الكتاب: الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام و الجزيرة المؤلف: ابن شداد، عز الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن إبراهيم الأنصاري الحلبي (المتوفى: 684هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة عز الدين ابن شداد الكتاب: الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام و الجزيرة المؤلف: ابن شداد، عز الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن إبراهيم الأنصاري الحلبي (المتوفى: 684هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي يقول العبد الفقير إلى الله تعالى الغني به محمّد بن علي بن إبراهيم بن شدّاد بن خليفة بن شدّاد بن إبراهيم بن شدّاد: الحمد لله الَذي قصّ من أنباء الرسل ما ثبت به فؤاد رسوله وتلا عليه من أخبار الأمم ما بلغ به تصديقه غاية سؤاله جاعل الأيام دولاً والأنام ملوكاً وخولاً وملبس الزمان من تقلّب الدول قشيباً وسملاً محي الأموات ومميت الأحياء ومقدّر الأقوات ومجري الماء أحمده على تصرّف الأقدار وأشكره على تعاقب الأعصار وأصلّي على نبيه المبعوث بتغيير الملل وإقامة الدين ورفع منار الحق وقمع أباطيل الملحدين وعلى آله وصحبه الذين نسخوا ظلام الكفر بضياء الإيمان وجاهدوا في الله حق جهاده حتى علا دينه على سائر الأديان صلاةً زاكيةً دائمةً ما اختلف الملوان. وبعد فإنه لما حللت بمصر المحروسة وتبوّأتُ محالها المأنوسة وشملني من أنعام مولانا السلطان السيد الأجل المجاهد المابط رافع كلمة الإيمان وقامع عبدة الصلبان ملك العصاة الإسلامية حامي حوزة الملّة الحنفية إسكندر الزمان والبلاد الجزرية خادم الحَرمين الشريفين القائم بمتابعة الخليفتين مقر الإِسلام في نصابه ومعيد رونق الخلافة العباسية بعد مضيّه وذهابه الملك الظاهر الطاهر المقاصد الباهر المفاخر ركن الدين أبي الفتح بيبرس قسيم أمير المؤمنين لا زالت ألويتهُ في الخافقَّين خافقة وسوابق جياده إلى ديار أعدائه لعزماته سابقة ومواقفه لما يرضي الله ويعزّ الدين موافقة ولا برح النصر مفروناً بأعلامه والدوام مصاحباً لأيامه والدهر مصرّفاً بين نقضه وإبرامه ما يعجز البليغ عن حصره ويستقي الطاقة في نشره ولا يبلغ كنه قدره. ورتعت في أنعامه بين روضة وغدير ورفلتُ من ملابس إحسانه فيما دونه الحرير وصاحبتُ زماني طلق المحياّ بعد عبوسه وعاد إليَّ معتذراً مما كان قد أخنى عليَّ من بؤسه وكان السبب في نجعتي عن بلاد بها عقّ تمائمي الشباب وفيها اتخذتُ الإخوان والأصحاب وقضيتُ الأوطار مع اللدات والأتراب ما لا ينسى ذكره على مرور الأيام ولا يبرح مكرّرّا بأفواه المحابر وألسن الأقلام من دخول التتر الخذولين البلاد وتفرقتهم بجموعهم لشمل من سكنها من العباد رأيت انتهاز الفرصة في شكر إنعامه العميم وإدراك البغية في وصف إكرامه الجسيم أن أضع كتاباً أذكر فيه ما سنى الله له من الفتوحات التي لم تكن تتوهمها الأطماع وملَّكه ما كان بأيدي الكفر من منيعات الحصون والقلاع وما وطئته سنابك خيوله واسترجعتْه مواضي لهاذمه ونصوله من البلاد التي يئست الأطماع من ردها وألزمت العيون مداومة سهدها وجرعت النفوس الصبر بعد شهدها مفصّلاً كل جند من أجناد الشام والجزيرة بأعماله وحدوده ومكانه من المعمور وأطواله وعروضه ومطالع سعوده ملتزماً في كل بلد ذكر من وليه من أوّل الفتوح وإلى الوقت الذي فُرغ فيه هذا الكتاب وأجري في ذلك طلق جهدي معتمداً فيه على ما صح عندي ولا أدعي الإحاطة فيما ذكرتُ ولا أقول إني أحرزتُ الغاية وما قصرتُ عن إدراكها بل جعلتُه دستوراً يسترجع به عارب الإنس ويُستفادُ منه ما حدث باليوم والأمس وأبدأ بذكر جند حلب لكونها مسقط رأسي ومحل أنسي وناسي وثدي الذي ارتضعتُ دَرَّه ويجري الذي تقلد نحري دُرّه وموضع نزهتي ووطني وبقعتي والمكان الذي حمدتُ به الأيام والمنزل الذي كنتُ به من الحوادث في ذمام والدار التي صحبتُ بها الشباب غضاٍّ جديداً وقطعتُ فيها بالدعة والسرور عيشاً حميداً وعاشرتُ من لم يزل للمحفل صدراً وللجحفل قلباً وعند النائبات " شعر ": أُحبُّ رُبّى فيها رُبيتُ مُكرَّماً ... وَيُعْجِبُني كُثْبانُها وَهِضابُها بِلادٌ بِها عَقَّ الشَبابُ تَمائِمي ... وَأَوَّلُ أرْضٍ مَسَّ جِسْمي تُرابَها ولله قول ابن الرومي حيث أفصح عن السبب في حب الأوطان والتأسف علي القطّان " شعر " وَحَبَّبَ أوْطانَ الرِجالِ إلَيْهِمُ ... مآرِبُ قَضّاها الشَبابث هُنالِكا إذا ذَكَروا أَوْطانَهُمْ ذَكَّرْتُهمُ ... عُهودَ الصِبا فيها فَحَنّوا لِذالكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وقد جاء في المنقول: حبّ الوطن من الإيمان. وعن علي كرّم الله وجهه: عمرت الدنيا بحب الأوطان. وعن إبراهيم بن أدهم رضه أنه قال: ما عالجت شيئاً أشدّ من منازعة النفس للوطن. وقال عبد الملك بن قريب الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحببه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكاؤه على ما مضى من زمانه. ولولا ما عمتني من الإحسان الظاهري وأصّله الله تع ما أسلى عنها لذهبت نفسي شعاعاً لفقدها ولم تهنني الأيام من بعدها. لكن في إنعامه ما يُسلي الغريب عن أوطانه ويُعيد للمرء في أيّام المشيب شرخ شبابه وقديم زمانه فالله تع يعضده بالملائكة المقرّبين ويبقي دولته على تعاقب الأيّام والسنين وأَتوخّى في ترتيب ذلك أيّام الخلفاء الراشدين ومن خلفهم من بني أميّة والعبّاسييّن وعندما تمّ كتابي وكمل وارتدى بالفوائد واشتمل وسمّيتُه بالأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة راجياً أن يكون مرهفاً لغرمات من وُضع له وإن كانت مستغنيةً عن الأرهاف وسميراً يغنيه في أوقات خلواته عن ذي الإكرام والجلال مستوهباً منه موادّ التوفيق والإفضال إذ لا حول إلاّ به ولا معوّل إلاّ عليه ولا قوة إلاّ منه سائلاً من وقف على ما جمعتُه ولفقتُه ووضعتُه ونمقتُه من ذوي الأخذ والنقد وأولى الحلّ في المعارف والعقد إصلاح ما يرى فيه ممّا لا يقبله التمييز ويرتضيه من تقصير في العبارة أو تطويل في مكان الإشارة أو خلل وقع في الترتيب أو زلل أخلّ به مقتضى التهذيب ملتمساً منه أن يسبل عليه ستر المسامحة عالماً أنّ الاعتداد إنّما هو بالنيّة الصالحة متيقنّاً أن التأريخ معرض للتصديق والتكذيب وأنّ واضعه سائق نفسه إلى التعنيف والتثريب والله تع أسأل غفراً وآمل ستراً وأرغب أن يشرح لي صدراً ويبدل عسري يسراً وأصدر القول بالأهمّ من تكميل غرضي في هذا الكتاب وهو أربعة مقاصد. المقصد الأوّل في ذكر الشام واشتقاق اسمه حكى أبو الحسين أحمد بن فارس في كتاب اشتقاق أسماء البلاد قال: الشام فعل من اليد الشؤمي وهي اليسرى. يقال أخذ شأمةً أي على يساره وشأمت القوم ذهبت على شمالهم. وقال قوم: هو من مشؤوم الإبل وهي سودها وحضارها هي البيض. قال أبو ذؤيب: فما تُشْتَرى إلاّ بِرِبْحٍ سِباؤُها ... بَناتُ المَخاضِ شُؤْمُها وَحِضارُها وفي كتاب الله عزّ وجلّ في المعنى الأوّل) وَأَصْحابُ المَشْأَمَةِ (. قال الأعشى: عَلى أَثَرِ الأَدِلَّةِ وَالبُعايا ... وَخَفْقِ الناعِجاتِ مِنَ الشآمِ وقال أبو بكر محمّد " بن " القاسم الأنباريّ: في اشتقاق اسم الشأم وجهان أحدهما يجوز أن يكون مأخوذاً من اليد الشؤمى وهي اليسرى. قال الشاعر: وَأَنْجى عَلى شُؤْمَى يَدَيْهِ فَرادَها ... بأَظْماءَ مَرْفوعِ الذُؤَابَةِ أَسْحَما والثاني أن يكون فعلاً من الشؤم. وقال ابن المقفّع: سُمّيت الشام بسام بن نوح وسام اسمه بالسريانيّة شام وبالعبرانيّة شيم. وهشام بن محمّد المعروف بابن الكلبيّ ينكر هذا ويقول: إنّ ساماً لم ينزل هذه الأرض قطّ وإنّما سُمّيت الشام بشامات بها حمر وسود وبيض. وقال غيره: سُمّيت الشام لأنّها عن شمال الكعبة كما أنّ اليمن عن يمينه. وقال أيضاً هشام بن الكلبيّ: لمّا تفرّق الناس من أرض بابل بوقوع صرح النرود أخذ بعضهم يمنةً فسُميّت الأرض الّتي نزلوا بها يمناً لأنّها عن يمين البيت وأخذ آخرون شأمةً فسُميّت الأرض الّتي نزلوا بها شأماً لأنّها عن شأمة البيت أي شماله. المقصد الثاني في ذكر أوّل من نزل به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 قرأتُ في تأريخ دمشق للشيخ الإمام العالم الحافظ أبي القاسم عليّ بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله المعروف بابن عساكر رحمه بعد سند رفعه إلى هشام بن محمّد عن أبيه قال: كان الّذي عقد لهم نوح - صلّى الله على نبيّنا وعليه - ببابل فنزل بنو سام المِجْدِل وهو ما بين ساتيداما إلى البحر وما بين اليمن إلى الشام وجعل الله النبوّة والكتاب والبياض فيهم ونزل بنو حام مجرى الجنوب والديور فيُقال لتلك الناحية الداروم وجعل الله فيهم الأُدمة وجعل في أرضهم الأثل والعشب والنخل وجرّى الشمس والقمر في سمائهم ونزل بنو يافث في الصفون بمجرى الشمال والصبا وفيهم الشقرة والحمرة وأخلى أرضهم فاشتدّ بردها وأخلى سمائها فليس يجري فوقهم شيء من النجوم السبعة الجارية لأنهم صاروا تحت بنات نعش والجدي والفرقدين. ثم لحقت عاد بالشِحْر فعليه هلكوا ولحقت بعدهم بالشحر مَهْرَة ولحقت عُبيْل بموضع يثرب ولحقت العماليق بأرض صنعا. ولحقت ثمود بالحجر فهلكوا ولحقت طًسْم وَجديس باليمامة فهلكوا ولحقت أميم بارض وبار فهلكوا بها وهو رمل عالج فيما بين اليمامة والشِحْر فلا يصل إليها أحد لأن النّ غلبت عليها ولحقت يُقْطَن بن عابر باليمن فسُميت يمناً حين تيمنوا إليها ولحق قوم من بني كنعان بالشأم فسُميت شأماً حين تشاءموا إليها المقصد الثالث في ذكر ما ورد من فضل الشام قرأت في التاريخ الحافظ بن عساكر الدمشقي رحمه الله بسند رفعه عن عبد الله ابن حَوالة الأزدي أنّه قال: يا رسول الله صِف لي بلداً أكون فيه فاو علمتُ أنّك تبقى لم أختر على قربك شيئاً. قال: عليك بالشام ثلاثاً فلّما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كراهته إياها قال: هل تدري ما يقول الله في الشام؟ إن الله تع يقول: يا شام أنتِ صفوتي من بلادي أدخل فيك خيرة من عبادي أنتِ سوط نقمتي وسوط عذابي أنتِ الأنذر وإليكِ المحشر. ورأيتُ ليلة أسرى بي عموداً أبيض كأنه لؤلؤة تحمله الملائكة. قلتُ: ما تحملون؟ قالوا: عمود الإسلام أمرنا أن نضعه في الشام وبينا أنا نائم إذ رأيتُ الكتاب اختُلس من تحت وسادتي فظننتُ أن الله تع تخلى من أهل الأرض فأتبعتُه فإذا هو بين يدي حتى وضع بالشام فمن أبى فليلحق يمنةّ ويُسقَ من غدره فإن الله تكفّل بالشام وأهله. وروى بإسناده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صفوة الله من أرضه الشام وفيها صفوة من خلقه وعباده. وفي حديث آخر: من خرج من الشام إلى غيرها فبسخطه - يعني الله تعالى - ومن دخلها من غيرها فبرحمته. وروى أيضا أنّ الّله تع بارك ما بين العريش والفرات وخصّ فلسطين بالتقديس - يعني التطهير -. ثم قال عقيب هذا الحديث: هذا الحديث منقطع. وروى أيضا عن عبد الله بن عمر رضهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الخير عشرة أعشار تسعة في الشام وواحد في سائر البلدان والشر عشرة أعشار واحد بالشام وتسعة في سائر البلدان وإذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم. وروى أيضا بسند رفعه إلى أبى الدرداء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل الشام وأزواجهم وذرّياتهم وعبيدهم وإماؤْهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون في سبيل الله فمن احتلّ منها ثغراً من الثغور فهو في جهاد وهذا القدر كافٍ في شرف من احتلً من أهله شافٍ. وروى أيضا عن شهر بن حَوشْ بأنّ معاوية بن أبي سفيان سمع رجلاً من أهل مصر يسبُّ أهل الشام فأخرج وجهه من برنسه وقال: يا أهل مصر لا تسبّوا أهل الشام فإنّي سمعت رسول الّله صلى الله عليه وسلم يقول: فيهم الإبدال وبهم يُرزقون وبهم يُنصرون. وقد قيل: إنّ عوفاً قال ذلك ومعاوية يسمعه. المقصد الرابع في ذكر موضعه من المعمور وحدوده وإلى ما انقسم إليه من الأجناد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 أما موضعه من المعمور فإنّه في الإقليم الثالث والرابع وأمّا حدوده فإنّ الصاحب كمال الدين أبا القاسم عمر بن أحمد بن محمّد بن هبة الله بن أبي جَرادة الحلَبي العُقَيْليّ المعروف بابن العديم روى في كتابه المسمّى ببغية الطلب في تأريخ مدينة حلب حديثاً رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه سُئل عن البركة التي بورك في الشام أين موضع حدّه. قال: أوّل حدوده عريش مصر والحدّ الآخر طرف البثنية والحدّ الآخر الفرات والحدّ الأخير جبل فيه قبر هود عم. وذكر أصحاب الاعتناء بتحديد المسالك والممالك أنّ حدّه الجنوبيّ العريش من جهة مصر وحدّه الشماليّ بلاد الروم وحدّه الشرقيّ البادية من أيلة إلى الفرات وحدّه الغربيّ بحر الروم. وأمّا ما انقسم إليه من الأجناد فالّذي ورد في ذلك ما حكاه أبو جعفر الطبريّ في تأريخه أنّ أبا بكر الصدّيق رضه لما عزم على فتح الشام سمّى لكل أمير أمّرَه على الجيوش كورةً فسمّى لأبي عبيدة بن الجرّاح كورة حمص وليزيد بن أبي سفيان كورة دمشق ولشُرَحْبيل بن حَسَنَة كورة الأردنّ ولعمرو ابن العاصّ وعلقمة بن محرز كورة فلسطين. فإذا فرغ منها ترك علقمة وسار إلى مصر فيدلّ هذا على أنّ الشام لمّا كان في أيدي الروم مقسوماً إلى هذه الكور الأربعة لا غير. وممّا يؤيّد ما قدّرناه ما ذكره قُدامة بن جعفر في كتاب الخراج أنّ أبا عبيدة سار إلى قنّسرين وكورها يومئذ مضافة إلى حمص ولم يزل كذلك حتّى فصل يزيد بن معاوية وقيل معاوية قنّسرين وإنطاكية ومنبج الثغور جنداً وأفردها عن حمص وصيّر حمص وأعمالها جنداً ولمّا استخلف هارون الرشيد أفرد قنّسرين بكورها وصيّر ذلك جنداً وأفرد منبج ودُلوك ورَعْبان وقورص وإنطاكية وتيزين الثغور وسمّاها العواصم. وقد قيل: إنّ العواصم من حلب إلى حماه. وسمّيت العواصم لأنّ المسلمين يعتصمون بها في ثغورهم فتعصمهم فتكون إذّا أجناد الشام ستةً قنّسرين والعواصم وحمص ودمشق والأردنّ وفلسطين. وسنذكر ما اشتملت عليه هذه الأجناد من البلاد البرّية والساحليّة في موضعها من هذا الكتاب إن شاء الله تع على تفصيل يروق مستمعه ويشهد من وقف عليه أنّ هذا موضعه. وإذ قد فرغتُ من ديباجة كتابي الّتي ضمّنتُها مقاصدي فيه وجعلتُها مفصحةً عن سرّه الّذي يخفيه فقد آن أن أبدأ بذكر حلب على ما تقدّم الوعد به وتعلّق سبب غرضي بسببه وأرتّب الكلام فيه على ثلاثة أقسام حلّت منه محلّ الأرواح في الأجسام. القسم الأوّل أضمّنه سبعة عشر باباً في أمر البلد وما اشتمل عليه بنيانه ظاهراً وباطناً. القسم الثاني أضمّنه خمسة أبواب فيما يشتمل عليه حدود نواحيها الخارجة عنها. القسم الثالث في ذكر أمرائها منذ فُتحتْ إلى عصرنا الّذي وضعنا فيه الكتاب. القسم الأوّل أمر البلد وما اشتمل عليه بنيانه ظاهراً وباطناً ويشتمل على سبعة عشر باباً الباب الأوّل في ذكر موضعها من المعمور . الباب الثاني في ذكر الطالع الّذي بُنيت فيه ومن بناها. الباب الثالث في ذكر تسميتها واشتقاقها. الباب الرابع في ذكر صفة عمارتها. الباب الخامس في ذكر عدد أبوابها. الباب السادس في ذكر بناء قلعتها والقصور القديمة. الباب السابع في ذكر ما ورد في فضلها. الباب الثامن في ذكر مسجدها الجامع والجوامع الّتي بظاهرها وضواحيها. الباب التاسع في ذكر المزارات الّتي بباطنها وظاهرها. الباب العاشر في ذكر المساجد الّتي بباطن حلب وظاهرها. الباب الحادي عشر في ذكر الخانقاهات والربط. الباب الثاني عشر في ذكر المدارس. الباب الثالث عشر في ذكر ما بحلب وضواحيها من الطلسمات والخواصّ. الباب الرابع عشر في ذكر الّحمامات. الباب الخامس عشر في ذكر نهرها وقنيها. الباب السادس عشر في ذكر ارتفاع فصبتها. الباب السابع عشر في ذكر ما مُدحت به نظماً ونثراً. الباب الأوّل في ذكر موضعها من المعمور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 اعلم أنّ حلب من الإقليم الرابع وهذا الإقليم هو أفضل الأقاليم السبعة وأصحها هواءً وأعذبها ماءً وأحسنها أهلاً وهو وسطها وحيّرزها. وذكر هِرمِس أنّ الإقليم الرابع في الوسط من العمران وهو للشمس. وقال بطليموس: إنَ الإقليم الرابع للشمس وأطول ما يكون النهار في المدن الّتي على الخطّ المسمّى وبسيطه أربع عشرة ساعةً ونصف وبُعد هذا الخطّ من خطّ الاستواء ستّ وثلاثون درجةً تكون من الأميال ألفَيْ ميل وأربعمائة ميل وسعة عرضه من آخر حدود إقليم الثالث إلى أوّل الخامس من الأجزاء خمس درج وأربع دقائق تكون ذلك من الأميال ثلاثمائة وثلاثون ميلاً ونصف الميل. قال: وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال اثنان وعشرون جبلاً ومن المدن الكبار المشهورة نحو مائتي مدينة واثنتي عشرة مدينةً وهذا الإقليم هو إقليم الأنبياء والحكماء لأنه وسط بين ثلاثة أقاليم جنوبية وثلاثة شمالية وهو أيضاً في قسمة النيّر الأعظم. وذكر الخالديّان في تأريخ الموصل أن الإقليم الرابع أفضل الأقاليم وأجلّها لأنّه يبتدئ من المشرق بالصين فيمرّ ببلاد التُبّت وينتهي إلى بحر المغرب وأهل هذا الإقليم أصحّ هذه الأقاليم طباعاً وأتمّهم اعتدالاً وأحسنهم وجوهاً وأَخلاقاً وأكثر الأقاليم مدناً وعمارةً وفيه مغاصّ الدُرّ وفيه جبال أنواع اليواقيت والحجارة الثمينة وجميع أصناف الطيب ولأهلها الصنائع واللطف والتأليف من الرخام وصِبْغه ونصب الطلسمات وكلّ مدينة معتدلة الهواء مشهورة الاسم فمنه وداخلة فيه. الباب الثاني في ذكر الطالع الذي بُنيت فيه ومن بناها اخبرني الرئيس بهاء الدين أبو محتد الحسن بن إبراهيم ابن الخشاب الحلبي قال: نقلتُ من ظهر كتاب عتيق ما هذه صورته: رأيتُ في القنطرة التي على باب إنطاكية من مدينة حلب في سنة إحدى عشرة وأربعمائة للهجرة كتابةً باليونانيّة فسألتُ عنها فحكى لي أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الحسينيّ الحرّانيّ أيّده الله انّ أبا أسامة الخطيب بحلب حكى له أنّ أباه حدّثه أنّه حضر مع أبي الصقر القبيصيّ ومعهما يقرأ باليونانيّة فنسخوا هذه الكتابة. قال: وأنفذ إلي ّ نسختها في رقعة وهي: " بُنيت هذه المدينة والطالع العقرب والمشتري فيه وعطارد يليه ولله الحمد كثيراً بناها صاحب الموصل ". قال: ثمّ سيَر إليّ أبو محمّد الكتاب الذيّ نقل منه ما ذكره بعينه. قال: فشاهدتُ عليه المكتوب كما ذكره لي من غير زيادة ولا نقصان. قلتُ: وصاحب الموصل والله أعلم هو بلوكوس الّذي تُسمّيه اليونانيون سردنيبلوس. قال كمال الدين بن العديم: قرأتُ في الكتاب الجامع للتأريخ المتضمن ذكر مبدأ الدول ومنشأ الممالك ومواليد الأنبياء وأوقات بناء المدن وذكر الحوادث المشهورة مماّ عُني بجمعه أبو نصر يحيى بن جرير الطيب التكريتيّ النصراني من عهد آدم إلى دولة بني مروان ونقلتُ ذلك من خطّه. قال: ذُكر أن في دولة الواصلة أنّ بلوكوس الموصليّ ملك خمس وأربعين سنةً وأوّل مُلكه في سنة ثلاثة آلاف وتسعمائة وتسعة وثمانين لآدم عَم. قال: وفي سنة تسع وعشرين من مُلكه وهي سنة أربعة آلاف وثماني عشرة سنةً لآدم ملكت أطوسا المسمات سَميرَم مع بلوكوس أبيها. وبلوكوس هذا الّذي تسمّيه اليونانيّون سَرْدنيبلوس وهو الّذي بنى حلب. وقال أبو الريحان أحمد بن محمد البيرونيّ في كتاب القانون المسعوديّ: بُنيت حلب في أيام بلقورس من ملوك نينوى وكان مُلكه لمضي ثلاثة آلاف وتسعمائة واثنين وستين سنةً لآدم عم ومدّة مقامه في الملك ثلاثون سنةً. وبلقورس هذا هو بلوكوس الّذي قدّمنا ذكره غير أنّ هذه الأسماء الأعجمية لا يكاد المسمّون لها يتَّفقون فيها على صورة واحدة لاختلاف ألسنتهم. وممّا نقلتُه من تأريخه أيضا قال: وفي السنة الحادة والعشرين من ملك سلوقوس اليهود أن يقيموا في المدن الّتي بنى وأطرّهم إلى ذلك وقرّر عليهم الجزية الّتي أزالها شمعون بعد مائة وسبعين سنةً ووجد ذلك في بعض تواريخ القدماء. إنّ في السنة الأولى من تأريخ الإسكندر ملك سولوقوس على سوريا وبابل وهذا الرجل بنى سلوقية وأفامية والرُها وحلب ولاذقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ووجدتُ في بعض الكتب أنّ جميع عدد السنين مذ خلق الله عزّ وجلّ آدم عم إلى أول سنة من عدد اليونانيّين وتُعرف بسني الإسكندر خمسة آلاف ومائتان وإحدى وعشرون سنةً وهذا يدلّ على أنّ سلوقوس بني حلب مرّةً ثانيةً ولعلّها كانت خربت بعد بناء بلوكوس فجدّد بناءها سولوقوس فإنّ بين المدّتَين ما يزيد على ألف ومائتي سنة. وسوريا يُطلق على الشام الأولى وهي حلب وأعمالها. وبناحية الأحصّ من بلد حلب مدينة خربة تُسمى سوريا وإليها يُنسَب اللسان والسوريانيّ والقلي السوريانيّ والقلي السوريانيّ وسنبيّن ذلك فيما يأتي إن شاء الله تع. قال ابن العديم: ونقلتُ من خطّ إدريس بن حس الإدريسيّ ما ذكره أنّه نقله من تأريخ إنطاكية. قال صاحب تأريخ أنطاكية وهو أحد المسيحيّة السريانيّة: الّذي ملك بعد الإسكندر بطلميوس الأرنب وهو الّذي بنى أفامية وحلب واللاذقيّة والرُها. وبطلميوس الأرنب هو سلوقوس. لكن اليونانيّون كانوا يسمّون كلّ من ملك تلك الناحية بطليموس كما تسمّي الفرس كلّ من ملك عليهم كسرى وكما تسمّي الروم كلّ من ملكهم قيصر. وقد قيل: إنّ حلب بناها حلب بن المهر بن حيص بن عمليق من بني جان بن مكنّف فسُمّيت باسمه. فصل. وكانت حلب تُعرف بمدينة الأحبار عند الصابئة. وُجد في كتاب بابا الصابئي الحرّانيّ في المقالة الرابعة في ذكر خروج الحبشة وفسادهم في البلاد: وينزل على الفرات وتأمن مدينة الأحبار المسمّاة مابوغ هي حلب. وقال في المقالة السادسة: وأنتِ ياموغ وهي حلب مدينة الأحبار يأتي رجل سلطان ويحلّ بك ويُعلي أسوارك ويجدّد أسواقك ويحوّز العين الّتي فيك وبعد قليل يُؤخّذ منك. ولَما شرع السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف في بناية الأسوار والأبرجة بمدينة حلب وعمّر اليوقَيْن اللذَيْن أنشأهما شرقيّ الجامع بحلب أحدهما نقل إليه الحريرّيين والآخر نقل إليه النّحاسين قال لي بهاء الدين أبو محمّد الحسن بن إبراهيم بن سعيد بن الخشّاب الحلبيّ وهو من رؤساء حلب وكبرائها وأعيانها: إنّني خائف أن يكون هذا الملك الّذي يحلّ بها ويجدّد أسوارها ويعمّر أسواقها ويُخذ منها. فوقع الأمر كما ذكر في سنة ثمان وخمسين وستمائة. الباب الثالث في ذكر تسميتها واشتقاقها قرأتُ في كتاب أسماء البلدان وإلى من تُنْسَب كلّ بلدة عن هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ أنّ حمص وحلب وبردعة تُنسَب لقوم من بني المهر بن حيص بن جان بن مكنف بن عمليق. وقيل إنّما سُمّيت حلباً لأن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم كان يرعى غنماً له حول تلّ كان بها وهو الآن القلعة فكان له وقت يحلب فيه الغنم ويأتوا الناس إليه في ذلك الوقت فيقولون حَلَبَ إبراهيم حَلَبَ إبراهيم فسُمّيت حلباً. ونقلت من تأريخ كمال الدين ما ذكره أنه قرأه بخطّ الشريف إدريس ابن حسن بن عليّ بن عيسى الإدريسي وكان له معرفة بالتأريخ قال: أما اسم حلب فسمعت فيه كلاما من أفواه الرجال وأريته الشريف أبو طالب النقيب أمين الدين أحمد بن محمد الحسيني الإسحاقي بخط القاضي السيد الجليل أبي الحسن علي بن أبي جرادة وكان متفنناً في تعليق له قال: إن اسم حلب عربي لا شك فيه وهو لقب لتل القلعة. قال: كان إبراهيم عم إذا اشتمل من الأرض المقدسة ينتهي إلى هذا التل فيضع فيه أثقاله ويبثّ رعاءه إلى نهر معهم من الأغنام والمعز والبقر. وكان الضعفاء إذا سمعوا بمقدمة أتوه من كلّ وجه من بلاد الشمال فيجتمعون مع من اتّبعه من الأرض المقدّسة لينالوا من بِرّهِ. فكان يأمر الرعاء بحلب ما معهم طرفي النهار ويأمر ولده وعبيده باتّخاذ الطعام فإذا فُرغ له منه أمر بحمله إلى الطرق المختلفة بإزاء التلّ فيتنادى الضعفاء إبراهيم حَلَبَ فيتنادرون إليه. فغلبت هذه اللفظة لطول الزمان على التلّ كما غلب غيرها من الأسماء على ما هو مسمّى به فصار علَماً له بالغلبة. فصل. وتُلقَّب بالشهباء والبيضاء وذلك لبياض أرضها لأنّ غالب أرضها من الحجارة الحوّارة وترابها يضرب إلى البياض وإذا أضرف عليها الإنسان ظهرت له بيضاء. الباب الرابع في ذكر صفة عمارتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الكلام في سورها: كان مبيناً بالحجارة من بناء الروم أوّلاً ولمّا وصل كسرى أنو شروان إلى حلب وحاصرها تشعثت أسوارها وكان ملك حلب إذ ذاك يوسطينيانوس ملك الروم ولمّا استولى عليها أنو شروان وملكها رمّ ما كان هُدم من أسوارها وبناها بالآجرّ الفارسيّ. وشاهدنا منه في الأسوار التي ما بين باب الجنان وباب إنطاكية. وفي أسوارها أبرجة عديدة جدّدها ملوك الإسلام بعد الفتوح مثل بني أميّة وبني صالح لمّا كانوا ولاةً عليها من قِبَل بني العبّاس وعلى الخصوص صالح بن عليّ وعبد الملك ولده. ولمّا خربت بمحاصرة نقفور ملك الروم لها في ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وخرج منها سيف الدولة هارباً واستولى عليها نقفور وقتل جميع من كان بها ثمّ رجع إليها سيف الدولة وجدّد سورها سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة واسمه مكتوب على بعض الأربجة ولحقتُ منها برجاً كان إلى جانب باب قنّسرين من جهة الغرب. وكذلك جدّد فيها سعد الدولة بن حمدان ولد سيف الدولة أبرجةً وأتقن سورها في سنة سبع وستين مثلثمائة وبنى بنو مرداس لمّا ملكوها فإن معز الدولة أباعُلوان ثِمال بن مرداس بنى بها أبرجةً بعد سنة عشرين وأربعمائة وبقيت إلى أن خربت بأيدي التتر. وكذلك غيرهم من الملوك الّذين أسماؤهم مكتوبة عليها مثل قسيم الدلة آق سُنْقُر وولده عماد الدين زنكي الأتابك. وبنى نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي الأتابك فصيلاً على مواضع من باب الصغير إلى باب العراق ومن قلعة الشريف إلى باب قنّسرين إلى باب إنطاكية ومن باب الجنان إلى باب أربعين جعل ظلك سراً ثانياً قصيراً بين يدي السور الكبير. وعّمر أسوار باب العراق وكان ابتداء العمارة في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. ولما ملك الملك الظاهر غياث الدين غازي حلب أمر بإنشاء سور من باب الجنان إلى برج الثعابين وفتح الباب المستجدّ وأمر أيضاً بحفر الخنادق وذلك في سنة اثنين وتسعين وخمسمائة. وفي هذه السنة أمر برفع الفصيل الذي بناه نور الدين وجدّد السور والأبرجة وجعلها على علوّ السور الأول. ولمّا عزم على بناء الأبرجة عين لكلّ أمير من أمرائه برجاً يتولى عمارته إلى أن انتهت وكتب كلّ أمير اسمه على برجه. وبنى أبرجةً من باب الجنان إلى باب النصر وبنى سوراً من ش رقي البلد على دار العدل وفتح له باباً من جهة الشرق والشمال على حافة الخندق يُسمى الباب الصغير وكان يخرج منها إذا ركب. وبنى دار العدل لجلوسسه العامّ بين السورَيْن الجديد الّذي جدده إلى جانب الميدان والسور العتيق الّذي بناه نور الدين وكان الشروع في بنائها في سنة خمس وثمانين وخمسمائة. واهتم الملك الظاهر أيضاً بتحرير خْندق الروم وسُمي بخندق الروم لأن الروم لما حفروه لمّا نازلوا حلب أيّام سيف الدولة بن حمدان وهو من قلعة الشريف إلى الباب الّذي يُخْرَج منه إلى المقام ويُعرَف بباب نفيس. ثم يستمر خندق الروم من ذلك من ذلك الباب المذكور شرقاً إلى باب النَيْرَب ثمَ يأخذ شمالاً إلى أن يصل باب القناة خارج باب أربعين ثمّ يأخذ غرباً من شماليّ الجُبَيل إلى أن يتَصل بخندق المدينة. وأمر الملك الظاهر برفع التراب وإلقائه على شفير هذا الخندق ممّا يلي المدينة فارتفع ذلك المكان وعلا وسُفّح إلى الخندق وبُني عليه سور من اللبن في أيام الملك العزيز محمّد بن الملك الظاهر رحمهما تع. وبنى الأتابك شهاب الدين طُغريل برجاً عظيماً فيما بين باب النصر وبرج الثعابين مقابل أتونات الكلس ومقالر اليهود من شماليّ حلب وذلك بعد العشرين وستمائة وأمر الأتابك طُغريل المذكور الحجّارين بقطع الأحجار من الحّوارة من خندق الروم قصداً في توسعته فعمق واتّسع وازداد البلد به حصانةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وأمّا قلعة الشريف فلم تكن قلعةً بل كان السور محيطاً بالمدينة وهي مبنيّة على الجبل الملاصق للمدينة وسورها دائر مع سور المدينة على ما هي عليه الآن. وكان الشريف أبو الحسن هبة الله الحُتَيتي الهاشمي مقدّم الأجداث بحلب وهو رئيس المدينة فتمكّن وقويت يده وسلّم المدينة لأبي المكارم مسلم ابن قريش. فلما قُتل مسلم انفرد بولاية المدينة وسالم بن الملك العُقَيْلي بالقلعة الّتي بحلب فبنى الشريف فلعته هذه في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة خوفً إلى نفسه من أهل حلب لئلا يقتلوه واقتطعها عن المدينة وبنى بينها وبين المدينة سوراً واحتفر خَندقاً آثاره باقية إلى الآن. ولما ملك شمس الملوك ألب أرسلان حلب جرى على قاعدة أبيه في أمر الإسماعيلية لأنه قد بنى لهم بحلب دار دعوه فطلبوا منه أن يعطيهم هذه القلعة فأجابهم إلى ذلك فقبّح عليه القاضي أبو الحسن بن الخشّاب فعله فأخرجهم منها بعد أن قتل منهم ثلاثمائة نفس وأسر مائتين وطيف برؤوسهم في البلد وذلك في سنة ثمان وخمسمائة. ثم خرب السور بعد ذلك لما ملك حلب إبغازي بن أُتُق وذلك في سنة عشرة وخمسمائة. وجدّد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غياث الدين غازي بن يوسف بن أيّوب بسور حلب أبرجةً كلّ واحد منها يضاهي قلعةً وذلك في سنة اثنين وأربعين وستُمائة وسبب بنائه لها أنّ التتر لمّا نازلوا حلب وناوشوا أهلها ثمّ رحلوا عنها من غير حصول غرض أخذ في الاستعداد وتحصين البلد. فكانت الأبرجة من باب أربعين إلى باب قنّسرين وذلك من شماليّ حلب إلى قبليّها عدّتخا نيّف وعشرون برجاً ارتفاع كلّ برج فوق الأربعين ذراعاً وسعته ما بين الأربعين إلى الخمسين وكلّ برح له رواقات تستر المقاتل من حجارة والمجانيق والنشّاب وكان السور يشتمل على مائة وثمانية وعشرين ذراعاً وسور القلعة ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون ذراعاً وعدّة أبرجها تسعة وأربعون برجاً وأبدانها ثمان وأربعون بدنةَ. الميدان الأخضر طوله سبعمائة وخمسون ذراعاً وعرضه من القبلة خمسون ذراعاً ومن الشمال سبعون ذراعاً. ميدان باب قنّسرين طوله ألف ومائة وخمسون ذراعاً. ميدان باب العراق طوله خمسمائة وعشرون ذراعاً وعرضه من القبلة خمسة وثمانون ذراعاً ومن الشمال مائة وخمسون ذراعاً. الباب الخامس في ذكر عدد أبوابها فأوّلها ممّا يلي القبلة باب قِنّسرين وسُمّي بذلك لأنّه يُخرج منه إلى جهة قنّسرين ويمكن أن يكون من بناء سيف الدولة لأنّه كان إلى جانبه برج عليه اسمه ثمّ جدّده الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز محمّد بن الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيّوب في سنة أربع وخمسين وستّمائة. ونقل إلى بنائه الحجارة من الناعورة من برج كان بها من أبرجة القصر الذي بناه سليمان بن عبد الملك فيها ونقل إليه باب الرافقة وهذا الباب كان أوّلاً على سور عمّورية. فلمّا فتحها المعتصم في سنة ثلاث وعشرين ومائتين نقله إلى سرّ من رأى لمّا شرع في بنائها سنة إحدى وعشرين ثم نُقل من سرّ من رأى لمّا خربت إلى الرقّة وبُني على هذا الباب أبرجة محصنة كالقلاع المرّجلة وعُمل فيها طواحين وأفران وجبات للزيت وصهاريج للماء وحُمل إليها السلاح. ومن عجائب الاتفاقات ما حكاه لي القاضيان الأجلاّن قاضي القضاة كمال الدين أبو بكر أحمد بن قاضي القضاة أبي محمّد عبد الله بن الشيخ الحافظ عبد الرحمان الأسدّي المعروف بابن الأستا وقاضي القضاة مجد الدين عبد الرحمان ابن الصاحب كمال الدين أبي القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة المعروف بابن العديم قالا: قصدنا في بعض الأيام زيارة الشيخ الصالح العابد الزاهد العالم العامل شرف الدين أبا عبد الله محمّد بن موسى الحورانيّ بظاهر حلب. فاتّفق عند اجتماعنا به وصول باب الرقة ليُركَّب على باب قنسرين فأجرينا ذكره فقال لنا يوم فروغ هذا الباب: ينزل على المدينة من يأخذها ويخرب هذا الباب وسائر البلد. فجرى الأمر على ما ذكر. ولمّا استولت التتر على حلب كان أوّل ما خرِب منها. ثمّ لمّا أخرجت التتر عنها وملكها الملك الظاهر أبو الفتح بيبرس نُقض حديده المصفّح به ومساميره وحّمل إلى دمشق ومصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ثمّ يتلو هذا الباب المصفّح من جهة الشرق باب العراق وسُمّي بذلك لأنّه يُخرج منه إلى ناحية العراق وهو باب قديم مكتوب على بعض أبرحته: " أبو عُلوان ثِمال لن صالح بن مرداس " وكان ثمال بحلب بعد العشرين وأربعمائة. وبين يدي هذا الباب ميدان أنشأه الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة وله بابان. وويلي هذا الباب شرقاً باب دار العدل كان لا يركب منه إلاّ الملك الظاهر غياث الدين غازي وهو الذي بناه. ويلي هذا الباب شرقاً أيضاً الباب الصغير وهو الباب الذي يُخْرج منه من تحت القلعة من جانب خندقها وخانقاه القصر إلى دار العدل ومن خارجه البابان اللذان جدّدهما الملك الظاهر غازي في السور الّذي جدّده على دار العدل أحدهما يُدعى الباب الصغير أيضاً يفتح على شفير الخندق ويُخرَج منه إلى الميدان المقدّم ذكره والآخر مغلق. ويلي الباب الصغير الأول باب أربعين وكان قد سُد ثمّ فُتح وله بابان واختُلف في تسميته بهذا الاسم فقيل إنّه خرج منه مرّةً أربعون ألفاً فلم يعودوا فسُمّي بذلك وقيل إنّما سمّي بذلك وقيل إنّما سُمي لأنه كان بالمسجد الّذي داخله أربعون من العبّاد وقيل أربعون محدّثاً وقيل كان به أربعون شريفاً وإلى جانبه أعلى المسجد للأشراف مقبرة. وهذه الثلاثة أبواب أعني باب العراق والباب الصغير وباب أربعين كان الملك الظاهر غياث الدين غازي قد سفّح بين يدَيْها تلاً من التراب الّذي أخرجه من خندق الروم سمّاه التواثير يحيط بها من شرقيّ قلعة الشريف إلى باب القناة وفتح فيه ثلاثة أبواب ولم يتمّها فأتمها ولده الملك العزيز محمّد وسُمي القبليّ منها باب المقام ويُعرَف الآن بباب نفيس " وهو " رجل كان به إسباسلاّراً. ويلي هذا الباب شرقاً باب سمي باب النَيْرَب لأنه يُخرج منه إلى قرية تُسمى بهذا الاسم. ويلي هذا الباب باب القناة وسُمي بهذا الاسم لأنّ القناة الّتي ساقها الملك الظاهر من حَيْلان إلى المدينة تعبر منه. ويلي باب أربعين المقدّم ذكره من جهة الشمال باب النصر وكان يُعرَف قديماً بباب اليهود لأن اليهود تجاوره بدورهم ومنه يخرجون إلى مقابرهم فاستقبح الملك الظاهر وقوع هذا الاسم عليه فسمّاه باب النصر وجعل عليه أربعة أبواب لكل بابين دركاه يُسلَك من إحداهما إلى الأخرى في حنيّه معقودة وبنى عليه أبراجاً محكمة البناء ويُخرج منه على جسر معقود على الخندق وإلى فنادق أمر بإنشائها تُباع فيها الغلاّت كان في مكانها تلال من التراب والرماد. ويلي هذا الباب باب الفراديس وهو من غربيّ البلد أنشأه الملك الظاهر غياث الدين غازي وبنى عليه أبرجةً عاليةً حصينةً بعد وفاته ولم يزل مسدوداً إلى أن فتحه الملك الناصر ابن ابنه. ويلي هذا الباب باب الجنان وسُمي بذلك لكونه يُخرَج منه إلى البساتين وله بابان. ويلي هذا الباب باب إنطاكية وسُمي بذلك لكونه يُخرَج منه إلى جهة إنطاكية وهذا الباب كان قد خربه نقفور لمّا استولى على حلب في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة ثم لمّ عاد إليها سيف الدولة بناه ولم يزل على ما أنشأه إلى أن هدّه الملك الناصر صلاح الدين يوسف وبناه وكان ابتداء عمارته في سنة ثلاث وأربعين وستمائة. وتمّ في سنة خمس وأربعين وبُني عليه برجان عظيمان وعُمل له دركاه وحنايا " ينفذ " بعضها على بعض وله بابان. ويلي هذا الباب باب السعادة يُخرَج منه إلى ميدان الحصى أنشأه الملك الناصر في سنة خمس وأربعين وبُني عليه أبرجة وله دركاه وبابان. ومن هذا الباب إلى قنسرين. وكان بحلب من الأبواب قديماً باب يُسمى باب الفرج وهو إلى جانب حمّام القصر المشهور أخربه الملك الظاهر ودرست معالمه وباب على الجسر الّذي على نهر قُرَيْق خارج باب إنطاكية كان من بناء سيما الطويل وسمّاه باب السلامة دثرت معالمه وكانت الروم خربته أيّام سيف الدولة بن حمدان وسنذكره في ذكر المباني القديمة الّتي بحلب. الباب السادس في ذكر بناء القلعة الّتي بحلب والقصور القديمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 اعلم أنّ القلعة الّتي قد قيل إنّ أوّل من بناها ميخائيل وقيل سَلُقوس الّذي بنى مدينة حلب وهي على جبل مشرف على المدينة وعليها سور وكان عليها قديماً بابان أحدهما دون الآخر من حديد وفي وسطها بئر قد حُفر يُنزَل فيه بمائة وخمسة وعشرين مرقاةً قد هُندمت تحت الأرض وجُرفت جروفاً وصُيّرت آزاجاً ينفذ بعضها إلى بعض إلى ذلك الماء وكان فيها دير للنصارى وكانت به امرأة قد سُدّت عليها الباب منذ سبع عشرة سنةً. ثمّ ينحدر السور من جانبَيْ هذه القلعة إلى المدينة. وقيل لمّا ملك كسرى حلب وبنى سورها كما قدّمنا بنى في القلعة مواضع ولمّا فتح أبو عُبَيْدة مدينة حلب كانت قلعتها مرمَّمة الأسوار بسبب زلزلة كانت أصابتها قبل الفتوح فأخرجت أسوارها البلد وقلعتها ولم يكن ترميماً محكماً فنُقض بعض ذلك وبناه وكذلك لبني أميّة ولبني العبّاس فيها آثار. ولمّا استولى نقفور ملك الروم على حلب في إحدى وخمسين وثلاثمائة كما قدّمنا امتنعت القلعة عليه وكان جماعة من العلويّين والهاشميّين قد اعتصموا بها منه فحمتهم ولم يكن لها حينئذ سور عامر لأنّها كانت قد تهدّمت فكانوا يتّقون سهام العدوّ بالأكُفّ والبرذاع. وزحف نقفور عليها فأُلقي على ابن أخته حجر فمات فلمّا رأى نقفور ذلك طلب الصلح فصالحه من كان فيها. ومن حينئذ اهتّم الملوك بعمارة القلعة وتحصينها فبنى سيف الدولة منها مواضع لمّا بنى سور حلب. ولمّا ولي ابنه سعد الدولة بنى شيئاً آخر وسكنها وذلك لمّا أتمّ ما بناه والده سيف الدولة من الأسوار وكذلك بنى بها بنو مرداس دوراً وجدّدوا سورها. وكذلك من بعدهم من الملوك إلى أن وليها عماد الدين آق سُنْقُر وولده عماد الدين زنكي فحصّناها وأثّرا بها آثاراً حسنةً. وبنى فيها طُغْدَكين برجاً من قبليّها ومخزناً للذخائر عليه اسمه مكتوب وبنى فيها نور الدين بن عماد الدين زنكي أبنيةً كثيرةً وعمل ميداناً وخضّره بالحشيش وسُمّي الميدان الأخضر. وكذلك بنى بها ولده الملك الصالح باشورةً كانت قديمةً فجدّدها وكتب عليها اسمه ولم تزل في زيادة عمارة إلى أن ملكها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب وأعطاها لأخيه الملك العادل سيف الدين أبي بكر فبنى بها برجاً وداراً لولده فلك الدين وتُعرَف الآن به. ولمّا ملك الملك الظاهر غياث الدين غازي حصّنها وحسّنها وبنى بها مصنعاً كبيراً للماء والمخازن للغلاّت وهدم الباشورة الّتي كانت بها وسفّح وتلّ القلعة وبناه بالحجر الهرقليّ وأعلا بابها إلى مكانه الآن وكان الباب أوّلاً قريباً من أرض البلد متّصلاً بالباشورة فوقع في سنة ستّمائة وقُتل تحته خلق كثير ومن جملة من مات تحته الأستاذ ثابت بن شقويق الّذي بنى الحائط القبليّ بجامع حلب الّذي في المحراب الأصغر. وعمل الملك الظاهر لهذا الباب جسراً ممتدّاً منه إلى البلد وبنى على الباب برجَيْن لم يُبْنَ مثلهما قطّ وعمل للقلعة خمس دركاوات بآزاج معقودة وحنايا منضودة وجعل لها ثلاثة أبواب حديد ولكلّ باب منها إسباسلاّر ونقيب وبنى فيها أماكن يجلس بها الجند وأرباب الدولة وكان معلّقاً بها آلات الحرب وفتح في سور القلعة باباً يُسمّى باب الجبل شرقيّ باب القلعة وعمل له دركاه ولا يفتَح إلاّ له إذا نزل دار العدل. وهذا الأب وما قبله انتهت العمارة فيهما في إحدى عشرة وستّمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وفي سنة عشرة وستّمائة في الرابع والعشرين من رمضان مُهّدت أرض الخندق الملاصق للقلعة فوُجد فيها تسع عشرة لبنةً ذهباً إبريزاً كان وزنها سبعة وتسعين رطلاً بالحلبيّ والرطل سبعمائة وعشرون درهماً وبنى فيها ساتورةً للماء محكمةً بدَرج إلى العين يمير بها سائر منازلها وبنى ممشى من شماليّ القلعة إلى باب أربعين وهو طريق بآزاج معقودة لا تُسلَك إلا في الضرورة وكأنّه باب سرّ وزاد في حفر خندق القلعة وأجرى فيه الماء الكثير وأحرق في شفير الخندق ممّا يلي البلد مغائر أعدّها لسكنى الأسارى يكون في كلّ مغارة مقدار خمسين بيتاً وأكثر وبنى فيها داراً تُعرَف بدار العزّ وكان في موضعها دار للملك العادل نور الدين محمود بن زنكي تُسمّى دار الذهب ودار تُعرَف بدار العواميد ودار الملك رضوان فحازت كلّ معنى غريب وفنّ عجيب. وفيها يقول الرشيد عبد الرحمان بن النابلسيّ من قصيدة مدحه بها في سنة تسع وثمانين وخمسمائة وأنشده إيّاها. فيها: دارٌ حَكَتْ دارِينَ في طِيبٍ وَلا ... عِطْرٌ بِساحَتِها وَلا عَطَّارُ رُفِعَتْ سَماءُ عِمادِها فَكَأَنَّها ... قُطْبٌ عَلى فَلَكِ السُعُودِ تُدارُ وَزَهَتْ رِياضُ نُقُشِها وبَنَفْسَجٌ ... غَضٌّ وَوَرْدٌ يانِعٌ وَبَهارُ نُورٌ مِنَ الأصْباغِ مُبْتَهِجٌ وَلا ... نُورٌ وَأزْهارٌ وَلا إزْهارُ ما أيْنَعَتْ مِنْها الصُخُورُ وَأَوْرَقَتْ ... إلاّ وَفيها مِنْ نَداكَ بِحارُ وَضَحَتْ مَحاسِنُها فَفي غَسَقِ الدُجى ... يُلفى لِصُبْحِ جَبِينِها إِسْفارُ منها: فَتَقَرُّ عَيْنُ الشَمْسِ أَنْ يَضْحَى لَها ... بِفِنائِها مُسْتَوْطَنٌ وَقَرارُ تَرِبَتْ يَدٌ رَفَّت بِها خَيْلاً لَها ... في غَيْرِ مُعْتَرَكِ الوَغَى إِحْضارُ وَفَوارِساً شَبَّت لَظَى حَرْبٍ وَما ... دُعِيَتْ نَزالِ وَلَمْ يُشَنَّ مَغارُ منها: صُوَرٌ تَرَى لَيْثَ العَرِينِ تِجاهَهُ ... مِنْها وَلا يَخْشَى سَطاهُ صُوارُ سِلْمٌ إِلى الحَرْبِ القَدِيمِ فآنِسٌ ... بِعَدُوّهِ مَنْ طالَ مِنْهُ نِفارُ وَمُوَسِّدِينَ عَلى أَسِرَّةِ مُلْكِهِمْ ... سُكْراً وَلا خَمْرٌ وَلا خَمّارُ لا يَأتَلي شَدْوُ القِيانِ رَواجِعاً ... فِيهِ وَلا نَغْمٌ وَلا أَوْتارُ هَذا يُعانِقُ عُودَهُ طَرَبَاً وَذا ... دَأْباً يَقَبِّلُ ثَغْرَهُ المِزْمارُ وهي طويلة جداً فإنّه خرج من هذا إلى ذكر البركة والفوّارة والرخام ثمّ إلى مدح الملك الظاهر فاقتصرتُ منها على ما يُعلَم منه حسن هذه الدار. وبنى حولها بيوتاً وحجراً وحمّامات وبستاناً كبيراً في صدر إيوانها فيه أنواع الأزهار وأصناف الأشجار وبنى على بابها أزجاً يُسْلَك فيه إلى الدركاوات الّتي قدّمنا ذكرها وبنى على بابها أماكن لكتّاب الدرج وكتّاب الجيش. ولمّا تزوّج في سنة تسع وستّمائة بضَيْفه خاتون ابنة عمّه الملك العادل الّتي حكمت في حلب بعد وفاته وأسكنها بها وقعت نار عقيب العرس فاحترقت وجميع ما كان فيها من الفرش والمصاغ والآلات والأواني واحترقت معها الزردخاناه وكان الحريق في حادي عشر جمادى الأولى من سنة تسع. قمّ جدّد عمارتها وسمّاها دار الشخوص لكثرة ما كان منها في زخرفتها سعتها أربعون ذراعاً في مثلها. وفي أيام الملك العزيز محمّد بن الملك الظاهر الغازي وقعت من القلعة عشرة أبراج من أبدانها وذلك في سنة اثنتين وعشرين وستّمائة ووافق ذلك زمان البرد وكان تقدير ما وقع خمسمائة ذراع وهو المكان المجاور لدار العدل ووقع بعض الجسر الّذي بناه الملك الظاهر. فاهتمّ الأتابك شهاب الدين طُغْريل بعمارتها فجمع الصنّاع واستشارهم فأشارهم أن يبني من أسفل الخندق على الجبل ويُصعَد بالبناء فإنّها متى لم تُبنَ على ما وصفنا وقع ما يُبنى عاجلاً وطرأ فيها ما طرأ الآن وإن قصدها عدوّ لم يمنعه فرأى الأتابك أنّ ذلك يحتاج إلى مال كثير ومدّة طويلة فعدل عن هذا الرأي وقطع أشجار الزيتون والتوت وترك الأساس والتراب وبنى. ولهذا لمّا نزلتها التتر لم يتمكّنوا من أخذها إلاّ من هذا المكان لتمكّن النقّابين منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وفي سنة ثمان وعشرين بنى فيها الملك العزيز داراً إلى جانب الزردخاناه يستغرق وصفها الإطناب ويقصر عنه الإسهاب مساحتها ثلاثون ذراعاً في مثلها. ولما تسلم التتر القلعة في تاسع شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين وستمائة عمدوا إلى خراب سورها وأحرقوا ما كان بها من الذخائر وازردخاناه والمجانيق ولمّا هزم الملك المظفر التتر على عين جالوت وهرب من كان منهم في حلب ثمّ عادوا إليها مرةً ثانية بعد مقتل الملك المظفر فرأوا في القلعة برجاً قد بُني للحمام بأمر الملك المظفّر قُطُز فأنكروا عليهم " بناءه " وأخربوا القلعة خراباً شنيعاً وما فيها من الدور والخزائن ولم يبقوا فيها مكاناً للسكنى وذلك في المحرّم سنة تسع وخمسين وبقي الآن سور " القلعة " القديمة يقال فيه قفل خربة. فصل في ذكر القصور كانت ملوك حلب تنزل هذه القصور أوّلاً وتسكنها دون القلعة. منها قصر أنشأه مَسْلَمة بن عبد الملك بالناعور في سنة تسعين من الهجرة كان نازلاً به لمّا كان متولياً حلب من قِبَل أخيه الوليد ثمّ خرِب ولحقتُ منه برجاًً وأثر أبراج وقد تقدّم لنا أنّه بُني بحجارته باب قنّسرين. ومنها قصر بناه سليمان بن عبد الملك بالحاضر في أيّام ولايته وكان بناؤه في غاية الحسن والزخرفة وإليه يُنسَب الحاضر السليمانيّ. ولمّا ملك بنو العبّاس أمر السفّاح عبد الله بن محمّد بن علي بإخرابه فخربه. وبنى عمر بن بن عبد العزيز بخُناصرة من الحَصّ قصراً كان كثيراً ما ينزل به. ومنها قصر بناه صالح بن عليّ بن عبّاس بقرية بِطياس وكان أكثر مقامه به ومنه آثار باقية إلى الآن. ومنها قصر بناه أولاد صالح يُعرَف بالدارَيْن خارج باب إنطاكية في وسطه قنطرة على نهر قُوَيْق كان عبد الملك بن صالح بناه وبنى حوله ربضاً ولم يتم فأتمّه سيما الطويل لمّا ولي حلب ورمّ ما كان استهدم من القصر وصيّر عليه باب حديد أخذه من قصر لبعض الهاشمييّن بحلب يُسمى قصر البنات. قلتُ: والقصر كان في الدرب المعروف بدرب البنات بحلب. وبشرقيّ الداريّن بستان يُعرف ببستان الدار من شماليّ باب قنّسرين وهو الآن وقف على المدرسة النوريّة الشافعية وهو منسوب إلى أحد الدارَيْن والدار الأخرى المشار إليها أنشأها أيضاً سيما الطويل فلأجل ذلك تُعرف هذه المحلّة بالدارين. ومنها قصر بناه مرتضى الدولة داخل باب الجنان ومرتضى الدولة هذا هو أبو نصر منصور بن لؤلؤ أحد موالي بني حمدان وكان هذا القصر قد تداعى وخرب وبُني مكانه دور صغار للعامة. فلمّا كانت أيّام العزيز اشترى هذه الأماكن الأمير عَلَم الدين قيصر الظاهري وهدمها وبنى فيها قيساريّةَ وصهاريج للزيت وحوانيت ثمّ انتقلت بعده إلى ورثته ثمّ انتقل بعضها منها إلى مُلك ملك الأمراء بدر الدين الخزندار الظاهريّ في سنة اثنين وسبعين وستمائة. ومنها قصر بناه سيف الدولة بن حمدان بالحلبة عظيماً وأجرى إليه نهر قُوَيْق وأطافه به. فلمّا حاصر حلب استولى إلى ما فيه وهدمه وسيأتي ذلك مستوفي في أمراء حلب تحتلّ بهذه القصور إلى أتّام بني مِرْداس فإنهم أوّل من نزلوا القلعة وسكنوها وجعلوها سنَّة لمن أتى بعدهم من الملوك. الباب السابع في ذكر ما ورد في فضل حلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 قال القاضي بهاء الدين المعروف بابن شدّاد فيما أجازني به من المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال: لا تقوم الساعة حتّى تنزل الروم بالأعماق وبدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ. فيكون وجه الاستدلال بهذا الحديث على فضل حلب قوله عم: تنزل الروم بالأعماق وبدابق فيخرج إليهم من المدينة من خيار أهل الأرض ذكره بحرف الفاء. وإنّها للتعقيب. والمدينة المذكورة التي يخرج منها الجيش هي حلب لأنها أقرب المدن إلى دابق إذ ليس في تلك الناحية ما يطلق عليه اسم المدينة على الإطلاق غير حلب لا على يثرب كما في قوله تعالى:) وَجاءَ منْ أقْصَى المدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى (وفي قوله تعالى:) وَأَمّا الجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتيمَنِ في اَلمدِينَةِ (حيث انصرف الإطلاق إلى المدينة الّتي يُفْهَم إرادتها عند الإطلاق. قلتُ: ورد في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه لمّا همّ بالهجرة من مكّة دعا الله. فقال: " اللهم إن قومي يُخرِجوني من أحب البقاع إليّ فانقلني إلى أحب البقاع إليك " أو ما في معنى ذلك. فنزل عليه جبرائيل عم وقال له::إن الله تع يخبرك أن تهاجر إلى يثرب أو إلى البحرَيْن أو إلى قنّسرين " وهذا غاية الشرف لحلب. الحديث منقول من المشارق للصغانيّ بل في المصابيح. وممّا رواه فخر الدين أبو منصور ابن عساكر من تأريخ عّمه الحافظ أبي القاسم عن معاذ رصه قال: الأرض المقدسة ما بين العريش إلى الفرات وقد جاء أنّ الرعد والبرق يهاجران إلى مهاجر إبراهيم عم لا يبقى قطرة إلا فيما بين العريش إلى الفرات. وقد تقدّم لنا أحاديث كثيرة في فضل الشام بأسره وإذا اعتبرنا الحال في حلب وجدناها منه الواسطة من العقد والقلب من الصدر والإنسان من العين. الباب الثامن في ذكر مسجدها الجامع وما بظاهرها من الجوامع كان موضع الجامع بستاناً للكنيسة العظمى في أيام الروم وكانت هذه الكنيسة تُنسَب إلى قسطنطين باني القسطنطينية وسنذكر أمرها في ما يأتي عند ذكرنا للمدارس ولما فتح المسلمون حلب صالوا أهلها على موضع المسجد الجامع. وأخبرني بهاء الدين أبو محمّد الحسن بن إبراهيم بن سعيد بن الخشّاب الحلبيّ قال: أخبرني الشريف أبو جعفر الهاشميّ بسند يرفعه إلى أجداده من بني صالح أنّ الجهة الشمالية من الجامع كانت مقبرةً للكنيسة المذكورة. وأخبر بهاء الدين أيضاً فيما حكاه عنه كمال الدين بن العديم في كتابه قال: قال الفضل بن الإكليلي الحلبي المنجّم إنّ المصنع الّذي في وسط المسجد الجامع لمّل بُني وجدوا في حفيره صورة أسد من الحجر وقد وُضع مستقبلاً بوجهه القبلة. وقال كمال الدين: سمعتُ عن القاضي شمس الدين أبي عبد الله محمّد بن يوسف ابن الخضر قال: كان جامع حلب يضاهي جامع دمشق في الزخرفة والرخام والفسيفساء. وبلغني أن سليمان بن عبد الملك هو الذي بناه وتأنّق في بنائه ليضاهي به ما عمله أخوه الوليد في جامع دمشق. وقيل إنّه من بناء الوليد وإنه نفل إليه آلة كنيسة قورص وكانت هذه الكنيسة من عجائب الدنيا. ويقال إن ملك الروم بذل في ثلاثة أعمدة كانت فيها سبعين ألف دينار فلم يسمح الوليد لهم بها. ويقال إن بني العبّاس نقلوا ما كان فيه من الرخام والآلات إلى جامع الأنبار لمّا نقضوا آثار بني أميّة من بلاد الشام وعفّوها ولم يزل على هذه الصفة إلى أن دخل نقفور حلب في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة فأحرقه. ولمّا عاد سيف الدولة إلى حلب رمّ بعض ما تهدّم من الجامع ولمّا مات سيف الدولة وتولى ولده أبو المعالي سعد الدولة شريف بنى فيه. وبنى فيه قرغويه مولى سيف الدولة قبّة الفوّارة في وسطه وطول عمودها سبعة أشبار. وفي هذه القبة جرن رخام أبيض في غاية الكبر والحسن يقال إنه كان مذبحاً لبعض الكنائس التي كانت بحلب وفي دور حافة الجرن مكتوب: " هذا ما أمر به قَرغوية غلام سيف الدولة بن حمدان في سنة أربع وخمسين وثلاثمائة ". وبنى فيه الجهة الشرقيّة القضاة بنوا عمّار الذين كانوا أصحاب أطرابلس الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 فلمّا كانت ليلة الأربعاء السابع والعشرين من شوّال سنة أربع وستّين وخمسمائة في أيام الملك العادل نور الدين محمد بت زنكي أحرقته الإسماعيلية وأحرقت الأسواق فبناه نور الدين واجتهد في عمارته فقطع له العمد الصفر من بُعادين ونقل إليه عمداً من قنّسرين لأنّ العمد الّتي كانت فيه تفطّرت من النار. وكان النصف القبليّ من الشرقيّة الّتي في قبليّ الجامع الآن الملاصقة لسوق البرّ عن يمين الداخل من الباب القبليّ سوقاً موقوفاً على الجامع ولم يكن المسجد على التربيع. فأحب نور الدين محمود أن يضيف ذلك إلى الجامع فاستفتى في ذلك الفقيه علاء الدين أبا الفتح عبد الرحمان بن محمود الغَزْنَويّ فأتاه بجوازه فنقض السوق وأضافه إلى الجامع واتّسع المسجد وحسن في مرآة العين وشاهدتُ الفتوى بخطّ الغزنويّ. ووقف عليه وقوفاً كثيرةً. ذكر الصهريج الّذي في الصحن حكى كمال الدين ابن العديم في تأريخه أنّ والده وعّمه أبا غانم قالا: كان بعض السلف من أهل حلب وأعيانها قال والدي من الأجداد وقال عّمي من الأقارب متولّياً أوقاف المسجد الجامع بحلب فجاءه إنسان لا يعرفه فطرق عليه الباب ليلاً ودفع إليه ألف دينار وقال: اصرف هذا في وجه بر ومعروف. فأخذها وأفكر في وجه برّ يصرف ذلك المال فيه فوقع له أن يصرفه في عمارة مصنع لخزن الماء من القناة فإن منابيع حلب ماؤها مالح وقد كان العدوّ يطرق مدينة حلب كثيراً فإن قطع منها ماء قناة حَيلان تضرر أهلها تضرراً عظيماً فرأى أن يعمل مصنعاً في صحن الجامع مدفوناً