسر وشاهى من أعيانهم وأعيان أصحاب الرازي وكان يقول: "ما عثرنا إلا على هذه الكليات" وكان قد وقع في حيرة وشك حتى كان يقول: "والله ما أدرى ما أعتقد والله ما أدرى ما أعتقد والله ما أدري ما اعتقد". الاستدلال بالكليات على أفرادها استدلال بالخفي على الجلي: والمقصود أن الذي يدعونه من الكليات هو إذا كان علما فهو مما يعرف ب قياس التمثيل لا يقف على القياس المنطقى الشمولي أصلا بل ما يدعون توقفه على هذا القياس تعلم أفراده التي يستدل عليها بدون هذا القياس وذلك أيسر وأسهل فيكون الاستدلال عليها بالقياس الذي يسمونه البرهاني استدلالا على الأجلى بالأخفى. وإذا قيل فالبرهان يفيد قضية كلية قيل أما البرهان الذي يستحق اسم البرهان عندهم وهو ما كان مؤلفا من المقدمات اليقينية المحضة الواجب قبولها التي يمتنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 نقيضها فإنها بهذه المنزلة وأما ما لا يكون كذلك بل يكون مؤلفا من القضايا التجريبة العادية كالقضايا الطبيعية والطبية والنحوية ونحو ذلك فهذه كثيرا ما تكون منتقضة ولا يجزم العقل بامتناع انتقاضها إلا بشروط فان العاديات يجوز انتقاضها والقضية الكلية إذا جاز انتقاضها لم يكن عندهم مادة للبرهان بل للجدل والخطابة. فان قيل وأنتم تجزمون بمراد المتكلم بكلامه في غالب المواضع كما تجزمون بمراد الرسول ومراد علماء الشرع والطب والنحو والعلم باللغات مبناه على القضايا العادية قيل الجزم بمراد الشخص المعين ليس هو قضية كلية بل هو علم بمراد شخص معين وهذا وإن كان علمنا بلغته وعادته هو مما يعين على العلم بمراده فلا بد مع ذلك من علم يختص به يعرف أنه إنما تكلمه بتلك العادة ليفهمنا مراده وحينئذ فليس هذا مما نحن فيه ولهذا لا نستدل على هذا بمجرد ما ذكروه من برهانهم. وهم يعيبون في صناعة الحد أن يعرف الجلى بالخفي وهذا في صناعة البرهان اشد عيبا فان البرهان لا يراد به إلا به إلا بيان المدلول عليه وتعريفه وكشفه وأيضاحه فإذا كان هو أوضح وأظهر كان هذا بيانا للجلى بالخفي وأما الحد فالصواب أن المراد به التمييز بينه وبين المحدود لا تعريف الماهية وإذا كان مطلوبه هو التمييز فقد يكون المميز اخفى وقد يكون أجلى. المقدمات الخفية قد تنفع بعض الناس وفي المناظرة: ومع هذا فلما كان الجلاء والخفاء من الأمور النسبية فقد ينتفع بالدليل الخفي والحد الخفي بعض الناس وكثير من الناس إذا ذكر له الواضح لم يعبا به وقد لا يسلمه حتى يذكر له دليل مستلزم ثبوته فانه يسلمه وكذلك إذا ذكر له حد يميزه وهذا في الغالب يكون من معاند أو ممن تعودت نفسه أنها لا تعلم إلا ما تعنت عليه وفكرت فيه وانتقلت فيه من مقدمة إلى مقدمة فان العادة طبيعة ثانية فكثير ممن تعود البحث والنظر صارت عادة نفسه كالطبيعة له لا يعرف ولا يقبل ولا يسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 إلا ما حصل له بعد بحث ونظر بل وجدل ومنع ومعارضة فحينئذ يعرف به ويقبله ويسلمه وإن كان عند أكثر الناس من الأمور الواضحة البينة لا تحتاج إلى بحث ونظر فالطريق الطويلة والمقدمات الخفية التي يذكرها كثير من النظار تنفع لمثل هؤلاء في النظر وتنفع في المناظرة لقطع المعاند وتبكيت الجاحد. فان السفسطة أمر يعرض لكثير من النفوس وهي جحد الحق وهي لفظه معربة من اليونانية أصلها سوفسطيا أي حكمه مموهة فلما عربت قيل سفسطة. وأما ما يذكره طائفة من أهل الكلام ونأقلي المقالات أن في الناس رجل يقال له سوفسطا وانه وأصحابه ينكرون جميع الحقائق والعلوم فهذا باطل لا حقيقة له ولا يتصور أن يعيش احد من بني آدم بل ولا من البهائم مع جحد جميع الحقائق والشعور بها فان الإنسان مدنى بالطبع فلا بد أن يعرف بعض الناس بعضا ويعرف الإنسان جوعه وشبعه وعطشه وريه ولذته وألمه ويميز بين ما يأكله وما لا يأكله وما يلبسه وما لا يلبسه وبين مسكنه ومسكن جاره وبين الليل والنهار وغير ذلك من الأمور التي هي ضرورية في الحياة. وكذلك ما يذكرونه أن في السمنية قوم ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات حتى ينكروا المتواترات غلط على القوم فإنهم انكروا وجود ما لا يمكن الاحساس به لم ينكروا وجود ما لا يحسونه مم به وقد ذكر الامام احمد مناظرتهم للجهم بن صفوان وهي تقتضى ذلك وإلا فهؤلاء من عقلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الهند وحكمائهم وإن كانوا مشركين يعبدون الأصنام فلا يتصور أن احدهم ينكر ما كان قبل مولده فلا ينكر وجود البلاد والانهار والجبال والدور التي لم يرها ولا ينكر وجود كل إنسان أو بهمة لم يرها فان هذا ليس عليه أحد من بنى آدم بل بنو آدم كلهم متفقون على أن ما شاهدوه علموه بالمشاهدة وما غاب عنهم علموه بالأخبار فلا يتصور أن كل طائفة من الطوائف تتفق على جحد جنس الأخبار. ولكن قد تعرض السفسطة لبعض الطوائف ولبعض الأشخاص في بعض المعارف فان أمراض القلوب كأمراض الأجسام فكما أنها ليس في الوجود أمة ولا شخص يمرض بكل مرض فليس فيهم من هو جاهل بكل شيء وفاسد الاعتقاد في كل شيء وفاسد القصد في كل شيء بل قد يوجد فيهم من هو مريض ببعض الامراض بل قد يوجد بعض الطوائف يكثر فيهم بعض الامراض وهؤلاء المرضى لا ينتفعون بالاغذية الفطرية بل يحتاجون إلى علاج وادوية تناسب مزاجهم. وكذلك من كان به سفسطة ومرضت فطرته في بعض المعارف لا يستعمل معه الأدلة النظرية بل يستعمل معه نوع من العلاج والادوية فقد تكون الحدود والأدلة التي تحوجه إلى النظر والفكر إذا تصورها مقدمة مما يزيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 سفسطته وتحوجه إلى الاعتراف بالحق وهذا بمنزلة من يغلط في الحساب والحساب لا يحتمل وجهين وقد يكون غلطه ظاهرا وهو لا يعرفه أو لا يعترف به فيسلك معه طريق طويل يعرف بها الحق ويقال له أخذت كذا وأخذت كذا فصار كذا وأخذت كذا وأخذت كذا فصار كذا. وكذلك للمناظر قد تضرب له الامثال فان المثال يكشف الحال حتى في المعلومات بالحس والبديهة وقد تستسلف معه المقدمات وإلا فقد يجحد إذا عرف أنه يلزمه الاعتراف بما ينكره وهي طريقة المتقدمين من نظار المسلمين وقدماء اليونان في المناظرة يكون المستدل هو السائل لا المعترض فيستسلف المقدمات ويقول ما تقول في كذا وفي كذا أو يقول ليبين كذا وكذا مقدمة مقدمة فإذا اعترف بتلك المقدمات بين ما تستلزمه من النتائج المطلوبه. فيجب الفرق بين ما يقف معرفة الحق عليه ويحتاج إليه وبين ما يعرف الحق بدونه ولكن قد يزال به بعض الامراض ويقطع به بعض المعاندين والله سبحانه اعلم. وكثير من النظار يسلك في معرفة المطلوب طريقا يقولون لا طريق إلا هو وكذلك في الحدود وقد تكون تلك الطريق فاسدة وقد تكون صحيحة ولكن للناس طرق أخرى كما قد يقوله كثير منهم في معرفة الصانع أو معرفة صدق رسوله أنه لا طريق إليها إلا هذه الطريق ويكون للناس طرق خير منها. كتاب الآراء والديانات للنوبختي: وكنت قد علقت الكلام على أهل المنطق في مجلس واحد بسرعة لسبب اقتضى ذلك ثم بعد مدة نظرت في كتاب الآراء والديانات لأبي محمد الحسن بن موسى النوبختى فرأيته قد ذكر نحو هذا المعنى عمن تقدم من متكلمى المسلمين فانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ذكر كلام أرسطوا مختصرا. اختلاف الفلاسفة فيما بينهم: وأرسطو هو المعلم الأول لاصحاب هذه التعاليم الذي يسمون المشائين وهم أصحاب هذا المنطق اليوناني الذي وضعه أرسطو وما يتبعه من الطبيعي والإلهي فان الفلاسفة ليسوا امة واحدة لها مقالة في العلم الإلهي والطبيعي وغيرهما بل هم أصناف متفرقون وبينهم من التفرق والاختلاف ما لا يحصيه إلا الله أعظم مما بين الملة الواحدة كاليهود والنصارى أضعافا مضاعفة. كلما كان القوم عن اتباع الرسل أبعد كان اختلافهم أكثر: فان القوم كلما بعدوا عن اتباع الرسل والكتب المنزلة كان أعظم في تفرقهم واختلافهم فإنهم يكونوا أضل كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" ثم قرأ قوله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} إذ لا يحكم بين الناس فيما تنازعوا فيه إلا كتاب منزل ونبي مرسل كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} وقد أنزل مع رسله الكتاب والميزان كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} وقال: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} . والميزان قال كثير من المفسرين: "هو العدل" وقال بعضهم: "هو ما به توزن الأمور وهو ما به يعرف العدل" وكذلك قالوا في قوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} الامثال المضروبة والأقيسة العقلية التي تجمع بين المتماثلات وتفرق بين المختلفات وإذا أطلق لفظ الكتاب كما في قوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} دخل فيه الميزان لأن الله تعالى بين في كتابه من الامثال المضروبة والمقاييس العقلية ما يعرف به الحق والباطل. وهذا كلفظ الحكمة تارة يقرن ب الكتاب كما في قوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وتارة يفرد الكتاب كقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} وإذا أفرد دخلت الحكم في معناه وكذلك في لفظ القرآن والإيمان قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وإذا أفرد لفظ القرآن فهو يدل على الإيمان كما الإيمان يدل على القرآن فهما متلازمان وسيأتي أن شاء الله الكلام على هذا وقد أمر الله بالجماعة والائتلاف ونهى عن الفرقة والاختلاف فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وقد اخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون فقال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} . ولهذا يوجد اتبع الناس للرسول أقلهم اختلافا كأهل الحديث والسنة فإنهم أقل اختلافا من جميع الطوائف ثم من كان إليهم أقرب من جميع الطوائف المنتسبة إلى السنة كانوا أقل أختلافا فأما من بعد من السنة كالمعتزلة والرافضة فتجدهم أكثر الطوائف اختلافا. كثرة اختلاف الفلاسفة: وأما اختلاف الفلاسفة فلا يحصره احد وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات مقالات غير الإسلاميين عنهم من المقالات ما لم يذكره الفارابي وابن سينا وأمثالهما وكذلك القاضي أبو بكر بن الطيب في كتاب الدقائق الذي رد فيه على الفلاسفة والمنجدمين ورجح فيه منطق المتكلمين من العرب على منطق اليونان وكذلك متكلمة المعتزلة والشيعة وغيرهم في ردهم على الفلاسفة ذكروا أنواعا من المقالات وردوها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 ولكن مذهب الفلاسفة الذين نصره الفارابي وابن سينا وأمثالها كالسهروردي وردى المقتول على الزندقة وكأبي بكر بن الصائغ وابن رشد الحفيد هو مذهب المشائين اتباع أرسطو صاحب المنطق وهو الذي يذكره الغزالي في كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 مقاصد الفلاسفة وعليه رد في التهافت وهو الذي يذكره الرازي في الملخص والمباحث المشرقية ويذكره الامدى في دقائق الحقائق ورموز الكنوز وغير ذلك. وعلى طريقهم مشى أبو ابركات صاحب المعتبر لكن لم يقلدهم تقليد غيره بل اعتبر ما ذكروه بحسب نظره وعقله وكذلك الرازي والامدى يعترضان عليهم في كثير مما يذكرونه بحسب ما يسنح لهم وابن سينا أيضا قد يخالف الأولين في بعض ما ذكروه ولهذا ذكر في كتابه المسمى ب الشفاء أن الحق الذي ثبت عنده ذكره في الحكمة المشرقية والسهروردي ذكر ما ثبت عنده في حكمة الاشراق والرازي في المباحث المشرقية. واتباع أرسطو من الأولين اشهرهم ثلاثة برقلس والاسكندر الافرديوسي وثامسطيوس صاحب الشروح والترجمة وإذا قال الرازي في كتبه: "اتفقت الفلاسفة" فهم هؤلاء وإلا فالفلاسفة طوائف كثيرون وبينهم اختلاف كثير في الطبيعيات والإلهيات وفي الهيئة أيضا وقد ذكروا أنه أول من قال منهم بقدم العالم أرسطو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وقد ذكر محمد بن يوسف العامري وهو من المصنفين في مذاهبم أن قدماءهم دخلوا الشام واخذوا عن اتباع الأنبياء داود وسليمان وان فيثاغورس معلم سقراط اخذ عن لقمان الحكيم وسقراط هو معلم افلاطن وافلاطن معلم أرسطو. والمقصود هنا أن نظار المسلمين ما زالوا يصنفون في الرد عليهم في المنطق وغير المنطق ويبينون خطاهم فيما ذكروه في الحد والقياس جميعا كما يبينون خطأهم في الإلهيات وغيرها ولم يكن احد من نظار المسلمين يلتفت إلى طريقتهم بل المعتزلة والأشعرية والكرامية والشيعة وسائر طوائف النظر كانوا يعيبونها ويثبتون فسادها واول من خلط منطقهم بأصول المسلمين أبو حامد الغزالي وتكلم فيه علماء المسلمين بما يطول ذكره. كلام النوبختي في الرد على المنطق: وهذا الرد عليهم مذكور في كثير من كتب أهل الكلام لكن اتفق اني رايت هذا الفصل أولا في كلام النوبختي فانه بعد أن ذكر طريقة أرسطو في المنطق قال: "وقد اعترض قوم من متكلمي أهل الإسلام على اوضاع المنطق هذه وقالوا أما قول صاحب المنطق: "أن القياس لا يبنى من مقدمة واحدة" فغلط لأن القائل إذا أراد مثلا أن يدل على أن الإنسان جوهر فقال استدل على نفس الشيء المطلوب من غير تقديم المقدمتين وهو أن يقول: "أن الدليل على أن الإنسان جوهر أنه يقبل المتضادات في أزمان مختلفة" وليس يحتاج إلى مقدمة ثانية هي قول القائل: "أن كل قابل للمتضادات في ازمان مختلفة فجوهر" لأن دلالته على أن "كل قابل للمتضادات في ازمان مختلفة فجوهر" هو نفس ما خولف فيه واراد الدلالة عليه لأن الخاص داخل في العام فعلى ايهما دل استغنى عن الآخر وقد يستدل الإنسان إذا شاهد الاثر على أن له مؤثرا والكتابة على أن لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 كاتبا من غير أن يحتاج في استدلاله على صحة ذلك إلى المقدمتين قالوا فنقول أنه لا بد من مقدمتين فإذا ذكرت احداهما استغنى بمعرفة المخاطب بالآخرى فترك ذكرها لا لأنه مستغن عنها. قلنا لسنا نجد مقدمتين كليتين يستدل بهما على صحة نتيجة لأن القائل إذا قال: "الجوهر لكل حي" والحيوة لكل إنسان فتكون النتيجة أن الجوهر لكل إنسان فسواء في العقول قول القائل: "الجوهر لكل حي" وقوله: "لكل انسان". قلت: معنى ذلك انا إذا قلنا كل إنسان حي وكل حي جوهر كما يقولون كل إنسان حيوان وكل حيوان جوهر أو جسم فسواء في العقول علمنا بان كل إنسان جوهر أو جسم وعلمنا بأن كل حيوان جوهر أو جسم فمن علم أن كل حيوان جوهر فقد علم أيضا أن كل إنسان جوهر. ومقصوده أنهم لا يجدون مقدمتين أوليتين بديهيتين يستدل بهما على شيء من موارد النزاع التي تحتاج إلى البرهان بل لا بد أن يكون إحداهما أو كلاهما غير بديهية ومتى قدر أنهما بديهيتان فاحداهما تكفى كما ذكره من المثال وإن قدرت إحداهما نظرية فهي التي يحتاج إلى بيانها وإذا كانتا جميعا نظريتين احتيج إلى بيانهما جميعا كما لو كانت ثلاث مقدمات وما يحتاج إلى أنه يستدل عليه ثم يستدل به وإنما يستدل إبتداء بما هو بين بنفسه كالبديهيات". قال: "ولا يجدون في المطالب العلمية أن المطلوب يقف على مقدمتين بينتين بأنفسهما بل إذا كان الأمر كذلك كانت إحداهما كافية". قال: "ونقول لهم أرونا مقدمتين أوليتين لا تحتاجان إلى برهان يتقدمهما يستدل بهما على شيء مختلف فيه وتكون المقدمتان في العقول أولى بالقبول من النتيجة فإذا كنتم لا تجدون ذلك بطل ما ادعيتموه". قال أبو محمد الحسن بن موسى النوبخي: "وقد سألت غير واحد من رؤسائهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ان يوجد بينة فما أوجد بينة". قال: "فما ذكره أرسطو طاليس غير موجود ولا معروف". قال: "وأما ما ذكره بعد ذلك من الشكلين الباقيين فهما غير مستعملين على ما بناهما عليه وإذا كانا يصحان بقلب مقدماتهما حتى يعودا إلى الشكل الأول فالكلام حينئذ في الشكل الأول هو الكلام فيهما". وذكر كلاما آخر ليس هذا موضعه ومقصوده أن سائر الاشكال إنما تنتج بالرد إلى الشكل الأول أما بقياس الخلف الذي يتضمن إثبات الشيء بابطال نقيضه وأما بواسطة حكم نقيض القضية أو عكسها المستوى أو عكس نقيضها فبيان الاشكال ونتاجها فيه كلفة ومشقة مع أنه لا حاجة إليها فان الشكل الأول يمكن أن يستعمل فيه جميع المواد الثبوتية والسلبية الكلية والجزئية وقد عرفت انتفاء فائدته فانتفاء فائدة فروعه التي لا تفيد إلا بالرد إليه أولى وأحرى. والمقصود هنا أن هذه الأمة ولله الحمد لم يزل فيها من يتفظن لما في كلام أهل الباطل من الباطل ويرده وهم لما هداهم الله به يتوافقون في قبول الحق ورد الباطل رأيا وراية من غر تشاعر ولا تواطؤ. بطلان دعواهم أن النتائج النظرية تحتاج إلى مقدمتين: وهذا الذي نبه عليه هؤلاء النظار يوافق ما نبهنا عليه فان القياس مشتمل على مقدمتين صغرى وكبرى فالكبرى هي العامة والصغرى اخص منها كما إذا قلت كل نبيذ خمر وكل خمر حرام فان النبيذ المتنازع فيه اخص من الخمر والخمر اخص من الحرام فالأول هو الحد الأصغر والآخر هو الحد الأكبر والأوسط المتكرر فيهها هو الحد الأوسط وحاصل القياس إدراج خاص تحت عام. ومعلوم أن من علم العام فقد علم شموله لافراده ولكن قد يعزب عنه دخول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 بعض الأفراد فيه أما لعزوب علمه بالعام أو لعزوب علمه بالخاص كما مثله المنطقيون ابن سينا وغيره فيمن ظن أن هذه الدابة تحمل فيقال له أما تعلم أن هذه بغلة فيقول نعم ويقال له أما تعلم أن البغلة لا تحمل فحينئذ يتفطن لأنها لم تحمل فهذا وان ذكر بشيء كان غافلا عنه لم يستفد بذلك علم ما لم يكن يعلمه فان لم يخطر بقلبه هذا لم يلزم من علمه بأنها بغلة أنها لا تحمل. لكن هذا قد لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة وهي التي يذكرها فانه أن كان يعلم أن هذه الدابة بغلة ونسى أن البغلة لا تحمل بحمل وهو قد جهل أو نسى أن هذه بغلة عرف بهذه وحدها. وقد تنازع في هذا الموضع طائفتان ابن سينا ومن معه والرازي ومن معه وسبب نزاعهما الأصل الفاسد الذي أخذوه تقليدا لارسطو فقال ابن سينا: "لا بد مع المقدمتين من التفطن لاندراج الخاص تحت العام" ومثله بهذا فقال: "قد يكون الرجل يعلم أن هذه الدابة المعينة بغلة ويعلم أن البغلة لا تحمل لكن يذهل عن دخول هذا المعين تحت ذلك العام فإذا تفطن لذلك حصل النتاج وإلا فلا". وقال الرازي: "وهذا يقتضى أنه لا بد من ثلاث مقدمات مقدمة بأن يعلم أن هذه بغلة ومقدمة أن البغلة لا تحمل ومقدمة أن هذا يتناول هذا واختار أنه لا يحتاج إلا إلى مقدمتين أن هذه بغلة وان البغلة لا تحمل وانه إذا كان غافلا عن هذه الكلية لم يكن عالما بها بالفعل فإذا صار عالما بها بالفعل بحيث تكون حاضرة في ذهنه امتنع مع ذلك أن لا يعلم أن هذه البغلة لا تحمل". وفصل الخطاب أن المطلوب قد يحتاج إلى مقدمة والى اثنتين والى ثلاث والى اربع فأصل الاضطراب دعواهم أن النتائج النظرية تحتاج إلى مقدمتين وتكفى فيها مقدمتان فجعلوا لا بد في كل مطلوب نظري من مقدمتين وادعوا أنه يكفى في كل مطلوب نظري مقدمتان وكلا الأمرين باطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فالشخص المعين إذا رأى دابة وظنها حاملا أن كان ممن لم يعلم أنها بغلة ولم يعلم أن البغال عقم أو يعلم الأمرين ونسيهها أو نسى أحدهما وجهل الآخر فانه يحتاج إلى العلم بمقدمتين وتذكر المنسي نوع من العلم يحتاج أن يعلم أنها بغلة ويعلم أن البغلات لا يحملن وإن كان يعلم أن البغلة لا تحمل لكن لم يعرف أنها بغلة احتاج إلى مقدمة واحدة فإذا قيل له هذه بغلة فإذا عرف أنها بغلة وفي نفسه معلوم أن البغلة لا تحمل علم أن هذه المعينة لا تحمل وإن كان يعلم أن هذه بغلة وقد علم قديما أن البغلة لا تحمل لكن عزب هذا العلم عن ذهنه في هذا الوقت ونسيه فهذا قد نسى علمه والنسيان من اضداد العلم فإذا ذكر بعلمه ذكره فإذا ذكر أن البغلة لا تحمل حصل له مقدمة واحدة. والعلم يحصل بالعلم بالدليل لمن لم يكن عالما به قط ولمن يذكره بعد النسيان إذا كان قد علمه ثم نسيه ولهذا قال سبحانه: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} فبين سبحانه أن آياته تبصرة وتذكرة فالتبصرة بعد العمى وهو الجهل والتذكرة بعد النسيان وهو ضد العلم. وهؤلاء لما تقلدوا قول من يقول أنه لا بد من مقدمتين وبهما يحصل النتاج فرأى بعضهم أن المقدمتين معلومتان لهذا الظان أن هذه البغلة حامل مع عدم العلم قال فلا بد من التفطن فيقال له ما ذكرته من التفطن هو الذي يحتاج إليه هذا لا يحتاج إلى شيء من المقدمات غير هذه وهذا التفطن هو تذكر ما نسيه وهو مقدمة واحده. ومن قال أن هذا هو إحدى المقدمتين فقد أصاب في ذلك لكن يقال له لا تحتاج إلا إلى هذه المقدمة فقط لا تحتاج إلى غيرها وهذا الظان متى حضر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ذهنه أن هذه بغلة وان البغلة لا تحمل لزم قطعا أن يحضر في ذهنه أنها لا تحمل. فالمدلول لازم للدليل فمتى تصور الإنسان الدليل ولزوم المدلول له تصور المدلول فإذا تصور أنها بغلة وتصور لازم ذلك وهو نفى الحمل عن البغلة تصور قطعا نفيه عن هذه فأما مجرد الدليل بدون تصور لزوم المدلول له فلا يحصل به العلم واللوازم البين لزومها للدليل تعلم بمجرد العلم به وبلزومها له واللوازم الخفية التي يفتقر العلم بلزومها إلى وسط وهو دليل ثان على اللزوم يقف على ذلك والاذهان في هذا متفاوقة فقد يحتاج هذا الذهن في معرفة اللزوم إلى وسط وهو الدليل والآخر لا يحتاج إليه. وقد تنازع النظار في العلم الحاصل بالدليل هل هو لزومه عن الدليل لزوما عاديا كما يقولونه في الشبع مع الأكل أو لزوما عقليا يسمى التضمن بحيث لا يمكن الانفكاك عنه كما يمتنع وجود العلم والإرادة بدون الحيوة. والأول قول قدماء النظار ك الأشعري وغيره ولهذا جعله المعتزلة من باب التولد وهذا كالرؤية مع التحديق وكالسمع مع الاصغاء وإلا فحصول العلم بالدليل دون المدلول عليه ليس ممتنعا لذاته بل الأول سبب للثاني ومقتض له وموجب له بحكم سنة الله تعالى في عباده بخلاف الحيوة مع العلم فان الأول شرط للثاني ولهذا كان العلم يوجد مع الحيوة ليست الحيوة متقدمة عليه كما يتقدم العلم بالدليل على العلم بالمدلول عليه. ونظار المسلمين مع تنازعهم في هذا متفقون على أن الدليل مقدمة واحدة كما ذكرناه وما ذكروه من البغلة موجود في سائر النظريات فان الإنسان قد يعلم الخاص ولا يعلم العام وقد يعلم العام ولا يعلم الخاص كما قد يعلم أن هذه بغلة ولا يعلم أن البغلة لا تحمل وقد يعلم أن البغلة لا تحمل ولا يعلم أن هذه بغلة ولا يجب أن يكون علمه بالخاص مقدما على العام ولا متاخرا بل قد يتفق في بعض الناس علمه بالخاص قبل العام وفي بعض الناس يعلم العام قبل الخاص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وكذلك المعينات وذلك أن علمه بأن هذه البغلة لا تحمل كعلمه بأن هذه لا تحمل وبأن هذه لا تحمل فلا يجب أن يعلم أن هذا المعين مثل هذا المعين بل قد يعلم احد المعينين ولا يعلم الآخر ولا يجب أن يكون علمه بالمعينات قبل علمه بالقضية العامة ولا أن يكون بالمعينات أعلم ولا يجب أن يكون بالقضية العامة الكلية التي يستفيد بها العلم بحكم الققضايا المعينة اعلم منه بوصف القضايا المعينة أي لا يجب أن يكون علمه بأن كل بغلة لا تحمل أقوى ولا يجب أن يكون العلم العام الذي يفيده علم المعينات في نفسه أسبق من علم معين علم به أنها بغلة أي العلم بأن البغلة لا تحمل لا يجب أن يكون أقوى ولا أسبق في الذهن من العلم بأن هذه الدابة بغلة بل قد يجهل أنها بغلة كما قد يجهل أن البغلة لا تحمل فإذا قدر أنه يعلم أن البغلة لا تحمل ومستنده في ذلك ما اشتهر من خبر الناس فذلك يتناول المعين كتناوله لما هو اعم منه مثل تناوله للبغلات الحمراء والسوداء ولما تكون أمه أتانا فلو خطر له أن ما تكون أمه أتانا وأبوه حصانا يحمل قيل له أما تعلم أن هذا البغلة وان البغلة لا تحمل. وان كان مستنده في أن البغلة لا تحمل هو تجربته فالتجربة لا تكون عامة وإنما جرب ذلك في بغلات معينة فما به يعلم مساواة سائر البغلات لها يعلم مساواة هذه البغلة لها. واعتبر هذا بنظائره يتبين لك أنه يمكن الاستغناء عن القياس المنطقي بل يكون استعماله تطويلا وتكثيرا للفكر والنظر والكلام بلا فائدة وان الحاجة إلى المقدمات بحسب حال المستدل فقد يحتاج تارة إلى مقدمة وتارة إلى ثنتين وتارة إلى ثلاث وتارة إلى أكثر من ذلك وانه تارة يجهل كون المعين بغلة وإذا كان كذلك فمتى علم أن هذه بغلة علم أنها لا تحمل إذا كان قد حصل في نفسه علم عام يتناول جميع البغلات وإذا علم المعين وهو أنها بغلة ولم يعلم المطلق لم يحتج إلا إلى علم العام وهو أن البغلة لا تحمل واعتبر هذا بسائر الأمور تجده كذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 الوجه الثالث: عدم دلالة القياس البرهاني على إثبات الصانع: الوجه الثالث: أن القضايا الكلية العامة لا توجد في الخارج كلية عامة وإنما تكون كلية في الأذهان لا في الأعيان وأما الموجودات في الخارج فهي أمور معينة كل موجود له حقيقة تخصه يتميز بها عما سواه لا يشاركه فيها غيره فحينئذ لا يمكن الاستدلال بالقياس على خصوص وجود معين وهم معترفون بذلك وقائلون أن القياس لا يدل على أمر معين وقد يعبرون عن ذلك بأنه لا يدل على جزئي وإنما يدل على كلي والمراد بالجزئي ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وكل موجود له حقيقة تخصه يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها فإذن القياس لا يفيد معرفة أمر موجود بعينه وكل موجود فإنما هو موجود بعينه فلا يفيد معرفة شيء من حقائق الموجودات وإنما يفيد أمورا كلية مطلقة مقدرة في الأذهان لا محققة في الأعيان. وقد بسطنا الكلام على هذا وغيره في غير هذا الموضع وبين أن ما يذكره النظار من الأدلة القياسية التي يسمونها براهين على إثبات الصانع سبحانه وتعالى لا يدل شيء منها على عينه وإنما يدل على أمر مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. فانا إذا قلنا هذا محدث وكل محدث فلا بد له من محدث أو ممكن والممكن لا بد له من واجب إنما يدل هذا على محدث مطلق أو واجب مطلق ولو عين بأنه قديم أزلي عالم بكل شيء وغير ذلك فكل هذا إنما يدل فيه القياس على أمر مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإنما يعلم عينه بعلم آخر يجعله الله في القلوب وهم معترفون بهذا لأن النتيجة لا تكون ابلغ من المقدمات والمقدمات فيها قضية كلية لا بد من ذلك والكلي لا يدل على معين. وهذا بخلاف ما يذكره الله في كتابه من الآيات كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وغير ذلك فانه يدل على المعين كالشمس التي هي آية النهار وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا} والدليل أتم من القياس فان الدليل قد يكون بمعين على معين كما يستدل بالنجم وغيره من الكواكب على الكعبة ف الآيات تدل على نفس الخالق سبحانه لا على قدر مشترك بينه وبين غيره فان كل ما سواه مفتقر إليه نفسه فيلزم من وجوده وجود عين الخالق نفسه. الكلام على علة الافتقار إلى الصانع: وقد بسط الكلام على هذا في مواضع مثل ما ذكرناه من طرق إثبات العلم بالصانع والطرق التي سلكها عامة النظار في هذا المطلوب والكلام على المحصل وغير ذلك فان المتأخرين من النظار تكلموا في علة الافتقار إلى المؤثر وان شئت قلت إلى الصانع هل هو الإمكان أو الحدوث أو مجموعهما. فالأول: قول المتفلسفة المتأخرين ومن وافقهم كالرازي ومقصودهم بذلك أن مجرد الإمكان بدون الحدوث يوجب الافتقار إلى الصانع فيمكن كون الممكن قديما لا محدثا مع كونه مفتقرا إلى المؤثر وهذا القول مما اتفق جماهير العقلاء من الأولين والآخرين على فساده حتى أرسطو وقدماء الفلاسفة ومن اتبعه من متأخريهم كابن رشد الحفيد وغيره كلهم يقولون أن ما أمكن وجوده وأمكن عدمه لا يكون إلا محدثا وإنما قال هذا القول ابن سينا وأمثاله واتبعهم الرازي وأمثاله وهؤلاء يجعلون الشيء الممكن مفتقرا إلى الفاعل في حال بقائه فقط فانه لم يكن له حال حدوث ولهذا لما جعلوا مثل هذا ممكنا اضطرب كلامهم في الممكن وورد عليهم إشكالات لا جواب لهم عنها كما ذكر في كتبه كلها الكبار والصغار ك الأربعين ونهاية العقول والمطالب العالية والمحصل وغيرها وقد بسطناه في غير هذا الموضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 والقول الثاني: أن علة الافتقار مجرد الحدوث وان المحدث يفتقر إلى الفاعل حال حدوثه لا حال بقائه وهذا قول طائفة من أهل الكلام المعتزلة وغيرهم وهذا أيضا قول فاسد. والقول الثالث: أن علة الافتقار هي الإمكان والحدوث ولم يجعل أحدهما شرطا في الآخر وقد يجعل احد الشطرين وقد بينا في غير هذا الموضع أن كل واحد من الحدوث والإمكان دليل على الافتقار إلى الصانع وان كانا متلازمين فإذا علمنا أن هذا محدث علمنا أنه مفتقر إلى من يحدثه وإذا علمنا أن هذا ممكن وجوده وممكن عدمه علمنا أنه لا يرجح وجوده على عدمه إلا بفاعل يجعله موجودا. وكونه مفتقرا إلى الفاعل هو من لوازم حقيقته لا يحتاج أن يعلل بعلة جعلته مفتقرا بل الفقر لازم لذاته فكل ما سوى الله فقير إليه دائما لا يستغني عنه طرفة عين وهذا من معاني اسمه الصمد ف الصمد الذي يحتاج إليه كل شيء وهو مستغن عن كل شيء وكما أن غنى الرب ثبت له لنفسه لا لعلة جعلته غنيا فكذلك فقر المخلوقات وحاجتها إليه ثبت لذواتها لا لعلة جعلتها مفتقرة إليه. فمن قال علة الافتقار إلى الفاعل هي الحدوث أو الإمكان أو مجموعهما أن أراد أن هذه المعاني جعلت الذات فقيرة لم يصح شيء من ذلك وإن أراد أن هذه المعاني يعلم بها فقر الذات فهو حق فكل منهما مستلزم لفقر الذات وهي مفتقرة إليه حال حدوثها وحال بقائها لا يمكن استغناؤها عنه لا في هذه الحال ولا في هذه الحال. وأما تقدير ممكن يقبل أن يكون موجودا ويقبل أن يكون معدوما مع أنه واجب الوجود لغيره أزلا وأبدا فهذا جمع بين المتناقضين فان ما يجب وجوده أزلا وأبدا لا يقبل العدم أصلا وقول القائل أنه باعتبار ذاته مع قطع النظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 عن موجبه يقبل الوجود والعدم باطل لوجوه. منها أن هذا مبنى على أن له ذاتا محققة في الخارج غير الموجود المعين وأن تلك الذات تكون ثابتة مع عدمه وهذا باطل بل ليس له حقيقة في الخارج إلا الموجود الثابت في الخارج وما يكون حقيقة الوجود لا يقبل العدم أصلا فليس في الخارج ماهية ثابتة تكون ثابتة في الخارج في حال العدم حتى يقال أن الوجود يعرض ولكن الذات المعلومة المتصورة في الذهن تكون تارة موجودة في الخارج وتارة معدومة. وقد بسط هذا في غير هذا الموضع فان هذا يتعلق بقول من يقول المعدوم شيء من المعتزلة وغيرهم ويقول من يقول الماهيات ثابتة في الخارج وهي الموجودات المعينة كقول من يقول ذلك من المتفلسفة ومن وافقهم وكلاهما باطل بل الفرق المعقول هو الفرق بين ما يعلم في الأذهان وبين ما يوجد في الأعيان فإذا قيل لما يعلم في الذهن أنه شيء في الذهن أو العلم أو ثابت في العلم أو الذهن أو سمى ذلك ماهية وقيل أن المثلث تثبت ماهيته في الذهن مع الشك في وجوده فهذا صحيح وأما إذا قيل في الخارج ذات ثابتة لا موجودة أو في الخارج ماهية المثلث أو غيره ثابتة مع أنه ليس موجودا فهذا باطل يعلم بطلانه بالتصور الجيد السليم والدلائل الكثيرة كما قد بسط في موضعه. ومنها أنه لو فرض أن ل الممكن ذاتا غير وجوده فإذا كان الموجود لازما لها أبدا وأزلا واجبا بغيرها لم تقبل هذه الذات أن تكون معدومة قط وقول القائل هي في نفسها ليس لها وجود إذا قدر أن هناك ذاتا غير الوجود لا يقتضى أنه يمكن عدمها ويمكن وجودها مع القول بوجوب وجودها أزلا وأبدا. ومنها أن الفاعل لا بد أن يتقدم مفعوله المعين لا يجوز مقارنته له في الزمان وما يذكرونه من تقدم حركة اليد على حركة الخاتم ونحو ذلك ويجعلونه تقدما بالعلة ليس في شيء من ذلك علة فاعلة أصلا وإنما ذلك شرط في هذا ولا يمكن أحدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 قط أن يبين في الوجود علة فاعلة لمعلول مفعول مع مقارنتها له في الزمان أصلا وإنما يمكن المقارنة بين الشرط والمشروط ولكن لفظ العلة فيه إجمال يراد به الفاعل ويراد به القابل والشروط. وهذا أيضا مما حصل فيه تلبيس في صفات واجب الوجود لما قالوا لو كانت له صفات لكانت معلولة للذات والواجب لا يكون معلولا فيقال لهم واجب الوجود قد يعنى به ما لا يحتاج إلى فاعل فالصفات واجبة بهذا الاعتبار وقد يعنى به ما لا يفتقر إلى محل وعلى هذا فالذات واجبة وأما الصفات فليست واجبة بهذا التفسير والبرهان قام على أن الممكنات لا بد لها من فاعل لا يفتقر إلى ما سواه لم يقم على أن صفاته كذاته لا تفتقر إلى محل وهذه الأمور مبسوطة في موضعها. الكلام على جنس القياس والدليل مطلقا: والمقصود هنا الكلام على جنس القياس والدليل مطلقا وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع لما تكلمنا على ما ذكروه من أن الاستدلال تارة يكون بالعام على الخاص وهو القياس وتارة بالخاص على العام وهو الاستقراء وتارة بأحد الخاصين على الآخر وهو التمثيل وبينا فساد هذا الحصر والتقسيم وفساد ما ذكر في حكم الأقسام فان من أنواع الاستدلال ما يستدل فيه بمعين على معين وبالمساوي على المساوي سواء كان معينا أو كليا. فليس من ضرورة الدليل أن يكون أعم أو اخص بل لا بد في الدليل من أن يكون ملزوما للحكم والملزوم قد يكون اخص من اللازم وقد يكون متساويا له ولا يجوز أن يكون أعم منه لكن قد يكون اعم من المحكوم عليه الموصوف الذي هو موضوع النتيجة المخبر عنه. فان المطلوب الذي هو النتيجة إذا كانت هو أن النبيذ المسكر المتنازع فيه حرام فاستدل على ذلك بان النبيذ المسكر خمر بالنص وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر رواه مسلم وغيره ف الخمر أعم من النبيذ المتنازع فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 أخص من الحرام والحرام هو الحكم وهو الخبر وهو الصفة وهو المطلوب بالدليل وهو الذي يسمونه الحد الأكبر ويسمونه محمول النتيجة والنبيذ هو المحكوم عليه وهو المخبر عنه وهو الموصوف وهو محل الحكم وهو الذي يسمونه الحد الأصغر وموضوع النتيجة والخمر هو الدليل وهو الحد الأوسط والمطلوب بالدليل معرفة الحكم لا معرفة عينة فهذا الدليل يجب أن لا يكون أخص من محل الحكم بل يكون أما مساويا له وأما أعم منه لأنه لا بد أن يشمل جميع محل الحكم فإذا كان اخص لم يشمله. ويجب أن لا يكون أعم من الحكم بل يكون أما مساويا له وأما اخص منه لأنه مستلزم للحكم والحكم لازم له فإذا كان أعم منه أمكن وجوده بدون وجود الحكم فلا يصلح أن يكون دليلا مستلزما له فلا بد في الدليل أن يكون مساويا للحكم أو أخص منه ليكون مستلزما له ولا بد أن يكون أعم من المحكوم عليه أو مساويا له ليتناول جميع صور المحكوم عليه وإلا لم يكن دليلا على حكمه بل على حكم بعضه. والناس هنا قد يضطرب أذهانهم في الدليل هل يجب أن لا يكون اعم من المدلول عليه أو لا يكون اخص وسبب ذلك أن المدلول عليه قد يعنى به الحكم نفسه وقد يعنى به المحكوم عليه فإذا أقمنا الدليل على أن النبيذ حرام فقد يقال المدلول عليه هو النبيذ وهذا يجب أن لا يكون أعم من الدليل بل أما مساويا وأما أخص وقد يقال المدلول عليه هو الحكم وهو حرمة النبيذ وهذا الحكم يجب أن لا يكون اخص من الدليل بل يكون أما مساويا له وأما أعم منه لأن الحكم لازم للدليل والدليل لازم للمحكوم عليه فلا بد أن يكون المحكوم عليه مستلزما للدليل بحيث يكون حيث وجد وجد الدليل ليشمله الدليل ولا بد أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 يكون الحكم لازما للدليل بحيث يكون حيث تحقق الدليل تحقق الحكم حتى يثبت الحكم في جميع صور المحكوم عليه. وإذا كان كذلك فقد يستدل بالمعين على المعين المساوي له في العموم والخصوص كالاستدلال بإحدى كواكب السماء على الملازم كما يستدل بالجدي على بنات نعش وببنات نعش على الجدي ويستدل بالجدي على جهة الشمال وبجهة الشمال على الجدي ويستدل بالشمس على المشرق وبالمشرق على الشمس ومن هذا الباب ما ذكر من أخبار نبينا صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء قبله فإنها صفات مطابقة له ليست اعم منه ولا أحص منه وكذلك سائر الأمور المتلازمة فانه يستدل بأحد المتلازمين على ثبوت الآخر وبانتفائه على انتفائه فإذا كان المدلول معينا كانت الآية معينة. وقد تكون الآية تستلزم وجود المدلول من غير عكس كآيات الخالق سبحانه وتعالى فانه يلزم من وجوده وجدوده ولا يلزم من وجوده وجودها وهي كلها آيات دالة على نفسه المقدسة لا على أمر كلى لا يمنع تصوره من وقوع الاشتراك فيه بينه وبين غيره بل ذلك مدلول القياس. والقرآن يستعمل الاستدلال بالآيات ويستعمل أيضا في إثبات الإلهية قياس الأولى وهو أن ما ثبت لموجود مخلوق من كمال لا نقص فيه فالرب أحق به وما نزه عنه مخلوق من النقائص فالرب أحق بتنزيهه عنه كما ذكر سبحانه وتعالى هذا في محاجته للمشركين الذين جعلوا له شركاء فقال: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} . وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وقال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} وكذلك في إثبات صفاته وإثبات النبوة والمعاد كما قد بسط في موضعه. وأما القياس الذي يستوي أفراده ويماثل الفرع فيه أصله فهذا يمتنع استعماله في حق الله تعالى فان الله لا مثل له سبحانه وتعالى وإذا استعمل فيه مثل هذا القياس لم يفد إلا أمرا كليا مشتركا بينه وبين غيره لا يدل على ما يختص به الرب سبحانه إلا أن يضم إليه علم آخر فان هذا الكلى الذي هو مدلول القياس قد انحصر نوعه في شخصه وهذا أيضا لا يفيد التعيين بل لا بد في التعيين من علم آخر. الوجه الرابع: التصور التام للحد الأوسط يغنى عن القياس المنطقي: الوجه الرابع: أن يقال القياس ثلاثة أنواع قياس التداخل وقياس التلازم وقياس التعاند باعتبار القضايا الحملية والشرطية المتصلة والشرطية المنفصلة ومن ذلك تعرف المختلطات فنقول مثلا في قياس التداخل له ثلاثة حدود الحد الأصغر والحد الأوسط والحد الأكبر إذا قال كل مسكر خمر وكل خمر حرام ف المسكر مثلا هو الحد الأصغر والخمر الأوسط والحرام الأكبر والأصغر لا بد أن يكون داخلا في الأوسط لأنه اخص منه أو مساويا له والشئ يدخل في أكثر منه وفي نظيره كما يدخل الإنسان في الحيوان فان الحيوان اعم وكذلك الإنسان والناطق والضحاك متلازمة فكل منها يتناول الآخر فكذلك التداخل في الأحكام الشرعية فان من شرب الخمر ثم شرب ثم شرب كفاه حد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 واحد والنتيجة المطلوبة هي كل مسكر حرام. والنظر نوعان: أحدهما: النظر في المسألة التي هي القضية المطلوب حكمها ليطلب دليلها الذي هو الحد الأوسط مثلا وهذا هو النظر الذي لا يجامع العلم بل يضاده لأن هذا الناظر طالب للعلم بها ولو كان عالما بها لم يطلب العلم لأن ذلك تحصيل الحاصل والثاني: النظر في الدليل وهو العلم بالدليل المستلزم للعلم بالمدلول عليه وهو تصور الحد الأوسط المستلزم لثبوت الأكبر للأصغر مثل من يعلم أن الخمر حرام وأن كل مسكر خمر فيلزم أن يعلم أن كل مسكر حرام وهذا النظر هو ترتيب المقدمتين في النفس وهذا النظر هو الذي يوجب العلم ولا ينافى العلم. وللناس في هذا الباب اضطراب عظيم هل النظر مفيد للعلم أو غير مفيد وهل هو ضد العلم أم لا وأمثال ذلك وكثير من النظار يقول في مصنفه أن النظر يضاد العلم ويقول أيضا أنه مستلزم للعلم وهذا تناقض بين فان ملزوم الشيء لا يكون مضادا له لكن النظر الذي يستلزم العلم غير النظر الذي يضاده فذاك هو النظر الاستدلالي وهذا هو النظر الطلبي ذاك هو نظر في الدليل فإذا تصوره وتصور استلزامه للحكم علم الحكم والنظر الطلبي نظر في المطلوب حكمه هل يظفر بدليل يدله على حكمه أو لا يظفر كطالب الضالة والمقصود قد يجده وقد لا يجده وقد يعرض عنهما فان الأول انتقال من المبادئ إلى المطالب والآخر انتقال من المطالب إلى المبادئ. وتحقيق الأمر أن النظر نوعان بمنزلة نظر العين وهو نوعان: أحدهما: التحديق لطلب الرؤية وهو بمنزلة تحديق القلب في المسألة لطلب حكمها وهذا قد يحصل معه العلم وقد لا يحصل ولا يكون طالب العلم حين الطلب عالما بمطلوبة تصديقا كان علمه أو تصورا على رأى من جعل التصور المطلوب خارجا عن التصديق والثاني: نفس الرؤية وهو بمنزلة رؤية الدليل كترتيب المقدمتين والظفر بالحد الأوسط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 فهذا يوجب العلم كما توجب رؤية العين العلم بالمرئي ولا ينافى هذا النظر العلم فهذا الثاني نظر في الدليل كالذي ينظر في القرآن والحديث فيعلم الحكم والأول نظر في الحكم كالذي ينظر في المسألة لينال دليلها من القرآن والحديث. فنقول من المعلوم أن معرفة القلب بثبوت المحمول للموضوع وهو ثبوت الصفة للموصوف وهو ثبوت الحكم المسئول عنه مثل حرمة المسكر قد تحصل بواسطة هذا الحد وهو أن يعلم أن هذا خمر مع علمه أن الخمر حرام وهذا قياس الشمول وقد يحصل بغير هذا مثل أن يرى أن المسكر مساو لخمر العنب في مناط التحريم فيستوي بينهما في التحريم وهذا قياس التمثيل وقد يحصل بأن يرى فيه المفسدة التي في الخمر فيحكم بالتحريم لدرء تلك المفسدة وهذا قياس التعليل. وقياس التمثيل وقياس التعليل يشملهما جنس القياس لكن القياس قد يحتاج في إثبات الحكم في الفرع إلى اصل معين فيلحق الفرع به أما لإبداء الجامع وأما لإلغاء الفارق فان إبداء الجامع وهو علة الحكم في الأصل يسمى قياس العلة وأما ما يدل على العلة وهو قياس الدلالة فهذا صار قياس تمثيل وتعليل معا وإن قاس بإلغاء الفارق وهو أن يبين له أنه ليس بينهما فرق مؤثر وإن لم يعلم عين العلة فهذا قياس تمثيل لا تعليل وقد يقوم دليل على أن الوصف الفلاني مستلزم للحكم وإن لم يعرف له أصل معين وهذا قياس تعليل وهو يشبه قياس الشمول. وقياس الشمول وقياس التمثيل متلازمان فكل ما ذكر بهذا القياس يمكن ذكره بهذا القياس فان قياس الشمول لا بد فيه من حد أوسط مكرر وذاك هو مناط الحكم في قياس التمثيل وهو القدر المشترك وهو الجامع بين الأصل والفرع مثال ذلك إذا قيل النبيذ حرام قياسا على الخمر لأن فيه الشدة المطربة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وهذه هي العلة في التحريم أو لأنه مسكر والمسكر هو علة التحريم وبين ذلك بدليله كان قياسا صحيحا وإذا قيل النبيذ مسكر وكل مسكر حرام أو النبيذ فيه الشدة المطربة وما فيه الشدة المطربة فهو حرام فهذا أيضا صحيح وكل ما أمكن أن يستدل به على صحة المقدمة الكبرى أمكن أن يستدل به على كون الوصف المشترك علة للحكم في الأصل وكل ما أمكن يستدل به على الصغرى فانه يستدل به على ثبوت الوصف في الفرع. ثم أن كان ذاك الدليل قطعيا فهو قطعي في القياسين وإن كان ظنيا فهو ظني في القياسين وأما دعوى من يدعى من المنطقيين وأتباعهم أن اليقين إنما يحصل ب قياس الشمول دون قياس