الكتاب: التنجيم والمنجمون وحكم ذلك في الإسلام المؤلف: عبد المجيد بن سالم المشعبي الناشر: أضواء السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الطبعة الثانية، 1419هـ/ 1998م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- التنجيم والمنجمون وحكم ذلك في الإسلام عبد المجيد بن سالم المشعبي الكتاب: التنجيم والمنجمون وحكم ذلك في الإسلام المؤلف: عبد المجيد بن سالم المشعبي الناشر: أضواء السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الطبعة الثانية، 1419هـ/ 1998م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] التَّنْجِيمُ وَالمنَّجِمُونَ وَحكم ذلك في الإسلام تأليف: الدّكتور عبد المجيد بن سالم المشعبي المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} 2، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 3. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى لما خلق الناس خلقهم على الحنيفية السمحة، وجبلهم على الفطرة النقية الصافية، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا أنه قال: "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً" 4.   1 سورة آل عمران، الآية: 102. 2 سورة النساء، الآية: 1. 3 سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71. 4 أخرجه مسلم: (8/159) ، كتاب الجنة وصفة نعيمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 فما من مولود إلا ولد على ذلك، وما من ضال أو مشرك إلا وقد أضله الشيطان، وقد كانت البشرية في قرونها الأولى لا تعرف الشرك، بل كانوا على الحنيفية التي جبلهم الله عليها. وبعد عدة قرون والناس على ذلك زين الشيطان لفريق منهم التعلق بالصالحين من الأموات، فعبدوهم من دون الله، فكان هذا أول شرك وقع في العالم. فأرسل الله تعالى نوحاً عليه السلام ليعيد الناس إلى عقيدة التوحيد، ويخرجهم من الظلمات إلى النور. ثم توالت القرون بعد ذلك، وحدث في الناس شرك من نوع آخر وهو التعلق بالكواكب وعبادتها، واعتقاد النفع والضر فيها فأرسل الله سبحانه رسوله وخليله إبراهيم عليه السلام، فناظر أهل الشرك وأدحض حججهم، وبين بطلان عبادتهم، وسوء معتقدهم، فلما بهتوا وقامت الحجة عليهم لجأوا إلى الشدة والقوة، وألقوه في النار ظنًّا منهم أن ذلك هو طريق الخلاص منه. ولكن الله أنقذه منها، ورد كيدهم في نحورهم وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام، فأخرجوه من أرضهم، وتبرأوا من دعوته فانتقم الله من الطاغوت الذي وقف أما دعوة إبراهيم عليه السلام، فأهلكه الله وجعله من الصاغرين. وهكذا دواليك لا تكاد تبعد أمة من الأمم عن عهد نبيها إلا وتراهم يسقطون فريسة لحبائل الشيطان المنصوبة، فيتبعونه ويستمعون إلى غوايته، ويتخذونه وليًّا من دون الله تعالى، وساء وليًّا. ولا يقع الناس في شيء من ذلك إلا أرسل الله إليهم رسلاً ينبذون الشرك ويقطعون أسبابه، ويدعون الناس إلى التوحيد وإفراد الله بالعبادة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 كما قال تعالى:} وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1. وعلى مر العصور واختلاف الأمم لم يقع في العالم أعظم من هذين الشركين: الأول: عبادة القبور، والتعلق بالأموات، وهو شرك قوم نوح عليه السلام، وهو أول شرك وقع في العالم، وفتنته أعظم، والابتلاء به أكثر. والثاني: الإشراك بالنجوم وتعظيمها واعتقاد أنها أحياء ناطقة، وأن لها روحانيات تتنزل على عابديها. وهذا الاعتقاد هو الذي حدا بعابديها إلى أن يبنوا لها هياكل فيها أصنام تناسبها، وكان مبدأ هذا الشرك تعظيم الكواكب وظن السعود والنحوس فيها، وحصول الخير والشر منها2. وآل أمر هذا الشرك –أعني عبادة الكواكب واعتقاد أنها آلهة مدبرة- إلى الفلاسفة والصائبة والمجوس وغيرهم، واعتقدوا فيها ما اعتقد أسلافهم من قوم إبراهيم، وكانوا ينتشرون حول الجزيرة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كانت الكهانة في ذلك الوقت منتشرة بين الناس، والاعتقاد بالكواكب والأنواء ونسبة بعض الحوادث إليها مشهوراً لديهم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعتقدات، وأنار لأمته دياجير الظلمات، وبين لهم الحق، وحذرهم من إتباع المهلكات الموبقات، وتركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. ومن بين هذه الأمور التي حذر أمته منها ادعاء علم الغيب، واعتقاد،   1 سورة النحل، الآية: 36. 2 "مفتاح دار السعادة": (2/197) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 أن لهذه الكواكب تأثيراً في حوادث هذا العالم مما يزيد على الأمر الطبيعي المألوف، حماية لهم من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم الماضية من الإشراك بهذه النجوم واتخاذها أرباباً من دون الله. وبقي المسلمون على هذه الحال لا يدخل بينهم يدعي شيئاً من علم التنجيم إلا أخرسوه، وحذروا الناس منه، ولا تأتي مناسبة لذمه إلا وذموه، وذموا من يقتفي أثره، ولم يتركوا باب شر تدخل منه مثل هذه الأمور إلا أغلقوه وأحكموا رتاجه كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أمر جنوده الذين فتحوا الإسكندرية أن يحرقوا كتب الفلاسفة والمنجمين التي وجدوها هناك سدًّا لباب الشرك وعبادة الكواكب1. ومضت السنون على هذا الحال، إلا أن أعداء الإسلام لا يتركون للإسلام صفاءه، ولأهله سموهم وتمكنهم، وهم على عادتهم يتربصون بالمسلمين الدوائر، فإذا وجدوا ثغرة فيهم، أو لمسوا غفلة منهم استغلوها غاية الاستغلال في تنفيذ مخططاتهم التي غايتها إبعاد المسلمين عن دينهم. فوجد هؤلاء الثغرة لمنتظرة عندما فتح الخلفاء العباسيون باب تترجمة كتب الفلاسفة، فتسابق الفرس والصائبة والمجوس وغيرهم ليمدوا أيديهم لتحقيق ذلك، وليبذلوا الجهد والوقت في تنفيذ مخططاتهم، وتقربوا إلى الخلفاء بهذه الأعمال، فلما وجدوا لأنفسهم مكانة عندهم أرادوا منهم أن يسلكوا سلوك ملوك الفرس والروم في اتخاذ المنجمين مستشارين في جميع الأمور، واستطاعوا أن يفعلوا ذلك، فاتخذ بعض الخلفاء في بلاطهم منجمين إن لم يكن اعتقاداً فيهم فهو على الأقل استئناساً   1 "مجموع فتاوى ابن تيمية": (17/41) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بأكاذيبهم، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "أتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا حجر ضب تبعتموهم" 1. وساهم بعض هؤلاء المنجمين في جمع كتب الفلاسفة الأقدمين، فكانوا يعطون العطاء الجزيل لمن يحضر شيئاً منها وإن كان قليلاً. ودخلوا بين صفوف المسلمين وخالطوهم، ومال فريق من المنتسبين إلى الإسلام إليهم، وجعلوا أيديهم في أيديهم، ونصبوا أنفسهم الذراع الأيمن لهم، والستار المنيع الذي يتسترون خلفه، واتفقوا على إرجاع الجاهلية الأولى بين المسلمين، وناصروهم في كل مصر وعصر، واتخذوا طريقاً مموهاً لإقناع الناس بباطلهم، فادعوا أن هذه الكواكب صحائف الغيب تفتح لهم متى شاؤوا، ولما صارت لهم سلطة ودولة مكنوا الفلاسفة والمنجمين في الأرض، وقربوهم إليهم، وصرفوا عليهم الأموال تأييداً لهم، وإظهاراً لمعتقدهم. وقام علماء المسلمين من كل حدب وصوب يردون على هذا الباطل، ويفندونه ويبينون فساده وهلاك من اعتنقه، كما قام من عرف باطلهم من شعراء وأدباء وغيرهم بالتشهير بهم، وإظهار كذبهم وإفكهم. إلا أن بعض السذج من الناس انخدعوا بالأقوال البراقة وبالعبارات الجوفاء، فانجرفوا مع تيار هؤلاء، واتخذوا التنجيم صناعة، ومن النجوم مستنداً يتكئون عليه عند حلول الملمات، وما زالت هذه الطوائف في كل عصر تدعو إلى هذا الباطل وتوجه عدتها وعتادها للدعوة لهذه الصناعة، ولإقناع الناس بأن هذا السخف علم، وأن هذا الباطل حق، وأن هذه   1 أخرجه البخاري: (9/185) ، كتاب الاعتصام، ومسلم: (8/57) ، كتاب العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الكواكب صحائف الغيب، وأنها المؤثرة في أحوال البشر، بل في أحوال الكون كله، بالاستدلالات الفاسدة أحياناً، وبالتمويهات والخداع أحياناً أخرى. وفي العصر الحاضر، وبعد تقدم الوسائل الإعلامية ازداد نشاط هؤلاء المخادعين، وازداد انتشار هذا الجبت، وأصبح كل يدلي بدلوه في هذا المجال رجماً بالغيب وقولاً على الله بغير علم، وسخرت هذه الآلات وهذه الوسائل في خدمة هذه الصناعة. - أسباب اختيار البحث: ولقد رأيت أن تكون أطروحتي لنيل درجة الماجستير في هذا الموضوع، فجعلت عنوانها: "التنجيم والمنجمون، وحكم ذلك في الإسلام"، وكان اختياري لهذا الموضوع للأسباب التالية: 1- إن هؤلاء المنجمين استشرى خطرهم في هذا العصر، فلا تكاد تجد بلداً من البلدان إلا وتجد لهم فيه أثراً، فكان واجباً على كل مسلم الوقوف أمام هؤلاء، وبيان كذبهم بالحجة والبرهان. 2- رغبتي في رد أباطيل هؤلاء وكذبهم على الأنبياء، وبيان فساد استدلالهم. 3- إن هذا الموضوع لم يدرس دراسة علمية مفصلة –فيما أعلم- في العصر الحاضر، لذا رأيت أن الكتابة فيه جديرة بالبحث والاهتمام. - خطة البحث: وقد سرت في إنجاز هذا البحث على الخطة التالية: قسمته إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة. ذكرت في المقدمة سبب اختياري لهذا الموضوع والخطة التي سرت عليها، ومنهجي في البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أما التمهيد: فهو في بيان أن المتفرد بالخلق وتصريف الكون وعلم الغيب هو الله وحده، وفي بيان التعريف بالتنجيم وأقسامه. ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: أن الله هو المتفرد بالخلق والمتصرف في الكون، والعالم بالغيب وحده. المبحث الثاني: تعريف التنجيم. المبحث الثالث: أقسام التنجيم. - أما الباب الأول: ففي التنجيم في القديم والحاضر. وفيه خمسة فصول: الفصل الأول: التنجيم عند قوم إبراهيم. ويتضمن مبحثين: المبحث الأول: عبادة قوم إبراهيم للنجوم. المبحث الثاني: لم يكن خليل الرحمن منجماً. ويشتمل على ثلاثة مطالب: - المطلب الأول: لم يكن خليل الرحمن متعلقاً بالكواكب في قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} . - المطلب الثاني: لم يكن خليل الرحمن منجماً في قول الله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} . - المطلب الثالث: لم يكن خليل الرحمن معتقداً أن للفلك تدبيراً في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} . الفصل الثاني: تنزيه الأنبياء أن يكونوا منجمين. الفصل الثالث: التنجيم عند العرب (في الجاهلية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الفصل الرابع: دور أعداء الإسلام في نشر التنجيم بين المسلمين. ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: دور أهل الكتاب وغيرهم من المشركين في نشر التنجيم بين المسلمين. المبحث الثاني: دور الرافضة في نشر التنجيم بين المسلمين. الفصل الخامس: التنجيم في العصر الحاضر. - أما الباب الثاني: ففي أحكام التنجيم. وفيه ستة فصول: الفصل الأول: في الحكمة من خلق النجوم. الفصل الثاني: في حكم الاستسقاء بالنجوم. الفصل الثالث: في حكم تعلم علم الفلك. الفصل الرابع: في الأدلة على فساد صناعة المنجمين، وأنها ظنون كاذبة. الفصل الخامس: في شبهات المنجمين والرد عليها. الفصل السادس: في حكم التنجيم. ويشتمل على أربعة مباحث: المبحث الأول: حكم العمل بالتنجيم. المبحث الثاني: حكم تعلم علم النجوم دون العمل به. المبحث الثالث: حكم إتيان المنجمين وتصديقهم بما يخبرون به. المبحث الرابع: حكم الأجرة المأخوذة على صناعة التنجيم والواجب تجاه المنجمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أما الباب الثالث: ففيما يلحق بالتنجيم، وما قد يظن أنه منه، وهو ليس منه. وفيه فصلان: الفصل الأول: ما يلحق بالتنجيم. ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: حروف أبي جاد، والاستدلال بها على المغيبات. المبحث الثاني: الخط على الرمل، وما يلحق به، والاستدلال به على المغيبات. الفصل الثاني: أمور ليست من التنجيم، وقد يظن أنها منه: ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: توقع حدوث الكسوف والخسوف. المبحث الثاني: توقع أحوال الجو. ثم الخاتمة: وتضمنت أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا المبحث. منهج البحث: وقد سرت في بحثي هذا على منهج رسمته لنفسي، وهو كما يلي: الأول: قمت بعزو الآيات القرآنية التي وردت في الرسالة إلى مواضعها بذكر اسم السورة ورقم الآية. الثاني: خرجت الأحاديث من كتب السنن، ونقلت حكم العلماء على كل الأحاديث، إلا إذا كان الحديث في "الصحيحين" أو أحدهما فأكتفي بتخريجه لصحة الأحاديث فيهما، كما خرجت كثيراً من الآثار من كتب السنن، ووجدت بعضاً منها في غيرها، فأوردتها لموافقتها الحق. الثالث: قمت بترجمة الأعلام الوارد ذكرهم في الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الرابع: اجتهدت في بيان معنى الألفاظ والعبارات الغامضة الواردة في الرسالة. الخامس: قمت بشرح بعض المصطلحات التي يرد ذكرها في البحث. السادس: جعلت أول صحيفة في الباب في ذكر اسم الباب واسم الفصول التي تندرج تحته. السابع: التزمت أن لا استدل إلا بالأحاديث الصحيحة، إلا إذا كان ثم دليل ضعيف يوافق الأدلة الصحيحة فإني قد أورده مع بيان ضعفه. الثامن: حاولت توثيق أقوالهم الدالة على فساد صناعتهم من كتبهم، وقد وجدت الكثير منها، وما لم أجده اكتفيت بالإحالة إلى الكتب التي ذكرت ذلك. التاسع: قمت بالرد على أدلة المنجمين بنصوص الكتاب والسنة والأدلة والعقلية ما أمكن ذلك، وراعيت في ذكر شبهاتهم التي استندوا عليها أن أوثقها من مصادرهم ما أمكن ذلك. العاشر: ناقشت الشبة التي استدلوا بها، إن كانت من القرآن بينت وجه فساد استدلالهم مع بيان المعنى الصحيح للآية، وإن كانت أحاديث عاملتها معاملة حديثية، فأورد شبهتهم التي استدلوا بها، ثم أبين درجتها من الصحة والضعف، فإن كانت صحيحة وجهتها إلى المعنى الصحيح الذي يظهر من النص مع بيان فساد استدلالهم. الحادي عشر: بينت دور الرافضة في نشر التنجيم، واعتمدت في ذلك على أقوالهم، وعلى الكتب المشهورة عندهم. الثاني عشر: إذا استخلصت فائدة من نص ما، أو كتاب ما، ولم أقف على قول لأحد في ذلك فإني أهبر بكلمة: (مستفاد من كذا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الثالث عشر: قمت بعمل فهرس للآيات القرآنية، وآخر للأحاديث النبوية، وثالث للآثار، ورابع للأعلام المترجم لهم. الرابع عشر: قمت بعمل فهرس للمصادر والمراجع التي رجعت لها. الخامس عشر: ذيلت البحث بعمل فهرس تفصيلي للموضوعات. وقد بذلت في كتابة بحثي هذا الوقت والجهد العظيمين، ونظراً لأهمية الموضوع فقد كان يتطلب الوقوف على مصادر المنجمين حتى يكون الرد عليهم أبلغ، والحجة عليهم أقوى، ومن فمك أدينك، فعزمت على السفر والتنقيب عن مصادرهم، فذهبت إلى العراق ومصر، وحصلت على كتب من تركيا، كما زرت معهد الملك فيصل للدراسات الإسلامية بالرياض، وزرت بعض الجامعات، كجامعة أم القرى وجامعة الملك عبد العزيز مما كون عندي مجموعة من كتب المنجمين، وفكرة واضحة عن المواضيع التي تعرضت لها في هذا البحث ثم كتبت هذا البحث مستعيناً بالله، ومحاولاً تحري العدل والحق في أقوالي وأحكامي، متبعاً قول الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 1، فما كان في هذا البحث من حق وصواب فهو من توفيق الله الذي لا تعد آلاؤه ولا تحصى، وما كان فيه من خطأ وسهو فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، وإني لرجاع إلى الحق إن شاء الله.   1 سورة المائدة، الآية: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 تمهيد المطلب الأول: أن الله هو المتفرد بالخلق، والمتصرف في الكون، والعالم بالغيب وحده ... التمهيد ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: إن الله هو المتفرد بالخلق، والمتصرف في الكون، والعالم بالغيب وحده. المبحث الثاني: تعريف التنجيم. المبحث الثالث: أقسام التنجيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 المبحث الأول: أن الله قو المتفرد بالخلق، والمتصرف في الكون، والعالم بالغيب وحده وفيه مسألتان: - أما المسألة الأولى: وهي أن الله هو المتفرد بالخلق، والمتصرف في الكون: فقد بينها الله تعالى في كتابه العزيز أتم بيان، وضمن هذا البيان أدلة عقلية منطقية تثبت إثباتاً لا غمةض فيه أن الله هو المتفرد بالخلق والتدبير وحده دون شريك. وضمن هذه النصوص منهجاً واضحاً بطريق برهاني لا يسع الخصم إلا التسليم له. وقد قسمت الآيات الواردة في هذه المسألة بحسب دلالتها إلى ما يأتي: أولاً: الاستدلال على انفراد الله بالخلق: وجه الله سبحانه خطابه للناس بأنه خلق جميع ما في الأرض من الموجودات لأجلكم، لتنتفعوا بها في دنياكم، وتستدلوا بها على مولاكم1، فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2.   1 "تفسير أبي السعود": (1/96) . 2 سورة البقرة، الآية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ووجه الأنظار إلى أنه هو المتفرد بخلق السموات والأرض وما فيهن دون كل ما سواه1، بقوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} 2. ولم يذكر خلق كل ما في السموات والأرض على العموم فقط، بل بين المقصود من هذا العموم بأنه شامل لما خلق فيهما من جليل ودقيق، مما يطلق عليه اسم (شيء) ، ليدلهم ذلك على وحدانيته تعالى3. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} 4. وبين سهولة الخلق عليه، وأنه لم يكرثه ولم يعجزه خلق شيء5، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 6. ثم لفت الانتباه إلى أنه خالق هذا الكون كله دون شريك، فهو المنفرد بخلق كل شيء، فالأشياء كلها خلقه وملكه، وعلى المماليك طاعة مالكهم بإفراده بالعبادة والخضوع له7، فقال: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ   1 "تفسير أبي السعود": (7/241) . 2 سورة الأنعام، الآية: 73. 3 "تفسير أبي السعود": (2/326) . 4 سورة الأعراف، الآية: 185. 5 "تفسير ابن كثير": (4/171) . 6 سورة الأحقاف، الآية: 33. 7 انظر: "تفسير الطبري": (18/180) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 1. وأن الله الذي لكم كل شيء وحده، وجعل في السماء والأرض معايشكم وأقواتكم، وأقوات أنعامكم التي بها حياتكم إلى غير ذلك من الأمور التي فيها مصالحكم ومنافعكم: هو المستحق لشكر هذه النعم وحده، لأنه الذي خلقها لكم2، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 3. ثانياً: الاستدلال على تدبير الله وحده لهذا الكون، وأن جميع الخلق مقهورون خاضعون لله تعالى: يمتن الله على الناس بتسخير كل ما في السموات والأرض من الكواكب والجبال والبحار والأنعام والرياح، وجميع ما ينتفع به، لهم من عنده وحده لا شريك له4، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 5. وبهذا تبين أن هذا الكون كله مسخر لله تعالى، خاضع لأمره6، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 7.   1 سورة الفرقان، الآية: 2. 2 انظر: "تفسير الطبري": (5/144) . 3 سورة الأنعام، الآية: 1. 4 "تفسير ابن كثير": (4/148) . 5 سورة الجاثية، الآية: 13. 6 "تفسير الطبري": (8/206) . 7 سورة الأعراف، الآية: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 إذا اتضح ذلك: فاعلم أن الله هو المتفرد بالاختيار، وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده، ومرجعها إليه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن1، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2. وهو مصرف الأمور ومدبرها، ما من شيء إلا ويجري على تقديره، قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 3. وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 4. وإن كل من السموات والأرض استسلم لله تعالى طوعاً وكرهاً، فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرهاً، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع5، قال   1 "تفسير ابن كثير": (3/397) . 2 سورة القصص، الآية: 68. 3 سورة البقرة، الآيتان: 163، 164. 4 سورة يونس، الآية: 3. 5 "تفسير ابن كثير": (1/378) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} 1. وهو مالك السموات والأرض ومن فيهمن، والمتصرف فيهم، وهو خالقهم ورازقهم ومقدرهم ومسخرهم ومصرفهم كما يشاء2، قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 3، وقال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} 4. فالإنسان إذا فكر في نفسه رآها مدبرة، وعلى أحوال شتى مصرفة، كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحماً وعظماً، لأنه لا يقدر أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل التي هي حال كمال عقله وبلوغ رشده عضواً من الأعضاء، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز5، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 6. ومفاتيح الخير ومغالقه كلها بيده، فما يفتح الله للناس من خير فلا مغلق له ولا ممسك عنهم، لأن ذلك أمره لا يستطيع رد أمره أحد،   1 سورة آل عمران، الآية: 83. 2 "تفسر ابن كثير": (1/160) . 3 سورة البقرة، الآية: 116. 4 سورة المزمل، الآية: 9. 5 "الاعتقاد" للبيهقي: (ص43) ، و "تفسير القرطبي": (2/202) . 6 سورة المؤمنون، الآيات: 12-14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وكذلك ما يغلق من خير عنهم فلا يبسطه عليهم أحد ولا يفتحه لهم، فلا فاتح له سواه1، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2. ثالثاً: الاستدلال على فساد الكون لو كان فيه اله غير الله يدبر لكون معه: لو قد تعدد الآلهة لا نفرد كل منهم بما خلق، فما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظم متنسق، كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض في غاية الكمال قال تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} 3. ثم لو تعددت الآلهة لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض، وهذا لم يحصل4، قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 5. ولو كان في السموات والأرض آلهة معبودون غير الله لبطلتا بما فيهما من المخلوقات6، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 7.   1 انظر: "تفسير الطبري": (22/115) . 2 سورة فاطر، الآية: 2. 3 سورة الملك، الآية: 3. 4 "تفسير ابن كثير": (3/254) . 5 سورة المؤمنون، الآية: 91. 6 انظر: "فتح القدير" للشوكاني: (3/402) . 7 سورة الأنبياء، الآية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ووجه الفساد أن وجود إله آخر يستحق العبادة مع الله يستلزم أن يكون كل واحد منهما قادراً على الاستبداد بالتصرف، فيقع عند ذلك التنازع والاختلاف، ويحدث بسببه الفساد1. رابعاً: الاستدلال على عجز غير الله عن الخلق والتدبير: لفت الله عقول الناس إلى التفكير والنظر في الخالق: هل لهم من إله خالق إلا الله الذي بيده مفاتيح الأرزاق ومغالقها2؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 3. وأخبر عن الأوثان أنها مخلوقة لا تضر ولا تنفع، ومن كان كذلك لا يستحق أن يعبد4، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 5. وأن كل من عبد من دون الله لا يملك تدبير نفسه فضلاً عن تدبير غيره، فضلاً عن تدبير الكون، فهو لا يملك لنفسه دفع ضر أو جلب نفع، ولا يملك الموت ولا الحياة، فمن كان كذلك كيف يكون مدبراً لهذا الكون؟ وكيف يعبد من دون الله6؟.   1 انظر: "فتح القدير": (3/402) . 2 انظر: "تفسير الطبري": (22/115) . 3 سورة فاطر، الآية: 3. 4 انظر: "تفسير الطبري": (10/93) . 5 سورة النحل، الآية: 17. 6 "تفسير الطبري": (13/132) ، وانظر: "تفسير ابن كثير": (3/309) ، و"فتح القدير" للشوكاني: (4/61) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 1، {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 2. وإذا كان الله هو خالق السموات والأرض وما فيهن، فأي شيء خلق الذين من دونه مما يعبد المشركون من الأصنام والأنداد3؟ قال تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 4. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 5. فإذا كانت الآلهة الباطلة لم تستقل بخلق شيء من الأرض، ولم يكن لهم شرك في السموات، لا في الخلق ولا في الملك والتصرف دل ذلك على أن الله هو المتفرد بالخلق والتدبير6. بل إن هذه الآلهة الباطلة لا يقتصر عجزها على الخلق والتدبير، بل هي أعجز من ذلك بكثير، فهي لا تستطيع أن تستنقذ ما سلبها   1 سورة الفرقان، الآية: 3. 2 سورة الرعد، الآية: 16. 3 انظر: "تفسير الطبري": (21/66) ، و "تفسير ابن كثير": (3/442) . 4 سورة لقمان، الآية: 11. 5 سورة الأحقاف، الآية: 4. 6 انظر: "تفسير ابن كثير": (4/153) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الذباب1، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 2. خامساً: الاستدلال على أن الكفار كانوا مقرين بانفراد الله بالخلق وتسخير الكون: كان المشركون بالله العابدون معه غيره معترفين بأن خالق السموات والأرض هو الله وحده لا شريك له3، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 4. وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 5. وكما أن هؤلاء المشركين مقرون ومعترفون بأن الله هو المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار وأنه الخالق الرازق لعباده وأنه مقدر آجالهم واختلافها واختلاف أرزاقهم ففاوت بينهم، فمنهم الغني والفقير، وهو العليم بما يصلح كلاًّ منهم، ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، وأنه المستقل بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها6، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ   1 انظر: "تفسير الطبري": (17/202، 203) ، و "تفسير ابن كثير": (3/235) . 2 سورة الحج، الآية: 73. 3 انظر: "تفسير ابن كثير": (4/123) . 4 سورة الزخرف، الآية: 9. 5 سورة لقمان، الآية: 25. 6 انظر: "تفسير ابن كثير": (3/420) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1. وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 2. بل إنهم معترفون بأن الضرر والنفع من الله، وأن هذه الأصنام والأوثان لا تملك من الأمر شيئاً، فلا تستطيع دفع ضر ولا جلب نفع –فضلاً عن الخلق والتدبير- وهذا مقرور في قلوبهم وإن لم يعترفوا به صراحة3، {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّا} 4. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 5. فترك الجواب هنا لاستغناء السامع بمعرفة ذلك، ودلالة ما ظهر من الكلام عليه، والمعنى: فإنهم سيقولن: (لا) 6. - أما المسألة الثانية: وهي أن الله هو العالم بالغيب وحده: فقد بينها الله في كتابه كذلك أتم بيان، حيث أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم معلماً لجميع الخلق: أنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله عز وجل فإنه المنفرد بذلك وحده لا شريك له7، فقال:   1 سورة العنكبوت، الآية: 61. 2 سورة العنكبوت، الآية: 63. 3 انظر: "تفسير الطبري": (24/7) . 4 سورة النمل، الآية: 14. 5 سورة الزمر، الآية: 38. 6 "تفسير الطبري": (24/7) . 7 "تفسير ابن كثير": (3/372) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 1. وقال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 2. أخبر سبحانه أن خزائن الغيب عنده وحده3، ثم فصل المغيبات فذكر بعضها، فقال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 4. أخبر سبحانه أنه يعلم ذلك كله دون كل ما سواه، وأنه عليم بكل شيء لا يخفى عليه شيء خبير بما هو كائن وما قد كان5. وقال: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} 6. ونفى الله عن الملائكة علم الغيب، بل نزه الملائكة ربهم وقدسوه أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئاً إلا ما علمهم الله تعالى7، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ   1 سورة النمل، الآية: 65. 2 سورة الأنعام، الآية: 59. 3 انظر: "تفسير البيضاوي": ص178. 4 سورة لقمان، الآية: 34. 5 "تفسير الطبري": (21/87) . 6 سورة فصلت، الآية: 47. 7 انظر: "تفسير ابن كثير": (1/74) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} 1. وبين سبحانه أن الجن لا يعلمون الغيب فقال: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} 2. فلما أمضى الله قضاءه على سليمان بالموت فمات، لم يدل الجن على موت سليمان إلا دابة الأرض (وهي الأرضة) وقعت في عصاه التي كان متكئاً عليها فأكلتها، فلما هر سليمان ساقطاً بانكسار عصاه، تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب الذي يدعون علمه ما لبثوا في العذاب المهين المذل حولاً كاملاً بعد موت سليمان، وهم يحسبون أن سليمان حي3. ونفى أن يكون خير البشر عالماً بالغيب، فقال: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 4. وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 5.   1 سورة البقرة، الآيات: 31-33. 2 سورة سبأ، الآية: 14. 3 انظر: "تفسير الطبري": (22/73، 74) . 4 سورة الأعراف، الآية 188. 5 سورة الأحقاف، الآية 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 المطلب الثاني: تعريف التنجيم ... المبحث الأول: تعريف التنجيم - التعريف اللغوي: التنجيم: مصدر الفعل نجّم، وهو مأخوذ من النَّجْم، وهو: الكوكب، وهو اسم علم على الثريا1. ونجّم وتنجّم: إذا راعى النجوم من سهر2. والمنجّم والمتنجّم: الذي ينظر في النجوم يحسب مواقيتها وسيرها3. - التعريف الاصطلاحي: تتضمن صناعة التنجيم معرفة أحكام النجوم المتعلقة بالعالم السفلي، وتأثيرات النجوم فيه4. وبناء على هذا سنستعرض أقوال العلماء في تعريف التنجيم الاصطلاحي: فقد عرفه الخطابي وتابعه البغي بأنه: (هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع، وستقع في مستقبل الزمان، كإخبارهم بأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر وظهور الحر والبرد وتغيرّ الأسعار وما كان في معانيها من الأمور. يزعمون أنهم يدركون معرفتها بسير الكواكب في مجاريها، وباجتماعها واقترانها، ويدَّعون لها   1 انظر: "الصحاح": (5/239) . 2 انظر: "جمهرة اللغة": (2/115) . 3 انظر: "العين": (6/154) ، و"جمهرة اللغة": (2/115) ، و"لسان العرب": (12/570) ، و"القاموس المحيط": (4/178) ، و"تاج العروس": (9/72، 73) . 4 انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام": (35/192) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 تأثيراً في السفليات وأنها تتصرف على أحكامها وتجري على قضايا موجبها) 1. قلت: إن الخطابي رحمه الله مثَّل بأوقات هبوب الرياح.. إلخ مع وجود أمثلة أوضح من هذه، كإخبار المنجمين بالسعودة والنحوسة، وبالموت والحياة، وبزوال الدول وقيامها، وبفناء العالم ودوامه، ونحو ذلك مما يكثر ذكره على ألسنة المنجمين. وعرفه طاش كبرى زادة2 بأنه علم يتعرف منه على الاستدلال بالتشكيلات الفلكية من أوضاعها، وهي أوضاع الأفلاك والكواكب من المقابلة والمقارنة والتثليث والتسديس والتربيع3 على الحوادث الواقعة في عالم الكون والفساد من أحوال الجو والمعادن والنبات والحيوان4. قلت: إن هذا التعريف بين الحكم بالنجوم، ولم يذكر تأثيراتها.   1 "معالم السنن": (5/371-372) ، و"شرح السنة" للبغوي: (12/183) . 2 هو أحمد بن مصطفى بن خليل طاشكبري زادة، مؤرخ، تركي الأصل، مستعرب. تنقل في البلاد التركية مدرساً للفقه والحديث وعلوم العربية، وولي القضاء بالقسطنطينية، توفي سنة ثمان وستين وتسعمائة. انظر: "الأعلام": (1/257) . 3 المقابلة: بمعنى أن يكون الكوكبان متقابلين، أي بينهما مائة وثمانون درجة نصف الفلك. والمقارنة: بمعنى أن يكون الكوكبان في درجة واحدة من الفلك. والتثليث: بمعنى أن يكون بين الكوكبين مائة وعشرون درجة ثلث الفلك. والتسديس: بمعنى أن يكون بين الكوكبين ستون درجة سدس الفلك. والتربيع: بمعنى أن يكون بين الكوكبين تسعون درجة ربع الفلك."رسائل إخوان الصفا": (1/152) . 4 "مفتاح دار السعادة ومصباح السيادة": (1/337) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وعرفه حاجي خليفة1 بقوله: هو علم يعرف به الاستدلال على حوادث الكون والفساد بالتشكيلات الفلكية، وهي أوضاع الأفلاك والكواكب كالمقارنة والمقابلة والتثليث والتسديس والتربيع إلى غير ذلك2. ويؤخذ على هذا التعريف أنه لم يتعرض لتأثير الكواكب على الحوادث الأرضية. أما التعريفات التي خلت عن مثل هذه الاعتراضات فهي: تعريف ابن تيمية بأنه هو: الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية، والتمزيج بين القوى الفلكية والقوابل الأرضية كما يزعمون3. وعرفه ابن خلدون في "مقدمته" فقال: ما يزعمه أصحاب هذه الصناعة من أنهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها من قبل معرفة قوى الكواكب وتأثيرها في المولدات4 العنصرية مفردة ومجتمعة، فتكون لذلك أوضاع الأفلاك والكواكب دالة على ما سيحدث من نوع من أنواع الكائنات الكلية والشخصية5.   1 هو مصطفى بن عبد الله كاتب حلبي المعروف بـ (حاجي خليفة) ، مؤرخ، بحاثة، تركي الأصل مستعرب، مولده ووفاته في القسطنطينية، وكانت وفاته سنة سبع وستين وألف للهجرة. انظر: "كشف الظنون": المقدمة، و"الأعلام": (7/236) . 2 "كشف الظنون": (2/1930) . 3 انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام": (35/192) . 4 المولّد: المحدث من كل شيء. "لسان العرب": (3/470) . 5 "مقدمة ابن خلدون": ص519-520. ويقصد بالأنواع الكلية، الحوادث التي تحدث للعالم أو للدول. وبالأنواع الشخصية: الحوادث التي تحدث للأشخاص من موت وحياة ونحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وفي نظري أن تعريف ابن خلدون أوضح التعريفات، إذ إن التعريفات الماضية لا تسلم من الملحوظات كما بينت ذلك في موضعه، وتعريف ابن تيمية رحمه الله إلا أن فيه إجمالاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 المطلب الثالث: أقسام علم النجوم ... المبحث الثالث: أقسام علم النجوم ينقسم علم النجوم عند الإطلاق إلى ثلاثة أقسام1: حسابيات، وطبيعيات، ووهميات2. - القسم الأول: كعمل التقاويم، وحل الزيجات، واستخراج التواريخ، ونحو ذلك3. - القسم الثاني: الطبيعيات: كالاستدلال من انتقال الشمس في البروج الفلكية على الفصول كالحر والبرد والاعتدال4، وهذا ما عبر عنه الخطابي والبغوي بقولهما: (أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والحس كالذي يعرف به الزوال ويعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نهي عنه) 5. ويدخل في هذا القسم أيضاً العلم بأسماء الكواكب ومناظرها ومطالعها ومساقطها وسيرها والاهتداء بها، وانتقال العرب عن   1 قد قسمها بعض العلماء على غير هذا التقسيم كالخطابي في "معالم السنن": (5/371) ، والخطيب البغدادي في القول في النجوم ق1 أ، والبغوي في "شرح السنة": (12/183) ، وابن رجب الحنبلي في "فضل علم السلف على علم الخلف": (ص134) ، وكلها بمعنى واحد وإن اختلفت الألفاظ، واخترت تقسيم حاجي خليفة لما يحويه من التفصيل. 2 "كشف الظنون": (2/1930) . 3 انظر: "رسائل إخوان الصفا": (1/114) . 4 "كشف الظنون": (2/1930) . 5 "معالم السنن": (5/371، 372) ، وانظر: "شرح السنة": (12/183) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 مواردهم1 المائية بحسب ما اعتادوا من أوقاتها، وتخيرهم الأزمان لنتاج مواشيهم، ولضراب الفحول، ومعرفتهم بالأمطار على اختلافها، والتوصل إلى جهة القبلة بالنجوم، ومعرفة مواقيت الصلاة وساعات الليل بظهورها وأفولها2، وهذا ما يسمى بعلم التسيير3. - القسم الثالث: الوهميات: وهو ما يزعمه المنجمون من أحكام النجوم، وتأثيرها في هذا العالم. وهذا القسم نوعان: النوع الأول: اعتقاد أن هذه الكواكب تدبر هذا الكون، وأنها أحياء ناطقة مختارة، منها يصدر الخير والشر، وأن حركاتها تحدث جميع حوادث الكون والفساد4. ومعتقدو هذا المذهب انقسموا إلى أربعة أصناف: الصنف الأول: أصحاب الهياكل5: وهم الذي اعتقدوا أن الهياكل (الكواكب) آلهة وأرباب معبودة، وأن الله رب الأرباب وإليه التوسل والتقرب. والتقرب إلى هذه الهياكل تقرب إلى الروحانيات، والتقرب إلى الروحانيات تقرب إلى الله تعالى. وهذه الهياكل هي المدبرة لكل ما في عالم الكون والفساد. وهي قديمة فاعلة ناطقة، ممكنة الوجود لذواتها، واجبة   1 الموارد: المناهل، والمنهل: المشرب. انظر: "لسان العرب": (3/456) ، (11/681) . 2 انظر: "حكم علم النجوم": (ق1أ) . 3 "فضل علم السلف على الخلف": ص134. 4 انظر: "السر المكتوم" للرازي: (ق184ب) . 5 نسبة إلى الكواكب، وأطلقوا اسم الهياكل على الكواكب لأنهم اعتقدوا أن لكل روحاني كوكب، ونسبة الروحاني إلى الهيكل الذي اختص به كنسبة الروح إلى الجسد. انظر: "الملل والنحل": (2/7) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الوجود بإيجاب المؤثر الأول لها بذلك. وهذا مذهب بعض قوم إبراهيم وبعض الفلاسفة1. الصنف الثاني: قالوا: إن هذه الكواكب والأفلاك واجبة الوجود لذواتها، وليس لها مبدأ أول أصلاً، بل هي الموجدة لهذا العالم. وهم الصابئة الدهرية2. الصنف الثالث: وهم الذين اعتقدوا أن هذه الكواكب مخلوقة، خلقها فاعل مختار، وهو الإله الأعظم، وأودع في كل كوكب منها قوة مخصوصة، وفوض تدبير العالم إليها. قالوا: وهذا لا يقدح في جلال الله وكبريائه، فأي خلل في أن يكون للملك عبيد منقادون لأمره، ثم إنه فوض إلى كل واحد منهم تدبير مملكة طرف معين، وسلطنة إقليم معين3. وهذا مذهب إخوان الصفا4، والرازي5، وغيرهم من الفلاسفة.   1 انظر: "الملل والنحل": (2/6-8) ، و "السر المكتوم": (ق 185 أ) ، و"أبكار الأفكار" نقلاً عن"الصابئة قديماً وحديثاً": ص17-19، و"الزواجر": (2/101) . 2 "السر المكتوم": (ق 184 ب) ، و"الزواجر": (2/101) . 3 انظر: "رسائل إخوان الصفا": (1/144-145) ، و"السر المكتوم" للرازي: (ق 185 أ) ، و"تفسير أبي السعود": (1/164) . 4 هو أبو سليمان محمد بن معشر البستي، ويعرف بالمقدسي. وأبو الحسن علي بن زهرون الزنجاني. وأبو أحمد النهر جوري. والعوفي. وزيد بن رفاعة. وهم حكماء اجتمعوا وصنفوا رسائل يجمعون فيها بين الفلسفة والدين سموها "رسائل إخوان الصفا". وكان ذلك بعد المائة الثالثة للهجرة. ويتسترون بين المسلمين باسم التشيع. انظر: "الإمتاع والمؤانسة": (2/4) ، و"تاريخ حكماء الإسلام": (35-36) ، و"مجموع الفتاوى": (35/133-136) ، (12/23) . 5 انظر: "النبوات، وما يتعلق بها" للرازي: ص214، 215، والرازي هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي ابن علي القرشي البكري، أبو عبد الله فخر الدين الرازي، المفسر، المتكلم، ويقال له: ابن خطيب الري. توفي سنة ست وستمائة للهجرة. انظر: "الكامل" لابن الأثر: (12/288) ، و "البداية والنهاية": (13/60) ، و"الأعلام": (6/313) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ومن أقوال الرازي في ذلك: (ثبت أن القول بوجود أرواح عالية هي المدبرة لأحوال هذا العالم لا بد منه، وبهذا الطريق لا يتم السعي في إحداث شيء غريب في هذا العالم إلا بالاستعانة بتلك الأرواح) ، وقال أيضاً: (فثبت بهذا بيان أن حدوث الحوادث في هذا العالم منوطة ومربوطة بالحركة المستديرة الفلكية المبرأة عن الانقطاع والتغير) 1. ومن أقوال إخوان الصفا في ذلك: [إن كواكب الفلك هم ملائكة الله وملوك سماواته، وخلقهم الله تعالى لعمارة عالمه، وتدبير خلائقه، وسياسة بريتة، وهم خلفاء الله في أفلاكة] 2. وقال أيضاً: [واعلم أن أول قوة تسري من النفس الكلية نحو العالم فهي في الأشخاص الفاضلة النيرة التي هي الكواكب الثابتة، ثم بعد ذلك في الكواكب السيارة، ثم بعد ذلك فيما دونها من الأركان الأربعة، وفي الأشخاص الكائنة منها من المعادن والنبات والحيوان] 3. الصنف الرابع: وهم الحلولية. وهؤلاء زعموا أن الإله المعبود واحد في ذاته، وأنه أبدع أجرام الأفلاك وما فيها من الكواكب، وجعل الكواكب مدبرة لما في العالم السفلي، فالكواكب آباء أحياء ناطقة، والعناصر أمهات، وما تؤديه الآباء إلى الأمهات تقبلها بأرحامها فتحمل   1 المصدر السابق نفسه. 2 انظر: "رسائل إخوان الصفا": (1/145) . 3 المصدر نفسه: (1/146) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 من ذلك المواليد وهي المركبات، والإله تعالى يظهر في الكواكب السبعة ويتشخَّص بأشخاصها من غير تعدد في ذاته، وقد يظهر أيضاً في الأشخاص الأرضية الخيرة1. النوع الثاني: اعتقاد أن الخالق والمدبر هو الله، وأن للشمس والقمر وسائر الكواكب تأثيرا في هذا الكون من باب التجوز والتوسع، ولكن الله أجرى الحوادث على الأرض وجعل حركات الكواكب في العادة علامات ودلالات عليها قبل حدوثها. وهذا ما ذهب إليه ابن طاووس والبهائي من الشيعة الجعفرية وغيرهم. ومن أقوالهم الدالة على مذهبهم هذا: قول علي بن موسى بن طاووس: " إنما صح من علم النجوم القول بأنها دلالات وعلامات على الحادثات بقدرة الفاطر لها الآمر بها في الدلالات ". وهذا القسم الثالث هو المسمى بعلم التأثير.   1 انظر: "الملل والنحل": (2/54-55) . وسماهم الشهرستاني (الحرانية) ، و"أبكار الأفكار" نقلاً عن "الصابئة قديماً وحديثاً": ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الباب الأول: التنجيم في القديم والحاضر الفصل الأول: التنجيم عند قوم إبراهيم المبحث الأول: عبادة قوم إبراهيم للنجوم المبحث الأول: عبادة قوم إبراهيم للنجوم ... الباب الأول: التنجيم في القديم والحاضر ويشتمل على خمسة فصول: الفصل الأول: التنجيم عند قوم إبراهيم. الفصل الثاني: تنزيه الأنبياء أن يكونوا منجمين. الفصل الثالث: التنجيم عند العرب (في الجاهلية) . الفصل الرابع: دور أعداء الإسلام في نشر التنجيم بين المسلمين. الفصل الخامس: التنجيم في العصر الحاضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الفصل الأول: التنجيم عند قوم إبراهيم ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: عبادة قوم إبراهيم للنجوم. المبحث الثاني: لم يكن خليل الرحمن منجماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 المبحث الأول: عبادة قوم إبراهيم للنجوم قوم إبراهيم هم الكشدانيون الذين كانوا يعبدون الكواكب في قديم الزمان، ويزعمون أنها المدبرة لهذا العالم السفلي، وأن الخير والشر صادر منها. ونشأت عبادة الكواكب عندهم من التعلق بالملائكة، واعتقاد أنهم وسطاء بين الله وبين خلقه، وأنهم موكلون بتصريف هذا العالم، ثم تنبهوا إلى أن الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام المرئية إلى الله تعالى، وأنها أحياء ناطقة مدبرة للعالم وأنها بالنسبة للملائكة كالروح للجسد، فهي الهياكل، والملائكة الأرواح1، وأنها متصفة بصفات مخصوصةـ ولوجود هذه الصفات استحقت أن تكون آلهة تعبد، وهذه الصفات هي: 1- أن هذه الأفلاك متحركة بحركة إرادية، وهي نفوس عالمة مدركة، وهي علل لهذه النفوس البشرية. قالوا: إن جملة الفلك كجملة البدن، والكواكب كالقلب، وكما أن التعلق الأول بالنفس بالقلب، ثم بواسطته للبدن، فكذلك الأرواح الفلكية لابد وأن ينسحب عنها قوى كبيرة، ويكون لكل واحد منها   1 قد قسمها بعض العلماء على غير هذا التقسيم كالخطابي في "معالم السنن": (5/371) ، والخطيب البغدادي في القول في النجوم ق1 أ، والبغوي في "شرح السنة": (12/183) ، وابن رجب الحنبلي في "فضل علم السلف على علم الخلف": (ص134) ، وكلها بمعنى واحد وإن اختلفت الألفاظ، واخترت تقسيم حاجي خليفة لما يحويه من التفصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 قوى خاصة بجانب معين من جوانب الفلك1. 3- أن الأفلاك والكواكب مدركة للجزئيات والكليات. 4- إن هذه الكواكب عالمة بجميع ما يجري من الحوادث في هذا العالم سواء كانت هذه الحوادث طبيعية أو قسرية أو اختيارية. 5- زعموا أن الكواكب صور الحيوانات في العالم. 6- قالوا: إن العلة يجب أن تكون أكمل من المعلول، وهذه الصور العالية علة للصور السفلية، فيجب أن تكون أكمل منها، فلا يبعد أن يقال: إنها على بعدها من هذا العالم تحس بكل ما في هذا العالم، وتسمع دعاء البشر، وتبصر تضرعهم، وتشم روائح دخنهم وبخوراتهم، ولا يبعد أن يكون لها ولأرواحها وأعوانها أسماء مخصوصة، ولا يبعد أن تتجلى لمن يحمدها ويتضرع إليها، وتوحي أسماءها وأسماء أعوانها إلى ذلك الداعي2. 7- اعتقدوا أن الكواكب والأفلاك ممكنة الوجود لذواتها، واجبة الوجود بإيجاب المؤثر الأول لها، وليس في عالم الكون والفساد فاعل قديم مختار إلا الأفلاك والكواكب3. ثم إنهم لما اعتقدوا أن هذه الكواكب متصفة بهذه الصفات بالإضافة إلى اعتقادهم أن الملائكة تختلف فيما بينها وبين الله، وأن كل ما يحدث في هذا العالم إنما هو على قدر ما تجري به الكواكب عظموها، وتعرفوا على بيوتها ومنازلها ومطالعها ومغاربها، وعلى اتصالاتها على أشكال الموافقة   1 "كشف الظنون": (2/1930) . 2 انظر: "رسائل إخوان الصفا": (1/114) . 3 "كشف الظنون": (2/1930) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 والمخالفة مرتبة على طبائعها المزعومة، ثم على تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها، فعملوا الخواتيم، وتعلموا العزائم، وتضرعوا إليها بالدخن وتقريب القرابين ثم عينوا لكل هيكل يوماً، وراعوا فيه ساعاته الأولى، وتختموا بخاتمة المعمول على صورته، ولبسوا اللباس الخاص به، وتبخروا ببخوره، ودعوا بدعواته ... وهكذا. وكانوا يتقربون إلى الهياكل تقرباً إلى الروحانيات، ويتقربون إلى الروحانيات تقرباً إلى الباري تعالى، وهؤلاء يسمون أصحاب الهياكل1. فلما كانت هذه الكواكب يختفي أكثرها في النهار وفي بعض الليالي لما يعرض في الجو من الغيوم والضباب ونحو ذلك رأوا أن ينصبوا لهذه الكواكب أصناماً وتماثيل على هيئة الكواكب السبعة حينما تصدر أفعالها عنها –كما يزعمون- كل تماثيل يقابل هيكلاً، فكانوا يتقربون إلى هذه التماثيل في الساعات المحمودة للكواكب عندهم، فيلبسون لباسه، ويتختمون بخاتمه، ويتبخرون ببخوره الخاص به، ويتضرعون بالدعاء عندها، ويسألون حاجاتهم منها. واعتقدوا أن التقرب إلى هذه الأصنام هو الوسيلة إلى الهياكل التي هي الوسيلة إلى الروحانيات، التي هي وسيلة إلى الله تعالى. وهؤلاء يسمون أصحاب الأشخاص2. لذلك أبطل الخليل عليه السلام مذاهب هؤلاء، أصحاب الهياكل وأصحاب الأشخاص بما قص الله تعالى عنه3.   1 "معالم السنن": (5/371، 372) ، وانظر: "شرح السنة": (12/183) . 2 الموارد: المناهل، والمنهل: الشرب. انظر: "لسان العرب": (3/456) ، (11/681) . 3 انظر: "حكم علم النجوم": (ق 1 أ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ففي إبطاله لمذهب أصحاب الهياكل قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 1. وفي إبطاله لمذهب أصحاب الأشخاص قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} 2.   1 "فضل علم السلف على علم الخلف": ص134. 2 انظر: "السر المكتوم" للرازي: (ق 184 ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 المبحث الثاني: لم يكن خليل الرحمن منجما المطلب الأول: لم يكن خليل الرحمن متعلقا بالكواكب في قوله تعالى: {فلما جن عليه الليل وراء كوكبا قال هذا ربي فلما قال قال لا أحب الأفلين} ... المطلب الأول: لم يكن خليل الرحمن متعلقاً بالكواكب في قول الله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِين} . إن الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره، وفي عقله ودينه، واستعد بها لأن يخصه الله بفضله ورحمته، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} 1، وقال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 2، وقال الله تعالى لما ذكر الأنبياء بقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3، فأخبر أنه اجتباهم وهداهم4. ومع ذلك نجد من زعم أن إبراهيم عليه السلام اعتقد في طفولته أو بعد بلوغه أن إلهه هو الكوكب أو القمر أو الشمس ليعضد أصلاً من أصوله   1 سورة الزخرف، الآيتان: 31-32. 2 سورة البقرة، الآية: 105. 3 سورة الأنعام، الآيات: 84-87. 4 انظر: "منهاج السنة النبوية": (2/416-417) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الفاسدة مستدلاً بآثار ضعيفة مروية عن ابن عباس، وابن مسعود، وقتاده1، وغيرهم، ومستدلين بقول الله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2. فقد ذهبت طائفة إلى القول بأن إبراهيم اعتقد أن الكواكب ربه وإلهه في طفولته، وقبل قيام الحجة عليه3. وأورد ابن جرير الطبري روايتين عن ابن عباس، ورواية عن ابن مسعود، وروايتين عن ابن إسحاق تدل على أن المراد بهذه الآيات نظر إبراهيم الخليل عليه السلام في طفولته في هذه الكواكب واعتقاده أنها ربه، والروايات هي:   1 هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ابن دعامة بن قتادة بن عزيز، وكان أعمى يكنى أبا الخطاب. توفي بواسط في الطاعون، كان عالماً مفسراً فقيهاً. قال فيه يحيى بن معيحنح: حافظ ثقة ثبت لكنه مدلس، ورمي بالقدر. وقال الذهبي: ومع هذا فاحتج به أصحاب الصحاح لاسيما إذ قال: حدثنا. وقال ابن حجر: ثقة ثبت. انظر: "الجرح والتعديل": (7/133-135) ، و"ميزان الاعتدال" للذهبي: (3/385) ، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر: (8/351-356) ، و"التقريب": (رقم 5518) . 2 سورة الأنعام، الآيات: 76-79. 3 انظر: "تفسير الطبري": (7/250) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الرواية الأولى: قال ابن جرير الطبري: حدثني موسى بن هارون1، قال: حدثنا عمرو بن حماد2، قال: حدثنا أسباط3، عن السدي في4   1 هو موسى بن هارون الهمداني، من شيوخ الطبري. ذكر الطبري اسمه هذا في موضع آخر. انظر: "تاريخ الأمم والملوك": (10/431) ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – دار سويدان –بيروت – لبنان. لم أعثر له على ترجمة فيما اطلعت عليه من كتب الرجال. وقد سبقني في البحث عنه محمود شاكر، ولم يجده، ثم قال: (وما بنا من حاجة إلى ترجمة من جهة الجرح والتعديل، فإن هذا التفسير الذي يرويه عن عمرو بن حماد معروف عند أهل العلم بالحديث، وما هو إلا رواية كتاب لا رواية حديث بعينه) . تحقيق محمود شاكر على "تفسير الطبري": (1/156) . الطبعة الثانية –دار المعارف بمصر. 2 هو عمرو بن حماد بن طلحة القناد أبو محمد الكوفي، وقد ينسب إلى جده (ت 222هـ) قال ابن معين وأبو حاتم والذهبي وابن حجر وغيرهم: صدوق. انظر: "الجرح والتعديل": (6/228) ، و"ميزان الاعتدال": (3/254) ، و"تهذيب التهذيب": (8/22-23) . 3 هو أسباط بن نصر الهمداني، أبو يوسف، ويقال: أبو نصر، ضعفه أبو نعيم والساجي وابن معين في رواية عنه، قال عنه: ليس بشيء، وقال عنه النسائي: ليس بالقوي. وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثقه ابن معين في رواية أخرى عنه، وقال عنه البخاري: صدوق، وقال فيه أبو زرعة: أما حديثه فيعرف وينكر، وأما في فلا بأس به، وقال ابن حجر في "التقريب": صدوق كثير الخطأ يغرب. انظر: "كتاب الضعفاء" لأبي زرعة: (2/264) ، و"التقريب": (رقم الترجمة 321) . 4 هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي، أبو محمد القرشي مولاهم، الكوفي، الأعور، وهو السدي الكبير (ت 127هـ) رماه الجوزجاني وليث بالكذب، وضعفه ابن معين وعبد الرحمن بن المهدي، وقال أبو زرعة: لين: وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال الطبري: لا يحتج بحديثه. ووثقه أحمد والعجلي وابن حبان، وقال النسائي: صالح، وفي موضع آخر: ليس به بأس، وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث صدوق لا بأس به. وقال ابن حجر في "التقريب": صدوق بهم، ورمي بالتشيع. انظر: "الجرح والتعديل": (1/184) ، و"الكامل" لابن عدي: (1/274-276) . و"سير أعلام النبلاء": (5/264-265) ، و"ميزان الاعتدال": (1/236-237) . و"تهذيب التهذيب": (1/313-314) ، و"التقريب": (رقم الترجمة 463) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 خبر ذكره عن أبي صالح1، وعن أبي مالك2، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني3، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "كان من شأن إبراهيم عليه السلام أنه طلع كوكب على نمرود فذهب بضوء الشمس والقمر، ففزع من ذلك فزعاً شديداً، فدعا السحرة والكهنة   1 هو أبو صالح باذام، وقيل باذان، تابعي مولى أم هاني (ت 121هـ) تقريباً. ضعفه البخاري، وقال النسائي: ليس بثقة، وذكره أبو زرعة في "الضعفاء"، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه تفسير، وما أقل ما له من المسند، وفي ذلك التفسير ما لم يتابعه عليه أهل التفسير، ولم أعلم أحداً من المتقدمين رضيه. وقال ابن معين ليس به بأس، وقال يحيى القطان: لم أر أحداً من أصحابنا تركه. قال ابن حجر في "التقريب": ضعيف يرسل. انظر: "الجرح والتعديل": (2/431) ، و"الكامل" لابن عدي: (2/501) ، و"ميزان الاعتدال": (1/296) ، و"سير أعلام النبلاء": (5/37-38) ، و"تهذيب التهذيب": (1/416) ، و"التقريب": (رقم 634) . 2 أبو مالك سئل أبو زرعة عنه، فقال: كوفي ثقة لا أعرف اسمه. "الجرح والتعديل": (9/435) . 3 هو مرة بن شراحيل السكسي أبو إسماعيل الكوفي المعروف بمرة الطيب، ومرة الخير، وثقة ابن معين والعجلي وغيرهما وقال ابن حجر في "التقريب": ثقة عابد. انظر: "الجرح والتعديل": (8/366) ، و"سير أعلام النبلاء": (4/74-75) ، و"تهذيب التهذيب": (10/88) ، و"التقريب": (رقم 6562 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 والقافة1 والحازة2 فسألهم عنه فقالوا: يخرج من ملكك رجل يكون على وجهه هلاكك وهلاك ملكك، وكان مسكنه ببابل الكوفة، فخرج من قريته إلى قرية أخرى، فأخرج الرجال وترك النساء وأمر أن لا يولد مولود ذكر إلا ذبحه، فذبح أولادهم، ثم إنه بدت له حاجة في المدينة لم يأمن عليها إلا آزر أبا إبراهيم فدعاه فأرسله، وقال له: انظر لا تواقع أهلك، فقال له آزر: أنا أضن3 بديني من ذلك. فلما دخل القرية نظر إلى أهله فلم يملك نفسه أن وقع عليها، ففر بها إلى قرية بين الكوفة والبصرة يقال لها أور فجعلها في سرب4، فكان يتعاهدها بالطعام والشراب وما يصلحها، وإن الملك لما طال عليه الأمر قال: قول سحرة كذابين، ارجعوا إلى بلدكم. فرجعوا، وولد إبراهيم، فكان في كل يوم يمر كأنه جمعة، والجمعة كالشهر، والشهر كالسنة من سرعة شبابه، ونسي الملك ذلك، وكبر إبراهيم لا يرى أن أحداً من الخلق غيره وغير أبيه وأمه. فقال أبو إبراهيم لأصحابه: إن لي ابناً قد خبأته، أفتخافون عليه الملك إن أنا جئت به؟ قالوا: لا، فأت به. فانطلق فأخرجه، فلما خرج الغلام من السرب نظر إلى الدواب والبهائم والخلق، فجعل يسأل أباه: ما هذا؟ فيخبره عن البعير أنه بعير، وعن البقرة أنها بقرة، وعن الفرس أنه فرس، وعن الشاة أنها شاة، فقال: ما لهؤلاء الخلق بد من أن يكون لهم رب،   1 القائف: الذي يعرف الآثار، والجمع قافة."الصحاح": (4/1419) . 2 مفردها حازي: وهو الذي يخط على الرمل. انظر: "شرح السنة": (12/183) . 3 أي: أبخل بديني. انظر: "لسان العرب": (13/261) . 4 السرّب: حفير تحت الأرض، وقيل: بيت تحت الأرض. "لسان العرب": (1/466) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وكان خروجه حين خرج من السرب بعد غروب الشمس فرفع رأسه إلى السماء فإذا هو بالكوكب وهو المشتري. فقال: هذا ربي. فلم يلبث أن غاب، فقال: لا أحب الآفلين، أي لا أحب رباًّ يغيب. قال ابن عباس: وخرج من آخر الشهر فلذلك لم ير القمر قبل الكواكب، فلما كان آخر الليل رأى القمر بازغاً قد طلع، فقال: هذا ربي. فلما أفل يقول: غاب قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما أصب ورأى الشمس بازغة قال: هذا ربي هذا أكبر. فلما غابت، قال الله له: أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين. فأتى قومه فدعاهم فقال: يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً"1. والرواية الثانية: قال ابن جرير: حدثني المثنى2، قال: ثنا أبو صالح3،   1 "تاريخ الأمم والملوك": (1/121) . 2 هو المثنى بن إبراهيم الآملي، من شيوخ الطبري. ذكر الطبري اسمه كاملاً في موضع آخر، انظر: "تاريخ الأمم والملوك": (10/388) . تحقيق محمد أبو الفضل –دار سويدان-بيروت-لبنان. لم أعثر له على ترجمة فيما اطلعت عليه من كتب الرجال، إلا أن الدكتور عبد العزيز الحميدي قال: (لم أجد له ذكراً فيما رأيته من كتب الرجال، غير أني وجدت الحافظ ابن كثير حسن سنداً كان من طريقه) . "تفسير ابن عباس": (1/42) . 3 هو عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني المصري، أبو صالح كاتب الليث بن سعد على أمواله (ت 223هـ) . قال أحمد بن حنبل: كان أول أمره متماسكاً ثم فسد بآخره، وقال أحمد بن صالح: متهم ليس بشيء. وقال عنه أيضاً: لا أعلم أحداً روى عن الليث عن ابن أبي ذئب إلا أبو صالح، وقال أبو حاتم أخرج أحاديث في آخر عمره أنكروها عليه، نرى أنها مما افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن المديني: لا أروي عنه شيئاً. وقال ابن حبان: كان في نفسه صدوقاً، إنما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له. وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث، إلا أنه يقع في أسانيده ومتونه غلط ولا يتعمد. وقال الذهبي: هو صاحب حديث وعلم مكثر، ولا مناكير. ووثقه ابن معين وعبد الملك بن شعيب بن الليث. وقال ابن حجر في "التقريب": صدوق، كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة. انظر: "الجرح والتعديل": (5/86) ، و"الكامل" لابن عدي: (4/1522) ، و"سير أعلام النبلاء": (10/405) ، و"ميزان الاعتدال": (2/440) ، و"تهذيب التهذيب": (5/256) ، و"التقريب": (رقم 3388) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 قال: ثني معاوية بن صالح1، عن علي بن أبي طلحة2، عن ابن عباس   1 هو معاوية بن صالح بن حيدر بن سعيد بن سعد بن فهر الحضرمي. أبو عمرو، قاضي الأندلسي (ت 158هـ) . كان يحيى بن القطان لا يرضاه، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال عنه ابن معين في رواية عنه: ليس بمرضي، وقال أبو إسحاق: ما كان بأهل أن يروي عنه. ووثقة أحمد وأبو زرعة والعجلي والنسائي وابن معين في رواية أخرى وغيرهم. وقال ابن عدي: صدوق إلا أنه يقع في أحاديثه إفرادات. وقال ابن حجر: صدوق له أوهام. انظر: "كتاب الضعفاء" للعقيلي: (4/183) ، و"الكامل" لابن عدي: (6/2402) ، و"ميزان الاعتدال": (4/135) ، و"تهذيب التهذيب": (10/209) / و"التقريب": (رقم 6762) . 2 هو علي بن أبي طلحة، واسم أبي طلحة سالم بن المخارق الهاشمي، مولى آل عباس بن عبد المطلب (ت143هـ) . قال أحمد بن حنبل: له أشياء منكرات، وقال دحيم: لم يسمع علي بن أبي طلحة التفسير عن ابن عباس، وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف الحديث منكر ليس محمود المذهب. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: روى عن ابن عباس ولم يره ووثقه العجلي، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال أبو داود: هو إن شاء الله مستقيم الحديث, قال ابن حجر: صدوق يخطيء وأرسل عن ابن عباس ولم يره. انظر: (7/340) ، و"التقريب": (رقم 4754) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 قال: (قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} يعني به الشمس والقمر والنجوم. {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَر ُ} فعبدها حتى غابت، فلما غابت قال: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 1. أما الرواية الثالثة والرابعة: فهي عن ابن إسحاق، ولم يسندها إلى أحد. فالثالثة: قال ابن جرير الطبري: حدثني محمد بن حميد قال: ثنا2   1 "تفسير الطبري": (7/248) . 2 هو أبو عبد الله محمد بن حميد بن حيان التميمي الرازي (ت 248هـ) . رماه أبو حاتم الرازي وصالح بن محمد الأسدي وأبو زرعة وابن خراش والنسائي وابن وراة بالكذب، وأورد قصصاً تدل على ذلك. وقال فضلك: دخلت على ابن حميد وهو يركب الأسانيد على المتون. وقال يعقوب بن شيبة: محمد بن حميد كثير المناكير، وذكر ابن حبان أنه كان ممن ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلة بات، ولاسيما إذا حدث عن شيوخ بلده. وقال الذهبي: هو مع إمامته منكر الحديث، صاحب عجائب. وقال البخاري: في حديث نظر. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الجوزجاني: رديء المذهب غير ثقة. وقال ابن عدي: تكثر أحاديث ابن حميد التي أنكرت عليه، أن ذكرناه على أن أحمد بن حنبل قد أثنى عليه أخيراً لصلابته في السنة. وقال أبو زرعة الرازي: سمعت محمد بن حميد، وكان عندي ثقة. وسئل ابن معين عنه، فقال: ثقة ليس به بأس. قال ابن حجر: حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه. انظر: "كتاب الضعفاء الكبير": (4/61) ، و"الجرح والتعديل": (7/232) ، و"كتاب المجروحين": (2/303) ، و"الكامل" لابن عدي: (6/2277-2278) ، و"ميزان الاعتدال": (3/530) ، و"سير أعلام النبلاء": (11/503) ، و"تهذيب التهذيب": (9/127) ، و"التقريب": (5834) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 سلمة بن الفضل1، قال: ثني محمد بن إسحاق2 فيما ذكر لنا والله   1 هو سلمة بن الفضل الأبرش الأنصاري مولاهم أبو عبد الله الأزرق قاضي الري (ت 191هـ) . قال البخاري: عنده مناكير، وقال أبو حاتم: محله الصدق، في حديثه إنكار يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال ابن عدي: عنده غرائب، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطيء ويخالف، وضعفه ابن راهوية والنسائي وأبو حاتم وغيرهم، ووثقه أبو داود وابن معين، وفي رواية أخرى عن ابن معين: ليس به بأس. قال ابن حجر في "التقريب": صدوق كثي الخطأ. انظر: "كتاب الضعفاء" و"أجوبة أبي رزعة على البرذعي": (2/362) ، و"الضعفاء الكبير" (2/150) ، و"الجرح والتعديل": (4/168) ، و"ميزان الاعتدال": (2/192) ، و"تهذيب التهذيب": (4/154) ، و "التقريب": (2505) . 2 هو محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار، ويقال: كومان المدني، أبو بكر، ويقال: أبو عبد الله، المطلبي مولاهم نزيل العراق (ت151هـ) . رماه بالكذب الإمام مالك وهشام وعروة وسليمان التيمي ويحيى بن القطان ووهيب بن خالد، فقال مالك: إنه دجال من الدجاجلة، وقال عنه أيضاً: كذاب، وقال هشام بن عروة: محمد بن إسحاق كذاب، وقال في موضع آخر: أهو كان يدخل على امرأتي؟! يعني: محمد بن إسحاق –وضعفه يحيى بن معين في رواية عنه، وقال في رواية أخرى: لا يحتج به، وضعفه النسائي أيضاً، ووثقه يحيى بن معين في رواية ثالثة، والعجلي وابن سعد. والخلاف فيه طويل، وسأقتصر على ما ذكرت من الأقوال، وسأذكر قول ابن حجر في "التقريب" فاصلاً بين الأقوال، قال ابن حجر: صدوق يدلس رمي بالتشيع والقدر. قلت: أما رميه بالكذب فهو مستبعد، وما روي عن مالك، فقال له رجل: إن محمد بن إسحاق يقول: اعرضوا علي علم مالك فإني بيطاره. فقال مالك: انظروا إلى دجال من الدجاجلة يقول: اعرضوا عليَّ علم مالك. وأما ما ورد عن هشام بن عروة في رمي ابن إسحاق بالكذب فسببه أن ابن إسحاق روى عنه زوجته فاطمة بنت المنذر، وهشام ينكر أن يكون ابن إسحاق رآها أو دخل عليها، فإنكاره لهذا يحسب ما علم، وعلمه ليس بحجة في إثبات كذب الرجل، إذ يحتمل أن ابن إسحاق سمع منها وهشام لم يعلم بهذا. وأما وهيب بن خالد ويحيى القطان فهما تابعا مالكاً في قوله، وأما سليمان التيمي فهو ليس من أهل الجرح والتعديل، وبذلك يكون رميه بالكذب لا يصح، ذكر هذا الجاحظ ابن حجر رحمه الله. انظر: "كتاب الضعفاء الكبير": (4/23) ، و"الجرح والتعديل": (7/194) ، و"الكامل" لابن عدي: (6/2116-2125) ، و"سير أعلام النبلاء": (7/33-55) ، و"ميزان الاعتدال": (3/470-475) ، و"تهذيب التهذيب": (9/38-46) ، و"التقريب": (رقم 5725) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أعلم: (أن آزر كان رجلاً من أهل كوثى من قرية بالسواد "سواد الكوفة" كان إذ ذاك ملك المشرق) لنمرود بن كنعان، فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم حجة على قومه ورسولاً إلى عباده ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم نبي إلا هود وصال، فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله ما أراد، أتى أصحاب النجوم نمرود، فقالوا له: تعلم أنا نجد في علمنا أن غلاماً يولد في قريتك هذه يقال له: إبراهيم، يفارق دينكم ويكسر أوثانكم في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا، فلما دخلت السنة التي وصف أصحاب النجوم لنمرود، بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم امرأة آزر، فإنه لم يعلم بحملها وذلك أنها كانت امرأة حدبة1 –فيما ذكر- لم يعرف الحمل في بطنها، ولما أراد الله أن يبلغ بولدها أن يقتل كل غلام ولد في ذلك الشهر من تلك السنة إلا أمر به فذبح، فلما وجدت أم إبراهيم الطلق، خرجت ليلاً إلى مغارة   1 الحدب: خروج الظهر ودخول البطن والصدر. "لسان العرب": (1/300) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 كانت قريبة منها، فولدت فيها إبراهيم، وأصلحت من شأنه ما يصنع مع المولود، ثم سدت عليه المغارة، ثم رجعت إلى بيتها، ثم كانت تطالعه في المغارة فتنظر ما فعل فتجده حياًّ يمتص إبهامه –يزعمون والله أعلم- أن الله جعل رزق إبراهيم فيها وما يجيئه من مصه –وكان آزر- فيما يزعمون- سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل؟ فقالت: ولدت غلاماً فمات، فصدقها، فسكت عنها، وكان اليوم –فيما يذكرون- على إبراهيم في الشباب كالشهر، والشهر كالسنة، فلم يلبث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهراً، حتى قال لأمه: أخرجيني أنظر، فأخرجته عشاءً، فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض، وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي، مالي إله غيره، ثم نظر في السماء فرأى كوكباً قال: هذا ربي، ثم اتبعه ينظر إليه ببصره حتى غاب، فلما أفل قال: لا أحب الآفلين، ثم طلع القمر فرآه بازغاً، قال: هذا ربي، ثم اتبعه ببصره حتى غاب، فلما أفل، قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس أعظم الشمس ورأى شيئاً هو أعظم نوراً من كل شيء رآه قبل ذلك، فقال: هذا ربي، هذا أكبر، فلما أفلت قال: يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين. ثم رجع إبراهيم إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته وعرف ربه، وبريء من دين قومه، إلا أنه لم يبادئهم بذلك وأخبر أنه ابنه، واخبرته أم إبراهيم أنه ابنه، وأخبرته بما كانت صنعت من شأنه، فسر بذلك آزر وفرح فرحاً شديداً، وكان آزر يصنع أصنام قومه التي يعبدونها، ثم يعطيها إبراهيم يبيعها، فيذهب بها إبراهيم –فيما يذكرون- فيقول: من يشتري ما يضره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ولا ينفعه، فلا يشتريها منه أحد، وإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فضرب فيه رؤوسها وقال: اشربي، استهزاءً بقومه وما هم عليه من الضلالة، حتى فشا عيبه إياها، واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته من غير أن يكون ذلك بلغ نمرود الملك) 1. والرواية الرابعة هي: قال ابن جرير: حدثني ابن حميد قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق: فلما أراد الله عز وجل أن يبعث إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن حجة على قومه، ورسولاً إلى عباده، ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم عليه السلام من نبي قبله إلا هود وصالح، فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله تعالى ما أراد أتى أصحاب النجوم نمرود ... 2. وذكر نحو الرواية السابقة. وأخرج أيضاً عبد بن حميد3 وابن المنذر4 وابن أبي حاتم5   1 "تفسير الطبري": (7/248-249) . 2 "تاريخ الأمم والملوك": (1/119-120) . 3 هو عبد بن حميد بن نصر الكشي، أبو محمد الإمام الحافظ الحجة. توفي سنة تسع وأربعين ومائتين. "سير أعلام النبلاء": (12/235) ، و"تهذيب التهذيب": (6/455-457) . 4 هو محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري الفقيه، الإمام الحافظ العلامة، المجمع على إمامته وجلالته ووفور علمه وجمعه بين التمكن في علمي الحديث والفقه، توفي سنة ثمان عشرة وثلاثمائة. انظر: "تهذيب الأسماء واللغات": (2/196) ، و"سير أعلام النبلاء": (14/490-492) . 5 هو عبد الرحمن بن محمد –ابن أبي حاتم- ابن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي أبو محمد، حافظ للحديث، توفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. "تذكرة الحفاظ": (3/829) ، و"فوات الوفيات": (2/287) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وأبو الشيخ1 بنحو ما ذكر ابن عباس عن قتادة قال: ذكر لنا (أن إبراهيم عليه السلام فر به من جبار مترف، فجعل في سرب، وجعل رزقه في أطرافه ... ) 2 وذكر الرواية. وهذه الحادثة المنسوبة إلى إبراهيم عليه السلام في تفسير الآيات المذكورة سابقاً من سورة الأنعام لا تصح لما يلي: أولاً: أن الروايات الواردة عن ابن عباس وابن مسعود كلها ضعيفة. فالرواية الأولى عنهما: فيها أسباط بن نصر، وأبو صالح باذام، وكلاهما ضعيف. والرواية الثانية عن ابن عباس فيها: أبو صالح كاتب الليث: لا يحتج به، ومعاوية بن صالح: له أوهام، وعلي بن أبي طلحة: لم يسمع التفسير من ابن عباس. أما الروايات الواردة عن إسحاق: فكلها ضعيفة أيضاً إذ أن كلتا الروايتين عنه رويت عن محمد بن حميد: وهو ضعيف، وسلمة بن الفضل: وهو ضعيف أيضاً، مع عدم إسناد ابن إسحاق الرواية لأحد، لكنه قال: (فيما ذكر لنا) ، ولعلها مما رواها ابن إسحاق عن بني إسرائيل.   1 هو عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصبهاني أبو محمد المعروف بأبي الشيخ. توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة. "سير أعلام النبلاء": (16/276) ، و"هدية العارفين": (1/447) . 2 "الدر المنثور": (3/303) . وهذه الرواية لم أجدها فيما طبع من كتاب "المنتخب لمسند عبد بن حميد"، ولا فيما طبع من "تفسير ابن أبي حاتم"، ولا فيما طبع من "كتاب العظمة" لأبي الشيخ، ولا في "تفسير ابن أبي حاتم" المخطوط في الجامعة الإسلامية، إذ أن ما طبع من هذه الكتب كلها لم تصل طباعته إلى هذه الرواية بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 والرواية عن قتادة غير معتبرة أيضاً –وإن صح السند قبلها-، لأن قتادة لم يبين من ذكر له هذا، ولعلها من أخبار بني إسرائل –كما سيأتي بيانه-. ثانياً: أن هذه الأخبار كلها مستندة إلى أخبار إسرائيلية لا يوثق بها، ولاسيما إذا خالفت الحق كما ذكر ابن كثير1 ذلك، وقد أجمع المسلمون على أن ما نقل عن بني إسرائيل في الأنبياء المتقدمين لا يجوز أن يجعل عمدة في دين المسلمين إلا أن يكون منقولاً إلينا عن خاتم المرسلين نقلاً صحيحاً2. ثالثاً: أن هذا التفسير لا يوفق ظاهر الآيات المذكورة، بل يناقضه، ويتبين ذلك من عدة أوجه: الوجه الأول: أن هذه القصة لم تكن في طفولة إبراهيم، بل كانت بعد بعثته كان إبراهيم عارفاً بربه آنذاك، ويدل على ذلك أن الله ذكر محاجة إبراهيم لأبيه، كما ذكر أنه أراه ملكوت السموات والأرض، ثم أعقب هذا يذكر هذه القصة، فقال: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي ... } 3الخ الآيات، فعطف هذه القصة على ما سبقها بالفاء التي تقتضي الترتيب والتعقيب. فهي إما معطوفة على محاجة إبراهيم لأبيه، فتدل على أن هذه القصة بعد مبعثه وبعد معرفته لربه، ودعوة قومه لعبادة الله وحده، وتكون آية: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} 4 جملة معترضاً بها بين المعطوف والمعطوف عليه5.   1 "البداية والنهاية" لابن كثير: (1/135) . 2 انظر: "مجموع الفتاوى": (12/57) . 3 سورة الأنعام، الآية: 76. 4 سورة الأنعام، الآية: 75. 5 انظر: "الكشاف": (2/30-31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وإما معطوفة على قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} بالفاء التي تقتضي الترتيب والتعقيب، مما يدل على أن هذه القصة لم تقع إلا بعد أن عرف ربه وكان من الموقنين الصادقين1. الوجه الثاني: أن في قوله: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 2 دلالة على أنه كان بين قومه عند مقالته هذه، ومعلوم أنه عندما خرج من السرب –كما زعموا- لم يكن معه قومه، ودعوى أنه كان معه أبوه وأمه فخاطبهم بهذا الخطاب دعوى باطلة متكلفة، مع عدم استقامتها. ودعوى أن هذا القول صدر منه بعد –أي: بعد بعثته –دعوى متكلفة أيضاً يردها ظاهر الآية، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 3، فالآية دلت على أنه قال هذا القول عقب أفول الشمس. الوجه الثالث: قوله: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 4، وقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 5. فقد أخبر الله في هذه الآيات أن المقام مقام مناظرة ومجادلة بينه   1 انظر: "أضواء البيان": (2/201) . 2 سورة الأنعام، الآية: 78. 3 سورة الأنعام، الآية: 78. 4 سورة الأنعام، الآية: 80. 5 سورة الأنعام، الآية: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وبين قومه1، فكيف تصرف هذه الآيات إلى طفولة إبراهيم عليه السلام؟ رابعاً: كيف يصح هذا القول في أبي الأنبياء عليه السلام؟ الذي قال الله في حقه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} 2 فمن معاني الرشد هنا إنكاره على قومه عبادتهم لهذه الأصنام في صغره، فتكون الآية الثانية: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ ... } مفسرة للرشد المذكور في الآية التي قبلها3. وقال الله فيه أيضاً: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4، فنفي الله كون الشرك الماضي عن إبراهيم، ونفي الكون الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي، فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يوماً ما5. وقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على هذه الفطرة، فأبواه يهوداه وينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء6 هل تحسون فيها من جدعاء؟ 7" 8، وما رواه الإمام مسلم عن عياض بن حمار   1 انظر: "تفسير ابن كثير": (2/152) ، و"أضواء البيان": (2/201) . 2 سورة الأنبياء، الآيتان: 51-52. 3 انظر: "تفسير ابن كثير": (3/181-182) . 4 سورة النحل، الآية: 120. 5 "أضواء البيان": (2/201) . 6 أي سليمة من العيوب، مجتمعة الأعضاء كاملتها، فلا جدع بها ولا كي. "النهاية في غريب الحديث": (1/296) . 7 أي: مقطوعة الأطراف، أو واحدها. "النهاية في غريب الحديث": (1/247) . 8 أخرجه البخاري: (2/199) ، كتاب الجنائز، ومسلم: (8/53) ، كتاب القدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 المجاشعي1 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته2 عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ... " 3. وقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4. فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين ناظراً في هذا المقام؟ بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب5. وذهب آخرون إلى حمل قول إبراهيم في هذه الآيات على أول أحوال تكليفه في مهلة النظر، التي لا حرج على من أخطأ فيها –كما يزعمون-، وأنه تحير في ربه من هو؟ ورأى أشرف الجهات جهة السماء العلوية،   1 هو عياض بن حمار بن أبي حمار بن ناجية بن عقال بن محمد المجاشعي التميمي، صحابي جليل سكن البصرة، وعاش إلى حدود الخمسين. "تهذيب التهذيب": (8/200) ، و"الإصابة": (3/47) . 2 أي: أعطيته، وفي الكلام حذف، أي قال الله تعالى: "كل ما أعطيته عبداً من عبادي فهو حلال"، والمراد إنكار ما حرموا على أنفسهم كالسائبة والوصيلة وغيرها. "شرح النووي على صحيح مسلم": (17/197) . 3 أخرجه مسلم: (8/159) ، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها. 4 سورة الروم، الآية: 30. 5 "تفسير ابن كثير": (2/152) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وأشرف ما فيها هذه الجواهر المضيئة فقال في نفسه: انظر هل يجوز أن يكون أحد هذه الأشياء ربك؟ وبهذا قال محمد بن إبراهيم الوزير1 وأبو بكر البيهقي2 وغيرهم. واستدل ابن الوزير على ذلك (بأن هذه القول يوجبه ظاهر الآية، وأن القول بأن إبراهيم كان مناظراً محتجاً عليهم لا يحصل به غرض، وفيه بعد لا يحصل به غرض، لأن الاستدلال بقول إبراهيم: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} على إثبات الصانع ضعيف، وذلك لما يأتي: أولاً: أنه رآه إبراهيم عليه السلام رأى النجم على حالة واحدة، ولم يره ساكناً. ثانياً: أنه رآه ينتقل في السماء من جهة المشرق إلى جهة المغرب، فما الفرق بين ذلك التنقل وبين التنقل من السماء إلى غير السماء. ثالثاً: قد كان يعلم حين رأى القمر بازغاً أنه قبل طلوعه آفلٌ، فلم يكن أفوله الثاني بأدل على عدم إلاهيته من أفوله الأول. رابعاً: أن الحجة كانت تلتزم خصمه حين أبطل ربوبية النجم فلم أعادها في القمر والشمس وهي واحدة؟ ألا ترى أنه يحسن أن يحتج على كل نجم بذلك3؟   1 انظر: "البرهان القاطع في إثبات الصانع": ص58. وابن الوزير هو محمد بن إبراهيم بن الوزير بن علي المرتضي العفيف الحسني الفاسي الصنعاني عز الدين اليمني الشهير بابن الوزير. توفي سنة أربعين وثمانمائة. انظر: "الضوء اللامع": (6/272) ، و"هدية العارفين": (2/190) . 2 انظر: "الأسماء والصفات": للبيهقي: ص280-281. 3 انظر: "البرهان القاطع في إثبات الصانع": ص57-59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وأما أن فيه بعداً فلوجوه: الوجه الأول: أنه خلاف الظاهر، ولا موجب للتأويل. فإن قلت: الموجب له أن لا تنسبه إلى الجهل بالله. قلت: هو جائز عندنا في مهلة النظر. الوجه الثاني: أنه حين قال في القمر: هذا ربي تأخر عن الجواب إلى أن غرب القمر في آخر الليل، ثم فعل ذلك في الشمس فتأخر في الجواب من طلوعها إلى غروبها، وذلك يبعد من المحتج على الخصم لوجهين: أحدهما: أن الخصم لا ينتظره في المجلس يتطلب الجواب ليلة ويوماً. الثاني: أن المحتج على الغير لا يجوز أن يسلم للغير ما يدعي، إلا وبين في تلك الحال أن تسليمه تسليم جدل، ويتعقبه من غير تراخ بإبطال كلامه. الوجه الثالث: مما يدل على بعد أن ذلك منه عليه السلام على سبيل الاحتجاج على الغير، أنه قال عقب أفول القمر: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي ... } الآية، وهذا لا يقوله في مثل هذا الحال إلا المتحيرّ. الوجه الرابع: قوله في الشمس: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} ، فإن قوله: {هَذَا أَكْبَرُ} لا يليق بحالة المناظر. الوجه الخامس: أنه يجب أن يكون نزاعه إما لواحد يعبد هذه الثلاثة، النجم والقمر والشمس، أو لاثنين أو لثلاثة يعبد كل واحد منهم واحداً من هذه الكواكب، والقول بهذا من غير نقل بعيد، وإنما الذي في القرآن أنها كانت تعبد في زمانه الأصنام. الوجه السادس: أنه قال: هذا ربي، ولم يقل للخصم: هذا ربك، ولا قال: هذا ربنا، ولا هذا رب، وقل ما يتفق مثل هذا من منكر لربوبية شيء قاطع ببطلانها، وإن كان جائزاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الوجه السابع: قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} ، فهذا يشعر بأن علة رؤيته للكوكب جنون الليل عليه، وعلة قوله: هذا ربي: رؤية الكوكب. الوجه الثامن: أن الآية تدل على أنه لم يكن قد رأى النجوم ولا القمر ولا الشمس لأنه لو كان قد عرفهن لما كان لترتيب إبطال ربوبية النجم على إبطال ربوبية القمر، وإبطال ربوبية القمر على إبطال ربوبية الشمس معنى رأساً، ولا كان لانتظاره لأقولها معنى، لأن أفولها فيما مضى من الزمان قد كان عالماً به، فكان علمه به مغنياً له في الاحتجاج عن انتظار الأفول المستقبل. الوجه التاسع: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً ... } الآية، فدلت الآية على أن الله أراه الملكوت ليوقن بالله، ويستدل عليه، لا ليناظر ويجادل. الوجه العاشر: قوله تعالى في آخر حكاية إبراهيم: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} ، وموضع الاحتجاج من الآية أنه عطف على هذه القصة قصة أخرى معناها أن إبراهيم تحاج هو وقومه، فلو كانت هذه القصة الأولى محاجة بين إبراهيم وبين قومه لما حسن بعد الفراغ منها أن يقال: وحاجة قومه) 1.   1 المصدر السابق نفسه: ص59-64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الرد على هذه المزاعم: قبل الشروع في الرد على القائلين بأن إبراهيم كان مناظراً مستدلاً بالكواكب على ربه وصانعه بعد بلوغه أريد أن أرد إجمالاً على القائلين بأن أول واجب على المكلف هو النظر والاستدلال على الصانع1، وأن طريقه أن العالم إما جوهر أو عرض وهو ممكن أو محدث، والمحدث لا بد له من محدث، والمحدث إما أن يكون واجب الوجود أو ممكناً، فإذا كان واجب الوجود فهذا المطلوب، وإن كان ممكناً فلا بد من مؤثر، وهذا يؤدي إلى الدور أو التسلسل، أو الانتهاء إلى مؤثر واجب الوجوب لذاته، والأول والثاني باطل، فتعين الأخير2، وذلك لأن منشأ نسبة أن إبراهيم اعتقد بعد بلوغه أن الكوكب ربه هو هذا الأصل الفاسد، ويتضح فساده مما يلي: أولاً: أن سبيل معرفة الله والإيمان به ومعرفة شرعه عن طريق لرسل، وليس النظر والمقدمات والنتائج كما يزعم هؤلاء، وهذا ما دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 3. وقوله: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 4، وقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ   1 انظر: "المواقف في علم الكلام": ص28-32، و"شرح جوهرة التوحيد": ص35. 2 انظر: تفصيل ذلك في: كتاب "المواقف في علم الكلام": ص226. 3 سورة النساء، الآية: 165. 4 سورة الإسراء، الآية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1. ثم إن أول ما يجب على المكلف هو شهادة أن لا إله إلا الله وليس كما يزعم هؤلاء أن أول واجب هو النظر، والأدلة على هذا كثيرة جداً تذكر منها على سبيل الإيجاز: قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 2. وما رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً نحو اليمن قال له: "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا لله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ... " 3. الثاني: أن الإقرار بالصانع، وبأن لكل محدث محدثاً أمر فطري ضروري لا ينكره أحد، وطريقة القرآن لا تقتصر على الإقرار بالصانع فقط –كما هو غاية أصحاب الطرق الكلامية- بل لا بد من العلم به والعمل له4، وهذا ما دلت عليه النصوص كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 5. الثالث: أن استدلالهم هذا على حدوث العالم بأن الأجسام محدثة،   1 سورة الجمعة، الآية: 2. 2 سورة محمد، الآية: 19. 3 أخرجه البخاري: (9/204) ، كتاب التوحيد، ومسلم: (1/37) ، كتاب الإيمان. 4 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (2/12) . 5 سورة البقرة، الآية: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 واستدلالهم على ذلك بأنها لا تخلو من الحوادث، ولم تسبقها، وما لم يخل من الحوادث ولم يسبقها فهو محدث، هو الذي بنى عليه نفاة الصفات معتقداتهم، وعطلوا ما عطلوه حتى صار منتهى قولهم كقول الذين يجحدون الخالق، وينسبون هذا الاستدلال إلى إبراهيم عليه السلام، وحاشاه من ذلك1. الرابع: أن هذه المقدمات التي يبنون عليها وجود الصانع كنتيجة، هي من وساوس الشيطان التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ منها2 فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، ومن خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك، فإذا بلغه فليستعذ بالله، ولينته" 3، فكيف يكون ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه طريقاً موصلاً إلى معرفة الله؟ وأما الرد على قولهم: إن إبراهيم كان ناظراً، ففيه مسلكان: إجمالي، وتفصيلي. - المسلك الأول: الرد الإجمالي: ويرد عليهم بما يلي: أولاً: أن معرفة الأنبياء بالله وبشرائعه ومبدأ هذه المعرفة تكون عن طريق الوحي، لا بالنظر4 وهذا ما دلت عليه الأدلة، منها:   1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (13/147) . 2 انظر: "دقائق التفسير": (3/265، وما بعدها) . وللتوسع في الرد عليهم انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (2/1-38) . 3 أخرجه البخاري: (4/250) ، كتاب بدء الوحي، ومسلم: (1/84) ، كتاب الإيمان. 4 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (2/1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. وقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 2. ثانياً: أن هذه القصة في بيان أن المستحق للعبادة هو الله وحده، وليست في إثبات أن خالق هذا الكون هو الله، ومن غير المعقول أن يعتقد إبراهيم عليه السلام أن الكوكب أو القمر هو خالق السموات والأرض، أو أن الشمس هي الخالقة بناءً على أنها أكبر، هذا لا يعتقده إلا مخبول، ولم يكن قول إبراهيم عليه السلام: {هَذَا رَبِّي} يقصد به أنه رب العالمين، وأنه الصانع لهذا الكون، بل ولم يكن هذا اعتقاد قومه، بل كانوا مقرين بوجود رب العالمين، ولكن كانوا يشركون معه بعبادة هذه الكواكب والأصنام3، ومن الأدلة على ذلك: قوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} 4، وقوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 5.   1 سورة الشورى، الآية: 52. 2 سورة الضحى، الآية: 7. 3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (5/548-550) ، (6/548-549) ، "الفصل في الملل والنحل": (4/17) . 4 سورة الشعراء، الآيات: 75-77. 5 سورة الممتحنة، الآية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فحاصل القول: أن إبراهيم عليه السلام لم يكن جاهلاً بخالق السموات والأرض، ولم يكن قومه أيضاً جاحدين له حتى يقال: إنه استدل على الصانع، أو نحو ذلك. - المسلك الثاني: الرد التفصيلي: ويكون الرد فيه بما يلي: أما قوله: (لا يحصل به غرض لأن الاستدلال بقول إبراهيم: {إني لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} على إثبات الصانع الضعيف..) ، فالجواب عنه من وجهين: الوجه الأول: الحمد لله الذي أنطقك بالحق، وجعل حجتك رداًّ على مذهبك، ومن فمك أدينك، فما دام أن قول إبراهيم: إني {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} على إثبات الصانع ضعيف، فلم تقول: إن إبراهيم استدل بهذه الطريقة على صانعه؟ وما دامت هذه الطريقة ضعيفة فلت تؤدي به إلى الطريق الصحيح، بل تؤدي به إلى الشك أو إلى الضلال –عياذاً بالله من ذلك-، فإذا بطل أن تكون هذه الطريقة في إثبات الصانع تعين أن تكون في إثبات أن الله هو المنفرد بالألوهية وحده. الوجه الثاني: أن القائلين بأن إبراهيم عليه السلام كان محتجًّا على قومه إنما قالوا بأنه كان محتجًّا عليهم مناظراً لهم لإثبات ألوهية الله وحده، لا لإثبات الصانع، فقوم إبراهيم لم يكونوا منكرين للصانع كما أسلفت في الرد الإجمالي. ثم لو ادعى أحد أنها ضعيفة أيضاً في إثبات انفراد الله تعالى بالألوهية واستدل بما سلف من الأدلة على ضعف هذه الطريقة رد عليه بما هو آتي: أما الدليل الأول: وهو أن إبراهيم عليه السلام رأى النجم على حالة واحدة ولم يره ساكناً، ودليله الثاني: ما الفرق بين التنقل من السماء إلى غير السماء، وبين انتقاله من المشرق إلى المغرب؟ ودليله الثالث: لا يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الأفول الذي بعد الطلوع بأدل من الأفول قبل الطلوع على عدم الإلهية، فالجواب عنه من وجهين: الوجه الأول: أن المعترض يريد بهذا إثبات أن الحركة تدل على الحدوث، وأن الأجسام لا تخلو من الحوادث، وإثبات أن هذه الطريقة هي طريقة إبراهيم عليه السلام، ليتوصلوا بذلك إلى نفي الصفات الاختيارية عن الله تعالى، فنفوا أنه متكلم بمشيئتة وقدرته، وأنه ينزل متى شاء أن ينزل، وغيرها من الصفات الاختيارية، واعتقدوا أنهم أثبتوا الرب بهذا، وأنه ذات مجردة عن الصفات، وهذا الكلام باطل شرعاً وعقلاً وفطرة، وهو ليس طريق الأنبياء، ولم يكن حال الصحابة علم بالإضرار، ومن عرف ما جاء به الرسول، وما كان عليه الصحابة علم بالإضرار أن الرسول والصحابة لم يكونوا يسلكون هذا المسلك، ومن عرف حقيقة هذا القول علم أنه ليس بطريق موصل إلى معرفة الله، بل إنما يوصل من اعقد صحته إلى الجهل والضلال، ومن تبين له تناقضه أوصله إلى الحيرة والشك، ولهذا صار حذاق سالكيه ينتهون إلى الحيرة والشك1. الوجه الثاني: أن إبراهيم عليه السلام لم يستدل بالحركة والسكون على أن هذه الكواكب حادثة لا تصلح للألوهية، لذلك لم يقل: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} لما رأى الكوكب يتحرك والقمر والشمس، بل إنما قال ذلك حين غاب واحتجب، فليس معنى أفل تحرك في لغة العرب2، وإنما معناها غاب واحتجب3.   1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (13/147-152) . 2 "منهاج السنة النبوية": (2/196) . 3 انظر: "الصحاح": (4/1623) ، "لسان العرب": (11/18) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 أما قوله: (إن القول بأن إبراهيم كان مناظراً لقومه محتجًّا عليهم فيه بُعدٌ لوجوه: الوجه الأول: أنه خلاف الظاهر ولا موجب للتأويل ... ) . قلت: بل قوله الذي فيه بعد وخلاف الظاهر، فقد خالفوا بطريقتهم هذه الرسول وخالفوا ظاهر الآية: فأما مخالفتهم للرسول فبإتباع طريقة النظر وجعلهم هذه الطريقة أول واجب على المكلف، وقد أسلفت الرد على هذه الطريقة. وأما مخالفتهم لظاهر الآية فمن عدة وجوه: الوجه الأول: تعطيل العطف الوارد في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ... } الذي يفيد الترتيب، مما يدل على أن إبراهيم قال مقالته تلك بعد أن رأى ملكوت السموات والأرض، أو بعد مناقشته لأبيه آزر بشأن عدم صلاحية الأصنام للعبادة1. الوجه الثاني: قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} ، فادعاؤكم أن هذا الكلام موجه إلى أم إبراهيم عليه السلام وأبيه، أو إلى أنها حادثة حدثت فيما بعد بينه وبين قومه لا يستقيم مع دعوى الظاهر، حيث إنه من المعلوم أن إبراهيم لما خرج من الغار –كما تزعمون- لم يكن معه لا قوم ولا صنم2. أما القول بأن إبراهيم كان مناظراً لقومه فهو لا يحتاج إلى مثل هذا التأويل. الوجه الثالث: قوله تعالى بعد أن ذكر إبراهيم هذه القصة: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِ} ، ولم يقل: على نفسه، فعلم أن هذه المباحثة   1 انظر: "الكشاف": (2/30) ، و"التفسير الكبير": (13/49-50) . 2 انظر:"التفسير الكبير": (13/51) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 إنما جرت بين إبراهيم وقومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد، لا لأجل أن يطلب إبراهيم الدين والمعرفة لنفسه1. وغير هذه الوجوه التي تبين أنهم هم الذين سلكوا مسلك التأويل. أما على القول بأن إبراهيم كان مناظراً، فإننا نأخذ اللفظ على ظاهره –كما سيأتي بيانه مفصلاً في الترجيح إن شاء الله. وأما قوله في الوجه الثاني: (إن الخصم لا ينتظره في المجلس يتطلب الجواب ليلة ويوماً) : فهذا تحكم لا دليل عليه، ويمكن أن يلزم بمثل هذا في مذهبه، ثم يتهافت هذا الاستدلال إذا عرفنا أن عباد الكواكب كانوا يتحرونها ويتحرون ساعات أوجها، فلا يبعد أن يكون جالساً معهم ليلة من الليالي ينهاهم عن عبادة الكواكب، فطلعت الكواكب، فأخذ يناظرهم ويستدل على عدم استحقاقها لشيء من العبادة2. أما قوله: (إن المحتج على الغير لا يجوز أن يسلم له ما يدعيه إلا ويبين أن تسليمه تسليم جدل) : فالجواب عنه: أن إبراهيم عليه السلام لم يقصد بقوله: {هَذَا رَبِّي} التسليم، وإنما ذكر ذلك بصيغة الاستفهام الإنكاري3، أو في الآية تقدير: هذا ربي على زعمكم4 –كما سيأتي بيانه إن شاء الله-. أما قوله في الوجه الثالث: (إن قول إبراهيم: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} لا يقوله إلا المتحيرّ) : فالجواب عليه: أن الالتجاء إلى الله بطلب الهداية   1 المصدر السابق نفسه. 2 المصدر نفسه: (13/58) . 3 انظر: "تفسير الطبري": (7/250) ، "تفسير القرطبي": (7/26) . 4 "تفسير القرطبي": (7/26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 منه هو من كمال التوحيد، فمن عرف ربًّا يلتجأ إليه، ويطلب الهداية منه، هل يقال: إنه متحير أو محتاج إلى النظر ليعرف ربه1؟ فهذا دليل عليهم لا لهم، وإنما أورد إبراهيم عليه السلام هذا الكلام في هذا المقام إرشاداً لقومه أن يطلبوا الهداية من الله، وتعريضاً بضلالهم في عبادة هذه الكواكب2، وتوجيهاً لهم بأن المستحق للعبادة هو الله وحده الذي تطلب منه الهداية، ثم إن فيها تنبيهاً بأن الله هو المتصرف في الكون وحده، وبيده تدبير كل شيء، والذي يؤكد هذا المعنى: التدرج الذي اتبعه إبراهيم في إثبات الحجة على قومه، فبين أولاً أن ما كان آفلاً لا يصلح للعبادة، وبين ثانياً تلميحاً أن من اتجه لهذه الكواكب كان ضالاً، وبين ثالثاً التصريح بأنهم على الشرك، والبراءة منهم بعد أن قامت الحجة عليهم وظهر الحق3. أما قوله في الوجه الرابع: (أن قوم إبراهيم في الشمس: {هَذَا أَكْبَرُ} لا يليق بحالة المناظرة) : فالجواب عنه: أن إبراهيم عليه السلام كان يجادل ويناظر المنجمين وعباد الكواكب، ومذهب هؤلاء المنجمين أن الشمس هي رئيسة الكواكب في الفلك، وهي في العالم بمنزلة جرم القلب في البدن، وسائر أجرام الكواكب والأفلاك بمنزلة أعضاء البدن ومفاصل الجسد4، لذلك كانت مناسبة قوله: {هَذَا أَكْبَرُ} عظيمة، إذ به يلفت الانتباه إلى أن هذه الشمس وهي أكبر الأجرام –عندكم- منزلة وحجماً وضياءًا لا تصلح أن تكون إلهاً، فمن باب أولى ما دونها من   1 انظر: "الملل والنحل": (2/52) . 2 انظر: "الكشاف": (2/31) . 3 انظر: "الإنصاف فيها تضمنه الكشاف عن الاعتزال": (2/30-31) . 4 انظر: "رسائل إخوان الصفا": (2/423) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 سائر الكواكب، وهذا اللفظ يؤكد أن إبراهيم كان مناظراً لهؤلاء الذين يزعمون ألوهية الكواكب1 إذ لو كان يقصد الاستدلال على الألوهية بمطلق الكبر، لكان توجيه الاستدلال بالسماء أولى وأحرى، لأنها أكبر حجمًا من الشمس بلا شك ولا ريب. أما اعتراضه في الوجه الخامس، وهو (أنه لم يدل دليل على عبادة قوم إبراهيم للكواكب) : فالجواب عنه: أن هذه الآيات دلت على إنهم كانوا يعبدون الكواكب، لذلك كانت مناظرة إبراهيم لقومه ليصرفهم عن هذا الشرك، ويوجههم إلى عبادة الله وحده. أما الاعتراض في الوجه السادس، وهو (أنه قال للخصم: هذا ربي، ولم يقل: هذا ربنا، ولا هذا رب..) : فالجواب عنه: أن قول إبراهيم {هَذَا رَبِّي} إنما كان على صيغة الاستفهام الإنكاري، حتى إذا قرر قومه ذلك أبطل معتقدهم بالحجة القاطعة، ولا شك أن استخدام مثل هذا الأسلوب أدعى للقبول. أما اعتراضه في الوجه السابع، وهو (أن علة قوم إبراهيم {هَذَا رَبِّي} رؤية الكوكب) : فالجواب عنه أنه صحيح أن قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي ... } يشعر بأن علة رؤية الكوكب، جنون الليل عليه، وعلة قوله: هذا ربي، رؤية الكوكب، ولكن لا يدل ذلك على حصر العلة في هذا، وانتفاء وجود علل أخرى، لذلك فإن حجتكم هذه لا تدل على انتفاء أن تكون علة قوله: {هَذَا رَبِّي} أيضاً احتجاج ومناظرة إبراهيم لقومه.   1 انظر: "تفسير الكبير": (13/60) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أما قوله: (الوجه الثامن: أن الآية تدل على أنه لم يكن قد رأى النجوم، ولا القمر ... ) ، والاحتجاج به ينحصر في أمرين: الأول: قوله: (ليس لترتيب إبطال ربوبية النجوم على إبطال ربوبية القمر، وإبطال ربوبية القمر على إبطال ربوبية الشمس معنى رأساً) : فالجواب عنه: لم تكن هذه المناظرة لإبطال ربوبية الكواكب بمعنى إبطال أنها هي الصانعة لهذا الكون. بل هي لإبطال استحقاق هذه الكواكب للعبادة كما أسلفت الكلام على هذا. ثم إن لترتيب إبطال أن تكون مستحقة للألوهية معنى كبيراً في الإقناع، وإفحام الخصم، لأن الأخذ من الأدنى فالأدنى إلى الأعلى فالأعلى له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد، لا يحصل من غيره، فكان ذكر الاستدلال على هذا الوجه أولى1. والأمر الثاني من الاعتراض: (أن علمه بأفول الكوكب والقمر والشمس مغني في الاحتجاج عن انتظار الأفول المقبل) ، والرد عليه: أن انتزاع عقيدة توارثها الخلف عن السلف من الصعوبة بحال، لذلك لابد وأن تكون الحجة قوية وحكيمة حتى تكون أدعى للقبول، ولا شك أن الاستدلال الذي يجمع بين القول والحس أقوى من الاستدلال القولي المجرد عن الحس، لذلك كان انتظار أفول هذه الأجرام، والاستدلال بعدم صلاحيتها للألوهية أدعى لإجابة قومه من مجرد القول2. أما اعتراضه التاسع، وهو (أن الله أرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض ليوقن بالله ويستدل، لا ليناظر) : فالجواب عنه: أنه قصد بهذا   1 انظر: "التفسير الكبير": (13/60) . 2 انظر: "روح المعاني": (7/199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الاعتراض أن قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ... } تفصيل لما ذكر من أن الله أراه ملكوت السموات والأرض، وهذا خطأ من وجوه: الوجه الأول: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ... } معطوف على قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ... } ، وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... } جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، مقررة لما سبق ولحق1، فكونه بلغ مرتبة الموقنين يقضي باستحالة أن يعتقد ألوهية هذه الأصنام والكواكب التي يعبدها قومه2، وإما أن تكون معطوفة على قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ ... } كما سبق بيانه في أول الردود. ثانياً: أن معنى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ ... } يختلف عن المعنى الذي ذهبوا إليه في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ... } وذلك لأن الله هو الذي أرى إبراهيم في الآية الأولى، أما المعنى الذي ذهبوا إليه في الآية الثانية أن إبراهيم هو الذي استدل حتى توصل إلى الخالق. ثالثاً: لو سلمنا جدلاً أن الآية الثانية: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ... } تفسير للآية التي قبلها {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ ... } فما مناسبة ذكر الأرض في الآية الأولى، إذ أن الكواكب والقمر والشمس من السماء، وليس منها شيء في الأرض. رابعاً: أن اليقين ليس بمعنى الاستدلال على الله، ولا يكون الاستدلال مترتباً على اليقين، لأن اليقين هو العلم وزوال الشك3، فمن   1 انظر: "الكشاف": (2/30) . 2 انظر: "تفسير روح المعاني": (7/198) . 3 انظر: "الصحاح": (6/2219) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 حصل له العلم بربه لا يحتاج إلى الاستدلال ليتوصل إلى معرفة ربه، بل يناظر المخالفين، ويقيم عليهم الحجة، فيكون هذا دليلاً على مذهبهم، لا له. وبهذا يتبين أن قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ... } لا تصلح أن تكون تفسيراً للآية التي قبلها. أما اعتراضه العاشر، وهو (أن الله عطف على هذه القصة قصة أخرى معناها أن إبراهيم تحاج مع قومه) : فالجواب عنه: إن هذه قصة واحدة، وليست قصتين، والمعنى أن إبراهيم بعد أن قرر عقيدة التوحيد، وأن الله هو المستحق للعبادة وحده جادله قومه فيما ذهب إليه بشبه من القول، فكان جوابه عليهم: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} ، أي: تجادلونني في أمر الله، وأنه لا إله إلا هو وقد بصرني وهداني إلى الحق1. وهذا معنى مستقيم لا إشكال فيه. فمن هذا يتضح أن إبراهيم كان مناظراً لقومه، مستدلاً عليهم، مبيناً فساد اعتقادهم في ألوهية الكواكب وإشراكها مع الله في العبادة، وقد أغنت الردود عن سرد الأدلة، واختلف القائلون بهذا القول في توجيه قول إبراهيم: {هَذَا رَبِّي} على أقوال، منها: الأول: أن إبراهيم ذكر كلاماً يوهم كونه مساعداً لهم على مذهبهم بالقول بربوبية الكواكب مع أن قلبه كان مطمئناً بالإيمان، ومقصودة من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإفساده، وأن يقبلوا منه2. قلت: هذا التوجيه لا يصح لما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله   1 انظر: "الكشاف": (2/32-33) ، و"تفسير ابن كثير": (2/152) . 2 انظر: "التفسير الكبير": (13/50) ، و"تفسير القرطبي": (76/2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات1 ثنتين منهن في ذات الله عز وجل، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} ، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} . قال: بينا هو ذات يوم وسارة إذا أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: إن ههنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، فسأله عنها: فقال: من هذه؟ قال: أختي ... "2. ففي هذا الحديث حصر لكذبات إبراهيم عليه السلام، وإشارة إلى أنها أعظم ما صدر منه عليه السلام3، ولم يجعل من ضمنها قوله: {هَذَا رَبِّي} 4، فدل ذلك على أن هذا القول لم يصدر من خليل الرحمن كذباً. ثم إن إبراهيم عليه السلام قد اشتهر عنه ذكر آلهتهم بسوء، كما أخبر الله عن ذلك بقوله: {سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} ، وعلى هذا فلا فائدة في التورية هنا. الثاني: أن قوله: {هَذَا رَبِّي} معناه هذا ربي في زعمكم واعتقادكم، وهذا الإضمار معروف في العربية، قال تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} 5، وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي} 6، أي: في زعمكم واعتقادكم7.   1 إنما أطلق عليه أنها "كذبات" لكونه قال قولاً لا يعتقده السامع كذباً، لكنه إذا حقق فيه وجده من باب المعاريض المحتملة لأمرين. انظر: "شرح النووي": (15/124) ، و"تفسير ابن كثير": (4/13) ، و"فتح الباري": (6/391) . 2 أخرجه البخاري: (4/280) ، كتاب الأنبياء، ومسلم: (7/98) ، كتاب الفضائل. 3 انظر: "الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال": (2/31) . 4 انظر: "فتح الباري"، (6/391) . 5 سورة طه، الآية: 97. 6 سورة فصلت، الآية: 47. 7 انظر: "التفسير الكبير": (13/52) ، و"تفسير القرطبي": (7/26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الثالث: أن المراد الاستفهام على سبيل الإنكار، والمعنى: أهذا ربي؟ وهذا أسلوب معروف في العربية، كقول الله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 1، أي: أفهم الخالدون؟ 2 قلت: كلا التقديرين الأخيرين تطمئن إليه النفس –والله أعلم-، ويكون المعنى: أن إبراهيم كان مستدلاً على قومه، مناظراً لهم، يريد بمناظرته هذه إبطال عبادة هذه الكواكب بإقامة الحجة الواضحة، التي لا يشكل على الخصم فهمها، وبالأسلوب الحكيم الذي تتقبله النفوس وتلين معه، فبين لهم أن الكواكب لا تصلح أن تكون آلهة، فقال لهم: هذا ربي في زعمكم واعتقادكم؟ أو قال لهم بصيغة الاستفهام الإنكاري: أهذا ربي؟ فأجابوه نعم، فلما أفل بين أن هذا الآفل لا يستحق أن يكون إلهاً معبوداً بقوله: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} ، فلما بزغ القمر سألهم السؤال نفسه، وأجابوه بالإجابة نفسها، فلما أفل بين تعريضاً أن الالتجاء يجب أن يكون لله، وأنهم على ضلالة في عبادتهم للكواكب، فقال: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} ، فلما بزغت الشمس سألهم السؤال نفسه، وأجابوه الإجابة نفسها، فلما أفلت بين تصريحاً أنهم على ضلالة، وأنهم مشركون بعبادتهم هذه الكواكب، وتبرأ منهم ومن شركهم، ووجههم الوجهة الصحيحة بإخلاص العبادة لله الذي خلق السموات والأرض، ثم حاجوه فيما ذهب إليه. هذا ما ترجح عندي جمعاً بين الأدلة، والله أعلم بالصواب.   1 سورة الأنبياء، الآية: 34. 2 "تفسير الطبري": (7/250) ، و"تفسير القرطبي": (7/26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 المطلب الثاني: لم يكن خليل الرحمن منجماً في قول الله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} إن اعتقد ابن الوزير والبيهقي وغيرهما أن إبراهيم تعلق بالكواكب قبل مبعثه فظن أنها ربه كما أسلفت في المطلب الأول، فهؤلاء أتو بما هو أشنع، إذ أنهم اعتقدوا أن إبراهيم عليه السلام كان متعلقاً بالكواكب والنجوم بعد مبعثه، مثبتاً أحكاماً وتأثيراً لها، مستدلين بقوله تعالى {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} 1. فقد ذهب جماعة من الرافضة إلى أن إبراهيم كان عالماً بأحكام النجوم، وأنه كان مستعملاً له2، ونسبوا هذا القول زوراً وبهتاناً إلى جعفر الصادق3 رحمه الله تفسيراً باطنياً لقوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} ، زعموا أنه قال: (حسب –أي: إبراهيم عليه السلام- فرأى ما يحل بالحسين، فقال: "إني سقيم لما يحل بالحسين"4. وقد حكى الفخر الرازي نسبة أحكام النجوم إلى إبراهيم عليه السلام عن بعض العلماء5، وهذا القول لا يصح من عدة وجوه:   1 سورة الصافات، الآيتان: 88-89. 2 انظر: "البرهان في تفسير القرآن": (4/25) . 3 هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كان إماماً في الفقه والحديث والعلم والفضل. روى له مسلم والأربعة. ويزعم الرافضة انه إمامهم السادس، وحاشاه من ذلك، وترضيه على الشيخين مشهور معلوم. توفي سنة ثمان وأربعين ومائة. "حلية الأولياء": (3/192) ، و"سير أعلام النبلاء": (6/225) ، و"تهذيب التهذيب": (2/103-105) . 4 "الأصول من الكافي": (1/387) . 5 انظر: "التفسير الكبير": (26/147-148) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الوجه الأول: أن ما ذكر عن إبراهيم الخليل عليه السلام من أنه تمسك بعلم النجوم حين قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} هو كذب وافتراء على خليل الرحمن عليه السلام، فإنه ليس في الآية أكثر من أنه نظر نظرة في النجوم، ثم قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} ، فمن ظن من هذا أن علم أحكام النجوم من علم الأنبياء، وأنهم كانوا يراعونه فقد كذب على الأنبياء، ونسبهم إلى ما لا يليق، وهو من جنس من نسبهم إلى الكهانة والسحر، وزعم أن تلقيهم الغيب من جنس تلقي غيرهم1. الوجه الثاني: أن الرسل بعثت بمحق الشرك من الأرض ومحق أهله، وقطع أسبابه، ولا شك أن ما وقع فيه قوم إبراهيم من الشرك، فكيف يظن بإبراهيم عليه السلام أنه كان يتعاطى علم النجوم، ويأخذ منه أحكام الحوادث2؟ وهذا بلا ريب من أعظم الأسباب المفضية إلى الشرك. واختلف القائلون بتنزيه الخليل عليه السلام عن التنجيم في توجيه الآية: فذهب ابن قيم الجوزية وغيره إلى النظرة التي نظرها إبراهيم عليه السلام في النجوم كانت من معاريض الأفعال، كما كان قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} ، وقوله عن سارة: "هذه أختي" من معاريض المقال ليتوصل بها إلى غرضه من كسر الأصنام، فلهذا نظر الخليل عليه السلام في النجوم نظر تورية وتعريض محض ينفي به عنه تهمة قومه، ويتوصل إلى كيد أصنامهم3. وذهب قتادة إلى أنه نظر إلى السماء متفكراً فيما يلهيهم به، فقال:   1 انظر: "مفتاح السعادة": (2/196) . 2 انظر: "مفتاح السعادة": (2/197) . 3 انظر: "مفتاح السعادة": (2/197-198) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 والعرب تقول لمن تفكر: نظر في النجوم1. قلت الظاهر أن قول قتادة أصوب –والله أعلم- لما يأتي: 1- أن الفعل "نظر" يختلف معناه بحسب ما يتعدى به، فإن تعدى بنفسه فمعناه الانتظار، وإن تعدى بـ"إلى" فمعناه النظر بالأبصار، وإن تعدى بـ"في" فمعناه التفكر والاعتبار2، ويدل لهذا المعنى الأخير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... } 3، لذا كان معنى نظر هنا: تفكر ليدبر حجة4. 2- إن الرسول صلى الله عليه وسلم حدد كذبات إبراهيم عليه السلام إنها ثلاث كذبات في قوله: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ... " 5، وكلها من المعاريض، وإن اعتبرنا أن هذه من المعاريض أيضاً عدت كذبة رابعة، وهذا مخالف للحصر الوارد في الحديث. 3- إن هذا الفعل –وإن صدر على سبيل التعريض- فيه نوع محاباة وتأييد لعبادة النجوم، والمعروف من حال إبراهيم عليه السلام خلاف هذا، كما قال تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} 6، ولو علموا أنه وافقهم في مذهبهم لفرحوا بذلك كثيراً، وحاجوا إبراهيم عليه السلام به إذا أنكر عليهم7.   1 "تفسير الجلالين": (ص594) . 2 انظر: "لسان العرب": (5/216-217) . 3 سورة الأعراف، الآية: 185. 4 "لسان العرب": (12/571) . 5 متفق عليه، سبق تخريجه: ص78. 6 سورة الأنبياء، الآية: 60. 7 انظر: "الشفا": (2/720) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 المطلب الثالث: لم يكن خليل الرحمن يعتقد أن للفلك تدبيراً في هذا الكون: ادعى الرازي أن قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1 دالّ على أن إبراهيم عليه السلام كان يعتقد أن للاتصالات والحركات الفلكية تدبيراً في هذا الكون، لما احتج بالإحياء والإماتة من الله، قال المنكر: تدعي الإحياء والإماتة من الله ابتداء من غير واسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية، أو تدعي صدور الإحياء والإماتة من الله تعالى بواسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية، أما الأول فلا سبيل إليه، وأما الثاني فلا يدل على المقصود، لأن الواحد منا يقدر على الإحياء والإماتة بواسطة سائر الأسباب، فإن الجماع قد يفضي إلى الولد الحي بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية، وتناول السم قد يفضي إلى الموت. فلما ذكر نمرود2 هذا السؤال على هذا الوجه أجاب إبراهيم عليه السلام بأن قال: هب أن الإحياء والإماتة حصلا من الله بواسطة   1 سورة البقرة، الآية: 258. 2 هو نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، وقيل غير ذلك. وكان أحد ملوك الدنيا، وذكروا أن نمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة، وكان قد طغا وبغا وآثر الحياة الدنيا. انظر: "البداية والنهاية": (1/139) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الاتصالات الفلكية، إلا أنه لابد لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مدبر، فإذا كان المدبر لتلك الحركات الفلكية هو الله تعالى، كان الإحياء والإماتة الحاصلان بواسطة تلك الحركات الفلكية أيضاً من الله تعالى، وأما الإحياء والإماتة الصادران عن البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية فليست كذلك، لأن لا قدرة للبشر على الاتصالات الفلكية، فظهر الفرق. وإذا عرفت هذا، فقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} ليس دليلاً آخر، بل تمام الدليل الأول، ومعناه: أنه وإن كان الإحياء والإماتة من الله بواسطة حركات الأفلاك، إلا أن حركات الأفلاك من الله، فكان الإحياء والإماتة أيضاً من الله، وأما البشر فإنه وإن صدر منهم الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأسباب السماوية والأرضية، إلا أن تلك الأسباب ليست واقعة بقدرته، فثبت أن الإحياء والإماتة الصادرين من البشر ليست على ذلك الوجه، وأنه لا يصلح نقضاً عليه، فهذا الذي أعتقده في كيفية جريان هذه المناظرة) 1. وأورد عدة إشكالات –نصرة لمذهبه- على القول بأن النمرود قال: أن أحيي وأميت، آتي بالرجلين فأحيي أحدهما، وأقتل الآخر، فقال إبراهيم: إن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب. وهذه الإشكالات هي: الإشكال الأول: أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة، ووقعت تلك الشبهة في الأسماع وجب على المحق القادر على الجواب أن يذكر الجواب في الحال، إزالة لذلك التلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن الملك   1 "التفسير الكبير": (7/26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الكافر في الدليل الأول بتلك الشبهة، كان الاشتغال بإزالة تلك الشبهة واجباً مضيقاً، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب؟ 1 الإشكال الثاني: أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال، فإذا ترك المحق الكلام الأول، وانتقل إلى كلام آخر أوهم أن كلامه الأول كان ضعيفاً ساقطاً، وأنه ما كان عالماً بضعفه، وأن ذلك المبطل علم وجه ضعفه وكونه ساقطاً، وأنه كان عالماً بضعفه فنبه عليه، وهذا ربما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه، وأنه غير جائز2. الإشكال الثالث: وهو أنه وإن كان يحسن الانتقال من دليل إلى دليل، أو من مثال إلى مثال، لكن يجب أن يكون المتنقل إليه أوضح وأقرب، وهاهنا ليس الأمر كذلك، لأن جنس الإحياء لا قدرة للخلق عليه، وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه، ولا يبعد في العقل وجود ملك عظيم في الجثة أعظم من السماوات، وأنه هو الذي يكون محركاً للسماوات، وعلى هذا التقدير يكون الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس على وجود الصانع، فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفي الذي لا يكون في نفس الأمر قويًّا؟ 3 الإشكال الرابع: أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصانع أقوى من دلالة طلوع الشمس عليه، وذلك لأنا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبدلات واختلافات، والتبدل قوي الدلالة على الحاجة إلى المؤثر القادر،   1 المصدر نفسه: (7/27) . 2 المصدر نفسه: (7/27-28) . 3 المصدر السابق نفسه: (7/27) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 أما الشمس فلا نرى في ذاتها تبدلاً، ولا في صفاتها تبدلاً، ولا في منهج حركاتها تبدلاً البتة، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأقوى الأجلى إلى الأخفى الأضعف، وأنه لا يجوز1. الإشكال الخامس: أن نمرود لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تعالى بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن من عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول: طلوع الشمس من المشرق مني، فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب؟ وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك، فقالوا: إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن تطلع الشمس من المغرب، ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسها بكثير من التزام إطلاع الشمس من المغرب إلا أن يكون الدليل على وجود الصانع هو طلوع الشمس من المغرب، ولا يكون طلوع الشمس من المشرق دليلاً على وجود الصانع، وحينئذ يصير دليله الثاني ضائعاً كما صار دليله الأول ضائعاً2. وفي الرد على ما ذهب إليه الرازي سأسلك مسلكين: إجمالي وتفصيلي. - المسلك الأول: الرد الإجمالي: والرد فيه من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: لو كان معنى قول إبراهيم كما ذكر الرازي لم يكن خليل الرحمن عدوًّا لعباد الكواكب والأصنام الذين ألقوه في النار، وهو عليه السلام أعظم الناس براءة منهم3.   1 المصدر نفسه. 2 المصدر نفسه. 3 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/203) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} 1، وقال تعالى:} قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ... } 2. الوجه الثاني: أن الرسل عليهم السلام إنما بعثوا ليمحقوا الشرك وأسبابه وأهله3 –كما أسلفت الكلام عن هذا في المطلب السابق- وهم معصومون من الوقوع في الشرك باتفاق الأمة، فكيف نجوز أن يجعل إبراهيم أبو الأنبياء لله شريكاً في تدبير أمور المخلوقات؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم، بل إن إبراهيم أعلم بالله وبوحدانيته وصفاته من أن يصدر منه مثل هذا4. الوجه الثالث: أن ذلك التقرير الذي قرره الرازي في المناظرة بينه وبين الملك المعطل مما لم يخطر بقلب إبراهيم، ولا بقلب المشرك، ولا يدل اللفظ على البتة، فكيف يسوغ أن يقال إنها هي المرادة من كلام الله تعالى؟ فيكذب على الله وعلى خليله وعلى المشرك المعطل، بل لم يسبق الرازي إلى هذا التقرير أحد5، والذي فسر السلف به هذه الآية هو: ألم تر يا محمد إلى الذي حاج إبراهيم في ربه؟ حين قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت، يعني بذلك ربي الذي بيده الحياة والموت يحيي من يشاء، ويميت   1 سورة الزخرف، الآيتان: 26-27. 2 سورة الممتحنة، الآية: 4. 3 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/197) . 4 مستفاد من المصدر نفسه. 5 المصدر السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 من أراد بعد الإحياء، قال: أنا أفعل ذلك فأحيي وأميت، أستحيي من أردت قتله فلا أقتله، فيكون ذلك مني إحياء له، وأقتل الآخر فيكون ذلك مني إماتة له. قال إبراهيم له: فإن الله هو الذي يأتي بالشمس من مشرقها، فإن كنت صادقاً أنك إله فأت بها من مغربها، قال الله عز وجل: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} يعني: انقطع وبطلت حجته1. وكلام عامة المفسرين يدور حول هذا المعنى2. - المسلك الثاني: الرد التفصيلي: ويكون الرد فيه كما يلي: أما الشبهة الأولى، وهي: (أن الخليل يجب عليه إزالة الشبهة الأولى التي ألقاها الملك، ولا يليق تركها) فالرد عليها من وجهين: الوجه الأول: أن الشبهة إذا كانت في غاية البطلان بحيث لا يخفى حالها على أحد لا يمتنع الإعراض عنها إلى ما هو بعيد عن التمويه دفعاً للشغب، وتحصيلاً لما هو المقصود من غير كثير تعب، وأي تلبيس يحصل من هذه الشبهة للعقول حتى يكون الاشتغال بإزالتها واجباً مضيقاً فيخل تركه بالمعصوم3؟ والناس كلهم يعلمون أن جواب الملك جواب أحمق4 اعتمد فيه على الإشراك بالعبارة فقط لا حقيقة المعنى5.   1 انظر: "تفسير الطبري": (3/24، وما بعدها) . 2 انظر: "الكشاف": (1/388) ، و"أحكام القرآن" للجصاص: (1/454) ، و"تفسير القرطبي": (3/284-286) ، و"تفسير البيضاوي": ص59، و"البحر المحيط": (2/288) ، و"لباب التأويل": (1/273) ، و"تفسير ابن كثير": (1/313) ، وغيرها من التفاسير. 3 "روح المعاني": (3/180) . 4 "الكشاف": (1/388) . 