تحت أرضه وأن يوسعه بحيث أن يكون فيه ماء كثير فشرع في ذلك وحفر حفرةً عظيمةً واشترى الحجارة والكلس وعقد المصنع. وفرغ الذهب الّذي حمل إليه ولم يتمّ المصنع فضاق صدره وتقسّم فكرة الطريق الّذي يتوصل به إلى إتمام المصنع. فطرق عليه طارق في الليل فخرج إليه فوجد ذلك الإنسان بعينه فدفع إليه ألف دينار أخرى وقال: أتمم عملك بهذه. فأخذها وتمّم بها عمل ذلك المصنع فجاء في غاية السعة والركانة فيقال إنّه منذ عمل لم يُعرَف أنّه فرغ ماءه ويستعمل منه السقّاءون والناس. قال: فجعل أهل حلب يطعنون على المولّي للوقف ويقولون: ضيع أموال الجامع. ويسعون فيه إلى صاحب حلب ويقولون: إنه أضاع مال الوقف وأنفق منه في عمارة مصنع جملةً وافرةً. فطالبه بحساب وقف الجامع فرفعه إليه فتأمل فلم يجد ذكر درهم واحداً مماّ غرم المصنع. فقال له صاحب حلب: الغرامة التي غرمتَ على هذا المصنع ما أرى لها ذكراً. فقال: والله ما غرمتُ من مال الجامع عليه شيئاً أصلاً وإنّما هذا ممّن قصد وجه الله تع بما فعل. وقصّ عليه القصَّة. وذكر غير والد الصاحب كمال الدين وغير عمّه أنّ صاحب الواقعة هو ابن الأيسر وأنّه كان يتولّى أوقاف المسجد الجامع يومئذ. ذكر المنارة أخبرني بهاء الدين أبو محمّد الحسن بن أبي الظاهر إبراهيم بن أبي البركات سعيد بن يحيى بن محمّد بن أحمد بن الحسن بن عيسى بن الخشّاب أنّ عنّ أبيه القاضي الإمام فخر الدين أبا الحسن محمّد بن يحيى أتمّ عمارة منارة المسجد الجامع بحلب في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة. وحكى كمال الدين بن العديم في تأريخه قال: أنبأنا شيخنا العلاّمة أبو اليُمْن زيد بن الحسن الكنديّ عن أبي عبد الله محمّد بن عليّ العظيميّ قال في حوادث سنة اثنين وثمانين وأربعمائة: فيها أسّست منارة جامع حلب وعُمرت على يد القاضي أبي الحسن محمّد بن يحيى بن مجمّد بت الخشاب. وكان بحلب معبد للنار قديم العمارة وقد تحوّل إلى أن صار أتّون حمّام فاضطُرّ القاضي إلى أخذ حجارته لعمارة هذه المنارة. فوشى بعض حساد القاضي خبره إلى الأمير قسيم الدولة فاستحضره وقال: هدمت موضعاً وهولي وملكي. فقال: أيّها الأمير هذا معبد للنار وقد صار أتّوناً وقد أخذتُ حجارته عمّرتُ بها معاً للإسلام يذكَرُ الله عليها وحده لا شريك له وكتبتُ اسمك عليه وجعلتُ الثواب لك. فإن رسمتَ لي أن أغرم ثمنه لك " فعلتُ " ويكون الثواب لي. فأعجب الأمير كلامه واستصوب رأيه وقال: بل الثواب لي وافعل أنتَ ما تريد. وكتب ابن العديم في الحاشية أنّ الواشي أبو نصر بن النحّاس ناظر حلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وقرأت في تاريخ منتجب الدين يحيى بن أبي طيّ النجّار الحلبي قال: أُسست المنارة في زمان سابق بن محمود بن صالح على يد القاضي أبي الحسن ابن الخشّاب وكان الّذي عمّرها رجل من سَرْمين. وبلغ بأساسها الماء وعقد حجارتها بالكلاليب الحديد والرصاص وأتمها في أيّام قسيم الدولة آق سُنْقُر. وطول هذه المنارة إلى الدرابزين بذراع اليد سبعة وتسعون ذراعاً وعدد مراقيها مائه وستون درجةً. وأخبرني زيت الدين عبد الملك بن عبد الله بن عبد الرحيم بن العجميّ الحليّ أنّ والده حكى له أنّه لمّا جاءت الزلزلة بمدينة حلب وهدمت أكثر دورها وأهلكت جماعةً من أهلها وكانت ليلة الاثنين ثامن عشر شوال سنة خمس وستين وخمسمائة حركت المنارة فدفعت هلالاً كان على رأسها مقدار ستمائة قدم وتشقّقت. وهذا القاضي أبو الحسن كان جده القاضي عيسى الناقل إلى حلب من حصن الأكراد في أيّام سيف الدولة عليّ بن حمدان ولم يزل لأسلافه مكان عند الملوك المشارة إليهم في الدول ولم يتعلّق أحد منهم بولاية لأحد من ملوك حلب وكانت نفوسهم تأبى ذلك لشرفها وعزّتها. وهو الذي أنشأ مسجد جرن الأصفر وحمل إليه الجرن من مكان بعيد وبنى التربة الملاصقة لدور أهل بيته وهي من البناء العجيب لأنّها من الدور الهرقليّة وذلك في سنة ثمان وخمسمائة. ووقف عليها حقل الحمّام البيلونة وهذا موقف يصرف فيما رُتّب لها ومهما بقي يُصرَف في الفقراء من بيت بني الخشّاب. وكانت الفرنج تكثر قصد حلب فكان إبن الخشّاب أبو الحسن هذا يواسي ضعفاء المحاصرين بها ويقوم بهم من ماله وقُتل قريباً من داره ليلاً سنة تسع عشرة وقام بالرئاسة بعده ولده أبو الحسن يحيى فسدّ مكانه وشيّد أركانه. ومن أخبار لما توجه الأتابك عماد الدين زنكي لحصار قلعة شَهَرزُور ترك بحلب رئيسها صفي الدين عليّ البالسيّ وأمره أن يأخذ من أهلها ما لاً يصرفه في رجال تقاتل معه فاجتمعوا وقصدوا القاضي أبا الحسن وشكوا إليه ما نزل بهم واستغاثوا به فركب إلى الجامع في يوم الجمعة واحضر الرئيس وأنكر عليه فقال: أنا أعطي نصف ما ُطلب منهم وأَنت وسائر كبراء حلب النصف الباقي. فكتب صفيّ الدين إلى عماد الدين يُرفه بمنع القاضي له من استخلاص ما أمره به فأسرّها في نفسه ولم يُبْديها له فيما بعد. فلمّا قدم حلب ثّم أراد الخروج منها إلى الموصل أستصحب معه القاضي أبا الحسن بن الخشّاب ولما وصل إلى الموصل أنزله في دار أعدها له وأمر كبراء دولته بالتردّد إليه وزوّجه أحد سراريه فولدت له القاضي أبا الفضل المنعوت فخر الدين. فأقام بها إلى أن قُتل الأتابك على قلعة جعبر فعاد إلى حلب وبالغ الملك العادل في إكرامه لّما قدمها وترجّل للسلام عليه فترجل له الملك العادل نور الدين. ذكر ما آل إليه أمر المسجد الجامع في عصرنا ولمّا استولى التتر المخذولون على مدينة حلب يوم الأحد العاشر من صفر سنة ثمان وخمسين وستّمائة دخل إلى الجامع صاحب سيس وقتل به خلقاً كثيراً وأحرق الحائط القبليّ منه وأخذ الحريق غرباً وقبلةً إلى المدرسة الحلاّويّة واحترق سوق البزّازين. فعرّف عماد الدين القَزْونِيّ ما اعتمده السيسيّون من الإحراق للجامع وإعفائهم كنائس النصارى هُولاكُو فأمر برفع ذلك وإطفاء النار وقتل السيسييّن فقُتل منهم خلق ولم يُقدََر على إطفاء النار فأرسل الله تع مطراً عظيماٍ فأطفأه. ثمّ اعتنى نور الدين يوسف بن أبى بكر بن عبد الرحمان السلماسيّ الصوفيّ بتنظيف الجامع ودفن ما كان به من قتلى المسلين في جباب كانت للجامع للغلّة في شماليّه. ولمّا مات عزّ الدين أحمد أحد الكتبجية ومعناه الكاتب خرج عن ماله جميعه فقبضه أخوه وتصدّق ببعضه وعمّر حائط الّذي بُني وعقد الجملون على الحائط القبليّ والحائط الغربي من جهة الصحن وعمل له سقفاً متقناً. ذكر ما مُدح به هذا المسجد ولأبي بكر الصَنَوْبَريّ قصيدة مدح بها حلب وذكر فيها المسجد الجامع وهي: حَلَبٌ بَدْرُ دُجَي أَنْ ... جُمُها الزُهْرُ قُراها حَبَذا جامِعُها الجا ... مِعُ لِلنَفْسِ تُقاها مَوْطَنٌ يُرْسي ذَوو البِ ... رِّ بِمَرْساهُ حُباها شَهَواتُ الطَرْفِ فِيهِ ... فَوْقَ ما كانَ اشْتهاها قِبْلَةٌ كَرَّمَها الل ... هُ بِنُورٍ وَحَباها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وَرآها ذَهَباً في ... لازَوَرْدٍ مَنْ رآها وَمَراقي مِنْبَرٍ أَعْ ... ظَمُ شَيءٍ مَنْ رَقاها وَسَوارٍ فاتَ إِذْ فا ... تَ مَدَى الطَرْفِ مَداها وَذُرَى مِئْذَنَةٍ طا ... لَتْ ذُرَى النَجْمِ ذُراها وَلِفَوّارَتِهِ ما ... لا يَراهُ لِسِواها قَصْعَةٌ ما عَدَتِ الكَعْ ... بَ وَلا الكَعْبُ عَداها أَبَداً تَسْتَقبِلُ السُحْ ... بَ بِسُحْبٍ مِنْ حَشاها فَهْيَ تَسْقِي الغَيْثَ إِنْ لَمْ ... يَسْقِها وَإِنْ سَقاها كَنَّفَتْها قُبَّةٌ يَضْ ... حَكُ عَنْها كَنَفاها قُبَّةٌ أَبْدَعُ باِني ... ها بِناءً إِذْ بَناها ضاهَتِ الوَشْيَ نُقُوشاً ... فَحَكَتْهُ وَحَكاها لَوْ رآها مُبْتَني قُبَّ ... ةِ كِسْرَى ما ابتَناها " و " َ هَذا الجامِعُ سِرّاً ... يَتَباهى مَنْ تَباها حَيّا السارِيَةَ الخَضْ ... رآءَ مِنْهُ حَيّياها قُبْلَةُ المُسْتَشْرِفِ الأَعْ ... لَى إِذا قَابَلْتُماها حَيْثُ يَأْتِي حَلْقَة الآ ... دابِ مِناً مَنْ أَتاها مِنْ رِجالاتِ حُبيً لَمْ ... يَحْلُلِ الجَهْلُ حُباها مَنْ رآهُمْ مِنْ سَفِيهٍ ... باعَ بالجَهْلِ السَفاها هذه السارية الخضراء كان يجتمع فيها المشتغلون بالأدب يقرءونه عندها وذهبت في الحريق وما زالت حلق الأدب لقراءة النحو واللغة معقودةً بجامع حلب وكذلك لقراءة القرآن العزيز وما فتئ على هذه الحالة وكان مسروق العابد يُقريء فيه الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة رضه وذلك قبل أن تُبنَى المدارس بحلب. ذكر ما بظاهر حلب من الجوامع الجامع الّذي بالحاضر السليمانيّ أنشأه أسد الدين شِيرْكُوه بن شادي بن مروان بن يعقوب صاحب حمصٍ ووسّع بناءه الأمير سيف الدين عليّ بن عَلَم الدين سليمان لن جَنْدر وبنى إلى جانبه مدرسةً وتربةً ودُفن بها تُقام به الخطبة. وفي الرمادة جامع تُقام به الخطبة يُعرف بالبَخْتيّ. وفي بانَقُوساً جامع تُقام فيه الخطبة يُعرَف بعيسى الكردي الهكَّاريّ كان شحنة الشرطة بحلب. ذكر جامع القلعة كنيستان إحداهما كانت قبل أن تُبنى مذبحاً لإبراهيم الخليل صلع وكان به صخرة يجلس عليها لحلب المواشي. ثمّ بُنِي مسجداً جامعاً في أيّام بني مرداس وكان يُعرَف بمقام إبراهيم الأعلى وبه تُقام الخطبة وهو موضع مبارك يُزار. وذكر ابن بُطلان في بعض رسائله أنّه كان بقلعة حلب المذبح الّذي قرّب عليه إبراهيم الخليل صلع فغُيّر يعد ذلك مسجداً في أيّام بني مرداس. وذكر ابن العظيميّ في تأريخه قال: في سنة خمس وثلاثين وأربعمائة ظهر ببعلبكّ في حجر منقور رأس يحيى بن زكريّاء عم فنُقِل إلى حمص ثمّ نُقل إلى مدينة حلب في هذه السنة ودُفن بهذا المقام المذكور في جرن من الرخام الأبيض ووُضع في خزانة إلى جانب المحراب وأُغلقت ووُضع عليها ستر يصونها. وذكر كمال الدين بن العديم في تأريخه أنّ الملك العادل نور الدين بن عماد الدين زنكي جدّد عمارته. ووفي سنة تسع وستّمائة في أيّام الملك الظاهر غياث الدين غازي احترق بنار وقعت فيه وكان به من الخيم والسلاح وآلات الحرب ولم يحترق الجرن ودفع الله سبحانه عنه النار وهذا يدلّ على أنّ الرأس التي أُضيفت إلى يحيى به لأنّ النار لم تصل إليه وحُمي منها. وذكر كمال الدين أيضاً أنّ أبا الحسن عليّ بن أبي بكر الهرويّ أخبره قال: بقلعة حلب في مقام إبراهيم صلع صندوق فيه قطعة من رأس يحيى بن زكريّاء عم ظهر في سنة خمس وثلاثين وأربعمائة. وأمّا الكنيسة الأخرى فهي المقام الأسفل الّذي كان لإبراهيم الخليل عم وبه صخرة لطيفة تُزار. ويقال إنّ إبراهيم الخليل عم كان يجلس عليها أيضاً. ولم يُحقَّق من أَنشأ هذا المقام من ملوك الملّة الإسلاميّة والّذي تحقّق أنّ الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي جدّده أيضاً وزخرفه وكان كثير الصلاة والتعبّد فيه وبُني به صهريج مرصَّص يملأ في كل سنة ووقف عليه وقفاً بظاهر حلب حصّةً في أرحاء بالغربيّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ولمّا تسلّم التتر قلعة حلب صلحاً على ما سيأتي ذكره في موضعه من هذا الكتاب فأخربوها أحرقوا الجامع المذكور مع أماكن أخر وذلك في تاسع ربيه الأوّل سنة ثمان وخمسين. ولمّا عادت التتر إلى حلب في المرّة الثانية وجدوا أهل حلب قد بنوا بالقلعة برجاً للحمام فأنكروا عليهم بناءه وأخربوا القلعة حتّى لم يُبقوا بها أثراً وأحرقوا المقامَيْن حريقاً لا يمكن جبره وذلك في أحد الربيعَيْن من سنة تسع وخمسين وستّمائة. ولمّا أُحرق المقام الّذي هو الجامع عمد سيف الدين أبو بكر بن إيلبا الشحنة بالقلعة المذكورة على الذخائر وشرف الدين أبو حامد بن النجيب الدمشقيّ الأصل الحلبيّ المولد إلى رأس يحيى بن زكريّاء عم فنقلاه من القلعة إلى المسجد الجامع بحلب فدفناه غربيّ المنبر وعُمل له مقصورة وهو يُزار. وكان بهذه القلعة جرس كالتنّور العظيم معلّق على برج من أبراجها الّتي من غربيّها كانت الحرّاس تحرّكه ثلاث دفعات في الليل دفعة في أوّله الانقطاع الرجل عن السعي وأخرى في وسطه للبديل وأخرى في آخره للإعلام بالفجر وعُلّق هذا الجرس على القلعة في سنة ستّ وتسعين وأربعمائة والسبب في تعلقه ما حكاه منتجب الدين يحيى بن أبي طيء النجّار الحلبيّ في تأريخه أنّ الفرنج لمّا ملكوا أنطاكية في سنة إحدى وتسعين وأربعمائة طمعوا في بلاد حلب فخرجوا إليها وعاثوا في بلادها وملكوا معرّة النعمان وقتلوا من فيها فخافهم الملك رضوان بن تاج الدولة تُتُش لعجزه عن دفعهم عن البلاد ومنعهم فاضطُرّ إلى مصالحتهم فاقترحوا عليه أشياء كثيرةً من جملتها أن يحمل إليهم في كلّ سنه قطيعةً من مال وخيل وأن يتعلّق بقلعة حلب هذا الجرس ويضع صليباً على منارة الجامع وقبّح عليه ذلك. فراجع الفرنج في أمر الصليب إلى أن أذنوا له في وضعه على الكنيسة العظمى التي بنتها هيلاني أمّ قسطنطين فلم يزل عليها إلى أن حاصرت الفرنج حلب ابن الخشّاب المذكور أربع كنائس وصيّرها مساجد من جملتها الكنيسة العظمى ورمى بالصليب. وأمّا الجرس فإنّه لم يزل معلّقاً إلى أن ورد حلب الشيخ الصالح أبو عبد الله ابن حسّان المغربيّ فسمع حركة الجرس وهو مجتاز تحت القلعة فالتفت إلى من كان معه وقال: ما هذا الّذي قد سمعتُ من المنكر في بلدكم؟ هذا شعار الفرنج. فقيل له: هذه عادة البلدة من قديم الزمان. فازداد إنكاره وجعل أصبعَيْه في أذنَيْه وقعد إلى الأرض وقال: الله أكبر الله أكبر. وإذا بوجبة عظيمة قد وقعت في البلد فانجلت عن وقوع الجرس إلى الخندق وكسره وذلك في سنة سبع وثمانين وخمسمائة. فجُدّد بعد ذلك وعُلّق مرةً ثانيةً فانقطع لوقته وانكسر وبطل من ذلك اليوم. قال كمال الدين أبو القاسم عمر المعروف بابن العديم في ترجمة هذا الرجل محمّد بن حسّان بن محمّد أبو عبد الله وأبو بكر المغربيّ الزاهد رجل فاضل مقرئ محدّث وليّ من أولياء الله تع: قدم حلب ونزل بدار الضيافة بالقرب من تحت القلعة وكان من الموسرين المتسوّلين ببلاد المغرب فترك ذلك جميعه وخرج على قدم التجريد وحجّ إلى بيت الله الحرام ثمّ قدم حلب ورحل منها إلى جبل لُبنان وساح فيه وقيل إنّه مات فيه ولم يُذكَر وقت وفاته رحمه الله. الباب التاسع في ذكر المزارات الّتي في باطن حلب وظاهرها من ذلك مشهد بسوق الحدّادين يُعرَف بعليّ عم رُؤي في النوم يصلّي فيه مراراً ويديم التردّد إليه وهو موضع يستجاب فيه الدعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ومن ذلك أيضاً مسجد غَوْث. ذكر كمال الدين بن العديم في تأريخه قال: قال لي عليّ بن أبي بكر الهرويّ فيما ذكره من الزيارات بحلب: " وبها داخل باب العراق مسجد غَوْث به حجر عليه كتابة زعموا أنّها خطّ عليّ بن أبي طالب عم وله حكاية ". وهي أنّ أتابك زنكي لمّا أخذ الحديثة وعاد إلى الشام فأتفق أنّه مرّ في صفّين فاعترضته حمّى حادّة منعته القرار ثمّ زالت عنه في آخر الليل فنام فرأى في النوم كان عليّاً رضه يصف له دواء للحمّى ودلّه على حجر هناك فلمّا أصبح استعمل الصفة وسأل عن الحجر فدُلّ عليه وسأل عن قصّته. فذكروا أنّ عليّاً عم لمَّا نزل الرّقة شكا إليه أهلها ما يلقون من السباع وكثرتها فجاء إلى هذا الحجر وكتب عليه شيئاً ووضعه خارج الرقّة فأمر أتابك بحمل الحجر إلى مدينة حلب وكتب عليه شيئاً ووضعه خارج الرقّة فأمر أتابك بحمل الحجر إلى مدينة حلب فحُمِل على ناقة فلمّا وصلت به حلب أرادوا رفعه إلى القلعة فادخلوا الناقة من باب العراق وأخذوا بها في الطريق المعروف بالرمي فبركت قريباً من رأسه فأثاروها فلم تقم فضربوها فعويت وامتنعت من القيام فطرحوا عنها الحجر فأمر الأتابك بعمارة مسجد هناك ووضع الحجر فيه في بيت في غربيّه وذلك في سنة ستّ وثلاثين وخمسمائة. ومنها مسجد النور وهو بالقرب من باب قنّسرين في برج من أسوار حلب. ذكروا إِنّما سُمّي بذلك لأنّه رُؤي النور ينزل عليه مراراً وكان ابن أبي نُمَيْر العابد يتعبّد فيه فاتّفق أنّ ملك الروم نزل على حلب محاصراً لها في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة واسمه أرمانوس فجاء الحلبيّون إلى أبن أبي نمير ومعهم ابن الخشّاب وكان مقيماً في البرج المذكور وسألوه الدعاء. قال فسجد على ترس كان عنده وسأل الله تع دفع العدوّ عن حلب. فرأى ملك الروم أرمانوس المسيح عم مهدّداً وهو يقول له: " تحاول أخذ هذه المدينة وفيها الساجد على الترس " فأشار إلى البرج الّذي هو فيه فلّما أصبح ملك الروم طلب من يخرج إليه فخرج إليه جماعة فأمرهم بالركوب وأوقفهم على ما أحدث في السور من النقوب الّتي أشرف بها على أخذه ثمّ قال لهم: إنّي راحل عنكم لا عن عجز لأنّ المسيح أمرني بذلك لأجل هذا الراهب الّذي في هذا البرج. وأشار إلى المكان الّذي فيه ابن أبي نُمَير ورحل عنها عن صلح قترّر بينه وبين أهلها ووقفتُ على هذه الحكاية في كتاب تأريخ حلب الصغير لكمال الدين فذكر أنّ اسم ابن أبي نُمير عبد الرزّاق بن عبد السلام وذكر عنه أنّه كان من الأولياء الزهّاد والمحدّثين العلماء وتوفيّ بحلب سنة خمس وعشرين وأربعمائة وقبره خارج باب قنّسرين. وذكر له أيضاً حكايةً مثل هذه مع الفرنج أيضاً في وقعة اشتدّ بهم الحصار في حلب باتوا على السور وفيهم ابن أبي نُمَيْر يصلّي على السور وسجد في آخر الليل فنام وهو ساجد فرأى في منامه عليّاً عم راكباً ولباسه أخضر وبيده رمح وهو يقول: ارفع رأسك يا شيخ فقد قضيتُ حاجتك. فانتبه بقوله فحكى للناس ذلك فتباشروا به. وحُكي عن مرتضى الدولة أنّه قال: استدعاني أرمانوس في آخر تلك الليلة الّتي رأى ابن أبي نُمير الرؤيا فيها. فقال لي: لكم بحلب راهب. فعلمتُ أنّه يعني ابن أبي نمير. فقلتُ: نعم. فقال: صفه لي. فوصفتُه له. فقال لي: رأيتُ هذا الرجل بعينه في هذه الساعة وكأنّي قد أشرفتُ على سور هذه المدينة وهو قائم عليه يوميء إليّ بيده ويقول " " ارجع فما تصل إلى هذا البلد " ولا أرى أنّه يتمّ لي شيء. فلّما كانت صبيحة تلك الليلة وقعت بينه وبين المسلمين وقعة انهزم فيها وقُتل من كان معه من العساكر وكان جيشاً عظيماً فيه ملك البُلغار وملك الروس وملك لبخَزَر وملك بَجنَاك. قال كمال الدين: سمعتُ أنّ القاضي الأكرم أبا الحسن عليّ بن يوسف القِفْطيّ وزير حلب كان يقول: مشهد النور تعتقد فيه النُصَيْريّة اعتقاداً عظيماً ويحجّون إليه وينذرون له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ومسجد الغضائريّ ويُعرف الآن بمسجد شُعَيب وهو أوّل مسجد اختطّه المسلمون. نقلتُ من تأريخ محمّد بن عليّ العظيميّ قال: لمّا فتح المسلمون حلب دخلوها من باب إنطاكية ووقفوا داخل البلد ووضعوا تراسهم في مكان بُني به هذا المسجد وعُرف أوّلاً بأبي الحسن عليّ بن عبد الحميد الغضائريّ أحد الأولياء من أصحاب سَرِيّ السقطيّ رحمه الله وحجّ من حلب ماشياً أربعين حجةً ثمّ عُرف ثانياً بمسجد شُعَيب وهو شعيب بن أبي الحسن بن حسين بن أحمد الأندلسيّ الفقيه كان من الفقهاء والزهّاد. وكان نور الدين محمود بن زنكي يعتقد فيه ويتردّد إليه فوقف على هذا المسجد وقفاً ورتّب فيه شعيب المذكور مدرّساً على مذهب الإمام الشافعيّ رضه. ذكر ما كانت الأمم السالفة تعظّمه من أماكن بمدينة حلب يقال إنّه كان بحلب نيّف وسبعون هيكلاً للنصارى منها الهيكل المعظّم عندهم الّذي بنته هيلاني أمّ قسطنطينيّة وهي التي بنت كنائس الشام كلّها والبيت المقدّس وهذا الهيكل كان في الكنيسة معظّمةً عندهم ولم تزل على ذلك إلى أن حاصرت الفرنج حلب في سنة ثماني عشرة وخمسمائة وملكها يومئذ إيلغازي بن أُرْتُق صاحب ماردين فهرب منها وقام بأمر البلد ومن فيه القاضي أبو الحسن محمّد بن يحيى بن محمّد بن أحمد بن الخشّاب فعمد الفرنج إلى قبور المسلمين فنبشوها. فلمّا بلغ القاضي ذلك أخذ من كنائس النصارى التي كانت بحلب أربعاً وجعل فيها محاريب منها هذه الكنيسة التي قدّمنا ذكرها فجعلها مسجداً فاستمرّت على ذلك إلى أن ملك الملك العادل نور الدين حلب فجدّد فيها إيواناً وبيوتاً وجعلها مدرسةً لتدريس مذهب أبي حنيفة ووقف عليها وقفاً. وأمّا الباقيات فإحداها كانت في الحدّادين فلمّا ملك الملك الناصر صلاح الدين حلب جعلها حسام الدين لاجين ابن أخته مدرسةً للحنفيّة والثانية في درب الحطّابين جعلها عبد الملك المقدّم مدرسةً للحنفيّة والثالثة على ما يغلب عليه ظنّي هي المسجد الّذي هو قريب من حمّام موغان وكان بموضع الحمّام والدار بيت المذبح للكنيسة الّتي قلنا إنّها صارت المدرسة الحلاويّة وبينها وبينه ساباط معقود البناء تحت الأرض يخرج منها من الهيكل إلى المذبح وكان النصارى يعظّمون هذا المذبح ويقصدونه من سائر البلاد وكانت حمّام موغان حمّاماً للهيكل وكان حوله قريباً من مائتَيْ قلاّية تنظر إليه وكان في وسطه كرسيّ ارتفاعه أحد عشر ذراعاً من الرخام الملكيّ الأبيض. وذكر ابن شرارة النصرانيّ في تأريخه أنّ عيسى عم جلس عليه وقيل جلس موضعه لمّا دخل إلى حلب. وذكروا أيضاً أنّ جماعة الحواريّين دخلوا هذا الهيكل وكان في ابتداء الزمان معبداً لعبّاد النار ثمّ صار إلى اليهود فكانوا يزورونه ثمّ صار إلى النصارى ثمّ صار إلى المسلمين. وذكروا أيضاً أنّه كان بهذا الهيكل قسّ يقال له بَرْسوما تعظّمه النصارى وتحمل إليه الصدقات من سائر الأقاليم يُذْكَر في سبب تعظيمهم له أنّه أصاب أهل حلب وباء في أيّام الروم فلم يسلم منهم غيره. ذكر ما بظاهرها من المزارات من ذلك مقام إبراهيم عم وهو خارج المدينة ممّا يلي القبلة وحوله الآن جبّانة وهو مشهد مقصود من كلّ الأقطار في محرابة حجر يقال أنّ إبراهيم عم كان يجلس عليه. وفي الرواق القبليّ. منه ممَّا يلي الصحن صخرة مرتفعة فيها نقرة قيل إنّه كان يحلب فيها غنمه. ومنها مشهد الخضر عم وهو بناء قديم قيل أنّه قبل الملّة الإسلامية يُذكَر أنّ جماعة من صالحي حلب اجتمعوا به فيه وهذا الموضع مقصود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ومنها في شرقيّ المدينة مشهد قَرَنْبِيا أنشأه عماد الدين آق سُنْقُر قسيم الدولة صاحب حلب وكان هذا الموضع قديماً يُعْرف بمقر الأنبياء فحرّفته العامة وسبب بناء قسيم الدولة لهذا المشهد أنّ شيخاً من أهل منبج رأى في حلب عدّة مرار كأنّ علي بن أبي طالب عم يصلّي فيه وأنّه قال: قل لآق سُنْقُر يبني على قَرَنْبيا مشهاً وقرنبيا اسم الربوة. فقال الشيخ لعليّ عم: ما علامة ذلك فقال: أن تكشف الأرض فإنها أرض معمولة بفصّ المرمر والرخام وفيها محراب مؤسّس وقبر على جانب المحراب في بعض ولدي. فلّما تكرّرت هذه الرؤيا على الشيخ شاور جماعةً من أصحابه فأشاروا عليه أن يتعرض له فخرج إليه في جماعة فلمّا رآهم أنفذ إليهم حاجبه وسألهم ما حاجتهم فأخبروه برؤيا الشيخ فأمر وزيره بكشف الموضع فكشفه ورأى الإمارات على ما حكاه من الرؤيا. فبناه ووقف عليه وقفاً وكان يتردّد إليه. هذا ما حكاه يحيى بت أبي ط] ّ. إنه رُؤي النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه وجماعة من الأنبياء. مراراً فبناه قسيم الدولة. ويقال إنّ بظاهر باب أربعين قبر بلال بن حمامة وهو لا يُعْرَف والمؤرّخون يقولون أنه مات بحلب. ومنها في شماليّ البلد خارج باب النصر مشهد قديم يُعْرَف بمشهد الدعاء. وقد جُرّب لإجابة الدعاء.. ومنها بجانب باب الجنان ملاصق له مشهد قديم يُعْرَف بمشهد علي عم. ذكر يحيى بن أبي طيّ. أن في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة ظهر مشهد عليّ عم الّذي على باب الجنان. قال: وكان مكان يُباع فيه الخمر واتّفق أن بعض أهل حلب رأى في النوم وكان مريضاً بحُمّى في مدّة طويلة كأنّه في ذلك المكان وكأنّ رجلاً يقول له: أي شيء تشكو؟ فقال: الحمّى. فمدّ يده إلى تراب من ذلك المكان وقال: خذه وعلّقه عليك فإنك تبرأ وقل للناس يعمّرون هاهنا مشهداً فقال: يا مولاي لا يقبلون مني. فقال: يحفرون هاهنا فإنهم يجدون صخرةً جميع ما حولها من التراب يكون فيه رائحة المسك. فقال له من أنت؟ قال: أنا عليّ بن أبي طالب. فاستيقظ الرجل وقد زالت الحمّى عنه. فحدّث لأهله بذلك وأصبح وخرج إلى المكان ووقف يحثّث الناس وكان بحلب رجل يقال له شُقَيْر السواديّ يحمل السواد إلى البساتين وكان فيمن حضر فنبشوا المكان فكان التراب يخرج كأنه المسك فتطيّبت به الناس وتاب شُقَيْر عن أمور كان يعتمدها في الفساد وتوّلى عمارة المكان. ومنها على باب أربعين مشهد الثلج يقال إنّ عمر بن الخطاّب رضه رُؤي يصلي فيه. ومنها عند جسر الروّاس مشهد يونس عم يقال إنّ يونس كان نازلاً بمكانه. ومنها مشهد الدكَة وهو في غربيّ حلب وسُمي بهذا الاسم لأنّ سيف الدولة كانت له دكّة على الجبل المطلّ على المشهد يجلس عليها للنظر إلى حلبة السبّاق فإنها كانت تجري بين يديه في ذلك الوطاء الّذي فيه المشهد. قال يحيى بن أبي طيّ في تأريخه: وفي السنة - يعني سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة - ظهر مشهد الدكة. وكان سبب ظهوره أن سيف الدولة عليّ ابن حمدان كان في أحد مناظره بداره الّتي ظاهر المدينة فرأى نوراً ينزل على المكان الّذي فيه المشهد عدّة مرّات. فلمّا أصبح ركب بنفسه إلى ذلك المكان وحفره فوجد حجراً عليه كتابة: " هذا " قبر " المحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب ". فجمع سيف الدولة العلويّين وسألهم هل كان للحسين ولد اسمه المحسّن. فقال بعضهم: ما بلغنا ذلك وإنما بلغنا أنّ فاطمة عم كانت حاملاً فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: في بطنك محسّن. فلمّا كان يوم البيعة هجموا عليها في بيتها لإخراج عليّ عم إلى البيعة فأخْدجت. وقال بعضهم: يُحتمل أنّ سبيّ نساء الحسين لمّا وردوا هذا المكان طرح بعض نسائه هذا الولد. فإنا نروي عن آبائنا أن هذا المكان سُمّي بجَوْشَن لأنّ شُمر ابن ذي الجَوْشَن نزل عليه بالسبي والرؤوس وأنّه معدناً يُعمَل فيه الصفر وأن أهل المعدن فرحوا بالسبي فدعت عليهم زينب بنت الحسين ففسد المعدن من يومئذ. وقال بعضهم: إنّ هذه الكتابة ألّي على الحجر قديمة وأثر هذا المكان قديم وإن هذا الطِرْح الّذي زعموا لم يفسد وبقاؤه دليل على أنّه ابن الحسين. فشاع بين الناس هذه المفاوضة الّتي جرت وخرجوا إلى هذا المكان وأرادوا عمارته فقال سيف الدولة: هذا موضع قد أذن الله تع لي في عمارته على اسم أهل البيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 قال يحيى بن أبي طيّء: ولحقتُ باب هذا المشهد وهو باب صغير من حجر أسود عليه قنطره مكتوبُ عليها بخطّ أهل الكوفة كتابة عريضة: " عمّر هذا المشهد المبارك ابتغاء وجه الله تع وقربةً إليه على اسم مولانا المحسّن ابن الحسين بن علي بن أبي طالب عم الأمير الأجل سيف الدولة أبو الحسن عليّ بن عبد الله بن حمدان ". وذكر التأريخ المتقدّم: ثمّ بعد ذلك في أيام بني مرداس بُني المصنع الشماليّ من المشهد ثمّ بُني في أيام قسيم الدولة آق سُنْقُر في سنة اثنين وثمانين وخمسمائة في ظاهر قبليّ المشهد مصنع للماء: وكُتب عليه اسمه وبُني الحائط القبليّ وكان قد وقع ووقف على المشهد رحى حندبات وفدّانين بالحاضر السليماني. وعُمل للضريح طوق وعرانيس من فضّة وجُعل عليها غشاء. ثمّ في أيام نور الدين محمود زنكي بُني في صحنه صهريج بأمره وميضأة فيها بيوت كثيرة ينتفع بها المقيمون به وهدم الرئيس صفيّ الدين طارق بن علي بن محمد البالسيّ رئيس حلب المعروف بابن الطُرَيرة بابه الّذي بناه سيف الدولة ورفعه وحسّنه. ولمّا مات الرئيس وليّ الدين أبو القاسم بن عليّ رئيس حلب وهو ابن أخي المقدّم ذكره دُفن إلى جانب المصنع ونُقض باب المصنع الّذي عليه قسيم الدولة وبُني وكُتب عليه اسمه وذلك في سنة ثلاث عشرة وستمائة. ثمّ في أيام الملك الظاهر غياث الدين غازي بن صلاح الدين يوسف وقع الحائط القبليّ فأمر ببنائه. ثمّ في أيام الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر وقع الحائط الشماليّ فأمر ببنائه وعمل الروشن الدائر بقاعة الصحن. وأمّا ملك التتر مدينة حلب قصدوا هذا المشهد ونهبوا ما كان فيه من الأواني الفضّة والبسط وأخرجوا الضريح والجدار ونقضوا أبوابه. فلمّا ملك السلطان الظاهر حلب أمر بإصلاح المشهد ورّمه وعمل بابه وجعل فيه إمام وقيّم ومؤذن. ومنها مشهد الحسين وهو سفح جبل جَوْشَن وكان السبب في إنشائه ما حكاه يحيى بن أبي طيء في تأريخه أنّ رجلاً راعياً يُسمى عبد الله يسكن في درب المغاربة وكان يخرج كل يوم لرعي الغنم فنام في يوم الخميس العشرين من ذي القعدة سنة وسبعين وخمسمائة بعد صلاة الظهر فرأى في نومه في المكان الّذي بُني فيه المشهد كأن رجلاً أخرج نصفه من شقيف الجبل المطلّ على المكان ومدّ يده إلى أسفل الوادي وأخذ عنزاً. فقال له: يا مولاي لأي شئ أخذت هذه العنزة وليست لك؟ فقال: قُل لأعل حلب يعمّرون في هذا المكان مشهداً ويسمّونه مشهد الحسين. فقال: لا يرجعون إلي قولي. فقال: قُل لهم يحفرون هناك. ورمى بالعنزة من يده إلى المكان الّذي أشار إليه. فلما استيقظ رأى العنز قد غاصت قوائمها في المكان. فجذب العنز فظهر الماء من مكان قوائمها. فدخل حلب ووقف على باب الجامع القبليّ وحدّث بما رأى فخرج جماعة من أهل البلد إلى المكان الّذي ذكره فرأوا العلامة على ما وصف الموضع الذي ظهرت فيه العين في غاية الصلابة بحيث أّنه لا تُعمل فيه المعاول وكان به معدن للنحاس قديماً فأنبطوا العين فثرّت وغزر ماؤها. ثم خطّوا في ذلك المكان المشهد المذكور وتولّى عمارته الحاجّ أبو نصر بن الطبّاخ وأخذ له الجمال يوسف بن الإكليليّ طالعاً يوم الشروع فيه فكان القمر في الأسد على تثليث المشتري وبلغني عنه أنّه قال: قد أخذتُ لهذا المشهد طالعاً لو أراد أهل حلب أن يبنوه ذهباً لما عجزوا. وكان ذلك في أيّام الملك الصالح بن الملك العادل نور الدين. فأمدّهم بإسراع وعجل وشرعوا في البناء فبنوا الحائط القبلي واطيّاً. فلمّا رأى جدّي الشيخ إبراهيم بن شدّاد بن خليفة بن شدّاد لم يرضه وزاد في بنائه من ماله. وتعاضد الناس في البناء فكان أهل الحرف يفرض كلّ واحد منهم على نفسه يوماً يعمل فيه وكذا فرض له أهل الأسواق في بياعاتهم دراهم تُصرَف في المؤن والكلف. وبنى الإيوان الذي في صدره الحاجّ أبو غانم بن شقويق من ماله. وهدم بعد ذلك بابه وكان قصراً الرئيس صفيّ الدين طارق بن عليّ البالسيّ رئيس حلب ورفع بناءه عمّا كان عليه أوّلاً وذلك في سنة خمس وثمانين وخمسمائة وفي هذه السنة انتهت عمارته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ولمّا ملك صلاح الدين يوسف حلب زاره في بعض الأيّام وأطلق له عشرة آلاف درهم. ولمّا ملك ولده الملك الظاهر حلب اهتمّ به ووقف عليه رحىً تُعرف بالكماليّة وكان مبلغ خراجها ستّة آلاف درهم في كل سنة وأرصدها في شراء كعك وحلو في ليالي الجمع لمن يكون به. وفوّض النظر في ذلك لنقيب الأشراف يومئذ السيّد الشريف الإمام العالم شمس الدين أبي عليّ الحسين بن زُهرة الحسينيّ والقاضي بهاء الدين أبي محمّد الحسن بن إبراهيم بن الخشّاب الحلبيّ. ولمّا ملك ولده الملك العزيز حلب استخرج منه بهاء الدين المذكور إذناً في إنشاء حرم إلى جانبه فيه بيوت يأوي إليها من انقطع إلى هذا المشهد فأذن له فشرع في بنائه واستولت التتر على حلب قبل أن يتمّ. ولمّا استولوا دخلوا إلى هذا المشهد وأخذوا ما كان الناس قد وقفوا عليه من الستور والبسط والفرش والأواني النحاس والقناديل الذهب والفضّة والشمع وكان شيئاً لا يحصره عدّ ولا يحويه حدّ وشعّثوا بناءه ونقضوا أبوابه. فلمّا ملك السلطان الملك الظاهر حلب جدّده ورمّه وأصلحه وعمل أبوابه ورتّب فيه إماماً ومؤذّناً وقيّماً. ومنها مشهد يُعرف بمشهد الأنصاريّ وهو قلبيّ جبل جّوشَن في طرف الياروقيّة. قال الشيخ أبو الحسن عليّ بن " أبي بكر " الهرويّ: في هذا المشهد قبر عبد الله الأنصاريّ كما ذكروا. وذكر كمال الدين في تأريخه قال: أخبرني والدي رحمه الله قال: رأت امرأة من نساء أمراء الياروقيّة في المنام قائلاً يقول: " ها هنا قبر الأنصاريّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ". فنبشوا فوجدوا قبراً فبنوا عليه هذا المشهد وجعلوا عليه ضريحاً. ودثر المشهد المذكور فجدّدته أزانيلوفَر عتيقة الأمير سيف الدين عليّ بن عَلَم الدين سليمان بن جَنْدَر. ولمّا توفيّ معتقها الأمير سيف الدين المذكور في سنة اثنتين وعشرين انقطعت إليه وقامت بأود من يرد عليه من الزوّار في كلّ وقت تُطعمه الحلو وتسقيه الجلاّب إلى أن تُوفّيت وبقي به من إمائها وحفدتها من يقوم به إلى أن استولى التتر فتشعّث بناؤه بعيثهم. ومنها المشهد الأحمر وهو في رأس جبل جَوشَن يقصده أهل حلب في مهمّاتهم ويدعون فيه لكشف ما نزل بهم فيُستجاب لهم ورأى بعض الصالحين في النوم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تصلّي في البيت الذي في الجدار القبليّ منه. وهذا البيت الذي يُزار ويٌصد، بنى المشهد بعض أهل زماني قبّةً جليلةً عالية البناء وبنى فيه صهريجاً. ومنها مشهد يُعرف بعليّ عم وهو بشاطئ نهر قويق الغربيّ ويقال إنّ بانيه من أولاد العُلَّيْقيّ بمنام رآه وكان موضعه حانةً. فلمّا بُني باعد الله بين بقعته وبينها وطهّرها. ذكر ما في قرى حلب وأعمالها من المزارات من ذلك: مشهد يقال له مقام إبراهيم الخليل عم بقرية نوايل من شرقيّ حلب على جبل يُزار مشهور البركة. وبقرية بُراق من أعمال حلب معبد يقصده الزَمْني والمرضى من الأماكن فيبيتون به فإما يبصر المريض من يقول له: دواؤك في الشيء الفلانيّ أو يبصر من يمسح بيده عليه فيقوم وقد بريء بإذن الله تع. ومن شماليّ حلب عمود ينذره المسلمون واليهود والنصارى يقال إنّ تحته قبر نبيّ. ومنها مشهد الرجم وهو بأرض آرَلْ جوار عنادان على رأس جبل مشرف على بلد الأرتيق يُزار ويتبرّك به وفيه سرادب قيل إنّ فيه نبيّاً مدفوناً وإنّ قومه رجموه بهذا المكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وبقرية روحين من جبل سَمْعان مشهد فيه ثلاثة قبور. الأوسط منها قبر قُسّ بن ساعدة الإياديّ الذي يُضْرَبُ به المثل في الفصاحة ويقول فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم: مهما نسيتُ من شيء فلستُ أنساه في سوق عكاظ وهو واقف على جمل أورق يخطب الناس وهو يقول: " يا أيّها الناس اسمعوا فإذا سمعتم فعوا فإذا وعيتم فانتفعوا وإذا انتفعتم فقولوا وإذا قلتم فاصدقوا من عاش مات ومن مات فات وكلّ ما هو آتٍ آت مطرٌ ونبات وأحياء وأموات في السماء خبر وفي الأرض عبر يحار منها البصر مهاد موضوع وسقف مرفوع ونجوم تمور وبحار تفور. أقسم قسّ قسماً حقاً لا كاباً فيه ولا آثماً: لئن كان لي الأمر رضىً ليكوننّ سخطاً. يا أيّها الناس إنّ لله ديناً هو أحبّ من دينكم هذا الّذي أنتم عليه وهذا زمانه وأوانه ". ثمّ قال: ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فقال: أيّكم يروي لنا شعره؟ فقال أبو بكر رضه: فداك أبي وأميّ وأنا شاهد له في ذلك اليوم حيث يقول: في الذاهِبِينَ الأَوّلِي ... نَ مِنَ القُرُونِ لَنا بَصائِرْ لَمّا رَأَيْتُ مَوارِداً ... لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَها مَصادِرْ وَرَأَيْتُ قَوْمي نَحْوَها ... تَمْضي الأَصاغِرُ وَالأَكابِرْ لا يَرْجِعُ الماضي إِليَّ ... وَلا مِنَ الباقِينَ غابِرْ أَيقَنْتُ أَنّي لا مَحا ... لَةَ حَيْثُ صارَ القَوْمُ صائِرْ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله قُسّاً أمّا إنّه سيبعث أمّةً وحده. وممّا يُحكى عنه أنّ رجلاً من عبد القيس قال: خرجتُ في شبيبتي أتّبع بعيراً شرد مني أقفوا أثره فبينما أنا في فلاة أجوب سبسبها وأرمق فدفدها إذا أنا بعين خّرارة وروضة مدهامّة وشجرة عادية وإذا بفتّى جالس في أصلها وبيده قضيب فدنوتُ وحييّتُه فردّ عليّ فقلتُ ما اسمك؟ فقال: قُس. ثمّ وردت العين سباع كثيرة وكان كلّما ذهب سبع من السباع يشرب الّذي ورد قبله يضربه قُس بالقضيب الّذي في يده ويقول: حتّى يشرب الذي ورد قبلك. فذعرتُ لذلك ذعراً شديداً فنظر إلي وقال: لا تخف. وهذا المشهد كان مهجوراً لا يمكن أحد الإقامة فيه والزوار يأتون إليه ويمضون من ساعتهم ذلك لكثرة اللصوص والمتحرّمين. فاتّفق في أيّام الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف أيّوب صاحب حلب إذ ذاك في سنة ستمائة أنّه ندب من ديوانه سديد الدين مظفّر بن أبي المعالي ابن المخيخ الحلبيّ المولّد ليقيس جبل بني عُلَيْم وغيره وكان به حمّى باردة مع فالج اعتراه وله به مدّة. فلمّا وصل في القياس إلى المشهد حُم فلمّا غلبت عليه الرعدة نام به فخرج إليه فلاّحو الضيعة وحذّروه من المبيت في المشهد لكونه خراباً مخيفاً فنذر على نفسه أنّه متى برئ من مرضه عمّره وسكنه ونام فيه ليلته. فلمّا كان في ثناء الليل انتبه فوجد في نفسه قوّةً فلما أصبح رأى جميع ما كان به من المرض قد زال. فعند ذلك تفقّر ولبس عباءةً وقطع شعره وأباع جميع ما كان يملكه من خيل وعُدة ومِلك وعمّر به هذا المشهد والحمّام والبستان وحرّر العين بعدما كانت ملآنة من التراب مسدودةً وأقام به إلى أن درج رحمه الله. وكان الملك الظاهر حضر إلى هذا المشهد في أيام عمارته وأعجبه ما اعتمده سديد الدين المذكور فأوقف عليه وعلى عقبه خُمْس قرية روحين وكان عند وفاته الملك المعظم فخر الدين توران شاه بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب مُقْطعاً روحين فعاد أمر هذا المشهد إليه فولّى فيه من قبله إنساناً يعرَف بالنفيس من أهل مصر ولم يزل به إلى أن توّفي إلى رحمة الله تع وتولّى بعد وفاته ولده ويُعرف بالشمس محمّد ولم يزل به إلى أن عُزل عنه وولي شخص آخر يُعرَف بالشجاع العجميّ ولم يزل به إلى أن تُوّفي إلى رحمة الله تعالى. ولمّا عظّم الملك الظاهر أمر هذا المشهد عظّمه الناس وبنوا به عمائر من جملتها البركة الخارجة عن المشهد بناها أحد الفلاّحين ويُعرَف بالحاج عثمان من أهل تلّ رُمّانين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وبنت دولات خاتون ابنة الأمير عَلَم الدين سليمان بن جَنْدَر الخان وأرصدته نزلاً لمن يقصد لزيارة المشهد وبنى له سوراً حائطاً به الحاجّ آقطعْان بن ياروق وساق الماء من خارج المشهد إلى داخله. ولمّا تولّى أمره الشيخ الصالح فخر الدين بن محمّد بن محمود الكنجيّ السهرورديّ بنى به حمّاماً من مال الوقف. وكان أهل حلب قد اتّخذوا للخروج إلى هذا المشهد موسماً في يوم معيّن من السنة يسمّونه خميس الرزّ وهو الموسم الّذي يُسمّى بمصر خميس العدس فيجتمع إليه من سائر أقطار حلب وحماه وحرّان وبالس حتّى يكاد أن تُخلّى ممّن فيها ويحتفلون به الاحتفال الّذي يضاهي احتفال أهل مكّة بموسم الحجّ ويكون موعد اجتماعهم فيه يوم السبت ولا يزالون به إلى يوم الجمعة فما ينسلخ النهار وفي الدار دَيّار. وأهل التأريخ منهم من يقولون: إنّ البلاد لمّا كانت للنصارى وللفرنج كانوا يجعلونه مساوياً في التعظيم لبيت المقدس. فإذا كان آخر صومهم قصدوه من كلّ النواحي وعيّدوا فيه. فلمّا ملك المسلمون البلاد قصدوا الموضع واهتمّوا به أضعاف اهتمام النصارى وصيّروا له نذوراً ورغبوا في بركة من فيه مدفون. ومن عجيب أمره أنّ التتر لمّا ملكوا البلاد لم يقتلوا به أحداً ممّن التجأ إليه. والقبران الآخران قبرا سمعان وشمعون من الحواريّين. وبجبل برصايا من عمل عَزاز قبر بَرْصيصا العابد ومقام داود عم وقال الشيخ عليّ بن أبي بكر الهرويّ: جبل برصايا به مقام بَرْصيصا العابد وقبر شيخ بَرْصيصا ومقام داود عم. وبقرية مَشْحَلا من عمل عزاز قبر أخي داود عم وهذه القرية بها نهر جارٍ وبساتين وقد خرج منها بعض أهل الحديث. وبقورس قبر أوريا بن حنّان في قبّة من قبليّ المدينة وقصّته مع داود مشهورة. وبمنبج مشهد من شرقيّ المدينة فيه قبر خالد بن سِنان العبسيّ صاحب الأُخدود ويُعرَف بمشهد خالد وخالد هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقّه: نبيّ أضاعه قومه. وبجبل بُزاعا من غربيّ الباب ويُسمّى جبل تَيْم مشهد مطلّ على الباب مقصود بالزيارة ويقولون: إنّ في كلّ سنة في خميس نيسان يجتمع إليه حيوان يشبه الدراريج حتّى تعمّ أكثر الأرض التي حول المشهد ثمّ يذهب في آخر النهار جميعه. وبجبل الطور المجاور لقنّسرين مشهد: ذكر الشيخ عليّ بن أبي بكر الهرويّ مدينة قنّسرين فحكى أنّ في جبلها مشهداً يقال إنّه مقام صالح النبي صلى الله عليه وسلم ويقال إنّ الناقة خرجت إليه منه ربه آثار أقدام بعير. وفي هذا نظر لمن تأمّله لأنّ قصّة صالح كانت بالحجر ويغلب على ظّني أنّ هذا المشهد من بناء صالح بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس فإنّ ولاية الشام كانت إليه وله آثار بحلب وقنّسرين فَنُسب المشهد إلى صالح عم. وبمعرّة النعمان فيما زعموا قبر يُوشَع بن نون عليه السلام في مشهد هناك جدّد عمارته الملك الظاهر غياث الدين غازي ووقف عليه بالمعرّة وقفاً وهو يزار. ولمّا خرج الملك المعظّم فخر الدين توراة شاه من حبس مصر اشترى له بالمعرّة أرضاً ووقفها عليه وذلك في سنة خمسين وقيل إنّ بها قبر محمّد بن عبد الله بن عمّار بن ياسر. وبكفر طاب في قرية يقال لها شَحْشَبْو قبر الإسكَنْدَر قيل إنّه مات بها ونُزع ما في جوفه ودُفن وصُبّر جسده وحُمل إلى أمّه وقد ذكر بعض أرباب التواريخ أنّه مات بحمص ولا أستبعد ذلك فإن كفر طاب كانت من أعمال أفامية وأفامية من أعمال حمص. قال الشيخ عليّ بن أبي بكر الهرويّ: شَحْشَبو قرية من أعمال فامية بها قبر الإسكندر ويُقال إنّ أمعاءه هناك وجثَته بمنارة الإسكندرية وقيل إنّه مات ببابل. وبدَيْر سمعان من قرى مَعَرّة النُعمان ويُعرف أيضاً بدير النقيرة لأنّ إلى جانبه قرية تُسمّى النقيرة قبر عمر بن عبد العزيز في حائر صغير وإلى خلف طهره قبر الشيخ أبي زكرياء يحيى بن منصور وكان أحد أولياء الله تعالى وله كرامات وكان مقيماً بالمسجد الّذي بهذه القرية يعبد الله حتى أدركه أجله فدُفن في الحائر. وبإنطاكية قبر حبيب النجّار من آل ياسين وبها قبر عَوْن بن أرميا النبي عليه السلام وقبر عَوْذ بن سام بن نوح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وقال كمال الدين بن العديم بسند رفعه إلى كعب الأحبار قال: بطَرْسوس من قبور الأنبياء عشرة وبالمصيصة خمسة وبسواحل الشام من قبور الأنبياء ألف قبر وبإنطاكية قبر حبيب النجّار وذُكر تمام الحديث. " وذكرنا فيما تقدم " في فصل إنطاكية حديثاً مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إنّ فيها - يعني إنطاكية - التوراة وعصا موسى ورضراض الألواح ومائدة سليمان بن داود عليه السلام في غار من غاراتها. وجاء حديث آخر عن ابن عباس ذُكر فيه مع ما تقدّم محبرة إدريس ومنطقة شُعَيْب وبراد نوح. وبها كنيسة قسيان وهي كنيسة جليلة يقال إنّ بها كفّ يحيى بن زكرياء عم. وذكر كمال الدين أيضاً: قرأتُ بخطّ أبي عمرو الطرطوسي قاضي المعرّة قال: قبر أبي معاوية الأسود بطرسوس بباب الجهاد في الطريق الآخذ إلى الميدان يمنة السائر بإزاء قبّة ابن الأغلب ما فارقه منذ عمارة طرسوس تبرُّكاً به وتيمناً بالدعاء فيه. وقال أبو عمرو: سمعتُ عدّةً من مشائخ طرسوس يقولون: ما صدق أحد نيّته في حاجة لله عزّ وجل فيها رضّي فتغسّل ودعا عند قبر أبي معاوية إلاّ أجابه الله عزّ وجلّ. وبعرب سوس - وقيل إنّها آخر حدود الشام - في جبل من غربيّها يسمّى بنحلوس الكهف الّذي كان فيه أصحاب الكهف وهذا الكهف يدخل الإنسان إليه حبواً لا يمكن الماشي أن يمشي فيه قائماً وبُني عليه مشهد عظيم بالحجر وجُعل له سور ووُقف عليه وقف للزوّار. وقال أبو الحسن عليّ بن أبي بكر الهرويّ: بمدينة الرُصافة قبور جماعة من الصحابة والتابعين لم يحضرني أسماؤهم. وقال أيضاً: بمدينة بالس مشهد عليّ بن أبي طالب عم وبها مشهد الطِرْح وبها مشهد الحجر يقال إنّ رأس الحسين عم وضعوه عليه عندما عبروا بالسبي. وبجَبْلة بظاهرها قبر إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر التميميّ أو قيل العجليّ يُكْنى أبا إسحاق أصله من بَلْخ وكان أبوه ملكاً فترك الدنيا اختياراً لا اضطراراً وجعل الثغور الشاميّة له منزلاً وداراً. مات سنة إحدى وستّين ومائة. الباب العاشر في ذكر المساجد الّتي في باطن حلب وظاهرها مسجد يُعرَف بإنشاء الملك الظاهر لمّا بنى دار العدل. مسجد بباب الصغير أنشأه الملك الظاهر. مسجد يُعرف بجمال الدولة إقبال الظاهريّ لأنه أنشأه. مسجد إنشاء ابن عبّوس. مسجد إنشاء الركن الخلاطيّ. مسجد يُعرَف بالصدر. مسجد السيّدة بنت وثّاب النُمَيْريّ أخت شبيب زوجة نصر بن محمود ابن مِرْداس وهي مدفونة به. مسجد يُعرَف ببني بخمش. مسجد تجاه الحمّام الجديد. مسجد مجاور للمدرسة الظاهريّة تحت القلعة. مسجد داخل باب الصغير الخارج. مسجد أنشأه حُسام الدين محمود بن خُتْلو والي حلب كان. مسجد يُعرَف بابن عَلَم الدين. مسجد إنشاء نور الدين محمود في درب مدرسة بني عُصْرون. مسجد الأسد. مسجد مجاور دور بني جَهبَل. مسجد تجاه دار شهاب الدين بن القيسرانيّ. مسجد تجاه القسطل قريباً من دور بني القيسرانيّ. مسجد قُباد. مسجد إنشاء السابق مبارك الظاهريّ المعروف بوالي بَهَسْنا. مسجد الحافظ عبد الرحمان بن الأستاذ الأسديّ. مسجد إنشاء الجمال أحمد بن يعقوب. مسجد الشيخ محمّد الحرّاني. مسجد قريب من دار عَلَم الدين سنجر السعديّ. مسجد قريب من دار الشمس بن القطعة. مسجد الخضر. مسجد دراريج. مسجد الحاجّ أبي سالم. مسجد عليّ بن القزّاز. مسجد شجرة بالمعقليّة. مسجد الشيخ إسحاق عتيق القاضي بهاء الدين بن شدّاد. مسجد قريب من دور بني العديم. مسجد البلاط أنشأه الشريف الزاهد من أولاد صالح ويُعرَف الآن ببني العجميّ. مسجد بالمرمى. مسجد أنشأه سابق الدين صاحب شَيْزَر. مسجد خلف باب العراق. مسجد تجاه حمّام السابق. مسجد إنشاء الحاجّ محمّد بن بنت السابق. مسجد بعرصة ابن الفراتيّ. مسجد معلّق يُعرَف بالشيخ عبد الوالي. مسجد جوار دار ابن مكّيّ. مسجد تجاه دار ابن بهاء الدين أيّوب. مسجد عمود العُسْر. مسجد جوار دار المنتجب بن نصر الله. مسجد بجوار الكامليّة. مسجد بين القطيعة والعرصة. مسجد حمّام حمدان. مسجد في درب شمس الدين لؤلؤ رحمه الله من إنشائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 مسجد قديم بالأَسْفريس يُعرَف الآن بالشيخ محمّد سام. مسجد قريب دار الشجاع بن فاتك. مسجد الجبليّ. مسجد بدرب الحديد. مسجد مجاور دار ابن العسقلانيّ. مسجد يُعرَف بإنشاء صفيّ الدين طارق بن عليّ المعروف بابن الطُرَيْرَة. مسجد عبد الرحمان النجّار. مسجد بالأَسْفَريس. مسجد بالحدّادين. وبها أيضاً مسجد علو القسطل. مسجد أنشأه نظام الدين عبد الرزّاق بن قاضي بالس. مسجد أنشأه القاضي أبو الحسن ابن الطرسوسيّ. مسجد كتّاب الأسود. مسجد أنشأه الشمس محمّد بن النحّاس الحلبيّ. مسجد أنشأه أولاد سنان الخفاجيّ الشاعر. مسجد برأس القُنَيَّة معلّق. مسجد برأس الكتّانيّين. مسجد على رأس حبس الدُلْبة. مسجد في درب السهم مجاور القسطل. مسجد قرب دار ابن البنّاء. مسجد في سوق الخشّابين. مسجد بالصنادقيّين جُدّد في أيام أتابك. مسجد بدرب البنات إنشاء بني شنقس. مسجد إنشاء الشيخ منتجب الدين أحمد بن الإسكافيّ. مسجد المحصّب يقال إنّه بُني في أيّام أحد العمَريْن إما عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز. مسجد يُعرَف بابن الطرسوسيّ بالرحبة. مسجد يُعرَف بالجمل. مسجد إنشاء العميد يوسف. مسجد قرب دار الشيخ الإمام يُعرف بالنور. مسجد يُعرَف بالمعلّق. مسجد يُعرَف بالحمّالين. مسجد قرب المسبك. مسجد يُعرَف بعليّ بن الداية. مسجد إنشاء الرئيس أبي غانم. مسجد يُعرَف بالحاجّ نصر. مسجد إنشاء يحيى الخُشُوتيّ. مسجد مجاور سور البلد. ثلاث مساجد معلقة بالسور. مسجد قرب درب الأشنان. مسجد إنشاء المؤيّد خليل المنبجيّ والي حلب كان. مسجد يُعرَف بالنور أيضاً. مسجد إنشاء الحاجّ ظبيان الحلبيّ. مسجد يُعرَف بالشيخ الأمرد. مسجد يعرف بأولاد الشويخ. مسجد جُبّ التوينة. مسجد يُعرَف بابن نجم الحلبيّ. مسجد يُعرَف بفرحة. مسجد قرب دار ابن مُوَيْهيب. مسجد يُعرَف بابن الكعكيّ. مسجد أنشأه منتجب الدين يحيى بن أبي طيء المعروف بإبن النجّار. مسجد يُعرف بالحكم. مسجد قرب الرَحْبة الصغيرة مجاور دور أولاد الناصر الحنيّين. مسجد بالرحْبة الصغيرة أيضاً يُعرف بالشريف الزاهد من بني مَلِكة. َ مسجد يُعرَف بابن الشمّاعة. مسجد في رأس درب نصر. مسجد يُعرف بجعفر بن بُرغش. مسجد في رأس درب مطر جدّده القاضي موفّق الدين أبو الفتح يحيى بن الخشّاب. مسجد بالجرن الأصفر إنشاء القاضي أبو الحسن محمّد بن الخشّان. مسجد يُعرف بابن الشيحيّ. مسجد بالحكير. مسجد أنشأه المجنّ الفوعي رئيس حلب كان. مسجد معلّق إنشاء العفيف أبي عبد الله محمّد بن زريق التونخيّ. مسجد في وسط الشُعبييّن. مسجد إنشاء شيخ الدولة عليّ بن أحمد بن الأيسر. مسجد إنشاء الوجيه الدمنهوري. مسجد في رأس درب الخرّاف. مسجد قرب دار ابن المشرف. مسجد معلّق في رأس درب الحطّابين إنشاء الحاجّ جعفر بن مزاحم. مسجد بالدرب المذكور أيضاً. مسجد في رأس درب الصبّاغين. مسجد في الدرب الذكور أيضاً. مسجد قرب دار ابن فاخر. مسجد قرب دار الشرف بن أبي جرادة. مسجد يُعرَف بأولاد الركابي. مسجد بالتنانيريّين. مسجد في رأس التنابيريّين. مسجد كان يؤم فيه أبو عبد الله بن الطويّ. مسجد داخل باب إنطاكية ملاصق السور. مسجد قاقان. مسجد النقيب ابن حمزة. مسجد يُعْرف بابن الأيسر. مسجد يُعْرف بابن الأغر. مسجد يُعْرف بالمناذرة. مسجد يُعْرف بالكمال الأعمى. مسجد في ذيل العقبة. مسجد يُعْرف بابن المتيّم. مسجد في ذيل العقبة قرب دار ناصر الدين بن الوالي. مسجد تجاه دار الفيّ بن منذر. مسجد بني أسامة. مسجد أنشأه شراحيل. مسجد الفاصديين. مسجد بالخرّارين. مسجد برأس درب ابن الحكّار. مسجد في رأس اللاّئين. مسجد في رأس درب الخرّاف إنشاء أمين الدين أبو طالب النقيب الإسحاقي الحسينيّ. مسجد بدرب الناطليّ. مسجد بسوق الطبر أنشأه الشريف زُهْرة. مسجد المُزَيْبلة. مسجد دور بني الأستريّ. مسجد قرب دور بني دَبّوقا. مسجد مجاور مدرسة ابن رواحة. مسجد معلق بدرب البازيار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 مسجد إنشاء سمس الدين أبي بكر أحمد بن العجمي. مسجد براس درب الدَيْلَم يُعْرف بابن الزرّاد. مسجد في الدرب المذكور. مسجد قرب دار ابن خرخاز بالسهليّة. ومن غربيّ الدار مسجد أيضاً. مسجد عند حمّام السرور. مسجد السويقة. مسجد بالمدبغة. مسجد قرب دار عزّ الدين بن مُجلّى. مسجد مجاور دلر نظام الدين الوزير الطغرائيّ. مسجد مسمار. مسجد قرب حمّام السويقة. مسجد عند القسطل خلف باب النصر. مسجد تجاه حمّام محي الدين بن العديم. مسجد الشجرة. مسجد القصر. مسجد الزُنَيْقَة ويُعرَف باعنّابة مقصود بالنذور. مسجد سُوَيْد. مسجد باَحسيتا. مسجد داخل باب الفرداديس. مسجد قرب دور أولاد المقارميّ. مسجد يُعرَف بالمِهْتار عمر. مسجد قرب دار ابن الباشق. مسجد ابن حرب. مسجد ابن الأقرع. مسجد ابن حرب أيضاً. مسجد أسفل رأس التلّ. مسجد برأس التلّ. مسجد عند دار جعفر سقيلة. مسجد أنشأه الحاجّ منصور القصّاب. مسجد جب عثمان. مسجد برأس الفرّائين. مسجد في وسط الفرّائين. مسجد في آخرها. مسجد مجاور دار ابن بزّاز الليل. مسجد مجاور دار بن طوير العشّاء. مسجد السمّاقة. مسجد درب المُقَيْدِسي. مسجد مجاور الصبّانة. مسجد يُعرَف بأبي خَنْبَش بالسدلة. مسجد برأس قطيعة السدلة. مسجد إنشاء النقيب محمّد بن صدقة. مسجد قبليّ دار ابن السَرُوجيّ. مسجد إنشاء خازم السمّان. مسجد قرب دار ابن قُشَام. مسجد ذيل العقبة من جهة الشمال. مسجد بفندق العيش مسجد في وسطه. مسجد صاحب شيزر بالحصّارين. مسجد الجرارين. مسجد برأس البنّائين. مسجد الحسبة بسوق السراجين. مسجد داخل دار الزكاة. مسجد خارجها. مسجد بدرب بني خُمُردكين. مسجد برأس الشماعين. المساجد الّتي بين أبواب المدينة مسجد بين بابَيْ قنّسرين. مسجد بين بابَي باب العراق. مسجد بين بابَي باب أربعين. مسجد بين بابي النصر مسجد بباب الجنان. مسجد بباب الفراديس. مسجد بباب السعادة. مسجد بين بابيْ باب إنطاكية. مسجد بباب النيرب. مسجد بباب المقام. وقد تقدَم لنا فيما سلف في باب المزارات: مسجد عليّ عم بباب الجنان. ومسجد غَوْث ومسجد شُعَيْب المعروف بالغضانريّ ومسجد النور وفي الأبرجة الكبار الّتي بناها الملك الناصر مساجد. هذه المساجد الّتي أدركها حصري وعدّي من المساجد الّتي يحيط بها سور البلد على ما تركته حين خروخي منها ولا أدّعي الاستقصا. لأنّ معرّض للنسيان وهي مائتان وسبعة عشر مسجداً خارجاً عن المساجد الّتي في أبراج السوار فإناّ لم يمكننا تحقيق عددها ولا الإحاطة بها وقد بلغني أنها دثر أكثرها بعد استيلاء التتر عليها. ذكر المساجد الّتي بأرباض حلب مساجد الياروقيّة: مسجد أنشأه الملك الظافر خضر بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب. مسجد أنشأه عزّ الدين ميكائيل