التمثيل فهو قول في غاية الفساد وهو قول من لم يتصور حقيقة القياسين كما قد بسط في موضعه. وقد يعلم الحكم المطلوب بنص على أن كل مسكر حرام كما قد ثبت هذا الحديث في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان كذلك لم يتعين قياس الشمول لإفادة الحكم بل ولا قياس من الأقيسة فانه قد يعلم بلا قياس. وإذا علم بقياس الشمول فكل ما يعلم بقياس الشمول فانه يعلم بقياس التمثيل أيضا كما تقدم ويجعل الحد الأوسط هو الجامع بين الأصل والفرع والدليل الذي يقيمه صاحب قياس الشمول على صحة المقدمة الكبرى الكلية يقيمه صاحب قياس التمثيل على علية الوصف وإن الجامع وهو الوصف المشترك الذي هو الحد الأوسط في قياس الشمول هو مستلزم للحكم وهو علية في الأصل كما يقيمه في ذاك على أن الحد الأكبر لازم للحد الأوسط فالحد الأكبر في قياس الشمول هو الحكم في قياس التمثيل والحد الأوسط هو الجامع المشترك ويسمى المناط والحد الأصغر هو الفرع ويمتاز قياس التمثيل بأن فيه ذكر اصل يكون نظيرا للفرع الذي هو الحد الأصغر وقياس الشمول ليس فيه هذا فصار في قياس التمثيل ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 في قياس الشمول وزيادة وقد بسط هذا في موضع آخر. وقد لا يحتاج إلى دليل آخر ذي مقدمتين ولا قياس ولا غيره بل يكفيه مقدمة واحدة وقد يستغنى أيضا عن تلك المقدمة بتصوره التام ابتداء مثل أن يكون نفس علمه بأن الخمر حرام قد تصور معه مسمى الخمر أنها المسكر فصار علمه بجميع مفردات الخمر سواء فيعلم أن هذا المسكر خمر حرام وهذا المسكر خمر حرام وأمثال ذلك أو يعلم أن الخمر حرام ولا يعلم أن كل مسكر يسمى خمرا بل يظن ذلك الاسم مختصا ببعض المسكرات فإذا علم بنص الشارع أو باستعمال الصحابة الذين نزل فيهم القرآن أو بأنها لما حرمت لم يكن عندهم من عصير الأعناب شيء وإنما كان الذي يسمونه خمرا هو المسكر من نبيذ التمر أو بغير ذلك من الأدلة إذا علم هذه المقدمة الواحدة وهو أن كل مسكر خمر علم الحكم. فتبين أن قولهم أن المطلوب لا بد فيه من القياس وذلك القياس يجب أن يكون القياس المنطقي الشمولي ولا بد فيه من مقدمتين ليس بصواب وهذا يبطل قولهم لا علم تصديقي إلا بالقياس المنطقي كما تقدم وأما هنا فالمقصود بيان قلة منفعته أو عدمها وذلك أن هذا المطلوب أن كان معه قضية علمت من جهة الرسول تفيده العموم وهو أن كل مسكر حرام حصل مدعاه فالقضايا الكلية المتلقاة عن الرسل تفيد العلم في المطالب الإلهية. وأما ما يستفاد من علومهم فالقضايا الكلية فيه أما منتقضة وأما أنها بمنزلة قياس التمثيل وأما أنها لا تفيد العلم بالموجودات المعينة بل بالمقدرات الذهنية كالحساب والهندسة فانه وإن كان ذلك يتناول ما وجد على ذلك المقدار فدخول المعين فيه لا يعلم بالقياس بل بالحس فلم يكن القياس محصلا للمقصود أو تكون مما لا اختصاص لهم بها بل يشترك فيها سائر الأمم بدون خطور منطقهم بالبال مع استواء قياس التمثيل وقياس الشمول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وإثبات العلم بالصانع والنبوات ليس موقوفا على شيء من الأقيسة بل يعلم بالآيات الدالة على شيء معين لا شركة فيه ويحصل بالعلم الضروري الذي لا يفتقر إلى نظر وما يحصل منها بالقياس الشمولي فهو بمنزلة ما يحصل بقياس التمثيل فهو أمر كلى لا يحصل به العلم بما يختص به الرب وما يختص به الرسول إلا بانضمام علم آخر إليه. والعلم بصدق المخبر المعين وإن لم يكن نبيا يعلم بأسباب متعددة غير القياس ويعلم أيضا بقياس التمثيل كما يعلم بقياس الشمول فكيف العلم بصدق النبي الصادق صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا طرقا من الطرق التي يعلم بها صدق الأنبياء في غير هذا الموضع. والناس يعلمون الأمور الموجودة وصفاتها وأحوالها من غير قياس شمولي فضلا عن أن يقال لا بد هنا من مقدمتين صغرى وكبرى فالصغرى هي المشتملة على الحد الأصغر والكبرى المشتملة على الحد الأكبر والحد الأوسط متكرر فيها خبر محمول في الصغرى ومبتدأ موضوع في الكبرى كقولك كل خمر حرام فيقال إذا علم أن كل خمر حرام فقد يعلم ابتداء مفردات الخمر وأنها شاملة لكل مسكر بل يظن أنها متناولة لبعض المسكر كعصير العنب التي المشتد ثم يعلم بعد ذلك شمولها لكل مسكر وهو إذا تجدد له هذا العلم فإنما يجدد له علمه بالعموم وعلمه بالعموم إنما يعود بتصوره التام لمسمى الخمر فانه كان قبل ذلك لم يتصورها تصورا جامعا بل تصورا غير جامع ولو حصل له هذا التصور الجامع لم يحتج إلى قياس فقد تبين أن القياس المفيد للتصديق يغنى عنه التصور التام للحد الأوسط. كل تصور يمكن جعله تصديقا وبالعكس: وهذا يؤول إلى أمر وهو أن كل ما يسمونه تصورا يمكن جعله تصديقا وما يسمونه تصديقا يمكن جعله تصورا فان القائل إذا قال ما الخمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 المحرمة فقال المجيب هي المسكر كان هذا عندهم تصورا واحدا وهو تصور مسمى الخمر وهذا في الحقيقة تصديق مركب من موضوع ومحمول وإذا قال كل مسكر خمر وكل خمر حرام كان هذا قياسا وهو يفيد التصديق الذي هو المسكر حرام ويفيد أن المسكر داخل في مسمى الخمر وإن أريد بيان الحد المطرد المنعكس قيل المسكر هو الخمر وكل خمر حرام فيفيد هذا القياس تصور معنى الخمر. وسبب ذلك أن كل ما يتكلم به في الحد والقياس هو قضية تامة وهي الجملة في اصطلاح النحاة والجواب في السؤال عن التصور وعن التصديق هو بقضية تامة هي جملة خبرية فكلاهما قول مركب في السؤال والجواب وكلاهما فيه إثبات صفة لموصوف كإثبات الخمرية للمسكر وهو إثبات محمول لموضوع والإنسان هو في الموضعين قد تصور أن المسكر هو الخمر وصدق بأن المسكر هو الخمر فأما التصور المفرد الذي لا يعبر عنه إلا ب اسم مفرد فذلك لا يسأل عنه باللفظ المفرد ولا يجاب عنه باللفظ المفرد حتى يفصل نوع تفصيل يصلح لمثله لأن يكون جملة. وهذا قد بسط في غير هذا الموضع كما بسط في الكلام على المحصل وغيره وبين أن قولهم العلم ينقسم إلى تصور وتصديق وأن التصور وهو التصور الساذج العرى عن جميع القيود الثبوتية والسلبية كلام باطل فان كل ما عرى عن كل قيد ثبوتي وسلبي يكون خاطرا من الخواطر ليس هو علما أصلا بشئ من الأشياء فان من خطر بقلبه شيء من الأشياء ولم يخطر بقلبه صفة لا ثبوتية ولا سلبية لم يكن قد علم شيئا. وإذا قيل الإنسان حيوان والعالم مخلوق ونحو ذلك فهنا قد تصور إنسانا علم أنه موجود لم يتصور شيئا تصورا ساذجا لا نفى فيه ولا إثبات بل تصور وجوده وغير ذلك من صفاته وكذلك العالم قد تصور وجوده وإذا تصور بحر زئبق وجبل ياقوت فان لم يتصور مع هذا عدمه في الخارج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 ولا امتناعه ولا شيء من الأشياء كان هذا خيالا من الخيالات ووسواسا من الوساوس ليس هذا من العلم في شيء فان تصور مع ذلك عدمه في الخارج كان قد تصور تصورا مقيدا بالعدم لم يكن تصوره خاليا من جميع القيود. فان قلت: فما التصور القابل للتصديق المشروط فيه قيل هو التصور الخالي عن معرفة ذلك التصديق ليس هو الخالي عن جميع القيود السلبية والثبوتية فإذا كان يشك هل النبيذ حرام أم لا فقد تصور النبيذ وتصور الحرام وكل من التصورين متصور بقيود فهو يعلم أن النبيذ شراب وأنه موجود وأنه يشرب وأنه يسكر وغير ذلك من صفاته لكن لم يعلم أنه حرام فليس من شرط التصور المشروط في التصديق أن يكون ساذجا خاليا عن كل قيد ثبوتي وسلبي بل أن يكون خاليا عن التقييد بذلك التصديق. وقول القائل التصديق مسبوق بالتصور مثل قوله القول مسبوق بالعلم فليس لأحد أن يتكلم بما لا يعلم كذلك لا يصدق ولا يكذب لما لا يتصوره وحينئذ فالتصور التام مستلزم للتصديق والتصور الناقص يحتاج معه إلى دليل يثبت له حكم. وهذا يقرر ما عليه نظار المسلمين كما قررنا ذلك من قبل من أن التصورات المفردة لا تعلم بمجرد الحد وأن المطلوب بالحد هو تصديق يفتقر إلى ما تفتقر إليه التصديقات فكما ذكرنا هناك أن الذي يجعلونه حدا هو تصديق يفتقر إلى دليل فيقال هنا ما يجعلونه قياسا يعود في الحقيقة إلى الحد والتصور كما يعود هذا القياس إلى أن يعلم مسمى الخمر وإذا كان كذلك فإذا كانوا يقولون أن الحد لا يقام عليه دليل ولا يحتاج إلى قيام دليل فنقول العلم بمسمى الخمر لا يحتاج إلى قياس بل قد يعلم بما يعلم به سائر التصورات المفردة ومسميات جميع الأسماء من تفطن النفس لشمول ذلك المعنى لهذه الصورة وثبوته فيها. وكلما تدبر العاقل هذا وعرفه معرفة جيدة تبين له أن الصواب ما عليه نظار المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وجماهير العقلاء من أن الحدود بمنزلة الأسماء وهو تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال وأن المطلوب من الحد هو التمييز بين المحدود وغيره وذلك يكون بالوصف الملازم له طردا وعكسا بحيث يكون الحد جامعا مانعا. وأنه مع ذلك ليس لأحد أن يدعي دعوى غير بديهية إلا بدليل فالحاد أن كان يحد مسمى اسم كما يقول في الخمر أنها المسكر وفي الغيبة أنها ذكرك أخاك بما يكره وفي الكبر أنه بطر الحق وغمط الناس فعليه أن يبين أن ما ذكره مطابق لمسمى ذلك الاسم أما بالنقل عن الشارع المتكلم بهذه الأسماء مثل أن يقول قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر خمر " وما ليس بمسكر فليس بخمر بالإجماع فيثبت أن الخمر هو المسكر أو يقول ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: "ذكرك أخاك بما يكره" فقال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ". فإذا عورض هذا بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها فقالت: خطبني أبو جهم ومعاوية فقال: "أما أبو جهم فرجل ضراب للنساء " وفي لفظ "لا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحى أسامة " فإذا قال المعترض هنا قد ذكر كلا منهما بما يكره والغيبة محرمة كان الجواب مع إحدى المقدمتين بأن يقال لا نسلم أن هذا داخل في حد الغيبة وإن سلم دخوله في الحد دل على جواز الغيبة لمصلحة راجحة مثل نصيحة المستشير فإنها لما استشارته وجب نصحها ومثل ذلك الكلام في جرح الرواة الكاذبين والغالطين وشهادة الشاهد الكاذب وشكاية المظلوم وغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 ذلك عما دل الشرع على جوازه. فانه يقال فيه أحد الأمرين لازم أما أن يقال المؤمن لا يكره ذلك إذا كان صادق الإيمان لأن المؤمن لا يكره ما أمر الله ورسوله به وهذا مما أمر الله به ورسوله ويقال أن كرهه فهو من هذه الجهة ناقص الإيمان فيه شعبة نفاق فلا يكون هو الأخ الذي قيل فيه ذكرك أخاك بما يكره وهذا مبنى على أن الشخص الواحد يكون فيه طاعة ومعصية وبر وفجور وخير وشر وشعبة إيمان وشعبة نفاق أو يقول إذا سلم شمول اللفظ له هذا من الغيبة المباحة فلا بد من التزام أحد أمرين أما أنه لم يدخل في مسمى الغيبة وأما أنه لم يدخل فيما حرم منها ولهذا نظائر. والمقصود التنبيه على المثال وأن من ادعى حد اسم فلا بد له من دليل وكذلك أن ادعى حدا بحسب الحقيقة. وهذا الذي عليه نظار المسلمين وغيرهم أصح مما عليه أهل المنطق اليوناني من وجوه فان أولئك يدعون أن الحد يفيد تصوير الماهية في نفس المستمع ويدعون أن ذلك يحصل بمجرد قول الحاد من غير دليل أصلا. ثم أنهم عمدوا إلى الصفات اللازمة للموصوف ففرقوا بينها وجعلوها ثلاثة أصناف ذاتية داخلة في الماهية وخارجة لازمة للماهية دون وجودها وخارجة لازمة لوجودها وهذا كله باطل إذا أريد بالماهية الموجودات الخارجية وهي التي تقصد بالحد والتعريف وأما إذا قدر أن الماهية هي مجرد ما يتصوره النفس فقدر تلك الماهية وصفتها يتبع تصور المتصور فتارة يتصور جسما حساسا ناميا متحركا بالإرادة ناطقا فتكون الماهية هي هذه الأجزاء كلها وتارة يتصور حيوانا ناطقا وتارة يتصور حيوانا ضاحكا وتارة يتصور ضاحكا فقط وتارة يتصور ناطقا فقط فإذا جعل ما دخل في تصوره داخلا فيه وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 خرج عنه لازما له أو غير لازم كما ذكر ذلك بعضهم وكما ذكروه من دلالة المطابقة والتضمن الالتزام كان هذا صحيحا لكن ليس فيه منفعة في العلوم والحقائق ومعرفة صفاتها الذاتية وغير الذاتية أصلا بل هذا يرجع إلى تصور مراد المتكلم سواء كان حقا أو باطلا. وأما نظار المسلمين فالحد عندهم يكون بالوصف الملازم والوصف الواحد الملازم كاف لا يذكرون معه الوصف المشترك لا الجنس ولا العرض العام بل يعيبون على من يذكر ذلك في الحدود وهل يحد بالتقسيم لهم فيه قولان والصفات تنقسم إلى قسمين لازمه للموصوف وغير لازمة والذي عليه نظار أهل السنة وسائر المثبتين للصفات والقدر أن وجود كل شيء في الخارج عين حقيقته فاللازم للموجود الخارجي لازم للحقيقة الخارجية ولا يقبل من أحد دعوى غير معلومة إلا بدليل فأين هذا المنطق وأين هذا الميزان المستقيمة العادلة من ميزان أولئك الجائرة الغائلة التي ليس فيها لا صدق ولا عدل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} . الوجه الخامس: من الأقيسة ما تكون مقدمتاه ونتيجته بديهية الوجه الخامس: أن يقال هذا القياس هو قياس الشمول وهو العلم بثبوت الحكم لكل فرد من الأفراد. فنقول قد علم وسلموا أنه لا بد أن يكون العلم بثبوت بعض الأحكام لبعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 أفرادها بديهيا فان النتيجة إذا افتقرت إلى مقدمتين فلا بد أن ينتهي الأمر إلى مقدمتين تعلم بدون مقدمتين وإلا لزم الدور أو التسلسل الباطلان ولهذا كان من المقرر عند أهل النظر أنه لا بد في التصورات والتصديقات من تصورات بديهية وتصديقات بديهية. ولفرض المقدمتين البديهيتين كل مسكر خمر وكل خمر حرام وإن لم يكن هذا بديهيا لكن المقصود التمثيل ليعلم بالمثال حكم سائر القضايا فإذا قدر أنه علم بالبديهة أن كل فرد من أفراد الخمر حرام وعلم بالبديهة أن كل فرد من أفراد المسكر خمر كان علمنا بالبديهة أن هذه الأفراد حرام من أسهل الأشياء. وإنما يخفى ذلك لكون أكثر المقدمات لا يكون بديهية بل مبينة بغيرها كافي هذا المثال فان المقدمة الثانية ثابتة بالنص والإجماع والأولى ثابتة بالسنة الصحيحة لكن لم يعرفها كثير من العلماء فطريق العلم بالمقدمتين يختلف. وأما إذا أفردنا ذلك في مقدمتين طريق العلم بهما واحد لم نحتج إلى القياس مثل العلم بأن كل إنسان حيوان وكل حيوان حساس متحرك بالإرادة فهنا قد يكون العلم بأن كل إنسان حساس متحرك بالإرادة أبين وأظهر وكذلك إذا قلنا كل إنسان جسم أو جوهر أو حامل للصفات ثم قلنا كل ما هو جسم أو جوهر أو حامل للصفات فليس بعرض أو هو قائم بنفسه أو هو موصوف بالصفات ونحو ذلك كان العلم بأن كل إنسان هو كذلك مما لا يحتاج إلى هذا التطويل فالمقدمتان أن كان طريق العلم بهما واحدا وقد علمتا فلا حاجة إلى بيانهما وإن كان طريق العلم بهما مختلفا فمن لم يعلم إحداهما احتاج إلى بيانها وإن لم يحتج إلى الأخرى التي علمها وهذا ظاهر في كل ما تقدره. فتبين أن منطقهم يعطي تضييع الزمان وكثرة الهذيان وإتعاب الأذهان وكذلك إذا علمنا أن كل رسول نبي وكل نبي فهو في الجنة فعلمنا أن كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 رسول فهو في الجنة أبين من هذا وهذا كثير جدا. الوجه السادس: من القضايا الكلية ما يمكن العلم به بغير توسط القياس وهو يتضح بالوجه السادس وهو أن يقال لا ريب أن المقدمة الكبرى أعم من الصغرى أو مثلها لا يكون أخص منها والنتيجة اخص من الكبرى أو مساوية لها واعم من الصغرى أو مساوية لها كالحدود الثلاثة فان الأكبر أعم من الأصغر أو مثله والأوسط مثل الأصغر أو اعم ومثل الأكبر أو اخص ولا ريب أن الحس يدرك المعينات أولا ثم ينتقل منها إلى القضايا العامة فان الإنسان يرى هذا الإنسان وهذا الإنسان وهذا الإنسان ويرى أن هذا حساس متحرك بالإرادة ناطق وهذا كذا وهذا كذا فيقضى قضاء عاما أن كل إنسان حساس متحرك بالإرادة ناطق. فنقول العلم بالقضية العامة أما أن يكون بتوسط قياس أو بغير توسط قياس فان كان لا بد من توسط قياس والقياس لا بد فيه من قضية عامة لزم أن لا يعلم العام إلا بالعام وذلك يستلزم الدور أو التسلسل فلا بد أن ينتهي الأمر إلى قضية كلية عامة معلومة بالبديهة وهم يسلمون ذلك. وإن أمكن علم القضية العامة بغير توسط قياس أمكن علم الأخرى فان كون القضية بديهية أو نظرية ليس وصفا لازما لها يجب استواء جميع الناس فيه بل هو أمر نسبى إضافي بحسب حال علم الناس بها فمن علمها بلا دليل كانت بديهية له ومن احتاج إلى نظر واستدلال بدليل كانت نظرية له. وكذلك كونها معلومة بالعقل أو الخبر المتواتر أو خبر النبي الصادق أو الحس ليس هو أمرا لازما لها بل كذب مسيلمة الكذاب مثلا قد يعلم بقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 النبي الصادق أنه كذاب وقد يعلم ذلك من باشره ورآه يكذب ويعلم ذلك من غاب عنه بالتواتر ويعلم ذلك بالاستدلال فانه ادعى النبوة وأتى يناقض النبوة فيعلم بالاستدلال وكذلك الهلال قد يعلم طلوعه بالرؤية فتكون القضية حسية ويعلم ذلك من لم يره بالأخبار المتواترة فتكون القضية عنده من المتواترات ويعلم ذلك من علم أن تلك الليلة إحدى وثلاثون بالحساب والاستدلال ومثل هذا كثير فالمعلوم الواحد يعلمه هذا بالحس وهذا بالخبر وهذا بالنظر وهذه طرق العلم لبني آدم وهكذا القضايا الكلية إذا كان منها ما يعلم بلا قياس ولا دليل وليس لذلك حد في نفس القضايا بل ذلك بحسب أحوال بنى آدم لم يمكن أن يقال فيما علمه زيد بالقياس أنه لا يمكن غيره أن يعلمه بلا قياس بل هذا نفى كاذب. الوجه السابع: الأدلة القاطعة على استواء قياسي الشمول والتمثيل. الوجه السابع: أن يقال هم يدعون أن المفيد لليقين هو قياس الشمول فأما قياس التمثيل فيزعمون أنه لا يفيد اليقين ونحن نعلم أن من التمثيل ما يفيد اليقين ومنه ما لا يفيده ك الشمول فان الشيئين قد يكون تماثلهما معلوما وقد يكون مظنونا كالعموم وإن جمع بينهما بالعلة فالعلة في معنى عموم الشمول. يوضح هذا أن يقال قياس الشمول يؤول في الحقيقة إلى قياس التمثيل كما أن الآخر في الحقيقة يؤول إلى الأول ولهذا تنازع الناس في مسمى القياس فقيل هو قياس التمثيل فقط وهو قول أكثر الأصوليين وقيل قياس الشمول فقط وهو قول أكثر المنطقيين وقيل بل القياسان جميعا وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين وذلك أن قياس الشمول مبناه على اشتراك الأفراد في الحكم العام وشموله لها وقياس التمثيل مبناه على اشتراك الاثنين في الحكم الذي يعمهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ومآل الأمرين واحد وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. ونحن نذكر هنا ما لم نذكره في غير هذا الموضع فنقول قد تبين فيما تقدم أن قياس الشمول يمكن جعله قياس تمثيل وبالعكس فإذا قال القائل في مسألة القتل بالمثقل قتل عمد عدوان محض لمن يكافئ القاتل فأوجب القود كالقتل بالمحدد فقد جعل القدر المشترك الذي هو مناط الحكم القتل العمد العدوان المحض للمكافئ وهذا يسمى العلة والمناط والجامع والمشترك والمقتضى والموجب والباعث والأمارة وغير ذلك من الأسماء فإذا أراد أن يصوغه ب قياس الشمول قال هذا قتل عمد عدوان محض للمكافئ وما كان كذلك فهو موجب للقود. والنزاع في الصورتين هو في كونه عمدا محضا فان المنازع يقول العمدية لم تتمحض وليس المقصود هنا ذكر خصوص المسألة بل التمثيل وهذا نزاع في المقدمة الصغرى وهو نزاع في ثبوت الوصف في الفرع فان قياس التمثيل قد يمنع فيه ثبوت الوصف في الأصل ويمنع ثبوته في الفرع وقد يمنع كونه علة الحكم. ويسمى هذا السؤال سؤال المطالبة وهو أعظم أسئلة القياس وجوابه عمدة القياس فان عمدة القياس على كون المشترك مناط الحكم وهذا هو المقدمة الكبرى وهو كما لو قال في هذه المسألة لا نسلم أن كل ما كان عمدا محضا يوجب القصاص وكذلك منع الحكم في الأصل أو منع الوصف في الأصل وهو منع للمقدمة الكبرى في قياس الشمول. أللهم إلا أن يقيم المستدل دليلا على تأثير الوصف في غير أصل معين وهذا قياس التعليل المحض كما لو قال النبيذ المسكر محرم لأن المعنى الموجب للتحريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وهو كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة موجود فيها وهذا المعنى قد دل النص على أنه علة التحريم وقد وجد فيثبت فيه التحريم. وهم في قياس الشمول إذا أرادوا إثبات المقدمة الكبرى التي هي نظير جعل المشترك بين الأصل والفرع مناط الحكم فلا بد من دليل يبين ثبوت الحكم لجميع أفراد المقدمة باعتبار القدر المشترك الكلى بين الأفراد وهذا هو القدر المشترك الجامع في قياس التمثيل فالجامع هو الكلى والكلى هو الجامع. ومن قال من متأخري النظار كأبي المعالي وأبي حامد والرازي وأبي محمد أن العقليات ليس فيها قياس بل الاعتبار فيها بالدليل فهذا مع أنهم خالفوا فيه جماهير النظار وأئمة النظر فنزاعهم فيها يرجع إلى اللفظ فإنهم يقولون العقليات لا تحتاج إلى أن يعين فيها أصل يلحق فيه الفرع وليس جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا بأولى من العكس بل الاعتبار بالدليل الشامل للصورتين فيقال لهم لا ريب أنه في العقليات والشرعيات لم يقع النزاع في جميع أفراد المعنى العام الذي يسمى الجامع المشترك بل وقع في بعضها وبعضها متفق عليه فتسمية هذا أصلا وهذا فرعا أمر إضافي ولو قدر أن بعض الناس علم حكم الفرع بنص وخفي عليه حكم الأصل لجعل الأصل فرعا والفرع أصلا والجمع أما أن يكون بإلغاء الفارق وأما أن يكون بإبداء الجامع وهذا يكون في العقليات قطعيا وظنيا كما يكون في الشرعيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 فإذا قيل الأحكام والإتقان يدل على علم الفاعل شاهدا فكذلك غائبا أو قيل علة كون العالم عالما قيام العلم به في الشاهد فكذلك في الغائب أو قيل الحيوة شرط في العلم شاهدا فكذلك غائبا أو قيل حد العالم في الشاهد من قام به العلم فكذلك في الغائب فهذه الجوامع الأربعة التي تذكرها الصفاتية من الجمع بين الغائب والشاهد في الصفات الحد والدليل والعلة والشرط فذكر الشاهد حتى يمثل القلب صورة معينة ثم يعلم بالعقل عموم الحكم وهو أن الأحكام والإتقان مستلزم لعلم الفاعل فان الفعل المحكم المتقن لا يكون إلا من عالم وكذلك سائرها. وهذا كسائر ما يعلم من الكليات العادية إذا قيل هذا الدواء مسهل للصفراء ومنضج للخلط الفلاني ونحو ذلك فان التجربة إنما دلت على أشياء معينة لم تدل على أمر عام لكن العقل يعلم أن المناط هو القدر المشترك بما يعلم من انتفاء ما سواه ومناسبته أو لا يعلم مناسبته وهذا قد يكون معلوما تارة كما يعلم أن أكل الخبز يشبع وشرب الماء يروي وأن السقمونيا مسهل للصفراء وإن كان قد يتخلف الحكم بفوات شرطه إذ قدمنا أن الطبيعيات التي هي العاديات ليس فيها كليات لا تقبل النقض بحال فكان ذكر الأصل في القياس العقلي لتنبيه العقل على المشترك الكلى المستلزم للحكم لا لأن مجرد ثبوت الحكم في صورة يوجب ثبوته في أخرى بدون أن يكون هناك جامع يستلزم الحكم. وإذا قيل فمن أين يعلم أن الجامع مستلزم للحكم قيل من حيث يعلم القضية الكبرى في قياس الشمول فإذا قال القائل هذا فاعل محكم لفعله وكل محكم لفعله فهو عالم فأي شيء ذكر في علة هذه القضية الكلية فهو موجود في قياس التمثيل وزيادة أن هناك أصلا يمثل به قد وجد فيه الحكم مع المشترك وفي قياس الشمول لم يذكر شيء من الأفراد التي يثبت الحكم فيها ومعلوم أن ذكر الكلى المشترك مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 بعض أفراده اثبت في العقل من ذكره مجردا عن جميع الإفراد باتفاق العقلاء. ولهذا هم يقولون أن العقل بحسب إحساسه بالجزئيات يدرك العقل بينها قدرا مشتركا كليا فالكليات في النفس تقع بعد معرفة الجزئيات المعينة فمعرفة الجزئيات المعينة من أعظم الأسباب في معرفة الكليات فكيف يكون ذكرها مضعفا للقياس ويكون عدم ذكرها موجبا لقوته وهذه خاصة العقل فان خاصة العقل معرفته الكليات بتوسط معرفته بالجزئيات فمن أنكرها أنكر خاصة عقل الإنسان ومن جعل ذكرها بدون شيء من محالها المعينة أقوى من ذكرها مع التمثيل لمواضعها المعينة كان مكابرا والعقلاء باتفاقهم يعلمون أن ضرب المثل الكلى مما يعين على معرفته وانه ليس الحال إذا ذكر مع المثال كالحال إذا ذكر مجردا عن الأمثال. ومن تدبر جميع ما يتكلم فيه الناس من الكليات المعلومة بالعقل في الطب والحساب والطبيعيات والصناعات والتجارات وغير ذلك وجد الأمر كذلك فإذا قيل يسخن جوف الإنسان في الشتاء ويبرد في الصيف لأنه في الشتاء يكون الهواء باردا فيبرد ظاهر البدن فتهرب الحرارة إلى باطن البدن لأن الضد يهرب من الضد والشبيه ينجذب إلى شبيه فتظهر البرودة إلى الظاهر لأن شبه الشيء منجذب إليه كان هذا أمرا كليا مطلقا فإذا قيل ولهذا يسخن جوف الأرض في الشتاء وجوف الحيوان كله ولهذا تبرد الأجواف في الصيف لسخونة الظواهر فتهرب البرودة إلى الأجواف كان كلما تصور الإنسان النظائر قويت معرفته بتلك الكلية وهو أن الضد يهرب من ضده والنظير ينجذب إلى نظيره وهذا معلوم في الطبيعيات والنفسانيات وغيرهما لكن إذا ذكرت النظائر قوى العلم بذلك وقد يعبر عن ذلك بأن الجنسية علة الضم. وكذلك إذا قيل الشمس إذا وقعت على البحر أو غيره تسخنه فتصاعد منه بخار لأن الحرارة تحلل الرطوبة ثم قيل كما يتصاعد البخار من القدر التي فيها الماء الحار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 كان هذا المثال مما يؤكد معرفة الأول. والأقيسة التي يستعملها الفلاسفة في علومهم ويجعلونها كلية كلها يعتضدون فيها بالأمثلة وليس مع القوم إلا ما علموه من صفات الأمور المشاهدة ثم قاسوا الغائب على المشاهد به بالجامع المشترك الذي يجعلونه كليا فان لم يكن هذا صحيحا لم يكن مع أحد من أهل الأرض علم كلى يشترك فيه ما شهده وما غاب عنه حتى قوله الخبز يشبع والماء يروي ونحو ذلك فانه لم يعلم بحسه إلا أمورا معينة فمن أين له أن الغائب بمنزلة الشاهد إلا بهذه الطريق والإنسان قد ينكر أمرا حتى يرى واحدا من جنسه فيقر بالنوع ويستفيد بذلك حكما كليا. ولهذا يقول سبحانه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} ونحو ذلك وكل من هؤلاء إنما جاءه رسول واحد لكن كانوا مكذبين بجنس الرسل لم يكن تكذيبهم بالواحد لخصوصه وهذا بخلاف تكذيب اليهود والنصارى لمحمد صلى الله عليه وسلم فإنهم لم يكذبوا جنس الرسل إنما كذبوا واحدا بعينه بخلاف مشركي العرب الذين لم يعرفوا الرسل فان الله يحتج عليهم في القرآن بإثبات جنس الرسالة. ولهذا يجيب سبحانه عن شبه منكري جنس الرسالة كقولهم: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} فيقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي هذا متواتر عند أهل الكتاب فاسألوهم عن الرسل الذين جاءتهم أكانوا بشرا أم لا وكذلك قوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} فإنهم لا يستطيعون الأخذ عن الملك في صورته فلو أرسلنا إليهم ملكا لجعلناه رجلا في صورة الإنسان وحينئذ كان يلتبس عليهم الأمر ويقولون هو رجل والرجل لا يكون رسولا وكذلك الرسل قبله قال تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} كما قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} وكما قال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} ونحو ذلك. فكان علمهم بثبوت معين من هذا النوع يوجب العلم بقضية مطلقة وهو أن هذا النوع موجود بخلاف ما إذا اثبت ذلك ابتداء بلا وجود نظير فانه يكون أصعب وإن كان ممكنا فان نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ولم يكن قبله رسول بعث إلى الكفار المشركين يدعوهم إلى الانتقال عن الشرك إلى التوحيد وآدم والذين كانوا بعده كان الناس في زمنهم مسلمين كما قال ابن عباس: "كان بين آدم ونوح عشر قرون كلهم على الإسلام" لكن لما بعث الله نوحا وأنجى من آمن به وأهلك من كذبه صار هذا المعين يثبت هذا النوع أقوى مما كان يثبت ابتداء. والذين قالوا الواحد لا يصدر عنه إلا واحد كان مبدأ كلامهم في الأمور الطبيعية فإنهم رأوا البارد إنما يقتضى التبريد فقط والحار إنما يقتضي التسخين فقط وكذلك سائرها لكن هذا ليس فيه إحداث واحد لواحد فان البرودة الحاصلة لا بد لها مع السبب من محل قابل وارتفاع موانع فلم يحصل السبب إلا عن شيئين لا عن واحد لكن هذا كان مبدأ كلامهم. وأما احتجاج ابن سينا وأمثاله بأنه لو صدر اثنان لكان مصدر هذا غير مصدر هذا ولزم التركيب المنافي للوحدة فهذه الحجة تبع لحجة التركيب وهذه أخذوها من أهل الكلام من المعتزلة ونحوهم ليست هذه من كلام أئمة الفلاسفة كأرسطو وأتباعه لا سيما أكثر أساطين الفلاسفة فإنهم كانوا يقولون بإثبات الصفات لله تعالى بل وبقيام الأمور الاختيارية كما ذكرنا كلامهم في غير هذا الموضع وهو اختيار أبي البركات صاحب المعتبر ومن قال أنه خالف أكثر الفلاسفة فمراده المشائين وأما الأساطين قبل هؤلاء فكلام كثير منهم يدل على هذا الأصل كما هو مذكور في موضعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ومن أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف فإذا رأى الشيئين المتماثلين علم أن هذا مثل هذا يجعل حكمهما واحدا كما إذا رأى الماء والماء والتراب والتراب والهواء والهواء ثم حكم بالحكم الكلى على القدر المشترك وإذا حكم على بعض الأعيان ومثله بالنظير وذكر المشترك كان أحسن في البيان فهذا قياس الطرد إذا رأى المختلفين كالماء والتراب فرق بينهما وهذا قياس العكس. وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس فانه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم كان من الاعتبار أن يعلم أن من فعل ما فعلوا أصابه ما أصابهم فيتقى تكذيب الرسل حذرا من العقوبة وهذا قياس الطرد ويعلم أن من لم يكذب الرسل بل أتبعهم لا يصيبه ما أصاب هؤلاء وهذا قياس العكس وهو المقصود من الاعتبار بالمعذبين فان المقصود ثبت في الفرع عكس حكم الأصل لا نظيره والاعتبار يكون بهذا وبهذا قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ} وقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} الميزان المنزل من الله هو القياس الصحيح: وقد قال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} والميزان يفسره السلف بالعدل ويفسره بعضهم بما يوزن به وهما متلازمان وقد أخبر أنه انزل ذلك مع رسله كما أنزل معهم الكتاب ليقوم الناس بالقسط. فما يعرف به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات فمعرفة أن هذه الدارهم أو غيرها من الأجسام الثقيلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 بقدر هذه تعرف بموازينها وكذلك معرفة أن هذا الكيل مثل هذا يعرف بميزانه وهو المكاييل وكذلك معرفة أن هذا الزمان مثل هذا الزمان يعرف بموازينه التي يقدر بها الأوقات كما يعرف به مظلال وكما يعرف بجري من ماء ورمل وغير ذلك وكذلك معرفة أن هذا بطول هذا يعرف بميزانه وهو الذارع فلا بد بين كل متماثلين من قدر مشترك كلى يعرف به أن أحدهما مثل الآخر. فكذلك الفروع المقيسة على أصولها في الشرعيات والعقليات تعرف بالموازين المشتركة بينهما وهي الوصف الجامع المشترك الذي يسمى الحد الأوسط فانا إذا علمنا أن الله حرم خمر العنب لما ذكره من أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء ثم رأينا نبيذ الحبوب من الحنطة والشعير والرز وغير ذلك يماثلها في المعنى الكلى المشترك الذي هو علة التحريم كان هذا القدر المشترك الذي هو العلة هو الميزان التي انزلها الله في قلوبنا لنزن بها هذا ونجعله مثل هذا فلا نفرق بين المتماثلين والقياس الصحيح هو من العدل الذي أمر الله تعالى به. ومن علم الكليات من غير معرفة المعين فمعه الميزان فقط والمقصود بها وزن الأمور الموجودة في الخارج وإلا فالكليات لولا جزئياتها المعينات لم يكن بها اعتبار كما أنه لولا الموزونات لم يكن إلى الميزان من حاجة ولا ريب أنه إذا احضر احد الموزونين واعتبر بالآخر بالميزان كان اتم في الوزن من أن يكون الميزان وهو الوصف المشترك الكلى في العقل أي شيء حضر من الأعيان المفردة وزن بها فان هذا أيضا وزن صحيح وذلك أحسن في الوزن فانك إذا وزنت بالصنجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 قدرا من النقدين ثم وزنت بها نظيره والأول شاهد والناس يشهدون أن هذا وزن به هذا فظهر مثله أو أكثر أو أقل كان أحسن من أن يوزن أحدهما في مغيب الآخر فانه قد يظن أن الوازن لم يعدل في الوزن كما يعدل إذا وزنها معا فان هذا يعتبر بأن يوزن أحدهما بالآخر بلا صنجة وهكذا الموزونات بالعقل. وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع وبينا أن القياس الصحيح هو من العدل الذي انزله وانه لا يجوز قط أن يختلف الكتاب والميزان فلا يختلف نص ثابت عن الرسل وقياس صحيح لا قياس شرعي ولا عقلي ولا يجوز قط أن الأدلة الصحيحة النقلية تخالف الأدلة الصحيحة العقلية وأن القياس الشرعي الذي روعيت شروط صحته يخالف نصا من النصوص وليس في الشريعة شيء على خلاف القياس الصحيح بل على خلاف القياس الفاسد كما قد بسطنا ذلك في مصنف مفرد وذكرنا في كتاب درء تعارض العقل والنقل ومتى تعارض في ظن الظان الكتاب والميزان النص والقياس الشرعي أو العقلي فأحد الأمرين لازم أما فساد دلالة ما احتج به من النص أما بأن لا يكون ثابتا عن المعصوم أو لا يكون دالا على ما ظنه أو فساد دلالة ما احتج به من القياس سواء كان شرعيا أو عقليا بفساد بعض مقدماته أو كلها لما يقع في الأقيسة من الألفاظ المجملة المشتبهة. وأبو حامد ذكر في القسطاس المستقيم الموازين الخمسة وهي منطق اليونان بعينة غير عبارته ولا يجوز لعاقل أن يظن أن الميزان العقلي الذي انزل الله هو منطق اليونان لوجوه: أحدها: أن الله انزل الموازين مع كتبه قبل أن يخلق اليونان من عهد نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم وهذا المنطق اليوناني وضعه أرسطو قبل المسيح بثلثمائة سنة فكيف كانت الأمم المتقدمة تزن بهذا الثاني: أن امتنا أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الإسلام ما زالوا يزنون بالموازين العقلية ولم يسمع سلفنا بذكر هذا المنطق اليوناني وإنما ظهر في الإسلام لما عربت الكتب الرومية في دولة المأمون أو قريبا منها الثالث: أنه ما زال نظار المسلمين بعد أن عرب وعرفوه يعيبونه ويذمونه ولا يلتفتون إليه ولا إلى أهله في موازينهم العقلية والشرعية. ولا يقول القائل ليس فيه مما انفردوا به إلا اصطلاحات لفظية وإلا فالمعاني العقلية مشتركة بين الأمم فانه ليس الأمر كذلك بل فيه معان كثير فاسدة ثم هذا جعلوه ميزان الموازين العقلية التي هي الأقيسة العقلية وزعموا أنه آله قانونية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره وليس الأمر كذلك فانه لو احتاج الميزان إلى ميزان لزم التسلسل وأيضا فالفطرة أن كانت صحيحة وزنت بالميزان العقلي وإن كانت بليدة أو فاسدة لم يزدها المنطق لو كان صحيحا إلا بلادة وفسادا ولهذا يوجد عامة من يزن به علومه لا بد أن يتخبط ولا يأتي بالأدلة العقلية على الوجه المحمود ومتى أتى بها على الوجه المحمود اعرض عن اعتبارها بالمنطق لما فيه من العجز والتطويل وتبعيد الطريق وجعل الواضحات خفيات وكثرة الغلط والتغليط. كل قياس في العالم يمكن رده إلى القياس الاقتراني: فان قيل ما ذكرته من أن قياس الشمول يرجع إلى قياس التمثيل يتوجه في قياس الاقتراني دون الاستثنائي فان الاستثنائي ما تكون النتيجة أو نقيضها مذكورة فيه بالفعل بخلاف الاقتراني فان النتيجة إنما هي فيه بالقوة والاستثنائي مؤلف من الشرطيات المتصلة وهو التلازم ومن المنفصلة وهو التقسيم ولا ريب أن الحد الأوسط في الاقترانى يمكن جعله الجامع المشترك في القياس التمثيلي بخلاف الاستثنائى قيل الجواب من وجوه. منها أن التلازم والتقسيم إذا قيل هذا مستلزم لهذا حيث وجد وجد فان هذا قضية كلية فتستعمل على وجه التمثيل وعلى وجه الشمول بأن يقاس بعض أفرادها ببعض ويجعل القدر المشترك هو مناط الحكم وكذلك إذا قيل هذا أما كذا وأما كذا فهو أيضا كلى يبين بصيغة التمثيل وبصيغة الشمول ولهذا كانت الأحكام الثابتة بصيغة العموم يمكن استعمال قياس التمثيل فيها بأن يقاس بعض أفرادها ببعض ويجعل المعنى المشترك هو مناط الحكم. ومنها أن كل قياس في العالم يمكن رده إلى الاقترانى فإذا قيل بصيغة الشرط أن كانت الصلاة صحيحة فالمصلى متطهر أمكن أن يقال كل مصل فهو متطهر وأن يقال الصلاة مستلزمة الطهارة ونحو ذلك من صور القياس الاقتراني والحد الأوسط فيه أن استثناء عين المقدم ينتج عين التالي واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 المقدم وهذا معنى قولنا إذا وجد الملزوم وجد اللازم وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم فان المقدم هو الملزوم والتالي هو اللازم وهكذا كل شرط وجزاء فالشرط ملزوم والجزاء لازم له. وهذا إذا جعل بصيغة الاقترانى فقيل هذا مصل وكل مصل متطهر فهذا متطهر أو قيل هذا ليس بمتطهر ومن لا يكون متطهرا ليس بمصل فهذا ليس بمصل والقضية الكلية فيه أن كل مصل متطهر وأن كل من ليس بمتطهر فليس بمصل فالسالبة والموجبة كلاهما كليتان وهذه الكلية معروفة بنص الشارع ليست مما عرفت بالعقل ولو كانت مما تعرف بالعقل المجرد لعرفت ب قياس التمثيل مع أنها تصاغ ب قياس التمثيل فيقال هذا مصل فهو متطهر كسائر المصلين أو هذا ليس بمتطهر فليس بمصل كسائر من ليس بمتطهر ثم يبين أن الجامع المشترك مستلزم للحكم كما في الأول. وكذلك الشرطي المنفصل الذي هو التقسيم والترديد إذا قيل هذا أما أن يكون شفعا أو وترا ونحو ذلك قيل هذا لا يخلو من كونه شفعا أو وترا ولا يجتمع هذا وهذا معا وهو شفع فلا يكون وترا أو هو وتر فلا يكون شفعا وهذه القضية معلومة بالبديهة لكن تصور أفرادها أبين من تصور كليتها فلا يحتاج شيء من أفرادها أن يبين بالقياس الكلى المنطقي فانه أي شيء علم أنه شفع علم أنه ليس بوتر بدون أن يوزن بأمر كلى عنده ولا بقياس على نظيره فلا يحتاج أن يقال وكل شفع فليس بوتر أو كل وتر فليس بشفع. وهذا كما تقدم التنبيه عليه أن ما يثبتونه بالقضايا الكلية تعلم مفرداتها بدون تلك القضايا بل وتعرف بدون قياس التمثيل فإذا عرف أن هذا الثوب أو غيرة اسود عرف أنه ليس بأبيض بدون أن يقال كل اسود فانه ليس بأبيض وهذه الكلية من أن كل أسود لا يكون أبيض يعرف بدون أن يعرف أن كل ضدين لا يجتمعان ولو أثبت تلك المعينات بهذه الكلية لاحتيج أن يبين أنهما ضدان فانه لا يعلم أنهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ضدان حتى يعلم أنهما لا يجتمعان وإذا علم أنهما لا يجتمعان أغنى ذلك عن الاستدلال عليه بكونهما ضدين. فعلم أنه لا يحتاج أن يبين ما يندرج في هذا الكلى لا من الأنواع ولا من الأعيان المعينة به بل العلم بها أبين من العلم بهذه الكلية بل إذا أرادوا أن يبينوا أن الضدين لا يجتمعان قالوا المراد بالضدين هما الوصفان الوجوديان اللذان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض فيعود الأمر إلى تعريفهم مرادهم بهذا اللفظ وأما بيان ما دل عليه من المعاني المعقولة فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه بالكلى وكذلك في النقيضين وكذلك في الشرط والمشروط والعلة والمعلول وسائر هذه الأمور الكلية. إبطال القول باقتران العلة والمعلول في الزمان: ولهذا من لم يحكم معرفة هذا وإلا التبست عليه المعقولات ودخل عليه غلطهم سواء كانوا قد غلطوا هم في التصور وهو الغالب على أئمتهم أو كانوا يقصدون التغليط كما يفعله بعضهم. مثال ذلك أنه إذا قيل لهم في مسألة حدوث العالم كيف يكون العالم مفعولا مصنوعا للرب وهو مساوق له أزلا وأبدا مقارن له في الزمان هذا مما يعلم فساده بضرورة العقل فان المفعول لا يكون مقارنا للفاعل في الزمان قالوا بل هذا ممكن وهو أن تقدم العلة على المعلول تقدما عقليا لازما كتقدم حركة اليد على حركة الخاتم الذي فيها وتقدم الشمس على الشعاع وتقدم الحركة على الصوت الناشئ عنها ثم أن كان ممن تكلم في العلة والمعلول المذكور في الصفات والأحوال وهو يقول العلم علة كون العالم عالما كما يقوله مثبتوا الأحوال من النظار كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي في أول قوليه والقاضي أبي يعلى وأمثالهم فانه قد ألف أن العلة والمعلول متلازمان مقترنان فلا يستنكر مثل هذا هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ولهذا غلط بسبب متابعتهم في هذا طوائف من الفقهاء في الفقه كأبي المعالي واتباعه أبي حامد والرافعي وغيرهم فادعوا شيئا خالفوا فيه جميع أئمة الفقه المتقدمين من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم ولم يقله الشافعي ولا احد من أئمة أصحابه ولا غيرهم وهو أنه إذا قال لامرأته إذا شربت أو زنيت أو فعلت كذا فأنت طالق وقصده أن يقع بها الطلاق إذا وجد ذلك الشرط أو قال إذا أعطيتني ألفا فأنت طالق أو قال إذا طلقتك فأنت طالق طلقة أخرى أو إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق أو قال مثل ذلك في العتق فزعموا أن الحكم المعلق بشرط يقع هو والشرط معا في زمن واحد بناء على أن الشرط علة للحكم والمعلول يقارن العلة في الزمان. وهذا خطأ شرعا ولغة وعقلا أما الشرع فان جميع الأحكام المعلقة بالشروط لا تقع شيء منها إلا عقيب الشروط لا تقع مع الشروط والفروع المنقولة عن الأئمة تبين ذلك وأما لغة فإن الجزاء عند أهل اللغة يكون عقب الشرط وبعده ولا يكون الجزاء مع الشرط في الزمان ولهذا قد يكون الجزاء مما يتأخر زمانه كقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وفي النذر إذا قال: إن شفى الله مريضي فعلى صوم سنة فلا يجب عليه الصوم إلا بعد الشفاء لا مقارنا للشفاء ولا في زمن الشفاء وكذلك إذا قال: إن سلم الله مالي الغائب وكذلك إذا قال: من رد عبدي الآبق أو بنى لي هذا الحائط ونحو ذلك وأيضا فهذا يذكر بحرف الفاء والفاء للتعقيب يوجب أن يكون الثاني عقيب الأول لا معه وأما عقلا فلأن الأول هنا كالفاعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الموجب للثاني ولا يعرف قط أن الفاعل يقارنه مفعوله. وما ذكروه من اقتران العلة العقلية لمعلولها كالعلم والعالمية فجوابه أنه عند جماهير العقلاء ليس هنا علة ومعلول بل العلم هو العالمية وهذا مذهب جمهور نظار أهل السنة والبدعة وهو نفي الأحوال فلا علة ولا معلول وإن جعلت المعلول الحكم بكونه عالما والخبر عنه بكونه عالما فهذا قد يتأخر عن العلم وعلى قول من أثبت الحال هو يقول أنها ليست موجودة ولا معدومة فليست نظير المعلولات الوجودية. وأيضا فهؤلاء يقولون أن العالم فاعل للعالمية ولا هو جاعل العالمية ولا هذا عنده من باب تأثير الوجود كالأسباب والعلل فان كونه عالما لازم للعلم بما يلزم العلم أنه علم ليس هذا