5 انظر: "أحكام القرآن" للجصاص: (1/454) ، و"لطائف الإشارات": (1/212) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الوجه الثاني: أن تقرير أن إبراهيم دحض شبهة الكافر، ولكن لم يذكر في السياق أولى من توجيه الرازي الفاسد الذي يخل بالمعنى، وبقدر خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام1. والشبه الثانية هي: (أن الانتقال إلى كلام آخر يوهم أن كلامه الأول كان ضعيفاً، وما كان الخليل عالماً بضعفه، ولكن نبهه المبطل على ذلك، وهذا يوجب حقارة شأن الخليل) والرد عليها أن ما ذكره الملك من الجواب معلوم ما فيه من الضعف والفساد، فكيف ينسب الضعف إلى استدلال إبراهيم عليه السلام؟ ثم إن إبراهيم عليه السلام لما رأى قصور فهم الملك وتلبيسه وتمويهه على العامة عارضه بمثال أوضح من المثال السابق لا يستطيع معه التلبيس، ويصل إلى فهم كل غبي2، فألجم فم الكافر الحجر، لذلك حكى الله عنه بقوله: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} والشبهة الثالثة هي: (يجب عند الانتقال من دليل إلى دليل أو مثال إلى مثال أن يكون المتنقل إليه أوضح وأقرب، وهنا ليس كذلك، إذا لا يبعد في العقل وجود ملك عظيم في الجثة يكون محركاً للسموات، فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفي) ، والرد عليها من وجهين: الوجه الأول: أن كلتا الطريقتين قويتان، ولكن الطريقة الأولى سلك   1 ذكر أبو حيان [أن مجيء الفاء في (فإن) يدل على جملة محذوفة قبلها، إذ لو كانت هي المحكية فقط لم تدخل الفاء، وكان التركيب قال إبراهيم: إن الله يأتي بالشمس..وتقدير الجملة –والله أعلم- قال إبراهيم: إن زعمت ذلك، أو موهت بذلك فإن الله يأتي بالشمس من المشرق] . "البحر المحيط": (2/289) . 2 انظر: "لباب التأويل": (1/273) ، و"روح المعاني": (3/180) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فيها الملك مسلك التمويه والتدليس، أما الطريقة الثانية فلا يستطيع سلوك هذا المسلك فيه1. الوجه الثاني: أن السياق واقع في مدح طريقة إبراهيم في مناظرته للخصوم، وأنها طريقة قوية لا يعتريها نقص ولا خلل، والذي بدلنا على أنها طريقة قوية أن الكافر بهت، فلم يستطيع حولاً ولا طولاً، كما أخبر الله عنه بقوله: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} ، فما الداعي إلى التشكيك في طريقة الخليل عليه السلام؟ أما الشبهة الرابعة وهي: (أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصانع أقوى من دلالة طلوع الشمس عليه، لأن التبدلات في ذات الإنسان وصفاته أقوى من الدلالة على الحاجة إلى المؤثر القادر على طلوع الشمس، إذ تنتفي عنها التبدلات والاختلافات، فكان العدول إلى طلوع الشمس عدولاً من الأقوى الأجلي إلى الأخفى الأضعف) فالرد عليها من وجهين: الوجه الأول: أن لفظ الآية لا يدل على ما يقوله الرازي، إذ أن استدلال إبراهيم على انفراد الله بالألوهية كان بمجرد الإحياء والإماتة، لا بصفات الإنسان، ولا بالتبدلات الحاصلة فيه، فلذلك لا يستقيم اعتراضه2. الوجه الثاني: لا نسلم أن الشمس لا يرى في ذاتها وصفاتها تبدلاً، عند الشروق تختلف وتتبدل عما تكون عليه عند الزوال، وتختلف وتتبدل عما تكون عليه عند الغروب، فظهر نقض شبهته من أصلها.   1 انظر: "الكشاف": (1/388) ، "البحر المتوسط": (2/288) . 2 انظر: "روح المعاني": (3/180) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 أما الشبهة الخامسة وهي: (أن الملك لا يؤمن أن يقول: طلوع الشمس من المشرق مني، وعند ذلك يلزم إبراهيم بأن تطلع الشمس من المغرب ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام إطلاع الشمس من المغرب) فالرد عليها من وجهين: الوجه الأول: أنه لو كان للملك سبيل في إيراد هذا القول لقاله، ولو كان له سبيل في التمويه فيه لسلك ذلك، كما فعل في الإحياء والإماتة، ولكن لما لم يكن له سبيل في ذلك لقطع إبراهيم عليه السلام طريق التمويه عليه انقطع وبهت1. الوجه الثاني: أن ادعاء ذلك يظهر كذبه، إذ من در على أن يأتي بالشمس من المشرق قدر على الإتيان بها من المغرب، فلو ادعى ذلك لسهل عليه الإتيان بالشمس من مغربها عند مطالبة إبراهيم له بذلك، ولكن علم عجزه عن ذلك فبهت2. ومن هذا يتضح أن نسبة هذا الأمر إلى إبراهيم عليه السلام لا تصح بحال.   1 مستفاد من المصدر السابق نفسه. 2 مستفاد من "البحر المحيط": (2/290) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الفصل الثاني: تنزيه الأنبياء أن يكونوا منجمين الفصل الثاني: تنزيه الأنبياء أن يكونوا منجمين ... الفصل الثاني: تنزيه الأنبياء أن يكونوا منجمين إن هؤلاء المنجمين لم يعرفوا الأنبياء، ولا آمنوا بهم، وإنما هم عندهم بمنزلة أصحاب الرياضيات الذين خصوا بقوة الإدراك، وزكاة النفوس، وزكاة الأخلاق، ونصبوا أنفسهم لإصلاح الناس، وضبط أمورهم، ولا ريب أن هؤلاء أبعد الخلق عن الأنبياء وأتباعهم ومعرفتهم، ومعرفة مرسلهم، وما أرسلهم به، وهؤلاء في شأن والرسل في شأن آخر، بل هم ضدهم في علومهم وأعمالهم وهديهم وإرادتهم وطرائقهم وفي شأنهم كله، وكذلك نجد أتباع هؤلاء ضد أتباع الرسل في جميع أمورهم. وما التنجيم والطلسمات والسحر إلا من صانع المشركين وأعمالهم. وما بعث الرسل إلا بالإنكار على هؤلاء ومحقهم ومحق علومهم وأعمالهم من الأرض1. ثم يأتي من هذا حاله ليؤيد الفاسد وعقيدته الشركية بقصص وحكايات ينسبها إلى أنبياء الله تعالى وصفوته من خلقه فيجعلهم من جملة من أرسلوا إليهم لنبذ عقائدهم فقد جعل هؤلاء علم أحكام النجوم المزعوم من علوم الأنبياء مستدلين2 بما أورده الخطيب البغدادي3 رحمه الله تعالى   1 "مفتاح دار السعادة": (2/196-197) . 2 استدل بأثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذا ابن طاووس في "فرج المهموم": ص22-23. 3 هو الإمام المفتي الحافظ المحدث أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، نشأته ووفاته ببغداد، توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة. انظر: "تبيين كذب المفتري": ص268-271، و"الكامل" لابن الأثير: (10/68) ، "سير أعلام النبلاء": (18/270) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قيل له: هل لعلم النجوم أصل؟ قال: نعم. كان نبي الأنبياء يقال له يوشع بن نون قال له قومه: أنا لا نؤمن لك حتى تعلمنا بدء الخلق وآجاله. فأوحى الله تعالى إلى غمامة فأمطرتهم واستنقع على الجبل ماء صاف، ثم أوحى الله تعالى إلى الشمس والقمر والنجوم أن تجري في ذلك الماء، ثم أوحى إلى يوشع بن نون أن يرتقي هو وقومه على الجبل، فارتقوا الجبل، فقاموا على الماء حتى عرفوا بدء الخلق وآجاله بمجاري الشمس والقمر والنجوم وساعات الليل والنهار، فكان أحدهم يعلم متى يموت، ومتى يمرض، ومن ذا الذي يولد له، ومن ذا الذي لا يولد له. قال: فبقوا كذلك برهة من الدهر، ثم إن داود عليه الصلاة والسلام قاتلهم على الكفر، فأخرجوا إلى داود في القتال من لم يحضر أجله، ومن حضر أجله خلفوه في بيوتهم، فكان يقتل من أصحاب داود ولا يقتل من هؤلاء أحد، فقال داود: يا رب أقاتل على طاعتك، ويقاتل هؤلاء على معصيتك، فيقتل أصحابي، ولا يقتل من هؤلاء أحد. فأوحى الله إليه أني كنت علمتهم بدء الخلق وآجاله، وإنما أخرجوا إليك من لم يحضر أجله، ومن حصر أجله خلفوه في بيوتهم، فمن ثم يقتل من أصحابك ولا يقتل منهم أحد، قال داود: يا رب على ماذا علمتهم؟ قال: مجاري الشمس والقمر والنجوم وساعات الليل والنهار. قال: فدعا الله فحبست الشمس، فزاد في النهار. فاختلطت الزيادة بالليل فلم يعرفوا قدر الزيادة، فاختلط عليهم حسابهم. قال علي: فمن ثم ذكره النظر في النجوم) 1.   1 أخرجه الخطيب في "حكم علم النجوم": (ق 12 ب) ، (ق 13 أ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 والاستدلال بهذه الرواية باطل من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أنها باطلة لأن إسنادها ضعيف جداً1، إذ أن فيع غير واحد مجهول2، بالإضافة إلى ما تحويه من الكفر والشرك. الوجه الثاني: أن المعتمد أن الشمس لم تحبس على أحد إلا على يوشع بن نون عليه السلام3 لما روى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس لم تحبس على بشر إلا يوشع ليالي سار إلى بيت المقدس" 4. الوجه الثالث: إن ما ذكره من علم القوم بأوقات آجالهم وغير ذلك من غالب أحوالهم غير مقبول5 لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 6. وأخبار الله لا تبدل ولا تنسخ على مر العصور. واستدلوا أيضاً بما روي عن ميمون بن مهران7 رحمه الله أنه قال:   1 ذكر ذلك ابن حجر في "فتح الباري": (6/221) . 2 ذكر ذلك الخطيب في "حكم علم النجوم": (ق 13/أ) . 3 انظر: "منهاج السنة": (6/169) ، و"فتح الباري": (6/221) . 4 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده": (2/325) . وصححه ابن كثير فقال: (انفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط البخاري) . "البداية والنهاية": (1/301) . كما صححه ابن حجر فقال: (رجال إسناده محتج بهم في الصحيح". "فتح الباري": (6/221) . كما صححه د. عبد المجيد الحسيني. "تخريج أحاديث المسند": (16/8298) . 5 "حكم علم النجوم" للخطيب: (ق 13 أ) . 6 سورة لقمان، الآية: 34. 7 هو الإمام ميمون بن مهران، أبو أيوب الجزري الرقي، ومن التابعين، نشأ بالكوفة ثم سكن الرقة، توفي سنة سبع عشرة ومائة، وقيل: ست. انظر: "حلية الأولياء": (4/82) ، و"تاريخ الإسلام": (5/8) ، و"البداية والنهاية": (9/326) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 (إياكم والتكذيب بالنجوم فإنه علم من علم النبوة) 1. وبما روي أيضاً عنه أنه قال: (ثلاث ارفضوهن: لا تنازعوا أهل القدر ولا تذكروا أصحاب نبيكم إلا بخير، وإياكم والتكذيب بالنجوم فإنه من علم النبوة) 2. وهذا استدلال باطل من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن نسبة مثل هذا إلى نبي من الأنبياء المتقدمين لا يثبت إلا بخير من الله تعالى أو بحديث صحيح، وبغير هذا لا يثبت3. الوجه الثاني: أن الناظر في حال ميمون بن مهران يعلم عدم صحة نسبة هذا القول إليه، فقد أثر عنه الزهد والورع وبغض الكذابين والمحتالين، والعداء للمنجمين والتحذير منهم، ولو كان هذا العلم مأثوراً عن الأنبياء، والنبي صلى الله عليه وسلم يحض على تعليمه لكان من أوائل من يعض عليه بالنواجذ، ولكننا نجد من سيرته انه على العكس من ذلك، فقد كان يحذر الناس من اقتفاء أثر هؤلاء بقوله: "لا تجالسوا أهل القدر ولا تسبوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تعلموا النجوم"4. وبقوله: (أربع لا يكلم فيهن: علي وعثمان والقدر والنجوم) 5، فكيف يكون من هذا حاله وقوله مشجعاً للعمل بأحكام النجوم؟   1 ذكرها الرازي، نقلاً عن "مفتاح دار السعادة": (2/188) . 2 المرجع نفسه. 3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (12/57) . 4 "تهذيب الكمال": (3/1398) ، و"سير أعلام النبلاء": (5/73) . 5 "حلية الأولياء": (4/92) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الوجه الثالث: على فرض ثبوت هذا القول يحمل على أنه أراد علم التسيير، إذ قد يكون ما عرف من هذا العلم مأثوراً عن أحد الأنبياء، إذ لا مانع من ذلك، ويحمل قوله الآخر على التنكير والتحذير من علم أحكام النجوم. وجعل هؤلاء أول المنجمين آدم عليه السلام تارة وإدريس عليه السلام تارة أخرى، فما نسب إلى آدم عليه السلام ما ذكره علي بن طاووس: (أن الله تبارك وتعالى أهبط آدم من الجنة وعرفه علم كل شيء فكان مما عرفه النجوم والطب) 1، وذكر الرازي: (أن أول من أعطي هذا العلم آدم، وذلك أنه عاش حتى أدرك من ذريته أربعين ألفاً، وتفرقوا عنه في الأرض وكان يغتم لخفاء خبرهم عليه فأكرمه الله تعالى بهذا العلم وكان إذا أراد أن يعرف حال أحدهم حسب له بهذا الحساب، فيقف على حالته) 2، وبيان بطلان هذا القول واضح لمن عنده أدنى علم بأحوال الأنبياء وما يجوز في حقهم وما يمتنع، وأبين هذا من أربعة أوجه: الوجه الأول: أن هذا من بهت المنجمين وافترائهم على آدم وقد عملوا بالمثل السائر: إذا كذبت فأبعد شاهدك3، إذ أن من نسب إلى آدم عليه السلام علم أحكام النجوم المزعوم ليس عنده إلا مجرد القول الخالي من الدليل، والكذب على الأنبياء، ومثل هذه الأخبار لا تثبت إلا بنص من القرآن والسنة، وهم مجردون من ذلك4.   1 "فرج المهموم": ص22. 2 "مفتاح دار السعادة": (2/188) . 3 المصدر نفسه: (2/219) . 4 انظر: "مجموع الفتاوى المصرية": (1/330) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الوجه الثاني: أن أئمتكم يعترفون أن آدم وأولاده برآء من ذلك، إذ أنهم ينسبون هذا العلم إلى إدريس عليه السلام، ويزعمون أنه أول من علم هذا العلم، وكان ذلك بعد آدم بزمن طويل، هذا لو ثبت عن إدريس، فكيف وهو كذب عليه1؟ الوجه الثالث: أن الأنبياء معصومون من الكفر بالإجماع2، وادعاء علم الغيب كفر، لأنه ادعاء شيء استأثر الله به، والتنجيم من هذا القبيل، لذلك فنسبة الأنبياء إلى التنجيم كنسبتهم إلى الكفر. الوجه الرابع: أن الله نزه الأنبياء أن يكونوا سحرة، وذم من يصفهم بهذا الوصف، وكذبهم قال تعالى {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} 3، والأدلة كثيرة في هذا المعنى. والتنجيم شعبة من السحر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما اقتبس رجل علماً من النجوم إلا اقتبس بها شعبة من السحر ما زاد زاد" 4، فنسبة الأنبياء إلى علم النجوم كنسبتهم إلى السحر، وقد نزههم5 الله عن ذلك. وقد نسب التنجيم أيضاً إلى إدريس عليه السلام، وزعموا أنه أول من علم وعلّم أحكام النجوم.   1 "مفتاح دار السعادة": (2/226) . 2 انظر: "لوامع الأنوار البهية": ص303. 3 سورة الذاريات، الآية: 52. 4 أخرجه أبو داود: (3905) ، وابن ماجه: (3771) ، وأحمد: (1/227، 311) بألفاظ متقاربة. وصححه النووي في "رياض الصالحين": ص637، والمناوي في "التيسير": (2/403) ، والألباني في "السلسلة الصحيحة": (793) ، وفي "صحيح الجامع الصغير": (5950) ، وأحمد شاكر في تحقيقه لمسند الإمام أحمد: (2000، 2841) . 5 مستفاد من "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/332) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فمن ذلك ما أورده إخوان الصفا في رسائلهم قالوا: (ويحكى عن هرمس المثلث بالحكمة، وهو إدريس النبي صلى الله عليه وسلم أنه صعد إلى فلك زحل، ودار معه ثلاثين سنة، حتى شاهد جميع أحوال الفلك، ثم نزل إلى الأرض فخير الناس بعلم النجوم، قال تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} 1) 2. وما ذكره علي بن موسى بن طاووس عن إدريس: (أنه أول من خط بالقلم، وأول من حسب حساب النجوم) ، ثم قال: (هذا لفظه فيما حكي من التوراة) 3، وذكر أيضاً: (وكان إدريس أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من نظر في علم النجوم والحساب) 4. وبيان بطلان هذه الادعاءات من خمسة أوجه: الوجه الأول: أنه قول بلا علم، فإن مثل هذا لا يعلم إلا بالنقل الصحيح، ولا سبي للقائل إلى ذلك5. الوجه الثاني: أن هؤلاء يزعمون أن هذا العلم مأخوذ من إدريس عليه السلام، بينما نجدهم في كتبهم يصرحون أنهم عرفوه بالتجربة والقياس، فمن ذلك قول ابن أبي الشكر6: (وذلك مما جربه الحكماء المتقدمون،   1 سورة مريم، الآية: 57. 2 "رسائل إخوان الصفا": (1/138) ، لم يقل أحد من المفسرين بهذا التفسير للآية. 3 "فرج المهموم": ص22. 4 المصدر نفسه: ص21. 5 "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/331) . 6 هو يحيى بن محمد بن أبي الشكر، أبو الفتح، ويعرف بالحكيم المغربي، منجم عالم بالفلك، أندلسي من أهل قرطبة، توفي سنة ثمانين وستمائة. "كشف الظنون": ص1596، و"هدية العارفين": (2/516) ، و"الأعلام": (8/166) ، و"الذريعة": (1/408) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 والفضلاء المتأخرون) 1. بل والرازي نفسه ذكر هذا عند عرضه للأدلة فقال: (وليست الكواكب موكلة بالفساد والصلاح، ولكن فيها دليل بعض الحوادث عرف ذلك بالتجربة) 2، بل وبعض كبرائهم يصرح أن صناعتهم قائمة على الخرص والتخمين كقول إمامهم أبي نصر الفارابي3: (إنك لو قلبت أوضاع المنجمين فجعلت مكان السعد نحساً، ومكان النحس سعداً، أو مكان الحار بارداً، ومكان البارد حاراً، أو مكان الذكر مؤنثاً، ومكان المؤنث ذكراً، وحكمت لكان حكمك من جنس أحكامهم تصيب تارة وتخطيء تارة وتخطيء أخرى) . وما كان بهذه المثابة من الكذب والتخمين ينزهون عنه معلميهم كبقراط4 وأفلاطون5 وغيرهم من الفلاسفة، الذين يوجد في كلامهم   1 "رسالة في الأحكام على تحاويل سني العالم" لابن أبي الشكر: (ق 1 أ) . 2 "مفتاح دار السعادة": (2/188) . 3 هو محمد بن محمد بن طرخان أبو نصر الفارابي، ويعرف بالمعلم الثاني لشرحه لمؤلفات أرسطو (المعلم الأول) ، أصله تركي كان يحسن اليونانية وأكثر اللغات الشرقية، توفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص368، و"تاريخ حكماء الإسلام": ص 30. 4 هو أحد الفلاسفة المشهورين، وسيد الطبيعيين في عصره، وكان قبل الإسكندر بنحو مائة سنة، نشأ في بلاد الشام، وكان يتوجه إلى دمشق للرياضة والتعليم والتعلم في أحد بساتينها. انظر: "طبقات الأطباء والحكماء": ص16، "تاريخ الحكماء": ص90-ص95. 5 هو أفلاطون بن أرسطو أحد سلاطين الحكمة الخمسة من اليونانيين، كان يعلم الطلاب الفلسفة وهو ماش فسميت فرقته بالمشائين، ووضع لأهل زمانه سنناً وحدوداً في الفلسفة. انظر: "طبقات الأطباء والحكماء": ص23، و"عيون الأنباء": ص79، و"تاريخ الحكماء": ص17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 من الكذب والباطل ما لا يوجد في كلام اليهود ولا النصارى، فإن كانوا ينزهون هؤلاء عنه، فكيف يجوز نسبة ذلك إلى نبي كريم1؟ وبذلك يظهر تناقض أقوالهم مما يدل دلالة واضحة على كذبهم2. الوجه الثالث: إن كان بعض هذا العلم مأخوذاً من نبي –كما تزعمون-، فمن المعلوم قطعاً أن فيه من الكذب والباطل أضعاف ما هو مأخوذ عن ذلك النبي، ومعلوم قطعاً أن الكذب والباطل الذي في ذلك أضعاف الكذب والباطل الذي عند اليهود والنصارى فيما يخبرون به عن الأنبياء، مع أن أصل دين اليهود والنصارى مأخوذ عن المرسلين قطعاً، ومع ذلك فقد حرفوا وبدلوا كذبهم وكتموا، وعهدهم أقرب إلينا عهداً من إدريس، ونقلة دينهم أعظم من نقلة علم أحكام النجوم، وأبعد عن تعمد الكذب والكفر بالله من هؤلاء، فما ظنك بما نقل عن إدريس3؟ الوجه الرابع: أن هذا العلم متضمن للسحر والتقرب إلى الكواكب فما كان من هذه الأحكام من جنس السحر فمن الممتنع أن يكون نبي من الأنبياء ساحراً، وهم يذكرون أنواعاً من السحر، ويقولون: هذا يصلح لعمل الشرائع والسنن، ومنها ما هو دعاء للكواكب، وعبادة لها، وغير ذلك من أنواع الشرك التي يعلم كل من آمن بالله ورسوله بالاضطرار أن نبياًّ من الأنبياء محال أن يأمر بشيء من ذلك ولا علمه، وإضافة ذلك إلى نبي من الأنبياء كإضافة من أضاف السحر إلى سليمان عليه السلام لما سخّر   1 انظر: "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/332) . 2 انظر: المصدر نفسه: (1/331) . 3 انظر المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الله له الجن، فرد الله هذا القول بقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} 1. الوجه الخامس: من المعلوم من حال هذه الأمة ما نسب إلى جعفر الصادق رحمه الله من جنس هذه الأمور مما يعلمه كل عالم بحال جعفر أنه مكذوب عليه، وافترى عليه الرافضة افتراءات كثيرة، لا يشك أحد في كذبها عليه، كما أنهم افتروا على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكذبوا عليه، حتى إن بعض الشيعة نسبة إلى الألوهية، وأضاف كثير من طوائف الباطنية مذهبها إليه، فهذه الافتراءات على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل بيته في الزمن القريب، فكيف الظن بما ينسب إلى إدريس عليه السلام مع تباعد الزمان، وتنوع الحدثان، واختلاف الملل والأديان2. وما اقتصر أذى هؤلاء على الأنبياء السابقين، بل تسابقوا ليؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكاذيبهم وأباطيلهم فادعوا أالنبي صلى الله عليه وسلم من المنجمين، وأنه كان يحض على تعلمه، بل ويعلمه أصحابه، واستدلوا بأمرين: الأمر الأول: قال ابن طاووس في معرض استدلاله على جواز التنجيم: (إن الروايات الواردة في صفات النبي صلى الله عليه وسلم يفيد كثير منها أنه لم يكن كاهناً ولا ساحراً، وما وجدنا إلى الآن فيها وما كان عالماً بالنجوم، فلو كان المنجم كالكاهن والساحر ما كان يبعد أن تتضمنه بعض الروايات في ذكر الصفات) 3.   1 المصدر نفسه: (1/332) . والآية رقم 102 من سورة البقرة. 2 انظر: "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/332-334) . 3 انظر: "فرج المهموم": ص59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الأمر الثاني: الأحاديث الواردة في تعظيم الكواكب، والتشاؤم من بعضها مما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيد لعلم النجوم، من ذلك1: 1- ما روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا" 2. 2- من الناس من يروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسافروا والقمر في العقرب" 3.   1 ذكره الرازي، نقلاً عن "مفتاح دار السعادة": (2/188) . 2 أخرجه الطبراني في "الكبير": (1427) ، وابن عدي في "الكامل": (7/2490) . وقال الهيثمي: (رواه الطبراني عن ثوبان وفيه: يزيد بن ربيعة، وهو ضعيف. ورواه الطبراني أيضاً عن عبد الله بن مسعود، وفيه مسهر بن عبد الملك وثقه ابن حبان وغيره، وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح) "المجمع": (7/202) إلا الفسوي ليس من رجال الصحيح. "السلسلة الصحيحة": (1/43) . وحسنه العراقي. انظر: " التخريج على الإحياء": (1/29) . وقال ابن رجب: روي من وجوه في أسانيدها كلها مقال، ورمز السيوطي لتحسينه. "فيض القدير": (1/348) . وصححه الألباني وقال: (وقد وجدت للحديث شاهداً مرسلاً أخرجه عبد الرزاق في الأمالي، وسنده صحيح لولا إرساله، ولكنه مع ذلك شاهد قوي لما قبله من الشواهد والطرق وخاصة الطريق الأول، فيقوى الحديث..) . "السلسلة الصحيحة": (34) ، "صحيح الجامع": (559) . قلت: يقصد بالطريق الأول رواية مسهر بن عبد الملك، والذي يظهر من أقوال العلماء أن الحديث حسن بمجموع طرقه. 3 ذكر الصاغاني في "الموضوعات": ص53. وحكم ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله عليه بالوضع، بل قال ابن تيمية عنه أنه: (كذب مختلق باتفاق أهل الحديث) . انظر: "مجموع الفتاوى المصرية": (1/330) ، و"مفتاح دار السعادة": (2/214) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 3- ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عند قضاء الحاجة عن استقبال الشمس والقمر واستدبارهما1. 4- أنه لما مات ولده إبراهيم انكسفت الشمس، ثم إن الناس قالوا: إنما انكسفت لموت إبراهيم. فقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة" 2. 5- حديث أبي ذر رضي الله عنه3 قال: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركنا ولا طائر يطير بجناحيه إلا وقد ذكر لنا منه علماً"4. وبيان بطلان استدلالهم نذكره فيما يلي: فأما الأمر الأول وهو استدلال ابن طاووس فهو استدلال باطل   1 لا أصل له –كما سيأتي في الرد عليه في المتن إن شاء الله-. 2 أخرجه البخاري: (2/96) ، كتاب الكسوف، ومسلم: (3/35) ، كتاب الكسوف. ولفظه عن المغيرة بن شعبة قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي". 3 هو أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، أحد السابقين الأولين إلى الإسلام، من نجباء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، مات سنة اثنتين وثلاثين. انظر: "الاستيعاب": (1/252) ، و"أسد الغابة": (6/199) ، و"سير أعلام النبلاء": (2/46) ، و"الإصابة": (4/62) . 4 أخرجه أحمد في "مسنده": (5/153، 162) . قال الهيثمي في "المجمع": (رجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقريء وهو ثقة، وفي إسناده أحمد من لم يسم) . وقال في رواية أبي الدرداء: (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) . "المجمع": (8/264) . وقال ابن حجر: (رجاله ثقات إلا أنه منقطع) . "المطالب العالية": (3872) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 لا يصح، وذلك أن انتفاء السحر عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات كما ذكر دال على انتفاء التنجيم عنه، وذلك لأن علم أحكام النجوم شعبة من شعب السحر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما اقتبس رجل علماً من النجوم إلا اقتبس بها شعبة من السحر زاد ما زاد" 1. وانتفاء السحر عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على انتفاء أجزائه وشعبه، كما أن التنجيم داخل في الكهانة أيضاً وهو فرع عنه، وانتفاء الكهانة عن النبي صلى الله عليه وسلم ينفي أن يكون منجماً. أما الأمر الثاني: وهو استدلالهم بحديث ابن مسعود المتقدم فهو مردود أيضاً لأن معنى الحديث أمسكوا عن الخوض في علم النجوم والعمل به وتصديق قائله2، وعلى هذا لا دلالة لهم فيه، بل هذا الحديث حجة عليهم لا لهم، إذ لو كان علم أحكام النجوم حقًّا لا باطلاً لم ينه عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أمر بالإمساك عنه، فإنه لا ينهى عن الكلام في الحق بل يدل الحديث على أن الخائض في هذا العلم خائض فيما لا علم له به، فأين ما يدل على صحة علم أحكام النجوم في هذا الحديث3؟ واستدلالهم بنا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن السفر والقمر في العقرب باطل أيضاً، إن أن هذا المروي كذب مختلق باتفاق أهل الحديث4.   1 صحيح تقدم تخريجه قريباً: ص97. 2 "فتاوى الإمام النووي": ص287. 3 "مفتاح دار السعادة": (2/214) . 4 انظر: "موضوعات الصاغاني": ص53، و"مجموعة الفتاوى المصرية": (1/330) ، و"مفتاح دار السعادة": (2/214) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 واستدلالهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عند قضاء الحاجة من استقبال الشمس والقمر واستدبارهما يرد عليه من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه ذلك في كلمة واحدة، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مرسل ولا متصل ولا منقطع، وليس لهذه المسألة أصل في الشرع يتعلق به ذنب أو أجر، وكأن هؤلاء –والله أعلم- لما رأوا بعض الفقهاء قالوا في كتبهم في آداب التخلي: (ولا تستقبل الشمس والقمر) ظن أنهم إنما قالوا ذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه فاحتجوا به1. الوجه الثاني: ما لهذا ولأحكام النجوم، فإن كان هذا دالاًّ على دعواهم من تأثير الكواكب في العالم السفلي فدلالة النهي عن استقبال القبلة على هذا التأثير أول وأقوى، مما يقتضي أن يكون عدم استقبال القبلة له تأثير في العالم السفلي2. الوجه الثالث: أن في حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه المتفق عليه دلالة على جواز استقبال الشمس والقمر وردًّا على قول هؤلاء وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره شرقوا أو غربوا" 3. فالحديث صريح فيه جواز استقبال القمرين واستدبارهما إذ لا بد أن يكونا في الشرق أو الغرب غالباً4.   1 "مفتاح دار السعادة": (2/205-206) . 2 المصدر نفسه. 3 أخرجه البخاري: (1/80) ، كتاب الوضوء، ومسلم: (1/154) ، كتاب الطهارة. 4 "سبل السلام": (1/126) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 واستدلالهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم موت ولده إبراهيم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ... " يرد عليه أن هذا الحديث صحيح، وهو من أعظم الحجج على بطلان قولهم، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنهما آيتان من آيات الله، وآيات الله لا يحصيها إلا الله كالمطر والنبات والحيوان والليل والنهار ... ، وآيات الله دالة عليه فهما آيتان لا ربان، ولا إلهان، وليس لهما تصرف في ذواتهما البتة فضلاً عن إعطائهما كل ما في العالم من خير وشر وصلاح وفساد1. وإن كانوا يستدلون بكونها آية من آيات الله لها تأثير في العالم وجب أن يجعلوا كل آية من آيات الله لها تأثيراً في العالم، فإن منعوا هذا بطل استدلالهم. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم نفى أن يكون للكواكب تأثير في هذا العالم بقوله: "لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته"، فأين هذا المعنى من دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد لهذا العلم. واستدلالهم بحديث أبي ذر يرد عليه من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن هذا الحديث من أعظم الأدلة على بطلان قولهم وتكذيبهم فيما يدعونه من علم أحكام النجوم، فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر لهم كل شيء حتى الخراءة، وذلك فيما رواه مسلم رحمه الله عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: "قيل له: نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم"2، وقد ذكر لهم من علم كل طائر، وكل حيوان، وكل ما في العالم، ولم يكر لهم من علم أحكام النجوم شيئاً البتة، وهو   1 "مفتاح دار السعادة": (2/206) . 2 أخرجه مسلم: (1/154) ، كتاب الطهارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 صلى الله عليه وسلم أجل من هذا وأعظم، قد صانه الله تعالى عن ذلك، وإنما الذي ذكر لهم هذه الأحكام المشركون عباد الأصنام والكواكب. أفلا يستحيي رجل أن يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المقام1؟ الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لأمته من تكذيبهم وكفرهم والبراءة منهم والإخبار بأنهم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم2. الوجه الثالث: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحد من أهل بيته، أو أحد من صحابته مثبتاً لأحكام النجوم، عاملاً بها في حركاته وسكناته وأسفاره كما هو المعروف عن المشركين وأتباعهم حتى يكون هذا العلم مأثوراً عنهم. من هذا تبين أن نسبة علم أحكام النجوم إلى الأنبياء، والقول بأنه من علوم النبوة كذب وهراء، لا يجوز لأحد أن يعتقده، إذ أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما بعثوا لمحق الشرك وقطع أسبابه، واعتقاد أن هذه الكواكب مدبرة لهذا العالم، أو لها تصريفاً في العالم السفلي، أو أنها علامات على الحوادث السفلية من الشرك الذي بعث الأنبياء لمحقه.   1 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/218) . 2 المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الفصل الثالث: التنجيم عند العرب في الجاهلية الفصل الثالث: التنجيم عند العرب في الجاهلية ... الفصل الثالث: التنجيم عند العرب (في الجاهلية) كان العرب في الجاهلية يعرفون التنجيم، ويعتقد كثير منهم تأثير النجوم في أحوال العالم السفلي، وكانوا يعدونه نوعاً من أنواع الكهانة. فالكهانة عندهم على أنواع شتى وهي: إما أن يكون لأحدهم رئيًا1 من الجن وتابعاً يلقي إليه الأخبار بما يسترقه من السمع من السماء، أو بما يطلع عليه مما يغيب عن الناس غالباً، وإما أن يستند على الظن والتخمين، فيزعم أنه يعرف الأمور الخافية بمقدمات وأسباب تسبق الحوادث، وهو العرَّاف، وإما أن يستند على ظنون كاذبة وأوهام لا حقيقة لها، ويزعم أنه عرفها بالتجربة والعادة وهو المنجم2. ومما يؤيد اعتبار العرب التنجيم من الكهانة جواب قس بن ساعدة3 عندما سأله ملك الروم: خبرني هل نظرت في النجوم؟ قال: ما نظرت فيها إلا بما أردت به الهداية، ولم أنظر فيما أردت به الكهانة، ثم قلت في النجوم: علم النجوم على العقول وبال وطلاب شيء لا ينال ضلال   1 هو جني يتعرض للرجل يريه كهانة وطبًّا. "لسان العرب": (14/297) . 2 انظر: "معالم السنن": (5/370) ، و"شرح النووي على صحيح مسلم": (14/223) ، و"بلوغ الأرب": (3/269-270) . 3 هو قس بن ساعدة بن عمرو، من بني إياد، أحد حكماء العرب في الجاهلية، وأحد خطبائهم. كان أسقف نجران، توفي سنة ثلاث وعشرين قبل الهجرة. "البداية والنهاية": (2/214) ، و "بلوغ الأرب": (2/244) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ماذا طلابك علم شيء أغلقت من دونه الأفلاك ليس ينال هيهات ما أحد بغامض قدره يدري كم الأرزاق والآجال إلا الذي فوق السماء مكانه فلوجهه الإكرام والإجلال وكان يسود بين العرب نسبة النحوس والسعود إلى الكواكب1. وخصوصاً في أشعارهم. فمن ذلك قول عبيد بن الأبرص الأسدي2: ولتأتين بعدي قرون جمة ترعى محارم أيكة ولدوداً فالشمس طالعة، وليل كاسف والنجم يجري أنحسًا وسعودًا3 وقول خفاف بن ندبة السلمي4: كأن كوكب نحس في معرسه أو فارسيًّا عليه سحق سربال5 وقول الحارث بن حلزة اليشكري6: لا يرتجي للمال، يهلكه سعد النجوم إليه كالنحس7   1 انظر: "المحاسن والمساوي": ص327-328، و"حكم علم النجوم": (ق 14 أ) . 2 هو عبيد بن الأبرص بن عوف الأسدي، أبو زياد، من مضر، شاعر جاهلي، وهو أحد أصحاب المجمهرات المعدودة في الطبقة الثانية بعد المعلقات. "الشعر والشعراء" لابن قتيبة: ص161، و "الأعلام": (4/188) . 3 "بلوغ الأرب": (2/281) . 4 هو خفاف بن عمير بن الحارث بن الشريد السلمي، وندبة أمة، وهي أمة سوداء، وينسب إليها، وهو ابن عم الخنساء، ويكنى أبا خراشة، أسلم وبقي إلى زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انظر: "الشعر والشعراء": ص212، و"مختار الأغاني" لابن منظور": (3/424) . 5 "ديوان خفاف ابن ندبة": ص91. 6 هو الحارث بن حلزة، من بني يشكر، من بكر بن وائل، أحد شعراء الجاهلية. انظر: "الشعر والشعراء": ص111، و"خزانة الأدب": (1/325) . 7 "المفضليات" للضبي: ص134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وقال آخر: والكوكب النحس يسقي الأرض أحياناً1 أما نسبة المطر إلى الأنواء والنجوم فهو منتشر بينهم بصورة كبيرة، إذ أنهم ينسبون المطر إلى النجم الطالع، وقيل إلى الساقط2، ولم يكن أهل الجاهلية يعتقدون أن المنشأ للمطر والخالق له هذا الكواكب، بل كانوا يعلمون أن الله هو المنزل للمطر، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3، والذي يدل على نسبتهم المطر إلى الأنواء قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة" 4، فجعل الذي يستسقي بالنجوم مشابهاً لأهل الجاهلية في هذا الفعل تنفيراً منه، لذلك ورد التغليظ في النهي عن القول بقول أهل الجاهلية هذا في حديث زيد بن خالد الجهني5 أنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن   1 "نهاية الأرب": (1/64) . 2 انظر: "الأنواء في مواسم العرب" ص9. 3 انظر: "تيسير العزيز الحميد": ص454، والآية رقم 63 من سورة العنكبوت. 4 رواه مسلم: (3/45) ، كتاب الجنائز. 5 هو زيد بن خالد الجهني المدني، مختلف في كنيته، صحابي شهد الحديبية، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح، توفي سنة ثمان وسبعين، وقيل: قبل ذلك. انظر: "تهذيب الكمال": (1/453) ، و"الإصابة": (1/565) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب" 1، يحذر النبي صلى الله عليه وسلم الناس من اقتفاء أثر أهل الجاهلية بسلوك هذا المسلك. وبعض العرب كان يصبو إلى الصابئة –الذين كانوا على دين إبراهيم- ويعتقد في الأنواء اعتقاد المنجمين في النجوم السيارة، حتى لا يتحرك ولا يسكن ولا يسافر ولا يقيم إلا بنوء من الأنواء2، وبعضهم كان يعظم الشمس والقمر، ويعتقد أن الكسوف والخسوف لا يحدثان إلا لموت عظيم أو لحياته فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران3 بقوله: "إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموهما فصلوا" 4، كما كانوا يجعلون النجوم التي ترمى بها الشياطين دلالة على الحوادث الأرضية من موت وحياة ونحو ذلك، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أخبرني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمي بنجم فاستنار. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. كنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم، ومات رجل عظيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى   1 أخرجه البخاري: (2/86) ، كتاب الاستسقاء، ومسلم: (1/59) ، كتاب الإيمان. 2 انظر: "الملل والنحل": (2/238) . 3 انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم": (6/201) ، و"فتح الباري": (2/528) . 4 متفق عليه تقدم ص 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذي يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال. قال: فيستخير بعض أهل السماوات بعضاً حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا، فتخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم ويرمون به، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون1 فيه ويزيدون" 2. وجعلوا انقضاض شيء من البروج الاثني عشر دالاًّ على ذهاب الدنيا3. ولم يخف عليهم الخط على الرمل بل كان يتخذها رجال منهم صناعة لهم، ويرجع إليهم في معرفة الأمور مستقبلاً غالباً، كما ذكر هذا معاوية ابن الحكم السلمي4 رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالاً يأتون الكهان. قال: "فلا تأتهم"، قال: ومنا رجال يتطيرون قال: "ذلك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم". قال: قلت: ومنا رجال يخطون. قال: "كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك"5 ولم يقتصر الحال على نسبة التأثير لهذه الكواكب، بل تعدى إلى عبادة   1 معناه يخلطون فيه الكذب، وهو بمعنى يقذفون. "شرح النووي": (14/227) . 2 أخلاجه مسلم: (7/36-37) ، كتاب السلام. 3 انظر: "تفسير القرطبي": (17/82-83) ، و"المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام": (8/434) . 4 صحابي، كان يسكن بني سليم وينزل المدينة. "أسد الغابة": (5/207) ، و"الإصابة": (3/432) . 5 أخرجه مسلم: (2/70) ، كتاب الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 بعضها، فقد ورد في قوله تعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} 1، وهذا إخبار من الله من قبيلة سبأ بأنهم لا يعرفون سبيل الحق الذي هو إخلاص السجود لله وحده، دون ما خلق من الكواكب وغيرها، لذلك اتجهوا إلى عبادة الشمس والسجود لها من دون الله2، وكان يعتقد هؤلاء أن جميع الموجودات السفلية صادرة من الشمس، لذلك فهي تستحق التعظيم والعبادة، فكانوا يسجدون لها إذا طلعت وإذا غربت، وإذا توسطت الفلك، ولهذا يقارنها الشيطان في هذه الأوقات لتقع عبادتهم وسجودهم له، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحري الصلاة في هذه الأوقات، قطعاً لمشابهة الكفار، وسدًّا لذريعة الشرك3، فقال: "إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب، ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان" 4، وكذلك عبدت خزاعة وغيرها الشعري، سن لهم ذلك أبو كبشة5 رجل من أشرافهم6،ولهذا ورد ذكرها في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} 7، والشعرى الكوكب المضيء الذي يطلع   1 سورة النمل، الآية: 24. 2 انظر: "تفسير ابن كثير": (3/361) . 3 انظر: "بلوغ الأرب": (2/215-216) . 4 أخرجه البخاري: (4/250) ، كتاب بدء الخلق، ومسلم: (2/210) ، كتاب صلاة المسافرين. 5 اسمه وجز بن عامر بن غالب. "فتح الباري": (1/40) . 6 انظر: "الكشاف": (4/34) ، و"تفسير القرطبي": (17/119) ، و"تفسير أبي السعود": (5/651) ، و"بلوغ الأرب": (2/239) . 7 سورة النجوم، الآية: 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 بعد الجوزاء، وطلوعه في شدة الحر، والمقصود بها الشعرى العبور، وأصحاب الصور يرسمونها في السرطان، وقد كان من لا يعبد الشعرى من العرب يعظمها، ويعتقد تأثيرها في العالم قال الشاعر: مضى أيول وارتفع الحرور وأخبت نارها الشعرى العبور1 وطائفة من قبيلة تميم عبدوا (الدبران) من النجوم، كما عبد بعض طيء الثريا، وهي عدة كواكب مجتمعة، وبعض قبائل ربيعة عبدوا (المرزم) ، والمرزمان نجمان من الشعريين، والرزم بمعنى الجمع، ورزم الشتاء رزمة: برد، وبه سمي نوء المرزم2. وعبدت كنانة القمر3، وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة، وإليه تدبير العالم السفلي، ومن شريعة عبادتهم أنهم اتخذوا له صنماً على شكل عجل، وبيد الصنم جوهرة، يعبدونه ويسجدون له، ويصومون له أياماً معلومة من كل شهر، ثم يأتون إليه بالطعام الشراب والفرح والسرور4.   1 انظر: "تفسير القرطبي": (17/119) . 2 انظر: "بلوغ الأرب": (2/239) . 3 المصدر السابق نفسه: (2/240) . 4 المصدر نفسه: (2/216) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الفصل الرابع: دور أعداء الإسلام في نشر التنجيم المبحث الأول: دور أهل الكتاب وغيرهم من المشركين في نشر التنجيم بين المسلمين ... دور أهل الكتاب وغيرهم من المشركين في نشر التنجيم بين المسلمين: كانت الشعوب والقبائل التي أدخلها المسلمون تحت حكم الإسلام خليطاً من أصحاب عقائد شتى، وأديان متنوعة، وثقافات مختلفة. فالفرس كانوا على الديانة المجوسية التي بنيت على تعظيم الأنوار، وعلى جعل مبدأ موجودات العالم من اختلاط النور بالظلمة، وعلى الاتجاه إلى الشمس عند السجود ونحو ذلك1. كما كانت الصابئة في حران وفي غيرها من نواحي العراق تعبد الكواكب، وتزعم أن لها تأثيراً في العالم السفلي، وتدعي أن لها أرواحاً، وأنها تتجلى في الكواكب ونحو ذلك2. كما كانت المدارس الفلسفية التي تحمل ثقافة اليونان والتي تضم أدياناً مختلفة من يهود ونصارى وصابئة ومجوس وغيرهم منتشرة بين هذه الشعوب كمدرسة الرها، ومدرسة نصيبين، ومدرسة حران، ومدرسة جنديسابور، ومدرسة الإسكندرية3.   1 انظر: "الملل والنحل": (1/236-238) ، و"إغاثة اللهفان": (2/242، وما بعدها) . 2 انظر: "الآثار الباقية": ص204-207، و"إغاثة اللهفان": (2/245، وما بعدها) . 3 انظر: "تاريخ الفلسفة العربية": ص19-20. ومدرسة الرها: الرها مدينة تابعة لتركيا اليوم، وبالأمس لشمال العراق، أنشأ هذا المدرسة الفرس، واستقدموا أساتذة من خريجي الإسكندرية السريان. ومدرسة نصيبين: كانت لغة التعليم فيها اللغة الرسانية وتأثرت العلوم اليونانية فيها بتيارات فارسية وهندية. ومدرسة حران: أنشئت في مدينة حران الواقعة في العراق بين دجلة والفرات، وكان معقلاً للديانات البابلية والصابئية، وللفلسفة الأفلاطونية. ومدرسة جنديسابور: تسربت في هذه المدرسة الثقافة الهندية، وحصل تفاعل بين الثقافات اليونانية والسريانية والفارسية والهندية. ومدرسة الإسكندرية: أنشأها أساتذة مدرسة أثينا الفلسفية، وتعتبر هذه المدرسة الأم بالنسبة للمدارس الأخرى، ومنها مدرسة إنطاكية نقل السريان ثقافة اليونان إلى بقية المدارس. انظر: "تاريخ الفلسفة العربية": (2/6-12) ، و"دراسات في تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية": ص149-153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وكانت الفلسفة في نظر أصحاب هذه المدارس هي خلاصة العلوم فالفيلسوف يعرف الطب والحساب والهندسة والموسيقا والنجوم، وتغلب عليه إحدى الصفات لتفوقه في علم من هذه العلوم1. ويغلب على مدرسة الإسكندرية هذه التوفيق بين الدين والفلسفة، وتعتبر أكبر المدارس ضرراً على عقائد المسلمين2. وهذه الأديان والاتجاهات المختلفة أثرت تأثيراً كبيراً في ثقافة شعوبها، مما جعل التنجيم جزءاً من ثقافة هذه الشعوب، وبالتالي جعل نقل هذه الثقافة إلى المسلمين وسيلة لنشر التنجيم بينهم. وذلك لما فتحت الدولة العباسية أبواب ترجمة كتب اليونان، واستقطبت من الروم كتباً كثيرة في الفلسفة والفلك والطب والتنجيم ونحو ذلك.   1 انظر: "دراسات في تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية": ص143. 2 انظر: "الإسلام في مواجهة الحركات الفكرية": ص170-108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وكانت بداية ذلك في عهد أبي جعفر المنصور –حيث دخل الدولة الإسلامية كثير من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة من المنجمين والفلاسفة الذين تأثروا بتلك المدارس الفلسفية، ومن غيرهم، فوجدها أعداء الإسلام هؤلاء ثغرة يستطيعون بث سمومهم منها بنشر الفلسفة والتنجيم بين أبناء المسلمين، إذ لم يكن دخول هؤلاء بين المسلمين وترجمة كتب الفلاسفة، لهدف مادي أو لهدف نشر العلم على حسب مفهومهم لمعنى العلم- ولكن كان الهدف هو الدعوة إلى نحلتهم، ونصرة مذهبهم، وصرف المسلمين عن دينهم، كما صرح بذلك كثير من كتابهم1. فنجد نوبخت الفارسي من أوائل من وفد على المنصور وحظي عنده بمنزلة رفيعة2، وتوارث أبناؤه هذه الصناعة بعده3. كما أن يحيى بن أبي منصور المنجم الفارسي المجوسي كان في بلاد المأمون، ورغبة المأمون في الإسلام فأسلم، واستمرت صناعة التنجيم في سلالته4، كما أن من آثاره، تأديب أبناء موسى بن شاكر5، وتعليمهم أصناف الفلسفة، مما جعل لهم دوراً كبيراً في نشر الفلسفة فيما بعد، إذ   1 انظر: "الإسلام والفلسفات القديمة": ص58-59. 2 انظر: "البداية والنهاية": (10/125) . 3 انظر: "تاريخ الحكماء": ص409. 4 انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص205، و"تاريخ الحكماء": ص357، و"الأعلام": (8/173) . 5 كان موسى بن شاكر من منجمي المأمون، وكان متقدماً هو وبنوه –فيما بعد- محمد وأحمد والحسن في علم الهندسة، وهيئة الأفلاك، وحركات النجوم، وقد توفي وهم صغارً، ولم يكن أهل العلم والأدب، بل كان لصًّا يقطع الطريق. انظر: "تاريخ الحكماء": ص315، 441، و"الأعلام": (7/323) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 إنهم تناهوا في طلب العلوم القديمة، وبذلوا فيها الرغائب، وأتعبوا أنفسهم فيها، وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها لهم، فأحضروا النقلة من الأصقاع والأماكن المختلفة بالبذل السخي1. كما أن وجود ما شاء الله المنجم اليهودي، واسمه ميشا بن أبري في زمن المنصور، وبقاؤه إلى عصر المأمون يوضح دوره في هذا الشأن، وخصوصاً إذا علمنا أن الرجل قام بتصنيف كتب في التنجيم مثل كتاب المواليد الكبير، وكتاب القرانات والأديان والملل، والكتاب المسمى بالسابع والعشرين2. وكذلك سند بن علي اليهودي كان في زمن المأمون، وكان منجماً، وكان خبيراً بتسيير النجوم، وعمل آلات الرصد والإصطرلاب3، ولسند هذا زيج4 مشهور استمر عمل المنجمين به فترة من الزمن، وله تصانيف كثيرة في هذه الصناعة5. وكذلك سهل بن بشر بن هاني اليهودي المنجم، كان في خدمة الحسن   1 انظر: "تاريخ الحكماء": ص441، 315-316. 2 انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص382، و"تاريخ الحكماء": ص327. 3 انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص383. والإصطرلاب بالسين والصاد كلمة يونانية، معناها مقياس النجوم، ويقصد بها الآلة المستعملة في استخراج حساب النجوم. انظر: "مفتاح العلوم" للخوارزمي: ص253، و"دائرة المعارف الإسلامية": (2/114، 115) . 4 هو جدول يعرف منه مواضع الكواكب في أفلاكها، ويعمل على طريقة حسابية عن طريق معرفة سير الكواكب، وهي كلمة فارسية. انظر: "مقدمة ابن خلدون": ص488-489. 5 انظر: "تاريخ الحكماء": ص206-207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ابن سهل1 وزير المأمون، وله في التنجيم كتب كثيرة، منها: كتاب المواليد الكبير، وكتاب تحويل سني العالم، وكتاب المدخل الصغير، وكتاب المدخل الكبير، وغيرها2. ومن النصارى الذين كان لهم دور في نشر التنجيم عبد الله بن علي النصراني، ويعرف بالدنداني يكنى أبا علي، وكان منجماً قديم العهد، مشهوراً في زمانه بهذه الصناعة، وصنف فيها3، كما كان ثيوفل بن توما النصراني المنجم الرهاوي رئيس منجمي المهدي4. وأما دور الصابئة فسأكتفي بذكر أشهرهم، وهو ثابت بن قرة بن مروان بن ثابت بن كريا، أو الحسن الحراني الصابىء، من أهل حران، وكان صيرفيًّا بها، ثم لنتقل إلى بغداد، واشتغل بعلوم الأوائل، ومهر فيها، وكان جيد النقل إلى اللغة العربية، حسن العبارة، قوي المعرفة باللغة السريانية، وغيرها من اللغات. وكان يؤنس المعتضد لما سجنه أبوه، وكان يدخل عليه الحبس ثلاث   1 هو الحسن بن سهل بن عبد الله السرخي، أبو محمد وزير المأمون، وأحد كبار القادة والولاة في عصره، ووالد زوجة المأمون (بوران) ، كان منجماً من أهل بيت الرياسة في المجوس، وأسلم، توفي سنة ست وثلاثين ومائتين. انظر: "تاريخ بغداد": (7/319) ، و"البداية والنهاية": (10/322-329) ، و"وفيات الأعيان": (2/120) . 2 انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص383، و"تاريخ الحكماء": ص196. 3 انظر: "تاريخ الحكماء": ص221. 4 انظر: المصدر السابق نفسه: ص109. والمهدي هو الخليفة العباسي أبو عبد الله محمد بن المنصور أبي جعفر الهاشمي العباسي، توفي سنة تسع وستين ومائتين. انظر: "تاريخ بغداد": (5/391-401) ، "سير أعلام النبلاء": (7/400) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 مرات يحادثة ويعرفه أحوال الفلاسفة، وأمر الهندسة والنجوم، وغير ذلك، حتى شغف به المعتضد، وأعجب به كثيراً، ولما تولى الخلافة أقطعه ضياعاً، وقربه إليه، وأدخله في جملة من المنجمين1، وكانت تغلب عليه الفلسفة، وألف كتباً كثيرة في فنون من العلم كالمنطق والحساب، والهندسة، والتنجيم، والهيئة، وهو الذي أدخل رئاسة الصابئة إلى العراق، فثبتت أحوالهم، وعلت مراتبهم، وبرعوا، وبلغ ثابت بن قرة هذا مع المعتضد2 أجل المراتب وأعلى المنازل، حتى كان يجلس بحضرته في كل وقت، ويحادثه طويلاً، ويضاحكه، ويقبل عليه دون وزرائه وخاصته، وله كتاب في طبائع الكواكب، وتأثيراتها، وتوفي سنة ثمان وثمانين ومائتين3.   1 انظر: "عيون الأنباء": ص295. وذكر ابن النديم وابن أبي أصيبعة في موضع آخر وابن القفطي: (أن محمد بن موسى ابن شاكر استصحبه لما انصرف من بلد الروم، وهو الذي وصله بالمعتضد، وأدخله في جملة المنجمين) . انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص380، و"عيون الأنباء": ص295، و"تاريخ الحكماء": ص116. قلت: وهذا خطأ إذ أن محمد بن موسى توفي سنة تسع وخمسين ومائة كما ذكره ابن النديم: ص379، و"المعتضد" لم يتول الخلافة إلا في سنة تسع وسبعين ومائتين. والله أعلم. 2 هو أحمد بن محمد الموفق، الملقب بناصر الدين، أحد الخلفاء العباسيين، كان شجاعاً فاضلاً، حازماً، جريئاً، أقام شعار الخلافة بعد ضعفها، ورفع منارها. توفي سنة تسع وثمانين ومائتين. انظر: "سير أعلام النبلاء": ص380، و"البداية والنهاية": (11/92) . 3 انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص380، و"تاريخ الحكماء": ص116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وما ذكرناه آنفاً ما هو إلا نماذج لعمل أعداء الإسلام في نشر التنجيم بين المسلمين واستغلالهم تشجيع الخلفاء بهم وغفلة المسلمين عن خطرهم، فدخلوا على المسلمين من هذه الثغرة. وبعد أن ترجمت كثير من كتب الفلاسفة انتشرت هذه الكتب، وتصفحها بعض المسلمين، فصاروا يعتقدون كما يعتقد الفلاسفة1، فاعتقدوا أن الأفلاك نفوساً وعقولاً، وجعلوا الحوادث الكون والفساد مدبرة من قبل النفوس الفلكية العاقلة2. وأراد الفلاسفة أن يصبغوا عقيدتهم الباطلة شرعية –مستمدين هذه الطريقة من فلاسفة مدرسة الإسكندرية- ليمتصوا بذلك نقمة المسلمين منهم، ولتكون عقيدتهم أدعى لقبول المسلمين إياها، فسموا الأفلاك ملائكة، وسموا ما ادعوه من تدبير الأفلاك للكون بخلافة الملائكة في تدبير خلائقه3. ومن عرف مراد الأنبياء ومراد الفلاسفة علم بالاضطرار أن هذا ليس هو ذاك، فقد علم بالاضطرار من دين الأنبياء أنه ليس من الملائكة عندهم من هو رب، ولا من هو قديم أمزلى أبدي لم يزل ولا يزال4. واتخذ كثير من هؤلاء الفلاسفة التشيع ستاراً هم كيعقوب بن   1 انظر: "مقدمة ابن خلدون": ص515. 2 انظر: "الملل والنحل": (2/188-189، 214) ، و"السر المكتوم" للرازي: (ق185-188) . 3 انظر: "رسائل إخوان الصفا": (1/145) . 4 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (1/243-244) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 إسحاق الكندي1، وابن سينا2، وإخوان الصفا، وغيرهم، وذلك لعلمهم بأن الشيعة من أجهل الطوائف، وأضعفها عقلاً وعلماً، وأبعدها عن دين الإسلام علماً وعملاً3.   1 انظر: "فرج المهموم": ص125، و"مقدمة ابن خلدون": ص338. والكندي هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي، وهو أحد أبناء ملوك كندة، وهو متبحر في فنون الحكمة اليونانية والفارسية والهندية، متخصص في أحكام النجوم، نشأ في البصرة، ثم انتقل إلى بغداد، هلك سنة ستين ومائتين. انظر: "الفهرست" لابن نديم: ص357، و"تاريخ الحكماء": ص366، و"الأعلام": (8/195) ، و"الذريعة": (24/78) . 2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (35/134-136) ، و"إغاثة اللهفان": (2/262، 263) . وان سينا هو الحسين بن عبد الله بن سينا، إمام الملحدين فلسفي النحلة، صاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات، أصله من بلخ من خراسان، هلك سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. انظر: "وفيات الأعيان": (2/157) ، و"لسان الميزان": (1/539) ، و"إغاثة اللهفان": (2/262، 263) ، و"هدية العارفين": (1/308) . 3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (35/134-136) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 المبحث الثاني: دور الرافضة في نشر التنجيم بين المسلمين أقر الرافضة بالتنجيم وبتأثير الكواكب في هذا الكون بالسعود والنحوس والموت والحياة، ونحو ذلك، إلا أنهم أرادوا أن يصبغوا معتقدهم هذا بصيغة إسلامية أشد من صبغة الفلاسفة، وينمقوه أكثر من تنسيق الفلاسفة. فقالوا: إن النجوم مؤثرة في هذا الكون، إلا أن تأثيراتها بفعل الله تعالى، وأنها علامات على حوادث عالم الكون والفساد، إلا أن هذه العلامات ليست لازمة، إذ قد يغير الله تلك العادة لما يراه من المصلحة1، وهذا مبني على عقيدتهم الفاسدة التي يصفون الله فيها بالبداء2 تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وحتى لا يلزموا بظهور الكذب في أكثر الحوادث التي يخبر بها المنجمون، فإن سئلوا عن ذلك قالوا: بدا الله أن يغير هذه العلامة في هذا الموضع. وخصصت الكلام في هذا المبحث عن دور الرافضة في نشر التنجيم، دون دور غيرهم ممن ينتسب إلى الإسلام، لأن الرافضة أكثر الطوائف كلاماً في التنجيم، وأعظمها أثراً في زرع هذه الصناعة ونشرها، ويتضح هذا الأمر من أربعة أوجه:   1 انظر: "فرج المهموم": ص272-74. 2 انظر: "الأصول من الكافي": (1/113) ، و"أوائل المقالات": ص91. ومعنى البداء: أن الله يريد أن يفعل الشيء في وقت من الأوقات، فيبدو له تركه. انظر: "مقالات الإسلاميين": ص39. وهذا الاعتقاد لا يجوز للمسلم اعتقاده إذ أنه ينافي الاعتقاد بعلم الله بما كان وبما يكون وبما سيكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الوجه الأول: دور الرافضة الواضح في العمل على تأصيل علم التنجيم بإيراد الشبه، وتدعيمه بالآيات التي يزعمون أنها تؤيد ما ذهبوا إليه، وبالأحداث المكذوبة، وبنسبته إلى الأنبياء، وإلى من زعموا أنهم أئمة لهم، ولا شك في وجود الفرق بين ممن ينسب التنجيم إلى الدين، وبين من ينسبه إلى أحكام استنبطها من النجوم. الوجه الثاني: استخدموا أساليب متنوعة لغرس التنجيم في قلوب الناس. الوجه الثالث: تبنى التنجيم كثير من كبار رجالهم، وألفوا فيه كثيراً ممن الكتب، وتقربوا به إلى الخلفاء مما جعل لهم مكانة عند عامة الناس. الوجه الرابع: تأييدهم للفلاسفة والمنجمين وتمكينهم في الأرض كما فعل النصير الطوسي1 عندما وظف منجمين لرصد الكواكب، وجعل لهم أوقافاً تقوم بمعاشهم، قال ابن القيم في ذلك: (ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد وزير الملاحدة..، شفا نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه فعرضهم على السيف حتى شفا إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين، واستبقى الفلاسفة والمنجمين، والطبائعيين والسحرة، ونقل أوقاف المدارس، والمساجد، والربط إليهم، وجعلهم خاصته وأولياءه) 2.   1 هو محمد بن محمد بن الحسن الطوسي، يكنى بنصير الدين من الرافضة الإمامية، كان فيلسوفاً، متكلماً، محققاً في العقليات، له منزلة كبيرة عند (هولاكو) ، هلك سنة اثنتين وسبعين وستمائة. انظر: "البداية والنهاية": (13/283) ، و"أمل الآمل": (2/299) ، و"الأعلام": (7/30) . 2 "إغاثة اللهفان": (2/263) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وتتبين هذه الأوجه بما يلي1: أما دورهم في العمل على تأصيل هذا العلم بإيراد الشبهات، واستخدام الأساليب المتنوعة فسيأتي ذكر الآيات والأحاديث في فصل شبهات المنجمين، والرد عليها إن شاء الله. وأما بالنسبة هذا العلم للأنبياء ولأئمتهم فهو مبني على اعتقاد هؤلاء أن الأنبياء والأئمة يعلمون الغيب، فما من شاردة، ولا رادة إلا للأنبياء ولأئمتهم نصيب من علمها كما يزعمون2. ومن هذا المنطلق ومن خوفهم أن يظن أن أهل أحكام النجوم قدروا على ما لم يقدر على مثله الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأئمتهم المزعومون جعلوا الأنبياء والأئمة يعلمون علم أحكام النجوم3. فمن ذلك قول ابن طاووس: (واعلم أن الأحاديث عن الأنبياء عليهم السلام من لدن إدريس عليه السلام إلى الناطق من عترة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن لدن الملوك الذين ذكرت تواريخهم، وتواريخ العلماء المترددين إليهم ما يضيق عم مجلد واحد من ذكر الجميع، ومنهم من هو حجة، وفيهم أعيان معتمد عليهم في تحقيق ما ذكرناه من أن علم النجوم دلالات وعلامات   1 قصدت في هذا الفصل عرض دورهم في نشر التنجيم فقط، ولم أقصد الرد عليهم هنا إلا ما جاء عرضاً، لأن الردود عليهم لها مواضع أخرى من الرسالة كل بحسبه، فمثلاً ما نسبوه للأنبياء من التنجيم تقدم الرد عليه في فصل تنزيه الأنبياء أن يكونوا منجمين، وما نسب إليهم من علم الرمل سيأتي الرد عليه في مبحث الخط على الرمل وما يلحق به والاستدلال به على المغيبات ... وهكذا. 2 انظر: "الأصول من الكافي": (1/203) ، و"الاحتجاج": (1/456، 375) ، و"تجريد الاعتقاد": ص416، و"كشف المراد شرح تجريد الاعتقاد": ص416. 3 انظر: "فرج المهموم": ص222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وآيات لله جل جلاله باهرات، وحجج على عبادة ظاهرات1. ثم ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان عالماً بالتنجيم فقال: (وإلا فقد كان نبياً صلوات الله عليه عالماً بجميع علوم الأنباء والمرسلين بغير خلاف فيما أعلم بين المسلمين، وهذا علم النجوم أهله مجمعون أنه من علوم إدريس وجماعة من الأنبياء عليهم السلام، وقد روينا نحن وغيرنا بعض ما وقفنا عليه، وإنما معجزة نبينا أنه علم ذلك العلم وغيره من علوم الأنبياء بغير تعليم أحد من البشر، بل من سلطان الأرض والسماء) 2. ونسبوا كذلك علم الحروف إلى بعض الأنبياء والمرسلين، وافتروا حديثاً في ذلك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلق الله الأحرف، وجعل لها سراًّ، فلما خلق آدم عليه السلام بث فيه السر، ولم يبثه في الملائكة فجرت الأحرف على لسان آدم بفنون الجريان، وفنون اللغات..) 