الكتاب: الرد على البردة المؤلف: عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سلطان بن خميس الملقب بـ"أبابطين" (المتوفى: 1282هـ) المحقق: أبو عبد الأعلى خالد محمد الناشر: دار الآثار الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الرد على البردة عبد الله أبا بطين الكتاب: الرد على البردة المؤلف: عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سلطان بن خميس الملقب بـ"أبابطين" (المتوفى: 1282هـ) المحقق: أبو عبد الأعلى خالد محمد الناشر: دار الآثار الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما. أما بعد، إن كلمة التوحيد كانت ولا تزال إلى أبد الآبدين في السمو والمقام العالي، الذي تتضاءل أمامه سهام المناوئين لها وترجع إليهم خاسئة، ولكنها سنة الله أن ينقسم الناس إلى فريقين: فريق هدي إلى الاعتقاد الصحيح في هذه الكلمة الطيبة وارتفع إلى مقامها العالي، ومن ثم أخذ يذب وينافح عنها، كل فرد على حسب ما آتاه الله من علم وأسباب؛ وفريق ضل في مفاوز الشرك والبدع المهلكة، وأخذ يوجه من سفله حيث دركات الهوى، سهاماً خبيثة إلى الفريق الآخر، راغباً أن يطفئ نور هذه الكلمة الطيبة بظلام جهله، ولكن هيهات أن يتم له ذلك، فإنه سبحانه قضى {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] ونحن في هذا الكتاب في صدد عرض مشهد من مشاهد هذه الحرب الضروس التي بدات بنزول آدم إلى الأرض وتنتهي بنهاية الدنيا، حيث الفريق الول أثر جهاده وصبره في الدنيا، على أذى الفريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 الآخر له. وفارس هذا المشهد هو الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين، مفتي الديار النجدية، رحمه الله، وهو من الأخفياء الذين لا يعرف عند كثير من طلبة العلم فضلاً عن العامة، خاصة هنا في مصر. وفيه، يقطع بسيف علمه خيوط العنكبوت من الضلالات والشبهات الواهية التي نسجها البوصيري في بردته المشهورة، عند العامة، خاصة هنا في مصر، حيث يجد أرباب الصوفية والدجالين سوقاً نافقاً لنشر بضاعتهم الكاسدة من أمثال هذه البردة. والجهاد بسيف الكلمة والبيان سلاح قوي يرد الله به كيد الأعداء، وهو السلاح الماضي إلى يوم القيامة لأهل الحق: الطائفة المنصورة، أصحاب الحديث والأثر، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ليس له سلاح غيره. وصاحب البردة: البوصيري، وُلِد ببلاد المغرب مما يعطي إيحاءً عن اتصاله بدولة العبيديين المسماة بدولة الفاطميين، هذه الدولة التي تعد فجوة في دول الإسلام، ولم يعتبرها الحافظ ابن كثير من دول الخلافة الإسلامية. وقد كان البوصيري شاعراً من الشعراء، ولم يكن من أهل العلم الشرعي، لذلك ضلت به المفاوز فانتسب إلى الطريقة الشاذلية الصوفية المنسوبة إلى أبي الحسن الشاذلي المغربي، وله أوراد مبتدعة تحتوي على توسلات بدعية شركية، وغلو في النبي صلى الله عليه وسلم شأن كل الطرق الصوفية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وعلى منوالها جاءت البردة، ومن هذا التأريخ الموجز، نفهم من أين نبع الغلو والانحراف في هذه البردة؟ وقد رويت في سبب تأليف البردة قصة وهمية خرافية لا نعلم لها سنداً ولا خطاماً. وينبغي على المسلم الواعي أن لا يقبل حديثا أو أثراً أو قصةً أو خبراً إلا بالتبين من صحة نسبته إلى قائله، ولا يتأتى هذا إلا بالنظر في إسناده لمعرفة حال رواته من ناحية الاحتجاج بهم من عدمه، فإن كان ليس من أهل النظر في الأسانيد، فليرجع إلى المختصين في علم الحديث من أهل السنة فيسألهم إعمالاً لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . وينبغي على طالب النجاة والسلامة أن يتحرى علماء السنة، ولا يغامر بدينه مع علماء الفرق المبتدعة من الصوفية وغيرهم، كما قال ابن سيرين- رحمه الله -: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم"1. وكما قال عبد الله ابن المبارك رحمه الله: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"2. وقد أجاد الشيخ أبو بطين- رحمه الله- في تفنيد شبهات الخصم،   "1" أثر صحيح: أخرجه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه"1/14"، والترمذي في آخر الشمائل المحمدية"397"،والدارمي في سننه [424] ، والخطيب في الكفاية في علوم الرواية"1/122". "2"أثر صحيح: أخرجه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه "1/15"، قال: حدثني محمد ابن عبد الله بن قهزاد سمعت عبدان بن عثمان سمعت عبد الله بن المبارك به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وبيان جهله في بعض المواضع، وذلك بالحجة والبرهان، وبالرجوع إلى الأصول الصافية المتلقاة من سلفنا الصالح. والمحور الذي تدور عليه البردة هو الغلو الشديد في رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ورفعه فوق مرتبة البشرية، ودعاؤه والاستغاثة به، مما هو مناقض للتوحيد الذي ظل الرسول صلى الله عليه وسلم طوال فترة بعثته يعلمه لأصحابه، ويسد كل الأبواب التي قد تخدشه. وألفت النظر أيضاً إلى أن شأن البوصيري هو شأن سائر الشعراء الذين وصفهم الله في كتابه: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعر:224-227] . وبالنظر إلى حال بعض الصحابة الذين اشتغلوا بالشعر أمثال: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة ندرك مدى البون الشاسع بين الذين يوظفون علمهم بالشعر في نصرة التوحيد والسنة، وبين الذين يهيمون في أودية البدع والغلو. ولقد نافح حسان بن ثابت رضي الله عنه بشعره كثيراً عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يثبت عنه أبداً أنه قد غلا في الرسول صلى الله عليه وسلم لا في حياته ولا بعد موته، وقد وصفه في أشعاره بجميل الأوصاف وأظهر سجاياه بأعذب الألفاظ بغير غلو، ودون أن يرفعه إلى مرتبة الإلهية، ودون أن يتوسل به في دعائه أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 يستغيث به، أو يسمه بسمات الربوبية، كما فعل البوصيري في هذه البردة، وعلى المصر على اعتماد الغلو والشرك في وصفه للرسول صلى الله عليه وسلم، أن يأتينا بسلفه من الصحابة الذين حذو حذوه ويأتينا بطرف من أشعارهم، ولن يجد، وها هي أشعار حسان بن ثابت في الصحيحين وغيرهما، لا تجد فيها عوجاً عن سبيل الاعتدال، ولا غلواً. وعلى الله قصد السبيل، وصلى الله على محمد وآله وسلم. كتبه خالد بن محمد فهمي بن عثمان القاهرة-مصر يوم الاثنين الخامس عشر من ربيع الأول 1423هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ترجمة موجزة للمصنف 1- اسمه ونسبه: هو العلامة: عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سلطان بن خميس وكنيته: أبو عبد الرحمن، ولقبه: أبو بطين، بضم الباء وفتح الطاء، وهو تصغير "بطن" من عائذ من عبيدة من قحطان القبيلة المشهورة. 2- مولده: ولد في بلدة"روضة سدير" من قرى سدير، وذلك في "20"من ذي القعدة عام 1194هـ. 3- نشأته: نشأ-رحمه الله- في أسرة ذات علم وفضل ودين، ووالد جده: الشيخ: عبد الرحمن بن عبد الله بن سلطان، كان من أهل العلم بالفقه، وألف فيه كتاباً سماه: المجموع فيما هو كثير الوقوع. وقد قرأ أبو بطين- رحمه الله- على والده القرآن وحفظه، مما كان له أثر طيب في تلقيه العلوم الشرعية بعد. 4- طلبه للعلم وشيوخه: بعد حفظه للقرآن، قرأ على عالم "روضة سدير" في وقته: الشيخ: محمد الدوسيري، ولازمه في الأصول والفروع والحديث. ثم ارتحل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 "شقراء" عاصمة إقليم الوشم وقرأ على قاضيها الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله الحصين في التفسير والحديث والفقه وأصوله وأصول الدين حتى برع في ذلك كله، وهو أكثر مشايخه نفعاً له. ثم انتقل إلى الدرعية في نجد، حيث كان انتعاش العلم بوجود الإمام: محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- ومنهم الشيخ: عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب، وكذا الشيخ العلامة: أحمد بن حسن بن رشيد العفالقي الأحسائي الذي أجاز أبا بطين في جميع مروياته. ثم لما تولى القضاء في الطائف في عهد الإمام سعود بن عبد العزيز الكبير، طلب علم النحو على السيد حسين الجعفري. 5- مكانته العلمية وثناء العلماء عليه: لقب الشيخ- رحمه الله- بـ"مفتي الديار النجدية" وهذا لقب عالي لا يحصل عليه إلا العلماء الأفذاذ. وممن أثنى عليه: المجدد الثاني للدعوة السلفية في نجد: الإمام عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، وذلك في بعض مراسلاته العلمية معه، وطلب منه أن يكتب رداً على من غلط في معنى"لا إله إلا الله". وكذا أثنى عليه مجموعة من تلامذته ثناءً عظيماً مما يدل على علو مكانته العلمية، ونذكر شيئاً من هذا الثناء وهو قول تلميذه ابن حميد صاحب السحب الوابلة ومفتي الحنابلة في الحرم المكي في زمانه عند ترجمته للشيخ: "عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين فقيه الديار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 النجدية في القرن الثالث عشر بلا منازع ... وقال: وبموته فقد التحقيق في مذهب الإمام أحمد فقد كان فيه آية .... 6- وفاته: توفي- رحمه الله- في آخر شهر ذي القعدة عام 1326هـ، رحمه الله رحمة واسعة، ونفعنا بعلمه*.   * قمت بتلخيص ترجمة الشيخ- رحمه الله- من الدراسة التي قام بها الشيخ: علي بن محمد بن عبد الله بن عجلان، حول حياة الشيخ وآثاره وجهوده في نشر عقيدة السلف، والذي ألحق معه رسالة الرد على البردة. وهي النسخة التي اعتمدناها وقمنا بتحقيقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الرد على البردة ... بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي وعليه اعتمادي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً. أما بعد فإني لما كتبت كلمات يسيرة على الأبيات التي في البردة وزيادة البغدادي1 المتضمنة للغلو في النبي صلى الله عليه وسلم وبينت بعض ما اشتملت   "1" هو داود بن سليمان البغدادي النقشبندي الخالدي الشافعي ابن جرجيس، ولد ببغداد وتوفي بها، فنسب إليها. كان من المناوئين للدعوة السلفية المباركة، وكتب بعض الكتب ينصر فيها مظاهر الشرك من دعاء الأموات الغائبين والنذر لهم والذبح لهم، ويدعي زوراً وبهتاناً أن هذا ليس بشرك. وللمصنف العلامة: أبي بطين- رحمه الله- وغيره من علماء التوحيد ردود عليه منها: " الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين"، و"تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس"، و"دحض شبهات على التوحيد من سوء الفهم لثلاثة أحاديث"؛ وثلاثتهم لأبي بطين- رحمه الله- إلا أن الأخير منهم لم يخص به ابن جرجيس وحده، بل كان رداً عاماً عليه وعلى أمثاله من أصحاب البدع ومثيري الشبهات حول التوحيد خاصة. وكذلك رد الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتابه: " كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب بن جرجيس"، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في: "منهاج التقديس والتأسيس في كشف شبهات داود بن سليمان ابن جرجيس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 عليه من الباطل، وجد1 ورقة فيها اعتراض على ما كتبته وهو اعتراض ظاهر البطلان ولكن لغلبة الجهل قد يحصل تلبيس على الجهال. فطلب مني بعض الإخوان تعقب اعتراضات هذا المبطل وبيان فسادها فأجبته لما رأيته من تمكن الحهل في قلوب أكثر الناس خاصة في التوحيد الذي خلق الله الجن والإنس لأجله وبه أرسل جميع الرسل وأنزل جميع الكتب وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. من ذلك أني ذكرت أن ما تضمنته هذه الأبيات وهي قوله: يا أكرم الخلق مالي من ... ألوذ2 به سواك إلى قوله: فإن من جودك3 الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم وقوله إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ... ومنقذي من عذاب الله والألم وما قبل هذه الأبيات وما بعدها ذكرت أن هذا يشابه غلو النصارى في المسيح عليه السلام.   "1" هكذا بالمطبوعة، والظاهر أن الصواب: "وجدتُ". "2" قال الفيومي في" المصباح المنير" "ص 214" "مادة: لوذ": "لاذ الرجل بالجبل يلوذ لِواذاً بكسر اللام، وحُكيَ التثليث، وهو الالتجاء، ولاذ بالقوم، وهي المداناة" أهـ. "3" قال الفيومي في"المصباح المنير" "ص 44" "مادة: جود": "جاد بالمال: بذله، وجاد بنفسه: سمح بها عند الموت" أهـ. ويقصد هذا الناظم أن الدنيا هي شيء بذله النبي صلى الله عليه وسلم وفاضت بها يده؛ وهذا ضلال مبين، لم يقل به حتى المشركون الأوائل الذين كانوا لا يدَّعون لأصنامهم وأوثانهم أنها تخلق أو ترزق، بل كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق وحده وهو الرازق وحده، وإنما هذه الأوثان وسيلة تقربهم إلى الله بزعمهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 قال المعترض: "حاشاه من ذلك.. إلخ" فنقول: مقتضى هذه الأبيات علم الغيب للنبي صلى الله عليه وسلم وأن الدنيا والآخرة من جُودِه وتضمنت الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم من أعظم الشدائد ورجائه لكشفها وهو الأخذ بيده في الآخرة وإنقاذه من عذاب الله، وهذه الأمور من خصائص الربوبية والألوهية التي ادعتها النصارى في المسيح عليه السلام وإن لم يقل هؤلاء إن محمداً هو الله أو ابن الله ولكن حصلت المشابهة للنصارى في الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" 1 والإطراء هو: المبالغة في المدح حتى يؤول الأمر إلى أن يجعل للممدوح شيء من خصائص الربوبية والألوهية. وقول المعترض: إن مراد الناظم من هذه الأبيات طلب الشفاعة. فنقول: أولاً: هذه الألفاظ من هذه الأبيات صريحة في الاسثغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك أي وإلا فأنا هالك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: "لا ملجأ منك إلا إليك" 2.   "1" صحيح: صحيح البخاري" 3445، 6830" من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. "2" صحيح: صحيح البخاري "247، 6311، 7488" وصحيح مسلم"2710" من حديث البراء بن عازب، وهو حديث دعاء قبل النوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وقوله: إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ومنقذي من عذاب الله والألم أو شافعاً لي..إلخ. أي هلكت، وأي لفظٍ في الاستغاثة أبلغ من هذه الألفاظ وعَطْف الشفاعة على ما قبلها بحرف أو في قوله: أو شافعاً لي صريح في مغايرة ما بعد أو لما قبلها وأن المراد مما قبلها طلب الإغاثة بالفعل والقوة. فإن لم يكن بالشفاعة.. وقول المعترض يحتمل أن العطف للتفسير، وهذا من جهله فإن عطف التفسير إنما يكون بالواو لا بغيرها من حروف العطف ذكره ابن هشام وغيره. ومحل عطف التفسير إذا عطف لفظ على لفظ معناهما واحد مع اختلاف اللفظ، كما ذكره من قول الشاعر: وألفى قولها كذباً وميناً .... والمين هو الكذب، وأما قول الناظم: "ومنقذي من عذاب الله والألم ... أو شافعاُ لي" ... إلخ" فمعنى الإنقاذ غير معنى الشفاعة، قال الله تعالى عن صاحب يس: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [يّس: 23] ولم يقل أحد من المفسرين إن عطف الإنقاذ على الشفاعة من عطف التفسير بل فسّروا الإنقاذ بالنصر والمظاهرة بالفعل وفسّروا الشفاعة بالمعاونة بالجاه وهذا ظاهر. ولكن لأجل تخبيط هذا الجاهل الأحمق أوجب بيان جهله وغلطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ومن كلام ابن القيم رحمه الله على هذه الآية قال بعد كلام سبق: "فإن العابد يريد من معبوده أن ينفعه وقت حاجته دائماً. وإذا أرادني الرحمن الذي فطرني بضر لم يكن لهذه الآلهة من القدرة ما تنقذني بها1 من ذلك الضر ولا من الجاه والمكانة عنده ما تشفع لي إليه لأتخلص من ذلك الضر فأي وجه تستحق العبادة إني إذاً لفي ضلال مبين إن عبدت من دون الله من هذا شأنه".انتهى. ونقول أيضاً: إنه إذا خوطب الرسول أو غيره من الأموات والغائبين بلفظ من ألفاظ الاستغاثة أو طلب منه حاجة نحو قول: أغثني أو أنقذني أو خذ بيدي أو اقض حاجتي أو أنت حسبي ونحو ذلك، يتخذه واسطة بينه وبين الله في ذلك. فهذا شرك العرب الذين بُعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كما وضحه الله سبحانه في كتابه في مواضع مخبراً عنهم أنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه} ِ [يونس: 18] ولم يقولوا: إن آلهتهم تحدث شيئاً أو تدبر أمراً من دون الله. قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31] ، الشرك في الألوهية إذا اعترفتم بالربوبية. {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّه} [المؤمنون:84-85] والآيات في هذا كثيرة، يحتج سبحانه عليهم بإقرارهم بتوحيد   "1" هكذا بالمطبوعة، ولعل الصواب: "به". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الربوبية على بطلان شركهم في توحيد الألوهية كما قال سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] فسر إيمانهم في الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية وهو أنهم إذا سئلوا من خلق السموات والأرض ومن ينزل المطر وينبت النبات ونحوه قالوا الله، ومع ذلك يعبدون غيره. وفسر إيمانهم بإخلاصهم الدعاء لله في الشدائد، كما في قوله سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] . ونحو ذلك من الآيات، ويشركون في الرخاء بدعاء غيره فهذه نصوص القرآن صريحة في أنهم يعترفون لله بتوحيد الربوبية اعترافاً جازماً وأنهم ما أرادوا من آلهتهم إلا الشفاعة عند الله، وأما من ظن أن مدعوه ومسئوله يحدث شيئاً من دون الله ويدبر أمراً من دون الله فهذا شرك في توحيد الربوبية والألوهية معاً، ولم يدّعِ ذلك أحد من المشركين اللذين بعث الله إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وإنما أرادوا من آلهتهم الشفاعة إلى الله الذي بيده النفع والضر لجاههم ومنزلتهم عنده كما أخبر الله عنهم بذلك. وسئل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه عن رجلين تناظرا فقال أحدهما"لابد من واسطة بيننا وبين الله فإنا لا نقدر عليه إلا بذلك، فأجاب رحمه الله إلى أن قال: "وإن أراد بالواسطة أنه لابد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 يسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه فهذا من أعظم الشرك الذي كفّر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويدفعون بهم المضار لكن الشفاعة لمن يأذن الله قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة: من الآية4] وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] . وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ22-23] . وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الاسراء56-57] . قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون المسيح وعُزَيراً والملائكة والأنبياء فبين الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله وأنهم يتقربون إليه ويرجون رحمته ويخافون عذابه، وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80] فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر فمن جعل الملائكة وسائط بينه وبين الله يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل: أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب وتفريج الكربات وسد الفاقات فهو كافر بإجماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 المسلمين إلى أن قال: فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالحُجَّاب الذين يكونون بين الملك وبين رعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه وأن الله إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك من الطالب فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلاّ قُتِل، وهؤلاء شبّهوا الخالق بالمخلوق وجعلوا لله أنداداً وفي القرآن من الرد على هؤلاء مالا تتسع له هذه الفتوى فإن هذا دين المشركين عبّاد الأوثان كانوا يقولون إنها تماثيل الأنبياء والصالحين وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى حيث قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31] . وقد بين هذا التوحيد في كتابه وحسم مواد الإشراك به حيث لا يخاف أحد غير الله ولا يرجو سواه ولا يتوكل إلا عليه، قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44] . وقال: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة:18] وقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] . وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52] . فبين أن الطاعة لله والرسول، وأما الخشية فلله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وحده". انتهى ملخصاً، وقال رحمه الله في الرسالة السَنية بعد كلام سبق: (فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ لا أريده، أو يقول إذا ذبح شاه: "باسم سيدي فلان اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو أغثني أو أجرني أو توكلت عليك أو أنا في حسبك أو أنت حسبي ونحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله. فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قُتِل، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لُيعبد وحده لا يجعل معه إلهٌ آخر والذين يُجعلون مع الله آلهة أخرى مثل: الشمس والقمر، والمسيح، وعُزَيْر، والملائكة، واللات، والعزى، ومناة، وغير ذلك لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وتنبت النبات وتنزل المطر وإنما كانوا يعبدونهم أو تماثيلهم أو قبورهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فبعث الله الرسل تنهى أن يُدعى أحدٌ من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة."انتهى. فليتأمل مريد نجاة نفسه ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله يتبين له حقيقة الشرك الذي أرسل الله الرسل من أولهم إلى آخرهم ينهون عنه وأنه الذي يسميه بعض الناس في هذه الأزمنة تشفعاً وتوسلاً وبعض الضُلاّل يُسميه مجازاً يعني بذلك أن استغاثتهم بالمقبورين والغائبين وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات على سبيل المجاز وأن الله هو المقصود في الحقيقة وهذا معنى قول المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} لأنهم لم يكونوا يعتقدون أن آلهتهم تدير شيئاً من دون الله وإنما يستجلبون النفع ويستدفعون الضر بجعلها وسائط بينهم وبين الله الذي بيده الضر والنفع ولهذا يخلصون لله الدعاء في الشدائد باعتقادهم أن آلهتهم لا تغني عنهم شيئاً من دون الله، وأنها لا تضر ولا تنفع وقد لَبَّسَ الشيطانُ على كثير من الناس خاصةً ممن ينتسب إلى طلب العلم بأن السكوت عن الكلام في هذا الباب هو الدين والورع فتولَّد من ذلك الإعراض عن الاعتناء بهذا الأمر الذي هو أصل الدين حتى صار جاهلاً به ثم آل الأمر ببعض هؤلاء إلى استحسان الشرك والنفرة من ذكر التوحيد ولم يدر هذا المتورع الورع الشيطاني أن أفرض العلوم معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته ومعرفة حقه على عباده الذي خلق الجن والإنس لأجله وهو توحيد الألوهية الذي أرسل به جميع الرسل وأنزل به جميع الكتب قال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] ، وقال: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [هود: 14] أي واعلموا أن لا إله إلا هو وقال: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [إبراهيم: 52] فبين سبحانه أن من الحكمة في إنزال القرآن ليعلم الناس بما فيه من الحجج والبراهين أنه هو المستحق للألوهية وحده ففرض على عباده العلم لأنه الإله وحده وأخبر أنه ضمن كتابه من الأدلة والبراهين ما يدل على ذلك فتعيَّن على كل مكلف معرفة لا إله إلا الله الذي هو أصل الأصول وأوجب العلوم. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 دخل الجنة" 1 فرتب دخول الجنة على العلم بأن لا إله إلا الله وهذا يبين معنى أحاديث أُخر كقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" 2 "ومن قال لا إله إلا الله صدقاً من قلبه دخل الجنة" 3 وغير ذلك من الأحاديث. وأن المراد من هذه الأحاديث ونحوها العلم بأن لا إله إلا الله وهذه الأمور التي انتشرت في أكثر الأمصار من الاستغاثة بالمقبورين في تفريج الكربات وسؤالهم قضاء الحاجات والتقرب إليهم بالنذور والذبائح وغير ذلك من أنواع القربات ومن لم يعرف أن هذا تأُّلُهٌ لغير الله وشرك عظيم تنفيه لا إله إلا الله فهو لم يعلم أن لا إله إلا الله حقيقة العلم. وزعم المعترض أننا بإنكارنا ما تضمنته الأبيات المشار إليها من الغلو فيه صلى الله عليه وسلم متنقصون لجنابه صلوات الله وسلامه عليه، فهذا من قوله مثل قول النصارى لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عيسى عبد لله مربوب" قالوا إنه.   "1" صحيح: صحيح مسلم "26" من خديث عثمان رضي الله عنه. "2" حسن: أخرجه أحمد في "مسنده" "5/233"، وأبو داود والحاكم في "المستدرك" "1/503، 678"، وفي "معرفة علوم الحديث" "ص 76"، والبزار في "مسنده" "2626"، والبيهقي في "شعب الإيمان" "94، 9237"، و "الاعتقاد" " ص 37". كلهم من طريق عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي بن أبي عريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل مرفوعاً. وحسَّنه العلامة الألباني رحمه الله في "أحكام الجنائز" "ص 48". "3" صحيح: أخرجه أحمد في "مسنده" "4/16"، والطيالسي من طريق هشام الدستوائي عن يحي بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن رفاعة الجهني مرفوعاً بلفظ: "لا يموت عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه ثم يُسدد إلا سلك في الجنة". وهذا إسناد حسن. وقد أخرجه أبو يعلي في "مسنده" "3228" بلفظ قريب منه بإسناد صحيح من حديث أنس. ومعناه ثابت في صحيح البخاري من حديث معاذ رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 يسب المسيح وأمه ووشوا به عند النجاشي وهذا ما يلقيه الشيطان على ألسنة المشركين قديماً وحديثاً، إذا قال الموحدون إن آلهتكم باطلة وأنها لا تستحق شيئاً من العبادة اشمأزوا من ذلك وَزَعموا أن من سَلَبهم ذلك فقد هضم مراتبهم وتنقَّصهم، وهم قد هضموا جانب الإلهية غاية الهضم وتَنقَّصوه لهم نصيب من قوله سبحانه: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر: 12] . لقد أحسن القائل رحمه الله وهو ابن القيم: قالوا تنقّصتم رسول الله ... واعجباً لهذا البغي والعدوان1 2أنتم تنصتم إله العرش ... والقرآن والمبعوث بالقرآن3   "1" في نسخة النونية المطبوعة: "البهتان" بدلاً من "العدوان". "2" من الواضح أن المصنف رحمه الله كان يختار أبياتاً معينة من القصيدة، حيث أن هناك تسعة أبيات قبل بداية هذا البيت وهي: عزلوه أن يحتج قط بقوله ... في العلم بالله عظيم الشان عزلوا كلام الله ثم رسوله ... عن ذاك عزلاً ليس ذا كتمان جعلوا حقيقته وظاهره ... هو الكفر الصريح البين البطلان قالوا وظاهره هو التشبيه و ... التمثيل حاشا ظاهر القرآن من قال في الرحمن مادلت ... عليه حقيقة الأخبار والفرقان فهو المشبه والممثل والمجسم ... عابد الأوثان لا الرحمن تالله قد مسخت عقولكم ... فليس وراء هذا قط من نقصان ورميتم حزب رسول الله وجنده ... بمصابكم يافرقة البهتان وجعلتم التنقيص عين وفاقه ... إذا لم يوافق ذاك رأي فلان أنتم تنصتم إله العرش ... .. .. .. .. .. .. قال صاحب توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة ابن القيم"2/349) : "معنى كلامه في هذه الأبيات أن أهل التعطيل رموا أهل التوحيد لما جردوا التوحيد والمتابعة وأفردوا الله تعالى بجميع أنواع العبادة خوفاً ورجاءً وتوكلاً وخشية وقالوا: لا يجوز صرف العبادة ولا شيء منها لملك مقرب ولا نبي مرسل وقدموا أقوال الرسول على غيره فلأجل ذلك رموهم بتنقيص الرسول، والمعطلة مع ذلك قد تنقصوا الله تعالى ورسوله وكتابه، أما تنقصهم الله تعالى فإنهم سلبوه صفات كماله ونزهوه عن الكلام والفوقية وجعلوا ذلك تشبيهاً وتجسيماً وأما تنقصهم الرسول فإنهم عزلوه أن يحتج بقوله في العلم، وأما تنقصهم القرآن فإنه عندهم لا يفيد اليقين إذ هو أدلة لفظية عارضتها العقلية بزعمهم وأن القرآن لا يُحكم عند الاختلاف، وإنما يرجع إلى العقول والمنطق، وأما أهل الإثبات فإنهم حكموا الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به في الدقِّ والجُّلِّ"أهـ. "3" هناك خمسة وثلاثون بيتاً لم يذكرها المصنف بين هذا البيت والذي يليه، يمكنك أن ترجع إليها في الأصل أو في شرح قصيدة ابن القيم المسماة: "توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة ابن القيم" "2/345-349" "فصل: في بهت أهل الشرك والتعطيل في رميهم أهل التوحيد والإثيات بتنقيص رسول الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ونظير هذا قول أعداء المسيح ... من النصارى عابدي الصلبان إنا تنقصنا المسيح بقولنا ... عبد وذاك غاية النقصان وكذاك أشباه النصارى قد1 غلوا ... في دينهم بالجهل والطغيان صاروا معادين الرسول وديننا ... في صورة الأحباب والإخوان فانظر إلى تبديلهم توحيده ... بالشرك والإيمان بالكفران فاتظر إلى تجريه التوحيد من ... أسباب كل الشرك بالرحمن   "1" في النونية المطبوعة: "مذ" بدلاً من "قد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 واجمع مقالتهم وما قد قاله ... واستدع بالنُّقاد والوزَّان عقل وفطرتك السليمة ثم زِن ... هذا وذا ولا تطغ في الميزان رامي البريء بدائه ومصابه ... فعل المباهت أوقح الحيوان كمُعيِّر للناس بالزغل الذي ... هو دربه فاعجب لذا البهتان يافرقة التنقيص بل يا أمة الد ... عوى بلا علم ولا عرفان والله ما قدمتم يوما مقا ... لته على التقليد للإنسان1 تباً لكم ماذا التنقص2 بعد ذا ... لو تعرفون العدل من نقصان3 والله أمركم عجيب معجب ... ضدان فيكم ليس يتفقان تقديم آراء الرجال عليه مع ... هذا الغلو فكيف يجتمعان كفَّرتم من جرد التوحيد جهـ ... ـلا منكم بحقائق الإيمان لكن تجردتم لنصر الشرك والـ ... ـبدع المضلة لكل زمان والله لم نقصد سوى التجريد للتـ ... ـوحيد ذاك وصية الرحمن ورضا رسول الله منا لا غلو ... الشرك أصل عبادة الأوثان4   "1" هناك أربعة أبيات تركها المصنف هنا، وهي في شرح القصيدة "2/350". "2" في النوتية المطبوعة: "النقص" بدلاً من" التنقص". "3" هاك اثنتي عشر بيتاً تركها المصنف هنا، وهي في شرح القصيدة "2/350-351". "4" هناك ثلاثة أبيات تركها المصنف هنا، وهي في شرح القصيدة "2/ 352". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ولقد نهى ذا الخلق عن اطرائه ... فعل النصارى عابدي الصلبان ولقد نهانا أن نُصيِّر قبره ... عيداً جذار الشرك بالرحمن ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمه وثناً من الأوثان فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران حتى غدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان"1" ولقد غدا عند الوفاة مصرحاً ... باللعن يصرخ فيهم بأذان أعني"2"الأولى جعلوا القبور مساجداً ... وهم اليهود وعابدو الصلبان ولولا ذلك أبرز قبره ... لكنهم حجبوه بالحيطان"3" قصدوا إلى تسنيم حجرته ... ليمتنع الجود له على الأذقان قصدوا موافقة الرسول وقصده"4" ... التجريد للتوحيد للرحمن   "1" في توضيح المقاصد"2/353": " قال القرطبي: ولهذا بالغ في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأعلوا حيطان تربته وسدوا المداخل إليها وجعلوها محدقةً بقبره صلى الله عليه وآله وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذ كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليَيْن وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره"أهـ. "2" في النونية المطبوعة: "وعني" بدلاً من "أعني"، والظاهر أنه هو الصواب. "3" يشير ابن القيم- رحمه الله- إلى حديث عائشة في الصحيحين أنها قالت: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يُحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً". "4" أي أن حجب القبر وعدم إبرازه هو قصد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى لايصير وثناً يُدعى من دون الله، ويُتمسح بأركانه، مما يفعله بعض الجهال عند قبور من هم دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فلينظر المصنف وليتأمل فالأمر كما قال- رحمه الله-: أمركم عجيب معجب وهذا حال غلاة زماننا تشابهت قلوبهم فتشابهت أقوالهم جمعوا بين الضدَيْن الغلو والتنقص، فجعلوا للنبي صلى الله عليه وسلم خصائص الربوبية والألوهية، بل جعلوها لمن دون الرسول وبدّعوا من جرد التوحيد بل كفّروهم وضمنوا إلى هذا الغلو التنقيص للنبي صلى الله عليه وسلم بحيث إنهم لا يلتفتون إلى سنته ولا يعبئون بها إذا خالفت ما عليه مشايخهم ويقولون مشايخنا أعلم منا وفرضنا التقليد ويعيبون على من قدّم سنة النبي صلى الله عليه وسلم على ما خالفها وينسبونه إلى الجهل وتنقص العلماء وهم مع ذلك مخالفون لإمام المذهب الذي ينتسبون إليه ولأتباعه من علماء مذهبه ولسائر الأمة في النهي عن تقليدهم. وضموا إلى ذلك موالاة أعداء أئمة المذاهب الذي ينتحلونه من المعطلة بزعمهم أنهم أهل الحق والسواد الأعظم فجمعوا بين الغلو في أهل مذهبهم لاسيما متأخريهم وبين تنقّصهم بحيث زعموا أن مخالفيهم في الأسماء والصفات والإيمان وغير ذلك هم أهل الحق الذين لا يجوز مخالفتهم كما جمعوا بين الغلو والتنقص في جانب الرسول صلوات الله وسلامه عليه. قال المعترض: وأما استدلالكم على أن النبي لا يشفع بقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة:4] قال والآية نزلت في الكفار قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وجميع ما في القرآن من نفي الشفاعة فهو في حق الكفار انتهى. أما نسبته إلينا أنا نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع فلا يحتاج إلى جواب لأنه يعلم هو وأصحابه أننا لا ننفي شفاعته صلى الله عليه وسلم بإذن الله، بل هو صاحب الشفاعة العظمى وله صلى الله عليه وسلم شفاعات غيرها والأنبياء يشفعون والملائكة يشفعون والمؤمنون يشفعون لكن لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه وسيد الشفعاء صلوات الله وسلامه عليه. لا يبدأ بالشفاعة بل يسجد لربه ويحمده بمحامد يفتحها عليه حتى يقال: "يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع" 1 قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3] {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وهذا من عظمته سبحانه وجلاله وكبريائه ألا يتجاسر أحد أن يشفع عنده حتى يؤذن له فالقرآن صرح بنفي الشفاعة في الكفار مطلقاً ونفاها عن غيرهم بغير إذنه ونحن إنما ننفي الشفاعة الشركية التي نفاها القرآن وهو أن أحداً يشفع عنده بغير إذنه. وأما قول هذا الضال أن قوله سبحانه: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} في الكفار خاصة يعني فلعصاة المسلمين ولي من دونه وشفيع والولي هو الناصر والشفيع ذو الجاه وهذا القول كفر ظاهر حيث جعل قوله سبحانه: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} بالكفار أي فلغيرهم على زعمه ولي من دونه وشفيع فأي كفر أعظم وأَبين منه وهذا من تحريف الكلم من مواضعه   "1" صحيح: صحيح البخاري "3340، 4712، 7510"، وصحيح مسلم من "194" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، زكذا من حديث أنس رضي الله عنه في صحيح مسلم "193". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 والله سبحانه يقول مخاطباً لجميع الناس: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] في هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:51] وقال: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 70] يخبر سبحانه أنه ليس لمن عصاه وليٌ ينصره ولا شفيعٌ بغير إذنه. وزعم المعترض أن "من" في قول الناظم: فإن من جودك الدنيا وضرتها1 ... ومن علومك علم اللوح والقلم أنها لبيان الجنس، وهذا الجاهل الأحمق يتحذلق عند أصحابه بما لا يعرفون لظنوا أن عنده علماً وهو لا يُميز بين "من" التي لبيان الجنس والتي للتبعيض، و"من" في الموضعين للتبعيض بلا شك والذين يتكلمون على معاني الحروف ذكروا علامة "من" التي للتبعيض صحة حلول "بعض" محلها وعلامة التي لبيان الجنس صحة حلول "الذي" محلها كما في قوله سبحانه: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان والتي لبيان الجنس لا يبتدأ بها و "من" في هذين الموضعين لا يصح حلول "الذي" محلها بل يصح حلول "بعض" موضعها فالمعنى: بعض جودك الدنيا وضرتها وبعض علومك علم اللوح والقلم   "1" يقصد بـ"ضرتها" أي الدار الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أي فالدنيا وضرتها بعض جودك، وعلم اللوح والقلم بعض علمك والمقصود بيان بطلان تحذلق هذا الجاهل وإلا فكلام الناظم باطل على كل حال، وعلى زعم الجاهل أنها لبيان الجنس فالمعنى: جودك الدنيا وضرتها ... وعلومك هي علم اللوح والقلم لا تنقص عنها، بل هي عينها"، وصرح المعترض بدعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب حتى مفاتيح الغيب الخمسة. والناظم آل به المبالغة في الإطراء الذي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا الغلو والوقوع في هذه الزلقة العظيمة ونحو ذلك قوله في الهمزية1 في خطابه للنبي صلى الله عليه وسلم: الأمان الأمان إن فؤادي ... من ذنوب أتيتهن هراء هذه علتي وأنت طبيبي ... ليس يخفى عليك في القلب داء فطلب الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه علة قلبه ومرضه من الذنوب فتضمن كلامه سؤاله من النبي صلى الله عليه وسلم مغفرة ذنبه وصلاح قلبه، ثم إنه صرّح بأنه لا يخفى عليه في القلب داء فهو يعلم ما احتوت عليه القلوب. وقد قال سبحانه: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] وقال: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} وخفي عليه صلى الله عليه وسلم أمر الذين أنزل الله فيهم: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107]   (1) يعني القصيدة: "الهمزية في مدح خير البرية"، وهي للبوصيري أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الآيات حتى جاءه الوحي وخفي عليه صلى الله عليه وسلم أمر أهل الإفك حتى أنزل الله القرآن ببراءة أم المؤمنين رضي الله عنها في حياته فكيف بعد موته وهذا يقول: وليس يخفى عليك في القلب داء يعني أنه يعلم ما في القلوب والله سبحانه يقول: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن: 4] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"1. ثم كابر المعترض وصرح بقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب حتى مفاتح الغيب الخمسة وزعم أن عامة العلماء قالوا ذلك، فانظر إلى هذه الجراءة العظيمة في الكذب على الله وعلى رسوله وعلى عامة العلماء بقوله: إن عامة العلماء قالوا إن الله لم يتوف نبيه صلى الله عليه وسلم حتى علّمه ما كان وما يكون وعلّمه كل شيء حتى الخمس، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50] وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [لأعراف:188] أي لو كنت أعلم الغيب لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واجتناب السوء والمضار حتى لا يمسني شيء منها ولم أكن غالباً مرة ومغلوباً أخرى في الحروب.   "1" صحيح: صحيحي البخاري "2680، 6967، 7169"، ومسلم "1713" من حديث أم سلمة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] وقال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] ، وعلى قول هذا الأفاك يجوز أن يقال قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ومحمد، وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ومحمد، وبيان ذلك أنه لو كان أهل قرية لا يحفظ أحد منهم سورة البقرة إلا زيد وعمرو وكان كلاماً صحيحاً مستقيماً، ما أعظم جراءة هذا الخبيث على هذه الفرية العظيمة مع أن له سلف ضلال وكفر في هذه الدعوى. حكى شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في رده على الذي جوَّز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ذكر عن بعض أهل زمانه أنه جوَّز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله وصنف فيه مصنفاً وكان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله. قلت ثبت في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قالت: "من حدثكم أن محمداً يعلم ما في غد فقد كذب" ثم قرأت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [لقمان:34] ، لفظ البخاري1 ،ولفظ مسلم: "من زعم أن محمداً يخبر عما في غد فقد أعظم الفرية على الله" ثم قرأت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} 2   "1" صحيح: "صحيح البخاري" "4855". "2" صحيح: صحيح مسلم "177". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ومرادها رضي الله عنها نفي ذلك عنه في حياته فكيف بعد الموت مع أنه لا يحتاج في بيان بطلان هذا القول إلى أكثرمن حكايته. قال الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} [النساء:50] وأما قول الله سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:27،26] ، والمعنى فأنه يظهره على ما يشاء من غيبه ليكون معجزة له وليس خاصاً بنينا عليه الصلاة والسلام. وقول المعترض إن الشيخ تقي الدين أثنى على الصرصري في نظمه المشهور الذي فيه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم يعني بالتوسل الاستغاثة فقد كذب على الشيخ وافترى، وكتابه الذي صنفه في الرد على من جوَّز الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم معروف موجود. قال رحمه الله: "والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم موجودة في كلام بعض الناس مثل يحي الصرصري ومحمد بن النعمان وهؤلاء لهم صلاح لكن ليسوا من أهل العلم بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد"1.انتهى. قلت: والبوصيري ليس معروفاً بالعلم. قال المعترض: ومراد الناظم بقوله: إن من جودك الدنيا وضرتها ... أن الله أعطاه خير الدارين ال: وكيف ينكر تصرفه في إعطاء أحد بإذن الله واستشهد لذلك بالكذب الذي عزاه لشرح الإقناع أن النبي يقطع أرض الجنة وأنكر على من ينكر   "1" انظر "الرد على البكري" "2/ 479". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 تصرفه صلى الله عليه وسلم بقوله وكيف ينكر تصرفه؟؟. . إلى آخره. فهذا إنكار منه على من ينكر تصرفه صلى الله عليه وسلم وتعجب منه يقتضي إثبات الصروف له صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة بالإعطاء والمنع وأن الله جعل له ذلك خصوصاً في الآخرة بإدخاله الجنة من يشاء. فياسبحان الله!! ما أعظم جرأة هذا الكذب على الله وهذه دعوى عظيمة يُطلب منه إقامة على صحتها كما قال سبحانه عن قول الذي قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة:111] ، أي حجتكم وبينتكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فإن كل قول لا دليل عليه مردود على قائله، ومن المعلوم أنه لا دليل على هذه الفرية العظيمة. قال الله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ، أي يوم الجزاء والحساب وتخصيص الملك بذلك اليوم لا ينفيه عمّا عداه لأنه تقدم أول السورة أنه رب العالمين، والرب هو المالك المتصرف وذلك عامٌ في الدنيا والآخرة وإنما أُضيف إلى الدين لأنه لا يدَّعي أحدٌ هناك شيئاً ولا يتكلم أحدٌ إلا بإذنه كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود: 105] ، {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ:38] . قال ابن عباس رضي الله عنهما: "مالك يوم الدين: لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكماً كملكهم في الدنيا" 1   "1" أخرجه الطبري في تفسيره "1/ 98" "رقم139- دار الفكر" قال: حدثنا به أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد عن بشر بن عمارة حدثنا أبو رَوْق- وهو عطية بن الحارث- عن الضحاك عن العباس به. وهذا منقطع بين الضحاك وابن عباس، فإن الضحاك لم يلق ابن عباس كما قال شعبة. "1" صحيح: صحيح البخاري"2753"، وصحيح مسلم"206". "2" صحيح: صحيح البخاري "5673، 6463"، وصحيح مسلم "2816، 2818". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وقال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} [الفرقان:26) وقال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] ، وقال {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [الأنعام: 73] ، وقال: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19] ، وقال: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] ، أي ليس لأحد من الخلق أمرٌ مَعهُ في ذلك اليوم مع أن الأمر كُلَّهُ لَهُ سبحانه في الدنيا والآخرة كما قال: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154] ، واختصاصه سبحانه في التفرُّد بالأمر في ذلك اليوم قال المفسرون: معناه أن الله لا يُملِّكُ أحداً في ذلك اليوم شيئاً كما ملَّكهم في الدنيا. قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} وقال: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:42:41] . وهذا المفتري يزعم أن الله سبحانه جعل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم التصرف في ذلك اليوم فيكون شريكاً له في الأمر، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه عمه العباس وعمته صفية وابنته فاطمة: "أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً" 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحد منكم الجنَّة بعمله"، قالوا: ولا أنت يارسول الله، قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" 2 والأحاديث في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 هذا المعنى كثيرة. وقول المعترض: ورد في الحديث:"لولا حبيبي محمد ما خلقت سمائي ولا أرضي ولا جنتي ولا ناري"1 فيقال: أولاً هذا حديثٌ باطل. هؤلاء الذين صنَّفوا في معجزاته وفضائله وخصائصه، كصاحب الشفا أين ذهب عنهم هذا الحديث فلم يذكروه مع أنه لا حجة فيه للمبطل ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو خليل الله وحبيبه وأقرب الناس إليه وسيلة وأعظمهم عنده منزلة صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين وقد قال الله له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] ، والله سبحانه قد بيّن الحكمة في خلق السموات والأرض وما بينهما فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12]   "1" لم أقف عليه بهذا اللفظ، لمن ذكر الديلمي في الفردوس "8031" نحوه من حديث ابن عباس بلفظ "يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت الجنة ولولاك ما خلقت الدنيا". قلت هذان الحديثان وما على شاكلتهما من الأحاديث علامات البطلان والكذب ظاهرة عليها، فإنها تناقض صراحةً قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وكذا قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} . فإن الله تبارك وتعالى خلق الدنيا وما فيها من جن وإنس وسماء وأرض وموت وحياة من أجل أن يُعبد وحده سبحانه، ويُدعى وحده، ويُذبح له وحده، ويُتقرب إليه وحده بكل ما يحب ويرضى، وهذا هو معنى كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله"، أي لا معبود بحق إلا الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فأخبر سبحانه أنه إنما خلق السموات والأرض وما احتوتا عليه من آياته وعجائب مصنوعاته ليستدل بذلك على كمال قدرته، وسعة علمه، وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7] . فنبه على الحكمة في ذلك وهو أنه ليبلو عباده أيهم أحسن عملاً، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56] .فأخبر سبحانه بالحكمة في خلقه الجن والإنس، وهو إنما خلقهم ليعبدوه وحده وقال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] . فأعلمنا سبحانه أنه إنما خلق هذه المخلوقات للحكَِم التي ذكرها لا لأجل أحد من خلقه، وقد ذكرت في الجواب على الأبيات بعض كلام النسفي الحنفي في تفسيره على قوله سبحانه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [لأعراف: 188] . قال: " هو الظاهر للعبودية وبراءة عما يختص بالربوبية من علم الغيب أي أنا عبدٌ ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر كالمماليك إلا ما شاء الله مالكي من النفع لي ودفع الضر عني {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} أي لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واجتناب السوء والمضار حتى لا يمسني شيء منها ولم أكن غالباً مرة ومغلوباً أخرى في الحروب".انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فاستعظم المعترض لفظ أنا عبدٌ ضعيف، وقال ما هذه الجراءة والتنقص لجناب حبيب الملك الوهاب فانظر إلى الشفا تجده حكى كفر من قال هذه الكلمة. انتهى. أقول: ما الذي منع هذا الأحمق من نقل ما في الشفا لأصحابه يتحفهم به وليحتجوا به، وهو قد أتحفهم وأضلهم بالكذب الصريح، ونذكر إن شاء الله بعض ما ذكره صاحب الشفا من المبالغة في سد الذرائع إلى الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نشهد الله وملائكته وجميع خلقه أننا نعتقد أن جميع أهل السموات وأهل الأرض عبيد له مربوبون فقراء إليه ضعفاء لديه لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً وأنه لا غناء لأحد منهم عنه سبحانه طرفة عين1. قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] ، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] ، وقال سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين إلى من تكلني" 2، من دعائه صلى الله عليه وسلم: "وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تكلن   "1" يقول الإمام أبو جعفر الطحاوي الحنفي في عقيدته "91": "ويملك كُلَّ شيء ولا يملِكهُ شيءٌ، ولا غِنى عن الله تعالى طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين، فقد كفر وصار من أهل الحَيْنِ"أهـ. "2" ضعيف: أخرجه ابن إسحاق في مغازيه كما في سيرة ابن هشام "2/ 45"، ومن طريقه الطبري في تاريخه "1/ 554"، قال حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: ... وذكر قصة خروجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف. وهذا إسناد صحيح إلى محمد بن كعب إلا أنه مرسل، وقد ضعفه العلامة الألباني- رحمه الله- في تعليقه على فقه السيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 إلى ضعية وعورة وذنب وخطيئة وإني لا أثق إلا برحمتك" 1. ومن دعائه: "اللهم أنت عضدي ونصيري بك أحول وبك أصول وبك أقاتل" 2، وفي الدعاء المأثور في عرفة: "أنا البائس الفقير المستجير" 3 والبائس الذي اشتد البؤس وهو شدة الفقر، وأظن هذا الجاهل لو يقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم غنيٌّ عن ربه لم يستعظم هذا القول. وذكرنا في الجواب الحديث المشهور الذي فيه: "علماؤهم شر من تحت أديم السماء منهم   1" ضعيف: أخرجه أحمد في مسنده "5/ 191"، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة "846" من حديث زيد بن ثابت، وذكره الهيثمي في المجمع "10/ 113"، وفيه أبو بكر ابن أبي مريم وهو ضعيف. "2" صحيح: أخرجه الترمذي في الجامع "3584"، وأبو داود "2632"، وأبو عوانة في مسنده "6564، 6565، 7537"، والنسائي في الكبرى "5/ 188"، "6 /155"، وأحمد في مسنده "2904، 2994، 3133"، وابن حبان في صحيحه "4761" كلهم من طريق المثنى بن سعيد عن قتادة عن أنس مرفوعاً. قلت: المثنى هو الضبعي أبو سعيد البصري القصير، ثقة. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه "6/ 75، 513" عن أبي مجلز مرسلاً. "3" ضعيف جداً: أخرجه الطبراني في الصغير "696"، والكبير "11/174"، وأبو موسى الأصبهاني المديني في نزهة الحفاظ "1/ 97"، والخطيب في تاريخ بغداد "6/ 63"، والصيداوي في معجم الشيوخ "171"، وابن الجوزي في العلل المتناهية "2/ 844" من حديث ابن عباس، وقال ابن الجوزي: "هذا الحديث لا يصح، قال الدارقطني: كان إسماعيل بن أمية- أحد رواته- يضع الحديث"أهـ، وذكره الهيثمي في المجمع "3/ 252" وقال: "وفيه يحي بن صالح الأبلي، روى عنه يحي بن بكير مناكير وبقية رجاله رجال الصحيح"أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 خرجت الفتنة وفيهم تعود" 1. قال المعترض: هل ورد هذا الحديث في أهل العراق فهم كفار مجوس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو فيما يأتي فهذا شناعة على عامة العلماء ومنهم الإمام أبو حنيفة وإن كان ورد في حق أهل الحرمين فهذا ظاهر البطلان، إذ هي مهبط الوحي ومنبع الإيمان ... انتهى. فانظر: إلى هذه الوقاحة هل قلنا إن هذا الحديث خاص ببلد معين وإنما مقتضى الحديث الإخبار بما يحدث في الأمة من تغيير الدين وأن سبب ذلك علماء السوء، ولا يختص هذا ببلد معين فمن اتصف بصفات علماء السوء الذي يلبسون الحق بالباطل ويفترون على الله الكذب تناوله الذم في أي زمان ومكان، والله سبحانه لم يأمر عباده عند الاختلاف بالرد إلى أهل بلد ولا إلى ما عليه أكثر الناس ولا إلى شخص غير الرسول قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] و " شيء " نكرة في سياق الشرط فيعم كل شيء حصل فيه النزاع من أصول الدين وفروعه، ثم قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وهذا خطاب لجميع الناس إلى آخر الزمان وأجمع العلماء على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول إليه في حياته والرد إلى سنته بعد مماته.   "1" أخرجه ابن عدي في الكامل "4/227"، والداني في السنن الواردة في الفتن " 3/545 " عن علي رضي الله عنه موقوفاً، وفيه: عبد الله بن دكين، قال عنه ابن معين: ليس بشيء، وذكره الذهبي في الميزان "4301 " وقال: " نقل ابن الجوزي أن ابن معين قال مرة: ليس به بأس، وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال في موضع: ليس به بأس، وقال أبو داود: وثقه أحمد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في الآية: " هذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع فيه المسلمون من أصول الدين وفروعه أن يرد المتنازع فيه من ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] . فما حم به كتاب الله وسنة نبيه وشهد له بالصحة فهو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فدل ذلك على أن من لا يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس بمؤمن بالله واليوم الآخر، وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه والرجوع في فصل القضاء إليهما: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي وأحسن عاقبة ومآلاً.. "انتهى. ومن المحال أن يأمر الله سبحانه بالتحاكم إلى ما لا يفصل النزاع ويحكي عن بعض الضلال أنه يقول: نحن مقلدون ولسنا داخلين تحت هذه الآية ونحوها. فيقال له يلزمك هذا في جميع خطاب القرآن كقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 1] و {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3] ، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 155] وغير ذلك من خطاب القرآن في الأوامر والنواهي فمن زعم أنه ليس داخلاً في ذلك ولا معنياً به فلا شك في كفره ومن أعظم مكايد الشيطان لكثير من الناس ـ خصوصاً من ينسب إلى علم ـ أن حال بينهم وبين تدبر القرآن وتفهمه خصوصاً فيما تضمنه من أدلة التوحيد وسائر أصول الدين التي لا يجوز التقليد فيها عند عامة العلماء فإذا علم أنه لا يجوز التقليد تعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 معرفة أدلتها من الكتاب والسنة والله سبحانه قد بين ذلك غاية البيان والنبي صلى الله عليه وسلم بين للناس ما نزل إليهم من ربهم قال الله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] ، "من ربهم" ثم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة الهدى بعدهم تكلموا في ذلك بما يكفي ويشفي قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7] . قال ابن كثيرـ رحمه الله ـ: " يخبر سبحانه أن في القرآن آيات محكمات أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكم محكمه على ما تشابه عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس. . . "انتهى. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "المحكمات قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] والآيات بعدها، وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الاسراء: 23] ، والآيات بعدها يعني هذه الآيات ونحوها من المحكم وقال ابن عباس أيضا التفسير على أربعة أنحاء: تفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها وتفسير لا يعلمه إلا الله". ومن أعظم ما فتن الشيطان - في هذه الأزمنة المتأخرة – أكثر العامة بل كثيراً ممن ينسب إلى علم الاغترار بالأكثر، فيقول أحدهم: هذه الأمور التي تنكرونها مما يفعل عند القبور من دعاء أصحابها بسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والنذر والذبح لهم منتشر مشتهر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أمصار المسلمين وكذلك القصائد المتضمنة الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم كما في البردة ونظم الصرصري وغيرهما متداول مستعمل لا ينكرونه. وهذا كلام فلان في قصيدته وشرحها فلان وفلان وتداولها العلماء وهذه هي الشبه العظيمة التي قامت بقلوبهم فلا يصغون إلا إليها ولا يعولون إلا عليها كأنهم لم يسمعوا بنبي مرسل ولا بكتاب منزل، فيقال: أولاً هؤلاء أصحاب موسى الكليم الذين صحبوه فضله الله على عالمي زمانهم وآتاهم الكتاب والحكمة قد سئلوا موسى أن يجعل لهم إلهاً، قال سبحانه: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138] . وكذلك الذين قالوا لنبينا من أصحابه: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال صلى الله عليه وسلم" الله أكبر.. إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ، لتركبن سنن من كان قبلكم1. فهؤلاء خفي عليهم أن الذي طلبوه بقولهم اجعل لنا ذات أنواط أنه من التأله لغير الله ومن الشرك الذي حرمه الله، كذلك قول بني إسرائيل اجعل لنا إلهاً، خفي عليهم قبح ما طلبوه وأنه من الشرك الذي ينهى عنه   "1 " صحيح: أخرجه أحمد في مسنده "5/ 218"، والترمذي في الجامع "2180"، وابن أبي شيبة في مصنفه "7/ 479"، وأبو يعلى في مسنده "441"، والنسائي في الكبرى "11185"، وابن أبي عاصم في السنة "76"، المروزي في السنة "37"، والطيالسي في مسنده "1346" من حديث أبي واقد الليثي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 موسى عليه السلام فإذا كان قد خفي على المذكورين فلا يستبعد خفاؤه على من دونهم، ويقال أيضاً لمن احتجوا بأكثر الناس وأن الحق ما هم عليه خاصة إذا كان المحتج ممن ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد والحنابلة: أكثر الناس في هذه الأزمان مخالفون لما عليه الإمام أحمد وأصحابه في كثير من صفات الرب، منها صفة علو الرب سبحانه فوق سماواته واستواؤه على عرشه فأكثر الناس اليوم لا يثبتون هذه الصفة ويبدِّعون من أثبتها ويضلِّلونهم، وبعضهم يكفِّرهم ويخصون الحنابلة بذلك لأن مذهب الإمام أحمد وأصحابه إثبات صفات الرب واستوائه على عرشه حقيقة من غير تكييف ولا تمثيل، وعلى ذلك أئمة الإسلام وكلامهم معروف في تضليل من لم يثبت هذه الصفة وأكثرهم صرَّح بكفرهم. ومن ذلك مسألة كلام الرب سبحانه أكثر الناس اليوم يقولون كلامه سبحانه هو المعنى النفسي وأن حروف القرآن مخلوقة ومذهب أحمد وأصحابه وسائر الأئمة أن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه وليس شيء منه مخلوقاً ويضللون من قال بخلق الحروف وخلاف الحنابلة خاصة مع هؤلاء معروف. ذكرنا هاتين المسألتين على سبيل المثال وإلا فأكثر الناس اليوم على خلاف ما عليه السلف في أكثر الصفات وكذلك في الإيمان فجمهور الناس في هذه الأزمان يقولون: الإيمان التصديق ويقولون: الأعمال ليست من الإيمان وإنما سُميت إيماناً في بعض الأحاديث فعلى سبيل المجاز ومذهب أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص وكثير من السلف كفَّروا من قال: إن الإيمان هو التصديق فقط. إذا عُرِف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ذلك تبين للمحتج بالأكثر إن كان على مذهب الإمام أحمد وأصحابه وجميع أهل السنة في إثبات الصفات أن حجته حجة داحضة واهية وعلم أن أهل الحق هم الأقلون عدداً الأعظمون عند الله قدراً. وقد روى ابن وضَّاح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "تعلموا العلم تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله فإنه سيأتي من بعدكم زمان ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم1. ويشهد لذلك قول النبي صلى عليه وسلم: " تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" 2"، وقال: " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء" 3   "1" ضعيف: أخرجه الدارمي في سننه "259"، وفيه انقطاع. "2" صجيج بجموع طرقه وشواهده: ورد هذا الحديث من طرق مختلفة عن ثمانية من الصحابة رضوان الله عليهم، ولا يتسع المقام لبحث هذه الطرق، وقد استقصى طرقه وتتبعها وأثبت صحته: الشيخ سليم الهلالي-حفظه الله- في جزء خاص سماه: "نصح الأمة في فهم أحاديث افتراق الأمة". وكذا صححه العلامة الألباني- رحمه الله- في بحث نفيس له في السلسلة الصحيحة"204، 205"، وكذا صححه الترمذي، والحاكم، والذهبي، وابن تيمية، والشاطبي في الاعتصام، وحسنه الحافظ، وقوَّاه بمجموع طرقه الحافظ ابن كثير، رحم الله الجميع. وهو حديث جليل القدر، يجب على طلبة العلم، والعامة الاعتناء بما فيه من تحذير من الفرق الثنتَيْن والسبعين التي فارقت سبيل الصحابة في فهم الكتاب والسنة، كما جاء في بعض روايات الحديث عندما سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن علامة هذه الفرقة الناجية فأجاب: "الذين كانوا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، ومن هذه الفرق الضالة الخوارج، والجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، والماتريدية، والصوفية بشتى طرقها وما أكثرها. 3" " صحيح مسلم "145". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لعمرو بن ميمون: "أتدري ما الجماعة قلت: لا، قال إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك" وفي طريق أخرى: "إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وأن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل1. والله سبحانه علم ما يحدث في الأمة من الاختلاف والتنازع وأوجب عليهم عند التنازع الرد إلى كتابه وسنة نبيه فقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} والنبي صلى الله عليه وسلم أمر الأمة عند الاختلاف بالرد إلى سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده فقال: " إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ 2. وقول بعض الناس لو كان ما تقولون حقاً لكان غيركم أولى به منكم يشابه قول الكفار: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الاحقاف: 11] ، {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] ، فقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وقال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68] ، وقال: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105] ،   1" " أخرجه اللالكائي في اعتقاد اهل السنة "160"، وفي إسناده نعيم بن حماد، وهو صدوق يخطئ كثيراً كما قال الحافظ في التقريب. 2" " حديث صحيح جليل القدر: صححه العلامة الألباني- رحمه الله- في الإرواء "2455"، وظلال الجنة في تخريج السنة "26، 25"، والمشكاة "165"، وصلاة التراويح "6"، وصحيح ابن ماجه "40"، "41"، والصحيحة "937"، ومشكلة الفقر "92". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 والميزان العدل هو الكتاب والسنة وعليهما تعرض أقوال الناس وأعمالهم فما شهدا له بالصحة فهو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال، ونحن نتحقق أن في أمصار المسلمين كثيراً ينكرون هذه الأمور الشركية، كما قد سمعنا من بعض من لقينا وبلغنا عن بعض من لم نلق، لكن صارت الغلبة لضدهم فإنا لله وإنا إليه راجعون. أما قول المعترض: لو أن عبارات العلماء مثل البيضاوي والقسطلاني وغيرهما تجدي لديكم شيئاً لذكرناه لكم ولكنها تمحي بلفظة واحدة وهي أنهم كفار.. انتهى. فهلا ذكر لصحابه من كلام من ذكر وغيرهم ما ينشطهم وهو قد غرهم بما افتراه من الكذب على الله وعلى رسوله وعلى علماء الأمة عامة، فما الذي يمنعه من ذكر الصدق لهم ليزدادوا يقيناً في باطلهم، وأما افتراؤه علينا أننا نكفِّر علماء المسلمين فهو قد اجترأ على الكذب على الله وعلى رسوله وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل:105] . ونحن ندعو للمسلمين عموماً ولعلمائهم خصوصاً فنقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ، ومع ذلك نقول كما أوصونا به:"كل يؤخذ من كلامه ويرد إى رسول الله صلى الله عليه وسلم". ولهم زلات، وفي الحديث المشهور: "اتقوا زلة العالم" 1 فإذا تبين لنا زلة أحد منهم لم نتابعه عليها وندعو له، وقد   "1" ضعيف: اخرجه البيهقي في الكبرى "10/ 211" وابن عدي في الكامل "6/ 60" من حديث عمرو بن عوف، وفي إسناده كثير بن عبد الله، قال عنه أحمد: منكر ليس بشيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أخشى أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول الله، وتقولون قال أبو بكر وعمر". وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".. انتهى. وليعلم أننا لم نجترئ على تكفير من وجدنا في كلامه ألفاظاً شركية كصاحب البردة وأمثاله، وهذه زلات عظيمة ربما لو نبهوا عليها لتنبهوا ولا نسب الأموات وقد أفضوا إلى ما قدموا، ونسأل الله ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. وأنكر المعترض قولنا: إن طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع عقلاً وشرعاً فقال ومن أين لكم هذا الامتناع وما دليله من العقل والسماع. جوابه.. أما امتناعه عقلاً فلأن النبي صلى الله عليه وسلم ميت. قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ، وقال أبو بكر رضي الله عنه: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً بشر قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال: أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها ولن يجمع الله عليك موتتين"1   "1"صحيح: صحيح البخاري"1242، 3670، 4454". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ومقتضى قول من يقول: أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره كحياته حين كان على وجه الأرض1 أن يجمع عليه موتتين لأنه قد قام الدليل القاطع أنه عند النفخ في الصور لا يبقى أحد حياً. والعقل الصحيح يمنع طلب الدعاء من الميت ولم يرد حديث صحيح بأنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره لكن نقطع أن الأنبياء أعلى رتبة من الشهداء، وقد أخبر الله عن الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون فالأنبياء أولى بذلك، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] . ومع ذلك فالشهداء داخلون تحت قوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] . وقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} فهذا الموت المثبت غير الموت المنفي، فالموت المثبت هو فراق الروح البدن والمنفي زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن، فلو جاء إنسان إلى شهيد بعد خروج روحه وهو على وجه الأرض لا يتحرك ولا ينطق يطلب منه أن يدعو الله له لأنكر ذلك ذوو الفطرة السليمة والعقل الصحيح، فكيف إذا صار في بطن الأرض   "1" قال العلامة الألباني- رحمه الله- في "التوسل- أنواعه وأحكامه" "ص 65": " ... حياته صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته مخالفة لحياته قبل الوفاة، ذلك أن الحياة البرزخية غيبٌ من الغيوب، ولا يدري كنهها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن من الثابت والمعلوم أنها تختلف عن الحياة الدنيوية، ولا تخضع لقوانينها، فالإنسان في الدنيا يأكل ويشرب، ويتنفس ويتزوج، ويتحرك ويتبرز، ويمرض ويتكلم، ولا أحد يستطيع أن يثبت أن أحداً بعد الموت حتى – عليهم السلام-، وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعرض له هذه الأمور بعد موته" أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وهو في كلتا الحالتين حيّ حياة الله أعلم بحقيقتها مع القطع بأنها ليست كحياته لما كان على وجه الأرض قبل القتل، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش تسرح حيث شاءت من الجنة"1. وهم مع ذلك أحياء وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن نسمة2 المؤمن طائر يَعلُق3 في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" 4وفي   "1" صحيح: صحيح مسلم " 1887". "2" قال ابن القيم- رحمه الله- في كتابه الروح "ص 118": "قال الخليل ابن أحمد: النسمة: الإنسان، قال: والنسمة الروح، والنسيم: هبوب الريح" أهـ. "3"في المصدر السابق:" وقوله تعلق في شجر الجنة: تروى بفتح اللام، وهو الأكثر، وتروى بضم اللام، والمعنى واحد، وهو الأكل والرعي، يقول: تأكل من ثمار الجنة وتسرح بين أشجارها، والعلوقة والعلوق: الأكل والرعي، تقول العرب: ما ذاق اليوم علوقاًَ أي طعاماً" أهـ. "4" صحيح: أخرجه مالك في الموطأ "568" عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ... وذكره، وأخرجه الحميدي في مسنده "873" عن عمرو بن دينار وعبد بن حميد في مسنده "376" عن معمر، وابن حبان في صحيحه "4657" من طريق الليث، والطبراني في الكبير"19/65" من طريق الأوزاعي: كلهم عن ابن شهاب به. وأخرجه أحمد في مسنده "3/455" من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب أنه بلغه أن كعب بن مالك.. . وذكره مرفوعاً. وأخرجه أيضاً في "3/465" من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري به، فهؤلاء خمسة رووا الحديث عن ابن هشام عن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه كعب مرفوعاً، وهذا إسنادُ متصل، وخالفهم ابن كيسان وشعيب فروياه عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن جده مرفوعاً، وهذا فيه انقطاعُ بين عبد الرحمن وكعب، وقد رجَّح الذهلي أن الطريق المنقطعة هي المحفوظة وخالفه ابن عبد البر فقال:" ولا وجه عندي لما قال محمد بن يحيى من ذلك ولا دليل عليه، واتفاق مالك ويونسابن يزيد والأوزاعي ومحمد بن إسحاق أولى بالصواب، والنفس إلى قولهم أسكن، وهم من الحفظ والإتقان بحيث لا يُقاس بهم من خالفهم في هذا الحديث" أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وفي سنن أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام" 1 فهذا يدل على أن روحه صلى الله عليه وسلم ليست في جسده دائماً بل هي في أعلى عليين، ولها اتصال بجسده أحياناً، الله أعلم بحقيقته وليس ذلك الرد- أعني رد الروح- خاصاً به صلى الله عليه وسلم، بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه   ولم أقف على رواية يونس وابن إسحاق، لكن كما ترى زدتُ على من ذكرهم ابن عبد البر- رحمه الله- ممن وصلوا هذا الحديث: عمرو بن دينار، ومعمر، والليث. وكفى بهؤلاء جلالةً وحفظاً، وقد تقدم روايتهم. أضف إلى ذلك أن مالكاً- رحمه الله- وهو ممن وصلوا هذا الحديث مرسلا ص، ما كان لمالك أن يعدل عن الرواية المرسلة إلى المتصلة، وهذه قرينة قوية تعضد ترجيح الرواية المتصلة. وقد قال الذهلي: سمعت علي بن المديني يقول: "ولد كعب خمسة: عبد الله وعبيد الله ومعبد وعبد الرحمن ومحمد، قال الذهلي: فسمع الزهري- أي ابن شهاب- من عبد الله بن كعب وكان قائد أبيه حين عَميَّ، وسمع من عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب .... ". وقال ابن القيم في الروح "ص 117": " فالحديث إن كان لعبد الرحمن عن أبيه كعب كما قال مالك ومن معه فظاهر، وإن كان لعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن جده كما قال شعيب ومن معه فنهايته أن يكون مرسلاً من هذا الطريق وموصولاً من الأخرى، والذين وصلوه ليسوا بدون الذين أرسلوه قدراً ولا عدداً، فالحديث من الصحاح لهذه العلة، والله أعلم" أهـ. "1" صحيح: أخرجه أحمد في مسنده "2/ 527"، وأبو داود في سننه "2041"، وإسحاق بن راهويه في مسنده "526"، والطبراني في الأوسط "3092"، والبيهقي في حياة الأنبياء في قبورهم "16"، وفي الكبرى "5/ 245"، وشعب الإيمان "1581". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 روحه حتى يرد عليه السلام" 1 هذا وروحه في الجنة كما تقدم في الحديث فأرواح الشهداء بل عامة المؤمنين في الجنة ولها اتصال بأجسادهم في بعض الأحيان لا يعلم صفته إلا الله، وأمر البرزخ وأحكامه على خلاف ما يشاهد في الدنيا، وأما امتناع طلب الدعاء منه بعد موته شرعاً فلأن الصحابة رضي الله عنهم- وهم أعلم بالله وبرسوله ممن بعدهم- لم يأتوا إلى قبره صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يدعوا لهم ويستسقي لهم ويستنصر لهم لعلمهم أن هذا ممتنع بعد موته، ولم يأت أحد منهم يستفتيه في قبره في مسائل كثيرة أشكلت عليهم، قال عمر رضي الله عنه: "ثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها" 2. واستسقى عمر بالعباس ولم يأت إلى قبره صلى الله عليه وسلم ليستسقي لهم3، وكان الناس يجيئون إلى أم المؤمنين عائشة   "1" منكر: ذكره ابن رجب- رحمه الله- في أهوال القبور "ص 95" من رواية الربيع بن سليمان المؤذن قال: ثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس مرفوعاً، ثم قال: "خرجه ابن عبد البر، وقال عبد الحق الإشبيلي: إسناده صحيح، يشير إلى أن رواته كلهم ثقات، وهو كذلك، إلا أنه غريب بل منكر" أهـ. وقد رُويَ نحوه عن أبي هريرة موقوفاً، ذكره ابن طولون في التحرير "التحرير المرسخ بذكر أحوال البرزخ" "623" وعزاه لابن أبي الدنيا في القبور، والبيهقي في الشعب. وكذا أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية، وأعله بضعف عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم – أحد رواته-. "2" صحيح: صحيح البخاري "5588"، ومسلم "3032". "3" صحيح: صحيح البخاري "1010، 3710" من حديث أنس رضي الله عنه: أن عمر رضي الله عنه كان إذا قَحَطُوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون". والمقصود بالتوسل بالعباس هنا هو التوسل بدعائه إلى الله، لا التوسل بذاته وجاهه، إذلو كان مقصود عمر التوسل بذات العباس وجاهه، ما عدَّل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العباس، إذ أن جاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم محفوظٌ بعد موته كما كان في حياته. ولو كان التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم جائزاً، وسبباً في إجابة الدعاء، لأمرنا به، وحثَّنا عليه، كيف وهو لم يترك شيئاً يقربنا إلى الله إلا ودلنا عليه، ولم يصح أبداً أي حديث عن التوسل بالجاه والذات، وحديث: "توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم" حديث باطل لا أصل له في كتب السنة. لو كان مقصود عمر التوسل بذات العباس وجاهه، ما عدَّل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العباس، إذ أن جاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم محفوظٌ بعد موته كما كان في حياته. ولو كان التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم جائزاً، وسبباً في إجابة الدعاء، لأمرنا به، وحثَّنا عليه، كيف وهو لم يترك شيئاً يقربنا إلى الله إلا ودلنا عليه، ولم يصح أبداً أي حديث عن التوسل بالجاه والذات، وحديث: "توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم" حديث باطل لا أصل له في كتب السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ليستفتوها عند قبره صلى الله عليه وسلم وهو مع ذلك يسمعهم يُجيبهم لو سألوه على مقتضى زعم الغلاة، وهذا من المحال. بل نهوا عن تحري دعاء الله عند قبره صلى الله عليه وسلم، ولما رأى علي بن الحسين رحمه الله رجلاً كان يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال: "ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم" فرأى على بن الحسين- رحمه الله- أن ذلك من اتخاذه عيداً، روى سهيل بن أبي سهيل قال: "رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر فناداني، وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء فقلت: لا أريده، فقال: دخلت المسجد فسلم، ثم قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليَّ حيثما كنتم". ما أنتم ومن الأندلس إلا سواء" 1   "1" حسن لغيره: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه "3/ 577"، عن الثوري عن ابن عجلان عن رجا يقالله: سهيل عن الحسن بن الحسن بن علي قال: رأى قوماً عند القبر فنهاهم وقال:. . . وذكره. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه "2/ 150" قال: حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان به. وأخرجه أيضاً في "3/ 30" لكن بزيادة "عن أبيه" بعد الحسن، فلا أدري هل هذا خطأ من أحد النساخ أم هو من اضطراب ابن عجلان. وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد في مسنده "2/ 367"، وأبو داود في سننه "2042"، وفي إسناده: عبد الله بن نافع، ضعفه أحمد، ولينه أبو حاتم، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال البخاري: في حفظه شيء. فهذا إسناد جيد في الشواهد. وله شاهد آخر من حديث علي رضي الله عنه، أخرجه أبو يعلى في مسنده "469"، والبخاري في التاريخ الكبير "2/ 186"، من طريق جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحَيْن قال: ثنى علي بن عمر عن أبيه عن علي بن حسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة وكانت في قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيدخل فيها فيدعو، فدعاه فقال: ألاَّ أحدثك بحديث سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:. . وذكره نحوه. قلت: جعفر قال عنه ابن حبان: يعتبر بحديثه من روايته عن أبيه كما في اللسان للحافظ "432"، وهو من ولد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وأما علي بن عمر هو ابن الحسين بن علي، قال عنه ابن حبان في الثقات: يعتبر حديثه من غير رواية أولاده عنه- وهذه منها- وأما عمر بن الحسين فقد ذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ. وهذا شاهد قوي يعضد ثبوت الحديث، ويُبين ما كان عليه أهل بيت رسول الله من الالتزام بأمره صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الغلو فيه باتخاذ قبره مكاناً للدعاء والسجود، وزجر أي جاهل يفعل ذلك، فهلاَّ تأسى مُحبي آل بيت النبوة بهم في التوحيد الخالص والاتباع الصادق لهدي النبوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: "فهذا علي بن الحسين أفضل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من التابعين نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم، واستدل بالحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده وهو أعلم بمعناه من غيره، فبين أن قصده للدعاء ونحوه اتخاذاً له عيداً، وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل1 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول المسجد ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً. فانظر: هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت رضي الله عنهم الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط". وقال- رحمه الله-: "ولقد جرَّد السلف الصالح التوحيد وحمو جانبه حتى كرهوا قصد دعاء الله عند قبره صلى الله عليه وسلم، فكيف بدعائه نفسه، وكان أحدهم إذا سلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو الله، استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ونص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو الله لأن الدعاء عبادة، وفي الترمذي وغيره: " الدعاء هو العبادة" 1، فجرَّد السلف العبادة لله ولم يفعلوا عند القبور إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلام على أصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"، ولكن كلما   "1" صحيح: أخرجه أحمد في مسنده "4/ 267، 271، 276"، والترمذي في الجامع "2969، 3247، 3372"، وأبو داود في سننه "1479"، وابن ماجه في سننه "1258"، والنسائي في الكبرى "11464"، والبخاري في الأدب المفرد "714"، وابن أبي شيبة في مصنفه "6/ 21"، والطيالسي في مسنده "801"، وابن المبارك في الزهد "1298"، والبزار في مسنده "8/ 205" من طرق عن ذر عن يسيع الكندي عن النعمان بن بشير مرفوعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك". وقال شيخ الإسلام: ودعاء الميت من الشرك سواءً طُلب منه أن يفعل أو طُلب منه أن يسأل الله وذكر القاضي عياض في "الشفاء" عن مالك رحمه الله أنه كره أن يُقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم. قال القاضي: "والأولى عندي أن منعه وكراهة مالك له لإضافته إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1 فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبيه بفعل أولئك قطعاً للذريعة وحسماً للباب". وفي المبسوط عن مالك: " لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا ولكن يسلم ويمضي ". وقال: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فقيل له: إن أناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدون يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في لجمعة وفي الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه   "1" صحيح: انظر "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد" "ص 19،18" للعلامة الألباني- رحمه الله- حيث خرَّجه وذكر طرقه وبيَّن صحته، فجزاه الله خيراً وأحسن إليه، ومتَّع بعلمه بعد موته، كما مُتِّعنا به في حياته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ببلدنا وتركه واسع ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده. انتهى. فانظر: إلى ما ذكر عن علي بن الحسين وما روي عن الحسن بن الحسن مما قدمناه وإلى قول مالك يكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده. هل هذا تنقُّص منهم له صلى الله عليه وسلم أو سد للذريعة عن الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم، وفي أثناء كلام لشيخ الإسلام- رحمه الله- قال: "وكل ما سوى الله يتلاشى عند ذكر توحيده، والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تقريراً لما يقال على هذا الوجه وإن كان هو المسلوب كما قالت عائشة رضي الله عنها لما أخبرها براءتها: " والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمد إلا الله" 1. وفي لفظ: "بحمد الله لا بحمدك "2. فأقرها صلى الله عليه وسلم وأبوها على ذلك لأن الله أنزل براءتها بغير فعل أحد. قال حبان: "قلت لابن المبارك: إني لأستعظم هذا القول، قال:   "1" صحيح: صحيح البخاري "4141" في حديث الإفك الطويل، حيث أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من فوق سبع سموات وخلّد ذكرها في القرآن، فليتأسى النساء بأفقه زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في تجريدها التوحيد لله. "2"صحيح: أخرجه أحمد في مسنده "6/ 367"، والطيالسي في مسنده "1665"، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني"3216،3215 من طريق حصين عن شقيق ابن سلمة عن مسروق عن أم رومان- وهي أم عائشة- عن عائشة رضي الله عنها. قلت: حصين بن عبد الرحمن السُّلمِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 دلت الحمد أهله". وفي الحديث الذي رواه أحمد: "اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد، قال عرف الحق لأهله" 1. وكان يعلم أصحابه تجريد التوحيد فقال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد" 2، وقال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده" 3.   "1" إسناده ضعيف: أخرجه أحمد في مسنده "3/ 435"، والحاكم في المستدرك "4/ 284"، من حديث الأسود بن سريع، وفيه عنعنة الحسن البصري، وهو مدلس، ولا تقبل عنعنته خاصةً عن الصحابة، وهذا منها، أما عن التابعين ففيها تفصيل. "2" صحيح: أخرجه ابن ماجه "2118"، والدارمي في سننه "2699"، من طريق عبد الملك بن عمير الربعي بن حراش عن الطفيل بن صخبرة أخي عائشة مرفوعاً. وفي رواية: عن حذيفة بدلاً من الطفيل. ويخشى أن يكون هذا الاضطراب في تسمية الصحابي بن عبد الملك فإنه وإن كان ثقةً من رجال الشيخين إلا إنه لما كبر تغير حفظه. ومهما كان فهو إسناد صحيح إلى الطفيل أو إلى حذيفة، فإن تعيين الصحابي لا يضر. وفي الحديث قصة وهي أن رجلاً من المشركين قال لرجل من المسلمين: نعم القوم أنتم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ... وذكره. "3" حسن: أخرجه في مسنده "1/ 214، 224"، وعبد الرزاق في مصنفه "1/ 283"، والبخاري في الأدب المفرد "783"، والنسائي في عمل اليوم والليلة "987"، وابن أبي شيبة في مصنفه "5/ 340"، وابن عدي في الكامل "1/ 428"، والخطيب في تاريخ بغداد "8/ 104". من طريق الأجلح بن عبد الله عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس مرفوعاً. وعبد الله بن الأجلح، وثقه ابن معين، وقال أحمد روى غير حديث يذكر، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه ولا يحتج به، وقال النسائي: ضعيف ليس بذاك. لكن له شواهد يُحسن بها. وانظر علل ابن أبي حاتم "2210" "2/2/240". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وقال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقير: عبد الله ورسوله" 1، 3، 4، 5. وقال: "يأيها الناس ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله" 1. وقال: "لا تتخذوا قبري عيداً. 2 وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" 4. وقد قال الله سبحانه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . وقال: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} . وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} . وقال: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً، قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [الجن:22:21] . أي لن أجد من دونه من ألتجئ إليه وأعتمد عليه، وقال لابنته وعمهم عباس وعمته صفية: "لا أملك لكم من الله شيئاً" 5. وفي لفظ: "لا أغني عنكم من الله شيئاً".   "1"، "3"، "4"، "5" تقدم تخريجهم. "2" صحيح: أخرجه أحمد في مسنده "3/ 153، 249"، والنسائي في الكبرى "6/ 71،70"، وعبد بن حميد "6337" من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مرفوعاً. - وهذا إسناد صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فعظم ذلك على المشركين بشيوخهم وآلهتهم وأبوا ذلك كله وادعوا لشيوخهم ومعبوديهم خلاف هذا كله وزعموا أن من سلبهم ذلك فقد هضم مراتبهم وتنقصهم. وهم قد هضموا جانب الإلهية غاية الهضم وتنقَّصوا فلهم نصيب في قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59