مثل كون قطع الرقبة سببا للموت ولا كون الأكل سببا للشبع من الأسباب التي خلقها الله فكيف بالأسباب التي يصنعها العباد كقوله إذا زنيت فأنت طالق فهنا علق حادثا بحادث وحكم بكون ذلك الأول سببا للثاني فأين هذا من العلم والعالمية وإنما غرهم الاشتراك في لفظ العلة. وكذلك المتفلسفة ليس في جميع ما مثلوا به علة فاعله قارنت مفعولها في الزمان فحركة اليد ليست هي الفاعلة لحركة الخاتم بل المحرك لهما واحد ولكن حركتهما متلازمة لاتصال الخاتم باليد كحركة بعض اليد مع بعض وكما يقال حركت يدي فتحرك الخاتم وكما يقال حركت كفى فتحركت أصابعي وليست حركة الكف فاعلة لحركة الأصابع وإن قدر أنها بعدها لم يسلم اقترانهما في الزمان بل تكون كأجزاء الزمان المتصل بعضها ببعض فانه لا فصل بينهما وإن كان الجزء الثاني متصلا بالأول كذلك أجزاء الحركة كحركة الظل وغيره كل جزء منها يحدث بعد الآخر وفي الزمان الذي يلي حركة الجزء الأول فأما أن يقال الحركتان وجدتا معا وأحدهما فاعلة للأخرى فهذا باطل. وأيضا فان المعروف أنه إذا قيل حركت يدي فتحرك خاتمي أو المفتاح في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 كمى ونحو ذلك إذا تحرك بحركة تخصه مثل أن يكون الخاتم ملقى فإذا حرك يده علق في يده فتحرك وهذه الحركة بعد حركة اليد في الزمان وأما إذا كان الخاتم متصلا بالإصبع ثابتا فيها وإنما يتحرك كما تتحرك الأصابع فالمحرك للجميع واحد ولو كان الإنسان نائما أو ميتا فرفع رجل يده وفيها الخاتم لكانت أيضا متحركة بحركة اليد وهى حركة واحدة شملت الجميع لاتصال بعضه ببعض ليس هنا حركتان إحداهما سبب الأخرى فضلا عن أن تكون فاعلة لها ومن قال في مثل هذا حركت يده فتحرك خاتمه فإنما هو كقوله فتحركت اليد فإنما يريد بذلك أن الحركة شملت الجميع ولم يرد بذلك أن حركة اليد كانت سببا للحركة الأولى ولا نعرف عاقلا يقول هذا ويقصد هذا وإن قدر أنه وجد فليس قوله حجة على سائر العقلاء ومن رفع يد ميت أو نائم وفيها خاتم لم تكن حركة بعض ذلك سببا لبعض بل الجميع موجود في زمان واحد لفاعل واحد وسبب واحد. فبطل أن يكون في الوجود سبب يقارن مسببه في الزمان بل لا يكون إلا قبله فكيف بالفاعل المستقل وإنما الذي يقارن الشيء في الزمان شرطه وتقدم الواحد على الاثنين هو من هذا الباب لا من باب تقدم الشرط على المشروط وحركة الخاتم مع اليد هي من باب المشروط مع الشرط ليست من باب المفعول مع الفاعل ولكن لفظ العلة فيه إجمال. وكذلك الصوت مع الحركة فان الصوت يحدث عقيب الحركة وغايته أن يكون معها كالجزء الثاني من الحركة مع الأول والحركة المتصلة والزمان المتصل ليس بعضه مع بعض في الزمان فغاية الصوت مع الحركة أن تكون كذلك وكذلك الشعاع مع ظهور الشمس مع أن الشمس ليست فاعلة للشعاع بل الشعاع يحدث في الأرض إذا قابل الشمس ما ينعكس الشعاع عليه وكذلك الحركة ليست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 هي الفاعلة للصوت ولكن الشمس شرط في الشعاع والحركة شرط في الصوت. وأما فاعل يبدع مفعوله ويكون مقارنا له في الزمان فهذا لا يوجد قط لكن لفظ العلة فيه إجمال فالعلة الفاعلة شيء والعلة التي هي شرط شيء آخر والشرط قد يقارن المشروط في زمانه بخلاف الفاعل فانه لا بد أن يتقدم فعله على المعين وإذا قدر أنه لم يزل فاعلا فكل جزء من أجزاء الفعل مسبوق بجزء آخر وإن كان نوع الفعل لم يزل فلا يتصور أن يكون فعله أو مفعوله معينا مع الله أزلا وأبدا وإن قيل أنه لم يزل فاعلا بمشيئته فدوام نوع الفعل شيء ودوام الفعل المعين والمفعول المعين شيء آخر. والذي أخبرت به الرسل ودلت عليه العقول واتفق عليه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين أن الله خالق كل شيء وأن كل ما سواه فهو مخلوق له وكل مخلوق محدث مسبوق بالعدم وأما تغيير هؤلاء للفظ المحدث وقولهم إنا نقول أنه محدث حدوثا ذاتيا بمعنى أنه معلول فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه فان المحدث معلوم أنه قد كان بعد أن لم يكن وأنه مفعول أحدثه محدث إحداثا وما لم يزل ولا يزال فلا يسميه أحد من العقلاء في لغة من اللغات محدثا بل ولا يقول أحد من العقلاء أنه مفعول مصنوع مخلوق ولا يقول أحد أنه ممكن يمكن وجوده ويمكن عدمه إلا هذه الشرذمة من الفلاسفة. الميزان العقلي هو المعرفة الفطرية للتماثل والاختلاف: وهذه الأمور مبسوطة في مواضعها وإنما المقصود هنا أنهم إذا عدلوا عن المعرفة الفطرية العقلية للمعينات إلى أقيسة كلية وضعوا ألفاظها وصارت مجملة تتناول حقا وباطلا حصل بها من الضلال ما هو ضد المقصود من الموازين وصارت هذه الموازين عائلة لا عادلة وكانوا فيها من المطففين {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} وأين البخس في الأموال من البخس في العقول والأديان مع أن أكثرهم لا يقصدون البخس بل هم بمنزلة من قد ورث موازين من أبيه يزن بها تارة له وتارة عليه ولا يعرف أهي عادلة أم عائلة. والميزان التي انزلها الله مع الكتاب حيث قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} هي ميزان عادلة تتضمن اعتبار الشيء بمثله وخلافه فيسوى بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين بما جعله الله في فطر عبادة وعقولهم من معرفة التماثل والاختلاف. فان قيل إذا كان هذا مما يعرف بالعقل فكيف جعله الله تعالى مما أرسلت به الرسل قيل لأن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف فان الرسل دلت الناس وأرشدتهم إلى ما به يعرفون العدل ويعرفون الأقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية فليست العلوم النبوية مقصورة على مجرد الخبر كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام ويجعلون ما يعلم بالعقل قسيما للعلوم النبوية بل الرسل صلوات الله عليهم بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الناس علما وعملا وضربت الأمثال فكملت الفطرة بما نبهتها عليه وأرشدتها مما كانت الفطرة معرضة عنه أو كانت الفطرة قد فسدت بما حصل لها من الآراء والأهواء الفاسدة فأزالت ذلك الفساد وبينت ما كانت الفطرة معرضة عنه حتى صار عند الفطرة معرفة الميزان التي أنزلها الله وبينها رسله. والقرآن والحديث مملوء من هذا يبين الله الحقائق بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة ويبين طرق التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أي هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 حكم جائر لا عادل فان فيه تسوية بين المختلفين وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ومن التسوية بين المتماثلين قوله: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} . والقرآن مملوء من ذلك لكن ليس هذا موضعه وإنما المقصود التنبيه على جنس الميزان العقلي وانها حق كما ذكر الله في كتابه وليست هي مختصة بمنطق اليونان وإن كان فيه قسط منها بل هي الأقيسة الصحيحة المتضمنة التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين سواء صيغ ذلك بصيغة قياس الشمول أو بصيغة قياس التمثيل وصيغ التمثيل هي الأصل وهي أكمل والميزان القدر المشترك وهو الجامع وهو الحد الأوسط. وإنزاله تعالى الميزان مع الرسل كإنزاله الإيمان وهو الأمانة معهم والإيمان لم يحصل إلا بهم كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان قال: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة وحدثنا عن رفع الأمانة" قال: "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منترا وليس فيه شيء" فقد بين في هذا الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 أن الأمانة التي هي الإيمان أنزلها في أصل القلوب فان الجذر هو الأصل وهذا إنما كان بواسطة الرسل لما اخبروا بما اخبروا به فسمع ذلك ف ألهم الله القلوب الإيمان وانزله في القلوب. وكذلك أنزل الله سبحانه الميزان في القلوب لما بينت الرسل العدل وما يوزن به عرفت القلوب ذلك فأنزل الله على القلوب من العلم ما تزن به الأمور حتى تعرف التماثل والاختلاف وتضع من الآلات الحسية ما يحتاج إليه في ذلك كما وضعت موازين النقدين وغير ذلك وهذا من وضعه تعالى الميزان قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} وقال كثير من المفسرين: "هو العدل" وقال بعضهم: "ما يوزن به ويعرف العدل" وهما متلازمان الوجه الثامن: ليس عندهم برهان على علومهم الفلسفية إنهم كما حصروا اليقين في الصورة القياسية حصروه في المادة التي ذكروها من القضايا الحسيات والأوليات والمتواترات والمجربات والحدسيات ومعلوم أنه لا دليل على نفى ما سوى هذه القضايا كما تقدم البينة عليه. ثم مع ذلك إنما اعتبروا في الحسيات والعقليات وغيرهما ما جرت العادة باشتراك بنى آدم فيه وتناقضوا في ذلك وذلك أن بنى آدم إنما يشتركون كلهم في بعض المرئيات وبعض المسموعات فإنهم كلهم يرون عين الشمس والقمر والكواكب ويرون جنس السحاب والبرق وإن لم يكن ما رآه هؤلاء من ذلك هو ما يراه هؤلاء وكذلك يشتركون في سماع صوت الرعد وأما ما يسمعه بعضهم من كلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 بعض وصوته فهذا لا يشترك بنو آدم في عينه بل كل قوم يسمعون ما لم يسمع غيرهم وكذلك أكثر المرئيات فانه ما من شخص ولا أهل درب ولا مدينة ولا إقليم إلا ويرون من المرئيات ما لا يراه غيره وأما الشم والذوق واللمس فهذا لا يشترك جميع الناس في شيء معين فيه بل الذي يشمونه هؤلاء ويذوقونه ويلمسونه ليس هو الذي يشمه ويذوقه ويلمسه هؤلاء لكن قد يتفقان في الجنس لا في العين كما يتفقون في شرب جنس الماء ومس جنس النساء. وكذلك ما يعلم بالتواتر والتجربة والحدس فانه قد يتواتر عند هؤلاء ويجرب هؤلاء ما لم يتواتر عند غيرهم ولم يجربوه ولكن قد يتفقان في الجنس كما يجرب قوم بعض الأدوية ويجرب الآخرون جنس تلك الأدوية فيتفق في معرفة الجنس لا في معرفة عين المجرب. ثم هم مع هذا يقولون في المنطق أن المتواترات والمجربات والحدسيات تختص بمن علمها فلا يقوم منها برهان على غيره فيقال لهم وكذلك المشمومات والمذوقات والملموسات بل اشتراك الناس في المتواترات أكثر فان الخبر المتواتر ينقله عدد كثير فيكثر السامعون له ويشتركون في سماعه من العدد الكثير لا سيما إذا كان العدد الكثير مئين وألوفا فبطائفة من هؤلاء يحصل العلم المتواتر فإذا نقل هؤلاء لقوم وهؤلاء لقوم وهؤلاء لقوم حصل العلم المتواتر لأمم لا يحصى عددهم إلا الله بخلاف ما يدرك بالحواس فانه يختص بمن أحسه فإذا قال رأيت أو سمعت أو ذقت أو لمست أو شممت فكيف يمكنه أن يقيم من هذا برهانا على غيره ولو قدر أنه شاركه في تلك الحسيات عدد فلا يلزم من ذلك أن يكون غيرهم أحسها ولا يمكن علمها لمن لم يحسها إلا بطريق الخبر فإذا ادعوا أن الخبر المتواتر مختص بالحسيات فلا يقوم به البرهان على المنازع فالحسيات أعظم اختصاصا فيلزم أن لا يقوم بها برهان على المنازع وليس في الحسيات أكثر اشتراكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الرؤية فان الناس يشتركون في رؤية الأنوار العلوية كالشمس والقمر والكواكب ولكن مواد البرهان لا يختص بذلك. وإن قالوا الحسيات تحصل ب الاشتراك في جنسها كاشتراك الناس في معرفة الألوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة وإن لم يكن عين ما أحسه هؤلاء هو عين ما احسه هؤلاء لكن اشتركا في الجنس قيل والمتواترات والمجربات قد يشتركون في جنسها كما تقدم بل وجود الشبع والري عقيب الأكل والشرب هو من المجربات والناس يشتركون في جنسه وكذلك وجود اللذة بذلك وبالجماع وغير ذلك بما إذا فعله الإنسان وجد عقيبه أثرا من الآثار ثم يتكرر ذلك حتى يعلم أن ذاك سبب هذا الأثر فهذا هو التجربيات. والقضايا الظنية أصلها التجربيات وهو من هذا الباب فان المراد أنه إذا استعمل الدواء الفلاني وجد زوال المرض أو حصل به ألم المرض فوجود المرض بهذا ووجود زواله بهذا هو من التجربيات وكذلك الالام واللذات التي تحصل بالمشمومات والمسموعات والمرئيات والملموسات فان الحس ينال كذا ويرى هذا ويسمع هذا ويذوق هذا ويلمس هذا ثم وجود اللذة في النفس هو من الوجديات المعلومة بالحس الباطن وهو من جنس الحسيات الظاهرة. وأما الاعتقاد الكلى القائم في النفس من أن هذا الجنس يحصل به اللذة وهذا الجنس يحصل به الألم فهذا من التجربيات إذ الحسيات الظاهرة والباطنة ليس فيها شيء كلى فالقضاء الكلى الذي يقوم بالقلب هو مركب من الحس والعقل وهو التجربيات كما في اعتقاد حصول الشبع والري بما يعرف من المأكولات والمشروبات والموت والمرض بما يعرف من السموم القاتلة والأسباب الممرضة وزوال ذلك بالأسباب المعروفة وكل هذا من القضايا التجربية فالحس به يعرف الأمور المعينة ثم إذا تكررت مرة بعد مرة أدرك العقل أن هذا بسبب القدر المشترك الكلى فقضى فضاء كليا أن هذا يورث اللذة الفلانية وهذا يورث الألم الفلاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 والحدسيات هي كذلك فبالحس يعرف أعيانها ثم يتكرر فتعلم بالعقل القدر المشترك لكن ذلك التكرر لا يكون بفعل الإنسان بل هو كما يعرف من الأمور السماوية مثل أن يرى اختلاف أنوار القمر عند اختلاف مقابلته للشمس فيحدس أن ضوءه مستفاد منها ومثل ما يرى الثوابت لا تختلف حركتها بالطول والعرض بل حركتها حركة واحدة فيحدس أن فلكها واحد وإلا فيجوز أن يكون لكل واحد فلكا حركته مثل حركة الآخر ومثل ما يرى اختلاف حركات السبعة فيحدس عن اختلاف أفلاكها وهذا يسمى في اللغة تجربيات وكثير منهم أيضا يسميه تجربيات ولا يجعل قسما غير المجربات. وبالجملة الأمور العادية سواء كان سبب العادة أرادة نفسانية أو قوة طبيعية فالعلم بكونها كلية هو من التجربيات أو الحدسيات أن جعلت نوعا أخر حتى العلم بمعانى اللغات هو من الحدسيات فان الإنسان يسمع لفظ المتكلم ثم قد يعلم مراده المعين بإشارة إليه أو بقرينة أخرى ثم إذا تكرر تكلمه بذلك اللفظ مرة بعد مرة وهو يريد به ذلك المعنى علم أن هذه عادته الإرادية وهو أرادة هذا المعنى بهذا اللفظ إذا قصد إفهام المخاطب وهذا مما يسمونه الحدسيات إذ ليس كلام المتكلم موقوفا على اختيار المستمع وهو من التجربيات العامة فان السمع إنما عرف به الصوت والمعنى المعين قد يفهم أولا بأسباب متعددة أما كون هذا المتكلم من عادته ولغته أنه إذا تكلم بهذا اللفظ أراد ذلك المعنى فهذا من هذا الباب وكذلك سائر ما يعلم من عادات الناس وعادات البهائم وعادات النبات وعادات سائر الأعيان هو من هذا الباب. وقد يعلم احد الشخصين بعادة نظيره فإذا كان من عادة شخص إذا قال أو فعل أمرا أراد به شيئا ورأى نظيره يقول ذلك أو يفعله فقد اعتقد أنه أراد ما أراد لأن العادة عرف أنها للنوع لا للشخص كعادة الناس في اللغات والأفعال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 من العبادات وغير العبادات فإذا رأى الرجل يدخل المسجد قرب صلاة الجمعة وعليه أهبة أهل الصلاة اعتقد أنه يدخله للصلاة لأن هذا عادة هذا النوع وكذلك إذا رأى قاعدا في محل التطهير شارعا فيما يشرع فيه المتطهر عرف أنه يتطهر ثم العاديات قد تنتقض وقد يعلم ما يفعله الفاعل من العلم بصفاته ويعلم صفاته من أفعاله لكن ذاك من باب الاستدلال النظري العقلي وهو الاستدلال بالملزوم على اللازم فليس ذاك من هذا. كون العلوم الفلسفية من المجربات: فعامة ما عند الفلاسفة بل وسائر العقلاء من العلوم الكلية بأحوال الموجودات هو من العلم بعادة ذلك الموجود وهو مما يسمونه الحدسيات وعامة ما عندهم من العلوم العقلية الطبيعية والعلوم الفلكية كعلم الهيئة فهو من هذا القسم من المجربات أن كان علما فان هذه لا يقوم فيها برهان على المنازع فليس عند القوم برهان على المنازع وأيضا فان كون هذه الأجسام الطبيعية جربت وكون الحركات الفلكية جربت لا يعرفه أكثر الناس إلا بالنقل والتواتر في هذا قليل وإنما الغاية أن تنتقل التجربة في ذلك عن بعض الأطباء أو بعض أهل الحساب. وعلم الهيئة الذي هو أعظم علومهم الرياضية العقلية الذي جعله أرسطو أهله هم أئمة الفلاسفة وعلمهم اصل الفلسفة فانه منه تعرف عدد الأفلاك وحركاتها وإلا فالحس لا يرى إلا حركة الأجسام المعينة فيرى الشمس متحركة والقمر متحركا والكواكب متحركة هذا الذي يعلم بالحس وأما كون هذه مذكورة في أفلاك متحركة فهذا إنما يعلمونه من علم الهيئة والعلم بأن بعض الأفلاك فوق بعض علموه بكسوف الأعلى الأسفل فلما رأوا القمر يكسف سائرها استدلوا بذلك على أنه تحت الجميع ولما رأوا زحل لا يكسف شيئا والجميع تكسفه استدلوا بذلك على أنه فوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الجميع وكذلك كون الثوابت في الثامن ادعوا علمه بأنها لا تكسف شيئا بل قد يكسفها غيرها وأما أفلاكها فاستدلوا عليها بالحركات. والعلم بقدر حركاتها وبكسوف بعضها لبعض ونحو ذلك مداره على الإرصاد وغايته أن بعض الناس رأى هذا فأخبر به غيره وليس هذا خبرا متواترا بل غالبه خبر واحد ثم أن الأرصاد يقع فيها من الغلط ما هو معروف ولهذا اختلفت أرصاد المتقدمين والمتأخرين في حركة الثوابت هل تقطع درجة فلكية في كل مائة سنة أو في ستة وستين وثلثي سنه كما زعمه أهل الرصد المأموني ولما اخبرهم أهل الهيئة بحركة الفك استدلوا بذلك على أن لها نفسا تحركه بالإرادة لأن حركته دورية ليست طبيعية واستدلوا على عدد النفوس التسعة بالأفلاك التسعة وعلى العقول العشرة بالأفلاك التسعة مع العقل العاشرة الذي هو أول صادر عن واجب الوجود وجعلوا الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى ليخرج ما فيه من الايون والأوضاع وغاية الفلسفة عندهم التشبه بالعلة الأولى بحسب الإمكان فهذا هو العلم الإلهي الذي هو الفلسفة الأولى والحكمة العليا وفيه من المقدمات الضعيفة ما ليس هذا موضع بسطه. وإنما المقصود أن مبناه على قضايا يخبر بها بعض الناس عن قضايا حدسية فإذا قالوا أن هذه لا يقوم فيها برهان على المنازع والقضايا الطبيعية مبناها على ما ينقله بعض الناس من التجارب فإذا لم يكن في هذا ولا هذا برهان لم يكن عند القوم برهان على ما يختصون به وأما ما يشتركون فيه هم وسائر الناس فهذا ليس مضافا إليهم ولا هو من علمهم فأين البرهان على العلوم الفلسفية مع العلم بأن العاديات التي هي عامة علومهم الكلية منتقضة كما بيناه في غير هذا الموضع فنحن نعلم أنه ليس معهم في عامة ما يدعونه برهانيا برهان يقيني ولكن مع هذا نذكر بعض تناقضهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 سنة الله التي لا تنتقض بحال: ولكن العادة التي لا تنتقض بحال ما اخبر الله أنها لا تنتقض كقوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} وقال: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} وقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} فهذه سنة الله وعادته في نصر عباده المؤمنين إذا قاموا بالواجب على الكافرين وانتقامه وعقوبته للكافرين الذين بلغتهم الرسل بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين هي سنة الله التي لا توجد منتقضة قط وكما قال قبل هذا {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} لم يقل هنا ولن تجد لأن هذه سنة شرعية لا ترى بالمشاهدة بل تعلم بالوحي بخلاف نصره للمؤمنين وعقوبته للمنذرين فانه أمر مشاهد فلن يوجد منتقضا. وقد أراد بعض الملاحدة كالسهروردي المفتول في كتابه المبدأ والمعاد الذي سماه الالواح العمادية أن يجعل له دليلا من القرآن والسنة على إلحاده فاستدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 بهذه الآية على أن العالم لا يتغير بل لا تزال الشمس تطلع وتغرب لأنها عادة الله فيقال له انخراق العادات أمر معلوم بالحس والمشاهدة بالجملة وقد أخبر في غير موضع أنه سبحانه لم يخلق العالم عبثا وباطلا بل لأجل الجزاء فكان هذا من سنته الجميلة وهو جزاؤه الناس بأعمالهم في الدار الآخرة كما أخبر به من نصر أوليائه وعقوبة أعدائه فبعث الناس للجزاء هو من هذه السنة وهو لم يخبر بان كل عادة لا تنتقض بل أخبر عن السنة التي هي عواقب أفعال العباد بإثابته أولياءه ونصرهم على الأعداء فهذه هي التي اخبر لن يوجد لها تبديل ولا تحويل كما قال: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} . وذلك لأن العادة تتبع أرادة الفاعل وإرادة الفاعل الحكيم هي أرادة حكيمة فتسوى بين المتماثلات ولن يوجد لهذه السنة تبديل ولا تحويل وهو إكرام أهل ولايته وطاعته ونصر رسله والذين آمنوا على المكذبين فهذه السنة تقتضيها حكمته سبحانه فلا انتقاض لها بخلاف ما اقتضت حكمته تغييره فذاك تغييره من الحكمة أيضا ومن سنته التي لا يوجد لها تبديل ولا تحويل لكن في هذه الآيات رد على من يجعله يفعل بمجرد أرادة ترجح أحد المتماثلين بلا مرجح فان هؤلاء ليس عندهم له سنة لا تتبدل ولا حكمة تقصد وهذا خلاف النصوص والعقول فإن السنة تقتضي تماثل الآحاد وأن حكم الشيء نظيره فيقتضي التسوية بين المتماثلات وهذا خلاف قولهم. المتواتر عن الأنبياء أعظم من المتواتر عن الفلاسفة: والمقصود هنا الكلام على الفلاسفة فنقول معلوم أن من شياطينهم من يقول المتواترات لا يقوم بها البرهان على المنازع ليدخل في ذلك ما تواتر عن الأنبياء صلوات الله عليهم من الآيات والبراهين والمعجزات التي بعثوا بها كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 يدخلون ما اخذ عن الأنبياء من المقبولات. فيقال لهم من المعلوم بالاضطرار أن تواتر خروج محمد صلى الله عليه وسلم ومجيئه بهذا القرآن أعظم عند أهل الأرض من تواتر وجود الفلاسفة كلهم فضلا عما يخبرون به من القضايا التجربية والحدسية التي استدلوا بها على الطبيعيات والفلكيات وكذلك ما تواتر من سائر معجزاته وما تواتر من أخبار موسى والمسيح صلوات الله عليهما هذا معلوم عند الناس أعظم من تواتر وجود أولئك فضلا عن تواتر ما يخبرون به. ولهذا صار ظهور الأنبياء مما تؤرخ به الحوادث في العالم بظهور أمرهم عند الخاصة والعامة فان التاريخ يكون بالحادث المشهور الذي يشترك الناس فيه ليعرفوا به كم مضى بعده وقبله كما أن النهار يعرف بطلوع الشمس والشهر بالهلال لأنه نور ظاهر يشترك الناس في رؤيته ولهذا جعل عمر تاريخ المسلمين من الهجرة النبوية فإنها أظهر أحوال الرسول المشهورة وهو خروجه من بلد إلى بلد وبها اعز الله الإسلام وكانت العرب قبل الإسلام تؤرخ بالحوادث المشهورة وكذلك الروم والفرس والقبط وسائر الأمم يؤرخون مثل ذلك فنحن اليوم إذا أردنا أن نعرف زمان واحد من هؤلاء المتفلسفة قلنا كان قبل المسيح بكذا وكذا سنة. بل أرسطو إنما عرف زمانه لأنه قد عرف أنه كان وزير الاسكندر بن فيلبس المقدوني ملك اليونان وكانوا مشركين يعبدون الكواكب والأصنام ويعانون السحر أرسطو وملكه وغيرهما وهذا الاسكندر لما جاء إلى الشام أقام أيام بني إسرائيل غلب عليهم فذكروا أنه طلب أن يكتب في التوراة فقالوا ما يمكن هذا فقال اجعلوا لي تأريخا فصار التاريخ الرومي الذي تؤرخ به اليهود والنصارى مؤرخا به وأرسطو وزيره فعرف وقته من هذا الوجه وكان قبل المسيح بثلثمائة سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 والتواريخ التي تختص بها اليهود هي من الأنبياء وأحوال بيت المقدس يقولون في البيت الأول في البيت الثاني. ثم عرف أرسطوا بهذه الكتب المنسوبة إليه كما عرف بطليموس المجسطى وكما عرف ابقراط وجالينوس بما ينسب إليهما من كتب الطب وإلا فأي شيء هو الذي تواتر عند الناس من أخبار هؤلاء فضلا عن أن يتواتر عنهم ما يذكرونه في كتبهم من القضايا التجربية والحدسية وغاية ما يوجد أن يقول بطلميوس هذا مما رصده فلان وأن يقول جالينوس هذا مما جربته أنا أو ذكر لى فلان أنه جربه أو نحو ذلك من الحكايات التي ملأ بها جالينوس كتابه وليس في هذه شيء من المتواتر وإن قدر أن غيره جرب أيضا فذاك خبر واحد. ولكن ما يدعى في تجارب الأطباء من الأدوية أقرب إلى التسليم مما يدعونه في تجاربهم الرصدية وذلك لاشتراك كثير من الأطباء في تجربة الدواء الواحد وأيضا فلكثرة وجود ما يدعى فيه التجربة من النبات وتواطؤ المجربين له وليس كذلك ما يدعونه من فلسفتهم فانا رأينا تجارب الأطباء على غير منوالهم وعلمنا صدقها كثيرا وليس القصد إلا بفساد تأصيلهم فقط وإلا فالأطباء في تجاربهم أسد حالا منهم لأن القوم إنما يذكرون دواء موجودا يمكن تجربته كثيرا لوجوده ولكثرة المحتاجين إليه ممن يصيبه ما يقال أن ذلك الدواء يؤثر فيه شفاء والله فاعل ذلك الشفاء في ذلك الدواء فبينهم حينئذ فرق من حيث ما قررته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 فالتواتر عزيز عندهم جدا وأكثر الناس لم يجربوا جميع ما جربوه ولا علموا بالارصاد ما ادعوا أنهم علموه وإذا قيل قد اتفق على ذلك رصد فلان وفلان كان غاية ما عندهم أن يذكروا جماعة رصدوا وهذا غاية أن يكون من المتواتر الخاص الذي ينقله طائفة. فمن زعم أنه لا يقوم عليه برهان بما تواتر عن الأنبياء كيف يمكنه أن يقيم على غيره برهانا بمثل هذا التواتر ويعظم علم الهيئة والفلسفة ويدعى أنه علم عقلي معلوم بالبرهان. كون الفلاسفة من أجهل الخلق برب العالمين: وهذا أعظم ما يقوم عليه البرهان العقلي عندهم هذا حاله فما الظن بالإلهيات التي إذا نظر فيها كلام معلمهم الأول أرسطو وتدبره الفاضل العاقل لم يفده إلا العلم بأنهم كانوا من أجهل الخلق برب العالمين وصار يتعجب تعجبا لا ينقضي ممن يقرن علم هؤلاء بالإلهيات إلى ما جاءت به الأنبياء ويرى أن هذا من جنس من يقرن الحدادين بالملائكة بل من يقرن دهاقين القرى بملوك العالم فهو أقرب إلى العلم والعدل ممن يقرن هؤلاء بالأنبياء فان دهقان القرية متول عليها كتولي الملك على مملكته فله جزء من الملك. وأما ما جاءت به الأنبياء فلا يعرفه هؤلاء البتة وليسوا قريبين منه بل كفار اليهود والنصارى أعلم بالأمور الإلهية ولست أعنى بذلك ما اختص الأنبياء بعلمه من الوحي الذي لا ينال غيرهم فان هذا ليس من علمهم ولا من علم غيرهم وإنما أعنى العلوم العقلية التي بينها الرسل للناس بالبراهين العقلية في أمر معرفة الرب وتوحيده ومعرفة أسمائه وصفاته وفي النبوات والمعاد وما جاءوا به من مصالح الأعمال التي تورث السعادة في الآخرة فان كثيرا من ذلك قد بينه الرسل بالأدلة العقلية فهذه العقليات الدينية الشرعية الإلهية هي التي لم يشموا رائحتها ولا في علومهم ما يدل عليها وأما ما اختصت الرسل بمعرفته وأخبرت به من الغيب فذاك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 أمر أعظم من أن يذكر في ترجيحه على الفلسفة وإنما المقصود الكلام في العلوم العقلية التي تعلم بالأدلة العقلية دع ما جاءت به الأنبياء فانه مرتبة عالية. وهؤلاء المتكلمون من أهل الملل الذين يدعهم أهل السنة من أهل الملل كالجهمية والمعتزلة وما يفرع على هؤلاء من جميع طوائف الكلام فان الفلاسفة تقول أن هؤلاء أهل جدل ليسوا أصحاب برهان ويجعلون نفوسهم هم أصحاب البرهان ويسمون هؤلاء أهل الجدل ويجعلون أدلتهم من المقاييس الجدلية إذ كانوا قد قسموا القياس خمسة أقسام برهاني وخطابي وجدلي وشعري وسوفسطائي كما سنتكلم عليه أن شاء الله ولهذا تجد ابن سينا وابن رشد وغيرهما من المتفلسفة يجعل هؤلاء أهل الجدل وان مقدماتهم التي يحتجون بها جدلية ليست برهانية ويجعلون أنفسهم أصحاب البرهان. ونحن لا ننازعهم أن كثيرا مما يتكلمه المتكلمون باطل لكن إذا تكلم بالإنصاف والعدل ونظر في كلام معلمهم الأول أرسطو وأمثاله في الإلهيات وفي كلام من هم عند المسلمين من شر طوائف المتكلمين كالجهمية والمعتزلة مثلا وجد بين ما يقوله هؤلاء المتفلسفة وبين ما يقوله هؤلاء من العلوم التي يقوم عليها البرهان العقلي من الفروق التي تبين فرط جهل أولئك بالنسبة إلى هؤلاء ما لا يمكن ضبطه وهذا كلام أرسطو موجود وكلام هؤلاء موجود فان هؤلاء المتكلمين يتكلمون بالمقدمات البرهانية اليقينية أكثر من أولئك بكثير كثير وأرسطو أكثر ما يبني الأمور الإلهية على مقدمات سوفسطاية في غاية الفساد ولولا أن هذا ليس موضع ذكره لذكرت كلامه في مقالة اللام التي هي آخر علومه بألفاظها وكذلك كلامه في اثولوجيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وهذا ابن سينا أفضل متأخريهم الذي ضم إلى كلامه في الإلهيات من القواعد التي أخذها عن المتكلمين أكثر مما أخذه عن سلفه الفلاسفة أكثر كلامه فيها مبني على مقدمات سوفسطائية ملبسة ليست خطابية ولا جدلية ولا برهانية مثل كلامه في توحيد الفلاسفة وكلامه في أسرار الآيات وكلامه في قدم العالم كما بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع. الوجه التاسع: الرد على ابن سينا والرازي في كلامهما في القضايا المشهورة المشتمل على ثمانية أنواع. الوجه التاسع: أنهم اخرجوا القضايا التي يسمونها الوهميات والتي يسمونها الآراء المحودة عن أن تكون يقينيات وقد بينا في غير هذا الموضع أنها وغيرها من العقليات سواء ولا يجوز التفريق بينهما وان اقتضاء الفطرة لهما واحد. أما المشهورات فان ابن سينا قال في إشاراته: أصناف القضايا المستعملة فيما بين القائسين ومن يجري مجراهم أربعة مسلمات ومظنونات وما معها ومشبهات بغيرها ومتخيلات والمسلمات أما معتقدات وأما مأخوذات والمعتقدات أصنافها ثلاثة الواجب قبولها والمشهورات والوهميات والواجب قبولها أوليات ومشاهدات ومجربات وما معها من الحدسيات والمتواترات وقضايا قياساتها معها" إلى أن قال: "فأما المشهورات في هذه الجملة فمنها أيضا هذه الأوليات ونحوها مما يوجب قبوله لا من حيث هي واجب قبولها بل من حيث عموم الاعتراف بها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 قال: "ومنها الآراء المسمات بالمحمودة وربما خصصناها باسم المشهورة إذ لا عمدة لها إلا الشهرة وهو أنه لو خلى إنسان وعقله المجرد ووهمه وحسه ولم يؤدب بقبول قضاياها ولم يفد الاستقراء ظنه القوى إلى حكم لكثرة الجزئيات ولم يستدع إليها ما في طبعه الإنساني من الرحمة والخجل والأنفة والحمية وغير ذلك لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسه مثل حكمنا أن سلب مال الإنسان قبيح وان الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدم عليه". قال: "ومن هذا الجنس ما يسبق وهم كثير من الناس وليس شيء من هذا يوجه العقل الساذج ولو توهم الإنسان بنفسه أنه خلق دفعة تام العقل ولم يسمع أدبا ولم يطع انفعالا نفسانيا أو خلقا لم يقض في أمثال هذه القضايا بشيء بل أمكنه أن يجهله ويتوقف فيه وليس كذلك حال قضائه أن الكل أعظم من الجزء". وهذه المشهورات قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة وان كانت صادقة ليست تنسب إلى الأوليات ونحوها إذا لم تكن بينة عند العقل الأول إلا بنظر وان كانت محمودة عنده والصادق غير المحمود وكذلك الكاذب غير الشنيع ورب شنيع حق ورب محمود كاذب. والمشهورات أما من الواجبات وأما من التأديبات الصلاحية وما تطابق عليها الشرائع الإلهية وأما خلقيات وانفعاليات وأما استقرائيات وهي أما بحسب الإطلاق وأما بحسب أصحاب صناعة وحكمة. وقد ذكر الرازي في شرحه للإشارات تقرير الفرق بين الأوليات العقلية والمشهوارات والوهميات: وقالوا المشهورات تشبه بالأوليات ووجه الفرق ظاهر فان الأولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 هو الذي يكون حكمه على موضوعه في الوجودين حملا أولا لا ثانيا أي لا يكون حمله بتوسط فان المحمول على غيره بتوسط شيء آخر كان بعد حمل ذلك الشيء فلا يكون حمله عليه أولا بل ثانيا. وهذا إنما يظهر إذا لم يكن للعقل في ذلك الحكم موجب آخر إلا مجرد حضور طرفي الموضوع والمحمول أما إذا كان هناك أسباب أخر من الرقة أو الأنفة أو الحمية أو العادة أو الحمد على النظام الكلى والمصلحة العامة فحينئذ لا يعرف أن الموجب لحكم العقل بذلك هو نفس حضور طرفي الموضوع والمحمول أو ذلك لأسباب أخر. فإذا أردت أن تمتحن ذلك فعليك أن تقدر نفسك كأنك خلقت في هذه الحال ولا تلتفت إلى مقتضيات العادات وأحكام سائر القوى من الرأفة والرقة وتجرد عما تعودته والفتة من القضايا المصلحية ثم تعرض على نفسك طرفي الموضوع والمحمول فان كان نفس حضورهما يوجب حكم العقل بتلك النسبة كانت القضية أولية وإلا كانت مشهورة وهو مثل قولنا الكذب قبيح فان السبب في شهرته تعلق المصلحة العامة به وقولنا الإيلام قبيح والسبب فيه الرقة والدليل على أن ذلك ليس من الأوليات انا عند الفرض المذكور إذا عرضنا على العقل أن الشيء لا يخلو عن النفي والإثبات وعرضنا عليه أن الكذب قبيح وجدنا العقل جازما بالأول متوقفا في الثاني فعرفنا أن ذلك ليس من المحولات الأولية. ثم أن المشهور قد يكون صادقا وقد يكون كاذبا فالصادق قد يكون أوليا وقد لا يكون بل يحتاج في إثباته إلى البرهان فان كل أولى لا بد أن يكون مشهورا لكن لا ينعكس فان السبب في الشهرة أما كونه أوليا أو تعلق النظام به أو الانفعالات النفسانية كما ذكرنا أو الاستقراء العام فان لكل مذهب أمورا مشهورة عندهم ربما لا تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 مشهورة عند من يخالفهم. قلت: والكلام على هذا بأنواع متعددة. النوع الأول: الكلام على تفريقهم بين الأوليات والمشهورات. النوع الأول: أن التفريق بين الأوليات وغيرها بأن الأوليات ما كان ثبوت الموضوع للمحمول وهو ثبوت الصفة للموصوف والمحكوم به للمحكوم عليه والمخبر به للمخبر عنه كثبوت الخبر للمبتدأ بالتفريق بين الأولى وغيره بان الموضوع أن ثبت للمحمول بنفسه في الوجودين الذهني والخارجي فهو أولى وإن افتقر إلى وسط فليس بأولى فرق بنى على اصل فاسد وهو أن الصفات اللازمة للموصوف منها ما يلزم بنفسه ليس بينه وبين الموصوف وسط في نفس الأمر ومنها ما لا يلزم بنفسه بل بوسط في نفس الأمر يكون ذلك الوسط لازما للموصوف ويكون هذا المحمول لازما لذلك اللازم. وهذا الفرق قد ذكره غير واحد كالرازي وغيره في الصفات اللازمة وابن سينا ذكره أيضا لكن ابن سينا ذكر أنه إنما أراد ب الوسط الحد الأوسط في القياس وهو ما يقرن باللام في قولك لأنه وهذا هو الدليل والدليل هو وسط في الذهن للمستدل ليس هو وسطا في نفس ثبوت الصفة للموصوف فانه قد يستدل بالمعلول على العلة كما يستدل بالعلة على المعلول ويستدل بأحد المعلولين على الآخر ويستدل بثبوت احد الضدين على انتفاء الآخر وبثبوت احد المتلازمين على تحقق الآخر. ولا ريب أن الصفات اللازمة للموصوف تنقسم إلى ما لزومه بين للإنسان والى ما ليس هو بينا بل يفتقر ملزومه إلى دليل وكونه بينا للإنسان وغير بين ليس هو صفة الشيء في نفسه وإنما هو إخبار عن علم الإنسان به وتنبيه له فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 إخبار عن الوجود الذهني لا الخارجي فما كان بينا للإنسان معلوما له موجودا في ذهنه لم يحتج فيه إلى دليل وما لم يكن كذلك احتاج فيه إلى دليل وكون الشيء بينا وغير بين نسبة وإضافة بين المعلوم والإنسان العالم وهذا يختلف فيه أحوال الناس فقد يتبين لزيد ما لا يتبين لعمرو فان أسباب العلم وقوة الشعور وجودة الأذهان متفاوتة فلا يلزم إذا تبين لإنسان ثبوت بعض الصفات أو لزومها أو اتصاف الموصوف بها أن يتبين ذلك لكل احد ولا يلزم إذا خفي على بعض الناس أن يكون خفيا على كل احد. وحينئذ فإذا فرق بين الأولى وغيره بان الأولى لا يحتاج إلى وسط فبين كون القضية أولية أو غير أولية فرق إضافي بحسب أحوال الناس فيكون ذلك بمنزلة أن يقال القضية أما أن تكون معلومة وأما أن لا تكون وأما أن تكون ظاهرة وأما أن لا تكون وأما أن تكون واضحة وأما أن لا تكون وأما أن تكون جلية وأما أن لا تكون وأما أن يتصور الإنسان صدقها وأما أن لا يتصور وهذا فرق صحيح فإن كل قضية بالنسبة إلى كل احد أما أن تكون بينة له وأما أن لا تكون بينة له ولكن ليس هذا الفرق يميز بين أجناس القضايا حتى يجعل جنس منها بتمامه من قبيل غير البين وجنس آخر بتمامه من جنس البين فإن هذا الفرق لا يعود إلى صفة لازمة للقضية كما ادعاه من أن اللازم البين ما ثبت للموصوف بلا وسط في نفس الأمر واللازم غير البين ما كان ثبوته بوسط في نفس الأمر بل جميع اللوازم للموصوف ليس بينها وبين الموصوف وسط أصلا في نفس الأمر وإن احتجاج الإنسان في علمه بثبوتها إلى دليل فليس كل ما لا يعلم لزومه للموصوف إلا بدليل لا يكون ثبوته له إلا بوسط كما تقدم بيانه فإن المعلول لازم لعلته المعينة لا يمكن تخلف المعلول عن علته التامة التي دخل فيها وجود الشروط وانتفاء الموانع ومع هذا فقد لا يعلم ثبوت المعلول إلا بوسط بأن يستدل بمعلول آخر على العلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 ثم بالعلة على المعلول كما يستدل بالرائحة التي في الشراب على أنه مسكر ويستدل بالمسكر على التحريم كقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام" رواه مسلم وكما يستدل بثبوت كفارة اليمين في الالتزام على أنه يمين ويستدل بأنه يمين على انعقاد الإيلاء به وكذلك بالعكس وكما يستدل بالشعاع المنتشر على طلوع الشمس وبطلوعها على فوات الفجر وكما يستدل بفيء الظلال على زوال الشمس وبزوالها على دخول وقت الظهر فإنها لا تفيء من المغرب إلى المشرق إلا إذا زالت الشمس ولا يسمى فيئا إلا ما كان بعد الزوال والظل اسم عام لما كان في أول النهار وآخره وإن شئت تستدل بتزايد الظلال بعد تناهي قصرها على الزوال وبه على دخول وقت الظهر وكما يستدل بالجدي على جهة الشمال ويستدل بها على جهة الكعبة بأن يعلم أن الكعبة في تلك الأرض من جهة الجنوب والقطب شماليها أما محاذيا للركن الشامي سواء كما في أرض حران وما سامتها وأما مائلا إلى المشرق وجهة الباب فينحرف إلى المغرب كما في أرض العراق ومثل هذا كثير. وبالجملة فالدليل باتفاق العقلاء اعم من العلة بل كل ملزوم يستلزم غيره يمكن الاستدلال به عليه مطلقا ولا يفرق في هذا بين لازم ولازم ولا يقال من اللوازم ما يلزم بوسط فلا يمكن العلم به إلا بعد ذلك الوسط بل يمكن الاستدلال به عليه كما يمكن الاستدلال بكل ملزوم على لازمه فإن شرط ذلك العلم بالملزوم متى علم أن هذا لازم لهذا استدل بالملزوم على اللازم. فقد يكون ما هو لازم بغير وسط عندهم ولا يعرف لزومه إلا بالوسط الذي هو الدليل كالمعلول مع العلة وقد يكون ما يزعمون أنه لازم بوسط ويمكن العلم بلزومه بلا وسط كما ذكروه من المثال في ذلك فزعموا أن اللونية للسواد والجسمية للحيوان ذاتية لثبوتها بلا وسط وزعموا أن الزوجية والفردية للعدد عرضية قالوا لأنا وإن علمنا أن الأربعة زوج والثلاثة فرد فلا يعلم ذلك في كل الأعداد بل يفتقر علمنا بأن المائتين واثنين وستين زوج والإحدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وستون فرد إلى وسط وهو أن يقسم هذه فإذا انقسمت بقسيمين متساويين علمنا أنها زوج. وقد بينا في كلامنا على فساد قولهم في الفرق بين الذاتي واللازم أن الفرق لا يعود إلى صفة الموصوف في نفس الأمر بل كون الزوجية والفردية لازمة للزوج والفرد كلزوم العددية للعدد ولزوم اللونية للبياض والسواد ولزوم الجسمية للحيوان ولكن بعض اللوازم بين لبعض الناس أنه لازم لجميع الأفراد وبعضها يخفي ثبوته لبعض الأفراد وهذا فرق يعود إلى الإنسان كما أن من الأشياء ما نراها ومن الأشياء ما لا نراها وكذلك من الأشياء ما نعلمها ومن الأشياء ما لا نعلمها ولا يقتضى ذلك أن يكون ما علمه من الصفات هو أجزاء للماهية تركبت منها لو جاز أن تتركب الماهية من الأوصاف وما لم يعلمه لا يكون أجزاء للماهية فكيف إذا كان تركب الماهية الموجودة في الخارج من صفات قائمة بها ودعوى أن تلك الصفات أجزاء لها مقومة وهي سابقة عليها في غاية الفساد. والرازي وأمثاله لما شاركوا المنطقيين في هذا الخطأ زعموا أن الوسط الذهني هو وسط خارجي فهذا باطل وما علمت قدماء المنطقيين يقولونه ولا رايته في كلام ابن سينا وأمثاله وإنما الذي رايته في كلامه أن الوسط هو الدليل. برهان للرازي على هذا التفريق وبيان تناقضه من ثلاثة عشر طريقا: فالرازي لما ادعى ما ادعاه لزمه تناقض زائد على تناقض المنطقيين. قال الرازي: "والبرهان على أن ما يكون لزومه بغير وسط كان بينا هو أن الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم فإذا عقلنا الماهية وجب أن نعقل منها أنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 لما هي هي تقتضى ذلك اللازم وإلا لما كنا عقلنا الماهية لما هي هي وإذا عقلنا منها لما هي مقتضية للازم الفلاني وجب أن نعقل اللازم الفلاني لأن العلم بإضافة أمر إلى أمر يتضمن العلم بكل المضافين". قال: "فهذا ما قيل في هذا الباب وفيه بحث لا بد من ذكره فان لقائل أن يقول أن ما يحصل لزومه من العلم بالماهية العلم بلازمها القريب وذلك القريب علة قريبة للازم الثاني فحينئذ يجب أن يعلم اللازم الثاني وان يعلم من ذلك الثاني اللازم الثالث فكان يجب أن يكون العلم بالماهية مقتضيا للعلم بجميع لوازمها القريبة والبعيدة وذلك محال فثبت أن العلم بالماهية لا يقتضى العلم بلازمها". قال: "أيضا فان ماهية العلة غير مقولة بالقياس إلى المعلوم وعلته والعلة مقولة بالقياس إلى المعلول فإذن ماهية العلة مغايرة لعلتها فإذن لا يلزم من العلم بماهية العلة العلم بدليل المعلول. ثم قال لكنا نقول في جواب هذا الشك العلم بماهية العلة لا يقتضى العلم بالمعلول إلا بشرط اخر وهو حصول تصور المعلول فان العلية أمر إضافي لا يحصل بمجرد ذات العلة فلا يكون العلم بذات العلة كافيا في العلم بالعلية لكن ذات العلة وذات المعلول هما لذاتيهما يقتضيان الوصف الإضافي وهو العلية والمعلولية لا جرم عند حصول تصورهما يجب حصول التصديق بانتساب أحدهما إلى الآخر وهذا هو المعنى بقولنا اللازم الذي يكون بغير وسط يكون بين الثبوت. قال وإذا ثبت أن تصور العلة إنما يوجب التصديق بثبوت المعلول القريب له عند تصور المعلول ثم من الجائز أن لا يحصل تصور المعلول عند تصور العلة لا جرم لا يلزم من العلم بحقيقة العلة العلم بثبوت كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 اللوازم القريبة والبعيدة". قال: "وأما الشك الثاني فهو أيضا خارج لانا لا نسلم أن العلية مغايرة لحقيقة ذات العلة لكنا ندعي أن تصور حقيقة العلة مع تصور حقيقة المعلول القريب يوجب العلم بكون العلة علة لذلك المعلول". قلت: فهذا الكلام الذي زعموا أنه برهان قرروا به الأصول الكلية ل الحد والبرهان وفيه من الفساد والخطأ والتناقض ما يطول وصفه لكن ننبه على بعضه وذلك من طرق. الطريق الأول: إن قوله: "الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم" أن عني به أن الماهية الملزومة هي العلة في حصول لازمها في نفس الأمر كما يقتضيه كلامه فهذا من أبطل الباطل فليس كل ما كان لازما لغيره يكون ذلك الغير هو العلة المقتضية لوجوده في نفس الأمر فان العلة نفسها لازمة لمعلولها المعين لا يوجد المعلول المعين