الكتاب: السنة النبوية وحي من الله محفوظة كالقرآن الكريم المؤلف: الحسين بن محمد آيت سعيد الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- السنة النبوية وحي - آيت سعيد الحسين بن محمد آيت سعيد الكتاب: السنة النبوية وحي من الله محفوظة كالقرآن الكريم المؤلف: الحسين بن محمد آيت سعيد الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة : إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وبشيرا ونذيرا للبرية أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه النجَبة، الصدور المحببَّة، والفطَنة النبَغة، معادنِ الصدق واليقين، وموائل الصبر والمثابرة والجهاد ومتانة الدين، الذين فاؤوا للحق فاستظلوا بظلاله، وفاء إليهم الحق فارتفعت بهم رايتُه، ورفرفت فوق هامِهم شارتُه ونَضارتُه، به خرجوا من العدم إلى الوجود، وبهم انصدعت آيه وبراهينه من جديد، فرضي الله عنهم من صفوة جديرة بالتقدير، وعُصبة جلّت عن إحصاء مكامن عزها بالاستقصاء والتنقير. بيضُ الوجوه كريمة أحسابهم ... شُمُّ الأُنوف من الطراز الأَول أمابعد: فإن السنة النبوية ـ شرفها الله تعالى ـ تعرضت ولا تزال لموجة عارمة من التشكيك بها تارة، أو إنكارها بالكلية تارة أخرى، أو الطعن في تدوينها، أو حصرها في دائرة ضيقة، يستأنس بها ولا يعتمد عليها، ولا تنشئ أحكاما، ولا يحتج بها في العقائد، ولا في الحدود، إلى غير ذلك من تضليلات وآراء لا حصرلها، يجمعها كلها، النظرُ إلى السنة بمنظار لم يعهده السلف المتقدمون، وغالبُ هذه الشُّبَه منقولة عن المستشرقين، والمستغربين من أبناء جلدتنا الذين يقلدونهم في كل شيء، إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 تتلمذوا لهم، وكانوا واسطة في نقل مفترياتهم إلى العالم الإسلامي، ولئن كانت هذه الشبه ليست بجديدة من المستشرقين -لأن المعتزلة والشيعة قد سبقوهم إلى كثير منها- إنَّ ما يجمع بين حديثها وتليدها، هو توهين السنة في النفوس، وإزاحةُ تعظيمها، وقدسيتها، وعدّها أمرا عاديا لايستوجب الاعتناء. وقد قام جهابذة النقاد، بزَيْفِ دعاوى المعتزلة ومن لف لفهم، ونفي شبههم، بأدلة دامغة للباطل، معزِّزة للحق، فعظُمت بذلك السنة في النفوس، وكثر طالبوها، والمولوعون بها، وانتشرت علومها، وعم منهجها، حتى نبغت نابغة من المعتزلة الجدد، الذين استقوا آراءهم الدحضة عن السنة ورواتها، من أفكار المتقدمين، من شتى الفرق المنحرفة عن منهج أهل السنة، وأفكار المتأخرين المتسترة وراء التجديد في مناهج دراسة السنة النبوية وتمحيصها، التي هي إعدام لها في الحقيقة، وتعطيل لها عن العمل، ومحاولة إبعادها نهائيا عن واقع الأمة بأساليب ملتوية، مشتملة على نفاق لا يخفى لحْنُه على ذوي الألباب. هذا، وإن مدار هذا البحث على مصطلحين مشهورين، وهما السنة والوحي، ولابد من تعريفهما وضبط مفهومهما قبل الشروع في أحكامهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 تعريف السنة: أ - السنة لغة: تعني الطريقة، والسيرة المعتادة للإنسان، سواء كانت حسنة أو قبيحة، قال لبيد: من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها وسنَنُ الطريق، نهجه، قال شمر:"وهو طريق سنه أوائل الناس فصار مسلكا لمن بعدهم" (1) وقال عليه الصلاة والسلام – في النوعين معا – من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " (2) . وقال ابن فارس: " السين والنون، أصل واحد مطرد، وهو جريان الشيء واطراده في سهولة" (3) . وسَنَّ الشيء ابتدأه، وسار عليه من بعده، فأصبح له سنة وعادة. فتلخص من هذا أن السنة تعني الطريقة التي يداوم عليها الإنسان، حتى أصبحت عادة له، وسيرة يعرف بها. ب - واصطلاحا: عرَّفها المحدثون بقولهم:" ما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول، وفعل، وتقرير، وصفة خِلقية وخُلقية، وهَمٍّ وإشارة، يقظة ومناما، قبل النبوة وبعدها" (4) .   (1) انظر لسان العرب - 13/226. (2) أخرجه مسلم في العلم – 4/2059/2060. (3) المقاييس – 3/60. (4) انظر توجيه النظر – 2/3/ وتوضيح الأفكار – 1/3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ج - أقسام السنة: تنقسم السنة إلى الأقسام الثلاثة المذكورة في التعريف: أ – السنة القولية: وهي إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من الأمور في مختلف الأغراض الدينية والدنيوية. ب - السنة الفعلية: وهي أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم أمرا من الأمور، فينقل إلينا أصحابه كيفية ذلك الفعل، كوضوئه، وصلاته بهم، وحجه، وما إلى ذلك ج - السنة التقريرية: وهي أن يقر النبي صلى الله عليه وسلم قولا أوفعلا وقع أمامه، أو بلغه ولم ينكره، بل سكت عنه، أو أظهر استحسانه، فكل ذلك يدل على أن ذلك الفعل سنة، ممدوح فاعله، لأنه لو كان منكرا لأنكره، إذ لا يقر أحدا على باطل. والسنة في هذه الأقسام، وحي من الله تعالى لنبيه بكيفية من كيفيات الوحي الآتية. ب - تعريف الوحي: أ - الوحي لغة، مأخوذ من وحى وأوحى إليه، إذا كلمه بما يخفيه عن غيره، ويطلق على الإشارة السريعة، سواء كانت بإشارة، أو رمز، أو تعريض، ومدارُ هذه المادة على الخفاء والسرعة. واصطلاحا: "هو الإخبار السريع الخفي الموجه لخاص من الناس ". ب - أقسام الوحي: ينقسم الوحي إلى ستة أقسام: أولها وأعلاها، وحي الله عز وجل لمن اختاره من خلقه من أنبيائه مباشرة بلا واسطة كما كلم موسى وفرض عليه ما شاء، وكلم محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بما شاء من أحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وثانيها: الوحي بواسطة الملك، وهذا هو الغالب. وثالثها: الإلهام الفطري للإنسان، كإلهام الله أم موسى أن تلقيه في اليم إذا خافت عليه، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] . هذا على مذهب من جعله وحي إلهام، وأما من جعله وحيا حقيقيا -كابن حز م- فيرجع إلى القسم الثاني ورابعها: الإلهام الغريزي للحيوان، مثل قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] أي ألهمها ذلك، وجعله غريزة لها. وخامسها: الإشارة الرمزية المعبِّرة، كقوله تعالى في قصة زكرياء: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا} [مريم: 11] . وسادسها: تزيين الشيطان ووسوسته، كقوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] ، أي: يوسوسون لهم بذلك، ويزينونه لهم. ج – كيفيات الوحي للأنبياء والرسل عليهم السلام. إيصال الوحي للموحى إليه، يدور على كيفيات خمس. إحداها: أن يأتي الملك النبي صلى الله عليه وسلم في مثل صلصلة الجرس، وهو أشد حالات الوحي وأشقها. وثانيتها: أن يأتيه الملك في صورة رجل، فيكلمه بالوحي، فيعي عنه ما يقول وهاتان الكيفيتان مذكورتان في حديث عائشة في الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وثالثتها: أن يأتيه الملك في النوم، فيوحي إليه ما شاء الله، كما في قصة إبراهيم مع ابنه إسماعيل الذبيح، وكقوله صلى الله عليه وسلم من حديث معاذ: " أتاني ربي، فقال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى … الحديث (1) . ورابعتها: أن ينفث الملك في رُوعه ما يريد من الوحي، فيتيقنه، وهذا النوع قد ورد في حديث ابن مسعود:" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن روح القدس، قد نفث في رُوعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " (2) والنفث، هو النفخ، وإلقاء الشيء فيستقر وخامستها: التكليم المباشر من الله تعالى لنبي من أنبيائه، وقد تقدم (3) . والسنة النبوية يقع إيحاؤها بهذه الكيفيات كلها، فتارة يوحى إليه بها مباشرة، وتارة بواسطة ملك، وتارة في النوم، وتارة بالنفث في الروع. هذا، وسأرتب هذا البحث بعد هذه المقدمة على تمهيد، وثلاثة مباحث وخاتمة: المبحث الأول: عصمة الأنبياء عليهم السلام. المبحث الثاني: اجتهاد الأنبياء عليهم السلام. المبحث الثالث: بسط أدلة القول بأن السنة وحي كالقرآن. خاتمة في نتائج البحث المستخلصة منه.   (1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ص 5/368/ وأحمد – 5/ 253 / من حديث معاذ، وقال الترمذي حسن صحيح، وسأل عنه البخاري، فصححه، وله شاهد من حديث ابن عباس عند الترمذي، وأحمد –1/368/ وفي إسناده مقال، لكنه يقوى بهذا. (2) أخرجه الحاكم في المستدرك – 2/ 4/ وله شواهد عديدة يصح بها. (3) انظر هذه الأقسام في الإتقان للسيوطي /1/98/99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 تمهيد : إن البيان بلحنه وخطابه، وإشارته ودلالته، وحفزه - وبلاغته، وتأثيره في النفوس، وإذكاءِ روح اليقظة فيها وتحميسها على الإقدام أو الإحجام عن شيء مّا، دون أن يمارس عليها ذلك بقوة السلطان، ولا ببريق السيوف ولا يفتقر في وجوده إلى الاستدلال، لأنه أمر وجداني يحس به المرء من نفسه، ولا يطيق درأه، والوجدانياتُ اضطراريات، فمن يبحث عن دليل وجودها فهو معاكس للفطرة، منكر لأمر يجده من نفسه، ويشعر به من داخلته. وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل والبيانُ له صولة على النفوس، ويدخل إليها من منحنياتها العديدة بغير استئذان، ويفعل بها ما يفعله السحر بالمسحور، ولذا مدَحه النبي صلى الله عليه وسلم وذمَّه، لاعتبارين مختلفين، وقصدين متغايرين: مدحه بقوله في حديث ابن عمر: " إن من البيان لسحرا" (1) وذمه بقوله من حديث أم سلمة: " إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أبلغُ بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها" (2) . وعقل الفقهاء عن رسول الهدى أنه مدح البيان، إذا كان لقصد صحيح، وذمَّه إذا كان لغرض فاسد، وذاك يدل على أنه ليس بمذموم ولا ممدوح   (1) أخرجه البخاري في النكاح - الفتح - 9/109/ وفي الطب 10/ 247 عن ابن عمر قال: قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحرا ". وفي لفظ في الموطأ - 2/ 986 / " إن بعض البيان لسحر". (2) سيأتي تخريجه وتفصيله في ص – 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 لذاته، وإنمَّا لمِاَ يلحقه من الأغراض، ونقل الحافظ في الفتح عن الخطابي أنه قال: " البيان اثنان: أحدهما ما تقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان، والآخر ما دخلته الصنعة بحيث يروق للسامعين، ويستميل قلوبهم، وهو الذي يشبه بالسحر إذا خلَب القلب، وغلب على النفس، حتى يحوِّل الشيءَ عن حقيقته، ويصرفَه عن جهته، فيلوحَ للناظر في معرض غيره، وهذا إذا صَرف إلى الحق يمدح، وإذا صَرف إلى الباطل يذم، قال: فعلى هذا، فالذي يشبه بالسحر منه هو المذموم " ا?. قال الحافظ:" وقد حمل بعضهم الحديث على المدح، والحث على تحسين الكلام، وتحبير الألفاظ … وحمله بعضهم على الذم لمن تصنع في الكلام، وتكلفه لتحسينه، وصرَف الشيء عن ظاهره، فشُبِّه بالسحر الذي هو تخييل لغير حقيقة" (1) . وقال صعصعة بن صوحان عن هذا الحديث:" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يكون عليه الحق، وهو ألحنُ بالحجة من صاحب الحق، فيسحرُ الناس ببيانه، فيذهبُ بالحق " (2) . قال الحافظ: "وحمل الحديث على هذا صحيح، لكن لا يمنع حملَه على المعنى الآخر إذا كان في تزيين الحق، وبهذا جزم ابن العربي وغيره من فضلاء المالكية، وقال ابن بطال: أحسن ما يقال في هذا، أن هذا الحديث ليس ذما للبيان كله ولا مدحا، لقوله: " من البيان " فأَتى بلفظة " مِنْ " التي للتبعيض،   (1) الفتح 10/ 248. (2) الفتح 9/109 – وانظر مقالة صعصعة بن صوحان في أبي داود – في الأدب – حديث – 5012. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وكيف يُذَم البيان وقد امتن الله به على عباده حيث قال: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ, عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن3-4] (1) . قلت: وهو كلام صحيح، فالبيان فيه المذموم والممدوح كما تقدم، ولفظ الحديث في الموطأ دال على هذا التقسيم. وإذا كان البيان بهذه المنزلة، فلا ريب أنه بمنزلة عظيمة، فبه يبلَّغ الوحي الإلهي إلى الناس، وبطلاوته ينساب إلى أفئدتهم، وعلى قوة أثره يعوَّل في تفنيد الشبهات، وقمع الشهوات، وفَتِّ المأْفُوكات وإزاحةِ اللبس عن الآي البينات. ومن الاهتبال بالبيان وإحلاله منزلة عالية، أسمى الله تعالى كتابه بيانا في قوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138] وأسمى نبيه مبينا في قوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] وقد أُوتي صلى الله عليه وسلم من البيان والفصاحة ذروتهما، وله فيهما أفنانٌ ومذاهبُ، لا ترتقي مصاقِعُ البلغاء إلى عليائها، ولا تطمح أن تتبوأ أعاليها، وحسبها أن تُطرِق لبيانه، وأن تتسمع لبلاغته، وأن تتلمس توجيهها، وإثارةَ غرائبها، وإدراك معانيها. إنه في بيانه لَإمام ... حارَ في درْك غوره البلغاء   (1) الفتح 10/248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وهذا يستدعي حقيقة هامة، أغفلها كثير ممن يتعاملون مع الوحيَيْن قديما وحديثا، وهي أن من لم يتمكن من ناصية الأدب واللغة العربية، فلن يكون فهمه في عمومه سليما لهذين الوحيين، لأنهما في قمة سامقة من جوامع كلم البلاغة، فالتعامل معهما يستوجب استعدادا خاصا. وما وقع فيه جميعُ الفرق المنحرفة عن فهم السلف المتقدمين: من تأويلات فاسدة، وآراء عليلة، مرَدُّ أغلبها إلى عُجْمتهم، وعدم إدراكهم مراد المتكلم من كلامه، فحملوا كلام الله ورسوله على ما لا يرضاه أحدهم لنفسه في كلامه، فضلوا بذلك وأضلوا. ولو كانوا عربا أقحاحا، أو استمدوا العربية تعلما من معادنها، لما وقعوا فيما وقعوا فيه من غرائب المحامل. وكان العرب الخُلَّص من الأئمة أمثال مالك والشافعي، وأحمد، وأضرابهم، سلِيمِي الفهم، دقيقي التعليل، دراكين لمقاصد النصوص ومعانيها المرادة منها، فعلى أفهامهم يعوَّل وعلىما قعَّدوه يعتمَد في التفريع والتأصيل، وبه يستهدَى في التأويل والتنزيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 السنة النبوية وحي من الله، محفوظة كالقرآن الأستاذ الدكتور: الحسين آيت سعيد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المبحث الأول: في عصمة الأنبياء أ - إن عصمة الأنبياء، من القضايا الخطيرة في الدين، والمسائلِ الأساسية فيه، التي لا يصح شيء منه إلا بصحتها وإثباتها بآياتها وبراهينها، ذلك أن التصديق بالوحي كلِّه أنه من عند الله، وأن الآتي به أرسله الله، يتوقف على ثبوت عصمته في كل ما يقول ويفعل ويبلغ عن الله تعالى. وهذه القضية من قضايا العقيدة، فهي بذلك من أصول الدين لا من فروعه التي يجوز فيها الخلاف، ولذلك ينبغي أن تبحث في كتب العقائد. وقد أكثر من تشقيق الكلام عليها وتفصيله، المتكلمون المحكِّمون لعقولهم، حتى قالوا ما تقشعر منه الجلود، وتنفر منه الطباع السليمة، واستفاضوا في تفاصيل لا يترتب عليها أي عمل، ولا يتعلق بها أي مقصود، وأكثروا من تجويزات عقلية -لا وجود لها إلا في أذهانهم- في هذا الموضوع الواقعي، فجرَّهم ذلك الترفُ الفكري إلى أن جوزوا على الأنبياء ما لا يجوز، وصرحوا بما يتحاشى كل مسلم أن يصرح به، وجرَّؤُوا السفهاء ممن لا عقل لهم، أو لادين لهم -من العلمانيين والمستشرقين والمستعربين- على منصب النبوة بهذه الأقوال السمجة، كما فعل ابن الراوندي الملحد في كتاب الزمرد (1) . ومن هذه الافتراضات، ما ذهب إليه الباقلاني وارتضاه الآمدي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا تجب عصمته من الكذب غلطا ونسيانا (2) . ومنها أنه ذهب بعض الكرامية إلى تجويز الكذب عليهم في التبليغ (3) .   (1) انظر الانتصار، والرد على ابن الراوندي الملحد للخياط - 32 (2) حجية السنة 100. (3) الفصل في الأهواء والملل والنحل–4/2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ومنها أن بعض الخوارج، جوزت الكفر على الأنبياء قبل البعثة، حكاه صاحب "المواقف" وزعم هو أنه لم يقم دليل سمعي على امتناع صدور الكبائر منهم قبل النبوة (1) . ب - ما العصمة؟ العصمة لغة المنع والحفظ والوقاية، قال ابن فارس:" العين والصاد والميم، أصل واحد صحيح، يدل على إمساك ومنع وملازمة، والمعنى في ذلك كله معنى واحد، من ذلك العصمة، أن يعصم الله تعالى عبده من سوء يقع به، واعتصم العبد بالله إذا امتنع، واستعصم: التجأ" (2) . وفي اللسان:" عصمه يعصمه عصما منعه، يقال: عصمته فانعصم، واعتصمت بالله، إذا امتنعت بلطفه من المعصية، وعصمه الطعامُ منعه من الجوع، واعتصم به واستعصم، امتنع وأَبىَ … " (3) . وهذه المادة تكررت في القرآن الكريم مرارا بصيغ مختلفة، تؤول لمعنى الحفظ والمنع. قال تعالى حاكيا عن ابن نوح: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43] . وقال: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب:17] وقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] .   (1) المواقف في علم الكلام 3/204. (2) المقاييس – 4/331. (3) لسان العرب - 21/403/404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 والعصمة شرعا: قد اختلف المتكلمون في تعريفها اختلافا كثيرا أدى إلى تناقضهم وافتراضهم أموراً لا وجود لها إلا في أذهانهم، وكل منهم ينطلق في النظر للعصمة من منحاه العقدي (1) . وأقربُ التعاريف للصواب، هو قول ابن النجار " إن العصمة صرف دواعي المعصية عن المعصية، بما يلهم الله المعصوم من ترغيب وترهيب" (2) . ج - من أي شيء عُصِمَ الأنبياء عليهم السلام؟ اتفق أهل الإسلام على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قد عُصِموا من كل ما يخل بالتبليغ، كالشك، والجهل بالأحكام المنزلة عليهم، وكتمان الوحي، والكذب، والوسواس، وأن يقولوا ما ليس بحق، والتقصير في البلاغ، وتسليط الشيطان وتلبيسه عليهم، وتسليط الإنس أيضا عليهم بالإيذاء المُخِل بالرسالة. وبالجملة فهم معصومون من جميع الكبائر، والإجماعُ على هذا حكاه غير واحد. قال ابن النجار: " فالإجماع منعقد على عصمتهم من تعمد الكذب في الأحكام وغيرها، لأن المعجزة قد دلت على صدقهم فيها، فلو جاز كذبهم فيها، لبطلت دلالة المعجزة، ولا يقع ما يخل بصدقهم لا غلطا ولا سهوا عند الأكثر " (3) . وقال ابن بَرْهان:" فإن الأمة أجمعت على أن الأنبياء معصومون عن الكبائر " (4) .   (1) انظر محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ص 317والشفا لعياض ص606 والإرشاد للجويني 298. (2) شرح الكوكب المنير – 2/167. (3) شرح الكوكب المنير – / 2 /169. (4) الوصول إلى الأصول – 358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وقال الزركشي:" والكلام في العصمة يرجع إلى أمور: أحدها في الاعتقاد، ولاخلاف بين الأمة في وجوب عصمتهم عما يناقض مدلول المعجزة، وهو الجهل بالله تعالى، والكفر به. وثانيها: أمر التبليغ، وقد اتفقوا على استحالة الكذب والخطأ فيه. وثالثها في الأحكام والفتوى، والإجماعُ على عصمتهم فيها، ولو في حال الغضب، بل يُستَدل بشدة غضبه صلى الله عليه وسلم على تحريم ذلك الشيء. ورابعها في أفعالهم وسيرهم، فأما الكبائر فحكَى القاضي إجماع المسلمين أيضا على عصمتهم فيها، ويلحق بها ما يُزْرِي بمناصبهم، كرذائل الأخلاق والدناءات، وإنما اختلفوا في الطريق، هل هو الشرع أو العقل " … (1) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:" فإن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر، هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر الآمدي أن هذا قولُ أكثر الأشعرية، وهو قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم يُنقَل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم، إلا ما يوافق هذا القول … " (2) . د -هل هم معصومون من الصغائر؟ هذه المسألة فيها خلاف بين النظار في موضعين: أحدهما هل تتصور منهم الصغائر، والثاني هل وقعت منهم؟. فأما تصورها منهم، فقد منعه الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني، وإمام الحرمين (3) .   (1) البحر المحيط 4/170. (2) الفتاوى ـ 4/ 319 (3) البحر المحيط ـ 4/ 140 / والإرشاد ـ298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وأما وقوعها منهم، فقد قال به ابن السمعاني، ونقل ابن القشيري وإمام الحرمين عن الأكثرين عدم الوقوع، ورجحه الزركشي في البحر المحيط، وهو مذهب أبي بكر بن مجاهد، وابن فورك، ونقل عياض وقوعها منهم عن أبي جعفر الطبري وغيره من الفقهاء (1) . هكذا نقل الزركشي وعياض عن هؤلاء، ونقل عنهم ابن حزم خلاف هذا الإطلاق بقوله:"وذهبت طائفة إلى أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم كبيرة من الكبائر أصلا، ويجوز عليهم الصغائر بالعمد، وهو قول ابن فورك الأشعري، وذهب جميع أهل الإسلام من أهل السنة، والمعتزلة، والنجارية، والخوارج، والشيعة، إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبي أصلا معصية بعمد، لا صغيرة ولا كبيرة، وهو قول ابن مجاهد الأشعري شيخ ابن فورك، والباقلاني المذكورين، وهذا القول الذي ندين الله تعالى به، ولا يحل لأحد أن يدين بسواه " (2) . فهذا النص يفيد أنهم قيدوا عدم الوقوع بالعمد، وما نقله الزركشي عنهم مطلق، يحتمل التقييد وعدمه، وأقوالُ أصحاب المقالات، يقع فيها مثل هذا الاضطراب، فقد يُنقَل عن شخص واحد كالأشعري مثلا شيءٌ وضده، وذلك راجع إما لأقوال له في المسألة، أو خطأ في النقل، ولاسيما أن هذه المقالات، تنقل بلا أَزمَّة الأسانيد، التي يمكن تقويمها من خلالها. وكيفما كان، فما قاله ابن حزم ومن معه، فهو الصواب الذي يجب اعتقاده من أن الصغائر لا تصدر منهم عمدا، فإذا وقعت منهم، فتكون سهوا، أو خطأ.   (1) المصدر نفسه 4 / 140/ والشفا للقاضي عياض ص 628. (2) الفصل في الملل والأهواء والنحل /4 / 2 /. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وسبب الخلاف في وقوعها منهم أو عدم وقوعها، اختلافهم في تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، فذهب أبو إسحاق الاسفراييني إلى أن الذنوب كلها شيء واحد، لأنها مخالفة أمرالآمر، وتبعه الجويني بقوله:" المرضي عندنا أن كل ذنب كبيرة، إذ لاتراعى أقدار الذنوب حتى تضاف إلى المعصي بها" (1) ثم في فصلِ عصمة الأنبياء، ذكَر ما يدل على أنه يقر بالتقسيم (2) . والجويني كثير الاضطراب في تقرير أصول المعتقد، فهو أحيانا يجمع بين الشيء ونقيضه. وقال ابن تيمية: " لم يذكر الله عن نبي من الأنبياء ذنباً إلا ذكر توبته منه، ولهذا كان الناس في عصمة الأنبياء على قولين: إما أن يقولوا بالعصمة من فعلها، وإما أن يقولوا بالعصمة من الإقرار عليها، لا سيما فيما يتعلق بتبليغ الرسالة، فإن الأمة متفقة على أن ذلك معصوم أن يقر فيه على خطأ، لأن ذلك يناقض مقصود الرسالة، ومدلول المعجزة. … والمقصود هنا أن الله لم يذكر في كتابه عن نبي من الأنبياء ذنبا إلا ذكر توبته منه … واعلم أن المنحرفين في مسألة العصمة، على طرفي نقيض، كلاهما مخالف لكتاب الله من بعض الوجوه، قومٌ أفرطوا في دعوى امتناع الذنوب، حتى صرفوا نصوص القرآن المخبرة بما وقع منهم من التوبة من الذنوب، ومغفرةِ الله لهم، ورفْعِ درجاتهم بذلك، وقوم أفرطوا في أن ذكروا عنهم ما دل القرآن على براءتهم منه، وأضافوا إليهم ذنوباً وعيوبا نزههم الله عنها، وهؤلاء مخالفون للقرآن،   (1) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد -328. (2) انظر ص 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وهؤلاء مخالفون للقرآن، ومن اتبع القرآن على ما هو عليه من غير تحريف، كان من الأمة الوسَط، مهتديا إلى الصراط المستقيم (1) . وقال:" والكلام في هذا المقام مبني على أصل، وهو أن الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه وفي تبليغ رسالته باتفاق الأمة، ولهذا وجب الإيمان بكل ماأُوتُوه … وهذه العصمةُ الثابتة للأنبياء، هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة … والعصمةُ فيما يبلغون عن الله ثابتة، فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين، ولكن هل يَصْدر ما يستدركه الله، فيَنسخ ما يُلقِي الشيطانُ، ويُحكِم الله آياته، فهذا فيه قولان، والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك … . وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة، فللناس فيه نزاع، هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع، ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها، أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها؟ أم لا يجب القول إلا في التبليغ فقط … والقولُ الذي عليه جماهير الناس ـ وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف ـ إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا … وحججُ القائلين بالعصمة إذا حُرِّرت إنما تدل على هذا القول، وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أُقر عليه الأنبياء، فإن القائلين بالعصمة، احتجوا بأن التأسي بهم مشروع فيما أُقروا عليه دون مانهوا عنه، ورجعوا عنه … وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافي الكمال، أو أنها ممن عظُمت عليه النعمة أقبح، أو أنها توجب التنفير … فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع، وإلا فالتوبة   (1) الفتاوى -15/147/148/150/ وانظر أيضا -51/52/ 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 النصوح التي يقبلها الله، يرفع بها صاحبها إلى أعظمَ مما كان عليه، كما قال بعض السلف: كان داودُ عليه السلام بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة. وقال آخر: لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إلى الله، لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه … وفي الكتاب والسنة الصحيحة، والكتب التي قبل القرآن مما يوافق هذا القول، ما يتعذر إحصاؤه. والرادّون لذلك، تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية، والقدرية، والدهرية، لنصوص الأسماء والصفات ونصوص القدر ونصوص المعاد، وهي من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يُعلَم بالاضطرار أنها باطلة، وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيمَ الأنبياء فيقع في تكذيبهم، ويريد الإيمان بهم، فيقع في الكفر بهم" (1) . وهذا المذهب الذي يرى الذنوب كلها في مرتبة واحدة باطل، لأن النصوص متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، والقرآن الكريم قد صرح بذلك بلا لبس، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] ومعنى الآية أن اجتناب الكبائر والبعدَ عنها، يكون سببا في تكفير ما اقترف من السيئات، وهي الصغائر، فلو كانت الكبائر هي السيئات، لكان معنى الآية: إن تجتنبوا الكبائر نكفر عنكم الكبائر، وهذا معنى باطل، لأن مالم يفعل لا يتصور فيه التكفير، وإنما التكفير ينصب على ما فعل من الصغائر التي لا يخلو منها بشر.   (1) الفتاوى - 10/289 -290/ إلى ـ 295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وأحاديثُ النبي صلى الله عليه وسلم في انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، أكثر من أن تحصى، منهاقوله من حديث أبي بكرة: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" فكررها ثلاثا (1) ويقابل هذا الغلو في نفي التقسيم غلو آخر، يرى أصحابه أنه صلى الله عليه وسلم لاتقع منه صغائر لا عمدا ولاسهوا، وقد نقل هذا المذهبَ إمامُ الحرمين وابن القشيري عن الأكثرين (2) وردوا عشرات النصوص المتواترة الدالة على ذلك في الكتاب والسنة، من مثل قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح:2] وقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55] . وقوله صلى الله عليه وسلم من حديث " إنه ليغان على قلبي، وإني أستغفر الله سبعين مرة " (3) وحملوا ذلك كله على ما قبل النبوة، أو ترك الأَوْلى، أو فعلوا ذلك بتأويل. وهذا التمحل يؤدي إليه اعتقاد هؤلاء أن القول بأنه صلى الله عليه وسلم تصدر عنه بعض الصغائر سهوا، يَغُضُّ من مقامه، وليس الأمر كذلك، بل الصواب أنها قد تصدر عنه صغائر سهوا أو خطأ، فينبَّه عليها ويتوب منها، فتكون منزلته عند الله عز وجل بعد التوبة أرقى منها قبل التوبة، وهو بذلك ينزقى من كمال إلى أكمل. هـ - هل السهو يجوز عليهم؟ قال ابن حزم: " إنه يقع من الأنبياء السهو من غير قصد، ويقع منهم أيضا قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى والتقرب به منه، فيوافق خلاف   (1) أخرجه البخاري في الأدب ـ 10 /419 ومسلم في الإيمان / 1 / 91. (2) البرهان ـ 4 / 170. (3) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء ـ 4 /2075 ـ من حديث الأغر المزني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 مراد الله تعالى، إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلا، بل ينبههم على ذلك ولا يداثر (1) وقوعه منهم، ويظهر عزوجل ذلك لعباده ويبين لهم، كمافعل نبيُّه في سلامه من اثنتين، وقيامه من اثنتين، وربما عاتبهم على ذلك بالكلام كما فعل مع نبيه عليه السلام في أمر زينب أم المؤمنين، وطلاق زيد لها - رضي الله عنهما - وفي قصة ابن أم مكتوم رضي الله عنه " (2) . وينبغي تقييد السهو منهم - كما ذهب إليه أكثر الفقهاء والمتكلمين - بالأفعال دون الأقوال، لأن الأدلة إنما جاءت في سهوهم في الأفعال، دون الأقوال، وقد حكى العلامة القاضي عياض الإجماع على امتناع السهو فيها (3) . وهذا هو الصواب الذي لا محيد عنه.   (1) أي: لا يغفل. (2) الفصل 4/2. (3) الشفا ص 675. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 المبحث الثاني: في اجتهاد الأنبياء عليهم السلام هذه المسألة هي التي سيبنى عليها جواب عنوان هذا الموضوع، وهو: هل السنة كلها وحي، أو فيها اجتهاد؟ وفي الموضوع قضايا متفق عليها، وقضايا مختلف فيها. فأما المتفق عليه، فقد أجمعوا على جواز التعبد بالاجتهاد عقلا للأنبياء عليهم السلام كغيرهم من المجتهدين، وهذا الإجماع حكاه ابن فورك، والأستاذ أبو منصور (1) . وأجمعوا أيضا على جواز التعبد بالاجتهاد للأنبياء فيما يؤول إلى الأمور الدنيوية ومصالحها، وتدبير أمور الحروب، وما يحفظ بيضة الأمة وكيانها، وهذا الإجماعُ حكاه الزركشي (2) ونقله ابن النجار عن ابن مفلح (3) . وأما المختلف فيه، فقد اختلفوا في اجتهاد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الأمور الشرعية على أربعة مذاهب: الأول: ذهبت الظاهرية وأكثر الأشاعرة والمعتزلة، إلى أنه لا يجوز لنبينا ولا لغيره من الأنبياء الاجتهاد في الشرعيات مطلقا، وقال القاضي أبو يعلى: إنه ظاهر كلام أحمد في رواية ابنه عبد الله (4) .   (1) انظر إرشاد الفحول – 255. (2) البحر المحيط – 6/214. (3) شرح الكوكب المنير – 4/474. (4) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الثاني: ذهب الجمهور ـ من الشافعية والمالكية والحنابلة، والحنفية ـ بشرط انتظار الوحي واليأسِ من نزوله عندهم – وبعضِ الأشاعرة، والقاضي عبد الجبار، وأبي الحسين البصري من المعتزلة، واختاره ابن الحاجب، والغزالي، والبيضاوي، وابن السبكي ـ إلى جواز ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، ووقع منه صلى الله عليه وسلم، وإذا اجتهد فهل يصيب دائما ولا يخطئ، أو يصيب ويخطئ كغيره من المجتهدين؟ فكل من قال بعصمته مطلقاً فإنه يصيب عنده دائما، وهو مذهب أبي جعفر السجستاني أيضا حكاه بقوله:" الله تعالى يصرفه عن الخطأ، ويهديه إلى الصواب " (1) . الثالث: المنع مطلقا، وحُكي هذا المذهب عن أبي علي الجبائي، وابنه أبي هاشم (2) . وإذا جاز للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء الاجتهاد في الأحكام الشرعية، فهل وقع ذلك منهم؟ لأنه ليس كل ما جاز يقع، هذه المسألة قد ذهب أكثر المتكلمين، وبعض الشافعية إلى عدم الوقوع، وهو مذهب باطل بالأدلة الدامغة التي ستأتي. الرابع: التوقف، وقد ذهب إليه قوم، واختاره الباقلاني، وزعم الصيرفي أنه مذهب الشافعي، لأنه حكى الأقوال، ولم يختر شيئا منها (3) . قلت: قد نقل الرازي عن الشافعي قوله: "لا يجوز أن يكون في أحكام الرسول صلى الله عليه وسلم ما صدر عن الاجتهاد، وهو قول أبي يوسف (4) .   (1) الغنية في الأصول - 145. (2) شرح الكوكب المنير -4/476. (3) إرشاد الفحول - 256. (4) المحصول- 6 /7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وهذا فيه تصريح الشافعي بالمطلوب. ويعارضه ما نقله الواحدي في الوسيط من أَن مذهب الشافعي الجواز وهو الصواب (1) . أدلة هذه المذاهب أـ أدلة المذهب الأول استدل المذهب الأول المخصص للاجتهاد بالأمور الدنيوية بالكتاب والسنة والمعقول: أ - فأما الكتاب فقد استدل بمايلي: (1) قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] . ووجه الدلالة من الآية أن الله تعالى حصر ما ينطق به النبي صلى الله عليه وسلم في أنه وحْيٌ يوحى إليه، فلو كان يجتهد في الأحكام، لما صح هذا الحصر، ولكان بعض ما ينطق به، وحيا وبعضه اجتهادا، فلما حصر نطقَه في أحد القسمين، دل ذلك على نفي الثاني عنه، وهذا الحصر وقع، بـ"إِنْ" و"إِلاَّ" الدالتين على قصر الموصوف على الصفة. قال ابن حزم: "لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع، نظرنا فيه، فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدناه عز وجل يقول فيه -واصفا لرسوله صلى الله عليه وسلم-:" وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على قسمين: أحدهما وحي متلوٌّ مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن.   (1) انظر حاشية البناني على جمع الجوامع /2 / 386. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 والثاني وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز ولا متلو، لكنه، مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله عزوجل مراده منا، قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا القسم الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق … . والقرآن والخبر الصحيح، بعضُها مضاف إلى بعض، وهما شيء واحد في أنهما من عند الله تعالى، وحكمهُما حكم واحد في وجوب الطاعة لهما … . ونحن إذ أطعنا أمر نبينا صلى الله عليه وسلم، لِعِلْمنا أنه كله من عند الله عز وجل، وأنه لا يقول من تلقاء نفسه شيئا " (1) . وبهذا قال بعض المفسرين، قال القرطبي:" وفيها أيضا دلالة على أن السنة، كالوحي المنزل في العمل.. (2) وقال الرازي" هو" ضميرُ معلومٍ أو ضميرُ مذكورٍ، نقول: فيه وجهان: أشهرهما أنه ضمير معلوم، وهو القرآن، كأنه يقول: ما القرآن إلا وحي … والوجه الثاني أنه عائد إلى مذكور ضمناً وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم وكلامُه، وذلك لأن قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} في ضمنه النطق وهو كلام وقول، فكأنه تعالى يقول: وما كلامه – وهو نطْقُه – إلا وحي (3) . وقال الشنقيطي:" هذه الآية تدل بظاهرها على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجتهد في شيء، وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه ربما اجتهد في   (1) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم - 1/96/97/98/94. (2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - 17/85. (3) مفاتيح الغيب - 28/282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 بعض الأمور … . والجواب عن هذا من وجهين: الأول هو الذي اقتصر عليه ابن جرير، وصدر به ابن الحاجب في مختصره الأصولي، أن معنى قوله تعالى:" وما ينطق عن الهوى " أي في كل ما يبلغه عن الله " إن هو " أي كلُّ ما يبلغه عن الله "إلا وحي" من الله، لأنه لا يقول على الله شيئا إلا بوحي منه، فالآية رد على الكفار حيث قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم افترى هذا القرآن كما قال ابن الحاجب. والوجه الثاني أنه إن اجتهد، فإنه إنما يجتهد بوحي من الله، يأذن له به في ذلك الاجتهاد، وعليه فاجتهاده بوحي فلا منافاة" (1) . وقال ابن كثير:" وما ينطق عن الهوى " أي ما يقول قولا عن هوى وغرض " إن هو إلا وحي يوحى " أي إنما يقول ما أُمر به، يبلغه إلى الناس كاملا موفرا، من غير زيادة ولا نقصان " (2) . (2) قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . ووجه الدلالة من الآية أن الله تعالى تكفل بحفظ الذكر الذي أنزله، والذكْرُ يشمل الكتاب والسنة، فكلاهما منزل من عند الله بنص الآية، وكلاهما محفوظ، كما هو مدرك بالمشاهدة والعيان. قال ابن حزم:" وضمان الله تعالى، قد صح في حفظ كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم " (3) . (3) قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45] ووجه الدلالة من الآية أن الله تعالى حصر نِذاَرة النبي صلى الله عليه وسلم لقومه   (1) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، –186. (2) تفسير القرآن العظيم – 7/418. (3) النبذ في أصول الفقه –86-87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فيما أوحى إليه، ونذارتُه لهم كانت بالقرآن والسنة يقينا، فدل ذلك على أن السنة وحي كالقرآن. قال ابن حزم -معلقا على هاتين الآيتين-:" فأخبر تعالى كما قدمنا، أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم كله وحي، والوحي كله محفوظ بحفظ الله عزّوجل، مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء؛ إذ ما حفظ الله تعالى بلا خلاف ذكْر، والذكر محفوظ بنص القرآن، فصح بذلك أن كلامه صلى الله عليه وسلم كله محفوظ بحفظ الله عزّوجل، مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء؛ إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء، فهو منقول إلينا كله، فلله الحجة علينا أبدا " ... (1) . (4) قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:18-19] . ووجه الدلالة من الآيتين، أن الله تعالى أمر نبيه باتباع قراءة جبريل، والإنصاتِ لها، ثم بعدها تكفل الله له أن يبين له معاني ما قرأ وسمع. والبيانُ إنما وقع بالسنة، فدل ذلك على أن السنة من عند الله، كالقرآن سواء، لأن الله تعالى أضاف البيان لنفسه، فأفاد ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يتلقاه منه. قال ابن حزم:" فأخبر تعالى أن بيان القرآن عليه عز وجل، وإذا كان عليه، فبيانه من عنده تعالى، والوحي كله - متلوُّه وغير متلوه - فهو من عند الله عز وجل " (2) . (5) قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] . قال ابن حزم:" فصح بهذه الآية صحة ضرورية، أن   (1) الإحكام في أصول الأحكام - 1/98. (2) المصدر نفسه - 1/82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 القرآن والحديث الصحيح متفقان، هما شيء واحد، لا تعارض بينهما ولا اختلاف، يوفق الله تعالى لفهم ذلك من شاء من عباده، ويحرمه من شاء، لا إله إلا هو … وصح بما ذكرنا بطلانُ قول من ضرب القرآن بعضه ببعض، أو ضرب الحديث الصحيح بعضه ببعض، كضرب القرآن والحديث بعضهما ببعض … ونحن إنما أطعنا أمر نبينا عليه السلام، لعلمنا أنه كله من عند الله، وأنه لا يقول من تلقاء نفسه شيئا … " (1) . (6) قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44] ووجه الدلالة من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه أنزل إليه الذكر ليبينه للناس، والذكْرُ هو الكتاب والسنة، فكل منهما ذكر، ووظيفته صلى الله عليه وسلم بيان الذكر النازل من عند الله، فصح بهذا التعميم، أن السنة من عند الله كالقرآن، وأنه يوحى إليه صلى الله عليه وسلم بها كما يوحى إليه بالقرآن، ومن خص الآية بالقرآن وحده، فليس عنده دليل يجب التسليم له، وتقوم الحجة به على التخصيص، والأصل هو العموم، والتخصيص استثناء، ومدَّعِي الاستثناء، عليه الدليل. قال ابن حزم:" بل فيها بيان جلي، ونص ظاهر أنه أنزل تعالى عليه الذكر ليبينه للناس، والبيان هو بالكلام، فإذا تلاه النبي صلى الله عليه وسلم فقد بينه، ثم إن كان مجملا لا يفهم معناه من لفظه، بيَّنَه حينئذ بوحي يوحى إليه، إما متلو أو غير متلو … " (2) .   (1) الإحكام -1-94/100. (2) المصدر نفسه - 1/82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 (7) قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15] . قال ابن حزم: " فلو أنه صلّى الله عليه وسلم شرَّع شيئا لم يوح إليه به، لكان مبدلا للدين من تلقاء نفسه، وكل من أجاز هذا، فقد كفر وخرج عن الإسلام، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان " (1) . (8) قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:44-45] . ووجه الدلالة أن الله تعالى نفى عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتقول عليه شيئا لم يُوحَ به إليه، ولا أن ينسب إليه شيئا لم يأذن له فيه، والاجتهاد في الأحكام الشرعية مظنة الزلل، لأن الخطأ فيها وارد، فإذا نُفِي الزلل، نفي سببه الذي هو الاجتهاد، ونفْيُ الملزوم يستدعي نفي اللازم بالضرورة، لأن اللازم لا يوجد بدون ملزومه، والزللُ لازم الاجتهاد، فنفيه نفي لاجتهاده عليه السلام. قال ابن حزم:" إن من ظن أن الاجتهاد يجوز لهم في شرع شريعة لم يوح إليهم فيها، فهو كفر عظيم، ويكفي من إبطال ذلك أمره تعالى نبيه عليه السلام أن يقول:" إن أتبع إلا ما يوحى إلي " … (2) . ب - وأما السنة النبوية، فقد استدلوا منها بمايلي: (1) حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال: " ما أُنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الفاذة   (1) المصدر نفسه - 5/137. (2) الإحكام - 5/132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الجامعة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] (1) . ووجه الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن حكم الحمر، فأجاب بأنه لم ينزل عليه فيها شيء، فلو كان يجوز له الاجتهاد لاجتهد في حكمها، وأجاب السائل بما أداه إليه اجتهاده، فلما لم يجتهد في النازلة مع وجود الداعي، وأحال السائلَ على عموم الآية، دل ذلك على أن كل ما يقوله، إنما يقوله بوحي. (2) حديث جابر قال:" جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدَعْ لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يقضي الله في ذلك " فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: " أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك " (2) . ج - وأما الأدلة العقلية، فقد استدلوا بمايلي:   (1) لا يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم لعدم حاجته إليه، لأن الوحي ينزل عليه، فيستطيع في كل نازلة أن يعلم حكم الله فيها بالنص، (1) أخرجه البخاري في الجهاد - الفتح - 6/75 والمساقاة - 5/56 والمناقب - 6/732 والتفسير -8/598، ومسلم في الزكاة - 2/681/682. (2) أخرجه الترمذي في الفرائض -4 /414 وأبو داود - 2891 - وابن ماجه - 2720 / كلهم من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر، وصححه الترمذي، وإسناده حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 والاجتهادُ إنما يكون لضرورة، كفقدان النص أو إشكاله، والنبي صلى الله عليه وسلم لا تتصور فيه هذه الضرورة، وإذا انتفى السبب انتفى المسبب. (2) لو كان في الأحكام المتلقاة عنه صلى الله عليه وسلم ما يجوز أن يكون ناشئا عن الاجتهاد، لجاز أن لا يجعل أصلا لغيره، ولجاز لغيره من المجتهدين أن يخالفه فيه، وأن لا يكفَّر بذلك، لأن ذلك كله من لوازم الاجتهاد، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم بالضرورة. والمراد باللازم، أن لا يجعل ما اجتهد فيه النبي صلى الله عليه وسلم أصلا، وأن يخالف فيه، وأن لا يكفر من خالفه في اجتهاده، وهذه كلها لوازم باطلة، فمخالفته صلى الله عليه وسلم محرمة، ويكفر متعمدها، وما تُلقُي عنه من الأحكام هو أصل، فإذا كانت كذلك، بطل أن تكون ناشئة عن اجتهاد، وصح أنه لا يفعل ولا يقول شيئا إلا بوحي، وهو المطلوب. (3) الاجتهاد لا يدل على الحكم إلا بالظن الغالب عند المجتهد، والنبي صلى الله عليه وسلم قادر على أن يعلم الحكم بالوحي القاطع، والقادر على تحصيل اليقين لا يجوز له المصير إلى الظن. (4) لو كان صلى الله عليه وسلم متعبَّدا بالاجتهاد لأظهر ذلك، ولما توقف في مسائل عديدة سئل عنها فانتظر الوحي، لمِاَ في توقفه من ترك ما وجب عليه من الاجتهاد، واللازم باطل، فكذلك الملزوم. (5) الأمور الشرعية، مبنية على المصالح التي لا علم للخلق بها، فلو حكم فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد، لكان غير عالم بالأصلح فيها، ولأدى ذلك إلى الاختلاف فيها، وهذا باطل، وما بني عليه أيضا باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 (6) النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أن يخبر بما لا يعلم صدقه، فكذلك ليس له أن يحكم بما لا يعلم صوابه (1) . ب - أدلة المذهب الثاني واستدل الفريق الثاني بالكتاب والسنة والاعتبار. أ - فأما الكتاب فقد استدلوا منه بمايلي: (1) قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] ووجه الدلالة من الآية، أن الاعتبار هو العبور من أمر واقع إلى أمر يشبهه في ملامحه وصفاته، وهذا معنى القياس، والنبي صلى الله عليه وسلم داخل في عموم الأمر به كسائر أمته، ولا دليل على تخصيصه من هذا العموم، وهو صلى الله عليه وسلم من أجَلِّ المعتبِرين، وأعظم المتفكرين في آيات الله، فكان أولى بتعبده بالاجتهاد والقياس. حُكي عن ثعلب قال: "الاعتبار في اللغة هو رد حكم الشيء إلى نظيره، ومنه يسمى الأصل الذي يرد إليه النظائر عبرة.." (2) . (2) وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] ووجه الدلالة من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم من جملة المأمورين بتعقل الأمثال المضروبة، والأمثالُ عبارة عن أقيسة، يشبه فيها ما سيقع للمكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم، بما وقع للمكذبين للأنبياء قبله، لأن العلة واحدة، وهي التكذيب. وتعقُّلُ ذلك،   (1) انظر الإحكام في أصول الأحكام للآمدي - 3/207/ والمحصول /6/11/12/13. (2) أصول السرخسي - 2 / 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وإدراكه، وتدبره، هو الاجتهاد، والنبي صلى الله عليه وسلم فيه كغيره، وهكذا جميع الأمثلة المضروبة في القرآن، فهي على هذه الشاكلة. (3) قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43] . ووجه الدلالة من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لمن استأذنه في التخلف عن الجهاد لعذر، وكان المنافقون يعتذرون له بأعذار كاذبة، فعاتبه القرآن على إذنه لهم في التخلف دون استبانة من كان صادقا منهم في عذره، ممن انتحل عذرا غير حقيقي، وقد اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في الإذن لهم، فجاء القرآن يصوب خلاف ما فعل، وذلك دليل الاجتهاد في المسألة، وهو المطلوب. قال الأصفهاني:" أما وجه التمسك بالآية، فإنه عاتب الرسول صلى الله عليه وسلم في الآية على الإذن، فلو كان بالوحي لما عاتبه، وإذا لم يكن بالوحي تعين أن يكون بالاجتهاد" (1) . (4) قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:67] . ووجه الدلالة من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق أسرى بدر، بعضَهم بالمن عليه بلا فداء، وبعضهم بالفداء، اجتهادا منه، فنزل القرآن يبين له أن قتلهم هو الصواب. وقصةُ ذلك بتفصيل رواها ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:" فلما أَسروا الأسارى، قال رسول الله صلى الله   (1) بيان المختصر - 3 / 294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء الأسارى" فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أَرى أن تأخذ منهم فدية، فتكونَ لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يا ابن الخطاب" قلت: لا وَاللهِ يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكِّنَّا فنضربَ أعناقهم، فتمكنَ عليا من عَقيل فيضربَ عنقه، وتمكِّنيِّ من فلان -نسيبا لعمر- فأضربَ عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهْوَ ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدَيْن يبكيان، قلت يا رسول الله، أخبرني عن أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبكي للذي عَرَض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة" -شجرة قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم- وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] فأحل الله الغنيمة لهم" (1) . ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه في الأسرى فأشار كل بما يرى، فاجتهد في الاختيار من آرائهم، فأخذ برأي أبي بكر، فنزل القرآن يصوب ما رآه عمر، واستشارتُه صلى الله عليه وسلم أصحابَه، دليل على أن المسألة ليس عنده فيها وحي، فلو كان فيها وحي، ما   (1) أخرجه مسلم في الجهاد - 3/1385/ حديث 1763. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 احتاج لاستشارتهم، فلم يبق إلا استخراج الحكم بالاستشارة، وهي نوع من أنواع الاجتهاد. قال ابن بطة: " والدليل على أن سنته وأوامره قد كان فيها بغير وحي، وأنها كانت بآرائه واختياره، أنه قد عوتب على بعضها، ولو أُمر بها لما عوتب عليها، من ذلك حكمه في أسارى بدر، وأخذه الفدية، وإذنه في غزوة تبوك للمخلفين بالعذر، حتى تخلف من لا عذر له، ومنه قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] فلو كان وحيا لم يشاور فيه" ... (1) . (5) قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84] . ووجه الدلالة من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد في صلاته على عبد الله بن أُبي المنافق، بناء على ظاهره، وإرضاءً لابنه عبد الله الصحابي التقي النقي، فنزل القرآن بنقض هذا الاجتهاد، وبيانِ أن عدم الصلاة على المنافقين هو الجادة، لكفرهم بالله ورسوله. وسبب نزول هذه الآية، أن عمر -رضي الله عنه- قال: لما توفي عبد الله بن أُبي، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفِّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما   (1) المسودة لآل تيمية - 452. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 خيرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة:80] وسأزيده على السبعين، قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] (1) . ب ـ وأما من السنة فقد استدلوا بمايلي: (1) حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنكم تختصمون إِليَّ، ولعل بعضكم ألحنُ بحجته من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها " (2) . ووجه الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قد يحكم باجتهاده لأحد الخصمين في نازلة، فيكون حكمه مخالفا للحقيقة في الباطن، لذا أَمر من حَكم له بما ليس له حقيقة ألا يأخذه، لأن حكمه لا يحلُّه له، فلو كان قد حَكم بالوحي، لكان حكمه صوابا ظاهرا وباطنا، فلما حذَّر المحكوم له، العالمَ في باطن الأمر أنه أخذ بحكمه ما ليس له، دل ذلك على اجتهاده في الأحكام، وهو المطلوب. قال الحافظ: " وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء، وخالف في ذلك قوم، وهذا الحديث من أصرح ما يحتج به عليهم.   (1) أخرجه البخاري في التفسير - الفتح -8/184. (2) أخرجه البخاري في الشهادات -5/340- وفي الحيل -12/355/ وفي الأحكام - 13/168/184 ومسلم في الأقضية -3/1337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وفيه أنه ربما أداه اجتهاده إلى أمر فيحكم به، ويكون في الباطن بخلاف ذلك، لكن مثل ذلك لو وقع، لم يقَرَّ عليه صلى الله عليه وسلم لثبوت عصمته" (1) . (2) حديث عمر أنه قال:" يا رسول الله، صنعتُ اليوم أمرا عظيما، قبَّلتُ وأنا صائم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرأيتَ لو تمضمضت بماء وأنت صائم "؟ فقلت: لا بأس بذلك. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فصُمْ " (2) . ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم شبَّه القبلة بالمضمضة في أن كلا منهما مقدِّمة للفطر ولا يفطران، فكما أن المضمضة وسيلة للشرب وليست شربا، فكذلك القبلة وسيلة للوطء وليست وطئا، والوطءُ والشرب هما المفطران لا مقدماتهما. فهذا قياس من النبي صلى الله عليه وسلم للقبلة على المضمضة، وهو دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد ويقيس، فلو كان عنده نص في المسألة لما جاز له القياس، لأنه لا معنى له مع وجود النص، فثبت المطلوب. (3) حديث ابن عباس في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة قال: "حرم الله مكة، فلم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي، أحلت لي ساعة من نهار، لا يختلَى خلاها ولا يعضد شجرها، ولا ينفَّر صيدها، ولا تُلتقط لقطتها إلا لمعرِّف " فقال العباس- رضي الله عنه – إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا، فقال " إلا الإذخر " (3) .   (1) الفتح - 13/186. (2) أخرجه أحمد في مسنده - 1 / 21 بسند صحيح. (3) أخرجه البخاري في الجنائز -3/ 253 وفي جزاء الصيد - 4/56 ومسلم في الحج - 2/987. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ووجه الدلالة من الحديث أن العباس لما بين للنبي مصلحة الإذخر استثناه، فلو كان وحيا ما تأخر استثناؤه، ولساقه مع ما قبله مساقا واحدا، فلما استثناه بعدَ ما روجع فيه، دل ذلك على اجتهاده فيه لمصلحته الراجحة. قال الحافظ:" واختلفوا هل كان قوله صلى الله عليه وسلم: " إلا الإذخر" باجتهاد أو وحي؟ وقيل: كان الله فوض له الحكم في هذه المسألة مطلقا. وقيل: أُوحي إليه قبل ذلك أنه إن طَلب أحد استثناء شيء من ذلك فأجب سؤاله. وقال الطبري: " ساغ للعباس أن يستثني الإذخر، لأنه احتمل عنده أن يكون المراد بتحريم مكة تحريمَ القتال دون ما ذكر من تحريم الاختلاء، فإنه من تحريم الرسول باجتهاده، فساغ له أن يسأله استثناء الإذخر ". وهذا مبني على أن الرسول كان له أن يجتهد في الأحكام، وليس ما قاله بلازم، بل في تقريره صلى الله عليه وسلم للعباس على ذلك، دليل على جواز تخصيص العام ...... قال ابن المنير: " والحق أن سؤال العباس، كان على معنى الضراعة، وترخيصَ النبي صلى الله عليه وسلم كان تبليغاً عن الله، إما بطريق الإلهام أو بطريق الوحي، ومن ادعى أن نزول الوحي يحتاج إلى أمَدٍ متسع فقد وهم " (1) . (4) حديث أم سلمة قالت: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست، ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني إنما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل علي   (1) الفتح - 4/59/60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 فيه، فمن قضيت له لقضية أراها فقطَع بها قطعة ظلما، فإنما يقطع بها قطعة من نار " (1) . ووجه الدلالة من الحديث، نصه صلى الله عليه وسلم على أنه يقضي باجتهاده فيما لم ينزل عليه فيه وحي، وهو المطلوب. (5) حديث جابر في أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين ليس معهم هدي في حجة الوداع أن يتمتعوا. وفيه قوله: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي" (2) . ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الهدي باجتهاده وأحرم مقرنا، فتبين له بعد ذلك أن الإحرام بالتمتع أفضل، فأمر به أصحابه، وتمنى لو كان محرما بعمرة. فلو كان إحرامه بوحي لمَاَ استقام قوله: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت " ولَمَا ندم على ما فعل، ولمَاَ تمنى عمرة بدل حج وعمرة مقترنين. (6) عن أبي هريرة قال: جاء الحارث الغطفاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، شاطِرْنا (3) تمْر المدينة، وإلا ملأناها عليك خيلا ورجالا، فقال: حتى أستأمَر السُّعُود، فبعث إلى سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود، فقال: قد علمْتُ   (1) أخرجه أبو داود في الأقضية - 3/302 وأحمد - 6/320/ والدارقطني -4/238. كلهم من طرق عن أسامة بن زيد الليثي، عن عبد الله بن رافع، عنها به. وإسناده ضعيف، ومتنه منكر بهذا اللفظ. وأسامة بن زيد مختلف فيه، وثقه بعضهم، وضعفه بعضهم، وضعفُه في هذا الحديث بين، لأنه ساقه بسياق لم يعهد لغيره، والحديث معروف وقد تقدم بغير هذه الزيادة. (2) أخرجه مسلم في الحج - 2/884/ وعند البخاري نحوه عن عائشة. (3) أي أعطنا شطره، أي نصْفَه مقابل الجلاء، وفى لفظ: ناصفنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وأن الحارث قد سألكم تشاطروه تمر المدينة، فإن أردتم أن تدفعوه عامكم هذا. فقالوا: يا رسول الله، أوحي من السماء - فالتسليم لأمرالله – أوعن رأيك وهواك؟ فرأينا تبع لهواك ورأيك، فإن كنتَ إنما تريد الإبقاء علينا، فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء، ما ينالون منا تمرة إلا شراء أو قِرى، لا واللهِ ما أَعْطَينا الدنية من أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء بالإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هوذا، تسمعون ما يقولون؟ " قالوا: غدرت يا محمد … الحديث (1) . ووجه الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه فيما سئل من مناصفة الكفار تمر المدينة، فلو كان أوحي إليه بشيء في ذلك، لمَاَ احتاج لاستشارتهم، ثم إن المستشارين من أصحابه استفسروه عما اقترح هل هو بوحي فيسلمون له، أو برأي، فرأيُه رأيهم. وذلك يدل على أنهم يفرقون بين ما كان وحيا -فيطيعونه فيه- واجتهادا فيبدون فيه اجتهادا آخر قد يخالف اجتهاده. وسؤالُهم ذلك يدل على أنه تقرر عندهم أنه عليه السلام يجتهد، فلو لم يتقرر ذلك عندهم لما كان للسؤال فائدة. (7) عن رافع قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يأبُرون النخل، فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا، فتركوه، فنفَضت (2) أو فنقصت ـ قال: فذكروا ذلك له، فقال: " إنما   (1) أخرجه البزار - كشف الأستار - 2/331-332/ والطبراني في الكبير- كما في المجمع /6/132/ وقال: " ورجال البزار والطبراني فيهما محمد بن عمرو، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات "اهـ (2) أي سقطت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر". وفي لفظ " طلحة بن عبيد الله:" إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل ". وفي لفظ عائشة: " لو لم تفعلوا لصلُح " قال: فخرج شِيصا (1) فمر بهم فقال: "مالنخلكم "؟ قالوا: قلت كذا وكذا، قال:" أنتم أعلم بأمر دنياكم" (2) . ووجه الدلالة من الحديث جلي، وهو نصٌّ في أنه صلى الله عليه وسلم يجتهد ويخطئ في اجتهاده، لكنه ينبه على ذلك كما سبق. قال الشاطبي: فإن الحديث إما وحي من الله صِرْف، وإما اجتهاد من الرسول عليه الصلاة والسلام معتبرٌ بوحي صحيح من كتاب أو سنة. وعلى كلا التقديرين، لا يمكن فيه التناقضُ مع كتاب الله، لأنه عليه السلام، ما ينطق عن الهوى، وإذا فُرِّع على القول بجواز الخطأ في حقه فلا يقر عليه البتة، فلا بد من الرجوع إلى الصواب " (3) . وقال الشيرازي: "يجوز الخطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في اجتهاده إلا أنه لا يقر عليه، بل ينبه عليه (4) .   (1) هو البسر الرديء. (2) أخرجه مسلم في الفضائل - 4/1835/1836. (3) الموافقات للشاطبي - 4/21. (4) التبصرة في أصول الفقه - 524. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ج - وأما الاعتبار، فقد استدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم ليس كغيره من المجتهدين فهو معصوم في اجتهاده، فلا يلزم منه ما يلزم في اجتهاد غيره من المحاذير، فافترقا. ما سبب الخلاف في هذه المسألة؟ وسبب الخلاف في اجتهاده عليه السلام من عدمه، هو أن كل فريق نزع إلى أصل وتمسك به، واعتبره أقوى من الأصل الذي يتمسك به مخالفُه. فأما الفريق الذي نفى اجتهاد الأنبياء في النوازل والقضايا، فقد بنوا ذلك على أصل، وهو أن الاجتهاد الذي هو استعمال الرأي للوصول إلى حكم، إنما يكون حينما تعوز النصوص في الموضوع وتفقد، فهو إذن ضرورة يُلجَأ إليها، ولا ريب أن الأنبياء، ليسوا كغيرهم في هذه الضرورة، فجبريل يأتيهم بما يشفي في كل ما عَنَّ لهم، فهُمْ بالوحي مستغنون عن الاجتهاد، وما يتلقونه وحيا، مقطوع به مجزوم بحكمه، وقضايا الاجتهاد مظنونة، فمن العبث أن يَترك نبي من الأنبياء عينَ اليقين، ويلجأ إلى تخمين وظنون. وهذا الفريق قد أول بعض النصوص الدالة على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم لتنسجم مع مقوله، وأبطل دلالة بعضها على المطلوب، ونفى ثبوت بعضها. وأما الفريق الثاني القائل باجتهاد الأنبياء اجتهادا مطلقا وخاصة نبينا صلى الله عليه وسلم مطلقا، فإنهم بنوا مذهبهم على أصلين: أحدهما أن الاجتهاد واستعمال الرأي والتدبر في المآلات، من خواص الإنسان التي ميَّزه الله بها عن غيره، وهو من الكمالات الإنسانية التي يشرف بها المرء، فإذا كانت كمالا، فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى بكل كمال، فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 سيد المجتهدين، وإمام المستنبطين، فكيف يُستثنى من هذه الفضيلة العامة في الجنس البشري، وتمُنح لمن دونه بدون دليل واضح يدل على الاستثناء؟ وثانيهما مراعاة النصوص الدالة على اجتهاده صلى الله عليه وسلم بالفعل، وهي في جملتها صريحة وصحيحة، فلا معدل عن القول بها، وتنزيلها منازلها: بالجمع بينها وبين النصوص التي يُفهم منها أنه لا يجتهد، فإذا سُلِك فيها كلِّها مسلكُ الجمع، فإنها لا تتضارب ولا تتناقض، لأنها من منبع واحد. وأما الفريق القائل بأنه يجتهد في الدنيويات دون الدينيات، فقد رام بذلك الجمع بين الأدلة، ولكن ذلك لم يطرد له من وجهين: أحدهما ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم قد اجتهد في الأمور الدينية، وثانيهما عدم وضوح الفرق في الأحكام بين ما هو ديني وما هو دنيوي، فالأحكام الشرعية تتناول هذا وهذا، والرسول صلى الله عليه وسلم بإذن ربه، يشرع هنا وهناك. وأما الفريق المتوقف في القضية، فشبهَتُه هي تكافؤ الأدلة من الجانبين عنده، وصعوبةُ الترجيح، وهذا ليس بشيء، لأن النظر بإمعان في تلك الأدلة، يدل على ما هو الصواب من أنه صلى الله عليه وسلم يجتهد، ولكن الفرق بينه وبين غيره من المجتهدين، أنه مسدَّد ومصيب في اجتهاده، ابتداءً، أو مآلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 المبحث الثالث: بسط أدلة القول بأن السنة وحي كالقرآن لا يعرف نبي غير محمد صلى الله علية وسلم أحيطت سيرته وسنته باعتناء كبير، وأحصيت إحصاء دقيقا، ودونت بأدق التدوين، وقد هيأ الله عز وجل لحفظ السنة عوامل كثيرة، داخلة في أقدار الله تعالى التي أوجدها لحفظ ذكره وحفظ بيان الذكر. ذلك أن المسألة معقولة ومرتبطة، ووجه تعليقها أن القرآن الكريم مرتبط بشخص النبي صلى الله عليه وسلم من جهة تلقيه عن الله تعالى وإبلاغه للأمة كما تلقاه، لفظا ومعنى، وجهة تفويض الله تعالى له أن يبين للناس مراده منه. من هاتين الجهتين، نشأت علاقة ارتباط بين القرآن والسنة، أشبه بعلاقة القرابة التي لا يمكن فصلها أو فصمها، فمن حاول الاستدلال بالقرآن بمعزل عن السنة، أو الاستدلال بالسنة بمعزل عن القرآن، كمن حاول التفريق بين أغصان الشجرة وأصلها، وبين القريب وقريبه، وكلُّ محاولة للاستغناء بأحدهما عن الآخر، فإنما هو ضربة لازب، وسير في عماية، وخروج عن النهج المستقيم، ذلك أن السنة صنو القرآن وقرينته في الاستدلال والاحتجاج، والله تعالى تكفل بحفظهما معا في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] والذكر يشملهما معا، والعوامل التاريخية الواقعية دالة على ذلك، وأهمها أربعة: (1) الحفظ في الصدور: فقد كان الصحابة –رضوان الله عليهم- يتلقون منه صلى الله عليه وسلم سنته فيعونها ويحفظونها في صدورهم، كما كانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 يحفظون القرآن، إلا أنهم في حفظها يتفاوتون، فمنهم من يحفظها بلفظها ومعناها فيؤديها كذلك، ومنهم من يحفظها بالمعنى، فيؤدي معناها بألفاظه هو، ومنهم من يزاوج بينهما، ويجمعهم جميعاً همٌّ واحد، ضعوه نصب أعينهم عند الأداء، وهو أن كل ماشك فيه، أولم يتحققه المتلقي، أو خاف أن يكون قد سها فيه، فإنه يسقطه، ولا يضيفه للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يرويه، وبهذا طمأنت الأمة إلى أن كل ما وصلنا عنهم بطريقة مقبولة، مما أسندوه للمعصوم صلى الله عليه وسلم فهو حق، وصدق، لأنهم لا يستجيزون أن يقولوا عليه مالم يقل، لعلمهم بالوعيد الشديد الوارد في ذلك. (2) المذاكرة: فقد كانوا يذاكرون الحديث، ويراجعون محفوظهم منه، وينشرونه بينهم، فكان الحاضر يخبر الغائب، والذاكر ينبه الناسي، فانتشرت السنة بينهم بالمذاكرة، وعم أريجها بينهم بالتطبيق، ووصلوا في حرصهم على حفظ السنة وتلقيها من مشكاة النبوة، أنهم كانوا يتناوبون على مجالسها، مخافة أن يفوتهم شيء منها، ومنهم من نذر نفسه للحضور في كل المجالس حتى لا يفوته شيء، كما كان من أبي هريرة وغيره. (3) الكتابة: فقد كان جماعة من الصحابة يكتبون ما سمعوا من رسول لله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث في صحائف لهم، وأورثوها من بعدهم، وكانت هذه الصحف ذائعة منتشرة في زمانهم، خلافا لما يأفكه المستشرقون الذين يزعمون أن شيئا من السنة لم يدون في عهده صلى الله عليه وسلم، وهذه الصحف التي وصلت إلينا بأدق الموازين العلمية، تفضحهم. (4) الرحلة في طلب الحديث: وهذه قد أبدعها المسلمون، فلم يكن في أمة من الأمم غير المسلمين، الاغتراب في جمع أقوال أنبيائهم، وتصنيفها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ومقارنتها وسماعها مرارا، فقد كان الرجل منهم يرحل في حديث واحد مسيرة شهر، وكان يرحل في لقاء شيخ واحد من خراسان إلى حدود الصين، ولم يبق بلد فيه من يُسمِع الحديث لم يُرْحَل إليه، فأسفرت هذه الرحلة عن تقعيد موازين دقيقة حفظ الله بها السنة من الضياع، تحقيقا لوعد الله في كتابه، وإكراما لهذه الأمة ونبيها، وهذه بعض تلك الموازين. أ – إحصاء حديث أهل بلد، وشيوخه، وتلامذتهم، حتى أحصوا منهم من روى حرفا واحداً، ونتج عن هذا أنه لا يستطيع أي كاذب أن يدخل في حديث أهل ذلك البلد ماليس منه، فإذا أدخله عُرف أنه ليس منه. ب – رواية الحديث الواحد من أوجه كثيرة، عن شيوخ عديدين، قد يصلون أحيانا إلى مائة شيخ، وقد يُعَدون بالعشرات، ونتج عن ذلك، مقارنة المتون، ومعرفة ما زيد فيها مما نقص منها، وما شذ مما لم يشذ، فاطمأنت الأئمة بعد هذه المقارنة إلى سلامة المتون من الأوهام، والتحريف، والتصحيف، والإدراج، وما إلى ذلك، وكل لفظة شكوا فيها، فإنهم يحيطونها بالريبة، ويكتبونها لينصوا على أنها لا أصل لها، أو مشكوك فيها، أو محتملة. ج – تصنيف الرواة على طبقات، فمنهم الحافظ الناقد الجهبذ، ومنهم الصدوق المتوسط، ومنهم من ليس كذلك، فقدموا في الاحتجاج أحاديث الحفاظ الثقات، وأتبعوها بأحاديث الصدوقين المتوسطين، ونظروا في أحاديث من ليس كذلك، فإن وافقت ما عند الصنفين، فهي مقبولة، وإن خالفت، كتبوها ليعرف أنها غير معمول بها، أو متوقف فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 د – التدقيق في سير حَملة الحديث عن قرب، واختبار عدالتهم وضبطهم ومدى موافقتهم أو مخالفتهم، فعرفوا بذلك كل واحد على حقيقته، ونزلوه منزلته، بلا شطط، ولا تقصير. وبذلك وضعوا سدا منيعا بين الكَذَبة والدس في السنة النبوية، فإذا جاء أحد بحديث يرويه عن الكوفيين مثلا، نظروا هل هو من حديثهم أو ليس كذلك، وهل كان معروفا بالرواية متصدرا لها، أو كان مغمورا، أو متساهلا، فإن استوفى شروط القبول قبلوه وإلا رفضوه. وهكذا حُرِست السنة وضبطت بأسانيدها ومتونها، حتى دخلت في مصنفات، وخلدت في مؤلفات، عرف مصنفوها بثقتهم وسعة علمهم، وكثرة مرويهم، وضبطهم وإتقانهم، فاستراح الناس من خوف الدس المتعمد وغير المتعمد، فأصبح من يروي شيئا ليس في الدواوين المعروفة، ولا تناقله أهل العلم، ولا عمل به بينهم، لا يؤبه له ولا لروايته. وهذه الجهود الضخمة المبذولة في حفظ السنة، هي معجزة لنبينا صلى الله عليه وسلم وكرامة لأمته، ومفخرة لها، وقد تمخضت أيضا لأول مرة في تاريخ البشرية عن ابتكار علم توثيق الأخبار وتمحيصها، المسمى: " علم الجرح والتعديل وعلم العلل " وقد ابتدعه المسلمون للحفاظ على السنة النبوية، وقلدهم من سواهم من أصحاب العلوم الأخرى في ذلك. وهذا العلم مفخرة للحديث والمحدثين خاصة، وللمسلمين عامة، فكان بحق هؤلاء نقَدة المعرفة، وخدَمة الحقيقة، حتى قال سفيان الثوري: " الملائكة حراس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض " (1) .   (1) شرف أصحاب الحديث – 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وقال يزيد بن زريع: " لكل دين فرسان، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد " (1) . فإن قيل: كيف نوفق بين كون السنة النبوية وحيا، وماثبت قطعاً من اجتهاده صلى الله علية وسلم في بعض القضايا الدينية والدنيوية؟. فالجواب أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم في بعض القضايا، لا يتنافى مع القول بأن السنة وحي؛ ذلك أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الأمور الشرعية، يكون ابتداء بوحي، بمعنى أن الله تعالى يأمره بالاجتهاد فيما لم يوحَ إليه فيه، ثم في النهاية يؤول اجتهاده إلى الوحي، بمعنى أنه إن أصاب في اجتهاده مراد الله، فإن الوحي يقره، وإقرارُ الوحي وحي، وإن أخطأ في اجتهاده، فإن الوحي ينبهه على الخطأ، ويرشده إلى الصواب فيرجع إليه، ويصبح مانبهه عليه الوحيُ هو التشريع له ولأمته. وعليه، فما اجتهد فيه صلى الله عليه وسلم لا يخرج عن دائرة الوحي بهذا الاعتبار، فهو إما إقرار، وإما نقل إلى ما هو صواب بعد الاجتهاد. وأما في الأمور الدنيوية فقد ينبهه الوحي، وقد ينبهه غيره من الناس على الصواب فيرجع إليه، فيكون بذلك صلى الله عليه وسلم معصوما في اجتهاده حالا أومآلا، بالإقرار، ومآلاً بالنقل إلى ما هو صواب، وهذا من خصائصه التي لايشاركه فيها غيره من المجتهدين، فغيرُه فيما اجتهد فيه، قد يكون مخطئا ويستمر على خطئه ولاينبه له، ويتوارث عنه ذلك، وقد يكون مصيبا ولا يَتيقن أنه مصيب، بخلافه صلى الله عليه وسلم فإنه فيما اجتهد فيه وأُقر عليه، فهو على يقين أنه على بينة وحق من ربه، ويجب على الأمة أن تتأسى به في   (1) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 اجتهاده ذلك، وأن تجعله سنة متبعة، وأما ما وقع فيه الخطأ من اجتهاده صلى الله عليه سلم فإنه لايقر عليه ولايستمر فيه على الخطأ، ولايتوارث، بل يُنبَّه على الصواب فينقل إليه، ويترك الخطأ، ويصبح ما انتقل إليه بوحي، تشريعا له ولأمته، دون ماسبقه من الاجتهاد، ولهذا لا يجوز لأحد أن يأخذ باجتهاده صلى الله عليه وسلم الذي نبه الوحي فيه للخطأ. هذا فحوى كلام الشافعي من خلال نصوص الرسالة التي سيأتي بعضها. وهناك من جمع بوجه آخر كابن حزم وغيره فقال: القضايا التي اجتهد فيها صلى الله عليه وسلم هي قضايا دنيوية، ولاغضاضة عليه إن أخطأ فيها، إذ لاعلاقة لها بالتشريع، والتشريع كله وحي. وهذا الوجه لا يخفى ما يرد عليه من اعتراضات، والصواب ماتقدم مما ذهب إليه الشافعي وغيره. وزيادةً على ماتقدم من الأدلة الوارده في المذهب الأول الذي لا يرى اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الشرعيات، فإننا سنضيف أدلة وأقوالا أُخَر تثبت أن السنة وحي كالقرآن. وهذا المذهب قد تبناه جلة من الأئمة المتقدمين والمتأخرين، منهم سعد ابن معاذ -رضي الله عنه-، وحسان بن عطية، والشافعي، والبخاري، وابن حزم، وغيرهم رحمهم الله. ويُستدل لهذا المذهب -زيادة على ماتقدم- بالكتاب، والسنة، والآثار فأما الكتاب فقوله تعالى: (1) {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيما} [النساء: 113] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 (1) وقوله {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [البقرة:231] . ووجه الدلالة من الآيتين أن الله تعالى نص على أنه أنزل على رسوله الكتاب والحكمة، فدل ذلك على أن السنة تنزل عليه كما ينزل عليه القرآن، بنص الآيتين، والحكمةُ لا يختلف أهل العلم حيثما وردت في القرآن، أنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] . قال الشافعي –رضي الله عنه-: " فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة فسمعتُ من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله، وهذا يشبه ما قال، لأن القرآن ذكر، وأُتْبِعَتْهُ الحكمة، وذكر الله منَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز –والله أعلم- أن يقال: الحكمة ههنا إلا سنةُ رسول الله، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتَّم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول فرْضٌ إلا لكتاب الله ثم سنةِ رسوله، لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرنا بالإيمان به" ... كل ماسن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه كتاب - وفيما كتبنا في كتابنا هذا - منْ ذِكْرِ ما منَّ الله به على العباد، من تعلم الكتاب والحكمة، دليل على أن الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " (1) وبهذا قال عامة المفسرين.   (1) الرسالة -23 -78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 قال ابن جرير في قوله تعالى {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:118] يعني: وأنزل عليك مع الكتاب الحكمةَ، وهي ما كان في الكتاب مجملا ذكره من حلال وحرام، وأمره ونهيه وأحكامه، ووعده ووعيده" (1) . وقال ابن كثير: " وما أنزل عليه من الكتاب، وهو القرآن، والحكمة، وهي السنة" (2) . وقال القرطبي: " والحكمة القضاء بالوحي " (3) . وقال ابن جرير في قوله تعالى {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} : "وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلى الله عليه وسلم". (4) وقال ابن كثير: " الحكمة أي السنة " (5) وقال القرطبي: " هي السنة المبينة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب " (6) وقال ابن جرير في قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} : [الأحزاب:34] "ويعني بالحكمة ما أوحي إلى رسول الله   (1) جامع البيان، المجلد 4/ج – 5/275. (2) تفسير القرآن العظيم – 2/364. (3) الجامع لأحكام القرآن – 5/328. (4) جامع البيان / 2 / 483. (5) تفسير القرآن العظيم. (6) الجامع لأحكام القرآن – 3 / 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 صلى الله عليه وسلم من أحكام دين الله، ولم ينزل به القرآن، وذلك السنة " ثم ساق هذا المعنى بسنده عن قتادة (1) . وقال ابن كثير: "اعملن بما ينزل الله على رسوله في بيوتكن من الكتاب والسنة، قاله قتادة وغير واحد " (2) وقال القرطبي: " فأمر الله سبحانه وتعالى أن يخبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن ومايَرَيْنَ من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام ويسمَعْنَ من أقواله حتى يبلِّغْن ذلك إلى الناس، فيعملوا ويقتدوا " (3) . وقال ابن كثير في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] : "الحكمة: السنة" قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل وأبو مالك، وغيرهم" (4) . وقال القرطبي: " الحكمة السنة، وبيان الشرائع " (5) . وقال ابن حزم: "والآيات، ما أنزل الله تعالى من القرآن، والحكمةُ ما أوحى من السنة" (6) . وقال ابن عبد البر: " يريد القرآن والسنة " (7)   (1) جامع البيان – المجلد – 12/ج22. (2) تفسير القرآن العظيم – 12/41. (3) الجامع لأحكام القرآن – 14/184. (4) تفسير القرآن العظيم – 2/269. (5) الجامع لأحكام القرآن – 2/130. (6) النبذ في أصول الفقه الظاهري ص 90 (5) . (7) جامع بيان العلم – 9/789. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 والحاصل أن أقوال المفسرين متفقة على أن الحكمة هي السنة، والآيتان الأُوليان صريحتان في أنها تنزل عليه كما ينزل عليه القرآن. (1) وقولُه تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] . ووجه الدلالة أن الله تعالى بين لرسوله أنه أنزل عليه الكتاب ليحكم بما أعلمه الله وذلك دليل على أنه لا يحكم إلا بما أعلمه به وأوحاه إليه، وقد استدل البخاري -رحمه الله- بهذه الآية لذلك كما سبق، ورأى أن قوله تعالى {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} أي بما أوحاه إليك، وذهب غيره إلى أن معنى "بما أراك الله" من الرأي الذي هو نوع من أنواع الاجتهاد "، وقد استدل بها أبو يوسف على أنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بالاجتهاد. قال القرطبي: "بما أراك الله" معناه على قوانين الشرع، إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سَنن الوحي، وهذا أصل في القياس، وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا أصاب، لأن الله تعالى أراه ذلك، وقد ضَمِنَ الله تعالى لأنبيائه العصمة، فأَما أحدنا إذا رأى شيئا يظنه، فلا قطع فيما رآه " (1) . وقال الشيرازي: " ولم يفرق بين ما أراه بالنص أو بالاجتهاد " (2) قلت: وفي هذا المعنى قول عمر على المنبر: " يا أيها الناس، إن الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه سلم مصيبا، لأن الله كان يريه، وإنما هو منا الظن   (1) الجامع لأحكام القرآن – 5/376. (2) التبصرة في أصول الفقة – 521. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 والتكلف " (1) . قال الأصفهاني: " ووجه الاستدلال بها –كما قرره أبو علي الفارسي- أن الإراءة إمَّا من الرأي الذي هو الاجتهاد، أو من الرؤية بمعنى الإبصار، أو بمعنى العلم، لا جائزٌ أن يكون من الرؤية بمعنى الإبصار، لأن المراد بـ"ما" في قوله تعالى {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} هو الأحكام، وهي لا تكون مبصَرة، ولا جائزٌ أن يكون من الرؤية بمعنى العلم، وإلا لوجب ذكر المفعول الثالث لوجود ذكر المفعول الثاني، وهو الضمير الراجع إلى الموصول ... فتعين أن يكون بمعنى الرأي " (2) قلت: والصواب أن تكون الإراءة بمعنى العلم، والمفعول الثالث محذوف ولا يجب ذكره –كما زعم أبو علي- للعلم به، والمعنى: "بما أراكه الله حكما" فـ "حكما" هو المفعول الثالث، وحُذف لدلالة "لتحكم" عليه، والسياقُ يدل على هذا الذي رجحه البخاري، لأنه إذا أنزل الله عليه الكتاب ليحكم به، فهو يحكم بما أعلمه الله به فيه، فهو لا يحتاج للرأي، مع وجود الحكم في الكتاب، وما ذهب إليه أبو علي مرجوح. هذا وقد حمله القرطبي إما على العلم، أو الرأي المسدد بقوله: "وقال الداودي:" لأن المراد بقوله: "بما أراك الله" ليس محصورا في المنصوص، بل فيه إذن في القول بالرأي" (3) .   (1) أخرجه أبو داود في الأقضية، حديث 3586 بسند صحيح. (2) بيان المختصر، شرح مختصر ابن الحاجب – 3/295. (3) فتح الباري – 13/304. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وأما السنة فقد استُدل لهذا القول بأحاديث: (1) حديث المقدام بن معد يكرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لُقَطَةُ معاهَد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم، فعليهم أن يَقروه، فإن لم يقروه، فله أن يُعقِبهم بمثل قراه" (1) . وفي لفظ لهذا الحديث زيادة: " ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه سلم مثلُ ما حرم الله" (2) ووجه الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم نص على أنه أُتي مثلَ القرآن، ولم يكن ذلك إلا السنة، وتعبيرُه بالإيتاء، يدل على أنها تنزل عليه كما ينزل عليه القرآن، ثم إن المثلية المذكورة تحتمل أنها مثله في القرآنية، أو مثله في الاحتجاج بها، أو مثله في تنزيلها عليه، والوجه الأول باطل   (1) أخرجه أبو داود في العلم – 4/200/ واللفظ له، وأحمد – 4/113/ والطحاوي في المعاني – 4/209/ والآجري في الشريعة – ص 51/ كلهم من طريق عبد الرحمان بن أبي عوف، عن المقدام مرفوعا، وإسناده صحيح. (2) الزيادة أخرجها الترمذي - 5/38/. وابن ماجه - 1/6/ والطبراني في الكبير - 2/274/ والطحاوي في المعاني – 4/209/ والدرامي – 1/144/ والحاكم 1/109/ كلهم من طريق معاوية بن صالح، عن الحسن بن جابر اللخمي، عن المقدام مرفوعا، وليس عند هؤلاء جميعا جملة: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" ولا "ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي " إلخ. وصححه الحاكم، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وليس كذلك، لأن الحسن بن جابر مجهول، لم يوثقه إلا ابن حبان، ومقتضى تصحيح الحاكم وتحسين الترمذي له، أنه عندهما مقبول، لكن له شاهد من حديث العرباض بن سارية، عند ابن ماجه حديث – 3050 – وفي سنده أشعت بن شعبة المصيصي، وثقه ابن حبان، وأبو داود إن صح عنه وقال أبو زرعة: "لين" ومثله يصلح في الشواهد، وبه ترتقي هذه الزيادة لدرجة الحسن بغيره. وتصلح للاحتجاج بها على المطلوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 بالإجماع، فلم يبق إلا الثاني والثالث، وهما المطلوب. وأما الزياده المذكورة، فوجه الدلالة منها، أنه صلى الله عليه وسلم سوَّى بين ما يحرمه هو وما يحرمه الله تعالى، وذلك لا يكون منه إلا بوحي، لأنه لو كان اجتهادا منه، لما صحت هذه التسوية شرعا ولا واقعا، ولما قطَع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه التسوية، لأن أحكام الاجتهاد لا قطع فيها، فلما جزم بالتسوية بين ما يحرمه هو وما يحرمه الله عز وجل، علمنا أن ذلك كان منه بوحي لا برأي. (2) حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ........ الحديث1. ووجه الدلالة منه أن الله بعثه بالهدى والعلم، وهما يشملان الكتاب والسنة، واستعمال لفظة "بعث" تدل على أن ذلك ليس برأي ولا قياس. (3) حديث يعلى بن أمية أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجِعِرّانة، وعليه جبة، وعليه أثر خَلوق، فقال كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فأَنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم فستر بثوب، ووددت أني قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي، فقال عمر: تعال، أيسرك أن تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله عليه الوحي؟ قلت: نعم، فرفع طرف الثوب فنظرت إليه، له غطيط كغطيط البَكر، فلما سُري عنه قال: "أين السائل عن العمرة، اخلع عنك الجبة، واغسل أثر   1 البخاري في العلم، باب فضل من علم وعلم – الفتح – 1/211/ ومسلم- 2/836/ حديث 1180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الخلوق عنك، وأنق الصفرة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك " 1 ووجه الدلاله أنه لم يُجِب السائل عن سؤاله إلا بعد ما جاءه الوحي بالجواب. قال الزركشي: " وهو دليل قطعي على أن السنة كانت تنزل عليه كما ينزل القرآن " (2) قال الحافظ: " لم أقف في شيء من الروايات على بيان المنزل حينئذ من القرآن، وقد استدل به جماعة من العلماء على أن من الوحي مالا يتلى، لكن وقع عند الطبراني في الأوسط من طريق أخرى أن المنزل حينئذ قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] ووجه الدلالة منه على المطلوب، عموم الأمر بالإتمام، فإنه يتناول الهيئات والصفات، والله أعلم". قلت: ولا تظهر دلالة الآية على ما سأل عنه السائل من نزع جبته، وغسل أثر الخلوق عنه، إلا بالتأويل المذكور، لو صحت الرواية بذلك، لكن رواية الطبراني في الأوسط ضعيفة (3) فيصحّ الاستدلال بالحديث على أن الموحى به له صلى الله عليه وسلم في هذه القضية، هو السنة لا القرآن. (4) حديث خولة بنت ثعلبة في مظاهرة أوس بن الصامت منها، وهو شيخ كبير قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلست بين يديه،   (1) أخرجه البخاري في العمرة – الفتح – 3/718. (2) البحر المحيط /6/216. (3) أخرجه الطبراني في الأوسط – 2/485/ حديث – 1836/ وقال: "لم يرو هذا الحديث عن أبي الزبير إلا إبراهيم، ولم يدخل أبو الزبير بين عطاء وصفوان أحدا، ورواه مجاهد عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه "قلت: وتابعه همام عند البخاري ومسلم، فرواه عن عطاء عن صفوان عن أبيه، كما تابعهما ابن جريح، وعمرو بن دينار، وقيس، ورباح بن أبي معروف ورواياتهم عند مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا خويلة، ابن عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه " قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فيّ، فتغشى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سري عنه فقال لي: " ياخويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك، ثم قرأ علي {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1] ... " الحديث (1) ووجه الدلالة من هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم توقف في الجواب عنها، فلم يجب فيها لا برأي ولا قياس، حتى نزل عليه الوحي بحكمها، فدل على أنه لا يقول شيئا، ولا يفعله إلا بوحي. (5) حديث عبد الله بن عمرو، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم "فأومأ بإصبعه إلى فيه" فقال:   (1) أخرجه أحمد – 6/410/411/ وأبو داود في الطلاق – 2/266/ من طريق محمد بن إسحاق، عن معمر بن عبد الله بن حنظلة، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عنها به. وإسناده فيه ضعف، معمر بن عبد الله مجهول الحال، لم يوثقه إلا ابن حبان، لكنه لم ينفرد به فقد روي مرسلا، عن محمد بن كعب القرظي وأبي العالية عند الطبراني، كما في الفتح. وروي من حديث ابن عباس عند ابن جرير في تفسيره. وفيه أبو حمزة الثمالي –واسمه ثابت بن صفية- وهو ضعيف، وجاء من حديث عائشة بسند صحيح مختصرا عند البخاري في التوحيد – 13/384/ وعن أنس، عند ابن مردويه – كما في الفتح – 13/386. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 " اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق " 1 ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف ما يتكلم به في حال الغضب والرضا بأنه حق، فدل ذلك على أن ما يقوله، كان بوحي، سواء كان كتابا أو سنة، لأن الحق وقع منَكَّرا في سياق النفي، فيفيد العموم. (6) حديث جبير بن مطعم أن رجلا قال: يا رسول الله، أي البلدان أحب إلى الله وأي البلدان أبغض إلى الله؟ قال: "لا أدري حتى أسأل جبريل" فأتاه فأخبره جبريل أن أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق2، وفي لفظ: قال جبريل: " لا أدري حتى أسأل رب العزة ". (7) حديث جابر أنه كان مريضا، فعاده النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فصب عليه من وَضوئه، فأفاق من إغمائه، فقال: يا رسول الله: كيف أقضي في مالي؟ قال: فما أجابني بشيء   (1) أخرجه أحمد – 2/162/192/ وأبو داود – 3/318/ والدارمي – 1/125/ والحاكم – 1/105/106/ من طريق يحي بن سعيد القطان، عن عبيد الله بن الأخنس، حدثنا الوليد بن عبد الله، عن يوسف بن ماهك عنه به مرفوعا، وإسناده صحيح، والوليد بن عبد الله، هو ابن أبي مغيث. (2) أخرجه البزار – 8/352/ وأحمد – 4/81/ وأبو يعلى – 13/400/ والحاكم – 1/89/90/2/7/. من طريق زهير بن محمد التميمي، عن ابن عقيل، عن محمد بن جبير بن مطعم به. وأخرجه الطبراني في الكبير – 2/128/ والحاكم من طريق قيس بن الربيع عن ابن عقيل به وقال "الحاكم": صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد رواه قيس بن الربيع، وعمرو بن ثابت عن عبد الله بن محمد بن عقيل، وله شاهد صحيح "فذكره عن ابن عمر. وقال الذهبي: زهير ذو مناكير، هذا منها، وابن عقيل فيه لين ... ". قلت: استقر رأي المحدثين –كالبخاري وأضرابه- على تحسين حديث ابن عقيل، ومناكيرُ زهير إنما هي فيما رواه عنه أهل الشام، وهنا قد روى عنه أبو عامر العقدي، وأبو حذيفة: موسى بن مسعود، وأبو عامر بصري، قال البخاري: ما روى عنه أهل الشام، فإنه مناكير وما روى عنه أهل البصرة فإنه صحيح " قلت: وهذا من صحيح حديثه، وليس منكرا كما زعم الذهبي، ويدلك على صحته أنه روي من غير طريقه كما ذكر الحاكم، وله شواهد يصح بها، انظرها في مجمع الزوائد – 2/6/. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 حتى نزلت آية المواريث"1 ووجه الدلالة أنه لم يجبه حتى جاء الوحي بجوابه، فدل على أنه لا يجيب إلا بوحي، فلو كان يجتهد في الأحكام لاجتهد في جواب هذا السؤال، مع قيام الداعي، والحاجة الملحة، فلما انتظر الوحي، أفاد ذلك أنه لا يقول إلا بوحي، وهو المطلوب. (8) حديث أبي هريرة أن امرأة قالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه، تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعْن في يوم كذا، في مكان كذا وكذا، فاجتمعْن فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله ... 2 ووجه الدلالة إقرار النبي صلى الله عليه وسلم المرأة على قولها: "تعلمنا مما علمك الله" وذلك يدل على أن علمه علْمُ تعليمٍ وتلقٍ، لا علمُ اجتهادٍ وقياس. (9) حديث المطلب بن حَنْطَب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ماتركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئا مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه، ألا وإن الروح الأمين قد ألقى في رُوعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فأجملوا في الطلب" 3 ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر به الله ونهى عنه، وأنه يتلقى وحي الإلهام كما يتلقى وحي الإرسال، وكلاهما حق، وذلك يفيد أن السنة وحي، لأن بعض ما حرّمه الله لا يوجد إلا في السنة لا في القرآن، وقد استدل الشافعي في الرسالة بهذا الحديث لهذا المعنى.   (1) أخرجه البخاري في الاعتصام – الفتح – 13/303. (2) المصدر نفسه ...... 305/306. (3) أخرجه الشافعي في الرسالة ص 87/93/ وقد استفاض الشيخ شاكر في تخريجه وتحقيقه بما لا مزيد عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 (10) حديث ابن مسعود قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متكئ على عسيب – إذ مر اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال: " ما رَابَكُم إليه " وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه، فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] 1. ووجهُ الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم توقف فلم يرد حتى جاءه الوحى بالجواب. فدل ذلك على أنه يُوحى إليه في كلّ شؤونه. (11) حديث سهل بن سعد في قذف عُوَيمر العجلاني امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم وقوله صلى الله عليه وسلم: " قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، فاذهب فأت بها " وفي رواية ابن عمر: " فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان بعد ذلك أتاه "وفي لفظ ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم افتح، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان " وفي رواية ابن عباس " اللهم بين " 2 ووجه الدلالة من هذه الألفاظ أنه صلى الله عليه وسلم توقف عن حكم اللعان حتى نزل عليه الوحي به، فدل ذلك على أنه لا يجتهد، فلو كان يجتهد لأجاب السائل ولما انتظر الوحي. قال الشافعي: " وفيه دلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وردت عليه هذه المسألة، -وكانت حكماً- وقف عن جوابها، حتى أتاه من الله عز وجل الحكم فيها، فقال لعويمر " قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك "   (1) أخرجه البخاري في التفسير – الفتح – 8/253/ ومسلم في المنافقين - /4/2152. (2) البخاري في الطلاق –الفتح- 9/355/ باب اللعان ومن طلق بعد اللعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فلاعَن بينهما أمر الله تعالى في اللعان ثم فرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة، ونفاه عن الأب ... فكانت هذه أحكاما وجبت باللعان ليست باللعان بعينه، فالقول فيها واحد من قولين: أحدهما أني سمعت من أَرضى دينه وعقله وعلمه يقول: إنه لم يقض فيها ولا غيرِها إلا بما أمر الله تبارك وتعالى، وقال: فأمر الله إياه وجهان: وحي ينزله فيتلَى على الناس، والثاني رسالة تأتيه عن الله تعالى بأن افعل كذا فيفعله ... " (1) وأما الآثار فقد استدلوا بما يلي: (1) قال سعد بن معاذ: " ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا قط إلا علمت أنه حق من الله، ولا كنت في صلاة قط فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها، ولا كنت في جنازة قط فحدثت نفسي بغير ما تقول ويقال لها، حتى أنصرف عنها " قال سعيد بن المسيب: هذه الخصال، ما كنت أحسبها إلا في نبي (2) (2) وقال حسان بن عطية: " كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن، يعلمه إياها كما يعلمه القرآن " (3) (3) وقال الشافعي: " وما سن رسول الله فيما ليس لله فيه حكم، فبحكم الله سنه ... . فلم أعلم من أهل العلم مخالفا في أن سنن النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه: -فاجتمعوا منها على وجهين، والوجهان   (1) الأم – 5/136. (2) جامع بيان العلم وفضله – 2/1198. (3) أخرجه الدارمي – 1/145/ واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد – 1/81/ وابن بطة في الإبانة – 1/255 من طريقين عن الأوزاعي عنه به، وسنده صحيح، وعزاه الحافظ في الفتح – 13/305/ للبيهقي بسند صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 يجتمعان ويتفرعان- أحدهما ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبين رسولُ الله مثلَ ما نص الكتابُ، والآخر مما أنزل الله فيه جملةَ كتاب: فبين عن الله معنى ما أراد، وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما، والوجه الثالث: ما سن رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال: جعل الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب. ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في كتاب ... ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله، فأُثبِتت سنته بفرض الله. ومنهم من قال أُلقي في رُوعه كل ماسن، سنتُه، الحكمةُ الذي أُلقي في روعه عن الله، فكان ما أُلقي في روعه سنتَه. قال الشافعي: فكان مما ألقى في روعه سنته، وهي الحكمة التي ذكر الله، وما أنزل به عليه كتاب، فهو كتاب الله، وكلٌّ جاءه من نعم الله كما أراد الله، وكما جاءته النعم تجمعها النعمة وتتفرق بأنها في أمور بعضها غير بعض ...... وأي هذا كان، فقد بين الله أنه فرض فيه طاعة رسوله، ولم يجعل لأحد من خلقه عذرا بخلاف أمر عرفه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنْ قد جعل الله بالناس كلهم الحاجة إليه في دينهم، وأقام عليهم حجته بما دلهم عليه من سنن رسول الله معاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه، ليَعلم من عَرف منها ما وصفنا، أن سنته صلى الله عليه وسلم كانت سنة مبينة عن الله معنى ما أراد من مفروضه فيما فيه كتاب يتلونه، وفيما ليس فيه نص كتاب، أخرى – فهي كذلك أين كانت، لا يختلف حكم الله ثم حكم رسوله، بل هو لازم بكل حال" (1) . وقال: " إن الله عز وجل وضع نبيه صلى الله عليه وسلم من كتابه ودينه بالموضع الذي أبان في كتابه، فالفرض على الخلق أن يكونوا عالمين بأنه   (1) الرسالة ص –88-91-92-93-103-104-105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 لايقول فيما أنزل الله عليه إلابما أنزل عليه، وأنه لايخالف كتاب الله، وأنه بين عن الله عز وجل معنى ما أراد الله "1. وهذا كلام ناصر السنة، وقد نقلناه بطوله، لتنصيصه على أن السنة وحي كالقرآن، سواء كانت وحيَ إرسال، أو إلهام، أوسداد وتوفيق. (4) قال البخاري: " باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل مما لم يُنزل عليه الوحي، فيقول: لا أدري، أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا قياس، لقوله تعالى: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] وقال ابن مسعود: سئل عن الروح فسكت حتى نزلت الآية. ثم بعد هذه الترجمة، ساق حديث جابر أنه سأله كيف يقضي في ماله فما أجابه حتى نزلت آية المواريث. ثم بوب بعده بقوله: " باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء مما علمه الله، ليس برأي ولا تمثيل " 2 وساق بعده حديث أبي سعيد في تعليمه النساء مما علمه الله، قال الحافظ: " والمراد بالوحي، أعم من المتعبد بتلاوته ومن غيره ". وهاتان الترجمتان من البخاري رحمه الله، صريحتان في أنه يرى أن السنة وحي كالقرآن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول برأي ولا قياس. (5) وقال ابن حزم: " إن من ظن أن الاجتهاد يجوز لهم في شرع شريعة لم يوح إليهم فيها فهو كفر عظيم ... ولا سبيل إلى اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في شرع الشرائع، والأوامرُ عنده واردة متيقنة لا إشكال فيها "3. (6) وقال السرخسي: " ولا يدخل في ذلك الأَخبار، فإنه لا اختلاف   (1) كتاب جماع العلم – ضمن الأم – 7/303. (2) البخاري مع الفتح، كتاب الاعتصام – 13/303 – 305. (3) الإحكام في أصول الأحكام - /94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فيها