3 وأخذ بعدد أسماء بعض الأنبياء مبيناً أن هؤلاء كلهم لهم علم بعلم الحروف، وأنهم أخذوها عن طريق الوراثة، فذكر إدريس ونوحاً وإبراهيم، وموسى، وإلياس، وداود، وعيسى، ومحمداً صلوات الله وسلامه عليه، كما ذكر محمد بن علي القمي4 في كتاب التوحيد شيئاً من نسبة علم حروف الجمل إلى عيسى عليه السلام، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على   1 انظر: المصدر نفسه: ص3. 2 انظر: المصدر السابق نفسه: ص78. 3 "إلزام الناصب": (1/232، وما بعدها) . 4 هو محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، الملقب بالصدوق، من كبار علماء الشيعة، توفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. انظر: "الفهرست" للطوسي: ص156، و"رجال الحلي": ص147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 تعلمه1، وهذه الأحاديث كلها لا يحتج بها، كما سوف أبين في فصل حروف أبي جاد والاستدلال بها على المغيبات إن شاء الله تعالى. وأما نسبة هذا العلم إلى أئمتهم فقد أطنبوا فيه، وباعتبار أن مذهبهم أن أقوال الأئمة حجة، تكون هذه النصوص واجبة الأخذ والاعتقاد عندهم. لذلك سمى ابن طاووس في رسالته فرج المهموم باباً باسم: (فيها تذكره من أخبار من قوله حجة في العلوم على صحة علم النجوم2 ومن هذه النصوص ما لفقوه على الإمام علي رضي الله عنه أنه قابله دهقان بن دهاقين المدائن فقال له: (أيها الدهقان المنبئ بالأخبار، والمحذر عن الأقدار، وما نزل البارحة في آخر الميزان؟ وأي نجم حل في السرطان؟ قال: سأنظر ذلك، واستخرج من كمه إسطرلاباً وتقويماً. قال له أمير المؤمنين: أنت مسير الجاريات؟ قال: لا. فأنت تقضي على الثابتات؟ قال: لا، قال: فأخبرني عن طول الأسد وتباعده من المطالع والمراجع ... ) 3 ثم أكمل القصة، وفي آخرها أخبر ببعض ما سيقع عن طريق التنجيم، وما نسبوه إلى عبد الله جعفر الصادق (أنه سئل عن النجوم، فقال: لا يعلمها إلا أهل بيت من العرب وأهل بيت من الهند) 4. كما أصدروا فتوى باسم جعفر الصادق أنه أحل لهم التنجيم، فقد نقل ابن طاووس عن كتاب التجميل أنه ذكر أن محمداً وهارون ابني أبي   1 انظر: "كتاب التوحيد" للصدوق: ص236-237. 2 "فرج المهموم": ص85. 3 المرجع نفسه: ص102-104. 4 "الروضة من الكافي" على "حاشية مرآة العقول": (4/458) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 سهل1 قالا: كتبنا إليه عليه السلام نحن ولد نوبخت المنجم، وقد كنا كتبنا إليك: هل يحل النظر في علم النجوم؟ فكتب: نعم2. وغير هذا كثير ذكره ابن طاووس، والمجلسي3، ونعمة الله الجزائري4 عن كثير من علمائهم كالكليني5، ومحمد بن جرير بن رستم الطبري6، ومحمد بن إبراهيم النعماني7، وغيرهم8، وسنأتي على بعضها في فصل شبهاتهم والرد عليها إن شاء الله.   1 هما ابنا أبي سهل بن نوبخت، أصلهما فارسي، ورد ذكرهما في مقدمة "فرق الشيعة": ص4-5. 2 "فرج المهموم": ص100. 3 هو محمد باقر المجلسي رافضي إمامي، ولي مشيخة الرافضة في أصفهان، وترجم إلى الفارسية مجموعة كبيرة من الكتب، توفي سنة إحدى عشرة ومائة وألف. انظر: "أمل الآمل": (2/248) ، و"لؤلؤة البحرين": ص55، و"الأعلام": (6/48) . 4 هو نعمة الله بن عبد الله بن محمد بن حسين الحسيني الجزائري، من فقهاء الرافضة الإمامية، نسبته إلى جزائر البصرة، توفي سنة اثنتي عشرة ومائة ألف. انظر: "أعيان الشيعة": (10/226) ، و"الأعلام": (8/39) ، و"الذريعة": (2/446) . 5 هو محمد بن يعقوب الرازي الكليني أبو جعفر، يعتبر شيخ الشيعة وعالم الرافضة الإمامية، توفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. انظر: "الفهرست" للطوسي: ص135، و"سير أعلام النبلاء": (15/280) ، و"الأعلام": (7/145) . 6 هو محمد بن جعفر بن رستم الطبري يكنى أبا جعفر، رافضي إمامي، له عدة كتب، أثنى عليه الطوسي شيخ طائفة الرافضة. انظر: "الفهرست" للطوسي: (159) ، و"ميزان الاعتدال": (3/499) ، و"لسان الميزان": (5/103) . 7 هو محمد بن إبراهيم بن جعفر، أبو عبد الله الكاتب، النعماني، المعروف بابن أبي زينب، أثنى عليه الحر العاملي. انظر: "أمل الأمل": (2/232) . 8 انظر: للإطلاع على ما ذكرت: "فرج المهموم": ص85-120، و"مرآة العقول": (4/260-264) ، و "الأنوار النعمانية": (1/189-193) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ونسبوا إلى جعفر الصادق رحمه الله كذباً كتاب الجفر1، وهو كتاب يبين حوادث الدنيا على وفق حروف أبي جاد، كما فسرها بذلك علماؤهم، قالوا: (أما الجفر الأكبر فإنه أشار إلى المصادر الوفقية التي هي من أ، ب، ت، ث،.. إلى آخرها وهي ألف وفق، وأما الجفر الأصغر فإنه أشار به إلى المصادر الوفقية التي هي مركبة من أبجد إلى قرشت، وهي سبعمائة وفق) 2. كما نسبوا هذا العلم إلى الأنبياء والأولياء، قال علي الحائري3: (قال بعض العارفين: إن الحروف سر من أسرار الله تعالى، والعمل بها من أشرف العلوم المخزونة، وهو من العلم المكنون المخصوص به أهل القلوب الطاهرة من الأنبياء والأولياء.. ولا بد للشارع في علم الحروف من معرفة علم التصحيف، كتب علي بن أبي طالب عليه السلام: خراب البصرة بالريح، يعني بالزنج) 4. وجعلوا للأيام تأثيراً في قضاء الحوائج، وقسموها إلى سعود ونحوس كما هو الحال في الكواكب والبروج، وتقسيمهم هذه الأيام، وتحديد نوع الأثر لكل يوم على حسب حوادث وقعت قديماً غالباً، قد يصدق وقوع الحوادث في هذه الأيام المذكورة، وقد لا يصدق، مثال ذلك: ما ذكره   1 انظر: "مقدمة ابن خلدون": ص334. 2 انظر: "إلزام الناصب": (1/235) . 3 هو علي بن المرزا محمد رضا بن المرزا أبي الحسن بن المرزا محمد علي الجعفري اليزدي الحائري الكبير، توفي ستة ثلاثمائة وألف. انظر: "نقباء البشر": (4/1433-1434) . 4 "إلزام الناصب": (1/236) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 نعمة الله الجزائري، ويوسف البحراني1 عن جعفر الصادق قال: (إن اليوم الأول من الشهر خلق الله فيه آدم، وهو يوم مبارك لقضاء الحوائج وللدخول على الحكام والسلاطين، ولطلب العلم والتزويج، وللأسفار والبيع والشراء، وإذا ضل فيه حيوان أو فقد فإنه يرجع إلى صاحبه بعد ثمانية أيام، وإذا مرض فيه مريض فإنه يعافى بإذن الله، وإذا ولد فيه مولود يكون سمحاً مرزوقاً مباركاً إلى آخر عمره) 2، وفي الرواية المذكورة نفسها أيضاً: (الثالث عشر يوم نحس فليحترز فيه عن الجدل والنزاع، والدخول على الملوك والسلاطين، وحلق الرأس ومسحه بالدهن، وجميع الحوائج، والآبق فيه لا يرجع، ولا يحصل سريعاً، ومن مرض فيه يناله التعب، والمولود فيه لا يكون عمره طويلاً3، ومثل هذا الإفك ذكروه في بقية الأيام وقسموه على أيام الأسبوع وأيام الشهر. وكذلك قالوا في الكسوف والخسوف، والزلازل والأمطار والرعود، واعتقاد مثل هذا يعمق عقيدة تأثير الكواكب في نفوس أتباعهم ومصدقيهم، بل هو من جنس تأثير الكواكب الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اعتقاده، فيما رواه الشيخان رحمهما الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا   1 هو يوسف بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني، من آل عصفور، فقيه رافضي إمامي من أهل البحرين، توفي سنة ست وثمانين ومائة ألف. "أعيان الشيعة": (10/317) ، و"مقدمة الكشكول": (ب-و) ، و"الأعلام": (8/215) ، و"الذريعة": (18/379) . 2 انظر: "الأنوار النعمانية": (2/113) ، و"الكشكول" للبحراني: (1/360) . 3 "الأنوار النعمانية": (2/115) ، و"الكشكول" للبحراني: (1/367) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 رأيتموهما فصلوا"1، وسأكتفي بذكر مثال واحد بين اعتقادهم في هذه الأمور، قالوا في اعتبار أن الكسوف مؤثر في هذا العالم: (إذا انكسفت –يعني الشمس- في جمادى الآخرة فإنه يموت رجل عظيم بالغرب، ويقع ببلاد مصر قتال وحروب شديدة، ويكون ببلاد الغرب غلاء في آخر السنة) 2. أما دور رجال الرافضة في نشر التنجيم فهو أن أبا جعفر المنصور ومن بعده من الخلفاء قربوا الأعاجم لترجمة الكتب اليونانية والسريانية، وكان من المقربين عندهم بعض الرافضة، وذلك معرفتهم باللغة الفارسية، إذ أن كثيراً من كتب الفلاسفة ترجمت باللغة الفارسية في عهد الملك أردشير ابن بابك3. وبوجود هذا العنصر في هذا المركز تهيأت له فرصة الاختلاط بالناس بصورة أكبر، وفرصة التأليف في التنجيم، وترجمة كتب الفلاسفة بصورة أوسع وآمن في نفس الوقت. وهذا الوجود وهذا الاختلاط وهذا التأليف وهذه الترجمة كلها من الأسباب الرئيسية لوجود التنجيم ونشره. فمن هؤلاء المنجمين الذين وجدوا في الدولة العباسية من الرافضة، وكان لهم دور في نشر التنجيم بين المسلمين أبو سهل بن نوبخت، وآل نوبخت معروفون عند الإمامية بولايتهم لمذهبهم4، وأبو سهل هذا فارسي، منجم، حاذق، خبير باقتران الكواكب وحوادثها المزعومة5،   1 متفق عليه، تقدم تخريجه: ص102. 2 انظر: "الأنوار النعمانية": (2/123) ، و"الكشكول" للبحراني: (1/395) . 3 انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص333-334. 4 انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص251، و"أعيان الشيعة": ص232. 5 انظر: "تاريخ الحكماء": ص409. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 قام بالتنجيم مقام أبيه، وحاز هو وبنوه الشهرة الواسعة في علم النجوم وترجمة أصوله وفصوله إلى العربية، ولم يقتنعوا بترجمة علم النجوم فقط، بل نقلوا إلى لغة الضاد كتب الفلاسفة في أنواع العلوم من لغتها الفارسية1. والفضل بن أبي سهل بن نوبخت، مذكور مشهور، من أئمة متكلمي الرافضة، وكان في زمن هارون الرشيد، وولاء القيام على خزانة كتب الحكمة، وكان ينقل من الفارسي إلى العربي ما يجده من كتب الحكمة الفارسية، وله من التصانيف في التنجيم: كتاب البهطان في المواليد، كتاب الفأل النجومي كتاب المواليد، كتاب المدخل، كتاب تحويل سني المواليد، كتاب المنتحل من أقاويل المنجمين في الأخبار والمسائل والمواليد وغيرها2. وعبد الله بن أبي سهيل بن نوبخت المنجم، منجم مأموني كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك3. والحسن بن موسى النوبختي، يكنى أبا محمد، متكلم رافضي فيلسوف ثقة عند الإمامية4، كان حسن المعرفة بالنجوم، كثير الكلام فيه، وله فيه مصنفات، توفي سنة عشر وثلاثمائة5. وأحمد بن محمد بن خالد البرقي أبو جعفر، أصله كوفي، ثقة عند   1 "فرق الشيعة": ص7. 2 انظر: "تاريخ الحكماء": ص255، و"فرج المهموم": ص125. 3 "تاريخ الحكماء": ص221، و"فرج المهموم": ص131. 4 انظر: "الفهرست" للطوسي: ص46، و"نتائج تنقيح المقال": ص38. 5 "فرق الشيعة": ص9-10، و"فرج المهموم": ص125، و"رجال الحلي": ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الرافضة1، له من التصانيف في علم النجوم: المحاسن وكتاب النجوم، وكتاب الجمل2. وأحمد بن محمد بن عاصم أبو عبد الله، ويقال له: العاصمي، ثقة عند الرافضة، له كتاب في علم النجوم3. ومحمد بن أبي عمير، يكنى أبا أحمد، من موالي الأزد، من أوثق الناس عند الرافضة، توفي سنة سبع عشرة ومائتين للهجرة4، وذكر ابن طاووس معرفته بالنجوم، ثم قال: (ولو لم يكن في الشيعة عارفاً بالنجوم إلا محمد بن أبي عمير لكان حجة في صحتها وإباحتها، لأنه من خواص الأئمة والحجج في مذاهبهم ورواياتهم) 5. ومحمد بن مسعود العياشي، من أهل سمرقند، من فقهاء الشيعة الإمامية، أو حد دهره وزمانه في معرفة علومهم، له كتاب النجوم والفأل والعيافة والزجر6. وأبو الحسن علي بن أحمد العمراني، من أهل الموصل، كان جماعة للكتب، ويقصده الناس من المواضع البعيدة للقراءة عليه7، وذكر ابن   1 انظر: "الفهرست" للطوسي: ص20، و"نتائج التنقيح": ص10. 2 انظر: "الفهرست" للطوسي: ص20، و"فرج المهموم": ص122. 3 انظر: "الفهرست" للطوسي: ص28، و" فرج المهموم ": ص122، و"رجال الحلي": ص16. 4 انظر: "الفهرست" للطوسي: ص142، و"رجال الحلي": ص140. 5 انظر: "فرج المهموم": ص124. 6 انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص274-275، و"الفهرست" للطوسي: ص136-137، و"فرج المهموم": ص124، و"رجال الحلي": ص145. 7 "الفهرست" لابن النديم: ص394. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 طاووس أنه على مذهبهم1، وله من التصانيف: كتاب "المواليد" و"الاختيارات"2. وأبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني، له قدر عظيم عند الرافضة، وله من المصنفات رسالة في الحلال والحرام من علم النجوم3. قلت: وهذه الرسالة هي التي تسمى (فرج الهموم في تاريخ علماء النجوم) ، وقد تضمنت بيان جواز الاشتغال بعلم أحكام النجوم، ونفي أن تكون النجوم مدبرة مختارة، وبين أن هذا هو مذهب الإمامية الرافضة، وسرد الأدلة على ذلك، وذكر فيها ما أسند إلى الأئمة من الأقوال والأفعال الدالة على جواز تعلم هذه الصناعة، واستخدامهم لها، وفسر كلام المخالفين له تفسيراً يتناسب ومذهبه، كما ذكر في هذه الرسالة جملة من منجمي الرافضة غير من ذكرتهم. فمن طلب الاستزادة رجع إلى هذه الرسالة، وإلى كتب رجال الرافضة4. وهذه الكتب كلها مشهورة عند الرافضة، كما أن هؤلاء الرجال مذكورون في عداد الرافضة، بل ويفتخر الرافضة اليوم بتأليف هؤلاء لهذه الكتب. قال صاحب الذريعة: (نعم اهتمت الشيعة بالنجوم، وترجموا كتبها القديمة، وعرضوها على أئمتهم، وبعد أخذ موافقتهم أدخلوها في العلوم الإسلامية، وخدموا بها الأمة جمعاء) 5.   1 انظر: "فرج المهموم": ص127. 2 انظر: "تاريخ الحكماء": ص233، و"فرج المهموم": ص127. 3 انظر: "أمل الآمل": (2/205-206) . 4 وارجع أيضاً إلى كتاب "الذريعة": (23/233-237) ، و (24/73-80) . 5 "الذريعة": (24/73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الفصل الخامس: التنجيم في العصر الحاضر الفصل الخامس: التنجيم في العصر الحاضر ... الفصل الخامس: التنجيم في العصر الحاضر انتشرت صناعة التنجيم في العصر الحاضر انتشاراً كبيراً، وأصبح التنجيم في أغلب صورة وسيلة من وسائل ابتزاز أموال الآخرين، وتنجيم هؤلاء يقوم غالباً على التمويه على الناس، ودراسة أحوال الضحية بما يتضح من شكلها، وبما ينطق لسانها، من خلال استدراج ذكي يصطادون به الكلمات من أفواه السذج من الناس، ثم يرتبون على ذلك أخباراً بأمور عامةـ غالباً ما يتعرض لها الإنسان في حياته اليومية، وتتفق مع دراستهم السابقة لحاله كالأمور العاطفية، والمالية، والصحية، ونحو ذلك، فإذا حصل ما يحصل للمرء عادة موافقاً لتمويهات المنجم شهر ذلك بين الناس، فأخذ البهتان يغزو القلوب الخالية من الإيمان، والبعيدة عن منهج الله، وأصبح لهؤلاء النصابين صيت، ولإفكهم الواضح زبائن ومروجون. ولوجود هذه الطبقة من الناس بالإضافة إلى رقي وسائل الإعلام وغيرها من المخترعات الحديثة اتخذ التنجيم في عصرنا الحاضر صوراً تختلف أكثرها عن صور التنجيم الماضي، ووسائل تختلف أكثرها عن وسائل المتقدمين، جعلت للتنجيم انتشاراً سهلاً بين عامة الناس، ومن هذه الوسائل المستخدمة ما يلي: الوسيلة الأولى انتشار التنجيم عبر وسائل الإعلام كالصحف والمجلات وغيرها، وتعتبر هذه الطريقة أوسع الطرق انتشار التنجيم، ويكون التنجيم عادة في هذه المجلات والصحف تحت عنوان: الأبراج، أو الحظ والأبراج، أو حظك والنجوم، أو نحو هذه العناوين، ويستخدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 كتابها فيها طريقة التموية، والكلام المجمل –كما أسلفت الكلام عن ذلك في بداية الفصل- وأذكر مثالاً لذلك من مجلة (كل العرب) تحت برنامج الحظ والنجوم يقول المحرر: (الحمل: العشر الأول: على تيار عاطفي، قد يؤدي إلى النجاح أو السعادة، رغم نزعة بالغة نحو التردد أو الإهمال، أو الهجومية في الكلام، اهدأ. العشر الثاني: اندفاعك مجدي في هذه الأيام، وقد تكون أهدافك في متناول اليد، ومبادراتك مثمرة مع نتائج واضحة ملموسة) 1، وتتضح من هذا المثال طريقة هؤلاء في التموية في الكلام المجمل، وبالإضافة إلى ما ذكرنا، فإن أحكام بروجهم المزعومة متناقضة فيما بينها، ولعل نجومهم تدلي لكل منهم بحكم يختلف عن الحكم الذي تدلي به للأخر، فنجد المحرر في المجلة السابقة الذكر يذكر صفات مواليد برج الأسد من (24 يوليو إلى 23 أغسطس) وما سيحدث لهم في مستقبل أيامهم فيقول: (العشر الأول: أجواء قد تكون ملائمة على الصعيد الفكري أو الدراسي. مع سهولة في الابتكار أو الكتابة، قد تشعر بأن الظروف ليست مائدة في المائة في صالحك، مما قد يسبب تأخيراً في مشاريعك. العشر الثاني: جدي، العشر الثالث: على تيار عصبي مع نزعة خفيفة نحو خوض المعارك كلامياً) 2. أما في مجلة الصياد، وفي نفس المواليد يقول المحرر: (حافظ على أسرار الناس، ولا تخن الأصدقاء، وتضعهم في موقف حرج، استمتع بكل لحظة حياتك هذا الأسبوع لأنها قد تبعدك عن الجو لفترة طويلة.   1 مجلة (كل العرب) العدد (370) ، ص69. 2 المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 خطر يهدد حياتك العاطفية. لا تتردد في قول الحقيقة) 1. ولا أدري كيف تتفق الأجواب الملائمة على الصعيد الفكري والدراسي مع وجود أخطار على الحياة العاطفية؟ أم كيف تتفق الجدية مع خيانة الأصدقاء وإفشاء أسرار الناس؟ ولو أردنا تتبع هذه الفجوات لوجدنا أن جدارهم كلها مهلهلة من كثرة الخروم والفجوات، ولطال بنا المقام، وهو لا يحتمل الإطالة، وما أشرنا إليه فيه كفاية عن ذكر أمور لا تخرج عن ذلك. والذي يلفت الانتباه هنا أن هذه الطريقة التي توجد في الجرائد والمجلات هي طريقة الشيعة نفسها في سرد تنجيمهم، وإن صاغها محررو الجرائد والمجلات بأسلوب مبسط يوافق العصر الحاضر، وإلا فالطريقة نفسها، ففي الكشكول ذكر المؤلف تحت عنوان سعد أيام الشهور ونحوستها، وفي اليوم الثاني من الشهر: (تزوج، وأت أهلك من السفر، واشتر وبع، واطلب في الحوائج، واتق فيه السلطان..) 2، ومثل هذا ذكر في بقية الأيام ما يبين أثر هذه الطائفة في التنجيم –كما أشرت إلى ذلك في الفصل الماضي-. ومن دور وسائل الإعلام الغربية في نشر التنجيم أن الرائي البريطاني الرسمي (التلفزيون) أذاع في شهر المحرم من عام 1406هـ برنامجاً كبيراً عن أعمال السحر والشعوذة والطلاسم3 في بريطانيا استغرق أمسية كاملة، عرض فيه حياة بعض هؤلاء المشعوذين، وتحدثوا عن مواهبهم   1 مجلة الصياد العدد (2341) ، ص76. 2 "الكشكول": (1/361) . 3 الطلسم: يقصدون به تمزيج القوى السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية لإحداث ما يخالف العادة، أو لمنع ما يوافق العادة. انظر: "النبوات" للرازي: ص213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وقدراتهم المزعومة في معرفة المستقبل والتأثير فيه1. الوسيلة الثانية: انتشار التنجيم عبر الكتب المؤلفة في هذا الفن، وتنتشر هذه الكتب في كثير من الدول الإسلامية وغيرها، مع وجود سهولة في بيعها وشرائها وتداولها، مما يجعل للخرافة أرضاً خصبة تنمو فيها وتثمر، ولا يستغرب إذا وجدت في هذه البلد مكتبات ومطابع تتبنى طباعة ونشر مثل هذه الكتب، كمكتبة الجمهورية العربية بمصر، ومكتبة القاهرة، ومطبعة دار الطباعة المحمدية بمصر أيضاً، وكالمكتبة الحديثة، والمكتبة الأهلية للنشر والتوزيع في بيروت وغيرها. وهذه الكتب منها ما هو قديم: ككتاب بغية الطالب في معرفة الضمير للمطلوب والطالب والمغلوب والغالب2، وكتاب مجموعة ابن سينا الكبرى، وكتاب شمس المعارف وكتاب منبع أصول الحكمة3 وغيرها. ومنها ما هو مؤلف حديث، وهي كثيرة جداً، منها كتاب مفاتيح الحظ، وكتاب حظك معك4، وكتاب أحكام الحكيم في علم التنجيم، ودليل الحيران في طالع الإنسان5، وغيرها من الكتب. كما [تصدر الآن بانتظام آلاف الكتب حول كيفية الاستفادة من التنجيم في مسائل المال والأعمال والسفر والزواج..] 6.   1 انظر: جريدة المسلمون، عدد (33) ، ص1. 2 تأليف أبي معشر الفلكي. 3 كلا الكتابين الأخيرين ألفهما أحمد البوني. 4 كلا الكتابين مؤلفهما أحمد الصباحي. 5 كلا الكتابين مؤلفهما عبد الفتاح الطوخي. 6 كتاب "حقائق وغرائب": ص140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الوسيلة الثالثة: وجود معاهد تقوم بتعليم التنجيم، وإعطاء المتعلمين شهادات بذلك: تنتشر الآن في كثير من أنحاء العالم معاهد تتيح للباحث دراسات جادة في كيفية صناعة التنجيم، حتى إن جامعة هارفارد قبلت في عام 1960م رسالة دكتوراة تقدم بها طالب في موضوع التنجيم، وأنشئت في بريطانيا كلية للدراسات التنجيمية1. كم أنشئ في مصر معهد للغرض نفسه، يسمى بمعهد الفتوح الفلكي العام لمصر والأقطار الشرقية، ويقوم المعهد بتدريس العلوم الفلكية الروحانية داخل المعهد وخارجه، ويتم تدريس الذين هم خارج المعهد عن طريق المراسلة، وذلك بإرسال برامج الدروس إلى عمله أو منزله أو بلده أو دولته، وتقع هذه الدروس في مائتين درس مشتملة على دراسة المسائل الشخصية والطوالع الميلادية، والأحوال الجوية، وتأثيرها على الأرض، والأحوال الزراعية، والتخرص بغلائها ورخصها، وكثرتها وقلتها في أي زمان ومكان، وغير ذلك من مسائل التنجيم، فإذا اجتاز الطالب هذه المراحل منح شهادة على ذلك2. الوسيلة الرابعة: إنشاء اتحاد للمنجمين: أنشئ في العالم ـكثر من اتحاد للمنجمين، ولكن أشهرها وأوسعها صيتاً هو الاتحاد العالمي للفلكيين الروحانيين في فرنسا، والذي يقوم على إدارته حميد الأزري3 كرئيس   1 انظر: المصدر نفسه. 2 انظر: "أحكام الحكيم في علم التنجيم": (1/30) ، و (3/156) ، و (6/158) . 3 نشأ في بغداد، ثم رحل إلى باريس، حيث أصبح رئيساً لهذا الاتحاد هناك، يبلغ من العمر الآن خمساً وأربعين سنة تقريباً، ومازال في منصبه. [مستفاد من مجلة الوطن العربي عدد (49-575) ، ص59، ومن جريدة المسلمون عدد (36) ، ص8-9] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 لهذا الاتحاد، والألوسي1 نائباً عنه، ويضم هذا الاتحاد خمسة وخمسين ألف عضو لا يؤخذ منهم رسوماً للاشتراك، ويتردد عليهم أناس من طبقات مختلفة، ومن جنسيات متنوعة2. والشيء الذي يؤكد كذب هؤلاء وبطلان ادعاءاتهم أن الرئيس ونائبه عندما سئلوا عن مصدر هذا العلم صرح الرئيس بأنه إيحاء عن طريق الجن3، وصرح الآخر أنه أخذه عن طريق الوراثة4، ولم أسمع من قبل أن العلوم تنتقل عن طريق الوراثة إلا من هذا. بل اعترف رئيس الاتحاد بأن 99%من السحرة دجالون يريد به المنجم والعراف ونحوهم5، وبدون استثناهم من الدجالين، بل يعتبر نفسه أنه أفضلهم، فإذا أثبتنا أنه من ضمن الدجالين كملت النسبة. حيث إن أقواله اشتملت على تناقضات كثيرة مما يبين صناعتهم هذه قائمة على الكذب على الناس وإيهامهم أن النجوم هي التي دلت على هذه الأحكام، والنحوم بريئة من ذلك، فمثلاً   1 أشهر الفلكيين الروحانيين في لندن، ونائب الأزري، يدعي أنه يعلم حقيقة الروح، وأنه يعلم الغيب، ومتى يموت كل إنسان، وأنه يؤمن بتناسخ الأرواح، وأن ما يحدث في هذا العالم من انفجارات وحروب واغتيالات إنما هو بسبب لعنته عليهم، ويقيم الآن في جناح خاص بفندق انتركونتنينتال، أحد أشهر الفنادق الإنجليزية، ورواده من الفنانين والمطربين والشخصيات العامة، ويرأس مجلة البلورة السحرية. انظر: جريدة المسلمون، عدد (32) ، ص1، 7، وعدد (36) ص1. 2 انظر: المصدر نفسه عدد (36) ، ص1، 8. 3 انظر: المصدر السابق نفسه: ص8-9. 4 انظر: المصدر نفسه: عدد (32) ، ص6. 5 انظر: المصدر نفسه: عدد (36) ، ص8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ذكر الأزري في موضع: (أن قراءة الأشياء هذه –يعني المغيبات- تعود إلى حسابات فلكية، وتعود إلى أمور تعلمناها بعون الله) 1، وذكر في موضع آخر أن معرفته هذه كانت عن طريق الجن فقال: (عندما كان عمري خمس عشرة سنة، كنت أسير في أحد أزقة بغداد، وإذا بصوت يقول: قف يا حميد! ووقفت فلم أجد أحداً.. فمشيت فإذا بصوت يقول: يا حميد قف! ارتبكت.. وضعت جلبابي في فمي، وحاولت الجري، فوقفت قدماي تماماً لمدة سبع ثوان، فإذا بماء يسقط!! وفي يوم ثاني حدثت أمور ثانية. وكنت أنظر إلى شخص فأقول عنه إنه سيموت، وبالفعل يحدث ذلك، فخفت من ذلك، كنت أقول لنفسي: غداً سيحدث كذا، فإذا به يحدث! ثم بعد فترة.. قابلت شخصاً أشك أنه جنبي! وقال لي: ألا تعرف إنساناً يعرف قراءة الكف؟ ثم أعاد السؤال. فقلت: أنا أعرف. فقال: تعال. وعندما أمسكت كفه رحت في حالة من الغيبوبة، فإذا بي أذكر له كل شيء عنه) 2، والذي يدل على دجله أيضاً أنه ذكر كل شيء عنه وما زال يشك هل هو جني أم لا؟ أما الألوسي نائبه فهو أشد تناقضاً، وأكثر جرأة في الباطل، إذ إنه تارة يدعي معرفة مستقبل الدول من النجوم، وتارة يدعي أنه يغمض عينيه ويستطيع أن يخبر بكل ما سيحدث، وتارة يدعي أنه يستطيع أن يخبر بكل ما سيحدث عن طريق المراسلة من الشخص السائل3، وقد أتى بما   1 انظر: المصدر نفسه. 2 المصدر السابق نفسه: ص8، 9. 3 انظر: المصدر نفسه: عدد (32) ، ص6-7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 لم تأت به الأوائل. فإذا كانت هذه أحح حال رؤسائهم، فما بالك بمن تحتهم؟ الوسيلة الخامسة: الجهود الشخصية، وتتمثل في وجود منجمين دجالين يعملون لأنفسهم، دون أن تكون لهم مشاركة مع غيرهم من المنجمين، وهؤلاء ينتشرون تقريباً في جميع أرجاء العالم إما متسترين أو ظاهرين بحسب محاربة الدولة لهم أو سكوتها عنهم، ويعلن هؤلاء عن أنفسهم في الجرائد والمجلات، ويقومون أحياناً بالدعاية لأنفسهم في دليل الهاتف، وأحياناً في محطات الحافلات، وقطار الأنفاق، وقد يوزعون منشورات تشرح الخدمات التي يقدمونها، ويزعمون فيها أنهم أفضل من منافسيهم، كما هو الحال في أمريكا والمغرب1 ومصر وغيرها من البلدان2. وبعض المشعوذين يستخدمون نساءً لهم في الأماكن العمومية: كالحمامات، والأسواق، والمستشفيات مقابل عمولة نقدية3. الوسيلة السادسة: استخدام المبتكرات الحديثة كالحاسب الآلي (الكمبيوتر) ، والبريد، ونحو ذلك. وأول من استخدم الحاسب الآلي في حسابات التنجيم هي امرأة بريطانية من أصل يوناني تدعى كاتيا ثيودوسيو، وتعتبر هذه المرأة من أشهر المنجمات في بلدها، وهي متخصصة في مجال المال والأعمال، ولم تكتف بهذا الاستخدام للحاسب الآلي بل أكبت خلال خمسة عشر شهراً على تغذية الذاكرة الإلكترونية بأربعين ألف معلومة مستقلة عن التنجيم،   1 انظر: المصدر نفسه: عدد (33) ، ص6-7. 2 انظر: المجلة العربية: عدد (138) ، ص62. 3 جريدة المسلمون: عدد (34) ، ص6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 لإنتاج أجهزة الحاسب الآلي تستعمل للتنجيم، يستطيع أن يستخدمها الجمهور بدون معرفة لحسابات التنجيم1. وأصبح لهذه الطريقة رواجٌ في السويد، حيث يوجد بعض المنجمين يستخدمون الحاسب الآلي، ويطلبون من الضحية أن يكتب اسمه وتاريخ وساعة ميلاده على بطاقة، ثم يضعون المعلومات التي في هذه البطاقة في الحاسب الآلي، فتخرج صحيفة بها الطالع في الأيام المقبلة أو لعدة سنوات. كما أن للبريد في بعض الدول دوراً في أخذ المعلومات إلى المنجم ومنه2. الوسيلة السابعة: استخدام بعض الدول للتنجيم في الأمور السياسية: كاستخدام المخابرات الأمريكية التنجيم في هذا الغرض، حيث نقلت جريدة المدينة عن مدير سابق لوكالة المخابرات الأمريكية المركزية الأمريكية، وهو ما يلز كوبلند أنه ذكر (أن علم التنجيم والطوالع كان يقع ضمن اهتمامات الوكالة المركزية خلال الفترة التي عمل فيها بالوكالة في الستينات وقال في رسالة نشرتها له صحيفة التايمز البريطانية في عددها الصادر هنا أمس الأول في باب رسائل من القراء أن الوكالة كانت تنظم في عهده دورات منتظمة، وخاصة حول ما أسماه بفنون التنجيم الحديثة لتدريب عملائها في هذا المجال، وأضاف أن الوكالة المركزية قامت في السابق بزرع المتخرجين من هذه الدورات في قصور عدد كبير من زعماء العالم الثالث) 3.   1 انظر: كتاب "حقائق وغرائب": (ص140) . 2 انظر: جريدة المسلمون: عدد (33) ، ص7. 3 جريدة المدينة: عدد (7695) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ويجب التنبه في هذا الموضع إلى كلمة درجت على ألسنة العوام في عصرنا الحاضر، وهي: (من حسن طالع كذا أن كان كذا) ، وهذا بللا ريب أحد صور إسناد الأمور لمطالع النجوم، وله حكم مقالة أهل الجاهلية: (مطرنا بنوء كذا) الذي سيأتي بيانه في فصل حكم الاستسقاء بالنجوم إن شاء الله. استمرار عبادة الكواكب إلى عصرنا الحاضر: أما عباد الكواكب فما زالوا على عقيدتهم القديمة من عبادة الكواكب والتقرب لها ونحو ذلك، وينتشر هؤلاء في بعض البلدان كالعراق وغيرها، ويطلق عليهم اسم الصابئة1.   1 انظر: "الصابئة الحرانيون" لحراني بهران ذويتا، و"مطاعيم صابئية مندائية" لناديا، و"دائرة المعارف الإسلامية": (14/91) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الباب الثاني: أحكام التنجيم الفصل الأول: الحكمة من خلق النجوم الفصل الأول: الحكمة من خلق النجوم ... الباب الثاني: أحكام التنجيم ويشتمل على ستة فصول: الفصل الأول: الحكمة من خلق النجوم. الفصل الثاني: حكم الاستسقاء بالنجوم. الفصل الثالث: حكم تعلم علم الفلك. الفصل الرابع: الأدلة على فساد صناعة المنجمين، وأنها ظنون كاذبة. الفصل الخامس: شبهات المنجمين والرد عليها. الفصل السادس: حكم التنجيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الفصل الأوا: الحكمة من خلق النجوم خلق الله النجوم لحكمة سامية، أرشدنا الله تعالى إليها، ووردت هذه الحكم مجموعة فيما رواه البخاري تعليقاً أن قتادة قال: ( {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} 1، خلق هذه النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها بغير ذلك2 أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف مالا علم له به) 3، ومن هذا تبين أن الحكم التي اتضحت لنا من خلق النجوم ثلاث، وهي: 1- أن تكون زينة للسناء: وقد دلت نصوص القرآن الكريم على هذه الحكمة في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً 4 وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} 5، أي: زينا السماء بالكواكب لمن نظر إليها وأبصرها6، وقوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} 7،وقوله:   1 سورة الملك، الآية:5. 2 أي: زعم فيها غير ما ذكر الله تعالى في هذه الثلاث، فادعى علم الغيب بها. انظر: "تيسير العزيز الحميد": ص443. 3 أخرجه البخاري: (4/224-225) ، وأخرجه الطبري في "تفسيره": (29/3) ، وأخرجه الخطيب في "حكم علم النجوم": (ق10أ) . 4 البروج: وهي اثنا عشر برجاً: الحمل، الثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. "تفسير القرطبي": (10/9) . 5 سورة الحجر، الآية: 16. 6 "تفسير الطبري": (14/14) ، "تفسير ابن كثير": (2/548) . 7 سورة الصافات، الآية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 1، وقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} 2، وقوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} 3. 2- أن تكون رجوماً للشياطين: وقد دلت نصوص القرآن الكريم على هذه الحكمة أيضاً في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ 4 فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} 5، وقوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} 6، وقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 7، وقوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ 8 وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا   1 سورة فصلت، الآية: 12. 2 سورة ق، الآية: 6. 3 سورة الملك، الآية: 5. 4 أي: أن يسمع الشيطان الخبر من أخبار السماء سوى الوحي فإن الوحي لا يسمع منه شيء لقوله تعالى:} إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} . انظر: "تفسير القرطبي": (10/11) . 5 سورة الحجر، الآيات: 16-18. 6 سورة الصافات، الآيات: 6-10. 7 سورة فصلت، الآية: 12. 8 هي الكواكب، والضمير في قوله:} وَجَعَلْنَا} يعود إلى جنس المصابيح لا إلى عينها، لأنه لا يرمى بالكواكب التي في السماء، بل بشهب من دونها. انظر: "تفسير ابن كثير": (4/396) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} 1، وقوله حكاية عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} 2. وبينها النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: أخبرني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنهم بينما هم جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمي بنجم فاستنار. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، كنا نقول: وُلد الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال، قال: فيستخبر بعض أهل السماوات بعضاً، حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا، فتخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم، ويرمون به، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون" 3. 3- أن تكون علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر: وكذلك جعل الله تعالى هذه النجوم أدلة في البر والبحر للناس ليهتدوا بها إذا ضلوا   1 سورة الملك، الآية: 5. 2 سورة الجن، الآيتان: 8-9. 3 سبق تخريجه ص110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الطريق أو تحيروا فيه1، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 2، وقال: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 3. هذه هي الحكم التي من أجلها خلقت النجوم، فمن الواجب أن تجعل النجوم فيما جعلت من أجله، لا يتجاوز بها ذلك، كما قال قتادة رحمه الله: (فمن تأول فيها بغير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به) 4.   1 انظر: "تفسير الطبري": (7/286) . 2 سورة الأنعام، الآية: 97. 3 سورة النحل، الآية: 16. 4 سبق تخريجه ص147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الفصل الثاني: حكم الاستسقاء بالأنواء الفصل الثاني: حكم الاستسقاء بالأنواء ... الفصل الثاني: حكم الاستسقاء بالأنواء1 منازل القمر ثمان وعشرون2 منزلة3، قد أشار الله إليها بقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 4، ينزل القمر كل ليلة في منزلة منها5، أما الشمس فتقطع كل منزلة في ثلاثة عشر يوماً تقريباً إلا الجهمية فتقطعها في أربعة عشر يوماً6، لذلك فإن سقوط كل نجم من هذه بعد ثلاثة عشر يوماً خلا الجهبة فسقوطها بعد أربعة عشر يوماً، حيث تنقضي السنة بانقضاء سقوط النجوم كلها7، وما من نجم يسقط إلا ويطلع رقيبه في الوقت نفسه الذي يسقط فيه8، فمن حين سقوطه إلى   1 النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من الشرق يقابله من ساعته. "الصحاح": (1/79) . 2 وهي الشرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والمقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرفة، والجهبة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك، والغفر، والباني، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرع المقدم، والفرع المؤخر، والحوت. انظر: "الأنواء في مواسم العرب": ص16-18. 3 المنزلة: كناية عن الفضاء الذي بين الكواكب، لا أنها نفس الكواكب، وإنما الكواكب حدود لها. انظر: "سعود الطوالع": (2/100) . 4 سورة يس، الآية: 39. 5 "النهاية في غريب الحديث": (5/122) ، و"تفسير القرطبي": (15/29) . 6 "سعود الطوالع": (2/104) . 7 انظر: "الأنواء في مواسم العرب": ص6-7. 8 المصدر نفسه، "النهاية في غريب الحديث": (5/122) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 سقوط التالي له هو نوءه، وذلك ثلاثة عشر أو أربعة عشر يوماً1 -على ما بينته آنفاً-، فمثلاً إذا سقط الشرطان طلع الإكليل في ساعته فمن حين سقوط الشرطان إلى سقوط الإكليل هو نوء الشرطان ... وهكذا في بقية المنازل. وقد كانت العرب تدعي نسبة ما يحدث في هذه المدة من مطر أو ريح أو برد أو حر إلى النجم الساقط، وقيل: إلى الطالع2، وكل منزلة من المنازل التي ذكرتها آنفاً لها نوء، ولكنها تختلف عندهم، فبعضها أحمد وأغزر، كنوء الثريا، ويجعلونها إناثاً، وذوات نتاج، ويجعلون مالا نتاج له ذكراً، ومنحوساً3، فعلى هذا يكون نسبة المطر إلى النوء ينقسم إلى قسمين4: القسم الأول: نسبة الفعل للكواكب، وادعاء أنه هو الذي ينشئ السحاب، ويأتي بالمطر5، وهذا اعتقاد باطل، إذ إن من اعتقد أن هذه الأنواء فاعلة للمطر من دون الله فهو كافر، ومن اعتقد أنها فاعلة له وحدها بما جعل الله فيها من القدرة على ذلك ثم تركها فهو كافر أيضاً، لأن الخلق والأمر من الله وحده6، كما قال تعالى:   1 انظر: "الأنواء في مواسم العرب": (ص9) . 2 انظر: "الأنواء في مواسم العرب": ص7، 9، و"النهاية في غريب الحديث": (5/122) ، و"شرح النووي على صحيح مسلم": (2/61) . 3 انظر: "الأنواء في مواسم العرب": ص7، 15-16. 4 المصدر نفسه: ص13. 5 انظر: المصدر نفسه: ص14، و"شرح النووي على صحيح مسلم": (2/60) ، و"شرح الزرقاني على الموطأ": (1/389) . 6 انظر: "القبس": (1/ق 45 أ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 1، وهذا ما عليه إجماع المسلمين2. القسم الثاني: اعتقاد أن المطر من عند الله، مع نسبته إلى النوء والوقت: فهذا من إضافة إنعام الله إلى غيره، وهذا من جنس قول الناس: كانت الرياح طيبة، والملاح حاذقاً إذا نجوا بالسفينة إلى البر. فنسب هؤلاء حسن جريان السفينة إلى طيب الريح وحذق الملاح وسياسته، ونسوا الله تعالى، هذا ما كان عليه أهل الجاهلية، وهو محرم3، وقد دلت الأدلة على تحريمه، منها: قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 4، فهذه الآية نزلت في الذين يقولون/ مطرنا بنوء كذا، ولا ينسبونه إلى الله تعالى، ودل على هذا ما رواه الإمام مسلم رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر". قالوا: هذه رحمة الله. قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا. قال: فنزلت هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} حتى بلغ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} " 5. ومعنى {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي: شكركم لله على رزقه، ومعنى {أَنَّكُمْ   1 سورة الأعراف، الآية: 54. 2 انظر: "كتاب الأم": (1/223) ، و"أحكام القرآن" لابن العربي: (3/1150) ، و"القبس": (1/ق 45 أ) ، و"تفسير القرطبي": (17/229) ، و"شرح النووي على صحيح مسلم": (2/60) . 3 انظر: "المبدع شرح المقنع": (2/212) ، و"تيسير العزيز الحميد": ص451، 585. 4 سورة الواقعة، الآية: 82. 5 الحديث أخرجه مسلم: (1/60) ، والآيات (75-82) من سورة الواقعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 تُكَذِّبُونَ} أي: بنعمة الله بقولكم سقينا بنوء كذا1. وما رواه الشيخان رحمهما الله وغيرهما عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس، فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بين مؤمن بالكوكب" 2، وما رواه مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا هامة ولا نوء ولا صفر"3، وما رواه مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألم تروا إلى ما قال ربكم قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة ألا أصبح فريق منهم كافر يقولون الكواكب، وبالكواكب"، وما رواه مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين ينزل الله الغيث، فيقولون الكوكب كذا وكذا" 4، وما رواه مسلم أيضاً وغيره عن أبي مالك الأشعري5 رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من   1 "تفسير الطبري": (27/208) ، و"تفسير القرطبي": (17/229) . 2 سبق تخريجه: ص109. 3 أخرجه مسلم: (7/32) ، كتاب السلام. 4 أخرجه مسلم: (1/59) ، كتاب الإيمان. 5 اختلف في اسمه، قيل: اسمه الحارث بن الحارث، وقيل: عبيد، وقيل: عبيد الله، وقيل: عمر، وقيل: كعب بن عاصم، وقيل: كعب بن كعب، وقيل: عامر بن الحارث له صحبه. انظر: "الاستيعاب": (4/1745) ، و"تهذيب التهذيب": (12/218) ، و"الإصابة": (4/171) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة" 1، وما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن معاوية الليثي2 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون الناس مجدبين فينزل الله تبارك وتعالى عليهم رزقاً من رزقه فيصبحون مشركين"، فقيل له: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا" 3. وما أخرجه أحمد والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل ليبيت القوم بالنعمة، ثم يصبحون وأكثرهم كافرون يقولون مطرنا بنجم كذا وكذا" 4. وما رواه الطبراني5 وغيره عن أبي أمامة6 قال: قال رسول الله   1 أخرجه مسلم: (3/45) ، كتاب الجنائز. 2 صحابي. انظر: "الاستيعاب": (3/1425) ، و"الإصابة": (3/438) . 3 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده": (3/429) . قال الهيثمي: (رجاله موثوقون) . "مجمع الزوائد": (2/212) . وقال البوصيري: (سنده حسن) . "المطالب العالية": (1/183) . 4 أخرجه أحمد في "مسنده": (2/525) ، والبيهقي في "السنن الكبرى": (3/359) . قال الذهبي فيه: حسن غريب. "المهذب": (3/332) . وقال أحمد البنا: (سنده عند البيهقي صحيح، لأن محمد بن إسحاق صرح عنده بالتحديث) . "الفتح الرباني": (16/137) . 5 هو سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الشامي، أبو القاسم، من كبار المحدثين، صاحب المعاجم الثلاثة، توفي سنة ستين وثلاثمائة. انظر: "سير أعلام النبلاء": (16/119) ، و"البداية والنهاية": (11/287) . 6 هو أبو أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري الأوسي المدني الفقيه، اسمه أسعد باسم جده لأمه أسعد بن زرارة، صحابي جليل، توفي سنة مائة. انظر: "الكنى والأسماء" للإمام مسلم: (1/103) ، و"البداية والنهاية": (9/189) ، و"تهذيب التهذيب": (1/263) ، و"الإصابة": (4/9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف على أمتي في آخر زمانها النجوم، وتكذيب بالقدر، وحيف1 السلطان" 2. وما رواه أبو يعلى3 رحمه الله وغيره عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، فالتفت إليها فقال: "إن الله قد برأ هذه الجزيرة من الشرك، ولكن أخاف أن تضلهم النجوم" قالوا: يا رسول الله كيف تضلهم النجوم؟ قال: "ينزل الغيث فيقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا" 4. فهذه الأدلة كلها تبين أن من نسب المطر إلى   1 الحيف: الجور والظلم. "الصحاح": (4/1346) . 2 أخرجه الطبراني في"المعجم الكبير" كما ذكر الهيثمي، وبحثت عنه فلم أجده، وأبو يعلى في "المسند": (7/162) . وقال الهيثمي: (فيه ليث بن أبي سليم، وهو لين، وبقية رجاله وثقوا) . "مجمع الزوائد": (7/162) . وقال المناوي": (أشار بتعدد طرقه إلى تقويته) . "فيض القدير": (1/204) . وقال الشيخ محمد حجازي الشعراني: (إسناده حسن) . انظر: "السراج المنير": (1/68) . وقال الألباني: (الحديث له شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الصحة في نقدي) . "سلسلة الأحاديث الصحيحة": (3/119) . 3 هو الإمام أبو يعلى أحمد بن علي بن المثمنى التميمي الموصلي، محدث الموصل، وصاحب المسند والمعجم، توفي سنة سبع وثلاثمائة. انظر: "سير أعلام النبلاء": (14/184) ، و"العبر": (1/451) ، و"البداية والنهاية": (11/140) . 4 أخرجه أبو يعلى في "مسنده": (12/70، 77) ، والخطيب في "حكم علم النجوم": (ق6/ب) ، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم": (2/39) . قال الهيثمي: (فيه قيس ابن الربيع وثقه شعبه والثوري، وضعفه الناس، وبقية رجاله ثقات) . "مجمع الزوائد": (5/116) ، وقال في موضع آخر: (إسناد أبي يعلى حسن) . "مجمع الزوائد": (8/114) . قال الأعظمي: (أخرج أبو يعلى هذا الحديث بإسنادين يشد كل واحد منهما الآخر) . انظر: (المطالب العالية": (1/184) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الأنواء والنجوم فقد وقع في الشرك الخفي، وذم النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المعتقد يدل على أنه لا عمل للنوء في السحاب والرياح والمطر1. وورود الشرع بالمنع من هذه الكلمة دال على التحريم2. ولأنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره، فيساء الظن بصاحبها. ولأنها شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم3. ولأن في التحريم سداً لباب الشرك وحماية لجناب التوحيد4. أما جعل الأنواء علامة على المطر مع عدم نسبته إليه لا قولاً ولا اعتقاداً: فقد استدل العلماء على جوازه بأدلة5 هي: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 6، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} 7، وما في معناها من الآيات، وبما رواه مالك والطبراني عن عائشة رضي الله عنها   1 انظر: "الأنواء في مواسم العرب": (ص15) . 2 "المنتقى" للباجي: (1/335) . 3 "شرح النووي على صحيح مسلم": (2/60) . 4 انظر: "تيسير العزيز الحميد": ص455. 5 انظر: "الأم": (1/223) ، رسالة "حكم علم النجوم": (ق7أ) ، "أحكام القرآن" لابن العربي: (3/1150) . 6 سورة الأعراف، الآية: 57. 7 سورة الفرقان، الآية: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فهي عين غديقة" 1، قالوا: دلت الآيات السابقة والحديث على جواز جعل الرياح علامة على المطر بحسب ما جرت عليه العادة، وكذلك الأنواء يجوز جعلها علامة على ما جرت به العادة، بشرط أن يعتقد أن النوء لا تأثير له في نزول المطر، ولا هو فاعل، وأن المنفرد بإنزاله هو الله وحده2. وبما رواه الببهقي والطبري بسنديهما وغيرهما عن سعيد بن المسيب قال: (قد حدثني من لا أتهم أنه شهد المصلى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يستسقي بالناس عام الرمادة، قال فدعا والناس طويلاً، واستسقى طويلاً، وقال للعباس بن عبد المطلب: يا عباس كم بقي من نوء الثريا؟ فقال له العباس رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين إن أهل العلم بها يزعمون أنها تعترض بالأفق بعد وقوعها سبعاً. قال: فوالله ما مضت تلك السبع حتى أغيث الناس) 3.   1 أخرجه مالك في "الموطأ": ص157. قال الهيثمي: (فيه الواقدي، وفي الواقدي كلام، وقد وثقة غير واحد، وبقية رجاله لا بأس بهم، وقد وثقوا) . انظر: "مجمع الزوائد": (2/217) . وقال ابن الصلاح: (رواه ابن أبي الدنيا، وليس إسناده بذلك لمكان محمد بن عمرو، الظاهر أنه الواقدي) ، وقال ابن عبد البر: (إن الشافعي رواه عن إبراهيم بن أبي يحيى، وهو متروك الحديث) . انظر: "رسالة في وصل البلاغات الأربع": ص11. 2 انظر: "المنتقى" للباجي: (1/335) . 3 أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى": (3/359) ، والطبري في "تفسيره": (27/208) . قال الذهبي: (حسن غريب) . "المهذب": (3/332) . قلت: رواية الطبري فيها عن ابن إسحاق، وأما رواية البيهقي فقد سبق كلام أحمد البنا عليها، وإرسال سعيد بن المسيب لا يضر، إذ له حكم المتصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 قال الشافعي رحمه الله: (إنما أراد –عمر بن الخطاب رضي الله عنه- بقوله: كم بقي من وقت الثريا، ليعرفهم بأن الله عز وجل قدر الأمطار في أوقات فيما جربوا، كما علموا أنه قدر الحر والبر بما جربوا في أوقات) 1. ومثل هذا ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن ابن عباس رضي الله عنهما في رجل قال لامرأته: أمرك بيدك. فقالت: أنت طالق ثلاثاً. فقال ابن عباس: (خطأ الله نوءها، لو قالت: أنا طالق ثلاثاً لكان كما قالت) 2. فقد أراد النوء الذي يجئ فيه المطر3، أي أخلى الله نوءها من المطر، ويكون المعنى، حرمها الله الأخير كما حرم من لم يمطر وقت المطر4. ونسبة المطر إلى المنخفضات الجوية القادمة من مناطق معينة –كما هو معروف اليوم –له الحكم نفسه. أما ما رواه مالك أنه بلغه أن أبا هريرة كان يقول إذا أصبح وقد مطر الناس: (مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو هذه الآية: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} ) 5. وما رواه البيهقي بسنده عن الشعبي قال: (خرج عمر بن الخطاب   1 انظر: كتاب "الأم"م: (1/223) . 2 أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": (5/57-58) . قلت: سنده صحيح. 3 "النهاية في غريب الحديث": (5/122) . 4 "الأنواء في مواسم العرب": ص13-14. 5 أخرجه مالك غي "الموطأ": ص157، والآية (2) من سورة فاطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 رضي الله عنه يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فقيل له: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء الذي يستنزل به المطر، ثم قرأ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} 1. {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} 2. فليس في كلام هذين الصحابيين نسبة المطر إلى النجوم، بل ورد كلامهما على سبيل المضادة لقول أهل الإلحاد وإطال مذهبهم في الأنواء، وبيان كذبهم فيه مع إرشادهم إلى الطريق الصحيح وهو فتح الله تعالى الرحمة للناس على قول أبي هريرة، والتوجه إلى الله بكثرة الاستغفار على قول عمر رضي الله عنهما3.   1 سورة نوح، الآيتان: 10-11. 2 أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى": (3/352) ، والآية (52) من سورة هود. 3 انظر: "غريب الحديث" للهروي: (3/259-261) ، و "المنتقى" للباجي: (1/335) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الفصل الثالث: حكم تعلم علم الفلك الفصل الثالث: حكم تعلم علم الفلك ... الفصل الثالث: حكم تعلم علم الفلك علم الفلك هو علم مداره الأجرام العلوية، أي الشمس والقمر والكواكب السيارة والكواكب الثابتة وتوابعها ونحو ذلك، وهو قسمان نظري وعملي، فالأول يصف تلك الأجرام، ويعين لنا أبعادها عن الشمس وحركاتها وفصولها السنوية، وهيآتها، والثاني يبحث عن كيفية رصد تلك الأجرام1. أما حكم تعلم هذا العلم فقد اتفق الفقهاء على اعتبار النجوم من الدلائل التي تدل على جهة القبلة عند خفائها، وعلى أنها من أقوى الأدلة على ذلك، وعلى ضرورة أن يتعلمها المسافر2 مستدلين بقوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 3. واتفقوا أيضاً على أن المواقيت تؤخذ من الأهلة، وأنها هي المعتبرة في مواقيت الناس ومواقيت العبادات4، كما أن الشمس دليل على أوقات الصلوات5.   1 انظر: "دائرة معارف القرن العشرين": (7/481) . 2 انظر: "الفروع" لأحمد بن حنبل: (1/281) ، و"روضة الطالبين": (1/217) ، و"المجموع": (3/187) ، و"كفاية الأخبار": (1/59) ، و"المبدع": (1/406) ، و"الإنصاف" للمرادي: (2/12، 13) ، و"رسالة القواعد والضوابط للأعمال الفلكية": (ق2أ) . 3 سورة النحل، الآية: 16. 4 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (25/132-133) . 5 انظر: "الفروع" للقرافي: (4/258) ، و"تهذيب الفروع والقواعد السنية": (4/285) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 كما ذهب العلماء إلى أن ما يمكن معرفته عن طريق الحس أو المشاهدة أو الحساب أو نحو ذلك يجوز تعلمه كالعلم بأسماء الكواكب، ومناظرها، ومطالعها، ومساقطها، ومعرفة بعد الكواكب عن الأرض، ومقدار ما تقطعه الكواكب في أفلاكها، ومعرفة منازل القمر، والبروج الاثنى عشر، ودرجات الفلك ونحو ذلك1، واستدلوا على ذلك بأدلة منها: قول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2، وقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3، وقوله: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 4، وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي   1 انظر: "معالم السنن"ك (5/372) ، و"الفصل في الملل والأهواء والنحل": (5/148) ، و"حكم علم النجوم": (ق2أ) ، و"شرح السنة": (12/183) ، و"رسالة القواعد والضوابط للأعمال الفلكية": (ق1أ) . 2 سورة البقرة، الآية: 164. 3 سورة القرة، الآية: 189. 4 سورة الأنعام، الآيتان: 96-97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} 1، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2، وقوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 3، وقوله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} 4، وقوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} 5، وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} 6، وقوله: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} 7، وغيرها من الآيات. وما رواه البيهقي والخطيب البغدادي رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحب عباد الله إلى الله رعاء8 الشمس والقمر الذين يحببون عباد الله إلى الله ويحببون الله إلى   1 سورة يونس، الآيتان: 5-6. 2 سورة النحل، الآية: 12. 3 سورة النحل، الآيتان: 15-16. 4 سورة الإسراء، الآية: 12. 5 سورة الكهف، الآية: 25. 6 سورة الفرقان، الآية: 45. 7 سورة الرحمن، الآيات: 3-5. 8 أصل الرعاة حفاظ الماشية، وتطلق على الأمير والحاكم لقيامهم بتدبير الناس، والمراد بهم هنا المؤذنون، لأنهم يراعون طلوع الفجر والشمس وزوالها ونحو ذلك. انظر: "فيض القدير": (5/313) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 عباده" 1. ومارواه مالك والخطيب البغدادي رحمهما الله عن عائشة رضي الله عنها قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت قتلك عين غديقة"2. وما أخرجه أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 3: (هي ثمانية وعشرين منزلاً ينزلها القمر في كل شهر أربعة عشر منها شامية، وأربعة عشر منها يمانية ... ) 4، وإجماع السلف على القول باستدارة الفلك5. أما تعلم ما زاد على ما يحتاجه الإنسان مما لا يحتاجه فقد كرهه بعض العلماء كابن رجب الحنبلي، وغيره، كما كره قتادة تعلم منازل القمر،   1 أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى": (1/379) ، والخطيب في "حكم علم النجوم": (ق2/ب) . وضعفه ابن المنذر، وذكر له طريقاً آخر عن أبي أوفى رواه الطبراني والبزار والحاكم وقال فيه ابن المنذر: (تفرد به ابن عيينة عن مسعر، وحدث به غيره، وهو حديث غريب صحيح) . "الترغيب والترهيب": (1/150) . وقال الهيثمي فيه: (رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه جنادة بن مروان، قال الذهبي: اتهمه أبو حاتم) . "مجمع الزوائد": (1/326) . وقال المناوي: (فيه الوليد بن مروان، أورده الذهبي في "الضعفاء"، وقال: مجهول، وجنادة بن مروان ضعفه أبو حاتم واتهمه في الحديث، والحارث بن نعمان، قال البخاري: منكر الحديث) . "فيض القدير": (5/313) . وضعفه الألباني أيضاً. انظر: "ضعيف الجامع الصغير": (4797) . 2 سبق تخريجه والحكم عليه: ص157. 3 سورة يس، الآية: 39. 4 أخرجه الخطيب في "حكم علم النجوم": (ق3/أ) . 5 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (6/586) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وأنكر الإمام أحمد الاستدلال بالجدي على القبلة، وقال: "إنما ورد ما بين المشرق والمغرب القبلة"، وأنكر ابن مسعود على من قال: إن الفلك يدور، كما أنكر الإمام أحمد رحمه الله على المنجمين قولهم: إن الزوال يختلف في البلدان1. وهذه الأقوال وما في معناها محمولة على أمرين: الأمر الأول: على تعلم ما لا فائدة فيه في عصرهم. والاستغلال بما لا فائدة فيه لا شك في كراهته لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} 2. الأمر الثاني: يحمل نهيهم هذا على أنهم لمسوا ممن تكلم في ذلك أنه أراد أن يبني على قوله هذا الشبهات، أو أراد التشكيك في قبلة المسلمين، أو نحو ذلك فأنكروا عليه، ومن كان بهذه الصفة لا بد من الإنكار عليه3. وأما الاستدلال بقول عمر رضي الله عنه: (تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبر ثم انتهوا) 4 على عدم جواز تعلم ما زاد على الاهتداء فلا يصح، إذ إن هذا الأثر ضعيف، لو صح لم يكن فيه حجة لأن المراد النهي عن علم التأثير لا التسيير5.   1 انظر: "فضل علم السلف على علم الخلف": ص132-134. 2 سورة المؤمنون، الآية: 3. 3 انظر: فضل علم السلف على علم الخلف: ص134-135. 4 أخرجه الخطيب في "حكم علم النجوم": (ق2/ب) . قال المناوي: (قال عبد الحق: وليس بإسناده مما يحتج به، وقال ابن القطان: فيه من لا أعرفه) . "فيض القدير": (3/256) . وقال الألباني: ضعيف. "ضعيف الجامع الصغير": (2455) . 5 انظر: "فيض القدير": (3/256) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 أما إذا لمست مصلحة في تعلم شيء من ذلك، فلا بأس في تعلمه، بشرط أن لا يتعارض مع تعلم ما هو أوجب منه، وأن يسخر هذا العلم في طاعة الله بناءً على ما دلت عليه الأدلة السابقة1. أما بالنسبة لصحة هذا العلم وفساده فينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما تشهد الأدلة النقلية على صحته، مثل دوران الشمس والقمر في الفلك، وأن لكل منهما فلكاً يجري فيه، كما قال تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 2، وكالقول بأن الأفلاك مستديرة لانعقاد الإجماع عليه3 ونحو ذلك، فهذا لاشك في صحته، ويجب الإيمان به لدلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه، إذ إن المسائل المنصوص عليها بكتاب أو سنة أو إجماع تعتبر من جملة المسائل الشرعية التي يجب على المسلمين الإيمان بها، ولا يحيدون عنها، حتى وإن خالفها جميع الفلكيين. القسم الثاني: ما كان مخالفاً لنصوص الكتاب أو السنة أو الإجماع، مثل القول بأن الشمس ثابتة لا تتحرك ونحو هذا، فهذا لا شك في فساده.   1 دل على ذلك قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} فذكر التقوى بعد ذكر الجواب عن فائدة الأهلة. وقوله في سورة يونس، الآيتان: 5-6 بعد أن ذكر تقدير الله منازل القمر بالحساب: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} ، ولو تتبعنا بقية الآيات لوجدناها دالة على ذلك. وانظر: ص161-162. 2 سورة يس، الآية: 40. 3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (6/586) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 القسم الثالث: ما لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في شواهد العيان ما يدل على قبوله، أو رده، فهذا لا يحكم بصحته ولا بفساده، بل يكون موقوفاً فيه، حتى يوجد من الأدلة العلمية ما يقتضي صحته أو فساده1. وأما ما ذهب إليه بعض العلماء في العصر الحاضر إذ إن معرفة مقادير أجرام هذه الكواكب، وأبعادها، ومواردها، وغير ذلك غير ممكنة، فيكون القول في هذه الأمور من تعاطي علم الغيب فهو خطأ، واستدلاله على ذلك هو أن من ادعى ذلك أضعف وأعجز من أن يتوصل إلى اكتشاف ما في السماء الدنيا، وهو مسيرة خمسمائة عام، وقوله: إن النصوص قد دلت على أن الشمس والقمر والكواكب في السماء منها: قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراًؤ} 2، وقوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَؤ} 3، ثم قال: في الآيات وما في معناها نص على أن الشمس والقمر في السماء، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة" 4،   1 انظر: "مجموع الفتاوى المصرية": (1/322) . و"الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب": ص43، 74. 2 سورة الفرقان، الآية: 61. 3 سورة الحجر، الآية: 16. 