إلا بتلك العلة وان قدر وجود ما هو من جنسه بغير تلك العلة فليس هو ذلك المعين والعلة لا تكون معلولة لمعلولها وهي لازمة له. وكذلك احد المعلولين يلازم المعلول الآخر كالأبوة والبنوة هما متلازمان وليس وجود أحدهما علة للآخر بل كلاهما معلول علة أخرى وكذلك جميع المتلازمات كالناطقية والضاحكية للإنسان متلازمان وليس أحدهما علة للآخر وكذلك الحس والحركة الإرادية متلازمان وليس أحدهما علة الآخر ونظير هذا كثير في الحسيات والعقليات والشرعيات وكل شيء فان نجوم الثريا متلازمة ما دام الفلك موجودا على هذه الصفة وليس بعضها علة لبعض وكذلك الأخلاط الأربعة في جسد ابن ادم متلازمة وليس بعضها علة لبعض وصفات الرب تعالى كعلمه وقدرته متلازمة وليس إحدى الصفتين علة للأخرى والأدلة الدالة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 الصانع جل جلاله وهي جميع مخلوقاته ملزومة لوجوده وليس فيها والعياذ بالله ما يجوز أن يقال أنه علة له. وبالجملة فكل دليل فهو مستلزم لمدلوله والمدلول لازم للدليل وهذا متفق عليه بين العقلاء ومتفق بين العقلاء على أن الدليل لا يختص بان يكون معلولا لمدلوله بل الدليل اعم وكل من هذين أمر بين مع اتفاق العقلاء عليه فكيف يجوز أن يقال أن كل ما لزم غيره فان الملزوم هو العلة المقتضية للازم وكل مدلول فهو لازم لدليله مع انتفاء هذا الاقتضاء في أكثر الأدلة. فان قيل: نحن لا نعني اللازم هنا إلا الصفات اللازمة لموصوف وتلك الماهية الموصوفة مقتضية لذاتها لتلك الصفات قيل هذا خطأ من وجوه: أحدها: أنهم لم يعنوا ذلك كما حكينا كلامهم بل جعلوا القضايا التي ليست أولية هي ما يفتقر إلى هذا الوسط الذي جعلوه هنا معلولا للماهية كما قد حكينا كلامهم وان الأوليات حمل محمولها على موضوعها في الوجودين الذهني والخارجي حملا أوليا بلا وسط فجعلوا الوسط الذهني هو الخارجي والخارجي هو الذي ذكروه هنا وجعلوه معلول الماهية وأيضا فإنهم بهذا فرقوا بين اللازم البين واللازم غير البين. الوجه الثاني: أن يقال هب أنهم أرادوا الصفات اللازمة للماهية فكل دليل فهو ملزوم لمدلوله فكونه مستلزما لمدلوله صفة له لازمة له وهي على قولهم أما أن تكون بوسط وأما أن تكون بغير وسط فآيات الله المخلوقة وهي العالم جميعه مستلزمة لوجود الرب تعالى ووجوده لازم لها وكونها ملزومة لذلك صفة لها لازمة لا يتصور قط أن يزول عنها هذا اللازم فإنها مفتقرة بالذات إلى الخالق وهذا الفقر لازم لها لا يفارقها البتة وحدوثها دليل على الباري وليست هي التي اقتضت وجوده وكذلك المعلول تقوم به صفات لازمة له وهو وصفاته تستلزم العلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 والمعلول وصفاته من العلة ليس هو علة لصفاته. الوجه الثالث: أن يقال لا نسلم أن في الموصوفات ما هو علة فاعلة لصفته أصلا بل هو محل لصفاته القائمة به والموصوف أن كان رب العالمين فلا فاعل لصفاته كما لا فاعل لذاته وان كان مخلوقا فالفاعل لذاته هو الفاعل لصفاته أما كون ذاته علة فاعلة لصفاته فهذا باطل قطعا. ومما يتبين بطلانه أن الكلام في صفاته اللازمة وتلك لا تفارقه ولا يتصور أن يكون فاعلا إلا بعد وجودها فيمتنع كونه هو الموجد لها وأما صفاته المقومة فتلك عندهم هي المقومة لذاته ليست ذاته السابقة لها وهي كالعلة فجعلوا بعض صفاته اللازمة علة لذاته وهي الصفات المقومة وبعضها معلولة وهي اللازمة غير المقومة والقسمان خطأ فليس في صفات الموصوف اللازمة ما هو علة للذات ولا معلول للذات بل هي صفات قائمة بالذات وفاعل الذات فاعل صفاتها أن كانت الذات من الذوات المفعولة والذي خلق الإنسان خلق الحيوانية والناطقية وخلق الضاحكية وغيرها ليس بعض هذه الصفات سابقا لذات الإنسان أو مادة لها ولا علة لها ولا بعضها معلول لها بل هي صفات قائمة بالإنسان لازمة له والذي خلقه خلق هذه الصفات اللازمة له وكذلك سائر المخلوقات. الوجه الرابع: أن يقال ما تعني بقولك وتلك الماهية الموصوفة مقتضية بصفاتها أن عنيت أنها مستلزمة لها فحينئذ جميع الملزومات كذلك كما تقدم فبطل كونهم أرادوا بعض الملزومات وان عنيت أنها فاعلة للزومها فليس في الماهيات ما يفعل شيئا من صفاتها. الطريق الثاني: أن يقال لو سلم أنها مقتضية لذلك اللازم بمعنى أنها علة كما ادعاه أو بمعنى أنها ملزومة لذلك اللازم كما هو الحق في نفس الأمر فان كون الملزوم ملزوما واللازم لازما له هو ثابت لا ريب فيه وأما كون الملزوم فعل اللازم أو علة للازم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 فهذا قد يكون في بعض الملزومات كالمعلول المعين اللازم لعلته وإلا فأكثر اللوازم ليست معلولة لملزوماتها وسواء قدر أنها معلولة أو لم يقدر فقوله الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم كلام مجمل فان كون الشيء ملزوما لغيره هو أنه متى تحقق الملزوم تحقق اللازم فقوله الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم كلام فيه إجمال فان كونها ملزومة حقيقة معقولة فقول القائل لما هي هي يقتضى أن اللزوم قسمان لزوم لما هي هي ولزوم لغير ما هي هي. فان قيل نعم عندي اللزوم نوعان فاللازم البين الذي لا يفتقر إلى وسط هو اللازم لما هي هي واللازم الذي يفتقر إلى وسط هو اللازم لأجل الوسط لا لما هي هي قيل له الكلام في هذا الفرق فأنت تريد أن تقيم البرهان على أن ما كان لزومه بغير وسط كان بينا لا يفتقر إلى دليل بل كان من الأوليات فمجرد تصور طرفي القضية كاف في العلم به والمنازع يقول لك قد يكون اللازم بغير وسط كالعلة مع معلولها لا يعلم إلا بدليل ووسط فيكون وسطا في العلم والذهن لا وسطا في الخارج وأنت قد ادعيت أن كل ما كان مفتقرا إلى وسط في الذهن فانه يفتقر إلى وسط في الوجود وان ما لا يفتقر إلى وسط في الوجود لا يفتقر إلى وسط في الذهن وعلى هذا ادعيت إقامة البرهان. ونحن نقول مجرد التصور التام لما ادعيته يوجب العلم الضروري بفساده لكن نبين مع ذلك فساد ما دللت به على دعواك كما نبين فساد شبه السوفسطائية وان سموها براهين وهو انك صادرت على المطلوب فجعلت المطلوب مقدمة في إثبات نفسه فانك لم يمكنك الاستدلال حتى أخذت مسلما أن اللوازم تنقسم إلى البين الذي يلزم لما هي هي والى اللازم بوسط الذي يفتقر إلى وسط في نفس الأمر والمنازع لك يقول لا نسلم افتقار شيء من اللوازم إلى وسط في نفس الأمر بل جميع اللوازم يلزم الملزوم نفسه وان كان بعض الملزومات شرطا في البعض كما أن العلم مشروط بالحيوة والإرادة مشروطة بالعلم فليس الشرط وسطا ملزوما للازم الثاني كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 ادعيته بل الذات مستلزمة الجميع ومتى تحققت تحقق الجميع ولا يتحقق شيء منها إلا مع الذات وبعضها لا يتحقق إلا مع بعض بل قد تكون متلازمة كصفات الله تعالى لا يتحقق شيء منها إلا مع الأخرى فحياته لازمة لعلمه وقدرته ومشيئته وكذلك قدرته ملازمة لعلمه وحياته فهي كلها متلازمة وهي أيضا لازمة للذات والذات لازمة لها وليس شيء من الصفات هو وسطا للأخرى كما ادعيته من أن بعض اللوازم لازم للذات وبعضها لازم اللازم وبعضها لازم لازم اللازم بل جميعها لازمة للذات وهي أيضا متلازمة. والذي ذكرناه من أن بعض الصفات قد يكون شرطا وهو من جنس الصفات وأما الصفات اللازمة للموصوف مطلقا سواء كان هو الخالق أو كان الملزوم مخلوقا كصفات الإنسان اللازمة كلها متلازمة فحيوانية الإنسان وناطقيته وضاحكيته متلازمة لا يوجد واحد منها دون الآخر وان وجدت حيوانية في غيره فتلك حيوانية غير حيوانيتة والفصول والخواص كلها متلازمة كالناطقية والضاحكية وإذا كانت متلازمة وبعضها شرطا في بعض امتنع أن يكون الشرط هو الوسط الذي به يثبت المشروط كما ادعوه لأن ذلك مستلزم أن يكون كل صفة لازمة وسطا للأخرى وان يكون ليس شيء من الصفات اللازمة يلزم بنفسه فيلزم الجمع بين النقيضين فعلم أن كون إحدى الصفتين شرطا في الأخرى لا يقتضى كونها وسطا في الثبوت كما ادعوه وإذا كان المنازع يمنع انقسام اللوازم إلى ما لا يلزم بنفسه وبوسط وبرهانك مبنى على اخذ هذا التقسيم مسلما كنت مصادرا على المطلوب مثبتا للشيء بنفسه. فان قلت: أنا أقيم هذا البرهان على من يسلم لي من المنطقيين أن من اللوازم ما يلزم بوسط وبغير وسط قيل لك فهذا أيضا خطأ من وجوه: أحدها: أن القياس يكون حينئذ جدليا لا برهانيا وأنت جعلته برهانيا الثاني: أن المنطق الذي هو ميزان العلوم عندكم لا يجوز أن تجعل المقدمات المبينة له جدلية فانه حينئذ لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 يكون علما بل يكون شيئا اتفق بعض الناس على دعواه ونحن نعلم أن كثيرا من الناس يدعون صحة المنطق ولكن أي فائدة في هذا الثالث أن يقال ولو سلم لك هذا التقسيم فالبرهان خطأ كما سيأتي بيانه وخطأه دليل على فساد اصل التقسيم وإذا كان اصل التقسيم خطا كان البرهان باطلا وكان التقسيم باطلا وهو المطلوب. الطريق الثالث: أن يقال قولكم فإذا عقلنا الماهية وجب أن نعقل منها أنها لما هي هي تقتضى ذلك اللازم يقال هذا ممنوع وذلك أن قول القائل عقلنا الماهية وتصورنا الماهية ونحو ذلك من العبارات لفظ مجمل فانه قد يعني به التصور التام والعقل التام الذي يتضمن تصور الملزوم وقد نعني به أنا عقلناها وتصورنا نوعا من العقل والتصور وان لم يكن تاما ولا شك أن مثل هذا لا يستلزم تصور الملزوم فدعواك أن كل عقل للماهية يوجب أن نعقل منها أنها لما هي هي تقتضى ذلك اللازم ممنوع وهو خلاف الواقع فان الناس لا يزالون يعقلون بعض الماهيات نوعا من العقل فلا يعقلون أنها لما هي هي تقتضى اللازم وبالجملة فنحن في هذا المقام يكفينا المنع فان الدعوى ليست بديهية ولم يقم عليها دليلا إلا قوله وإلا لما عقلنا الماهية لما هي هي فان أراد بهذا اللازم المنفي العقل التام الذي هو التصور التام فنحن نسلم ذلك ونقول ليس كل من تصور ماهية ما وعقلها نوعا من العقل والتصور يكون قد عقلها وتصورها عقلا تاما وتصورا تاما وان أراد بهذا اللازم المنفي أنا لا يكون حصل لنا شيء من التصور والعقل فهذا ممنوع. الطريق الرابع: أن يقال ما ذكره يستلزم أن لا يعقل شيء من المفردات البسائط ولا يعقل شيء وحده بل كل من عقل شيئا فلا بد أن يعقل لازمه القريب فيكون قد عقل اثنين وتصور اثنين لم يعقل واحدا ولم يتصور واحدا وهذا مناقض لما زعموه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 أن العلم ينقسم إلى تصور وتصديق وان التصور هو التصور الساذج الذي لا يكون معه حكم بشيء أصلا لا بنفي ولا بإثبات ونحن وان كنا قلنا أن مثل هذا ليس بعلم وانه لا يسمى علما إلا ما تضمن العلم بنفي أو إثبات فلا يمتنع أن يتصور الشيء من بعض الوجوه وان لم يتصور أنه ملزوم للوازم له يلزمه بنفسها فقد ثبت أن قوله باطل باتفاق العقلاء الطريق الخامس: أن يقال لو كان ما ذكرته صحيحا للزم أن من عقل شيئا عقل لوازم الشيء جميعها فانه إذا عقل الملزوم وجب أن يعقل لازمه الذي بغير وسط ثم عقل ذلك اللازم يوجب عقل الآخر وهلم جرا فيلزم أن يكون قد عقل اللوازم جميعها وهذا كما أنه يبطل حجته فهو يبطل اصل قولهم أن اللازم بغير وسط لا يفتقر إلى دليل في حق احد. فانه لو كان كذلك لكان من تصور شيئا تصور جميع لوازمه ويلزم أن من عرف الله عرف جميع ما يعلمه الله فيعلم كل شيء لأن علمه سبحانه من لوازم ذاته بل يلزم أن من علم شيئا من مخلوقاته علم كل شيء فان المخلوق مستلزم للخالق والخالق مستلزم لعلمه بكل شيء بل وهو مستلزم لمشيئته ومشيئته مستلزمة لجميع ما خلقه فانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فلو كان من علم الملزوم لا بد أن يعلم لازمه لزم أن من علم شيئا فقد علم كل شيء. وفساد هذا بين مع أن فساد هذه الدعوى اظهر من أن يحتاج إلى دليل لكن إذا عرف شناعة لوازمها كان أدل على قبحها وفسادها وهذا يتضمن السؤال الذي ذكره وقال فيه بحث لا بد من ذكره كما تقدم حكاية لفظه والجواب الذي ذكره عنه باطل وقد تناقض فيه وذلك يتبين بذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 الطريق السادس: وهو أن قوله العلم بماهية العلة لا يقتضى العلم بالمعلول إلا بشرط آخر وهو حضور تصور المعلول فيقال المعلول عندكم هنا هو اللازم الأول الذي كان الموصوف علة له في ذاته لم يفتقر في كونه علة له إلى المعلول فان العلة لو افتقرت في كونها علة إلى المعلول لم تكن وحدها علة وللزم تقدم المعلول على علية علته وعلية علته متقدمة على ذاته وهذا دور ممتنع باتفاق العقلاء. وانتم جعلتم ما كان يفتقر لزومه إلى وسط افتقر العلم به إلى وسط وما لزم بلا وسط علم بلا وسط فإذا جعلتم العلم بلزومه موقوفا على تصور المعلول والعلة والملزوم واللازم جميعا وقلتم لا يعلم اللزوم إلا بعد هذين التصورين واللزوم الخارجي موقوف على العلة وحدها لا على الاثنين بطل قولكم أن الوسط الذهني هو الخارجي فان هذا يتوقف العلم بلزومه على تصورين ولزومه في الخارج إنما هو لازم لواحد لا لاثنين. الطريق السابع: قولك في الجواب أن الماهية وحدها لا تكفي في حصول العلية لأن العلية أمر إضافي والأمور الإضافية لا يكفي في حصولها الشيء الواحد بل لا بد من حصول كلا المضافين كلام باطل سواء كانت العلية أمرا عدميا أو وجوديا فإنها أن كانت عدمية بطل هذا الكلام وان كان أمرا وجوديا فمعلوم أن العلة وحدها هي الموجبة للمعلول وإلا لم تكن علة له بل جزء علة والمعلول لا يكون إلا بعد العلة فإذا كانت وحدها موجبة وهو لا يوجد إلا بوجود العلة علم أنها وحدها توجب المعلول والعلية. الطريق الثامن: قولك الأمور الإضافية لا يكفي في حصولها الشيء الواحد تعني به في الذهن أو في الخارج فان هذا الموضع فيه التباس أن عنيت أنها لا تتصور إلا بتصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 شيئين فهذا صحيح ولا ريب أن العلية لا تتصور إلا بتصور العلة والمعلول فحصولها في التصور الذهني مشروط بحصول تصور المضافين في الذهن وان عنيت أنها لا توجد في الخارج إلا بالشيئين فهذا باطل بالضرورة واتفاق العقلاء فان ذات الرب وحدها مستلزمة لكل ما يتصف به من الأمور الثبوتية والإضافية وهذا متفق عليه بين المسلمين والفلاسفة وسائر الناس فان كونه خالقا للعالم وربا وفاعلا هو الذي يسمونه علة ومؤثرا والناس متنازعون في الخلق هل هو أمر عدمي وهو نفس المخلوق كما يقوله أكثر المعتزلة والأشعرية أم الخلق زائد على المخلوق كما هو قول جماهير المسلمين وهو قول السلف والأئمة وذكر البخاري أنه قول العلماء مطلقا لم يذكر فيه نزاع وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنه على كل قول فلا يقول عاقل أن المخلوق أوجب كونه خالقا ولا المعلول جعل العلة علة ولا أنه شرط في ذلك بل الخالق سبحانه هو وحده خلق جميع المخلوقات وكونه خالقا على قول الجمهور حاصل بقدرته ومشيئته عند المسلمين ليس خاصا بالمخلوقات بل خلق المخلوق متقدم عليه في نفس الأمر فكيف يكون الخلق معلولا ل المخلوق وكذلك علية العلة متقدمة على المعلول في نفس الأمر فكيف يكون المعلول جزء علية العلة فقوله أن العلية أمر إضافي والأمور الإضافية لا يكفي في حصولها الشيء الواحد بل لا بد من حصول كلا المضافين فيه تغليط بسبب الإجمال في قوله فالشيء الواحد لا يكفي في حصولها فان ما ذكره صحيح في الحصول في العلم والتصور وأما الحصول الخارجي فالشيء الواحد قد يكون علة لأمور كثيرة إضافية والعلة علة المعلول وعلة عليتها وهما جميعا حاصلان بالعلة وكذلك الأبوة والبنوة من المتضائفات وهما لازمان للإيلاد فعلة الايلاد أوجبت هذين المتضائفين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 فان قيل أراد أن الأمور الإضافية لا توجد إلا بوجود المضافين وان كان أحدهما مستقلا بوجود المضافين قيل عن هذا جوابات أحدها: بأنه لم يرد هذا ولو أراده لم ينفعه وكان خطأ فهذه ثلاثة أجوبة. وذلك أن كلامه في وجود علية العلة هو حصل بالعلة وحدها أو بها وبالمعلول فلا بد أن يدخل صورة الدعوى في دليله ولفظه تقدم قال فيه وبيانه أن ماهية العلة وحدها لا تكفي في حصول العلية لأن العلية أمر إضافي والأمور الإضافية لا تكفي في حصولها الشيء الواحد بل لا بد من حصول كلا المضافين فإذا لم تكن ذات العلة مستقلة باقتضاء حصول صفة العلية لا جرم لم يكن العلم بذات العلة كافيا في حصول العلم بالعلية فقد تبين مراده وهو أن العلة لا تستقل باقتضاء صفة العلية بل المقتضى بحصول هذه الصفة العلة والمعلول جميعا وهذا باطل. ولو قدر أنه أراد أن الأمور الإضافية تتوقف على وجود المضافين وان لم يكن أحدهما علة بل شرطا أي لا توجد الإضافة إلا مع وجود المضافين لم ينفعه هذا فانه يقول العة أوجبت الأمرين معا ولم يوجد أحدهما إلا مع الآخر ويلزمه أن يقول في العلم مثل ذلك فيقول العلم بالملزوم يوجب العلم باللازم وبالملزوم فان الملزوم هو العلة عندهم في هذا موضع واللازم هو المعلول. ثم أنه لا يسلم له أن كل إضافة تتوقف على وجود المضافين في أن واحد فان التقدم والسبق ونحو ذلك من الأمور الإضافية توجد قبل وجود احد المضافين وكذلك علية العلة التي ليست تامة توصف بها العلة قبل وجود المعلول وهي التي يسميها الفقهاء الأسباب فيقال ملك النصاب سبب لوجوب الزكاة والسببية من الأمور الإضافية والنصاب موصوف بها قبل وجوب الزكاة وكذلك يقال هذا موجود قبل هذا أو هو متقدم على هذا أو هو أسبق من هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 ومثل هذا كثير. الطريق التاسع: انه قال: "أن ذات العلة والمعلول يعني اللازم والملزوم بغير وسط عند تصورهما يجب حصول التصديق بانتساب أحدهما إلى الآخر" فيقال هذا أول الدعوى فانه أن أراد بالتصور التام الذي يحصل معه تصور الملزوم فهذا حق ولكن لا ينفعه فانه ادعى أن مطلق عقل الماهية يوجب ذلك وأيضا فانا نلزمه مثل ذلك في جميع الملزومات أنها متى تصورت تصور اللازم وهو باطل وأيضا فانا نحن نلتزم مثل ذلك في التصور التام فنقول في جميع اللوازم متى تصور الملزوم تصورا تاما يحصل به تصور الملزوم حصل معه العلم بأن هذا لازم وان لم يحصل هذا التصور لم يجب العلم باللازم في شيء من الأمور كما سيأتي ذكر ذلك. وقوله: "متى تصورنا حقيقة العلة وحقيقة المعلول امتنع عند ذلك أن لا نصدق بثبوت أحدهما للآخر" أن أراد التصور التام فهذا مشترك بين جميع اللوازم وان أراد غيره فالحكم ممنوع وهو إنما ادعى أن مطلق عقل الماهية يوجب ذلك وقد بينا أن عقلها أو تصورها ينقسم إلى تام وغير تام وان ما ذكره إنما يلزم في التام. الطريق العاشر: أن يقال أن كنت تعني باللزوم البين هذا فهكذا يفسر به لازم اللازم فيقال إذا تصور اللازم الأول وتصور لازم لازمه امتنع حينئذ أن لا بعرف أن أحدهما علة للآخر فيلزم ما فررت منه وهو أنه متى تصور شيئا تصور جميع لوازمه. الطريق الحادي عشر: قوله: "إذا اثبت أن تصور العلة إنما يوجب التصديق بثبوت المعلول القريب عند تصور المعلول ثم من الجائز أن لا يحصل تصور المعلول عند تصور العلة لا جرم لا يلزم من العلم بحقيقة العلة العلم بكل اللوازم القريبة والبعيدة فيقال له أنت فرقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 بين اللوازم القريبة والبعيدة بأن القريبة ما كان بين اللزوم وادعيت أن ما كان بين اللزوم وهو ما ثبت بغير وسط يجب أن يعلم إذا تصور الملزوم فلا يفتقر إلى وسط وقد فسرت ذلك في آخر الأمر بأن المراد إذا تصور الملزوم واللازم جميعا فيجب أن يعلم الملزوم فيقال لك وهكذا أيضا إذا تصور اللازم الأول ولازمه الثاني فقد تصور الملزوم ولازمه القريب فيجب أن يتصور لزومه له وقد كان تصور لزوم الأول فيلزم ما فررت منه من أنه إذا عرف لزوم الأول عرف لزوم سائر اللوازم فإذا شرطت في العلم بلزوم الأول حضورهما جميعا فكذلك فاشرطه في العلم بلزوم الثاني وإن حذفت الشرط في الثاني فاحذفه من الأول حتى يكون الكلام عدلا. وعلى التقديرين يلزم بطلان الفرق بين لازم ولازم بأن هذا بوسط وبأن هذا بغير وسط إذا فسر الوسط بوسط في نفس الأمر وبطلان ما ادعوه من أن اللازم بغير وسط يجب العلم به بلا دليل وان اللازم بوسط لا يعلم إلا بالعلم بالوسط فما ادعوه من هذا وهذا باطل فبطل ما ذكروه من دليل الفرق بين الأوليات والمشهورات وهو المطلوب. الطريق الثاني عشر: انه قال في جواب السؤال الثاني "لا نسلم أن العلية مغايرة لحقيقة ذات العلة لكنا ندعي أن تصور حقيقة العلة مع تصور حقيقة المعلول القريب يوجب العلم بكون العلة علة لذلك المعلول" فيقال هذا كلام مناقض لما تقدم مع تناقضه في نفسه فان العلية أن لم تكن مغايرة لذات العلة بطل قولك أن ماهية العلة وحدها لا تكفي في حصول العلية لأن العلية أمر إضافي والأمور الإضافية لا تكفي في حصولها الشيء الواحد فإنها إذا لم تغايرها لم يكن هناك شيء يكون معلولا لا للعلة ولا لها ولغيرها بل ولا هناك شيء يتصور إذا تصورت العلة والمعلول وان قيل هي مغايرة في العلم لا في الأعيان فإنها أمر عدمي قيل وهذا يبطل قوله فان العدم المحض لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 حصول له فضلا عن أن يفتقر إلى علة لحصوله ولكن تصورها في الذهن يتوقف على المضافين وهذا مما قدمنا أنه حق وهو مبطل لما قاله. الطريق الثالث عشر: أنهم قد زعموا أن اللوازم مترتبة في نفسها بالذات مستلزمة للأول والثاني مستلزم للثالث والثالث للرابع وان ما كان لزومه بغير وسط كان بينا لا يحتاج إلى دليل وقد تناقض تفسيره لذلك لتناقض القول في نفسه فيقال له أي شيء قلته في لزوم الأول للملزوم الأول يقال في اللازم الثاني للأول سواء بسواء من كل وجه وحينئذ فأي شيء فسرت به العلم بلزوم الأول لا يفتقر إلى وسط يلزمك مثله في الثاني فيكون موجب برهانك أن من علم شيئا علم جميع لوازمه وهذا في غاية الفساد. فصل: برهان آخر للرازي على هذا التفريق. ثم ذكر برهانا آخر على ما ادعاه من أن ما كان لزومه بغير وسط كان بينا فقال: "برهان آخر وهو أنا إذا عقلنا ماهية فانه تبقى بعض لوازمها مجهولة ويمكننا تعرف تلك اللوازم المجهولة فلولا وجود لوازم بينه الثبوت للشيء وإلا لزم التسلسل وأما عدم تعرف تلك اللوازم وكلاهما باطلان". قال: "وهذا البرهان كاف في إثبات اصل المقصود من أن الصفات اللازمة في نفسها يلزم بعضها بوسط في نفس الأمر وبعضها بغير وسط وإنما يدل هذا على أن الإنسان قد يتبين له لزوم بعض اللوازم بلا دليل وبعضها لا يتبين إلا بدليل. وهذا لا ريب فيه لكن الدليل كل ما كان مستلزما للمدلول لا يختص بما يكون علة للمدلول ولا بعض اللوازم في نفس الأمر علة لبعض ولا كل ما كان بينا لزيد يجب أن يكون بينا لعمرو. فتبين أن الفرق الذي ذكره بين الأوليات والمشهورات من أن الأولى هو الذي يكون حمله على موضوعه أولا في الوجودين حملا ثانيا غلط لا يستقيم إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 في الوجود الخارجي فانه ليس في اللوازم ترتيب حتى يكون بعضها أولا وبعضها ثانيا ولا في الذهن فان الوسط إنما هو الدليل فيعود الفرق إلى أن الأوليات ما لا يفتقر إلى دليل والنظريات ما يفتقر إلى دليل وهذا كلام صحيح متفق عليه لا يحتاج إلى ما ذكروه ولكن هذا يوجب كون القضية أولية ونظرية هو من الأمور الإضافية فقد تكون بديهية لزيد نظرية لعمرو باعتبار تمام التصور فمتى تصور الشيء تصورا أتم من تصور غيره تصور من لوازمه ما لم يتصوره ذو التصور الناقص فلم يحتج في معرفته بتلك اللوازم إلى وسط واحتاج صاحب التصور الناقص إلى وسط وأيضا فهذا لا يوجب كون المشهورات ليست يقينية كما سنذكره أن شاء الله. رد ابن سينا تفريقهم بين الصفات الذاتية واللازمة: ولفظ ابن سينا في إشاراته قال: "وأما اللازم غير المقوم يخص باسم اللازم فان كان المقوم أيضا لازما فهو الذي يصحب الماهية ولا يكون جزءا منها مثل كون المثلث مساوي الزوايا القائمتين". قال: "وأمثال هذا أن كان لزومها بغير وسط كانت معلومة واجبة اللزوم وكانت ممتنعة الرفع من الوهم مع كونها غير مقومة وان كان لها وسط بين يبين به علمت واجبة به". قال: "وأعني بالوسط ما يقرن بقولنا لأنه كذا وهذا الوسط أن كان مقوما للشيء لم يكن اللازم مقوما له لأن مقوم المقوم مقوم بل كان لازما له أيضا فان احتاج إلى وسط تسلسل إلى غير نهاية فلم يكن وسطا وان لم يحتج فهناك لازم بين اللزوم بلا وسط وان كان الوسط لازما متقدما واحتاج إلى توسط لازم آخر أو مقوم غير منته من ذلك إلى لازم بلا وسط تسلسل إلى غير النهاية فلا بد في كل حال من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 لازم بغير وسط وقد بان أنه ممتنع الرفع في الوهم فلا يلتفت إذا إلى ما يقال أن كل ما ليس بمقوم فقد يصح رفعه من الوهم ومن أمثلة كون كل عدد مساويا للآخر أو مفاوتا. قلت: مقصوده بهذا الرد على من قال من المنطقيين أن الفرق بين الصفة الذاتية والعرضية اللازمة أن ما ليس بذاتي يمكن رفعه في الوهم فيمكن تصور الموصوف بدون تصوره بخلاف الذاتي فتبين أن اللوازم لا بد أن تنتهي إلى لازم بين لا يفتقر إلى وسط وذاك يمتنع رفعه في الوهم إذا تصور الموصوف وهذا الذي قاله جيد وهو يبطل الفرق الذي هو عمدتهم. ولهم فرق ثان بأن الذاتي ما لا يفتقر إلى علة واللازم ما يفتقر إلى علة والعلة هي الوسط وهذا الفرق افسد من الذي قبله فان كون بعض الصفات اللازمة تفتقر إلى علة دون بعض باطل ثم سواء قيل يفتقر إلى علة أو وسط وسواء جعل ذلك هو الدليل أو هو أيضا علة لثبوته في الخارج فان من اللوازم ما لا يفتقر إلى علة فبطل هذا الفرق الثاني. والفرق الثالث التقدم في الذهن أو في الخارج وهو أن الذاتي ما لا يمكن تصور الموصوف إلا بعد تصوره بخلاف اللازم العرضي فانه متصور بعد تصور الملزوم والذاتي هو المقوم وهذا الفرق أيضا فاسد فان الصفة لا تتقدم على الموصوف في الخارج أصلا وأما في الذهن فقد تتصور الصفة والموصوف جميعا فلا يتقدم تصور الصفة وبتقدير التقدم فهذا يختلف باختلاف التصور التام والناقص لا باختلاف اللوازم نفسها. فعلى هذه الفروق الثلاثة أو أحدها يعتمدون حتى الذين صاروا يجعلون المنطق في أول أصول الفقه من المتأخرين هذا عمدتهم كما يذكر ذلك الآمدي وابن الحاجب وغيرهما وكلها باطلة أما التقدم الخارجي فمن المعلوم بصريح العقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 أن الصفة القائمة بالموصوف والعرض القائم بالجوهر لا يعقل تقدمه عليه بوجه من الوجوه بل إذا اعتبر تقدم عقلي أو غيره فالذات متقدمة على الصفات. وأما في التصور فالتصور مراتب متعددة يكون مجملا ومفصلا فالإنسان قد يخطر له الإنسان ولا يستحضر شيئا من صفاته فهذا تصوره تصورا مجملا وقد يخطر له مع ذلك أنه ناطق كما قد يخطر له مع ذلك أنه ضاحك وإذا تصور الحيوان قد يخطر له أنه حساس كما قد يخطر له أنه متحرك بالإرادة وكما يخطر له أنه متألم أو متلذذ وانه يحب ويبغض وإذا تصور أن الإنسان حيوان ناطق ولم يتصور الحيوان مفصلا لم يكن قد تصور الإنسان مفصلا فما من صفة لازمة إلا ويمكن وجودها في التصور المفصل وحذفها في التصور المجمل. وحينئذ فقول القائل: "أن الذاتي ما لا يتصور الموصوف إلا بعد تصوره" إن ادعاه في كل تصور فهذا باطل وهو ممن يسلم بطلانه فانه يقول: "قولك عن الإنسان أنه حيوان ناطق حمد تام يفيد تصور حقيقته" ومع هذا لم يتصور الذاتيات مفصلة فانه لم يستحضر في ذهنه أن الحيوان هو الجسم الحساس النامي المتحرك بالإرادة فثبت أنهم يجعلونه متصور الحقيقة بدون استحضار الذاتيات على وجه التفصيل فلا يجب في كل ذاتي أن يتقدم تصوره المفصل. وأما التصور المجمل فلا يجب فيه استحضار شيء من الصفات وتصور الإنسان مجملا كتصور الحيوان مجملا ومعلوم أن الموصوف يشاركه غيره في صفات ويفارقه في صفات فإذا لم يجب ذكر جميع الصفات المشتركة على وجه التفصيل فدعوى الاكتفاء ببعضها دون بعض تحكم محض وإذا كانت حقيقة الإنسان عندهم متصورة بدون تصور الصفات الذاتية المشتركة على وجه التفصيل علم أن ما ذكروه من أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 الذاتي ما لا يمكن تصور الموصوف بدونه باطل وان اكتفوا بالتصور المجمل فمن تصور الإنسان مطلقا فقد دخل في جميع ذلك صفاته وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا الكلام على ما فرقوا به بين الأوليات والمشهورات من أن الأوليات ليس بين الموصوف وصفته وسط في نفس الأمر بخلاف غيره وقد تبين بطلان هذا الفرق طردا وعكسا وانه قد يكون من اللوازم التي لا وسط لها في نفس الأمر ما يفتقر إلى دليل ومن اللوازم التي يدعون افتقارها إلى وسط ما يعلم ثبوته بلا دليل وان التفريق بين اللوازم بوسط في نفس الأمر باطل وان الوسط الذي هو الدليل يختلف باختلاف أحوال الناس ليس هو أمرا لازما للقضايا فهذه عدة أوجه من هذا الطريق الأول. النوع الثاني: لا دليل على دعواهم أن المشهورات ليست من اليقينيات: النوع الثاني: أن يقال المراد ب المشهورات عندهم هي القضايا العلمية كلها مثل كون العدل حسنا والظلم قبيحا والعلم حسنا والجهل قبيحا والصدق حسنا والكذب قبيحا والإحسان حسنا ونحو ذلك من الأمور التي تنازع الناس هل حسنها وقبحها بالعقل أم لا. المثبتة والنفاة للحسن والقبح العقليين: وأكثر الطوائف على إثبات الحسن والقبح العقليين لكن لا يثبتونه كما يثبته نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم بل القائلون بالتحسين والتقبيح من أهل السنة والجماعة من السلف والخلف كمن يقول به من الطوائف الأربعة وغيرهم يثبتون القدر والصفات ونحوهما مما يخالف فيه المعتزلة أهل السنة ويقولون مع هذا بإثبات الحسن والقبح العقليين وهذا قول الحنفية ونقلوه أيضا عن أبي حنيفة نفسه وهو قول كثير من المالكية والشافعية والحنبلية كأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب وغيرهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 من أئمة أصحاب احمد كأبي علي بن أبي هريرة وأبي بكر القفال الشاشي وغيرهما من الشافعية وكذلك من أصحاب مالك وكذلك أهل الحديث كأبي نضر السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما. بل هؤلاء ذكروا أن نفي ذلك هو من البدع التي حدثت في الإسلام في زمن أبي الحسن الأشعري لما ناظر المعتزلة في القدر بطريق الجهم بن صفوان ونحوه من أئمة الجبر فاحتاج إلى هذا النفي قالوا وإلا فنفي الحسن والقبح العقليين مطلقا لم يقله احد من سلف الأمة ولا أئمتها بل ما يؤخذ من كلام الأئمة والسلف في تعليل الأحكام وبيان حكمة الله في خلقه وأمره وبيان ما فيما أمر الله به من الحسن الذي يعلم بالعقل وما في مناهيه من القبح المعلوم بالعقل ينافي قول النفاة. والنفاة ليس لهم حجة في النفي أصلا وقد استقصى أبو الحسن الآمدي ما ذكروه من الحجج وبين أنها عامتها فاسدة وذكر هو حجة اضعف من غيرها وهو أن الحسن والقبح عرض والعرض لا يقوم بالعرض فان إثبات هذا لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 يحتاج إلى قيام العرض بالعرض كما توصف الأعراض بالصفات وجميع ذلك قائم بالعين الموصوفة فنقول هذا سواد شديد وهذه حركة سريعة وبطيئة وهم يسلمون أن كون الفعل صفة كمال أو صفة نقص أو ملائما للفاعل أو منافرا له قد يعلم بالعقل وهذه صفات للفعل وهي قائمة بالموصوف. ومن الناس من يظن أن الحسن والقبح صفة لازمة للموصوف وان معنى كون الحسن صفة ذاتية له هذا معناه وليس الأمر كذلك بل قد يكون الشيء حسنا في حال قبيحا في حال كما يكون نافعا ومحبوبا في حال وضارا وبغيضا في حال والحسن والقبح يرجع إلى هذا وكذلك يكون حسنا في حال وسيئا في حال باعتبار تغير الصفات. والحسن والقبح من أفعال العباد يرجع إلى كون الأفعال نافعة لهم وضارة لهم وهذا مما لا ريب فيه أنه يعرف بالعقل ولهذا اختار الرازي في آخر أمره أن الحسن والقبح العقليين ثابتان في أفعال العباد وأما إثبات ذلك في حق الله تعالى فهو مبني على معنى محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه وفرحه بتوبة التائب ونحو ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع وهل ذلك صفات ليست هي الإرادة كما اتفق عليه السلف والأئمة أو ذلك هو الإرادة بعينها كما يقوله من يقوله من المعتزلة والجهمية ومن وافقهم. بيان أن قضايا التحسين والتقبيح من أعظم اليقينيات: والمقصود هنا ذكر هذه القضايا المشهورة من بني ادم كلهم كقولهم العدل حسن وجميل وصاحبه يستحق المدح والكرامة والظلم قبيح مذموم سيء وصاحبه يستحق الذم والإهانة فان هؤلاء نفوا كونها من اليقينيات وهذا يستلزم أن لا يقول الفلاسفة بالحسن والقبح العقليين إذ لم يكن في العقل قضية برهانية عقلية ومن الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 من حكى عنهم القول بذلك والتحقيق أنهم في ذلك متنازعون مضطربون كما في أمثال ذلك. فنقول دعوى المدعي أن هذه القضايا ليست من اليقينيات دعوى باطلة بل هذه من أعظم اليقينيات المعلومة بالعقل وذلك أن التصديق مسبوق بالتصور فينبغي أن ننظر معنى قولنا العدل حسن والظلم قبيح ثم ننظر في ثبوت هذا المحمول لهذا الموضوع ولنتكلم في عدل الناس وظلمهم. فنقول الناس إذا قالوا العدل حسن والظلم قبيح فهم يعنون بهذا أن العدل محبوب للفطرة يحصل لها بوجوده لذة وفرح نافع لصاحبه ولغير صاحبه يحصل به اللذة والفرح وما تتنعم به النفوس وإذا قالوا الظلم قبيح فهم يعنون به أنه ضار لصاحبه ولغير صاحبه وانه بغيض يحصل به الألم والغم وما تتعذب به النفوس ومعلوم أن هذه القضايا هي في علم الناس لها بالفطرة وبالتجربة أعظم من أكثر قضايا الطب مثل كون السقمونيا تسهل الصفراء فلم كانت التجربيات يقينية وهذه التي هي اشهر منها وقد جربها الناس أكثر من تلك لا تكون يقينية مع أن المجربين لها أكثر واعلم واصدق وجزئياتها في العالم أكثر من جزئيات تلك والمخبرون بذلك عنها أيضا أكثر واعلم واصدق. فان الإنسان من نفسه يجد من لذة العدل والصدق والعلم والإحسان والسرور بذلك ما لا يجده من الظلم والكذب والجهل والناس الذين وصل إليهم ذلك والذين لم يصل إليهم ذلك يجدون في أنفسهم من اللذة والفرح والسرور بعدل العادل وبصدق الصادق وعلم العالم وإحسان المحسن ما لا يجدونه في الظلم والكذب والجهل والإساءة ولهذا يجدون في أنفسهم محبة لمن فعل ذلك وثناء عليه ودعاء له وهم مفطورون على محبة ذلك واللذة به لا يمكنهم دفع ذلك من أنفسهم كما فطروا على وجود اللذة ب الأكل والشرب والألم بالجوع والعطش فلم كانت تلك القضايا من اليقينيات المعلومة بالحس والعقل كالتجربة وغيرها ولم تكن هذه من القضايا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 العقلية المعلومة أيضا بالحس والعقل والأمر فيها أعظم واللذة التي توجد بهذه لذة روحانية عقلية شريفة والإنسان كلما كمل عقله كانت هذه اللذة أحب إليه من تلك اللذة. ثم الفلاسفة اثبتوا معاد الأرواح واللذة العقلية وهي مبنية على هذه القضايا التي سموها المشهورات فان لم تكن معلومة كان ما أثبتوه من ذلك ليس فيه شيء من العلم بل يقولون ما يقوله غيرهم من أن اللذات الباطنة أقوى واشرف من اللذات الظاهرة ويدعون الضرورة في إثبات لذة وراء اللذات الحسية الظاهرة وإذا كانت اللذة أما إدراك الملائم كما قد يزعمونه أو هي تابعة ولازمة للإدراك الملائم كما يقوله غيرهم وهو الصحيح فمعلوم أن العلم والعدل والصدق والإحسان ملائم لبني آدم فيكونوا ملتذين بذلك بل يكون التذاذهم بذلك أعظم من غيره وهذا معنى كون الفعل حسنا ومعنى كونه قبيحا ضد ذلك. وإذا تصور معنى الحسن والقبح علم أن هذه المشهورات من أعظم اليقينيات فإنها ما اتفقت عليها الأمم لما علموه بالحس والعقل والتجربة بل اتفاق الناس على هذه أعظم من اتفاقهم على عامة ما يذكرونه وقد يعيش طوائف من الناس زمانا لا تخطر لهم القضايا الكلية العقلية التي جعلوها مبادئ العلم كقول القائل النفي والإثبات لا يجتمعان وان يعلم أن هذا الشيء المعين إذا كان موجودا لم يكن معدوما لكن قد لا تخطر لهم القضية الكلية بل وقد لا يخطر لهم تقدير اجتماع وجوده وعدمه فان هذا التقدير ممتنع فلا يخطر لأكثر الناس ولا توجد طائفة إلا وهي تحسن العدل والصدق والعلم وتقبح ضد ذلك. وأيضا فالحكمة عندهم وعند سائر الأمم نوعان علم وعمل وهذه الحكمة عند المسلمين قال مالك رحمه الله: "الحكمة معرفة الدين والعمل به" ولذلك قال ابن قتيبة: "الحكمة عند العرب العلم والعمل" والحكمة العملية عندهم وعند غيرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 تتضمن علم الأخلاق وسياسة المنزل وسياسة المدنية وبنى ذلك كله على هذه القضايا المشهورة بل وكل عمل يؤمر به فلا بد فيه من العدل فالعدل مأمور به في جميع الأعمال والظلم منهي عنه نهيا مطلقا. ولهذا جاءت أفضل الشرائع والمناهج بتحقيق هذا كله وتكلميه فأوجب الله العدل لكل أحد على كل أحد في كل حال كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى ألاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ومثل هذا كثير. وكذلك تحريم الظلم بمجموع أنواعه كثير في النصوص الإلهية حتى في الحديث الإلهي حديث أبي ذر الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي فاستغفروني اغفر لكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدونى أهدكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". والمقصود أن الحكمة العملية كلها مبنية على هذه القضايا والنفس لها قوتان العلمية والعملية والعمل لا بد أن يكون بعلم فان لم يكن هذه القضايا معلومة لم يكن شيء من الحكمة العملية معلوما ولا شيء من الأعمال والأخلاق المحمودة والمذمومة معلوما وهذا مع ما فيه من المناقضة لما يقولونه هو وغيرهم من العقلاء فهو مكابرة ظاهرة مع أنا في هذا النوع من الكلام لم نقصد إقامة الدليل على فساد قولهم بل صورناه لتعلم حقيقته وطالبناهم بالدليل على أن هذه المشورات ليست يقينية فإنهم لم يذكروا على ذلك دليلا أصلا وسنتكلم على ما توهموه دليلا من النوع الثالث: في بيان كون المشهورات من جملة القضايا الواجب قبولها قولهم هذه القضايا ليست بأولية لما ذكروه من الفرق بين الأولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وغيره قد تقدم بطلان هذا الفرق ولكن نحن نسلم أن من القضايا ما يكون بديهيا أوليا لبعض الناس أو لكلهم ويكون مجرد تصور طرفى القضية موجبا للحكم لكن ليس علة ذلك كون المحمول لازما للموضوع بلا وسط في نفس الأمر كما ذكر ذلك الرازي ونحوه وإن كان هذا لم نجده في كلام ابن سينا وأمثاله بل الوسط عنده الدليل كما تقدم بل ولا ذاك أمرا لازما للقضية بل قد تكون بديهية لزيد ونظرية لعمرو بحسب المتصور لتمامه ونقضانه. وهذا مما قد تنازع فيه بعضهم ويدعون أن كل ما كان أوليا لزيد فهو أولى لغيره كما يدل كلامهم على ذلك وأن الادميين يشتركون في العلم بكل ما هو أولى لكل شخص منهم لانها موجب العقل والعقل مشترك وهذا القول أن كنا نبطله ونقول القضية قد تكون ضرورية لزيد نظرية لعمرو كذلك غير ذلك من القضايا قد تكون المتواترة لهذا محسوسة لهذا والمجربة لهذا معلومة بالاستدلال لهذا ونحو ذلك. وإذا كان كذلك فنحن ليس مقصودنا أن هذه القضايا المشهورة أولية أو ليست أولية ولا أنها أوليه لجميع الناس أو لبعضهم بل المقصود أنها من جملة القضايا الواجب قبولها التي يجب التصديق بها وتكون مادة للبرهان فإنهم جعلوا المعتقدات ثلاثة الواجب قبوها والمشهورات والوهميات والمقصود هنا أن المشهورات العامة مثل حسن العدل وقبح الظلم هي من الواجب قبولها وإن لم نقل هي أولية فان الواجب قبولها قد جعلوها اصناقا أوليات ومشاهدات ومجربات وحدسيات ومتواترات وقضايا قياساتها معها. وهذه المشهورات إذا لم تكن أولية لم تكن بدون كثير من المجربات والحدسيات ونحو ذلك فتكون مادة للبرهان اليقيني كالمتواترات والمجربات فان المتواترات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 والمجربات ليست أوليات وهذه المشهورات ابلغ من كثير من المجربات والعلم بها والتصديق بها في نفوس الأمم قاطبة أقوى واثبت من العلم بكثير من المجربات والمتواترات التي تواترت عند بعض الأمم دون بعض. وبهذا الاعتبار فلم يذكروا حجة على أنها ليست من اليقينيات فان قولهم موجب الحكم بها العادات أو الاحوال النفسانية أو مصلحة النظام هذا لا ينافي كونها يقينية بل هو دليل على ذلك كما سنذكره أن شاء الله تعالى فان المجربات كلها عاديات فكونها عاديات لا ينافى كونها يقينيات وكذلك كون قوى النفس تقتضيها فان هذا يدل على الملائمة والمنافرة وهذا هو معنى الحسن والقبح فلذلك لا ينافى كونها قضايا صادقة معلومة الصدق وكذلك كون نظام العالم مربوطا بها لا ينافى كونها صادقة معلومة فليس فيما ذكروه ما ينافي العلم بها ولا يدعى كونها أولية بالمعنى الذي ذكروه كما لا يدعى ذلك في المجربات والمتواترات وذلك لا ينافى كونها من اليقينيات. النوع الرابع: خاصة العقل والفطرة استحسان الحسن واستقباح القبيح النوع الرابع: أن يقال قوله: "لا عمدة لها إلا الشهرة وهو أنه لو خلى الإنسان وعقله المجرد ووهمه وحسه إلى قوله لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسه مثل حكمنا بأن سلب مال الإنسان قبيح وأن الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدم عليه". فيقال لا نسلم هذا فان هذا دعوى مجردة وقوله سلب مال الإنسان قبيح لفظ عام وقد يسلب ماله بعدل وقد يسلب بظلم والكلام فيما إذا علم الإنسان أنه سلب ماله ظلما مثل أن يعلم أن الاثنين المشتركين في المال من كل وجه استولى أحدهما على الآخر فسلبه أكثر من نصف ونحو ذلك فان عقول العقلاء قاطبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وأوهامهم تقضى بقبح هذا. أما الوهم فانه قد فسره بقوله في الاشارات: "وأيضا فان الحيوانات ناطقها وغير ناطقها تدرك في المحسوسات الجزئية معانى جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس إدراكا جزئيا يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده فعندك قوة هذا شأنها. فهذه القوة التي سموها الوهم هي التي يدرك بها الإنسان صداقة الصديق وعدواة العدو ويدرك بها كل من الزوجين ما في الزوج الآخر من الأمر المحبوب وبها يميل الإنسان إلى غيره وبها ينفر عنه ولهذا يقولون: "اكبر حاكم على النفوس الوهم". ومعلوم أن هذه القوة تميل إلى الشخص الذي تعلم أنه عادل صادق محسن وتنفر عن الشخص الذي تعلم أنه كاذب ظالم مسئ بل تميل إلى هذا الشخص وإن لم يصل إليها من جهته نفع وضرر والنفوس مجبولة على محبة العدل وأهله وبغض الظلم وأهله وهذه المحبة التي في الفطرة هو المعنى بكونه حسنا وهذا البغض هو المعنى بكونه قبيحا كما يقال في الصورة الظاهرة هذا حسن وهذا قبيح فالحسن الظاهر ما يحسه الحس الظاهر والحسن الباطن ما يحسه القلب الباطن وإذا كانت النفوس مجبولة على محبة هذا وبغض هذا فهذا معنى الحسن والقبح فكيف يقال لو ترك الإنسان وحسه وعقله ووهمه لم يقض بها ونفوس بنى آدم مجبولة على استحسان هذا واستقباح هذا؟ وأما العقل فأخص صفات العقل عند الإنسان أن يعلم الإنسان ما ينفعه ويفعله ويعلم ما يضره ويتركه والمراد بالحسن هو النافع والمراد بالقبيح هو الضار فكيف يقال أن عقل الإنسان لا يميز بين الحسن وبين القبيح وهل أعظم تفاضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 العقلاء إلا بمعرفة هذا من هذا بل وجنس الناس يميل إلى من يتصف بالصفات الجميلة وينفر عمن يتصف بالقبائح فذاك يميل جنس الإنسان إلى سمع كلامه ورؤيته وهذا ينفر عن رؤيته وسمع كلامه. النوع الخامس: في بيان كون هذه المشهورات معلومة بالفطرة النوع الخامس: أن مبادىء هذه القضايا أمر ضروري في النفوس فإنها مفطورة على حب ما يلائمها وبغض ما يضرها والمراد بالحسن ما يلائمها وبالقبيح ما يضرها وإذا كانت مفطورة على حب هذا وبغض هذا فالمراد بقولنا حسن أنه ملائم نافع والمراد بقولنا قبيح أنه ضار مؤذ وهذا أمر فطري فعلم أن الناس بفطرتهم يعلمون هذه القضايا المشهورة بينهم. النوع السادس: في بيان كون الموجب لاعتقاد هذه المشهورات من لوازم الإنسانية النوع السادس: أن يقال: لو لم يكن لهذه القضايا مبدأ في قوى الإنسان لم تشتهر في جميع الأمم فان المشهور في جميع الأمم لا بد أن يكون له موجب في الفطرة المشتركة بين جميع الأمم فعلم أن الموجب لاعتقاد هذه القضايا أمر اشتركت فيه الأمم وذلك لا يكون إلا من لوازم الإنسانية فان الأمم لم تشترك كلها في غير لوازم الإنسانية. النوع السابع: رد ابن سينا على نفسه في قوله بأن المشهورات لا تدرك بقوى النفس النوع السابع: قوله: "لو توهم الإنسان بنفسه أنه خلق دفعة تام العقل ولم يسمع أدبا ولم يطع انفعالا نفسانيا ولا خلقا لم يقض في أمثاله بشيء" هذا ممنوع بل أن كان تام العقل علم أن العلم والعدل والصدق ينفعه وتصلح به نفسه وتلتذ وأن الكذب والظلم يضره ويفسد نفسه ويؤلمها ولو قدر أنه لا يعلم به أحد غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 علم العقل بأنه إذا ظلم أبغضه الناس وعادوه وغير علمه بأن الله يعاقبه. فان قيل الإنسان يلتذ بما يراه قبيحا كما قد يلتذ بما يأخذه ظلما فيأكله ويشربه قيل وإن التذ بدنه فان قلبه وعقله لا يلتذ بذلك بل يلتذ إذا عدل وإن قدر أنه يلتذ به لذة حاضرة فانه يتألم بقبح عاقبته عنده وإذا لم يتألم فلغيبة عقله عن إدراك المؤلم كما قد يحصل للسكران وغيره من أمور تؤلمه ولا يتألم بها لغيبة عقله عن إدراكها. وهذا مما قد ذكره ابن سينا نفسه فقال في نمط البهجة والسعادة. "إنه قد يسبق إلى الأوهام العامية أن اللذات القوية المستعلية هي الحسية وأن ما عداها لذات ضعيفة وكلها خيالات غير حقيقة". وقد يمكن أن ينبه من جملتهم من له تمييز ما فيقال له أليس ألذ ما يصفونه من هذا القبيل هو المنكوحات والمطعومات وأمور تجرى مجراها وانتم تعلمون أن المتمكن من غلبة ما ولو في أمر خسيس كالشطرنج والنرد قد يعرض له منكوح ومطعوم فيرفضه لما يعتاضه من لذة الغلبة الوهمية وقد يعرض منكوح ومطعوم لطالب العفة والرياسة مع صحة جسمه في صحبة حشمه فينفض اليد منهما مراعاة للحشمة فيكون مراعاة الحشمة آثر وألذ لا محالة هناك من المنكوح والمطعوم. وإذا عرض للكرام من الناس الالتذاذ بإنعام يصيبون موضعه أثروه على الالتذاذ بمشتهى حيواني متنافس فيه وآثروا فيه غيرهم على أنفسهم مسرعين إلى الإنعام به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وكذلك فان كبير النفس يستصغر الجوع والعطش عند المحافظة على ماء الوجه ويستحقر هول الموت ومفاجأة العطب عند مناجزة المبارزين وربما اقتحم الواحد على عدد دهم ممتطيا ظهر الخطر لما يتوقعه من لذة الحمد ولو بعد الموت كأن تلك تصل إليه وهو ميت. فقد بان أن اللذات الباطنة مستعلية على اللذات الحسية وليس ذلك في العاقل فقط بل وفي العجم من الحيوانات فان من كلاب الصيد ما يقنص الصيد على الجوع ثم يمسكه على صاحبه وربما حمله إليه والراضعة من الحيوانات تؤثر ما ولدته على نفسها وربما خاطرت محامية عليه أعظم من مخاطرتها في ذات حمايتها نفسها. فإذا كانت اللذات الباطنة أعظم من الظاهرة وإن لم تكن عقلية فما قولك في العقلية. فيقال له هذا كله حجة عليك في قولك أن استحسان الحسن واستقباح القبيح لا يدركه الإنسان لا بحسه ولا بعقله ولا بوهمه وأنت قد ذكرت أن الإنسان بل الحيوان يلتذ بالحمد والثناء ويلتذ بالغلبة ويلتذ بالإنعام والإحسان والرحمة أعظم من التذاذة بالأكل والشرب ومعلوم أن لذة الأكل والشرب مما يعلم بالحس الظاهر فهذه اللذه الباطنة يعلم بالحس الباطن وبالوهم فكيف تقول أن الحسن والوهم والعقل لا يعلم به حسن الحسن وقبح القبيح وما ذكرته من التذاذ الإنسان بالإيثار وتركه الطعام الشهي مراعاة الحشمة ونحو ذلك إنما هو لكونه يرى ذاك قبيحا وهذا جميلا ويلتذ بفعل الجميل لذة باطنة يحس بها فكيف يقال أن الحسن والقبيح لا ينال بشيء من قوى النفس وإنما يصدق به لمجرد الشهرة فقط من غير موجب حسي ولا وهمي ولا عقلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 النوع الثامن: رد قولهم أن العقل بمجرده لا يقضى في المشهورات بشيء النوع الثامن: أنه قال: "تنبيه أن اللذة هي إدراك ونيل ما لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك والألم هو إدراك ونيل ما لوصول ما هو عند المدرك نقص وشر من حيث هو كذلك وقد يختلف الخير والشر بحسب القياس فالشيء الذي هو عند الشهوة خير هو مثل المطعم الملائم والملمس الملائم والذي هو عند الغضب خير فهو الغلبة والذي عند العقل فتارة وباعتبار فالحق وتارة وباعتبار فالجميل ومن العقليات نيل الشكر ووفور الحمد والمدح والكرامة وبالجملة فان همم ذوي العقول في ذلك مختلفة. وكل خير بالقياس إلى شيء ما فهو الكمال الذي يختص به وينحوه باستعداده الأول وكل لذة فإنها تتعلق بأمرين بكمال خيري وبادراك له من حيث هو كذلك". فيقال: هذا تصريح بان العقل يحب الحق ويلتذ به ويحب الجميل ويلتذ به وان محبة الحمد والشكر والكرم هي من العقليات وهذا صحيح فان للإنسان قوتين قوة علمية فهي تحب الحق وقوة عملية فهي تحب الجميل والجميل هو الحسن والقبيح ضده. وتفريقه بين الحق والجميل هو بحسب اصطلاحه وإلا فاللغة التي جاء بها القرآن وتكلم بها الرسول لفظ الحق منها يتضمن النوعين كقوله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 "كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق" وقوله: "الوتر حق فمن شاء أوتر بركعة ومن شاء أوتر بثلاث ومن شاء أوتر بخمس أو سبع" ومثل هذا موجود في غير موضع من كلامه ومن هذا الباب قوله: "اصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... ... ... ... ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} وقوله: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} ومعلوم أن ما عبد من دونه موجود مخلوق ولكن عبادته باطلة وهو باطل لأن المقصود منه بالعبادة معدوم ولهذا يقول الفقهاء بطلت العبادة وبطل العقد وقد قال تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} والإبطال ضد الإحقاق وقال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وقد بين الله أن الأعمال السيئة القبيحة باطلة في مثل قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} فهذا الثاني مثل ما يصدر عن الجهل البسيط والأول الجهل المركب وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} فهذا مثل إبطال العمل بالمن والأذى وبالرياء والكفر والمقصود أنها لم تبق نافعة بخلاف العمل الحق المحمود فانه نافع ومنه قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} . وبالجملة فما ذكروه تصريح منهم بأن العقل يميز بين الجميل والقبيح وأن العاقل يلتذ بالجميل ويتألم بالقبيح وأن الجميل كمال وخير للقوة العاقلة من حيث هي كذلك وهذا مناقض لقولهم أن العقل بمجرده لا يقضى في أمثال هذا بشيء لا بحسن ولا بقبيح وهكذا تناقضوا في نفس الوهميات كما سنذكره إن شاء الله وسبب ذلك أنهم تارة يقولون بموجب الفطرة فيكون كلامهم صحيحا وتارة يقولون بمقتضى الفطرة الفاسدة التي قد فسدت بالاعتقادات الفاسدة فيقولون باطلا. كون الوجود كله مبنيا على الحق والعدل: وهذه القضايا التي اتفقت الأمم عليها مثل حسن الصدق والعدل وقبح الكذب والظلم داخلة في مسمى الحق كما تقدم في كلام الله ورسوله وكذلك كلام العقلاء قاطبة يسمون هذا كله حقا ويقولون لصاحب الدين: "له عليه حق" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وأعطيه حقه وإذا حكم بينهما بعدل وقسم بإنصاف يقولون هذا حق وإن حكم بخلاف ذلك يقولون هذا ظلم وجور وإذا لم يكن عنده شيء حق بل هو يدعى الباطل فيسمون الصدق حقا والكذب باطلا كما في كلام الله ورسوله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لصاحب الحق مقالا " وفي لفظ: "إن لصاحب الحق اللسان واليد " وقال صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك لما طلب غريمه أي كعب: " دع الشطر" قال: قد فعلت يا رسول الله قال "قم فاقضه ". وذلك لأن الأمور الحسنة تتضمن أمرا موجودا ماضيا ومستقبلا ففيها وجود وكمال الوجود والأمور القبيحة تتضمن عدما ماضيا أو مستقبلا ففيها نفى الوجود أو كمال الوجود فان كان موجودا كان العلم بوجوده حقا مطابقا له والأخبار عن وجوده كذلك وأما الكذب المتضمن نفيه والجهل الذي هو عدم العلم به فهو عدم علم وعدم قول حق بل الكذب من جنس الجهل المركب وأيضا العلم كمال وجود والصدق كمال وجود والجهل والكذب صفة نقص. وكذلك العدل كالتسوية بين المتماثلين والتفصيل بين المختلفين هو تحقيق الأمور على ما هي عليه وتكميلها ولهذا مبنى الوجود كله على العدل حتى في المطاعم والملابس والأبنية ونحو ذلك فالبيت المبنى أن لم تكن حيطانه معتدلة بل كان بعضها أطول من بعض طولا فاحشا أو كان منحنيا غير مستقيم فسد السقف وكذلك الثياب أن لم تكن على مقدار لا بسيها معادلة لهم وإلا لم ينتفعوا بها وكذلك ما يضع من المطاعم والأدوية أن لم أجزاؤه معتدلة في الصفة والقدر في الكم والكيف فسد وكان مضرا لا نافعا فهذا موجود في الأمور المحسوسة أن العدل فيها حسن أي تحصل به المنفعة والمصلحة والظلم فيها قبيح أي تحصل به المضرة والفساد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وعلم الأخلاق والسياسة عندهم وعند سائر العقلاء مبنى على العدل ولهذا جعلوا كمال الإنسان العملى أربعة أمور أصلاح الشهوة والغضب والعدل بينهما وفي العلم بذلك والذي ذكروه هو بعض صفات الكمال التي أرسل الله بها رسله وانزل بها كتبه والاقتصار على ما ذكروه لا تحصل به السعادة التي هي كمال الإنسان ولكنه من الأمور المعتبرة فيها. وقد بسطنا هذه الأمور وبينا قصور فلسفتهم عن حصول السعادة والكمال بها وأنها ابلغ في القصور من دين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل وان ما عندهم إذا أخذ منه الحق وترك الباطل كان جزءا من الأجزاء المحصلة للسعادة وفيه أمور كثيرة باطلة وأمور هي حق لكن ليس مما تحصل به السعادة والكمال. الوجه العاشر: لا حجة على تكذيبهم بأخبار الأنبياء الخارجة عن قياسهم الوجه العاشر: أن الأنبياء والأولياء لهم من علم الوحي والإلهام ما هو خارج عن قياسهم الذي ذكروه بل الفراسة أيضا وأمثالها فان ادخلوا ذلك فيما ذكروه من الحسيات والعقليات لم يمكنهم نفى ما لم يدركوه ولم يبق لهم ضابط وهذا موضع ينبغي تحقيقه. وهم أعني ابن سينا واتباعه جعلوا القضايا من جهة ما يصدق بها المستعملة بين القائسن ومن يجرى مجراهم أربعة أصناف الأول الواجب قبولها التي هي مادة البرهان وهي الأوليات والحسيات والمجربات والحدسيات والمتواترات وربما ضموا إلى ذلك قضايا معها حدودها ولم يذكروا دليلا على هذا الحصر ولهذا اعترف المنتصرون لهم أن هذا التقسيم منتشر غير منحصر يتعذر إقامة دليل عليه. وإذا كان كذلك لم يلزم أن كل ما لم يدخل في قياسهم أن لا يكون معلوما وحينئذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 فلا يكون المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها من الخطأ فانه إذا ذكر له قضايا يمكن العلم بها بغير هذه الطرق لم يمكن وزنها بهذه الآلة وعامة هؤلاء المنطقيون يكذبون بما لم يستدل عليه بقياسهم وهذا في غاية الجهل لا سيما أن كان الذي كذبوا به من أخبار الأنبياء فيكونون ممن قال الله فيه: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} وهذا صار بمنزلة المنجم إذا كذب بعلم الطب أو الطبيب إذا كذب بعلم النجوم والناس أعداء ما جهلوا ومن جهل شيئا عاداه. فإذا كان اشرف العلوم لا سبيل إلى معرفتها بطريقهم لزم أمران أحدهما أنه لا حجة لهم على ما يكذبون به مما ليس في قياسهم دليل عليه والثاني أن ما علموه خسيس بالنسبة إلى ما جهلوه فكيف إذا علم أنه لا يفيد النجاة ولا السعادة الوجه الحادي عشر: بطلان قولهم: "إن البرهاني والخطابي والجدلى هي المذكورة في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} . الوجه الحادي عشر: أنهم يجعلون ما هو حق وعلم يجب تصديقه ليس علما وما هو باطل ليس بعلم علما وذلك أن هؤلاء جعلوا أجناس الأقيسة باعتبار مادتها خمسة البرهان والخطابة والجدل والشعر والسفسطة أصله سوفسطيقا وكذلك سائرها لها أسماء باليونانية ولسائر أجناس المنطق لكنها ألفاظ طويلة مثل قاطيغورياس وانولوطيقا إلى غير ذلك واللغة العربية أوجز وأبين فهي أكمل بيانا وأوجز لفظا. ويجعلون القياس باعتبار صورته قسمين الاقتراني والاستثنائي لتأليفه من الحمليات والشرطيات المتصلة والمنفصلة ويتكلمون قبل القياس في القضايا وأقسامها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 وأحكامها مثل النقيض والعكس المستوى وعكس النقيض فإنها إذا صحت بطل نقيضها وصح عكسها وعكس نقيضها فإذا قيل كل إنسان حيوان فنقيضه باطل وهو أنه ليس شيء من الإنسان حيوان وصح عكسه وهو أن بعض الحيوان إنسان وعكس نقيضه وهو أن ما ليس بحيوان فليس بإنسان فإن التناقض اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق أحدهما كذب الأخرى وإن العكس جعل الموضوع محمولا والمحمول موضوعا مع بقاء الصدق وعكس النقيض والسالبة هو أن يجعل الموضوع محمولا مع جعل الإيجاب سلبا. وأقسامها: الكلية والجزئية والموجبة والسالبة أي العامة والخاصة والمثبتة والنافية وقبل ذلك يتكلمون في مفردات القضية وهي المعاني المفردة مثل الكلام في الكلي والجزئي والذاتي والعرضي وقبل ذلك في الألفاظ الدالة على المعاني كدلالة المطابقة والتضمن والالتزام. والمقصود في هذا كله هو الحد والقياس والقياس هو المطلوب الأعظم والمطلوب الأعظم من أنواع القياس هو القياس البرهاني قالوا والبرهان ما كانت مواده يقينية وهي التي يجب قبولها كما تقدم وأما الخطابي فمواده هي المشهورات التي تصلح لخطاب الجمهور سواء كانت علمية أو ظنية والجدلي هو الذي مواده ما يسلمها المجادل سواء كانت علمية أو ظنية أو مشهورة أو غير مشهورة وهذا أحسن ما تفسر به هذه الأصناف الثلاثة. وكثير منهم يقول بل البرهاني ما كانت مقدماته واجبة القبول كما تقدم والجدلي ما كانت مقدماته مشهورة سواء كانت حقا أو باطلا أو واجبة أو ممتنعة أو ممكنة والخطابي ما كانت مقدماته ظنية كيف كانت فالخطابي هو الذي يفيد الظن مطلقا سواء كانت مقدماته مسلمة أو مشهورة والجدلي ما يكون مقدماته مشهورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 ومنهم من يقول بل البرهاني مؤلف من الواجبات والجدلي من الأكثريات والخطابي من المتساويات والشعري من الممتنعات وهذا ليس بشيء فان الشعري ما تشعر به النفس فيقصد به تنفيرها وترغيبها وترهيبها وقد يكون صدقا وقد يكون كذبا ولكن المقصود بالشعريات تحريك النفس لا لإفادتها علما. وابن سينا رد هذا القول فقال: "ولا يلفت إلى ما يقال من أن البرهانيات واجبة والجدلية ممكنة أكثرية والخطابية ممكنة متساوية لا مثل فيها ولا قدرة والشعرية كاذبة ممتنعة فليس الاعتبار بذلك ولا أشار إليه صاحب المنطق لكنه مع رده لهذا ذكر القول الثاني فقال القياسات البرهانية مؤلفة من المقدمات الواجب قبولها والجدلية مؤلفة من المشهورات والتقريرية ما كانت واجبة أو ممكنة أو ممتنعة والخطابية مؤلفة من المظنونات والمقبولات التي ليست بمشهورة وما يشبهها كيف كانت ولو ممتنعة والشعرية مؤلفة من المقدمات المخيلة من حيث يشعر من يخيلها كانت صادقة أو كاذبة وأما السوفسطائية فهي التي تستعمل الشبهة ويشاركها في ذلك الممتحنة المجربة على سبيل التغليط فان كان التشبيه بالواجبات ونحو استعمالها سمي صاحبها سوفسطائيا وان كان بالمشهورات سمي صاحبها مشاغبا ومماريا والمشاغب بإزاء الجدلي والسوفسطائي بإزاء الحليم". وهذا الذي ذكره في مواد الجدلي والخطابي ضعيف أيضا بل مواد الجدلي هي المسلمات التي يسلمها المجادل سواء كانت مشهورة أو لم تكن وسواء كانت حقا أو باطلا ومواد الخطابي هي المشهورات ونحوها التي يخاطب بها الجمهور وكل من ذلك يكون برهانيا وغير برهاني ويكون صادقا وكاذبا هذا مراد قدمائهم وهو أشبه باللفظ والتقسيم. وأما كون الخطابيات هي الظنيات مطلقا فهذا خطا عند القوم فانه إذا كانت الجدليات قد تكون علمية فالخطابيات التي هي اشرف منها أولى أنها قد تكون علمية فان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 الخطاب ارفع من الجدل عندهم والتفسير الأول تفسير محققيهم المتقدمين فانه ليس من شرط الخطابي ولا الجدلي أن لا يكون علميا كما أنه ليس من شرط البرهاني أن لا يخاطب به الجمهور وان لا يجادل به المنازع بل البرهاني إذا كان مشهورا صلح للبرهان والخطابة والجدلي إذا كان برهانيا صلح للبرهان والجدل وإذا كانت القضية مبرهنة وهي مشهورة مسلمة من المناظر صلحت للبرهان والخطابة والجدل بخلاف الشعري فان المقصود به تحريك النفس ليس المراد به أن يفيد لا علما ولا ظنا فلهذا لم يدخل مع الثلاثة وأيضا فالخطابيات يراد بها خطاب الجمهور وهذا إنما يكون بالقضايا المشهورة عند الجمهور وان كانت ظنية وإذا كانت علمية فهو أجود فليس من شرطها أن لا تكون علمية وأما الجدلي فإنما هو خطاب لناس معينين فإذا سلموا تلك المقدمات حصل مقصود الجدلي وان لم تكن مشهورة. وأما السوفسطائي فهو المشبه الملبس وهو الباطل الذي اخرج في صورة الحق والمراد بيان فساده وإلا فليس لأحد أن يتكلم به فانه كذب في صورة صدق وباطل في صورة حق لكن المقصود بذكره تعريفه وامتحان الأذهان بحل شبه السوفسطائية. ثم قد يقول من يقول من حذاقهم ومن يروم أن يقرن بين طريقهم وطريق الأنبياء أن الأقسام الثلاثة البرهان والجدل والخطابة هي المذكورة في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . كلام أهل الفلسفة في الأنبياء عليهم السلام: ثم يقولون أن ما جاءت به الأنبياء فهو من جنس الخطابة التي قصد بها خطاب الجمهور لم يقصد به تعريف الحقائق هذا في الأمور العملية فان مبادىء الأمور العلمية قد لا يجعلونها من البرهانيات بل من المشهورات كالعلم بحسن العدل وقبح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 الظلم وأما العلميات فيقولون أن الأنبياء لم يذكروا حقائق الأمور في معرفة الله والمعاد وإنما اخبروا الجمهور بما يتخيلونه في ذلك لينتفعوا به في إقامة مصلحة دنياهم لا ليعرفوا بذلك الحق ويقولون أنهم أرادوا بخطابهم للناس أن يعتقدوا الأمور على خلاف ما هي عليه وهي من جنس الكذب لمصلحة الناس وهم يعلمون هذه المرتبة ثم النبي عندهم هل يعرف الأمور العلمية فيه نزاع بينهم. وهم يعظمون محمدا صلى الله عليه وسلم يقولون لم يأت إلى العالم ناموس أفضل من ناموسه ويفضله كثير منهم على الفيلسوف ومنهم من يفضل الفيلسوف عليه وهم حائرون في أمور الأنبياء ولهذا كلامهم في الأنبياء في غاية الاضطراب ولم ينقلوا عن أرسطو واتباعه فيهم شيئا بل ذكروا من كلام أفلاطون وغيره في النواميس ما جعلوا به واضعي النواميس من اليونان وغيرهم من جنس الأنبياء الذين ذكرهم الله في القران ونحن نعلم أن الرسل جميعهم دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} والنواميس التي يذكرونها فيها شرك لا يأمر به أحد من أنبياء الله فعلم أن كل من ذكروه من واضعي النواميس المخالفة لما اتفقت عليه الرسل فليس بني ولا متبع لنبي بل هو من جنس واضعي النواميس من ملوك الكفار ووزرائهم وعقلائهم وعلمائهم وعبادهم. وهم وان عظموا الأنبياء ونواميسهم فلأجل أنهم أقاموا قانون العدل الذي لا تقوم مصلحة العالم إلا به ويوجبون طاعة الأنبياء والعمل بنواميسهم وهي الشرائع التي جاؤوا بها ولكنهم لم يأتوا بالأمور العلمية بل بالعمليات النافعة والعلميات عندهم أما أن تكون التي علمها وما أمكنه إظهارها بل اظهر ما يخالف الحق عنده لمصلحة الجمهور وأما أنه لم يعلمها وإلا فهم يجوزون للرجل أن يتمسك بأي ناموس كان ولا يوجبون اتباع نبي بعينه لا محمد ولا غيره إلا من جهة مصلحة دنياهم بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 لا لأنه يعذب في الآخرة على مخالفة شريعة محمد أو غيره. ولهذا لما ظهرت الترك الكفار وأراد من أراد منهم أن يدخل في الإسلام قبل ظهور الإسلام عليهم أشار عليه بعض من كان معه من الفلاسفة بأن لا يفعل فان ذاك لسانه عربي ولا يحتاجون إلى شريعته ونحو هذا الكلام يبين أن الشريعة التي جاء بها محمد لا يحتاج إليها مثلكم وأمثالكم وقد قيل أن الذي أراد الدخول في الإسلام وقال له منجمه هذا هو هولاكو ولما قدم هولاكو الشام وتقلد القضاء من جهته بعض قضاة الشام الذين كانوا يعظمون صوفية الفلاسفة كابن عربي ونحوه ودخل إلى البلد أخذ يثني على ملك الكفار ويعظمه ويذكر ما يذكر من فضائله بزعمه فقال له بعض الحاضرين يا ليته كان مسلما فقال القاضي وأي حاجة لهذا إلى الإسلام سواء كان مسلما أو لم يكن وهذا بناء على هذا الأصل. فالنبي عندهم يشبه من بعض الوجوه أئمة المذاهب عند المتكلمين كأبي حنيفة ومالك والشافعي واحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي وداود بن علي وغير هؤلاء من أئمة الفقهاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 فان المتكلمين يعظمون هؤلاء في علم الشريعة العملية والقضايا الفقهية وأما في الكلام وأصول الدين مثل مسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوات والمعاد فلا يلتزمون موافقة هؤلاء بل قد يجعلون شيوخهم المتكلمين أفضل منهم في ذلك وقد يقولون أنهم وان علموا ذلك لكن لم يبسطوا القول فيه ولم يبينوه كما فعل ذلك شيوخ المتكلمين. فالنبي عند هؤلاء المتفلسفة يشبه المجتهد المتبوع عند المتكلمين ولهذا يقول من يقرنهم بالأنبياء كأصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم اتفقت الأنبياء والحكماء أو يقولون الأنبياء والفلاسفة كما يقول الأصوليون اتفق الفقهاء والمتكلمون وهذا قول الفقهاء والمتكلمين ونحو ذلك والذين يعظمونهم يريدون التوفيق بين ما يقولونه وبين ما جاءت به الأنبياء كما تقدم أنهم يجعلون الأقيسة الثلاثة هي المذكورة في صورة النحل ويجعلون الملائكة هي هي العقول والنفوس ومنهم طائفة ادعت كثرة الملائكة كأبي البركات صاحب المعتبر وهؤلاء أقرب عندهم فان الأنبياء صرحوا بكثرة الملائكة وقد يجعلون الجن والشياطين هي قوى النفوس الصالحة والفلسفة وقد بسط القول عليهم في غير هذا الموضع وبين أن الملائكة التي أخبرت بها الرسل من ابعد الأشياء عما يدعونه من العقول والنفوس وان الجن والشياطين أحياء ناطقون موجودون ليسوا أعراضا قائمة بغيرها. الكلام على جعلهم الأقيسة الثلاثة من القران: والمقصود هنا كلامهم في المنطق فنقول قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ليس المراد به ما يذكونه من القياس البرهاني والخطابي والجدلي فان الأقيسة التي هي عندهم برهانية قد تقدم بعض وصفها وأنها لا تفيد قط إلا أمرا كليا لا يدل على شيء معين وتلك الكليات غالبها إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان والذي جاء به الرسول أمران خبر وأمر. فأما الخبر فانه اخبر عن الله بأسمائه وصفاته المعينة وهذا أمر يعترفون هم أنه لا يعرف ببرهانهم وما اخبر به الرسول عن ربه عز وجل فهم من ابعد الناس عن معرفته وكفار اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أقرب إلى الرسول فيه منهم إليه وكذلك ما اخبر به عن الملائكة والعرش والكرسي والحنة والنار ليس في ذلك شيء يمكن معرفته بقياسهم وليس المراد بالعرش الفلك التاسع ولا بالكرسي الثامن كما قد بسط في موضع آخر ولو قدر أنه كذلك فليس هذا مما يعلم بالقياس المنطقي. والرسول اخبر عن أمور معينة مثل نوح وخطابه لقومه وأحواله المعينة ومثل إبراهيم وأحواله المعينة ومثل موسى وعيسى وأحوالهما المعينة وليس شيء من ذلك يمكن معرفته بقياسهم لا البرهاني ولا غيره فان أقيستهم لا تفيد إلا أمورا كلية وهذه أمور خاصة. وكذلك اخبر عما كان وعما سيكون بعده من الحوادث المعينة حتى اخبر عن التتر بما ثبت في الصحيحين عنه من غير وجه أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين ذلف الأنوف حمر الخدود ينتعلون الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة" فهل يتصور أن قياسهم وبرهانهم يدل على ادمي معين أو امة معينة فضلا عن أن يوصف بهذه الصفات قبل ظهورهم بنحو سبعمائة سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وكذلك قوله الثابت في الصحيح: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من ارض الحجاز تضيء بها أعناق الإبل ببصرى" وهذه النار قد خرجت قبل مجيء أكثر الكفار إلى بغداد سنة خمس وخمسين وستمائة وقد تواتر عن أهل بصرى أنهم رأوا ببصرى أعناق الإبل من ضوء تلك النار وخبر هذه النار مشهور متواتر بعد أن خرجت بجبال الحجاز وكانت تحرق الحجر ولا تنضج اللحم وفزع لها الناس فزعا شديدا فهل يدل قياس برهاني أو غير برهاني على هذا الأمر المعين ويخبر به المخبر قبل حدوثه بأكثر من ستمائة وخمسين سنة فان هذا اخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أيام النبوة وأبو هريرة إنما اسلم عام خيبر سنة سبع من الهجرة وصحب النبي صلى الله عليه وسلم أقل من أربع سنين فأخباره كلها متأخرة. وكذلك سائر ما اخبر به من الأمور الماضية والمستقبلة والأمور الحاضرة مما يعلمون هم أنه يمتنع أن يعرف ذلك بالقياس البرهاني وغيره فان ذاك إنما يدل على أمر مطلق كلي لا على شيء معين. وأما العمليات التي أمر بها فهم وان ادعوا أن ما عندهم من الحكمة الخلفية والمنزلة والمدنية تشبه ما جاء به من الشريعة العملية فهذا من أعظم البهتان وذاك أن حكمتهم العملية إنما مبناها على أنهم عرفوا أن النفس لها قوة الشهوة والغضب الشهوة لجلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 الملائم والغضب لدفع المنافي فجعلوا الحكمة الخلقية مبناها على ذلك فقالوا ينبغي تهذيب الشهوة والغضب لكون كل منهما بين الإفراط والتفريط وهذا يسمى عفة وهذا يسمى شجاعة والتعديل بينهما عدلا وهذه الثلث تطلب لتكميل النفس بالحكمة النظرية العلمية فصار الكمال عندهم هذه الأمور العفة والشجاعة والعدل والعلم. وقد تكلم في هذا طوائف من الداخلين في الإسلام واستشهدوا على ذلك بما وجدوه في القران والحديث وكلام السلف في مدح هذه الأمور والذين صنفوا في الأخلاق والأعمال على طريق هؤلاء مثل كتاب موازين الأعمال لأبي حامد ومثل أصحاب رسائل إخوان الصفا ومثل كتب محمد بن يوسف العامري وغيره يبنون كلامهم على هذا الأصل. لكن غلطوا فان مراد الله ورسوله بالعلم الذي يمدحه ليس هو العلم النظري الذي هو عند فلاسفة اليونان بل الحكمة: "اسم يجمع العلم والعمل به في كل امة" قال ابن قتيبة وغيره: "الحكمة عند العرب العلم والعمل به" وسئل مالك عن الحكمة؟ فقال: "هو معرفة الدين والعمل به" وكل امة لها حكمة بحسب علمها ودينها فالهند لهم حكمة مع أنهم مشركون كفار والعرب قبل الإسلام كانت لهم حكمة وكان فيهم حكماء العرب مع كونهم مشركين يعبدون الأوثان فكذلك اليونان لهم حكمة كحكمتهم. وحكماء كل طائفة هم أفضل تلك الطائفة علما وعملا لكن لا يلزم من ذلك أن يكونوا ممدوحين عند الله وعند رسوله فان الممدوح عند الله وعند رسوله لا يكون قط إلا من المؤمنين المسلمين الذين امنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وعبدوا الله وحده لم يشركوا به شيئا ولم يكذبوا نبيا من أنبيائه ولا كتابا من كتبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 ولا يثنى الله قط إلا على هؤلاء كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} . وقد ذكر الله عن الأنبياء وأتباعهم أنهم كانوا مسلمين مؤمنين من نوح إلى الحواريين وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وهذا عام في الأولين والآخرين وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} وقوله تعالى: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي اخلص قصده وعمله لله وهو محسن يفعل الصالحات وهذا هو الإسلام وهو أن يكون عمله عملا صالحا ويعمله لله تعالى وهذا هو عبادة الله وحده لا شريك له وبهذا بعث الله الرسل جميعهم. سبب نزول قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الآية: وكذلك لما ذكر الملل الأربعة الذين فيهم من هو محمود سعيد قال تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وروى الناس كابن أبي حاتم وغيره بالأسانيد الثابتة عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قال سلمان: "سألت النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم فذكر من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً} وكذلك ذكر السدي عن أشياخه في تفسيره المعروف قال: "نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه فأخبره فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ويشهدون انك ستبعث نبيا فأنزل الله هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فقال: "كان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وبسنة موسى حتى جاء عيسى فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة واخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكا وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكا" قال ابن أبي حاتم: "وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا". و {وَالَّذِينَ هَادُوا} أولا: المراد بهم أمة محمد. وأما ما يذكره طائفة من المفسرين في قوله: {وَالَّذِينَ هَادُوا} أن فيهم أقوالا أحدها: أنهم هم الذين آمنوا بعيسى قبل أن يبعث محمد قاله ابن عباس والثاني: أنهم الذين آمنوا بموسى وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى فآمنوا به وعملوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 بشريعته لما أن جاء محمد وقالوا هذا قول السدي عن أشياخه والثالث: أنهم طلاب الدين كحبيب النجار وقس بن ساعدة وسلمان الفارسي وأبي ذر وبحيرا الراهب آمنو بالنبي قبل مبعثه فمنهم من أدركه وتابعه ومنهم من لم يدركه والخامس أنهم المنافقون والسادس أنهم الذين آمنوا بالأنبياء الماضين والكتب المتقدمة فلا يؤمنوا بك ولا بكتابك. فهذه الأقوال ذكرها الثعلبي وأمثاله ولم يسموا قائلها وذكرها أبو الفرج ابن لجوزي إلا السادس وسمي قائل الأولين وذكر أنهم المنافقون عن الثوري وهذه الأقوال كلها مبتدعة لم يقل الصحابة والتابعون لهم بإحسان شيئا منها وما نقل عن السدي غلط عليه وقد ذكرنا لفظه الموجود في تفسيره المنقول بالإسناد الثابت في تفاسير الذين يذكرون الأسانيد كتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم وتفسير أبي بكر بن المنذر وتفسير محمد بن جرير الطبري وأمثال هذه التفاسير وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 نقل عن ابن عباس لا يثبت. وهي أقوال باطلة فان من كان متمسكا بشريعة عيسى قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم من غير تبديل فهم النصارى الذين أثنى الله عليهم وكذلك من تمسك بشريعة موسى قبل النسخ والتبديل فهم اليهود الذين أثنى الله عليهم وطلاب الدين كحبيب النجار كان على دين المسيح وكذلك بحيرا الراهب وغيره وكل من تقدم من الأنبياء وأمتهم يؤمنون بمحمد فليس هذا من خصائص هذا النفر القليل. الكلام على أخذ الله ميثاق النبيين على الإيمان بمحمد: قال تعالى: {وَإِذْ أخذ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} وعن علي بن أبى طالب أنه قال: "لم يبعث الله نبيا ادم ومن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد وأمره وأخذ العهد على قومه ليؤمنن به ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه" وكذلك عن ابن عباس أنه قال: "ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته أن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه". وقال بعض العلماء: "أخذ الميثاق على النبيين وأمتهم فاجتزأ بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التابع وحقيقة الأمر أن الميثاق إذا أخذ على الأنبياء دخل فيه غيرهم لكونه تابعا لهم ولأنه إذا وجب على الأنبياء الإيمان به ونصره فوجوب ذلك على من اتبعهم أولى وأحرى ولهذا ذكر عن الأنبياء فقط" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 وقد قيل أن المراد بأخذ الميثاق على الأنبياء هو أخذه على قومهم فإنهم هم الذين يدركون النبي الآتي وقالوا هي في قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب وزعم بعضهم أن هذه القراءة هي الصواب والأولى غلط من الكتاب وهذا قول باطل ولولا أنه ذكر لما حكيته فإن ما بين لوحي المصحف متواتر والقرآن صريح في أن الله أخذ الميثاق على النبيين فلا يلتفت إلى من قال إنما أخذ على أممهم. لكن الأنبياء أمروا أن يلتزموا هذا الميثاق مع علم الله وعلم من اعلمه منهم أنهم لا يدركونه كما نؤمن نحن بما تقدمنا من الأنبياء والكتب وإن لم ندركهم وأمر الجميع بتقدير إدراكه أن يؤمنوا به وينصروه كما أن النبي صلى الله عليه وسلم اخبرنا بنزول عيسى ابن مريم من السماء على المنارة البيضاء شرقي دمشق واخبر أنه يقتل المسيح الدجال فنحن مأمورون بالإيمان بالمسيح ابن مريم وطاعته أن أدركناه وإن كان لا يأمرنا إلا بشريعة محمد ومأمورون بتكذيب المسيح الدجال وأكثر المسلمين لا يدركون ذلك بل إنما يدركه بعضهم. قال طاووس: "أخذ الله ميثاق النبيين بعضهم على بعض {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} فقال: "هذه الآية لأهل الكتاب أخذ الله ميثاقهم أن يؤمنوا بمحمد ويصدقوه" يعني بذلك أن من أدرك نبوة محمد منهم يعنى هم الذين أدركهم العمل بالآية وإلا فذكر أن الميثاق أخذ على النبيين بعضهم على بعض لكن ذلك عهد وإقرار مع العلم بأنهم لا يدركونه وكذلك عن السدي "لم يبعث الله نبيا قط من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه ليؤمنن بمحمد ولينصرنه إن خرج وهو حي وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به وينصروه إن خرج وهم أحياء" وقال محمد بن اسحق: "ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى أنبيائهم الميثاق بتصديقه إذا هو جاءهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وإقرارهم به على أنفسهم" فقال: {وَإِذْ أخذ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ} الاية. وقوله: {رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} متناول لمحمد بالاتفاق فان رسالته كانت عامة وقد قال الله له: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} فكتابه مهيمن على ما بين يديه من كتب السماء وقد أوجب الله على أهل الكتابين وسائر أهل الأرض الإيمان به وهذا مذكور في غير موضع من القران والحديث وهو مع أنه إجماع من المسلمين فهو معلوم بالاضطرار من دينه متواتر عنه كما تواتر عنه غزوه اليهود والنصارى. وهل يدخل في ذلك غيره من الرسل؟ فيه قولان قيل: أن الله أخذ ميثاق الأول من الأنبياء أن يصدق الثاني وينصره وأمره أن يأخذ الميثاق على قومه بذلك وقيل بل هذا الرسول هو محمد خاصة وهذا قول الجمهور وهو الصواب لأن الأنبياء قبله إنما كانت دعوتهم خاصة لم يكونوا مبعوثين إلى كل أحد فإذا لم يدخل في دعوته جميع أهل زمنهم ومن بعدهم كيف يدخل فيها من أدركهم من الأنبياء قبلهم والله تعالى قد بعث في كل قوم نبيا كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وكذلك قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} والنصرة مع الإيمان به هو الجهاد ونوح وهود ونحوهم من الرسل لم يؤمروا بجهاد ولكن موسى وبنوا إسرائيل أمروا بالجهاد. وقوله: (لما) هذه اللام تسمى الموطئة للقسم فان الكلام إذا كان فيه شرط متقدم وقسم كان جواب القسم يسد مسد جواب الشرط والقسم جميعا وأدخلت اللام الموطئة على أداة الشرط وما هنا شرطية واللام في قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} هي جواب القسم ونظير اللام الموطئة في قوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَك} ونظير هذه الآية قوله: {وَلَئِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} وقوله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} . ولهذا قال النحاة كالمبرد والزجاج: "هذه لام التحقيق دخلت على ما الجزاء أي الشرطية كما تدخل على أن ومعناه لمهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به واللام في لتؤمنن به جواب الجزاء" وكذلك قال الفراء: "من فتح اللام جعلها لاما زائدة بمنزلة اليمين إذا وقعت على جزاء صرف بعد ذلك الجزاء على جهة فعل وحرف جوابه كجواب اليمين والمعنى أي كتاب أتيتكم ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به وجواب الجزاء في قوله: (لتؤمن به) ومعنى قولهم جواب الجزاء في هذا أي جواب القسم تضمن أيضا جواب الجزاء فهو جواب لهما في المعنى". والمقصود أن ما عليه جميع الأمم من حكمة علمية وعملية إذا لم يكونوا ممن يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا فان الله لا يمدحهم ولا يثني عليهم وهؤلاء الفلاسفة أرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأوثان ويبنون الهياكل للكواكب فليست حكمتهم من الحكمة التي أثنى الله عليها وعلى أهلها ومن كان من الفلاسفة الصابئة المشركين فهو من جنسهم. الصابئة وصواب التحقيق عنهم: وأما الصابئون الحنفاء فهم في الصابئين بمنزلة من كان متبعا لشريعة التوراة والإنجيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 قبل النسخ والتبديل من اليهود والنصارى وهؤلاء ممن حمدهم الله وأثنى عليهم وبعض الناس يقول أن بقراط كان من هؤلاء. ووهب بن منبه من اعلم الناس بأخبار الأمم المتقدمة وقد روى ابن أبي حاتم بالإسناد الثابت أنه قيل لوهب بن منبه ما الصابئون؟ قال: "الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا" وكذلك روى عن الثوري عن ليث عن مجاهد قال: "هم قوم من المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين" قال: "وروى عن علماء نحو ذلك" أي ليس لهم شريعة مأخوذة عن نبي ولم يرد بذلك أنهم كفار فان الله قد أثنى على بعضهم فهم متمسكون بالإسلام المشترك وهو عبادة الله وحده وإيجاب الصدق والعدل وتحريم الفواحش والظلم ونحو ذلك مما اتفقت الرسل على إيجابه وتحريمه فان هذا دخل في الإسلام العام الذي لا يقبل الله دينا غيره وكذلك قال عبد الرحمن بن زيد: "هم قد يقولون لا إله إلا الله فقط وليس لهم كتاب ولا نبي". وهذا كما كانت العرب عليه قبل أن يبتدع عمرو بن لحي الشرك وعبادة الأوثان فإنهم كانوا حنفاء يعبدون الله وحده ويعظمون إبراهيم وإسماعيل ولم يكن لهم كتاب يقرؤونه ويتبعون شريعته وكان موسى قد بعث إلى بني إسرائيل بشريعة التوراة وحج البيت العتيق ولم يبعث إلى العرب لا عدنان ولد إسماعيل ولا قحطان والناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 متفقون على أن عدنان ولد اسماعيل وربيعة ومضر وأما قحطان فقال بعضهم: "هم أيضا من ولد إسماعيل" والصحيح أنهم كانوا موجودين قبل إبراهيم بأرض اليمن ومنهم جرهم الذين سكنوا مكة ومنهم تعلم إسماعيل العربية. وأما من قال من السلف: "الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور" كما نقل ذلك عن أبي العالية والضحاك والسدي وجابر بن يزيد والربيع ابن انس فهؤلاء أرادوا من دخل في دين أهل الكتاب منهم وكذلك من قال: "هم صنف من النصارى" كما يروى عن ابن عباس أنه قال: "هم صنف من النصارى وهم السائحون المحلقة أوساط رؤؤسهم فهؤلاء عرفوا منهم من دخل في أهل الكتاب". ومن قال: "أنهم يعبدون الملائكة" كما يروي عن الحسن قال: "هم قوم يعبدون الملائكة" وعن أبي جعفر الرازي قال: "بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ويقرؤون الزبور ويصلون" فهذا أيضا صحيح وهم صنف منهم وهؤلاء كثير من الصابئين يعبدون الروحانيات العلوية لكن هؤلاء من المشركين منهم ليسوا من الحنفاء. وكذلك اختلاف الفقهاء في الصابئين هل هم من أهل الكتاب أم لا؟ ويذكر فيه عن احمد روايتان وكذلك قولان للشافعي والذي عليه محققوا الفقهاء أنهم صنفان فمن دان بدين أهل الكتاب كان منهم وإلا فلا. وقال أبو الزناد: "الصابئون قوم مما يلي العراق وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات فهؤلاء الصابئة الذين أدركهم الإسلام وكانوا بأرض حران والذين خبروهم عرفوا أنهم ليسوا من أهل الكتاب بل مشركون يعبدون الكواكب ولا يحل أكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 ذبائحهم ولا نكاح نسائهم وان اظهروا الإيمان بالنبيين فهو من جنس إيمان الفلاسفة بالنبيين والفلاسفة الصابئون من هؤلاء. وأما قبول الجزية منهم فهو على خلاف المشهور فمن قبلها من غير أهل الكتاب كما يقبل من المجوس قبلها من هؤلاء وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة واحمد في إحدى الروايتين ومن لم يقبلها إلا من أهل الكتاب لم يقبلها من هؤلاء كما إذا لم يدخلوا في دين أهل الكتاب كما هو قول الشافعي واحمد في الرواية الأخرى عنه وكان أبو سعيد الإصطخري أفتى بأن لا تقبل منهم الجزية ونازعه في ذلك جماعة من الفقهاء. كون إيمان الفلاسفة كإيمان المنافقين: وهذا كما أن كثيرا من الفلاسفة وغيرهم من الزنادقة يدخلون في دين المسلمين واليهود والنصارى من الشرائع الظاهرة وان لم يكونوا في الباطن مقرين بحقيقة ما جاءت به الأنبياء كالمنافقين في المسلمين يجري عليهم أحكام الإسلام في الظاهر وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار. فان قيل هؤلاء الفلاسفة يؤمنون بالله واليوم الآخر فإنهم يقرون بواجب الوجود وبمعاد الأرواح قيل النصارى خير منهم ومن أسلافهم وهم مع هذا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 الحق فلا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يعملون صالحا فكيف هؤلاء؟ قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} مع أن النصارى يقرون بمعاد الأبدان لكن لما أنكروا ما اخبر به الرسول من الأكل والشرب ونحو ذلك صاروا ممن لا يؤمن بالله واليوم الآخر وهؤلاء الفلاسفة لا يقرون بمعاد الأبدان. ولهم في معاد النفوس ثلاثة أقوال والثلاثة تذكر عن الفارابي نفسه أنه كان يقول تارة هذا وتارة هذا وتارة هذا منهم من يقر بمعاد الأنفس مطلقا ومنهم من يقول إنما تعاد النفوس العالمة دون الجاهلة فان العالمة تبقى بالعلم فان النفس تبقى ببقاء معلومها والجاهلة التي ليس لها معلوم باق تفسد وهذا قول طائفة من أعيانهم ولهم فيه مصنفات ومنهم من ينكر معاد الأنفس كما ينكر معاد الأبدان وهو قول طوائف منهم وكثير منهم يقول بالتناسخ. اليوم الآخر كما هو مذكور في القران: وليس شيء من ذلك إيمانا باليوم الآخر فان اليوم الآخر هو الذي ذكره الله في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وقوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} وقوله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} إلى قوله: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 لِلْمُكَذِّبِينَ هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} وقوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يوم يقوم الناس لرب العالمين يقوم احدهم في العرق إلى أنصاف أذنيه". وقوله: {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} وقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} وقوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} وقوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 إلى قوله: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} وقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} وقوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} وقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} ومثل هذا في القران كثير. فهولاء لا يؤمنون باليوم الآخر فلم يدخلوا في من مدح من الصابئين. بيان بعض ضلالات من معتقدات الفلاسفة: وأيضا لأنبياء وأتباعهم بل وجماهير الأمم متفقون على أن الله خلق السموات والأرض فهي محدثة بعد أن لم تكن وكذلك أساطين الفلاسفة والقول بقدمها هو عن أرسطو وشيعته ومن وافقهم فكيف يجوز أن يقال أن الحكمة التي أمر الله نبيه أن يدعو الخلق بها هو هذا. وأيضا فحكمتهم غايتها تعديل أخلاق النفس لتستعد للعلم الذي هو كمالها وهذا من أقل ما جاء به الرسل ومن توابعه والمقصود بالعبادات التي أمرت بها الرسل تكميل النفس بمحبة الله تعالى وتألهه فإن النفس لها قوتان علمية وعملية وهؤلاء جعلوا كمالها في العلم فقط ثم ظنوا ذلك هو العلم بالوجود المطلق حتى يصير الإنسان عالما معقولا موازيا للعالم الموجود ومنهم من يقول النفس إنما تبقى ببقاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 معلومها وهم يعتقدون بقاء الأفلاك والعقول والنفوس فجعلوا كمالها في العلم بالموجودات التي اعتقدوا بقاءها ومن تقرب إلى الإسلام منهم يقول بل كمالها في العلم بواجب الوجود وهذا يشبه قول الجهم بن صفوان ومن وافقه في أن الإيمان مجرد العلم بالله. وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع في جواب المسألة الصفدية وغير ذلك وبينا أنهم غلطوا من وجوه منها ظنهم أن كمال النفس في مجرد العلم ومنها ظنهم أن هذا الكمال يحصل بمعرفة أمور كلية لا موجودات معينة ومنها ظنهم أن ما عندهم في الإلهيات علم وأكثر جهل ولهذا كان الغاية عندهم التشبه بالفلك. ولهذا يصنف من يصنف منهم في الصلاة فليس المقصود منها عبادة الله ولا دعاؤه فانه لا يعلم الجزئيات عندهم ولا يميز بين المصلي وغير المصلي بل مقصود الصلاة هو العلم بالوجود المطلق الذي يزعمون أنه كمال النفس والصلاة الظاهرة يطلب منها سياسة البدن ورياضته وإنما قالوا أن يسأل القمر ويستعيذه فانه يدبر هذا العالم بواسطة العقل الفعال فهو عندهم الرب الذي يسأل ويستعاذ به ومنه فاضت العلوم على الأنبياء وغيرهم. وربما قالو المقصود بالصلاة تذكر الشرع الذي شرعه الشارع ليحفظ به القانون الذي شرعه لهم لمصلحة الدنيا كما يذكر ذلك ابن سينا وغيره وذلك أنهم لا يثبتون أن الله يسمع كلام العباد ولا يرى أفعالهم ولا يجيب دعاءهم بل الدعاء عندهم هو تصرف النفس في هيولي العالم فيحصل لها بما تهتم به من تجردها عن البدن نوع تجريد حتى تتصرف في هيولي العالم وأما الرب تعالى فليس هو عندهم لا بكل شيء عليم ولا على كل شيء قدير ولا يعلم لا السر ولا النجوى ولا غير ذلك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 أحوال العباد ولا له ملائكة كثير ينزلون ويصعدون إليه عندهم ولا يصعد إليه لا الكلم الطيب ولا العمل الصالح وغاية الأنفس عندهم أن تكون متصلة بالعقل الفعال الذي هو ربها عندهم لا تصعد إلى الله. وإذا قالوا: "سعادة النفس أن تشهد الله وتراه" فحقيقة ذلك عندهم هو العلم بما تصورته من الوجود المطلق أو من وجود واجب الوجود وصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها إذا تكلم في رؤية الحق ورؤية وجهه في كتابه الأحياء أو غيره قال: "هذا يعود مراده وهو معرفة النفس الناطقة بربها" هذه هي الرؤية عندهم كما قد بين ذلك في غير موضع لأن الأصول التي اعتقدوها من أقوال النفاة المعلطلة ألجأتهم إلى هذه العقائد الفاسدة كما قد بسط في موضعه فكيف تكون الحكمة العلمية التي أمر الله بها ورسوله موافقة لحكمة هؤلاء. ضلالهم في نفي علم الله وغيره من الصفات ورده: ونحن قد بسطنا الكلام على فساد قولهم في العلم وغيره من الصفات وبينا أصولهم التي أوجبت أن قالوا مثل هذه الأقوال التي هي من أعظم الفرية على الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وبينا فسادها ولهذا لما تفطن أبو البركات لفساد قول أرسطو أفرد مقالة في العلم وتكلم على بعض ما قاله في المعتبر وانتصف منه بعض الانتصاف مع أن الأمر أعظم مما ذكره أبو البركات وأعظم عمدهم في نفيه أنه يستلزم التكثر والتغير. فالتكثر يريدون به إثبات الصفات ثم ابن سينا وغيره اثبتوا علمه بنفسه وبلوازم نفسه معينا كالأفلاك كليا كغيرها فيلزمهم ما فروا منه من تعدد الصفات وهم يقولون أنه عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق ولذيذ وملتذ ولذة وربما قالوا مبتهج وهي معان متعددة ثم يكابرون فيقولون العلم هو الحب وهو القدرة وهو اللذة فيجعلون كل صفة هي الصفة الأخرى ويزيدون مكابرة أخرى فيقولون العلم هو العالم والحب هو المحب واللذة هو الملتذ فيجعلون الصفات عين الموصوف ولما رأى الطوسي شارح الإشارات ما لزم صاحبها سلك طريقة أخرى جعل فيها العلم بالمعقولات هو نفس المعقولات مع أنهم ليس لهم قط حجة على نفي الصفات إلا ما تخيلوه من أن هذا تركيب وقد بينا فساده من وجوه كثيرة. أما التغير فقالوا العلم بالمتغيرات يستلزم أن يكون علمه بأن الشيء سيكون غير علمه بأن قد كان فيلزم أن يكون محلا للحوادث وهم ليس عندهم على نفي هذه اللوازم حجة أصلا لا بينة ولا شبهة وإنما نفوه لنفيهم الصفات لا لأمر يختص بذلك بخلاف من نفي ذلك من الكلابية ونحوهم فإنهم لما اعتقدوا أن القديم لا تقوم به الحوادث قالوا لأنها لو قامت به لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث وقد بين أتباعهم كالرازي والآمدي وغيرهم فساد المقدمة الأولى التي يخالفهم فيها جمهور العقلاء ويقولون بل القابل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده أما المقدمة الثانية فهي حجة المتكلمين الجهمية والقدرية ومن وافقهم من أهل الكلام على إثبات حدوث الأجسام باستلزامها للحوادث وقالوا ما لا يخلو عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 الحوادث أو ما لا يسبقها فهو حادث لبطلان حوادث لا أول لها وهو التسلسل في الآثار. والفلاسفة لا يقولون بشيء من ذلك بل عندهم القديم تحله الحوادث ويجوزون الحوادث لا أول لها ولهذا كان كثير من أساطينهم ومتأخريهم كأبي البركات يخالفونهم في إثبات الصفات وقيام الحوادث بالواجب وقالوا لا خوانهم الفلاسفة ليس معكم حجة على نفي ذلك بل هذه الحجة أثبتموها من جهة التنزيه والتعظيم بلا حجة والرب لا يكون مدبرا للعالم إلا بهذه القضية فكان من تنزيه الرب وإجلاله تنزيهه عن هذا التنزيه وإجلاله عن هذا الإجلال. وللنظار في جوابهم عن هذا طريقان منهم من يمنع المقدمة الأولى ومنهم من يمنع الثانية فالأول جواب كثير من المعتزلة والأشعري وأصحابه وغيرهم ممن ينفي حلول الحوادث فادعى هؤلاء أن العلم بأن الشيء سيكون هو عين العلم بأنه قد كان وان المتجدد إنما هو نسبته بين المعلوم والعلم لا أمر ثبوتي والثاني جواب هشام وابن كرام وأبي الحسين البصري وأبي عبد الله بن الخطيب وطوائف غير هؤلاء قالوا لا محذور في هذا وإنما المحذور في أن لا يعلم الشيء حتى يكون فان هذا يستلزم أنه لم يكن عالما وانه أحدث بلا علم وهذا قول باطل. أدلة القران والحديث على إثبات العلم لله تعالى: وعامة من يستشكل الآيات الواردة في هذا المعنى كقوله إلا لنعلم حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 نعلم يتوهم أن هذا ينفي علمه السابق بأن سيكون وهذا جهل فان القران قد اخبر بأنه يعلم ما سيكون في غير موضع بل ابلغ من ذلك أنه قدر مقادير الخلائق كلها وكتب ذلك قبل أن يخلقها فقد علم ما سيخلقه علما مفصلا وكتب ذلك واخبر بما اخبر به من ذلك قبل أن يكون وقد اخبر بعلمه المتقدم على وجوده ثم لما خلقه علمه كائنا مع علمه الذي تقدم أنه سيكون فهذا هو الكمال وبذلك جاء القران في غير موضع بل وبإثبات رؤية الرب له بعد وجوده كما قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} فأخبر أنه سيرى أعمالهم. وقد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة ودلائل العقل على أنه سميع بصير والسمع والبصر لا يتعلق بالمعدوم فإذا خلق الأشياء رآها سبحانه وإذا دعاه عباده سمع دعاءهم وسمع نجواهم كما قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أي تشتكي إليه وهو يسمع التحاور والتحاور تراجع الكلام بينها وبين الرسول قالت عائشة: "سبحان الذي وسع سمعه الأصوات لقد كانت المجادلة تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وانه ليخفي على بعض كلامها" فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} وكما قال تعالى لموسى وهارون: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وقال: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} . وقد ذكر الله علمه بما سيكون بعد أن يكون في بضعة عشر موضعا في القران مع إخباره في مواضع أكثر من ذلك أنه يعلم ما يكون قبل أن يكون وقد اخبر في القران من المستقبلات التي لم تكن بعد بما شاء الله بل اخبر بذلك نبيه وغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 نبيه {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} بل هو سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لو كان كيف كان يكون كقوله {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} بل وقد يعلم بعض عباده بما شاء أن يعلمه من هذا وهذا ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} وقوله: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} وقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} وقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} إلى قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وغير ذلك من المواضع. روى عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} أي لنرى وروي لنميز وهكذا قال عامة المفسرين إلا لنرى ونميز وكذلك قال جماعة من أهل العلم قالوا لنعلمه موجودا واقعا بعد أن كان قد علم أنه سيكون ولفظ بعضهم قال العلم على منزلتين علم بالشيء قبل وجوده وعلم به بعد وجوده والحكم للعلم به بعد وجوده لأنه يوجب الثواب والعقاب قال فمعنى قوله لنعلم أي لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب ولا ريب أنه كان عالما سبحانه بأنه سيكون لكن لم يكن المعلوم قد وجد وهذا كقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} أي بما لم يوجد فانه لو وجد لعلمه فعلمه بأنه موجود ووجوده متلازمان يلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر ومن انتفائه انتفاؤه والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر. والمقصود أن يعرف الإنسان أنهم يقولون من الجهل والكفر ما هو في غاية الضلال فرارا من لازم ليس لهم قط دليل على نفيه ولو قدر شبهة تعارض ثبوت العلم فأين هذا من هذا وأين الأدلة الدالة على ثبوت علمه والمحذور في نفي علمه مما يظن أنه يدل على نفي الصفات أو نفي بعضها دليلا ومحذورا. بطلان قولهم الثلاثة المذكورة في النحل هي البرهان والخطابة والجدل: والمقصود هنا أن ما يجعلونه من القران مطابقا لأصولهم ليس كما يقولون فان قيل لا ريب أن ما جاء به الرسول من الحكمة والموعظة الحسنة والجدل يخالف أقوال هؤلاء الفلاسفة أعظم من مخالفته لأقوال اليهود والنصارى لكن المقصود أن الثلاثة المذكورة في القران هي البرهان الصحيح والخطابة الصحيحة والجدل الصحيح وان لم تكن هي عين ما ذكره اليونان إذ المنطق لا يتعرض لشيء من المواد وإنما الغرض أن هذه الثلاثة هي جنس هذه الثلاثة. قيل وهذا أيضا باطل فان الخطابة عندهم ما كان مقدماته مشهورة سواء كانت علما مجردا أو علما يقينيا والوعظ في القران هو الأمر والنهي والترغيب والترهيب كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} . فقوله: {مَا يُوعَظُونَ بِهِ} أي ما يؤمرون به وقال: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي ينهاكم عن ذلك. وأيضا فالقرآن ليس فيه أنه قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ} وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 لأن الإنسان له ثلاثة أحوال: إما أن يعرف الحق ويعمل به وأما أن يعرفه ولا يعمل به وأما أن يجحده فأفضلها أن يعرف الحق ويعمل به والثاني: أن يعرفه لكن نفسه تخافه فلا توافقه على العمل به والثالث: من لا يعرفه بل يعارضه فصاحب الحال الأول هو الذي يدعى بالحكمة فأن الحكمة هي اللم بالحق والعمل به فالنوع الأكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به فيدعون بالحكمة والثاني: من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه فهذا يوعظ الموعظة الحسنة فهاتان هما الطريقان الحكمة والموعظة وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا فأن النفس لها أهواء تدعوها إلى خلاف الحق وان عرفته فالناس يحتاجون إلى الموعظة الحسنة والى الحكمة فلا بد من الدعوة بهذا وهذا. وأما الجدل فلا يدعى به بل هو من باب دفع الصائل فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن ولهذا قال وجادلهم فجعله فعلا مأمورا به مع قوله ادعهم فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن وقال في الجدال بالتي هي أحسن ولم يقل بالحسنة كما قال في الموعظة لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل فما دام الرجل قابلا للحكمة أو الموعظة الحسنة أو لهما جميعا لم يحتج إلى مجادلة فإذا مانع جودل بالتي هي أحسن. والمجادلة يعلم كما أن الحكمة بعلم وقد ذم الله من يجادل بغير علم فقال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} والله لا يأمر المؤمنين أن يجادلوا بمقدمة يسلمها الخصم أن لم تكن علما فلو قدر أنه قال باطلا لم يأمر الله أن يحتج عليهم بالباطل لكن هذا قدر يفعل لبيان فساد قوله وبيان تناقضه لا لبيان الدعوة إلى القول الحق والقرآن مقصوده بيان الحق ودعوة العباد إليه وليس المقصود ذكر ما تناقضوا فيه من أقوالهم ليبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 خطأ أحدهما: لا بعينه فالمقدمات الجدلية التي ليست علما هذا فائدتها وهذا يصلح لبيان خطأ الناس مجملا. ثم أنهم تارة يجعلون النبوة إنما هي من باب الخطابة وتارة يجعلون الخطابة أحد أنواع كلامها فيتناقضون وسبب ذلك أن القرآن أمر عظيم باهر لم يعرفوا قدره ولا دروا ما فيه من العلم والحكمة وأرادوا أن يشبهوا به كلام قوم كفار اليهود والنصارى أقل ضلالا منهم في معرفة الله ومعرفة أنبيائه وكتبه وأمره ونهيه ووعده ووعيده ولو شبه مشبه القرآن بالتوراة والإنجيل لظهر خطأه غاية الظهور والجميع كلام الله تعالى فكيف بكلام هؤلاء الملاحدة. الوجه الثاني عشر: كون نفيهم وجود الجن والملائكة والوحي قولا بلا علم: الوجه الثاني عشر: أن يقال هم معترفون بالحسيات الظاهرة وبالحسيات الباطنة التي يحس بها الإنسان ما في نفسه كإحساسه بجوعه وعطشه ولذته وألمه وشهوته وغضبه وفرحه وغمه وكذلك ما يتخيله في نفسه من أمثلة الحسيات التي أحسها فانه يتخيل ذلك من نفسه. وقد فرقوا بين قوة التخيل والوهم فالتخيل أن يتخيل الحسيات والوهم أن يتصور في الحسيات معنى غير محسوس كما يتصور الصداقة والعداوة فان الشاة تتصور في الذئب معنى هو العداوة وهو غير محسوس ولا تتخيل وتتصور في التيس معنى الصداقة فالموالات والمعادات يسمون الشعور بها توهما وهم لم يتكلموا في ذلك بلغة العرب فان الوهم في لغة العرب معنى آخر كما قد بين في موضعه. ولسي معهم ما ينفى وجود ما يمكن أن يختص برؤيته بعض الناس بالباطن كالملائكة والجن بل ولا معهم ما ينفى تمثل هذه الأرواح أجساما حتى ترى بالحس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 الظاهر ولا معهم أن النفس قد ترى غيرهما ما هو من أحوالها مثل أن ترى عند الموت أمورا موجودة لم تكن تراها وهي متعلقة بالبدن وكذلك النائم وإن كان قد يتخيل فليس معهم علم بأن كل ما يراه يكون تخيلا مع إمكان أن يرى في منامه من جنس ما يراه الميت عند مفارقة روحه بدنه فان النفس الناطقة هي الرائية وإنما يمنعها من ذلك تعلقها بالبدن فإذا تم تجردها بالموت رأت ما لم تكن تراه كما قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} وقال تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} قال المفسرون: يعنى الملائكة وكذلك بالنوم قد يحصل لها نوع تجريد ولهذا من الناس من يرى في منامه شيئا فيأتي كما يراه من غير تغيير أصلا بل يكون المرئي في المنام هو الموجود في اليقظة. وأما رؤية كثير من الناس للجن حال الصرع وغير الصرع فهذا أكثر وأشهر من أن يذكر وما يدعيه الأطباء من أن الصرع كله من الأخلاط فغلطه ظاهر فان دخول الجني بدن الإنسي وتكلمه على لسانه بأنواع من الكلام وغير ذلك أمر قد علمه كثير من الناس بالضرورة وقد اتفق عليه أئمة الإسلام كما اتفقوا على وجود الجن وقد رآهم غير واحد من الناس وخاطبوهم فهذا باب واسع فما الظن بالملائكة الكرام التي يراهم الأنبياء صلوات الله عليهم يرونهم بباطنهم وظاهرهم. وأيضا فقد تواتر في الكتب الإلهية والأحاديث النبوية أن الملائكة تتصور بصورة البشر وكذلك الجن ويرون في تلك الصورة كما أخبر الله عن ضيف إبراهيم في غير موضع من كتابه وكما اخبر عن مريم أنه أرسل إليها الروح وهو جبريل: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} . وجميع هذه الأمور ليس معهم على نفيها إلا ما هو من أضعف الشبه فنفيهم مثل هذه الحسيات الباطنة والظاهرة قول بلا علم ولهذا صاروا يحملون ما جاءت به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 الأنبياء على أنه من باب التخيل في النفس ويجعلون الملائكة وكلام الله الذي بلغوه هو ما يتخيل في نفس النبي من الصور والأصوات كما يتخيل للنائم وذلك من أعراضه القائمة به ليس هناك عندهم ملك منفصل ولا كلام نزل به الملك من الله عندهم. وكل ما ينفونه من هذا ليس معهم فيه إلا الجهل المحض فهم يكذبون بما لم يحيطوا بعلمه ولم يأتهم تأويله مع أن عامه أساطين الفلاسفة كانوا يقرون بهذه الأشياء وكذلك أئمة الأطباء كأبقراط وغيره يقر بالجن ويجعل الصرع نوعين صرعا من الخلط وصرعا من الجن ويقول في بعض الأدوية هذا ينفع من الصرع الذي يعالجه الأطباء لا الصرع الذي يعالجه أرباب الهياكل ونقل عنه أنه قال طبنا بالنسبة إلى طب أرباب الهياكل كطب العجائز بالنسبة إلى طبنا وهذه الأمور لبسطها موضع آخر. وإنما المقصود أن ما تلقوه من القواعد الفاسدة المنطقية من نفى ما لم يعلم نفيه أوجب لهم من الجهل والكفر ما صاروا به أسوأ حالا من كفار اليهود والنصارى وادعى ابن سينا وموافقوه أن أسباب العجائب في العالم أما قوة فلكية وأما قوة نفسانية وأما قوة طبيعية وأهل السحر منهم والطلسمات يعلمون من وجود الجن ومعاونتهم لهم على الأمور العجيبة ما هو متواتر مشهور عندهم فضلا عما يعلمه المسلمون وسائر أهل الملل من ذلك فضلا عن العلم بالملائكة وما وكلهم الله من الأمور التي يدبرونها كما قال فيهم: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} وقال: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} وهم الملائكة باتفاق السلف وغيرهم من علماء المسلمين لم يقل أحد من السلف أنها الكواكب. الوجه الثالث عشر: طريقهم لا يفرق بين الحق والباطل بخلاف طريقة الأنبياء الوجه الثالث عشر: أن يقال كون القضية برهانية معناه عندهم أنها معلومة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 للمستدل بها وكونها جدلية معناه كونها مسلمة وكونها خطابية معناه كونها مشهورة أو مقبولة أو مظنونة وجميع هذه الفروق هي نسب وإضافات عارضة للقضية ليس فيها ما هو صفة ملازمة لها فضلا عن أن تكون ذاتية لها على أصلهم بل ليس فيها ما هو صفة لها في نفسها بل هذه صفات نسبية باعتبار شعور الشاعر بها ومعلوم أن القضية قد تكون حقا والإنسان لا يشعر بها فضلا عن أن يظنها أو يعلمها وكذلك قد تكون خطابية أو جدلية وهى حق في نفسها بل قد تكون برهانية أيضا كما قد سلموا ذلك. وإذا كان كذلك فالرسل صلوات الله عليهم أخبروا بالقضايا التي هي حق في نفسها لا تكون كذبا باطلا قط وبينوا من الطرق العلمية التي يعرف بها صدق تلك القضايا ما هو مشترك ينتفع به جنس بني آدم وهذا هو العلم النافع للناس. وأما هؤلاء المتفلسفة فلم يسلكوا هذا المسلك بل سلكوا في القضايا الأمر النسبي فجعلوا البرهانيات ما علمه المستدل وغير ذلك لم يجعلوه برهانيات وإن علمه مستدل آخر والجدليات ما سلمه المنازع وإن لم يسلمه غيره وعلى هذا فتكون من البرهانيات عند إنسان وطائفة ما ليس من البرهانيات عند إنسان وطائفة أخرى فلا يمكن أن تحد القضايا العلمية بحد جامع مانع بل تختلف باختلاف أحوال من علمها ومن لم يعلمها حتى أن أهل الصناعات عند أهل كل صناعة من القضايا التي يعلمونها ما لا يعلمها غيرهم. وحينئذ فيمتنع أن تكون طريقهم مميزة للحق من الباطل والصدق من الكذب باعتبار ما هو الأمر عليه في نفسه ويمتنع أن تكون منفعتها مشتركة بين الآدميين بخلاف طريقة الأنبياء فإنهم اخبروا بالقضايا الصادقة التي تفرق بين الحق والباطل والصدق والكذب فكل ما ناقض الصدق فهو كذب وكل ما ناقض الحق فهو باطل فلهذا جعل الله ما انزله من الكتاب حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه وانزل أيضا الميزان وهو ما يوزن به ويعرف به الحق من الباطل ولكل حق ميزان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 يوزن به بخلاف ما فعله الفلاسفة المنطقيون فانه لا يمكن أن يكون هاديا للحق ولا مفرقا بين الحق والباطل ولا هو ميزان يعرف بها الحق من الباطل وأما المتكلمون فما كان في كلامهم موافقا لما جاءت به الأنبياء فهو منه وما خالفه فهو من البدع الباطلة شرعا وعقلا. فان قيل نحن نجعل البرهانيات إضافية فكل ما علمه الإنسان بمقدماته فهو برهاني عنده وان لم يكن برهانيا عند غيره قيل لم يفعلوا ذلك فان من سلك هذا السبيل لم يجد مواد البرهان في أشياء معينة مع إمكان علم كثير من الناس لأمور أخر بغير تلك المواد المعينة التي عينوها وإذا قالوا نحن لا نعين المواد فقد بطل أحد أجزاء المنطق وهو المطلوب. الوجه الرابع عشر: فساد جعلهم علوم الأنبياء تحصل بواسطة القياس المنطقي الوجه الرابع عشر: أنهم لما ظنوا أن طريقهم كلية محيطة بطرق العلم الحاصل لبني آدم مع أن الأمر ليس كذلك وقد علم الناس أما بالحس وأما بالعقل وأما بالأخبار الصادقة علوما كثيرة لا تعلم بطرقهم التي ذكروها ومن ذلك ما علمته الأنبياء صلوات الله عليهم من المعلوم فأرادوا إجراء ذلك على قانونهم الفاسد فقالوا النبي له قوة أقوى من قوة غيره في العلم والعمل وربما سموها قوة قدسية وهو أن يكون بحيث ينال الحد الأوسط من غير تعليم معلم له فإذا تصور طرفي القضية أدراك بتلك القوة القدسية الحد الأوسط الذي قد يتعسر أو يتعذر على غيره إدراكه بلا تعليم لأن قوى الأنفس في الإدراك غير محدودة فجعلوا ما تخبر به الأنبياء من أنباء الغيب إنما هو بواسطة القياس المنطقي وهذا في غاية الفساد. فان القياس المنطقي إنما يعرف به أمور كلية كما تقدم وهم يسلمون ذلك والرسل أخبروا بأمور معينة شخصية جزئية ماضية وحاضرة ومستقبلة كما في القرآن من قصة نوح والخطاب والأحوال التي جرت بينه وبين قومه وكذلك هود وصالح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 وشعيب وسائر الرسل وكذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من المستقبلات فعلم بذلك أن ما علمه الرسول لم يكن بواسطة القياس المنطقي. بل قد جعل ابن سينا علم الرب بمفعولاته من هذا الباب فانه يعلم نفسه والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فجعل علمه يحصل بهذه الواسطة وهذا يصلح أن يكون دليلا على علمه بمخلوقاته لا أن يكون علمه بمخلوقاته يفتقر إلى حد أوسط مع أنه لم يعط هذا البرهان موجبه بل أنكر علمه بالجزئيات التي في الموجودات الأخرى فان لم يعلم الجزئيات لم يعلم شيئا من المخلوقات مع أن العقول والنفوس والأفلاك كلها جزئية ونفسه أيضا معينة ولهذا أراد بعضهم جبر هذا التناقض فقال إنما نفى علمه بالجزئيات في الأمور المتغيرة فيقال التغير من لوازم الفلك فلا يكون الفلك إلا متغيرا وصدور المعلول المتغير عن علة غير متغيرة ممتنع بالضرورة كما قد بسط في موضعه. جعلهم معرفة النبي بالغيب مستفادة من النفس الفلكية وبيان فساده من عشرة وجوه: فان قيل هم يذكرون لمعرفة النبي بالغيب سببا آخر وهو أنهم يقولون أن الحوادث التي في الأرض تعلمها النفس الفلكية ويسميها من أراد الجمع بين الفلسفة والشريعة باللوح المحفوظ كما يوجد في كلام أبى حامد ونحوه وهذا فاسد فان اللوح المحفوظ الذي وردت به الشريعة "كتب الله فيه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة" كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم واللوح المحفوظ لا يطلع عليه غير الله والنفس الفلكية تحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 العقول ونفوس البشر عندهم تتصل بها وتنقش في نفوس البشر ما فيها. ولهذا يقول بعض الشيوخ الذين يتكلمون باللوح المحفوظ على طريقة هؤلاء أما عن معرفة بأن هذا قولهم وأما عن متابعة منهم لمن قال ذلك من شيوخهم الذين أخذوا ذلك عن الفلاسفة كما يوجد في كلام أبن عربي وابن سبعين والشاذلي وغيرهم يقولون أن العارف قد يطلع على اللوح المحفوظ وأنه يعلم أسماء مريديه من اللوح المحفوظ أو أنه يعلم كل ولى كان ويكون من اللوح المحفوظ ونحو هذه الدعاوى التي مضمونها أنهم يعلمون ما في اللوح المحفوظ وهذا باطل مخالف لدين المسلمين وغيرهم من أتباع الرسل. والمقصود هنا أنهم يقولون أن النفس إذا حصل لها تجرد عن البدن أما بالنوم وأما بالرياضة وأما بقوتها في نفسها اتصلت بالنفس الفلكية وانتقش فيها ما في النفس الفلكية من العلم بالحوادث الأرضية ثم ذلك العلم العقلي قد تخبر به النفس مجردا وقد تصوره القوة المخيلة في صور مناسبة له ثم تلك الصور تنتقش في الحس المشترك كما أنه إذا أحس أشياء بالظاهر ثم تخيلها فإنها تنتقش في الحس المشترك فالحس المشترك يرتسم فيه ما يوجد من الحواس الظاهرة وينتقش فيه ما تصوره القوة المتخيلة في الباطن وما يراه الإنسان في منامه والمحرور في حال مرضه من الصور الباطنة هو من هذا لكن نفس النبي عليه السلام لها قوة كاملة فيحصل لها تجرد في اليقظة فتعلم وتتخيل وترى ما يحصل لغيرها في النوم. قيل هذا الكلام أولا ليس من كلام قدماء الفلاسفة كأرسطو وأصحابه ولا جمهورهم إنما هو معروف عن ابن سينا وأمثاله وقد أنكر ذلك عليه إخوانه الفلاسفة كابن رشد وغيره وزعموه أن هذا كلام باطل لم يتبع فيه سلفه وثانيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 إنه مبنى على أصول فاسدة كثيرة: الأول: أنه لا سبب للحوادث إلا الحركة الفلكية وهذا من أبطل الأصول. الثاني: إثبات العقول والنفوس التي يثبتونها وهو باطل. هل منبع الفيض هو النفس الفلكية أو العقل الفعال: الثالث: إثبات كون الفيض يحصل من النفس الفلكية فإنهم لو سلم لهم ما يذكرونه من أصولهم فعندهم ما يفيض على النفوس إنما هو من العقل الفعال المدبر لكل ما تحت فلك القمر ومنه تفيض العلوم عندهم على نفوس البشر الأنبياء وغيرهم والعقل الفعال لا يتمثل فيه شيء من الجزئيات المتغيرة بل إنما فيه أمر كلى لكنه بزعمهم دائم الفيض فإذا استعدت النفس لأن يفيض عليها منه شيء فاض وذلك الفيض لا يكون بجزئي فانه لا جزئي فيه فكيف يقولون هنا أن الفيض على النفوس هو من النفس الفلكية. فان قيل هم يقولون أن الجزئيات معلومة للعقول على وجه كلى وللنفوس الفلكية على وجه جزئي قيل العلم بالكلى وهو القدر المشترك بين الجزئيات لا يفيد العلم بشيء من الجزئيات البتة فان علم الإنسان بمسمى الوجود أو بمسمى الجسم أو بمسمى الحيوان أو الإنسان أو البياض أو السواد لا يفيده العلم قط بموجود معين ولا بجسم معين ولا حيوان معين ولا إنسان معين ولا بياض معين ولا سواد معين ولو كانت الجزئيات تعلم من الكليات لكان من علم مسمى شيء قد علم كل شيء فإنها كلها جزئيات هذا المسمى. وهذا أيضا مما يدل على فساد قول ابن سينا ومن وافقه على أن الباري يعلم الجزئيات على وجه كلى بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذره في السموات ولا في الأرض فان هذا تناقض بين لمن تصور حقيقة الأمر فان من لم يتصور إلا كليا ويمتنع عنده أن يتصور جزئيا معينا أما مطلقا وأما إذا كان متغيرا كان قد عزب عن علمه كل شيء في الوجود أما مطلقا وأما إذا كان متغيرا وعلمه الكلى لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 يفيده شيئا من معرفة المعينات وهم دائما ما يشبعون أنفسهم بالمحال بمثل هذه الكليات. ولهذا كان موضوع الفلسفة الأولى والحكمة العليا هو الوجود الكلى المشترك بين الموجودات المنقسم إلى جوهر وعرض وعلة ومعلول وهذا الموضوع ليس له وجود في الخارج ولا يعلم بمعرفة الوجود المطلق شيء من الموجودات الثابتة في نفس الأمر أصلا فان كل موجود فانه موجود خاص متميز عما سواه وصفاته القائمة به أن كانت جوهرا فهي مختصة به وإن كان عرضا فهو عرض معين في محل معين فمن لم يعرف إلا الكلى المشترك لم يعرف شيئا من الموجودات التي هي في نفسها موجودات وإنما علم أمرا كليا لا يكون كليا إلا في الأذهان لا في الأعيان. إن نفس فلك القمر لا تعلم إلا جزءا من الحوادث: الرابع: أن النفوس عندهم تسعة بعدد الأفلاك وحركات الأفلاك عندهم هي تسبب الحوادث ومعلوم أن كل نفس تعلم حركة فلكها فنفس فلك القمر لا تعلم ما في نفس الفلك الاطلس وفلك الثوابت وغيره والنفوس البشرية إنما تتصل أن اتصلت بنفس فلك القمر كما أنه إنما يفيض عليها ما يفيض من العقل الفعال وحينئذ فلا تعلم إلا جزءا يسيرا من أسباب الحوادث فمن أين تعلم الحوادث المنفصلة. ليست حركة الأفلاك علة تامة للحوادث: الخامس: أنه لو قدر أنها تعلم حركات الأفلاك كلها وانه لا سبب للحوادث إلا حركة الأفلاك فحركة الأفلاك ليست علة تامة للحوادث بل تختلف أفعالها باختلاف القوابل فتؤثر في كل شيء بحسبه فمن لم يعلم أحوال القوابل مع الفواعل لم يعلم الحوادث فلا يكون عالما بها والنفوس الفلكية غايتها أن تعلم حركات أفلاكها لا تعلم ما ليس داخلا فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وإذا قيل أن حركات العناصر والمتولدات إنما تختلف لاختلاف حركة الأفلاك فالعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول قيل تختلف باختلاف القوابل كما تختلف باختلاف الفواعل والعناصر موجودة قبل حركات الأفلاك فلا يلزم من العلم بها العلم بنفس العناصر ومقاديرها ليعلم بحركات الأفلاك العلم بالحوادث الأرضية وقول القائل العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول إنما يستقيم في العلة التامة المستلزمة للمعلول وحركات الأفلاك غايتها أن تكون جزءا صغيرا من أسباب الحوادث. لا يلزم علم النفس الفلكية بكل ما يحدث من الأمور: السادس: أنه بتقدير أن تكون للفلك نفس فلكية متحركة كما تحرك نفس الإنسان لبدنه فإنها تتصور ما تريد فعله كما يتصور الإنسان ما يريد فعله وأما الأمور المتولدة الحاصلة بأسباب منفصلة مع فعله فلا يجب أن يكون شاعرا بها فمن أين يلزم علم النفس الفلكية بكل ما يحدث من الأمور الحاصلة لحركاتها وبأمور أخر فإنهم يقولون الفلك إذا تحرك حرك العناصر فامتزجت نوعا من الامتزاج وتحرك العناصر وامتزاجها ليس هو نفس حركة الفلك ولا حركة الفلك تامة له ثم إذا امتزجت فاض عليها من العقل الفعال ما يفيض فبتقدير أن تستعد نفس الإنسان لأن يفيض عليها من العقل الفعال ما يفيض لا يجب أن تعلم النفس الفلكية ذلك مع أن كلامهم في هذا الموضع قد عرف تناقضه وفساده فان العقل أن كان يفيض عنه ما ليس هو فيه كان في المعلول ما ليس في العلة وإن كان لا يفيض إلا ما فيه فليس فيه إلا الكليات ليس فيه صور جسمانية ولا علم بجزئيات ولا مزاج ولا غير ذلك مما يدعون فيضه عن العقل. بيان أن الحوادث الماضية ليست منتقشة في النفس الفلكية: السابع: أن النفس الفلكية تحرك الفلك دائما فيلزم أن تعلم كل وقت الحركة التي تريدها وإذا سلم له أنها تعلم ما تولد عنها وعن غيرها قيل لهم لا ريب أن ما مضى قبل تلك الحركة المعينة من الجزئيات لا يكون معلوما للنفس على سبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 التفصيل فانه لو كان معلوما للنفس على سبيل التفصيل للزم وجود ما لا نهاية له في أن واحد فان الحوادث الماضية لا نهاية لها فلو كان العلم بكل منها موجودا على سبيل التفصيل في النفس الفلكية للزم وجود أمور لا نهاية لها في أن واحد وهذا ممتنع. فان قيل هم يجوزون هذا كما يجوزون وجود نفوس لا نهاية لها في أن واحد فان قاعدتهم في هذا أن ما هو مجتمع وله ترتيب طبيعي كالفلك أو وضعي كالأجسام يمتنع وجود ما لا نهاية فيه فإذا انتفى أحد القيدين جوزوا وجود ما لا نهاية له أما بأن لا يكون مجتمعا كالحوادث المتعاقبة وأما أن يكون مجتمعا غير مترتب كالنفوس الفلكية قيل الجواب من وجوه أحدها أن هذا قول طائفة منهم كابن سينا وغيره وقد أنكر عليه ذلك إخوانه الفلاسفة كابن رشد وغيره وزعموا أن هذا ليس هو قول أئمتهم الفلاسفة وبينهم في ذلك مشاجرات ليس هذا موضعها الثاني أن الحركات الفلكية مترتبة كل واحد على ما قبلها فإذا قدر اجتماع العلم المفصل بها كان قد اجتمع حوادث مترتبة والعلوم أيضا مجتمعة في النفس الفلكية والجزئيات عندهم لا تنطبع عندهم إلا في قوى جسمانية فيلزم وجود ما لا يتناهى من الأعراض في صورة جسمانية وهذا هو أعظم ما ينكرونه فان القوة الجسمانية عندهم لا تقوى على أفعال لا تتناهى فضلا عن أن تقوى على أعراض لا نهاية لها الثالث أن يقال أن قالوا أن جميع ما يحدث لم تزل نفس الفلك عالمة به على التفصيل كان علمها قديما أزليا والحركات حادثة شيئا بعد شيء والحوادث الجزئية لا بد لها من تصورات جزئية حادثة معها وهم يسلمون ذلك وإن قالوا أنها لم تعلمها مفصلة إلا شيئا بعد شيء حصل المقصود أيضا وعلى التقديرين لا بد عندهم للنفس الفلكية من علوم متعاقبة كما يحصل لنفس الإنسان وحينئذ فان كانت علومها باقية لم تزل الأمور المرتبة تحدث شيئا بعد شيء وهى مجتمعه في محل واحد بل في قوة جسمانية فيلزم وجود أعراض مجتمعة لا نهاية لها في محل واحد بل في قوة جسمانية وهذا من أعظم الأمور إحالة عندهم في نفس الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وإذا كان كذلك تبين أن الحوادث الماضية ليست منتقشة في النفس الفلكية. والأنبياء بل وغير الأنبياء يخبرون بالحوادث المتقدمة كالأخبار بما جرى في زمن نوح وقبل نوح وبعد نوح فيمتنع أن يكون الخبر بذلك استفادة من النفس الفلكية التي يسميها الملاحدة الذين ينزلون الكتاب والسنة على أصول هؤلاء المشركين المعطلين يسمونها اللوح المحفوظ وهكذا العلم بالحوادث المستقبلة قبل أن تكون بمئين من السنين أو بألوف من السنين فان تلك لم تنتقش بعد عندهم في النفس الفلكية وقد يخبر بها الأنبياء كما بشر متقدموهم بممحد وكما أخبر محمد بما سيأتي بل ويعلم أيضا بالرؤيا وغير ذلك. لا سبيل لنفي كون الأرواح تلقى الأخبار في نفوس البشر: الوجه الثامن: أنه لو قدر أن النفوس الفلكية تعلم الجزئيات فالجزم بكون ما يحدث في نفوس البشر من العلم بالجزئيات هو منها أو من العقل الفعال لو قدر وجوده إنما يجوز إذا علم انتفاء سبب آخر وهذا لا سبيل لهم إلى العلم بنفيه فلم لا يجوز أن يكون ذلك مما يلقيه الملائكة بل ومما يلقيه الجن أيضا كما تواترت الأخبار عن الأنبياء صلوات الله عليهم بأنهم يذكرون أن الملائكة تخبرهم بما تخبرهم به وكما تواتر إخبار الجن لبنى آدم تارة بما يسترقونه من خبر السماء وتارة بغير ذلك والعلم بالمغيبات من هذا الوجه هو مما اتفق عليه الأنبياء وأتباعهم المسلمون واليهود والنصارى واتفق عليه جماهير بنى آدم من غير أهل الملل كالمشركين من العرب ومن الهند ومن الكلدانيين وغيرهم كلهم يذكرون ما تخبر به الأرواح أما مطلقا وأما أن تعين. وقد ذكرنا أن الصابئة نوعان حنفاء ومشركون فالحنفاء هم من المسلمين المؤمنين وأما المشركون كالصابئة الذين بعث الله إليهم الخيل عليه السلام وغيرهم فهؤلاء يقرون بهذا والصابئة الحرانيون لهم نبي على أصلهم يقال له البابا وله مصحف يذكر فيه كثيرا من الأخبار المستقبلة ويذكرون أن سيدته يعنى روحانية الزهرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 أخبرته بذلك وكثير منها صحيح كإخبار بدخول المسلمين بلاد حران وغيرها وفتحهم البلاد وإهانتهم لطائفته وكان بحران بئر يقال لها بئر عزون يعظمونها تعظيما كثيرا وكان يذكر أن الأرواح تجتمع إليها ويذكر أنواعا من هذه الأمور في مصحف له وهو موجود قد قرأته أنا وغيري. وهذه الأرواح منهم من يطلق عليها اسم الأرواح والروحانيات ولا يفصل ومنهم من يسميها جميعها الملائكة ولا يفرقون بين الجن والملائكة لا سيما وطائفة من أهل الكلام وغيرهم يجعلون الجن والملائكة جنسا واحدا وإنما يفرقون بالأعمال الصالحة والفاسدة كالآدميين ومن هذا تنازع العلماء في إبليس هل كان من الملائكة أم لا وقد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وأما من يعرف حقيقة الأمر من علماء المسلمين فيعلمون أن الأرواح التي تعين المشركين هي الشياطين ويفرقون بين الملائكة وبين الجن كما هو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع. بيان كون الغلط في هذه الإخبارات أكثر من الصواب: التاسع أنه بتقدير أن يكون سبب الإخبارات هو اتصال النفس بالقوة النفسانية الفلكية أو هو إخبار الأرواح كما تقدم فمعلوم أن الغلط في هذا أكثر من الصواب أما على أصلهم فلأن الخيال يصور للحس المشترك ما علمته النفس من الصور المناسبة والخيال يكذب أكثر مما يصدق وأما على قول المسلمين وغيرهم فلأن الجن يكذبون كثيرا في إخبارهم وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر إخبار الكهان قال أنهم يسمعون الكلمة فيكذبون مائة كذبة وهذا أمر معلوم بالتجربة والتواتر فان الذين يخبرون بما يخبرون به عن الجن يكثر الكذب في إخبارهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 وأما الرؤيا فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرؤيا ثلاثة رؤيا من الله ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام ورؤيا من الشيطان" فقد بين الصادق المصدوق أن من الرؤيا ما هو من حديث النفس ومنها ما هو من وسوسة الشيطان وقد أمرنا سبحانه أن نستعيذ من هذين الواسواسين في قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} . ولا بد من التمييز بين الصدق والكذب وليس فيما ذكروه ولا فيما يذكره غيرهم ما يميز بين هذا وهذا ولا يميز بين هذا وهذا مطلقا إلا الأنبياء ولهذا أمرنا الله أن نؤمن بكل ما جاؤوا به الأنبياء فإنهم معصومون لا يقرون على الخطأ فيما يبلغونهه عن الله باتفاق المسلمين قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} . ولهذا كان أهل الرياضة والزهد والعبادة من الصوفية وغيرهم يرون أشياء في الباطن يظنونها حقا ويكون باطلا ولهذا يقول من يقول من أهل العلم كأبي القاسم السهيلى وغيره نعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي وهذا مما كان يقوله شيخه أبو بكر بن العربي وكان مع تعظيمه لشيخه أبى حامد الغزالي يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 "شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر" وكان يذكر عنه أنه كان يقول: "أنا مزجى البضاعة في الحديث". وهؤلاء المتفلسفة يقولون أن غاية ما عند النبي قياس من جنس القياس الفلسفي أو خيال من جنس الخيال الصوفي فان ما ذكروه للنبي يتصف به آحاد الناس فان اتصال النفوس بالنفس الفلكية وانعقاد الأقيسة العقلية في النفس هو قدر مشترك بين الناس إنما هو بحسب استعداد النفوس ثم هم أعنى ابن سينا وأمثاله يقولون أن النفوس الناطقة متماثلة بحسب الحقيقة وإنما اختلفت باعتبار أبدانها فهي كماء واحد وضعته في آنية مختلفة فاختلف لاختلاف الأوعية وأسباب صفات النفس عندهم أما المزاج وأما العادة وأما ما يتبع ذلك ويا ليت شعري كم مقدار ما يوجب التفاوت بين النفوس أن لم يكن التفاوت إلا بهذا السبب فيلزم من هذا أن تكون نفس أخس الناس مشاركة في الحقيقة لنفس إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإنما امتازت عنها بأمور عارضة وأن تكون نفس كثير من الناس قريبة من نفوسهم أو أفضل وتكون مستعدة لأن يحصل لها ما حصل لنفوسهم. ولهذا كانت النبوة عندهم مكتسبة وصار كثير منهم يطلب أن يؤتى مثل ما أوتي رسل الله وأن يؤتى صحفا منشرة كما طلب ذلك غير واحد في زماننا وكما طلبه السهروردي المقتول وابن سبعين وغيرهما وسبب ذلك أن هذه النبوة التي أثبتوها أمرها من جنس منامات الناس. ولهذا كان عمدتهم في إثبات النبوة هو المنامات ولما أراد ابن سينا وأمثاله أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 يقرروا ذلك قالوا التجربة والقياس مطابقان على أن للنفس الإنسانية أن تنال من الغيب نيلا ما وقرروا ذلك بأن معرفة المغيبات في النوم ممكنة فوجب أن يكون أيضا في اليقظة ممكنا والمقدمة الأولى معلومة بالتجربة والتواتر وأما الثانية فهو أنه لما صح ذلك في النوم لم يمكن القطع باستحالته في اليقظة بل لو قدرنا أن الناس ما جربوا وقوع ذلك في النوم لكان استبعادهم بحصول هذا حال النوم اشد من استبعادهم لحصوله حال اليقظة فانه لو قيل لواحد أن جمعا من الأذكياء مع كمال عقولهم وسلامة حواسهم وذكاء قرائحهم وقوة أفكارهم وأنظارهم احتالوا بكل حيلة لتحصيل معرفة بعض المغيبات فعجزوا ثم أن واحدا منهم لما صار كالميت وبطلت حركته وإدراكه عرف ذلك المغيب لقيل بأن ذلك محال ولا حتجوا عليه بأنه لما عجز عنه القوى الكامل فالضعيف الناقص أولى بالعجز عنه ولكن وقوع هذا المعنى مرارا كثيرة حال النوم مما أزال الاستبعاد والعناد فثبت أن حصول معرفة المغيبات لما كان ممكنا حال النوم فبأن يكون ممكنا حال اليقظة أولى قالوا ونحن لا نستدل بصحة إحدى الحالين على القطع بالحال الأخرى ولكن على دفع استبعاد المنكر وحصول الرأي الأخلق الأولى. قلت فهذه المقدمة التي بنوا عليها معرفة الغيب للأنبياء وغيرهم ومعلوم أن النائم تتجرد نفسه عن بدنه نوع تجرد فان النوم أخو الموت وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أوى إلى فراشه: "اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها لك مماتها ومحياها أن أمسكتها فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ويقول أيضا باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك ارفعه أن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 وكان ذا استيقظ يقول: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أمتنا واليه النشور " وقد قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فأخبر سبحانه أنه يتوفى الأنفس حين النوم وحين الموت وأن ما يتوفاه حين النوم منه ما يقضى عليه الموت في نومه ومنه ما يرسله وبسبب تجردها عن البدن يحصل لها من العلم ما يلقيه الله إليها أما بواسطة الملك الذي يريها ويحدثها من الرؤيا وأما بغير ذلك. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} قال عبادة ابن الصامت: "رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام" وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لم يبق بعدى من النبوة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له" وقال: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " وفي الصحيحن عن عائشة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 قالت: "أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد" وقد قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فلا ريب أن ما يجعله الله في النفوس وغيرها يجعله بعد إعدادها لذلك وتسويتها لما يلقى فيها فهذا ونحوه حق يقول به السلف وجمهور المسلمين وإنما ينكر ذلك من ينكر الحكم والأسباب من أهل الكلام. والنبي صلى الله عليه وسلم بدئ أولا بالرؤيا الصادقة فانه رؤيا الأنبياء وحي معصوم كما قال ابن عباس وعبيد بن عمير وغيرهما: "رؤيا الأنبياء وحي" وقرأ قول إبراهيم عليه السلام {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم نقل من درجة إلى درجة ثم بعد هذا جاءه الملك فخاطبه بالكلام فأحيانا يأتيه في الباطن فيكلمه وأحيانا يتمثل له في صورة رجل فيكلمه ثم عرج به إلى ربه ليلة الإسراء. فما ادعوه من أن الرؤيا قد يحصل بها معرفة المغيبات حق وهذا يحتج به على من ينكر هذا الجنس مطلقا ولكن لا تجعل النبوة كلها من هذا الجنس فمن الباطل ما ادعوه في النبوة وفي كيفيتها حيث زعموا أنه ليس هناك ملك حي يأتي بالوحي من الله ولا لله كلام يتكلم به يسمعه الملك فينزل به ولا يعرف الله جزئيات الأمور حتى يكتبها عنده أو حتى يخبر بها الملك والملك يخبر بها النبي أو يخبر بها النبي ابتداء. وزعموا أنه ليس لله ما يدبر به أمر السموات والأرض إلا مجرد حركة الفلك وأثبتوا نبوة حال كثير من أحوال أوساط المسلمين خير منها فان كثيرا من أوساط المسلمين له من العلم والعمل أعظم مما أثبته هؤلاء للأنبياء فإنهم جعلوا خواص النبوة نوعين القوة العلمية التي ينال بها العلم أما بواسطة القياس المنطقي وأما بواسطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 التجرد الذي هو كتجرد النائم حتى تتصل بالنفس الفلكية والثاني القوة العملية وهو أن تكون نفسه قوية على التصرف في هيولى العالم بحيث تحدث عنه عجائب والنوع الأول يتضمن أمرين: أحدهما: معرفة العلوم الكلية بالقياس المنطقي والثاني: معرفة الجزئيات بهذا الاتصال ثم الخيال يصور المعقولات في الصور المناسبة لها وينقشها في الحس المشترك فيرى الإنسان في باطنه صورا ويسمع أصواتا وتلك الصور عندهم ملائكة الله وتلك الأصوات كلام الله. ولهذا كان الملاحدة من المتصوفة على طريقهم كابن عربي وابن سبعين وغيرهما قد سلكوا مسلك ملاحد الشيعة كأصحاب رسائل إخوان الصفا واتبعوا ما وجدوه من كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها وغير ذلك مما يناسب ذلك فصار بعضهم يرى أن باب النبوة مفتوح لا يمكن إغلاقه فيقول كما كان ابن سبعين يقول: "لقد زرّب ابن آمنة حيث قال: لا نبي بعدى" أو يرى لكونه اشد تعظيما للشريعة أن باب النبوة قد أغلق فيدعى أن الولاية أعظم من النبوة وأن خاتم الأولياء اعلم بالله من خاتم الأنبياء وأن خاتم الأنبياء بل وجميع الأنبياء إنما يستفيدون معرفة الله من مشكوة خاتم الأولياء ويقول أنه يوافق النبي في معرفة الشريعة العملية لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا وإنه أعلم من النبي بالحقائق العلمية لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 وهذا بناء على أصول هؤلاء الفلاسفة الكفار الذين هم اكفر من اليهود والنصارى الذين سلك هؤلاء سبيلهم ولكن غيروا عباراتهم فأخذوا عبارات المسلمين الموجودة في كلام الله ورسوله وسلف الأمة وعلمائها وعبادها ومن دخل في هؤلاء من الصوفية المتبعين للكتاب والسنة كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخى والسري السقطي والجنيد وسهل بن عبد الله وغيرهم أخذوا معاني أولئك الملاحدة فعبروا عنها بالعبارات الموجودة في كلام من هو معظم عند المسلمين فيظن من سمع ذلك أن أولئك المعظمين إنما عنوا بهذه العبارات الموجودة في كلامهم ما أراده هؤلاء الملحدون كما فعلت ملاحدة الشيعة الإسماعيلية ونحوهم. فحمد عندهم يأخذ من الملك الذي هو عندهم خيال في نفسه وذلك الخيال يأخذ عن العقل فمحمد عندهم يأخذ عن جبريل وهذا الخيال هو جبريل وجبريل يأخذ عن ما علمه من النفس الفلكية فزعم ابن عربي أنه يأخذ من العقل وهو المعدن الذي يأخذ منه جبريل فان ابن عربي وهؤلاء يعظمون طريق الكشف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 والمشاهدة والرياضة والعبادة ويذمون طريق النظر والقياس وما يدعونه من الكشف والمشاهدة عامته خيالات في أنفسهم ويسمونها حقيقة ولهذا يقول باب ارض الحقيقة وهى ارض الخيال وقد ادعى أن الفتوحات الملكية ألقاها إليه روح بمكة وإذا كان صادقا فقد ألقاها إليه شيطان من الشياطين كما كان مسيلمة الكذاب يلقى إليه شيطان وكذلك الأسود العنسى وكذلك غيرهما من المتنبئين الكذابين. وكذلك الذين يدعون الولاية بدون متابعة الرسول تنزل عليهم الشياطين وتخبرهم بأشياء وتأمرهم بأشياء وربما أحضرت لهم طعاما ونفقة وغير ذلك وربما حملت أحدهم في الهواء إلى مكان ونحو ذلك فهم في الأولياء من جنس مسيلمة الكذاب وأمثاله في الأنبياء ولهم أحوال شيطانية يظنونها من كرامات أولياء الله وإنما هي من أحوال اعداء الله وهؤلاء من جنس كهان العرب الذين كان يكون لأحدهم رئي من الجن من جنس شيوخ العباد الذين للمشركين من الهند والترك والحبشة وغيرهم الكفار أو من جنس شيوخ النصارى فان هؤلاء شيوخ المشركين وأهل الكتاب لهم شياطين تقترن بهم وكذلك للداخل في المشيخة والدين والزهد والعبادة مع الخروج عن الكتاب والسنة ممن يدعى الإسلام ثم أن كانوا كفارا منافقين فجنهم من جنسهم وإن كانوا فساقا فجنهم من جنسهم وإن كانوا أهل جهل وبدعة بلا علم كان جهنم من جنسهم. كون الملائكة أحياء ناطقين لا صورا خالية: الوجه العاشر: أنه من المتواتر عن الأنبياء صلوات الله عليهم أن الملائكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 أحياء ناطقون يأتونهم عن الله بما يخبر به ويأمر به تارة وينصرونهم ويقاتلون معهم تارة وكانت الملائكة احيانا تأتيهم في صورة البشر والحاضرون يرونهم وقد اخبر الله عن الملائكة في كتاب بأخبار متنوعة وذلك يناقض ما يزعمونه من أن الملك إنما هو الصورة الخيالية التي ترتسم في الحس المشترك أو أنها العقول والنفوس. الأخبار المتواترة بمجيء الملائكة في صورة البشر: قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رأى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} . وفي الصحيحين عن مسروق قال: "كنت متكئا عند عائشة رضي الله عنها فقالت: يا أبا عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية قلت: ما هن. قالت: "من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ومن زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية ومن أعظم أنه كتم شيئا مما أوحى إليه فقد أعظم على الله الفرية" قال: "وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين انظري ولا تعجليني ألم يقل الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} فقالت: "أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض" وفي لفظ: "فقلت: فأين قوله عزوجل {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 قالت: "إنما ذاك جبريل عليه السلام كان يأتيه في صورة الرجال وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد أفق السماء". وفي الصحيحين أيضا عن الشيباني قال سألت زر بن حبيش عن قول الله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} قال: "أخبرني ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح" وعن ابن مسعود أيضا قال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رأى} قال: "رأى جبريل له ستمائة جناح" وعنه أيضا {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال: "رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح" وقال البخاري في بعض طرقه: "رأى رفرفا اخضر قد سد الأفق" وعن عبد الله قال: {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال: "رأى رفرفا أخضر قد سد الأفق" وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال: "رأى جبريل". وقد قال سبحانه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} فبين أن الرسول الذي جاء به إلى محمد رسول كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وهذه صفة لا تنطبق على ما في النفس من الخيال ولا على العقل الفعال فانه اخبر أنه مطاع والمطاع فوق السموات ليس هذا ولا هذا وكذلك قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} وقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} وقال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ} . وفي الصحيحين عن عائشة أن الحرث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ قال: "أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده على فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" قالت عائشة: "ولقد رايته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقا". وفي الصحيحين عن عائشة قالت: "كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: ما أنا بقارىء قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وذكر الحديث بطوله وذكر فترة الوحي قال جابر في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم في فترة الوحي قال: "بينا أنا امشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 زملوني فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} فحمى الوحي وتتابع ". وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وهو في الصحيحين ومن حديث عمر وهو في مسلم ومن حديث غيرهما "أنه جاءه أعرابي شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه اثر السفر ولا يعرفه منا أحد فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا اله إلا الله وان محمد رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت قال صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه؟ قال: وسأله عن الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره قال: صدقت" وقال في الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك" وسأله عن الساعة؟ فقال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" وسأله عن أشراطها؟ فقال ما ذكروه فلما أدبر قال: على بالرجل فطلب فلم يوجد فقال: "هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم". وقد استفاض أنه كان يأتيه في صورة دحية الكلبي وكان من أجمل الناس صورة وقد اخبر الله في القران أن الملائكة أتوا إلى إبراهيم ثم لوطا في صورة رجال فقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} فأخبر أنهم دخلوا على إبراهيم وسلموا عليه فرد عليهم وأنكرهم لما رأى من صورهم العجيبة واتاهم بالعجل السمين ضيافة لهم فلما رآهم لا يأكلون أو جس منهم خيفة فقالوا له لا تخف واخبروه أنهم رسل الله وبشروه بالغلام العليم إسحاق بعد كبره وكبر امرأته وذلك من خوارق العادات وقالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين والملائكة أرسلوا الحجارة من السماء على قرى قوم لوط وقد ذكر الله قصتهم في مواضع من القران في سورة هود والحجر والعنكبوت وفي كل موضع يذكر نوعا مما جرى. واخبر الله تعالى أنه أرسل إلى مريم العذراء البتول ملكا في صورة بشر فقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 الْيَوْمَ إِنْسِيّاً فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} وقد ذكر الله النفخ في فرجها من هذا الروح في موضعين آخرين من القران. فهذه الأخبار المتواترة من مجيء الملائكة في صورة البشر. أخبار نزول الملائكة لنصر الأنبياء وتأييدهم: وأما نزولهم لنصر الأنبياء وتأييدهم فقد ذكره الله في غير موضع من كتابه في قصة بدر {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} إلى قوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} . وقوله تعالى في يوم أحد: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 وقال تعالى في يوم الخندق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} . وقال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} . وقال عند خروجه للهجرة: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أنواع أخر من أخبار الملائكة: وقد اخبر سبحانه عن الملائكة بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . وأخبر عنهم سبحانه بقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} فأين هذا النعت من قول هؤلاء المتفلسفة الذين يدعون أن العقل الأول رب جميع العالمين العلوي والسفلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 وكذلك كل عقل حتى ينتهي إلى الفعال فيزعمون أنه رب لما تحت فلك القمر وقد قال سبحانه: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . وقال تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} وقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها قالوا وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يسدون الأول فالأول ويتراصون في الصف " وهذا موافق لقوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} ولقوله عنهم: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} . وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 تعالى في صفة أهل النار: {سأصلية سقر ومآ ادراك ما سقر لا تبقى ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} وقال تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قال غير واحد من الصحابة والتابعين كأبي هريرة وعبد الله بن الحارث وعطاء: "هم الملائكة" وقال قتادة: "الزبانية في كلام العرب الشرط" وقال مقاتل: "هم خزنة جهنم" قال أهل اللغة كابن قتيبة وغيره: "هو مأخوذ من الزبن وهو الدفع كأنهم يدفعون أهل النار إليها" قال ابن دريد: "الزبن الدفع يقال ناقة زبون إذا زبنت حالبها دفعته برجلها وتزابن القوم تداراوا واشتقاق الزبانية من الزبن". وأيضا في الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اخبر ليلة المعراج بما رآه من الملائكة والجنة والنار واخبر عن البيت المعمور أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون آخر ما عليهم. وما في القران والأحاديث وكلام السلف من ذكر الملائكة وأحوالهم يفوق الإحصاء وكذلك عند أهل التوراة والإنجيل ونبوات سائر الأنبياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 بيان كذبهم على الأنبياء وان النبوة ليست كما يدعونه: وما اخبر به الأنبياء يناقض قول من قال عن الأنبياء "إن الذي رأوه من الملائكة إنما هو ما يخيل في أنفسهم وان الذي سمعوه إنما هو ما سمعوه في نفوسهم" فان كان مقصوده أنهم أرادوا بما اخبروا به هذا فهذا كذب صريح عليهم لا حيلة فيه وان كان مكذبا لهم يقول أنهم لم يروا شيئا أو أنهم غلطوا فيما اخبروا به من ذلك فهذا ليس مقام من يفسر كلامهم ويبين مرادهم كما يزعمه هؤلاء المتفلسفة الذين يتكلمون على النبوة بما يدعون أنه تفسير لها والمقصود هنا بيان كذبهم على الأنبياء وان النبوة ليست كما يدعونه. وأما الكذب للأنبياء فلخطابه مقام آخر مع أن هذا من اجهل أهل الأرض وأكفرهم وذلك أن الأنبياء عدد كثيرون وهم بإجماع العقلاء العلم والعدل في غاية صفات الكمال من العقل والعلم والعدل والصدق والأخلاق الحسنة وكل منهم لم ير الآخر ولم يستمع منه لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم فانه لم يكن بمكة على عهده أحد يعرف شيئا من كتب الأنبياء البتة وكل منهم يخبر عما رأى وسمع أخبارا يصدق بعضها بعضا فلو لم تثبت عصمة الأنبياء وصدقهم بل كان المخبر بمثل هذا مجهولا لوجب تواتر جنس ما رأوه كما أن العدد الكثير إذا اخبر كل منهم أنه رأى اسود تواتر وجود السودان عند من لم يرهم ولهذا لما اخبر كثير من المصروعين عن وجود الصرع ثبت بهذا وجوده في الجملة ولم يكن تكذيب المصروعين فيما يخبرون به مما يعاينونه بل عامة العقلاء يعلم أنهم رأوا الجن الأحياء الناطقين وهذا معلوم عند جمهور العقلاء علما ضروريا لا يمكنهم النزاع فيه. تدبير الله أمر السماء والأرض بواسطة الملائكة: وأيضا فالأدلة العقلية تدل على أن الملائكة بهم يدبر الله أمر السماء والأرض كما قد بسط الكلام على هذا في غير موضعه وبين فيه أن الحركات ثلاثة: طبيعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 وقسرية وإرادية لأن المتحرك إنما يتحرك بقوة فيه أو خارجة عنه والثاني هو المقسور المتحرك قسرا والأول أن لم يكن له شعور فهي الحركة الطبيعية وان كان له شعور فهي الإرادية والقسرية تابعة للقاسر فلولا هو لم يتحرك المقسور والطبيعية إنما يكون إذا خرج الجسم الطبيعي عن محله فيطلب بطبعه العود إلى محله فإذا عاد سكن كالتراب إذا سقط على الأرض والماء إذا وصل إلى مقره ونحو ذلك فلم يبق هنا متحرك ابتداء إلا المتحرك بالحركة الإرادية فعلم أن جميع الحركات مبدأها حركة إرادية ومعلوم أن الآدميين لا يحركون الهواء والسحاب وغير ذلك من الأجسام فالمحرك لها أحياء يحركون لها بالإرادة وهؤلاء هم الملائكة. والملك معناه الرسول واصله ملاك على وزن مفعل ولكن ألقيت حركة الهمزة على الساكن قبلها وحذفت وهذه المادة معناها الرسالة سواء تقدمت اللام على الهمزة كما في صيغة الملك أو تقدمت الهمزة على اللام وهذه الأمور لبسطها موضع آخر. وإنما المقصود أن نعرف أن ما يفسرون به الملائكة والوحي مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه مناقض لما جاء به فعلم أن ما يثبتونه من النبوة لا حقيقة له وان ادعاءهم أن علم الأنبياء إنما يحصل بالقياس المنطقي وأما باتصال نفسه بالنفس الفلكية من أبطل الكلام وذلك مما يبين فساد ما ذكروه في المنطق من حصر طرق العلم مادة وصورة وهو المطلوب في هذا الموضع ويبين أنهم اخرجوا من العلوم الصادقة اجل وأعظم واكبر مما أثبتوه وان ما ذكروه من الطرق إنما يفيد علوما قليلة خسيسة لا كثيرة ولا شريفة وهذه مرتبة القوم فإنهم من أخس الناس علما وعملا وكفار اليهود والنصارى اشرف منهم علما وعملا من وجوه كثيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 كون حصول العلم في قلوب الأنبياء من الملائكة: ومما يبين ذلك أن يقال ما يحصل في قلوب الأنبياء وغيرهم من العلم بأمور معينة أما أن يكون له سبب يقتضى حصول ذلك العلم أو يحصل بلا سبب كما يقول ذلك من أهل الكلام من ينكر الأسباب في الوجود فان لم يكن له سبب بطل قولهم أن ذلك من العقل والنفس وان كان له سبب أمكن أن يكون ذلك هو ملائكة تعلمهم بذلك أو جن تعلم بعض الناس وهم ليس لهم حجة أصلا على نفي ذلك بتقدير ما يقولونه من قدم الأفلاك وصدورها عن علة مستلزمة لها كما يقوله ابن سينا أو أن العلة تحركها تحريك القدوة للمقتدى به على قول أرسطو واتباعه فعلى قول أرسطو واتباعه وعلى كل قول ليس في العقل حجة تنفي ذلك وإذا أمكن كون ذلك من الملائكة بطل قولهم بل نقول يجب أن يكون ذلك من الملائكة إذا كان له سبب فان كون ذلك من النفس الفلكية قد ظهر بطلانه فوجب أن يكون ذلك من الملائكة وهو المطلوب. وقد اثبت طائفة من نظار المسلمين والفلاسفة وجود الملائكة والجن بهذه الطريق وقالوا نحن نجد أمورا تحدث في نفوسنا بغير قصد منا من العلوم والإرادات وما هو من جنس العلوم والإرادات من الخواطر خواطر الشبهات والشهوات فلا بد لتلك من فاعل يحدثها في قلوبنا والله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء لكن لم يخلق شيئا إلا لسبب كما دل على ذلك استقراء خلقه للموجودات ولا يحدث حادثا إلا بسبب حادث والإنسان يكون قلبه خاليا من اعتقاد الضدين ومن أرادة الضدين فيحدث أحدهما في قلبه فلا بد لذلك من سبب حادث أوجب ذلك ولا يجوز إضافة ذلك إلى مجرد حركات الفلكية فان نسبة الحركة الفلكية في اليوم المعين إلى الأشخاص نسبة واحدة والناس مختلفون في هذه الخواطر اختلافا لا مزيد عليه والشخص الواحد يختلف حاله فتارة يكون مؤمنا وتارة يكون كافرا وتارة برا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 وتارة فاجرا وتارة عالما وتارة جاهلا وتارة ناسيا وتارة ذاكرا بدون حدوث سبب فلكي يرجح أحد هذين الحالين على الآخر وأهل الأرض الواحدة والبلد الواحد والإقليم الواحد تختلف أحوالهم في ذلك مع أن طالع البلد لم يختلف ومع أن المتجدد من الأشكال الفلكية قد يكون متشابه الأحوال وأحوالهم مع هذا تختلف وهذا لبسطه موضع آخر. فان ظن هؤلاء أن الحوادث التي تحت الفلك ليس سببها إلا تغير أشكال الفلك واتصالات الكواكب من افسد الأقوال ولهذا كان أصحاب هذا القول من أكثر الناس جهلا وكذبا وتناقضا وحيرة. حيرة الفلكيين في أمر الكعبة وما لها من التعظيم والمهابة: ولهذا حاروا في مكة شرفها الله وأي شيء هو الطالع الذي بنيت عليه على زعمهم حتى رزقت هذه السعادة العظيمة وهذا البناء العظيم مع طول الأزمان مع أنه لم يقصدها أحد بسوء إلا انتقم الله منه كما فعل بأصحاب الفيل ولم يعل عليها عدو قط والحجاج بن يوسف لم يكن عدوا لها ولا أراد هدمها ولا أذاها بوجه من الوجوه ولا رماها بمنجنيق أصلا ولكن كان محاصرا لابن الزبير وكان ابن الزبير وأصحابه في المسجد وكانوا يرمون بالمنجنيق له ولأصحابه لا لقصد الكعبة وإن يهدموا الكعبة ولا وقع فيها شرعي من حجارة الحجاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 بل كان ابن الزبير قد بناها على قواعد إبراهيم والصقها بالأرض وجعل لها بابين كما أخبرته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لولا قومك حديثوا عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وألصقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه" ووصف لعائشة من الحجر ما هو من البيت قريبا من سبعة ازرع موضع انحناء الحجر وكانت القريش قد بنتها فقصرت بها النفقة فتركوا ما تركوه من الحجر ورفعوها. فلما ولي الزبير شاور الناس في ذلك فمنهم من رأى ذلك مصلحة ومنهم من أشار عليه بأن لا يفعل وقال: "هذه الكعبة هي التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعليها اسلم الناس" وهذا كان رأي ابن عباس وطائفة. والفقهاء متنازعون في هذه المسألة منهم من يرى إقرارها كقول ابن عباس وهو قول مالك وغيره ويقال أن الرشيد شاوره أن يفعل كما فعل ابن الزبير فأشار عليه أن لا يفعل ورأى أن هذا يفضي إلى انتقاض حرمة الكعبة باختلاف الملوك في ذلك هذا يهدمها ليبنيها كما فعل ابن الزبير وهذا يرى أن يعيدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 كما كانت ومنهم من يرى تصويب ما فعله ابن الزبير ويقال أن الشافعي يميل إلى هذا. فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بما فعل ابن الزبير فيخبره بأنهم وجدوا قواعد إبراهيم وانه أرى ذلك لأهل مكة فكتب إليه عبد الملك أن يعيدها كما كانت إلا ما زاده من الطول فلا يغيره ويذكر أن ما فعله ابن الزبير لا يعلم أصله. ثم أن عبد الملك حدثه بعض الناس بحديث عائشة فقال: "وددت اني وليت ابن الزبير من ذلك ما تولى". والمقصود أنه ولله الحمد لم يردها أحد من المسلمين بسوء لا الحجاج ولا غيره ولكن قرامطة البحرين بعد ذلك بمدة أخذوا الحجر الأسود وبقي عندهم مدة فانتقم الله منهم وجرت فيهم المثلات. فصار هؤلاء الفلكيون حائرين في أمرها لما جعل الله لها من العز والمهابة والتعظيم مع المحبة ومع كون الناس من مشارق الأرض ومغاربها يأتونها بمحبة ورغبة وذل مع المشاق العظيمة التي تزيد على مشقة عامة الأسفار من الجوع والعطش والخوف والتعب وانه ليس بمكة بساتين ولا أنهار ولا غير ذلك مما تطلبه النفوس حتى الجأ بعضهم الحيرة إلى أن زعم أن تحتها مغارة فيها طلاسم موجهة إلى جميع الجهات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وأنها تبخر في شهر رجب أو غيره لتصرف وجوه الناس إليها ونحو هذه الأقوال المكذوبة التي يعلم كل من له علم بمكة أنها كذب مختلق وانه لا ينزل أحد قط إلى أسفل الكعبة ولا مغارة تحتها. ونفس التبخير لا يفعله المسلمون عبادة وقربانا كما كان يفعل ذلك من قبلهم بل هو عندهم من جنس الطيب فتقصد رائحته ومن كان قبل المسلمين من أهل الكتاب كانوا يقربون القرابين فتنزل النار تأكله وقد يدخنون بدخن وأما المشركون من عباد الكواكب والأصنام فالتدخين عندهم من أصول العبادات. بل وجود مكة مما يدل على القادر المختار وانه يخلق بمشيئته وقدرته وعلمه كما قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقد قال ابن عباس: "لو ترك الناس الحج سنة واحدة لما نوظروا" ولهذا كان حج البيت كل عام فرضا على الكفاية كما ذكر ذلك الفقهاء من أصحاب الشافعي كالقاضي أبي بكر وغيره. والمقصود هنا أنه إذا علم ما يحدث في النفوس ليس سببه مجرد حركة الفلك مع أنه لا بدل منه من سبب دل ذلك على وجود الملائكة والجن وهذا سلف الأمة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين فإنهم يقولون أن الشياطين توسوس في نفوس بني ادم كالعقائد الفاسدة والأمر باتباع الهوى وان الملائكة بالعكس إنما تقذف في القلوب الصدق والعدل قال ابن مسعود: "إن للملك لمة وللشيطان لمة فلمة الملك إيعاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 بالخير وتصديق بالحق ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق" وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة ومن الجن قالوا: وإياك يا رسول الله قال وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم" وفي لفظ "فلا يأمرني إلا بخير ". قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} والقول الصحيح الذي عليه أكثر السلف أن المعنى من شر الموسوس من الجنة ومن الناس من شياطين الإنس والجن. وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن" قال: يا رسول الله أو للإنس شياطين؟ قال: "نعم شر من شياطين الجن " قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} وهم شياطينهم من الإنس كما قال ذلك عامة السلف وكما يدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 عليه سباق القران فان شياطين الجن لم يكونوا يحتاجون إلى أن يخلوا بهم ولا هم يقولون لهم {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} . كون الصواب من الهام الملك والخطأ من إلقاء الشيطان: وقد تنازع الناس في العلم الحاصل في القلب عقيب النظر والاستدلال على أقوال فهؤلاء المتفلسفة يقولون أن ذلك من فيض العقل الفعال عند استعداد النفس والمعتزلة يقولون هو حاصل على سبيل التولد والأشعري وغيره يقولون هو حاصل بفعل الله تعالى كما تحصل سائر الحوادث عندهم لا يجعلون لشيء من الحوادث سببا ولا حكمة. والذي عليه السلف والأئمة أن الله جعل للحوادث أسبابا وحكمة وهذه الحوادث قد تحدث بأسباب من الملائكة أو من الجن وان ما يحصل في القلب من العلم والقوة ونحو ذلك قد يجعله الله بواسطة فعل الملائكة كما قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سأل القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه انزل الله إليه ملكا يسدده" والتسديد هو إلقاء القول السداد في قلبه وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} وقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا} وهؤلاء لم يكونوا أنبياء بل ذلك الهام وقد يكون بتوسط الملك كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} . والآراء والخطأ في الرأي من إلقاء الشيطان ولو كان صاحبها مجتهدا معذورا كما قال غير واحد من الصحابة كأبي بكر وابن مسعود في بعض المسائل: "أقول فيها برأيي فان يكن صوابا فمن الله وان يكن خطا فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء منه". وما يكون من الشيطان إذا لم يقدر الإنسان على دفعه لا يأثم به كما يراه النائم من أضغاث الشيطان وكاحتلامه في المنام فانه وان كان من الشيطان فقد رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ. وكذلك ما يحدث به الإنسان نفسه من الشر قد تجاوز الله له عنه حتى يتكلم به أو يعمل به وإن كان من الشيطان ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به " وفي الصحيحين من غير وجه عن أبي هريرة وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه "إذا هم العبد بحسنة كتبت له حسنة فان عملها كتبت له عشر حسنات وإذا هم بسيئة فلا تكتبوها عليه فان عملها فاكتبوها سيئة وان تركها فاكتبوها له حسنة فانه إنما تركها من جرائي". وفي الصحيح أن الصحابة سألوا النبي عن الوسوسة التي يكرهها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 المؤمن وهي ما يلقي في قلبه من خواطر الكفر فقالوا: يا رسول الله أن احدنا ليجد في نفسه ما لأن يحرق حتى يصير حممة أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به؟ قال: "ذلك صريح الإيمان " وفي حديث آخر: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة". وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى التأذين اقبل فإذا أقيمت الصلاة أدبر فإذا قضيت اقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه فيقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل أن يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين" فقد اخبر أن الشيطان يوسوس في الصلاة ولم يأمر بإعادة الصلاة. فالاعتقادات والإرادات الفاسدة تحصل بسبب شياطين الإنس والجن والاعتقادات الصحيحة والإرادات المحمودة قد تحصل بسبب الملائكة وصالحي الإنس فان سماع الكلم قد يؤثر في قلب المستمع فالمتكلم فاعل فان كان السامع قابلا انتقش كلامه في قلبه وان لم يكن قابلا لم ينتقش فيه. إبطال القول بمعرفة الغيب بدون توسط الأنبياء: وما يذكره طوائف من الباطنية باطنية الشيعة كأصحاب رسائل إخوان الصفا وباطنية الصوفية كابن سبعين وابن عربي وغيرهما وما يوجد في كلام أبي حامد وغيره من أهل الرياضة وتصفية القلب وتزكية النفس بالأخلاق المحمودة قد يعلمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 حقائق ما أخبرت به الأنبياء من أمر الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين واليوم الآخر ومعرفة الجن والشياطين بدون توسط خبر الأنبياء هو بناء على هذا الأصل الفاسد وهو أنهم إذا صفوا نفوسهم نزل على قلوبهم ذلك أما من جهة العقل الفعال أو غيره كلام في الغزالي قادح فيه: وأبو حامد يكثر ذكر هذا وهو مما أنكره عليه المسلمون وقالوا فيه أقوالا غليظة بهذا السبب الذي اسقط فيه توسط الأنبياء في الأمور الخبرية وجعل ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة لا يفيد معرفة شيء من الغيب ولا يعرف معنى كلامه وما يتأول منه وما لا يتأول لكن إذا ارتاض الإنسان انكشفت له الحقائق فما وافق كشفه اقره وما لم يوافقه تأوله ولهذا قالوا: "كلامه يقدح في الإيمان بالأنبياء" وذلك أن هذا مأخوذ من أصول هؤلاء الفلاسفة ولهذا كانوا يقولون: "أبو حامد أمرضه (الشفاء) " وانشد فيه ابن العربي الأبيات المعروفة عنه حيث قال: برئنا إلى الله من معشر ... هم مرض من كتاب الشفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 وكم قلت: يا قوم انتم على ... شفا جرف من كتاب الشفا فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا إلى الله حتى كفى فماتوا على دين رسطالس ... وعشنا على ملة المصطفى وكلامه في مشكوة الأنوار وفي كيمياء السعادة هو قول هؤلاء ولهذا يذكر أن صاحب الرياضة قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران عليه السلام وأمثال هذه الأقاويل التي أنكرها علماء المسلمين العارفين بما جاء به الرسول من الكتاب والسنة من الطوائف كلها من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة واحمد بن حنبل والصوفية المحققين المتبعين للرسول وأهل الحديث ونظار أهل السنة. وقد أنكر عليه طائفة من أهل الكلام والرأي كثيرا مما قاله من الحق وزعموا أن طريقة الرياضة وتصفية القلب لا تؤثر في حصول العلم واخطأوا أيضا في هذا النفي بل الحق أن التقوى وتصفية القلب من أعظم الأسباب على نيل العلم. لكن لا بد من الاعتصام بالكتاب والسنة في العلم والعمل ولا يمكن أن أحدا بعد الرسول يعلم ما اخبر به الرسول من الغيب بنفسه بلا واسطة الرسول ولا يستغني أحد في معرفة الغيب عما جاء به الرسول وكلام الرسول مبين للحق بنفسه ليس كشف أحد ولا قياسه عيارا عليه فما وافق كشف الإنسان وقياسه وافقه وما لم يكن كذلك خالفه بل ما يسمى كشفا وقياسا هو مخالف للرسول فهذا قياس فاسد وخيال فاسد وهو الذي يقال فيه نعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي. والإنسان قد يصفي نفسه ويلقى الشيطان في نفسه أشياء فان لم يعتصم بالذكر المنزل وإلا اقترن به الشيطان كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وقوله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} . الفرق بين طرق متكلمي الإسلام وطرق المناطقة الفلاسفة: فإن قيل ما ذكره أهل المنطق من حصر طرق العلم يوجد نحو منه في كلام متكلمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 المسلمين بل منهم من يذكره بعينه أما بعباراتهم وأما بتغيير العبارة قيل الجواب من وجهين: أحدهما: أن ليس كل ما يقوله المتكلمون حقا بل كل ما جاء به الرسول فهو حق وما قاله المتكلمون وغيرهم مما يخالف ذلك فهو باطل وقد عرف ذم السلف والأئمة لأهل الكلام المحدث المشتمل على الباطل المخالف للكتاب والسنة وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع ومر أن الكلام المذموم الذي ذمه السلف الطيب اتباع الصحابة والتابعين لهم بإحسان هو الكلام الباطل وهو المخالف لما جاء به الرسول. وهذان وصفان ملازمان فكل ما خالف ما جاء به الرسول فهو باطل وكل كلام في الدين باطل فهو مخالف لما جاء به الرسول وبطلان ذلك قد يعلم بالأدلة العقلية مع دلالة الشرع على بطلانه ودلالة الشرع تكون تارة بالأخبار عن الحق والباطل وتارة بالإرشاد والهداية إلى الأدلة التي بها يعرف الحق وينظر العاقل في تلك الأدلة التي ارشد الرسول إليها ودل عليها. الثاني: أن يقال متكلموا الإسلام لم يسلكوا طريق هؤلاء الفلاسفة فانه ليس فيهم أحد يحصر طرق العلم حصرا يدخل فيه الأنبياء كما فعل هؤلاء حيث جعلوا ما علمه الأنبياء داخلا في طريقهم فجعلوا النبوة من جنس ما يكون لبعض الناس إذا كان فيه ذكاء وزهد بل المتكلمون متفقون على أن النبي يعلمه الله بما لا يعلم به غيره بمشيئة الرب وقدرته فإنهم متفقون على أن الله يفعل بمشيئته وقدرته وانه يرسل ملكا إلى النبي وهو يعلم الملك ويعلم ما يقول وما يقوله للنبي ليس فيهم من يقول أن الله لا يعلم الجزئيات ولا أن الله ليس بقادر مختار ولا أن الأفلاك قديمة أزليه ولا من ينكر معاد الأبدان ولا من يقول أن ملائكة الله مجرد ما يتخيل في النفوس كما يتخيل للنائم ولا كلام الله مجرد ما يتخيل في النفوس من الأصوات ولا من يقول أن ما يعلمه الأنبياء من الغيب إنما يفيض على نفوسهم من النفس الفلكية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 ولا يجعل احدهم اللوح المحفوظ هو النفس الفلكية. ولا يقول أحد منهم أن شيئا غير الله أبدع ما سواه كما يقوله هؤلاء أن العقل الأول أبدع كل ما سواه من الممكنات ويسميه من ينتسب إلى الإسلام منهم القلم ويظنون أن الحديث المروي: "إن أول ما خلق الله العقل قال له: اقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر" هو هذا العقل والحديث لفظه حجة عليهم لا لهم ومع هذا فلو كان حجة لهم لم يجز التمسك به لأنه موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك الدارقطني وابن حبان وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهم. بطلان جعلهم النبوة جزءا من الفلسفة: والمتكلمون إذا حصروا طرق العلم حصروا طرق مثلهم وأمثالهم فيذكرون الحسيات والعقليات الضرورية والنظرية سواء كان ذلك الحصر مطابقا أو ليس بمطابق لم يقصدوا أن يذكروا الطريق التي بها يعلم النبي ما يوحي إليه بل هذه الطريق خارجة عما يقدرون عليه هم وأمثالهم من الطرق وليست من جنسها عندهم بخلاف المتفلسفة فان النبي عندهم من جنس غيره من الأذكياء الزهاد لكنه قد يكون أفضل والنبوة عندهم جزء من الفلسفة وهذا هو الضلال العظيم فان الفلسفة كلها لا يصير صاحبها في درجة اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل فضلا عن درجتهم قبل ذلك فضلا عن درجة المؤمنين أهل القران كالصحابة والتابعين فضلا عن درجة واحد من الأنبياء فضلا عن الرسل فضلا عن أولي العزم منهم بل عامة أذكياء الناس وازهد الناس أن يكون مشبها للتابعين بإحسان للسابقين الأولين. فأما درجة السابقين الأولين كأبي بكر وعمر فتلك لا يبلغها أحد وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون فان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 يكن في أمتي فعمر " وفي حديث آخر: "إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه " وقال على: "كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر" وفي الترمذي وغيره "لو لم ابعث فيكم لبعث فيكم عمر ولو كان بعدي نبي ينتظر لكان عمر". ومع هذا فالصديق أكمل منه فان الصديق كمل في تصديقه للنبي فلا يتلقى إلا عن النبي والنبي معصوم والمحدث كعمر يأخذ أحيانا عن قلبه ما يلهمه ويحدث به لكن قلبه ليس معصوما فعليه أن يعرض ما القي عليه على ما جاء به الرسول فان وافقه قبله وان خالفه رده ولهذا قد رجع عمر عن أشياء وكان الصحابة يناظرونه ويحتجون عليه فإذا بينت له الحجة من الكتاب والسنة رجع إليها وترك ما رآه والصديق إنما يتلقى عن الرسول لا عن قلبه فهو أكمل من المحدث وليس بعد أبي بكر صديق أفضل منه ولا بعد عمر محدث أفضل منه. كون معيار الولايات عند العارفين هو لزوم الكتاب والسنة: ولهذا كان الشيوخ العارفون المستقيمون من مشايخ التصوف وغيرهم يأمرون أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 القلوب أرباب الزهد والعبادة والمعرفة والمكاشفة بلزوم الكتاب والسنة قال الجنيد بن محمد: "علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرا القران ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم بعلمنا" وقال الشيخ أبو سليمان الداراني: "إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين الكتاب والسنة" وقال أيضا: "ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يفعله حتى يسمع فيه بأثر" وقال أبو عثمان النيسابوري: "من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة فان الله يقول: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وقال آخر: "من لم يتهم خواطره في كل حال فلا تعده في ديوان الرجال". وقيل لأبي يزيد البسطامي: قد قدم شيخ من أصحابك فذهب ليزوره فرآه قد بصق في القبلة فقال: "ارجعوا بنا هذا رجل لم يأتمنه الله على أدب من آداب الشريعة فكيف يأتمنه على سره" وهذا الذي فعله أبو يزيد يستدل عليه بما في السنن سنن أبي داود وغيره "أن رجلا كان إماما في مسجد من مساجد الأنصار فان كل قبيلة كان لها مسجد فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فرأى بصاقا في القبلة فقال من فعل هذا فذكرا الإمام فنهاهم أن يصلوا خلفه فلما جاء ليؤمهم منعوه وقالوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نصلي خلفك فجاء إليه فذكر ذلك له فقال: صدقوا إنك آذيت الله ورسوله". وقال غير واحد من الشيوخ والعلماء: "لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي" ومثل هذا كثير في كلام المشائخ والعارفين وأئمة الهدى وأفضل أولياء الله عندهم أكملهم متابعة للأنبياء ولهذا كان الصديق أفضل الأولياء بعد النبيين فما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر لكمال متابعته وهم كلهم متفقون على أنه لا