في الأصل، لأنه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بينا أنه قال ذلك عن وحي، وقد علمنا بالنص أنه لا اختلاف فيما هو من عند الله، قال تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] وإنما الاختلاف في الأخبار من جهة الرواة، والحجة هو الخبر لا الراوي" (1) . (7) وقال القاضي عياض: " لأن أصل الشريعة التي تعبدنا بها، إنما هي متلقاة من جهة نبينا - صلوات الله عليه وسلامه - إما فيما بلغه من كلام ربه، وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ... ثم بعد ذلك ما أَخبر به من وحي الله إليه، وأوامره ونواهيه ... وغير ذلك من سنته، وسائر سيره، وجملة أقواله وأفعاله، وإقراره " (2) . (8) وقال ابن تيمية: " لأن الله قد ضمن حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله، ولم يضمن حفظ ما يؤثر عن غيره، لأن ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، هو هدى الله الذي جاء من عند الله، وبه يعرف سبيله، وهو حجته على عباده، فلو وقع فيه ضلال لم يبيَّن، لسقطت حجة الله في ذلك، وذهب هداه، وعمت سبيله، إذ ليس بعد هذا النبي نبي آخر ينتظَر ليبين للناس ما اختلفوا فيه ... " (3) . (9) وقال ابن جُزَي الغرناطي: " فأما قوله صلى الله عليه وسلم فيحتج به كما يحتج بالقرآن، لأنه لا ينطق عن الهوى " (4) (10) وقال ابن القيم في أقسام بيان السنة: " الخامس ما سئل عنه   (1) أصول السرخسي – 2/123. (2) الإلماع في أصول الرواية وتقييد السماع ص – 6-7. (3) الفتاوى – 4/168/169. (4) تقريب الوصول إلى علم الأصول – ص 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 بالوحي، وإن لم يكن قرآنا، كما سئل عن رجل أحرم في جبته ...... ولا فرق بين ما يبلغه عنه من كلامه المتلو، من وحيه الذي هو نظير كلامه، في وجوب الاتباع، ومخالفةُ هذا كمخالفة هذا "1 (11) وقال الزركشي: " صرح الشافعي في الرسالة بأن السنة منزلة كالقرآن "2 (12) وقال الشيخ محمد علي السنوسي: " اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن القرآن، الدال على معانيه بما علمه الله، فكانت أقواله، وأفعاله، وتقريراته، كلها وحيا"3 (13) وقال الشيخ محمد لطفي الصباغ: " فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي أوحاه الله تعالى إلى نبيه وأمينه على خلقه، وهي مع كتاب الله العزيز أساس الدين الإسلامي، وهما متلازمان تلازم شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله4. وهذه نماذج من أقوال العلماء في هذه المسألة من شتى المذاهب لاعلى سبيل الحصر وإنما على سبيل التمثيل. هذا وإن رأى غيرنا احتمالا في بعض النصوص، فليعلم أن جزْمنا بَنَيناه على مجموع النصوص لا على أفرادها، ومراعاةُ ذلك من الأمور المهمة كما أشار إلى ذلك الشاطبي في موافقاته5. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.   (1) إعلام الموقعين – 2/315/314. (2) البحر المحيط – 6/217. (3) إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن – ص 6/7. (4) حجية السنة – ص 4-. (5) الموافقات 1/ 35-36 المقدمة الثالثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الخاتمة ... خاتمة في نتائج هذا البحث: يمكن استخلاص نتائج مهمة مما تقدم من الأدلة ومناقشتها على النحو الآتي، بالنسبة للأنبياء فهم معصومون من الكبائر، ومن كل ما يخل بالتبليغ بالإجماع، وتقع منهم بعض الصغائر سهوا وغلطا، ولكنهم لا يقرون عليها، بل ينبهون على الصواب فيها فيرجعون إليه، فيكونون بذلك معصومين مآلا. وبالنسبة لاجتهاد الأنبياء، فالصواب أنهم يجتهدون اجتهادا مطلقا بأمر الله تعالى وبإذنه لهم في ذلك، واجتهادُهم يكون بوحي من الله، فإذا صدر منهم ما هو خلاف الأولى في اجتهادهم، فإن الله تعالى يسددهم ويهديهم، فيرجعون إلى الصواب فيما أخطؤوا فيه، وذلك لا يتنافى مع عصمتهم، لأنها إما أن تكون حالية أو مآلية، خلافا لمن استشكل الجمع بين الاجتهاد والعصمة، ولا إشكال في ذلك كما تقدم، لأن اجتهادهم لا يكون إلا بوحي. السنة النبوية المقبولة، كلها وحي من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، بأي وجه من أوجه الوحي السابق ذكرها. وهذا هو الراجح القوي في مسألة السنة النبوية، لأن أدلته متواترة في هذا المعنى، وصريحة في دلالتها على ذلك، فلا يؤثر فيها آحاد المسائل والجزئيات التي لا تنشئ أصلا يخالفها، ولا كليا يعارضها، وإنما هي استثناءات، تحتمل التأويل والحمل على موافقة الأدلة الصريحة، أكثر من احتمالها ما يضاد ذلك الصريح، لأن الكليات لا تنخرم بانخرام جزئي أو أجزاء منها، لاحتمال أن يكون لذلك الجزئي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 كلي آخر يشمله، أو لاحتماله وجها صحيحا يرد به إلى كيله الصريح. وإذا أخذت أقسام الوحي المذكورة في الاعتبار –كما ذكر الشافعي وغيره- فإن الإشكال يزول من أساسه، فيصبح بذلك أن السنة المقبولة وحي، ويترتب على ذلك تعظيمها والبحث عنها، والعمل بها. أسأل الله عز وجل بأسمائه وصفاته وبمحبة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوقفنا للعمل بها، والائتساء بصاحبها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 مصادر ومراجع ... المصادر والمراجع - الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، لأبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة، العكبري، ت، رضا بن نعسان، دار الراية، ط، الثانية 1415?. - الإحسان، بترتيب صحيح ابن حبان، لابن بلبان، دار الفكر، ط، الأولى 1407?. - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: ت، الشيخ شاكر، دار الآفاق، ط، الاولى 1400?. - الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي: علي بن أبي علي، ط، محمد صبيح، القاهرة 1387?. - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني: محمد بن علي، دار الفكر، بلا تاريخ. - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، لإمام الحرمين: عبد الملك الجويني، ت، أسعد تميم، مؤسسة الكتب الثقافية، ط الأولى 1405?. - أصول السرخسي: أبي بكر محمد بن أحمد: مكتبة المعارف، ت، أبو الوفاء الأفغاني نشر لجنة إحياء المعارف النعمانية، حيدر آباد، الهند. - الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، للقاضي عياض، ت، السيد أحمد صقر، ط الثالثة، دار التراث، القاهرة. - الأم للشافعي، دار الفكر، ط، الثانية 1403?. - إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن، للسيد محمد بن علي السنوسي، دار القلم، ط، الأولى 1406?. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 - البحر الزخار – المعروف بمسند البزار، للحافظ أبي بكر، أحمد بن عمرو ابن عبد الخالق ت، د، محفوظ الرحمان زين الله، مكتبة العلوم والحكم، المدينة النبوية، ط الأولى 1409هـ. - البحر المحيط في أصول الفقة للزركشي: محمد بن بهادر، تحرير الشيخ عبد القادر العاني، مراجعة د. عمر سليمان الأشقر. - البرهان في أصول الفقه للجويني: ت، عبد العظيم الديب، دار الوفاء، ط، الثالثة 1412هـ. - بيان المختصر، شرح مختصر ابن الحاجب، لشمس الدين محمود بن عبد الرحمان الأصفهاني، ت د، محمد مظهر بقا، منشورات جامعة أم القرى - ط – الأولى 1406هـ. - التبصرة في أصول الفقه، للشيرازي: إبراهيم بن علي، ت، هيتو، دار الفكر 1403هـ. - تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ت، عبد العزيز غنيم ومحمد عاشور، ومحمد البنا. - تقريب الوصول إلى علم الأصول لابن جزي: ت، فركوس، دار الأقصى، ط، الأولى 1410هـ. - تلخيص المستدرك، بهامش المستدرك، دار الفكر 1398هـ. - تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر، العسقلاني، دار الفكر، ط، الأولى 1404هـ. - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، دار الفكر 1408هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 - جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر، يوسف بن عبد البر، ت، أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، ط الأولى 1414هـ. - الجامع الصحيح للإمام البخاري مع شرحه فتح الباري، ط الثالثة المكتبة السلفية. - الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي: محمد بن أحمد، دار الفكر. - جامع العلم، للإمام الشافعي، ضمن كتاب الأم، دار الفكر. - جمع الجوامع للسبكي: تاج الدين عبد الوهاب، مع شرح المحلي وحاشية البناني، ط البابي الحلبي. - حجية السنة، د عبد الغني عبد الخالق: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط، الأولى 1407هـ. - حجية السنة للدكتور محمد لطفي الصباغ، جمعية الحديث، عمان، ط، الأولى 1414هـ. - دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب، للشنقيطي: الشيخ محمد الأمين، مطبوع في آخر أضواء البيان. - دلائل النبوة للبيهقي: أحمد بن الحسين، ت، قلعجي، دار الكتب العلمية، ط، الأولى 1405هـ. - رسالة في وصل البلاغات الأربع في الموطأ – لابن الصلاح، دار الطباعة الحديثة، الدار البيضاء. - الرسالة للإمام الشافعي، ت، الشيخ أحمد شاكر – دار الفكر -1399هـ. - سنن ابن ماجه، لأبي عبد الله محمد بن يزيد القرشي، تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 - سنن أبي داود، للحافظ سليمان بن الأشعث، تعليق محمد فؤاد، دار الفكر. - سنن الترمذي لأبي عيسى محمد بن عيسى، ت، شاكر، دار إحياء التراث. - سنن الدارقطني: علي بن عمر، تصحيح الشيخ عبد الله هاشم يماني، دار المحاسن 1386هـ - سنن الدارمي، للإمام الكبير: عبد الله بن عبد الرحمان، دارالفكر. - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لأبي القاسم، هبة الله بن المحسن الطبري اللالكائي، ت، أحمد سعد حمدان، دار طيبة الرياض، ط، الأولى 1409هـ. - شرح الكوكب المنير في أصول الفقه، لابن النجار الحنبلي: محمد بن أحمد، ت، د، محمد زحيلي، ود، نزيه حماد، دار الفكر 1400هـ. - شرح معاني الآثار للطحاوي: أحمد بن محمد، دار الكتب العلمية، ط، الأولى 1399هـ. - الشريعة للآجري: أبي بكر محمد بن الحسن، ت، محمد حامد الفقي الناشر، حديث أكادمي باكستان ط، الأولى 1403هـ. - الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، ت، عبد علي كوشك، ط الأولى1420هـ، دار الفيحاء بيروت. - صحيح الإمام أبي الحسين: مسلم بن الحجاج، تعليق محمد فؤاد، دار الفكر، ط، الثانية 1398هـ. - الغنية في الأصول، للسجستاني: منصور بن إسحاق، ت، محمد صدقي مطابع الذهبية الرياض، ط، الأولى1410هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 - الفتاوى لابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، جمع وترتيب، عبد الرحمان بن محمد بن قاسم، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب، بلا تاريخ. - فتح الباري، شرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر العسقلاني، تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز، المكتبة السلفية، ط، الثالثة 1407هـ - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، للشوكاني محمد بن علي، دار الفكر 1403هـ. - الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم دار المعرفة 1406هـ. - الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزمخشري: محمد بن عمر، دار الكتاب العربي، تصحيح مصطفى حسين أحمد، ط، الثالثة 1407هـ. - كشف الأسرار، للنسفي عبد الله بن أحمد، دار الكتب العلمية، ط، الأولى 1406هـ. - لسان العرب لابن منظور: محمد بن مكرم، دار الفكر، ط، الأولى1410هـ. - مجمع الزوائد، ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين الهيثمي، دار الكتاب العربي، ط، الثانية 1402هـ. - محاسن التأويل للشيخ محمد بن جمال الدين القاسمي، دار الفكر، ط، الثانية 1398هـ. - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية، ت، المجلس العلمي بفاس، ط فضالة المغرب. - محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، من العلماء، والحكماء والمتكليمن، للفخر الرازي، دار الكتاب العربي، مراجعة عبد الرؤوف سعد، ط، الأولى 1404هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 - المحصول في علم أصول الفقه للفخر الرازي ت، طه جابر العلواني، مؤسسة الرسالة، ط /2/1412هـ. - المستدرك على الصحيحين للإمام الحافظ أبي عبد الله الحاكم –دار الفكر 1398هـ. - مسند الإمام أحمد بن حنبل، دار الفكر، ط، الثانية 1398هـ. - مسند الإمام أحمد بن حنبل، ت، حمزة أحمد زين، دار الحديث القاهرة – ط، الأولى 1416هـ. - المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية، تقديم محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني. - معالم التنزيل في التفسير والتأويل لأبي محمد، الحسين بن مسعود البغوي، دار الفكر 1405هـ. - المعجم الأوسط، للحافظ أحمد بن سليمان الطبراني ت، محمود الطحان، مكتبة المعارف، ط، الأولى 1406هـ. - المعجم الكبير له، الشيخ عبد المجيد السلفي، وزارة الأوقاف العراقية، ط، الثانية. - معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس، دار الفكر 1399هـ. - مفاتيح الغيب للفخر الرازي محمد بن عمر، دار الفكر، ط، الثالثة 1405هـ. - الموافقات للشاطبي، تعليق الشيخ دراز، دار المعرفة. - المواقف في علم الكلام لعضد الدين الإيجي، عالم الكتب. - الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، للخياط، تقديم محمد حجازي، مطبعة المدني القاهرة 1988م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 - النبذ في أصول الفقه الظاهري، لابن حزم: علي بن أحمد القرطبي، ت، محمد صبحي حسن حلاق، دار ابن حزم، ط، الأولى 1413هـ - الوصول إلى الأصول، لابن برهان أحمد بن علي، ت، عبد الحميد أبو زيد، مكتبة المعارف الرياض 1403هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74