4 أخرجه الترمذي: (رقم 2540) ، وأحمد في "مسنده": (3/75) ، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد. "سنن الترمذي": (4/586) . وقال فيه عبد القادر أرناؤوط: (رواه الترمذي وغيره من حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد، ودراج عن أبي الهيثم ضعيف) . انظر: "جامع الأصول": (2/373) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وإذا كان بين السماء والأرض هذا البعد الشاسع فالتوصل بالأرصاد والمناظير إلى اكتشاف ما في السماء غير ممكن1. ويناقش هذا الاستدلال بما يلي: أولاً: ليس في الآيات المذكورة ما يدل على أن الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب في داخل السماء، أو أنها ملصقة بها، وإنما تدل الآيات على أن هذه الكواكب في السماء، وأنها زينة لها، ولفظ السماء يطلق ويراد به ما علا وارتفع، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2، فالمراد بالسماء هنا: السحاب وسمي بذلك لعلوه وارتفاعه3. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} 4، فالمراد بقوله: {فِي السَّمَاءِ} أي في العلو5. وقال: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} 6، أي فليمدد بسبب إلى   1 انظر: "ذيل الصواعق لمحو الأباطيل والمخارق": ص46-48. 2 سورة البقرة، الآيتان: 21-22. 3 انظر: "تفسير ابن كثير": (1/57) . 4 سورة إبراهيم، الآية: 24. 5 انظر: "تفسير القرطبي": (9/359) . 6 سورة الحج، الآية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ما فوقه من سقف ونحوه، فسماه سماءًا لعلوه بالنسبة إلى ما تحته1، فإذا عرف هذا كان معنى الآيات التي استدل بها محمولاً على أحد معنيين: الأول: أن الله سبحانه جعل هذه الكواكب في مدار بين السماء والأرض، وسماه سماءً لعلوه، وليس في الأدلة ما يمنع ذلك. وقد ذكر الله سبحانه أن الشمس والقمر يجريان في فلك في آيتين من كتابه الكريم، وهما قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 2، وقوله: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 3، ولو كانا ملصقين في السماء لم يوصفا بالسبح، كما قال ابن عباس وغيره: "يدورون كما يدور المغزل في الفلكة"4، وقال النسفي5: الجمهور على أن الفلك موج مكفوف6 تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم7. المعنى الثاني: أنه أراد بالسماء في الآيات المتقدمة السماء الدنيا كما هو ظاهر قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} 8،   1 "تفسير القرطبي": (17/125) . 2 سورة الأنبياء، الآية: 33. 3 سورة يس، الآية: 40. 4 سميت بذلك لاستدارتها، والفلكة قطعة من الأرض أو الرمل تستدير وترتفع على ما حولها. انظر: "الصحاح": (4/1604) . 5 هو عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، أبو البركات، ففيه حنفي، مفسر، توفي سنة إحدى وسبعمائة، وقيل: عشرة وسبعمائة. انظر: "كشف الظنون": (1640) ، "الأعلام": (4/67) . 6 يراد أن الفلك أشرج على ما فيه وقفل. انظر: "لسان العرب": (9/304) . 7 "تفسير النسفي": (3/334) . 8 سورة الحجر، الآية: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ولم يرد سبحانه أن البروج في داخلها، وإنما أراد سبحانه أنها بقربها وتنسب إليها، وأما وصفه سبحانه للكواكب بأنها زينة للسماء فلا يلزم منه أن تكون ملتصقة بها، ولا دليل على ذلك، بل يصح أن تسمى زينة لها وإن كانت منفصلة عنها، وبينها فضاء كما يزين الإنسان سقفه بالقماش والثريات الكهربائية ونحو ذلك، ومن غير ضرورة إلى إلصاق ذلك به1. ومما يدل على إمكان الصعود إلى الكواكب –فضلاً عن إمكان اكتشاف ما فيها بالأرصاد والمناظير- قوله تعال فيما أخبر عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} 2، فإن كان الجن قد أمكنهم الصعود إلى السماء حتى لمسوها، وقعدوا منها مقاعد، فكيف يستحيل ذلك على الإنسان، وخصوصاً في هذا العصر الذي تطور فيه الاختراع3. ومن هنا يتبين أن القول بعدم إمكان معرفة علم الفلك قول لا يصح، بل إن معرفة ذلك ممكن شرعاً واقع حسًّا ... والله تعالى أعلم.   1 انظر: "الأدلة النقلية والعقلية والحسية إلى إمكان الصعود إلى الكواكب": ص8-11. 2 سورة الجن، الآيتان: 8-9. 3 انظر: "الأدلة النقلية والعقلية والحسية إلى إمكان الصعود إلى الكواكب": ص13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الفصل الرابع: الأدلة على فساد صناعتهم، وأنها ظنون كاذبة الفصل الرابع: الأدلة على فساد صناعتهم، وأنها ظنون كاذبة ... الفصل الرابع: الأدلة على فساد صناعتهم، وأنها ظنون كاذبة إن كل سبيل يطلب فيه الإنسان معرفة الغيب وكل دعوى يزعم فيها الإنسان أنه يشارك الله فيما استأثر به لنفسه لا بد وأن يعتمد على التمويهات والخداع التي يتقلبها عادة السذج من الناس. فإذا اقتنعوا بها نمقوها وزخرفوها، وزادوا وأنقضوا، وجادلوا وماروا فيكونون بهذا دعاة للباطل، وباعة للكذب والبهتان. فالمنجمون ودعاتهم من جنس هؤلاء. فقد سمعوا ظنونهم الكاذبة علماً، وتمويهاتهم وخداعهم أصلاً، وكذبهم وبهتانهم حكماً. وسأستعرض هنا –إن شاء الله- الأدلة على فساد صناعتهم. وسأبين أنهم يعتمدون على مجرد الظنون الكاذبة مما يدل على أن هذا العلم المزعوم لا حقيقة له، وأه ليس بعلم، بل هو كلام جعله هؤلاء على هيئة قوانين تهيئ الناس لقبول باطلهم، وسأقسم الأدلة التي تبين فساد صناعتهم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الأدلة على فساد اعتقادهم بأن هذه الكواكب آلهة، أو أن لها تصرفاً في هذا الكون. القسم الثاني: الأدلة على اعتقادهم أن لهذه الكواكب تأثيراً في هذا الكون. القسم الثالث: الأدلة على فساد أحكام النجوم المزعومة، والتي تبين أن هذه الأحكام ظنون كاذبة. القسم الأول: الأدلة على فساد اعتقادهم بأن هذه الكواكب آلهة، أو أن لها تصرفاً في هذا الكون: والأدلة على ذلك من المنقول والمعقول، فمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 المنقول الأدلة من القرآن الدالة على انفراد الله بالخلق والتدبير، وقد سبق أن ذكرتها في المبحث الأول في التمهيد وهي أدلة أيضاً على فساد اعتقاد هؤلاء أن الأفلاك آلهةـ أو أن لها تصرفاً في هذا الكون. وأضيف إلى تلك الأدلة أدلة أخرى تدل على فساد هذا المعتقد نفسه وهي: الآيات الدالة على أن الكواكب مسخرة مدبرة، تجري بمقدار معين، وعلى منهاج مقنن جعله الله لها لا تستطيع الخروج عنه، وأنها لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، فضلاً عن أن تملك ذلك لغيرها، ومن كان هذا حاله يستحيل أن يكون إلهاً. أو أن يكون له تصرف في الكون. قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 2، وقال:} يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 3، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} 4،   1 سورة النحل، الآية: 12. 2 سورة لقمان، الآية: 29. 3 سورة فاطر، الآية: 13. والقطمير: لفافة النواة. "تفسير البيضاوي": (ص576) ، و"لسان العرب": (5/108) . 4 سورة الحج، الآية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 1. قال ابن كثير رحمه الله: (إنما الشمس والقمر على التنصيص لأنها قد عبدت من دون الله. فبين أنها تسجد لخالقها، وأنها مربوبة مسخرة) 2. أما الأدلة من المعقول فهي كما يلي: الدليل الأول: إن القول بصدور الحوادث الأرضية من الكواكب كالإحياء والإماتة والرزق ونحو ذلك يقتضي أن تكون هذه الكواكب مؤثرة بذاتها وطبعها، وهذا يتطلب منها أن تكون مختارة مريدة، وهذا منتفي لما يأتي: أولا: لو أن هذه الكواكب مختارة مريدة لجرت الأحكام على وفق إرادتها، ولم تتوقف هذه الأحكام على اتصالاتها وهبوطها وارتفاعها، ولاختلفت أحكامها أيضاً بحسب اختلاف الدواعي. كما هو حال المختار المريد3. ثانياً: أن هذه الكواكب لو كانت مختارة مريدة لما بقيت حركتها أبداً على سير أحد لا يتبدل، إذ إن هذه صفة الجماد المدبر الذي لا اختيار له4.   1 سورة فصلت، الآية: 37. 2 "تفسير ابن كثير": (3/211) . 3 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/129) . 4 انظر: "الفصل في الملل والأهواء والنحل": (5/147) ، وذكرها أبو معشر في "أسرار النجوم". انظر: "فرج المهموم": ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الدليل الثاني: أن هذه الكواكب لو كانت آلهة مصرفة لهذا الكون –كما يزعمون- لكانت مستقلة بإحداث شيء من الحوادث الأرضية، واعتقادهم يخالف هذا، إذ إنهم يعتقدون أن حركة الفلك التاسع جزء السبب، وحركة كل فلك جزء السبب فتكون هذه الحوادث ناتجة عن مجموع حركات الأفلاك –على حسب زعمهم1- وهذا يناقض أن تكون واجبة الوجود، أو أن تكون آلهة، إذ إن المشتركين في المفعول الواحد لا يمكن أن يكون كل واحد منهم قادراً عليه بانفراد وإلا لاستقل به، وهذا يدل على عجزه وقصوره وعدم مقدرته على إكمال نفسه، ومن كان متصفاً بهذه الأوصاف لا يمكن أن يكون واجب الوجود: إذ إن من صفات واجب الوجود الغنى المطلق، ولو كان هذه الأفلاك متصفة بهذه الصفة لم تفتقر إلى غيرها في فعلها، فافتقارها إلى غيرها بوجه من الوجوه دليل عدم غناها2. ثالثاً: لو فرضنا أن لتدبير الكواكب شيئاً من الحركات والحوادث الأرضية لكان الصادر عنها الحركة العرضية على نسق حركتها، أما بقية الحركات فلا تكون صادرة عنها، ومن باب أولى لا يكون صادراً عنها الأجسام نفسها وقواها وصفاتها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ويعلم بذلك أن المتصرف في الكون المشهود والموجود له رب غيرها هو الذي أبدعها وصورها وحركها على الحركات المختلفة، وبهذا يتبين بطلان ربوبية هذه الكواكب3.   1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (8/170-171) . 2 انظر: المصدر السابق نفسه: (20/180-181) . 3 انظر: المصدر نفسه: (8/173) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 رابعاً: لو سلم أن هذه الكواكب هي المدبرة لهذا الكون لكان تدبيرها حال ظهورها فقط، أما حال أفولها فينقطع تصرفها بالكلية، وهذا ينافي ربوبيتها، إذ إن الرب الذي يكون متصرفاً لهذا الكون يجب أن يكون قيوماً يقيم هذا الكون في جميع الأوقات وفي جميع الأحوال، كما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} 1، لذا أشار الخليل عليه السلام عند محاجته لقومه إلى هذا المعنى بقوله: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} 2. القسم الثاني: الأدلة على فساد اعتقادهم أن لهذه الكواكب تأثيراً في هذا الكون، والأدلة على ذلك من المنقول والمعقول، فمن المنقول الأحاديث التي تدل على إبطال تأثير الكواكب في الحوادث الأرضية، منها ما أخرجه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأستموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي"3، وما رواه مسلم عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: أخبرني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمي بنجم فاستنار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم، كنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم. فقال رسول   1 سورة الفرقان، الآية: 58. 2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (8/173) ، والآية (76) من سورة الأنعام. 3 سبق تخريجه: ص103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته.." 1. وما رواه الإمام مسلم رحمه الله عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة" 2. فذم النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء يدل على أنه لا تأثير للكواكب ولا للأنواء في حوادث العالم السفلي3. أما الأدلة من المعقول فتتبين من خمسة أوجه: الوجه الأول: أن معرفة تأثير الكواكب في هذا الكون يكون بأحد أربعة طرق: إما الخبر الصادق الصحيح من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا غير موجود، بل دلت الأدلة على انتفاء وجوده، والنهي عن اعتقاده. وإما الحس فيشترك الناس في إدراكه وهذا منتفي وغير موجود، وإما ضرورة العقل أو نظره وهذا غير موجود أيضاً4 وإما التجربة –وهذا ما يدعونه5- ويشترط في صحة التجربة أن تكون بتكرر موثوق بدوامه تضطر النفوس إلى الإقرار به، وهذا لا يمكن في القضاء بالنجوم لأن النصب الدالة على الكائنات –عندهم- لا تعود في الدرجة والدقيقة نفسها إلا بعد آلاف السنين كما ذكر ذلك البيروني6 فقال: (إن الكواكب الثابتة   1 سبق تخريجه: ص110. 2 سبق تخريجه: ص109. 3 انظر: "الأنواء في مواسم العرب": ص15. 4 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/131) . 5 انظر: "رسالة الأحكام على تحاويل سني العالم" لابن أبي الشكر: (ق1/أ) . 6 هو محمد بن أحمد، أبو الريحان البيروني الخوارزمي، فيلسوف، رياضي، مؤرخ، منجم، توفي سنة أربعين وأربعمائة. انظر: "حكماء الإسلام": ص72، و"عيون الأنباء": ص459. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 تقطع كل واحد من منازل القمر في ستمائة سنة) 1، وعلى هذا لا يعود إلى موضعه إلا بعد ستة عشر ألف وثمانمائة سنة، وكما قال إخوان الصفا أيضاً: (واعلم أن الكائنات التي يستدل عليها المنجمون سبعة أنواع: منها الملل والدول التي يستدل بها من القرانات الكبار، التي تكون في ألف سنة بالتقريب مرة واحدة..) 2. وتجري تأثير الكواكب في مثل هذا الوقت لا يمك قطعاً، ومن هذا يتضح أن دعوى تأثير الكواكب في هذا الكون دعوى وهمية لا تقوم على دليل أو برهان3. الوجه الثاني: ادعاؤهم أن لهذه الكواكب تأثيراً في الكون بالسعادة والنحوسة، وأن لها تأثيراً في حصول الأحوال النفسية من ذكاء وبلادة ونحو ذلك، وأن هذا التأثير من جنس تأثير الشمس والقمر في الحرارة والبرودة واليبوسة والحرارة وغير ذلك4 ادعاء باطل لا يستقيم، وذلك لأن هذا القياس فاسد، وذلك لوجود الفرق بين المقيس، والمقيس عليه، إذ إننا لا ننازع في تأثير الشمس والقمر في هذا العالم على ما يجري على الأمر الطبيعي بما جعله الله فيها من مميزات، كتأثير الشمس في الرطوبة والبرودة والحرارة ونحو ذلك، وتأثيرها في أبدان الحيوانات والنباتات والناس في نشاطهم وخمولهم ونحو ذلك، ومع هذا فإن هذه الكواكب   1 "القانون المسعودي" للبيروني: (3/990) . 2 "رسائل إخوان الصفا": (1/154) . 3 انظر: "الفصل في الملل والأهواء والنحل": (5/149) . 4 انظر: "رسائل إخوان الصفا": (1/146) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 جزء من السبب المؤثر، وليست بمؤثر تام، فإن تأثير الشمس مثلاً إنما كان بواسطة الهواء، وقبوله للسخونة والحرارة، ويختلف هذا القبول عند قرب الشمس من الأرض وبعدها.. وهكذا. فكل واحد من هذه جزء السبب مع وجود أشياء أخرى مكملة لسبب. وقد يقدر الله تعالى أموراً أخرى تمنع هذه الأسباب ليظهر عليها أثر القهر والتسخير، فإثبات مثل هذه التأثيرات لا ينكر، أما الذي ينكر عليهم فهو دعوى أن جملة الحوادث في العالم من الأرزاق والآجال والسعادة والنحوسة وجميع ما في العالم تقع لكون الكواكب هي المؤثرة فيه ومن تحتها خاضع لها، وهذا يختلف عن ذلك1. ثم إن النوع الأول قد دل عليه الشرع والعقل والحس بخلاف النوع الثاني لم يدل عليه شيء من ذلك، بل يناقضه كما أشرت إلى ذلك في الوجه الأول. الوجه الثالث: لو سلمنا –جدلاً- أن للكواكب تأثيراً بالسعد والنحس –كما يزعمون- فإنه لا يمكن معرفة هذا التأثير إلا بالنظر إليها ومعرفة طبائعها مفردة ومجتمعة، فإذا لم يفعل ذلك المنجم لا يمكن له حصوله العلم بهذا التأثير2، وهذا لا يستطيع الإحاطة به منجم، بل ولا أي مخلوق مما يجعل معرفة هذا التأثير مستحيلاً، ويجعل هذه الصناعة مستحيلة الوجود ويحكم على أحكام الأولين والآخرين بالبطلان، وذلك لأربعة أمور هي:   1 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/160-166) . 2 انظر: المصدر نفسه: (2/128) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الأمر الأول: أنه لا سبيل إلى معرفة طبائع البروج وطبائع الكواكب وامتزاجها إلا بالتجربة. وأقل ما لا بد منه في التجربة أن يحصل ذلك الشيء على حالة مرتين فأكثر، إلا أن الكواكب لا يمكن تحصيل ذلك فيها لأنه إذا حصل كوكب معين في موضع معين في الفلك وكانت سائر الكواكب متصلة به على وضع مخصوص وشكل مخصوص فإن ذلك الوضع المعين بحسب الدرجة والدقيقة لا يعود إلا بعد آلاف السنين، وعمر الإنسان لا يفي بذلك، فثبت أنه لا يمكن الوصول إلى هذا الأحوال عن طريق التجربة1 –كما سبق الإشارة إلى هذا المعنى في الوجه الأول-. الأمر الثاني: من المعلوم أن في فلك البروج كواكب لم يعرفها المنجمون إلا في العصر الحاضر، فلعل وقوع نجم من هذه النجوم المجهولة في ذلك العصر على درجة الطالع يوجب أثراً ما لا يوجبه بدونها2، ومن هذه الكواكب التي لم تكتشف إلا في العصر الحاضر (مذنب هالي) الذي سماه المنجمون الكوكب الآثاري3، وكوكب (أورانوس) الذي اكتشف سنة 1781م4، وغيرها كثير لم يتوصلوا إليه حتى اليوم، إذ إن نجوم السماء كثيرة جداً، حتى إن بعض الفلكيين صور كثرتها بقوله: (إن عدد النجوم يزيد على عدد حبات الرمل على شواطئ جميع بحار الدنيا) 5، وهذا الوصف وإن كان فيه شيء من المبالغة إلا أنه   1 المصدر السابق نفسه: (2/134) . 2 انظر: "النبوات" للرازي: ص218، و"مفتاح دار السعادة": (2/128-129) . 3 انظر: "قراءة الأبراج والطوالع والحظوظ": ص25. 4 انظر: مجلة الأزهر: عدد (2) ، ص134، مقال العقاد. 5 "كل شيء عن النجوم": ص93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 يبين كثرة النجوم في السماء، فإن كانوا عاجزين عن اكتشاف هذه النجوم فعجزهم عن إدراك طبائعها وتأثيراتها أولى وأحرى، فإن قالوا: لو حصلت هذه الكواكب الصغيرة لم تكن لها قوة وتأثير أصلاً، لأجل أن صغرها يوجب ضعفها، قيل لهم: هذا باطل، لأن عطارد مع غاية صغره تقاربه سائر الكواكب السيارة مع عظم أجرامها، بل الرأس والذنب نقطتان1، وأصحاب الأحكام أثبتوا لهما آثاراً عظيمة، بل سهم السعادة وسهم الغيب نقطتان وهميتان2، والمنجمون أثبتوا لها آثاراً قوية3، فإن جعلوا لهذه آثاراً فمن باب أولى بقية النجوم على حسب منهجهم. الأمر الثالث: أننا نفترض –جدلاً- أنهم عرفوا طبائع الكواكب حال بساطتها، لكن من المسلم به وما شهد به كبراؤهم أنه لا يمكن معرفة طبائعها وآثارها حال امتزاج بعضها ببعض، وذلك لأن الامتزاج الحاصل من ألف كوكب أو يزيد يستحيل على العقل ضبطه4. فقد نقل أبو حيان التوحيدي5 عن بعض كبرائهم أنه قال: (وقد يغفل – مع هذا كله -   1 هما نقطتان وهميتان تحدثان عند تقاطع مدار القمر مع دائرة البروج عند حدوث الكسوف تسمى إحداهما: الرأس، والأخرى الذنب. انظر: "رسائل إخوان الصفا": (1/121-122) . 2 يعدها المنجمون من سهام الكواكب السبعة، ويطلقون على الأول سهم القمر، وعلى الثاني سهم الشمس. انظر: "التفهيم": ص283. 3 انظر: "النبوات" للرازي: ص217-218. 4 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/128) . 5 هو علي بن محمد بن العباس التوحيدي، أبو حيان، فيلسوف، متصوف، معتزلي، نعته ياقوت الحموي: بشيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء. توفي سنة أربعمائة. انظر: "ميزان الاعتدال": (4/518) ، و"لسان الميزان": (7/38-41) ، و"الأعلام": (4/326) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 المنجم اعتبار حركات كثيرة من أجرام مختلفة، لأنه يعجز عن نظمها وتقويمها ومزجها وتسييرها، وتفسير أحوالها، وتحصيل خواصها، مع بعد حركة بعضها، وبطئها وسرعتها، والتفاف صورها، والتباس مقاطعها، وتداخل أشكالها، ومن الحكمة في هذا الإغفال أن الله تقدس اسمه يتميز بذلك القدر المغفل، والقليل الذي لا يؤبه له، والكثير الذي لا يحاول البحث عنه أمراً لم يكن في حساب الخلق) 1. الأمر الرابع: نفترض –جدلاً كذلك- أنهم استطاعوا معرفة طبيعة الامتزاجات الحاصلة في وقتهم، ولكن من الممتنع عليهم معرفة الامتزاجات السالفة، فربما كان لها أثر في هذه الحوادث كالامتزاجات الحاصلة في وقتهم الذي يدعونه2. الوجه الرابع: من الأصول التي بنى عليها المنجمون تأثير الكواكب قائماً على علاقة المشابهة بين أسماء البروج وما يوافقها من عالم الكون والفساد، بمعنى أنهم جعلوا تأثير الحيوانات السفلية بما يقابلها من الصور العلوية، فبرج العقرب –مثلاً- يؤثر في العقارب ... وهكذا كما قال بطليموس3: (الصور الموجودة في عالم التركيب مطيعة للصور الفلكية، إذ هي في ذاتها على تلك الصور، فليست تلك الصور وهمية،   1 "المقابسات": ص127، وقد جعلوا الله منفرداً بهذا النزر القليل فقط، وهذا من تأليهم على الله –تعالى الله عما يقولن-. 2 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/121) . 3 ملك بن الإسكندر: وكان حريصاً على الفلسفة، مولعً بها، جمع بين علوم عدة منها: التنجيم والجغرافية والتاريخ والفلسفة والطب وغيرها، وألف فيها. "طبقات الأطباء والحكماء": ص35، و"الفهرست" لابن النديم: ص374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وإلا لم يكن لها أثر في أمثالها من العالم السفلي) 1 موافقاً بقوله هذا سلفه من المشركين من قوم إبراهيم عليه السلام2. وكما قال ابن أبي الشكر المغربي: (أما الجنس الذي يؤثر فيه الكسوف فهو من جوهر البروج الذي يقع فيه الكسوف، إن وقع في البروج الناطقة كان الحادث في الإنسان، وإن كان في ذوات الأظلاف كان الحادث في الغنم والبقر، وإن كان في البروج المائية كان الحادث في حيوان الماء، وإن كان برج الأسد كان الحادث في السباع وأشباهها، وإن كان في البروج الأرضية كان الحادث في نبات الأرض) 3. وهذا الأصل فاسد، ويتبين فساده بأمرين هما: الأمر الأول: أن المتقدمين لما قسموا الفلك إلى اثني عشر قسماً أرادوا أن يميزوا بعضها عن بعض فشبهوا كل قسم من هذه الأقسام بصورة معينة، ولكن هذا الشبه لم يحدث علاقة بين هذه النجوم وما يقابلها من الكائنات الأرضية4 بإقرار أئمتهم على ذلك. فمن أئمتهم القائلين بهذا أبو الحسين عبد الرحمن الصوفي5، والبيروني6، وابن طاووس7،   1 "سعود المطالع": (2/107) . 2 انظر: "السر المكتوم": (ق176/أ) . 3 "رسالة الأحكام على تحاويل سني العالم": (ق 33/أ) . 4 "مفتاح دار السعادة": (2/129) . 5 هو عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سهل الصوفي، أبو الحسين الرازي، صاحب الملك عضد الدولة، فارسي النسبة، توفي سنة ست وسبعين وثلاثمائة. "تاريخ الحكماء": ص226، و"الأعلام": (3/319) . 6 انظر: "التفهيم": ص263. 7 انظر: "فرج المهموم": ص64-65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وغيرهم. قال عبد الرحمن الصوفي: (أن تسمية البروج الاثني عشر بالحمل والثور والجوزاء ... إلى آخرها لا أصل له ولا حقيقة. وإنما وضعها الراصدون لهم متعارفاً بينهم، وكذلك جميع الصور التي عن جنبي منطقة البروج الاثني عشر وغيرها، والجميع ثمان وأربعون صورة عندهم مشهورة، وعلمائهم معترفون بأن ترتيب هذه الصور وتشبيهها وقسمة الكواكب عليها وتسميتها صنعه متقدموهم ووضعه حذاقهم الراصدون لها) 1. الأمر الثاني: أنهم جعلوا تأثير الكواكب قائماً على المشابهة بين صور البروج وصورة المأثر فيه. وهذا ليس سبباً كافياً للقول بالتأثير، بل ولا يدل مطلقاً على تأثير الكواكب بالسعادة والنحوسة فيما يقابلها –هذا إن صحت المشابهة-. الوجه الخامس: الأصول التي بني عليها المنجمون تأثير الكواكب في العالم السفلي أيضاً أنهم جعلوا لكل كوكب طبعاً يختلف عن طبع الكوكب الآخر، وجعلوا تأثيرها في العالم بحسب طبعها، فجعلوا طبع زحل البرد واليبس بإفراط وتأثيره بحسب طبعه، وطبع المشتري الحر والرطوبة بإعتدال، وطبع المريخ الحر واليبس بإفراط، وطبع الشمس الحر واليبس بمقدار أقل مما للمريخ، وطبع الزهرة البرد والرطوبة باعتدال ... 2. واستدلوا على اختلاف طبائع الكواكب باختلاف ألوانها فقالوا: زحل لونه   1 ذكره الصوفي في كتاب "صور الكواكب الثمانية والأربعين"، نقلاً عن "فرج المهموم": ص64-65. 2 انظر: "رسائل إخوان الصفا": (1/124-125) ، و"التفهيم في أوائل صناعة التنجيم": ص231-232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الغبرة والكمودة، فطبعه البرد واليبس، والمريخ يشبه لونه لون النار فطبعه حار يابس، وكذلك الزهرية فإن لونها كالمركب من البياض والصفرة، والبياض يدل على طبيعة البلغم وهو البرد والرطوبة، والصفرة تدل على الحرارة، ولما كان بياضها أكثر من صفرتها حكمنا بأن بردها ورطوبتها أكثر ... وهكذا1 وهذا الأصل ظاهر البطلان، ويتبين ذلك بأربعة أمور هي: الأمر الأول: أن البرودة والحرارة واليبس والرطوبة صفات للعناصر التي دون فلك القمر، وليس شيء من هذه الصفات في الأجرام العلوية، لأنها خارجة عن محل حوامل هذه الصفات2. الأمر الثاني: أن المشاركة في بعض الصفات لا تقتضي المشاركة في الماهية والطبيعة. الأمر الثالث: أن الدلالة بمجرد اللون على طبيعة شيء ما أمر باطل، إذ إن النورة والنشادر وغيرها في غاية البياض مع أن طبائعها في غاية الحرارة. الأمر الرابع: أن بعض كبرائهم لما علم فساد هذا القول وتكذيب العقل له أنكر ذلك3. القسم الثالث: الأدلة على فساد أحكام النجوم المزعومة. والتي تبين أن هذه الأحكام ظنون كاذبة، والأدلة على ذلك من المنقول والمعقول. فمن المنقول ما يأتي:   1 رسالة عيسى بن علي التي نقلها ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/159-160) . 2 "الفصل في الملل والأهواء والنحل": (5/149) . هذا ما ذكره والعهدة عليه. 3 رسالة عيسى بن علي التي نقلها ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/160) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 أولاً: الآيات الدالة على أن الله هو المنفرد بعلم الغيب. وأن هذا المنجم لا يعلم شيئاً من الغيب، وكذا الكواكب لا تعلم شيئاً من الغيب. ولم يجعلها الله دالة على شيء من الغيب. وقد سبق ذكرها في المبحث الأول في التمهيد. ثانياً: الأحاديث والآثار التي تدل على إبطال أحكام النجوم، والتي تبين أنها ظنون كاذبة منها: ما رواه الشيخان رحمهما الله عن عائشة رضي الله عنها قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من الكهان. فقال: "ليس بشيء". فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثونا أحياناً بشيء فيكون حقاًّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق يحفظها من الجني فيقرها في أذن وليه فيخلطون معها مائة كذبة" 1. فالإخبار عن الأمور الغيبية التي يخبرها بها المنجمون، ويسمونها أحكام النجوم، هي من جنس أخبار الكهان التي حكم عليها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ليست بشيء. لهذا علم بالتجربة والتواتر أن الأحكام التي يحكم بها المنجمون يكون الكذب فيها أضعاف الصدق2. وما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قيل له لما أراد لقاء الخوارج: "أتلقاهم والقمر في العقرب؟! فقال رضي الله عنه: فأين قمرهم؟ وكان ذلك في آخر الشهر"3. قال القرطبي4 رحمه الله: (انظر إلى   1 أخرجه البخاري: (7/249) ، كتاب الطب، ومسلم: (7/36) ، كتاب السلام. 2 انظر: "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/327) . 3 "تفسير القرطبي": (19/28-29) . 4 هو محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري الخزرجي الأندلسي. أبو عبد الله القرطبي من كبار المفسرين، كان ورعاً متعبداً. توفي سنة إحدى وسبعين وستمائة. انظر: "الديباج المذهب": (2/308) ، و"هدية العارفين": (2/129) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 هذه الكلمة التي أجاب بها وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم) 1. وما أخرجه الخطيب البغدادي عن قتادة أنه قال: "إن الله تعالى إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها نهتدي بها، وجعلها رجوماً للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد أخطأ حظه، وقال برأيه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. وإن ناساً جهلة بأمر الله تعالى قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة، من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ولعمري ما ممن النجوم نجم إلا يولد به الطويل والقصير، والأحمر والأبيض، والحسن والذميم، قال: وما علم هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب، وقضى الله أنه: {لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، ولعمري لو أن أحداً علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله تعالى بيده وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه الجنة فأكل منها رغداً حيث شاء، ونهاه عن شجرة واحدة. فما زال به البلاء حتى وقع بما نهي عنه، ولو كان أحد يعلم الغيب لعلمه الجن حين مات نبي الله سليمان عليه السلام، فلبث الجن يعملون له حولاً في أشد العذاب، وأشد الهوان، لا يشعرون بموته، وما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خر تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. قال: قد كانت تقول قبل ذلك: إنا نعلم. فابتلاهم الله تعالى، وجعل موت   1 "تفسير القرطبي": (19/29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 سليمان للجن والإنس عبرة1. ثالثاً: أن هذه الصناعة تصرف الناس عن الالتجاء إلى الله، والتوجه إليه، وطلب الاستخارة منه إلى الالتجاء إلى النجوم وطلب الاستخارة منها، وهذا المسلك مبتدع، ومخالف لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسور من القرآن، "إذا هم أحدكم فليركع ركعتين، ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإن تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأننت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: في عاجل أمري وآجله فاقدره لي، وإن كنت تعلم إن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري أو قال: في عاجل أمري وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كلن ثم رضني به ويسمي حاجته" 2، وما كان مخالفاً لطريق النبي صلى الله عليه وسلم فهو مردود لما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد"3، وما كان كذلك فلا شك في فساده، لذلك لما لقي سفيان الثوري4 ما شاء الله اليهودي   1 سبق تخريجه: ص147. 2 أخرجه البخاري: (8/146) ، كتاب الدعوات. 3 أخرجه البخاري: (4/21) ، كتاب الصلح، ومسلم: (5/132) ، كتاب الأقضية. 4 هو سفيان بن سعد بن مسروق، أبو عبد الله، الثوري، الكوفي، علم، إمام، حافظ، مجتهد، توفي سنة إحدى وستين ومائة. انظر: "المعارف": ص497، و"سير أعلام النبلاء": (7/229) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 قال له: "أنت تخاف زحل، وأنت ترجو المشتري، وأنا أرجو رب المشتري، وأنت تغدو بالاستشارة، وأننا أغدو بالاستخارة، فكم بيننا؟ فقال له ما شاء الله: كثير بيننا، حالك أرجى، وأمرك أنجح وأحجى"1، وما رواه الخطيب البغدادي عن أبي محمد البافي2 أنه قيل له: "إن منجماً لقي رجلاً مسلماً فقال له: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أرجو الله وأخافه، وأصبحت ترجو المشتري وتخاف زحل، فنظمه البافي شعراً وأنشدناه: أصبحت لا أرجو ولا أخشى سوى الجبار في الدنيا ويوم المحشر وأراك تخشى ما يقدر أنه يأتي به زحل وترجو المشتري شتان ما بيني وبينك فالتزم طرق النجاة وخل طرق المنكر3 وأما الأدلة على فساد صناعتهم، وعلى أنهم ظنون كاذبة من المعقول فهي كثيرة، نذكر أهمها في ثلاثة عشر وجهاً: الوجه الأول: اعتراف كثير من زعمائهم بأن هذه الصناعة تقوم على الخرص والتوهم، وأنها لا تفيد العلم البتة، كما صرح بذلك بطليموس وأرسطاطاليس4، فقال أرسطاطاليس: (لما كان حال العلم واليقين في   1 "المقابسات": ص123. 2 هو عبد الله بن محمد البافي الخوارزمي، أبو محمد، شاعر، فقيه، غزير العلم، بفقه الشافعية، توفي سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة. انظر: "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة: (1/159) ، و"الأعلام": (4/141) . 3 "حكم علم النجوم": (ق15/ب) . 4 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/175) ، وأرسطاطاليس هو ابن نيقوماخس الفيثاغوري، ويطلق عليه أرسطو اختصاراً، تتلمذ على أفلاطون، وإليه انتهت فلسفة اليونانيين، وهو سيد علمائهم، وفيلسوف الروم، وعالمها، وخطيبها، وطبيبها، كان وزير الإسكندر المقدوني الكافر، وكان يعبد الأصنام، وهو مؤسس المدرسة المشائية. انظر: "طبقات الأطباء والحكماء": ص25، و"تاريخ الحكماء": ص27، و"عيون الأنباء": ص86، و"إغاثة اللهفان": (2/260) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 جميع السبل التي لها مبادئ أو أسباب أو استقصاءات إنما يلزم من قبل المعرفة بهذه، فإذا لم تعرف الكواكب على أي وجه تفعل هذه الأفاعيل أعني بذاتها أو بطريق العرض، ولم تعرف ماهيتها، وذواتها لم تكن معرفتنا بالشيء أنه يفعل على وجهة اليقين) 1، وكقول ثابت بن قرة: (وأما علم القضاء من النجوم فقد اختلف فيه أهله اختلافاً شديداً، وخرج فيه قوم إلى ادعاء ما لا يصح ولا يصدق بما لا اتصال له بالأمور الطبيعية، حتى ادعوا في ذلك ما هو من علم الغيب، ومع هذا فلم يوجد منه إلى زماننا هذا قريب من التمام كما وجد غيره) 2، وقول أبي نصر الفارابي: (واعلم أنك لو قبلت أوضاع المنجمين فجعلت العد نحساً، والنحس سعداً، والحار بارداً، والبارد حاراً، والذكر أنثى، والأنثى ذكراً، ثم حكمت لكانت أحكامك من جنس أحكامهم تصيب تارة وتخطئ تارة) 3. وقال أيضاً: (من ظن أن هذه التجارب عليها وجدت دلائل هذه الكواكب وشهادتها، فليعملها إلى سائر ما وضع وليقلبها ثم ليحكم بها مقلوباً في المواليد والمسائل والتحاويل، فإن وجد بعضها يصح، وبعضاً لا يصح، على ما عليه حال ما وضع على ما وضع، فليعلم أن ذلك ظن   1 نقل ذلك ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/175) عن كتاب "السماع الطبيعي". 2 نقل ذلك ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/175) عن كتاب "ترتيب العلوم". 3 "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/332) ، و"مفتاح دار السعادة": (2/175) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وحسبان واستحسان) 1، وما ذكره يعقوب بن إسحاق الكندي مما أراد أن يقيم به للمنجمين عذراً لأغلاطهم، فحط من أقدارهم، فقال ما ملخصه: إن علماء الهند أحذق الناس في علم التنجيم، فأرادوا أن يعلموه أبناءهم، فعجزوا لغموضه، فأجمع علماؤهم جزءاً من ألف جزء من علمهم، فتقبله أبناؤهم، وتعلموه، فلما نشأ أبناؤهم أرادوا تعليمهم هذا العلم كما علمهم آباؤهم ذلك من قبل، فعجزوا عن ذلك، فاختصروه، فصار جزءاً من ألف جزء مما علمهم آباؤهم، ففهمه أبناؤهم وأدركته أذهانهم، ثم قال الكندي: (فما ظنك بعلم اختصر منه جزء من ألف جزء ما يبقى منه الإصابة؟) 2، وهذا القول وإن أورده الكندي عذراً للمنجمين عن كثرة أغلاطهم، وإلا أن فيه دليلاً على اختلال هذا العلم، وعدم إدراك الإصابة فيه، وأن صدق المنجم فيما وجد منه –على حسب قوله- مرة في كل ألف، ألف مرة3. وقول أبي معشر4: (كل الأعراض الغائبة توهم لا يكون شيء منها يقيناً، وإنما يكون توهم أقوى من توهم.. ومن تأمل أحوال القوم علم   1 "كتاب في إبطال حكم النجوم" للفارابي: (ق 298) . 2 انظر: "حكم علم النجوم": (ق14/ب) - (ق298) . 3 انظر: المصدر نفسه: (ق15/أ) . 4 هو جعفر بن محمد بن عمر البلخي، أبو معشر، أستاذ عصره في صناعة التنجيم، أصله من بلخ من خراسان، توفي سنة اثنتين وسبعين ومائتين. "الفهرست" لابن النديم: ص386-387، و"تاريخ الحكماء": (ص152، و"وفيات الأعيان": (1/358-359) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 أن ما معهم إلا رزق وتفرس يصيبون معها ويخطئون) 1، وقول يحيى بن محمد بن أبي الشكر شرحاً على كتاب الإسطرلاب قال: (إنني قد أسهبت وطولت، وذكرت شيئاً من الأحكام لم يقع عليها برهان إلا بالتجربة، وحاكي الكفر ليس بكافر، فلا ينسبنا من قرأ هذا الجزء، وكان له غرض في الشريعة إلى التخلف) 2، وما ذكره ابن تيمية رحمه الله عن المنجمين بقوله: (إني خاطبتهم بدمشق، وحضر عندي رؤساؤهم، وبينت فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعرفون صحتها، فقال لي رئيس منهم: والله إنا نكذب مائة كذبة حتى نصدق في كلمة) 3. الوجه الثاني: إن هؤلاء القوم أقروا على أنفسهم بفساد صناعتهم، إذ إن كل فريق حكم بفساد أصول الفريق الآخر، وكلما جاءت أمة نقضت أصول من سبقهم، وادعت أن أصولهم هي الصحيحة دون من سواهم، وهذا يبرهن على أن أصولهم المزعومة قائمة على الحدس والتخمين، ومن هذا أن الأوائل في عهد بطليموس عملوا رصداً، واتفقوا أنه هو الصحيح، وبقي الأمر على ذلك سبعمائة سنة تقريباً، والناس ليس بأيديهم إلا تقليدهم، حتى كان عهد المأمون، فاتفق الرصاد في عصره على أنهم امتحنوا رصد الأوائل فوجدوهم غالطين، وأنشئوا رصداً جديداً وسموه الرصد الممتحن، وبهذا أبطلوا رصد الأوائل، فما كان من   1 نقل ذلك ابن القيم عن كتاب "أسرار النجوم" في "مفتاح دار السعادة": (2/145) بحثت عن هذا الكلام في الجزء الذي حصلت عليه من مخطوط "أسرار النجوم" فلم أجده، ولعله في الجزء الناقص منه. 2 "كتاب الإسطرلاب" لكوشيار الجيلي: (ق55/أ، ب) . 3 "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/327) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الأوائل إجماع على صحة رصدهم الذي عملوه، وما كان من هؤلاء إجماع على فساد رصد الأوائل، وبالتالي إجماع منهم على أنفسهم بأنهم كانوا مخطئين في العمل بالرصد السابق، ثم حكمت طائفة بعد الرصد الممتحن بستين عاماً تقريباً، وزعيمهم أبو معشر محمد بن جعفر بفساد هذا الرصد الممتحن، وردوا عليهم، وبينوا خطأهم في ذلك1، ثم جاءت جماعة أخرى منهم كوشيار بن باشهري الجيلي2، حكموا على من سبقهم من المنجمين بالجهل، ومن حكمه عليهم قوله في مقدمة كتاب المجمل: (ومن المنفردين بالعلم الثاني –يعني علم أحكام النجوم- من يأتي على جزئياته بحجج على سبيل النظر والجدل فظن أنها برهان، لجهله بطريق البرهان) ، ثم جاءت جماعة بعد هؤلاء منهم أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي، الذي ذكر أنه قد عثر على أغلاط كثيرة استدركها على المتقدمين، وصنف فيها كتاباً قال في مقدمته: (ولما رأيت هؤلاء القوم مع ذكرهم في الآفاق، وتقدمهم في الصناعة، وإقتداء الناس بهم، واشتغالهم بمؤلفاتهم قد تبع كل واحد منهم من تقدمه، من غير تأمل لخطئه وصوابه بالعيان والنظر، وأوهموا الناس بالرصد حتى ظن كل من نظر في مؤلفاتهم أن ذلك حاصل من معرفتهم بالكواكب ومواضعها..) ، ثم ذكر أن من سبقه ليس معهم بصيرة، بل شهد عليهم بأنهم مموهون مدلسون كذابون مفترون.   1 ذكر أبو معشر شيئاً من ذلك من كتاب "أسرار النجوم": (ق4/ب) ، (ق9/أ) . 2 أبو الحسن كوشيار الجيلي، منجم له قدر عند المنجمين، توفي سنة خمسين وثلاثمائة. انظر: "تاريخ حكماء الإسلام": (ص91) ، و"هدية العارفين": (1/838) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ثم جاءت جماعة أخرى في عهد الحاكم1 بالديار المصرية، خالفوا من سبقهم، وحكموا على الأرصاد السابقة بالفساد، ووضعوا رصداً آخر سموه بالرصد الحاكمي، ثم جاءت جماعة أخرى منهم أبو الريحان البيروني حكموا بفساد أصول من تقدمهم، وذكروا كثيراً من مناقضاتهم والرد عليهم بما هو دال على فساد الصناعة نفسها حتى أن البيروني قال في ذلك: (وعند البلوغ إلى هذا الموضع من صناعة التنجيم كفاية، ومن تعداها فقد عرض نفسه وصناعته لما بلغت إليه الآن من السخرية والاستهزاء فقد جهلها المنتسبون إليها) 2، كما حكم على فساد طرق منجمي الهند في تنجيمهم فقال: (وإنما حكيت هذا ليعلم تباين طرق قومنا وطرق الهند في أحكام النجوم، وأما طرقهم في أحداث العالم فمع طولها فهي ركيكة جداًّ) 3، وقال أيضاً فيهم: (فليعلم أولاً أن معولهم في أكثر الأحكام على ما يشبه الزجر والفراسة ... ) 4. ثم جاءت طائفة أخرى بعدهم منهم أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى بن الزرقالة5 خالفوا الأوائل والأواخر، وحكموا على رصدهم وأحكامهم   1 هو الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور بن العزيز بالله نزار بن المعز العبيدي، حاكم مصر، كان جباراً عنيداً، وشيطاناً مريداً، ثير التلون في أحكامه، وأفعاله، وأقواله، جائراً، وإليه تنسب الفرقة الضالة الحاكمية، هلك سنة إحدى عشرة وأربعمائة. "الكامل" لابن الأثير: (9/314) ، و"البداية والنهاية": (11/341) ، (12/10) . 2 "التفهيم لأوائل صناعة التنجيم": ص331. 3 "تحقيق ما للهند من مقولة": ص492. 4 المصدر نفسه: ص473. 5 هو إبراهيم بن يحيى التنجيبي النقاش، المعروف بابن الزرقالة، من منجمي الأندلس، أبصر أهل زمانه بالأرصاد والتنجيم، توفي سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. "تاريخ الحكماء": ص57، و"كشف الظنون": ص870، و"الأعلام": (1/79) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 بالفساد، فأسقط ابن الزرقالة من الرصد الممتحن المأموني في البروج درجات، ومن الرصد الحاكمي دقائق وسلك في الأحكام طرقاً غير الطرق المعهودة قبله، وزعم أن عليها المعوا، وأن طرق من تقدمه ليست بشيء. ثم جاءت جماعة أخرى منهم أبو الصلت الأندلسي1 حكم على المنجمين كلهم، الأوائل منهم والأواخر بأنهم أصحاب زرق وهذيان، مع أنه كان رأساً في صناعة التنجيم، فقال: وراعك قول للمنجم مولاهم ومن يعتقد زرق المنجم يوهم فواعجباً يهذي المنجم دهره ويكذب إلا فيك قول المنجم2 كما حكم إمامهم الفارابي على المنجمين كلهم بأنهم كذابون مخادعون، وأن علم التنجيم باطل في ذاته لا يمكن تحصيله فقال: (إن أثر الناس الذين لا حنكة لهم لما وجدوا أموراً مجهولة بحثوا عنها، وطلبوا علمها، وظنوا أنه إنما يخلو منه لقصورهم عن إدراك سببه، وأنه سيتوصل إلى معرفته بنوع من البحث والتفتيش، ولم يعلموا أن الأمر في طبيعته ممتنع، ولا يكون به تقدم المعرفة البتة بجهة من الجهات إذ هو ممكن الطبيعة وما هو ممكن، فهو بطبعه غير محصل، ولا محكوم عليه بوجود ثبات أو لا وجود) 3، ولا شك أن حكم بعضهم على بعض   1 هو أمية بن عبد العزيز الأندلسي الداني، أبو الصلت المغربي، فريد عصره، في الفلسفة والتنجيم وعلوم الأوائل، توفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة. "تاريخ الحكماء": ص80، و"معجم الأدباء": (7/53) . 2 انظر: "مفتاح دار السعادة": ص144-148. 3 انظر: "كتاب في إبطال أحكام النجوم": ص268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 بفساد أصولهم وصناعتهم دليل كاف يبين فساد الصناعة نفسها، ويبرهن على أن القوم ليس عندهم إلا الظنون الكاذبة. الوجه الثالث: أن هذا العلم أنكره الناس من غير المنجمين على مر العصور، وبينوا فساده شعراً ونثراً، كما بينوا أنه يقوم على الكذب والأوهام، حتى صار بهتانهم مشهوراً بين الناس كافة من كثرة ما قيل في ذلك، فمن ذلك قول قس بن ساعدة: علم النجوم على العقول وبال وطلاب شيء لا ينال ضلال ماذا طلابك علم شيء غيبت من دونه الخضراء ليس ينال هيهات ما أحد بغامض فطنة يدري كم الأرزاق والآجال إلا الذي فوق السماء مكانه فلوجهه الإكرام، والإجلال1 وقال الخليل بن أحم2: أبلغنا عني المنجم أني كافر بالذي قضته الكواكب عالم أن ما يكون وما كان قضاء من المهيمن واجب موقن أن من تكهن أو نجم كل على المقادير كاذب3 وقال محمد البافي: وكنت إن بكرت في حاجة أطالع التقويم والزيجا   1 "حكم علم النجوم": (ق 14/أ) . سبق أن أوردتها عن "المفضليات" للضبي، ويلاحظ اختلاف بعض الألفاظ في هذه الرواية. 2 هو الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي، أبو عبد الرحمن، من أئمة اللغة والأدب، توفي سنة خمس وسبعين ومائة، وقيل: سنة سبعين ومائة. انظر: "إنباه الرواة": (1/341) ، و"تهذيب التهذيب": (3/163) . 3 "حكم علم النجوم": (ق15/ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 فأصبح الزيج كتصحيفه وأصبح التقويم تعويجا1 وقال إسحاق الفيروزآبادي2: حكيم يرى أن النجوم حقيقة ويذهب في أحكامها كل مذهب يخبر عن أفلاكها وبروحها وما عنده علم بما في المغيب3 وقال آخر: من كان يخشى زحلاً أو كان يرجو المشتري فإنني منه وإن كان أبي الأدنى بري4 وقال آخر: إذا ما أراد تضيع قطعة على جاهل صارت بكف منجم لعمرك ما يبريك من داء عمله طبيب به داء كذلك فافهم ولكن تعليل النفوس توهم وليس يشين المرء مثل التوهم رأيت البلايا والمنايا خفية إذا خفي الشيء الخفي فسلم5 وقال آخر: خوفني منجم أخو خبل تراجع المريخ في برج الحمل فقلت دعني من أباطيل الحيل المشتري عندي سواء وزحل6   1 المصدر نفسه: (ق16/أ) . 2 هو إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي، نبغ في علوم الشريعة الإسلامية واشتهر بقوة الحجة في الجدل، والمناظرة، توفي سنة ست وسبعين وأربعمائة. "تهذيب الأسماء واللغات": (2/172) ، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة: (1/238) . 3 "حكم علم النجوم": (ق16/ب) . 4 "حكم علم النجوم": (ق16/أ) ، والأبيات لمنصور الفقيه. 5 المصدر نفسه. 6 المصدر نفسه، والأبيات لابن عباد الصاحب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 أما من النثر فكثير جداً منها: رسالة للخطيب البغدادي في حكم علم النجوم، وكذلك كتاب "مفتاح دار السعادة" لابن قيم الجوزية ذكر فيه كثيراً من مناقضاتهم والردود عليهم، وفي العصر الحاضر كتاب "تقويم الزمان" ذكر شيئاً من الأدلة على فساد صناعتهم1، كما ذكر مؤلف كتاب "قراءة الأبراج والطوالع والحظوظ بين الحلال والحرام والحقيقة والأوهام" بعض الأدلة الدالة على فساد هذه الصناعة، وعلى أنهم يعتمدون على الظنون والأوهام2.. وسأكتفي بهذه الأقوال، وسيأتي غيرها فيما يأتي من الأوجه إن شاء الله. ومن هذه الأقوال ومن الأقوال السابقة في الأوجه الماضية يتبين اتفاق الأوائل والأواخر، والفلاسفة والمنجمين وغير المنجمين على أن هذه الصناعة قائمة على الظنون والأوهام، والكذب والبهتان. الوجه الرابع: أن المنجمين إذا أجمعوا على شيء لم يقع غالباً وهذا دليل قاطع يدل على فساد صناعتهم، وعلى أن أحكامهم مبنية على الظنون الكاذبة، وقد حمل لنا التاريخ القصص الكثيرة الواردة في ذلك3 منها: ما ذكره الطبري وغيره في حوادث سنة سبع وثلاثين أن منجماً لقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما خرج لمقاتلة الخوارج، فأشار عليه بسير وقت من النهار، وقال: إن سرت في غير ذلك الوقت لقيت أنت وأصحابك ضراًّ شديداً، فخالفه وسار في الوقت الذي نهاه عن السير فيه، فلما فرغ من النهر حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: (لو سرنا في   1 انظر: "تقويم الزمان" لعبد الله السليم: ص95-102. 2 انظر: "قراءة الأبراج والطوالع" لعباس مراد: ص2-64. 3 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/135) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الساعة التي أمرنا بها المنجم لقال الجهال الذين لا يعلمون: سار في الساعة التي أمره بها المنجم فظفر) . فما غزا رضي الله عنه غزوة بعد رسول الله أتم منها، حيث أنه لم ينجو من الخوارج إلا عدد قليل1. 2- ما أجمع عليه المنجمون من خراب العالم في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة بدعوى أن الكواكب الستة تجتمع فيه في الميزان، فيكون طوفان الريح في سائر البلدان، فارتعد جهلة الناس، وتأهبوا بحفر مغارات في الجبال، وأسراب في الأرض، خوفاً من ذلك، فلما كانت تلك الليلة التي أشاروا إليها لم ير ليلة مثلها في سكونها وركودها وهدوئها، فظر كذب المنجمين واستبانت حقيقة حالهم، حتى نظر الشعراء في تكذيب المنجمين، أشعاراً منها قصيدة مطلعها: مزق التقويم والزيج فقد بان الخطأ إنما التقويم والزيج هباء وهوا2 3- ما زعمه المنجمون من أن المعتصم لا يفتح عمورية، وراسلته الروم بأنا نجد ذلك في كتبنا، أنه لا تفتح مدينتنا إلا في وقت إدراك التين والعنب، وبيننا وبين ذلك الوقت شهور يمنعك من المقام بها البرد والثلج، فأبى أن ينصرف، وأكب عليها ففتحها، فأبطل ما قالوا، فأنشأ أبو تمام3 قصيدة يمدح المعتصم فيها، ويذكر حريق عمورية وفتحها، ويبين كذب المنجمين وفساد علمهم المزعوم فقال:   1 "تاريخ الطبري": (6/47) ، و "الكامل" لابن الأثير: (3/343) . 2 انظر: "الكامل" لابن الأثير: (11/528) ، و"البداية والنهاية": (12/340) . 3 هو حبيب بن أوس بن الحارث الطائي، أبو تمام، شاعر، أديب، استقدمه المعتصم إلى بغداد وقدمه على نظراته، توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين. "أخبار أبي تمام": ص273، و"وفيات الأعيان": (2/11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب والعلم في شهب الأرماح اللامعة بين الخمسين لا في السبعة الشهب أين الرواية أم أين النجوم وما صاغوه من زخرف فيها ومن كذب تخرصًّا وأحاديث ملفقة ليست بنبع إذا عدت ولا غرب عجائباً زعموا الأيام مجفلة عنهن في صفر الأصفار أو رجب وخوفوا الناس من دهياء مظلمة إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب وصيروا الأبراج العليا مرتبة ما كان منقلباً أو غير منقلب يقضون بالأمر عنها وهي غافلة ما دار في فلك منها وفي قطب لو بينت قط أمراً قبل موقعه لم تخف ما حل بالأوثان والصلب1 4- ومن ذلك إجماع المنجمين في زمن الواثق بالله2 أنه يعيش في الخلافة دهراً طويلاً، وقدروا له خمسين سنة مستقبلة من يوم نظروا ولم يعش بعد ما نظروا إلا عشرة أيام ثم توفي3. 5- ومن ذلك إجماع المنجمين على خراب العالم، وهلاك سائر المكونات بعد مضي تسعمائة وستين سنة4 وقد ظهر كذبهم.   1 انظر: "حكم علم النجوم": (ق13/ب) ، و"شرح ديوان أبي تمام" للخطيب التبريزي: (1/44) . 2 هو هارون الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، أحد الخلفاء العباسيين، توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. انظر: "تاريخ الطبري": (11/24) ، و"سير أعلام النبلاء": (10/306) . 3 انظر: "تاريخ الطبري": (11/24) ، و"البداية والنهاية": (32110-322) . 4 انظر: "مقدمة ابن خلدون": ص337. ?? الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 6- ومن ذلك اتفاقهم سنة اثنتين وتسعين ومائتين في قصة القرامطة على أن المكتفي بالله1 إن خرج لمقاتلتهم كان هو المغلوب الملزوم، وكان المسلمون قد لقوا منهم على توالي الأيام شراًّ عظيماً، وخطباً جسيماً، من ذلك أنهم قتلوا النساء والأطفال، واستباحوا الحريم والأموال، وهدموا المساجد، وربطوا فيها خيولهم ودوابهم، وقصدوا وفد الله وزوار بيته فأوقعوا فيهم القتل الذريع، والفعل الشنيع، وأباحوا محارم الله، فعزم المكتفي على الخروج إليهم بنفسه، فاجتمع المنجمون، وأشاروا على الخليفة أن لا يخرج فإنه إن خرج لم يرجع، وبخروجه تزول دولته، وبهذا تشهد النجوم التي يقضي بها طالع مولده، فخالفهم المكتفي بالله وخرج وأقام بالرقة حتى أخذ أعداء الله جميعاً، وسيقت جموعهم بالسيف2. 7- ومن ذلك النكبات التي حلت بمن تقيد بهذا العلم في أفعاله وأسفاره، وغير ذلك من أحواله، وهي عبر يكفي العاقل بعضها في تكذيب هؤلاء القوم، ولا يكاد يعرف أحد تقيد بالنجوم في ما يأتيه ويذوره إلا نكب أقبح نكبة وأشنعها، مقابلة له بنقيض قصده، فمن ذلك: حال أبي علي بن مقلة الوزير3، وتعظيمه لأحكام النجوم، ومراعاته   1 هو الخليفة العباسي، أبو محمد، علي بن المعتضد بالله أحمد بن الموفق العباسي، توفي شاباً سنة خمس وتسعين ومائتين. "تاريخ بغداد": (11/316) ، و"سير أعلام النبلاء": (13/479) . 2 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/143) . 3 هو أبو علي محمد بن الحسين بن علي بن مقلة، وزير من الشعراء، يضرب به المثل في حسن الحظ، توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. انظر: "تحفة الوزراء": ص124، و"البداية والنهاية": (11/27) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 لها أشد المراعات، ودخوله داراً بناها بطالع زعم الكذابون أنه طالع سعد، ولا يرى به في الدار مكروهاً، فقطعت يده ولسانه، وخربت داره فصارت كوماً، ونكب أقبح نكبة نكبها وزير، حتى أنشده بعض الشعراء فيه فقال: قل لابن مقلة: مهلاً لا تكن عجلاً واصبر، فإنك في أضغاث أحلام تبني بأحجر دور الناس مجتهداً داراً ستهدم قنصاً بعد أيام ما زلت تختار سعد المشتري لها فكم نحوس به من نحس بهرام1 إن القران وبطليموس ما اجتمعا في حال نقض ولا في حال إبرام2 ومن ذلك أيضاً أن المنجمين حكموا لحاكم بأمر الله بركوب الحمار على كل حال، وألزموه أن يتعاهد الجبل المقطم في أكثر الأيام، وينفرد وحده بخطاب زحل بما علموه إياه من الكلام، ويتعاهد فعل ما وضعوه له من البخورات والأعزام، وحكموا بأنه ما دام على ذلك، وهو يركب الحمار فهو سالم النفس عن كل إيذاء، فلزم ما أشاروا به عليه، فجعل الله العزيز العليم، رب الكواكب ومسخرها، ومدبرها أن هلاكه كان في ذلك الجبل، وعلى ذلك الحمار، فإنه خرج بحماره إلى ذلك الجبل على عادته، وانفرد بنفسه، منقطعاً عن موكبه، وقد استعد له قوم بسكاكين، فقطعوه هنالك للوقت والحين، ثم أعدموا جثته فلم يعلم لها خبر3.   1 بهرام يطلق على المريخ. انظر: "حكم علم النجوم": (ق3/أ) . 2 انظر: "تاريخ الإسلام" للذهبي، حوادث (321-330) : ص243، و"مفتاح دار السعادة": (2/144) ، و"البداية والنهاية": (11/207-208) . 3 انظر: "الكامل" لابن الأثير: (9/314) ، و"مفتاح دار السعادة": (2/139) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 والقصص في كذب المنجمين كثيرة جداً، وقتلى المنجمين لا يحصيهم إلا الله، وفيما ذكرناه كفاية في بيان فساد صناعتهم، وفي إظهار كذبهم. الوجه الخامس: لو كان هذا العلم صحيحاً لحظي المنجمون بالغنى والسلامة والنعم، ومعلوم من واقعهم أن الأمر بالعكس، فالغالب في أحوال المنجمين ومن سمع منهم وعمل بقولهم الفقر والنحوسة والحرمان، والتاريخ أكبر شاهد على ذلك1. الوجه السادس: أن هذه الصنعة –على فرض صحة أحكامها- فلا فائدة في حصول العلم بها، إذ إن الإنسان لا يقدر أن يزيد فيه سعداً، ولا ينقص منه نحساً، بشهادتهم على ذلك2، فضلاً عن المضرة الحاصلة الواقعة على مكتسب هذا العلم، وذلك أن متوقع السعادة يحصل له من قلق المتوقع، وحرقة الانتظار ما يقطعه عن منافعه، ويقصر به عن حركته اتكالاً على ما يأتيه، وتعويلاً على ما يصل إليه، ففكره منقسم، وقلبه معذب، بعد الدقائق والثواني شوقاً إلى ما وعد، فإذا تأخر السعد أو تخلف –وكثيراً ما يحدث- انقدح في القلب حسرة وندامة على ما فاته من السعد الموهوم فكانت مضرة على مضرة، أما متوقع النحس فهو حاصل له قبل وقوعه، لشدة رعبه من قدومه، ففكره لا ينصرف عنه، وعن التفكير فيه، فتبقى حياته منغصة حتى يحين موعده المزعوم، وقد يأتي وقد يتخلف، فعلم من ذلك أن هذه الصناعة ضارة بأهلها وبمن اعتقدها، معذبة لهم، سواء أكانت علماً صحيحاً أم فاسداً3.   1 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/131-132) . 2 انظر: "المقابسات": ص120، وما بعدها، و"فرج المهموم": ص60-61. 3 انظر: "فرج المهموم": ص61-62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الوجه السابع: اختلاف أصحابها في الأصول التي يبنون عليها أمرهم، ويفرغون عنها أحكامهم1 فمن ذلك: أولاً: اختلافهم في البروج التي نؤثر في هذا العالم –بزعمهم-، والتي تبنى عليها أحكامهم، والاختلاف فيها في ثلاثة أمور: الأمر الأول: في أسمائها: تختلف أسماء البروج بين أمم المنجمين اختلافاً بيناً، فالبروج عند اليونانيين والمصريين والعرب اثنا عشر برجاً، وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسركان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت2. أما الصينيون فالبروج عندهم كما يلي: برج الفأر، والقط، والحصان، والديك، والجاموس، والتنين، والماعز، والكلب، والنمر، والثعبان، والقرد، والخنزير3. الأمر الثاني: اختلاف أحكامهم في دلالة هذه البروج على طباع الناس بناء على اختلافهم في أسمائهم، إذا أنهم جعلوا طبائع المولود تابعة لطبيعة الحيوان الذي سمي باسمه البرج الذي ولد فيه هذا المولود، ولنأخذ مثالاً على ذلك قول أبي معشر في مواليد برج الحمل باعتباره أول البروج عند اليونانيين ومن تابعهم قال: (المولود بهذا البرج يكون رجلاً أسمر اللون، طويل القامة، كبير الرأس، صعب المراس، سريع الغضب، قريب الرضا، سريع الانتقال من مكان إلى مكان، يقول   1 رسالة عيسى بن علي التي نقلها ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/150) . 2 انظر: "الأنواء في مواسم العرب": ص6، و"التفهيم في أوائل صناعة التنجيم": ص265. 3 انظر: "الأبراج الصينية": ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الحق ويكره الباطل، لا يعمل إلا برأيه، ويكون استقلاله بمشورته فيه بعض فساد تارة، وتارة يستغني، حاله حسن، صبوراً على الأهوال) فقد استمدوا بعض صفات الحمل وجعلوها صفات لمواليد هذا البرج كما مضى من قول أبي معشر: (سريع الغضب، قريب الرضا، وثاباً، سريع الانتقال من مكان إلى مكان..) وهذه صفات الحمل. وكذلك فعل الصينيون إلا أنهم بحككم اختلافهم في البروج جعلوا للمولود صفات تختلف عن الصفات التي جعلها اليونانيون، فأول البروج عند الصينيين –كما سبق- برج الفأر، وقالوا في صفات من ولد فيه، (ولد الفأر في برج الفتنة، والعدوان، وهو يبدو للوهلة الأولى هادئاً متزناً.. فرحاً.. ولكن حذار، فإن تحت هذا المظهر الوديع يكمن مزيج من العدوان والقلق المتواصل.. والفأر خلاق للمواقف الحرجة، مهتم بتوافه الأمور، مختل الأعصاب أحياناً، بادئ بالتذمر دائماً، ويميل الفأر أن يكون ضمن مجموعة..) 2 وهذه صفات الفأر، طبقوها على من ولد في هذا البرج. الأمر الثالث: اختلافهم في المدة التي تجعل لكل برج: لا شك أن اليوم الواحد، بل الساعة الواحدة لها أثر في اختلاف حكم النجوم المزعوم، فكيف لو امتدت المدة أشهراً؟؟ بلا ريب سيكون اختلاف واضحاً بين الحكمين –على حد زعمهم- إلا أننا نجد أن مدة كل برج عند اليونانيين وأتباعهم ما يقارب الشهر3، فيكون أثر هذا البرج خلال هذه   1 انظر: "كتاب بغية الطالب": ص11. 2 انظر: "الأبراج الصينية": ص11. 3 انظر: "الأنواء في مواسم العرب": ص6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 المدة1، أما الصينيون فقد جعلوا لكل برج من بروجهم سنة كاملة2، وهذا يجعل جميع مواليد أبراج اليونانيين تحت حكم واحد، وهذا البون الشاسع دلالة واضحة على كذب هؤلاء. ثانياً: معرفة السعود من الكواكب والنحوس مهم عند المنجمين، إذ إن الحكم عند وجد كوكب سعد يختلف عن الحكم عند وجود كوكب نحس –على حد زعمهم- فمن ذلك قول ابن الفرخان3 في كتاب الأحكام: (معرفة سلامة المسئول عنه وضرره انظر كيف حال رب برج المسئول عنه والقمر، فإن وجدتهما ساقطين أو منحوسين، وكان القمر ناقصاً في نوره، والدليل للمسئول عنه راجع في سيره وهبوطه، دل على ضرر بالمسئول عنه، وإن كان مستقيماً، أو شرقياً، أو في شرفه، أو في شيء من حظوظه، أو مسعوداً كان القمر زائداً في نوره وكان في بعض حظوظه ولم يكن في هبوطه سليماً من النحوس، دل على سلامة بدن المسئول عنه) 4 فاختلافهم في السعد من الكواكب من النحس منها دليل على بهتان هؤلاء، لأنه يؤدي إلى صدور أحكام متضادة، ولو كان علم أحكام النجوم صحيحاً ما حصل هذا التضاد، لأن النجوم في سماء   1 انظر: "الأبراج" لحنا تادرس: ص19. 2 انظر: "الأبراج الصينية": ص8. 3 هو عمر بن الفرخان أبو حفص الطبري، أحد رؤساء الترجمة والمتحققي في علم حركات النجوم وأحكامها" توفي سنة مائتين. "الفهرست" لابن النديم: ص381، و"تاريخ الحكماء": ص241، و"معجم المؤلفين": (7/304) . 