طريق للعباد إلى الله إلا باتباع الواسطة الذي بينهم وبين الله وهو الرسول. ولكن دخل في طريقهم أقوام ببدع وفسوق والحاد وهؤلاء مذمومون عند الله وعند رسوله وعند أوليا الله المتقين وهم صالحوا عباده مثل من يظن أن لبعض الأولياء طريقا إلى الله بدون اتباع الرسول أو يظن أن من الأولياء من يكون مثل النبي أو أفضل منه أو أنه يكون من هو خاتم الأولياء أفضل من السابقين الأولين أو اعلم بالله من خاتم الأنبياء وأمثال هذه المقالات التي تقولها من دخل فيهم من الملاحدة الضالين ومن هذا الوجه صار قوم متصوفون يتفلسفون. وتكلم ابن سينا في إشاراته على مقامات العارفين وقال الرازي في شرحه: "هذا الباب اجل ما في الكتاب فانه رتب علم الصوفية ترتيبا ما سبقه إليه من قبله ولا يلحقه من بعده" وهذا الذي قاله الرازي قاله بحسب معرفته فانه لم يكن عارفا بطريق الصوفية العارفين المتبعين للكتاب والسنة ولعله قد رأى من صوفية وقته وفيه من الجهالات والضلالات ما رأى أن هذا الكلام أحسن ما يرتب عليه طريقهم وقد ذكر في مقامات العارفين أمر النبوة التي يثبتونها. الفناء المذموم والفناء المحمود: وآخر ما انتهى إليه العارفون في تسليكه هو الفناء عما سوى الحق الذي أثبته والبقاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 به وهذا لو كان سالكه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويفعل ما أمر الله به وينتهي عما نهى الله عنه فيسلك سلوك اتباع الرسل لكانت هذه الغاية سلوكا ناقصا عند أئمة العارفين فان الفناء الذي أثبته إنما هو الفناء عن شهود السوي وكذلك من اتبعه مثل ابن الطفيل المغربي صاحب رسالة حي بن يقظان وأمثاله وهذا فناء عن ذكر السوى وشهوده وحظوره بالقلب وهذا حال ناقص يعرض لبعض السالكين ليس هو الغاية ولا شرطا في الغاية. بل الغاية الفناء عن عبادة السوي وهو حال إبراهيم ومحمد الخليلين صلى الله عليه وسلم فانه قد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: "إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا". وحقيقة هذا الفناء هو تحقيق الحنيفية وهو إخلاص الدين لله وهو أن يغني يفني بعبادة الله عن عبادة ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبالحب فيه والبغض فيه عن الحب فيما سواه والبغض فيه فلا يكون لمخلوق من المخلوقين لا لنفسه ولا لغير نفسه على قلبه شركة مع الله تعالى ولهذا أمر إبراهيم الخليل بذبح ابنه فانه كان قد سأل الله أن يهبه إياه ولم يكن له ابن غيره. فان الذبيح هو إسماعيل على اصح القولين للعلماء وقول أكثرهم كما دل عليه الكتاب والسنة فقال الخليل: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 الله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} والغلام الحليم إسماعيل وأما إسحاق فقال فيه {نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} وإسحاق بشرت به سارة أيضا لما غارت من هاجر والله ذكر قصته بعد قصة الذببح فانه لما ذكر قصة الذببح قال بعدها وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين والمقصود هنا أن الله أمر الخليل بذبح ابنه بكره امتحانا له وابتلاء ليخرج من قلبه محبة ما سوى الله ليتم كونه خليلا بذلك فهذا هو الكمال. وأما مجرد شهوده الحق من غير فعل ما يحبه ويرضاه فهذا ليس بإيمان ينجي من عذاب الله فضلا عن أن يكون هذا غاية العارفين. ثم الذي لا يشهد السوي مطلقا أن شهده عين السوي فهذا قول الملاحدة القائلين بوحدة الوجود وان كان ذلك لغيبته وأعراضه عن شهود السوي فمن شهد ما سواه مخلوقا له آية له وشهد ما فيه من آياته كان أكمل ممن لم يشهد هذا وهؤلاء قد يبلغ بهم الأمر إلى أن يروا أن شهود الذات مجردة عين الصفات هو أعلى مقامات الشهود وهذا من جهلهم فان الذات المجردة عن الصفات لا حقيقة لها في الخارج وليس ذاك رب العالمين ولكن هم في أنفسهم جردوها عن الصفات وشهدوا مجرد الذات كما يشهد الإنسان تارة علم الرب وتارة قدرته فهؤلاء شهدوا مجرد ذات مجردة فهذا في غاية النقص في معرفة الله والإيمان به فكيف يكون هذا غاية ومنهم من ينظر هذا شرطا في السلوك وليس كذلك بل السابقون الأولون أكمل الناس ولم يكن مثل هذا يخطر بقلوبهم ولو ذكره أحد عندهم لذموه وعابوه. الفرق بين شهود الخلق وشهود الشرع: ومن جعل من الصوفية هذا الفناء غاية وقال أنه يفني عن شهود فعل الرب حتى لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة فهذا غلط عند أئمة القوم وأصحاب هذا الفناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 يسمون هذا اصطلاما ومحوا وجمعا وكان الجنيد رضي الله عنه لما رأى طائفة من أصحابه وصلوا إلى هذا أمرهم بالفرق الثاني وهو أن يفرقوا بين المأمور والمحظور وما يحبه الله وما يسخطه حتى يحبوا ما أحب ويبغضوا ما ابغض وإلا فإذا شهدوا خلقه لكل شيء ولم يشهدوا إلا هذا الجمع استوت الأشياء كلها في شهودهم لشمول الخلق والمشيئة والقدرة لكل شيء وهذا شهود لقدره لا لشرعه ودينه فلم يبق في قلوبهم حب لما يحبه وبغض لما يبغضه وموالاة لما يواليه ومعاداة لما يعاديه وكانوا ممن انكر عليهم سبحانه بقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وقال فيهم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} . ونفس ولاية الله مخالفة لعداوته واصل الولاية والعداوة الحب والبغض فأولياء الله هم الذين يحبون ما أحب ويبغضون ما ابغض وأعداؤه الذين ما يحب ويحبون ما يبغض وقد قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وقال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} . فمن لم يشهد بقلبه إلا خلقه الشامل ومشيئته العامة وربوبيته الشاملة لكل شيء لم يفرق بين وليه وعدوه ولم تتميز عنده الفرائض والنوافل وغيرها وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدي بمثل ما افترضت عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء انا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت واكره مساءته ولا بد له منه". فالناظر إلى القدر لا يفرق بين مأمور ومحذور سواء كان فرضا أو نفلا وهو مع هذا لا بد لنفسه أن تميل إلى شيء وتنفر عن شيء فان خلو الحي عن الإرادة مطلقا محال فان لم يحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه أحب ما تحبه نفسه وابغض ما تبغضه نفسه فيخرج عن الفرق الإلهي النبوي الذي هو حقيقة قول لا اله إلا الله وحقيقة دين الإسلام إلى الفرق النفساني الشيطاني. ثم هؤلاء صاروا فرقا أما ابن سينا وأمثاله من الملاحدة فإنهم يأمرون بهذا مع سائر إلحادهم من نفي الصفات وقدم الأفلاك وإنكار معاد الأبدان وجعل النبوة تنال بالكسب كالذكاء والزهد وإنما يفيض عليها فيض من العقل الفعال فيخرج من دين المسلمين واليهود والنصارى. بل الفناء المحمود عند العارفين هو تحقيق شهادة أن لا اله إلا الله فلا يشهد لمخلوق شيئا من الإلهية فيشهد أنه لا خالق غيره ويشهد أنه لا يستحق العبادة غيره ويتحقق بحقيقة قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 عَلَيْهِ} وإلا فإذا شهدت أنه المستحق للعبادة مع رؤيتك نفسك لم تشهد حقيقة إياك نستعين وإذا شهدت حقيقة أنه الفاعل لكل شيء ولم تشهد أنه المستحق للعبادة دون ما سواه وان عبادته إنما تكون بطاعة رسوله لم تشهد حقيقة إياك نعبد وإذا تحققت بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تحققت بالفناء في التوحيد الذي بعث الله به رسله وانزل به كتبه قال الله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} . وقال تعال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وقال تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} . ولهذا لما سلك ابن عربي وابن سبعين وغيرهما هذه الطريق الفاسدة أورثهم ذلك الفناء عن وجود السوي فجعلوا الموجود واحدا ووجود كل مخلوق هو عين وجود الحق وحقيقة الفناء عندهم أن لا يرى إلا الحق وهو الرائي والمرئي والعابد والمعبود والذاكر والمذكور والناكح والمنكوح والأمر الخالق هو الأمر المخلوق وهو المتصف بكل ما يوصف به الوجود من مدح وذم وعباد الأصنام ما عبدوا غيره وما ثم موجود مغاير له البتة عندهم وهذا منتهي سلوك هؤلاء الملحدين. فحقيقته قول فرعون لأن فرعون كان في الباطن عالما بأن ما يقوله باطل وكان جاحدا مريدا للعلو والفساد ولهذا جحد وجود الصانع بالكلية وأما هؤلاء فجهال ضلال يحسبون أن ما يقولونه هو حقيقة إثبات الرب وتعظيمه وهو في الحقيقة قول فرعون فان فرعون ما كان ينكر وجود هذا العالم ولا ينكر أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود وإنما كان ينكر أن لهذا الوجود خالقا مباينا له ولهذا أمر ببناء ليكذب موسى بزعمه أن للعالم آلها فوقه قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} وقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} . وأكثر هؤلاء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود يقولون أن فرعون أكمل من موسى وان فرعون صادق في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} لأن الوجود فاضل ومفضول والفاضل يستحق أن يكون رب المفضول ومنهم من يقول مات مؤمنا وان تغريقه كان ليغتسل غسل الإسلام فإنهم مع قولهم بأن الوجود واحد قد يقولون أما بقول بعضهم أن الثبوت غير الوجود وان ماهيات الممكنات ثابتة وان وجود الحق قاض عليها كما يقول ذلك ابن عربي وغيره وأما أن يفرق بين المطلق والمعين كما يقوله صاحبه القونوي وابن سبعين قوله قريب من هذا وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع وإنما ذكروا هنا لأن هؤلاء هم آخر مراتب فلاسفة الصوفية الذين يقولون أنهم أهل التحقيق والعرفان وكل من سواهم عندهم ناقص بالنسبة إليهم وقد رأيت من هؤلاء غير واحد. وهم يرتبون الناس طبقات أدناها عندهم الفقيه ثم المتكلم ثم الفيلسوف ثم الصوفي أي صوفي الفلاسفة ثم المحقق ويجعلون ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة في الثانية وأبا حامد وأمثاله من الصوفية من العشرة ويجعلون المحقق هو الواحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 ولهذا ذكر ابن عرابي في الفتوحات له أربع عقائد الأول: عقيدة أبي المعالي وأمثاله مجردة عن الحجة ثم هذه العقيدة بحجتها ثم عقيدة الفلاسفة ثم عقيدة المحققين وذلك أن الفيلسوف يفرق بين الوجود والممكن والواجب وهؤلاء يقولون الوجود واحد والصوفي الذي يعظمه هؤلاء هو الصوفي الذي عظمه ابن سينا وبعده المحقق. وهؤلاء ليسوا مسلمين ولا يهودا ولا نصارى بل كثير من المشركين أحسن حالا منهم وهؤلاء أئمة النظار المتفلسفة وصوفيتهم وشيعتهم كان من أسباب تسلطهم وظهورهم هو بدع أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والرافضة ومن نحا نحوهم في بعض الأصول الفاسدة فان هؤلاء اشتركوا هم وأولئك الملاحدة في أصول فاسدة يجعلونها قضايا عقلية صادقة وهي باطلة كاذبة مخالفة للشرع والعقل. مقالات للفلاسفة لم يذهب إليها أحد من طوائف المسلمين: ثم أراد هؤلاء المتكلمون الرد عليهم في إلحادهم الظاهر الذي يظهر فيه فخالفتهم للمسلمين مثل القول بقدم العالم وإنكار علم الله بالجزئيات والقول بإنكار المعاد وهذه الثلاثة هي التي يكفرهم بها أبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة وطائفة يقولون أن سائر أقوالهم الباطلة هي البدع التي ذهب إليها بعض أهل الكلام كإنكار الصفات وليس الأمر كما قاله هؤلاء بل مقالاتهم التي لم يذهب إليها أحد من طوائف المسلمين لا أهل البدعة ولا أهل السنة كثيرة مثل قولهم في النبوات والملائكة وكلام الله وقولهم في الشفاعة وإنكار مشيئة الله وقدرته وليس هذا من لوازم القول بقدم العالم بل في القائلين بذلك من يقول أن الله يفعل بمشيئته وقدرته كأحد القولين الذين ذكرهما أبو البركات واختاره وكذلك ما يقولونه في الملائكة أنها مجرد ما يتخيل في النفوس أو أنها العقول وان الواحد منها أبدع كل ما سواه وان العقل الفعال هو المدبر لكل ما تحت الفلك وان الوحي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 الأنبياء إنما يجيء منه وانه منتهى معاد الأنفس. فإنكارهم لقدرة الله ومشيئته أعظم من إنكارهم لعلمه بالجزئيات فان كثير من الناس كان لا يعرف ذلك ولكن يعلم أن الله قادر خلق الأشياء بمشيئته كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال: "اجتمع عند البيت ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال: أحدهم أترون الله يسمع ما نقول فقال الثاني: يسمع أن جهرنا ولا يسمع أن أخفينا فقال الثالث: أن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا فأنزل الله: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وهؤلاء يقرون بأن الله خلق السموات والأرض بمشيئته وقدرته وكذلك كان بعض أحداث من المسلمين قد يجهل هذه المسألة فيقول يا رسول الله مهما يكتم الناس يعلمه الله فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم نعم ولم يكن هؤلاء يجهلون أن الله خلق كل شيء بمشيئته وقدرته بل كان هذا من أظهر الأمور وأعرفها عند عامة المسلمين بل وعامة المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام وهم كفار وهم مشركون وهم الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم أول من يتناوله ذم القرآن للمشركين ومع هذا فكانوا مقرين بأن الله خلق السموات والأرض وما بينهما وخلق كل شيء بقدرته ومشيئته فكانوا أحسن حالا من هؤلاء الفلاسفة في الإقرار بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وانه خلق الأشياء بمشيئة وقدرته. فان هؤلاء حقيقة قولهم أنه لم يخلق شيئا ومتقدموهم كأرسطو وأتباعه على أنه علة يتحرك الفلك للتشبه بها فليس هو عندهم لا موجبا بالذات ولا فاعلا بالمشيئة وأما ابن سينا وأمثاله ممن يقول أنه موجب بذاته فهم يقولون ما يعلم جماهير العقلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 أنه مخالف لضرورة العقل إذ يثبتون مفعولا ممكنا يمكن وجوده ويمكن عدمه وهو مع هذا قديم أزلي لم يزل ولا يزال وهو مفعول معلول لعلة فاعلة لم يزل مقارنا لها في الزمان فكل من هذين القولين مما خالفوا فيه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين حتى سلفهم كأرسطو ونحوه فإنهم لم يقولوا بهذا ولا بهذا بل أولئك يقولون أن الفلك قديم أزلى بنفسه ليس له مبدع ولكن يتحرك للتشبه بالعلة الأولى فهو مفتقر إليها من هذه الجهة لا من جهة أنها مبدعة له وحقيقة قوله أنها شرط في وجود العالم مع وجوبه بنفسه فيجعلون الواجب بنفسه مفتقرا إلى غيره وهذا مما ينكره متأخروهم كابن سينا وأمثاله. وكذلك القائلون بالعلة الموجبة كابن سينا وابن رشد والسهروردى وغيرهم حقيقة قولهم أنه شرط في وجود الممكنات لا مبدع لها ولا فاعل فإنهم لا يثبتون للحوادث محدثا أصلا في نفس الأمر إذ الفلك عندهم ممكن له مبدع وهو متحرك باختياره كما يتحرك الإنسان باختياره وله نفس فلكية كما للإنسان نفس وليس عندهم فوقه شيء يحدث عنه شيء. وإن قالوا أنه معلول فقولهم في الفلك أقبح من قول القدرية في أفعال الحيوان فان القدرية يقولون أن الله خلق الحيوان بقدرته ومشيئته فجعل له قدرة تصلح للضدين فهو يحدث أرادته وأفعاله بقدرته ومشيئته وهؤلاء لا يجعلون الفلك مخلوقا في الحقيقة وإن قالوا هو معلول ولو جعلوه مخلوقا فعندهم هو متحرك حركة اختيارية نفسانية بمشيئة وقوة فيه وليس فوقه شيء يحدث هذه الحركة ولا يفعلها وإنما الفلك متحرك للتشبه بالأول لاستخراج أيونه وأوضاعه إذ هي غاية كماله. وإن قالوا أن حركته تصدر عن الأول فكلام لا حقيقة له فإنهم وكل عاقل يعلم أن الشيء البسيط الذي هو على حال واحدة أزلا وأبدا لا يحدث عنه شيء فضلا عن حوادث مختلفة ويعلمون أن المتغيرات لا تصدر عن بسيط البتة وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 والمقصود هنا التنبيه على أن الكفر الذي يوجد فيهم قولا وفعلا أعظم من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب الذين هم أول من بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم ونزل فيه القرآن بكفره واستحقاقه النار. الشفاعة الشركية المنفية والشفاعة الشرعية الثابتة: ومن ذلك أن أولئك المشركين كانوا يجعلون ما يشركون به شفعاء يشفعون لهم إلى الله والله يقبل شفاعتهم وهو سؤالهم ودعاؤهم بقدرته ومشيئته كما ذكر الله ذلك في مواضع من كتابه فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} . ولهذا نفى الله شفاعة أحد إلا باذنه في غير موضع من القرآن بقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وقوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} وقال: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . فهذه الشفاعة التي نفاها القرآن تتضمن نفى ما كان يقوله مشركوا العرب وأمثالهم من المشركين وهى من جنس شرك النصارى ونحوهم من الضلال المنتسبين إلى الإسلام حيث يعتقدون في الملائكة أو الأنبياء أو الشيوخ أنهم شفعاء لهم عند الله كما يشفع الشفعاء إلى ملوك الدنيا ويضربون لله مثلا فيقولون من أراد أن يتقرب إلى ملك عظيم فلا ينبغي له أن يأتي إليه أولا بل يتقرب إلى خاصته وهم يرفعون حوائجه ويقربونه إليه قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ذكر سبحانه هذا بعد قوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} . وقال في هذه السورة: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} وقال فيها: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} وقال فيها: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} . تفسير قوله تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون} الاية: وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} . روى ابن أبي حاتم وغيره بأسانيد ثابتة عن شعبة عن السدي سمع أبا صالح عن ابن عباس في قول الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} هو عيسى وأمه وعزير والملائكة وكذلك في تفسير عطية عن ابن عباس قال: "كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا" وعن إسرائيل عن السدي عن أبي صالح: "عيسى وعزير والملائكة" وكذلك في تفسير أسباط عن السدي قال: "ذكروا أنهم اتخذوا الآلهة وهو حين عبدوا الملائكة والمسيح وعزيرا قال الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} . وفي صحيح البخاري وغيره عن ابن مسعود قال: "كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك الآخرون بعبادتهم فنزلت: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} إلى أخر الآية وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 روى ابن أبي حاتم وغيره أن ابن شوذب عن مطر الوراق قال: "أنزلها الله في حي من العرب كانوا يعبدون حيا من الجن" وفي تفسير مقاتل: "أن المشركين كانوا يعبدون الملائكة ويقولون هي تشفع لنا عند الله فلما ابتلوا بالقحط سبع سنين قيل لهم: {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} . والآية تتناول كل من دعى غير الله وذلك المدعو يبتغى إلى الله الوسيلة أي القربى والزلفى ويرجو رحمة الله ويخاف عذابه وهذا يدخل فيه الملائكة والأنبياء والصالحون الإنس والجن وقد قرأ طائفة (أولئك الذين تدعون) فبين أن الذين يدعونهم المشركون هم يتقربون إلى الله ويرجونه ويخافونه فكيف يجوز دعاؤهم وهذا كقوله: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} . حصر أقسام المدعوين من دون الله ونفى كل واحد منهم: وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فذكر سبحانه الأقسام الممكنة فان المشرك الذي يدعو غير الله ويرجوه ويخافه أما أن يجعله مالكا أو شريكا أو ظهيرا أو شفيعا وهكذا كل من طلب منه أمر من الأمور أما أن يكون مالكا مستقلا به وأما أن يكون شريكا فيه وأما أن يكون عونا وظهيرا لرب الأمر وأما أن يكون سائلا محضا وشافعا إلى رب الأمر فإذا انتفت هذه الوجوه امتنعت الاستغاثة به. ولهذا كان الناس بعضهم مع بعض من الملوك وغيرهم فيما يتساءلونه لا يخرجون عن هذه الأقسام أما أن يكون لكل منهما ملك متميز عن الآخر فيطلب من هذا ما في ملكه ومن هذا ما في ملكه وأما أن يكون أحدهما شريكا للآخر فيطلب منه ما يطلب من الشريك وأما أن يكون أحدهما من أعوان الآخر وأنصاره وظهرانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 كأعوان الملوك فهو محتاج إليهم فيطلب منهم ما يحتاج إليه وإذا انتفت هذه الوجوده لم يبق إلا مجرد طلب محض وسؤال من غير حاجة بالمسئول إلى السائل الشافع. والمشركون بالله كل منهم في نوع من هذه الأنواع منهم من اثبت فاعلا مستقلا غير الله لكن لم يثبتوه مماثلا له لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وهذا كالمجوس الذين أثبتوا قديما شريرا يستقل بفعل الشر وكذلك القائلون منهم أنه خلق الشر والقدرية من جميع الأمم أثبتوا غير الله يحدث أشياء ينفرد بأحداثها دون الله وإن كان الله خالقا له ولهذا قال السلف القدرية مجوس هذه الأمة. والقائلون بقدم العالم كلهم لا بد لهم من إثبات غير الله فاعلا أما أرسطو وأتباعه فان الفلك عندهم بحركته هو المحدث للحركات وما يتولد عنها ثم من أثبت له شريكا من العقول والنفوس جعله مستقلا بإحداث شيء وذاك مستقلا بإحداث شيء ومن قال منهم بالعلة المشبهة بها ومن قال بالموجب بالذات فان الطائفتين لا يثبتون في الحقيقة أن الله أحدث شيئا ولا خلقه. والله سبحانه نفى أن يكون لغير ملك أو شرك في الملك أو يكون له ظهير فانه سبحانه هو وحده خالق كل شيء وربه ومليكه وهذا هو مذهب أهل السنة المثبتين للقدر القائلين بأن الله خالق كل شيء بمشيئته وقدرته لكن السلف والأئمة وأتباعهم يثبتون قدره العبد وفعله ويثبتون الحكمة والأسباب وجهم ومن اتبعه من أهل الكلام ينفون ذلك كله كما قد بسط في موضعه. تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} الآية: ولم يثبت سبحانه إلا الشفاعة لكن اثبت شفاعة مفيدة ليست هي الشفاعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 التي يظنها المشركون فقال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} وقد جاءت الأحاديث الصحيحة والآثار عن الصحابة والتابعين تخبر بما يوافق تفسير هذه الآية من حال الملائكة مع الله كما وصفهم تعالى في الآية الأخرى فقال: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} ففي الحديث الصحيح الذي رواه احمد والبخاري وغيرهما عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله إذا قضى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلى الكبير فيسمعها مسترقو السمع وهم هكذا " -ووصف سفيان بيده فأقامها منحرفة- "فربما أدرك الشهاب المسترق قبل أن يرمى بها إلى صاحبه فيحرقه وربما لم يدركه فيرمى بها إلى الذي يليه ثم يرمى بها إلى الذي يليه إلى الذي يليه ثم يلقيها إلى الأرض فتلقى على لسان الساحراو لسان الكاهن فيكذب عليها مائة كذبة فيقولون قد اخبر يوم كذا وكذا بكذا وكذا فوجدنا حقا للكلمة التي سمعت من السماء". وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن الزهري عن علي بن الحسين عن عبد الله بن عباس حدثني رجل من الانصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بنجم فاستنار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 "ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول ولد عظيم أو مات عظيم قال: فانه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرا سبحه حمله العرش ثم سبحه أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل السماء الدنيا ثم يقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير فيقولون كذا وكذا فيخبر أهل السموات بعضهم بعضا حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيلقونه إلى أوليائهم فيلقون إلى أوليائهم فيرمون فما جاءوا به على وجهه فهو الحق ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون". وكذلك في الحديث الآخر المعروف من رواية نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله أن يوحى بأمره تكلم بالوحي فإذا تكلم أخذت السموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة من خوف الله فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فيمضي به جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول قال الحق وهو العلى الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله من السماء والأرض" وقد رواه ابن أبي حاتم والطبري وغيرهما. وقوله: {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أي أزال عنها الفزع وكذلك قال غير واحد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 السلف: "جلى عن قلوبهم" وهذا كما يقال قرد البعير إذا أزال عنه القراد ويقال تحرج وتحوب وتأثم وتحنث إذا أزال عنه الحرج والحوب والإثم والحنث. وروى ابن أبي حاتم ثنا الحسن بن محمد الواسطي ثنا يزيد بن هارون عن شريك عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس في قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} قال: "كان إذا نزل الوحي كان صوته كوقع الحديد على الصفوان قال: فيصعق أهل السماء حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم قالت الرسل: الحق وهو العلى الكبير" وقال عن الحادث الدمشقي ثنا أبى عن عن جعفر بن أبي المغيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} قال: "تنزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعة كوقعة السلسلة على الصخرة فيفزع له جميع أهل السموات فيقولون ماذا قال ربكم ثم يرجعون إلى أنفسهم فيقولون الحق وهو العلى الكبير". ويروى من تفسير عطية عن ابن عباس {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} الآية قال: "لما أوحى الله إلى محمد دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي سمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله فقالوا الحق وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا وانه منجزة" قال ابن عباس: "وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا فلما سمعوه خروا سجدا فلما رفعوا رؤسهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير". وبإسناده من تفسير قتادة رواية عبد الرزاق عن معمر عنه {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} قال: "لما كانت الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فنزل الوحي مثل صوت الحديد فأفزع الملائكة ذلك فقال الله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 عن قلوبهم} يقول: حتى إذا جلي عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير. ويروى بإسناده من تفسير الوالبي عن ابن عباس فزع عن قلوبهم قال: جلي عن قلوبهم. قال: وروى عن ابن عمر وأبي عبد الرحمن السلمي وللشعبي والضحاك والحسن وإبراهيم النخعي وقتادة مثل ذلك. وقد روى أحمد وغيره عن أبي معاوية أو عبد الرحمن عن الأعمش عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صوته كحر السلسلة على الصفا فيعصون لذلك ويخرون سجدا فإذا علموا أنه وحي فزع عن قلوبهم قال: فيرد إليهم فينادي أهل السموات بعضهم بعضا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير" , وقد رواه أبو داود في سننه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الذي جاء به الكتاب والسنة والآثار مما يصيب الملائكة عند سماع الوحي إذا قضى الله الأمر يتناول ما يقضيه بخلقه وبقدره وما يقضيه بشرعه وبأمره. فإنهم ذكروا ذلك عند تكلمه بالقرآن وعندما يقضيه من الحوادث التي يسمع بعضها مسترق السمع ويخبر بها الكهان ومسترق السمع وهذا الصنف هو الغالب فإن إرسال رسول من البشر قليل بالنسبة إلى هذه الحوادث. قول الفلاسفة في الشفاعة أعظم شركا من قول غيرهم: وقال سبحانه: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فبين سبحانه أن من اتخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر مع أن المشركين إنما كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بهم إلى الله زلفى فإذا كان هؤلاء الذين دعوا مخلوقا ليشفع لهم عند الله كما يشفع المخلوق عند المخلوق فيسأله ويرغب إليه بلا إذنه وقد جعلهم الله مشركين كفارا مأواهم جهنم فكيف بشرك هؤلاء الفلاسفة وما يثبتونه من الشفاعة فإنهم يجوزون دعاء الجواهر العلوية الشمس والقمر والكواكب وكذلك الأرواح التي يسمونها العقول والنفوس ويسميها من انتسب إلى أهل الملل الملائكة وهؤلاء المشركون قد تنزل عليهم أرواح تقضى بعض مطالبهم وتخبرهم ببعض الأمور وهم لا يميزون بين الملائكة والجن بل قد يسمون الجميع ملائكة وأرواحا ويقولون روحانية الشمس روحانية عطارد روحانية الزهرة وهى الشيطان والشيطانة التي تضل من أشرك بها كما أن لنفس الأصنام وهي التماثيل المصنوعة على اسم الوثن من الأنبياء والصالحين أو على اسم كوكب من الكواكب أو روح من الأرواح والأصنام أيضا لها شياطين تدخل فيها وتكلم أحيانا بعض المشركين وقد تترايا أحيانا فيراها بعض الناس من السدنة وغيرهم. فالمشركون من الفلاسفة القائلين بقدم العالم هم أعظم شركا وما يدعونه من الشفاعة لألهتم أعظم كفرا من مشركي العرب فإنهم لا يقولون أن الشفيع يسأل الله والله يجيب دعوته كما يقوله المشركون الذين يقولون أن الله خالق بقدرته ومشيئته فان هؤلاء عندهم أنه لا يعلم الجزئيات ولا يحدث شيئا بمشيئته وقدرته وإنما العالم فاض عنه. فيقولون إذا توجه الداعي إلى من يدعوه كتوجه إلى الموتى عند قبورهم وغير قبورهم وتوجهه إلى الأرواح العالية فانه يفيض عليهم ما يفيض من ذلك المعظم الذي دعاه واستغاث به وخضع له من غير فعل من ذلك الشفيع ولا سؤال منه لله تعالى كما يفيض شعاع الشمس على ما يقابلها من الأجسام الصقيلة كالمرآة وغيرها ثم ينعكس الشعاع من ذلك الجسم الصقيل إلى حائط أو ماء وهذا قد ذكره غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 واحد من هؤلاء كابن سينا ومن اتبعه كصاحب الكتب المضنون بها وغيره. وهؤلاء يزورون القبور الزيارة المنهي عنه بهذا القصد فان الزيارة الشرعية مقصودها مثل مقصود الصلاة على الجنازة يقصد بها السلام على الميت والدعاء له بالمغفرة والرحمة وأما الزيارة المبتدعة التي هي من جنس زيادة المشركين فمقصودهم بها طلب الحوائج من الميت أو الغائب أما أن يطلب الحاجة منه أو يطلب منه أن يطلبها من الله وأما أن يقسم على الله به ثم كثير من هؤلاء يقول أن ذلك المدعو يطلب تلك الحاجة من الله أو أن الله يقضيها بمشيئته واختياره للإقسام على الله بهذا المخلوق وأما أولئك الفلاسفة فيقولون بل نفس التوجه إلى هذه الروح يوجب أن يفيض منها على المتوجه ما يفيض كما يفيض الشعاع من الشمس من غير أن تقصد هي قضاء حاجة أحد ومن غير أن يكون الله يعلم بشيء من ذلك على أصلهم الفاسد. فتبين أن شرك هؤلاء وكفرهم أعظم من شرك مشركي العرب وكفرهم وأن اتخاذ هؤلاء الشفعاء الذين يشركون بهم من دون الله أعظم كفرا من اتخاذ أولئك. ليس توسط البشر عند الحنفاء كتوسط العلويات عند الفلاسفة: ولهذا كانت مناظرة كثير من أهل الكلام لهم مناظرة قاصرة حيث لم يعرف أولئك حقيقة ما بعث الله به رسله وانزل به كتبه وما ذمه من الشرك ثم يكشفون بنور النبوة ما عند هؤلاء من الضلال كما ناظرهم الشهر ستاتي في كتاب الملل والنحل لما ذكر فصلا في المناظرة بين الحنفاء وبين الصابئة المشركين فان الحنفاء يقولون بتوسط البشر وأولئك يقولون بتوسط العلويات فأخذ يبين أن القول بتوسط البشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 أولى من القول بتوسط العلويات ومعلوم أنه إذا أخذ التوسط على ما يعتقدونه في العلويات كان قولهم اظهر فكان رده عليهم ضعيفا لضعف العلم بحقيقة دين الإسلام. فان الحنفاء ليس فيهم من يقول بإثبات البشر وسائط في الخلق والتدبير والرزق والأحياء والإماتة وسماع الدعاء وإجابة الداعي بل الرسل كلهم وأتباع الرسل متفقون على أنه لا يعبد إلا الله وحده فهو الذي يسأل ويعبد وله يصلى ويسجد وهو الذي يجيب دعاء المضطرين ويكشف الضر عن المضرورين ويغيث عباده المستغيثين {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} . وليس عند الحنفاء أن أحدا غير الله يستقل بفعل شيء بل غايته أن يكون سببا والأثر لا يحصل إلا به وبغيره من الأسباب وبصرف الموانع والله تعالى هو الذي يخلق بتأثير الأسباب وبدفع الموانع مع خلقه سبحانه أيضا لهذا السبب لكن المقصود أنه ليس في الوجود ما يستقل بإحداث شيء ولا ثم شيء يوجب كل اثر إلا مشيئة الله وحده فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. والرسل هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ رسالاته وأمره ونهيه ووعده ووعيده كما قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} فاخبر أنه أرسله شاهدا كما قال: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وقال: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ولما دفن النبي صلى الله عليه وسلم شهداء أحد قال: "أما أنا فشهيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 على هؤلاء" وقوله: {مُبَشِّراً وَنَذِيراً} بالوعد والوعيد وداعيا إلى الله بإذنه بالأمر والنهى. وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقد اخبر الله عن أول الرسل نوح عليه السلام ومن بعده من الرسل أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال نوح: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} وكذلك قال لخاتم الرسل: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِللاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} . فتوسط البشر بالرسالة مثل توسط الملك بالرسالة كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فهذا جبريل ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} وقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ} كقوله في الآية الأخرى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 الحكمة في إرسال الرسول البشري إلى البشر دون الملكي: فقوله صاحبكم تنبيه على نعمته على البشر وإحسانه إليهم إذ بعث إليهم من يصحبهم ويصحبونه بشرا مثلهم فإنهم لا يطيقون الأخذ عن الملك كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} . وروى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة عن منجاب بن الحرث عن بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ} لأهلكناهم {ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} لا يؤخرون {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} يقول: "لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة" وكذلك قال غيره من المفسرين {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ} قالوا لخلطنا ولشبهنا عليهم ما يخلطون ويشبهون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدروا املك هو أو أدمى. فبين سبحانه أنه لو أنزل ملكا لم يمكنهم أن يروه إلا في صورة بشر كما كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآه الناس في صورة دحية الكلبى أو في صورة أعرابي لما أتاه وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وكذلك لما أتوا إبراهيم ولوطا ورأتهم سارة وقم لوط لم يأتوا إلا في صورة رجال وكذلك لما أتى جبريل مريم عليه السلام لينفخ فيها أتاها في صورة رجل قال تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} وإذا كانوا لا يستطيعون أن يروا الملك إلا في صورة رجل فلو جاءهم لقالوا هذا بشر ليس بملك واشتبه الأمر واختلط والتبس الأمر عليهم فلم تكن هذه شبهة تنقطع بانزال ملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 وهذا كما قال في السورة الأخرى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إَِّلا كُفُوراً} إلى قوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} . وأيضا في قوله صاحبكم بيان أنه عربي بعث بلسانهم كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وقد قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . قيل المراد من أنفس العرب فالخطاب لهم. وقيل من أنفس بني ادم فهو بشر لا ملك ولا جني لأن الخطاب لجميع الخلق الذين أرسل إليهم لا سيما وهذه في سورة براءة وهي من آخر القران نزولا وقيل أن هذه الآية آخر ما نزل وقد نزلت بعد دعوة الروم والفرس والقبط وهو بالمؤمنين من هؤلاء كلهم رؤوف رحيم ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم من الإنس ومن العرب أفضل الإنس ومن قريش أفضل العرب ومن بني هاشم أفضل قريش والأنفس يراد بهم جنس الإنسان كما قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} فقوله: {صَاحِبُكُمْ} مثل قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ومثل قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} . وقوله: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} لم يقصد بهذا اللفظ تفضيل الملك عليه كما توهمه بعض الناس كما أن قوله: {أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 مِنْهُمْ} وقوله: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} لم يقصد به أن غيره أفضل منه. كون الرسول مبلغا للقرآن عن الله لا محدثا له: وقال سبحانه: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} فالرسول هنا هو الرسول الملكي جبريل وقال في السورة الأخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأضافه إلى هذا الرسول تارة والى هذا تارة لأن كلا من الرسولين بلغه وأداه ولفظ الرسول يتضمن مرسلا أرسله فكان في اللفظ ما يبين أن الرسول مبلغ له عن غيره لا أن الرسول أحدث شيئا منه كما توهمه بعض الناس وظن أن إضافته إلى رسول يقتضى أنه هو الذي أحدث القران العربي فانه قد أضافه إلى هذا تارة والى هذا تارة فلو كان المراد الإحداث لتناقض الخبران. ولأنه أضافه إليه باسم رسول لم يقل أنه لقول ملك ولا قول بشر بل قد كفر من قال أنه قول البشر في قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً} إلى قوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} والكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 الذي توعد بسقر من قال أنه قول البشر هو الكلام الذي أضافه إلى رسول من البشر تارة والى رسول من الملائكة تارة لأن المراد هناك أنه بلغه والذي كفره قال أنه أنشأه وانه كلام نفسه سواء كان المراد المعنى أو اللفظ أو كلاهما فان الذي لعنه الله هو الذي قال أن هذا إلا قول البشر. فمن قال أن هذا القران قول البشر فهو من جنس قوله من بعض الوجوه ولهذا قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} فأخبر أن ما يسمعه المستجير هو كلام الله والمستجير يسمعه بصوت القارىء والصوت صوت القارى والكلام كلام الباري كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "زينوا القران بأصواتكم " وقال: "لله اشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته". وكذلك ذكر في غير موضع أن الصوت المسموع من العبد هو صوت العبد كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} وقال لقمن لابنه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} . وفي سنن أبي داود عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في الموسم: "ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فان قريشا قد منعوني أن ابلغ كلام ربي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 فرسل الله وسائط في تبليغ رسالاته كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وقال تعالى: {إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} وقال تعالى عن نوح: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} . وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " وفي السنن عن زيد بن ثابت وابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله أمرا سمع منا حديثا فبلغه إلى من يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو افقه منه" وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: "ليبلغ الشاهد الغائب فرب من مبلغ أوعى من سامع". والمقصود هنا أن الحنفاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له وهم مسلمون وجميع الأنبياء وأممهم كانوا مسلمين مؤمنين {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 مِنْه} لأن {الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلام} في كل زمان ومكان وقد اخبر الله عن نوح وإبراهيم وإسرائيل وغيرهم إلى الحواريين أنهم كانوا مسلمين ونوح أول رسول بعث إلى أهل الأرض كما ثبت ذلك في الحديث المتفق على صحته حديث الشفاعة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فمن جعل ما يثبته الحنفاء من توسط البشر أو توسط الملائكة من جنس ما يثبته المشركون واخذ يفاضل بين البشر والملائكة لم يكن عارفا بدين الإسلام. بل قول الحنفاء هو ما قاله الله تعالى في كتابه حيث قال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فمن اتخذ هؤلاء أو هؤلاء أربابا كما يقول من يجعلهم وسائط في العبادة والدعاء ونحو ذلك فهو كافر. وصاحب الكتب المضنون بها قد جعل الملائكة والنبيين وسائط وجعل هذه شفاعتهم موافقة للفلاسفة كما تقدم من أن هذا القول شر من قول مشركي العرب. وجاء بعده صاحب كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم فذكر فيه الشرك الصريح من عبادة الكواكب والجن والشياطين ودعواتها وبخورها وخواتيمها وأصنامها التي تجعل لها على مذهب المشركين الكلدانيين والكشدانيين الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل وبنى على ذلك القول بقدم العالم وان لا سبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 لحدوث الحوادث إلا مجرد حركة الفلك كما يقوله هؤلاء القائلون بقدم العالم الذين هم شر من مشركي العرب. وكذلك ذكر في تفسير حديث المعراج ما هو مبني على أصول هؤلاء الذين هم اكفر الكفار كقوله أن الأنبياء الذين رآهم النبي صلى الله عليه وسلم هم الكواكب فآدم القمر ويوسف الزهرة ونحو هذا الهذيان وان المعراج إنما هو رؤية قلبه الوجود كما يذكر ابن عربي وغيره مثل هذا المعراج ويثبتون لأنفسهم إسراء ومعراجا. وهذه خيالات تلقيها الشياطين مناسبة لما يعتقدونه من الإلحاد على عادة الشياطين في إضلال بني آدم فإنما يضلونهم بما يقبلونه منهم وما يوافق أهواءهم. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545