4 "كتاب الأحكام" لابن الفرخان: (ق8/ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الشعوب كلها واحدة، فوجود مثل هذا يدل على كذبهم في ادعاء أن هذه الأحكام صادرة من الكواكب، أو هي دالة عليها، فنجد أن مذهب أهل الهند أن السعود من الكواكب ثلاثة هي: المشتري، والزهرة، والقمر، والنحوس منها ثلاثة هي: زحل، والمريخ، والشمس، والمنقلب واحد: وهو عطارد، وسُمي بذلك لأن أحواله تنقلب فيكون سعداً مع السعد، ونحساً مع النحس1. ومذهب البلخي: أن السعود من الكواكب أربعة: المشتري، والزهرة، والشمس، والقمر، والنحوس منها اثنان: زحل، والمريخ، والمنقلب: عطارد2. ومنهم من يقول: إن القمر سعد إذا زاد نوره ونحس إذا نقص نوره. ومنهم من يقول: إنه في العشر الأوائل من الشهر القمري لا سعد ولا نحس، وفي العشر الأوسط سعد، وفي الأخير نحس3. والمنجمون من الرافضة يجعلون زحل من السعود، ويدعون أنه نجم الأنبياء والأوصياء4. ثالثاً: اختلافهم في البروج المذكورة والبروج المؤنثة على مذاهب: الأول: ذهبت طائفة منهم إلى ترتيب البروج المذكرة والمؤنثة من البرج الطالع، فعدوا واحداً مذكراً، وآخراً مؤنثاً، وابتدئوا من المذكر5.   1 انظر: "تحقيق ما للهند من مقولة": ص473. 2 "المدخل في النجوم" لأبي معشر: (ق5/ب) . 3 "كتاب التفهيم": ص234. 4 "فرج المهموم": ص93. 5 رسالة عيسى بن علي التي نقلها ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/152) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الثاني: ذهبت طائفة أخلى إلى تقسيم البروج أربعة أجزاء، فجعلوا البروج المذكرة وهي التي من الطالع إلى وسط السماء، والتي يقابلها من الغرب إلى وتد الأرض1، والمربعان الباقيان مؤنثان2. الثالث: ذهب أهل الهند وأبو معشر البلخي إلى تقسيم البروج. المذكرة والمؤنثة اعتباراً من برج الحمل فجعلوه مذكراً، ثم برج الثور أنثى، وهكذا الثالث ذكر والرابع أنثى ... إلى آخر البروج3. رابعاً: اختلافهم في كيفية معرفة السعادة من هذه الكواكب على أقوال: القول الأول: قال بطليموس: يؤخذ دائماً العدد الذي يحصل من موضع الشمس إلى موضع القمر، ويبتدئ من الطالع فيرصد منه مثل ذلك العدد، ويؤخذ إلى الجهة التي تتلو البروج فيكون قد عرف موضع السهم. القول الثاني: زعم غيره أنه يعد من الشمس، ثم يبتدئ من الطالع فيعد مثل ذلك إلى الجهة المتقدمة من البروج. القول الثالث: قال الفرس: لأن الشمس لها نوبة النهار، والقمر له نوبة الليل، وكان سهم السعادة بالنهار يؤخذ من الشمس إلى القمر   1 قسم المنجمون الفلك إلى أربعة أقسام، كل ربع منها تسعون درجة، فإذا رقمنا هذه الأرباع، وبدأنا من الربع الأول الذي هو من أفق السماء إلى وسطها، فيكون المقصود الربع الأول والثالث. انظر: "رسائل إخوان الصفا": (1/127) . 2 انظر: "كتاب الأحكام" لعمر بن الفرخان: (ق10/ب) . 3 انظر: "المدخل في النجوم" لأبي معشر: (12/أ، ب) ، و"تحقيق ما للهند من مقولة": ص479. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فوجب أن يؤخذ سهم السعادة بالليل من القمر إلى الشمس1. خامساً: اختلفوا في اعتماد وقوع الخير والشر، والإعطاء والمنع، ونحو ذلك في العالم من الكواكب على أقوال: الأول: على حسب السعود والنحوس. الثاني: على حسب كونها من البروج الموافقة والمنافرة لها. الثالث: على حسب نظر بعضها إلى بعض من التسديس والتربيع والتثليث ... إلخ. الرابع: على حسب كونها في شرفها وهبوطها2. سادساً: اختلفوا في الحدود، والحدود هي: أقسام في البروج مختلفة ينسب كل قسم من كل برج إلى كوكب من الكواكب المتحيرة3، وتختلف الأحكام في البرج الواحد بحسب اختلاف هذه الأقسام، ووقوع هذه الكواكب فيها، فمن ذلك قول ابن أبي الشكر فيمن سأل عن دفين قال: (إن كان في الطالع عطارد فهو مدفون في الأرض، وإن كانت الزهرة فهو تحت فراش أو فرش، وإن كان المشتري ففي حائط، وإن كان زحل ففي قدر مظلم ... ) 4.   1 رسالة عيسى بن علي التي نقلها ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/151-152) . 2 المصدر نفسه: (2/150) . 3 انظر: "التفهيم": ص256. والكواكب المتحيرة هي: المشتري، والزهرة، وعطارد، والمريخ، وزحل. كما سأبين ذلك في المتن إن شاء الله. 4 انظر: "المدخل المفيد": (ق1/أ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 قلت: إنهم اختلفوا في تقسيم هذه الكواكب على هذه الأقسام، فالكلدانيون لهم تقسيم، وأهل الهند لهم تقسيم آخر، والمصريون لهم تقسيم آخر، وبطليموس له تقسيم يختلف عن جميع تقسيمات من سبق، ومثال اختلافهم في هذه التقسيمات جعل المصريون حدود الجدي –مثلاً- عطارد، والمشتري، والزهرة، وزحل، والمريخ، على الترتيب أما حدود الجدي عند بطليموس فهو الزهرة وعطارد والمشتري والمريخ وزحل على هذا الترتيب1، ولا يخفى على كل ذي لب أثر هذا الاختلاف على اختلاف الأحكام. سابعاً: اختلفوا في تقويم الكواكب بالزيجات المختلفة، فبعضهم يقومها بزي بطليموس، وبعضهم يقومها بالسند هند، وبعضهم يقومها بالممتحن، وإذا اختلفت هذه الزيجات اختلف الحساب، وإذا اختلف الحساب اختلفت مواقع الكواكب في البروج عند الحساب، وإذا اختلفت دلائلها المزعومةـ وإذا اختلفت دلائلها اختلف القضاء بها، والحكم فيها، وإذا اختلف القضاء بها والحكم فيها وقع الخطأ والكذب لا محالة2، والكذب واقع في هذه الصناعة بكل حال. ثامناً: من الأحوال المهمة التي يبنون عليها أحكامهم –بالإضافة إلى ما سبق- تقسيم الكواكب إلى مذكر ومؤنث ومشارك للجنسين، وإن كانت هذه القسمة وهمية، إلا أنها عندهم في غاية الأهمية، إذ بها تعرف الدلالة على الذكور والإناث في سائر أحكامهم، مثال ذلك دلالة الكواكب على المولود أذكر هو أم أنثى؟   1 انظر: "التفهيم": ص256. 2 انظر: "حكم علم النجوم": (ق18/ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 قال السجزي1: (الشمس في الطالع والطالع برج ذكر، وعدد الساعات فرد دليل على التذكير، وبالعكس الطالع برج ذو جسدين، وفيه كوكب ذكر وعدد الساعات فرد يدل على الذكر ... ) 2 وكذلك في دلالته على اللص هل هو ذكر أو أنثى أوخنثى3، وغير هذه من الأحكام –كثير يعتمد على تذكير الكواكب وتأنيثها- فقد اختلفوا أيضاً في هذا الأصل فمنهم من جعل الشمس وزحل والمشتري والمريخ ذكوراً، والزهرة والقمر أنثيان، وعطارد مشارك للجنسين4، ومنهم من جعل زحل كالمخصي5. ومنهم من جعل المريخ أنثى، ومنهم من جعل أحياناُ أنثى، وأحياناً ذكر6. ولو أردت أن أستقصي اختلافاتهم لما وسعتها مئات الأوراق، ولكن أكتفي بما ذكرت، وأشير إلى ما يحضرني منها، ومن أراد التوسع رجع إلى ما أذكره من مراجعها، فمن هذه الاختلافات اختلافهم في عدد السهام7، واختلافهم في الهيلاج والكداخداه8، واختلافهم في صداقة   1 هو أحمد بن محمد بن عبد الجليل، أبو سعيد السجزي، توفي سنة سبع وسبعين وأربعمائة. "أعيان الشيعة": (9/473) ، و"هدية العارفين": (1/80) ، و"معجم المؤلفين": (2/115) . 2 "الدلائل في أحكام النجوم": (ق14/ب) . 3 المصدر نفسه: (ق23/أ) . 4 "المدخل في النجوم" للبلخي: (ق12/ب) . 5 "التفهيم": ص234. 6 "المعاني في أحكام النجوم": (ق42/أ) . 7 انظر: "التفهيم": ص282. 8 هما دليلا أعمار الحيوان. انظر للتعريف والاختلاف: "متاب المعاني في أحكام النجوم": (ق25/أ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الكواكب وعداوتها1، واختلافهم في درجات الفلك الثلاثمائة وستين درجة المذكر منها والمؤنث2، واختلافهم في عدد الدرجات لكل كوكب3، واختلافهم في صورة الفلك وشكله، وحركته، وصورة كواكبه، وأشكالها وحركاتها، وهل تتحرك بأنفسها أو بأفلاكها4؟ الوجه الثامن: أن هذه الصناعة تشتمل على أصول فاسدة كثيرة منها: 1- دلالة الطالع على أحوال المولود: إن من أهم الأصول التي يبنى عليها المنجمون أحكامهم معرفة الطالع، وجعلوا الطالع هو النجم الذي يظهر في المشرق عند انفصال الولد من رحم أمه، وجعلوه دالاًّ على جميع أحوال المولود إلى آخر عمره، والذي يدل على هذا أقوال المنجمين أنفسهم، ومن هذه الأقوال قول أبي سعيد السجزي: (اعلم أن صاحب الطالع دليل حال المولود، فإن كان صالح الحال فإنه يدل في كل أموره على الصلاح، وإذا كان رديء الحال فإنه يدل على الفساد) 5، وهذا الأصل باطل من عدة أمور هي: الأمر الأول: إنه لا ارتباط بين المولود وبين شكل الطالع إلا في شيء واحد وهو أن كلاًّ منهما ظهر بعد خفاء، ومجرد هذا الشبه لا يوجب الاستدلال بهذا الشكل على جميع أحوال الإنسان.   1 "التفهيم": ص260. 2 المصدر نفسه: ص269. 3 انظر: "حكم علم النجوم": (ق8/أ) . 4 انظر: المصدر نفسه: (ق18/ب) ، (ق19/أ) . 5 "كتاب المعاني في أحكام النجوم": (ق7/أ، ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الأمر الثاني: أن الأجسام لا تنفعل من غيرها إلا بواسطة المماسة، وهذه الكواكب لا مماسة لها بأعضائها وأبداننا، وأرواحنا، فيمتنع كونها فاعلة فينا، إلا ما كان من وصول شعاع بعضها إلى أجسامنا. الأمر الثالث: أن ذلك الشكل لم يحدث إلا في تلك اللحظة ثم يفنى ويزول، ويحدث شكل آخر، فهذا الشكل معدوم في جميع أجزاء عمر الولد إلا في تلك اللحظة فلا يكون علة ولا جزءاً من العلة لهذا المولود، وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال به على جميع أجزاء عمره. الأمر الرابع: أنه عند حدوث الطالع فإن أنواعاً من الحيوانات، والجمادات، والنباتات قد حدثت في ذلك الوقت، فلو كان ذلك الطالع يوجب آثاراً مخصوصة لحصلت لهذه الأشياء كذلك، فلما لم يحدث ذلك علمنا أن القول بتأثير الطالع باطل1. الأمر الخامس: نفترض –جدلاً- أن الطالع له تأثير في أحوال المولود، فعلى هذا يكون اعتبار طالع الولادة خطأ، بل الأولى أن يكون طالع سقوط النطفة هو المعتبر لا طالع الولادة، وذلك لأن سقوط النطفة هو مبدأ التكوين، أما الولادة فهو انتقال من مكان إلى مكان بعد أن تم تكوينه وحدوثه، وطالع سقوط النطفة لا يمكن إدراكه، فدل ذلك على عدم إمكان حصول العلم بهذه الصناعة2. أنهم يبنون صناعة التنجيم على السيارات السبع، ويعدونها فيخطئون لأنهم يحسبون القمر من السيارات وليس هو منها، ولا يحسبون   1 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/130) . 2 المصدر السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الكرة الأرضية، وهي في وسطها، وكان المنجمون الأقدمون يجهلون ثلاثاً من السيارات لأنها لم تكشف قبل اختراع المنظار المقرب، وهو أورانوس الذي اكتشف سنة 1781م، ونبتون الذي كشف في منتصف القرن الماضي، وبلوتس الذي كان معروفاً بالظن، ولم يعرف على وجه التحقيق قبل سنة 1930م1. 3- أن المنجمين يذكرون بروج الفلك، ويذكرون سلطان كل برج منها كأنه ثابت في مكانه، وقد أثبت أخيراً أن البروج تنتقل من أماكنها فلا تتفق طوالع المواليد اليوم، وطوالعهم قبل ألف سنة ولا قبل مائة سنة، لأن مواضعها في أفلاك البروج لا تزال في انتقال واختلاف2. 4- أن المنجمين حكموا على بعض الأجرام العلوية بالسعادة، وعلى بعضها بالنحوسة، مع إجماعهم أن هذه الأجرام غير قابلة في ذاتها للتأثيرات والتكوينات، ولا اختلاف في طباعها، فإن ادعوا أنهم قسموا هذا التقسيم من أجل ألوانها أو حركاتها البطيئة والسريعة فلا يستقيم، إذ ليس كل ما أشبه شيئاً بعرض من الأعراض يجب أن يكون شبيهاً به في طبعه، وأن يصدر عن كل واحد منهما ما يصدر عن الآخر3. أن المنجمين جعلوا دلالة الكواكب على الأشياء السفلية على حسب اتفاق هذه الكواكب مع هذه الأشياء في اللون أو في الحركة، وهذا لا يصح إذ لو وجب أن يكون كل   1 انظر: مجلة الأزهر: عدد (2) ، ص134، مقال العقاد. 2 انظر: المصدر السابق. 3 انظر: "إبطال أحكام النجوم": (ق269) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ما لونه من الكواكب شبيهاً بلون الدم مثل المريخ دليلاً على القتال وإراقة الدماء لوجب أن يكون كل ما لونه أحمر من الأجسام السفلية أيضاً دليلاً على ذلك، إذ هي أقرب منها، ولو وجب أن يكون كل ما حركته سريعة أو بطيئة من الكواكب دلائل على التباطئ والتسارع في الحوائج لوجب أن يكون كل بطيء، وكل سريع من الأجسام السفلية أدل عليها، إذ هي أقرب منها، وأشد اتصالاً، وكذلك الأمر في سائرها1. 6- أن المنجمين قسموا الفلك إلى أجزاء من درجات، ودقائق، وثواب ... وهذه الأجزاء المفترضة في الفك إما أن تكون متشابهة في الطبيعة والماهية، أو مختلفة فيها، فإن كانت متشابهة في الطبيعة والماهية كان الطالع مساوياً لسائر الأجزاء، وحكم سائر الأجزاء واحد، وإن كانت الأجزاء مختلفة وهذا ما يدعونه إذ أنهم جعلوا لكل جزء من الفلك طبيعة مختلفة2، فلا شك في فساد أحكامهم، لأن سرعة الفلك عظيمة جداً، حتى قالوا: إن الفرس شديد العدو إذا رفع رجله ووضعها يكون الفلك قد تحرك ثلاثة آلاف ميل، فإن كان كذلك فمن الوقت الذي ينفصل فيه الجنين عن بطن أمه إلى أن يأخذ المنجم الإسطرلاب وينظر في الفلك قد تحرك مسافات بعيدة جداً3. وغير ذلك من الأصول الفاسدة التي شملتها هذه الصناعة. الوجه التاسع: إن علم أحكام النجوم المزعوم مبني على معرفة مواضع الكواكب ومناسبتها مع بعضها، وهذا تتوقف معرفته على آلات الرصد، وهي لا تنفك عن شيء من الزلل، والخلل الذي لا يستطيع   1 انظر: المصدر نفسه: (ق270) . 2 انظر: "التفهيم": (ص269) . 3 انظر: "النبوات" للرازي: ص220، و"مفتاح دار السعادة": (2/133) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الإنسان توفيه، وهذا ما اعترف به بعض كبرائهم منهم أبو سعيد السجزي، حيث قال: (وأما الموضع الذي يخطئ عامة المنجمين فيه أن تكون الدلالة الحسية على معرفة هيئة الفلك بالتغير، إما باعوجاج الآلات مثل الإسطرلاب فإنه يمكن أن يتغير آخر برج من البروج فيصير أول البروج الذي يليه، أو ما شكل ذلك) 1 بالإضافة إلى عدم مقدرتها على ضبط الثواني والثوالث والروابع والخوامس2 ... إلى آخر ذلك بما يعتمد عليه المنجمون، وذلك لسرعة جريان جرم الفلك3 ودقة هذه الأجرام مما يستحيل معه ضبطها. الوجه العاشر: لو أن شخصين سألا منجمين في وقت واحد، وفي بلد واحد عن خصمين طالعها واحد أيهما يظفر بصاحبه؟ فإن دل الطالع على حال الغالب والمغلوب مع كونه مشتركاً بني الخصمين لزم أن يكون كل واحد منهما غالباً ومغلوباً، وهذا محال، إذ فيه اجتماع الضدين، واجتماعهما يستحيل حصوله4. الوجه الحادي عشر: من المشاهد أنه يموت مجموعة كبيرة من الناس في ساعة واحدة، إما بغرق أو بقتل في حرب أو نحو ذلك، مع اختلاف   1 "كتب المعاني في أحكام النجوم": (ق5/ب) . 2 قسم المنجمون الفلك إلى اثني عشر قسماً، كل قسم منها يسمى برجاً، وكل برج ثلاثون درجة جملتها ثلاثمائة وستون درجة، وكل درجة ستون جزءاً يسمى دقيقة، وكل دقيقة ستون جزءاً يسمى ثانية، وكل ثانية ستون جزءاً يسمى ثالثة ... وهكذا إلى الروابع والخوامس وما زاد بالغاً ما بلغ. انظر: "رسائل إخوان الصفا": (1/115-116) . 3 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/128) . 4 انظر: "النبوات": ص219-220، و"مفتاح دار السعادة": (2/131) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 أحوالهم، وتباين طبقاتهم، واختلاف طوالعهم، ودرجات نجومهم، ولو كان للطوالع تأثير لامتنع عند اختلافها الاشتراك في طريقة ووقت الموت، فإن قال المنجم: يؤخذ الحكم بين الطالع الذي ركبوا فيه، قيل له: يكون على مقتضى ذلك أن الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها، فيكون بهذا لا فائدة في أخذ الطوالع عند الولادة، ولا يوثق في أحكامها، إذا يحتمل أن كل طالع ينسخ حكم ما تقدم من أحكام الطوالع، فلا يبقى بهذا حكم يوثق به1. الوجه الثاني عشر: ما هو معلوم بالحس والواقع أن الإنسان يستطيع أن يخالف ما يدعيه المنجم من الأحكام، وبهذا يتبين كذب المنجم إذ لو كانت حقاًّ وحتماً لما أمكن مخالفتها فصح أنها تخرص وتخمين2. الوجه الثالث عشر: أن هذه الصناعة محتوية على أحكام كثيرة مستبشعة تقتضي التقرب إلى الكواكب وعبادتها، وهتك أعراض الناس بمجرد النون الكاذبة، وارتكاب الفواحش، وذم الإسلام وأهله، وتني هدم الإسلام وكسر الملة الإسلامية. فمن ذلك: ما نقله الرازي عن أبي معشر أنه قال: (من أراد هذا العلم الشريف فلا بد أن يبتدئ بالقمر فإذا حصل منه مقصوده توسل به إلى سحر عطارد، وبهما إلى الزهرة، ثم بالثلاثة إلى الشمس لاسيما عطارد في وقت احتراقه ... ) 3 والتوسل من العبادة التي يجب أن تصرف لله وحده.   1 انظر: "الفصل": (5/150) ، و"تفسير القرطبي": (19/28) ، و"مفتاح دار السعادة": (2/132) . 2 انظر: "الفصل": (5/150) ، و"مفتاح دار السعادة": (2/133-134) . 3 "السر المكتوم": (ق91/ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وما ذكره الرازي أيضاً عن أبي معشر البلخي: (وينبغي إذا طلعت الزهرة بحيث يراها أن يكون أسباب المجلس مهيأة هكذا ثلاثة أيام، لايشتغل بشيء آخر سوى شرب الخمر، ويلوط، ويزني في كل ليلة، ثم في الليلة الثالثة إذا طلعت الزهرة يقوم ويخدمها إذا فرغ من جماع المغنية، ويظهر عشقه لها، ويشكو مايقاسي من حبها، ويذكر من الأشعار المذكورة في باب العشق بالعربية والفارسية ويتضرع إليها غاية التضرع، فإنه يصير مقبولاً، وعلامة ذلك أن تكثر أسباب اللهو، ويميل الغلمان والنساء إليه، ويدخلون عليه من غير طلبه) 1، وقال أيضاً: (الباب الثاني في القربانات والضابط في هذا الباب أن قربان كل كوكب حيوان يكون أشرف الحيوانات المنتسبة إليه) 2، وغير هذه الأقوال كثير تظهر فيها عبادة هذه الكواكب والتقرب لها بالفواحش، والمنكرات، وفعل كل قبيح، ومن هتك أعراض الناس. قال عمر بن فرخان: (إذا أردت أن تعلم هل المرأة عفيفة أو فاسدة انظر فإن كان الطالع بيت زحل وفيه المريخ فإن المرأة زانية، وإن نظر المريخ مع هذا فهي زانية … فاسدة غير عفيفة، وإن كانت المسألة عن رجل، وكان الطالع بيت عطارد وفيه الزهرة فإنه لوطي … ) 3. وكذلك ما اتفق عليه المنجمون أن الإنسان إذا أراد أن يستجيب الله دعاءه جعل الرأس في وسط السماء مع المشتري أو شطراً منه، مقبل القمر، متصلاً به، أو منصرفاً عنه ... فهنالك لا يشكو أن الإجابة   1 المصدر نفسه: (ق199/ب) . 2 المصدر نفسه: (ق207/أ) . 3 انظر: "كتاب الأحكام": (ق23/أ، ب) . وذكر مثله أبو معشر في كتاب "مختصر الأسرار": (ق15/ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 حاصلة1. وكذلك من أحكام المستبشعة أنهم جعلوا المشتري دالاًّ على الديانة النصرانية، وكوكب الزهرة دالاًّ على الإسلام2، مع دعواهم أن المشتري يقتضي معرفة الناس، وإصلاح ذات البين، والصداقة بينهم، والتمسك بالدين، والأمر بالمعروف، والزهرة تقتضي البطالة والاستهزاء، والرفض، وحب الخمر والعسل، واللعب بالشطرنج، والنرد، وكراهة الإيمان، والكذب، والفرح والخلاعة3. وهذا ظاهر البطلان، إذ كل عاقل يعلم أن النصارى أعظم الملل جهلاً وضلالاً، وأكثرهم اشتغالاً بالملاهي وتعبداً بها4 وكيف تنطبق هذه الأوصاف عليهم وقد أخبر الله سبحانه عن هؤلاء بقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 5، وقوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى   1 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/142) . 2 انظر: "التفهيم": ص253، و"نثار الأزهار": ص162. 3 "التفهيم": ص251. 4 "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/334) . 5 سورة المائدة، الآيات: 59-63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 1. والفلاسفة متفقون على أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم الشرائع، وأن أمته أكمل الناس عقلاً وديناً وعلماً، حتى فلاسفة اليهود والنصارى لا يرتابون في أن المسلمين أفضل عقلاً وديناً من كل أمه. ومن ذلك يتضح أن المسلمين أولى بالعلم والدين والعقل والعدل والأمر بالمعروف والجد باتفاق كل ذي عقل، والنصارى أبعد الناس عن ذلك2. ومن هذا يتضح أيضاً ما يكنُّهُ هؤلاء تجاه الإسلام وأهله، وأقوالهم المستبشعة كثيرة جداًّ، غير ما ذكرت منها، فضلاً عن بشاعة صناعتهم نفسها، وما ذكرته من أقوالهم كافٍ في بيان حالهم. وهذه الأوجه كلها دالة على أن هذه الصناعة فاسدة لا يوثق بها، بل إنها تعتمد على الظنون الكاذبة بشهادتهم على ذلك، وبشهادة الناس عليهم، وبالأدلة الأخرى الدالة على ذلك.   1 سورة المائدة، الآيتان: 78-79. 2 انظر: "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/334-335) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الفصل الخامس: شبهات المنجمين، والرد عليها الفصل الخامس: شبهات المنجمين، والرد عليها ... الفصل الخامس: شبهات المنجمين، والرد عليها إن المنجمين هو أفراخ الفلاسفة الذين عادوا الرسل، وكذبوا الشرائع، وأعلنوا التمرد والعصيان على الله، ومع ذلك نجد من انتسب للإسلام من هؤلاء المنجمين أرادوا أن يعززوا اعتقادهم في النجوم، ويؤيدوه بما كذبه معلوم ضرورة على الله ورسوله والصحابة رضي الله عنهم أجمعين ... فحملوا الآيات على غير معناها، ولفقوا أقوالاً نسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تارة، وإلى صحابته رضوان الله عليهم تارة أخرى، مقتفين في ذلك أثر أهل الكتاب في الكذب على أنبيائهم، وتحريف كلام الله عن مواضعه، كما أخبر الله سبحانه بقوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} 1. وسأبين –إن شاء الله تعالى- أهم شبهاتهم التي تمسكوا بها وهي ثلاث عشرة شبهة، أذكرها فيما يلي: الشبهة الأولى: استدلالهم بالآيات الدالة على تعظيم هذه الكواكب منها: قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} 2، قالوا: إن أكثر   1 سورة النساء، الآية: 46. 2 سورة التكوير، الآيتان: 15-16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 المفسرين على أن المراد بالخنس والكنس الكواكب التي تسير راجعة تارة، ومستقيمة أخرى1. 2- وقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} 2، قالوا: قد صرح الله تعالى بتعظيم هذا القسم، وذلك يدل على غاية جلالة مواقع النجوم، ونهاية شرفها3. 3- وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ} 4، قالوا: قد قال ابن عباس: الثاقب هو زحل لأنه يثقب بنوره سمك السماوات السبع5، وذكر الرافضة نحو قول ابن عباس عن جعفر الصادق6. قالوا: إن الله تعالى بين إلهيته بكون هذه الكواكب تحت تدبيره وتسخيره فقال:} وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 7.   1 انظر: "فرج المهموم": ص108، وذكر ذلك الفخر الرازي ونقله عنه ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/186) . وقد بحثت عن هذه الاستدلالات فيما اطلعت عليه من كتب الرازي في مظان وجودها من هذه الكتب، وقد وجدت بعضها، ولم أجد الآخر، فما وجدته أثبته في موضعه. 2 سورة الواقعة، الآيتان: 75-76. 3 ذكر ذلك الرازي ونقله عن ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/186) . وذكره أيضاً ابن طاووس في "فرج المهموم": ص108. 4 سورة الطارق، الآيات: 1-3. 5 ذكر ذلك الرازي ونقله عنه ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/186) . 6 انظر: "فرج المهموم": ص93، 108. 7 ذكر ذلك الرازي ونقله عنه ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/186) ، والآية (54) من سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الشبهة الثاني: استدلالهم بالآيات الدالة على أن لها تأثيراً في هذا العالم، كقوله تعالى:} فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} 1، وقوله: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} 2، قالوا: قال بعضهم: المراد هذه الكواكب3. الشبهة الثالثة: استدلالهم بالآيات الدالة على أنه تعالى وضع حركات هذه الأجرام على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم، فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} 4، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} 5. الشبهة الرابعة: استدلالهم بالآيات التالية: 1- قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 6، قالوا: ولا يكون المراد من هذا كبر الجثة، لأن كل أحد يعلم ذلك، فوجب أن يكون المراد كبر القدر والشرف7.   1 سورة النازعات، الآية:5. 2 سورة الذاريات، الآية:4. 3 انظر: "التفسير الكبير": (31/31) ، و"فرج المهموم": ص108، (إلا أن ابن طاووس اقتصر على الاستدلال بالآية الأولى) ، وذكره ابن القيم عن الرازي أيضاً في "مفتاح دار السعادة": (2/186) . 4 سورة يونس، الآية:5. 5 سورة الفرقان، الآية:61. 6 سورة غافر، الآية:57. 7 ذكره الرازي ونقله عنه ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/186) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 2- وقوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 1، قالوا: لم يخلقها الله ليستدل الناس بتركيبها على وجود الصانع، إذ إن هذا القدر حاصل في تركيب البقة والبعوضة، وفي حصول الحياة في بنية الحيوانات على وجود الصانع دلالة أقوى من دلالة تركيب الأجرام الفلكية على وجود الصانع، لأن الحياة لا يقدر عليها أحد إلا الله، أما تركيب الأجسام وتأليفها فقد يقدر على جنسه غير الله، فلما كان هذا النوع من الحكمة حاصلاً في غير الأفلاك، ثم إنه تعالى خصها بهذا التشريف وهو قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} ، علما أن له تعالى في تخليقها أسراراً عالية، وحكماً بالغة، تتقاصر عقول البشر عن إدراكها2. وقالوا: ويقرب من هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 3، ولا يمكن أن يكون المراد أنه تعالى خلقها على وجه يمكن الاستدلال بها على وجود الصانع الحكيم، لأن كونها دالة على الافتقار إلى الصانع أمر ثابت لها لذاتها لأن كل متحيز محدث، وكل محدث فإنه مفتقر إلى الفاعل فثبت أن دلالة المتحيزات على وجود الفاعل أم ثابت لها لذواتها، وأعيانها4، وما كان كذلك لم يكن سبب الفعل والجعل، فلم يكن حمل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا   1 سورة آل عمران، الآية: 191. 2 انظر: "التفسير الكبير": (9/145) ، ونقله عنه الرازي أيضاً ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/186) . 3 سورة ص، الآية: 27. 4 هذا باطل وهو أصل قول المعطلة الذي نفوا به الصفات عن الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} على هذا الوجه، فوجب حمله على الوجه الذي ذكرناه1. الشبهة الخامسة: قالوا: إن الله تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام انه تمسك بعلم النجوم، فقال: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} 2. فلو لم يكن عالماً بالنجوم ما نظر فيها، ولا قال: إني سقيم3. الشبهة السادسة: قالوا: إن إبراهيم عليه السلام لما استدل على إثبات الصانع تعالى بقول: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، قال له النمرود: أتدعي أنه يحيي ويميت بواسطة الطبائع والعناصر، أو لا بواسطة هذه الأشياء، فإن ادعيت الأول فذلك مما لا تجده البتة، لأن كل ما يحدث في هذا العالم فإنما يحدث بواسطة أحوال العناصر الأربعة والحركات الفلكية، وإذا ادعيت الثاني فمثل هذا الإحياء والإماتة حاصل مني، ومن كل أحد، فإن الرجل قد يكون سبباً لحدوث الولد لكن بواسطة تمزيج الطبائع، وتحريك الأجرام الفلكية –إلى أن قال- فثبت أن اعتماد إبراهيم الخليل عليه السلام معرفة ثبوت الصانع على الدلائل الفلكية، وأنه ما نازع الخصم في كون هذه الحوادث السفلية مرتبطة بالحركات الفلكية4.   1 انظر: "التفسير الكبير": (9/145) ، ونقله ابن القيم عن الرازي في "مفتاح دار السعادة": (2/186-187) . 2 سورة الصافات، الآيتان: 88-89. 3 انظر: "التفسير الكبير": (26/147) ، و"فرج المهموم": ص108، ونقله ابن القيم عن الرازي في "مفتاح دار السعادة": (2/186) . 4 انظر: "التفسير الكبير": (7/26) ، ونقله ابن القيم عن الرازي في "مفتاح دار السعادة": (2/187) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الشبهة السابعة: قالوا: إن اله وصف بعض الأيام بالنحوسة، فقال: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} 1، وزعموا أن جعفر الصادق قال: (كان القمر منحوساً بزحل) 2. الشبهة الثامنة: قالوا: إن كثيراً من الناس يظنون أن علم أحكام النجوم هو ادعاء الغيب، وليس الأمر كما ظنوا، لأن علم الغيب هو أن يعلم ما يكون بلا استدلال ولا علل، ولا سبب من الأسباب، وهذا لا يعلمه أحد من الخلق، كذلك لا منجم ولا كاهن، ولا نبي من الأنبياء، ولا ملك من الملائكة ولا يعلمه إلا الله عز وجل، فالمنجم إنما يخبر بما يظهر له من أدلة النجوم3. الشبهة التاسعة: قالوا: لا يكون بعد علم القرآن علم أشرف من علم النجوم، وهو علم الأنبياء والأوصياء، وورثة الأنبياء الذين قال الله تعالى فيهم: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 4، قالوا: ومما يدل على أنه علم الأنبياء ما يلي: 1- ما جاء في الآثار أن أول من أعطي هذا العلم آدم، وذلك أنه عاش حين أدرك من ذريته أربعين ألفاً، وتفرقوا عنه في الأرض، وكان يغتم لخفاء خبرهم عليه، فأكرمه الله تعالى بهذا العلم، وكان إذا أراد أن يعرف حال أحدهم حسب له بهذا الحساب فيقف على حالته5.   1 سورة القمر، الآية:19. 2 انظر: "فرج المهموم": ص100-101. 3 انظر: "رسائل إخوان الصفا": (1/153) ، ونقله الإمام الباجي عن المنجمين في "المنتقى": (1/334) . 4 سورة النحل، الآية: 16. 5 نقله ابن القيم عن الرازي في "مفتاح دار السعادة": (2/188) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وذكر ابن طاووس: أن الله تبارك وتعالى أهبط آدم من الجنة، وعرفه علم كل شيء، فكان مما عرفه النجوم والطب1. 2- ما ورد عن إدريس أنه أول من حسب حساب النجوم2. 3- أن الروايات الواردة في صفات النبي صلى الله عليه وسلم يفيد كثير منها أنه لم يكن كاهناً ولا ساحراً، وما وجدنا إلى الآن فيها وما كان عالماً بالنجوم، فلو كان المنجم كالكاهن والساحر ما كان يبعد أن تتضمنه بعض الروايات في ذلك الصفات3. 4- الآثار التي تفيد أن علم النجوم من علوم النبوة منها: ما ورد عن ميمون بن مهران أنه قال: (إياكم والتكذيب بالنجوم فإنه علم من علوم النبوة) 4، وما ورد عنه أيضاً أنه قال: (ثلاث ارفضوهن: لا تنازعوا أهل القدر، ولا تذكروا أصحاب نبيكم إلا بخير، وإياكم والتكذيب بالنجوم فإنه من علم النبوة) 5. الشبهة العاشرة: قالوا: إن الأحاديث الواردة في تعظيم الكواكب، والتشاؤم من بعضها فيها دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مؤيداً لعلم أحكام النجوم منها:   1 "فرج المهموم": ص22. 2 "رسائل إخوان الصفا": (1/138) ، و"فرج المهموم": ص22. 3 "فرج المهموم": ص59. 4 "ربيع الأبرار": (1/117) ، ونقله ابن القيم عن الرازي في "مفتاح دار السعادة": (2/188) . 5 نقله ابن القيم عن الرازي في "مفتاح دار السعادة": (2/188) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 1- ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عند قضاء الحاجة عن استقبال الشمس والقمر واستدبارها1. 2- أنه لما مات ولده إبراهيم انكسفت الشمس، ثم إن الناس قالوا: إنما انكسفت لموت إبراهيم، فقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة" 2. 3- ما روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا"3. 4- من الناس من يروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافروا والقمر في العقرب) 4، وإن كان المحدثون لا يقبلونه5. الشبهة الحادية عشرة: قالوا: إن بعض الآثار تدل على إثبات هذا العلم وهي كثيرة منها: 1- قول عمر للعباس وهو يستقي: (يا عم رسول الله كم بقي من نوء الثريا؟) قال العباس: فإن العلماء بها يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعاً6. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (ومن اقتبس علماً من   1 لا أصل له، سبق الكلام عليه: ص102. 2 أخرجه الشيخان، سبق تخريجه: ص102. 3 حسن لغيره، سبق تخريجه: ص101. 4 موضوع. سبق تخريجه: ص99. 5 ذكره الرازي ونقله عنه ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/188) . 6 سبق تخريجه: ص153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 علم النجوم من حملة القرآن ازداد به إيماناً ويقيناً، ثم تلا: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ... } ) 1. 3- ما تضمنته خطبة الأشباح من تصديق دلالة النجوم في النحوس والسعود، وذلك فيما روي عن علي رضي الله عنه في كتاب نهج البلاغة أنه قال في صفة السماء: (ورمي مسترق السمع بثواقب شهبها، وأجراها على أذلال2 تسخيرها من إثبات ثابتها، ومسير سائرها، وهبوطها وصعودها، ونحوسها وسعودها) 3. 4- مل يروى أن عليًّا رضي الله عنه كان يكره أن يسافر الرجل أو يتزوج في محاق الشهر، وإذا كان القمر في العقرب، وإن كان المحدثون لا يقبلونه4. 5- ما رواه ابن طاووس بسنده، عن قيس بن سعد5 رضي الله عنه أنه قال: كنت أسائر أمير المؤمنين كثيراً إذا سار إلى وجه من الوجوه، فلما قصد أهل النهروان وصرنا بالمدائن، وكنت يومئذ مسايراً له،   1 "ربيع الأبرار": (1/117) . 2 الأذلال: المجاري والطرق. انظر: "الصحاح": (4/1702) . 3 "نهج البلاغة": ص128. 4 انظر: "بيع الأبرار": (1/118) ،وما نقله ابن القيم عن الرازي في "مفتاح دار السعادة": (2/188) . 5 هو قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي، الساعادي، أبو عبد الله، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن صاحبه، توفي في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: "سير أعلام النبلاء": (3/102) ، و"تهذيب التهذيب": (8/395) ، و"الإصابة": (3/249) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 إذا خرج إلينا قوم من أهل المدائن من دهاقينهم1 معهم براذين2 قد جاءوا بها هدية إليه فقبلها، ومان فيمن تلقاه دهقان منهم كانت الفرس تحكم برأيه –فيما يعني- وترجع إلى قواه- إلى أن قال- فتبسم أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ثم قال: أيها الدهقان المنبئ بالأخبار، والمحذر من الأقدار، أتدري ما نزل البارحة في آخر الميزان؟ وأي نجم حل السرطان؟ قال: سأنظر ذلك، وأخرج من كمه اسطرلاباً وتقويماً، فقال: لا، قال: أفتقضي على الثابتات؟ قال: لا، قال: فأخبرني عن طول الأسد، وتباعده عن المطالع والمراجع؟ وما الزهرة من التوابع والجوامع؟ قال: لا علم لي بذلك، -إلى أن قال- قال: (يقصد عليًّا رضي الله عنه) : هل علمت يا دهقان أن الملك اليوم انتقل من بيت إلى بيت في الصين، وتغلب برج ماجين، واحترقت دور بالزنج.. وهاج نمل السيح.. وعمي راهب عمورية، وسقطت شرفات القسطنطينية، أفعالم أنت بهذه الحوادث؟ وما الذي أحدثها شرقها أو غربها من الفلك؟ قال: لا علم لي بذلك. قال: فبأي الكواكب تقضي في أعلى القطب؟ وبأيها ينحس من تنحس؟ قال: لا علم لي بذلك ... 3.   1 الدّهقان: بكسر الدال وضمها، كلمة فارسية معربة، يقصد بها التاجر. انظر: "لسان العرب": (13/163) . 2 البراذين: الخيل. انظر: "لسان العرب": (13/51) . 3 انظر: "فرج المهموم": ص102-104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 6- ما روي عن الوليد بن جميع1، قال: رأيت عكرمة2 يسأل رجلاً عن حساب النجوم، والرجل يتحرج أن يخبره، فقال عكرمة: سمعت ابن عباس يقول: هو علم عجز الناس عنه، ولوددت أني علمته3. 7- قال ابن عباس لعكرمة مولاه: اخرج فانظر كم بقي من الليل؟ فقال: إني لا أبصر النجوم، فقال ابن عباس: نحن نتحدى بك فتيان العرب وأنت لا تبصر النجوم، وقال: وددت أن أعرف (الهفت دوازده) ، يريد النجوم السبعة –السيارة، والبروج الاثنى عشر4. عن عكرمة قال: قيل لابن عباس: إن هاهنا رجلاً يهودياً يتكهن ويخبر، فبعث عبد الله بن عباس إليه فجاءه فقال: يا يهودي، بلغني   1 هو الوليد بن عبد الله بن جميع، الزهري، الكوفي، وثقه ابن معين والعجلي، وقال أحمد، وأبو زرعة: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال ابن حبان: فحش تفرده، فبطل الاحتجاج به، وقال الحاكم: لو لم يذكره مسلم لكان أولى. قال ابن حجر في "التقريب": صدوق يهم، ورمي بالتشيع. انظر: "الجرح والتعديل": (9/8) ، و"ميزان الاعتدال": (4/337-338) ، و"تهذيب التهذيب": (11/138-139) ، و"التقريب": (7432) . 2 هو عكرمة البربري مولى ابن عباس، تابعي، وثقه جماعة، واعتمده البخاري، أما مسلم فتجنبه وروى له قليلاً مقروناً بغيره، وتكلم فيه لرأيه لا لحفظه، فاتهم برأي الخوارج، قال ابن حجر في "التقريب": ثقة، ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا تثبت عنه بدعة. انظر: "الجرح والتعديل": (7/7) ، و"ميزان الاعتدال": (3/93-97) ، و"تهذيب التهذيب": (7/263-273) ، و"التقريب": (4673) . 3 أخرجه الخطيب في "حكم علم النجوم": (ق10/ب) ، وأورده الزمخشري في "ربيع الأبرار": (1/117) . واستدل به ابن طاووس في "فرج المهموم": ص110. 4 "ربيع الأبرار": (1/118) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 أنك تخبر بالغيب. قال: أما الغيب فلا يعلم إلا الله، ولكن إن شئت أخبرتك، قال: هات، قال: لك ولد له عشر سنين يختلف إلى الكتاب؟ قال: نعم، قال: فإنه يأتي محموماً من الكتاب، ويموت يوم العاشر، وأما أنت فلا تخرج من الدنيا حتى يذهب بصرك، فقال: هذا ما أخبرتني به عن ابني ونفسي، فأخبرني عن نفسك؟ قال: أموت رأس السنة، قال عكرمة: فجاء ابن عباس محموماً من الكتاب، ومات في اليوم العاشر، فلما كان رأس السنة، قال ابن عباس: يا عكرمة انظر ما فعل اليهودي. فأتيت أهله، فقالوا: مات أمس، ثم ما خرج ابن عباس من الدنيا حتى ذهب بصره1. 9- روي أن الشافعي كان عالماً بالنجوم، وجاء لبعض جيرانه ولد، فحكم له الشافعي أن هذا الولد ينبغي أن يكون على العضو الفلاني منه خال صفته كذا وكذا، فوجد الأمر كما قال2. 10- ما روي عن أئمة الشيعة –المزعومين- من تأييدهم لهذا العلم، ومن ذلك: (إن رجلاً سأل أبا جعفر الصادق، فقال: جعلت لك الفداء، إن الناس يقولن: إن النجوم لا يحل النظر فيها وهي تعجبني، فإن كانت تضر بديني فلا حاجة لي بشيء يضر بديني، وإن كانت لا تضر بديني فو الله إني لأشتهيها، وأشتهي النظر فيها، فقال عليه السلام: ليس   1 "فرج المهموم": ص110-111، وأورده القرطبي في "تفسيره": (14/82) . واستدل به الرازي كما ذكر ذلك ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/188) . 2 انظر: "مناقب الشافعي" للرازي: ص328. وذكره الرازي فيما نقله ابن القيم عنه في "مفتاح دار السعادة": (2/188) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 كما يقولون لا تضر بدينك، ثم قال: إنكم تنظرون في شيء منها كثيره لا يدرك وقليله لا ينتفع به) 1. ومن ذلك أيضاً ما روي عنه أنه سئل عن علم النجوم، فقال: (ما يعلمها إلا أهل بيت من العرب وأهل بيت من الهند) 2، وما روي عنه أيضاً أنه قال: (إن الله تعالى خلق زحل في الفلك السابع من ماء بارد، وخلق سائر النجوم الستة الجاريات من ماء حار، وهو نجم الأنبياء والأوصياء، وهو نجم أمير المؤمنين عليه السلام يأمر بالخروج من الدنيا والزهد فيها، ويأمر بافتراش التراب، وتوسد اللبن، وأكل الجشب3، وما خلق الله نجماً أقرب إليه منه سبحانه) 4، وغيرها من الروايات كثير، وقد أطال ابن طاووس في ذكر مثل هذه الأقوال، وكلها تهدف إلى إلصاق التنجيم بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. الشبهة الثانية عشرة: زعمهم اعتراف الناس قديماً وحديثاً بعلم أحكام النجوم، ومن ذلك:   1- إخبار آزر منجم النمرود عن ظهور مولود يكون هلاك النمرود على يده5. أن الله تعالى حكى عن فرعون أنه كان يذبح أبناء بني إسرائيل، ويستحيي نساءهم والمفسرون قالوا: إن ذلك إنما كان لأن المنجمين 1 "فرج المهموم": ص86. 2 المصدر السابق نفسه: ص87. 3 أي: الغيط الخشن. انظر: "الصحاح": (1/99) . 4 "فرج المهموم": ص91. 5 "فرج المهموم": ص24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 أخبروه بأنه سيجيء ولد من بني إسرائيل، ويكون هلاكه على يده1. 3- إخبار منجمي اليهود، ومنجمي الروم، ومنجمي الفرس، بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم2. 4- أن هذا العلم ما خلت عنه ملة من الملل، ولا أمة من الأمم، ولا يعرف تاريخ من التواريخ القديمة والحديثة إلا وكان أهل ذلك الزمان مشتغلين بهذا العلم ومعولين عليه في معرفة المصالح، ولو كان هذا العلم فاسداً بالكلية لاستحال إطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه3. الشبهة الثالثة عشرة: أن المنجمين اختبروا عدة طوالع، فكان الحكم كما ذكروا، ومن ذلك: ما روي في عهد أردشير بن باك أنه قال في العهد الذي كتبه لولده: لولا اليقين بالبوار الذي على رأس ألف سنة لكنت أكتب لكم كتاباً إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً، وعني بالبوار ما أخبره المنجمون من أنه يزول ملكهم عند رأس ألف سنة من ملك آخر ملوك الفرس قبل ملوك الطوائف. والمراد منه زوال دولتهم وظهور دولة الإسلام.   1 "فرج المهموم": ص27، وذكره الرازي فيما نقله ابن القيم عنه في "مفتاح دار السعادة": (2/188) . 2 "فرج المهموم": ص29-32. 3 انظر: "كتاب النبوات" للرازي: ص216. ونقله ابن القيم عن الرازي في "مفتاح دار السعادة": (2/188-189) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وروي أنه دخل الفضل بن سهل على المأمون في اليوم الذي قتل فيه، وأخبره أنه يقتل في هذا اليوم بين الماء والنار، وأنكر المأمون ذلك عليه، وقوي قلبه، ثم ما اتفق أنه دخل الحكام فقتل في الحمام، وكان الأمر كما أخبر ثم قال الرازي: واعلم أن التجارب في هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية1. وأطال ابن طاووس في ذكر مثل هذه الحوادث، وجاء بقرني حمار2 لتدعيم مذهبه به. وهذه غاية أدلتهم، وقد نفضوا ما في جعبتهم، ورموا الكلام على عواهنه3. وسأبين إن شاء الله تعالى سقوط استدلالاتهم هذه، وكشف أباطيلهم وتمويهاتهم، والله المستعان على ذلك، والرد عليهم بما يأتي: الرد على الشبهة الأولى: وهي أن إقسام الله بالكواكب ومواقعها دال على أن لها تأثيراً في هذا العالم واستدلوا بالآيات الثلاث الآنفة الذكر. والرد عليهم أن هذه الآيات قد اختلف المفسرون في تفسيرها4، وعلى القول بأن المراد من تفسير هذه الآيات هي الكواكب لا حجة لهم فيها، وذلك لما يأتي:   1 انظر ما ذكره ابن القيم عن الرازي في "مفتاح دار السعادة": (2/189) . 2 يطلق هذا المثمل على الرجل إذا جاء بالكذب والباطل. انظر: "مجمع الأمثال" للميداني: (1/166) . 3 هذا المثل يطلق على الرجل إذا قال الكلام ولم يبال أصاب أم أخطأ. انظر: "مجمع الأمثال" للميداني: (1/308) . 4 اختلف العلماء في تفسير قوله تعالى:} فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ {، هل المراد بالكواكب أم غيرها، وفي وقوله:} فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ {، هل المراد نجوم القرآن أو الكواكب؟ انظر على الترتيب: "تفسير القرطبي": (19/236) ، (17/223) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 1- إن هذه الآيات دالة على أن الله أقسم بهذه الكواكب كما أقسم بغيرها من المخلوقات، وإن كان في إقسامه بالكواكب دلالة على أن لها تأثيراً في هذا العالم بالسعود والنحوس، أو أنها علامات على ذلك، وجب أن يكون لليل والنهار، والسماء والأرض، والنفس، والضحى، والتين، والزيتون، والفجر ... تأثير في هذا العالم، أو أنها دلالات على السعود والنحوس، فإذا بطل هذا بطل استدلالهم1. 2- إن هذا القسم وأمثاله ليس فيه تعظيم هذه المخلوقات، وإنما فيه تعظيم خالقها تبارك وتعالى، وتنزيه له عما نسبه إليه المعطلون لربوبيته، وإلهيته، فهذا القسم لا يقرر علم أحكام النجوم كما يزعم المفترون، بل يقرر ربوبية خالق هذه النجوم، ووحدانيته، وتفرده بالخلق، والإبداع2. أما استدلالهم بالآية الرابعة من الشبهة الأولى وهو أن الله بين إلهيته يكون هذه الكواكب تحت تدبيره وتسخيره بقوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 3. ويرد عليهم بما يأتي: 1- إن هذا دليل عليهم لا لهم، إذ إن هذه الآية متضمنة لانفراد الله بالخلق والأمر، فكيف يكون لهذه الكواكب أمر أو تصرف، وقد انفرد الله بذلك؟   1 انظر: "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/229-230) ، و"مفتاح دار السعادة": (2/192) . 2 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/190-191) . 3 سورة الأعراف، الآية: 54. ?? الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 قال الطبري رحمه الله: (وخلق الشمس والقمر، والنجوم، كل ذلك بأمره، أمرهن الله فأطعن أمره، ألا لله الخلق كله، والأمر الذي لا يخالف ولا يرد أمره دون ما سواه من الأشياء التي لا تضر ولا تنفع ولا تأمر، تبارك الله معبودنا الذي له عبادة كل شيء رب العالمين) 1. 2- إن كون هذه الكواكب مسخرة مدبرة مقهورة لا يدل على أن لها تأثيراً في هذا العالم بالسعود والنحوس، ونحو ذلك أو أنها دلالات على ذلك، ولو دل على هذا لدل قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2 على أن للطير تأثيراً في هذا العالم أو أنه دلالة على السعود والنحوس والموت والحياة ونحو ذلك. وكذلك الفلك والأنهار، بل كل ما في السموات والأرض لقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 3، فإن كان هذا مردوداً فقولهم من باب أولى4. أما الشبهة الثانية: وهي أن الله أخبر أن لهذه الكواكب تأثيراً في العالم بقوله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} 5، وقوله: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} 6، فالرد عليها:   1 "تفسير الطبري": (8/205-206) . 2 سورة النحل، الآية:79. 3 سورة الجاثية، الآية: 13. 4 مستفاد من "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/229) . 5 سورة النازعات، الآية: 5. 6 سورة الذاريات، الآية4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 أن جمهور المفسرين ذهبوا إلى أن المقصود بالمدبرات في الآية الأولى الملائكة، وهذا ما تشهد له النصوص الأخرى، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} 1، وقوله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 2، وأما على القول بأنها الكواكب فلا دليل عليه، سوى أنه قول قيل، وإذا حملت الآية على أن المقصود الكواكب يكون المعنى مدبرة لنفسها بالطلوع والأفول على وفق ما أمرها الله3، أما قوله: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} ، فلم أجد من خالف في أنها الملائكة وفي ذلك قال ابن القيم: لم يقل أحد من أهل التفسير أنها النجوم، بل قالوا: هي الملائكة، فتفسير الآية بأنها النجوم كذل على الله، وعلى المفسرين4. أما شبهتهم الثالثة: وهي أن الله جعل حركات هذه الأجرام على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} 5، فليس فيها دلالة على ما يزعمونه من أحكام النجوم، بل ذكر الله وجه الانتفاع من هذه الأجرام وهو الضياء والنور، ومعرفة حساب الأيام والشهور والأعوام6. ولو كان لها   1 سورة القدر، الآية:4. 2 انظر: "تفسير القرطبي": (19/194) ، و"أضواء البيان": (9/24) ، والآية (6) من سورة التحريم. 3 انظر: "تفسير القرطبي": (19/194) . 4 "مفتاح دار السعادة": (2/193-194) . 5 سورة يونس، الآية:5. 6 انظر: "تفسير ابن كثير": (2/407) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أثر في هذا العالم كما يدعيه هؤلاء لكان الأليق ذكر ما تقتضيه هذه الكواكب من السعد والنحس، والخير والشر في هذا العالم، إذ إن هذا أعظم في العبرة من مجرد الضياء1. واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} 2، وكذلك هذه الآية ليس لهم دلالة فيها، إذ إنها تتضمن ثناء الله وتمجيده وتعظيمه لنفسه على ما خلق في السماء من الكواكب العظام أو القصور أو النجوم3 على اختلاف المفسرين في ذلك، وخلق فيها الشمس سراجاً والقمر نوراً. فأي دلالة في ذكر هذه المخلوقات على أحكام النجوم؟ ولو كان لهذه المخلوقات دلالات وآثار في العالم لكان ذكرها أليق في هذا المقام4. أما الشبهة الرابعة: فالرد عيها من شقين: الشق الأول: إن استدلالهم بقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 5. وقولهم: (ليس المراد هو كبر الجثة لأن هذا أمر معروف، فوجب أن يكون المراد كبر القدر والشرف) . استدلال في غاية الفساد، لأن المراد من الخلق هنا الفعل لا المفعول، وهذا من أبلغ الأدلة على إعادة الخلق يوم القيامة، أي أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وخلقهما أكبر   1 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/194-195) . 2 سورة الفرقان، الآية:61. 3 انظر: "تفسير الطبري"، (19/29) . 4 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/195-196) . 5 سورة غافر، الآية: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 من خلقكم، فكيف يعجزه خلقكم بعد ما تموتون، ونظير هذا قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ 1} ، فهذا استدلال بشمول القدرة للنوعين، وأنها صالحة لهما، فلا يجوز أن تثبت تعلقهما بأحد المقدورين دون الآخر. فهذا هو المقصود من الآية، ولم يتعرض فيها لأحكام النجوم بوجه قط، ولا لتأثير الكواكب، ولا لتعظيمها2. الشق الثاني: ويشتمل على أمرين: الأمر الأول: استدلالهم بقوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 3، وقولهم: إن الله لم يخلق السماوات والأرض ليستدل بهما على وجود الصانع، لأن هذا القدر موجود في تركيب البقة والبعوضة، بل وجود الحياة في الحيوانات أبلغ في الدلالة على الصانع، لأن الحياة لا يقدر على إيجادها أحد إلا الله، فدل ذلك على أن في خلقها أسراراً عالية، وحكماً بالغة، لذلك خصها الله بالتشريف بقوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} . والرد عليهم من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: لا ريب أن خلق السموات والأرض من أعظم الأدلة على وجود فاطرهما وكمال قدرته وعلمه وحكمته، وانفراده بالربوبية والوحدانية، ومن سوى بين ذلك وبين البقة والبعوضة، وجعل العبرة   1 سورة يس، الآية: 81. 2 انظر: "تفسير الطبري": (24/77) ، و"مفتاح دار السعادة": (2/198) ، و"تفسير ابن كثير": (4/85) . 3 سورة آل عمران، الآية: 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 والدلالة والعلم بوجوب الرب الخالق منهما سواء، فقد كابر وخالف ما هو معلوم من الشرع والعقل، فقد قال الله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. وأين الدلالة في خلق العالم العلوي والسفلي إلى خلق البقة والبعوضة؟ فكيف يسمح لعاقل عقله أن يسوي بينهما، ويجعل الدلالة من هذا كالدلالة من الآخر؟ 2. الوجه الثاني: أن الله سبحانه إنما يذكر للدلالة عليه أظهر المخلوقات للحس والعقل، وأبينها دلالة، وأعجبها صنعة، كالسماء والأرض والشمس والقمر، والجبال، والإبل ونحو ذلك، ولا يدعو عباده إلى التفكر في القمل والبراغيث والبعوضة ونحوها، وإنما يذكر من ذلك في سياق ضرب الأمثال مبالغة في الاحتقار والضعف كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} 3، وما في معناها من الآيات. الوجه الثالث: أو قوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} لا يختص بالسماوات والأرض، بمعنى أن الله لا يخلق شيئاً باطلاً، سواء أكان هذا الخلق هو السماوات والأرض أو غيره، وذلك لدلالة قوله: {سُبْحَانَكَ} وهي بمعنى تنزيه الله أن يخلق شيئاً باطلاً4. فعلم من ذلك أن التشريف الذي ادعاه الرازي لا يختص بالسماوات والأرض، بل هو في جميع المخلوقات، فإن كان هذا التشريف دالاً على   1 سورة غافر، الآية:57. 2 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/198-199) . 3 انظر: المصدر نفسه: (2/199) ، والآية (26) من سورة البقرة. 4 انظر: "تفسير ابن كثير": (1/439) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أسرار عالية، وحكم بليغة لزمه إجراء ذلك على جميع ما في الكون، وإن انتفى ذلك انتفى استدلالهم. أما الأمر الثاني: وهو استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} 1، وقولهم: لا يمكن أن يكون الله تعالى خلقها للاستدلال بها على الصانع لأن افتقارها إلى الصانع أمر ظاهر، وما كان كذلك لم يكن سبب الفعل والجعل، لذلك لا يمكن حمل الآية على ذلك، فوجب حملها على دلالتها على الأسرار الجليلة والحكم البليغة، والجواب عليه من وجهين: الوجه الأول: أن هذه الآية من أقوى الأدلة وأبينها على بطلان قول المنجمين والدهرية الذين يسندون جميع ما في العالم من الخير والشر إلى النجوم وحركاتها واتصالاتها، وأن ادعاءهم أن لهذه الكواكب تصرفاً في هذا الكون، أو أنها مشاركة لله في علم الغيب، وإحالة حوادث العالم على حركات الكواكب وادعاء أن هذا العالم خلق عبثاً، وترك سدى، وخلي هملاً هو الباطل الذي نفاه الله عن نفسه في هذه الآية، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} 2. الوجه الثاني: أنه قوله لا يمكن أن يقال: المراد أنه خلقها على وجه يمكن الاستدلال بها على الصانع الحكيم ... إلى آخر قوله مبني على أصل فاسد يكرره الرازي في كتبه وهو أن الذوات ليست بمجعولة للدلالة   1 سورة ص، الآية:27. 2 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/200-201) ، والآيتان (115-116) من سورة المؤمنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 على الصانع بفعل الفاعل، وهذا مما أنكره أهل العلم والإيمان، وقالوا: إن كونها ذواتاً، وأن وجودها وأوصافها، وكل ما ينسب إليها هو بفعل الفاعل، وبجعل الجاعل، فهو الذي جعل الذوات والصفات، وثبوت دلالتها لذاتها لا تنفي أن تكون بجعل الجاعل، فإنه لما جعلها على هذه الصفة مستلزمة لدلالتها عليه، كانت دلالتها عليه بجعله1. وبهذا يتبين بطلان استدلاله هذا. أما الرد على الشبهة الخامسة والسادسة فقد تقدم في مبحث (لم يكن خليل الرحمن منجماً) ، ما يغني عن إعادته. أما الشبهة السابعة: وهي أن الله وصف بعض الأيام بالنحوسة بقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} 2، وقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} 3، فالرد عليها من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن الأيام التي أوقع الله سبحانه فيها العقوبة بأعدائه، وأعداء رسله كانت أياماً نحسات عليهم، لأن النحس أصابهم فيها، وأن كانت أيام خير لأوليائه المؤمنين، فهي نحس على المكذبين سعد للمؤمنين، وهذا كيوم القيامة فإنه عسير على الكافرين، يوم نحس عليهم، يسير على المؤمنين يوم سعد لهم، فسعود الأيام ونحوستها، إنما هو بحسب الأعمال، وموافقتها لمرضاة الله عز وجل، ونحوس الأعمال ومخالفتها لما جاءت به الرسل، لأن الأيام منحوسة في ذاتها4.   1 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/202) . 2 سورة القمر، الآية:19. 3 سورة فصلت، الآية:16. 4 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/194) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 الوجه الثاني: أن اليوم الواحد يكون سعداً لطائفة، ونحساً لطائفة، كما كان يوم بدر يوم سعد للمؤمنين ويوم نحس على الكافرين، فما للكواكب والطالع والقرانات وهذا السعد والنحس؟ ولو كان المؤثر في النحس هو الكواكب والطالع لكان نحساً على العالم كله، فأما أن يؤثر الكوكب بالنحس على طائفة وبالسعد على أخرى، فهذا محال1. الوجه الثالث: أن {مُسْتَمِرٌّ} صفة للنحس لا لليوم، أي لا يقلع عنهم كما تقلع مصائب الدنيا عن أهلها، بل هذا النحس دائم على هؤلاء المكذبين للرسل2. وأما ما روي عن جعفر الصادق في ذلك فهو كذب عليه –كما سيأتي بيانه في الرد على الشبهة الحادية عشرة إن شاء الله. أما الشبهة الثامنة: وهي أن علم أحكام النجوم ليست ادعاء لعلم الغيب، لأن علم الغيب هو أن يعلم ما يكون بلا استدلال ولا علل، ولا سبب من الأسباب، وهذا لا يعلمه إلا الله، وعلم أحكام النجوم ليس من جنس هذا، فالرد عليها من وجهين هما: الوجه الأول: أن هذا قول من لا يعلم معنى الغيب، لأن الغيب هو كل ما غاب عنك3، والأشياء التي يخبر بها المنجم مما غاب عنه. الوجه الثاني: لو كان الأمر كما ذهب إليه هذا القائل لما تصور أن   1 انظر: المصدر السابق نفسه. 2 انظر: المصدر نفسه. 3 انظر: "الصحاح": (1/196) ، و"تفسير الطبري": (1/102) ، و"تفسير القرطبي": (1/163) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 يكون غيب ينفرد الباري بعلمه، لأن على قولهم الفاسد ما من شيء كان ويكون إلا والنجوم تدل عليه1. أما الشبهة التاسعة والعاشرة: فالرد عليها قد تقدم في فصل (تنزيه الأنبياء أن يكونوا منجمين) ما يغني عن إعادته. أما الشبهة الحادية عشرة: وهي الآثار التي تدل على صحة هذا العلم فالرد على مسلكين: مسلك إجمالي، ومسلك تفصيلي: -المسلك الإجمالي: ويرد عليه فيه من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن أكثر هذه الآثار مكذوبة على من نسبت إليه، وما صح منها حرفها هؤلاء عن معانيها الصحيحة، وصرفوها إلى معان توافق أهواءهم في تأييد مذهبهم. الوجه الثاني: أن الأدلة صريحة في عدم جواز هذا العلم كما سأبينها إن شاء الله في فصل حكم التنجيم، والأدلة على فساد صناعتهم واضحة في فساد هذا العلم كما بسطتها في فصل الأدلة على فساد صناعتهم وأنها ظنون كاذبة، وهذه الأدلة كافية في بيان فساد أي شبهة يتمسك بها هؤلاء. الوجه الثالث: أن هذه الآثار حتى وإن صحت ليس لهم حجة فيها، إذ إن الحجة في كتاب الله تعالى وفي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، وما خالف شيئاً من ذلك ضرب به عرض الحائط.   1 "المنتقى" للباجي: (1/334) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 -المسلك التفصيلي: وسوف أستعرض فيه شبهاتهم بالتفصيل، وأورد عليها إن شاء الله فاستدلالهم بالأثر الأول وهو سؤال عمر للعباس وهو يستسقي كم بقي من نوء الثريا؟ لا دلالة لهم فيه على صحة أحكام النجوم، ولا على جوازه إذ المقصود من كلام عمر رضي الله عنه كم بقي من وقت نوء الثريا؟ ليعرف الناس أن الله قدر الأمطار في أوقات معينة فيما جربوا، كما علموا أنه قدر الحر والبرد بما جربوا في أوقات1. وأوقات الأمطار، وأوقات الحر والبرد، يمكن أن تدل التجربة عليها لأن هذه الأوقات متكررة في كل عام، أما ما يدعونه من دلالتها على السعود والنحوس فلا يمكن معرفتها إن سلمنا جدلاً بوجودها، فكيف وهي غير موجودة أصلاً؟ أما استدلالهم بالأثر الثاني وهو ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (من أتقتبس علماً من النجوم من حملة القرآن ازداد به إيماناً ويقيناً، ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ... } ) 2. فمقصود علي رضي الله عنه –إن صح عنه- علم التسيير، لا علم أحكام النجوم، بدليل قراءته لهذه الآية الكريمة. قال ابن كثير في معنى الآية: (وقوله: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا، وإذا ذهب هذا جاء هذا، وقوله: {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي الآيات الدالة على   1 انظر: "الأم": (1/223) . 2 سورة يونس، الآية:6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 عظمته) 1، ومن هذا تبين أن هذه الآية بم تتعرض لأحكام النجوم بوجه، بل دلت على علم التسيير. أما استدلالهم بالأمر الثالث، وهو ما ورد في كتاب نهج البلاغة أن علياًّ رضي الله عنه مثبتاً لنحوس الكواكب وسعودها لهذه النجوم فيرد عليه من وجهين: الوجه الأول: أين إسناد هذا النقل، بحيث ينقله ثقة عن ثقة، متصلاً إليه؟ وهذا لم يوجد في هذه الرواية قط، وإنما وجد مثل هذا في كتاب نهج البلاغة وأمثاله، وأهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على عليّ رضي الله عنه، ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب مقدم، ولا لها إسناد معروف، فهذا الذي نقلها من أين نقلها؟ ونحن في هذا المقام ليس من الضروري علينا أن نبين أن هذا كذب، بل تكفينا المطالبة بصحة النقل، فإن اله لم يوجب على الخلق أن يصدقوا بما لم يقم دليل على صدقه، بل هذا ممتنع بالاتفاق2. الوجه الثاني: أن هذا الكلام مما يعلم قطعاً كذب نسبته إلى عليّ رضي الله عنه، إذ كيف يثبت ذلك، وقد علم من حاله النكير على المنجمين، ومن اعتقد اعتقادهم؟ كما ورد في قصته مع المنجم الذي لقيه عندما أراد الخروج لقتال الخوارج، وقد خالف قول المنجم، بل وخطب الناس محذراً من أمثال هؤلاء3.   1 "تفسير ابن كثير": (2/407) . 2 انظر: "منهاج السنة": (7/86-87) . 3 انظر: "تاريخ الطبري": (6/47) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 مما يدل دلالة قاطعة على كذب أية رواية تنسب إلى عليّ رضي الله عنه في تأييد التنجيم. أما الأمر الرابع، وهو ما يروي عن عليّ أنه كان يكره السفر والزواج في المحاق، وإذا نزل القمر في العقرب، فالرد عليه من وجهين: الوجه الأول: أن هذا الأثر لا يثبت عن عليّ رضي الله عنه1. الوجه الثاني: على فرض صحة هذا الأثر عن عليّ رضي الله عنه ليس فيه تعرض لإثبات أحكام النجوم، بل يحمل ما روي عن عليّ في ذلك على محبته ابتداء الأعمال والأسفار في أول النهار، وأول الشهر، وأول العام، تطبيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لأمتي في بكورها" 2، لذا كره رضي الله عنه أن يبتدأ بالأسفار والأعمال في نهاية الشهر، وأين هذا من علم أحكام النجوم3؟   1 حكم عليه تبن القيم والصاغاني بالوضع، وصححه السيوطي، وقال السخاوي والعجلوني (يشهد له ما في سؤلات ابن الجنيد لابن معين) لأن ابن الجنيد ذكره ليحيى بن معين، فلم ينكره، قال ابن حجر في ذلك: (أراد ابن الجنيد تضعيف عمر "بن المجاشع" برواية هذا المنكر، فإن المعروف عن عليّ الإنكار على من يعتقد ذلك.. والآفة في هذا الخبر من إبراهيم بن ناصح) ، انظر: "موضوعات الصاغاني": ص53، و"مفتاح دار السعادة": (2/214) ، و"التذكرة في الأحاديث المشتهرة": ص57) ، و"لسان الميزان": (4/324) ، و"المقاصد الحسنة": (ص717) ، و"الدرر المنتشرة": (رقم الحديث 467) ، و"كشف الخفا": (2/472) . 2 أخرجه الترمذي، وأحمد في "مسنده": (1/154) . حسنه الترمذي والنووي، وصححه الألباني، وعبد العزيز رباح، وأحمد الدقاق، ووافقهما شعيب الأرنؤوط. انظر: "رياض الصالحين": (رقم الحديث 955) ، و"صحيح الجامع": (رقم 1311) ، و"مشكاة المصابيح": (رقم 3908) . 3 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/216) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 أما الأثر الخامس، وهو ما أورده ابن طاووس من حكاية الدهقان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلا يثبت عن عليّ، بل هو موضوع، وحاشا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعي مثل ذلك، ومدار هذا الخبر على أبي محمد هارون بن موسى بن أحمد التلعكبري وهو رافضي راوية المناكير1، حتى متن الرواية يفوح من الكذب بصورة لا تجعل لقارئه أدنى شك في الحكم بوضعه. أما الأثر السادس والسابع، وهما ما ورد عن ابن عباس أنه قال: "علم عجز الناس عنه، ولوددت أني علمته"، وقال أيضاً: "وددت أني أعرف النجوم السبعة السيارة، والبروج الاثني عشر". فليس فيهما دلالة على ما يزعمون، إذ إن هذه الآثار ليس فيها ذكر أحكام النجوم، بل هي محمولة على علم التسيير، ويتضح ذلك من أربعة أوجه: الوجه الأول: أن عكرمة سأل الرجل عن حساب النجوم، وحساب النجوم هو علم التسيير، إلا أن الرجل ظن أنه محظور لما سمع التغليظ الوارد في علم النجوم، وحسب أنه على العموم2. الوجه الثاني: أن ابن عباس قال: إنه علم من علوم النبوة، وعلم أحكام النجوم ليس من علوم الأنبياء –كما بينت هذه في فصل تنزيه الأنبياء أن يكونوا منجمين –بل نسبة ذلك إليهم من جنس نسبة السحر إليهم.   1 انظر: "ميزان الاعتدال"، و"لسان الميزان": (6/182) . 2 انظر: "حكم علم النجوم": (ق10/ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الوجه الثالث: أن ابن عباس أمر مولاه أن ينظر كم بقي من الليل؟ ولم يأمره أن ينظر في سعود الكواكب ونحوسها، واتصالاتها مع بعضها كما هو معروف عند أصحاب هذا الشأن. الوجه الرابع: أن ابن عباس تمنى أن يتعلم النجوم السيارة، والبروج الاثني عشر وهو يعرفها، كما ذكرت ذلك في فصل حكم تعلم علم الفلك، مما يشير إلى ضعف الرواية الثانية، وعلى فرض التسليم بصحة نسبتها إليه، فهو لم يتمن معرفة أحكام النجوم، والفرق واضح بين تعلم هذه وتعلم علم أحكام النجوم. أما الأثر الثامن: وهو ما ذكره الرازي وغيره عن اليهودي، الذي أخبر ابن عباس بما أخبر فالرد عليه من وجهين: الوجه الأول: أن المشهور عن ابن عباس بغض المنجمين والكذابين، لا تقريبهم وسؤالهم وتصديقهم، وعلى فرض صحتها فلا دلالة لهم فيها إذ إن هذا الخبر من جنس أخبار الكهان بشيء من المغيبات التي حكم عليها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ليست بشيء1. الوجه الثاني: أي حجة في فعل هذا اليهودي، وهل نحن متعبدون بما يفعله اليهود والنصارى؟ وهذه الحكاية كما أنها لا تدل على جواز هذا العلم، فكذلك لا تدل على صحته، فإن تصدق هذا المنجم في هذه الحكاية –إن صحت الرواية- فله بلا شك من الكذب أضعاف ما صدق فيها، فإن استدلوا   1 تنظر: "مفتاح دار السعادة": (2/217) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 بصدق هذا المنجم على صحة علم أحكام النجوم استدللنا بكذبه على بطلان هذا العلم1. أما الأثر التاسع: وهو استدلالهم بما روي أن الشافعي كان عالماً بالنجوم، وأنه حكم بأحكامها على عمر مولود، فيرد عليهم بما يلي: إنهم نسبوا الشافعي وحكموه فيه بأحكام ليعجز عن مثلها أئمة المنجمين، والذي غرهم في ذلك –والله أعلم- أبو عبد الله الحاكم حيث صنف في مناقب الشافعي كتاباً كبيراً، وجعل الباب الرابع والعشرين منه في معرفة الشافعي بتسيير الكواكب من علم النجوم، وذكر فيه حكايات للشافعي تدل على تصحيحه لأحكام النجوم، ثم لما صنف الرازي في مناقب الشافعي اعتمد اعتماد على هذا الكتاب، والذي غر الحاكم من هذه الحكايات تساهله في إسنادها2، وفينا يلي سأبينها وأبين حالها ليتبين أن نسبة ذلك إلى الشافعي كذب عليه وهي ثلاث حكايات أوردها ابن القيم عن الحاكم، وهي: الحكاية الأولى: ما رواه الحاكم بسنده عن عبد الله بن محمد البلوي3، قال: حدثه خاله قال: (كنت صديقاً لمحمد بن   1 مستفاد من رسالة عيسى بن عليّ التي أوردها ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/185) . 2 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/219) . 3 هو عبد الله بن محمد البلوي، يروي عن خاله عمارة بن زيد، قال الدارقطني: يضع الحديث، قال الذهبي: روى عنه أبو عوانة في "صحيحه" في الاستسقاء خبراً موضوعاً، قال ابن حجر: هو صاحب رحلة الشافعي طولها ونمقها، وغالب ما أورده فيها مختلف. انظر: "ميزان الاعتدال": (2/491) ، و"لسان الميزان": (3/338) . ?? الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 الحسن1، فدخلت معه يوماً على هارون الرشيد، فسأله، ثم إني سمعت محمد بن الحسن وهو يقول: إن محمد بن إدريس يزعم أن للخلافة أهلاً، قال: فاستشاط هارون من قوله غضباً، ثم قال: علي به، فلما مثل بين يديه أطرق ساعة، ثم رفع رأسه إليه، فقال: إيه، قال الشافعي: ما إيه يا أمير المؤمنين، أنت الداعي وأنا المدعو وأنت السائل وأنا المجيب ... فذكر حكاية طويلة سأله فيها عن العلوم ومعرفته بها –إلى أن قال- كيف علمك بالنجوم؟ قال: أعرف الفلك الدائر، والنجم السائر، والقطب الثابت والمائي والناري، وما كانت العرب تسمية الأنواء، ومنازل النيرين، والشمس والقمر، والاستقامة والرجوع، والنحوس والسعود، وهيأتها وطبائعها، وما أستدل به من بري وبحري، وأستدل في أوقات صلاتي، وأعرف ما مضى من الأوقات في كل ممسي ومصبح، وظعني في أسفاري، قال: فكيف علمك بالطب؟ قال: أعرف ما قالت الروم ... بلغاتهم، وما نقل عن أطباء العرب، وفلاسفة الهند، ونمقته علماء الفرس ... ) 2، ثم ساق سائر العلوم عمل هذا النحو في حكاية طويلة، والرد عليها من أربعة أوجه: الوجه الأول: أن هذه الحكاية يعلم من له علم بالمنقولات منها أنها   1 هو محمد بن الحسن بن فرقد، فقيه العراق، أبو عبد الله الشيباني، الكوفي، صاحب أبي حنيفة، توفي سنة تسع وثمانين ومائة. انظر: "تاريخ بغداد": (2/172) ، و"سير أعلام النبلاء": (9/134) ، و"البداية والنهاية": (20/202) . 2 انظر: "مناقب الشافعي" للبيهقي: ص130، و"مناقب الشافعي" للرازي: ص71، و"مفتاح دار السعادة": (2/219-220) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 كذب مختلق، وإفك مفترى على الشافعي1، إذ إن في إسنادها محمد بن عبد الله البلوي، وهو كذاب وضاع2. الوجه الثاني: لم يكن أبو يوسف ومحمد بن الحسن سعياً في أذى الشافعي قط، إذ إن تعظيم محمد للشافعي ومحبته له، وتعظيم الشافعي له، وثناؤه عليه هو المعروف وهو يدفع هذا الكذب3. الوجه الثالث: أن الشافعي لم يعرف لغة هؤلاء اليونان البتة، حتى يقول: (إني أعرف ما قالوه بلغاتهم) 4. الوجه الرابع: أن الشافعي رحمه الله لم يكن عنده من الطب إلا طرف من طب العرب، حفظ عنه في منثور كلامه، فأما أن يعلم طب اليونان والروم والهند والفرس بلغاتهم فهذا بهت وكذب عليه5. وقد احتوت القصة على غير هذه الأكاذيب الشيء الكثير، وفيما سبق ذكره كفاية في بيان بطلانها. الحكاية الثانية: قال الحاكم: أخبرنا أبو الوليد الفقيه6 قال: حدثت   1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (20/331) ، و"مفتاح دار السعادة": (2/220) ، و"كشف الخفا": (2/544) . 2 انظر: "ميزان الاعتدال": (2/491) ، و"مفتاح دار السعادة": (2/220) ، و"لسان الميزان": (3/338) . 3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (20/331) ، و"مفتاح دار السعادة": (2/220) . 4 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/220) . 5 المصدر نفسه. 6 هو حسان بن محمد بن أحمد القرشي الأموي، أبو الوليد النيسابوري، من شيوخ الحاكم، وأحد أئمة الشافعية، وكان إمام أهل الحديث بخراسان، توفي سنة تسع وأربعين وثلاثمائة. انظر: "البداية والنهاية": (11/252) ، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة": (1/126، 193) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 عن الحسن بن سفيان1 عن حرملة2، قال: (كان الشافعي يديم النظر في كتب النجوم، وكان له صديق وعنده جارية قد حبلت، فقال: إنها تلد إلى سبعة وعشرين يومأً، ويكون في فخذ الولد الأيسر خال أسود، ويعيش أربعة وعشرين يوماً ثم يموت، فجاءت به على النعت الذي وصف، وانقضت مدته فمات، فأحرق الشافعي بعد ذلك تلك الكتب، وما عاود النظر في شيء منها) 3، ويرد عليها من وجهين هما: الوجه الأول: هذا الإسناد رجاله ثقات، لكن الشأن فيمن حدث أبا الوليد بهذه الحكاية عن الحسن بن سفيان وبهذا يكون إسناده منقطعاً4.   1 هو الحسين بن سفيان بن عامر بن عبد العزيز النسوي، أبو العباس، مصنف "المسند"، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر أن أبي حاتم أنه صدوق. وقال الحاكم: كان محدث خراسان توفي سنة ثلاث وثلاثمائة. انظر: "الجرح والتعديل": (3/16) ، و"سير أعلام النبلاء": (14/157) ، و"ميزان الاعتدال": (1/492) ، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة: (1/92) ، و"لسان الميزان": (2/211) . 2 هو حرملة بن يحيى بن عبد الله التجيبي، أبو حفص، المصري، أحد الأئمة الثقات، قال أبو حاتم: لا يحتج به، وضعفه عبد الله بن محمد، وقال ابن عدي: قد تبحرت حديث حرملة، وفتشته فلم أجد في حديثه ما يجب أن يضعف من أجله، وقال الذهبي: يكفيه أن ابن معين أثنى عليه، توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين. انظر: "ميزان الاعتدال": (1/472) ، و"تهذيب التهذيب": (2/229) . 3 "مناقب الشافعي" للبيهقي: (2/126) ، و"مفتاح دار السعادة": (2/220) . 4 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/221) . وقد حكم الحافظ ابن القيم بالانقطاع في موضعين، الموضع الأول: في قول أبي الوليد الفقيه حدثت، والموضع الثاني: في قول الحسن بن سفيان عن حرملة. قلت: إن الحسن بن سفيان من الرواة عن حرملة. انظر: "ميزان الاعتدال": (1/472-473) ولم يذكر أحد عن الحسن بن سفيان أنه كان مدلساً، ولا عرف بالتدليس. انظر: "طبقات المدلسين" لابن حجر، و"جامع التحصيل في أحكام المراسيل" للعلائي، و"التبيين في أسماء المدلسين" لسبط بن العجمي. لذلك لا أرى أن الموضع الثاني من مواضع الانقطاع في الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الوجه الثاني: أنه ليس هناك طالع للولادة يقتضي هذا كله، إنما الطالع عند المنجمين طالعان، هما طالع مسقط النطفة، وهو الطالع الأصلي، وهذا لا سبيل إليه إلا في أندر النادر بزعمهم، والثاني طالع الولادة، وهم معترفون أنه لا يدل على أحوال الوالد وجزئيات أمره لأنه انتقال الولد من مكان إلى مكان، وإنما أخذوه بدلاً من الطالع الأصلي لما تعذر عليهم اعتباره، وهذه الحكاية ليس فيها أخذ أحد الطالعين، والمنجم يقطع بأن الحكم على هذا الولد لا سبيل إليه، وليس في صناعة النجوم ما يمكن الحكم عليه، والحالة هذه، وهذا يدل على أن هذه الحكاية كذب مختلق على الشافعي1. الحكاية الثالثة: وهي ما رواه الحاكم أيضاً: أنبأني عبد الرحمن بن الحسن القاضي2 أن زكريا بن يحيى الساجي3 حدثهم أخبرني أحمد بن   1 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/221) . 2 هو عبد الرحمن بن الحسن بن عبيد الأسدي، قال صالح بن أحمد: ادعى الرواية عن إبراهيم بن ديزيل فذهب علمه، وقال القاس بن أبي صالح يكذب. وقال الدارقطني: رأيت في كتبه تخاليط، وقال أبو يعقوب بن الدخيل: لم يحمدوا أمره. انظر: "تاريخ بغداد": (10/292) ، و"ميزان الاعتدال": (2/556) ، و"لسان الميزان": (3/411) . 3 هو زكريا بن يحيى الساجي، أبو الحسين الحافظ البصري، قال الذهبي: أحد الإثبات ما علمت فيه جرحاً أصلاً، ووافقه ابن حجر على ذلك. توفي سنة سبع وثلاثمائة. انظر: "الجرح والتعديل": (3/601) ، و"ميزان الاعتدال": (2/79) ، و"لسان الميزان": (2/488) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 محمد ابن بنت الشافعي1 قال: سمعت أبي يقول: (كان الشافعي وهو حدث ينظر في النجوم، وما نظر في شيء إلا فاق فيه، فجلس يوماً وامرأة تلد، فحسب فقال: تلد جارية عوراء على فرجها خال أسود وتموت إلى كذا وكذا، فولدت فكان كما قال، فجعل على نفسه ألا ينظر فيه أبداً) 2، والرد عليها من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن في إسناد هذا الأثر عبد الرحمن بن الحسن وهو ضعيف3.   1 هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع بن السايب المطلبي، الشافعي، وهو ابن بنت الإمام الشافعي، واسم أمه زينب، كان واسع العلم جليلاً فاضلاً، لم يكن في آل شافع بعد الإمام أجل منه، كان أبوه من فقهاء أصحاب الشافعي، فتفقه على أبيه، وروى الكثير عنه عن الشافعي، توفي سنة خمس وتسعين ومائتين. انظر: "تهذيب الأسماء واللغات": (2/296) ، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة": (1/75) . 2 انظر: "مناقب الشافعي" للبيهقي: (2/125-126) ، و"مناقب الشافعي" للرازي: ص328، و"سير أعلام النبلاء": (10/57) ، و"مفتاح دار السعادة": (2/221) . 3 قال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (إن ابن بنت الشافعي لم يلق الشافعي والشأن فيمن حدثه بهذا) ، قلت: وهذا القول محل نظر، لأن ابن بنت الشافعي روى هذا الخبر عن أبيه، وأبوه قد لقي الشافعي، بل روى الكثير عن أبيه عن الشافعي، لذا لم تكن هذه هي علة هذا الأثر، بل العلة التي يرد بها هذا الأثر في عبد الرحمن بن الحسن –كما هو مبين في المتن-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الوجه الثاني: أن تنزيه الشافعي عن هذا هو الذي ينبغي أن يكون من مناقبه فأما أنن يذكر من مناقبه أنه كان منجماً يرى القول بأحكام النجوم وتصحيحها، فهذا فعل من يذم بما يظنه مدحاً1. الوجه الثالث: إذا كان الشافعي شديد الإنكار على المتكلمين مزرياً بهم2، فلا بد أن رأيه أشد في المنجمين وأمثالهم3. أما الاستدلال العاشر وهو استدلال الرافضة بأن أئمتهم –على حد زعمهم- يؤيدون هذا العلم، بل يعلمونه، ويعلمون به فالرد عليه من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن ما روي من هذه الآثار من أكاذيب الشيعة على آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخصوصاً على علي بن أبي طالب وجعفر الصادق رضي الله عنهما، قال ابن تيمية رحمه الله: (ونحن نعلم من أحوال أمتنا أنه قد أضيف إلى جعفر الصادق، وليس هو بنبي من الأنبياء من جنس هذه الأمور –يقصد من جنس علم النجوم الذي نسب إلى إدريس –عليه السلام-، ما يعلم كل عالم بحال جعفر رضي الله عنه أن ذلك كذب عليه، فإن الكذب عليه من أعظم الكذب، حتى أنهم قد نسبوا إليه أحكام الحركات السفلية ... ، والعلماء يعلمون أنه بريء من ذلك كله) 4. الوجه الثاني: أن بعض الرافضة أورد كثيراً من النصوص عن أئمتهم المزعومين تفيد رد هذه الصناعة وإبطالها، وذم من يعمل بها، مما يبين   1 "مفتاح دار السعادة": (2/221) . 2 انظر: "مناقب الشافعي" للرازي: ص99. 3 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/221) . 4 انظر: "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/332) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 بهت هؤلاء القوم، وتطاولهم بالكذب على أهل البيت –ومن فمك أدينك- فمن ذلك: ما ورد عن علي رضي الله عنه (لما أراد المسير إلى النهراوان أتاه منجم فقال له: يا أمير المؤمنين، لا تسر في هذه الساعة، وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار، فقال أمير المؤمنين: ولم ذاك؟ قال، لأنك إن سرت في هذه الساعة أصابك، وأصاب أصحابك أذى وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك ظفرت، وظهرت، وأصبت كلما طلبت، فقال له أمير المؤمنين: تدري ما في بطن هذه الدابة أذكر أم أنثى؟ قال: أن حسبت علمت. قال له أمير المؤمنين: من صدقك على هذا القول كذب بالقرآن: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1، ما كان محمد صلى الله عليه وسلم يدعي ما ادعيت، تزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء، والساعة التي من سار فيها حاق به الضر، من صدقك بهذا استغنى بقولك عن الاستعانة بالله في ذلك الوجه، وأحوج إلى الرغبة إليك في دفع المكروه عنه، وينبغي له أن يوليك الحمد دون ربه، فمن امن لك بهذا فقد اتخذك من دون الله نداً وضداً ... ) 2. وما ورد عن أبي عبد الله أنه سئل عن النجوم. فقال: (هو علم قلت منافعه، وكثرت مضراته، لأنه لا يدفع به المقدور، ولا يتقى به المحذور، وإن أخبر المنجم بالبلاء لم ينجه التحرز   1 سورة لقمان، الآية: 34. 2 "نهج البلاغة": ص105، و"مرآة العقول": (4/460) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 من القضاء، وإن أخبرهم بخبر لم يستطع تعجيله، وإن حدث به سوء لم يمكنه صرفه، والمنجم ينازع الله في علمه، بزعمه أنه يرد قضاء الله عن خلقه) 1. وروي أيضاً عن أبي جعفر الباقر رضي الله عنه أنه قال: (المنجم ملعون، والكاهن، والساحر ملعون ... ) 2. وما روي عنه أيضاً أنه كان يدعو، ويقول: "اللهم إنك خلقت أقواماً يلجئون إلى مطالع النجوم لأوقات حركاتهم، وسكونهم، وتصرفهم، وعقدهم، وخلقتني أبرأ إليك من اللجوء إليها، ومن طلب الاختيارات بها، وأتيقن أنك لم تطلع أحداً على غيبك في مواقعها) . ونقولاتهم عن الأئمة في هذا الشأن كثيرة مبسوطة في كتبهم، مما يبرهن أن نسبة التنجيم إلى آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب عليهم، وعلى أن علياً رضي الله عنه وأبناءه كانوا يذمون هذه الصناعة وأهلها. الوجه الثالث: الاضطراب الشديد، والاختلاف بين الروايات عن أئمتهم المزعومين، إذ إنهم يروون تارة أن علم النجوم يختص وجوده بأهل الهند، ومن ذلك ما رووه عن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: (بعث الله المشتري في صورة رجل إلى الأرض –إلى أن قال-: وأخذ بيد رجل من الهند، فعلمه حتى أنه قد بلغ، وقال: انظر إلى المشتري، أين هو؟ فقال: إن حسابي ليدل على أنك أنت المشتري، قال: فشهق شهقة فمات، وورث علمه أهله، فالعلم هناك)   1 "مرآة العقول": (4/462) . 2 المرجع نفسه. 3 "الروضة من الكافي": (4/458) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وتارة يرون أن هذا العلم موجود في أهل بيت من العرب، وأهل بيت من الهند ومن ذلك ما روي (أن أبا عبد الله سئل عن علم النجوم؟ فقال: ما يعلمها إلا أهل بيت من العرب، وأهل بيت من الهند) 1. وتارة يرون أن هذا العلم لا يصدق منه شيء اليوم، بل كله حدث وتخمين، ومن ذلك ما روي عن أبي عبد الله أيضاً أنه قال: (لما رد الله تعالى الشمس على يوشع بن نون وعلي بن أبي طالب2 ضل علماء النجوم، فمنهم من صيب ومنهم مخطئ) 3، وإذا وجد الاضطراب والاختلاف سقط الاحتجاج. أما شبهتهم الثانية عشرة وهي اعتراف الناس قديماً وحديثاً بعلم النجوم، وأنه ما خلت منه أمة من الأمم، ولا ملة من الملل، إلا كانوا مشتغلين به، ولو كان فاسداً لاستحال إطباق الناس عليه، فالرد عليه من ستة أوجه: الوجه الأول: أن هذا من الكذب والافتراء على العالم من أول بنائه إلى آخرة، وذلك لما يأتي: 1- إن آدم وأولاده كانوا برآء من ذلك، وأئمتهم معترفون بأن أول من عرف منه الكلام في هذا العلم، وتلقيت عنه أصوله هو إدريس عليه السلام، فكيف وهو كذب عليه؟ ومن نسب إليه ليس معه إلا مجرد القول والكذب على الأنبياء.   1 "فرج المهموم": ص87. 2 رد الشمس لعلي بن أبي طالب كذب مختلق، انظر: "منهاج السنة": (8/164، وما بعدها) . 3 "فرج المهموم": ص87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 2- أو ليس من الفرية أن ينسب هذا العلم إلى أمه موسى في زمنه ويعدوه بأنه كان معولهم في مصالحهم؟ 3- أو ليس من الكذب كذلك أن ينسب إلى أمه عيسى، وأمه يونس، والذين كانوا مع نوح ونجوا معه في السفينة؟ 4- وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعتمدون على هذا العلم في مصالحهم؟ أو كان قرن التابعين يفعله؟ أو قرن تابعي التابعين؟ أو الموفقون من خلفاء الأمة وملوكها وساداتها وكبرائها معولين على هذا العلم أو معتمدين عليه في مصالحهم؟ فإن ادعوا ذلك فهذه سيرهم تكذبهم وترد عليهم1. الوجه الثاني: لا ننكر أن لهذا العلم طلبة مشغولين به معتنين بأمره، وهذا لا يدل علة صحته، فهذا السحر لم يزل في العالم من يشتغل به ويطلبه أعظم من اشتغال من يشاغل بالنجوم، وطلبهم له أكثر من ذلك بكثير، وتأثيره في الناس مما لاينكر، أفكان هذا دليلاً على صحته؟ 2. الوجه الثالث: أن هذه الأصنام لم تزل تعبد في الأرض من قبل نوح وإلى الآن، ولها الهياكل المبنية والسدنة، ولها الجيوش التي تقاتل عنها، أفيدل هذا على صحة عبادتها، وأن عبادها على الحق؟ 3 الوجه الرابع: أما ادعاؤه أن أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى أخره أطلقوا على هذا العلم، فليس هناك من فرية أبلغ من هذه الفرية، إذ إن هناك كثيراً من الناس ينكرون هذه الصناعة وينكرون على   1 انظر: "مفتاح دار السعادة": (5/226) . 2 انظر: المصدر نفسه: (2/226-227) . 3 المصدر السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 أهلها، كما يوجد من الكتب في إبطال هذا العلم والرد على أهله، وكثير منها للفلاسفة الذي يعظمهم هؤلاء1. الوجه الخامس: لو أن مقابلاً قابله، لو كان هذا العلم صحيحاً لاستحال إطباق أهل المشرق على رده وإبطاله، لكان قول من جنس قوله، ولكن أهل المشرق والمغرب فيهم هذا وهذا كما يشهد به الحس والتاريخ2. الوجه السادس: أن ما أخبروا به من أخبار المنجمين بنبوه بعض الأنبياء ليس لهم دلالة فيه، إذ إن في أخبار الكهان ما هو أعجب من هذا، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في أخبارهم: "ليس بشيء"، فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثونا أحياناً بشيء فيكون حقًّا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق يحفظها من الجني فيقرها في أذن وليٍّه فيخلطون معها مائة كذبة" 3 يعني بذلك بطلان قولهم وأنه لا حقيقة له4، فلم يدل على صدقهم في بعضه الأحيان على صحة أصولهم أو مشروعية صناعتهم، وهذا محك الكلام مع أصحاب علم أحكام النجوم. أما الشبهة الثالثة عشرة: وهي أن المنجمين اختبروا عدة طوالع فكان الحكم كما أخبروا، فالرد عليها من خمسة أوجه: الوجه الأول: إن كان يدعونه يدل على صحة أحكام النجوم، فما الفرق بينهم وبين من قال: الدليل على بطلان الأحكام أنا امتحنا مواليد   1 انظر: المصدر نفسه. 2 المصدر نفسه. 3 سبق تخريجه: ص182. 4 انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم": (14/223) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 صححنا طوالعها، ومسائل تفقدنا أحوالها فوجدنا جميعها باطلاً، ولم يصح الحكم في شيء منها، فإن كانت الدلالة على صحة مقالتهم صدقهم في بعض أحكامهم، فالدلالة على بطلانها كذبهم في بعضها1. الوجه الثاني: أن الحكايات المتضمنة لإصابتهم في بعض الأحوال ليست بأكثر من الحكايات عن أصحاب الفأل، وزجر الطير، والضرب بالحصى، والطرق، والعيافة، والكهانة، والخط، والحدس، وغيرها. فإن كانت حكايات هؤلاء لاتدل على أن علومهم صحيحة فكذلك حكايات المنجمين2. الوجه الثالث: أن الشبهة تدخل على الناس من أمر المنجمين من قبيل أنهم يرون المنجم يصيب في مسألة تقع بين أمرين، كالجنين الذي لا يخلو من أن يكون ذكراً أو أنثى، أو المريض الذي لا يخلو من أن يصح أو يموت، أو الغائب الذي لا يخلو من أن يقيم بمكان أو يرحل عنه، ومن شأن الناس أن يحفظوا الصواب للعجب به، والشغف، ويتناسون الخطأ لأنه الأصل الذي يعرفونه، والأمر الذي يعهدونه، ومن ذا الذي يتحدث ممن قصد المنجم بأنه سأله فأخطأ؟ ومثل هذه المسائل التي يخبر المنجم فيها في الحكم بين أمرين تقع أحياناً للمعتوه والطفل فضلاً عن الرجل المتحذر3. الوجه الرابع: كيف يسلم للمنجمين ما يدعونه وأحدهم لا يعرف على التحقيق ما يحدث في منزله ولا ما يصلح أهله وولده، بل لا يعرف ما يصلحه في نفسه، ويؤثر عنه بعد هذا كله أنه يخبر بالغيب الذي لم يؤته   1 انظر: رسالة عيسى بن علي التي نقلها ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (2/185) . 2 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/228) . 3 انظر: "حكم علم النجوم": (ق11/أ، ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الله أحداً، ولم يستودعه بشراً إلا لرسول يرتضيه يطلعه على شيء منه، أو نبي يصطفيه1. الوجه الخامس: أن يصدق هؤلاء في بعض الأمور ليس لحكمهم بعلم أحكام النجوم وإنما هو لأحد خمسة أمور وهي: الأمر الأول: استعمال الجن واستراق السمع من السماء أو في الإخبار بأمور تخفى عن الناس، ويستطيع الجني الإطلاع عليها بما آتاه الله من القدرة على ذلك. الأمر الثاني: إخبار الكتب السابقة بأمر الأمور، فيأخذ المنجم الخبر منها. الأمر الثالث: تأليف قصة بعد وقوع حادثة ما، ويدعون أنهم قد أخبروا بها قبل وقوعها كذباً وبهتاناً. الأمر الرابع: إخبارهم بأمور تعرف بالحساب كالإخبار بحادثتي الكسوف والخسوف، ونحوها، فتقع كما أخبروا، فيظن الجاهل أنها من جنس أعمالهم. الأمر الخامس: أن يقع خبرهم مصادفاً لقدر قدره الله، فيظن الجاهل أن المنجم صدق في خبره. وبهذا يتبين فساد الاستدلال المنجمين على جواز استعمال هذه الصناعة، وعلى صحة أحكامها، ويقتض ما لفقوه من الكذب والبهتان على الله ورسوله، وصفوة خلقه، وما عضدوا به مذهبهم من الاستدلالات التي لا تصح، والأخبار التي يعلم الكذب من سياقها، وهذا ليس ببعيد عنهم، إذ إن هذه الصناعة ما قامت إلا على الكذب والتمويه وخداع الناس.   1 انظر: المصدر نفسه: (ق11/ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الفصل السادس: حكم التنجيم المبحث الأول: حكم العمل بالتنجيم ... المبحث الأول: حكم العمل بالتنجيم فيما تقدم من الكلام ذكرنا أن علم أحكام النجوم ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: اعتقاد أن هذه الكواكب تدبر هذا الكون، ومنها يصدر الخير والشر والسعادة والنحوسة. القسم الثاني: اعتقاد أن الخالق والمدبر هو الله، وقد جعل الله هذه الكواكب علامات ودلالات على الحوادث الأرضية. أما القسم الأول: وهو نسبة الاختراع والتدبير إلى الكواكب دون الله أو مع الله فهذا كفر، يقتل صاحبه مرتداً بالإجماع1. فمن اعتقد هذا الاعتقاد فقد نحا نحو الصابئة: عبدة الكواكب. الذي بعث فيهم إبراهيم عليه السلام، وصار على عقيدتهم وارتد عن الإسلام –والعياذ بالله-. وهل يستتاب من فعل ذلك؟ ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستتاب ثلاثاً قبل قتله2. وفضل ابن رشد3 الجد في ذلك فقال: (إذا كان المنجم يزعم أن   1 انظر: "البيان والتحصيل": (17/407) ، و"الفصل في الملل والأهواء والنحل": (5/148) ، و"الفروق": (4/259) ، و"مجموعة الفتاوى المصرية": (1/330) ، و"مفتاح دار السعادة": (2/166) . 2 انظر: "الكافي" لابن عبد البر: (584) ، و"روضة الطالبين": (10/76) . 3 هو محمد بن أحمد بن رشد القاضي، أبو الوليد الأندلسي المالكي القرطبي، توفي سنة عشرين وخمسمائة. انظر: "سير أعلام النبلاء": (19/501) ، و"هدية العارفين": (2/85) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 النجوم واختلافها في الطلوع والغروب هي الفاعلة لذلك كله، وكان مستسرًّا بذلك فحضرته البينة قتل بلا استتابة؟ لأنه كافر زنديق، وإن كان معلناً بذلك غير مستسر به، يظهره ويحاج عليه استتيب، فإن تاب وإلا قتل، كالمرتد سواء) 1. واختلف القائلون بالاستتابة في وجوبها وعدمها على قولين: أحدها: أنها واجبة، وهذا ما ذهب إليه عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، والإمام مالك وأصحاب الرأي، والنووي وأشهر الروايتين عن الإمام أحمد ورواية عن الشافعي وغيرهم. الثاني: أنها مستحبة، وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه وهو القول الثاني للشافعي، وإليه ذهب الحنيفة وغيرهم2. واستدل الفريق الأول بما رواه الإمام مالك وغيره، أنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل من قبل أبي موسى فقال له عمر: هل كان من مغرية خبر؟ قال: نعم. رجل كفر بعد إسلامه، فقال: ما فعلتم به؟ قال قربناه فضربنا عنقه. فقال عمر: فهلا حبستموه ثلاثاً، فأطعمتموه كل يوم رغيفاً، واستتبتموه لعله يتوب، أو يراجع أمر الله؟ اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني3، ولو لم تجب   1 انظر: "البيان والتحصيل": (17/407) . 2 انظر: "الموطأ": (631-632) ، و"المغني" لابن قدامة: (8/129) ، و"المحرر": (2/167) ، و"روضة الطالبين": (10/76) ، و"تبيين الحقائق": (3/284) ، و"الإنصاف" للمرداوي: (10/352) . 3 أخرجه مالك في "الموطأ": (632) ، وضعفه الألباب في "الإرواء": (رقم 2474) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 استتابته لما برئ من فعلهم. ولأنه أمكن استصلاحه، فلم يجز إتلافه قبل استصلاحه كالثوب النجس1. واستدل الفريق الثاني بما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" 2. ولم يذكر استتابة. وبما رواه الشيخان عن معاذ أنه قدم على أبي موسى فوجد عنده رجلاً موثقاً فقال: ما هذا؟ قال: رجل كان يهودياً فأسلم، ثم راجع دينه دين السوء فتهود، قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله، قال: اجلس. قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات. فأمر به فقتل3 ولم يذكر استتابة. وقالوا: لأنه يقتل لكفره فلم تجب استتابة كالأصيل، فهو كافر حربي بلغته الدعوة. فيقتل للحال لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 4. والراجح –والله أعلم- القول بوجوب الاستتابة وذلك لما يأتي: 1- قد ورد في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له: "أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد وإلا فاضرب عنقه،   1 انظر: "المغني": (8/127) . 2 أخرجه البخاري: (9/26) ، كتاب استتابة المرتدين. 3 أخرجه البخاري: (9/26-27) ، كتاب استتابة المرتدين، ومسلم: (6/6) ، كتاب الإمارة. 4 انظر: "المغني" لابن قدامة: (8/127) ، و"تبيين الحقائق": (3284/) ، والآية (5) من سورة التوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها" 1 وهو نص في محل النزاع. 2- أما قصة معاذ مع أبي موسى فقد جاء في رواية: أنه استتاب أبو موسى وقال: (ونحن نريده على الإسلام، قال: أحسبه شهرين) 2. واكتفى معاذ رضي الله عنه باستتابة أبي موسى للرجل3. 3- أما حديث: "من بدل دينه فاقتلوه" فقد بينه حديث معاذ وهو أنه يقتل بعد الاستتابة، والحديث دل على حكم من فعل ذلك، وهو أن من بدل دينه فحكمه القتل. 4- أما الاستدلال بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} فهو دال على أن المشركين مستحقين للقتل، ودلت السنة على عرض الإسلام عليهم قبل قتالهم، كما دلت على استتابة المرتد في حديث معاذ رضي الله عنه، وكذلك فإن ارتداد المسلم يكون عن شبهة غالباً، فلا بد من مدة يمكنه التأمل فيها4. أما القسم الثاني: وهو جعل الكواكب دلالات وعلامات على الحوادث الأرضية، وادعاء علم ما يستقبل من الحوادث، وما مضى منها بناءاً على هذه الدلالات، ولم يقترن هذا الاعتقاد بالسجود للكواكب، أو   1 أخرجه الطبري في "المعجم الكبير": (20/53) . وضعفه الهيثمي في "المجمع": (6/263) ، وحسنه ابن حجر في "فتح الباري": (12/272) . 2 أخرجه الإمام أحمد: (5/231) . وصححه الألباني وقال: (على شرط الشيخين) . انظر: "الإرواء": (8/125) . 3 انظر: "المغني" لابن قدامة: (8/127) ، و"فتح الباري": (12/275) . 4 انظر: "تبيين الحقائق": (3/284) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الاستعانة بها أو التوكل عليها، أو نحو ذلك من صرف العبادات لهذه الكواكب، فأجمع المسلمون على تحريم ذلك. كما دلت النصوص من الكتاب والسنة على تحريمه1 منها: 1- قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً {} .   1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (35/192) . أما ما نقله الزبيدي عن المولى أبي الخير: (أن الإمام الشافعي ذكر أن المنجم إن اعتقد أن المؤثر الحقيقي هو الله تعالى، لكن عادته تعالى جارية على وقوع الأحوال بحركاتها وأوضاعها المعهودة ففي ذلك لا بأس عندي، وحديث الذم ينبغي أن يحمل على من يعتقد تأثير النجوم) . انظر: "الإتحاف": (1/221) . فقد أخطأ على الشافعي وعلى السبكي، إذ أن السبكي نقل هذا الكلام عن برهان الدين بن الفركاح، وليس عن الشافعي. انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي: (1/243) . والذي جعل برهان الدين بن الفركاح يقول بهذا القول بغية التماس العذر للشافعي عندما اطلع على ما روى عن الشافعي في استعماله لهذه الصناعة، إلا أنه لم يحسن التماس العذر فقال ذلك، وقد سبق أن بينت ضعف هذه الروايات في فصل شبهات المنجمين والرد عليها. وما ذكره الزبيدي أيضاً عن الخطيب بقوله: (ونقل الخطيب من كتا "الأنواء" لأبي نيفة المنكر من النظر في النجوم نسبة الآثار إلى الكواكب، وأنها هي المؤثرة، وأما من نسب التأثير إلى خالقها، وزعم أنه نصبها أعلاماً على ما يحدثه فلا جناح عليه) . (الإتحاف) : (1/221) فليس معناه جعل هذه النجوم علامات على السعود والنحوس، وإنما المقصود جواز القول بأن للأمطار أوقاتاً معلومة، وجعل هذه الكواكب دالة على هذه الأوقات –كما سيأتي بيانه في فصل توقع أحوال الجو إن شاء الله. 2 سورة الجن، الآية: 27-28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 قال الهيثمي1: "إن الله أطلع أنبياءه على مغيبات كثيرة، ولكنها تعتبر جزئيات قليلة بالنسبة إلى علمه تعالى، فهو المنفرد بعلم المغيبات على الإطلاق كليها وجزئيها دون غيره) 2. 2- وقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 3. قال الهيثمي رحمه الله: (أي لا تقل في شيء من الأشياء ما ليس لك به علم، فإن حواسك مسئولة عن ذلك) 4. 3- وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 5. وما رواه البخاري رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم أحد ما يكون فيغد، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما يدري أحد متى يجئ المطر" 6. قال الخطيب البغدادي: (ولم يذكر الله تعالى أن الله عنده علم هذه   1 هو أحمد بن محمد بن علي بن حجر المكي الهيثمي السعدي الأنصاري، شهاب الدين، أبو العباس، فقيه، باحث مصر توفي سنة أربع وسبعين وتسعمائة. انظر: "كشف الظنون": (956) ، و"هدية العارفين": (1/146) . 2 انظر: "الزواجر": (2/109) . 3 سورة الإسراء، الآية: 36. 4 "الزواجر": (2/109) . 5 سورة لقمان، الآية: 34. 6 أخرجه البخاري: (2/82) ، كتاب الاستسقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الأشياء وفي خلقه من يعلمها كعلمه، وما كان لوصفه نفسه بالعلم بها هو ممتقع يختص بالتسليم إليه، لمشاركة خلقه فيها، ولا إفادة للمتصفح قراءتها، وإذا اشترك الخالق والمخلوق في شيء فكيف يتبين القادر منهما، والعاجز فيهما على أوضاع المنجمين وقد شاركوا رب العالمين تبارك وتعالى في علم هذه الأمور؟) . لأن منهم من يخبر أن طوفان نار يكون في آخر الزمان في وقت بعينه يحده، يأتي على الخلق، ينشر له الكواكب، فالمظهر للتمسك بالشرع منهم يقول: إنه القيامة التي ذكرها الله تعالى، ويتكلمون أيضاً في الغيث في تحاويل السنين، ويحكمون على الجنين في بطن أمه من مطالع، فيقولون: ذكر هو أو أنثى ... ) 1. وما أخرجه الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من سحر ما زاد زاد، وما زاد زاد" 2. 4- وما رواه الإمام مسلم عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة" 3. وما رواه الخطيب البغدادي وأبو وغيرهما عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي حتى خرجنا من   1 انظر: "حكم علم النجوم": (ق12/أ) . 2 صحيح. سبق تخريجه: ص97. 3 سبق تخريجه: ص109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 المدينة، فلما خرجنا نظر إليها، وقال: "هذه الجزيرة قد برئت من الشرك ما لم تضلهم النجوم". قال: "يقولون إذا أصابهم الغيث: مطرنا بنجم كذا وكذا" 1. 7- وما رواه الإمام أحمد في "مسنده" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا علي أسبغ الوضوء وإن شق عليك، ولا تأكل الصدقة، ولا تنز الحمير على الخيل، ولا تجالس أصحاب النجوم" 2. 8- وما رواه الخطيب والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا" 3. قال الخطيب البغدادي رحمه الله: (أراد صلى الله عليه وسم بالإمساك عن النجوم الكف عما يقول المنجمون فيها، من أنها فاعلة مدبرة وأنها تسعد وتنحس، وأن ما يكون في العالم من حادث فهو بحركات النجوم، فأمر عليه الصلاة والسلام بالإمساك عن هذا القول، وأن يقال فيها إنها كما جعلها الله تعالى يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، ويعرف بالشمس   1 حسن لغيره. سبق تخريجه: ص156. 2 رواه الإمام أحمد في "مسنده": (1/78) . قال الهيثمي: رواه عبد الله بن أحمد، وفيه هارون بن مسلم صاحب الحناء لينه أبو حاتم، ووثقه الحاكم، وبقية رجاله ثقات. "مجمع الزوائد": (5/116) . وقال أحمد شاكر: (الحديث ضعيف لوجود الانقطاع بين علي زين العابدين وعلي بن أبي طالب، إذ إن علي زين العابدين لم يدركه، فكانت الرواية عنه مرسلة) "تحقيق أحمد شاكر على مسند أحمد": (2/582) . 3 حسن بمجموع طرقه. سبق تخريجه: ص101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 9- والقمر عدد السنين والحساب، وأن فيها دلالة على قدرة الله وحكمته) 1. 10- وما رواه الطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف على أمتي في آخر زمانها: النجوم، وتكذيب بالقدر، وحيف السلطان" 2. 11- وما رواه أحمد والخطيب البغدادي وغيرهما من ثعلبة بن عباد العبدي3 من أهل البصرة قال: شهدت خطبة لسمرة بن جندب4 فذكر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قال: "أما بعد: فإن ناساً يزعمون أن كسوف الشمس، وكسوف هذا القمر، وزوال هذه النجوم عن مواضعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض وأنهم قد كذبوا، ولكنها هي آيات الله يعتبر بها عباده فلينظر من يحدث له منهم توبة ... " 5.   1 "حكم علم النجوم": (ق9/أ) . 2 حسن لغيره. سبق تخريجه: ص155. 3 تابعي، سمع سمرة. قال ابن المديني: الأسود يروي عن المجاهيل. وقال ابن حزم: ثعلبة مجهول، وتبعه ابن القطان، وصحح الترمذي حديثه. قال ابن حجر في "التقريب": مقبول. انظر: "الجرح والتعديل": (2/463) ، و"ميزان الاعتدال": (1/371) ، و"تهذيب التهذيب": (2/24) ، و"التقريب": ح (843) . 4 هو سمرة بن جندب بن هلال الفزاري، من علماء الصحابة نزل البصرة، توفي سنة ثمان وخمسين، وقيل: تسع وخمسين، وقيل: ستين. انظر: "التاريخ الكبير": (4/176) ، و"الإصابة": (2/78) ، و"شذرات الذهب": (1/65) . 5 أخرجه أبو داود: (رقم 1184) ، والترمذي: (رقم 562) وصححه، والإمام أحمد: (5/16) ، والحاكم في "المستدرك": (1/330) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، والخطيب في "حكم علم النجوم": (ق7/ب) . قال الهيثمي: (رجال أحمد رجال الصحيح غير ثعلبة بن عباد، ووثقه ابن حبان) . "المجمع": (7/342) . وضعفه الأرناؤوط في "جامع الأصول": (6/83) ، وأشار أحمد شاكر إلى تصحيحه فقال عن ثعلبة العبدي: (وهذا توثيق له كاف في معرفته) . "سنن الترمذي": (2/451) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وما رواه الخطيب البغدادي أيضاً عن ابن لهيعة1 أن الربيع ابن سبرة2 حدثه قال: "لما غزا عمر رضي الله عنه، وأراد الخروج   1 هو عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي، أبو عبد الرحمن، قاضي مصر وعالمها، وضعفه كثير من العلماء، وقالوا: لا يحتج به، مات سنة أربع وسبعين. انظر: "الجرح والتعديل": (5/145) ، و"ميزان الاعتدال": (2/475) ، و"تهذيب التهذيب": (5/373) . 2 هو الربيع بن سبرة بن معبد، ويقال: ابن هوسجة، الجهني المدني، قال العجلي: حجازي تابع ثقة، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن أبي خيثمة: سئل ابن معين عن أحاديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده، فقال: ضعاف. وقد وهم ابن حجر فقال: (قال الخطيب أبو بكر: لا يستقيم عندي سماعه من علي. قال هذا بعد أن أخرج من طريقه حديثاً عن علي في كتاب ذم النجوم) . قلت: والصحيح أن الربيع بن سبرة روى هذا الحديث عن عمر لا عن علي. وقد قال الخطيب بعد إيراد هذا الحديث: (وليس بمستقيم عندي سماع الربيع بن سبرة من عمر رضي الله عنه، ولعل الربيع رواه عن أبيه عن عمر رضي الله عنه، والله أعلم) . قلت: إن قول الخطيب: (ولعل الربيع رواه عن أبيه عن عمر) لا يصح لأنه ورد في هذا الأثر قول عمر: (قد عرفت ما تريد يا ابن سبرة) ، وابن سبرة هو الربيع لا أبوه، وبهذا يكون هذا الإسناد غير محفوظ عند أهل العلم، مما يدل على ضعف هذا الأثر بالإضافة إلى رواية ابن لهيعة له، وهو ضعيف. انظر: "الجرح والتعديل": (3/462) ، و"تهذيب التهذيب": (3/244) ، و"حكم علم النجوم": (ق10/أ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 إلى الشام خرجت معه، فلما أردنا أن ندلج نظرت فإذا القمر في الدبران فأردت أن أذكر لعمر ذلك، فعرفت أنه يكره ذكر النجوم. فقلت له: يا أبا حفص انظر إلى القمر ما أحسن استواءه الليلة، فنظر فإذا هو في الدبران، قال: قد عرفت ما تريد يا ابن سبرة، تقول: إن القمر بالدبران، وإنا والله لا نخرج بالشمس ولا بالقمر ولكن نخرج بالله الواحد القهار"1. 11- وما رواه الخطيب أيضاً عن ميممون بن مهران قال لابن عباس: أوصني. قال: (أوصيك بتقوى الله، وإياك وعلم النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة، وإياك أن تذكر أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بخير فيكبك الله على وجهك في جهنم، فإن الله تعالى أظهر بهم هذا الدين، وإياك والكلام في القدر فإنه ما تكلم فيه اثنان إلا أثماً، أو أثم أحدهما) 2. وهل يحكم بتكفير من عمل بهذه الصناعة، فادعى أنه يعلم الغيب بما تدل عليه هذه الكواكب؟ اختلف العلماء في تكفيره على قولين: القول الأول: ذهب فريق من العلماء منهم: القرطبي، والشيخ سليمان عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب3 إلى أن من ادعى أن هذه   1 أخرجه الخطيب في "حكم علم النجوم": (ق10/أ) . 2 أخرجه الخطيب في كتاب "حكم علم النجوم": (ق11/أ) . 3 هو سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، من آل الشيخ محدث، فقيه، مفسر، مجتهد، ثقة، أكرم بالشهادة رمياً بالرصاص لوشاية سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف. انظر: "تيسير العزيز الحميد": المقدمة، و"فتح المجيد": ص5، و"الأعلام": (3/129) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 الكواكب دلالات على علم الغيب فهو كافر، لأنه ادعى علم شيء استأثر الله بعلمه1. قال القرطبي رحمه الله: (قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب، واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليه، وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على ثبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب، ويزجر الطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله، مفترٍ عليه بحدسه وتخمينه وكذبه) 2. وقال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: (وينبغي أن يقطع بكفره، لأنها دعوى لعلم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه بما لا يدل عليه) 3. القول الثاني: ذهب مالك وابن رشد الجد والقرافي4 وابن حجر وغيرهم إلى عدم تكفيره. قال ابن رشد الجد رحمه الله: (سئل مالك عن الذي ينظر في النجوم   1 انظر: "تفسير القرطبي": (19/27-28) ، و"تيسير العزيز الحميد": ص442. وبهذا قال أيضاً ابن عابدين وطائفة من فقهاء الحنيفة. انظر: "حاشية ابن عابدين": (4/242) . 2 "تفسير القرطبي": (19/28) . 3 "تيسير العزيز الحميد": ص442. 4 هو أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن، أبو العباس، شهاب الدين الصنهاجي، القرافي، من علماء المالكية، توفي سنة أربع وثمانين وستمائة. انظر: "الديباج المذهب": (1/236) ، و"هدية العارفين": (1/99) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 فيقول: الشمس تكسف1 غداً، والرجل يقدم غداً، وما أشبه ذلك، فقال: أرى أن يزجر عن ذلك، فإن لم يفعل أدب في ذلك) 2. وقال ابن رشد الجد أيضاً: (وإن كان مؤمناً بالله عز وجل، مقراًّ بأن النجوم واختلافها في الطلوع والغروب لا تأثير لها في شيء مما يحدث في العالم، وأن الله هو الفاعل لذلك كله، إلا أنه جعلها أدلة على ما يفعله، فهذا يزجر عن اعتقاده ويؤدب عليه أبداً حتى يكف عنه، ويرجع عن اعتقاده، ويتوب عنه، لأن ذلك بدعة يجرح بها وتسقط إمامته وشهادته) 3. وقال القرافي رحمه الله: (إن اعتقد أن الله هو الفاعل عندها زجر عن هذا الاعتقاد الكاذب، لأنه بدعة تسقط العدالة) 4. وقال ابن حجر العسقلاني رحمه الله: (ولم يتعين الكفر في حق من قال ذلك، وإنما يكفر من نسب الاختراع إليها، وأما من جعلها علامة على حدوث أمر في الأرض فلا) 5. قلت: والمتتبع لكتب هؤلاء المنجمين وأحوالهم يرى أنهم يعتدون على ما استأثر الله بعلمه، حتى علم الساعة جعلوا لأنفسهم نصيباً منه، وغالب أحكامهم تدور على ادعاء ما يكسبه الإنسان في مستقبل أيامه، وعلى جعل الأمور الغيبية تحت تصرفه وحكمه، يطلع عليها متى شاء   1 سيأتي بيان هذه المسألة في مبحث توقع حادثتي الكسوف والخسوف. 2 "البيان والتحصيل": (17/404) . 3 المرجع السابق: (17/407) . 4 "الفروق": (4/259) . 5 "فتح الباري": (6/295) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ويقضي فيها بما أراد، فمن كان هذا حاله فلا شك في كفره، إذ إنه ينازع الرب في ربوبيته، ويدعي علماً استأثر الله به، والله أعلم. وقد ذكر الشيخ حافظ الحكمي1 رحمه الله الأوجه التي بها حكم على الكاهن والمنجم والعراف ونحوهم بالكفر فقال: (وأما كفر الكاهن فمن وجوه: منها كونه ولياً للشياطين، فلم يوح إليه الشيطان إلا بعد أن تولاه، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} 2، والشيطان لا يتولى إلا الكفار، وهم يتولونه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} 3 وهذا وجه ثان. والثالث قوله تعالى: {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ} أي: نور الإيمان والهدى {إِلَى الظُّلُمَاتِ} أي: ظلمات الكفر والضلالة، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِينا ً} 4 وهذا وجه رابع. والخامس: تسميته طاغوتاً5 في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} 6 نزلت في المتحاكمين إلى كاهن جهينة.   1 هو حافظ بن أحمد بن علي الحكمي، فقيه، أديب، من علماء جيزان بين الحجاز واليمن، توفي سنة سبع وسبعون وثلاثمائة وألف. انظر: "معارج القبول": المقدمة، و"الأعلام": (2/159) . 2 سورة الأنعام، الآية:121. 3 سورة البقرة، الآية: 257. 4 سورة النساء، الآية: 119. 5 الطاغوت: الكاهن والشيطان هو كل رأس في الضلالة. "الصحاح": (6/2413) . 6 سورة النساء، الآية: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وقوله: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} أي: الطاغوت، وهذا وجه سادس. والسابع: إن من هداه الله للإيمان من الكهان كسواد بن قارب1 رضي الله عنه لم يأته رأيه بعد أن دخل في الإسلام، فدل أنه لم ينزل عليه في الجاهلية إلا لكفره وتوليه إياه. الثامن: وهو أعظمها تشبهه بالله عز وجل في صفاته، ومنازعته له في ربوبيته، فإن علم الغيب من صفات الربوبية التي استأثر الله تعالى بها دون من سواه، فلا سمي له، ولا مضاهي، ولا مشارك قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 2، وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} 3. التاسع: إن دعواه تلك تتضمن التكذيب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله. العاشر: النصوص في كفر من سأله عن شيء فصدقه بما يقول، فكيف به نفسن فيما ادعاه؟ كما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول   1 هو سواد بن قارب الأزدي الدوسي، أو السدوسي، كاهن شاعر في الجاهلية، صحابي في الإسلام، عاش إلى خلافة عمر وتوفي بالبصرة سنة خمس عشرة. انظر: "الإصابة": (2/96) ، و"بلوغ الأرب": (3/29) . 2 سورة الأنعام، الآية: 59. 3 سورة الجن، الآيتان: 26-27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" 1. ثم قال الحكمي: ثم أعلم أن الكاهن وإن كان أصله ما ذكرنا فهو عام في كل من ادعى معرفة المغيبات ولو بغيره كالرمال الذي يخط في الأرض أو غيرها، والمنجم، والطارق بالحصى وغيرهم2.   1 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده": (2/429) ، والحاكم في "المستدرك": (1/8) ، والبيهقي في "السنن الكبرى": (8/135) . قال المناوي: (قال الحاكم: على شرطهما، وقال الحافظ العراقي في "أماليه": حديث صحيح، ورواه عنه البيهقي في السنن، وقال الذهبي: إسناده قوي) . "فيض القدير": (6/23) ، وصححه ابن كثير في "تفسيره": (1/143) ، وصححه الألباني. انظر: "مشكاة المصابيح": (رقم 4599) . 2 انظر: "معارج القبول": (1/435-436) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 المبحث الثاني: حكم تعلم التنجيم دون العمل به حكم تعلم التنجيم يدخل ضمن حكم تعلم علم السحر لأن النبي صلى الله عليه وسلم عده شعبه وذلك في قوله: "ما اقتبس رجل علماً من النجوم إلا اقتبس بها شعبة من السحر" 1، فكان جزءاً منه من هذا الوجه وكذلك جعله كثير من العلماء كابن تيمية وابن كثير وغيرهم. فيكون الكلام عن حكم تعلم علم السحر كلاماً عن حكم تعلمه. وقد ذهب جماهير العلماء إلى أن تعلم علم السحر –بما في ذلك علم التنجيم- حرام من الكبائر تعلمه، وتعليمه، فإن تضمن ما يقتضي الكفر –من التعبد للشياطين أو للكواكب أو نحو ذلك- كفر، وإلا فلا2 ومن الأدلة على ذلك ما يأتي: قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ   1 سبق تخريجه: ص97. 2 انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم": (14/176) ، و"فتح الباري": (10/224) ، و"روح المعاني": (23/121) ، و"أضواء البيان": (4/462) . وقد ذكره الألوسي في "روح المعاني": خمسة أقوال في هذه المسألة وسأذكر محصلها في هذا المبحث إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 1. وهذه الآية من أصرح الأدلة في التحريم، إذ إن الله تعالى صرح بأنه يضر ولا ينفع، فإذا أثبت الله أن السحر ضار، ونفى أنه نافع، فكيف يجوز تعلم ما هو ضرر محض لا نفع فيه؟ 2 وقال القرطبي في قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} : قال بعض العلماء: أي فلا تكفر بتعلم السحر3. 2- وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 4. وما رواه مسلم رحمه الله عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"5 فهذا في الإتيان والتصديق، فكيف بالتعلم؟ 3- وما رواه الإمام وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما اقتبس رجل علماً من النجوم إلا اقتبس بها شعبة من السحر ما زاد زاد" 6 وقد ورد هذا الحديث في معرض الذم، وما كان مذموماً لا يكون مباحاً. 4- إن تعلمه قد يكون ذريعة للعمل به، والذريعة إلى الحرام يجب سدها7.   1 سورة البقرة، الآية: 102. 2 انظر: "أضواء البيان": (4/462) . 3 انظر: "تفسير القرطبي": (2/54) . 4 سبق تخريجه: ص268. 5 أخرجه مسلم: (7/37) . 6 سبق تخريجه: ص97. 7 "أضواء البيان": (4/464) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 5- إن في تعلمه ترويجاً للباطل1. وتجدر الإشارة هنا إلى كلام الرازي في إيجاب تعلم علم السحر حيث قال: (المسألة الخامسة في أن العلم بالسحر غير قبيح ولا محظور اتفق المحققون على ذلك، لأن العلم لذاته شريف، وأيضاً لعموم قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 2 ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجز، والعلم يكون المعجز معجزاً واجب، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب، فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً، وما يكون واجباً كيف يكون حراماً وقبيحاً؟) 3. وقد تصدى ابن كثير للرد عليه فقال: (هذا الكلام فيه نظر من وجوه: أحدها قوله: العلم بالسحر ليس بقبيح. إن عني به ليس بقبيح عقلاً فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا، وإن عني أنه ليس بقبيح شرعاً، في هذه الآية الكريمة تبشيع لتعلم السحر، وفي "الصحيح": "من أتى عرافاً أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد"4. وفي "السنن": "من عقد عقدة، ونفث فيها فقد سحر" 5.   1 "تفسير روح المعاني": (23/121) . 2 سورة الزمر، الآية: 9. 3 "التفسير الكبير": (3/231-232) . 4 سبق تخريجه والحكم عليه: ص268، وقد يكون مراد ابن كثير بقوله: (في الصحيح) تصحيح هذا الحديث، إذ إن الحديث رواه أحمد والبيهقي كما سبق ذكر ذلك. 5 أخرجه النسائي: (7/112) ، وقال المنذري: (رواه النسائي من رواية الحسن عن أبي هريرة، ولم يسمع منه عند الجمهور) . "الترغيب": (4/32) . وقال الذهبي: (هذا الحديث لا يصح للين عباد، وانقطاعه) . "الميزان": (2/378) . وقال عبد القادر الأرناؤوط: (في سنده عباد بن ميسرة المنقري وهو لين الحديث، وفيه أيضاً عن الحسن البصري) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وقوله: (ولا محظور، اتفق المحققون على ذلك) كيف لا يكون محظوراً مع ما ذكرناه من الآية، والحديث، واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم وأين نصوصهم على ذلك؟ ثم إدخاله علم السحر في عموم قوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} 1 فيه نظر لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي، ولم قلت أن هذا منه؟ ثم ترقيه إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ضعيف، بل فاسد، لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلاً، ثم من المعلوم بالضرورة أن الصابئة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز، ويفرقون بينه وبين غيره، ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه) 2. وأما ما نقله ابن حجر عن بعض العلماء بأن السحر جائز تعلمه لتمييز ما فيه كفر من غيره3 فهذا خلاف التحقيق إذ ليس لأحد أن يبيح ما صرح الله بأنه يضر ولا ينفع، وكذلك قد يكون تعلمه ذريعة للعمل به، والذريعة إلى الحرام يجب سدها4 –كما قدمت ذلك- وعلم التنجيم يأخذ حكم ما سبق، والله أعلم.   1 سورة الزمر، الآية: 9. 2 "تفسير ابن كثير": (1/144-145) . 3 انظر: "فتح الباري": (10/224) . 4 انظر: "أضواء البيان": (4/464) . ?? الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 المبحث الثالث: حكم إتيان المنجمين، وتصديقهم بما يخبرون به ... البحث الثالث: حكم إتيان المنجمين، وتصديقهم بما يخبرون به إتيان المنجمين وما في معناهم من كهان وعرافين وسؤالهم، وتصديقهم بما يخبرون حرام من كبار الذنوب، بل قد يصل إلى حد الشرك الأكبر، وقد دلت الأدلة على ذلك منها: ما رواه الإمام مسلم عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه أنه قال: وإن منا رجالاً يأتون الكهان، قال: "فلا تأتهم"1. قال النووي رحمه الله: قال العلماء: إنما نهي عن إتيان الكهان لأنهم يتكلمون في مغيبات قد يصادف بعضها الإصابة، فيخاف الفتنة على الإنسان، بسبب ذلك لأنهم يلبسون على الناس كثيراً من أمر الشرائع وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان الكهان وتصديقهم2. وقال ابن تيميه رجمه الله: (نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان الكهان، والمنجم يدخل في اسم الكاهن عن الخطابي وغيره من العلماء، وحكي ذلك عن العرب. وعند آخرين هو من جنس الكاهن وأسوأ حالاً منه، فلحق به من جهة المعنى) . وما رواه مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة".   1 سبق تخريجه: ص111. 2 "شرح النووي على صحيح مسلم": (5/22) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 قال القرطبي رحمه الله: (العراف: هو الحازر1 والمنجم الذي يدعي علم الغيب، والتنجيم من العرافة، وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها، وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم وأسباب معتادة في ذلك، وهذا الفن هو العيافة، وكلها يطلق عليها اسم الكهانة) 2. وما رواه الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 3. وما رواه البزار4 عن عمران بن حصين5 رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن عقد عقدة، ومن أتى كاهناً فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 6.   1 الحازر: الخارص. "الصحاح": (2/629) . 2 "تفسير القرطبي": (7/3) . 3 سبق تخريجه: ص268. 4 هو أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، البصري، البزار، أبو بكر صاحب "المسند الكبير" الذي تكلم على أسانيده، توفي سنة اثنتين وتسعين ومائتين. انظر: "تاريخ بغداد": (4/334) ، و"سير أعلام النبلاء": (13/554) ، و"لسان الميزان": (1/237) . 5 هو عمران بن حصين بن عبيد بن خلف، أبو نجيد الخزاعي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم هو وأبو هريرة في وقت واحد، توفي سنة اثنتين وخمسين. انظر: "سير أعلام النبلاء": (2/508) ، و"تهذيب التهذيب": (8/125) ، و"الإصابة": (3/26) . 6 أخرجه البزار كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار": (رقم 3044) ، وقال الهيثمي: (رجاله رجال الصحيح، خلاف إسحاق بن الربيع وهو ثقة) . "المجمع": (5/117) . وقال ابن حجر الهيثمي: (إسناده جيد) . "الزواجر": (2/109) ، والحديث رواه بطريق آخر البزار والطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس كما في "مجمع الزوائد": (5/117) ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع": (رقم 5311) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وما رواه الطبراني عن أبي الدرداء1 رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن ينال الدرجات العلى من تكهن أو استقم أو رجع من سفر تطيراً" 2. فهذه الأحاديث تدل على أن من سأل الكاهن أو المنجم أو العراف في شيء، فصدقه بما يخبر به كفر لاعتقاده أنه يعلم الغيب، سواء ادعى الكاهن أن معرفته بذلك عن طريق الشياطين، أو عن طريق النجوم، أو نحو ذلك، أما إذا سأله ولم يصدقه، سواء كان هذا السؤال استهزاء أو استطلاعاً أو نحو ذلك فلا يكفر، وإنما لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن الحديث الذي فيه الوعد بعدم قبول الصلاة أربعين ليلة ليس فيه ذكر تصديقه، والأحاديث التي فيها إطلاق الكفر مقيدة بتصديقه3.   1 هو الإمام القدوة قاضي دمشق، وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الدرداء عويمر بن زيد ابن قيس بن أمية الخزري الأنصاري، اختلف في اسم أبيه فقيل: عامر، وقيل: مالك، وقيل: غير ذلك، توفي سنة اثنتين وثلاثين. انظر: "المعارف": ص268، و"سير أعلام النبلاء": (2/335) ، و"تهذيب التهذيب": (8/175) ، و"الإصابة": (3/45) . 2 رواه الطبراني في "المعجم الكبير" كما في "المجمع"، ولم أجده فيما طبع من المعجم. وقال الهيثمي وابن حجر الهيثمي: (رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما ثقات) . انظر: "المجمع": (5/118) ، و "الزواجر": (2/109) . وقال المناوي: (قال في "الفتح": رجاله ثقات، لكني أظن أن فيه انقطاعاً، لكن له شاهد عن عمران بن حصين خرجه البزار بسند جيد) . "فيض القدير: (5/304) .وحسنه الألباني في "صحيح الجامع": (رقم 5102) . 3 انظر: "فيض القدير": (6/23) ، و"تيسير العزيز الحميد": ص409-410. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 أما إذا سأل كاهن والمنجم يمتحن حاله ويختبر باطن أمره ويفضحه بين الناس، وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز كما ثبت في "الصحيحين": أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ابن صياد. فقال: "ما يأتيك؟ " قال: يأتيني صادق وكاذب. قال: "ما ترى؟ " قال: أرى عرشاً على الماء. قال: "فإني قد خبأت لك خبئاً؟ " قال: الدخ. الدخ. قال: "اخسأ فلن تعدو قدرك فإنما أنت من إخوان الكهان" 1 فهذا الحديث الصحيح مخصص لعموم الأحاديث السابقة2.   1 رواه البخاري: (2/197) ، كتاب الجنائز، ومسلم: ص (8/190) ، كتاب الفتن. 2 "مجموع فتاوى ابن تيمية": (19/62-63) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 المبحث الرابع: حكم الأجرة المأخوذة على صناعة التنجيم، والواجب تجاه المنجمين أجمع المسلمون على تحريم أخذ ودفع الأجرة التي يأخذها الكاهن على كهانته، لأنه عوض عن محرم، ولأنه أكل مال الغير بالباطل. وفي معناه التنجيم، والضرب الحصى، وغير ذلك مما يتعاطاه العرافون عن استطلاع الغيب1. لما رواه البخاري ومسلم عن أبي مسعود الأنصاري2 رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي وحلوان3 الكاهن" 4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (حلوان الكاهن الذي تسميه لعام "حلاوته"، ويدخل في هذا المعنى ما يعطيه المنجم وصاحب الأزلام التي يستقيم بها، مثل الخشبة المكتوب عليها أ، ب، ج، د والضارب بالحصى ونحوهم، فيما يعطى هؤلاء حرام، وقد حكى الإجماع على تحريمه غير واحد من العلماء كالبغوي، والقاضي عياض وغيرهما.   1 انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم": (10/231) ، و"روضة الطالبين": (9/364) ، و"فتح الباري": (4/427) . 2 هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة بن عسيرة الأنصاري البدري من علماء الصحابة، اختلف في تسميته بالبدري، توفي سنة تسع وثلاثين، وقيل: أربعين، وقيل: قبل ذلك. انظر: "سير أعلام النبلاء": (2/494) ، و"تهذيب التهذيب": (7/247) ، و"الإصابة": (2/490) . 3 الحلوان: مصدر حلوته حلواناً، إذا أعطينه، وأصله من الحلاوة، شبه بالشيء الحلو من حيث أنه يأخذ سهلاً، بلا كلفة ولا مشقة. 4 أخرجه البخاري: (7/248) ، كتاب الطب، ومسلم: (5/35) ، كتاب البيوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 ويتبين بذلك أن الأجرة المأخوذة على ذلك، والكرامة حرام، على الدافع والآخذ، وأنه يحرم على الملاك، والنظار، والوكلاء، إكرام الحوانيت المملوكة، أو الموقوفة، أو غيرها من هؤلاء الكفار والفساق بهذه المنفعة، إذا غلب على ظنهم أنهم يفعلون فيها هذا الجبت الملعون) 1. ولما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان لأبي بكر غلام يخرج له الخوارج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبي بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه) 2. قال ابن حجر رحمه الله: (والذي يظهر أن أبا بكر إنما قاء لما ثبت عنده من النهي عن حلوان الكاهن، وحلوان الكاهن ما يأخذه على كهانته، والكاهن من يخبر بما سيكون من غير دليل شرعي) 3. ويجب على ولي الأمر، وكل قادر السعي بالإنكار على المنجمين وإزالتهم، ومنعهم من الجلوس في الحوانيت أو الطرقات، أو دخولهم على الناس في منازلهم لذلك، وإن لم يفعلوا ذلك يكفيهم قوله تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} 4،وقوله سبحانه: {لَوْلا   1 "مجموع فتاوى ابن تيمية": (35/194-195) . 2 أخرجه البخاري: (5/128) ، كتاب المناقب. 3 "فتح الباري": (7/154) . 4 سورة المائدة، الآية: 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} 1، فإن هؤلاء المنجمين يقولون الإثم، ويأكلون السحت بإجماع المسلمين2.   1 سورة المائدة، الآية: 63. 2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (35/195) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الباب الثالث: فيما يلحق بالتنجيم وما قد يظن أنه منه، وهو ليس منه الفصل الأول: ما يلحق بالتنجيم المبحث الأول: حروف أبي جاد، والاستدلال بها على ... المبحث الأول: حروف أبي جاد، والاستدلال بها على المغيبات أرباب هذه الطريقة يزعمون أن لهذه الحروف علاقة ورابطة قوية بحياة الإنسان ومستقبله1 وبالكون وما يحدث فيه من الحوادث، ويزعمون أنهم يعرفون حوادث هذا العالم من هذه الحروف. وطريقتهم في ذلك أنهم يكتبون حروف أبي جاد، ويجعلون لكل حرف منها قدراً من العدد معلوماً عندهم، ويجرون على ذلك أسماء الآدميين والأزمنة والأمكنة وغيرها، ثم يجرون على هذه الأعداد عملية حسابية من جمع وطرح بطريقة ما وينسب العدد الباقي من هذه العملية إلى الأبراج الاثنى عشر، ثم يقضون بالسعود والنحوس، وبأوقات الحوادث والملاحم، ويمدد الملك وأعمار الناس، إلى آخر ذلك من أمور الغيب، على وفق ما أصله لهم أسلافهم، وأملاه عليهم شيطانهم2 ومن ذلك ما فعله يعقوب بن إسحاق الكندي، الذي عمل تسييراً لهذه الأمة، وزعم أنها تقتضي عام ثلاث وتسعين وسبعمائة، وزعم بعض أتباعه أنه استخرج ذلك من حساب الجمل الذي للحروف التي في أوائل السور3. ويدخل ضمن هذه الصناعة ما يسميه الرافضة بعلم أسرار الحروف، وأهم مؤلف فيه عندهم كتاب الجفر، المنسوب كذباً وبهتاناً إلى جعفر   1 انظر: "دليل الحيران": ص4-5. 2 انظر: "معارج القبول": (1/426) . 3 انظر: "مجموع الفتاوى المصرية": (1/336) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الصادق رضي الله عنه، ونسبته إليه كذب عليه باتفاق أهل العلم به1، إذ أن واضع هذا الكتاب هو هارون بن سعيد العجلي2، وهو رأس الزيدية وكان له كتاب يزعم أنه يرويه عن جعفر الصادق، وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم، ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص، وقع ذلك لجعفر الصادق ونظائره عن طريق الكشف والكرامة كما يزعمون، ويزعمون أنه كان مكتوباً عند جعفر في جلد جفر صغير، فرواه عنه هارون العجلي وكتبه، وسماه الجفر باسم الجلد الذي كتب فيه، وصار هذا الاسم علماً على هذا الكتاب عندهم، وهذا الكتاب لم تتصل روايته، ولا عرف عينه وإنما تظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل3 ويزعمون أن هذا الكتاب مشتمل على حوادث الأزمان على مر العصور، عرفت عن طريق علم الحروف المتعلق بآثار النجوم4. ومما يتشبثون به لتعضيد هذا المعتقد عندهم ما رواه الكليني عن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: (وإن عندنا الجفر، وما يدريهم ما الجفر؟ فقيل له: ما الجفر؟ قال: وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل) 5.   1 المصدر نفسه: (1/333) . 2 هو هارون بن سعد العجلي، ويقال: الجعفي، الكوفي الأعور كان من غلاة الرافضة، توفي سنة خمس وأربعين ومائة. انظر: "الجرح والتعديل": (9/90) ، و"ميزان الاعتدال": (4/284) ، و"تهذيب التهذيب": (11/6) . 3 انظر: "مقدمة ابن خلدون": ص334. 4 انظر: المصدر السابق. 5 "الأصول من الكافي": (1/186) . ?? الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وما رواه أيضاً أن أبا عبد الله سئل عن الجفر، فقال: (هو جلد ثور1 مملوء علماً) 2، وتارة يذكرون أن هذا العلم مأثور عن آدم عليه السلام، فقد نقل اليزدي الحائري عن كتاب الينابيع: (أما آدم عليه السلام فهو نبي مرسل خلقه الله تعالى بيده ونفخ فيه من روحه فأنزل عليه عشر صحائف، وهو أول من تكلم في علم الحروف، وله كتاب سفر الخفايا، وهو أول كتاب في الدنيا في علم الحروف –ثم ذكر أن آدم عليه السلام ورثه لأبنائه من بعده، وأبناؤه ورثوه لمن بعدهم وهكذا إلى أو قال: ثم ورث هذا العلم عن أبيه جعفر الصادق وهو الذي حل معاقد رموزه، وفك طلاسم كنوزه) . ثم ذكر أن له كتاب الجفر الأكبر، والجفر الأصغر، وأن الجفر الأكبر إشارة إلى المصادر الوفقية التي هي من أ، ب، ت، ث ... إلى آخرها، وأنها ألف وفق، وأن الجفر الأصغر إشارة إلى المصادر الوفقية التي هي مركبة من أبجد إلى قرشت، وهي سبعمائة وفق3. وهذا كله من أكاذيب الرافضة على آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الكتاب كما ذكرت آنفاً نسب كذباً إلى جعفر الصادق رحمه الله، وليس لهم برهان على إثباته سوى القول المجرد عن الدليل، بل قد نفى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يكون هو وذريته مخصوصين بشيء من الوحي دون الناس، وذلك فيما رواه البخاري رحمه الله: (أنه قيل لعلي رضي الله عنه:   1 هذا مخالف لأصل التسمية، إذ أن الجفر ولد الماعز، لا الثور. انظر: "الصحاح": (2/615) . 2 "الأصول من الكافي": (1/187) . 3 انظر: "إلزام الناصب": (1/232-235) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 هل عندكم شيء من الوحي، إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا. والذي فلق الحبة وبراً1 النسمة ما أعلمه، إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل2، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر) 3. أما نسبة هذا العلم إلى آدم عليه السلام فليست صحيحة، إذ أن كل ما روي في ذلك عن آدم عليه السلام من أنه كان عالماً بحروف أبي جاد وأن الله أنزلها عليه فقد نقلت عن أخبار إسرائيلية، لا يوثق بها، وقد أجمع المسلمون على أن ما روي عن بني إسرائيل في الأنبياء المتقدمين لا يجعل عنده في ديننا، ولا يجوز التصديق بصحتها إلا بحجة صحيحة واضحة4 كما قال النبي صلى الله عليه وسلم –في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة-: "لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ... " الآية5. وما رواه البخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله؟ 6 تقرؤونه ولم يشب7 وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله، وغيروا بأيديهم الكتاب، فقالوا: هو   1 أي: خلق. انظر: "الصحاح": (1/36) . 2 العقل: الدية. "النهاية في غريب الحديث": (3/278) . 3 أخرجه البخاري: (1604) ، كتاب الجهاد والسير. 4 انظر: "مجموع الرسائل والمسائل": (1/383) . 5 أخرجه البخاري: (9/280) ، كتاب التوحيد. والآية (136) من سورة البقرة. 6 أي: أقربها نزولاً إليكم من عند الله عز وجل. "الفتح": (5/292) . 7 أي: لم يخلط. انظر: "الصحاح": (1/158) ، و"الفتح": (5/292) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 من عند الله، ليشتروا به ثمناً قليلاً، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسائلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم رجلاً قط قد يسألكم عن الذي أنزل عليكم"1. وبهذا يتبين أن ما ذكر عن آدم عليه السلام من ذلك لا يجوز تصديقه، وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على تعلم أبي جاد، وتعلم تفسيرها لا يصح أيضاً، وذلك لأن هذا الحديث روي من طريقين كلاهما لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أولهما: ما ذكره ابن تيمية عليه السلام أن أبا بكر النقاش2 رواه في تفسيره وغيره من المفسرين، كما ذكره ابن جرير الطبري في آخر تفسيره ورد عليه3 فذكر أن أبا بكر النقاش روى بسنده من طريق محمد بن زياد الجزري4   1 أخرجه البخاري: (4/15) ، كتاب الشهادات. 2 هو محمد بن الحسين بن محمد بن زياد بن هارون، أبو بكر النقاش، عالم بالقرآن وتفسيره، توفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، قال الخطيب البغدادي: في أحاديثه مناكير بأسانيد مشهورة، وقال أبو القاسم اللالكائي: تفسير النقاش إشقاء الصدور، وليس بشفاء الصدور. وقال البرقاني: كل حديث النقاش منكر، وقال الذهبي: فيه ضعف. انظر: "تاريخ بغداد": (2/201) ، و"ميزان الاعتدال": (3/520) ، و"لسان الميزان": (5/132) . 3 لقد بحثت عن موضع إيراد ابن جرير الطبري الذي في مظان وجوده ولم أجده، وتصفحت الجزء التاسع والعشرين والثلاثين كلاماً ولم أجد ذلك. 4 أظنه محمد بن زياد اليشكري الجمزري الطحان، الذي يعرف بالميموني، ولعل الميم سقطت من الجمزري فيما نقله ابن تيمية. قال في أكثر الناس: إنه يضع الحديث. قال ابن حجر في "التقريب": كذبوه. انظر: "كتاب الضعفاء الصغير": (رقم 317) ، و"الضعفاء" لأبي زرعة: (2/447) ، و"تهذيب التهذيب": (9/170) ، و"التقريب": (5890) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا أبا جاد وتفسيرها، ويل لعالم جهل تفسير أبي جاد. ..) . وذكر ابن تيمية رحمه الله أن ابن جرير الطبري رحمه الله قال بعد إيراد هذا الحديث: (لو كانت الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك صحاح الأسانيد لم يعدل عن القول بها إلى غيرها، ولكنها وهبة الأسانيد غير جائز الاحتجاج بمثلها، وذلك أن محمد بن زياد الجزري غير موثوق بنقله) . وقال ابن تيمية رحمه الله بعد ذلك: (الحديث فيه فرات بن السائب وهو ضعيف لا يحتج به، وهو فرات بن أبي الفرات1 ومحمد بن زياد الجزري ضعيف أيضاً) 2. أما الطريق الثاني فقد رواه الصدوق القمي الرافضي بسنده عن الأصبغ ابن نباتة3 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا تفسير أبجد، فإن فيه   1 الذي ذكره ابن حجر والذهبي: أنهما رجلان، وفرات بن أبي فرات بصري، قال ابن معين فيه: ليس بشيء، وقال ابن عدي: الضعف يتبين على رواياته، وذكره ابن شاهين في "الضعفاء"، وقال أبو حاتم: صدوق، ووثقه ابن حبان. انظر: "الجرح والتعديل": (7/80) ، و"ميزان الاعتدال": (3/343) ، و"لسان الميزان": (4/432) . 2 انظر: "مجموعة الرسائل والمسائل": (1/384-386) . 3 هو الأصبغ بن نباتة الحنظلي المجاعشي الكوفي، قال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال عنه أيضاً: ليس بثقة، وقال ابن حمدان: متروك وقال أبو بكر بن عياش: كذاب، وقال ابن عدي: بين الضعف، وقال ابن سعد: كان شيعياً، وكان يضعف في روايته. انظر: "الضعفاء والمتروكين" للنسائي: ص156، و"الجرح والتعديل": (2/319) ، و"ميزان الاعتدال": (1/271) ، و"تهذيب التهذيب": (1/362) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الأعاجيب كلها، ويل لعالم جهل تفسيره ... ) 1. والأصبغ بن نباته لا يحتج بروايته. وقد ورد أن هذه الصناعة مأثورة عن فلاسفة اليونان، الصابئة الذي يعبدون الأوثان، فقد جعل أرسطو في آخر كتاب (السياسة) فصلاً في حساب الجمل وادعى أنه يعرف بها الغالب من المغلوب ونحو ذلك من أمور الغيب2. والذي ينبغي أن يعلم في هذا الموضع أن هذه الحروف ليست أسماء المسميات، ولا علاقة لها بمستقبل الإنسان ولا بحياته، وإنما ألفت ليعرف تأليف الأسماء من حروف المعجم بعد معرفة حروف المعجم، ثم إن كثيراً من أهل الحساب صاروا يجعلونها علامات على مراتب العدد، فيجعلون الألف واحد، والباء اثنين، والجيم ثلاثة ... وهكذا، ثم أخذ هؤلاء هذا الاصطلاح، ولفقوا عليه الأباطيل، وادعوا أنه علم، وأن به تعرف الأمور الغيبية، وربطوه بالتنجيم، لخفاء بطلان التمجيم على كثير من الناس، والعلم لا يؤخذ عن مثل هذه الظريات الفاسدة، ولا من هذه العقليات الجاهلية الباطلة، بل لابد فيه من عقد مصدق، ونقل محقق3، وهذا الذي يزعمونه ما هو إلا ادعاء علم استأثر الله به، وهذا   1 "التوحيد" لابن بابوية القمي: ص237. 2 انظر: "مقدمة ابن خلدون": ص114. 3 انظر: "مجموعة المسائل": (1/386-387) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 بلا شك من أعظم الشرك في الربوبية، ومن صدقه به واعتقد فيه كفر –والعياذ بالله-1، كما قدمت ذلك في فصل حكم التنجيم، وكما قال ابن عباس منكراً على الذين يتخذون هذه الصناعة: (إن قوماً يحسبون أبا جاد، وينظرون في النجوم، ولا أرى لمن فعل ذلك من خلاق) 2.   1 انظر: "معارج القبول": (1/326) . 2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف": (11/26) ، وابن عبد البر في "الجامع": (2/39) . وقال محمد العجمي: إسناده صحيح. انظر: "فضل علم السلف على علم الخلف": ص 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 المبحبث الثاني: الخط على الرمل، وما يلحق به، والاستدلال به على المغيبات إن هؤلاء المنجمين –الذين يعتمدون على الحدس والتخمين- استنبطوا من التنجيم صناعة، سموها خط الرمل، والواقع أنها رجم بالغيب، وسموها بهذا الاسم نسبة إلى المادة التي يستخدمونها في عملهم، وطريقة هذه الصناعة أنهم جعلوا من النقط والخطوط ستة عشر شكلاً، ميزوا كلاً منها باسم وشكل يختلف عن غيرها، وقسموها إلى سعود ونحوس وشأنهم في ذلك شأنهم في الكواكب1، ومسائل هذه الصناعة تخمينية يزعمون أنها مبنية على تجارب، ويربطونها بالنجوم، ويقولن: إن البروج الاثنى عشر يقتضي كل منها شكلاً معيناً من الأشكال التي اصطلحوا عليها، وقالوا: إنه حين السؤال عن المطلوب تقتضي أوضاع البروج قوى الشكل المعين الذي يرسمه الرمّال على الرمل، وتلك الأشكال تدل على أحكام مخصوصة تناسب أوضاع البروج2. وهذا كله ظن مبني على ظن، وتعلق بأمر غائب لا يمكن التحقق منه وكان لنبي من الأنبياء في سالف الزمان خط مخصوص أوحاه الله إليه، إلا أن علم ذلك النبي لا يعلم أحد كيفيته، وعلم هؤلاء مخالف لعلم ذلك النبي فعلم هؤلاء –كما ذكرت- مبني على علم التنجيم، والتنجيم وما بني عليه ظن وتخمين.   1 انظر: "مقدمة ابن خلدون": ص112. 2 انظر: "مفتاح دار السعادة ومصباح السيادة": (1/360) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العمل به وذلك فيما رواه الإمام أحمد في "مسنده" وغيره عن قبيصة بن المخارق1 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العيافة2 والطيرة والطرق من الجبت"3 والطرق: هو الخط على الرمل على قول4 والجبت: كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك5. كما بين عدم إدراك هذا العلم، وبطلان ما عليه الناس الذي يدعون معرفته، وذلك فيما رواه الإمام مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: ومنا رجال يخطون. قال: "كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خذه فذاك" 6. كذلك بالإضافة إلى ما قدمت من الأدلة على تحريم التنجيم، وعلى فساده، إذ أن هؤلاء بنوا أحكامهم على تأثيرات النجوم ودلالاتها المزعومة، فيكون فرعاً منه، ولا حقاً به، وآخذاً حكمه.   1 هو قبيصة بن المخارق بن عبد الله بن شداد بن معاوية الهلالي البصري، له صحبة، وقد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه، وكنيته أبو البشر. انظر: "الجرح والتعديل": (7/124) ، و"تهذيب التهذيب": (8/350) ، و"الإصابة": (3/222) . 2 يقال: عاف يعيف عيفاً، إذا زجر وحدس وظن. "النهاية": (3/330) . 3 أخرجه أبو داود: (3907) ، وأحمد: (3/477) ، وعبد الرزاق في "المصنف": (10/403) ، وحسنه النووي في "رياض الصالحين": (1667) ، وعبد القادر الأرناؤوط في "جامع الأصول": (7/639) ، وقال شعيب الأرناؤوط فيه: حيان هو: أبو العلاء، لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات. "شرح السنة": (12/177) . 4 "النهاية" لابن الأثير: (3/121) . 5 "شرح النووي على صحيح مسلم": (5/23) . 6 سبق تخريجه: ص111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 واستدل أرباب هذه الصناعة على جواز وصحة صناعتهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك" 1، قالوا: إن علم الرمل ثبت عن إدريس عليه السلام، فهو المعلم الأول، وكان علم الرمل من معجزاته2. وهذا دليل يدل على بطلان هذا العلم، وعلى تحريم هذه الصناعة، ولا يدل على إباحتها مطلقاً، حيث إن العلماء بينوا معنى هذا العلم، وباتضاح المعنى تتضح الدلالة. قال الخطابي رحمه الله بعد سرد هذا الحديث: (يحتما أن يكون معناه الزجر عنه، إذ كان من بعده لا يوافق خطه، ولا ينال حظه من الصواب، لأن ذلك إنما كان آية لذلك النبي، فليس لمن بعده أن يتعاطاه طمعاً في نيله) 3. وقال النووي رحمه الله تعالى: (اختلف العلماء في معناه، والصحيح أن معناه من وافق خطه فهو مباح له، ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يباح) . والمقصود أنه حرام، لأنه لا يباح إلا بيقين الموافقة، وليس لنا يقين بها، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن وافق خطه فذاك" ولم يقل: هو حرام بغير تعليق على الموافق لئلا يتوهم متوهم أن هذا النهي يدخل فيه ذاك النبي الذي كان يخط، فحافظ النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة ذاك النبي مع بيان الحكم في حقنا. والمعنى أن ذلك النبي لا مانع في حقه، وكذا لو علمتم موافقته، ولكن لا علم لكم بها.   1 سبق تخريجه: ص111. 2 "شرح لب الألباب": (ق2) . 3 "معالم السنن": (12/374) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وقال القاضي عياض: المختار أن من وافق خطه فذاك الذي يجدون إصابته فيما يقول، لا أنه أباح ذلك لفاعله. قال: ويحتمل أن هذا نسخ في شرعنا. ثم قال النووي: (فحصل من مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه الآن) 1. وقال ابن خلدون: ليس في الحديث دليل على مشروعية خط الرمل كما يزعمه بعض من لا تحصيل لديه، لأن معنى الحديث كان نبي يخط فيأتيه الوحي عند ذلك الخط، ولا استحالة أن يكون ذلك عادة لبعض الأنبياء، فمن وافق خطه فهو ذاك، أي: فهو صحيح من بين الخط بما عضده من الوحي لذلك النبي الذي عادته أن يأتيه الوحي عند الخط، وأما إذا أخذ ذلك من الخط مجرداً من غير موافقة وحي فلا2. وقال ابن حجر الهيثمي: (تعلم الرمل وتعليمه حرام شديد التحريم وكذا فعله لما فيه من إبهام العوام أن فاعله يشارك الله في غيبه وما استأثر بمعرفته ... والحديث المذكور في مسلم يجب أن يحل على ما يطابق القرآن، وما اتفق عليه إجماع أهل السنة، وذلك بأن يحمل على الإنكار، لا الإخبار، لأن الحديث خرج جواباً على سؤال من اعتقد علم الخط على ما اعتقدت العرب، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك من خواص علوم الأنبياء بما يقتضي الإنكار على من يتشبه به من الناس إذ هو من خصوصياتهم، ومعجزاته الدالة على النبوة، فهو كلام ظاهره الخبر، والمراد به الإنكار، ومثله في القرآن والسنة كثير.   1 "شرح النووي على صحيح مسلم": (5/23) . 2 "مقدمة ابن خلدون": ص112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 أو يحمل على أنه علق الحل بالموافقة بخط ذلك النبي، وهي غير واقعة في ظن الفاعل، إذ لا دليل عليها إلا بخبر معصوم، وذلك لم يوجد، فبقى النهي على حاله، لأنه علق الحل بشرط، ولم يوجد، وهذا أولى من الأول. أو يحمل على أنه أراد فمن وافق خطه فذاك الذي تجدون إصابته لا أنه يريد إباحة ذلك لفاعله على ما تأوله بعضهم، وهذا يدل على أنه ليس على ظاهره، وإلا لوجب لمن وافق خطه أن يعلم علم المغيبات التي كان يعلمها ذلك النبي، وأمر بها في خطه، من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم، وحينئذ يلزم مساواته له في النبوة، فلما بطل حمله له على ظاهره لزم تأويله، وعلم أن الله تعالى خص ذلك النبي عليه السلام بالخط، وجعله علامة لما يأمره به وينهاه عنه، كما جعل لنوح عليه السلام من فور التنور علامة الغرق لقومه، وفقد الحوت علامة لموسى على لقاء الخضر عليه السلام، وما في سورة الفتح علامة لنبينا صلى الله عليه وسلم على حضور أجله، ومثله كثير) 1. فتبين من كلام هؤلاء العلماء أن الحديث يدل على تحريم العمل بعلم الخط، لا على جوازه، كما يدل على بطلان طريقة الناس في علم الرمل، وفسادها، وذلك لأن الإباحة في هذا العلم معلقة بشرط لا يتحقق، فأدى ذلك إلى عدم الإباحة، فإن ذلك النبي له خط مخصوص ليس كخط هؤلاء، أوحاه الله إليه، وهو مؤيد بالوحي فيما يذكره من المغيبات، ولا سبيل إلى العلم بموافقة ذلك الخط، لأن الموافقة تقتضي العلم به، والعلم يكون بأحد طريقين:   1 انظر: "الفتاوى الحديثية": ص117-118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 أحدهما: النص الصريح الصحيح في بيان كيفية هذا العلم. والثاني: النقل المتواتر من زمن ذلك النبي إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلا الأمرين منتفٍ. فدل ذلك على بطلان ما عليه الناس من الخط على الرمل بعد ذلك النبي، وينبغي أن يعلم في هذا المقام أن الأنبياء لا يدعون علم الغيب، ولا يخبرون الناس أنهم يعلمون الغيب، وما أخبروا الناس به من الغيب إنما هو من إيحاء الله إليهم فلا ينسبونه إلى أنفسهم، كما قال الله تعالى: 1، لأن الغيب مما اختص الله بعلمه، فلا يدعيه أحد لنفسه إلا كان مدعياً لبعض خصائص الربوبية، وهذا ما يفعله أرباب هذه الصناعة، فظهر بهذا دجل هؤلاء في دعوى أن هذا النبي الكريم معلم لهم. واستدلوا أيضاً على جواز هذا العلم بقوله تعالى: 2. وقالوا: حكى عن تفسير بعضهم بأنه علم الرمل3. والجواب عن هذا الاستدلال أن الصحيح من تفسير هذه الآية أنها بمعنى (أو علم تؤثرونه عن أحد ممن قبلكم) وهذا ما ذهب إليه كثير من المفسرين كابن عباس ومجاهد وأبو بكر بن عياش4، وابن جرير الطبري   1 سورة الجن، الآيتان: 26-27. 2 سورة الأحقاف، الآية:4. 3 انظر: "شرح لب الألباب": (ق 4) . 4 هو أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي، مولاهم، الكوفي، الحناط، المقرئ، الفقيه، المحدث، مولى واصل الأحدب، اختلف في اسمه، توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة. انظر: "تاريخ بغداد": (14/371) ، و"سير أعلام النبلاء": (8/495) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وابن كثير وغيرهم1، ويؤيده ما رواه الإمام أحمد والطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس، قال سفيان: لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أو أثاره من علم" قال: الخط2. قال ابن جرير الطبري بعد سرد أقوال المفسرين: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الإثارة: البقية من علم، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب ... وإذا وجه ذلك إلى ما قلنا فيه ممن أنه بقية من علم، جاز أن تكون تلك البقية من علم الخط، ومن علم استثير من كتب الأولين، ومن خاصة علم كانوا أوثروا به، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر بأنه تأوله أنه بمعنى الخط ... فتأويل الكلام إذن: ائتوني أيها القوم بكتاب من قبل هذا الكتاب تحقيق ما سألتكم تحقيقه من الحجة على دعواكم ما تدعون لآلهتكم، أو ببقية من علم يوصل بها إلى علم صحة ما تقولون) 3. أما القول بأن المراد بها علم الرمل فهو تفسير مروي عن بعض السلف كابن عباس وأبي بكر بن عياش، قال ابن عباس في ذلك: خط كان يخطه العرب في الأرض، وقال ابن عياش: هو العيافة4.   1 انظر: "تفسير الطبري": (26/2-3) ، و"تفسير ابن كثير": (4/154) . 2 أخرجه الإمام أحمد: (1/226) ، والطبراني في "الأوسط": ص271، وصححه القرطبي في "التفسير": (16/179) ، والهيثمي في "المجمع": (7/105) ، وأحمد شاكر في تحقيقه لـ "المسند": (3/308) . 3 انظر: "تفسير الطبري": (26/3-4) . 4 المصدر نفسه: (26/2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وعلى هذا التفسير ليس في الآية دليل على جواز العمل بهذا العلم بل فيه بيان عجز المشركين، حيث إنهم لو سلكوا مسالك الأدلة بأسرها العقلية والنقلية، وعلى الخط الذي يدينون به- لأنهم أهل كهانة وزجر وعيافة- ما استطاعوا أن يثبتوا أن لآلهتهم الباطلة حق في العبادة1. قال القرطبي رحمه الله في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2: فيه بيان مسالك الأدلة بأسرها، فأولها المعقول، وهو قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} وهو احتجاج بدليل العقل في أن الجماد لا يصح أن يدعى من دون الله، فإنه لا يضر ولا ينفع، ثم قال: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} فيه بيان أدلة السمع {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} 3. وقال ابن كثير رحمه الله: "أي لا دليل لكم لا نقلياً ولا عقلياً على ذلك"، ولهذا قرأ آخرون: "أو أثرة من علم" أي أو علم صحيح تؤثرونه عن أحد ممن قبلكم) 4. ومما يدخل في علم الرمل، ويأخذ حكمه علم الأسارير وهو علم باحث عن الاستدلال بالخطوط الموجودة في الأكف والأقدام والجباه بحسب التقاطع والتباين والطول والعرض والقصر، وبحسب ما بينها من الفروج المتسعة، أو المتضايقة على أحوال الإنسان من طول الأعمار   1 انظر: "الفتاوى الحديثة": ص118. 2 سورة الأحقاف، الآية:4. 3 "تفسير القرطبي": (16/182-183) . 4 "تفسير ابن كثير": (4/154) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وقصرها، والسعادة والشقاوة، والغنى والفقر، وما شابه ذلك1. ويلحق به أيضاً ما يسمى بقراءة الفنجان، قال الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: (وقد ظهر من أقواله صلى الله عليه وسلم، ومن تقريرات الأئمة من العلماء، وفقهاء هذه الأمة، أن علم النجوم، والخط على الرمل، وما يسمى بالطالع، وقراءة الكف، وقراءة الفنجان ومعرفة الخط، وما أشبه ذلك كلها من علوم الجاهلية، ومن الشرك الذي حرمه الله ورسوله، ومن أعمالهم التي جاء الإسلام بإبطالها، والتحذير من فعلها، أو إتيان من يتعاطاها وسؤاله عن شيء منها، أو تصديقه فيما يخبر به من ذلك، لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به) 2.   1 انظر: "مفتاح السعادة ومصباح السيادة": (1/352) . 2 انظر: مجلة البحوث الإسلامية، عدد (20) ، ص7-11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الفصل الثاني: أمور ليست من التنجيم، وقد يظن أنها منه المبحث الأول: توقع حدوث الكسوف والخسوف ... المبحث الأول: توقع حدوث الكسوف والخسوف لمعرفة هذا المبحث أهمية كبيرة في التفريق بين ما يكون علماً قائماً على أصول مدروسة ثابتة، وبين ما يكون مجرد أوهام وظنون كاذبة. ولهذا التفريق أهمية في معرفة الحق من الباطل، وخصوصاً إذا علمنا أن فريقاً من المنجمين يموهون على الجهال بأمر الكسوف والخسوف، ويخبرونهم بوقته، فإذا رأوا صدقهم في هذا ظنوا أن قضاياهم وأحكامهم النجومية من السعد والنحس، والظفر والغلبة، وما شابه ذلك من جنس توقع الكسوف، فيصدقونهم بكل ما يخبرون به، ولم يعلم هؤلاء أن الإخبار عن هذا يختلف عن الإخبار عن الآخر، وأن الكسوف يعلم بحساب سير النيرين في منازلهما، فمن علم حساب ذلك علم وقت الكسوف ودوامه ومقداره وسببه، بخلاف الإخبار عن السعود والنحوس فكله حدس وتخمين1. والكسوف مأخوذ من كسف الشمس والقمر، بفتح الكاف، وكسفا بضمها وانكسفا، وخسفا، وانخسفا بمعنى، وقيل: كسفت الشمس بالكاف، وخسف القمر بالخاء2. وجمهور أهل العلم على أن الكسوف والخسوف يكون لذهاب ضوئهما كله، ويكون لذهاب بعضه3.   1 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/209) . 2 "شرح النووي على صحيح مسلم": (6/198) ، و"لسان العرب": (9/298) . 3 "شرح النووي على صحيح مسلم": (6/198) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ولهاتين الحادثتين سببان: سبب كوني، وسبب شرعي. أما السبب الكوني لكسوف الشمس فهو توسط القمر بين جرم الشمس وبين أبصارنا، إذ إن القمر جسم كثيف مظلم يستمد ضوءه من الشمس فإذا وقع بين أبصارنا وبين ضوء الشمس حجب نور الشمس عنا، ويحدث ذلك عند تقاطع مدار القمر مع دائرة البروج، فتتولد عقدتان حينئذ، فإذا كان القمر باتجاه إحدى العقدتين أو قريباً من أحدهما، وكان محدباً لموضع الشمس من البرج والدرجة – ولا يكون ذلك إلا في آخر الشهر، لأنه الوقت الذي يكون القمر فيه محاذياً للشمس –وقع القمر بين الشمس والأرض، فحال بيننا وبين نور الشمس، فتكون الشمس منكسفة حينئذ1. وأما سبب خسوف القمر الكوني فهو توسط الأرض بينه وبين الشمس حتى يصير القمر ممنوعاً من اكتساب النور من الشمس، ويبقى ظلام ظل الأرض في ممره2. وللكسوف والخسوف أوقات معلومة مقدمة بالحساب، كما أن للهلال وقتاً مقدراً يظهر فيه، وكما أن لليل والنهار، والشتاء، والصيف، وسائر ما يتبع جريان الشمس والقمر وقتاً مقدراً كذلك3. فالكسوف لا يكون إلا في آخر الشهر ليالي الإسرار، والخسوف   1 انظر: "رسائل إخوان الصفا": (1/121، 122) ، و"مفتاح دار السعادة": (2/206-207) ، و"علم الفلك" لمحمد رضا مندور: ص435-415. 2 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/207) ، و"شرح اللمعة في حل الكواكب السبعة": (ق 64/أ) . 3 انظر: "مجموع الفتاوى المصرية": (1/330) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 لا يكون إلا في وسط الشهر ليالي الإبدار. ووقت إبدار القمر في ليالي الأيام البيض ليلة الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فالقمر لا يخسف إلى في هذه الليالي. والهلال يستسر آخر الشهر إما ليلة أو ليلتين كما يستسر ليلة تسع وعشرين وثلاثين، والشمس لا تكسف إلى وقت استسراره1. وحتى يمكن معرفة وقت الكسوفين بالتحديد لا بد من معرفة حساب المثلثات الذي يستخرج به مسائل علم الفلك الكروي، وبه يعرف كون القمر في إحدى تقاطع المدارين أو قريباً منها2، ومن الأدلة على أن جريان الشمس والقمر يدرك بالحساب قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 3، وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} 4، وقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 5. والسبب الثاني ف بحادثتي الكسوف والخسوف هو السبب الشرعي، وهو أنهما سبب لنزول عذاب بالناس فيلتجئ الناس إلى ربهم بالصلاة   1 المصدر نفسه. 2 انظر: "تقويم الأوقات": ص18. 3 سورة الأنبياء، الآية: 33. 4 سورة يونس، الآية: 5. 5 سورة يس، الآيات: 37-40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 والدعاء لدفع موجب الكسوفين، ويدل على ذلك: ما رواه البخاري عن أبي بكرة1 رضي الله عنه قالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم" 2. وما رواه البخاري أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموهما فصلوا" 3. وما رواه البخاري أيضاً عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله" 4. وما رواه البخاري أيضاً عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده" 5. فالله سبحانه إنما يخوف عباده بما يخوفونه إذا عصوه، وإنما يخاف   1 هو نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو الثقفي البصري، وقيل: نفيع بن مسروح، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، تدلى في حصار الطائف ببكرة، وفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم على يده وأعلمه أنه عبد فأعتقه، توفي سنة إحدى وخمسين. انظر: "سير أعلام النبلاء": (3/5) ، و"البداية والنهاية": (8/59) ، و"الإصابة": (3/571) . 2 أخرجه البخاري: (2/87) ، كتاب الكسوف. 3 أخرجه البخاري: (2/87) ، كتاب الكسوف. 4 أخرجه البخاري: (2/87) ، كتاب الكسوف. 5 أخرجه البخاري: (2/90) ، كتاب الكسوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الناس مما يضرهم، فلولا إمكان صول الضرر بالناس عند الكسوفين ما كان ذلك تخويفاً1 كما قال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} 2، لهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عند حدوث أحد الكسوفين بالفزع إلى ذكر الله والصلاة والدعاء والصدقة وغيرها من الطاعات، لأن هذه الأشياء تدفع موجب الكسوف الذي جعله الله سبباً لما جعله، فلولا انعقاد سبب التخويف لما أمر بدفع موجبه بهذه العبادات3. فمن هذا يتبين أن الكسوفين قد يكونان سبباً لحلول عذاب أو نزول بلاء بالناس، ويقتصر أثر الكسوف على هذا لدلالة النصوص عليه، ولا ينبغي أن يتعدى إلى غير هذا الأثر، إذ إن الحديث ورد في إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الحوادث الأرضية. قال الخطابي رحمه الله: (كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله، ليس لهما سلطان في غيرهما، ولا قدرة لهما على الدفع عن أنفسهما) 4. ولا تعارض من كون الكسوف والخسوف آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده، ويبين أن يكون لهما وقت محدد يعرف بالحساب، لأمرين: الأمر الأول: أن الأحاديث الماضية ليس فيها إلا نفي تأثير الكسوف في الموت والحياة على أحد القولين، أو نفي تأثير النيرين بموت أحد أو   1 "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/322) . 2 سورة الإسراء، الآية: 59. 3 "مفتاح دار السعادة": (2/209-210) . 4 "أعلام الحديث" للخطابي: (1/610) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 حياته على القول الآخر، وليس فيه تعرض لإبطال حساب الكسوف، ولا الإخبار بأنه الذي لا يعلمه إلا الله1. الأمر الثاني: أن الكسوف إذا كان له أجل مسمى لم يناف ذلك أن يكون عند أجله يجعله الله سبباً لما يقتضيه من عذاب وغيره لمن يعذب الله في ذلك الوقت، كما أن تعذيب الله لمن عذبه بالريح الشديدة الباردة –كقوم عاد- كان في آخر الشتاء2. وما رواه البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة3 في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سري عنه4 فعرفته عائشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وما أدري لعله كما قال قوم: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ... } الآية"5. وكذلك الأوقات التي ينزل الله فيها الرحمة كالعشر الأواخر من رمضان والأولى من ذي الحجة، وكجوف الليل وغير ذلك، هي أوقات محددة لا تتقدم ولا تتأخر، وينزل فيها من الرحمة ما لا ينزل في غيرها6. ولا يلزم ممن يخبر بالكسوف والخسوف أن يكون مصيباً في جميع   1 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/213) . 2 انظر: "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/329) . 3 المخيلة: موضع الخيل، والمراد هنا السحابة الخليقة بالمطر. انظر: "النهاية ": (2/93) . 4 أي: كشف عنه الخوف. المصدر نفسه: (2/364) . 5 أخرجه البخاري: (4/227) ، كتاب بدء الخوف. والآية (24) من سورة الأحقاف. 6 "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/329) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 الأوقات، بل قد يخطئ في حسابه، ولا يلزم تصديقه على كل حال، كما قدمت الكلام عن هذا في فصل حكم تعلم علم الفلك. فمن هذا نجد أن الكسوف والخسوف ليالي معتادة جرت بها سنة الله الكونية من عرف جريان النيرين عرفها كما أن من علم كم مضى من الشهر علم أن الهلال يطلع في الليلة الفلانية، لكن العلم بالعادة في الهلال علم مشترك عام بين جميع الناس، أما العلم بالعادة في الكسوف والخسوف فإنما يعرفه من يعرف حساب جريان النيرين، وليس خبر الحاسب بذلك من باب علم الغيب، ولا من باب ما يخبر به من الأحكام التي يكون كذب القائل لها أعظم من صدقه1 إلا أن بعض العلماء ذهب إلى تأديب من يخبر بذلك إذا كان إخباره يدخل الشك على العوام، ويشوش عقائدهم، ويزلزل قواعدهم في اليقين2.   1 انظر: "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/321) . 2 انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي: (2/839) ، و"الفتاوى الحديثية": (282) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 المبحث الثاني: توقع حالة الجو للمنجمين طريقة في الإخبار عن حالة الجو تختلف عن طريق علماء الأرصاد الجوية، وهي أنهم قسموا البروج إلى هوائية، وترابية، ومائية، ونارية، ويحدد المنجم حالة الجو بحسب وقوع النجم الطالع في أحد أنواع هذه البروج الأربعة ومناظرة الكواكب له مناظرة معينة زعموا أن وقوع الطالع في برج هوائي مثلاً يدل على الرياح ونحو ذلك، وفي المائي على الرطوبة والأمطار ونحو ذلك ... وهكذا1. وهذا ليس من جنس الاستدلال من انتقال الشمس في البروج الفلكية على الفصول الأربعة وعلى أوقات الحر والبر والأمطار والرياح –كما يفعله العرب- الذي يدخل في علم التسيير الذي قدمت القول بجوازه في فصل حكم تعلم علم الفلك، بل هذا يعتمد على الوهم والظن والكذب، فمن أين لهم تقسيم البروج إلى هذه الأقسام الأربعة؟ بالإضافة إلى ذلك فهم يجزمون بنزول الأمطار، أو بمجيء ريح أو نحو ذلك، إذا استدلوا بترهاتهم هذه على شيء من ذلك. وتوقع حالة الجو –كما هو معروف اليوم- يجب أن يسلم من هذه الادعاءات، حتى يكون القول به جائزاً، إذ إن الله تعالى هو المتفرد بعلم الغيب والجزم بوقوع شيء غائب على سبيل التحقيق من ادعاء علم الغيب الذي نهى الله عنه، كما قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا   1 انظر: "كتاب الأحكام" لابن الفرخان: (ق26/ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 1. وما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم أحد ما يكون في غد، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما يدري أحد متى يجيء المطر" 2. قال ابن العربي3 رحمه الله: (من انتظر المطر من الأنواء على أنها فاعلة له دون الله فهو كافر، ومن اعتقد أنها فاعلة بما جعل الله فيها فهو أيضاً كافر، لأنه لا يصح أن يكون الخلق والأمر إلا الله، كما قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 4، ومن انتظرها، وتوقع المطر منها على أنها عادة أجراها الله فلا شيء عليه فإن الله قد أجرى العوائد على السحاب والرياح والأمطار بمعاني تربت في الخلقة وجاء على نسق في العادة) 5. وقال القرطبي رحمه الله: (قال علماؤنا: أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتاب الله، إلا من اصطفى من عباده فمن قال: إنه   1 سورة الأنعام، الآية: 59. 2 سبق تخريجه: ص260. 3 هو محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، أبو بكر بن العربي من حفاظ الحديث صنف كتباً فيه، وفي الفقه والأصول والتفسير والأدب والتاريخ، وولي قضاء إشبيلية، توفي سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. انظر: "وفيات الأعيان": (4/296) ، و"الديباج المذهب": (2/252) . 4 سورة الأعراف، الآية: 54. 5 "القبس": (1/45/أ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ينزل الغيث غداً وجزم به فهو كافر، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا) 1، فمن هذا يتضح أن من أخبر عن نزول المطر أنها غداً أو بعد غد أو نحو ذلك وجزم به فهو كافر، لادعائه لعلم استأثر الله به، أما إذا لم يجزم بذلك، وجعل هذا الحكم بحسب العادة والتجربة فلا يكفر ولا يفسق، بل يجوز ذلك، لأن الله تعالى أجرى العوائد، وجعل لبعض المغيبات علامات تدل عليها والذي يدل على جوازه ما يأتي: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 2. وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} 3، وقوله: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 5. قال القرطبي رحمه الله: (أي: الرياح تبشر بالمطر) 6. وقال ابن كثير رحمه الله: (يذكر تعالى نعمه على خلقه في إرسال الرياح   1 "تفسير القرطبي": (7/2) . 2 سورة الأعراف، الآية: 57. 3 سورة الفرقان، الآية: 48. 4 سورة النمل، الآية: 63. 5 سورة الروم، الآية: 46. 6 "تفسير القرطبي": (7/229) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 مبشرات بين يدي رحمته بمجيء الغيث عقبها) 1. فمن هذا يتضح أن هذه الآيات تدل على جواز توقع حالة الجو من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أالذي تحصل له البشرى بالمطر يكون عالماً بأنواع الرياح، فليس كل نوع منها يكون مبشراً بالمطر. الوجه الثاني: أن الله تعالى جعل هذا النوع من الرياح علامة على المطر، وأرشدنا إلى ذلك. وما رواه البيهقي رحمه الله وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه حين استسقى به: يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم بقي من نوء الثريا؟ فقال العباس: العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعاً بعد سقوطها، فما مضت سابعة حتى مطروا، فقال عمر: الحمد لله هذا بفضل الله ورحمته2. قال القرطبي رحمه الله تعالى: (وكأن عمر رضي الله عنه قد علم أن نوء الثريا وقت يرجى فيه المطر ويؤمل3 فسأله عنه: أخرج أم بقيت منه بقية؟) 4.   1 "تفسير ابن كثير": (3/436) . 2 سبق تخريجه: ص157. 3 الصحيح أن الوقت الذي يتوقع فيه المطر بعد انقضاء نوء الثريا هو نوء الدبران، وليس في نوء الثريا نفسه، وهذا الذي ورد أثر عمر رضي الله عنه به. 4 "تفسير القرطبي": (17/230) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 والعرب قديماً كانوا يستدلون على الأمطار بعلامات معروفه عندهم بحسب ما اعتادوا من ذلك. منها: أنهم كانوا يستدلون على المطر بعلامات فيه، كأن يكون السحاب ناشئاً من العين، والعين ناحية القبلة1. أو تشتد الحمرة جداً في السحاب المخيل المتكاثف2. وكذلك إذا كان السحاب أبيض يبرق بضوء قالوا: إن ذلك دليل على مائة، وإذا كانت السحاب نمرة فهي مخيلة للمطر، والنمرة التي ترى سحابها صفاراً ينأى بعضه من بعض، وإذا كان السحاب بطيئاً في سيره استدلوا به على كثرة مائة3. كما عرف العرب الرياح وأماكن مهابها واتجاهاتها، والتي تسوق السحاب، والتي تفرقه بحسب ما اعتادوا، وقسموا أمهات الريا إلى أربعة أقسام: الشمال، والجنوب، والصبا، والدبور. الشمال مهبها من كرسي بنات نعش4 إلى مغرب الشمس صيفاً أي من جهة الشمال، وكانت العرب تكرهها لبردها، ولعدم نزول الأمطار في أوقاتها، والجنوب مهبها من مطلع سهيل5 إلى مطلع الشمس شتاء أي من جهة الجنوب، والصبا مهبها من مطلع الشمس إلى مطلع العيوق أي من جهة المشرق، والسحاب، ويجيء فيها المطر عادة، وأما الدبور فمهبها   1 انظر: "كتاب الأنواء في مواسم العرب": ص170. 2 انظر: المصدر السابق: ص179-180. 3 انظر: المصدر نفسه: ص172-174. 4 من الكواكب الشامية، وهي أقرب مشاهير الكواكب إلى القطب. "الأنواء في مواسم العرب": ص146. 5 كوكب يمان. "الأنواء في مواسم العرب": ص152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 من مغرب الشمس إلى مطلع سهيل أي من ناحية الغرب1 وتفصيل ذلك مبسوط في كتب الأنواء، ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد، والمقصود هنا أن العرب عرفوا ذلك بحسب ما اعتادوا من أحوالها. أما في العصر الحاضر فاختلفت العلامات التي يعتمد عليها أرباب الأرصاد في الإخبار عن حالة الجو. فأصبحت أخبارهم مبنية على مقدمات حسية تصل إليهم من المناطق المجاورة لهم، بالإضافة إلى نظريات فيزيائية وحسابية يعتمدون عليها، ويستطيعون من خلالها توقع حالة الجو خلال مدة زمنية بسيطة قادمة. يقول الشيخ عبد الله الغنيمان حفظه الله: (وأما الإخبار عما يسمى "بالطقس" أحوال الجو من أمطار، أو رياح أو غيوم أو صحو أو غير ذلك، فخي توقعات مبنية على مقدمات مستفادة من مراصد الأحوال الجوية التي تتأثر بالرطوبة واليبوسة ونحو ذلك، ولهذا كثيراً ما يكون الأمر على خلاف ما قالوا) 2. وطريقتهم باختصار في توقع أحوال جو منطقة ما، خلال يوم قادم أو يومين، تقوم على دراسة خريطة شاملة لجميع أحوال جو منطقة كبيرة محيطة بهذه المنطقة، ويرتبط حجمها بالفترة الزمنية التي يتناولها الرصد الجوي، ويتعين في هذه الخريطة الكتل الهوائية المختلفة، والجبهات الهوائية، وترتيب ووضع وخواص حركة الرياح وتحديد نسبة وكثافة السحب المنتشرة، وتوزيع درجات الحرارة، ومناطق الانخفاضات   1 انظر: "الأنواء في مواسم العرب": ص158-169، و"نهاية الأرب": (1/96-97) ، و"بلوغ الأرب": (3/360-361) . 2 "شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري": (1/112) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 والارتفاعات الجوية، وبقية المعلومات الجوية الأخرى المتعلقة بظروف الدورة الهوائية1. ولهذا الغرض تقوم شبكة من محطات الأرصاد الجوية المنتشرة على مدى مساة شاسعة ومحدودة بمراقبة الأوضاع الجوية، مرسلة المعلومات والنتائج بشكل دوري منتظم عبر وسائل حديثة، وأجهزة مختصة إلى مراكز بث النشرات الجوية، ثم تعمل هذه المراكز على توحيد التقارير واختزالها إلى رسائل جماعية تبث حسب البرامج المقررة، وتتلقاها مراكز توقع الجو في كافة أنحاء العالم2. وتتكون معرفة أحوال الجو في المناطق المحيطة بمعرفة خواص الظروف الجوية –آنفة الذكر- ومقدارها واتجاهاتها. فمن خواص الظروف الجوية-مثلاً- الكتلة الهوائية وهي ما تشابه من الهواء المنتشر على مدى مساحة شاسعة في الخواص والمميزات3. وتعرف خواصها وسماتها من مكوثها لبضعة أيام فوق منطقة ذات صفات مناخية معينة، مثل الصحراء أو المحيط المداري أو المناطق القطبية، وتسمى بالمنطقة المصدر، وتغادر الكتلة الهوائية هذه المنطقة وهي تحمل صفات مناخها تقريباً إلى المنطقة التي ستحط رحالها فيها. وانطلاقاً من خطوط العرض الخاصة بالمنطقة يمكن وصف الكتلة الهوائية بالاستوائية أو المدارية أو القطبية الشمالية أو القطبية ولكل نوع   1 انظر: "كتاب الطقس": ص96، و"كتاب الطقس والمناخ والأرصاد الجوي": ص196. 2 "كتاب الطقس": ص74-75. 3 "كتاب الطقس": ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 من أنواع هذه الكتب مميزات نختلف عن الأخرى، فالكتلة الهوائية القطبية –مثلاً- تتميز بالبرودة في الصيف، والبرودة في الشتاء.. وهكذا، وتتأثر هذه الكتل بالمناطق التي تمر عليها، وبحسب هذه المنطقة تتغير بعض مميزات هذه الكتلة الهوائية، فالكتلة الهوائية الشمالية –مثلاً- إذا وصلت أوروبا الغربية من الجهة الشمالية تصبح مضطربة وغير مستقرة، وذلك لمرورها فوق البحر الدافيء نسبياًّ، فتتسم عندئذ بالأمطار وبالشتاء المثلج، أما إذا اتبعت ممراً فوق روسيا فإنها تصبح جافة وفي الشتاء قاسية البرد1. وبعد جمع هذه المعلومات من مراكز النشرات الجوية ووضع تقديرات لكيفية احتمال تحركها، وموها طيلة الفترة التي يلحقها التوقع بالحالة الجوية، يقوم المسئول عن توقع أحوال الجو بتعيين حالة الجو بعوارضه من أمطار، وضباب، وغيوم، وجليد، وما شابه ذلك، وربطها بأنظمة مسلسل الخرائط الشاملة، ويتولى المسبار اللاسلكي2 مهمة القيام بتقديم المعلومات حول درجة الحرارة والرطوبة في الهواء، وقبل أن يقوم المتوقع لحالة الجو بهذه العملية يجب عليه أن يأخذ بعين الاعتبار أموراً تساعده على القيام بمهمته، منها معرفة الرطوبة في الجو، وهو مهم لتوقع هطول الأمطار المقبلة إذ إن المحتوى الكافي من النداوة في الهواء3 دليل على نزول الأمطار في العادة.   1 انظر: المصدر نفسه. 2 هو عبارة عن جهاز بث لا سلكي، صغير الحجم، مؤلف من ثلاث دارات متصلة بأجهزة حساسة تتأثر بالحرارة والرطوبة والضغط. انظر: المصدر نفسه: ص19. 3 انظر: المصدر نفسه: ص96-97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 كما أن لمعرفة الضغط أهمية في معرفة اتجاه الرياح، فالرياح تكون متجهة عادة نحو الضغط الأكثر انخفاضات1. ويجب عليه أيضاً دراسة أشكال الغيوم، فلكل شكل من أشكاله دلالة على طقس معين2 وغير هذه الأمور. والتوقع بحالة الجو ليس بالأمر المؤكد الذي لا يطرأ عليه الخطأ، بل هو توقع قائم على دراسات سابقة قد يثيب وقد يخطئ، كتوقع السائق إذا سار بمركوبة من منطقة إلى أخرى أنه سيصل في الساعة الفلانية بناء على دراسة سابقة لمسافة الطريق، ولمتوسط سرعته، ولما سيقابله ... وهكذا. فهذا التوقع قد يصيب في توقعه، وقد يجد ما يعيقه عن الوصول، لذلك نجد بعض علمائهم يصرح بأن هذه التوقعات قائمة على دراسات وحسابات خاصة قد تصيب وقد تخطيء. يقول صاحب كتاب علم المناخ: (يجب أن لا ننسى أن الظروف المحلية التي تعترض مسير المنخفضات ... قد تؤثر لحد بعيد على الطريق الذي تسلكه هذه المنخفضات وعلى تطورها، ولهذا نلاحظ أن المعلومات القائمة على دراسة الطقس في مكان واحد لا يمكن أن يكون لها أكثر من قيمة محدودة جداًّ، والتنبؤ3 عن الطقس بالنسبة لمدى بعيد ليس له اليوم إلا صفة غامضة غير مؤكدة) 4.   1 انظر: المصدر نفسه: ص79. 2 انظر: "كتاب علم المناخ": ص256. 3 يكثر استعمال هؤلاء لهذه الكلمة، واستعمالها في هذا الموضع خطأ، إذ إن تنبأ بمعنى ادعى النبوة كذباً، وتطلق أيضاً على الكاذب في خبره. انظر: "الصحاح": (1/74) ، و"لسان العرب": (1/163) ، والأولى أن يعبر بتوقع. 4 "كتاب علم المناخ": ص259، صاحبه هو: عبد الرحمن حميدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ويقول صاحب كتاب الطقس والمناخ والأرصاد الجوية: (وتعتبر عملية التنبؤ الجوي من المسائل المعقدة التي تحتاج إلى تحليلات دقيقة لخرائط الأنواء، وخبرة علمية واسعة في هذا المضمار، بالرغم من بساطة وسهولة بعض الظواهر الجوية المرصدة، وعلى ذلك فقد تظهر بعض الأخطاء الطفيفة في عملية التنبؤ عن حالة الجو القادمة، وقد تظهر أحياناً أخطاء كبيرة خلال التنبؤ الجوي للفترات القصيرة القادمة) 1.   1 "كتاب الطقس والمناخ والأرصاد الجوي": ص199، وصاحبه هو: خروموف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الخاتمة: وبعد أن سهل الله علي تمام المبحث أحمد الله أولاً وآخراً على ذلك. وأسأله العفو والمغفرة إن حصل مني خطأ أو تقصير، وألخص أهم النتائج التي توصلت ليها من خلال كتابتي لهذا البحث فيما يلي: 1- أن صناعة التنجيم تتضمن معرفة أحكام النجوم وتأثيراتها في حوادث العالم السفلي كما يزعمون المنجمون. 2- أن اعتقاد أن السعود والنحوس والخير والشر من الكواكب من أعظم الأسباب المفضية إلى عبادتها، واتخاذها أرباباً من دون الله. 3- أن إبراهيم عليه السلام كان مناظراً لقومه، محتجاً عليهم، مستدلاً بالأدلة العقلية على فساد عبادتها في قول الله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً} 1، ولم يكن يعتقد أنها رب كما يزعم الزاعمون. 4- أن معنى قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ... } 2 تفكر إبراهيم ليدبر حجة، ولم يكن اعتقاداً من إبراهيم عليه السلام بصناعة التنجيم. 5- أن ادعاء أن علم أحكام النجوم المزعوم من علوم الأنبياء ادعاء باطل لا يقوم على دليل، وكل من ادعى ذلك تناقض مع نفسه. 6- أن التنجيم انتشر بين المسلمين لما فتح بعض الخلفاء العباسيين باب ترجمة تكتب الفلاسفة، فدخل التنجيم على أيدي طوائف متعددة من أعداء الإسلام.   1 سورة الأنعام، الآية: 76. 2 سورة الصافات، الآية: 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 7- أن الرافضة شاركوا في نشر التنجيم بجميع الوسائل، وتنوعت أساليبهم في غرس هذه العقيدة في قلوب الناس. 8- أن التنجيم في العصر الحاضر اتخذ وسائل متنوعة وأشكالاً مختلفة ساعدت على انتشاره بين الناس، وأرباب هذه الصناعة اليوم يسلكون طريق التمويه والخداع حتى يتمكنوا من ابتزاز أموال الناس بالباطل. 9- أن انتشار مثل هذه الصناعة في أوساط الناس دال على سخافة عقولهم وسوء معتقدهم، إذ إنهم يروجون لصدق المنجم وإن لم يكن صدقه إلا مرة، ويتغاضون عن كذبه وإن بلغ آلاف المرات. 10- أن صناعة التنجيم صناعة باطلة قائمة على الحدس والتخمين، بشهادة كبار المنجمين على ذلك، وبحكم بعضهم على بعض بفساد الصناعة، وبظهور كذبهم في كل ما يجمعون عليه بظهور خلافه، وبالأدلة الأخرى الدالة على فساد هذه الصناعة. 11- أن موافقة خبر المنجم للواقع أحياناً ليس لكون الكواكب تدل على ذلك. وإنما هو لأحد أمور خمسة: الأمر الأول: إخبار الشياطين لهم بذلك عن طريق السمع أو القرين. الأمر الثاني: موافقة أخبارهم قدراً قدره الله. الأمر الثالث: استغلال علم من العلوم الكونية أو الفلكية بتوقع حصول بعض الأمور، كالكسوف والخسوف ونحوها، والتلبيس به على كثير من العامة. الأمر الرابع: نقل بعض الأخبار الواردة في الكتب السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 الأمر الخامس: تأليف قصة كذباً وبهتاناً بعد وقوع حادثة ما مفادها أن المنجم أخبر بذلك. 12- أن المنجم كافر سواء اعتقد أن الكواكب مدبرة للكون، أو اعتقد أنها دلالات على المغيبات، فكفر الأول لادعائه أنه يشارك الله في علم الغيب الذي استأثر الله به. 13- أن حادثتي الكسوف والخسوف يمكن أن تعلم بحساب النيرين، كما يعلم طلوع الهلال والبدر بحسابهما. 14- أن توقع حالة الجو قائم على دراسة معينة، وبواسطة آلات خاصة بذلك، وهذه التوقعات قد تصيب وقد تخطيء، وهي ليست من جنس أخبار المنجمين. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351