الياروقيّ. مسجد أنشأه الأسد يوسف بن سُنْغر الياروقي. مسجد أنشأه شُعَيْب الياروقيّ. مسجد أنشأه أحمد التركمانيّ. مسجد أنشأه العلم سليمان الياروقيّ. مسجد يُعرَف بالشيخ عليّ التركمانيّ. مسجد إنشاء الفارس خليل الياروقيّ. مسجد إنشاء الصارم إبراهيم نقيب العسكر. مسجد بالسوق. مسجد تجاه مسجد الأنصاريّ. مسجد أنشأه عبد الرحمان بن مبشّر نقيب شَيْزَر. مسجد أنشأه الكماتل محمّد الفرّاء العجميّ. مسجد قبالة حمّام كامل. مسجد أنشأه الجوالقية. خمسة عشر مسجداً. مساجد الحاضر السليماني ّ مسجد الأسد يولق. مسجد بدر الدين بن إيكز. مسجد في الجانوسيّة. مسجد بها أيضاً. مسجد القوّاسين. مسجد بحارة معتوق. مسجد السنجاريّ. مسجد الأمير سيف الدين بن عَلَم الدين. مسجد أنشأه المذكور أيضاً. مسجد لبني عصرون. مسجد الساقية. مسجد قظب الدين ويُعرَف بزكي البيطار. مسجد عَلَم الدين قيصر. مسجد بحارة الأكراد. مسجد بحارة المشارقة. مسجد البدوية. مسجد الهروي. مسجد المهرانيّ. مسجد الجمقدار. ثلاث مساجد في جب السلسلة في خطّ واحد. مسجد جمال الدين حبيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 مسجد الدكاشرة. مسجد عند الجسر. مسجد يولى. مسجد أمير عليّ. مسجد البَشْنوِيّين. مسجد الزرزاريّ. مسجد نور الدولة. مسجد بباب العقد. مسجد أولاد التاجر. مسجد الزاهر. مسجد مجاور الزاهر. مسجد ابن البريدين. مسجد ابن الدِزْرِمش. مسجد عريف الرابية. مسجد بجورة جفّال. مسجد خان السبيل. مسجد ابن قليج الظاهريّ. مسجد ابن كشتمر. مسجد الحاجّ سابق. مسجد صالح. مسجد شعبان. مسجد قماري. مسجد عبد الرحمان. مسجد الصفديّ. مسجد ناصرالدين. مسجد جار بَزيك. مسجد ابن ألبَيْ. مسجد أبو أزبك. مسجد الحاج أيّوب. مسجد أغاجي. مسجد قَيْدوح. مسجد قِزل. مسجد الإصفهانيّ. مسجد مسجد الشهاب رسلان. مسجد الفارس جُمق. مسجد الكركيّ. مسجد قِير حاجِي. مسجد تميم. مسجد زُهَيْر. مسجد طُمان. مسجد أمير تركمان. مسجد الحاجب موسى. مسجد كوجبا. مسجد عدي. مسجد الحاجّ افتخار. مسجد الحاجّ كموشبغا الظاهريّ. مسجد البغراسيّ. مسجد بدر الدين قِزل. مسجد أولاد المشمّر. مسجد مكنشي. مسجد الشيخ قصلوا. مسجد قايبا. مسجد المسكيّ العجميّ. مسجد مجد الدّولة. مسجد نصر الجواليقيّ. مسجد البكي. مسجد كوبخ. مائة وعشرة. ذكر مساجد الرابية وجورة جفّال مسجد محمود الجلاّد. مسجد ابن سراج. مسجد خان الرئيس. مسجد سوق الحرافشة. مسجد سوار. مسجد في القطّانين. مسجد الكامليّة. مسجد ابن العالمة. مسجد البكي. مسجد قرلوا. مسجد الخادم. مسجد المدرّج. مسجد عند الفقّاعيّين. مسجد الحوارنة. مسجد قبّة النذر. مسجد المشارفة. مسجد ابن الحُوَيْرِيَّة. مسجد بدر الدين إسرائيل. مسجد عليّ بن معتوق. مسجد صَمْدَل. مسجد الرمّاح. مسجد هارون. مسجد الشيخ ابن التركمانيّ. مساجد أربعة بسوق التركمان. مسجد الصخور. مسجد ابن عبيد. مسجد الصفيّ المصلّي. مسجد الأتباكيّ. مسجد سعد الدين الجوهريّ. مسجد أمير تركمان. مسجد ستّ حارم. مسجد الظاهريّ. مسجد جاروق. مسجد الشيخ أبي بكر. مسجد الشيخ محمّد الجُردكيّ. مسجد إسماعيل الخيّاط. مسجد حسن. مسجد ستّ نَيْلوفر. مسجد حسن الفقّاعيّ. مسجد العزلة. مسجد مالي. مسجد له أيضاً. مسجد ابن القمس. مسجد حسن البالسيّ. مسجد القبّة. مسجد ابن كشيز. مسجد الحاجّ خلف. مسجد الفيء. مسجد محاسن الأحدب. مسجد الشيخ صدّيق. مسجد شيخ السنّة. مسجد بردا. مسجد جلال الدين الإربليّ. مسجد الحاجّ محمود. مسجد الصارم. مسجد طعم. مسجد شرباريك. مسجد حبيب. مسجد التاجر. مسجد ابن يَلَواح. مسجد سعد الدين النوريّ. مسجد الشهاب بُلْدُق. مسجد الحاجّ موسى. مسجد قُنُق. مسجد إيكز. مسجد القطبيّة. مسجد حسين الأعرج. مسجد ابن براق. مسجد الحاجّ شعبان. مسجد دغري ورمش. مسجد الحاجّ ربيعة. مسجد أولاد بُطُق جي. مسجد القطبيّة. مسجد نور الدولة. مسجد ناصر الدين بن الفُتّيتيّ. مسجد ابن سارة. مسجدان لقيصر. مسجد البيطار. مسجد جمال الدولة. مسجد ابن التقوى. مسجد ميمون القصريّ. مسجد تجاه دار الشهاب بُلْدُق. مسجد عند دار الحاجّ أوشر. مسجد عند دار حوليّين. مسجد مُحسّن. مسجد الميْدان. مسجد مُعلّق. مسجد الخلاطيّ. مسجد ابن عَلَم الدين. مسجد بسوق الغنم الضيّق. مسجد الحاجّ شعبان برأس الميدان. مسجد ممدود. مسجد ابن عوجان. مسجد شادّ الدواوين. مسجد الأعمى. مسجد الخطيب عثمان. مسجد علاء الدين ابن طَيْلو. مسجدا عزّ الدين. مسجد جعفر السمّان. مسجد الحاجّ أيتبا. مسجد الحاجّ عثمان الساقية. مسجد عزّ الدين إدريس. مسجد عَلَم الدين بين البابَيْن. مسجد بدران. مسجد مجاهد. مسجد الشيخ أحمد. مسجد ابن بدران. مسجد الحاجّ منصور. مسجد الحاجّ خلف. مسجد ابن باسك. مسجد هارون. مسجد حسام التاجر. مسجد الخوارزميّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 مسجد شرف الدين القزوينيّ. مسجد ابن الحبّال. مسجد السخاويّ. مسجد الشجاع النقيب. مسجد المهرانيّ. مسجد عزيز. مسجد شوحة. مسجد الشجاع إبراهيم. مسجد الحسام لاجين. مسجد عزّ الدين. مسجد عين الدولة. مسجد الخادم. مسجد عبّاس. مسجد أبي القاسم. مسجد البابليّ. مسجد الحاجّ الطحّان. مسجد المؤيّد. ثلاث مساجد بالمصلّى. مسجد القيمريّ. مسجد عليّ الصُفريّ. مسجد العزيزيّ. مسجد قطب الدين. مسجد آشود. مسجد كوجبا النوريّ. مسجد المشطوبيّ. مسجد رفيق. مسجد الناصح. مسجد علاء الدين. مسجد ياروق. مسجد الصامت. مسجد ابن عُبيد. مسجد ابن المعظّميّ. مسجد عمر بن يوسف. مسجد ابن النُلبل. مسجد ابن الطرطوسيّ. مسجد أبي بكر. مسجد ابن بُقْسُم. مسجد عيسى الجوبان. مسجد عليجا. مسجد القطب بن الشيخة. مسجد طُرُنْطايْ. مسجد كُرْدَك. مسجد الفَرْزَ كُبَك. مسجد طَنْطَت. مسجد أولاد باذنجان. مسجد أولاد الصفريّ. مسجد أبي العزّ. مسجد الشيخ أحمد. مسجد الشيخ عبد الرحمان. مسجد الشيخ. مسجد الحجر. مسجد العجميّ. مسجد الحسام. مسجد الحاج مظفّر. مسجد حمّاد. مائة وثمانية وستون. ذكر المساجد الّتي بالظاهريّة مسجد جعفر سفلية. مسجد غلام راشد. مسجد أولاد الحاجّ محمّد. مسجد أبي غانم. مسجد ابن البيطار. مسجد النور. مسجد إبراهيم بن يعقوب. مسجد عليّ بن السائحيّ. مسجد الجمال الكريميّ. مسجد مقلّد بن خزيمة. مسجد الرئيس عليّ. مسجد الحاجّ الروّاس. مسجد في عُقيبة الجسر. مسجد الأطروش. مسجد الشيخ مَرْو. مسجد العجميّ. مسجد الرئيس المعلّق عند حمّامه. مسجد الزنكانيّ. مسجد علاء الدين فادا أغلي. مسجد الشيخ يونس. مسجد الشيخ حسن. مسجد العَلَم سليمان. مسجد زين الدين يوسف. مسجد بركات. مسجد كوبخ. مسجد الصارم قايمار. مسجدقوقو. مسجد البرهان. مسجد فلاح. مسجد الأسمر. مسجد الحاجّ إلياس. مسجد الكدي. مسجد قرالا. مسجد طاطلمش. مسجد الشيخ حدا. مسجد أيْدُغْمِش. مسجد سيف الدين آدم. مسجد سيف الدين الطويل. مسجد ياروق. مسجد طوغان. مسجد عجى. مسجد الحاجّ عليّ القزّاز. مسجد الشمس خضر. مسجد أيْدُغمِش. مسجد أيّوب المنادي. مسجد الكحجي. مسجد الشيخ عمر. مسجد شُعَيْب. مسجد الفقيه عبد الواحد. مسجد عبد الصمد. مسجد الحاجّ أحمد الياروقيّ. مسجد الحاجّ محمّد البالسيّ. مسجد الحاجّ رجب. مسجد قرا خليل. مسجد الطويل. مسجد قُلارجي. مسجد الشيخ ألْبَيْ. مسجد الشيخ حمزة. مسجد الشيخ منجك. مسجد منبجي. مسجد الحاجّ إسحاق القزّاز. مسجد سيف الدين البزّاز. مسجد الأسد الرُهاويّ. مسجد ابن كوجبا. مسجد الحورانيّ. مسجد ماضي. مسجد الفارس حيّان. مسجد ابن بُرْصُق. مسجد أُرْتُف. مسجد أبري. مسجد شعبان بن درّيّ. مسجد موسى الأفطس. مسجد شمس الدين موسى. مسجد شهاب الدين بن قُلدان. مسجد عزّ الدولة. مسجد أولاد عبد الرحمان. مسجد صاروجا. مسجد الأسد بن أَقْطُغان. مسجد قُشْطُغان. مسجد الشيخ نوحى. مسجد الشيخ حسين. مسجد هنّاس. مسجد الشهاب بن رُسْتُم. مسجد الحاجّ إيناسيّ. مسجد الحاجّ ياقوت. مسجد يغبسان. مسجد عليّ بن عبّاس. مسجد أقْطُفان. مسجد إينا غازي. مسجد البدر حسّان. مسجد أغغجاري الروميّ. مسجد ابن داود الأعزازيّ. مسجد ابن سَلامِش البنّاء. مسجد قليج العيني. مسجد ابن العجوز. مسجد قلجس. مسجد أبي بُرَيْك. مسجد عند دار ابن دينار. مسجد مجاور دار أمير أخور. تسعة وتسعون. ذكر المساجد الّتي بالرمادة مسجد الرصّاص. مسجد جمال الدين. مسجد ابن داي. مسجد يوسف الظاهريّ. مسجد سعد الدين. مسجد ابن عين قور. مسجد بطوه. مسجد الحاجب سخظة. مسجد ظُفَيْر. مسجد ياسمين. مسجد الأندريّ مسجد غلام الشيخة. مسجد النقيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 مسجد الحاجّريان. مسجد العقدة. مسجد الشيخ سوار. مسجد أخيه خليل. مسجد الشسخ يحيى الأتابكيّ. مسجد الكيّال. مسجد بُلْدُك. مسجد الجوكندار. مسجد مجاور إسطبل ابن محلّى. مسجد الطواشي فلاح. مسجد طُرَنْطاي. مسجد ابن أبي الهيجاء. مسجد مجاور دار ابن فخر الدين إيّاس. مسجد أنشأه شهاب الدين. مسجد الرابية. مسجد يُعرَف بالشريف. مسجد الروس. مسجد الحجارة. مسجد السابق الكرديّ. مسجد السوق. أربعة وثلاثون. ذكر مساجد بانقوسا مسجد عيسى الإسبالاَّر. مسجد الظاهريّ. مسجد بهاء الدين بن أبي الحصين. مسجد الشيخ أبي الفتح. مسجد فاخر. مسجد الرمّاح. مسجد الشيخ نزار. مسجد جمال الدولة. مسجد في رأس الطبّاخين. مسجد عُبيد الرئيس. مسجد عند دار غرس الدين. مسجد البدوّية. مسجد عند باب القناة. ثلاثة عشر. ذكر مساجد الهزّازة مسجد المغارة. مسجد اللّبودي. مسجد قرب دار شهاب الدين. مسجد الحاجّ نصر. مسجد الكامليّة. مسجد بجوسق جمال الدولة. مسجد الباب الخارج. مسجد باب السلطان. مسجد جعفر. مسجد شُعَيْب. مسجد مجاور المهمانخاناه. اثنا عشر. ذكر المساجد الّتي بخارج باب إنطاكية مسجد البوّابين. مسجد النهر. مسجد يُعرَف بمشهد علي على النهر عند الجسر. ثلاث مساجد بالدارين. مسجد على نهر باب الجنان في المساطيح. مسجد إنشاء رئيس الزُطَ. مسجد مجاور الخان. مسجد الخُرَيْزاتي على النهر. مسجد كبير عند الجسر المكسور. مسجد في الفاخورة. مسجد الجسر. مسجد مجاور حمّام الجسر. مسجد مجاور خان الشريف عزّ الدين. مسجد إنشاء النقيب محمّد بن صدقة. مسجد عند فنادق الحطب. مسجد على النهر. مسجد معلّق تجاه حمّام ابن السَرُوجي. مسجد في وسط الحلبة. مسجد بجوار خان طَيْبُغا. مسجد عند بستان ابن شمس الرؤساء. مسجد قرب دار ريحان. مسجد بالحلبة أيضاً. مسجد قرب دار العفص بن العجميّ. مسجد قرب دار حبيب. مسجد قرب فندق الطرابش. مسجد الساحة. مسجد شماليّ الحلبة. مسجد ابن الموصل. مسجد الخضر عليه السلام. أحد وثلاثون. ذكر مساجد المضيق مسجد الرضى. مسجد أبي الفتح. مسجد بجوار خان المنابجة. مسجد في رأس المضيق. مسجد بجوار خان ابن الأثير. مسجد بين المقابر به شجرة. مسجدان عند الحيّاك. مسجد عند بستان بكتاش. مسجد عند الجسر. مسجد يُعرَف بأولاد الملك. مسجد يُعرَف بالمُحمّديَّة. ثلاث مساجد بالخَنّاقيّة. مسجد يُعرَف بجلال الملوك. مسجد بالساقيات. ستّة عشر. ذكر المساجد الّتي كانت بالقلعة مسجد النور ملاصق سور القلعة. ذكرت جماعة من أهل القلعة أنّهم عاينوا الأنوار تنزل فيه في أكثر الأوقات. مسجد الخضر عم. ذكرت جماعة من سكّان القلعة أنّهم رأوا الخضر عم يصلّي فيه. مسجد يُعرَف بالمدار بالشيخ صالح عمر رحمه. مسجد الخزانة. مسجد يُعرَف بالشيخ إبراهيم البيريّ. مسجد الدركاه الكبيرة. مسجد الدركاه الوسطى. مسجد بالتربة. مسجد داخل دار السلطان. مسجد ثانٍ بدور السلطان. عشرة. الباب الحادي عشر في ذكر ما بباطن حلب وظاهرها من الخوانق والرُبُط فممّا في باطنها: خانقاه القصر وهي تحت القلعة أنشأها الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي بن آق سُنْقُر وسُمّيت بهذا الاسم لأنّها كان في مكانها قصر من بناء شُجاع الدين فاتك وكان مبدأ عمارته لها سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. خانقاه القديم أنشأها نور الدين المذكور وتولّى النظر على عمارتها شمس الدين أبو القاسم بن الطَرْسوسيّ. خانقاه أنشأتها الستّ أمّ الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل نور الدين تحت القلعة في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وبنت إلى جانبها تربةً دفنت بها ولدها الملك الصالح. خانقاه البلاط أنشأها شمس الخواصّ لؤلؤ الخادم عتيق الملك رضوان بن تاج الدولة تُتُش وهي أوّل خانقاه بُنيت بحلب وذلك في سنة تسع وخمسمائة وكان يتولّى حلب نيابةً فسمت نفسه إلى التغلّب عليها فقُتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 خانقاه أنشأها الملك المعظّم مظفّر الدين كُوكُبريّ بن زين الدين عليّ كُوجَك صاحب إربل بالسهلية. خانقاه أنشأها مجد الدين أبو بكر محمّد بن محمّد بن نوْشتَكين المعروف بابن الداية قرب عرصة الفراتّي وتُوّفي المذكور سنة خمس وستّين وخمسمائة. خانقاه أنشأها سعد الدين كُمُشْتَكين الخادم مولى بنت الأتابك عماد الدين قرب دور بني العديم وتُوفّي المذكور سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة مخنوقاً بوتر. خانقاه أنشأها شمس الدين أبو بكر أحمد بن العجميّ وكانت داراً يسكن فيها فوقفها الشيخ شرف الدين أبو طالب عبد الرحمان أخو المذكور على الصوفيّة عند موته وتُوفّي المذكور في شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وثلاثين. خانقاه أنشأها الأمير جمال الدين أبو الثناء عبد القاهر بن عيسى المعروف بابن التِنَّبيّ في ذيل العقبة كانت داراً يسكنها فوقفها عند وفاته وكانت رابع عشر المحرّم سنة تسع وثلاثين وستّمائة. خانقاه أنشأها سُنْقُرجاه النوريّ. خانقاه أنشأها عبد الملك المقدّم بدرب الحطّابين سنة أربع وأربعين وخمسمائة. خانقاه معروفة بالخدّام تحت القلعة. خانقاه أنشأها جمال الدولة إقبال الظاهريّ تحت القلعة في حدود الأربعين وستّمائة. خانقاه أنشأها أتابك طُغْريل عند باب أربعين وتُوفيّ المذكور سنة إحدى وثلاثين وستّمائة. خانقاه أنشأها بيرم مولى ستّ حارم بنت اليغبسانيّ خالة صلاح الدين في دهليز دار الملك المعظّم وتُعرَف بخانقاه الشيخ جوشي. خانقاه أنشأها الشيخ الفقيه الإمام العالم بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع ابن شدّاد كانت داراً يسكنها وتُوّفي المذكور سنة اثنتين وثلاثين وستّمائة. خانقاه أنشأها سعد الدين مسعود بن عزّ الدين أيْبَك فُطَيْس عتيق عزّ الدين فَرُّخشاه وكانت داراً يسكنها فوقفها. الخوانق الّتي للنساء خانقاه أنشأتها الصاحبة فاطمة خاتون بنت الملك الكامل بالقطيعة وتُوفّيت المذكورة سنة ستّ وخمسين وستّمائة. خانقاه أنشأها نور الدين محمود بن زنكي سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة في غلبو ظنّي. خانقاه أنشأتها بنت صاحب شَيْرَز سابق الدين عثمان قبالة دورهم. خانقاه بدرب البنات أنشأتها زُمُرُّد خاتون وأختها بنتا حسام الدين لاجين عمر بن آقبوري وأمّهما أخت صلاح الدين يوسف. خانقاه أنشأتها بنت والي قوص. خانقاه أنشأتها الملكة ضَيْفة خاتون بنت الملك العادل سيف الدين أبي بكر أمّ الملك العزيز محمّد صاحب حلب داخل باب أربعين تجاه مسجد الشيخ الحافظ عبد الرحمان بن الأستاذ. خانقاه معروفة بالكامليّة كانت قديماً داراً لابن البريدين قريباً من دار بني الخشّاب. الخوانق الّتي بظاهر حلب خانقاه إنشاء الأمير مجد الدين أبي بكر محمّد بن الداية المقدّم ذكره بمقام إبراهيم. خانقاه أنشأها الأمير شهاب الدين طُغْرِل بك الأتابك المقدّم ذكره خارج باب أربعين الجُبَيْل. خانقاه أنشأتها الكامليّة زوجة علاء الدين بن أبي الرجاء. ذكر الرُبط رباط أنشْأه الأمير سيف الدين عليّ بن عَلَم الدين سليمان بن جندر بالرَحْبة الكبيرة وكانت داراً تُعرَف ببدر الدين محمود بن الشكريّ الّذي خنقه الملك الظاهر غياث الدين غازي. رباط يُعرَف بالخدّام تحت القلعة لم يتّصل بي ذكر بانيه. رباط قريب من مدرسة النِفّريّ يُعرَف بإقامة عبد الولي البعلبكّيّ. الباب الثاني عشر في ذكر ما بباطن حلب وظاهرها من المدارس ولنبدأ منها بالمدارس الشافعيّة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 المدرسة الزّجاجيّة - أنشأها بدر الدولة أبو الربيع سليمان بن عبد الجبّار ابن أُرتُق صاحب حلب كان وهي أوّل مدرسة بُنيت بحلب ابتُدئ في عمارتها سنة ستّ عشرة وخمسمائة وعلى حائطها مكتوب سنة سبع عشرة ولمّا أراد بناءها لم يمكّنه الحلبيّون إذ كان الغالب عليهم حينئذ التشيّع فكان كلّما بُني فيها شيء نهاراً أخربوه ليلاً إلى أن أعياده ذلك فأحضر الشرف زُهْرة بن عليّ ابن محمّد بن أبي إبراهيم الإسحاقيّ السنيّ والتمس منه أن يباشر بناءها بنفسه ليكفّ العامّة عن هدم ما يُبْتَنى فيها فباشر الشريف البناء ملازماً له حتى فُرغ منها. وكان هذا الشريف من أكابر الأشراف وذوي الرأي والأصالة والوجاهة مقدّماّ في بلده يرجع الناس إلى أمره ونهيه وكان معظّم القدر عند الملوك. ولمّا توجّه عماد الدين زنكي إلى الموصل في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة أخذه معه وأخذ القاضي أبا الحسن بن الخشاّن وعزّ الدين أبا عبد الله محمّد بن إسماعيل بن الجليّ فمات الشريف بالموصل سنة أربعين. ولما كملت المدرسة فوّض أمرها تدريساّ ونظراّ للشيخ شرف الدين أبي طالب عبد الرحمان بن الحسن بن عبد الرحمان بن طاهر بن محمّد بن محمّد بن الحسن بن عليّ الكرابيسيّ صاحب الإمام الشافعيّ رضه المعروف بابن العجميّ الناقل جدّه أبو صالح عبد الرحمان بن طاهر إلى حلب سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. ولمّا ملك الأتابك عماد الدين زنكي بن قسيم الدولة آق سُنْقُر حلب في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة نقل عماد الدين والده قسيم الدولة آق سُنْقُر من قَرَنْبيا وكان مدفوناً بها فدفنه في شماليّ هذه المدرسة وزاد في وقفها لأجل القرّاء المرتّبين في التربة. ولم يزل شرف الدين بن العجميّ المذكور مدرّساً بها إلى أن تُوفّي بحلب سنة إحدى وستين وخمسمائة. وتولّى التدريس بعده حفيداه مجد الدين طاهر بن نصر الله بن جهبل وأخوه زين الدين أبو الحسين عبد الكريم وقيل عبد الملك ابن نصر الله وكانا من العلماء المتميّزين والفضلاء المبرّزين ولم يزالا مدرّسَيْن إلى أن أخرجهما منها صلاح الدين وولى فيها الشيخ كمال الدين عمر ابن أبي صالح عبد الرحيم بن الشيخ شرف الدين أبي طالب وكان حافظاً لكتاب المهذّب ولم يزل بها مدرّساً إلى أن تُوفّي يوم الأربعاء قبل الظهر حادي عشر شهر رجب سنة اثنتين وأربعين وستّمائة وكان سبب موته أنه كان به وسواس فصعد إلى خزانة الحمّام ليطهّر منها فغرق فيها ومات ومولده يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرّم سنة سبع وخمسين وخمسمائة وكان قد اشتغل بالفقه على وَلدَي عّمته اللذَيْن أخذ منها المدرسة. ثمّ وليها بعده ولده عماد الدين محمّد ولم يزل مدرّساّ بها إلى أن توفّي يوم الاثنين عشر شعبان سنة تسع وأربعين وستّمائة وكان مولده ليلة الخميس ثالث عشر شهر رمضان سنة إحدى عشر وستمائة. ثمّ ولي بعده أخوه محي الدين عبد الله ولم يزل مدرّساً بها إلى أن تُوفّي في أواخر ذي القعدة سنة خمس وخمسين وستمائة. وكان مولده رابع المحرّم سنة تسع وستمائة. ثمّ وليها بعده ولده بهاء الدين أحمد ولم يزل بها مدرّساً إلى أن كانت فتنة التتر بحلب سنة ثمان وخمسين وستمائة فخرج عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 المدرسة العصرونيّة - كانت داراً لأبي الحسن عليّ بن أبي الثريّا وزير بني مِرْداس فصيّرها الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بعد انتقالها إليه بالوجه الشرعيّ مدرسةً وجعل فيها مساكن للمرتّبين بها من الفقهاء وذلك في سنة خمسين وخمسمائة واستدعى لها من حلّ بناحية سِنجار الشيخ الإمام شرف الدين أبا سعيد عبد الله بن أبي السري محمّد بن هبة الله بن المطهّر بن عليّ بن أبي عصرون بن أبي السريّ التميميّ الحديثيّ ثمّ الموصليّ الشافعيّ وكان من أعيان فقهاء عصره وقرأ القرآن بالعشرة على أبي الغنائم السَروجيّ والبارع أبي عبد الله بن الدبّاس وأبي بكر اَلمَرْزُوقيّ وتفقّه على القاضي المرتضى أبي محمّد عبد الله بن القاسم الشهرزوريّ وعلى القاضي الفارقيّ تلميذ أبي إسحاق الفيروزاباديّ مصنّف المهذّب ولمّا وصل حلب ولّي تدريس المدرسة المذكورة والنظر فيها وهو أول من درّس بها فعُرفت به. وصنّف كتباً كثيرةً في المذهب والخلاف والفائض مشهرة في أيدي الناس وبنى له نور الدين محمود مدرسةً بمنبج ومدرسةً بحمص ومدرسةً ببعلبك ومدرسةً بدمشق وفوّض إليه أن بولّي التدريس فيها من شاء ولم يزل متولّياً أمر هذه المدرسة تدريساً ونظراً إلى أن خرج إلى دمشق سنة سبعين وخمسمائة وتُوفّي بدمشق ليلة الثلاثاء حادي عشر شهر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمائة. ولمّا خرج استخلف فيها ولده نجم الدين الآتي ذكره ولم يزل بها إلى أن ولي قضاء حماة فخرج منها واستناب فيها ابن أخيه عبد السلام الآتي ذكره بعد ولم يزل بها مدرساً إلى أن ورد على حلب ولده قاضي القضاة نجم الدين أبو البركات عبد الرحمن من حماه في أيّام الملك الظاهر غياث الدين غازي سنة ثمان وتسعين وخمسمائة فولي تدريسها بنفسه ولم يزل بها مدرّساً إلى أن رحل عن حلب إلى حماه فتُوّفي بها يوم الثلاثاء ثامن عشر شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وستّمائة واستخلف فيها فخر الدين سُرْخاب بن الحسن بن الحسين الأرمويّ وكان ينوب عن والده الشيخ شرف الدين ولم يزل بها مدرّساً نيابة واستقلالاً إلى أن خرج من حلب سنة خمس وستّمائة يريد إرْبل فلمّا وفد على الملك المعظّم مظفّر الدين كُوكَبُريّ صاحب إِرْبل أكرمه واحتفل به وكان يتردّد إليه وأقام بإرْبل إلى أن تُوّفي في حادي عشر جمادى الآخرة سنة سبع وستّمائة وتولّى تدريسها بعد خروجه من حلب الشيخ شهاب الدين عبد السلام بن المطهّر بن الشيخ شرف الدين أبي سعيد عبد الله بن أبي عصرون واستناب ولده قطب الدين أحمد ولم يزل متولّيها إلى أن تُوّفي بدمشق في الثامن والعشرين من المحرّم سنة اثنتين وثلاثين وستّمائة. ثم وليها بعده ولده قطب الدين أحمد وعزّ الدين عبد العزيز بن نجم الدين عبد الرحمان بن شرف الدين ولم يزالا بها إلى أن وقعت لهما واقعة بحلب فصرفوهما منها وحُبسا ثمّ أُخرجا من حلب سنة ستّ وثلاثين وستّمائة فقصد قطب الدين دمشق فأقام بها وقصد عبد العزيز مصر واتصل بالملك الصالح نجم الدين أيوب وأرسله إلى بغداد مرتين ولما عاد من رسالته في المرة الثانية توفي بالقدس في شهر رمضان أو شوال سنة ثلاث وأربعين وستمائة. وتولى تدريسها بعده شرف الدين عثمان بن محمد بن أبي عصرون المعروف بالتركي مدة ثم رحل إلى دمشق وتولاها نجم الدين أحمد بن عز الدين عبد العزيز المقدم ذكره ولم يكن نبيها ولم يزل بها مدرسا إلى أن كانت حادثة التتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 المدرسة النفَّريّة النورية - أنشأها الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي في سنة أربع وأربعين وخمسمائة. أوّل من ولي التدريس بها قطب الدين مسعود ابن محمد بن مسعود النيسابوري الطرثيثي مصنف كتاب الهادي في الفقه والتزم فيه أن لا يأتي إلا بالقول الذي عليه الفتيا. وكان اشتغال قطب الدين هذا بنيسابور ومرو وسمع الحديث من غير واحد وقرأ القرآن الكريم والأدب على والده ورأى الأستاذ أبا نصر القُشَيْريّ ودرّس بالمدرسة النظامية بنيسابور نيابة عن ابن الجويني وقد مر بدمشق سنة أربعين وخمسمائة ووعظ بها وأقبل الناس عليه ودرس بالمدرسة المجاهدية المنسوبة لمجاهد الدين بُزان بن يامين صاحب صرخد ثم بالزاوية الغربية من جامع دمشق بعد موت الفقيه أبي الفتح نصر الله المصيصيّ وكان قد وعظ قبل ذلك ببغداد وتكلّم في المسائل فاستُحسن ثم رحل عن دمشق إلى حلب فولي تدريس المدرسة المذكورة وولي تدريس المدرسة الأسديّة التي بالرحبة على ما يأتي ثم مضى إلى همذان وتولى التدريس بها ثم عاد إلى دمشق ودرّس بالزاوية التي كان يدرّس بها أوّلاً. وكان من العلم والدين والصلاح والورع بمكان كبير مطرحاً للتكلّف وُلد سنة خمس وخمسمائة ثالث عشر رجب وتُوّفي آخر يوم من شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وصُلّي عليه نهار الجمعة يوم العيد ودُفن في مقبرته الّتي أنشأها جوار مقابر الصوفيّة غربيّ دمشق. ثم ولي تدريسها بعده مجد الدين طاهر بن نصر الله بن جهبل ولم يزل مدرّساً بها إلى أن نُقل إلى القدس الشريف وتُوفيّ بها في سنة سبع وتسعين وخمسمائة. وبعدما نُقل المذكور توّلى تدريسها القاضي ضياء الدين أبو البركات محمّد بن المنصور بن القاسم الشَهْرَزُوريّ الموصليّ تفقّه بالموصل على القاضي بهاء الدين بن شدّاد وعلي بن ابن يوسف وقدم حلب وتولّى نيابة الحكم بها عن القاضي بهاء الدين بن شدّاد ولم يزل مدرّساً بها إلى أن تُوّفي في الثاني من شعبان سنة إحدى وستّمائة فولي تدريسها القاضي نجم الدين الحسن بن عبد الله بن أبي الحجّاج العدويّ الدمشقيّ الأصل والمنشأ وكان فقيهاً فاضلاً عارفاً بالأصلين بارعاً فيهما وفي الخلاف والطرائق وولي أيضاً معها نيابة القضاء عن القاضي بهاء الدين ولم يزل مدرّساً بها إلى أن تُوفي يوم السبت سادس عشر شهر ربيع الأوّل ودُفن نهار الأحد سابع عشر سنة ثلاث وعشرين وستّمائة فولي تدريسها بعده صدر الدين محمد الكُرديّ الكاجكيّ قاضي منبج ولم يزل مدرّساً بها إلى أن سافر لى مَرْعَش وولي القضاء بها والوزارة سنة سبع وعشرين وستّمائة وتُوفي بمرعش فولي تدريسها الشيخ الإمام عماد الدين أبو المجد إسماعيل ابن أبي البركات هبة الله بن أبي الرضى سعيد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله الموصلّ الشافعيّ المعروف بابن باطيش صاحب التصانيف المفيدة ونأتي بذكره مستقصىً في حوادث السنين إن شاء الله تع ولم يزل بها مدرّساً إلى أن تُوفي نهار الخميس رابع عشر جمادي الآخرة سنة خمس وخمسين وستّمائة ومولده يوم الأحد سادس عشر المحرم سنة خمس وسبعين وخمسمائة بالموصل. ثم ولي تدريسها الشيخ زين الدين عبد الملك بن الشيخ شرف الدين أبي حامد عبد الله بن الشيخ شرف الدين أبي طالب عبد الرحمان بن العجميّ سنة ستّ وخمسين وستمائة ولم يزل مدرساً بها إلى أن استولت التتر على حلب واستمر بها بعد ذلك إلى أن خرج من حلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 المدرسة الصباحية - أنشأها القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع ابن تميم المعروف بابن شداد رحمه الله في سنة إحدى وستمائة ودرس بها واستناب القاضي زين الدين أبا محمد عبد الله بن الشيخ الحافظ عبد الرحمان بن علوان الأسدي رحمه الله. ولما توفي القاضي بهاء الدين سنة اثنين وثلاثين وستمائة ولي زين الدين القضاء على ما سيجيء ودرس بالمدرسة استقلالاً ولم يزل بها إلى أن توفي في سنة خمس وثلاثين فوبيها ولده القاضي كمال الدين أبو بكر أحمد ولم يزل مدرساً إلى أن كانت حادثة التتر فخرج عنها إلى ديار مصر ثمّ عاد إلى حلب في أواخر سنة إحدى وستين وستمائة وولي تدريس مدرسة القاضي بهاء الدين بن شداد والمدرسة الظاهرية والقضاء ولم يزل بها إلى أن توفي في ليلة الأحد رابع وقيل خامس عشر شوال من سنة اثنين وستين وستمائة وولي تدريسها بعده القاضي محي الدين أبو المكارم محمد بن قاضي القضاة جمال الدين محمد أبن عمّه فلم يزل بها إلى أن تُوفي في سنة تسع وستين ووليها أخوه افتخار الدين عثمان فلم يزل مدرساً بالصاحبية فقط إلى أن توفي بالديار المصرية. ووليها ولده شرف الدين عبد المجيد مع الأوقاف بحلب وهو مستمر بها إلى تأريخ سنة سبع وسبعين وستمائة. المدرسة الظاهرية - تجاه القلعة مشتركة بين الشافعّية والحنفيّة. كان الملك الظاهر قد أسسها وتُفي سنة ثلاث عشر وستمائة ولم تُتَم وبقيت مدّةَ بعد وفاته حتّى شرع شهاب الدين طُغْريل أتابك الملك العزيز فيها فعمّرها كمّلها سنة عشرين وستمائة ودرّس فيها القاضي بهاء الدين بن سدّاد فافتتحت به وذكر فيها الدرس يوماً واحداً وهو يوم السبت ثامن عشر شعبان من السنة المذكورة. وولي نظرها فولاّها القاضي زين الدين أبا محمّد عبد الله الأسدي قاضي القضاة بحلب ولم يزل مدرساً بها إلى أن تُوفّي سنة خمس وثلاثين وستمائة وكان بدرّس بها المذهَبْين فوليها بعده ولده القاضي كمال الدين أبو بكر أحمد ولم يزل مدرساً بها إلى استياء التتر على حلب وكان أيضاً يدرّس المذهَبْين. المدرسة الأسدية - أنشأها أسد الدين شيركوه بن شاذي بن مروان. أول من درّس بها قطب الدين مسعود بن محمّد بن مسعود المقدّم ذكره في تدريس المدرسة النِفَّريّة ثمّ تولاّها شمس الدين أبو المظفّر حامد بن أبي العميد عمر بن أميريّ بن ورشيّ القزوينيّ ولم يزل بها إلى أن رحل عن حلب إلى مدينة حمص سنة ستّمائة فوليها بعده الشيخ شمس الدين عبد الله الكشوريّ ولم يزل إلى أن توُفّي في سادس عشر شهر ربيع الأول سنة ثمان وستّمائة ووليها تقي الدين أبو عمر وعثمان بن عبد الرحمان المعروف بابن الصلاح ثمّ وليها بعده أخوه سديد الدين إبراهيم ثم ّرحلا. ووليها بعد سديد الدين ولده. وولي تدريسها بعده الفقيه صلاح الدين عبد الرحمان بن عثمان الشهرزوريّ الكرديّ ولم يزل بها إلى أن تُوفّي ليلة الخميس ثامن عشر ذي الحجّة سنة ثمان عشرة وستمائة وكانت ولادته سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. ثمّ وليها شرف الدين محمّد بن عبد الرحمان المعروف بابن الصلاح ولم يزل بها إلى أن تُوفّي بالاستسقاء. ثمّ وليها معين الدين ابن المنصور بن القاسم الشهرزوريّ مدّة شهر واحد ثمّ رحل إلى حمص ووليها نجم الدين محمّد بن محمّد بن عبد الله بن علوان الأسدي ولم يزل بها إلى أن تزهّد في سنة تسع وثلاثين وستّمائة وخرج عنها فوليها قوام الدين أبو العلاء المفضّل بن السلطان المعروف بابن حاذور الحمويّ ولم يزل مدرّساً بها إلى أن ولي قضاء معرّة النُعمان في سنة ستّ وأربعين ثمّ عُزل عن المعرّة وعاد إلى حلب فولي المدرسة الشُعَيْبيّة مدّةً ثمّ ولي قضاء حمص سنة خمس وخمسين وستّمائة ثمّ عُزل عن حمص وتُوفّي سنة ستّين وستّمائة بحماه. ثمّ وليها رشيد الدين عمر بن إسماعيل الفارقانيّ سنة ستّ وأربعين وستّمائة ولم يزل مدرّساً بها إلى سنة ثلاث وخمسين وستّمائة ثمّ خرج إلى دمشق ووليها بعد بدر الدين محمّد بن إبراهيم بن حسن ابن خلْكان ولم يزل بها إلى أن كانت وقعة التتر بحلب فخرج من حلب إلى ديار مصر فمات بالفيّوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 المدرسة الرَواحيّة - أنشأها زكيّ الدين أبو القاسم هبة الله بن محمّد بن عبد الواحد بن أبي الوفاء الحمويّ وشرط في وقفها أن لا يتولاّها حاكم متصرّف ثمّ وليها القاضي زين الدين أبو محمّد عبد الله بن الشيخ الحافظ عبد الرحمان بن عبد الله بن علوان الأسديّ ولم يزل مدرّساً بها إلى أن ولي نيابة الحكم بحلب سنة ثلاث وعشرين فدرّس فيها أخوه القاضي جمال الدين أبو عبد الله محمّد ولم يزل بها إلى سنة اثنتين وثلاثين فتولّى نيابة الحكم بحلب عن أخيه قاضي القضاة زين الدين أبي محمّد عبد الله. فتولّى التدريس بها ابن أخيه بهاء الدين يوسف بن قاضي القضاة زين الدين ولم يزل بها إلى أن تُوفّي في أوائل سنة خمس وثلاثين فوليها بعده الشيخ الإمام نجم الدين أبو عبد الله محمّد بن محمّد ابن عبد الله بن عُلوان الأسديّ ولم يزل مدرّساً بها إلى أن تزهّد سنة تسع وثلاثين فخرج عنها. ثمّ وليها بهاء الدين محمّد الكرديّ ولم يزل بها إلى أن تُوفّي ووليها القاضي محيي الدين محمّد بن القاضي جمال الدين محمّد بن الشيخ الحافظ عبد الرحمان ولم يزل بها مدرّساً إلى أن تولّى نيابة الحكم بحلب ثالث عشر رمضان سنة أربع وأربعين وستّمائة فتولّى تدريسها كمال الدين أبو الفضائل أحمد بن القاضي نجم الدين الحسن بن عبد الله بن " أبي " الحجّاج الكرديّ ولم يزل بها إلى أن تُوفّي يوم الخميس تاسع عشر جمادي الآخرة سنة خمس وأربعين وستّمائة. ووليها بعده الشيخ مجد الدين محمّد بن هدية بن محمود الأُشْنُهيّ ولم يزل بها إلى أن تُوفّي في أوائل سنة ستّ وخمسين وستّمائة ووليها بعده عماد الدين أبو بكر بن محمّد بن الحسن الكورانيّ ولم يزل مدرّساً بها إلى أن قُتل في وقعة التتر بحلب. المدرسة الشُعَيْبيّة - وكانت هذه المدرسة مسجداً يُقال إنّه أوّل ما اختطّه المسلمون عند فتحها من المساجد وعُرف بأبي الحسن عليّ بن عبد الحميد الغضائريّ أحد الأولياء من أصحاب سريّ السقطيّ. فلمّا ملك نور الدين حلب وأنشأ بها المدارس ووصل الشيخ شُعَيْب بن أبي الحسن بن حسين بن أحمد الأندلسيّ الفقيه فصيّر له هذا المسجد مدرسةً وجعله مدرّساً بها فعُرفت به إلى عصرنا ولم يزل مدرّساً بها إلى أن تُوفّي بها سنة ستّ وتسعين وخمسمائة في طريق مكَّة ودُفن بين تيماء وبين جعفر بني عنزة وكان من الفقهاء المعتبرين والزهّاد المعروفين وكان من أصحاب الحافظ أبي الحسن عليّ بن سليمان المرادي وكان قد انقطع في مسجد الغضائريّ فعُرف المسجد به وانقطع عنه اسم الغضائريّ. ثمّ وليها بعده الشيخ شمس الدين محمّد بن موسى الجزّوليّ ولم يزل بها إلى أن تُوفّي يوم الأحد سنة ثلاث وثلاثين وستّمائة ثمّ وليها موفّق الدين أبو القاسم بن عمر بن الفضل الكُرديّ الحُمَيْديّ ولم يزل بها إلى أن ولي قضاء المعرّة في أوائل سنة اثنتين وأربعين وستّمائة فوليها بعده قوام الدين أبو العلاء المفضّل بن سلطان بن شجاع المعروف بابن حاذور المقدّم ذكره ثمّ خرج عنها كما قلنا إلى حمص سنة خمس وخمسين فوليها بدر الدين محمّد بن إبراهيم بن خلّكان المعروف بقاضي تلّ باشَر المقدّم ذكره. المدرسة الشَرَفيّة - أنشأها الشيخ الإمام شرف الدين أبو طالب عبد الرحمان ابن أبي صالح عبد الرحيم المعروف بابن العجميّ وصرف عليها ما ينيف على أربعمائة ألف درهم ووقف عليها أوقافاً جليلةً ودرّس فسها ولده محيي الدين محمّد وأعاد له فيها عشرة أنفس لم يكن في عصرهم في سائر البلاد مثلهم ولم يدرّس فيها غيره إلى أن قُتِل شهيداً بأيدي التتر بعد استيلائهم على حلب وأمّا الشيخ شرف الدين الواقف المذكور فإنّه تُوفّي بعد استيلاء التتر على حلب في رابع عشرين صفر سنة ثمان وخمسين وستّمائة ودُفن بقبّة كان أنشأها شماليّ المدرسة واشترط أن يُدفَن بها. المدرسة البَدْريّة - أنشأها بدر الدين بدر عتيق عماد الدين شاذي بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب برأس درب البازيار وهي داثرة الآن. المدرسة الزَيْديّة - أنشأها إبراهيم بن إبراهيم المعروف بأخي زيد الكِيَّال الحلبيّ انتهت سنة خمس وخمسين وستّمائة ودرّس فيها شمس الدين أحمد بن محيي الدين محمّد بن أبي طالب بن العجميّ وعليه انقضت الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 المدرسة السَيْفيّة - أنشأها الأمير سيف الدين عليّ بن عَلَم الدين سليمان بن جندر انتهت سنة سبع عشرة وستّمائة. يدرّس فيها مذهبا الشافعيّ وأبي حنيفة. وأوّل من درّس بها مذهب الإمام الشافعيّ القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف ابن رافع بن تميم المعروف بابن شدّاد ولم يزل بها مدرّساً قريباً من سنة ثمّ استقلّ بها بعده نائبه بها القاضي زين الدين أبو محمّد عبد الله بن الشيخ الحافظ عبد الرحمان الأسديّ ولم يزل بها مدرّساً إلى أن تولّى نيابة الحكم للقاضي بهاء الدين سنة ثلاث وعشرين فوليها نجم الدين محمّد بن أبي بكر بن عليّ بن شاني أبو عبد الله الموصليّ المعروف بابن الخبّاز وكان عالماً فاضلاً ولم يزل بها إلى أن تُوفّي يوم الثلاثاء سابع ذي الحجّة سنة إحدى وثلاثين وستّمائة. فوليها القاضي جمال الدين أبو عبد الله محمّد بن الأستاذ ولم يزل متولّيها إلى أن مات سنة ثمان وثلاثين فوليها ولده محيي الدين محمّد ولم يزل إلى أن كانت فتنة التتر وانقضت الدولة. المدارس الشافعيّة الّتي بظاهر حلب المدرسة الظاهريّة - أنشأها السلطان الملك الظاهر غياث الدين غازي بن يوسف بن أيّوب صاحب حلب وانتهت عمارتها في سنة عشرة وستّمائة وأنشأ إلى جانبها تربةً أرصدها ليُدفَن بها من يموت من الملوك والأمراء وفوّض النظر في المدرسة إلى القاضي بهاء الدين أبي المحاسن يوسف بن رافع بن تميم المعروف بإبن شدّاد وشرف الدين أبي طالب بن العجميّ وشرط أن يكون مشاركاً للقاضي بهاء الدين مدّة حياته وأن يستقلّ بها بعد وفاته ثمّ لعقبه. وأوّل من درّس بها ضياء الدين أبو المعالي محمّد بن الحسن بن أسعد بن عبد الرحمان بن العجميّ وحضر يوم تدريسه السلطان الملك الظاهر بنفسه وعمل دعوةً عظيمةً حضرها الفقهاء واستمرّ المذكور فيها إلى أن تُوفّي بدمشق يوم الاثنين حادي عشر صفر عند عوده من الحجاز سنة خمس وعشرين وكان مولده سنة أربع وستّين وحُمل إلى حلب فدُفن بها. ووليها بعده الشيخ شرف الدين أبو طالب بن العجميّ ولم يزل بها مدرّساً إلى سنة اثنتين وأربعين فاستخلف فيها ابن أخيه عماد الدين عبد الرحيم بن أبي الحسن عبد الرحيم ولم يزل نائباً عنه إلى سنة خمسين فعزله عنها واستناب ولده محيي الدين محمّد ولم يزل بها إلى أن زالت الدولة الناصريّة. المدرسة الهرويّة - أنشأها الشيخ أبو الحسن عليّ بن أبي بكر الهَرَويّ السائح قبليّ حلب. وأوّ من درّس فيها في زمانه الشيخ موفّق الدين أبو القاسم بن عمر بن فضل الكُرْديّ الحُمَيديّ ولم يزل مدرّساً بها إلى أن خرج عنها كما تقدّم وكانت وفاته سنة عشرة وستّمائة. ثمّ درّس فيها الشيخ الإمام شمس الدين أبو المظفّر حامد بن أبي العميد عمر بن أميريّ بن ورشيّ القزوينيّ ولم يزل مدرّساً بها إلى أن تُوفيّ يوم الجمعة ثامن وعشرين جمادى الآخرة سنة ستّ وثلاثين وستّمائة وكان مولده سنة سبع وأربعين وخمسمائة ووليها بعده ولده عماد الدين محمّد ولم يزل بها إلى أن كانت فتنة التتر فدثر بعضها ولم يبق بها ساكن وخرب وقفها لأنّه كان سوقاً بالحاضر. الفردوس - أنشأتها الصاحبة الملكة ضيقة خاتون بنت الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمّد بن أيّوب وهي جليلة كبيرة وجعلتها تربةً ومدرسةً ورباطاً ورتّبت فيها خلقاً من القرّاء والفقهاء والصوفيّة. وأوّل من درّس فيها شمس الدين أحمد بن الزبير الخابوريّ ولم يزل إلى عصرنا وهو سنة ثلاث وسبعين وستّمائة. المدرسة البُلدُقيّة - أنشأها الأمير حسام الدين بُلْدُق عتيق الملك الظاهر وكان من أيعان الأمراء. وأوّل من درّس بها ركن الدين جبريل بن محمّد ابن عَمّكاويه التركمانيّ وتوفي بها ودرس فيها بعده ولده عزّ الدين أحمد ولم يزل بها إلى أن ولي قضاء الشُغر ووليها بعده جمال الدين محمّد المعرّيّ. المدرسة القيمريّة - أنشأها الأمير حسام الدين الحسن بن أبي الفوارس القيمريّ في مجاورة المقام سنة ستّ وأربعين وأوّل من درّس بها ركن الدين جبريل المقدّم ذكره جامعاً بينها وبين البُلْدُقيّة وتوفي بها ودرّس فيها بعده ولده عزّ الدين أحمد ولم يزل بها إلى أن ولي قضاء الشُغر ووليها بعده جمال الدين محمّد المعرّيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 مدرسة بالجُبيل - أنشأها شمس الدين أبو بكر أحمد بن صالح عبد الرحيم ابن العجميّ وهي تربة ودُفن بها وهي شافعيّة ومالكيّة في سنة خمس وتسعن وخمسمائة والمدرّس بها أخوه الشيخ شرف الدين أبو طالب بن العجميّ. مدرسة - أنشأها الأمير شمس الدين لؤلؤ عتيق أمين الدين يُمْن عتيق نور الدين رسلان بن مسعود صاحب الموصل. أوّل من درّس بها الشريف عبد الله الحسينيّ ولم يزل بها مدرّساً إلى أن توفيّ في سنة اثنتين وخمسين وستّمائة ووليها بعده شرف الدين عبد الرحمان بن عثمان بن محمد السجاسيّ ولم يزل بها أى أن انقضت الدولة ومات بعدها بأيّام. مدرسة بالمقام - أنشأها بهاء الدين المعروف بابن أبي سيّال. مدرسة - أنشأها عزّ الدين أبو الفتح مظفّر بن محمد بن سلطان بن فاتك الحمويّ بالمقام وانتهت في سنة اثنتين وخمسين وستّمائة. ؟ المدارس الحنفيّة المدرسة الحلاويّة - كانت هذه المدرسة كنيسةً من بناء هيلاني أمّ قسطنطين وقد تقدّم القول في صيرورتها مسجداً مشبعاً فيما تقدمّ من أنّ القاضي أبا الحسن بن القاضي أبي الفضل بن الخشّاب الحلبيّ لمّا حاصر الفرنج حلب في سنة ثمان عشرة وخمسمائة وبعثروا القبور الّتي بظاهرها وأحرقوا من فيها عمد إلى أربع كنائس من الكنائس التي كانت بها وصيّرها مساجد وكانت هذه المدرسة تُعرف قديما بمسجد السراجين ولما ملك نور الدين حلب وقفه مدرسة وجدّد فيه مساكن يأوي إليها الفقهاء وإيواناً وكان مبدأ عمارته في سنة أربع وأربعين وانتهت وجلب إليها من أفامية مذبحاً من الرخام الملكيّ الشفّاف الذي إذا وُضع تحته ضوء بان من وجهه ووضعه فيها وعليه كتابة باليونانيّة تُرجمت فإذا هي: عُمل هذا للملك ذقلطيانوس والنسر الطائر في أربع عشرة درجة من برج العقرب فيكون مقدار ذلك على رأي أصحاب النجوم ثلاثة آلاف سنة. كان الملك العادل نور الدين يملأ هذا الجرن في ليلة السابع والعشرين من رمضان قطائف محشوةً ويجمع عليه الفقهاء المرتّبين بالمدرسة وهي من أعظم المدارس صيتاً وأكثرها طلبةً وأغزرها جامكيّةً ومن شرط الواقف أن يحمل في كلّ شهر رمضان من وقفها ثلاثة آلاف درهم للمدرّس يصنع بها للفقهاء طعاماً وفي ليلة النصف من شعبان في كلّ سنة حلوى معلومةً وفي الشتاء ثمن بياض لكلّ فقيه شيء معلوم وفي أيّام شرب الدواء من فَصْلي الربيع والخريف ثمن ما يحتاج إليه من دواء وفاكهة وفي الموالد أيضاً الحلوى وفي الأعياد ما يرتفقون به فيها دراهم معلومة وفي أيّام الفاكهة ما يشترون به بطّيخاً ومشمشاً وتوتً. ولّما فرغ من بنائها استدعى لها من دمشق الفقيه الإمام برهان الدين أبا الحسن عليّ بن الحسن بن محمّد بن أبي جعفر وقيل جعفر البلخيّ فولاّه تدريسها واستدعى الفقيه برهان الدين أبا العبّاس أحمد بن عليّ الأصوليّ السلفيّ من دمشق ليجعله نائباً عن برهان الدين فامتنع من القدوم فسيّر إليه برهان الدين البلخيّ كتاباً ثانياً يستدعيه فيه ويشدّد عليه في الطلب فأجابه عن كتابه بكتاب استفتحه بعد البسملة: شعر: وَلَو قُلْتَ طَأ في النارِ أعْلَمُ أَنّهُ ... رِضىً لَكَ أَوْ مُدْنٍ لَنا مِنْ وِصالِكَ لَقَدَّمْتُ رِجْلي نَحْوَها فَوَطئْتُها ... هُدىً مِنْكَ لي أَوْ ضِلَّةً مِنْ ضَلالِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ثمّ قدم حلب بعد كتابه فاستنابه برهان الدين البلخيّ ولم يزل نائباً عنه إلى أن مات فخزن عليه برهان الدين حزناً غلب عليه ولمّا فرغ من الصلاة عليه التفت إلى الناس وقال: شمت الأعداء بعليّ لمت أحمد. ولم يزل برهان الدين البخليّ مدرّساً بالمدرسة المذكورة إلى أن خرج من حلب لأمرٍ جرى بينه وبين مجد الدين أبي بكر محمّد بن نُوشْتكين بن الداية لما كان نائباً عن السلطان بحلب وقصد دمشق فأقام بها إلى أن توفي يوم الخميس سلخ شعبان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. وتولّى المدرسة بعد خروجه منها الفقيه الإمام عبد الرحمان بن محمود بن محمد بن جعفر الغَزْنويّ أبو الفتح وقيل أبو محمد الحنفيّ الملقب علاء الدين فأقام بها مدرّساً إلى أن توفي بحلب ليبع بقين من شوّال سنة أربع وستّين وخمسمائة وتولّى تدريسها بعده ولده محمود وكان صغيراً فتولّى تدبيره وتربيته الحسام عليّ بن أحمد بن مكّي الرازيّ الورديّ وكان فقيهاً فاضلاً. ثمّ ولي بعده تدريسها الإمام الفاضل رضي الدين محمّد بن محمّد بن محمّد أبو عبد الله السَرَخْسيّ صاحب كتاب المحيط كان قد قدم حلب فولاّه نور الدين محمود بن زنكي التدريس بالمدرسة وكان في لسانه لكنة فتعصّب عليه جماعة من الفقهاء الحنفيّة بحلب وصغّروا أمره عند نور الدين وكانت وفاته يوم الجمعة آخر جمعة في شهر رجب سنة إِحدى وسبعين وخمسمائة. فكتب نور الدين إلى عالي بن إبراهيم ابن إِسماعيل الحنفيّ أبي عليّ الغَزْنَويّ البلقيّ وكان بالموصل في الوصول إلى حلب ليولّيه تدريس المدرسة واتّفق أن أبا بكر بن مسعود بن أحمد الكاسانيّ الملقّب علاء الدين أمير كاسان وكاسان بلدة من فَرْغانة سُيّر رسولاً من الروم إلى نور الدين فعرض عليه المقام بحلب والتدريس بالمدرسة الحلاّويّة فأجابه إلى ذلك ووعده أن يعود إلى حلب بعد ردّ الجواب بالرسالة فعاد إلى الروم ثمّ قدم حلب واتّفق قدومه وقدوم عالي الغَزْنَويّ من الموصل فولي عالي التدريس بالمدرسة الحلاّويّة يوماً واحداً ثمّ أنّ نور الدين استحيا من علاء الدين الكاساني فاستدعى بابن الحليم مدرّس مدرسة الحدّادين إلى دمشق وولى عالي الغَزنَويّ مكان ابن الحليم ثمّ ولي علاء الدين تدريس الحلاويّة ولم يزل علاء الدين بها إلى أن تُوفي يوم الأحد بعد الظهر عاشر رجب سنة سبع وثمانين وخمسمائة وكان من ذوي التحصيل والتفريغ والتأصيل صنّف التصانيف البديعة في أحكام الشريعة والكتب التي سار في الآفاق ذكرها واستوى في شياعها خَبرها وخُبرها. وولي التدريس بعده الإمام افتخار الدين عبد المطّلب بن الفضل بن عبد المطلّب بن عبد الملك بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس صاحب الرواية العالية الفاخرة والدراية الزاهية الزاهرة شرح الجامع الكبير شرحاً مستوفى وقام بما شُرط فيه ووّفى ولم يزل مدرّساً إلى أن تُوفي في جمادي الآخرة من سنة ستّ عشرة وستمائة. فولي تدريس المدرسة بعده ولده الإمام العلاّمة تاج الدين أبو المعالي الفضل وكان قد جمع بين العلم والكرم وأصبح فيها كنار على علم ولم يخلُ من كان بحلب أو دخلها من الفضلاء والمستفيدين من فوائده ولا عطل جيّد واحد منهم من بوادئ جوده وعوائده خلع في يوم تدريسه عشرين خلعة على من حضر درسه من متميّزي الفقهاء واستمرّ مدرّساً معظّم المكانة إلى أن توفيّ فجأةً في أواخر سنة ثلاث وثلاثين وستّمائة. فولي تدريسها بعده في أوائل سنة أربع وثلاثين الصاحب الإمام العلاّمة جامع أشتات الفضائل المبرّز في معلوماته على الأواخر والأوائل المضيف إلى عالي الرواية عظيم الدراية الوافر الحظّ من حسن الخطّ المحرّر لما يرويه بالإتقان والضبط جمع خطّه بين تحرير الأصول ورونق الجمال وحاز فيه قصب السبق فأضحى يُباري ابن هلال وحقّق نعته أنّ الأسماء تنزل من السماء حين لُقّب بالكمال كمال الدين أبو القاسم عمر بن قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة المعروف بابن العديم ولم يزل مستمرّاً على تدريسها إلى أن قصد دمشق في خدمة السلطان الملك الناصر فولي تدريسها استقلالاً ولده الإمام العلاّمة الزاهد العابد الخطيب قاضي القضاة مجد الدين أبو المجد عبد الرحمان لما جُمع له من العلم والعمل وارتوى من الرواية التي في علوّها المشايخ الأوّل وانقضت الدولة الناصريّة الدولة الناصريّة وهو بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 مدرّس ولقواعد المذهب فيها مؤسّس ثمّ دخل مصر مع من كُتب عليه الجلاء من أهل حلب. المدرسة الشاذْبَخْتيّة - أنشأها الأمير جمال الدين شاذْبَخْت الخادم الهنديّ الأتابكيّ كان نائباً عن نور الدين محمود بحلب ولما تمّت استدعى من سِنجار نجم الدين مسلم بن سلامة ليولّيه تدريسها فأمره الملك الظاهر بأن يولي موفّق الدين بن النّحاس فكان أوّل من درّس فيها الفقيه الإمام العالم موفّق الدين أبو الثناء محمود بن هبة الله بن طارق النّحاس الحنفيّ ولم يزل متولّياً تدريسها إلى أن تُوفي يوم الأربعاء ثالث عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستّمائة بتلّ عبدة من أعمال حرّان عائداً من رسالة حملها لصاحب تَبْريز من جهة الملك الظاهر ونُقل إلى حلب فدُفن بها وكان عالماً في الخلافيّات حسن المناظرة منصف في المحاورة. وتولّى تدريسها بعده القاضي شمس الدين محمد بن يوسف ابن الخضر المعروف بابن القاضي الأبيض قاضي العسكر العادليّ ولم يزل مدرّسا بها إلى أن تُوفي ليلة الخميس سابع عشر شهر رمضان سنة أربع عشرة وستّمائة. وتولّى تدريسها بعده الصاحب كمال الدين أبو القاسم عمر بن أبي جرادة ولم يزل مدرّساً بها وولده مجد الدين عبد الرحمان ولم يزل ينوب عن والده إلى أن استقلّ بها أخوه جمال الدين محمّد ولد الصاحب كمال الدين إلى أن كانت فتنة التتر سنة ثمان وخمسين. المدرسة الأتابكيّة - أنشأها شهاب الدين طُغْريل الأتابك عتيق الملك الظاهر غياث الدين غازي نائب السلطنة بقلعة حلب ومدبّر الدولة بعد وفاة معتقه. انتهت عمارتها في سنة ثمان عشرة وستّمائة. وأوّل من درّس فيها الشيخ الإمام العام جمال الدين خليفة بن سليمان بن خليفة القرشيّ الحورانيّ الأصل ولم يزل بها إلى أن توفي في الرابع والعشرين من شوّال سنة ثمان وثلاثين وستمّائة وكان فقيهاً عالناً تفقّه إلى علاء الدين الكاسانيّ ووليها من بعده مجد الدين عبد الرحمان بن كمال الدين بن العديم ولم يزل بها إلى أن خرج من حلب فرارّا من التتر إسوة بأهل بلده وأحرقت في زمان التتر وهي داثرة الآن. المدرسة الحدّادية - أنشأها حُسام الدين محمّد بن عمر بن لاجين بن أخت صلاح الدين كانت من الكنائس الأربع اّلتي ذكرها فهدمها وبناها بناءً وثيقاً. وأول من درّس بها الفقيه الإمام الحسين بن محمّد بن أسعد بن حليم المعغوتب المجّم وكان فقيهاً عالماً متأدباً ولم يزل بها إلى أن استدعاه نور الدين إلى دمشق. وولي مكانه عالي بن إبراهيم بن إسماعيل الغَزْنَويّ البلقي ولم يزل بها إلى أن توفي إما سنة إحدى أو اثنين وثمانين وخمسمائة وقال مقرّب الدين أبو جعفر عمر بن قُشّام: تُوفيّ عالي سنة خمس وثمانين وخمسمائة وهذان القولان حكاهما كمال الدين بن العديم في تأريخه. ثم وليها بعده موفّق الدين أبو الثناء محمود بن طارق النحّاس الحلبيّ ولم يزل مدرّساً بها إلى أن تُوفيّ في السنة الّتي قدّمنا ذكرها عند ذكره في الشاذْنَجْتيّة. ثمّ وليها بعده ولده كمال الدين إسحاق ولم يزل بها مدرساً إلى أن تُوفيّ ليلة الأربعاء مستهلّ شعبان سنة أربع وأربعين وستّمائة. ووليها بعده الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن يوسف بن عبد الواحد الأنصاريّ ولم يزل بها مدرّساً إلى أن تُوفيّ يوم الخميس سادس عشر شعبان سنة تسع وأربعين وستمائة. ووليها بعده ولده فخر الدين يوسف ولم يزل إلى أن قتلته التتر عند استيلائهم على حلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 المدرسة الجُرْديكيّة - أنشأها الأمير عزّ الدين جُرديك النوريّ بالبلاط في سنة تسعين وخمسمائة وانتهت في سنة إحدى. وأول من ولي تدريسها الشيخ مقرّب الدين أبو حفص عمر بن عليّ بن محمّد بن فارس بن عثمان بن فارس بن محمّد بن قُشّام التميميّ الحنفيّوكان قد تفقّه على الإمام عبد الرحمان الغَزْنَوي وعلى علاء الدين الكاساني ولم يزل مدرساً بها إلى أن تُوفيّ ليلة السبت الثاني من جمادى الآخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة وكان مولده ليلة الأحد السابع والعشرين من شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. ثمّ ولي تدريسها بعده نجم الدين عمر بن أبي يَعْلي عبد المنعم بن هبة الله الرَعْباني ويُعرَف بابن أمين الدولة ولم يزل بها إلى أن عزل نفسه إما في سنة ثلاث أو أربع وأربعين وانقطع في بيته ولم يزل منقطعاً في بيته إلى أن قُتل في بيته عند استيلاء التتر على حلب. ثمّ وليها بعده صفيّ الدين عمر ابن زُقزُق الحَمَويّ ولم يزل مدرّساً بها إلى أن جدّد الطواشي مرشد المظفّريّ بحماه مدرسةً فاستدعاه فتوّجه إليه في سنة اثنتين وخمسين وستّمائة وتولّى بعده محيي الدين محمّد بن يعقوب بت إبراهيم بن النحّاس ولم يزل إلى أن انقضت الدولة الناصريّة. المدرسة المُقَدَّميّة - أنشأها عزّ الدين عبد الملك المقدّم وكانت أحد الكنائس الأربع التي صيّرها القاضي أبو الحسن بن الخشّاب مساجد في سنة ثمان عشرة وخمسمائة وأضاف إليها داراً كانت إلى جانبها وابتُدئ في عمارتها في سنة خمس وأربعين وخمسمائة. وأوّل من درّس بها برهان الدين أبو العباّس أحمد بن عليّ الأصوليّ المقدّم ذكره. ثمّ وليها بعده السيّد الشريف الإمام العالم افتخار الدين عبد المطّلب بن الفضل الهاشميّ المقدّم ذكره في المدرسة الحلاّويّة ولم يزل بها إلى أن تُوفيّ. ووليها بعده ولده أبو المعالي الفضل ولم يزل بها إلى أن تُوفيّ. وتولاّها بعده شهاب الدين أحمد بن يوسف بن عبد الواحد الأنصاري ولم يزل بها إلى أن تُوفيّ. ووليها بعده افتخار الدين أبو المفاخر محمّد بن تاج الدين أبي الفتح يحيى بن القاضي أبي غانم محمّد بن أبي جرادة المعروف بابن العديم ولم يزل بها مدرساً إلى أن قُتل عند استيلاء التتر على حلب. المدرسة الجاوُليَّة - أوّل من درّس بها الشيخ الإمام العالم غلاء الدين أبو بكر بن مسعود أحمد أمير كاسان الكاسانيّ المقدّم ذكره ولم يزل بها مدرّساً إلى أن تُوفيّ. فوليها بعده الشيخ جمال الدين خليفة بن سليمان بن خليفة القرشيّ المقدّم ذكره إلى أن مات. فوليها بعده نجم الدين أبو الحسن عليّ بن إبراهيم بن خُشّنام الكرديّ الهكّاريّ المعروف بالحلبيّ ولم يزل بها مدرّساً إلى أن كانت فتنة التتر فقُتل فيها. المدرسة الطُمانيّة - أنشأها الأميرُ حسام الدين طُمان النوريّ. أوّل من درّس بها السيّد الشريف افتخار الدين عبد المطلّب ثمّ أثر بها أبا حفص عمر بن حَفّاظ بن خليفة بن حَفَّاظ المعروف بابن العقّاد الحمويّ أحد طلبة علاء الدين الكاساني ثمّ سافر عنها فوليها شهاب الدين أحمد بن يوسف المقدّم ذكره ولم يزل بها إلى أن رحل إلى بغداد في سنة اثنتين وثلاثين وستّمائة فوليها بعده ضياء الدين محمد بن ضياء الدين عمر بن حفّاظ المعروف بالنحويّ ولم يزل مدرّساً بها إلى أن تُوفي في سنة اثنتين وأربعين وستّمائة. فوليها بعده شمس الدين محمد الماردانيّ ثمّ رحل عنها فوليها الإمام الأجلّ نجم الدين عبد الرحمان بن إدريس بن حسن الخلاطيّ مولداً الحلبيّ منشأ وعليه انقضت الدولة الناصريّة. المدرسة الحُساميّة - أنشأها الأمير حسام الدين محمود بن خُتْلو والي حلب كان. أوّل من درّس بها الشيخ بدر الدين يعقوب بن إبراهيم بن محمد بن النحّاس الحلبيّ ولم يزل مدرّساً بها إلى أن تُوفي سنة سبع وثلاثين وستّمائة فوليها بعده ولده محيي الدين محمد ولم يزل بها إلى انقضاء دولة الملك الناصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 المدرسة الأسديّة تجاه القلعة - أنشأها بدر الدين الخادم عتيق أسد الدين شيركوه كانت داراً يسكنها فوقفها بعد موته. أوّل من درّس بها صائن الدين أيوب بن خليل بن كامل ولم يزل بها إلى أن تُوفي غُرّة شعبان من سنة ثلاث وخمسين وستّمائة فوليها بعده قطب الدين محمد بن عبد الكريم بن عبد الصمد ابن هبة الله بن أبي جرادة ولم يزل بها إلى أن تُوفي فوليها بعده الشيخ مجد الدين أبو محمد الحسن بن أحمد بن هبة الله بن أمين الدولة ولم يزل بها إلى أن قُتل في وقعة التتر عند أخذهم حلب. المدرسة القليجيّة - أنشأها الأمير مجاهد الدين محمد بن شمس الدين محمود بن قِليج النوريّ وانتهت عمارتها سنة خمسين. وأوّل من درّس بها الشيخ مجد الدين الحسن المقدّم ذكره جامعاً بينها وبين المدرسة الأسديّة وعليه انقرضت الدولة الناصريّة. المدرسة الفُطنيسيَّة - أنشأها سعد الدين مسعود بن الأمير عزّ الدين أيبك المعروف بفُطَيْس عتيق عزّ الدين فرُّخشاه بن شاهنشاه بن أيّوب صاحب بعلبكّ كانت داراً يسكنها فوقها بعد عينه مدرسةً وتُوفي المذكور في سنة تسع وأربعين وستّمائة. أوّل من درّس بها أحمد بن محمد بن يحيى القراؤليّ الماردانيّ المعروف بالفصيح وعليه انقضت الدولة الناصريّة. ؟ المدارس الحنفيّة التي بظاهر حلب المدرسة الشاذْبختيّة - قد تقدّم لنا اسم بانيها. أوّل من درّس بها موفّق الدين أبو الثناء محمود بن النحّاس باعتبار شرط الواقف أن من درّس في الجوّانيّة كان إليه التدريس في البرّانيّة إلاّ أن يرى الناظر أن يفرق بينهما ولم يزل مدرّساً بها إلى أن تُوفي في التاريخ الّذي قدّمنا ذكره. ثمّ وليها بعده صفيّ الدين محمد بن أحمد بن يوسف الأنصاريّ السلاويّ ولم يزل بها مدرّساً إلى أن مات في شهر رجب سنة ستّ عشرة وستّمائة فوليها بعده ولده شمس الدين محمّد ولم يزل مدرّساً بها إلى أن تُوفي. فوليها بعده نجم الدين أحمد بن الصاحب كمال الدين بن العديم ولم يزل مدرّساً بها إلى أن مات ببلاد الروم وحُمل إلى حلب فدُفن بها سنة ثمان وثلاثين وستّمائة. فوليها افتخار الدين أبو المفاخر محمد بن يحيى بن محمد بن جَرادة المعروف بابن العديم وعليه انقرضت الدولة وقُتل بحلب. المدرسة الأشوديّة - أنشأها الأمير عزّ الدين أشود التركمانيّ الياروقيّ. أوّل من درّس بها صفيّ الدين خليل الملقّب بالزُقْزُق الحمويّ ثمّ رحل عنها فوليها بعده شمس الدين محمد الزَرْنيخيّ ثمّ رحل عنها فوليها صائن الدين أيّوب ابن خليل بن كامل المعروف بابن أخت الجمال خليفة ثمّ خرج عنها ودرّس فيها بعده بدر الدين محمد بن يحيى المعروف بالغَوْريّ. المدرسة السيفيّة بالحاضر - أنشأها الأمير سيف الدين عليّ بن الأمير علم الدين سليمان بن جندر. أوّل من درّس بها عزّ الدين محمد بن أبي الكرم بن عبد الرحمان السنجاريّ انتقل إلى حلب سنة ثمان وتسعين وخمسمائة فتولّى تدريس المدرسة المذكورة ثمّ خرج منها إلى دمشق وأقام بها إلى أن تُوفي سنة ستّ وأربعين بعد أن تولّى نيابة الحكم بها سنة سبع عشرة. فوليها بعد خروجه شرف الدين أبو بكر بن أبي بكر الرازيّ ولم يزل مدرّساً بها إلى أن تُوفي سنة ستّ وعشرين وستّمائة فوليها بعده نجم الدين أحمد بن شمس الدين محمد بن يوسف وقد تقدّم ذكر والده ولم يزل بها مدرّساً إلى أن مات قريباً من فتنة التتر. المدرسة البُلْدُقيّة بالحاضر - قد تقدّم اسم بانيها. أوّل من درّس بها رشيد الدين المعروف بتكملة ثم رحل عنها إلى دُنَيْسَر فوليها بعده شمس الدين محمد بن مصطفى الماردانيّ ولم يكن من ماردان وإنّما هو من خلاط ثم خرج عنها إلى الروم فوليها بعده شرف الدين عمر بن العفيف شيخ خانقاه المقدّم وعليه انقرضت الدولة. مدرسة النقيب أنشأها السيّد الشريف النقيب عزّ الدين أبو الفتوح المرتضى بن أحمد الإسحاقيّ المؤتمنيّ الحسينيّ على جبل جَوْشَن كان أولاً قد أنشأها مشهداً فصيّره مدرسةً ووقف عليها وقفاً ودرّس فيها سنة أربع وخمسين وستّمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 المدرسة الدقّاقيّة - أنشأها مهذّب الدين أبو الحسن عليّ بن فضل الله بن الدقّاق على الفيض. أوّل من درّس بها رشيد الدين المعروف بتَكْمِلة وذلك في سنة ثلاثين وستّمائة ثمّ رحل عنها إلى دُنَيْسَر فوليها بعده برهان الدين إسحاق التركمانيّ ولم يزل بها إلى أن رحل عنها إلى دمشق فوليها بعده شمس الدين الماردانيّ فقوّضها لصهره بدر الدين محمّد الكنجيّ ثم رحل عنها بدر الدين فقوّضها شمس الدين لفخر الدين عبد الرحمان بن إدريس بن حسن الخِلاطيّ وعليه انفضت الدولة الناصريّة. المدرسة الجماليّة - أنشأها جمال الدولة إقبال الظاهريّ. أوّل من درّس بها شمس الدين عيسى الدمشقيّ ولم يزل بها إلى أن تُوّفي. فوليها بعده جمال الدين يوسف إلى أن مات فوليها قطب الدين محمد بن عبد الكريم بن عبد الصمد المعروف بابن العديم المقدّم ذكره إلى أن مات فوليها بعده نجم الدين سالم بن قُريش المقدّم ذكره إلى أن تُوفي فوليها بعده قاضي البُلسْتَيْن من بلاد الروم ولم يزل بها إلى أن مات فوليها بدر الدين محمد بن نجم الدين أبي الحسن عليّ ابن إبراهيم المعروف بابن خُشْنا وعليه انقرضت الدولة. المدرسة العلائيّة - أنشأها علاء الدين عليّ بن أبي الرجاء شادّ ديوان الملكة ضيفة خاتون بنت الملك العادل لم أقف لها على ذكرٍ لمن درّس بها. المدرسة الكماليّة العديميّة - أنشأها الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة المعروف بابن العديم شرقيّ حلب وبنى إلى جوارها تربةً وجوسقاً وبستاناً. ابتدئت عمارتها سن تسع وثلاثين وستّمائة وتمّت في سنة تسع وأربعين ولم يدرّس بها أحد لأنّ الدولة الناصريّة انقرضت قبل استيفاء غرضه فيها. المدرسة الأتابكيّة - أنشأها الأتابك شهاب الدين طُغْرِيل الظاهريّ المقدّم ذكره تمّ بناؤها في سنة عشرين وستّمائة. وأوّل من درّس بها صفيّ الدين عمر الحمويّ ولم يزل بها إلى أن توّجه إلى حماه ووليها بعده نظام الدين محمد بن محمد بن عثمان البخليّ الأصل البغداديّ المولد والمنشأ ولم يزل بها إلى أن تُوفي بحلب ليلة الأربعاء تاسع وعشرين جمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين وستّمائة وكان مولده في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة فوليها بعده ولده تقيّ الدين أحمد ولم يزل بها إلى أن يُقتل في فتنة التتر ثمّ وليها في الأيّام الظاهريّة الفقيه فخر الدين عبد الرحمان بن إدريس بن حسن ثمّ خرج عنها إلى ديار مصر. ذكر ما بحلب من مدارس المالكيّة والحنابلة مدرسة أنشأها الأمير سيف الدين عليّ بن عَلَم الدين سليمان بن جندر تحت القلعة لتدريس مذهبي مالك وأحمد بن حنبل. زاوية بالجامع وقفها الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي لتدريس مذهب مالك. زاوية بالجامع للحنابلة وقفها نور الدين أيضاً. ذكر أدر الحديث بحلب فالذي منها في باطنها: زاوية بالجامع ودار أخرى وكلاهما وقف الملك العادل. ودار أخرى أنشأها القاضي بهاء الدين بن شدّاد. ودار أخرى أنشأها مجد الدين ابن الداية. ودار أخرى أنشأها بدر الدين الأسديّ. ودار أخرى أنشأتها أمّ الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود في الخانقاه التي بنتها. والذي منها في ظاهرها: زاوية في الفردوس التي قدّمنا ذكرها. وتربة الملك الأفضل نور الدين عليّ بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف من وقفه. ودار أخرى أنشأها الصاحب مؤيّد الدين إبراهيم بن يوسف القِفْطيّ كانت قديماً تُعرف بالبدوية تجاه الفردوس. الباب الثالث عشر في ذكر ما بحلب وأعمالها من الطلسمات والخواص ّ حكى لي الشيخ شرف الدين أبو طالب عبد الرحمان بن عبد الرحيم بن عبد الرحمان بن العجميّ المنعوت بشيخ الطائفة عن أسلافه أنّه لم يكن البعوض وهو المسمّى بالبقّ يوجد بمدينة حلب ولا يُعهَد منه شيء إلى أن اتّفقت عمارة نور الدين محمود بن زنكي للفصيل بحلب وتحرير الخندق ففُتحت طاقة أفضت إلى مغارة كانت مسدودةً فخرج منها بقّ كثير وكانت ناحيتها في جانب قلعة الشريف ومن ذلك اليوم ظهر البقّ بحلب وكان الإنسان إذا أخرج يده من داخل السور إلى خارجه سقط البقّ على يده فإذا أعادها من حيث خرجت ارتفع عنها البقّ. وبباب الجنان طلسم للحيّات في برج يسمّى برج الثعابين لا تضرّ معه بحلب حيّة وإن لسعت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وبباطن حلب عمود يُسمّى عمود العُسر حكى لي جماعة من أهل حلب أن هذا العمود يُنْتَفع به من عُسر البول فإذا أصاب الإنسان أو الدابّة هذا الداء دير به حوله فيبرأ. وقال كمال الدين بن العديم في كتاب الربيع تأليف غرس النعمة أبي الحسن محمّد بن هلال الصابئي وقال وحدّثني أبو عبد الله بن الإسكافي كاتب البساسيريّ في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة قال: احترق بمدينة حلب عام أوّل برج من أبراج سورها فحكى ذلك للمستنصر خادم كان له بحلب فقال: إن كنت صادقاً ففي هذه السنة يُخطَب لنل بالعراق وذلك عندنا في كتبنا. قال أبو عبد الله: وأتفق لنل ذلك وأقمنا الخطبة في ذي القعدة من سنة خمسين. ولمّا حُفر بالمسجد الجامع الموضع الّذي بُني فيه المصنع وُجد فيه صورة أسد من الحجر الأسود وهو موضوع على بلاط أسود ووجهه إلى جهة القبلة فاستخرجوه من مكانه فجرى بعد ذلك ما جرى من خراب الجامع إمّا بالزلزلة وإما بالحريق. قلتُ: قد وقع مثل ذلك في زماننا في أيام دولة الملك العزيز محمّد بن الملك الظاهر غياث الدين وأتابكه ومدبّر دولته شهاب الدين طُغْريل الخادم الظاهريّ طُغْريل بالقلعة داراً ليسكنها فلمّا حُفر أساسها ظهر فيما حُفر صورة أسد من حجر أسود فأزالوه عن موضعه فسقط بعد ذلك الجانب القبليّ من سور القلعة وانهدمت قطعة كبيرة وقد تقدّم لنا بناء هذه الثلمة الّتي تهدمت فيما سلف عند ذكر القلعة. وفي أعمال حلب ضيعة تُعرَف بعين جارا وبينها وبين الُهوتة حجر قائم كالتَخْم بين أرض الضيعتَيْن فربّما وقع بين أهل الضيعتَيْن شرّ فيكيدهم أهل الهوتة بأن يطرحوا ذلك الحجر القائم فكلّما يقع يخرج أهل الضيعتَيْن من النساء متبرّجات ظاهرات لا يعقلن بأنفسهنّ طلباً للجماع ولا يستقبحن في الحال ما هنّ عليه من غلبة الشهوة إلى أن يتبادر الرجال إلى الحجر فيعيدونه إلى حالته الأولى فيتراجعن النساء إلى بيوتهنّ وقد عاد إليهنّ التمييز لقبيح ما كمنّ عليه من التبرّج. وهذه الضيعة كان سيف الدولة أقطعها أبا عليّ أحمد بن نصر البازيار وكان أبو عليّ يتحدّث بذلك ويسمعه من الناس وقد ذكر هذه الحكاية المحسن بن عليّ التَنوخيّ. والقرية تُعرَف في زماننا هذا بالهوتة لأنّ بها مكاناً منخفضاً كأنّه بركة ولم تزل هذه القرية في إقطاع بني الخشَّاب إلى أن ملك الملك الصالح بن الملك العادل نور الدين محمود بعد وفاة والده وقُتل أبو الفضل ابن الخشّاب فقُبضت فيما قُبض من أملاكهم وإقطاعاتهم. فلّما ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين حلب سنة تسع وسبعين ردّ عليهم أملاكهم وأقطع هذه القرية مجد الدين بن الخشّاب. فلّما تُوفي أقطعها بهاء الدين الحسن بن إبراهيم ابن الخشّاب ولم تزل في يده إلى أن تُوفي في سنة ثمان وأربعين وستّمائة. وحكى لي رحمه أنه دامت في يده نيّفاً وأربعين سنة ما خرج إليها خوفاً من أهلها لأنّهم لصوص ومن أن يُحرَّك هذا العمود فأرى ما لا يحلّ لي من تبرّج النساء. ثمّ أقطعت لكمال الدين بن العديم ولم تزل في يده إلى أن استولت التتر على حلب. وعلى سبعة أميال من منبج حمّة عليها قبّة تسمّى المدير وعلى شفيرها صورة رجل أسود تزعم النساء أنّ كلّ من لا تحبل منهنّ إذا حكّت فرجها بأنف تلك الصورة حبلت. وذكر الشريف أبو المحاسن بن أبي حامد محمّد بن أبي جعفر الهاشميّ من أولاد عيسى بن صالح أنّه وقف على تأريخ لبعض أجداده ذكر فيه حوادث سنة سبع وستّين وأربعمائة أنّه ظهر بإنطاكية طلسم في جرن على صور الأتراك من نحاس فما حال الحول حتّى ملكها الأتراك. ووُجد الطلسم في دير على بابها وحكى ابن العظيميّ في تأريخه في حوادث سنة سبع وستين وأربعمائة: زُلزِلت أنطاكية وفتح سليمان بن قُطُلْمُش نيقية وأعمالها وظهر بأنطاكية طلسم الأتراك في دير الملك على باب أنطاكية سبعة أتراك من نحاس أتراك من نحاس على خيل نحاس بجعابهم فما حال الحول حتّى فتحها الأتراك. وفي هذا نظر لأنّ سليمان بن قُطُلْمُش فتح إنطاكية في سنة سبع وسبعين اللهمّ إلاّ أن يكون ابن العظيميّ أراد سبع وستّين فغلط بعقد العشرة. وقد ذكر هذه الحكاية حمدان بن عبد الرحيم الأثاربيّ في أخبار الفرنج أنّ أنطاكية خربتها زلزلة عظيمة قبل فتحها وذلك سنة سبع وسبعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وحكى القاضي حسن بن الموج الفرعيّ قال: كنتُ قد هربتُ من المجنّ الفوعيّ رئيس حلب إلى أنطاكية وخدمتُ وزير يغي سيان فتركني على عمارة السور وكان قد تهدّم بزلزلة فحُفر أساس بعض الأبراج ونُزل فيه على آخر دمسٍ فوُجد جرن قد انكسر وعليه طابق فكُشف فوُجد فيه سبعة أشخاص من نحاس على أفراس من نحاس عل كلّ واحدٍ ثوب من الزرد معتقلاً ترساً ورمحاً فَحُملت إلى بين يدي الأمير يغي سيان فأحضر مشايخ البلد وسألهم عن الأشخاص فقالوا: لا نعلم غير أنّا نحكي للأمير ما يقارب ذلك لنا دير يُعرّف بدير الملك واسع الهواء فعاب علينا في سنة سبع وسبعين وأربعمائة فتكسّر أكثر خشبه فنقضناه وطلبنا خشباً آخر على مقداره فلم نجد فأشار علينا بعض الصنّاع بتقديم البناء فحفرنا أساساً فلمّا انتهينا إلى أسفله وجدنا أشخاص أتراك من نحاس في أوساطهم القسيّ والنشّاب فلم نحتفل بذلك وعمرنا الحائط فما مضى غير مدّة قصيرة حتى سرق المدينة سليمان بن قُُطُلْمُش في السنة بعينها في أوّل شعبان. وبناحية الجَزر قرية تُسمّى يَحْمول لا يوجد بأرضها عقرب أصلاً وحكى جماعة من فلاّحيها أنّهم يخرجون في بعض الأوقات يحتطبون بالجبل الأعلى فيأتون بالحطب إلى يَحمول فرّبما تعلّق بالحطب من الجبل عقرب فمتى دخل بها القرية ماتت. ومن العجب أنّ إلى جانب هذه القرية قريتين يُقال لأحدهما الكفر والأخرى بيت رأس وبين جدار هذه وهذه مقدار شوط فرس وفي كلّ واحد منهما من العقارب شيء كثير. وناحية شيح الحديد لا توجد بها عقرب أصلاً وإنّ الرجل من أهل شيح إذا غسل ثوبه في ماء شيح ثمّ خرج إلى موضع آخر فوضع على ثوبه ماء وعصره وشرّبه من لَدَغَتْه عقرب بريء من وقته وإن قطرت منه قطرة على عقرب ماتت لوقتها وشيح هذه قرية لها كورة وفيها والٍ وهي من أعمال العمق وكانت قديما تُعدّ في أعمال أنطاكية وبها كان مقام يوسف بن أسباط عليه السلام. وبشرقي حلب من ناحية الجبل قرية خربة تُعرف بجُبّ الكلب وهي إلى جانب قرية قُبثان الجبل بها بئر ينفع من عضّة الكلب متى نظر المعضوض إلى مائة أو شرب منه أو اغتسل برئ وقُبثان المذكورة وهذه القرية وتلّ أركين متجاورة جارية في ملك الشيخ منتجب الدين أبي المعالي أحمد بن الإسكافيّ. وحكى لي أنّ والده حكى له عن جدّه أنّه لمّا ملك جبّ الكلب كان يتردد إليها الناس للتداوي إلى أن رمت امرأة في البئر خرقة حيض فبطلت منفعته في حدود الخمسمائة وكانت علامة حصول النفع به أنّ المعضوض إذا أبصر النجوم في مائه برئ وإن لم ينفعه سمع نبيح الكلام وإنّه متى رأى النجوم يبول بعد تمام الأسبوع ثلاث جراءً مصوّرةً بأذنابها ورؤوسها. ويُذكر في سبب زوال هذه الخاصيّة منه أن ملك حلب الملك رضوان بن تاج الدولة تُتُش عوّل على توسيع فمه وكان ضيّقاً عليه أربعة أعمدة تمنع أن يُنزل فيه فقال: نعمله حتى يكون الإنسان ينزل إليه ولا يقلّب عليه. فقيل له أنّ هذه الطلسمات لا يجب أن تُغيَّر عن كيفيّاتها فلم يقبل ففتحه فزال عنه ما كان يزيل الأذى وكان يقال إنّ ذلك في سنة ستّ وتسعين وأربعمائة. وبقرية من جبل السمّاق يقال لها كفر نجد بئر يقصده من دخل في حلقه علقة فشرب منه وطاف حوله سبع مرّات وقعت والخاصيّة فيه إن الإنسان يشرب ماءه بحيث أن يسقط من الماء في البئر ومتى لم يشربه كذلك لم ينفعه وقد شاهدتُ ذلك. وبمعرّة النعمان عمود فيه طلسم للبقّ وذكر أهل المعرّة أنّ الرجل كان يخرج يده وهو على سور المعرّة إلى خارج السور فيسقط عليه البقّ فإذا أعادها زال عنها وأخبر رجل من أهل المعرّة قال: رأيت أسفل عمود في دار كنتُ بها في معرّة النُعمان ففتحتُ موضعه لأستخرجه فانخرق إلى مغارة فأنزلتُ إليها إنساناً ظنّاً أنّه مطلب فوجدناه مغارةً كبيرة ولم نجد فيها شيئاً ورأيت في الحائط صورة بقّة فمن ذلك اليوم كثر البقّ في معرّة النعمان. وذكر أهل المعرّة أنّ حيّاتها لا تؤذي إذ لدغت كما يؤذي غيرها. وقال كمال الدين: سمعتُ إبراهيم ابن الفهم رئيس المعرّة يقول: إن العمود القائم في مدينة المعرّة هو طلسم الحيّات وهذا العمود قائم مستقرّ على قاعدة بزبرة حديد في وسطه يُميّله الإنسان فيسيل وكذلك حاله مع الريح القويّة ويضع الناس تحته إذا مال الجوز واللوز فينكسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وفي ذيل جبل بني عُلَيْم قرية يقال لها نحلة فيها مقابر يُشاهد عليها نور في الليل فإذا قصدها القاصد وقرب منها لا يشاهد شيئاً من النور أصلاً وقد شاهدتُ ذلك دفعات وعلى هذه المقابر كتابة بالروميّة وحكى القاضي بهاء الدين أبو الحسن بن إبراهيم بن الخشّاب رحمه الله أنّ الأمير سيف الدين عليّ بن قليج النوريّ أمر بأن تُنقَل تلك الكتابة ودفعها إلى بعض علماء الروم بحلب فترجمها وان فيها: هذا النور موهبة من الله العظيم لنا أو ذكر كلاماً نحو هذا وفيه زيادة عليه. وقرأت في تأريخ كمال الدين أبي القاسم عمر المعروف بابن العديم قال: حضرت بقلعة الراوندان عند الملك الصالح أحمد بن الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف فحكى لي أنّ عنده بعمل الراوندان قرية وأشار بيده نحو العرب وقال: هي في ذلك المكان وأنّه يُشاهد فيها نور ساطع إمّا في ليلة الجمعة أو في ليلة سواها ينظر إليه من كان خارجاً عن القرية حتّى إذا قصدها وقرب منها لم ير شيئاً. ذكر الحمّات الّتي يُنتَفَع بمائها في أعمال حلب منها حمّه بالسخنة من أعمال قنّسرين ماؤها في غاية الحرارة ينتفعون بها من البلغم والريح والجرب. وبناحية العمق حمّة أخرى قال ابن أبي يعقوب في كتاب البلدان. وبكورة الجُومة من أعمال قنّسرين عيون كِبريتيّة تجري إلى الحمّة. والحمّة بقرية يقال لها جِنْدراس ولها بنيان عجيب معقود بالحجارة يأتيها الناس من كلّ الآفاق فيسبحون فيها للعلل الّتي تصيبهم ولا يُدرى من أين يجيء ماؤها ولا أين يذهب. طُرف ممّا وُجد مكتوب على أحجار وغيرها بأعمال حلب ونواحيها رأيت إلحاقها بهذا الباب ليكون فيه تذكرة لمن وقف عليه وتبصرة لمن شاقته المطالعة إليه. وُجد بقنّسرين حجر مزبور مكتوب فيه بالعبرانيّة: إذا كانَ الأَميرُ وَصاحِباهُ ... وَقاضِي الأَرْضِ يَدْهَنُ في القَضاءِ فَوَيْلٌ لِلأَمِيرِ وَصاحِبَيْهِ ... وَقاضِي الأَرْضِ مِنْ قاضِي السَماءِ ونُبش قبر بإنطاكية فأُصيب فيه صفيحة نحاس فيها مكتوب بالعبرانيّة فأتوا بها إلى إمام إنطاكية فبعث إلى رجل من اليهود فقرأه فإذا فيه: أنا عَوْن بن أرميا النبيّ بعثني رّبي إلى إنطاكية أدعوهم إلى الإيمان بالله تع فأدركني فيها أجلي وسينبشني أسود في زمان أمّة أحمد. وكان الذي نبشه أسود. كذا حكاه كمال الدين بسنده وروى عن ابن عبّاس رضه أن الكنز الذي جاء ذكره في القرآن كان بإنطاكية وهو لوح من ذهب مكتوب في أحد جانبيه: لا إله إلاّ الله الواحد الصمد) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (. وكان في الجانب الآخر: عجباً لمن أيقن بالموت كيف يفرح وعجباً لمن أيقن بالنار كيف يضحك وعجباً لمن رأى الدنيا وتقلّبها بأهلها ثمّ هو يطمئنّ إليها وعجباً لمن أيقن بالحساب غداً ثمّ لا يعمل. وقد ورد فيما كان مكتوباً على اللوح خلاف بين المفسّرين هذا الذي ذكرناه أتّمه. الباب الرابع عشر في ذكر ما بباطن حلب وظاهرها من الحمّامات فممّا بباطنها: الحمّام الجديد. الحمّام السلطانيّة بباب أربعين. حمّامان بالمَعْقليّة. حمّامان لمحيي الدين بن العديم. حمّامان للناصح. حمّماما الفرقانيّ. حمّام أنشأه القاضي جمال الدين. حمّام حُسام الدين بباب أربعين. حمّام الواسانيّ. حمّاما عليّ بالمدبغة. حمّاما الستّ. حمّاما الحدّادين. حمّاما القبّة. حمّام الزّجاجين إنشاء ابن العجميّ. حمّاما السباعيّ. حمّام بدرب أتابك. حمّام العفيف برأس الدلبة. حمّام الشريف. حمّام الوزير. حمّام الشمّاس. حمّام الوالي بالَجلّوم. حمّام الصفيّ بالعقبة. حمّاما الحاجب. حمّام القاضي بهاء الدين بباب العراق. حمّام الوالي بباب العراق. حمّام شمس الدين لؤلؤ. حمّاما ابن أبي عصرون. حمّام العوافي بباب الجنان. حمّام أبي حصين. حمّام حمدان. حمّام البدر بن مِهْمان دار. حمّاما موغان. حمّام الشُحَيْنة برأس التلّ. حمّام ابن خرتش. حمّاما السرور. حمّام الكامليّة. حمّاما ابن الخشّاب. حمّام ابن العجميّ بباحسيتا. حمّام ابن الملك المعظّم. حمّام الشريف عزّ الدين بدرب الخرّاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 حمّام إنشاء ابن نصر الله. حمّامان بدار الزكاة. حمّام الفُسَيْتِقَة. حمّام الفُصَيْصيّ. حمّاما ابن الأَيْسَر. حمّاما السابق. حمّام برأس التلّ أيضاً. حمّام العرائس. حمّام الفرّائين. حمّامان بالقلعة. حمّامات الدور بحلب حمّام بدار المعظّم. حمّام بدار جمال الدولة. حمّام بدار شمس الدين لؤلؤ. حمّام بدار علاء الدين طايْ بُغا. حمّام بدار الأمير سعد الدين بن الدرويش. حمّام بدار في أدر بني الخشّاب. حمّام بدار ظفر بباب أربعين. حمّام بدار علاء الدين بن الناصح بالتنانيريّين. حمّام بدار سيف الدين أحمد بن الناصح برأس درب الخرّاف. حمّام بدار سيف الدين عليّ بن قليج. حمّام بدار عماد الدين أخيه. حمّام بدار بدر الدين الوالي. حمّام بدار الشريف الزجّاج بقلعة الشريف. حمّام بدار نظام الدين الوزير في باب النصر. حمّام بدار أتابك. حمّام بدار جمال الدولة إقبال الظاهريّ. حمّام بدار صارم الدين أزبك الظاهريّ. حمّام بدار حسام الدين عليّ بن بهاء الدين أيّوب. حمّام بدار الصاحب جمال الدين الكرم. حمّام بدار الرئيس صفيّ الدين طارق. حمّام بدار شهاب الدين بن عَلَم الدين. حمّام بدار الملك رشيد. حمّام بدار الأمير سيف الدين بَكْتوت العزيزيّ. حمّام بدار صاحب شَيْزَر. حمّام بدار نجم الدين الجوهريّ. حمّام بدار ابن بقا. حمّام بدار عماد الدين عبد الرحيم بن العجميّ. حمّام بدار الجمال عثمان بن العجميّ. حمّام بدار عزّ الدين الحمويّ. حمّام بدار قيصر في درب العدول. ذكر الحمّامات الّتي بظاهرها الّتي منها بالحاضر: حمّاما السوق. حمّاما الركن. حمّام الكامليّة. حمّام الإدريسيّ. حمّام ابن الدِزْمش. حمّام القاضي. حمّام أسد الدين. حمّام بني عصرون. حمّام ابن الدِزْمش بحارة الحوارنة. حمّام الخان. حمّام الشهاب داود. حمّام ابن العسقلانيّ. حمّام البدويّة. حمّام مدرسة بُلْدُق. حمّام إنشاء ابن سلاح دار. حمّام الجوهريّ إنشاء سعد الدين بن الدرويش. حمّام قرب دار حبيب الكُرْديّ. حمّاما سوق التبن بالرابية. حمّام الظاهريّة. حمّام طمان بالظاهريّة. حمّام البغرسيّ بالظاهريّة. حمّام بجسر الأنصاريّ. الحمّامات الّتي بالمقام حمّام شبل الدولة. حمّام النقيب. حمّام أمير جاندار. حمّام الخادم. حمّام الملك المعظّم. حمّام فخر الدين الوالي. حمّام أمير حاجب. حمّام قيصر. حمّام حسام الدين طُرُنْطاي العزيزيّ. حمّام العميد يوسف. حمّام وقف المدرسة الظاهريّ. الحمّامات الّتي بالياروقيّة حمّام الملك الظافر. حمّام عزّ الدين ميكائيل. حمّام ابن سُنْقُريّ. الحمّامات الّتي خارج باب إنطاكية حمّام الجسر. حمّاما قيصر. حمّام الحافظيّ. حمّام الزَمْلَكانيّ. حمّام عريف الصاغة. الحمّامات الّتي بالحَلْبة حمّاما الشهاب بن العجميّ. حمّام فخر الدين إياس. الحمّامات الّتي بالبساتين حمّام ببستان تحت مشهد الدكّة. حمّام ببستان ابن تُلَيْل الذهب. حمّام بستان مشهد الحسين عم. حمّام بستان شمس الدين خضر بن الوالي. حمّام بستان الوزير ابن حرب. حمّام بستان المضيق تُعرَف بابن حَسُّون. حمّام بستان النقيب محمّد بن صدقة بالخنّاقيّة. حمّام بستان الملك. حمّام بستان بالخنّاقيّة أيضاً. حمّام بستان ابن عبد الرحيم. حمّام بستان الأزرق. حمّام بستان تاج الملوك المعروف بالناصح. حمّام بستان الرئيس صفيّ الدين طارق. حمّام بستان ابن حرب المنتقل إلى قرطايا. حمّام بستان الوالي. حمّام بستان جمال الدولة. حمّام بستان شمس الدين لؤلؤ. حمّام بستان الشريف. حمّام بستان بَكْتاش والي القلعة. حمّام بستان فخر الدين بن الخشّاب. حمّام بستان كافي اليهوديّ بالهزّازة. حمّامات ثلاثة ببساتين السلطان. الحمّامات الّتي خارج باب الجنان: حمّام المساطيح. حمّام ابن السروجيّ. حمّام الجسر. حمّام المضيق. حمّام الدرويش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 حمّام بالهزّازة. الحمّامات الّتي بالرَمادة: حمّام الملاّح. حمّاما فخر الدين الوالي. حمّاما جمال الدولة. حمّام بدر الدين بن أبي الهيجاء. حمّام بهاء الدين بن أبي الهيجاء. حمّامان ببانقوسا أحدهما لابن أبي الحصين والأخرى تُعرَف بالمغارة. وبدار فخر الدين الوالي حمّام. وهذه الحمّامات التي ذكرتُها بحسب ما وصل إليه علمي وفارقتُ عليه بلدي في سنة حمّام فخر الدين أخي شمس الدين لؤلؤ. سبع وخمسين وستّمائة. وهي على هذه الكثرة كانت لا تكفي من بحلب ولقد بلغني أنّها في العصر الّذي وضعتُ فيه هذا الكتاب دون العشرة. إنّ في ذلك لعبرةً لمن يتفكّر أو يخشى وتذكرةً يتحقّق بها القدرة على الفناء بعد المنشأ. الباب الخامس عشر في ذكر نهرها وقنيّها الداخلة إلى البلد نهر قُوَيْق له مخرجان شاهدتُهما وبين حلب وبينهما أربعة وعشرون ميلاً أحدهما في قرية يُقال لها الحُسَيْنيّة بالقرب من عزاز تخرج الماء من عين كبيرة فتجري في نهر ويخرج بين جبلَيْن حتّى يقع في الوطأة الّتي قبليّ الجبل الممتدّ من بلد عزاز شرقاً وغرباً. والمخرج الآخر يجتمع من عيون ماء من سِنياب ومن قرى حولها كلّها من بلد الراوندن فتجتمع مياه تلك الأعين وتجري في نهر يخرج من فم سنياب فيقع في الوطأة المذكورة ويجتمع النهران فيصيران نهراً واحداً في بلد عزاز وهو نهر قُوَيْق ثمّيجري إلى دابق ويمرّ بمدينة حلب وتمدّه عيون قبل وصوله إليها وكذلك بعد أن يتجاوز وتدّه العين المباركة فيقوى وتدور به الأرحاء. وأول هذه الأرحاء قرية مالِد من شماليّ حلب. ويسقي في طريقه مواضع كثيرة حتى ينتهي إلى قنسرين ثم يمرّ إلى المطخ فيغيض في الأجم. وحكى جماعة أنّ نهر قويق يغيض في المطبخ ويخرج إلى بحيرة أفامية وأنّ قويق إذا مدّ في الشتاء احمرّ ماء بحيرة أفامية فاستدلّوا بذلك على ما ذكروه. والمسافة بين مغيضه وأفامية مقدار أربعة عشر ميلاً. وقال أبو زيد البَلْخيّ في تأريخه: ومخرج نهر من حدود دابق دون حلب بثمانية عشر ميلاً ويغيض في أجمة أسفل حلب. وقال ابن حَوقَل النَصيبينيّ فيما وقفت عليه فيه: ولها - يعني حلب - وادٍ يُعرف بأبي الحسن قُوَيْق وشرب أهلها منه وفيه قليل طفس. وذكر الحسن بن أحمد المهلّبي في كتاب المسالك والممالك الّذي صنعه للعزيز الفاطميّ لمّا ذكر حلب قال: وشرب أهلها من نهر على باب المدينة يُعرَف بقُوَيْق ويُكنيه أهل الخلاعة أبا الحسن. وقال أبو الحسين بن المنادي في كتابه المسمّى بالحافظ: مخرج قُوَيْق نهر حلب من قرية تُدعى سِنياب على سبعة أميال من دابق يمرّ إلى حلب ثمانية عشر ميلاً ثمّ إلى المرج الأحمر اثني عشر ميلاً ثم يغيض في الأجمة فمن مخرجه إلى مغيضه اثنان وأربعون ميلاً والمرج الأحمر هذا هو المعروف الآن بمرج تلّ السلطان وإنّما عُرف بتلّ السلطان لأنّ السلطان ألب أرسلان السلجوقيّ نزل في خيم به مدّةً فنُسب إليه. جاء عن بعض المفسّرين في قوله تعالى:) إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ (كان ذلك على نهر حلب يُقال له قويق. أحسن ما وُصف به من الشعر قول أبي بكر أحمد بن محمّد الصَنَوْبَريّ في القافيّة وهي: قُوَيْقُ لَهُ عَهْدٌ لَدَيْنا ومِيثاقُ ... وَهَذِي العُهُودُ وَالمَواثيقُ أَطْواقُ نَفَي الخَوْفَ أَنّا لا غَريقٌ نَرى لَه ... فَنَحْنُ عَلى أَمْنٍ وَذَا الأَمْنُ أَرْزاقُ وَنَزَّهَهُ أَلاَّ سَفينَةُ تَمْتَطِي ... َمطاهُ لَها وَخْدٌ عَلَيْهِ وَإِعناقُ وَأَنْ لَيْسَ يَعْتاقُ التَماسيحُ شُرْبَهُ ... إِذا اعْتاقَ شَرْبَ النِيلِ مِنْهُنَّ مُعْتاقُ وَلا فيهِ سِلَّوْرٌ وَلَو كانَ لَمْ أَكُنْ ... أَرَى أَنَّهُ إِلاَّ حَميمٌ وغَسّاقُ بَلَى تُعْلِنُ التَسْبِيحَ في جَنَباتِهِ ... عَلاَجِمُ بِالتَسْبِيحِ مُذْ كُنَّ حُذّاقُ أَقامَتْ بِهِ الحِيتانُ شَوْقاً ولَمْ يَزَلْ ... يُقامُ عَلى شَطَّيْهِ لِلطَّيْرِ أَسْواقُ وَسُرْبِلَ بالأَرْحاءِ مَثْنىً وَمَوْحَداً ... َكما سَرْبَلَتْ غُصْناً مِنَ البانِ أَوْراقُ وَفاضَتْ عُيونٌ مِنْ نَواحِيهِ زُرَّفٌ ... وَلَمّا تُعاوِنْها جُفونٌ وَآماقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 هُوَ الماءُ إِنْ يُوصَفْ بِكُنْهِ صِفاتِهِ ... فَلِلْماءِ إِغضاءٌ لَدَيْهِ وإِطراقُ فَفِي اللَوْنِ بَلُّوْرٌ وَفي اللَّمْعِ لُؤْلُؤٌ ... َوفي الطِيبِ قِنْدِيدٌ وَفي النَفْعِ دِرْياقُ إِذا عَبِثَتْ أَيْدي النَسِيمِ بِوَجْهِهِ ... وَقَدْ لاحَ وَجْهٌ مِنْهُ أَبْيَضُ بَرَّاقُ فَطَوْراً عَلَيْهِ مِنْهُ دَرْقٌ خَفِيفَةٌ ... وَطَوْراً عَلَيْهِ جَوْشَنٌ مِنْهُ رَقْراقُ وَلَمْ يَعْدُهُ نِيلْوفَرٌ مُتَشَوِّفٌ ... بأرْؤُسِ تِبْرٍ وَالزبْرَجَدُ أَعْناقُ لَهُ وَرَقٌ يَعْلُو عَلى الماءِ مُطْبِقٌ ... كَأَطْباقِ مَدْهُونٍ تَلَتْهُنّ أَطباقُ وَقَدْ عابَهُ قَوْمٌ وَكُلُّهُمُ لَهُ ... عَلَى ما تَعَاطَوْه مِنْ العَيْبِ عُشاقُ يَهابُ قُوَيْقٌ أَنْ يُمَلَّ فَإِنّما ... يُقِيمُ زَماناً ثُمّ يَمْضِي فَنَشْتاقُ وَقالوا: أَلَيْسَ الصَيْفُ يُبْلي لِباسَهُ ... فَقُلْتُ: الفَتَى في الصَيْفِ يُقْنِعُهُ طاقُ وَما الصُبْحُ إِلاَّ آئِبٌ ثُمّ غائِبٌ ... تُوارِيهِ آفاقٌ وتبديه آفاقُ وَما البَدْرُ إِلاَّ زائِدٌ ثُمَّ ناقِصٌ ... لَهُ في تَمامِ الشَهْرِ حَبْسٌ وَإِطْلاقُ وَلَوْ لَمْ تَطَاوَلْ غَيْبَةُ الوَرْدِ لَمْ تَتُقْ ... إِلَيْهِ قلُوبٌ تائِقاتٌ وَأَحْداقُ وِلِوْ دامَ في الحُبِّ الوِِصالُ وَلَمْ يَكُن ... ِفراقٌ َولا َهجْرٌ لما اشتاقَ ُمشتاقُ َوَفضْلُ الغَنِى لا َيسْتَبّينُ ِلِذي الغِنَي ... ِإذا َلمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ الفَضْلَ إِمْلاقُ قُوَيْقٌ رَسيلُ الغَيْثِ يَأْتِي وَيَنْقَضِي ... وَيَأْتِي انْسِياقاً تارةً ثُمّ يَنْساقُ وله فيه: قُوَيْقُ عَلَى الصَفْراءِ رُكِّبَ جِسْمُهُ ... رُباهُ بِهَذا شُهَّدٌ وَحَدائِقُهْ فَإِنْ جَدَّ جِدُّ الصَيْفِ غادَرَ جِسْمَهُ ... ضَئِيلاً وَلَكِنَّ الشِتاءَ يُوافِقُهْ يريد أنّ أصحاب الأمزجة الصفراويّة تنحل أجسامهم في الصيف ويوافقهم الشتاء ويريد أنّ قويق يقلّ ماؤه في الصيف حتّى يبقى حول المدينة كالساقية وربّما انقطع بعض السنين بالكليّة. والصنَوْبري يذكر مدّه في الشتاء: قُوَيْق إِذا شَمَّ رِيحَ الشِّتَاءِ ... أَظْهَرَ تِيهاً وَكِبْراً عَجِيبا وَنَاسَبَ دِجْلَةَ وَالنِيلَ وَال ... فُراتَ بهاءً وحُسْناً وَطِيبَا وَإنْ أَقْبَلَ الصَيْفُ أَبْصَرْتُهُ ... ذَلِيلاً حَقيراً حَزيناً كَئِيبا إِذا ما الضَفادِعُ نادَيْنَهُ ... قُوَيْقُ قُوَيْقُ أَبى أَنْ يُجِيبا فَيَأْوِينَ مِنْهُ بقايا كُسِي ... ن مِنْ طُحْلُبِ الصَيْفِ ثَوْباً قَشِيبا وَتَمْشِي الجَرادَةُ فيهِ فَلا ... تَكادُ قَوائِمُها أَنْ تَغِيبا وقال أبو نصر محمّد بن محمَّد بن إبراهيم بن الخضر الحلبيّ: ما بَرَدَى عِنْدِي وَلا دِجْلَةٌ ... وَلا مَجارِي النِيلِ مِنْ مِصْرِ أَحْسَنُ مَرْأَى مِنْ قُوَيْقَ إِذا ... أَقْبَلَ في المَدِّ وَفِي الجَزْرِ يَا لَهْفَتا مِنْهُ عَلَى نَغْبَةٍ ... تَبِلُّ مِنِّي غُلَّةَ الصَدْرِ. وقال: لِلهِ يَوْمٌ مَدَّ في صَدْرِهِ ... قُوَيْقُ مَقصُورٌ جناحَيْهِ مُصْنَدَلاً يَلْثِمُ ماءُ الحيا ... مِنْهُ لِمُخْضَرِّ عِذارَيْهِ. وقد وصفته الشعراء كثيراً لكنّا اقتصرنا على ما ذكرناه لعلمنا أنّ الصَنَوْبَريّ لا يشقّ غباره في وصف حلب ولا ما فيها أحد عداه ولا يبلغ العشر من مداه. ذكر القنيّ المتفرّعة عن القناة العظمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 هذه القناة قيل هي عين إبراهيم الخليل عم وهي تأتي من حَيْلان قرية شماليّ حلب وقيل إنّ الملك الّذي بنى حلب وزن ماءَها إلى وسط المدينة وبنى عليها وهي تأتي إلى مشهد العافية تحت بُغاذين وتركّب بعد ذلك على بناء محكم رُفع لها لانخفاض الأرض في ذلك الموضع ثمّ تمرّ إلى أن تصل إلى بابِلَّى وهي ظاهرة في مواضع ثمّ تمرّ في جباب قد حُفرت لها إلى أن تنتهي إلى باب القناة وتظهر في ذلك المكان ثمّ تمرّ تحت الأرض إلى أن تدخل إلى باب أربعين وتنقسم في طرق متعدّدة إلى البلد وقيل إنّ الملك الّذي بنى حلب لمّا انتهت القناة أعطى للصانع الّذي ساق الماء عليها مائة ألف دينار. ولأهل حلب صهاريج في دورهم فيها الماء منها إلاّ ما كان من الأمكنة المرتفعة كالعقبة وقلعة الشريف فإنّ صهاريجهم من المطر وكان الّذي حفرها أجراها إلى كنيسته التي جدّدتها هَيْلاني أمّ قسطنطين وصارت كما قدّمنا مدرسةً. وقيل إنّ القناة دثرت وإنّ عبد الملك بن مَرْوان جدّدها في ولايته والذي أدخلها إلى حلب الشيخ الأمين بن الفُصَيْصيّ الذي تغلّب على قنّسرين ولم يدخلها داره حتّى لا يُقال عنه لحظّ نفسه. وقد قيل إنّ هذه القناة إسلاميّة والصحيح أنّها روميّة وكانت لا تدخل في قديم الزمان إلاّ إلى الجامع فقط. وفي أيّام نور الدين محمود " بن " زنكي أخرج منها قطعةً إلى المطهرة التي غربيّ الجامع بسوق السلاح. وعُمل منها قسطل إلى رأس الشُعَبييّن وأخرج نور الدين المكور قطعةً أخرى إلى الخشّابين وساق منها إلى الرَحْبة الكبيرة داخل باب قنّسرين ثمّ انقطع ذلك كلّه بعد وفاة نور الدين ولم ندرك من القناة شيئاً سوى قسطل الخشّابين فقط. فلمّا كانت سنة خمس وستّمائة سيّر الملك الظاهر غياث الدين غازي بن الملك الناصر صلاح الدين إلى دمشق فأحضر صنّاعاً وخرج بنفسه وأوقفهم على أصل هذه القناة الّتي يخرج من حَيْلان وأمرهم باعتبار الماء الخارج منها وما ويصل منه إلى حلب فأخبروه الصنّاع أنّ مقدار الماء الخارج من أصل القناة مائة وستّون إصبعاً ووصل إلى حلب عشرون إصبعاً لا غير فضمن له الصنّاع أنّهم يكفوا جميع سكك حلب وشوارعها وأدرها ومدارسها وربطها ويفضل منه كثير يُصرَف إلى البساتين والأراضي فشرع الملك الظاهر فيها وبدأ أولاً بإصلاح المجرى الّذي لها من حَيْلان إلى بلد حلب وباشر لك بنفسه وأحضر إليها جميع الأمراء فضربوا خيمهم على سيفها ثمّ أمر بذرعها من حَيْلان إلى باب حلب فكانت خمسة وثلاثين ألف ذراع بذراع النجّارين وهو ذراع ونصف ثمّ قسم قطعاً على الأمراء وأضاف إليهم صنّاعاً وفعَلةً وحمل إليهم الكلس والزيت والحجارة والآجرّ فأُصلحت جميعها وكانت منكشفةً لا سقف لها فقطع الطوابيق من الصخور الصلبة وطبّقها جميعها إلاّ مواضع جعلها برسم تنقيتها وشرب الماء منها وأُجري جميع المجرى إلى باب حلب في ثمانية وخمسين يوماً. ولمّا اتّصلت بالبلد أمر ببناء القساطل. فأوّل قسطل بناه القسطل الّذي على باب أربعين تحت الرباط الّذي بناه الأمير شهاب الدين طُغريل الأتابك من رأس خندق الروم وصورته حوض طوله عشرون ذراعاً في رأسَيْه المشرقيّ والمغربيّ قبّتان في وسطيهما كالصهريجّيْن لكلّ واحد منهما أنبوب مقدار الإصبع يفيض ليلاً ونهاراً. ووّلى عمارته فخر الدين موسى بن شمس الخلافة محمّد بن مختار المصريّ. ثمّ ساق هذه القناة إلى داخل باب أربعين. ثم أخذ منها قطعةً ودخل بها إلى المعقليّة وأمر قبُني قسطل على باب المسجد المعروف ببني الأستاذ. ثم بُني قسطل آخر في وسط المعقليّة ثم بُني قسطل في آخر المعقليّة بينه وبين القسطل وثلاثمائة ذراع ثمّ ساق الماء منها إلى المسجد الّذي داخل باب النصر وعمل عنده قسطلاً أيضاً ثمّ ساق الماء منه إلى قدّام باب النصر وعمل حوضاً كبيراً طوله قريب من عشرين شبراً فيه ثلاثة أنابيب تفيض ليلاً ونهاراً ثمّ من هذا القسطل إلى باحَسيتا وعمل فيها قسطلَيْن وهناك انتهى طريق المعقليّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ثمّ ساق من أصل القناة من باب أربعين إلى الطريق الآخذ إلى مدرسة ابن أبي عصرون وكنيسة اليهود وتفترق قدّام كنيسة اليهود قسمَيْن قسم يأخذ إلى السويقة وقسم يأخذ إلى البلاط وما يليه وهذا الطريق الآخذ إلى البلاط فيه قسطل في رأس العقبة قدّام دار الملك الظاهر. ثمّ يخرج إلى عند مسجد البلاط وهناك قسطل ثمّ يسير إلى رأس درب الدَيْلَم وهناك قسطل ثمّ يسير إلى رأس درب البازيار وهناك قسطل ثمّ يسير إلى عند حمّام ابن أبي عصرون وهناك قسطل ثمّ يسير إلى رأس درب شراحيل وهناك قسطل والقسم الآخر يأخذ إلى مسجد المُزَيْبلة وهناك قسطل ثمّ إلى عند حمّام أوْران وهناك قسطل ثمّ إلى وسط السدلة وهناك قسطل ثمّ إلى باب الجنان إلى عند مسجد القصر وهناك قسطل ثمّ يعود إلى الطريق الآخذ إلى سويقة اليهود يسير الماء إلى عند دور بني القَيْسَرانيّ وهناك قسطل ثمّ ساقه إلى أوّل سويقة اليهود في رأس الطريق الآخذ إلى باب النصر وعمل حوضاً كبيراً يفيض منه ثلاثة أنابيب ليلاً ونهاراً ثمّ ساق منه إلى وسط السويقة عند دار الصبغ وعمل هناك قسطلاً ثمّ ساق منه إلى رأس السويقة وبنى تحت قبلة المسجد المعلّق في وسط الطريق الآخذ إلى البلاط قسطلاً وهناك انتهى طريق السويقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ثمّ ساق القناة من أصل الماء الّذي تحت القلعة إلى رأس السوق وبنى في رأس الطريق الآخذ إلى أسواق حلب وقصبة البلد مصنعةً في الأرض وجعل ماء القناة جميعها يجتمع في تلك المصنعة. ثمّ جعل فيها مقاسم يخرج الماء فيها على السويّة فيتفرّق في حلب على السواء فأخرج منها طريقاً إلى الجامع وما يضاف إليه وطريقاً إلى كتّاب الأسود وما يليه وطريقاً إلى باب العراق وما يليه وطريقاً إلى القطيعة وما يليها. فأمّا طريق الجامع فبنى عليه في رأس درب العدول قسطلاً ثمّ منه إلى رأس الصاغة تحت المسجد المعلّق قسطلاً وأخذ منه هناك إلى حمّام العفيف بن زَرْيق التي عند حبس الدُلْبة ثمّ أخذ من قسطل رأس الصاغة إلى رأس سوق النطّاعين في شرقيّ الجامع وبنى هناك قسطلاً وفيه ينقسم الماء ثلاثة أقسام قسم منه فوّارة الجامع وقسم يشقّ وسط الجامع ويسير إلى المطهرة الغربيّة وما يتّصل بها وقسم يأخذ إلى باب قنّسرين وما يليه. فأمّا قسم الفوّارة ففاضله ينصرف إلى صهاريج الجامع ومصانعه ويمدّ المطهرة الغربيّة وأمّا القسم الّذي يخرج إلى المطهرة فإنّه منه إلى درب الخرّاف وهناك قسطل ثمّ منه إلى رأس درب الصبّاغين وهناك قسطل ثمّ منه إلى المسجد الّذي قدّام باب أنطاكية وهناك قسطل فيه سبعة أنابيب يفيض ليلاً ونهاراً. وأمّا الطريق الّذي يخرج إلى باب قنّسرين وما يليه فيخرج إلى رأس سوق العطّارين العتيق ورأس المرّبعة وينقسم هناك قسمّيْن قسم يأخذ إلى الخشّابين وقسم يأخذ إلى دار الزكاة فأمّا قسم دار الزكاة فيسير إلى المطهرة الصغيرة المعروفة بتلّ فيروز ورأس سوق العطر ثمّ من هناك إلى حمّام دار الزكاة ثمّ منها إلى باب دار الزكاة وهناك قسطل ثمّ منه إلى دار الزكاة فيفيض في بركة في وسطها وهناك آخر هذا الطريق. وأمّا طريق الخشّابين فيسير إلى رأس قنّسرين وقسم إلى الزّجاجين. فأمّا قسم الزّجاجين فيسير إلى رأس درب أسد الدين الآخذ شمالاً إلى سوق الأساكفة والبرّ وهناك قسطل ثمّ يسير إلى عند مسجد المجنّ وهناك قسطل ثمّ يسير إلى رأس درب البيمارستان وهناك قسطل ثمّ إلى رأس درب الحطّابين وهناك قسطل تفيض فيه ثلاثة أنابيب ليلاً ونهاراً. وأمّا طريق باب قنّسرين فيسير إلى رأس درب ابن أبي سواد وهناك قسطل ثمّ يسير إلى عند المسجد المعروف بابن الإسكافيّ وهناك قسطل ثمّ يسير إلى الرحبة إلى عند مسجد المحصَّب وهناك قسطل وينقسم الماء هناك ثلاثة أقسام قسم يأخذ إلى ربع بني الطُرَيْرة قدّام المسجد المعروف بالرئيس صفيّ الدين طارق في رأس درب الماسح وهناك قسطل وهو آخر هذا الطريق وقسم يأخذ إلى باب قنّسرين وقسم يأخذ إلى الجرن الأصفر فيسير إلى عند دار غرس الدين قليج وهناك قسطل خلف تربة بني الخشّاب ثمّ يسير إلى الجرن الأصفر عند المسجد وهناك قسطل ثمّ يسير إلى الرحبة الصغيرة وهناك قسطل ثمّ يسير إلى عند درب بني بكران عند باب أتّون حمّام الشريف وهناك قسطل وهو آخر هذا الطريق. وأمّا القسم الّذي يأخذ إلى باب قنّسرين فيسير إلى قدّام باب قنّسرين وهناك قسطل يفيض فيه ثلاثة أنابيب ليلاً ونهاراً ثمّ يخرج منه الماء الظاهر في البلد بتحت برج الغنم مقابل سوق الأعلى وهناك قسطل وحوض كبير يفيض فيه ثلاثة أنابيب ليلاً ونهاراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وأمّا الطريق الّذي من المصنعة إلى كتّاب الأسود فيسير إلى تحت المسجد المعلّق المعروف ببني الطَرْسُوسيّ وهناك قسطل ثمّ إلى المسجد المعلّق الّذي على سطح كتّاب الأسود وهناك قسطل ثمّ إلى الحدّادين إلى قدّام المدرسة الحنفيّة وهناك قسطل ثمّ إلى الأسفريس إلى عند المسجد المعروف ببني دايح وهناك قسطل وينقسم الماء هناك قسمّيْن قسم يأخذ إلى عمود العُسر وهناك قسطل وهو آخر هذه الطريق. وقسم يأخذ إلى عند مسجد الجبليّ وهناك قسطل ثمّ يدخل من هناك إلى درب البنات وهناك قسطل وهو آخر هذه الطريق. وأمّا الطريق الّتي تأخذ من المصنعة إلى باب العراق فتسير إلى خلف مدرسة القاضي بهاء الدين ابن شدّاد عند حمّام النِفَّريّ ودار الحديث وهناك قسطل وينقسم الماء هناك قسمَيْن قسم يأخذ إلى باب العراق وقسم يأخذ إلى باب القطيعة وقلعة الشريف. فأمّا الّذي يسير إلى باب العراق فينتهي إلى داخل باب العراق وهناك قسطل ثمّ يخرج إلى ظاهر السور من شماليّ باب العراق وهناك حوض عظيم يفيض فيه ثلاثة أنابيب ليلاً ونهاراً ثمّ يسير الماء منه إلى تحت التواثير قدّام الباب الّذي يُؤخَذ منه إلى مقام إبراهيم عليه السلام والمقابر وهناك قسطل عند مسجد الأراحي ثمّ يسير منه إلى المدرسة الّتي جدّدها الملك الظاهر تربةً فيفيض في بركتها وينقسم الماء هناك قسمَيْن قسم يسير إلى قدّام خان السبيل الّذي بناه سيف الدين بن عَلَم بن جَنْدَر وهناك قسطل يفيض في بركة أمام الخان ليلاً ونهاراً. وأمّا الطريق التي تأخذ إلى رأس القطيعة وقلعة الشريف فإنّه يسير إلى رحبة السوق التي تأخذ إلى حمّام حمدان وهناك قسطل ثمّ منه إلى عند مسجد الشجرة وهناك قسطل ثمّ يسير إلى خرابة خليج إلى عند المسجد وهناك قسطل ثمّ ينقسم الماء هناك قسمَيْن قسم يأخذ إلى حمّام القاضي ابن الخشّاب في رأس درب الحديد وهناك قسطل وقسم يأخذ إلى قلعة الشريف إلى عند مسجد القبّة وهناك قسطل ثمّ يسير هذا إلى الطريق الّتي ظاهر باب قنّسرين إلى فندق الخاصّ الكبير فيفيض إلى بركة وفي ظاهر هذا الفندق من القبلة مقابل الحمّام المعروفة بسوق التبن قسطل ثمّ يسير منه إلى باب الرابيّة القبليّ وهناك قسطل ثمّ يسير منه إلى كنف الخندق ثمّ يسير منه إلى يسرى حمّام القاضي وهناك قسطل ثمّ يسير منه إلى المدرسة الّتي أنشأها سيف الدين بن عَلَم الدين سليمان بن جَنْدَر فيفيض في بركتها ثمّ يسير الفائض إلى بركة الجامع فيفيض ليلاً ونهاراً ويتّصل بالقساطل الّتي ذكرناها في طريق مدرسة سيف الدين إلى جامع أسد الدين. وهذا آخر ما جدّده الملك الظاهر وأنشأه من القساطل الّتي تجري فيها المياه ويُنْتَفَه بها سوى ما هو سائح إلى برك المساجد والمدارس والربط والحمّامات والدور والبساتين وغير ذلك وصُرف على هذه القساطل والطرقات أموال كثيرة ووقف عليها الملك الظاهر أوقافاً سنيّة وتجدّد في أيّام الملك الناصر صلاح الدين بن الملك العزيز ابن الملك الظاهر بظاهر البلد بسبب سوق الماء إلى حمّام سعد الدين بن الدِزْمِشْ أربعة قساطل أحدها بسوق الخيل سيق إليه الماء من القسطل الّذي خارج باب المقام عند مسجد الأراحي وساق من القسطل المذكور قسطلاً إلى آخر السوق الآخذ من باب الرابيّة إلى الحاضر من قبليّ السوق وقسطلاً بالقرب من جامع أسد الدين بالحاضر وساق الماء فيه إلى قسطل على باب داره. وكان يدخل وإلى حلب قناة من جهة باب قنّسرين ولمّا عمل الشيخ منتجب الدين بن الإسكافيّ المصنعة وقد نُبش فاستدللتُ بذلك على صحّة ما قيل ورأيتُ جماعةً من الصنّاع يقولون إنّ القناة إسلاميّة جلبها إلى حلب ابن الفصيصيّ حين حُبس في حلب وكانت هذه القناة قد فسدت طريقها إلى البلد وسدّ مخارج الماء منها فكثر ماؤها وجرى في القنوات والقساطل كما قدّمنا. فقال أبو المظفّر محمّد بن محمّد الواسطيّ المعروف بابن سُنَيْنير يمدحه بما فعل من هذه المكرمة الّتي عنّ نفعها وشاع برّها وصنعها: رَوَّى ثَرَى حَلَبٍ فَعادَتْ رَوْضَةً ... أُنُفاً وَكَانَتْ قَبْلَهُ تَشْكو الظَما أَحْيا مَوَاتَ رُفاتِها فَكَأَنّهُ ... عِيسى بِإِذْنِ الله أَحْيا الأعْظُما لا غَرْوَ أَنْ أَجْرى القناةَ جَداولاً ... فَلَطالَما بِقَناتِهِ أَجْرى الدِمّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الباب السادس عشر في ذكر ارتفاع قصبة حلب فقط ذكر منتخب الدين أبو زكريّاء يحيى بن أبي طيءّ النجّار الحلبيّ في الكتاب الّذي وضعه في تأريخ حلب وسمّاه عقود الجواهر في سيرة الملك الظاهر قال: حدّثني كريم الدولة بن شرارة النصرانيّ وكان مستوفي دار حلب يومئذ أنّه عمل ارتفاع حلب سنة تسع وستّمائة في الأيّام الظاهريّة دون البلاد الخارجة عنها والضياع والأعمال فكان مبلغه ستّة ألف ألف وتسعمائة ألف وأربعة وثمانين ألف وخمسمائة درهم. وممّا أحطتُ به علماً في أيّام السلطان الملك الناصر أنّ ارتفاعها على القاعدة في ارتفاعها في آخر دولته مع حلوله دمشق وخلوّها منه فكان تفصيل ذلك: ألف ألف ومائَتْي ألف دار الزكاة ستّمائة ألف العشر مائتَيْ ألف الوكالة ثلاثمائة ألف وثمانين ألفاً سوق الخيل والجمال والبقر ثلاثمائة ألف وخمسين ألفاً دار كورة الجوانيّة مائة ألف البطيخ ثمانين ألفاً دار كورة البرّانيّة العنب خمسين ألفاً الخضر مائة ألف وخمسين ألفاً المدبغة مائة ألف دكّة الرقيق ثمانين ألفاً صبغ الحرير أربعمائة ألف وخمسين ألفاً سوق الغنم ثلاثمائة ألف سوق التركمان للغنم خمسين ألفاً عرصة الخشب أربعين ألفاً ضمان الأوتار خمسة آلاف المسابك عشرين ألفاً البيلونة عشرين ألفاً سمسرة الخضر خمسين ألفاً البساتين مائة ألف دار الضرب أربعمائة ألف درهم الرباع مائة ألف درهم الحكورة عشرين ألف درهم ذخيرة الحطب والفحم عشرة آلاف درهم المصابن مائة ألف درهم عداد العرب ثلاثمائة وخمسين ألف درهم الملح المجلوب مائة ألف درهم المسالخ مائة ألف درهم الاجتياز بخان السلطان عشرين ألف درهم القلي مائة ألف درهم الساسة مائة ألف وخمسين ألف درهم عداد التركمان بحلب ثلاثين ألف رأس قيمتها ستّمائة ألف درهم وغنم مائة ألف درهم الجوالي ستّمائة ألف درهم الفرح واللَطَف ثمانين ألف درهم حمَّام السلطان ستّين ألف درهم السجون خمسين ألف درهم نحيرة الذمّة عشرين ألف درهم البقل خمسين ألف درهم القبّانين خمسين ألف درهم الحديد خمسين ألف درهم القنَّب ثمانين ألف درهم الحرير ثلاثين ألف درهم الخراج عشرة آلاف درهم ضمان المزابل ثلاثمائة ألف درهم. المواريث الحشريّة تقديراً لا تحريراً الباب السابع عشر في ذكر ما مُدحت به حلب نثراً ونظماً ذكر الحسن بن أحمد المهلّبيّ في كتاب المسالك والممالك الّذي وضعه للعزيز الفاطميّ: فأما حلب فهي قصبة قنّسرين العظيمة ومستقرّ السلطان وهي مدينة جليلة عامرة آهلة حسنة النازل عليها سور من حجر في وسطها قلعة على تل. هذا قوله والصحيح أنها في طرفها. ثمّ قال: لا تُرام وعليها سور حصين وبحلب من الكور والضياع ما يجمع سائر الغلاّت النفيسة وكان بلد مَعَرّة مِصرين إلى جبل السُماق بلد التين والزبيب والفستق والسّماق والحبّة الخضراء يخرج عن الدّفي الرخص ويُحمَل إلى مصر والعراق ويُجهَّز إلى كلّ بلد وبلد الأثارب وأرْتاح إلى نحو جبل السّماق أيضاً بمثل بلد فلسطين في كثرة الزيتون ولها ارتفاع جليل من الزيت العراق يُحمل إلى الرقّة إلى الماء إلى كلّ بلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فأمّا خلق أهلها فهم أحسن الناس وجوهاً وأجساماً والأغلب على ألوانهم الدرّيّة والحمرة والسمرة وعيونهم سود وشهل وهم أحسن الناس أخلاقاً وأتمّهم قامةً. وذكر كلاماً كثيراً لا يليق بما نحن بصدده أضربنا عنه وعلى كلّ حال فإنها أعظم البلاد جمالاً وأفخرها رتبة وجلالاً مشهرة الفخار عالية البناء والمنار ظلّها ضاف وماؤها صاف وسعدها واف ووردها لعليل النفوس شاف وأنوارها مشرقة وأزهارها مؤنقة وأنهارها غدقة وأشجارها مثمرة مورقة نشرها أوضع من نشر العبير وبهجتها أبهج منظراً من الزمن النضير خصيبة الأرزاق جامعة من أشتات الفضائل ما تعجز عنه الآفاق لم تزل منهلاً لكلّ وارد وملجأ لكل قاصد يستظلّ بظلّها العفاة ويُقصَد خيرها من كلّ الجهات لم تَرَ العيون أجمل من بهائها ولا أطيب من هوائها ولا أحسن من بنائها ولا أظرف من أبنائها فلله درّ سعد الدين محمّد بن الشيخ الإمام محيي الدين محمّد بن عليّ بن العربيّ الطائيّ الحاتميّ رحه حيث يقول حين حلّ بفنائها وشاهد ما يقصر عنه الوصف من محاسن أبنائها: حَلَبٌ تَفُقُ بِمائِها وَهَوائِها ... وَبِنائِها وَالزُهْرِ مِنْ أَبنائِها نُورُ الغَزالّةِ دُونَ نورِ رَحابِها ... وَالشهْبُ تَقْصُرُ عَنْ مَدا شُهْبانِها طَلَعَتْ نُجُومُ النَصرِ مِن أَبْراجِها ... فِبُرُوجُهأ تَحْكي بُرُوجَ سَمائِها وَالسُورُ باطِنُهُ فَفِيهِ رَحْمَةٌ ... وَعَذابُ ظاهِرِهِ عَلَى أعْدائِها بَلَدٌ يَظَلُّ بِهِ الغَرِيبُ كَأنَّهُ ... فِي أهْلِهِ فاسْمَعْ جَمِيلَ ثَنائِها وقد مدحها جماعة من الفضلاء ومن هو معدود من أكابر العلماء مثل البحتريّ والمتنبيّ والصنوبريّ وكُشاجِم والمعرّيّ والخفاجيّ وابن حَيّوش والوزير المغربيّ وأبو العبّاس الصفريّ وأبو فراس والحَلَويّ وابن سَعْدان وابن حرب الحلبيّ وابن النحّاس وابن أبي حصينة وابن أبي الحديد وابن العجميّ والملك الناصر. فمّما قاله البحتريّ: أَقامَ كُلُّ مُلِثِّ الوَدْقِ رَجَّاسِ ... عَلَى دِيارٍ بِعُلْوِ الشَأْمِ أَدْراسِ فِيها لِعَلْوَةَ مَصْطافٌ وَمُرْتَبَعُ ... مِنْ بانَقُوسا وَبابِلاّ وَبِطْياسِ مَنازِلٌ أَنْكَرَتْنا بَعْدَ مَعْرِفَةٍ ... وَأُوحِشَتْ مِنْ هَوانا بَعْدَ إِيناسِ يا عَلْوَ لَوْ شِئْتِ أَبْدَلْتِ الصُدُودَ لَنا ... وَصْلاً وَلانَ لِصَبٍّ قَلْبُكِ القاسي هَلْ ِلي سَبِيلٌ إِلَى الظُهْرانِ مِن حَلَبٍ ... وَنَشْوَةٍ بَيْنَ ذاكَ الوَرْدِ وَالآسِ وله من أبيات: نَاهِيكَ مِنْ حُرَقٍ أَبِيتُ أُقاسِي ... وَجُرُوحَ حُبٍّ ما لَهُنَّ أَواسِ تَجْرِي دُمُوعِي حِينَ دَمْعِكَ جامِدٌ ... وَيَلِينُ قَلْبِي حِينَ قَلبُكَ قاسِ يا بَرْقِ أَسْفَرَ عَنْ قُوَيْقَ فَطُرَّتْي ... حَلَبٍ فَأعْلَى القَصْرِ مِنْ بِطْياسِ عَنْ مَنْبَتِ الوَرْدِ المُعَصْفَرِ صِبْغُهُ ... فِي كُلِّ ضَاحِيَةٍ وَمَجْنَى الآسِ أَرْضٌ إِذا استَوْحَشْتُ ثُمَّ أَتَيْتُها ... حَشَدَتْ عَليَّ فَأَكْثَرَتْ إِيناسي ومما جاء في شعر المتنبّي في ذكر حلب: كُلَّما رَحَّبَتْ بِنا الرَوْضُ قُلنا: ... حَلَبٌ قَصْدُنا وَأَنْتِ السَبيلُ فِيكَ مَرْعَى جِيادِنا وَالمطَايا ... وَإِلَيْها وَجِيفُنا وَالذَمِيلُ وَالمُسَمُّونَ بِالأَمِيرِ كَثِيرٌ ... وَالأَمِيرُ الَّذِي بِها المأْمُولُ الَّذي زُلْتُ عَنْهُ شَرْقًا وَغَرْباً ... وَنَداه مُقابِلِي مَا يَزُولُ وممّا قاله أبو بكر أحمد بن الحسن الصنوبري في وصفها الأبيات الطنانة التي يصف فيها حلب وقراها ومنازلها ومتنزهاتها: أَحبَسا العِيسَ اْحَبساها ... وَاْسأَلا الدارَ اسْأَلاها أَسْأَلا أَيْنَ ظِباءُ الد ... ارِ أَمْ أَيْنَ مَهاها حَبَّذا الباءَتُ باءَا ... تُ قُوَيْقٍ وَرُباها بانَقُوساها بِها با ... هَى المُباهِي حِينَ باها وبِبا صَفْراوبابِ ... لاّ وَبامضتْلِي وَتاها لا قَلَى صَحْراءَ بافر ... قل شوقي لا قلاها لا سَلا أَجْبالَ باس ... لِّينَ قَلْبي لا سَلاها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وَبِباسَلِّينَ فَلْيَبْ ... غِ رِكابِي مَنْ بَغاهِا وَإلى باشَلَقِيتا ... ذُو التَناهِي يَتَناهَى وَبُعاذِينَ فَواها ... لِبُعاذِينَ وَواها بَيْنَ نَهْرٍ وَقَناةٍ ... قَدْ تَلَتْهُ وَتَلاها وَمَجارِي بِرَكٍ يَجْ ... لُو هُمُومِي مُجْتَلاها وَرِيَاضٌ تَلْتَقِي آ ... مالُنا فِي مُلْتَقاها زادَ أَعْلاها عُلُوّاً ... جَوْشَنٌ لَمّا عَلاها وَازْدَهَتْ بُرْجَ أَبِي الحا ... رِثِ حُسْناً وَازْدَهَاها وَاطَّبَتْ مُسْتَشْرِفَ الحِص ... نِ اشْتِياقاً وَاطَّباها وَلَدَي المُنْيَةِ فَازَتْ ... كُلُّ نَفْسٍ بِمُناها وَمَقِيلِي بِرْكَةُ التَ ... لِّ وَسَيْباتُ رَحاها بِرْكَةٌ تُرْبَتُها الكا ... فُورُ وَالدُرُّ حَصاها كَمْ غَزانِي طَرَبِي حِي ... تانُها لَمّا غزاها بِمُرُوجِ النَهْرِ أَلْقَتْ ... عِبرُ لَذّاتِي عَصاها وَبِمَغْنَى الكامِلِيّ اس ... تَكْمَلَتْ نَفْسِي غِناها كَلأَ الرامُوسَةَ الحَسْ ... ناءَ رَبِّي وَرَعاها وَجَزَى الجَنَّاتِ بالسَعْ ... دِيّ نُعْمَى أَنْ جَزاها وَفَدَى البُسْتانَ مِنْ فا ... رِسَ صَبٌّ وَفَداها وَعَرَتْ ذا الجَوْهَرِيّ ... المُزْنُ مَحْلُولاً عُراها وَاذْكُرا دارَ السّلَيْما ... نِيَّةِ اليَوْمِ اذْكُراها فَهْيَ فِي مَعْنَى اسْمِها حَذْ ... وبحذوٌ وَكَفاها وَصِلا سَطْحِي وَأَحْوا ... ضِي خَلِيليَّ صِلاها وَرِدا سَاحةَ صِهْرِي ... جِي عَلَى شَوْقٍ رِداها وَامْزُجا الراحَ بِماءٍ ... مِنْهُ أَوْ لا تَمْزُجاها ثم جاءت الأبيات التي قدمناها في وصف الجامع. ثم قال: وَعَلَى حالِ سُرُورِ ال ... نَفْسِ مِنّي وَأَساها جشَجْوُ نَفْسِي بابُ قِنَّسْ ... رِينَ رَهْنٌ وَشَجاها جَدَثٌ أَبْكِي الَّتي فِي ... هِ وَمِثْلي مَنْ بَكاها يعني بُنَيَّةً ماتت بحلب ودفنها خارج باب قنّسرين وبنى على قبرها قبّةً وكتب عليها أشعاراً يرثيها: أَنا أَحمِي حَلَباً دا ... راً وأََحْمِي مَنْ حَماها أَيُّ حُسْنٍ ما حَوَتْهُ ... حَلَبٌ أَوْ ما حَواها سَرْوُها الدانِي كَما تَدْ ... نُو فَتاةٌ لِفَتاها آسُها الثاني القُدُودَ ال ... هِيفَ لمّا أَنْ ثَناها نَخْلُها زَيْتُونُها أَوْ ... لا فَأََرْطاها عَصاها قَبجُها دُرّاجُها أَوْ ... فَحُباراها قَطاها ضَحِكَتُ دُبْسَيَّتاها ... وَبَكتْ قُمْرِيتاها بَيْنَ أَفْنانٍ يُناجي ... طائرَيْها طائِراها رُبَّ مُلقَى الرَحْلِ مِنْها ... حَيْثُ يَلقَى بِيعَتاها طَيَّرَتْ عَنْهُ الكَرَى طا ... ئِرَةٌ طارَ كَراها وَدَّ إِذْ فاهَتْ بِشَجْوٍ ... أَنَّهُ قبَّلَ فاها صبَّةٌ تَنْدُبُ صَبّاً ... قَدْ شَجَتْهُ وَشَجاها زُيِنَتْ حَتَّى انْتَهَتْ فِي ... زَيْنَةٍ فِي مُنتَهاها فَهْيَ مَرْجانٌ شَواها ... لازَوَرْدٌ دَفَّتاها وَهْيَ تِبْرٌ مُنْتَهاها ... فِضَةٌ قِرْطَمتاها قُلِدَتْ بِالجَزْعِ لمَّا ... قُلِدَتْ سالِفَتاها حَلَبٌ أَكْرَمُ مَأْوّى ... وَكَريمٌ مَنْ أواها بَسَطَ الغَيْثُ عَلَيْها ... بُسْطَ نُوْرٍ ما طَواها وَكَساها حُلَلاً أَبْ ... دَعَ فِيها إذْ كَساها حُلَلاً لُحْمَتُها السَوْ ... سَنُ وَالوُرْدُ سُداها إِجْنِ خَيْريًّا بِها بِال ... لَحْظِ لا تَسْأَمْ جَناها وَعُيُونُ النَرْجِسِ الُمنْ ... هَلِّ كَالدَمْعِ نَداها وَخُدُودّا مِنْ شَقِيقِ ... كَلَظَى الخَمْرِ لَظاها وَثَنايا أُقْحُوَانا ... تِ سَنَى الدُرِّ سَناها ضاعَ آذَرْيُونُها إِذْ ... ضاعَ مِنْ تِبْرٍ ثَراها وَطَلا الطَلُّ خُزاما ... ها بِمسْكٍ إِذْ طَلاها واقْتَضَى النِيلُوفِرُ الشَوْ ... قَ قُلُوباً وَاقْتَضاها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 بِحَواشٍ قَدْ حَشاها ... كُلُّ طِيبٍ إِذْْ حَشاها وَبِأَوْساطٍ على حذْ ... وِ الزَنابِيرِ حَذاها فاخِرِي يا حَلَبُ المُزْ ... نَ تَزِدْ جاهَكَ جاها إِنَها إِنْ تَكُنْ المُدْ ... نُ رِخاخاً كُنْتِ شاها وقال أيضاً: سَقَى حَلبَ الُمْزنُ مَغْنَى حَلَبْ ... فَكَمْ وَصَلتْ طَرَباً بِالطَرَبْ وَكَمْ مُسْتَطابٍ مِنْ العَيْشِ لَذَّ ... بِها لي إِذا العَيْشِ لِمْ يُسْتَطَبْ إِذا نَشَرَ الزَهْرُ أَعْلامَهُ ... بِها وَمَطارِفُهُ وَالعَذَبْ غَدا وَحَواشِيهِ مِنْ فِضَّةٍ ... تِرُوقُ وَأَوْساطُهُ مِنْ ذِهَبْ زَبَرْجَدُهُ بَيْنَ فِيرُوزَجٍ ... عَجِيبٍ وَبَيْنَ عَقيقٍ عَجَبْ يُلاعِبُهُ الرِيحُ صَدْرَ الضُحَى ... فَيَجْلِي إِلَيْنا جَلاءَ اللُعَبْ وقال أيضاً: سَقَى حلباً ساقِي الغَمامِ وَلا وَنَى ... يَرُوحُ عَلَى أَكْنافِها وَيُبَكْرُ هِيَ المَأَلَفُ المَأْلُوفُ وَالمَوْطِنُ الَّذِي ... تَخَيَّرْتُهُ مِنْ خَيْرِ ما أَتَخَيَّرُ صَحِبْتُ لَدَيْها الدَهْرُ وَالدَهْرُ أَبْيَضٌ ... وَنادَمْتُ فِيها العَيْشَ وَالعَيْشُ أَخْضَرُ لَنا في بُعاذيِنٍ مَصِيفٌ وَمَرْبَعٌ ... وَفِي جَوِ باَصفْرا مَبْدَى وَمَحْضرُ رِباعُ بَنِي الهَمَّاتِ حَيْثُ تَشاءَمُوا ... لِيُعْرَفَ مَعْرُوفٌ وَيُنْكَرَ مُنْكَرُ تُرَى تُرَبٌ شَتَّى فَتُرَبٌ مُصَنْدَلٌ ... يُنَافِسُهُ في الحُسْنِ تُرَبٌ مُزَعْفَرُ وَرَوْضَا تَلاقى بَيْنَ أَثْناءِ نَبْتِهِ ... مُمَسَّكُ نَوْرٍ يُجْتَنَى وَمُعَنْبَرُ وممّا قاله أبو الفتح محمود بن الحسن بن السندي المعروف بكُشاجِم يصف حلب: أَرَتْكَ يَدُ الغَيْثِ آثارَها ... وَأَعْلَنَتِ الأَرْضُ أَسْرارَها وَكانَتْ أَكَنَّتْ لِكانُونِها ... خَبِيّاً فَأَعْطَتْهُ آذارَها فَما تَقَعُ العَيْنُ إِلاَّ عَلَى ... رِياضٍ تُصَنِّفُ نُوّارَها يُفَتِّحُ فِيها نَسِيمُ الصَبا ... جَناها فَيَهْتِكُ أَسْتارَها وَيَسْفَحُ فِيها دَماءَ الشَقِي ... قِ إِذا ظَلَّ يَفْتَضُّ أَبْكارَها وَيُدْنِيْ إِلى بَعْضَها بَعْضَها ... كَضّمِ الأَحِبَّةِ زُوّارَها تَغُضُّ لِنَرْجِسِها أَعْيْناً ... وَطَوْراً تُحَدِّقُ أَبْصارَها إِذا مُزَنَةٌ سَكَبَتْ ماءَها ... عَلَى بُقْعَةٍ أَشْعَلَتْ نارَها وَما أَمْتَعَتْ جارَها بَلْدَةٌ ... كَما أَمْتَعَتْ حَلَبٌ جارَها هِيَ الخُلْدُ تَجْمَعُ ما تَشْتَهِي ... فَزُرْها فَطُوبَى لِمَنْ زارَها وَلِلَّهْوِ فِيها شُهُورُ الرَبِي ... عِ حِينَ تُعَطِّرُ أَزْهارَها إذا ما اسْتَمَدَّ قُوَيْقُ السَما ... ءَ بِها فَأَمَدَّتْهُ أَمْطارُها وَأَقْبَلَ يَنْظِمُ أَنْجادَها ... بِفَيْضِ المِياهِ وَأَغْوارَها وَدار بِأَكْنافِهِا دَوْرَةً ... فَنَسَّى الأَوَائِلَ بِرْكارَها كأَنَّ هُلُوكاً حَبَتْهُ السِوا ... رُ أَوْ سَلَبَ الكَفُّ أُسْوارَها ومما قاله أبو العلاء أحمد بن سليمان المعرّيّ في مدحها: ياشاكِي النُوبِ إنْهَضْ طالِباً حَلَباً ... نُهُوضَ مُضْنىً لِجِسْم الداءِ مُلْتَمِسِ وَاخْلَعْ حِذاءَكَ إنْ حاذَيْتَها وَرَعاً ... كَفِعْلِ مُوسى كَلِيمِ اللهِ فِي القُدُسِ وقال أيضاً: حَلَبٌ لِلوارِدِ جَنَّةُ عَدْنٍ ... وَهْيَ لِلغادِرِينَ نارُ سَعِيرُ وَالعَظِيمُ العَظِيمُ يَكْبُرُ في عَيْ ... نَيْهِ مِنْها قَدْرُ الصَغِيرِ الصَغِيرِ فَقُويْقُ في أُنْفُسِ القَوْمِ بَحْرُ ... وَحَصَاةٌ مِنْه نَظِيرُ ثَبِيرِ ومما قاله أبو محمد عبد الله بن محمد بن سنان الخفاجيّ الحلبيّ متشوّقاً لحلب وهو بديار بكر: خَلِيليَّ مِنْ عَوْفِ بنِ عُذْرَةَ إِنَّني ... بِكُلِّ غَرامٍ فِيكُما لَجَدِيرُ كَفى حَزَناً أَنِّي أَبِيتُ وَبَينَنَا ... وَسِيعُ الفَلا وَالسامِرُونَ كَثِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وَأُصْبِحُ مَغْلوباً عَلَى حُكْمِ رَأْيِهِ ... وَقَدْ عِشْتُ دَهْراً مَا عَليَّ أَمِيرُ أَشِيمُ رِكابِي فِي بِلادٍ غَرِيبَةٍ ... مِنَ العِيسِ لَمْ يُسْرَحْ بِهِنَّ بَعِيرُ فَقَدْ جُهِلَتْ حَتَّى أَرادَ خَبِيرُها ... بِوِادِي القَطِينِ أَنْ يُلُوحَ سَنِيرُ وَكَمْ طَلَبَتْ ماءَ الأَحصِّ بِآمِدٍ ... وَذَلِكَ ظُلمٌ للرَجاء كبيرُ عِدُوها قُوَيْقاً وُاطْلُبُوا لِجَنِينِها ... بِجلنبِ جِسْمِي أَنْ تَهُبَّ دَبُورُ فَواللهِ ما رِيحُ الصَبا بِحَنِينِهِ ... إِلَيْها وَلا ماءُ الأَحَصِّ نَمِيرُ سَقَى الهَضْبَةَ الأَدْماءَ مِنْ رُكْنِ جَوْشَنٍ ... سِحابٌ يُسَدِّي نَوْرَهُ وَيُنِيرُ وَحَلَّ عُقُودَ المُزْنِ فِي حَجَراتِهِ ... نَسِيمٌ بِأَدْواءِ القُلُوبِ خَبِيرُ فَما ذَكَرَتْهُ النَفْسُ إِلاَّ تَبادَرَتْ ... مَدامِعُ لا يُخْفَى بِهِنَّ ضَمِيرُ وقال أيضاً في مثل ذلك: قُلْ لِلنَسّيمِ: إِذا حَمَلْتَ تَحيَّةً ... فَاهْدِ السَلامَ لِجَوْشَنٍ وَهِضابِهِ وَاسْأَلْهُ: هَلْ سَحَبَ الرَبِيعُ رِداءَهُ ... فِيها وَجَرَّ الفَضْلَ مِنْ هُدّابِهِ وَتَبَسَّمَتْ عَنْهُ الرِياضُ وَأَفْصَحَتْ ... بِثَناءٍ بارِقِهِ وَمَدْحِ سَحابِهِ وَلَقَدْ حَنَنْتُ وَعادِلي مِنْ نَحْوِهِ ... شَجَنٌ بَخِلْتُ بِهِ عَلى خُطّابِهِ وَصَبابَةٌ عَلِقَتْ بِقَلْبِ مُتَيَّمٍ ... وَصَلَ الغَرامُ إِلَيْهِ قَبْلَ حِجابِهِ وَإِذا الغَرِيبُ صَبا إِلى أَوْطانِهِ ... شَوْقاً فَمَعْناهُ إِلى أَحْبابِه وممّا قاله أبو الفتيان محمّد بن سلطان بن حيّوس من قصيدة مدح بها الأمير شرف الدولة أبا المكارم مسلم بن قريش لمّا فتح حلب في شهور سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة: ما أَدْرَكَ الطَلَباتِ غَيْرُ مُصَمِّمِ ... إِنْ أَقْدَمَتْ أَعداؤُه لَمْ يُحْجِمِ لا يَشْتَكُونَ إِلَيْكَ نائِبَةً سِوَى ... تَقْصِيرِهِمْ عَنْ شُكْرٍ هذِي الأَنْعُمِ أَقْدَمْتَ أَمْنعَ مُقدِمٍ وَغَنِمْتَ أَوْ ... في مَغْنَمِ وَدِمْتَ أَسْعَدَ مَقْدَمِ وَلَقَدْ ظَفِرْتَ بِما يَعِزُّ مَرامُهُ ... إلآَّ عَلَيْكَ فَدُمْ عَزِيزاً وَاسْلَمِ كانَتْ تُعَدُّ مِنَ المَعاقِلِ بُرْهَةً ... وَسَمَتْ بِمُلْكِكِ وَهْي بَعْضُ الأَنْجُمِ فَضَلَتْ عَلى كُلِّ البِقاعِ وَبَيَّنَتْ ... فَضْلَ الصَبُورِ عَلى المُمِضِّ المُؤْلِمِ مَنْ ذادَ عَنْها نَخْوَةً لَمْ يَخْشَ مِنْ ... عَنَتِ العِتابِ وَلا مَلامِ اللُوَّمِ ومّما قاله الأمير أبو الفتح الحسن بن عبد الله بن أبي حصينة المعرّيّ حين ظفر معزّ الدولة أبو علوان ثِمال بن صالح بن مِردْاس برفق الخادم حين ندبه المستنصر صاحب مصر لمحاصرة حلب فهرب أصحاب رفق وأُسر بعد أن أقام محاصراً حلب مدّةً ووقع برأسه ضربةٌ مثخنة فتُوفّي بها: يا رفْقُ رِفْقاً رُبَّ فَخْلٍ غَرَّه ... ذا المَشْرَبُ الأَهْنَى وَهذا المَطْعَمُ حَلَبٌ هِيَ الدُنيا وَمَطْعَمُها لَنا ... طَعْمانِ شُهْدٌ فِي المَذاقِ وَعَلْقَمُ قَدْ رامَها صِيدُ المُلُوكِ فَعاوَدُوا ... عَنْها وَما غَنِمُوا وَلكِنْ أَغْنَمُوا وممّا قاله الوزير أبو القاسم الحسين بن عليّ بن الحسين بن المغربيّ في ذلك: أَمّا إلى حَلَبِ فَقَلْبِي نازِحٌ ... أَبَداً وَماءُ عَلاقَتِي مُتَصَوِّبُ بَلَدٌ عَرَفْتُ بِها العَذُولَ مُكَمَّماً ... عَنِّي وَشَيْطانَ الغَوايَةِ يَحْلِبُ أَيّامَ أَرْكَبُ مِنْ شَبابِي جامِحاً ... فَيَمُرُّ بِي فِيما يَشاءُ وَيَذْهَبُ هَيْهاتَ لا تِلْكَ اللَيالي عُوَّدٌ ... أَبَداً وَلا ذاكَ الزَمانُ مُعَقِّبُ لَهْفِي عَلَيْهِ وَإِنْ تَمَطَّقَ عاذِلٌ ... فِيهِ وَأَفْصَحَ عَنْهُ حَيْسٌ مُهْذَبُ وقال أيضاً: يا صاحِبَيَّ إِذا أَعْياكُما سَقَمِي ... فَلَقِيانِي نَسِيمَ الرِيحِ مِنْ حَلَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 مِنَ البِلادِ الَّتِي كانَ الصِبا سَكَتي ... فِيها وكانَ الهَوَى العُذْريُّ مِنْ أَرَبي وقال أيضاً: مِلْ بِي إِلى حَلَبٍ أُعَلِّلْ ناظِري ... فِيها غَداةَ تَحُثُّ بِي الأَشْواقُ بَلَدٌ أَرَقْتُ بِهِ مِياهَ شَبِيبَتي ... حَيْثُ النَجِيعُ إِذا أَرَدتُ مُراقُ وممّا قاله أبو العبّاس بن عبد الله الصفريّ في مثل ذلك: سَقى الأَكْنافَ مِنْ حَلَبِ سَحابٌ ... يُتابِعُ وَدْقهْ الُمنهِلَّ وَدْقُ وَلا بَرِحَتْ عَلَى تِلْكَ المَغانِي ... مَزادُ المُزْنِ مَتْأَقَةً تُشَقُّ وقال أيضاً يتشوقّ حلب وهو في دمشق: مَنْ مُبلغ حلب السلام مضاعفاً ... من مغرم في ذاك أَعْظِمُ حاجِه أَضْحَى مُقِيماً فِي دِمَشْقَ يَرَى بِها ... عَذْبَ الشَرابِ مِنَ الأَسَى كأُجاجِه وممّا قاله أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان في مثل ذلك: أَلشامُ لا بَلَدُ اَلجزِيرَةِ لَذَّتِي ... وَقُوَيْقُ لا ماءُ الفُراتِ مُنائِي وَأَبِيتُ مُرْتَهَنَ الفُؤَادِ بِمَنْبِجَ ال ... سَوْداءِ لا بالرَقَّةِ البَيْضاءِ وقال أيضاً: ارْتاحَ لَمّا جازَ إِرْتاحاً ... وَلاحَ مِنْ جَوْشَنَ ما لاحا لَمّا رَأَى مَسْحَبَ أَذْيالِهِ ... باحَ مِنَ الحُبِّ بِما باحا مَلْعَبُ لَهْوٍ كُلَّما زُرْتُهُ ... وَجَدْتُ فِيهِ الرُوحَ وَالراحت وممّا قاله أبو الحسن عليّ بن الحسن بن عنتر بن ثابت الحلويّ: لَئِنْ سَمَحَتْ أَيْدي اللَيالِي بِرِحْلةٍ ... إِلى حَلَبٍ حَلَّ الحَيا عِندَها الحُبا شَكَرْتُ لِما أَوْلَتْ يَداً غُرْبَةُ النَوَى ... زَمانِي بِها شُكْرَ المُجازَى عَلَى الحِبا وقابَلْتُ مَغْناهُ وَقَبَّلْتُ مَبْسِماً ... يُحَيّي فَيَحْيا عِنْدَهُ مَيِّتُ الصِبا فأَهْلاً وَسَهْلاً بِالشَمالِ تأَمُّهُ ... وَسَقِياً وَرَعياً لِلجَنوبِ وَلِلصَبا وممّا قاله المهذّب عيسى بن سعدان الحلبيّ من أبيات يتشوّق إليها: عَهْدِي بِها فِي رِواقِ الصُبْحِ لامِعَةً ... تلْوِي ضَفائِرَ ذاكَ الفاحِمِ الرَجِلِ وَقَوْلُها وَشُعاعُ الشَمْسِ منْخَرِطٌ: ... حُيّيْتَ يا جَبَلَ السُمّاقِ مِنْ جَبَلِ يا حَبَّذا التَلَعَاتُ الخُضْرُ مِنْ حَلَبٍ ... وَحَبَّذا طَلَلٌ بِالسَفْحِ مِنْ طَلَلِ يا ساكِني البَلَدِ الأَقْصَى عَسَى نَفَسٌ ... مِنْ سَفْحِ جَوْشَنَ يُطفي لاعِجَ الغَلَلِ طالَ المُقامُ فَواشَوْقي إِلى وَطَنٍ ... بَيْنَ الأَحَصِّ وَبَيْنَ الصَحْصَحِ الرَمِلِ ماذا يُرِيدُ الهَوَى مِنِّي وَقَدْ عَلِقَتْ ... إِنِّي أَنا الأَرْقَمُ بنُ الأَرْقَمِ الدَغِلِ وقال أيضاً: يا دِيارَ الشَامِ حَيّاكِ الحَيا ... وَسَقَى ساحَتَكِ الغَيْثُ الهَمُولْ وَتَمَشَّتْ فِي نَواحِي حَلَبٍ ... شارِداتُ الرَوْضِ وَالساارِي البَلِيلْ تَدْرُجُ الرِيحُ عَلَى ساحاتِها ... وَيُحَيِها الفُراتُ السَلْسَبِيلْ كُلَّما مَرَّ عَلَيْها سُحْرَةً ... عَبَّقَ المِسْكُ بِها وَالزَنْجَبِيلْ لا عضدا الثأثُورَ مِنْ شَرْقِيّها ... عَقْبَهُ المَنْدِلُ وَالريِحُ البَليلْ ومما قاله الخطيب أبو عبد الله محمّد بن الواحد بن حرب وهو بالبيرة يتشوق حلب من أبيات: يَقَرُّ لِعَيْنِي أَنْ أَرُوحَ بِجَوْشَنٍ ... وَماءُ قُوَيْقٍ تَحْتَهُ مَتَسَرِّبا لَقَدْ طُفْتُ فِي الآفاقِ شَرْقاً وَمَغْرِباً ... وَقَلّبْتُ طَرْفِي بَيْنَها مَتَقَلِّبا فَلَمْ أَرَ كَالشَهْباءِ فِي الأَرْضِ مَنْزِلاً ... وَلا كَقُوَيْقِ فِي المَشارِبِ مَشْرَبا جَعَلْتُ استِعارَ الوجْدِ لِي بَعْدَ بُعْدِكُمْ ... شِعاراً وَمَجْرَى مُذهَبِ الدَمْع مَذْهَبا لَعَلَّ زَماناً قَدْ قَضَى بِفِراقِنا ... يُرِيني قَرِيباً شَمْلَنا مُتَقَرِبا وممّا قاله أبو نصر محمّد بن محمّد بن الخضر الحلبيّ: يا حَلَباً حُيّيْتِ مِنْ مِصْرِ ... وَجادَ مَغْناكِ حَيا القَّطرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 أَصْبَحْتُ في جِلَّقَ حَرّانَ مِنْ ... وَجْدِ إِلَى مَرْبَعِكِ النَضْرِ وَالعَيْنِ مِنْ شَوْقِ إِلَى العَيْنِ وَال ... فَيْضِ غَدَتْ فائِضةً تَجْرِي ما بَرَدَى عِنْدِي وَلا دِجْلَةٌ ... وَلا مَجارِي النِيلِ مِنْ مِصْرِ أَحْسَنُ مَرْأًى مِنْ قُوَيْقٍ إِذا ... أَقْبَلَ في المَدِّ وَفي الجَزْرِ يا لَهْفَتا مِنْهُ عَلَى جُرْعَةٍ ... تُبَلُّ مِنْهُ غُلَّةُ الصَدْرِ كَمْ فِيكَ مِنْ يَوْمٍ وَمِنْ لَيْلَةٍ ... مَرَّ لَنا مِنْ غُرَرِ الدَهْرِ ما بَيْنَ بِطْياسٍ وَحَيْلانَ وَال ... مَيْدانِ وَالجَوْسَقِ وَالجِسر وَرَوْضُ ذاكَ الجَوْهَريّ الَّذِي ... أَرْواحُهُ أَذْكَى مِنَ العِطْرِ وَزَهْرُهُ الأَحْمَرُ مِنْ ناضِرِ ال ... ياقُوتِ والأَصْفَرُ كَالتِبْرِ وَالنَوْرُ فِي أَجْيادِ أَغْصانِهِ ... مُنَظَّمٌ أَبْهَى مِنَ الدُرِّ مَنازِلٌ لا زال خَلْفُ الحيا ... عَلَى رُباها دائِمُ الدَرِّ تاللهِ لا زِلْتُ لَها ذاكِرا ... ما عِشْتُ فِي سِرِّي وَفي جَهْرِي وَكَيْفَ يَنْساها فَتىً صِيغَ مِنْ ... تُرْبَتِها الطَيِّبَةِ النَشْرِ وَكُلُّ يَوْمٍ مَرَّ فِي غَيْرِها ... فَغَيْرُ مَحْسُوبٍ مِنَ العُمْرِ إنْ حَنَّ لي قَلْبٌ إِلَى غَيْرِها ... فَلا غَرْوَ حَنِينُ الطَيْرِ لِلوَكْرِ يا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَراها وَهَلْ ... يَسْمَحُ بالقُرْبِ بِها دَهْرِي قال الأمير ركن الدين أحمد بن قرطايا: أنشدني موفّق الدين أبو القاسم ابن أبي الحديد الكاتب يتشوَّق حلب من أبيات: وَكَيْفَ أُداوِي بِالعِراقِ مَحَبَّةً ... شامِيَّةً إنَّ الدَواءَ بَعيدُ فعملتُ له أوّلاً وهو: سَلامٌ عَلَى الحَيَّ الَّذي دُونَ جَوْشَنٍ ... سَلامٌ يُرِثُّ الدَهْرَ وَهُوَ جَدِيدُ تَضُوعُ بِمَسْراه البِلادُ كَأَنَّما ... ثَراها مِنَ الكافُورِ وَهْوَ صَعِيدُ فَليِ أَبَدًا شَوْقٌ إِلَيْهِ مُبَرِحٌ ... وَلِي كُلُّ يَوْمٍ أَنَّةٌ وَنَشِيدُ وَكَيْفَ أُداوِي بِالعِراقِ مَحَبَّةً ... شَامِيَّةً إِنَّ الدَواءَ بَعِيدُ ومن القصائد البديعات المستحسنات قصيدة قالها أبو محمّد عبد الرحمان بن بدر بن الحسن بن المفرّج النابُلُسيّ يذكر فيها ظاهر حلب ممّات يلي الميدان الأخضر الّذي جدّده الملك الظاهر غازي بن يوسف: فَحَبَّذا فِي حَلَبٍ مَسارِحٌ ... لِلحُسْنِ رُوحُ الرُوحِ فِي عِيانِها وَحَبَّذا ما تَمْرَحُ الأََعيُنُ فِي ... مُرُوجِهِ الفَيْحاءِ مِنْ مَيْدانِها وَما اكْتَسَتْ أَقطارُهُ مِنْ حُلَلٍ ... تَنَوَّقَ الصانِعُ فِي أَلْوانِها وَما جِرِى حَوْلَيْهِ مِنْ جَداوِلٍ ... عْيْنُ الَحياةِ الوِرْدُ مِنْ غُدْرانِها رَحْبُ مَجالِ الَخيْلِ مُمْتَدُّ مَدَى ال ... سابِقِ فِي الَحلْبَةِ مِنْ فُرْسانِها لا يَبْلُغُ الغايَةَ مِنْ أَقطارِهِ ... إِلاَّ فَتًى يُطْلِقُ مِنْ عِنانِها يَشْرَحُ إِذ يُحلُّهُ صَدْرُ الفَتَى ... وَتَمْرَحُ الِجيادُ فِي أَرْسانِها فَما لَمِلْكٍ لَذَّةٌ أَحْلَى بِهِ ... مِنْ كُرَةِ اللَعِبِ وَصَوْلَجَانِها مُمَهَدُ البُقْعَةِ للمَجْرَي بِهِ ... مَنَزِّهُ الرُقْعَةِ عَنْ شَيْطانِها كَأَنَّهُ بَعْضُ مُرُوجِ الجَنَّةِ ال ... فَيْحاءِ قَدْ زُحْزِحَ عَنْ رِضْوانِها ثمّ ذكر القصر الذي بُني هناك فأضربنا عن ذكره إذ هو ليس مما نحن بصدد ذكره. قال أبو المحاسن بن نوفل الحلبيّ: صَبٌّ بِأنْواعِ الهُمُومِ مُوَكَّلُ ... وَأَقَلُّها لا يُستَطاعُ فَيُحْمَلُ فَدُمُوعُهُ لا تَأْتَلي مَسْفُوحَةً ... لِوَمِيضِ بَرْقٍ أَوْ حَمامٍ يَهْدِلُ أَوْ نَفْحَةٍ نَقَلَتْ لَهُ مِنْ جَوْشَنٍ ... وَهِضابِهِ الأَخْبارَ فِينا تَنْقُلُ تَأْتِي وَذَيْلُ رِدائِها مِنْ ماءِ وَرْ ... دِ قُوَيْقِهِ عِطْرُ النَسِيمِ مُصَنْدَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فَتَظَلُّ وَهُوَ مَكَرَّرٌ تَسْأَلُها ... تَتْلُو عَلَيْهِ وَذُو الصِبابَةِ يَسْأَلُ فَتُعِيدُ جامِحَهُ ذَلُولاً طائِعاً ... وَالشَوْقُ لِلصَعْبِ الجَمُوحِ مُذَلِّلُ شَوْقَاً إِلَى بَلَدٍ يَكادُ لِذِكْرِهِ ... يَقْضي جَوىً لَكِنَّهُ يَتَحَمَّلُ وَيَلُوذُ بِالآمالِ عَلَّ بَعِيدَها ... يَدْنُو وَجامِحَها يَلِينُ وَيَسْهُلُ وقال نور الدين عليّ بن موسى بن سعيد الغرناطيّ ببغداد يتَشوّق حلب: حادِيَ العِيسَ كَمْ تُنِيخُ المَطايا ... سُقْ فَرُوحِي مِنْ بُعْدِهِمْ فِي سِيلقِ حَلَباً إِنَّها مَقَرُّ غَرامِي ... وَمَرامِي وَقِبْلَةُ الأَشْوَاقِ لا خَلا جَوْشَنٌ وَبِطْياسُ وَالسَعْ ... دِيُّ مِنْ كُلِّ وَابِلٍ وَغَيْداقِ كَمْ بِها مَرْتَعاً لِطَرْفٍ وَقَلْبٍ ... فِيهِ يُسْقَى المُنَى بِكَأْسِ دِهاقِ وَتَغَنّي طُيُورِهِ لاِرْتِياحٍ ... وَتَثَنِّي غُصُونِهِ للِعِناقِ وَعَلَى الشَهْبَآءِ حَيْثُ اسْتَدارَتْ ... أَنْجُمُ الأُفْقِ حَوْلَها كَالنِطاقِ وَمَجَرُّ الصَبا بِشَطِّ قُوَيْقٍ ... لا عَدَتْهُ حَدائِقُ الأَحْداقِ وقال الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز محمّد بن الملم الظاهر يتشوّق حلب وهو بدمشق: سَقَى حَلَبَ الشَهْبَآءَ فِي كُلِّ لَزْبَةٍ ... سَحابةُ غَيْثٍ نَوْءها لَيْسَ يُقْلِعُ فَتِلْكَ رُبُوعِي لا العَقِيقُ وَلا الحِمَى ... وَتِلْكَ دِيارِي لازَوَردٌ وَلَعْلَعُ وعلى أثر ذكر الشهباء فإنّ من أحسن ما نبتُه من أوصافها ما قاله السريّ الرّفاء في قصيدة يمدح بها سيف الدولة: وَشاهِقَةٍ يَحْمِي الحِمامَ سُهُولُها ... وَيَمْنَعُ أَسْبابَ المَنايا وَعُورُها إذا سَتَرَتْ غُرَّ السَحابِ وَقَدْ سَرَتْ ... جَوانِبُها خِلْتَ السِحابَ سُتُورَها وَإِنْ عادَ خَوْفاً مِنْ سُيوفِكَ رَبُّها ... يَدُورُ بِها أَضْحَى لَدَيْكَ أَسِيرَها مُقِيماً يَمُرُّ الطَيْرِ دونَ مَقامِهِ ... فَلَيْسَ تَرَى عَيْناهُ إِلاَّ ظُهُورَها بَعَثْتَ إِلَى عَلْيائِها الأُسْدَ فَانْثَنَتْ ... تُساوِرُ بِالبِيضِ الصَوارِمِ سُورَها وللخالديين من قصيدتَيْن مدحا بهما سيف الدولة ويهنّيانه فيهما بفتح حلب جاء في إحداهما في صفة القلعة: وَخَرْقَآءُ قَدْ تاهَتْ عَلَى مَنْ يَرُومُها ... بِمَرْقَبِها العالِي وَجانِبِها الصَعْبِ يَزُرُّ عَلَيْها الجَوُّ جَيْبَ غَمامِهِ ... وَيُلْبِسُها عِقْداً بِأَنْجُمِهِ الشُهْبِ إِذا ما سَرَى بَرْقٌ بَدَتْ مِنْ جِلالِهِ ... كَما لاَحتِ العَذْرآءُ مِنْ جِلَلِ الحُجْبِ فَكَمْ ذِي جُنُودٍ قَدْ أَماتَتْ بِغُصَّةٍ ... وَذِي سَطواتٍ قَدْ أَبانَتْ عَلَى عَتْبِ سَتَموْتَ لَها بالرَأْيُ يُشْرِقُ فِي الدُجَى ... وَيَقْطَعُ فِي الجُلَّى وَيَصْدَعُ فِي الهَضْبِ فَأبْرَزْتَها مَهْتُوكَةَ الجَيْبِ بِالقَنا ... وَغادَرْتَها مَلْطُومَةَ الخَدِّ بِالتُرْبِ وجاء في الأخرى: وَقَلْعَةٍ عانَقَ العَيُّوقَ سافِلها ... وَجازَ مِنْطَقَةَ الجَوْزاءِ عالِيها لا تَعْرِفُ القَطْرَ إِذْ كانَ الغَمامُ لَها ... أرْضاً تَوَطَّأَ قُطْرَيْهِ مَواسِيها إذا الغمامَةُ راحَتْ خاضَ ساكِنُها ... حِياضَها قَبْلَ أَنْ تُهْمَى عَزالِيها يُعَدُّ مِنْ أَنْجُمِ الأَفْلاكِ مَرْقَبُها ... لَوْ أَنَّهُ كانَ يَجْرِي فِي مَجارِيها عَلَى ذُرىً شامِخٍ وَعْرٍ قَدِ امْتَلأَتْ ... كِبْراً بِهِ وَهْوَ مَمْلُؤٌ بِها تِيها لَهُ عُقابُ الجَوِّ حائِمَةٌ ... مَنْ دُونِها فَهْيَ تَخْفَى فِي خَوافِيها رَدَتْ مَكائِدَ أَمْلاكٍ مَكائِدُها ... وَقَصَّرَتْ بِدَواهيهِمْ دَواهِيها أوْطَأْتَ هِمَّتَكَ العَلْياءَ هامَتَها ... لَمَّا جَعَلْتَ العَوالِي مِنْ مَراقِيها فَلَمْ تَقِس بِكَ خَلْقاً فِي البَرِّيَّةِ إِذْ ... رَأَتْ قَسِيَّ الرَدَى في كَفِّ باريها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وقال الفقيه الوزير أبو الحسن عليّ بن ظافر بن حسين المعروف بابن أبي المنصور يصف قلعة حلب من قصيدة مدح بها الملك الظاهر بن يوسف بن أيّوب: وَفَسِيحَةُ الأَرْجآءِ سامِيَةُ الذُرَى ... قَلَبَتْ حَسِيؤاً عَنْ عُلاها الناظِرا كادَتْ لِفَرْطِ سُمُوِّها وَعُلُوِّها ... تَسْتَوْقِفُ الفَلَكَ المُحِيطَ الدائرا وَرَدَتْ قَواطِنُها المَجَرَّةَ مَنْهَلاً ... وَرَعَتْ سَوابِقُها النُجومَ أزَاهِرا شَمَّآءُ تَسْخَرُ بِالزَمانِ وَطالَما ... بِشواهِقِ البُنيانِ كانَ الساخِرا وَيَظَلُّ صَرْفُ الدَهْرِ مِنْها خائِفاً ... وَجِلاً فَما يُمْسِي لَدَيْها حاضِراً وَيَشُوقُ حُسْنُ رَوائِها مَعَ أَنَّها ... أَفْنَتْ بِصِحَتِها الزَمانَ الغابِرا فَلأَجْلِها قَلْبُ الزَمانِ قَدِ انْثَنَى ... قَلِقَاً وَطَرْفُ الجَوِّ أمْسَى ساهِراً غَلاَّبَةٌ غُلْبَ المُلُوكِ فَطالَما ... قَهَرَتْ مَنِ اغْتَصَبَ المَمالِكَ قاهِرا غَنِيَتْ بِجُودِ مَلِيكِها وَعَلَتْ بِهِ ... حَتَّى قَدِ امْتَطَتِ الغَمامَ الماطِرا فَتَرَت وَتَسْمَعُ للِغَمتمِ بِبَرْقِهِ ... وَالرَعْدِ لَمْعاً تَحْتَها وَزَماجِرا وأنشد لي الشيخ الإمام العالم الفاضل بهاء الدين محمّد بن إبراهيم بن محمد بن أبي نصر بن النحّاس الحلبيّ لنفسه يتشوّق حلب: سَقَى حَلَبَاً سُحْبٌ مِنَ الدَمْعِ لَمْ تَزَلْ ... تَسُحُّ إذا شَحَّ السَحابُ غَمائِما وَحَيَاً الحَيا قِيعانَها وَأَكامَها ... وَأَخْرَجَ فِيها لِلرَبِيعِ كَمائِما بِلادٌ بِها قَضَّيْتُ لَهْوي وَصَبْوَتِي ... وَصاحَبْتُ فِيها العِيشَ جَذْلانَ ناعِما وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جَلَدِي تُرابُها ... وَعَقَّ بِها عَنِّي الشَبابُ تَمائِما وله أيضاً: سَقَى زَماناً تَقَضَّى فِي رُبا حَلَبٍ ... مِنَ السَحابِ مُلَثُّ المُزْنِ هَطَّالُ وَلا عَدا رُبْعَها غِيثٌ يُراوِحُهُ ... يَجُثُّهُ مِنْ حُداةِ الرَعْدِ أَزْجالُ مَنازِلٌ لَمْ أَزَلْ أَلهُو بِمَرْبَعِها ... بِها نَعَمْتُ فَلا حالَتْ بِها الحالُ أَصْبُو إِلَيْها وَلا أُصْغي لِلائِمةٍ ... ما لَذَّةُ العِشقإِلاَّ القِيلُ وَالقالُ فصل. - قد أوردنا في وصف حلب وقلعتها من المنظوم محاسن ما وقفنا عليه وأوصلتنا الاستطاعة إليه ورأينا ما أثبتناه منه وإن كان قليلاً كافياً ولما يلحق النفوس من داء التضجّر شافياً ولا غِنى له عن أن يُضاف إليه من المنثور ما يفوق الدرّ ويزيّن لو رُصّع في التيجان الجباه الغرّ إذ هو حليفه وصديقه لا بل توءمه وشقيقه فربّ مؤخّر يُراد به التقديم ومصغّر وفُر حظّه من التحبيب والتعظيم. من رسالة للقاضي الفاضل كتب بها عن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى أخيه الملك العادل أبي بكر محمد بفتح حلب: قد علم المجلس السامي موضع حلب من البلاد وموقعها من المراد وفاتحة النجدة بها من الله في الجهاد وفادحة فتحها في الكفّار والأضداد وكتابنا وقد أُنعم بها ما شفيت للسيف فيها غُلّة ولا أُتي فيها بما يشقّ على أهل الملّة ولا عدَوْنا ما يبني للمسلمين العزّة ويورث عدوّهم الذلّة وعُوّض عماد الدين عنها من بلاد الجزيرة سِنجار ونصِيبين والخابور والرقّة وسَروج فهو صرف بالحقيقة أخذنا فيه الدينار وأعطيناه الدرهم ونزلنا عن السوار وأحرزنا المعصم وكتابنا هذا وقد تمكنّتُ أعلامنا موفيةً على قلعتها المنفية وتفرّقتُ نوّابنا في مدينتها موفّيةً بمواعد عدلنا الجليلة اللطيفة فانتظم الشمل الّذي كان نثيراً وأصبح المؤمن بأخيه كثيراً وذهب الكلال وأُرهف الكليل ونُزع الغُلّ وشفي الغليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وكتب عماد الدين أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن حامد الأصفهاني في مثل ذلك: صدرت هذه المكاتبة مبشّرةً بما منّ الله تع به من الفتح العزيز والنصر الوجيز والنجح الحريزوالنعمة الّتي جلت الغمّاء فجلّت وحلت في مداق الشكر وحلت وعلت بها كلمة الدين فانهلت وأنهلت وعلّت وطالت يدها بالطول وبأيديها أطلّت وذلك فتح حلب الّذي درّ حلبه ونجح طلبه وبلغ أمد الفلج غلبه ووضّح لحب هذه الدولة القاهرة لحبه فإنه قد سُكنت الدهماء مذ سكنت الشهباء وبشَّرت أختها السوداء لمّا كانت لنا في فتحها اليد البيضاء فاخضرت الغبراء وآلت ألاّ تغبر بعدها إلاّ في سبيل الله الخضراء وتلاها فتح حارم الّتي انجلت به الداهية الحمراء وعلت بالعواصم لفتح بني الأصفر رايتنا الصفراء واهتزت طرباً إلى الجهاد في أيدي شائميها ومشرعيها البيضاء والسمراء فقد زال الشغب وأسفر عن الراحة التعب واتّحدت كلمة الإسلام وعساكره وصدقت زواجره وربحت بالتنقل في الأسفار متاجره وكتب محي الدين محمّد بن علي بن الزكي قاضي دمشق إلى الملك الناصر بفتح حلب:) وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجّل لكم هذه وكفّ أيدي الناس عنكم (وبعدُ فالحمد لله الّذي أنجز لملانا فتح الله على يدَيْه مشارق الأرض ومغاربها ووطّأ له ذرّ الممالك وغواربها وبلغ نفسه النفيسة من الدنيا والآخرة آمالها ومطالبها وأنال ملّة الإسلام ببقائه أوطارها ومآربها وأعز به معتقدها ومصاحبها وأذلّ بسطوته ملحدها ومحاربها ولا زالت عزماته مؤيدةً منصورة وراياته على رؤوس المعاقل مرفوعة منشورة وأعلامه على وهاد الأرض ويفاعها موصوفة مشهورة وقلوب المؤمنين بحياته ونصره جذلةً مسرورة وجموع الكفر وصور الصلبان بسيفه مغلولة مكسورة من النصر المتينوالفتح المبين والقدرة والانتصار والنصر والاقتدار والظفر والاستظهار ونيل الأمل وبلوغ الآوطار من فتح هذا المعقل الّذي أجمعت العقول على اختياره وتفضيله وعجزت الخواطر لولا ظهوره إلى عالم الحسّ عن تصويره في عالم الخيال وتمثله وسار ذكره والعجب به في الأقطار وطار بأجنحته التيه والترفع عن حصون الأرض كل مطار وشمخ بأنف العجب عن عدّه مع غير السحب بل الشهب فيا لها من شهباء ليس لها سوى السحاب سرج والريح لجام وعذراء لم يُفضَض لها بغير اختيار ختام وحسناء حليتها الأنجم الزهر وخمارها الغمار وذات إباء لا تعطي كفاً للأمس إلا حكم له بها الإسلام وناشز على الخطاب فلا تأذن في عقد إلا إذا كان خطيبة الإمام وصعبة على المذلّلين فلا تُؤخذ إلا بكف من اجتمعت عليه الكلمة لها زمام سافر النقية لمحولة لثمها وعليها من الحماية والحميّة نقاب ولثام فهي نهد والأرض لها صدر وألِف والبلاد لها سطر وطائر والمعاقل عندها غواشِ وراكب الحصون بين يديها مواشِ وفارس والمدن رجالاتهاوعانس والسعادة دلالاتها ونجم الأرض وسماؤه وموج البحر ماؤه وعَلَم والبلاد جيشه لا بل طود حلم يؤمِن على تعاقب الأيام وتوالي الأعوام عجلته وطيشه تفي إذا غدر الزمان وتصفو إذا تكدّر الإخوان وتحفظ إذا أضاع الأعوان وتظهر الحبّ والمقة إذا فركت الحرب العوان ترفّع سمعها عند العذل ولا يصل إليها كلام الواشٍ وتسمو بنظرها عن الخديعة فلا يميل بناظرها ساعٍ بها ولا ماشٍ وتأنف أن تعطي مقادتها إلا لأكرم الأكفاء ولا ترضى أن تستشعر من جهازها إلاّ بشعار الوفاء فهي بالإضافة إلى سائر الحصون المانعة كإضافة سميّها في جلالة قدره ومنافعه إلى سائر المائعات. وذكر الشيخ الصالح الإمام العالم أبو جعفر أحمد بن جُبَيْر في كتاب وضعه ذكر رحلته وم رأى فيها من البلاد حلب فقال: بلدة قدرها خطير وذكرها في كل زمان يطير خطّابها الملوك كثير ومحلها من النفوس أثير فكم هاجت من كفاح وسُلّت عليها من بيض الصفاح لها قلعة شهيرة الامتناع ثابتةالارتفاع معدومة الشبيه والنظير في القلاع تناهت حصانةً أن تُرام أو تُستطاع قاعدة كبيرة ومائدة في الأرض مستديرة منحوتة الأرجاء موضوعة على نسبة اعتدال واستواء فسبحان من أحكم تدبيرها وتقديرها وأبدع كيف شاء تصويرها وتدويرها عتيقة في الأزل حديثة وإن لم تزل قد طاولت الأيام والأعوام وشيّعت الخواصّ والعوامّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ثمّ قال لله درّه فلقد نطق بما آلت حالها إليه من الخراب وبلي به أهلها من الشتات والاغتراب فندبها وبكاها وتظلّم من الأيّام وشكاها: هذه منازلها وديارها فأين سكانها وعمّارها وتلك مدّة ملكها وبناؤها فأين أمراؤها الحمدانيّون وشعراؤها أجل فني جميعهم ولم يأن بعد فناؤها هذه حلب كم أدخلت من ملوكها في خبر كان ونسخت ظرف الزمان بالمكان أُنِّث اسمها فتحلّت بزينة الغوان ودانت بالغدر فيمن خان وتجلّت عروساً بعد سيف دولتها ابن حمدان هيهات سيهرم شبابها ويُعدَم خطّابها ويسرع حين خرابها. القسمُ الثاني منَ الكِتاب في ذكر ما هُو خارج عن دمشق وهو مُضاف إليها: وَهُو ستَّةُ أبواب الباب الأول في ذكر أنهارِهَا وقَنَوَاتِهَا في ذكر أنهارها أصلها من عين تخرج من تحت " بيعة الفيجة وتظهر عند الخروج من الشِّعب، بموضع يُعرف بالنيرب وهو على جبل،. وينصبّ هذا الماء كالنهر العظيم، له صوت هائل يسمع على بُعد ويُرى نزوله وخرير دوية من أعلى الجبل على قرية آبل حتى ينتهي إلى المدينة. وتتفرع منه الأنهار المعروفة وهي سبعة: 1 - نهر بردا. 2 - ونهر ثورا. 3 - ونهر يزيد. 4 - ونهر قناة المزة. 5 - ونهر باناس. 6 - ونهر داريا. 7 - ونهر داعية: وهو نهر لا يستعمل ماءُه للشرب، لأَن أَوساخ البلد وأقذارها تنصب إليه، فتسقي به البساتين لا غير. وبها عين تسمّي عين الكرش من شماليهما. فأما نهر يزيد: فالذي أسند ابن عساكر في " تاريخ دمشق عن زُفر قال: " سأَلت مكحولاً عن نهر يزيد، وكيف كانت قصته قال سأَلت منّي خبيراً. أَخبرني الثقة أَنَّه كان نهراً نباطيا يجري شيئاً يسقي ضيعتين في الغوطة، لقومٍ يُقال لهم بنو فوقا. ولم يكن فيه شيء لأَحد غيرهم، فماتوا في خلافة معاوية، ولم يبقَ لهم وارثٌ، فأخذ معاوية ضياعَهم وأَمواَلهم. فلم يزال كذلك حتى مات معاوية، ووُلّي ابنه يزيد، فنظر إلى أَرضٍ ليس لها ماء - وكان مهندساً - ونظر إلى النهر فإذا هو صغير، فأَمر بحفره، فمنعه من ذلك أَهل الغُوطة، ودافعوه، فلطف بهم على أَن ضمن لهم خراجَ سنتهم من ماله، فأَجابوه إلى غير ذلك. فاحتقر نهراً في سعة ستة أشبار، وله ملء جنبتيه. وكان على ذلك كما شرط لهم. فهذه قصة نهر يزيد. ومات في سنة أربع وستين - ولم يزل هذا النهر على ما أنبطه يزيد - حتى ولي هشام بن عبد الملك، فسأله أهل " حرستا " شرب سقائهم وماءً لمسجدهم. فكلّم فاطمة بنت يزيد في ذلك، فأجابته على أن يحتفر نهراً صغيراً يجري إلى مسجدهم للشّرب لا غير. وفتحَ الحجرَ الذي يمرّ الماء بقرية حرستا فِتراً في فتر مستدير، يجري لهم من الأرض على مقدار شبر من ارتفاع بطن الأرض. وسأله عبدُ العزيز - مولى هشام - أَن يُجري لهم شيئاً يَسقي ضيعَته، فأجابه بعد أن سأل في أمره يوم الأَربعاء، وصُيرت لهم ماصية فتحُها في أصغر من شبر. ثم سأله خالد على أن يسقي ضيعته فأجابه إلى يوم الخميس فَهُيئت عليه ماصية كحكايته. " وأقام رجل من أهل دمشق يقال له جرجة بن قعرا عند سليمان " ابن عبد الملك شاهديْن يشهدان أن له في النهر قناةً تجري إلى حمام له بِديْره، وزعم أنها كانت عجمية، فسجل له سليمان بذلك سجلاَّ، وهي رطل من الماء يجري في سيلون في ديره. وقلّ الماء في ولاية سليمان بن عبد الملَك حتى لم يبقى في " بردا " إلاّ شيء يسير. فشكوا ذلك إلى سليمان فوجه سليمان بن عبد الملك " عبيد بن " أسلم مولاه إلى أصل العين لكرايتها، فدخلوا لكرايتها، فبينما هم كذلك إذ هم بباب من حديد مُشبك يجري الماء من كُوىً فيه، يسمعون داخلها صوت ماء كثير، ويسمعون اضطراب الأسماك فيها، فكتبوا إلى سليمان بذلك، فأمرهم أن لا يحركوا شيئا، وأن يكروا بين يديه فأكروا. ولم يزل كذلك إلى ولاية هشام بن عبد الملك، لم يكن فيه شيء أكثر من هذا. فشكا أهل " بردا " قلة الماء إلى هشام بن عبد الملك، فأمر القاسم بنَ زياد أن يماز لهم الأنهار فمازها فأعطى: أهل " نهر " يزيد: ستَ َّ عشرة مسكبة. وأعطى الغور الكبير: خمس مساكب. والغور الصغير: أربع مساكب. ونهر داريا: ست عشرة مسكبة. ونهر ثورا: اثنتين وأربعين مسكبة، وفيه يومئذ أربع عشرة ماصية تسقي وليس عليها رحا. ونهر قينية: إحدى عشرة مسكبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ونهر باناس: ثلاثين مسكبة، ومسكبة حملت فيه. ليزيد بن أبي مريم مولى سهل بن الحنظلية، وثلاث مساكب للفضل بن صالح الهاشمي " حملت فيه " من بعد. ونهر مجدول: اثنتي عشرة مسكبة. ونهر داعية: ثلاث عشرة مسكبة. ونهر حيوة: - وهو نهر الزلف -: اثنتي عشرة مسكبة. ونهر التومة العليا: خمس مساكب. ونهر التومة السفلي: أربع مساكب ونهر الزابون: أربع مساكب. ونهر الملك: أربع مساكب. والقناة لم تكن تمتاز يومئذ تأخذ ملء جنبتيها. وكان الوليد بن عبد الملك لما بنى المسجد اشترى ماءً من نهر السكون يقال له " الوقية " فجعله في القناة إلى المسجد. والحجر شبر ونصف. وثقب الثقب شبراً في أقل من شبر، على أنه إذا انقطعت القناة أو اعتلت ليس لأحد أن يأخذ من ماء الوقيّة شيئاً، ولا لأصحاب القساطل فيها حق. فإذا جرت يأخذ كلُّ ذي حق حقه، وتفتح القساطل على الوَلاء. وقال يزيد: أنا أدركت القناة يدخل فيها الرجلُ يسير فيها وهي مسقوفة يمد يديه فلا ينال سقفها، وليس فيها شيء مثلوم. ومات يزيد بن معاوية في رجب سنة أربع وستين فهذه قصة " نهر " يزيد. وولّي سليمان بن عبد الملك سنة ستّ وتسعين، وتوفي يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسعة وتسعين. فهذه الأنهار التي ينتفع بها الدَّاني والقاصي. وينقسم منها الماء الأرضين في الجداول من المواصي، ويدخل من بعضها الماء إلى البلد في القُنيِ، وينتفعُ به الناس الانتفاع العام على الوجه الهَني، ويتفرق إلى البرَك والحمَّامات، ويجري في الشوارع والسقايات. ذكْرُ القُنِيّ وبدمشق قنيّ لها أوقاف معينة، ومنها ما ليس له وقف، وإنما يجري عليها من المسلمين إسعاف، وأنا ذاكرٌ جميعها ومثبت عددها ليعرفها من أحبَّ أن يُعدّدها. فمن ذلك ما هو في الجانب القبلي: 1 - قناة ابن الفاخوري، عند مسجد السقطّيين وباب الجابية، لها وقف. 2 - قناة عند درب القصّاعين، تجديد الملك العادل. 3 - قناة في أول القصّاعين، عن يمنة الداخل. 4 - قناة أخرى في القصّاعين، عل دار ابن النقار. 5 - قناة أخرى " فيها " عند دار سندقرا. 6 - قناة أخرى، عند دار ابن الخيَّاط. 7 - قناة عند سقاية الشيخ. 8 - " قناة في القيسارية الفخرية ". 9 - قناة القلانسيين برأس الخوَّاصين، لها وقف. 10 - قناة في درب السُّوسي، عند سوق عليّ. 11 - قناة في دَرب الجلاَّدين، لها وقف. 12 - قناة عند السَّجن الجديد، أنشأها الملك العادلُ نورُ الدّين. 13 - قناة عند مسجد واثلة، تعرف بحسين الشّنباشي كانت قد خرّبت فَجدَّدها. 14 - قناة الزلاَّقة، لها وقف. 15 - قناة عند حمَّام ابن أبي نَصر. 16 - قناة أخرى عند الحمّام. 17 - قناة عند سوق الصَّرف، لها وقف. 18 - قناة ابن القصيعة، في السوق الكبير عند رأس درب الريحان. 19 - قناة الملح، عند رأس سوق البزوريين وطرف سوق الجلاَّدين، لها وقف. 20 - قناة في الفُندق، عند سوق البزوريّين. 21 - قناة عند فندق البيع. 22 - قناة في درب الجمحّي، أنشأها نصر بن قوام الصافي. 23 - قناة في درب القرشيّين، في درب النخلة مجاورة الحمام. 24 - قناة في درب الناقديّين. 25 - قناة عند دكّان ابن مقلّد الشوّا، في قبّة اللّضحم. 26 - قناة في درب البقل، وتعرف بابن عُنقود. 27 - قناة في حارة الخَطاب، تعرف بابن عبد الرزاق المحتسب. 28 - قناة أخرى، في داخل حارة الخاطب. 29 - قناة عند حمَّام الجبن. 30 - قناة سوق اللؤلؤ. 31 - قناة ابن شفون في طرف سوق اللؤلؤ. 32 - قناة المناخليّين والأَبّارين، في سوق الطير، بناها ابن نجاح، لها وقف. 33 - قناة الثلاَّج، عند دار البطيخ. 34 - قناة في أول درب الفرّاش، عند دار سليمان، جددها ابن منقذ. 35 - قناة أخرى، في درب الفرّاش، عند دار ابن علاَّن. 36 - قناة أخرى في درب الفراش، بناها أبو يعلى النصراني. 37 - قناة تحت الكشك. 38 - قناة درب العلف 39 - قناة سويقة كنيسة مريم. 40 - قناة درب الحجر. 41 - قناة أخرى في دار بطيخ. 42 - قناة أخرى في درب الحجر تعرف بابن خطية. 43 - قناة العميد بن الجسطار، عند مسجده. 44 - قناة في سويقيه الباب الشرقي، عند رأس درب الداراني. 45 - قناة داخل الباب الشرقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 46 - قناة خارج الباب الشرقي، مُلاصقة الباشورة. ومن شامي البلد: 47 - قناة في درب الشعارين. 48 - قناة في درب الهاشميّين، عند الحمام الجديد. 49 - قناة أخرى، عند دار ابن كجك. 50 - قناة عند دار علّي كرد. 51 - قناة في القلعة المحروسة، عند الباب. 52 - قناة أُخرى قبليّ القلعة. 53 - قناة في أَول درب اللبان. 54 - قناة أخرى، في فندق عزّ، في الدرب المذكور، عند المدرسة، تعرف بقناة السبع. 55 - قناة عند طرف درب اللّبان، ومدرسة أنشأها الملكُ العادلُ. 56 - قناة عند دار ابن يغمور، عند التوتة من حجر الذَّهب. 57 - قناة في رأس درب الأنصار ودار البابا. 58 - قناة عند المدرسة المعينية. 59 - قناة على باب حمّام القصير. 60 - قناة عند دار " البسار " ... وطاحونته. 61 - قناة عند دار إسماعيل الطَّيب. 62 - قناة عند خضر بن عمر بن بختيار السلاَّر في الافتريس. 63 - قناة أخرى في الافتريس عند دار جناح الدّضولة. 64 - قناة السباع. 65 - قناة ابن حرور، عند باب الخوَّصين، لها وقف. 66 - قناة في دهليز دار الشَّريف ابن أبي الجبنّ. 67 - قناة ابن الحبوبي في درب معن. 68 - قناة أخرى، في درب معن. 69 - قناة بزان الكردي، عند مدرسته. 70 - قناة باب الخضراء، عند المدرسة الأمينيّة. 71 - قناة في داخل الخضراء، تحت المنارة الشرقية. 72 - 73 - قناتا باب البريد. 74 - قناة باب الجامع الغربي، عند سقاية باب البريد. 75 - قناة الطَّرايفيّين، تحت المنارة الغربية عند البيمارستان. 76 - قناة عند دار الحكم. 77 - قناة عند دار ابن صميد في سوقية باب البريد. 78 - قناة أخرى بقربها عند دار ابن أبي الحسن السَّلحدار. 79 - قناة في دهليز دار إلى جانب دار ابن العزي. 80 - قناة عند رباط النَّساء ودار أبي زرعة. 81 - قناة عند حمام العقيقي. 82 - قناة خلف دار أتابك طَغتكنين. 83 - قناة في دهليز الشنباشي، معطلة. 84 - قناة أخرى في هذا الدرب، عند الفرن. 85 - قناة في دهليز دار الشريف أبي تراب، ويعرف بابن منزو. 86 - قناة في مسجد باب الفَراديس، داخل الباب. 87 - قناة عند دار السَّلار ودار عطاء، محاذي دار أتابك. 88 - قناة النطافين، على باب الجامع. 89 - قناة دار العميد أبي يعلى القلانسي. 90 - قناة داخل دار السميساطي. 91 - قناة داخل درب بوقة، عند باب النطافين. 92 - قناة حربور عند مدرسة الحنابلة. 93 - قناة عند دار العكبري، خلف دار النحاس خربت. 94 - قناة بسوق القمح، لها وقف. 95 - قناة ابن المغربيّ، في درب الرَّيحان. 96 - قناة في درب تليد. 97 - قناة في سوق أُم حكيم، وهو سوق العلبيّين. 98 - قناة الرّحبة. 99 - قناة زقاق العجم، لها وقف. 100 - قناة في مشهد الراس، على باب الجامع. 101 - قناة جَيرون، وتعرف بقناة القثاء، لها وقف.. 102 - قناة دار خديجة، خربت. 103 - قناة في درب كشك. 104 - قناة أخرى فيه. 105 - قناة أخرى، في درب خفيف عند دار ابن الشيرجي. 106 - قناة في سقيفة القطيعي، عند المدرسة التي في باب طرخان. 107 - قناة اللحّامين، على باب جيرون. 108 - قناة في عقبة الصوف، وعطلة. 109 - " قناة أخرى في درب عقبة الصوف، معطلة ". 110 - قناة في قيسارية الفرش معطلة. 111 - قناة الوزير أبي علي المرذقاني، على باب داره. 112 - قناة عند دار ابن أخيه كريم الملك. 113 - قناة عند دار ابن المصيصي تعرف بسمنديار، معطّلة. 114 - قناة عند دار ابن البري ومسجد الأذرعي. 115 - قناة داخل باب السّلامة، إِنشاء الملك العادل 116 - قناة في زقاق صفوان. 117 - " وفيه قناة أخرى معطلة ". 118 - " قناة في طرف الأسكافة العتق ورأس سوق الأحد ". 119 - قناة عند دار ابن الشحادة. 120 - قناة سوق الأحد، لها وقف. 121 - قناة سوق الغزل العتيق، لها وقف. 122 - " قناة ابن أبي الحديد ". 123 - " قناة صالح في الفورنق، لها وقف ". 124 - قناة على باب الجينيق، في السقاية. 125 - قناة خواجا يعقوب، في الجينيق. 126 - قناة ابن الماشكي. 127 - قناة عند دار الشريف أحمد، وهي دار ابن بوري خان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 128 - قناة في درب العلوي النافذ الى المربعة، عند دار صالح ابن أسد الكاتب، وتعرف بدار عضب الدولة. 129 - قناة في رحيبة خالد بن أسيد. 130 - قناة المنحدرة، فيعند قنطرة ابن مدلج. 131 - قناة الزينبيّ في سويقة باب توما. 132 - قناة داخل الباب، عند مسجد صعلوك، معطلة. 133 - قناة عند دار ابن الشواء. 134 - قناة النيبطن. فهذه قنيّ البلدة ومبلغها مائة ونيّف وثلاثون قناة. وفي ظاهر البلد من القبلة: 1 - قناة بهاء الدولة، عند جسر سوق الدواب. 2 - قناة على الباب الصغير. 3 - قناة في الشاغور. 4 - قناة قرب المصلى مجدّدة. ومن شامه: 5 - قناة على باب توما، ملاصقة للسور. 6 - قناة في عقب الجسر والسبع أنابيب، وفيها أربعة عشر أنبوباً. 7 - قناة على باب الفراديس، عند السقاية. 8 - قناة في طرف زقاق الرمان، عند مسجد القصب. 9 - قناة في عقب الجسر، مقابل مسجد بُزان. 10 - قناة في وسط العُقيبة. 11 - قناة على باب مسجد فيروز. 12 - قناة عند النهر، في وسط مقبرة باب الفراديس. 13 - قناة عند دار أُم البنين. 14 - قناة عند حمّام رَاهب في العقيبة. 15 - قناة عند مقبرة شمس الدولة. 16 - قناة عند مسجد الوزير. ومن غربيه: 17 - قناة في مسجد الجنان. 18 - قناة على بابه. 19 - قناة على باب الجابية، ملاصقة للباب. 20 - قناة في قصر حجّاج. فذلك تسع عشرة قناة، والله أعلم. الباب الثاني في ذكْر ما بنواحي دمشق من الجبال جبل لبنان - جبل الجليل - جبل سنير قد تقدم لنا ذكر قاسيون عند ذكرنا للمزارات بما أغنى عن إعادة ذكره في هذا المكان. جبل لبنان: ومن جبالها لبنان وهو جبل معمور بالأبدال والسياح والمنقطعين إلى الله تعالى عن الخلق لما فيه من الأشجار، والأنهار وفيه سائر الحشائش ومنها يرتزق الصالحون. ومما جاء في فضل لبنان من الحديث قوله صلَّى الله عليه وسلم:) أحد. جبل من جبال الجنة؛ وطور جبل من جبال الجنة؛ ولبنان من جبال الجنة (. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن البيت أسس على خمسة أحجار: حجر من حراء، وحجر من طور سيناء، وحجر من لبنان، وحجر من ثبير، وحجر من جوديّ. وفي رواية: عوض عن ثبير طور زَيتا. وفي رواية: عوضُ عن ثبير أحد. وعن كعب قال: جبل لبنان كان عصمة الأنبياء. وجاء عنه: أنه أحد الأجبل الثمانية أجبل تحمل العرش يوم القيامة. وعن أبي الزاهرية فيما أسنده عنه الحافظ ابن عسكر في قوله تعالى:) وَيَحمِلُ عَرْشَ رَبَّكَ فَوْقَهُم يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (. قال: جبل لبنان أحد حملة العرش يوم القيامة. جَبَلُ الجلِيل: قال ابن أبي يعقوب: " ومن كور دمشق صيدا، جبل الجليل. ذكر في الإنجيل، وإنما سمّي بذلك لأن الله - تبارك وتعالى - لما أوحي إلى الجبال إني أريد أن أتجلى لموسى على بعضك تطاولتْ وشمخت غير جبل الجليل فإنه استخزى وتطامن فسمي جبل الجليل. وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال الجليل جبل مقدّس، وإن الفتنة لما ظهرت في بني إسرائيل أوحى الله تعالى إلى أنبيائهم أن يفرّوا بدينهم إلى جبل الجليل. قال ابن أبي يعقوب في كتابه الذي وضعه في البلاد: " ومن كور دمشق جبل الجليل، وأهله قوم من عاملة " جبل سنير: وعدّ ابن أبي يعقوب في كور دمشق جبل سنير. وأهله بنو ضبةّ وبه قوم من كلب. الباب الثالث في ذكر ما احتوى عليه جُنْدُ دمشق من الكور وهي قسمان بريّة وبحريّة. فأما البرية: 1 - ف كورة البقاع : ومدينتها بعلبك. 2 - وكورة حوران: ومدينتها بصرى. 3 - وكورة البثنية: ومدينتها أذرعات. 4 - وكورة الظاهر: ومدينتها أذرعات. 5 - وكورة الغور: ومدينتها أريحا؛ ويجمعها أرض البلقاء. 6 - وكورة الجبال: ومدينتها عرندل. 7 - وكورة الجولان: ومدينتها بانياس. 8 - وكورة الشراة: ومدينتها أذرح. 9 - وكورة زُغَر. كورة البقاع ذكر بعلبك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 هي مدينة على جبل، ولها قلعة محكمة البناء عليها سور مبني بالحجر الصلد سعته عشرون شبراً وبها بئر يسمّى " بئر الرحمة "، لا ينبع الماء فيه إلا إذا أغلق بابها وانقطع الماء عنها، وفي حال دخول الماء إلى القلعة لا يرى فيها ماء قطّ. والماء يشق البلد والقلعة ويدخل دورها، وعليه أرحاء. بها من عجائب المباني الملعب وهو الهيكل الذي كان فيه المسمّى بعل المذكور في الكتاب العزيز. طالعها الميزان والزهرة. طولها ثمان وستون درجة وعشرون دقيقة عرضها ثلاث وثلاثون درجة وخمس وأربعون دقيقة؛ ساعة بنائها الزهرة. قال البلاذري: " ولماّ فرغ أبو عبيدة من أمر مدينة دمشق سار إلى حمص فمرّ ببعلبك، فطلب أهلها الأمان والصلح، فصالحهم على أن أمنهم على نفوسهم وأموالهم وكنائسهم فكتب لهم: " بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب أمان لفلان ابن فلان، وأهل بعلبك رومها وفرسها وعربها، على أنفسهم وأموالهم وأولادهم ودورهم وكنائسهم داخل المدينة وخارجها وعلى أرحائهم. وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم وبين خمسة عشر ميلاً. ولا " ينزلوا " قرية عامرةً. فإذا مضى شهر ربيع الآخر وجمادى الأول ساروا إلى حيث شاءوا. ومن أسلم منهم، كان له ما لنا وعليه ما علينا. ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث شاءوا من البلاد التي صالحنا عليها وعلى من أقام منهم الجزْية والخراج. شهد الله وكفى بالله شهيداً " لم تزل بعلبك يليها نواب من يلي دمشق من الأمراء منذ فتحت إلى أن صارت في أيدي نواب المعزّ صاحب مصر، لماّ ملك دمشق في سنة إحدى وستين وثلاثمائة. ولم تزل في أيديهم إلى أن نزل عليها الشمشقيق متملّك الروم وأخذها وأخرجها، ثم رحل عنها وذلك في سنة أربع وستين وثلاثمائة. فعاد إليها نواب المصريين بدمشق فعمروها؛ ولم تزل بأيديهم إلى أن قصدها صالح بن مرداس وتغلب عليها وعلى ما جاورها من البلاد سنة ست عشرة وأربعمائة ولم تزل في يده إلى أن قتل على " الأقحوانة " من الأردن، سنة عشرين في وقعةٍ كانت بينه وبين القائد أنوشتكين الدّزبري وصارت إلى المتولي على دمشق من قبل المصريين. ولم تزال في أيديهم إلى أن تغلب عليها مسلم بن قريش لما قصد دمشق، وحاصرها، وترك فيها عود بن الصيقل وأقطعه البقاع. فلما رجع مسلم من أعمال دمشق إلى بلاده خرج عود ابن الصيقل إلى بعض ضياع بعلبك فكبسه تاج الدولة تُتُش وأخذه أسيراً، وتسلم منه بعلبك، وولّى فيها مملوكه فخر الدولة كمشتكين الخادم، وذلك في سنة ست وتسعين وأربعمائة. وبقي فيها إلى أن مات تاج الدولة. وولي بعده ولده شمس الملوك دُقاق فأقره عليها ولم يزل بها إلى أن مات شمس الملوك وولي بعده أخوه أرتاش دمشق فأقره عليها، وبقيت في يده إلى أن خرج من دمشق إلى بعلبك لأمر استشعره من ظهير الدين أتابك طغتكين - كما حكيناه في أمراء دمشق - ثم ولي أتابك طغتكين دمشق استقلالاً فأقرّه عليها فلما كانت سنة ثلاث وخمسمائة اتصل بظهير الدين أتابك أن كمشتكين التاجي راسل الفرنج وحملهم على الغارات والفساد في بلاد دمشق، وأنه سير أخاه باي تكين إلى دركات السلطان في التوصل في فساد حاله عند السلطان. فسار ونزل على بعلبك وأرسل إلى كمشتكين، ولاطفه، ووعده، فأصر على العصيان، فقاتلها حتى تسلمها في الثاني والعشرين من رمضان من السنة المذكورة. وصفح عن كمشتكين. وعوّضه عن بعلبك صرخد وولى فيها من قبله. ولما مات طغتكين، وولي ولده تاج الملوك بوري، أعطى بعلبك لولده جمال الدين محمد، ولم تزل في يده إلى أن قتل أخوه بدمشق في ليلة الجمعة الثالث والعشرين من شوّال سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. فسار جمال الدين إلى دمشق فملكها وأعطى بعلبك معين الدين أنر فولى فيها من قبله فقصدها عماد الدين زنكي ونصب عليها المجانيق إلى أن ملكها يوم الخميس ثالث عشر من صفر سنة أربع وثلاثين وخمسمائة. ودامت في يده إلى أن قتل على " قلعة جعبر " ليلة الأحد السادس من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. فاسترجعها معين الدّين أنر وسلّمها إلى الحاجب شجاع الدَّولة عطاء الخادم، فأقام فيها إلى أن قتله مجير الدين أبق ابن جمال الدّين، في سلخ ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 فملك بعده ابن أخيه الأمير ضحّاك بن خليدٍ رئيس وادي التَّيم، وبقي فيها إلى أن ملك نور الدين دمشق، يوم الأحد تاسع صفر سنة تسع وأربعين وخمسمائة، فوصل ضحاك إلى خدمته فقبض عليه وأخذه معه، وسار إلى بعلبكّ فقاتلها، وضيق عليها إلى أن تسلمها يوم الخميس السابع من شهر ربيع الآخر من السنة وولي فيها. ثم إنه حَبس فيها أسرى من الفرنج فوثبوا في قلعتها، وملوكها، يوم الأحد مستهل ذي القعدة سنة ست وخمسين وخمسمائة. فسار إليها المسلمون من كل ناحية ودخلوا إليها من نقب دُلوا عليه فأخذوا وقتلوا. وتوفي نور الدين يوم الأربعاء الحادي عشر من شوّال سنة تسع وستين وخمسمائة. وبقيت بعلبك في يد ولده الملك الصالح إسماعيل إلى أن ملكها الملك الناصر صلاح الدين فيما ملكه من البلاد في شهر رمضان، سنة سبعين وخمسمائة. وأقطعها لشمس الدين محمد المقدّم، فعصى على صلاح الدين فيها سنة ثلاث وسبعين، فقصده على صلاح الدين، ونزل عليه في سنة أربع، ونزل على بعلبك فأجاب إلى التسليم فتسلمها وأعطاها لأخيه الملك المعظم تورانشاه. وبقيت في يده إلى أن أخذها منه وعوضه عنها الإسكندرية وأقطعها لابن أخيه عز الدين فرخشاه. ولم تزل في يده إلى أن توفى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. وتولاَّها ولده الملك الأمجد بهرام شاه ولم تزل في يده إلى أن قصده الملك الأشرف موسى لماّ ملك دمشق في سنة سبع وعشرين، فتسلّمها منه، وبقيت في يده إلى أن توفى رابع المحرم سنة خمس وثلاثين. وولّي دمشق الملك الصالح عماد الدين إسماعيل واخوه، فاستولى على بعلبك. وبقيت في يده بعد أخذ الملك الصالح نجم الدين أيوب دمشق إلى أن صار مع الخوارزمية، والتقى بعسكر الملك الصالح الناصر صلاح الدين صاحب حلب، فكسر. فخرج من دمشق حسام الدين بن أبي علي بعسكر، ونزل على بعلبك، وفيها أولاد الملك الصالح إسماعيل وحريمه، فحاصرها حتى تسلمها، يوم الأربعاء الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وستمائة. ولم تزل في يد الملك الصالح نجم الدين إلى أن توفي في النصف من شعبان سنة سبع وأربعين. وملك ولده الملك المعظّم تورانشاه، وببعلبك نائبا عن أبيه الأمير سعد الدين الحميدي، فأقرّه فيها. ولما قُتل الملك المعظم في المحرّم سنة ثمان وأربعين، واستولى على دمشق الملك الناصر صاحب وتسلّم حصونها، سيّر إلى الأمير سعد الدّين الأمير شرف الدين عيسي بن أبي القاسم فتحدَّث معه في تسليمها، فأبى، وقال: " في عنقي يمين للملك الأوحد ابن الملك المعظم، لا يمكنني التسليم إن لم يعوّضوه عنها ". فعّين له السلطان قرى من الأعمال الجزرية، تغلّ في السنة مائة ألف درهم. فسلّمها في جمادى الآخرة من السَّنة. وبقيت في يد الملك الناصر إلى أن خرج هارباً من دمشق لما ملك التتر البلاد، وبقي الزين الحافظي بدمشق يتولّى أمرها. وكان في بعلبك من قبل الناصر والٍ الحاجب شجاع الدّين إبراهيم، فسيّر إليه الزّين الحافظي كتابه ورسوله يطلب منه تسليم بعلبك لنوّاب التتر، فأبى، واستعد للحصار وبذل نفسه في طاعة الله. فلما وصل كتبغا بعساكره وتسلم قلعة دمشق، قصد بعلبك وحاصرها، فقال من فيها من الفقهاء لشجاع الدين: " لا يحلّ لك العصيان لأنك تقتل خلقاً كثيراً ". فأذعن للتسليم، وخرج إلى دمشق، ومعه أولاد أخيه. فكتب الحافظي إلى هولاكو يعرّفه أن المذكور عصى منْ دون من كان في الحصون، وأنه باغٍ، وأن قتله واجب. فلما وصل إليه الكتاب ووقف " عليه " كتب خلفه إلى كتبُغا بقتل المذكور. فلما وصل إليه الكتاب أحضر الحافظي وقال له: " هذا خطّك؟ " اعترف. فقال: " كيف تكتُب في أقوام أنا أمنتهم، وأمرُ هولاكو لا يُخالف، والله ما يضربُ رقبته إلاَّ أنت بيدك، وإلاَّ ضربتُ رقبتك ". فأحضر الحاجب المذكور وأحضر معه والي قلعة دمشق فانه كان قد عصى - وقد قدمنا ذكرَه - فقام وضربَ عُنقيْ الاثنين بيده بإثمهما. ولم تزل بعلبك في يد نُواب التتر إلى أن انتزعتِ البلادُ منهم بكسرتهم على " عين جالوت " - وقد قدمنا ذكرها في غير ما موضع -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وصارت البلاد في يد مولانا السلطان الملك الظاهر بعد قتل الملك المظفر، وتغلّب الأمير علم الدين سنجر الحلبي على دمشق، ونُعت بالملك المجاهد ولّي في بعلبك وبقيت في يده إلى أن قُبض عليه وحمل إلى مصر في سادس عشر صفر من سنة تسع وخمسين وستمائة. وملك السلطان الملك الظاهر دمشق وبعلبك فيما ملك من البلاد، فأمر بعمارة قلعتها وتشييد سورها وبناء دورها، وقوّاها بالعَدَدِ والعُدَد، وشحنها بما لم تسمح به نفس أحد، ونوّابه متصرفون فيها إلى الوقت الذي وضعنا فيه كتابنا هذا وهو سنة أربع وسبعين وستمائة. ولم يزل الولاة من قبله عليها إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى، وانتقلت جميع الممالك إلى ابنه السلطان الملك السعيد بعهدٍ من والده. فأقر الوالي الذي من جهة والده على حاله وهو نجم الدين حسن أحد رجال الحلقة المنصورة بدمشق المحروسة. وأول من ولي عليها من قبل السُّلطان الملك الظاهر - رحمه الله تعالى - عزّ الدين أيبك الإسكندراني الصالحي ثم نقل إلى الرحبة. وولي كمال الدين إبراهيم بن شيت إلي أن توفي بحلبا في حادي عشر صفر سنة أربع وسبعين وستمائة. وولي نجم الدين ُحسن واستمر به السلطان الملك السعيد بعد أبيه - كما قد ذكرنا - إلى أن خرج الُملكُ عن الملك السعيد الى أخيه الملك العادل سيف الدين سُلامش وتسلّم المُلك الملك المنصور سيف الدّين قلاوون الألفي العلائي أتابكا. فسير عليها نوّاب الملك العادل، فلم تزل بها إلى أن جلس السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون المذكور على تخت الملك، يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر رجب في سنة ثمان وسبعين، فسيّر إليها نوابه واستمرت في يده. كورة حوران وقصبتها بصْرى وهي مدينة على سيف البرية، لها ذكر في حديث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأنه دخلها قبل بعثته، وهو تاجر لخديجة، وفيها لقي بُحيْرا الراهب وبها قبره إلى عصرنا. طولها سبعون درجة، وعرضها اثنتان وثلاثون درجة، طالعها برج السنبلة، ساعة بنائها عطارد. قال البلاذُري: اجتمع المسلمون عند قدوم خالد ابن الوليد على بُصْرى، ففتحوها صلحاً، وانبثوا في أرض حَوران فغلبوا عليها. وفي هذه الكورة: قلعة صرخد وهي محدثة، فصارت القصبة لكورة حوران. طولها سبعون درجة وخمس دقائق، وعرضها اثنتان وثلاثون درجة، وعشرون دقيقة. ولم تزل " بُصرى " و " صرخد " على الإضافة لدمشق يليهما نائب من جهة من يليها، إلى أن ملك " تاج الدولة تُتُش " دمشق، ولّى فيها ولديه تكين وفلّوس. فلما مات تاج الدولة أقرهما فيهما أخوهما شمس الملوك دُقاق لما ملك دمشق بعد أبيه. وبقيت في أيديهما إلى أن أستبد ظهير الدّين طغتكين الأتابك بدمشق، وطلب منهما أن ينزلا عنهما، فلم يجيبا فقاتلهما، حتى عجزا عن دفعه. فطلبا منه الأمان على أنفسهما وأموالهما ويسلّمانها إليه بمهلة اقترحاها عليه، وإقطاعاً يعوضهما عنهما، فأجابهما إلى غير ذلك ورحل عنهما. فلما انقضى أجل المدة سلماها إليه، ووفى لهما بما وعدهما به من الأمان والإقطاع، وذلك في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. فولاّهما ظهير الدين فخر الدولة كمشتكين التاجي لما أخذ منه بعلبك. فكان مقامه بقلعة صرخد ومملوكه التنتاش ببصرى، واستمرت ولايتهما إلى أن مات فخر الدولة كمشتكين " ليلة الأحد سابع من شهر ربيع ... سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، فصار التنتاش إلى " صرخد " فملكها واظهر مشاققة ظهير الدين طغتكين، فبعث معين الدين أنر إلى صرخد بعسكر، فالتقى بالفرنج ومعهم التنتاش فكسرهم، وعادوا مخذولين. وسار معين الدّين فنزل على الحصن في ذي القعدة سنة إحدى وأربعين، وقاتلهما حتى أخذهما في المحرم سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة. ثم انفصل التنتاش عن الفرنج، وعاد إلى دمشق بغير تقرير حالٍ ولا أمان، وكان في أيام ولايته قبض على أخيه " خُطلخ " وكحله، وأخرجه من صرخد فأقام بدمشق. فلما وصل إلى دمشق حاكمه أخوه عند القاضي فقضى له عليه بالكاحل فكحله. ولما فتح معين الدين " صرخد " و " بُصرى " سلّم " صرخد " للأميرمجاهد الدين بثزان بن مامين الكردي، وسلّم بصرى على حاجبه فارس الدّولة صُرخك. فأما صرخد فأقام بها مجاهد الدّين إلى أن توفي ليلة الجمعة ثاني صفر سنة خمس وخمسين وخمسمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وتسلمها ولده سيف الدين محمد. فلما ملك الملك العادل " نور الدين محمود " دمشق، أخذها منه بعد امتناع وحصار، وعوضه عنها حصن " بو قبيس "، وذلك في شوال من السنة. وأما بصرى فاستمر فيها فارس الدولة إلى أن قتله فيها زوج ابنته ابن الحاجب حوله في المحرّم سنة خمس وخمسين وخمسمائة، واستولى عليها. فأخذها منه الملك العادل وأعطها وصرخد لغلامه صديق. وما زالا في يده إلى أن قتله ابن أخته في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، واستولى عليهما. فاحتال عليه صلاح الدين وأخذهما منه لماّ ملك دمشق، وولّى فيهما من قبله، وما زالا في يده أن فرّق البلاد بين أولاده وأقاربه، فأعطى الشام لولده الملك الأفضل خلا " الكرك " فانه كان للملك العادل فدخل صرخد وبصرى فيما صار في حوزه، فأنعم على أخيه " الظافر " ببصرى. ولم تزل صرخد في يده مع غيرها إلى أن قصد أخوه الملك العزيز صاحب مصر وعمّه العادل، وأخذا منه دمشق في رجب سنة اثنتين وتسعين. واستبد العادل بدمشق وأعمالها خلا " صرخد " فإنه أقرها في يده، وأخذ " بُصرى " من الملك الظافر. ولم تزل " صرخد " في يد الأفضل إلى أن توفي الملك العزيز بمصر، وترك ولداً صغيراً جعله ولّي عهده ولقبه الملك المنصور، وأوصى للملك الأفضل بتدبيره وكفالته. فسار إلى مصر في المحرم سنة خمس وتسعين. ثم خرج منها في شعبان إلى دمشق، وحاصر الملك العادل فيها - كما حكيناه في أمراء دمشق - ثم عاد إلى مصر فسار الملك العادل، إليه، وأخرجه منها وعوّضه عنها " سُميْسَاط " وغيرها، مضافة إلى " صرخد ". فلما وصل إلى الشام جمع غلمان أبيه ووعدهم وعوداً ضمن لهم الوفاء بها إن ساعدوه على أخذ دمشق. وعجّل من وعوده " صرخد " لزين الدين قراجا، وذلك في سنة سبع وتسعين فولّى فيها من قبله. ثم غدر بالأفضل، وصار إلى الملك العادل في سنة ثمان وتسعين. وعجز الأفضل عن حصار دمشق، فصالح الملك العادل، وسار إلى حمص فأخرج زين الدين نساءه وحريمه من " صرخد ". ولم تزال صرخد في يد قراجا إلى أن توفي سنة أربع وستمائة، وبقيت في يد أولاده إلى سنة إحدى عشرة فأخذها الملك المعظّم بمرسوم أبيه الملك العادل. وبقيت في يده مدة، ثم أنعم بها على غلامه عز الدين أيبك. ولم تزل في يده إلى أن حاصر الملك الكامل دمشق وفيها الملك الناصر داود ابن الملك المعظم، وعز الدين أيبك. فلما لم يكن للملك الناصر طاقة به بذل له تسليمها على شروط قرّرها، منها: إبقاء صرخد على عز الدين أيبك، فأجابه إلى كل ما التمسه خلا عز الدين. وألجأت الملك الناصر ضرورة إلى تسليم دمشق، فلما تسلّمها الملك الكامل خاف عز الدين واستجار بفخر الدين ابن الشيخ. فلما ركب الملك الكامل في موكبه ركب عز الدين فيه، ولما عاد ونزل دار السعادة، دخل في جملة الأمراء. فلما وضع السماط وجلس الأمراء في مراتبهم، بقي عز الدين قائماً فالتفت الملك الكامل إلى فخر الدين، وأمره أن يأمر عزّ الدين بالجلوس إلى جانبه، فجلس محتشماً، فقال فخر الدين للملك الكامل: إن الأمير عز الدين يريد أن يأكل من الخافقية التي بين يدي السلطان، فرفعها بيده وناوله إيّاها، فقام وقبّل الأرض. فلمّا فرغ السماط، وخرج الأمراء، وقام الملك الكامل، ودخل إلى الحجرة، وتقدّم إلى جوهر النوبيّ الخادم بأن لا يترك عز الدين يخرج، فاستشعر عزّ الدين القبض عليه، وأقام حتى خرج إليه ومعه ما كان على الملك الكامل من اللباس فألبسه إياه ثم أخذ بيده، وأدخله عليه، فقال له الملك الكامل: " يا عزّ الدين، ما أردت أن يكون للملك النَّاصر عليك منّة. أنا أحق بها منه ". وأمر له بعشرة آلاف دينار وألف قطعة قماش، وأذن له في المسير إلى " صرخد ". فلما خرج قدّم له مركوب السلطان الذي نزل عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ولم تزل في " صرخد " في يده إلى أن تسلمها منه الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل في سنة أربع وأربعين وستمائة، وعوّضه عنها قرقيسيا والخابور، وكانتا في يد الملك الناصر صلاح الدين صاحب حلب، فوصل رسولا الملك الصالح، وهما: فخر الدين ابن السكري وشهاب الدين ابن الغرس في تمكين عز الدين من تسليم قرقيسيا والخابور. فقال لهم: " إني فتحت هذه البلاد بسيفي من الخوارزمية، فما له والتصرف فيما ليس له ". فعادا بهذا الجواب. وكان قصد الملك الصالح إبعاد عز الدين إنه لا بد أن يملك مصر رجل تركي اسمه عز الدين أيبك، فظن أنه هو لما كان يرى فيه من مخايل المملكة. فلما لم يتم له قصده في إبعاده قبض عليه، وبقي في حبسه إلى أن مات في جمادى الأول سنة ست وأربعين وستمائة بالقاهرة. ولم تزل صرخد " في يد الملك الصالح ثم في يد ولده الملك المعظم، إلى أن قُتل في المحرم سنة ثمان وأربعين وستمائة وملك دمشق السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز محمد صاحب حلب، استولى على " صرخد " وبقيت في يده إلى أن خرج عن البلاد بورود التتر إليها واستيلائهم عليها. فأقطعها أخاه الملك الظاهر سيف الدين غازي فولّي فيها سعد الدّين بن عمر قلج نقيب العسكر، وبقيت في يده إلى أن قصدها التتر بعد أخذهم دمشق، فخربوا شراريف أسوارها، وأبقوها في يده، وجعلوا معه فيها نائبا. ثم خرج عنها ولحق بهولاكو، ثم أباد الله التتر على يد من بيض الله بجهادهم صحائفه، وقلّد حدُّه جيدَ الملّة الإسلامية مننه وعوارفه، الملك المظفَّر قٌطُر التركي الُمعزي وأعاد المسلمين إلى مراكزهم في البلاد الشامية. فلما قُتل، وملك مولانا السلطانُ الملكُ الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي البلاد عمرها، وعمر سور " صرخد " وجدّد، وولّى فيها من قبله وهي في يده إلى عصرنا. ولم تزل في يده إلى أن توفي إلى رحمة الله وتولى ولده السلطان الملك السعيد على جميع الممالك بعهدٍ من والده. وأما بُصْرى فإنها لما صارت إلى الملك المعظم، حين أعطاه أبوه الملك العادل الشام، جدّد قلعتها، وأحكم بناءها وحصَّنها، وبنى ظاهرها بركة للحجاج في غاية الكبر يستقون منها عند دخولهم إلى البرية. وأنا في هذا متردّد والغالب عندي أن الملك العادل لم يُعط " بصرى " للملك المعظم فيما أعطاه من الشام، بل أعطاها ولده الملك الصالح عماد الدّين اسماعيل، ولم تزل في يده إلى أن حاصرها الملك الصالح نجم الدين أيوب حتى تسلمها من نوابه في رجب سنة أربع وأربعين وستمائة. وبقيت في يده، ثم في يد الملك المعظّم غياث الدين تورانشاه. ثم لما قتل، وملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب دمشق، ملكها ولم تزل في يده إلى أن استولت عليها التتر فيما استولوا عليه من البلاد. فلما أتاح الله هلاك عسكر " هولاكو " ومضغوا اللجم بما أصابهم ولاكوا. واسترجع منهم ما ملكوه. وقطع عليهم النهج الذي سلكوه. صارت في يد مولانا السلطان الملك الظاهر، فعَّم الخصبُ أرجاءها. وتبوأ الأمن أفياءها. وهي في يد نوابه إلى عصرنا الذي وضعنا فيه هذا الكتاب. كورة البثينة ومدينتها أذرعات قال البلاذري: " لماّ فتح المسلمون بصرى أتاهم صاحب أذرعات فصولح على مثل ما صولح عليه أهل بصرى وعلى أن تكون أرض البثنية خراجاً؛ ومضى يزيد بن أبي سفيان حتى دخلها ". ولم يتصل بي شيء من ذكرها بعدُ. والظاهر عندي أنها ولايات مضافات إذا ليس فيها مدينة معتبرة فيكون لها ولاية مقرّرة. كورة الجبال ومدينتها عرندل على ما وجدته في كتاب فتوح البلدان. ورأيت في غيره من الكتب أن مدينتها " مآب ". قال البلاذري: " لماّ ولي أبو عبيدة ابن الجراح الجيش والأمرة ولّي يزيد بن أبي سفيان ففتح عرندل، وغلبَ على أرض الجبال ". وفي هذه الكورة زُغرْ. وهي مدينة حارّة، متصلة بالبادية، وبها نيلٌ لا يقصر عن نيل كابل. ومعان وهي على سيف البرية، وتسكنها طائفة من اليونان. ومؤتة وهي التي قتل فيها جعفر بن أبي طالب الطيار. وهذه كلها مدن قديمة وقع ذكرها في كتب التواريخ والفتوحات، وكتب المسالك والممالك. ومما هو مستحدث ذكره في هذه الكورة من البلاد الكرك والشوبك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فأما الكرك: فهو في عصرنا حصن منيع، ومعقل حصين. وله ربضٌ عليه سور. وهو وربضة على جبل. وبين الربض والقلعة خندق عميق، نحو ستين ذراعاً. ويدخل إلى فضاء الحصن من حنية منحوتة في الجبل طويلة عليها بابةٌ وحراسةٌ. ولما لم أجد له ذكراً فيما طالعته من كتب التواريخ الموضوعة في صدر الإسلام، ولا في الكتب المصنّفة في لمسالك والممالك، لم أزل أبحث عنه إلى أن أخبرني ثقة أعتمد عليه: أنه كان ديراً للنصارى. وكانت العرب تتخطّف منْ فيه من الرهبان مقيم، فسرق الرهبانُ بناءه وحصنوه. ولم يزل ذلك دأبهم في توسعته وتحصينه إلى أن صار حصناً. واستدعوا أليه طائفة من الفرنج المجاورين لهم، وأسكنوهم فيه عندهم يتقوّون بهم على من يقصد أذاهم. فزاده الفرنج تحصيناً. وأقاموا فيه حاكماً ورتبوا له جنداً. وجعلوا يشنّون منه الغارات على ما داناهم من القرى والضياع، إلى أن أجلوْا عنها كثيراً من أهلها، واستولوا عليها، وصيرّوها له عملاً تحميه سيوفهم. ولم يزل في أيديهم إلى أن ملكة البرنس أرناط صاحب إنطاكية. وسبب تملكه له أنه لما تخلّص من أسر نور الدين محمود بعد موته، تزوج بزوجة صاحب الكرك بحكم أن زوجها مات فملكه. وكان نور الدّين قد قصده مرّة أخرى في سنة ثمان وستين، وحاصره ثم رحل عنه لسبب ومات، ولم يظفر منه بغرضٍ. فلما ملك الناصر صلاح الدين في سنة سبع وسبعين قصده عز الدين فرخشاه نائب الملك الناصر صلاح الدين على دمشق والملك العادل من مصر. وسبب ذلك أن البرنس " أرناط " صاحب الكرك كان من شياطين الإنس وأشدهم عداوة للمسلمين، فجمع عسكراً وعزم على المسير إلى " تيماء "، ومنها إلى مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستولي على تلك البلاد، فسمع عزّ الدين بذلك فجمع العساكر الدمشقية وسار إلى بلده فنهبها. فلما بلغ أرناط ذلك علم أن المسلمين لا يعودون إلى بلادهم حتى يُفرق جموعه، ففرقهم وانقطع طمعه عما قصده، فعاد عز الدين إلى دمشق. وغزاه صلاح الدين بنفسه في سنة تسع وسبعين، فملك ربضة وتسلط به على حصاره، ونصب عليه المجانيق فلم ينل منه طائلاً. ورحل عنه في منتصف شعبان. ثم غزاه في شهر ربيع الآخر من سنة ثمانين، فنصب المجانيق على ربضه، واشتد عليه القتال حتى مُلك، وبقي الحصن. وأمر صلاح الدين بإلقاء الأحجار في المجانيق ليطمه، فلم يقدر أحدٌ على الدنو منه لكثرة الرمي بالنشاب وأحجار المجانيق. فأرسل من فيه إلى الفرنج يستنجدهم، فساروا إليهم في عدةٍ وعديد. فلما بلغ الملك النّاصر رحل عنه وسار إلى " نابلس " فنهبها وخربها، وأحرقها. ثم أن البرنس طلب الموادعة والمهادنة من صلاح الدين فأجابه، ولم يف. وذلك أنه عبر به " بالشُوبك " قفل من الديار المصرية في حالة المهادنة، فنزلوا عنده بالأمان، فغدر بهم وقتلهم، فنذر صلاح الدين على نفسه أنه متى ظفر به قتله، بسبب ما كان عزم عليه من قصده " المدينة " - صلى الله على ساكنها - وتأكد ذلك بأخذ القفل المذكور. فلما كانت سنة ثلاث وثمانين، جمع الجموع من الموصل وديار بكر والجزيرة وإربل وبلاد الشرق وبلاد الشام ومصر، ونزل على " الكرك " فحصره، وضيّق عليه. ثم بلغه أن الفرنج جمعت لدفعه عن الكرك، فرحل وترك عليه أخاه الملك العادل في عسكر. والتقى السلطان الناصر صلاح الدين بالفرنج على " حطين "، وكانت الواقعة التي أسرت فيها أسرتهمْ، وثلث عروشهم، وزعزعت أسرتهم. ولم يزل حصن " الكرك " محاصرا إلى أن فتحه الله في شهر رمضان سنة أربع وثمانين، من نائب البرنس " أرناط " بالأمان، بعد أن حوصر سنة ونصفا. وأعطاه لأخيه الملك العادل وأخذ منه " عسقلان ". وكان البرنس قد أخذه الملك الناصر في وقعة " حطين " أسيراً فوفى بنذره، وقتله بيده. وكان ذلك على الله يسيراً. ولم يزل في يد نواب الملك العادل إلى سنة خمس عشرة وستمائة. وقبل وفاته بمدةّ يسيرة، سلمه لولده المعظّم شرف الدين عيسى بجميع ما فيه من الخزائن والذخائر، فزاد في عمارته وتحصينه، ونقل إليه أرباب الصناعات حتى جعله مدينة لا يحتاج إلى غيره ونصب في قراه الأشجار، وأجرى خلالها العيون. ولم يزال في يده إلى أن توفي في سلخ ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستماءة، وانتقل إلى ولده الملك الناصر داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ولم يزل في يده إلى أن خرج عنه، ووفد إلى حلب مستغيثاً بالملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز محمد على الملكِ الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر، فانه كان قد سيّر إلى الحصن فخر الدين بن الشيخ فحاصره، وضايقه حتى قلّت به الأقوات، فخرج عنه بهذا السبب في شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين. وترك به أولاده، وجعل ولاية عهده فيه لولده الملك الأمجد فراسله الملك الصالح، وقرّر معه أنه متى سلّم إليه الحصن عوّضه عنه خمسين ألف ديناراً وإقطاعاً بمصر، فأجابه إلى ذلك، وسيرّ إليه الملك الصَّالح جمال الدين آقوش النجيبي مملوكه، وبعث معه بدر الدين الصوابي وفوض إليه الحكم فيه، وولي كمال الدين ابن شكر النظر فيه وفي أعماله. وكان تسليمه للملك الصالح في جمادى الأول سنة سبع وأربعين وستمائة، وحمل إليه خزانةً مقدارها ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، وولى الربض لرجل يُسمى " الهمام ". ولم يزل في يده إلى أن توفي وملك بعده ولده الملك المعظم. ولما قتُل في المحرم سنة ثمان وأربعين وستمائة، وملك الملكُ الناصر صلاح الدّين صاحب حلب دمشق، بعث بدرُ الدين الصوابي إلى قلعة " الشويك " منْ أحضر الملك المغيث عمرَ ابن الملك العادل ابن الملك الكامل في خفية، وكان الملك الصالح قد حبسه بها، فدخل به الكرك ثالث عشر شهر ربيع الأول وأخفاه. ثم إن رسول الملك الناصر وصل من دمشق يطلب من بدر الدّين تسليم " الكرك " فأنزله وأكرمه. وبعث إلى منْ معه في الحصن من مسحفظيه، وعرَّفهم أنه " لا ينبغي أن يخرخ الحصن عن أحد من أولاد الكامل فإنهم مواليه، وأريد منكم الموافقة على ما أردت ". فأجابوه إلى ما أراد. فأمر بإحضار الملك " المغيث " فحضر، وحلّفهم له ثم استدعى الرسول وقال له: هذا صاحب الحصن فتحدث معه، فالتفت إليه وبلغه الرسالة، فأجابه بكلام - كان قد قرّر معه بعد أن قام وقبل الأرض - مضمونة: " أني كنت في الحبس، وقد منّ الله بإطلاقي، وليس لي ولا لمنْ بَقيَ منْ أهلي موضع ينضوون إليه، ويعتمدون في النفع عليه، والسلطان - أعز الله نصره - إذا أخذ هذا الحصن لا بدّ له من نائبٍ، والمملوك نائبه فيه، لا أصدرُ ولا أرد إلا عن رأيه ومراسمه. فلم يعارضه الملك " الناصر "، وقبل هذا القول منه وذلك في العشر الأواخر من جمادى الأولى. ولما صار في يده من غير منازع له فيه ملك بلد " الشوبك " وبقي الحصنُ في يده إلى أن استولت التتر على دمشق في سنة ثمان وخمسين وستمائة، فانضوى إليهم وصيروا معه نائبا في الحصن. ثم كانت هزيمة التتر على " عين جالوت " في شهر رمضان. وتولى الملك المظفر، فكتابه الملك المغيث في إبقائه على ما في يده، فأجابه إلى أن يبقى معه " الكرك " لا غير. وحل عنه ما كان الملك صلاح الدين الناصر يوسف صاحب الشام أضاف إليه من النواحي وهي: الصلت، والخليل، والبلقاء. ثم قتل الملك المظفر في بقية السنة، وملك مولانا الملك الظاهر ركن الدّين البلاد، فحمل الملك المغيث الحسد على أن كتب إلى التتر عدة كتب، ووصلته الأجوبة على يد رسول منهم، فخاف أن ينم عليه ذلك، فسيّره تحت الحوطة إلى أبواب مولانا السلطان بالقاهرة. فما زال السلطان يتحيل على الرسول، ويبسط أمله إلى أن اعترف له مما كاتب به الملك المغيث إلى هولاكو من حثه على النهوض إلى بلاد الشام. ثم ردَف ذلك بأن كتبه وصلتْ إلى الشهرزورية الذين كانوا تحت حرم السلطان بالقاهرة بإفسادهم، فتوجه إليه " يعقوب بن بدل " وأعمامه وأهله. ووصلت العرب القُصاد الذين قفلوا من عند هولاكو إلى السلطان، فأوقف الفقهاء على الكتب وأخذ فتاويهم بأن قتاله يتعين. وبرز من القاهرة سادس شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستين ووصل إلى غزة سابع عشره، فوصلت إليه عليها أم الملك المغيث، فأقبل عليها وأكرمها وردّها إلى الكرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ثم وصل السلطان إلى " الطور " يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى، وكاتب المغيث بالحضور إليه فسوف، ووعد بالحضور، ثم وصل بعد مدافعة كثيرة في سادس عشري جمادى الأولى. وعند وصوله قبض عليه السّلطان، وكان الملك الأشرف صاحب حمص حاضراً في العسكر فأحضروه، وأحضر أكابر الأمراء وأحضر الملك المغيث، وأحضر كتبه إلى التتر، والفتاوى، والقصّاد الذين كانوا يسفرون بينه وبين هولاكوا فعذره، ولم يكن يعرف الباطن في قبضه عليه. ثم بعثه مع الأمير شمس الدين آق سنقر السلحدار الفارقاني أستاذ الدار، فوصل به إلى قلعة القاهرة فحبسه فيها، وكان آخر العهد به، وكان مولده يوم الأربعاء حادي عشر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين. وسار السلطان إلى " الكرك " وتسلّمه يوم الخميس ثالث عشري جمادى الآخرة، بعد قواعد تقرَّرتْ بينه وبين نّواب الملك المغيث، ودخله السلطان يوم الجمعة ورتَّب فيه من قبله نائباً الأمير عز الدين إيدمر مملوكه وأستاذ داره، وشيده، وحصّنه، وزاد فيه، وحفر خندقه، وأحاط به، ولم يكن فبل ذلك كذلك، ونقل إليه خزائنه وذخائره. ولم يزل فيه عز الدين متوليه إلى أن عُزل عنه، وولي دمشق، وجعل عوضه منه مملوكه علاء الدين أيدكين الشهابي وذلك في المحرم سنة سبعين. وهو به إلى الوقت الّذي وضعنا فيه هذا التاريخ. وأما الشوبك: فإني لم أعثر له على ذكرٍ في كتاب من كتب التواريخ المصنفة في صدر الإسلام. والظاهر أن الحال فيه كالحال في " الكرك " في بنائه، وتملّك الفرنج له، إلى أن فُتح في الوقت الذي فُتح فيه الكرك بعد حصار سنتين وأقطع معه للملك العادل. ولم يزال في يده إلى أن أعطاه ولده الملك المعظم شرف الدين عيسى فحصنه وحسّنه، ونقل إليه الأشجار من سائر الأقطار حتى صار يضاهي دمشق في روائها، وتدفق مياهها، وطيب هوائها. ولم تزال في يده إلى أن توفي في ذي القعدة سنة أربع وعشرين، وانتقلت إلى ولده الملك الناصر داود. ولم تزال في يده إلى أن سأله إياه الملك الكامل في مجلس شراب فخرج له به. وبقي في يد الملك الكامل إلى أن مات، فقصده الملك الناصر وتعذّرت استعادته عليه. وبقي في يد الملك العادل إلى أن يقبض عليه. وملك الملك الصالح نجم الدين أيوب أخوه، فاستولى على " الشوبك " وبقي في يده إلى أن مات. واستولى الملك المغيث ابن الملك العادل عليه عند استيلائه على " الكرك ". ولم يزل في يده إلى أن ملك مولانا الملك الظَّاهر ركن الدين، فسيّر إليه عسكراً فتسلَّمه من صارم الدين قايماز الناصري، وكان نائبا فيه عن الملك المغيث بباطنٍ كان معه، في شهر ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وستمائة، ونوابه فيه متصرفون، إلى عصرنا الموضوع فيه هذا الكتاب. كورة الشراة ومدينتها أذرح وبها بايع الحسن - عليه السًّلام - معاوية وفي هذه الكورة الحميمة وبها كانت منازل بني علي ابن عبد الله بن عباس. وأرض البلقاء وفيها مُآب، وعمان. قال البلاذري: " وسار يزيد بن أبي سفيان إلى " عمان "، ففتحها على مثل صلح بُصرى، وغلب على أرض البلقاء. وقال أيضا: " وتوجه أبو عبيدة بن الجراح في جماعة كثيفة من المسلمين الذين كانوا مع الأمراء فأتى " مآب " وبها العدوّ، فافتتحها على مثل صُلح بُصرى. قلعة الصلت وفي هذه الأرض قلعة الصلْت وهي محدثة. ولها عمل متسع بناها الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل. ويقال في سبب بنائه لها أنه عبرت له جوار فخرج عليهنّ طائفة يقال لهم بنو رحمان من قرية تعرف " بكفر يهوذا " فسبوا الجواري، وأخذوا منهن جماعةً. فلما بلغ المعظم شن عليهم غارة بنفسه فاستأصلهم، وأمر ببناء برج قريباً منهم. فبُنى على قبة جبل يعرف برأس الأمير " قلعة الصلت "، وحصنها، وكان في مكانها شَعْراء ملتفة الأشجار، فقطعها. ولم تزل في يد الملك المعظم إلى أن توفي في ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة، فانتقلت لولده الملك الناصر، وبقيت في يده إلى أن تسلمها منه الملك الصالح نجم الدين أيوب في ذي الحجة سنة أربع وأربعين. وبقيت في يده، ثم في يد ولده الملك المعظّم إلى أن قُتل في المحرم سنة ثمان وأربعين وستمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وملك الملكُ الناصر صلاح الدين يوسف دمشق في شهر ربيع الآخر من السنة، فملك " قلعة الصَّلت " وبقيت في يده إلى أن انقضت دولته في صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة واستولى التتر على البلاد فقصدوها، وبها بدر الدين محمد بن الحاج الناهض أبي بكر الأتابكي، فعصى فيها أياما ثم سلّمها، فأقروه فيها. ولما أسترجع الملك المظفر قطز البلاد من أيديهم، وكسرهم، كانت فيما استرجع، فأقر بدر الدين فيها. ولما قُتل الملك المظفر في ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة، وملك مولانا السلطان الملك الظاهر قصدها، وفيها بدر الدين المذكور، فتسلمها منه في سنة تسع. وهي في يد نوابه إلى الوقت الذي وضعنا فيه هذا التاريخ. ثم لما توفي الملك الظاهر في ثاني عشر المحرّم سنة ست وسبعين، انتقلت إلى ولده الملك السعيد ناصر الدين بن محمد ابن بركة قان، فلم تزل في يده إلى أن خرج الملك عنه لأخيه الملك العادل سيف الدين سلامش، ليلة الاثنين تاسع عشرين ربيع الآخر من سنة ثمان وسبعين. وتسلّم تدبير الملك في الأتابكية الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي، فسيّر إليها نواب الملك العادل فاستمروا بها إلى أن جلس الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي، فسير إليها نواب الملك العادل فاستمروا بها إلى أن جلس المنصور سيف الدين قلاوون المذكور على تخت الملك يوم الثلاثاء حادي عشري شهر رجب من سنة ثمان وسبعين، فسير نوابه إليها واستمرت بيده. قلعة عجلون وهي بين بلد السواد - من أعمال الأردن - وبين بلاد الشراة. مُحدثة صغيرة على جبل مطلّ على الغور، تُرى من القدس ومن جبال نابلس. طولها تسع وستون درجة، وعرضها اثنتان وثلاثون درجة، وعشر دقائق. والجبل التي هي مبنية عليه يعرف بجبل " عوف " لأنه كان ينزله قوم من " بني عوف "، في أول ولاية الخلفاء المصريين، وكانوا أمراء أولي بأس ونجدة، يقاتل بعضهم بعضاً لتشعب قبائلهم. ولم زالوا كذلك إلى أيام الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، فأقطع ناحيتهم الأمير عز الدين أسامة، وكان من أكابر الأمراء العادلية. فشرع في بناء قلعة يعتصم بها نوابه من عدوان بني عوف، فمنعوه، فأوهمهم أنه إنما يعمرها حراسة لهم من الفرنج، فأجابوه، وأعانوه على بنائها. فلما كملت استدعى مشايخ بني عوف إليها، ومدّ لهم سماطاً، فلما أكلوا أمر غلمانه بالقبض عليهم وحبسهم. وقيل: إنه كان في مكانها دير قديم يسكنه نصراني اسمه " عجلون " فهدم وبقيت القلعة مكانه، فسميت باسم الراهب. وكذلك " الباعوثة " فإنه كان مكانها دير يسكنه نصراني يسمى " الباعوثة " فُسمي باسم الراهب. وهذا الدير مذكور في كتب الديارات. وكان بها قلض من قبل الخلفاء المصريين، وله من الأقطاع سبع وعشرون قرية، من جملتها " عمْتا " وما زال التوقيع بها في يد عقبة إلى استولى التتر على البلاد، فعدم منهم. وحدود " جبل عوف " من القبلة وادي الزّرقاء الفاصل بين بلد " عجلون " وبين بلد الصلت؛ فكل ما هو في قبليه فمن عمل " الصلت ". وكل ما هو من شماليه من عمل " عجلون " ومن الشرق ينتهي بعضه إلى بلاد تعرف " بالحبابية ". من أعمال " عجلون "، وليست من جبل عوف ولكنها داخلة في الولاية. وتمام الحد المذكور بلاد السواد، ومن الغرب الغور، ومن الشمال بلد السواد. ولم يزال حصن " عجلون " في يد بانية عز الدين أسامة إلى أن قبضه الملك العادل. وبقي في يده إلى أن سلمه لولده الملك المعظم في سنة تسع وستمائة. ولم يزل في يده إلى أن توفي في ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة، فانتقل إلى ولده الملك الناصر داود فكان في يده مع دمشق والكرك والشوبك. فلما ملك الملك الكامل دمشق وسلمها للأشراف، أقرّ على الملك الناصر الكرك والشوبك، والأغوار. وبقيت " عجلون " في يد الملك الأشراف إلى أن توفي في رابع المحرم سنة خمس وثلاثين وستمائة، وكان بنابلس ألمير ظهير الدّين بن سنقر الحلبي في خدمة الملك الناصر، فكاتب النائب المقيم بعجلون، وبذل له أربعين ألف درهماً، وخلعة، ومركوباً، وقماشا، فسلمها إلى نواب الملك الناصر صلاح الدين داود. ولم تزل في يده ذي القعدة سنة تسع وثلاثين. وفيها استخدم الملك الناصر صلاح الدين داود ابن الملك المعظم الأمير سيف الدين علي بن قلج النوري، فأقطعه هذه القلعة فيما أقطعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ولم تزل في يده إلى أن تسلمها الملك الصالح نجم الدين أيوب أبن الملك الكامل، سنة ثلاث وأربعين وستمائة. ولم تزل في يده إلى أن توفي في الخامس عشر من شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة. وولي بعده ولد الملك المعظم. ولم تزل في يد نوابه إلى أن قُتل في المحرم سنة ثمان وأربعين، وملك الناصر صاحب حلب دمشق، فبذل لنوابه مالاً حتى سلْموه له، وانعم على قاضيه بألفي دينار فلم يأخذها. وبقي الحصن في يده إلى أن استولى التتر على البلاد وانقضت دولة الناصر، وخرج من دمشق هارباً. فلما نزل التتر على الحصن عصي عليهم من فيه فوصل إليه الملك الناصر المذكور، ودخله، وسلمه إليهم، وذلك في رجب فاستولى على جميع حواصله وذخائره وكان به جوارٍ للملك الناصر فأنزلوهن منه حفاةً عراةً، وهدموا شراريف القلعة. ولم يزل في أيديهم إلى أن كسروا على " عين جالوت " في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمئة، فتسلمه الملك المظفر، وأمر بعمارته. ولما قتل الملك المظفر في ذي القعدة من السنة، واستولى الملك الظاهر على البلاد المصرية والشامية صار إليه بعد أن ملك دمشق في صفر سنة تسع وخمسين وستمائة، فجدّده وعمره، ونقل إليه الذخائر، وولّى فيه عز الدين أيبك العلائي. ولم يزل في يده إلى أن نقله قلعة صفد لما فتحها وولّى فيه الأمير سيف الدين وهو بها إلى عصرنا الذي وضعنا فيه هذا الكتاب. ثم لما توفي الملك الظاهر ثامن عشري محرم سنة ست وسبعين صار إلى ولده الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة قان، فاستمر بيده إلى أن خرج الملك عنه لأخيه الملك العادل سيف الدين سلامش ليلة الاثنين ثامن عشر ربيع الآخر من سنة ثمان وسبعين، وولى أتابكيته الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي. فلم يزال في يد نواب الملك العادل إلى أن جلس السلطان الملك المنصور المذكور، على تخت الملك يوم الثلاثاء خامس عشري شهر رجب من سنة ثمان وسبعين، فسير إليه نوابه واستمر بيده ذكرُ ما في هذا الجند من البلادِ الساحلية وهي: عرقة - و جبيل - وصيدا - وبيروت - وأطرابلس فأما عرقة فمدينة قديمة في سفح جبل قليل العلوّ، والبحر منها على ثلاثة أميال. ولها في وسطها حصنٌ عالٍ حصين. وشرب أهلها من مياه تأتيهم من نهر يجري ملاصق لها، عليه أرحاء، وبها قصب السكر؛ وبناؤها بالجصّ والتراب. طولها ستّ درجة، وعرضها خمس وثلاثون درجة ودقيقتان. قال البلاذري: " أتى يزيد بن أبي سفيان بعد فتح دمشق - صيدا - وبيروت - وعرقة، وجبيل، وهي سواحل؛ وعلى مقدمته أخوه معاوية ففتحا فتحا يسيراً وأجلى كثيراً من أهلها. وتولى فتح عرقة معاوية بنفسه في ولاية يزيد. ثم إن الروم غلبوا على هذه السواحل في آخر خلافة عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - وأول ولاية عثمان، فقصدهم معاوية فأخرجهم عنها، ثم رمها وشحنها مقاتلة. قلتُ: ولم تزل ثغور الشام يتصرف فيها نواب من يلي الأجناد الشامية أيام بني أمية، وصدراً من أيام بني العباس إلى أن ملك العبيديون الشام، فاعتنوا بالثغور، فأفردوها، وولوا في كل ثغرٍ منها والياً من مصر، ورتبوا معه جنداً لحفظه من عدوٍ يقصده. ولم تزل " عرقة " يتصرف فيها نواب من يلي دمشق، إلى أن خرج ملك الروم " قانورا "، وقصد نواحي حلب وفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة فاستولى على كثير من بلاد الشام ثم سار إلى عرقة فأخذها وسبى أهلها في سنة تسع وخمسين وثلثمائة، وذلك في أول مُلك المصريين الشام. ثم خرج عن البلاد، فعاد المسلمون إليها وسنوها، واستمرت في أيديهم إلى أن قصدها باسيل ملك الأرمن فملكها، وهدمها، وانصرف عنها إلى بلاده وذلك في سنة تسعين وثلاثمائة. ثم عاد المسلمون إليها فعمروها. ولم تزل بعد في يد نواب من يلي دمشق إلى أن تغلب عليها خلف بن ملاعب لما ملك حمص، والأمير يومئذ على دمشق معلىّ حيدرة بن منزو من قبل المستنصر صاحب مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ولم تزل في يده إلى أن أخذ منه حمص تاج الدولة تتش وذلك في سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة. ولم تزل في يد تاج الدولة تتش، ثم في يد ولده شمس الملوك دقائق، من بعده، إلى أن نزل عليها الفرنج، وفيها نائب له فكتب إليه يستنجده، فبعث إليه ظهير الدين طغتكين الأتابك في عسكر، فالتقى بالفرنج وكانوا سمعوا بمجيئه فساروا إليه، ووقعتْ بينهما حرب كانت على الأتابك، فعاد إلى دمشق، ورجع الفرنج إلى " عرقة " فحاصروها، حتى نفذ قوت من فيها، وتسلّموها بالأمان. ولم تزل في أيديهم إلى أن فتحها الملك العادل نور الدين محمود سنة سبع وستين وخمسمائة. وبقيت في أيدي المسلمين إلى أن مات الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتخاذل أولاده بعضهم عن بعض، تغلب عليها البرنس صاحب أنطاكية وأطرابلس. ولم تزل في يده إلى أن قصدها السلطان الملك الظاهر ركن الدين، ففتحها عند فتحه " حصن الأكراد " في رجب سنة تسع وستين وستمائة. ولما وقعت بين السلطان الملك الظاهر وبين صاحب أطرابلس الهدنة على المناصفات في البلاد التي في يده، نزل له من " عرقة " ولم ينصفه عليها. وهي في يده في عصرنا الذي وضعنا فيه هذا الكتاب. جُبيل وهي مدينة حسنة على البحر، لها سور من حجر حصين. وليس بها ماء جار. وإنما يشرب أهلها من الآبار. لم تزل في يد من يلي دمشق منذ فتحت إلى أن انتقلت إلى المصريين، وولوا فيها من قبلهم. وجرى الأمر فيها على ذلك إلى أن تغلب أمين الدولة أبو طالب بن عمار قاضي " طرابلس " عليها، فيما تغلب عليه من بلاد الشام. ثم صارت من بعده لفخر الملك أخيه ولم تزل في يده، إلى أن أخرج الفرنج لحصار " أطرابلس "، فنزلوا على حصن " جبيل " وضايقوه حتى ملكوه بالأمان من نواب فخر الملك، ثم غدروا بأهله، وأستأصلوا أموالهم بأنواع العقوبات في سنة سبع وتسعين " وأربعمائة ". وقرأت في تاريخ ابن الأثير: أنها أخذت بالأمان بعد أخذ أطرابلس، وكان ابن عمار بها في ذي الحجة من سنة ثلاث وخمسمائة، وخرج سالماً إلى دمشق. ولم تزل في أيديهم إلى أن فتحها صلاح الدين يوسف بن أيوب في جمادي الأول سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. وبقي في أيدي المسلمين إلى أن باعته الاكراد للفرنج بستة آلاف دينار سنة تسعين وخمسمائة وهي في أيديهم إلى الآن. صيدا وهي على ساحل البحر. وعليها سور من حجارة تنسب لرجل من ولد كنعان بن حام. وكورتها كثيرة الأشجار، غزيرة الأنهار، لها أربعة أقاليم، متصلة بجبل لبنان، تشتمل على نيّف وستمائة ضيعة. وشربُ أهلها من ماء يجري إليها من جبلها في قناة. وبها عينُها المعروفة ينشأ بها في زمن الربيع سمكة على طُول الإصبع، منها الذكور وإناث، لها علامات يعرف بها النوعان، فإذا كان وقت سِفادها أخذت ثم جُففت، فإذا احتاج إليها منْ يريد أن يجمع ما شاء سُحقت بالماء وشُرب منه فلا يصيبه عجز ولا فتور. طالعها القوس والمشتري. لم يزال حكمها في الولايات حكم ما تقدمها من البلاد الجارية عند جند دمشق، إلى أن أخذها من نواب المستنصر تاج الدولة تتش صاحب دمشق، سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، فخرج إليها أمير الجيوش بدر المستنصري من مصر بعسكر فنازلها، وحاصرها حتى أخذها بالأمان، سنة اثنتين وسبعين، وأخرج منها نواب تاج الدّولة، وولّى فيها من قبله. ولم تزل في أيدي المصريين إلى أن نزل فيها بغدوين ثالث شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسمائة فسأله أهلها أن يُمهلهم مدةً عّينوها، فأجابهم بعد أن قرر عليهم ستة آلاف دينار مقاطعة. ثم رحل إلى القدس وعاد فملكها بالأمان بعد قتال سبعة وأربعين يوما. ولم تزل يد الفرنج إلى أن فتحها الملك الناصرُ صلاح الدين بالأمان بعد قتال شديد وحصار عتيد، في العشرين من جُمادى الأول سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. وبقيت في يده إلى أن صارت في يد ولده الملك الأفضل لماّ ملك دمشق فصارت إليه في سنة لثنتين وتسعين، فأقطعها لولده الملك المعظم، فأنعم بها على أخيه الملك المغيث. وبقيت في يده إلى أن استشعر الملك العادل من الفرنج نقض الهدنة التي كانت بينهم وبين الملك الناصر صلاح الدين لما غادروا على البلاد فبعث إليها من هدمها، وذلك في سنة ثلاث وتسعين.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ولم تزل في يد الملك المغيث يوسف ابن الملك المغيث إلى أن توفى في المحرم سنة ثلاثين وستمائة، في حصن كيفا فصارت في يد الأشرف الملك موسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. ولم تزل في يده إلى أن مات، وملك الملك الصالح إسماعيل دمشق فأعطاها فيما أعطى من البلاد للفرنج، فعمروها وحصنوها. وبقيت بأيديهم إلى أن قصدها الملك الناصر صلاح الدين صاحب حلب سنة إحدى وخمسين وستمائة، فأخذها عنوة، ثم صالحهم على أن تكون مناصفة. ولم تزل كذلك إلى أن ملك التتر البلاد فاستولى الفرنج عليها. وهي في أيديهم إلى عصرنا هذا. بيروت وهي على ضفة البحر. عليها سور من حجارة ولها بمقربة منها جبل فيه معدن الحديد. ولها غيضة أشجار صنوبر تتصل بجنوبها إلى جبال لبنان، تكسيرها اثنا عشر ميلا في مثلها. وشرب أهل بيروت من الآبار. وهي فرضة لدمشق، لم تزل في يد من يلي دمشق إلى أن عصى " الفتح " مولى مرتضى الدولة أبي نصر منصور بن لؤلؤ صاحب حلب على مولاه بقلعة حلب، ودعا بشعار الحاكم، وأخرجه من حلب، وسلمها لسديد الدولة أبي الحسن علي بن أحمد المعروف بالضيف في رجب سنة ستة واربعمائة، وعوضه عنها بيروت وصيدا وصور. وبقيت في يده إلى أن مات بمصر. إما في سنة ثمان أو تسع وأربعمائة. ثم صارت إلى نواب الحاكم، واستمرت في يد من يليها من نواب المصريين إلى أن قصدها تاج الدولة تتش، وفيها والً من قبل المستنصر، فاستولى عليها، وخرجت عن أيدي المصريين إلى الترك. ولم تزل في أيديهم إلى أن قصدها الفرنج وفيها نواب ظهير الدين فملكوها قهراً وغلبة؛ وذلك بعد قتال لم تشاهد الفرنج مثله يوم الجمعة حادي وعشرين شوال، سنة ثلاث وخمسمائة. ولم تزل في أيديهم إلى أن قصدها الملك الناصر صلاح الدين، فنازلها، وضايقها، حتى ملكها يوم الخميس التاسع والعشرين، من جمادي الأول سنة ثلاث وثمانين. وخمسمائة ولماّ ملكها أقطعها عز الدين أسامة. ولم تزل في يده إلى أن ملك الملك العادل، وانقضت الهدنة التي قررها صلاح الدين، فأرادوا قصد " بيروت " فسبقهم إليها جيش الملك العادل يريد خرابها فمنعه أسامة، وتكفل بحفظها من الفرنج. ورحل الفرنج عن " عكا " إلى " صيدا "، وعاد عسكر المسلمين من بيروت فالتقوا بالفرنج تاسع ذي الحجة سنةثلاث وتسعين وخمسمائة، فاستظهر الفرنج عليهم، وساروا إلى بيروت فأخذوها عفواً صفواً بغير قتال. وما زالت في أيديهم إلى عصرنا الموضوع فيه هذا الكتاب. أطرابلس وهي مدينة عظيمة لها سور من حجر منيع. ولها رساتيق وضياع جليلة. وأرضها غورية كثيرة قصب السكر. والبحر يأخذها من ثلاث جهات لها. وينضاف إليها عدة حصون. وكانت تضاهي دمشق في البساتين، فقطع أشجارها السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس صاحب الديار المصرية عند نزوله عليها - وسنذكره - طولها سبعون درجة ونصف، وعرضها أربع وثلاثون درجة. قال البلاذري: " لما استخلفت عثمان وولي معاوية الشام وجه معاوية سفيان بن مجيب الأزدي إلى أطرابلس وهي ثلاث مدن مجتمعة. فبنى في مرج على أميال منها حصنا يسمى " حصن سفيان ". وقطع المادة عن أهلها من البحر وغيره، وحاصرهم. فلما اشتد عليهم الحصار اجتمعوا في أحد الحصون الثلاثة، وكتبوا إلى الملك الروم يسألونه أن يمدهم أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى ما قبلهُ. فوجه إليهم مراكب كثيرة فركبوها ليلاً وهربوا. فلما أصبح سفيان وكان كل ليلة يبيت في حصنه ثم يغدو على العدو فوجد الحصن الذي كانوا فيه خالياً. فكتب بالفتح المبين إلى معاوية فأسكنه جماعة كثيرة من اليهود. وهو الذي فيه الميناء اليوم ". وقال البلاذري: " وكان معاويه يوجّه في كل عام إلى أطرابلس جماعة كثيفة من الجند يشحنها بها، ويوليها عاملاً، فإذا انغلق البحر قفل العسكر، وبقي العامل في جُمَيعَةٍ يسيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فلم يزال الأمر فيها جارياً على ذلك حتى ولّي عبدُ الملك ابن مروان، فقدم في أيامه بطريق من بطارقة الروم ومعه خلق كثير، فسأل أن يعطي الأمان على أن يقيم بها ويؤدي الخراج، فأجيب إلى مسألته، فلم يلبث إلا سنتين أو أكثر منها بأشهر حتى تحقق قفول الجند عن المدينة أغلق بابها، وأسر من معه من الجند وعدّة من اليهود، ولحق وأصحابه بأرض الروم. فقدر المسلمون عليه بعد ذلك وهو متوجه إلى ساحل للمسلمين في مراكب كثيرة فقتلوه. ويقال: بل أسروه، وبعثوا به إلى عبد الملك فقتله، وصلبه. ويقال: بل تغلب عليها وقتَل من فيها بعد موت عبد الملك، ففتحها الوليد بن عبد الملك ". ولم تزال أطرابلس يتصرف فيها من يلي دمشق منذ فتحت أيام بني أمية وصدراً من أيام بني العباس إلى أن استولى على دمشق العبيديون لما ملكوا مصر، فأفردوها عن دمشق، وولَّوا فيها من جهتهم. وأول من وليها ريان الخادم، ثم سند الدولة، ثم أبو السعادة، ثم عليّ بن عبد الرحمن بن حيدرة ثم نزل ثم مختار الدولة بن نزال. وهؤلاء الولاة لم يتصل بي مدد إقامتهم في الولايات. ثم تغلب عليها قاضيها أمين الدولة أبو طالب الحسن ابن عمار. ولم يزل بها إلى أن توفي سنة أربع وستين وأربعمائة. وكان ابن عمار هذا من أعقل الناس، وأسدهم رأياً، فقيهاً على مذهب الشيعة. وكانت له دار علمٍ بأطرابلس، فيها ما يزيد على مائة ألف كتاب وقفا. وهو الذي صنف كتاب " ترويح الأرواح، ومفتاح السرور والأفراح " المنعوت " بجراب الدولة ". ولما مات كان بأطرابلس سديد الملك بن منقذ هارباً من محمود بن صالح، فشدّ من جلال الملك أبي الحسن بن عليّ بن محمد بن عمار، وعضده بمماليكه ومنْ كان معه فأخرجوا أخا أمين الدولة من أطرابلس، وولّي جلال الملك. ولم يزل متوليا عليها إلى أن توفي في سلخ شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. وملكها بعده أخوه فخر الملك عمار بن محمد. وبقي مالكها إلى أن نزل عليها صنجيل بجموعه في شهر رجب سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وحاصرها وضايقها، وأناخ عليها بخيله ورجله. فبعث فخرُ الملك إلى الملوك بالهدايا والتحف يستنجدهم، ويستصرخهم، فلم يُعنْهِ أحد منهم. فلما لم ير منهم معاضدةً ولا مساعدةً، رغب إلى " صنجيل " في رحيله عنه، وبذل له أموالاً وبعث إليه ميرة، وتضرع جهده، فلم ينفعه ذلك عنده. فلما ضاق بالحصار ذرعاً وعجز عن دفع العدوّ عنه، خرج من أطرابلس قاصداً السلطان محمود بن ملكشاه واستناب فيها ابن عمهّ " أبا المناقب " ورتب معه سعد الدولة فتيان بن الأعسر. ونفق في الجند ستة أشهر، فجلس أبو المناقب في بعض الأيام في مجلسه وعنده وجوه أهل أطرابلس، فخلط في كلامه فنهاه سعد الدولة، فصاح، وقال: " لا يا سيدي، لا يا سيدي ". ثم جرد سيفه وضرب سعدَ الدولة فقتله، وانهزم من كان في المجلس، فقطع سعد الدولة إرباً إربا. وقام من المجلس، وصعد إلى السور، وجعل يصفق بإبطيه ويهنبط، فقام أهلُ البلد وقبضوا عليه، واعتقلوه، ونادوا بشعار الأفضل ابن أمير الجيوش، وذلك في شهر رمضان سنة خمسمائة. وفي ثامن وعشرية هلك صنجيل، وتولى مقدّم يسمي السرداني. ولما بلغ الأفضل ما فعله أهل أطرابلس جهز إليهم جيشاً في البحر، وجعل مُقدمهُ تاج العجم، فعمد تاج العجم إلى أخذ جميع أمواله، وما يحفظ البلدية، فرقي إلى الأفضل أنه يريد العصيان بأطرابلس، فقبض على ما كان حمله في المراكب. وولّي بدر الدولة ابن الطيب الدمشقي، فوصل إلى أطرابلس، وكان أهلها قد ضاقت صدورهم من طول الحصار، ثم رأوا من تخلفه ما رغبهم عنه ونفرهم منه فعولوا على طرده، ثم رأوا إبقاءه لأنهم لا ملجأ لهم إلا المصريين. ووصلت من مصر مراكب بالغلات والرجال، فقرّر المذكور مع مقدّمي الأسطول البحرية وأعيان البلد وأصحاب فخر الملك وحريمه. فأخذهم وسيرهم في المراكب معهم إلى مصر. وبعث معهم ما كان بأطرابلس من السلاح والذخائر ما لم يكن عند أحد مثله من الملوك، ومائة ألف دينار، فاعتقل أهل بني عّمار بمصر. وكان فخر الملك لما خرج من أطرابلس سار في البحر إلى بيروت، وقصد دمشق فالتقى بأتابك طغتكين، فأكرمه وسيّر معه ولده تاج الملوك بوري، فوصلا إلى بغداد واجتمعا به فقابلهما بالإكرام وردّ تاج الملوك إلى والده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وأقام فخر الملك بباب السلطان إلى أنس من نصرته، وبلغه رجوعُ أطرابلس إلى المصريين، ونقل حريمه وأمواله وذخائره وسلاحه، فانكفأ راجعاً إلى دمشق. فدخلها في النصف من المحرم سنة اثنتين وخمسمائة، فأكرمه وأحسن لقياه، وسأله أن يعينه إلى الوصول إلى " جلبة " فأجابه، وسير معه عسكرا إليها فدخلها. ولم تزل الفرنج على أطرابلس مجدين في حصارها، وأهلها يتكرر استصراخهم إلى الملوك ولا يجابون، وضعفوا عن مدافعة العدو وممانعته. وعمل الفرنج أبراجاً وأسندوها إلى السور، وأشرفوا بها على البلد وأوصلوا منها النكاية إلى كل أحد، فطلبوا الأمان فأجيبوا. واستعجل بعض الجند في النزول إلى البر قبل إحكام عَقد الأيمان، فدخل الفرنج من حيث خرج الجندي، فقتلوا وسبوا من كان فيها، وأخذوا ما لا يحصى من السلاح والمال. وذلك في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسمائة بعد أن حاصروها سبع سنين وأربعة أشهر. ولم تزل في أيديهم - خذلهم الله - إلى أن ملك مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس بلاد مصر والشام، فشن عليها الغارات مرة بعد أخرى، إلى أن نزل عليها في شوال سنة تسع وستين. وملكها حينئذ البرنس بيمند صاحب أنطاكية، فصالحه ودخل تحت طاعته، وناصفه على جميع ما في يده من البلاد. وسيأتي ذلك مفصلاً. ما كان في يد الفرنج حصن ابن عكار - وحصن الاكراد - وشقيف تيرون فأما حصن ابن عكار فطوله سبعون درجة وعشرون دقيقة، وعرضه أربع وثلاثون درجة وخمس عشرة دقيقة. ويغلب على ظني أنه محدث البناء، لأني لم أجد له ذكراً فيما طالعته من كتب التواريخ المتقدمة في التأليف. والذي وصل علمي أليه، ووقف اطلاعي عليه، أن بانيه محرز بن عكار، ولم يزل في يد عقبة إلى أن ملكه منهم أسدُ الدولة صالح بن مرداس في سنة " ست " عشرة وأربعمائة. ولم يزال في يده إلى أن قتل على " الأقحوانة " بالأردن في سنة عشرين وأربعمائة، فاستولى عليه متولّي أطرابلس من قبل الظاهر ابن الحاكم صاحب مصر. ولم تزل بأيدي نواب العُبيديين إلى أن تغلبت التركُ على الشام، وملك تاج الدولة تتش دمشق، فاستولى عليه. وصار في أيديهم إلى أن سلمه ظهير الدين طغتكن الأتابك للفرنج سنة ثلاث وخمسمائة، مصانعة، بعد أن ملكوا أطرابلس وعجز عن دفعهم عن البلاد المجاورة لدمشق. ووقعت بينهم الهدنة على أن يكن حصن مصياف وحصن الأكراد، داخلين في الموادعة، ويحمل أهلها مالا معينا في كل سنة على الفرنج فأقاموا على ذلك مدة يسيرة ثم غدروا وعادوا إلى عادتهم من العيث والفساد. وأما حصن الأكراد فحكى منتجب الدين يحيى بن أبي طيء النجار الحلبي في تاريخه، في سبب نسبته إلى الأكراد: أن شبل الدولة نصر بن مرداس صاحب حمص أسكن فيه قوما من الأكراد في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة فنسب إليهم، وكان من قبل يسمى " حصن السفح ". طوله سبعون درجة وخمس وعشرون دقيقة، وعرضه أربع وثلاثون درجة وثلاثون دقيقة. ولم أطلع بعد سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة على شيء من أخباره إلى أن كانت أيام الأتابك ظهير الدّين طغتكن بدمشق، وقعت الهدنة التي قدمنا ذكرها. ثم خرج بعدها طنكريد صاحب إنطاكية في حشده وجنده، فنزل على حصن الأكراد، فتسلمه من أهله في بقية سنة ثلاث وخمسمائة. ولم تزل الفرنج في هذا الحصن غير مكترثين بالجيوش، ولو كانوا في أكثر من القطر عدداً. وأغزر من البحر مدداً. يشنون منه الغارات. ويدركون الثارات. ويتوقلون منهما في الرافعة برجيْ سماء. ويتسلطون بهما على استنزال مولانا السلطان الظاهر، فأنهد إليهما عزمات تُباري الرياح الهوج. ويقصر عمّا يناله أيدي فتكاتها عوج. فأوطأ غوريهما ونجديهما رجاله وخيله. ودأب في قتالهما نهاره وليلة. حتى أخذ من فيه بالنواصي. وأنزلهم من أحسن القلاع والصياصي. شرح الحال في ذلك: نزل - أيده الله بنصره - على حصن الأكراد، يوم الثلاثاء تاسع عشر رجب، ونصب أسواره المجانيق. وكانت له ثلاث أسوار وثلاث باشورات وواصل الحصار إلى أن هدم الأسوار يوم الأربعاء العشرين من الشهر. ثم أخذت إحدى الباشورات في الحادي والعشرين، وتأخر ما بقي منها لترادف الأمطار، إلى أن فُتحت الثانية، يوم السبت سابع شعبان، وتعرف " بالحدادية ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ثم فُتحت يوم الأحد الخامس عشر من شعبان، على يد نقابي الملك السعيد ومباشرة ملك الأمراء بدر الدين بيليك الخزندار. ثم دخلت العساكر الحصن بالسيف، وقتلوا من فيه من الإسبتار، وأسروا الجبلية، وعفا عن الفلاحين لعمارة البلاد. فلما رأى أهل القلعة ما حل بأهل البلد، طلبوا الأمان، فأجيبوا. وتسلمها مولانا السلطان يوم الاثنين خامس وعشرين شعبان. وخرج من فيها إلى أطرابلس يسر الله فتحها. ثم رحل السلطان بعد أن ترك عليه الأمير عز الدين أيبك الأفرم لعمارة أسواره، وولى فيه نائبا، ونزل على حصن ابن عكار، يوم الثلاثاء ثالث عشري شهر رمضان، وكان به قوم من الفرنج سفهاء لا يفترون عن قول القبيح فنصب عليه المجانيق، ورماه بحجارتها من يومه. وفي اليوم الثاني من نزوله، وصل المولى الصاحب بهاء الدين، وأنا معه في خدمته من دمشق. وكان خروجه منها يوم الخميس تاسع عشري الشهر. فلما لقي السلطان سُر به، وقال له: " ببركات قدومك تفتح هذا الحصن " وأمر أن تضرب خيمتُه قريباً من خيمته. ثم اجتمعت به وقلت له: " استعجل مولانا الصاحب في المجيء من دمشق، والقلعة حصينة يطول المقام عليها ". فقال لي: " طيبْ قلبك ما نعيد حتى يأخذها مولانا السلطان ". وتقدم السلطان للأمراء بقطع الأحطاب من الشَّعاري للنقوب، ونقل الحجارة من المجانيق. وجدّ في القتال، ودأب في النزال إلى أن رمى بالمجانيق الذي كان منصوباً، قبالة البرج الشرقي، حجارة عديدة فتحت طاقة في جانب البدنة، وذلك يوم الأحد ثاني عشري التاسع والعشرين، فخرج منهم رسول يطلب لهم الأمان ودام تردّده إلى أن استقر والقاعدة إلى أن يأمنهم من القتل ويمكنهم من الوصول إلى أطرابلس. وتسلم مولانا السلطان الحصن ورفعت سناجقه عليه، وسألوه أن يبيتوا في القلعة، فأجابهم. وخرجوا بكرة الثلاثاء سلخ الشهر، وسيرهم السلطان بأجمعهم صحبة الأمير بدر الدين بيسري، فأوصلهم إلى أطرابلس. ثم دخل الحصن وأشرف عليه، ورتب فيه نواباً وأمره بحمل المجانيق إلى حصن الأكراد، فحملها الأجناد على أكتافهم، لأن الأمطار ترادفت فلم يكن للجمال نهوض على الأرض خوفاً من الزلق في اللَّثَق. وعيََّد السلطان عيد الفطر يوم الأربعاء، ثم رحل إلى " بُرج صافيتا "، حتى تكامل عسكره. وكان هذا الحصن صغيراً فلما أطلق ريدَ افرنس من الأسر سنة ثمان وأربعين، عاد إلى الساحل وطاف بلاده، فرأى هذا الحصن فاستصغره، فزاد فيه زيادة كثيرة من ناحية الجنوب، ورفع بناءه وهو على جبل يحيط به جبال مشرفة عليه، والله أعلم. وهو بيد مولانا السلطان الملك الظاهر رُكن الدين إلى تاريخنا هذا. ثم انتقل إلى ولده الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة بحكم وفاته - قدس الله روحه -. فلما خرج المُلْكُ عن الملك السعيد إلى أخيه الملك العادل سيف الدين سلامش ليلة الاثنين ثامن ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين، صار الملك العادل إلى أن جلس السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي العلائي على تخت الملك يوم الثلاثاء حادي شهر رجب الفرد سنة ثمان وسبعين، فاستمرّ بيده. الباب الرابع في ذكر بلاد جند الأردن ومن ملكها طبرية - بيسان - بانياس - صفد - هونين وتبين - شقيف أرنون - شقيف تيرون - كوك - قلعة الطور - صُوْر - عكا - حيفا. قال أبو العباس أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب ابن واضح في " كتاب البلدان ": ولجند الأردن من الكور: طبرية وهي القصبة. والقدس من أجل كورها. والسّواد. وبيسان. ولم يذكر بانياس ولا ذكرها ابن حوقل أيضاً، وكأنها في غالب الظن مُحدثة. هذه الكورة البرية. فأما كورة البحرية: فصور. وعكا. وحيفا. ولم يذكر ابن أبي يعقوب ولا ابن حوقل " حيفا " وكأنها محُدثة أيضا. والله أعلم. قلتُ: لم يزل الأردن وفلسطين في يد بني أمية ونوابهم إلى أن انقرضت دولتهم، في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وبويع السفاح عبدُ الله بن محمد فهزمه واستولى على بلاد الشام بأسرها في شوال سنة اثنتين وثلاثين، وولَّى فيها من قبله. ولم تزل بلادُ جُنديْ الأردن وفلسطين في يد نواب بني العباس، إلى أن وليها عيسى بن الشيخ من قبل المهتدي سنة اثنتين وخمسين ومائتين، فأظهر الخلاف عليه، وتغلب على دمشق في سنة خمس وخمسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ولم يزال متغلباً إلى أن ولي المُعتد الخلافة، فبعث إليه " أماجور " بجيش فأخرجه عن البلاد، واستولى على ما كان بيد " أماجور "، وولى فلسطين والأردن محمد بن رافع وبقيا في يده إلى أن خرج أحمد بن طولون من مصر وسار إلى " الرملة " قتلقاه محمد بن رافع سامعاً مطيعاً فأقرَّه على ولايته. ولم تزل في يده إلى أن توفي أحمد بن طولون، في ذي القعدة سنة سبعين ومائتين وتولّى ولده خُماريه، فأظهر محمد بن رافع الخلاف عليه. ودعا لأبي العباس أحمد بن أبي أحمد الموفق فجهز خمارويه محمد بن أحمد الواسطي وسعيداً الأيسر، فقصدا فلسطين والأردن وطردا ابن رافع عنهما. فوصل المعتمد إلى دمشق. ثم توجه إلى مصر وخرج إليه خمارويه منها، فالتقيا في ذي القعدة على " الطواحين " من عمل فلسطين الساحل. وهذه الواقعة تعرف " بالطواحين " فانهزم خمارويه، ثم تراجع، ووقعت الكسرة على " المعتمد " واستولى " خمارويه " على الأردن وفلسطين. ولم تزل في يده نوابه إلى أن قتل بدمشق في ذي القعدة، سنة اثنتين وثمانين ومائتين. وولّي بعده ولداه أبو الجيش، ثم هارون. ولم يزل الأردن وفلسطين في أيديهما إلى سنة سبع وثمانين. وفيها قصد الشام عليّ بن عبد الله القرمطي واستولى على فلسطين، فسير هارون من قبله عسكرا كسر القرمطي واستولى على الجنديْن، وولّى فيهما مولاه صوارتكين. وبقيا في يده إلى أن بعث المكتفي محمد بن سليمان الواثقي، ودخل دمشق. ثم خرج منها وسار إلى الأردن وفلسطين فسلمها له صوارتكين فولى فيهما أحمد بن كيغلغ ثم عاد إلى بغداد. فاستخلف عليهما أحمد بن كيغلغ يوسف ابراهيم، فقصد القرامطة بلاد الشام واستولوا على الأردن، وقتلوا يوسف وذلك سنة ثلاث وتسعين ومائتين، فقصده عسكر المكتفي فطرده عن البلاد. وعادت إلى نواب أحمد بن طولون واستمرت في أيديهم إلى أن عقد المقتدر لولده أبي العباس وهو ابن أربع سنين على الشام ومصر، وولى عليهما نيابة عنه مؤنس المظفر وذلك في سنة إحدى وثلاثمائة. ثم صارت إلى محمد بن طغج الإخشيد في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ولم تزل في يديه إلى أن وصل محمد بن رائق إلى دمشق من قبل الرّاضي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. ثم خرج منها واستولى على الأردن وفلسطين، فخرج إليه الإخشيد من مصر وهزمه وأسر ولده. ثم تدعيا إلى الهدنة على أن تكون فلسطين للأخشيد مع مصر، ويكون الأردن لمحمد بن رائق. ولم يزال الأمر فيهما على ذلك إلى أن قتل ابن رائق، فولى المتقي الإخشيد أجناد الشام ومصر. ودامت ولايتها في يده وفي يد عقبة من بعده إلى أن ملك القائد جوهر مصر، وخرج منها إلى الشام. وكان إذ ذاك متولياً على دمشق والأردن وفلسطين الحسنُ بن عبد الله ابن طغج. فلما بلغه ذلك خرج إلى " الرملة " في شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة فقصده " جوهر " وكسره وأسره، واستولى على فلسطين والأردن ودمشق. ولم تزل في يده إلى أن استولى الحسين القرمطي على الأردن وفلسطين في سنة ستين. وبقيا في يده إلى أن كسر على القاهرة في شهر رمضان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة واستعيدت البلاد. ولم يزل جندُ الأردن وفلسطين يليهما نواب العبيديين أصحاب مصر، وجرى الأمر على ذلك إلى أن تغلبت الترك على الشام، فتفرقت بلادها في أيدي المستولين عليها. وهذا الذي سقناه قول مجمل تدعونا الضرورة إلى تفصيله. فأما بلاد جند الأردن فان بلادها قسمان كما قلنا فيما حكيناه عن أبي يعقوب: بَرّيَّة وبحرية. وقصبته طبرية: قرأت في تاريخ " محبوب بن قسطنطين " ما صورته: " ملك طبياروس قيصر ثلاثاً وعشرين سنة، وكان عمره ثمانيا وسبعين سنة. وفي أول سنةٍ من مُلكه عرضت زلازل عظيمة، وسقطت منها مواضع كثيرة. وفي السنة السابعة من ملكه بنى " هرودس " مدينة، وسماها طبرية على اسم طبياروس الملك. وهي في سفح جبل مطل على البحيرة المنسوبة إليها، وعليها سور حصين. وبها حمامات تنصب إليها مياه حارّة من حمامات في الشتاء والصيف. ماؤها في أول خروجه يسمط من الجلد ويسلق فيه البيض. ومن خارجها أيضا حمامات يقصدها أرباب العاهات من المجذومين والمجروبين والمفلوجين فيتعالجون بالاستحمام بمائها، فتزول عنهم أوصابهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وأما بحيرتها: فطولها اثنا عشر فرسخاّ، وعرضها فرسخان. ماؤها حلو، يخرج منه " نهر الأردُنّ " المعروف " بالشريعة "، ويصبّ في البحيرة الميتة. وهذه البحيرة في طرف الغور، لا يعيش فيها حيوان ولهذا سُميت بالميتة، وبعض الناس يسميها بالمنتنة. ويقال إن موضعها ديار قوم لوط. طولها: ثمان وستون درجة وخمس وأربعون دقيقة، وعرضها: اثنتان وثلاثون درجة. صاحب ساعة بنائها المريخ، وطالعها الدالي وزحل. قال البلاذري: " افتتح شرحبيل بن حسنة الأردن عنوة، خلا طبرية، فإن أهلها صالحوه على أنصاف منازلهم وكنائسهم بعد حصار أيام. ثم إنهم نقضوا الصلح في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأمر أبو عبيدة عمرو ابن العاص بغزوهم، فسار إليهم في أربعة آلاف، ففتحها على مثل فتح شرحبيل. وقيل بل فتحها شرحبيل ثانية بغير قتال ". لم تزل طبرية في يد من يلي الجند منذ فُتحت إلى أن كانت دولة المستنصر العُبيدي صاحب مصر. وفيها قصدها أتسز بن أوق التركي فملكها، وذلك في سنة اثنتين وستين وأربعمائة. وبقيت في يده إلى أن قتله تاج الدولة تتش، وأخذ منه دمشق، واستولى على ما كان بيده من البلاد. ولم تزل في يده ولده شمس الملوك دقاق من بعده إلى أن قصده الفرنج بلاد الشام في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، فملكوا القدس وما صاقبها من البلاد. فخرج ظهير الدين طغتكين أتابك شمس الملوك دقاق إلى " طبرية "، فأخرج منها مصحفا كان فيها من المصاحف التي سيرها عثمان - رضي الله عنه - إلى الأمصار. وحمله إلى دمشق، وكاني يوم دخوله إليها يوماً مشهوداً. ثم ساروا إليها فملكوها. وبقيت في أيديهم إلى أن وقع ظهير الدين بجرفاس القومص صاحب طبرية في شوال سنة إحدى وخمسمائة، وقرر قحف رأسه، وشرب به الخمر وهو ينظر إليه، وعاش ساعة ثم مات. ولم يملك طغتكين " طبرية ". وبَنَت الفرنج في طبرية قلعة - لما ملوكه - على بحيرتها. ولم تزل في أيديهم إلى أن فتحها السلطان الملك الأشرف الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. وأقطعها الأمير سعد الدين مبارك بن تميرك، وملم تزل في يده مدة أيام الملك الناصر، وبعده في أيام ولده الملك الأفضل وبعض أيام الدولة العادلية، إلى أن توفي سعد الدين المذكور سنة ثمان وستمائة. وانتقلت إلى ولده فتح الدين أحمد، فانضم إلى خدمة الملك المعظم شرف الدّين عيسى ابن الملك العادل، فقايضه بصفد وطبرية، تسعين قرية من خبز الصخرة بنابلس والقدس. واستمرت طبرية في يد نواب الملك المعظم شرف الدين عيسى إلى أن توفي في ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة. وملكها بعده ولدهُ الناصر داود. ولم تزل في يده إلى أن خرج الملك الكامل من الديار المصرية فملكها. ولم تزل في يد نُوابه إلى أن توفي في رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة، واستولى عليها الملكُ الجواد بحكم النيابة عن الملك العادل ابن الملك الكامل. ولم تزل في يد الملك الجواد إلى أن قايض دمشق بسنجار وملك الملك الصالح نجم الدين أيوب " طبرية "، واستمرت في يده إلى أن قبض عليه، وحمل إلى الكرك، وملك الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل دمشق وطبرية. وأعطاها الملك الصالح عماد الدين إسماعيل للفرنج فيما أعطاه من البلاد، في أوائل سنة ثمان وثلاثين وستمائة فعمروها. ولم تزل في أيديهم إلى أن فتحها عسكر الملك الصالح نجم الدين أيوب عنوة، على يد وزيره ومقدّم جيوشه معين الدين بن الشيخ. وبقيت خراباً وبلادهما في يد الملك الصالح نجم الدين أيوب، إلى أن توفي في شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة. وملكَ بلادَ طبرية الملك المعظم تورانشاه ولده، فلم تزل في يده، إلى أن قتل في المحرم سنة ثمان وأربعين وستمائة. وملك دمشق الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز محمد بن غازي بلادها، والمدينة خراب. ولم تزل في يد الملك الناصر إلى سنة اثنتين وخمسين وستمائة، صالح الكند إسطبل على أن تكون " طبرية " مناصفة، وكان نُصفها للفرنج ونصفها للملك الناصر. واستمر ذلك إلى انقضاء الدولة الناصرية في صفر سنة ثلاث وخمسين وستمائة. فاستولى عليها التتار فيما استولوا عليه من البلاد. ولم تزل في أيديهم إلى أن كسروا في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فاستمرت في يد الفرنج إلى أن ملك السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس - خلد الله ملكه - صفد في شوال سنة أربع وستين وستمائة، فاستولى على طبرية وبلادهما. وهي في يده إلى تاريخ وضعنا كتابنا هذا، وهو سنة أربع وسبعين وستمائة. فأمر بعمارتها فعمرت. وجمع إليها أهلها إلى الآن. بيسان وهي مدينة الغور. ولها قلعة صغيرة من بناء الفرنج محدثة. يحيط بها الماء من سائر جهاتها، يُعبرُ إليها على جسر. والغور: مكان غائر في الأرض جداً بين جبلين. فيه قرى وضياع، تخترقها العيون والأنهار والأودية. وأهله سمر الألوان إلى السواد لحرارته. ولهذا به النخل وقصب السكر، والموز. وهو على قسمان - على ما حكاه ابن حوقل -: " حدَّ منه الأردن إلى أريحا وبَيْسان، فإذا جاوزها كان من حدِّ فلسطين، وهو يمتد مع طول بحيرة طبرية على بيسان حتى ينتهي إلى زغر وارداً إلى البحيرة الميتة، وإذا امتدَّ فيه السائر أداه إلى أيلة ". لم يزل حكم بيسان في الولايات حكم سائر بلاد الأردنّ في الانتقالات، إلى أن استولى عليها الفرنج في سنة اثنتين وتسعين عند استيلائهم على القدس. ولم تزل في أيديهم إلى أن فتحها الملك الناصر صلاح الدين يوسف في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. واستمرت في يده وأيدي بنيه - على الترتيب الذي تقدّم ذِكره - إلى أن استولى عليها التتار فيما استولوا عليه في صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة. وملكها الملك المظفر سيف الدّين قُطُز في رمضان من السنة المذكورة. وملكها السلطان الملك الظاهر في ذي الحجة من السنة، واستمرت في يده إلى تاريخ وضع هذا الكتاب، وهو سنة أربع وسبعين وستمائة. ثم لما توفي الملك الظاهر في ثامن عشري محرّم سنة ست وسبعين، صار إلى ولده السعيد ناصر الدين محمد بركة قان. فلم يزل في يده إلى أن خرج الملك عنه لأخيه الملك العادل سيف الدين سلامش ليلة الاثنين ثامن عشر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين، وولي تدبير ملكه وأتابكية عسكره الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي العلائي، فسير إليه نواباً عن الملك العادل. فلم يزل بأيديهم إلى أن جلس السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي المذكور على تخت الملك، يوم الثلاثاء حادي عشر شهر رجب الفرد من سنة ثمان وسبعين، فسير إليه نوابه، فهو بأيديهم إلى الآن. بانياس وهي مدينة مكورة " الجولان ". ولها قلعة تسمى " الصُبيبة " بناها الفرنج بعد الخمسمائة. طولها ثمان وسبعون درجة وثلاثون دقيقة. وعرضها ثلاث وثلاثون درجة. طالعها برج السنبلة هرة صاحب ساعة بنائها الزهرة. لم يتصل بعلمي شيء من مبدأ أمرها إلاّ ما قرأته في تاريخ لطيف لأحد بني منقذ، وهو عبد الرحمن بن محمد: أن بانياس سلّمت لينال التاجي، ولم يذكر ممن تسلمها في سنة إحدى وخمسمائة. ثم إن طنكريد صاحب إنطاكية وصل إلى أطرابلس لمحاكمة بين صاحب أطرابلس وبين صنجيل، في سنة اثنتين وخمسمائة. ثم عاد فنزل على بانياس، والقوتُ فيها قليل جدا، فلم يمانع، فدخلها، ونهبها، ورحل عنها. فخرج إليها ظهير الدين طغتكين، فرم شعثها، وأصلح فاسدها، وولاَّها الأمير مسعود، فأقام فيها إلى سنة ست وخمسمائة. ثم عزله عنها، وولاّه " صور "، وأقطعها ولده الملوك بُوري. ولم تزل في يده إلى أن صانع بها " ظهير الدين " خواجا بهرام، داعي الباطنية في سنة عشرين وخمسمائة. وكان هذا الرجل في غاية الاستتار والاختفاء، وتغيير الزيّ بحيث يطوف البلاد والمعاقل، ولا يعرف أحد شخصه إلى أن حصل في دمشق بتقرير قرره نجم الدين إيغازي بن أرتق مع الأمير ظهير الدين طغتكين أتابك، فأكرم لاتقاء شره وشرّ جماعته. فلما تأكدت بينهما الحرمة التمس من ظهير الدين حصناً يأوي إليه، ومعقلا يحتمي به، ويعتمد " عليه " فسلم إليه ثغر بانياس. وما زال به إلى أن خرج بجمعه وحشمه قاصداً حرب أهل " وادي التيم ". فلقوْه في الطريق، ومقدم ضحاك ابن جندل، واقتتلوا فقتل ومنْ نعه. وعجّل الله بأرواحهم إلى النار، وأخلى منهم المنازل والديار، وذلك في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وبقي في بانياس نائبه إسماعيل فأرسل إلى الفرنج يبذل لهم تسليم الحصن ليأمن بهم. فوصلُوه، وتسلَّموه منه، وأقام تحت أيديهم حتى هلك في أوائل سنة أربع وعشرين. فاستولى عليه الفرنج وبقي في أيديهم، إلى أن سار إليه شمس الملوك إسماعيل ابن تاج الملوك بوري بن ظهير الدين طغتكين الأتابك، ونزل عليه يوم الأربعاء رابع عشري المحرم سنة سبع وعشرين وخمسمائة. وذكر بعض جماعة أن قلعة " الصبيبه " بُنيت بعد مُلكها الفرنج سنة أربع وعشرين، وهم الذين أنشأُها. فملكه عنوة في يومه بعد قتال وحصار. وبقي في يده إلى أن سَّلمه شهاب الدين محمود ابنُ تاج الملوك بوري، لما ملك دمشق لفلك بن فلك صاحب بيت المقدس سنة أربع وثلاثين. وبقي في يد الفرنج إلى أن ملك الملك العادل نور الدين محمود دمشق في سنة وأربعين وخمسمائة فنزل على بانياس، فاخذ في يوم الاثنين مستهلّ ذي الحجة سنة تسع وخمسين وخمسمائة. وبقيت في يده إلى أن مات وانتقلت لولده الصالح إسماعيل. فلم تزل عليها إلى أن استولى عليها فيما استولى عليه من البلاد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب فأعطاها ولده الأفضل لما أعطاه الشام. وبقيت في يده إلى أن استولى عليها الملك العادل عند أخذه دمشق، فأقطعها ولده العزيز عُثمان. وبقيتْ في يده إلى أن توفي في شهر رمضان سنة ثلاثين وستمائة. وملك بعده ولدهُ الملك الظاهر. ثم توفيّ في بقية السنة وولي بعده أخوه الملك السعيد. وبقيتْ في يده إلى أن أخذها منه الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل في سابع عشر ذي الحجة سنة أربع وأربعين وستمائة. ولم تزل في يده إلى أن توفي فخرج الملك السعيد من مصر وتسلم القلعة من غلمان أبيه، وكانوا بها من جهة الملك الصالح. وبقي فيها إلى أن ملك الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز محمد دمشق، فخاف منه فخرج عن القلعة إلى مصر. وبقيت في يد نوابه. ثم إنه خرج من مصر، فقبض عليه عسكر السلطان الملك الناصر فحملوه إليه، فحبسه في قلعة " البيرة، وبعث إلى القلعة من تسلمها في شهر رمضان سنة تسع وأربعين وستمائة. وبقيتْ في يده إلى أن انقرضت دولته، واستولى التتر على البلاد في صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة، فأخرجوا الملك السعيد من " البيرة "، واحسنوا إليه وأعطوه " بانياس ". وبقيت في يده إلى أن كسر الملك المظفر قُطُز التركي المعزي صاحب مصر التتر في رمضان من السنة، وأخذ الملكُ السعيد أسيرا فيمن أخذ من الأسرى، فقتل صبراً فإنه كان على المسلمين أشد من التتر، وكان قد تنصر في هوى زوجة " هولاكوا "، وعلق في صدره صليباً، وكتب عليه: " حبيس المسلمين طليق التتر ". وتسلم الملك المظفر " بانياس " فيما ملك من البلاد وبقيت في يده إلى أن قتل في بقيت السنة، وملك مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس البلاد استولى عليها بعد أن تسلم دمشق في صفر سنة تسع وخمسين وستمائة. وبقيت في يد نوابه إلى أن خرج - أعز الله نصرته وجعل الملائكة أسرته - في بقية السنة التي ملكها فيها إليها. فعقد فيها للمولى الأمير الكبير ملك الأمراء بدر الدين " بيليك الخزندار الظاهري مملوكه على بنت بدرِ الدين " صاحب الموصل، وملكه " بانياس "، فولى فيها من قبله، وذلك في العشر الأول من شوال من السنة، يجتلب دور خيرها. ويجتلب دور ميرها. ويجتني قطاف ريعها. ويجتلي ألطاف ربعها. وتلك نعمة يمنها عليه أن عبد له رقاب رعيته. وذلل له صعب الدهر بما أخلص له من طويته. وكيف لا ينيله رتبةً تبعد عن الأطماع منالها. ويُحلهُ منزلة يودّ من في الأفلاك أنهم نُزالها، وهو ذو الهمة التي سمت على الهمم. وهمت بمكارم الشيم. وامتاز بها عن أقرانه. وجُعلت علما في برد قرانه. ثم لما توفي الملك الظاهر، وولي الأمر من بعده الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة قان ولده، صارت إليه بعد وفاة والده في ثامن عشري المحرم من سنة ست وسبعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فلم تزل في يده إلى أن خرج الملك عنه لأخيه الملك العادل سيف الدين سلامش، ليلة الاثنين ثامن عشر ربيع الآخر من سنة ثمان وسبعين. وولي أتابكية الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي، سير إليها نواب الملك العادل فلم تزل في أيديهم إلى أن جلس السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون المذكور على تخت الملك، يوم الثلاثاء حادي عشري شهر رجب، من سنة ثمان وسبعين، فسيرَّ إليها نوّابه، واستمرت بأيديهم. ذكرُ حصون هذا الجند صفد كانت أولاً تلاً. وكان على التل قريةٌ عامرة، تحت " برج اليتيم ". وما زالتْ في أيدي المسلمين إلى أن استولى عليها الفرنج فيما استولوا عليه من البلاد الشامية، فبناها الداوية في سنة خمس وتسعين وأربعمائة. لم تُذكر في شيء من الكتب الموضوعة في التاريخ في صدر الإسلام. وهي قلعة حصينة على جبل يحتف به جبال وأوديةٌ. طولها: ثمان وستون درجة وثلاثون دقيقة. وعرضها: اثنتان وثلاثون درجة وثلاثون دقيقة. فتحها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بعد حصار شديد بالأمان، في رابع عشر شوال سنة أربع وثمانين. وأنعم بها على سعد الدين مسعود بن مبارك بن تميرك. فلم تزل في يده إلى أن مات في سنة ثمان وستمائة. وانتقلتْ إلى ولده فتح الدين أحمد. وبقيت في يده مدةً يسيرة، إلى أن أخذها منه الملك المعظم شرف الدينّ عيسى. وأعطاه سبعين ضيعةً من خبز الصخرة من نابلس والقدس، عوضا عنها وعن طبرية. ثم أعطاه إياها خارجا عن " طبرية ". فبقيت في يده إلى سنة ست عشرة وستمائة. فأخذها منه وسلط عليها وعلى القدس يد النقض. وخلط لهما بالعرض. وذلك في سنة سبع عشرة وستمائة. وسبب أخذها وخرابها: أن الفرنج لما ملكوا " دمياط " في سنة خمس عشرة، خاف أن يعجز " فتحُ الدين " عن حفظها من الفرنج. وبقيت خرابا، وبلادُها في يد منْ يملك دمشق لا يهتم ببنائها ملك، إلى أن أعطاها الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الملك العادل للفرنج، فيما أعطاهم من البلاد، في سنة ثمان وثلاثين وستمائة. فلمَّا ملكوها استدعوا أسرى من المسلمين الذين كانوا في بلاد الفرنج " وكانوا ألف نفس، والفرنج " دون المائتين فاجتمع الأسرى وعزموا على الوثوب بالفرنج. ثم إنهم فكّروا أن لا بدّ لهم من ملجأ يلجئون إليه، ويعتمدون في الذب عنهم عليه. فكتبوا إلى الأمير سيف الدين عليّ ابن قليج النوري وهو إذ ذاك في قلعة " عجلون " من قبل الملك الناصر داود ليكتب إليه في أن يأمرهم بالوثوب على الفرنج، ويبعث إليهم من يتسلم الحصن، فبعث سيفُ الدين إلى الملك الناصر داود ابن الملك المعظم صاحب الكرك إذ ذاك الكتاب. فلما وقف عليه سيره إلى الملك الصالح عماد الدين إسماعيل فأرسله إلى الداوية، فلمّا اطلعوا عليه أخذوا الأسرى ودخلوا بهم " عكا " فذبحوهم عن آخرهم لا جزاه الله خيراً وأعظم لهم أجراً -. فبمثل هذه الحسنات - أي التي حصلت لهم - تُرقم الصحائف. ويستمطر بأكفها سحب اللطائف. ثم عمروها بمساعدة الملك الصالح لهم، ولم تزل في أيديهم إلى أن قصدها الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحيّ صاحب الديار المصرية والشامية. ونزل عليهما في ثامن شهر رمضان سنة أربع وستين. ونقل إليها المجانيق من دمشق، وبانياس، وعجلون، ونصبها، ونصب الستائر من تاريخ النزول إلى ثاني شوّال. ووقع الزحف عليها واشتد القتال والحصار، وأخذت عليها النقوبُ من كل الجهات حتى ملكت الباشورة يوم الثلاثاء خامس عشر شوال. ونصبت السلالم على القلعة، والسلطان يُباشر القتال بنفسه، ويدخل في النقوب، لا يستظل بخيمة، ولا يجلس لراحة، تقع حجارة المنجنيق من القلعة إلى جانبه، لا يصده ذلك عن غرضه. ولا يمنعه عن القيام بشؤون الجهاد ومفترضه. فلما تحقق من فيها أن لا ملجأ لهم منه إلاَّ إليه أذعنوا بالتسليم. فشرط عليهم أن يسلموها بما فيها، ولا يأخذوا منها شيئاً دقّ ولا جلَّ. فأجابوا. ورفعت على الحصن سناجق السلطان. ووقف بنفسه الكريمة على بابه، حتى يخرج من فيه بمراى منه. فلما لمْ يبقى منهم أحد، دخل إليه ملك الأمراء بدر الدين الخزندار، وتسلمه فاطلعه جماعة من اتباعهم، أنهم أخذوا من الحاصل شيئاً كثيراً، فأمر بتفتيشهم، فوجد معهم أشياء نفيسة، فأخذت منهم، وضربت رقابهم صبراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ثم رتب السلطان فيها واليا. ورحل عنها في سابع عشر شوال. وأمر بعمارتها وتحصينها، والزيادة فيها. وحمل إليها الذخائر والسلاح. وجعل فيها أربعة وخمسين مملوكاً من مماليكه، وأقطعهم في بلد إقطاعاً. وقدّم عليهم الأمير علاء الدين كندغدي. وولى في قلعتها مجد الدين الطوري، وصير نيابته في بلدها إلى الأمير عز الدين أيبك العلائي. ثم لما توجه مولانا السلطان إلى الشام في جمادى سنة خمس وستين، في خفٍ من عسكره، استصحب معه أصحاب أصناف الصناعات. وقصد " صفد " فعمرّ الباشورة، وبنى فيها أبرجة، وأسواقاً، وخانات، وحمامات، فصارت بما أحدثه فيها من أحسن القلاع وأمنعها. وأطيب البقاع وأخصبها. ولم تزل بيده إلى ان توفي في ثامن عشري المحرم من سنة ست وسبعين، فصارت إلى ولده الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة قان. واستمرت في يده الى أن خرج الملك عنه لأخيه الملك العادل سيف الدين سلامش ليلة الاثنين ثامن عشر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وستمائة. هونين وتبين وهما حصنان منيعان بناها الفرنج بعد الخمسمائة وهما بين جبل عوف وبين بانياس وصور، فتحهما السلطان الملك الناصر - رحمه الله -. نزل على تبنين في يوم الأحد ثامن عشر جُمادى الأُولى فنصب عليها المجانيق، وضيق عليهم بالزحف. وكان بها رجال أبطال مُشدَّدُون في دينهم، فأعانه الله عليهم. وفتحها يوم الأحد ثامن عشر من الشهر، وأسر منْ بقي بها بعد القتل. وفتح هُنين بعدها بقليل. وأنعم بهما على مجد الدين أحمد، وهو فخر الدين جركس، ثم استعادهما منه. وأنعم بهما على الأمير فخر الدين أياس جركس، فولى عليهما مملوكاً له يقال له " صارم قايماز ". " وظلاَّ كذلك " إلى أن تسلمهما الملك المعظم شرف الدين عيسى صاحب دمشق في سنة سبع عشرة وستمائة، وأخربهما، وأقطعهما لأخيه الملك المغيث محمود. واستمرا في يده إلى أن توفي، وملكهما ولدهُ الملك المغيث يوسف. وبقيا في يده إلى أن توفي في أيام الملك الأشرف في " حصن كيفا " في المحرم سنة ثلاثين وستمائة. فصارا إليه، وبقيا في يده إلى أن توفي. فصارا إلى الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، وبقيا في يده إلى أن أعطاهما للفرنج " سير فليت " في سنة ثمان وثلاثين وستمائة مع ما أعطاهم من الحصون فملكهما الفرنج، ولم يزالا بأيديهم إلى أن تسلمهما مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس في شوال أربع وستين وستمائة. ولم يبق لقلاعهما أثر غير البلاد، فإنها في يده إلى يومنا هذا، وهو تاريخ وضع الكتاب. والله أعلم. شقيف أرنون بنته الفرنج. وهو مطل على جبل مطل على بيروت، وصيدا. طوله ثمان وسبعون درجة وثلاثون دقيقة؛ وعرضه ثلاث وثلاثون درجة. لم يتصل بعلمي فيما طالعته من الكتب من أمر هذا الحصن إلاَّ ما أنا ذاكره: وهو أن ضحاك بنّ جندل رئيس " وادي التيم " تغلَّب عليه، وأخذه من نواب الحافظ عبد المجيد صاحب مصر، يوم الجمعة لستّ بقين من المحرم سنة ثمان وعشرين وخمسمائة فسار إليه شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك بوري فتسلمه. ولم يزلْ بيده أخيه شهاب الدّين من بعده إلى أن سلّمه لفلك ملك الفرنج، في سنة أربع وثلاثين. ولم يزل بأيدي الفرنج إلى أن فتحه الملك الناصر صلاحُ الدّين يوسف، في خامس عشر شهر ربيع الأول سنة ست وثمانين وخمسمائة، فأقطعه الأمير عز الدّين سياروخ. فلم يزل إلى أن تغير الناصر على عز الدين سياروخ، فأقطعه الأمير فخر الدّين أياس جركس، ثم استعاده الملك الناصر منه لما تغير عليه، ثم أعاده إليه لما رضي عنه. فلمَّا صار في يده حصنه، وزاد فيه أبرجة. ولم يزل في يده إلى أن توفي في سنة ثمان وستمائة، فأقطعه الملك العادل ولده الملك المغيث عمر، ولم يزل في يده إلى أن تُفي ودفن بسفح " قاسيون " في تربة أخيه الملك المعظم شقيقه، حياة والده الملك العادل في سنة ست وستمائة. فصار إلى ولده من بعده الملك المغيث محمود. ولم يزل بيده إلى أن توفي في المحرم من سنة ثلاثين على " حصن كيفا " فصار إلى الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك العادل صاحب دمشق، إذ ذاك، وبقي في يده، إلى أن تُوفي في المحرم سنة خمس وثلاثين وستمائة، فصار إلى الملك الصالح إسماعيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وبقي في يده إلى أن أعطاه فيما أعطى من الحصون للفرنج في الهُدنة التي كانت سبباً لإبقاء دمشق في يده في أول سنة ثمان وثلاثين وستمائة. ولما أمر نائبه فيه بتسليمه للفرنج أبي وامتنع وقال: " والله، لا جعلته في صحيفتي ". فسار إليه وضربه حتى قتله، واستأصل ماله، وهو الحاج موسى، وكان أولاً مشارف مطبخ الملك الصالح، فقرب منه وكان واليّا للشقيف من قبله، وكان معه معتمد يقال له " الشهاب أحمد الشقيفي ". فلمَّا علم من بالحصن أن الملك الصالح قد عزم على تسليمه للداوية، اجمعوا رأيهم على عدم تسليمه للفرنج، وعصوا به، وكاتبوا الملك الناصر داود ابن الملك المعظم صاحب الكرك، فسير عليهم من بعض أصحابه رجلا يقال له فخر الدين العيداني يصعد إلى القلعة، ونادوا بشعار الملك الناصر صاحب " الكرك ". فلمّا تحقق الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل صاح دمشق إذ ذاك حميتهم للمسلمين، وانتصارهم للدّين خرج بعساكره، ونازل الحصن وضايقهم حتى أخذه. وطلبوا الأمان منه، وقالوا: " أنت أمَرْتنا أن نُسلمه إلى نُوَّابِ الداويّة، ونحن فما يحل لنا أن نسلمه للفرنج، ونحنُ نسلمه إليك، وأنت تفعل فيه ما تختار " فتسلمه الدَّاويةّ. ولماّ تسلَّموه لم يزل بأيديهم إلى أن قصده مولانا السلطانُ الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي، فنزل عليه بعد أخذ " يافا " يوم الثلاثاء ثامن عشر شهر رجب سنة ست وستين وستمائة. ونصب عليه المجانيق. واتّفق أن السلطان أتي بقاصدٍ من أهل " عكا " معه كتب إلى من بالحصن، يهوّنون عليهم أمر العسكر، ويُوصفهم بحفظ أماكن في الحصن يُخشى عليهم منها. فاستدعى السلطان من يكتب بالفرنجي، وأمره أن يكتب كتابا ذكر فيه أمارات هي في الكتاب الذي وقف عليه. وحذر الكمندور صاحب الحصن منْ وزيره، وكتاباً آخر إلى الوزير يحذره من الكمندور، وأوصل الكتابين إليهما بحيلة. فحين وقفا على كتابيهما وقع الخلف بينهما، والحصار مع ذلك ملازم لهم. وألجأهم الخلف إلى أن راسلوا، وقرروا معه تسليم الحصن، بشرط أن يبقى عليهم نفوسهم. فأجابهم إلى ذلك، وتسلم الحصن يوم الأحد تاسع عشري رجب، واصطنع الكمندور المذكور. ورتب فيه عسكراً، ورحل عنه عاشر شعبان، وكانت عدة من " بالشقيف " أربعمائة وثمانين رجلاً واثنين وعشرين أخا من الداوية. وحملهم السلطان على الجمال إلى " صور "، وسير معهم من يحفظهم. شقيف تيرون حكمه حكم " شقيف أرنون ". لم يزل في يد منْ ملك شقيف ارنون إلى أن تسلمه الفرنج فيما تسلموه من الملك الصالح إسماعيل في أوائل سنة ثمان وثلاثين وستمائة. فلم يزل في أيديهم إلى أن ملك الملك الناصر صلاح الدّين يوسف ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غياث الدين غلزي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب - صاحب حلب - دمشق، في ربيع الأول من سنة ثمان وأربعين وستمائة. فسير عسكر مقدمة سعد الدين بن نزار متوالي " صيدا " فنول عليه، وانتزعه من يد الفرنج. ولم يزل في يد نواب الملك الناصر المذكور إلى أن خرج من دمشق في صفر سنة ثمان وخمسين، واستولى التتار على دمشق، فقصده شهاب الدين بن بُحْتر من قبل التتر، ونزل عليه، وضايقه بالرجال فسلمه الوالي إليه، وأخربه. ولم يزال خراباً إلى أن ملك الملك الظاهر ركن الدين بيبرس دمشق في صفر سنة تسع. فأمر بعمارته وحمل إليه زردخاناه وذخائر. وهو في يد إلى حين وضع هذا التاريخ. كوكب طولها ثمان وخمسون درجة. وعرضها اثنتان وثلاثون درجة وعشرون دقيقة. وهي كما قال الاصفهاني: راسية، راسخة، شماء، شامخة. قصدها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، فنازلها بالعدة والعديد. والأيد العتيد. والبطش الشديد. فلما رأى من فيها من الفرنج أن لا طاقة لهم بمزايلته. ولا دفع لمنازلته. أذعنوا إلى الأمان. فتسلمها في منتصف ذي القعدة سنة أربع وثمانين. وأنعم بها على الأمير صارم الدّين قايماز النجمي. وبقيت في يده إلى أن مات في أيام العادل، فأقطعها عز الدين أسامة. ولم تزل في يده إلى أن قبض العادل، سنة سع وستمائة، وأقطعها ولده الملك المعظم. وبقيت في يده إلى أن أخربها لما خرب " صفد " و " القدس " خوفا عليها من الفرنج. ولم تعمر بعد. قلعةُ الطور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 طولها: ثمان وسبعون درجة وخمس وعشرون دقيقة. وعرضها: اثنتان وعشرون درجة وعشرون دقيقة. أنشأها الملك العادل سيف الدّين أبو بكر محمد بن أيوب على جبل " الطور " منيعةً حصينةً، فقصدها الفرنج لماَّ تبعوا الملك العادل سنة أربع عشرة ونازلوها، وحاصروها، ونصبوا عليها المجانيق، وبها الأمير بدرُ الدّين محمد بن أبي القاسم الكردي الهكّاري مُركز. فلما نزل الفرنج عليها نزل إليهم وقاتلهم، فطعن منهم فارساً، وطعنه الفارس فماتا معاً. ثم إنهم عجزوا عنها فرحلوا، وخرّبها الملك العادل بعد ذلك. ذكر ما في جند بلاد الأردن من البلاد الساحلية منها صُور وهي مدينة حسنة حصينة، يحف البحر منها بثلاث جهات. ولها ربضٌ يُعمل فيه الزجاج الُمحكم، والفخار. قال البلاذري: " فتح شرحبيل عكَّا، وصُور، وصفوريّة ". وقال أيضا: " إن أبا عبيدة وجه عمرو بن العاص إلى سواحل الأردن، فكسرتهم الروم، وجاءتهم المدد من ناحية هرقل، فكتب عمرو إلى أبي عبيدة يستمده، فوجه أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان، وعلى مقدمته معاوية أخوه، ففتح يزيد وعمرو سواحل الأردن: صور و عكا ". وفي سنة اثنتين وأربعين: نقل معاوية من فرس بعلبك وحمص وإنطاكية إلى سواحل الأردن صور وعكا. ورمّهما عند ركوبه إلى " قبرس " ثم إن عبد الملك بن مروان جدَّدهما، وقد كانتا خربتا. ولم تزل في صور - على ما حكيناه - من تنقل ولايات جُند الأردن في أيدي الولاة إلى أن ملك العُبيديون مصر ودمشق، وما بينهما من البلاد، فولَّوا في الثغور ولاة من جهتهم، وأقطعوها من الأعمال، ورتبوا فيها غزاةً براً وبحراً. وجرى الأمر في " صور " على ذلك. فلما كانت سنة سبع وثمانين عصى أهلها على " الحاكم "، وقتلوا أصحابه فيها، وولَّوا عليهم رجلاً ملاحاً من البحرية يعرف " بعلاّقة ". فندب إليهم " أبا عبد الله الحسين بن ناصر الدولة " و " ياقوت الخادم " وجماعة من عبيد الشرا. وسير في البحر قطائع مشحونة بالرجال والعدد، وأمر أهل " أطرابلس " و " صيدا " بالمسير إليها، فاجتمع الروم، وكتب إليه يستنجده، فأنفذ إليه أسطولاً مشحوناً بالمقاتلة. ووقع القتال بين الفريقين، فهزم الله فريق الفرنج، فأخذت أكثر مراكبهم. وفُتحت أكثر مرابكهم. وفُتحت البلد عنوة، ونُهبت، وأسر " علاقة " وجماعة من أصحابه، وحُمل إلى " مصر " فسُلخ حيا وحُشي جلده تبنا، وصٌلب، وقُتل أصحابه صبراً. وولّي " صور " أبو عبد الله الحسين بن حمدان. وجرى الأمر في النّواب، على ما حكيناه، إلى أن تغلب عليها قاضيها عينُ الدَّولة ابن عقيل. وعصى فيها واستبدّ بها، وخلع طاعة " المستنصر ". وذلك في سنة وخمسين وأربعمائة، فسيرّ إليه من مصر أمير الجيوش بدر المستنصري. فحاصر " صور " وضايقها، فاستنجد عين الدولة قُرلو التركي فرحَّل " بدراً " عنها بعد أن أشرف على أخذها. واستمرت في يد عين الدولة، إلى أن مات في سنة خمس وستين. وتولى بعده ولده " نفيس " ومعه أخواه، وأصروا على العصيان، إلى أن خرج عسكر من مصر في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة إلى " صور " ومقدمه منير الدولة الجيوشي فعجز أولاد عين الدولة عن مدافعته وممانعته، فسلَّموها له، وتولاّها. ولم تزل في يده إلى أن عصى فيها على " الُمستعلي "، فجهز إليه منْ مصر عسكراً، وكان أهل " صور " قد كرهوا خلفه وعصيانه، فحين اشتد القتال نادوا بشعار " المستنصر " وأمير الجيوش، فهجم العسكر البلد، وأسروا " منير الدولة " وخلقاً ممن تابعه على العصيان. وحُملوا إلى مصر في اليوم الرابع عشر من جمادى الأولى سنة ست وثمانين وأربعمائة، فضُربت رقابُهم، ولم يعف عن أحد منهم، وقُطع على أهل البلد ستّون ألف دينار جناية. وولّي فيها رجلٌ يعرف " بالكتيلة " فأقام فيها إلى أن عصى بها على " المستعلي " سنة تسعين. فخرج إليه عسكرٌ من مصر في أول شهر رمضان، فنزل عليها، وحاصرها حتى فتحها عنوة، وقتل خلقا من أهلها، وأخذ " كُتيلة " أسيراً، وحُمل إلى مصر، وقتل بها، ووُلي " بصورة " والٍ. ولم تزل في أيديهم أن بلغ واليها عز الملك أنوشتكين عزم بغدوين على قصد " صور "، فبادر بمراسلة أتابك ظهير الدّين طغتكن أمير دمشق يستصرخه ويستنجده، ويبذل له تسليم البلد إليه، وسأله المبادرة والتعجيل، فبادر ظهير الدين بانفاذ عسكر من الأتراك إلى " صور " وأردفهم بخلق من العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فلما بلغ بغدوين اتفاقُ عزّ الملك وظهير الدّين بادر إليها، ونزل عليها في الخامس والعشرين من جُمادي الأول سنة خمس وخمسمائة. وقطع شجرها ونخلها، وبنى بيوتاً للإقامة عليها، وقاتلها دفعات لم يقض في واحدة منها وطراً. فلما بلغ ظهير الدّين نزول بغدوين على " صُور " خرجَ من دمشق، وشن الغارات في البلاد التي في يد الفرنج، فقتل وأسر وأحرق. وعمل الفرنج على " صُور " برجين وزحفوا بهما عليها؛ طول الصغير منهما نيف وأربعون ذراعاً، والكبير أكثر من خمسين. فخرج أهل صور بالنفط والحطب، وألقوه قريبا من البُرج الصغير لعدم تمكنهم من إيصال ذلك إليه. فهبت ريح، فألقت النار على البُرجفأحرقته، واشتدَّ بينهما القتال، وعجز الفرنج عنها فرحلوا ورحل طغتكين إلى دمشق. ثم عاد عزم بغدوين على منازلة صور في سنة ست، فبلغ ذلك عزّ الملك فأجمع وأهل البلد على مكاتبة طغتكين بتسليمها إليه، وأرسلوا إلى الأمير سيف الدين مسعود متولّي بانياس من قبل ظهير الدّين، وسألوه أن يتحدث لهم مع ظهير الدّين في نصرتهم وتسلم البلد منهم، فوصل مسعود إلى دمشق، ولم يكن بها ظهير الدّين، فتحدَّث مع ولده تاج الملوك بوري في انتهاز الفرصة في تسلم صور. وكتب إلى أبيه - وكان بحماة - في ذلك فولى مسعوداً صور، وأقطع بانياس تاج الملوك ولده، وسيرّ جماعةً وافرة من الأتراك. فتوجه بهم مسعود إلى صور تقوية لها، وطّيب نفوس أهلها، وأجروا على الرسم في السكة والخطبة للآمر بأحكام الله. وكتب ظهير الدين إلى الأفضل أمير الجيوش بمصر، يُعلمه: " أن بغدوين قد جمع، وحشد للنزول على صُور، وأن أهلها استنجدوا بي عليه، والتمسوا مني نصرتهم، فلم يمكنّي إلا متابعتهم ومطاوعتهم، حماية للدين، ورعاية المسلمين. ومتى وصل اليها من جهتكم من ينصرها، ويذب عنها، سلمتها إليه، وأخرجت نُوَّابي عنها ". فوصل إليها من مصر فيه غلة ورجال وسلاح، ورسولٌ يشكر للأتابك فعله وهو بدر بن أبي الطيب الدمشقي الذي كان بأطرابلس والياً، فزال طمع الفرنج عنها، وطالبوا الموادعة من أتابك، فوادعهم، واستقرت في يد مسعود إلى سنة ست عشرة. وفيها وصل من مصر أسطول مشحون بالرجال والغلات، فلما عزموا على الرجوع، خرج " مسعود " لتوديعهم فقبظوا، عليه، وحملوه إلى مصر. وكان سبب القبض: أن عزّ الملك تتابعت كتبه بما يعتمد " مسعود " مع الرعية من الأضرار بهم والمخالفة للعادة الموافقة لهم. ولما وصل إلى مصر أكرم. فلما بلغ الفرنج رجوعها طمعوا فيها، فأخذوا في التأهب لقصدها. فكتب من فيها إلى " الآمر " فخرج أمره بردّ ولايتها إلى ظهير الدين طغتكين، وكتب له منشور بالولاية، فندب إليها ظهير الدين قوماً لا كفاية لهم، فازداد طمع الفرنج فيها، فنازلوها في شهر ربيع الأول سنة ثماني عشرة، وضايقوها الى أن قلَّت الأقواتُ بها. وخرج ظهيرُ الدين من دمشق بعسكره إلى " بانياس "، وكتب إلى مصر يسأل من أميرها معونة بمراكب في البحر، فلم يُحبه إلى ذلك. فلما علم ظهيرُ الدين عجزه عن دفع الفرنج عنها، ووقع في نفسه اليأس منها، راسل الفرنج بالترغيب والترهيب إلى أن استقر الحال بينه وبينهم أن يسلمها لهم بحيث يؤمن جميع من فيها؛ ويخرج من أراد الخروج من العسكرية والرعية بما يقدرون عليه من أموالهم ويقيم من أراد الإقامة. ووقف ظهيرُ في عسكره بإزاء الفرنج، وأذن للناس في الخروج، فحمل كل منهم ما أطاق حمله من ماله وأثاثه، ولم يتعرض لأحد منهم بأذى. ولم يبقى بها إلا من عجز عن الخروج. وتسلمها الفرنج في اليوم الثالث والعشرين من جُمادى الأولى من السنة. وبقيت في أيديهم إلى أن قصدها الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ونزل عليها في ثاني عشري شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. وقاتلها، وضايقها برَّا وبحرّا، إلى أن هجم عليه الشتاء وتراكمت الأمطار، وترادفت بعوثها من سائر الأقطار، فرحل عنها على نية العود إليها. ودامتْ في أيديهم إلى عصرنا الذي وضعنا فيه هذا الكتاب. فالله تعالى يؤيد الملة الإسلامية بنصر من عنده وينزل الكفار من صياصيهم. ويمكن أيدي فتكاكتها من نواصيهم ويستأصل بسيوف عزماتها شأفةّ أديانهم وأقاصيهم. عكا ويقال فيها عكة أيضا طولها: سبع وستون درجة، وعرضها اثنتان وثلاثون درجة وخمس وعشرون دقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وهي مدينة واسعة الأرجاء، كثيرة الضياع، ولها مرسىّ مأمون. وهي في عصرنا قفل بلاد الساحل، وقصبة ما فيه من الحصون والمعاقل، قد تقدم لنا فتحها عند ذكرنا صُور. ثم قال البلاذري - بعد الكلام الذي أوردناه هناك -: " لما كانت سنة تسع وأربعين، خرجت الروم إلى السواحل وكانت الصناعة بمصر فقط. فأمر معاوية بن أبي سفيان بجمع الصناع والنجارين فجمعوا، ورتبهم في عكا، وعمل بها دار الصناعة، فلما ولي هشام بن عبد الملك نقل الصناعة إلى صور. ثم لما كانت سنة سبع وأربعين ومائتين، أمر المتوكل بترتيب المراكب بعكا وجميع السواحل، وشحناها بالمقاتلة ". ولم تزل في يد من يلي جُند الأردن - على ما قدمناه من العذر في الإجماع - إلى أن ملك المصريون، وأجروا البلاد الساحلية، على القاعدة التي حكيناها عنهم. فلما كانت سنة أربع وستين وأربعمائة، قصدها أتسز بن أوق التركي، فملكها، فخرج إليها أمير الجيوش بدر المستنصري، من مصر، في سنة خمس، فحاصرها حتى استولى عليها، وأخرج نُواب أتسز منها، وأقام بها والياً عليها الى سنة ست وستين. فاستدعاه المستنصر إلى مصر، وولاه تدبير دولته، فولى فيه من قبله، وترك أمواله وحريمه فيها، فسيَّر أتسزُ منكلي التركي، فحاصرها حتى افتتحها، وقتل الوالي الذي كان بها، وأحسن إلى حريم أمير الجيوش، ولم يتعرض لماله. فلما ملكها سير أتسز إلى عكا والياً من قبله، فلم يجب منكلي إلى تسليمها إليه، وقال: " أنا أخذت هذه المدينة بسيفي ". فنازعه الوالي فقتله، وخلع طاعة أتسز. وخرج إلى " طبرية "، فولى عليها من قبله، فقصده أتسز في بقية السنة، والتقى به على طبرية فهزم عسكره وقتله. وكان أبو منكلي نائبا عنه بعكا، لما خرج عنها، فأخذ حريم أمير الجيوش وأمواله، وركب في البحر وسار إلى أمير الجيوش بمصر، فأقبل عليه، وولاّه " عكا " إلى أن عصى فيها سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة فخرج إليه نصير الدولة الجيوشي، فحاصره وضايقه، إلى أن تسلمها منه، وولّي فيها ... ولم تزل بعدُ في أيدي العبيديين، إلى أن نزل عليها بغدوين صاحب البيت المقدس، وبها زهر الدولة نبا الجيوش، نائباً عليها، في عسكر كثيرا، براً وبحراً، فقاتلها إلى أن عجز أهلها عن حمايتها. وخرج عنها واليها، وأنفذ يلتمس الأمان له ولأهل " عكا " لإياسه من وصول نجدة أو معونة من مصر، فلم يجبه بغدوين لما رأى من عجزهم وضعفهم، وجدّ في قتالها حتى أخذها عنوة في سنة " سبع وتسعين وأربعمائة "، في أيام الآمر. وبقيت في يد الفرنج إلى أن قصدها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بعد كسرة الفرنج على " حطين " وأسر ملوكهم، ونزلها يوم الأربعاء سلخ شهر ربيع الآخر، وقاتلها حتى أخذها عنوة، واستنقذ من كان فيها من أسراء المسلمين، وكانوا زهاء أربعة آلاف نفس، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر. وبقيتْ في يده إلى أن قصدها الفرنج، ونازلوها يوم الاثنين ثالث عشر رجب سنة خمس وثمانين وخمسمائة في جموع كثيرة. فسار إليهم صلاح الدين، وواقعهم عليها وقائع لم يمكنه في شيء منها دفعهم عنها. وتتابع قتالهم إلى أن دخلوها على حين غفلة يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين. وبقيت في أيديهم بعد إلى عصرنا، الذي وضعنا فيه هذا الكتاب، يسرّ الله فتحها، وسنى للملة الإسلامية نُجحها. حيفا وهي فرضة لطبرية وبينهما ثلاث مراحل. ما زالت على القاعدة التي قررناها في الولايات والانتقالات في أيدي المسلمين، إلى أن نازلها الفرنج في سنة أربع وتسعين وأربعمائة، وحاصروها، وضايقوها. فبينما هُم ليلةً إذ سمعوا فيها صيحة عظيمة. فلما أصبح الصباح فتح من فيها أبوابها وخرجوا بالسلاح، وقاتلوا من عليها من الفرنج، حتى قتلوا عن آخرهم. ودخل الفرنج المدينة فوجدوهم قد قتلوا أولادهم ونساءهم. ولم تزل في أيدي الفرنج إلى أن فتحها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة ثلاث وثمانين. فلم تزال في يده إلى أن نزل عنها للفرنج فيما نزل عنه لهم في المهادنة، التي وقعت بينه وبينهمن وذلك في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ولم تزل بَعدُ في أيديهم. الباب الخامس في ذكر بلاد جند فلسطين الرملة - القدس - الخليل - نابلس - قيسارية - أرسوف - يافا - عسقلان - غزة. في ذكر بلاد جُند فلسطين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الرملة واللد قال هشام بن محمد الكلبي: سمّيت فلسطين بفلسطين بن كسلوخيم من بني يافث بن نوح. وكانت قصبته أولاً لدّ. ولم تزال على هذا الشأن إلى أن " ولى الوليد بن عبد الملك أخاه سليمان جند فلسطين، فنزل لُد، ثم أحدث مدينة الرملة، ومصرها، واختلط مسجدها. وكان في موضعها " رملة ". فبقي على المدينة اسمها، وصارت القصبة وخربت " لُدّ ". طولها: ستّ وثلاثون درجة وخمس عشرة دقيقة. وعرضها: أربع وثلاثون درجة وثلاثون دقيقة. طالعها برج النور. صاحب ساعة بنائها عطارد. لم تزل الرملة مذ مصرت عامرة الأسواق. ودارّة الأرزاق. ينتابها السّفّار. ويحط بها التجار. إلى أن جاءتها زلزلة، في العاشر من جمادى الأولى سنة ستين وأربعمائة هدمت دورها، وشقَّت سؤرها، وعفت الآثار. وأطلعت الماء من الآبار. وانشقت منها صخرة بيت المقدس والتأمت. فانتقلت أكثر أهل " الرملة " بعدُ إلى " إليا " فعمروها، ومصروها. ولم تزل " الرملة " تنتقل في أيدي الولاة بتنقل الجّند منذ فتحت إلى صارت في أيدي العبيديين. ولم تزل في أيديهم إلى أن خرج مفرج ابن الجراح على العزيز وخلع طاعته، في سنة إحدى وستين وثلاثمائة وتغلب على فلسطين وبلاده. وبقيت في يده إلى أن خرج إليه من مصر بلتكين التركي فأخرجه من الرملة، ولم تزل بعد في أيدي العبيدين إلى أن قصده أتسز بن أوق التركي في سنة ثلاث وستين وأربعمائة الرملة، فملكها وولى فيها. ولم تزل في يده إلى أن خرج إليه نصير الدولة بعسكر من مصر، فاستعادها وقصد دمشق مُحاصراً لها، فحاصره فيها، فاستنجد بتاج الدولة تتش صاحب حلب يومئذ، فسار إليه، فلما بلغ نصير الدولة مسيرة رحل عن دمشق، وذلك في سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. ثم أن تاج الولة قتل أتسز وملك دمشق وسار إلى الرَّملة، فملكها وولى فيها. ولم تزل في يده إلى أن قصدها عسكر من مصر مقدمه منير الدولة، فاستعادها في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة. ولم تزل في أيديهم إلى أن حاصرها الفرنج، وأخذوها في سنة إحدى وتسعين. ولم تزل في أيديهم إلى أن ملكها وملك معها " لُدّ " الملك الناصرُ صلاح الدين، يوم الأربعاء ثالث شهر رمضان، سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. ولم تزل في يده إلى أن وقعت الهدنة بينه وبين الفرنج في سنة ثمان وثمانين، فنزل لهم عن بلادٍ، وجعل " لد " و " الرملة " بينه وبينهم مناصفة. ولم تزل على ذلك أيام العزيز، والأفضل، والعادل، والمعظم، والكامل، إلى أن ملك ولده العادل، فنقضوا هذه المناصفة، وتغلبوا عليهما. وبقيتا في أيديهم إلى أن فتحها مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدّين بيبرس الصالحي، في سنة أربع وستين، فعمر الرملة وصير لها هملاً وولى فيها عاملا وقاضيا، وقواها وصيرها مصراً، وجمع إليها الناس من كل قطرٍ، وأسكنهم فيها، وأنزلهم في نواحيها. إيلياء وهي مدينة بيت المقدس مبدأ بنائه قرأت في كتاب " الكامل في التاريخ ": " قيل: أصاب الناس في زمن داود عليه السلام طاعون جارف، فخرج بهم إلى موضع بيت المقدس. وكان يري الملائكة تعرج منه إلى السماء " فلهذا قصده ليدعوه فيه. فلما وقف موضع الصخرة دعا " الله تعالى في كشف الطاعون فاستجاب له فاتخذ ذلك الموضع مسجداً. وكان الشروع في بنائه لإحدى عشرة سنة خلت من ملكه. وتوفي قبل أن يتم بناؤه. وأوصى ولده سليمان بإتمامه وقتل القائد الذي قتل أخاه ايشا بن داود. فلما توفي ودفن تقدّم لإنفاذ أمره، فقتل القائد، واستلم بناء المسجد، فبناه بالرخام، وزخرفه بالذهب ورصعه بالجواهر، قوي على ذلك جميعه بالجنّ والشياطين ". فلما تم بناؤه اتخذ يوم الفراغ منه عيداً عظيماً وقرب قربانا فتقبله الله منه. وقيل: إن سليمان هو الذي ابتدأ بعمارته. وكان داود أراد أن يبنيه. فأوحى الله إليه أن هذا البيت مقدس. وانك قد صبغت يدك بالدماء فلست بانيه. ولكن ابنك سليمان يبنيه لسلامته من الدماء فلما ملك سليمان بناه. وقرأت في " كتاب الأخبار الطوال " تأليف أبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري - رحمه الله -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 " كان داود عليه السلام ابتدأ بعمارة بيت المقدس، فتوفي قبل إتمامه فاستتمه سليمان، وأتم بناء مدينة " إيليا ". وكان أبوه ابتدأها قبله. وبنى المسجد بناء لم يرى الناس مثله. وكان يضيء في ظلمة الليل " الحندس " إضاءة السراج الزاهر، لكثرة ما جعل فيه من الذهب والجواهر. وفرغ منه في سبع سنين. وجعل اليوم الذي فرغ منه عيداً في كل سنة ". وقرأت في " تاريخ محبوب قسطنطين المنبجي " قال: " مكتوب أن بعد ما خرج نوح من السفينة بزمان قبل أن سكن إبراهيم في أرض الموعْد، من بلاد الشامن بنى " ملكزدق " الحبر على قبر آدم بيت المقدس. وأن الله - تبارك وتعالى - خصه، وعرفه، مكان قبر آدم عليه السلام ". " وعن كعب قال: بنى سليمان بيت المقدس على أساسٍ قديم كما بنى إبراهيم الكعبة على أساس قديم " قال: والأساس القديم الذي كان لبيت المقدس أسسه سام بن نوح. ثم بناه داود، وسليمان - عليهما السلام - على ذلك الأساس. لمعة من فضائله عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من زار بيت المقدس محتسباً لله عزّ وجلّ حرم الله لحمه وجسمه على النار ". وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدكم هذا، ومسجد ايليا ". وعن كعب قال: " إن الله عز وجلّ ينظر إلى بيت المقدس كل يوم مرتين. وعن ابن حليس أن عبد الملك سأل نوفاص البكالي هل سمعت في بيت المقدس شيئاً قال نوف: في كتاب الله عز وجل المنزَّل أن الله عز وجل يقول: فيك ستّ خصالٍ، فيك مقامي، وحسبي، ومحشري، وجنتي، وناري، وميزاتي ". وعن وهب بن منبه: قال " أهل بيت المقدس جيرانٌ الله عز وجل. وحق على الله تعالى أن لا يعذب جاره ". وعن كعب قال: " لا تقوم الساعة حتى يزور البيت الحرام بيت المقدس، فينقادا إلى الجنة جميعا وفيهما أهلوهما ". وعن عبد الملك الجزري أنه قال: " إذا كانت الدنيا في بلاء وقحط كان الشام في رخاء وعافية. وإذا كان الشام في بلاء وقحط كانت فلسطين في رخاء وعافية. وإذا كانت فلسطين في بلاء وقحط كان بيت المقدس في رخاء وعافية ". وقال خالد بن معدان: " مقبور بيت المقدس لا يعذب ". فضل الصخرة عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال " صخرةُ بيت المقدس من صخور الجنة ". وعن سعيد بن عبد العزيز قال: " لما فتح عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بيت المقدس وجد على الصخرة زبلاً كثيرا مما طرحه الروم غيظاً لبني إسرائيل، فبسط عُمر رداءه، وجعل يكنس ذلك الزبل، وجعل المسلمون يكنسون معه. وعن شيخ من ولد شدّاد بن أوس عن أبيه عن جده قال: فتقدّم عمر - رضي الله عنه - حتى ملأ أسفل ثوبه من المزبلة التي كانت في بيت المقدس، فحمل وحملنا في ثيابنا مثل ما حمل حتى ألقيناه في الوادي. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أسري بي إلى بيت المقدس مرّ بي جبريل - عليه السلام - إلى قبر إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقال: انزلْ فصلْ ها هنا ركعتين فإن ها هُنا قبر أبيك إبراهيم. ثم مرّ بي ببيت لحم، فقال: انزلْ فصلّ ها هنا ركعتين فانَّ ها هنا ولد أخوك عيسى. ثم أتي بي إلى الصخرة فقال: من ها هُنا عرج أمر ربك إلى السماء، فألهمني الله عزّ وجلّ أن قُلتٌ: نحن بموضع عرج منه أمر ربي فصليت بالنبيين، ثم عرج بي إلى السَّماء. ذكر خراب بيت المقدس بعد بنائه ِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 اختلف العلماء في السبب المقتضي لخرابه، وفي أي زمان خرب ومن أخربه اختلافاً كثيراً، ملخصه: أنه خرب مرتين فُسر بهذا القول، قوله تعالى:) وقَضَيْنا إلى بَني إسرَائيلَ في الكِتَاب لَتُفْسِدُنَّ في الأَرض مَرَّتَيْن وَلَتَعْلُنَّ عُلُوَّا كبيراً. فإذَا جَاء وَعْدُ أُولاَهُما بَعَثْنا عَليْكم عِباداً لنا أُولي بَأسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدَّيَار وكان وَعْداً مَفْعُولاً. ثُم رَدَدْنا لَكمُ الكَرَّةَ عَلَيْهم وَأمْدَدْناكم بأمْوالٍ وَبَنين وجعلَناكُم أكثَر نَفِيرا. إن أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُم لأَنْفُسِكُمْ وَإنْ أسأتُمْ فَلَها فإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرة لِيَسُؤُوا وُجُوهَكُم وَلِيدْخْلُوا الَمسْجدَ كما دَخَلُوه أولَ مرةٍ وليُتَبَّرُوا ما عَلَوْا تتْبِيراً. عَسَى رَبُّكُمْ أن يَرْحَمَكم وإن عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً (. المرة الأولى: خربة بخت نصر. ويقال فيه بخت ناصر. وسببُ خرابه له مختلف فيه. فقال قوم: قتل بني إسرائيل يحيى بن زكريا. والمحققون من أصحاب التواريخ والسير يدفعون هذا القول وينكرونه، فانَّ بخت نصر عندهم غزا بني إسرائيل عند قتلهم نبيهم " شعيا " في عهد أرميا بن حلقيا. وبين عهد أرميا وقتل يحيى أربعمائة وإحدى وستون سنة عند اليهود والنصارى. ويزعمون أن ذلك في كتبهم وأسفارهم. وأن الذي أخذ بثأر جرواش. وهي المرة الأخيرة. ويُقال: إن الذي استعمله بهمن بن بشتاسب ابن لهراسب. وكان بخت نصر خدم جده وأباه، وخدمه أيضاً. وعمّر طويلاً. فأرسل بهمن رسلاً إلى ملك بني إسرائيل بالبيت المقدس فقتلهم الإسرائيلي. فغضب بهمن من ذلك واستعمل بخت نصر على إقليم بابل. وسيره في الجنود الكثيرة فأوقع بهم. وحكى أبو حنيفة الدينوريّ في " كتاب الأخبار الطّوال " شيئاً غير هذا: " وهو أن سليمان بن داود عليهما السلام، لما مات اجتمع عظماء فارس وأشرافها ليختاروا رجلاً من ولد كيقباذ الملك فيملكوه عليهم، فوقع اختيارهم على الهراسف " وأن لهراسف " عقد لابن عمه بخت نصر بن كامجار بن كيانبه في اثني عشر ألف رجل من خيله. وأمره أن يحارب الشام فيحارب ارخبعم بن سليمان فان كان الظفر له قتل من قدر عليه من عظماء مدينة بني إسرائيل وهي إيليا وهدمها. فسار بخت نصر حتى أتى الشام فشن بها الغارات، " وعاث " فانهزم ملوكه منه وهرب أرخبعم من بيت المقدس " فنزل فلسطين فتوفي بها " وأقبل بخت نصر " حتى " ورد ايليا، فدخلها لا يمتنع منه أحد. فوضع في بني إسرائيل السيف، فقتل منهم ثلاثمائة ألف نفس، وسباهم، وهدم المدينة فلم يدع فيها بيتا قائماً، ونقض المسجد. وحمل ما كان فيه من الذهب والفضة والجوهر وحمل كرسي سليمان. وقفل راجعاً إلى العراق. وكان في الأسرى دانيال النبي عليه السلام فسار حتى قدم على لهراسف الملك وهو نازل بالسوس، فمات عنده. ويقال إن البيت المقدس بقي خراباً إلى أن عمره " كورش " الفارسي. واسمه في اللغة الفارسية " بهمن ". فإنه أذن لبني إسرائيل في العود إلى أورشليم، وبنى إيليا والبيت المقدس وذلك بعد سبعين سنة من خرابه. وفي أثناء هذه الفترة أمر الله أرميا - وهو المسمى عُزَيْراً - بالخروج من مصر وعوده إلى الشام. فسار حتى أشرف على بيت المقدس وهو خراب فقال:) أني يُحيِى هَذِه اللهُ بَعْدَ مَوْتها فَأَمَاتهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ (بعد أن عمر بيت المقدس. المرة الثانية: خربه " جرواش " ملك بابل. ويُحكى في سبب ذلك: أن ملكهم " هيرودس " أراد أن يتزوج بنت امرأةٍ له، فنهاه يحيى بن زكريا عن ذلك، فطلبت المرأة منه قتل يحيى. فأرسل إليه فأحضروه، ودعي بطشتٍ فذبحه فيه، وهو يقول: لا يحلّ لك. وبقي دمه يغلي، فطرح عليه تراب حتى بلغ سور المدينة فلم يسكن، فسلط الله عليهم جرواش في جمع عظيم فحصرهم، فلم يظفر بهم، فأراد الرجوع فأتته أمراء من بني إسرائيل فقالت: بلغني أنك تريد العود، فقال: نعم، وقد طال المقام وقلت الميرة. فقالت: إن فتحت لك المدينة أتقتل من آمرك بقتله؟ قال: نعم. قالت: فتكف إذا أمرتك؟ قال: نعم. قالت: اقسم جندك أربعة أقسام ثم أرفعوا أيديكم إلى السماء وقولوا اللهم إنا نستفتحك على دم يحيى بن زكريا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ففعلوا فخرب سور المدينة فدخلوها، فأمرتهم العجوز أن يقتلوا على دم يحيى ابن زكريا، حتى يسكن. فلم يزل يقتل حتى قتل سبعين ألفاً فسكن الدم. فأمرته بالكف فكف. وخرب البيت المقدَّس وأمر أن تلقى فيه بالجيف وعاد. وكانت هذه المرة بعد رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، ولم يزل خراباً إلى أن عمرته هيلاني أم قسطنطين. وحكى أصحاب تواريخ الروم: أن سبب عمارتها له أن والدها قسطنطين لما صار الملك إليه طوعت له نفسه أن يبني مدينة يجعلها مقر ملكة، ومركز سلطانه، فخرج من " رومية "، وسار إلى أرض بوزنطا فبنى فيها مدينة، وسماها " القسطنطينية " باسمه وصار يغير على بلاد برجان لما جاورهم، فكانت الحرب بينهم وبينه سجالا، نحواً من سنة، إلى أن كانت عليه. فقتل من أصحابه خلق كثير، وخاف البوار. فرأى في النوم كان رماحاً نزلت من السماء، فيها عذب وأعلام على رؤوسها صلبان من الذهب والفضة والحديد والنحاس. وقيل له: خذ هذه الرماح وقاتل بها عدوّك تنصر. فجعل يحارب بها في النوم، فرأى عدوه منهزماً بين يديه فاستيقظ من رقدته، ودعا بالرماح، وركب عليها صلباناً ورفعها على عسكره، وزحف على عدوّه فكسره. وسار إلى بيعته وسأل عن تلك الصبان، وهل تعرفون ذلك في شيء من الآراء والملك، فقيل له أن بيت المقدس مجمع لهذا المذهب. فبعث إلى بيت المقدس وأحضر ثلاثمائة وثلاثة عشر أسقفاً فعرفوه دين النصرانية، فرجع إليه وترك اليونانية، وأمر رعيته بمتابعته على النصرانية. ثم خرجت أمة هيلاني إلى الشام، وبنت الكنائس، وصارت إلى بيت المقدس فبنته، وعمرته، وزخرفته، وطلبت الخشبة التي صُلب عليها المسيح، بزعمهم، فحلتها بالذهب. واتخذت لوجودها عيداً وهو عيد الصليب. هنا انتهى بنا القول في بناء البيت المقدس قبل ظهور ملَّة الاسلام. وسنذكر ما جدّده فيه خلفاءُ بني أمية، والعبيديون، أصحاب مصر عند ذكرنا لمزارات الشام - إن شاء الله تعالى -. مدينة بيت المقدس والصفة التي عليها في عصرنا أنها على جبل يصعد إليها من كل جانب وهي طويلة. وفي طرفها الغربي: " باب المحراب "، وهذا الباب عليه قبة داود عليه السلام. وفي طرفها الشرقي: " باب الرحمة "، وهو مُغلق لا يفتح إلاّ من عيد الزيتون إلى مثله. ولها في جهة الجنوب: باب يسمى " باب صهيون ". ومن الشمال: باب يسمى " باب الغُراب ". ومتى دخل الداخل من باب المحراب يسير نحو المشرق في زقاق شارع إلى الكنيسة العظمى المعروفة بكنيسة القيامة، والمسلمون يسمونها قمامة وهي من عجائب الدنيا بناءً. ذكر فتحها وملوكها قال البلاذري: " قدم أبو عبيدة على عمرو بن العاص وهو يحاصر إيليا في سنة عشرة، فطلب أهلها من أبي عبيدة الأمان والصلح على مثل ما صُولح عليه أهل مُدن الشام من أداء الجزية والخراج على أن يكون متوالي العقد لهم عمر بن الخطاب بنفسه. فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك. فسارع عمر رضي الله عنه، حتى نزل " بالجابية " من دمشق، ثم صار إلى إيليا فأنفذ صلح أهلها، وكتب لهم بذلك ". وذلك في سنة سبع عشرة. ولم تزل بعدُ في الولاية على ما قررناه في غيرها من البلاد المضافة إلى الأجناد. فلما صارت إلى المستنصر صاحب مصر خرج أتسز بن أوقى التركي فقصد أرض فلسطين فملك الرَّملة، وبيت المقدس من نوابه سنة ثلاث وستين وأربعمائة. وبقيت في يده إلى أن خرج بدر المستنصري في سنة خمس وستين فاستعاد الرملة والقدس وولى فيهما من قبله. ثم عاد إلى مصر في سنة ست، فعاد أتسز إلى القدس فملكه في بقية السنة. ولم يزال في يده إلى أن قصد مصر بعسكره، فكسر في رجب سنة تسع وستين وعاد منهزماً إلى دمشق. فجمع، وخرج إلى القدس وكان من فيه وثبوا على من عندهم من الأتراك من أصحابه، فقتلوا أكثرهم، والتجأ من بقي منهم إلى محراب داود فتحصنوا به. وأقاموا حتى وصل أتسز إلى القدس فراسلهم في الدخول في الطاعة فأبوا فنازلهم في شعبان؛ وأقام مدة يحاصرهم إلى أن فتح له القيم محراب داود، فدخل المدينة بالسيف، وقتل عامة أهلها واستمر القتل فيها ثلاثة أيام، ولم يبقى منهم إلاّ من استجار بالصخرة والمسجد الأقصى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وبقي بيت المقدس في يده إلى خرج نصير الدولة الجيوشي، فاسترجع القدس وما كان قد استولى عليه من بلاد فلسطين والأردن، ونزل على دمشق فحاصرها وهو فيها فكتب إلى تاج الدولة صاحب حلب يستنجده، فلما سار إليه رحل نصير الدولة وقصد مصر، فلما قُتل تاج الولة أتسز سار إلى القدس فملكه فيما ملك. وذلك في سنة إحدى وسبعين. ولم يزال " القدس " في أيدي نوابه، إلى أن أقطعه الأمير أرتق بن أكسب، وبقي في يده ولديه من بعد إيغازي وسكمان، إلى أن قصده الأفضل أمير الجيوش شاهنشاه ابن الجيوش بدر المستنصري من مصر في عسكر. فنزل عليها في شعبان سنة تسعين وأربعمائة، وحاصرها، وضايقها، ونصب عليها المجانيق فهدم بها ثلمةً من السور، وأشرف من فيها على الغلبة. فبعث سكمان إلى الأفضل يطلب منه الأمان له ولأخيه إيغازي ولأصحابهما، فأجابهما. وتسلم البلد وولي فيه من قبله وذلك في سنة إحدى وتسعين، وخرج سكمان وأخوه إلى دمشق. وبقي " القدس " في أيدي المصريين إلى أن قصدها الفرنج في سنة اثنتين وتسعين، وحاصروها أشد حصار حتى ملكوه، في اليوم الثاني من شعبان من السنة عنوة، بعد إعطائهم الأمان لمن فيه، فأحرقوا - لعنهم الله - المصاحف، وأخربوا المساجد؛ وكان ملكهم كندفري. وأقام فيه إلى أن مات وولّي أخوه بغدوين بعده، ودام مالكه إلى أن أصابه جرح على العرش فمات منه في التاسع من ذي الحجة، سنة إحدى عشرة وخمسمائة. وتولاه بعده القمص بغدوين صاحب الرها بعهد من بغدوين الأول، فسار إليه، وملكه وسكنه، وبقي في يده إلى أن مات بالفالج بي نابلس وبيت المقدس ليلة الاثنين حادي عشري شهر رمضان سنة خمس وعشرين وخمسمائة. وملك بعده، بعهدٍ منه، زوجُ ابنته فُلك بن فُلك، وبقي في يده إلى أن وقع عن فرسه، وهو يطارد أرنباً في أرض عكّا، فغاصت في صدره، وعجل الله بروحه إلى النار، وذلك في سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. وولي بعده البلاد أكبر أولاده، وبقي حاكما على ما كان بيد أبيه من البلاد إلى أن مات في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وولي بعده أخوه هفري وهلك في سنة ثمانين. وتولّى بعده ولدٌ له صغير، وفوض تدبير دولته لقومص بن بارزان صاحب أطرابلس وكان ابن عمه. وبقي في يده إلى أن قصده الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، فنصب عليه المناجيق، وسلّط على سوره النقوب، ممَّا يلي " وادي جهنم " إلى أن تسلمه يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة ثمان وثمانين. ومن الاتفاقات العجيبة والمصادفات الغريبة أن القاضي مُحي الدين بن الزكي مدح الملك الناصر صلاح الدين، لما فتح حلب بقصيدة، هنأه فيها، جاء منها: وفتحكم " حلباً " في النصف من صفرٍ مُبشر بفتوح " القدس " في رجبِ. ومن رسالة للقاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني في فتح القدس ولما لم يبقى إلاّ القدس وقد أجتمع إليها منهم كل شريد طريد. واعتصم بمنعتها كل قريب منهم وبعيد. وظنوا أنها من الله مانعتهم. وأن كنيستها إليه شافعتهم. فلما نزلها الخادم رأي بلداً كبلاد. وجمعاً كيومِ التناد. وعزائم قد تألبت وتآلفت على الموت فنزلت بعرصته. وهان عليها موردُ السيف وأنْ تموت بغصته. فزاول البلد من جانبٍ فإذا أوديةٌ عميقة. ولجج وعرةٌ غريقة. وسور قد انعطف عطف السوار. وأبرجةٌ قد نزلت مكان الواسطة من عقد الدار. فعدل إلى جهةٍ أخرى كان للمطامع عليها مُعرج. وللخيل فيها مُتولج. فنزل عليها، وأحاط بها، وقرب منها " وضرب خيمته " بحيث يناله السلاح بأطرافه. ويزاحمه السور بأكتافه. وقابلها ثم قاتلها. ونزل عليها ثم نازلها. وبرز إليها ثم بارزها. وحاجزها ثم ناجزها. فضمها ضمة ارتقب بعدها الفتح. وصدع جمعها فإذا هم لا يصبرون على عبودية الحد عن عتق الصفح. فراسلوه ببذل قطيعة إلى مُدة. وقصدوا نظرة من شدة وانتظار النجدة. فعرفهم الخادم في لحن القول. وأجابهم بلسان الطول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وقدم المنجيقات التي تتولى عُقُوبات الحصون عصيها وحبالها. وأوتر لهم قسيها التي تضرب ولا تفارقها سهامها، ولا تفارق سهامها نصالها. فصافحت السور فإذا سهامها في ثنايا شرفاتها سواك. وقدم النصر نسراً من المنجنيق يُخلد إخلاده إلى الأرض، ويعلُو علوه إلى السماك. فشج مدارع أبراجها. وأسمع صوت عجيجها " صم أعلاجها ". ورفع مثار عجاجها. فأخلى السور من السيارة. والحرب من النظارة. فأمكن النقاب. أن يسفر للحرب النقاب. وأن يعيد الحجر إلى سيرته " الأولى " من التراب. فتقدم إلى الصخر فمضغ سرده بأنياب معوله. وحل عقدهِ بضربهِ الأخرق الدال على لطافة أنمُلِه. وأسمع الصخرة الشريفة حنينة باستقالته. إلى أن كادت ترق لمقالته. وتبرأ بعض الحجارة من بعض. وأخذ الخراب عليها موثقاً فلن يبرح الأرض. وفتح في السور باباً. سدَّ منْ نجاتهم أبوابا. " وأخذ يفت في حجره فقال عنده الكافر: يا ليتني كنت ترابا ". فحينئذ يئس الكفار من أصحاب الدور. كما يئس الكفار من أصحاب القبور. وجاء أمر اللهِ وغرهم بالله الغرور.. وفي الحال خرج طاغية كفرهم. وزمام أمرهم. ابن بارزان - لعنه الله - سائلاً أن يؤخذ البلد بالسلم لا بالعنوة. وبالأمان لا بالسطوة. وألقى بيده إلى التهلكة. وعلاهُ ذُل الملكة بعد عزّ المملكة. وطرح جنبه على التراب وكان جنباً لا يتعاطاه طارح. وبذل مبلغاً من القطيعة لا يطمح إليه طرف آمل طامح. وقال: ها هنا أسارى مسلمون يتجاوزون الألوف، وقد تعاقد الفرنج على أنه إن هُجمتْ عليْهم الدَّار. وحملت الحرْبُ على ظهورهمُ الأوزار. بُدى بهم فعجلوا. وثني بنساء " الفرنج وأطفالهم " فقتلوا. ثم استقلوا بعد ذلك فلم يقتل خصم إلاّ بعد أن ينتصف. ولم يفل سيفٌ منْ يد إلا بعدْ أن تنقطع أو تنقصف. فأشار الأمراء " بالأخذ " بالميسور. من البلد المأسور. فإنه لو أخذ حربا فلا بدَّ أن يقتحم الرجل الأنجاد. وتبذل نفوسها في آخر أمر قد نيل من أوله المراد. وكانت الجراحُ في العساكر قد تقدم منها ما أعتقل الفتكات. واعتاق الحركات. فقبل منهم المبذول عنْ يدٍ وهمْ صاغرون. وانصرف أهل الحرب عن قدرةٍ وهم ظاهرون. وملك الإسلام خطة كان عهده بها دمنة سكان. فخدمها الكُفر إلى أن صارت روضة جنان. لا جرم أن الله " أخرجهم منها وأهبطهم. وأرضى أهل الحق وأسخطهم. فإنهم خذلهم الله " حموها بالأسل والصفاح. وبنوها بالعمد والصفاح. وأودع الكنائس بها وبيوت الديوية " والاسبتارية " منها كل غريبة من الرّخام الذي يطردُ ماؤه. ولا ينطرد لألآؤه. قد لطف الحديد في تجزيعه. وتفنن في توشيعه. إلى أن صار الحديد. الذي فيه بأس شديد. كالذهب الذي فيه نعم عتيد. فما ترى إلاّ مقاعد كالرياض لها من بياض الترخيم رقراقْ. وعمداً كالأشجار لها من التنبيت أوراق. وأوعز الخادم بردّ " الأقصى " إلى عهده المعهود. وأقام له من الأئمة من يوفيه ورده المورود. وأقيمت الخطبة يوم الجمعة رابع شعبان فكادت السماوات يتفطرن للسجوم لا للوجوم. والكواكب منها تنتشر للطرب لا للرجوم. ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طريقها مسدودة. وطهرت قبور الأنبياء وكانت بالنجاسات مكدودة. وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها. وجهرت الألسنة بالله أكبر، وكان سحر الكفر يعقدها. وجهر باسم أمير المؤمنين في وطنه الأشرف من المنبر. فرحب به ترحيب من بر لمن برّ وخفق علماه في حفافيه. فلو طار سروراً لطار بجناحيه. وكتابُ الخادم وهو مجدُّ في استفتاح " بقية " الثغور. واستشراح ما ضاق بتمادي الحرب من الصدور. فإن قوى العساكر قد استنفدت مواردها. وأيام الشقاء قد أوردت مواردها. هذا ما وقع عليه اختيارنا من الرسالة، على أننا أتينا بخبر الفتح على سياقاته وألحقنا فيها طليعة الكلام بساقته. خطبة القاضي محيي الدين بن الزكي اقتضبتُ من الخطبة التي خطب بها القاضي محيي الدين بن الزكي، حين فتح البيتْ المقدس شذوراً. وفيتُ بها من وعودي نذوراً. إذ هي والكتابُ الفاضليّ رضيعا لبان البراعة، وحليفان أطالا على السيف لسان البراعة. قال بعد أن ذكر ما في الكتاب العزيز من التحميد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الحمد لله معز الإسلام بنصره. ومُذل الشرك بقهره. ومُصرَّفِ الأمور بأمره. ومديم النعم بشكره. ومستدرجِ الكافرين بمكره. الذي قدر الأيام دولاً بعدله. وجعله العاقبة للمتقين بفضله وأفاء على عباده من ظله. وأظهر دينه على الدين كله. القاهر فوق عباده فلا يمانع. والظاهر على خليقته فلا ينازع. والآمر بما يشاء فلا يراجع. والحاكم بما يُريد فلا يدافع. أحمدهُ على إظهارهْ. وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره. وتطهير بيته المقدّس من أدناس الشرك وأوظاره. حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره. وأشهد أن لاَ إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد. الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد شهادة من طهر بالتوحيد قلبه. وأرضى بها ربه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رافع الشك. وداحض الشرك وراحض الإفك. الذي أسري به من المسجد " الحرام إلى هذا المسجد " القصى، وعُرج به منه إلى السماوات العُلي. إلى سدرة المنتهي. عندها جنة المأوى. ما زاغ البصرُ وما طغى. صلى الله عليه وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان. وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البلد شعار الصلبان. وعلى أمير المؤمنين عثمان " بن عفان " ذي النورين جامع القرآن. وعلى أمير المؤمنين علي بنْ أبي طالب مُزلزل الشرك ومكسّر الأوثان. وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان. أيها الناس. أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى. والدرجة العُليا. لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة. من الأمة الضالة. وردها إلى مقرها من الإسلام. بعد ابتذا لها في أيدي المشركين قريبا ًمن مائة عام. وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه. وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليه رواقه واستقر فيه رسمه. ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بني عليه. وبالتقوى فانه أسس على التقوى منْ خلفه ومن بين يديه. فهو موطن أبيكم إبراهيم ومعراج نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام. وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام. وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء. ومقرٌ الرسل ومهبط الوحي. ومنزل ينزل " به " الأمر والنهي. وهو في أرض المحشر. وصعيد المنشر. وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين. وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله عليه وسلم بالملائكة المقربين. وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه " عيسى " الذي شرف الله برسالته. وكرمه بنبوته. ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته. فقال تعالى:) لَنْ يَسْتَنْكفَ المسَيحُ أنْ يَكُونَ عَبْداً لله (. وقال:) لقد كَفَر الّذين قالوا إِن الله هو المسيحُ ابنُ مَرْيَم (. وهو أول القبلتين. وثاني المسجدين. وثالث الحرمين. لا تشدّ الرحالُ بعد المسجدين إلاّ إليه. ولا تعقدُ الخناصر بعد المواطَنيْن إلاّ عليه. ولولا أنكم ممن اختاره الله من عباده. واصطفاه منْ سكان بلاده. لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار. ولا يباريكم في شرفها مبار. فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية. والوقعات البدرية. والعزمات الصديقية. والفتوحات العمرية. والجيوش العثمانية. والفتكات العلوية. جددتم للإسلام أيام القادسية. والوقعات اليرموكية. والمنازلات الخيبرية. والهجمات الخالدية. فجازاكم الله عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل الجزاء. وشكر لكم ما بذلتموه من مُهجكُم في مقارعة الأعداء. وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من مُهراق الدماء. وأثابكم الجنة فهي دار السعداء. واقدروا - رحمكم الله - هذه النعمة حق قدرها. وقوموا لله تعالى بواجب شكرها. فلهُ الفضل والنعمة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة. وترشيحكم لهذه الخدمة. فهذا هو الفتح الذي فتحت لهُ أبواب السماء. وتبلت بأنواره وجوه الظلماء. وابتهج به الملائكة المقربون. وقر به عيناً الأنبياء والمرسلون. فإذا عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يفتح عليه البيت المقدس في آخر الزمان. والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من الرسل قواعد الإيمان. فيوشك أن تكون التهاني به بين أهل الخضراء أكثر من التهاني به بين أهل الغبراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه. ونصَّ عليه في خطابه. فقال تعالى:) سُبحان الذي أسْرى بِعَبْده لَيْلاً مِنَ الَمسجِد الحَرَام إلى الَمسْجدِ الأَقْصَى الّذي بَاَرَكْنَا حَوْلَهُ (. أليس هو البيت الذي عظمته الملل وأثنت عليه الرسُل. وتُليتْ فيه الكُتُبُ الأَربعة المنزَّلة من إِلهكم عز وجلّ. أليس هو البيت الذي أمسك الله عزَّ وجل فيه الشمس على يوشع لأجله أن تغرب. وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب. أليس هو البيت الذي أمر الله موسى أنْ يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلاّ رجلان. وغضب الله عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبةً للعصيان. فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل وقد فضلهم على العالمين. ووقفكم لما خذل " فيه " من كان قبلكم من الأمم الماضين. وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى. وأغناكم بما أمضته كأن وقد عن سوف وحتى. فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده. وجعلكم بعد أن كنتم جنوداً لأهويتكم جنده. وشكر لكم الملائكة المنزلون على ما أهديتم إلى هذا البيت من طيب التوحيد. ونشر التقديس والتحميد. وما أمَطْتُم عن طُرُقِهِم فيه من أذى الشرك والتثليث. والاعتقادِ الفاسد الخبيث. فالآن تستغفر لكم أملاك السماوات. وتصلي عليكم الصلوات المباركات. فاحفظوا - رحمكم الله - هذه الموهبة فيكم واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله التي من تمسك بها سلم. ومن اعتصم بعُروتها نجا وعُصم. واحذروا من اتباع الهوى، وموافقة الرَّدى. ورجوع القهقري والنكول عن العدَى. وخُذوا في انتهاز الفُرصة. وإزالة ما بقي من الغصة. وجاهدوا في الله حق جهادِه. وبيعوا، عباد الله، أنفسكم في رضاه إذ جعلكم من عباده. وإياكم أن يستزلكم الشيطان. وأن يتداخلكم الطغيان. فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد. وبخيولكم الجياد. وبجلادكم في مواطن الجلاد. والله ما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم. واحذروا - عباد الله - بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل والمنح الجزِيل. وخصكم بهذا النصر المبين. وأعلق أيديكم بحَبْلِهِ المتين. أن تقترفوا كبيراً من مناهيه. وان تأتوا عظيماً من معاصيه. فتكونوا) كالَّتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً (، والذي) آياَتنا فاْنْسَلَخ مِنْهَا فأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ منَ الْغَاوين (. والجهاد الجهاد، فهو من أفْضَل عِباداتكم. وأشرف عاداتكم. انصروا الله ينصركم اذكروا أيام الله يذكركم. اشكروا الله يزدكم ويشْكُركم. خذوا في حسم الداء. وقطع شأْفَة الأعْداء. وتطهير بقية الأرض التي أَغْضبتِ الله ورسوله. واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله. فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية. والملة المحمدية. الله أكبر. فتح ونصر. وغلب الله وقهر. أذل الله من كفر. واعلموا - رحمكم الله - أن هذه فرصةٌ فانتهزوها. وفريسةٌ فناجزوها. وهمهٌ فأخرجوا لها هممكم وأبرزوها. وسيروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها. فالأمور بأواخرها. والمكاسب بذخائرها. فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول وهم مثلكم أو يزيدون. فكيف وقد أضحى في قبالة الواحد منهم منكم عشرون. وقد قال الله تعالى:) إن يكن منكم عشرونَ صابرون يغْلبُوا مائتين (أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره والازدجار بزواجره. وأيدنا معشر المسلمين بنصر من عنده:) إن ينْصُرْكم اللهُ فلاَ غالب لكُم، وإن يخذُلكم فمنْ ذا الذي ينْصُرُكم منْ بعْده (. وتمامْ الخُطبة والخُطبة الثانية قريب مما جرت به العادةُ من الدعاء للخليفة والسلطان. رجعنا ولم يزال القدس في يد الملك الناصر، بعد أن فتحه، إلى أن أقطع البلاد بين أولاده. فكان للملك الأفضل منْ دمشق إلى العريش، خلا الكرك والشورك، فإنهما كانا للملك العادل. فأقطع القدس عز الدين جُرديك النوري. ثم حصل بينه وبين أخيه العزيز شنأن، ونفرت أكابر الأمراء الصلاحية، فخرج فارس الدين ميمون القصري، وسنقر الكبير فقطعا نابلس مع غيرهما فلحقوا بالعزيز وحرضوه على قصد الأفضل. فخرج من مصر بعد أن أقطع القدس علم الدين قيصر وذلك في سنة تسعين، يريد دمشق، فطرأ بينهما ما حكيناه في " أمراء دمشق ". ثم وقع الاتفاق على أن تبقى فلسطين للعزيز، والأردن للأفضل، وعاد العزيز إلى مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ولما صارت فلسطين في يده، أقطع القدس لأبي الهيجاء السمين، فعصى عليه في سنة اثنتين وتسعين، فقصده. وفيها الملك العزيز دمشق، وسلّمها لعمه الملك العادل، ونزل له عن القدس، واسترجعه من أبي الهيجاء، وأقطعه سنقر الكبير، ثم استعاده منه، وأقطعه ميمون القصري سنة أربع وتسعين. ومات العزيز في سنة خمس وتسعين، وجعل الأفضل أتابكاً لوالده الملك المنصور بمصر. فلما ملك الملك العادل مصر مع ما كان بيده من البلاد أقطع دمشق والأردن وفلسطين لولده الملك المعظم شرف الدّين عيسى، واستمرت في يده إلى أن توفي الملك العادل في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة. وبقيت البلاد في يده إلى أن قصدت الفرنج دمياط واستولوا عليها فاستنجده أخوه الملك الكامل صاحب مصر، فلما وصل إليه شكا ما الفرنج عليه من القوة، وسأله أن يعطيه القدس، وكوكب، والطور، ليعطيها للفرنج عوضاً عن دمياط، فأسرها في نفسه ووعده فيها بما طاب به قلبه. ولما تضايق بالملك الكامل الأمر في حصار " دمياط " بعث أخاه الملك المعظم إلى أخيه الملك الأشرف يستنجده، وهو بحران، فأخرب القدس في طريقه وكوكب، حتى لا ينتفع بهما الفرنج، ولا يرغبون فيهما. وبقي في يده خرابا إلى أن توفي سنة أربع وعشرين وستمائة. فخرج الملك الكامل إلى الشام في شوال سنة خمس وعشرين فولى في بلاد فلسطين، وكان الانبرطور قد وصل إلى عكا، والملك الكامل في بنابلس، فكتب إليه الإمبراطور أن يسلم القدس وجميع ما فتحه صلاح الدين ويلقاه. وتردّدت الرسل بينهما في ذلك، وكان للملك الكامل غرض في تملك دمشق، فجمع الأمراء واستشارهم فكلّ منهم أشار بالعود إلى " تل العجول " خلا الأمير سيف الدين ابن أبي زكري فانه قال: " أبق دمشق على ابن أخيك الملك الناصر، واطلبه، واطلب أخاك الملك الأشرف وعسكر حلب. ونقاتل هذا العدوّ فإما لنا وأمّا علينا، ولا يقال عن السلطان أنه أعطى الفرنج القدس ". فامتعض لذلك وقبض عليه وسيره إلى فحبسه فيها. وعاد إلى " تل العجول " واستدعى الملك الأشرف من دمشق، وكان قد وصل إليها ليدفعه عنها، فلما غلب على الملك رغبته في تملك دمشق في تملك دمشق أذعن لتسليم القدس للإمبراطور، فتسلمه في حادي عشر شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين. واستمر القدس في أيدي الفرنج إلى أن توفي الملك الكامل في سنة خمس وثلاثين بدمشق وملك الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود ابن الملك العادل بعده، فقايض الملك الصالح نجم الدين أيوي ابن الملك الكامل عن دمشق بسنجار وغيرها، فوصل إلى دمشق، ثم خرج منها إلى نابلس في سنة سبع وثلاثين قاصداً مصر، وفيها أخوه الملك العادل، فاستولى على دمشق الملك الصالح عماد الدين إسماعيل. وقبض الملك الناصر على الملك الصالح بنابلس إسماعيل، وحبسه في الكرك، وجمع عسكرا عظيماً ونزل به على القدس، يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى من السنة، وكان الفرنج قد عمروا به برجاً يعرف " ببرج داوُد " وحصنوه، فنصب عليه المجانيق وضايقه إلى أن تسلمه يوم الاثنين ثامن جمادى الآخرة. وملك بيت المقدس وولى فيه منْ قبله. وكتب كتاباً بيده إلى الخليفة المستنصر من إنشائه نُسختهُ: أدام الله ظل الديوان العزيز النبوي ما دامت الأيام والسنون. وفتح بعزمه مستغلق الحصون. وأذاع ببركته سر النصْر المصُون. وأطلع البشائر بابه يانعةَ الثمار، ناضرة الغُصون. وقضى لأوليائه بنيل الُمنى، ولأَعدائه بنيل المُنون. العبدُ يُقبل العتبة الشريفة التي تسر بتقبيلها القلوب، وتقر بتقريبها العيون. وتودّ لو اكتحلتْ بإثمد تُرابها الجُفون. ويصف شوقه إلى الخدمة التي تحقق في نعمها الآمال وتصدق في كرمها الظنون. ومواظبته على الطاعة التي هو وأسلافه عليها يحيون. وعليها يموتون وعليها يُبْعثُون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ويُنهي أنه طالع المقام الشريف بأمره الهدنة وانقضاء مُدتها. وانفساخ عُقدتها. وعند ذلك أخلى الفرنج - خذ لُهم الله - القدس الشريف من سكانه. وانتقل كل منهم عن وطنه إلى صيره منْ أوطانه. وأقام به كند من كُنُودهم. ومقدَّم من جُنودهم. وهو فارس مشهور من فرسانهم. وطاغية يُذكر من شُجعانهم. كان قد عمر قلعة القدس في مدّة الُهدنة وحصنها. وملأها بالعُدد والآلات وشحنها. ووصلها ببرج يقال له " برج داود " النبي - عليه الصلاة والسلام - ابتناهُ لنفسه مسجداً. واتخذه لخلوته معبداً. وهو برج عظيم المقدار والحجم. مُبار في المنعة الجبل وفي الرفعة النجم. ينقلبُ البصر عن نظره خاسئاً وهو حسير. ويتهم الراوي في خبره ولو أنه به خبير. قد بُني بالصفاح والعمد. وتأنَّّق بانوه في إحكامه فما طال عليهم الأمد. وهو من أَسفله إلى ثلاثة قد صب فيه الحجر والكلسُ صبا. ورُدم بقوَّة بحيث لو حضره يأجوجُ ومأجوج ما استطاعوا أن يُظهروه ولا استطاعوا له نقبا. فكأن الله قد أَلانَ لدَاوُدَ الصًّخر كما أَلان له الحديد في بنيانِه. أَوْ كأنه استعان في اتقانه بجنّ سليمانه. واستغرى اللَّعين معه طائفة من شجعان الأبطال وأبطال الشجعان. ومن المشهورين بالشدة والبأس إذ التقى الجمعان. قدْ ركُبوا في الغيّ رُؤوسهم. ووطَّنوا على القتل نفوسهم. يتهافتوُن على نار الحرب تهافُت الفراش. وَيَردُن حيِاضَ المنُون ورود الإبل العطاش. لا يلتقون سهام القسيِّ إِلاَّ بنحورهم. ولا حجارة المنجنيق إِلاَّ بصدورهم. وبايعوه على الموت وحالفُوا. وطاوعوه على الضلال فما عصوا ولا خالفوا. ثم عمدوا إلى القلعة والبُرج فستروهما بالستائر المخلدة. والخشب المسندة. والعمد الممدّدة. وأوقدوا للحرب نار الشيطان الموصدة. لا بل نار الله الموقدة. فزل العبدُ عليهم بطائفة من عسكره. وراوحهم وغاداهم بالمناوشة في أصائل الحصار وبكره. ورجا بالمطاولة أن يسلموها من غير إراقة دم. أو قتل موحدٍ يفتدي من المشركين بأمم. فتجمعوا على الضلال وتألبوا. وحادوا عن طريق الرشاد وتنكبوا. وتوثبوا لنصر اصليب وتصلبوا. فقاتل العبد صليبهم بصليب من الرأي لا يعجم عوده. وقابل جأشهم بجيش من المصابرة لا يفل جنوده. وجرد لهم جماعة من عبيد الديوان تُرسل إليهم البوائق من نبالها. وتشهر عليهم الصواعق من نصالها. ونصب عليها المناجيق التي تزحم الحصون بمناكبها. وتحرق شياطينها برجوم حجارتها بدلاً من نجوم كواكبها، ومن شأنها أنها إذا قابلتْ بلدةً أذتْ بكظمها. وقضت برغمها. وأنزلتها على حكمها. فرمتهم بثالث الأثافي من جبالها. وسحرت أعينهم إلا أن الله ما أبطل سحر عصيها ولا سحرَ حبالها. وأحد النقابون في الأسوار نقوباً سفرت نقابها. ورمى الزراقون في الستائر نيراناً هتكت حجابها. وكان الملاعين قد طمحت إلى الممانعة عيونهم. وغلقت بالمصابرة زهونهم. وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم. فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا. وجزاهم بما كسبوا. ومكن أيدي المؤمنين من نواصيهم. وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب منْ صياصيهم. وطلعت على الأسوار المنيفةُ، من الأعلام الشريفة، الرايةُ التي أعادت بسناها آية الليل لكن من آياته النهار إبصار. وأعظم من النيرين الشمس والقمر ضياء وأبداراً. وأخذ العبد القلعة وتسلمها. وافترع ذروتها العُليا وتسنمها. وتبرجت له أبراجها المصونة وتجلت. ومُدتْ له أرضها فألقت ما فيها وتخلت. ولجأت من الملاعين طائفة إلى " برج داود " ترجو حقن دمائها. وتقنع بسلامة ذمائها. وما علموا أنهم دخلوا منه سجْناً لا حصناً. ونزلوا به قبراً عجل لهم، وهم في قيد الحياة دفنا. وسيروا رسولاً لهم الأمان على نفوسهم وأموالهم. والخروج بما يقدرون عليه من أسلحتهم وأثقالهم. فما سمع العبد لرسولهم كلاما. ولا شفا لغُلتهِ أو أما. ولا عرج على مخاطبته حتى يقول لجهالته سلاما. بل أمر الحجارين أن يحدوا في نقب جداره من جميع أقطاره. ويجتهدوا في قطع حدماره بقلع أحجاره. ويوقد على عدوّ الله ناراً تحرقه في الدنيا قبل أن يحرقه الله في الآخرة بناره. فعادوا بعدَ ذلك سألوا الأمان على نفوسهم. والخروج بمجرد نفوسهم. فأجابهم العبد إلى هذه المسألة الهينة الممكنة. وخرجوا وقد ضُربت عليهْمْ الذلةُ والمسكنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وصارت إلى العبد القلعة إرثاً عن أبيه، والبرجُ إرثاً من سميه. وهطل عليهم سحاب بركة الديوان العزيز بوسميه ووليّه. واجتمع شمل المساجد الثلاثة بما منح الله من التأييد. فاغترق شمل تثليث الشرك باجتماع ثلاثة التوحيد. وعطف الله على حزب الإيمان بالنصر. وعاد على حزب الطغيان بالكسر.. وأضحى الباطلُ وقد عاوده ذله. ورد الله الحق إلى نصابه وإليه يرجع الأمر كلّه. والعبد يظن أن الله تعالى ما أعاد هذا البيت إلى العدوّ بعد فتوحه. ولا نقله عن الهداة من أُمة محمد إلى الغواة من عبده مسيحة. إلاّ ليسطر فتحه في سيرة مولانا أمير المؤمنين، كما سطره في سيرة أمير المؤمنين جده. ويجري على يد العبد وذويه فيكون قد جرى على يد عبد الديوان ويد جُنده. وكلما يجدد الله للعبد من قصر عزيز. وظفر وجيز. فهو بعناية إمامه الذي يستخرج له التوفيق من وعائه. ويُمد في القرب بجيوش عساكرِه وفي البعد بجيوش دُعائه. وقد سير العبد عبد الديوان " سرخاب " رسوله ليتلوا " سورة الفتح " من حفظه. ويشرح صورة الأمر من لفظه. فإنه كان للفتوح حاضراً. ولقتال العدو مُباشراً. والعبد متردد بين أن يجعل عين هذه القلعة بالهدم أثراً. وعيانها بالردم خبرا. ليخمد سرر شرها. ويؤمن غائلة أمرها. وينقطع رجاء الكافر من نزلها وحصرها وبين أن يبقيها معقلا لهذا البيت الشريف. وموئلاً للمجاورين فيه من طائفة الدين الحنيف. وأما برج داود فقد تقدم عزم العبد على أن يغض من طرفه. ويجدع من أنفه. ويقلل من ارتفاعه. ويُسهل من امتناعه. ويجعله مسجدا للركوع والسجود. لا معقلا للجموع والحشود. ومعبداً يُلتزم بمزاره. لا حْصناً يعتصم بأَسْوَارِهِ. وهو يسترشد في ذلك هدي الديوان العزيز الذي عليه معتمده. وإليه مرجعه فيما يصدروه ويورده. والله تعالى يجعل حزب الديوان وعبيده حزب الله الغالب. وحزب عدوه وعدو دينه حزب الشيطان الهارب ويقضي له ولمن اعتلق به ببلوغ المطالب والمآرب. رجعنا ولم يزل القدس في يد الملك الناصر داود إلى أن اتفق مع الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق والملك المنصور إبراهيم صاحب حمص على مصالحة الفرنج ليعينوهم على قتال الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر وأعطوهم صفد والشقيف والقدس وغيرها، وذلك في سنة ثمان وثلاثين وستمائة، فدخل الفرنج القدس، ورفعوا الصليب على الصخرة وأخرجوا من فيه من المجاورين إلى الخليل، واستمر في ايدي الفرنج، إلى ان جاءت الخوارزمية إلى الشام، في سنة إحدى وأربعين باتفاق مع الملك الصالح نجم الدين. وهجموا القدس وقتلوا من فيه من الفرنج، وطهروا الصخرة من أوضارهم، وذلك في سنة اثنين وأربعين. ثم خرج إليهم من مصر عسكر مقدمه الأمير ركن الدين بيبرس الكنجي فقاتلوا الملك الصالح والملك المنصور، والفرنج على غرة فكسروهم وتبعوهم. وولي في القدس من قبل الملك الصالح، وأقطع بلاده الخوارزميه. وما برحوا في تلك البلاد يدينون بالعيث والفساد، إلى أن كسرهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب على القصب، من أعمال حمص، سنة أربع وأربعين وستمائة. وبقيت منهم شرذمة رجعت إلى القدس، وتغلبوا عليه فخرج عليهم عسكر من مصر مقدمة فخر الدين بن الشيخ، فأتى على بقيتهم، واستعاد القدس، وبقي في يد نوابة إلى أن انزل الملك الناصر إليه من الكرك، واستولى عليه في بقية سنة أربع وأربعين. ثم استعاد الملك الصالح سنة خمس وأربعين، ولم يزل في يده إلى أن مات، وولي بعده ولده الملك المعظم توران شاه، ثم قتل في المحرم سنة ثمان وأربعين. وملك الملك الناصر حلب، دمشق والأردن وفلسطين، فلم يزل القدس في يده إلى أن صالح الملك المعز عز الدين أيبك صاحب مصر، فنزل له عنه، وذلك في سنة إحدى وخمسين. وبقي في يده إلى قتل الفارس أقطاي التركي في شعبان سنة اثنين وخمسين، وخرج من مصر مماليك السلطان الملك الصالح البحرية إلى الملك الناصر يستنصرونه، فسير عسكراً إلى القدس فاستعاده. ولم يزل في يده إلى أن خرج من دمشق فاراً من التتر في سنة ثمان وخمسين. فلما استولى التتر على البلاد دخلوه وقتلوا به نويسا وبقي في أيديهم إلى أن كسرهم المظفر على " عين جالوت " ثم قتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وصارت البلاد لمولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس، فرتب له في كل سنة خمسة آلاف درهم برسم مصالح الحرم. وبني بخارج البلد خاناً للسبيل، ونقل إليه الباب الذي كان على دهليز القصر الذي يدخل منه إلى البيمارستان بالقاهرة. وبنى فرناً وطاحوناً، ووقف عليه ثلاثة قراريط بالطرة من أعمال دمشق، وثلث وربع قرية المشارفة، ونصف قرية من أعمار القدس. وشرط أن يصرف ذلك في خبز وفلوس، وإصلاح زرابيل من بيت في هذا الخان من المسافرين، وذلك في سنة اثنين وستين وستمائة. مدينة الخليل عليه السلام قال ابن حوقل النصيبي: " هي مدينة صغيرة كالقرية تعرف بمسجد إبراهيم. وفي مسجدها الذي يقام فيه الجمعة قبر إبراهيم واسحق ويعقوب - عليه الصلاة والسلام - صفاً. وكل قبر منها تجاه قبر امرأته. والمدينة في وهدة بين جبال كثيفة الشجار من الزيتون والتين والجميز " وقرأت في كتاب أبى يعلى حمزة بن أسد التميمي الذي وضعه " ذليلاً لتاريخ دمشق " قال: " وفي هذه السنة - يعني سنة ثلاث عشرة وخمسمائة - ورد الخبر من بيت المقدس بظهر قبور الخليل وولديه إسحاق ويعقوب - عليهم الصلاة والسلام - هم مجتمعون في مغارة بأرض بيت المقدس، وكأنهم أحياء لم تبل أجسادهم، ولا رم لهم عظم ". وحكى علي بن أبي بكر الهروي السائح: " حدثني جماعة من مشايخ الخليل: لما كان زمان بغدوين انخسف موضع في هذه المغارة، فدخل جماعة من الفرنج إليها بإذن الملك، فوجدوا فيها إبراهيم واسحق ويعقوب وقد بليت اكفانهم، وهم مسندون إلى حائط ورؤوسهم مكشوفة، فجدد الملك بغدوين أكفانهم، ثم سد الموضع، وذلك في سنة ثلاث عشر وخمسمائة ". قلت: ولم يزل حكم هذه المدينة في الولايات حكم ما تقدمها من بلاد هذا الجند إلى ان أخذ الفرنج القدس في سنة اثنين وتسعين وأربعمائة فاستولوا عليها لأنها ضمناً وتبعاً للقدس. ولم يزل في أيديهم إلى أن فتحها السلطان الملك الناصر صلاح الدين عند فتحه للقدس، في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. ولما ملكه بني القبة والجامع، ووقف عليه وقوفاً برسم الواردين عليه، وهي التي تسمى " ضيافة الخليل ". ولم تزل في يد من يلي دمشق إلى ان مات الملك المعظم سنة أربع وعشرين وستمائة. وخرج الملك الكامل من مصر، وولى فيه. ولما فتح دمشق وسلمها للأشرف أعطى " الخليل " للملك الناصر ابن الملك المعظم، وبقي في يده إلى أن استدعى الملك الصالح الخوارزمي إلى الشام، وجرى المر فيه على ما جرى في نابلس في تنقلها بين الملك الناصر والملك الصالح إلى أن استبد به الملك الصالح في سنة ثلاث وأربعين. وبقي في يده إلى أن توفي، وولي بعده ولده الملك المعظم توران شاه، ثم قتل، واستولى على البلاد الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب، لما ملك دمشق، وأعطاه الملك المغيث فيتح الدين عمر ابن الملك العادل سف الدين أبي بكر أبن الملك الكامل. وما زال في يده إلى أن خرج عن طاعة الملك الناصر في سنة خمس وخمسين وستمائة فاسترجعه الملك الناصر ثم تغلب عليه الملك المغيث في سنة سبع، فاسترجعه الملك الناصر في بقية السنة، وصار في يده إلى يده إلى أن أقطعه الملك المغيث في رجب من سنة سبع وخمسين وستمائة. ثم انقضت دولة الملك الناصر في سنة ثمان وخمسين، وصار في أيدي التتر مع ما صار إليهم من البلاد، فسلموه للملك المغيث صاحب الكرك، فلم يزل في يده إلا أن الملك مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين البلاد أخذه منه، وأقطعه لمملوكه الأمير عز الدين إ يدمر نائبه بالكرك. وبقي في يده إلى أن ولاه دمشق، فاسترجعه منه، واقطعه علاء الدين ايدكين الدمياطي في سنة سبعين لما استخلفه في " الكرك " عنه. نابلس وهي مدينة السامرة، وبها البئر التي حفرها يعقوب النبي - صلى الله عليه وسلم - وبها الجبلان المقدسان، وهما طور سينا، وطور تينا المقسم به في كتاب العزيز وهو قوله:) والتّين والزَّيْتون (. ويقال إن تحت المدينة مدينة أخرى منقورة في الحجر. قال البلاذري: " ثمّ أن عمرو بن العاص فتح غزة في خلافه أبي بكر رضي الله عنه، ثم فتح بعد ذلك سبسطية ونابلس، إلى أن أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومنازلهم وعلى أن الجزية في رقابهم والخراج على أرضهم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 طولها ست وستون درجة، طالعها برج الثور، صاحب بنائها الزهرة، لم تلزم في يد من يلي من المسلمين إلى أن استولى عليها الفرنج عند استيلائهم على القدس في سنة اثنين وتسعين وأربعمائة. فلم تزل في أيديهم إلى أن فتحها الملك الناصر صلاح الدين بالمان على يد حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين بعد حصار شديد ومضايقة في جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. وأقطعها عند فتحها حسام الدين المذكور، وبقيت في يده إلى أن مات فأقطعت لعماد الدين أحمد ابن الأمير سيف الدين المشطوب. وبقيت في يده إلى أن مات صلاح الدين في سنة تسع وثمانين، وولي ولده الفضل بعده، فخرج عنه جماعة من الأمراء الصلاحية مغاضبين، ولحقوا بالملك العزيز صلاح الدين صاحب مصر، فاقطع نابلس الأمير فارس الدين ميمون القصري وسنقر الكبير الدوادار. وبقيت في أيديهما إلى سنة اثنين وتسعين، فأضيف ما كان بيد سنقر منها إلى فارس الدين ميمون القصري. ولم تزل في يد ميمون إلى أن مات العزيز في سنة خمس وتسعين فاسترجعها الملك الفضل، وبقيت في يده إلى أن أخذ الملك العادل مصر وما كان بيده من البلاد الشامية - كما حكيناه قبل - وذلك في سنة ست وتسعين فاقطع ولده الملك المعظم الشام من النبك إلى العريش. وما زالت في يده إلى أن توفي في ذي القعدة، فصارت نابلس إلى الملك الناصر فيما صار إليه من البلاد. وبقيت في يده إلى أن قصد الملك الكامل الشام في سنة خمس وعشرين. وولي على نابلس، ولم تزل في أيدي نوابه إلى أن أخذ دمشق في شعبان سنة ست وعشرين فأعادها إلى الملك الناصر فيما أعاد إليه من البلاد. ولم تزل في يده إلى ملك الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل دمشق من الملك الجواد بن مودود في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين. ثم خرج إلى نابلس فاستولى عليها، وقصد الملك الصالح إسماعيل دمشق فأخذها. فلما بلغ ذلك الملك الصالح نجم الدين، خرج من نابلس يريد استرجاع دمشق، ثم أحس من عسكره نفاقاً، فرجع إلى نابلس، فقبض عليه الملك الناصر داود صاحب الكرك، وحبسه عنده، وولي في نابلس. وبقي الملك الصالح محبوساً في الكرك إلى أن خرج في شهر رمضان من السنة، وملك مصر في ذي القعدة، ودخل معه إليها الملك الناصر معاضداً له، فخرج الملك الصالح إسماعيل من دمشق في بقية سنة سبع وثلاثين فاستولى على نابلس، وولى فيها. ولم تزل في يد نوابه إلى أن خرج الملك الناصر من مصر إلى الكرك، فلما حل به راسل الملك الصالح في إعادة نابلس عليه، فأجابه بعد تمنع وتردد. ولم تزل في يده إلى أن كانت بينه وبين الملك الصالح وحشة، فبعث إليها من أخذها وولي فيها، وذلك في سنة أربعين ثم حصلت بينهما مهادنة وموادعة فأعادها إليه. ولم تزل في يده إلى أن وطئت الخوارزمية البلاد في سنة اثنين وأربعين، فاخرج الملك الصالح نجم الدين أيوب إليها من استولى عليها. وبقيت في يده إلى ان صالح الملك الناصر في سنة ثلاث وأربعين فأعادها عليه. فلما ملك الملك الصالح دمشق في هذه السنة، خرجت الخوارزمية عن طاعته واستولوا على نابلس، ثم حصل بينهم وبين الملك الناصر اتفاق فأعدوها عليه. وبقيت في يده إلى أن كسرت الخوارزمية في المحرم سنة أربع وأربعين، ثم تراجعوا واجتمعوا، وعادوا إلى القدس فملكوه، وملكوا نابلس، فخرج عليهم عسكر الملك الصالح من مصر فكسرهم وأجلاهم عن البلاد وعادت ونابلس إليه. ولم تزل في يده إلى أن توفي على " المنصورة " من أعمال مصر في شعبان سنة سبع وأربعين وتسعمائة. وملك ولده الملك المعظم، ثم قتل في محرم سنة ثمان فصارت البلاد إلى الملك الناصر صلاح الدين صاحب حلب، فولى في نابلس في جماد الأولى من هذه السنة. ولم تزل في يده إلى أن هزمه عسكر مصر المعز عز الدين أيبك التركي، وعاد إلى دمشق، فخرج من الكرك ركن الدين خاص ترك الكبير، ومعه عسكر فاستولى على نابلس للملك المغيث ابن الملك العادل ابن الملك الكامل صاحب الكرك. ومازالت في يده إلى أن خرج الفارس أقطاعي بعسكر من مصر، فدفع عن نابلس عسكر الكرك، واستولى عليها فخرج عليه عسكر الملك الناصر فأزاله عنها، وولى فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ولم تزل في يده إلى أن خرج عليها الملك المغيث في آخر سنة خمس وخمسين وستمائة، منابذاً لطاعة الملك الناصر، وولى فيها فخرج عليها عسكر الملك الناصر، فهزموه، وصعد إلى الكرك وولى فيها. وبقيت في يد نوابه إلى ان انحازت البحرية والشهرزورية لصاحب الكرك وخرج بهم إلى نابلس، فاستولى عليها وولى عليها وذلك في سنة سبع وخمسين، فخرج عليهم الملك الناصر بعسكره فهزمهم عنها. وبقيت في يده إلى أن استولت التتر على البلاد الشامية فخرج إليها الملك الظاهر أخو الملك الناصر من دمشق منابذاً طاعة أخيه فاستولى عليها، ثم خرج السلطان الملك الناصر من دمشق إلها ورتب فيها عسكراً، وقدم عليه مجير الدين ابن أبي زكري، فوصل عليها كشلو خان مقدم التتر فقتل ابن أبي زكري ونور الدين الأكتع وابن درباس وغيرهم من المراء الذين كانوا في العسكر، ثم أخذوها وبقيت في أيديهم إلى أن كسرهم الملك المظفر في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة. واسترجع منهم البلاد، ثم قتل - رحمه الله - في بقية السنة. وصارت البلاد إلى مولانا السلطان الملك الظاهر فولى فيه عشر نابلس نوابه فيه، إلى عصرنا الذي وضعنا فيه هذا الكتاب. قيسارية وكانت مدينة على سيف البحر، حصينة، منيعة، لها ربض كبير. البلاذري: " وولّى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يزيد بن أبي سفيان فلسطين مع ما ولاه من أجناد الشام. وكتب أليه يأمره بغزوة قيسارية، وقد كانت حُصرت قبل ذلك فنهض إليها في سبعة عشر ألفاً، فقاتله أهلها فمرض، وعاد إلى دمشق. واستخلف عليها أخاه معاوية " بن أبي سفيان ففتحها، وكتب إليه بفتحها، فكتب به يزيد إلى عمر. وللما توفي يزيد بن أبي سفيان كتب عمر إلى معاوية " بتوليته على ما كان يتولاه يزيد فشكر أبو سفيان ذلك لعمر. وقال: وصلتكم رحمٌ ". فحاصرها معاوية حتى فتحها في شوال سنة تسع عشرة قسراً، وبعث بفتحها تميم بن زرقاء عريف خثعم إلى عمر - رضي الله عنه - فقام عمر على المنبر ونادى في الناس ألا إن قسارية قد فتحت. ولما فتحت وجد بها من المرتزقة سبعمائة ألف، ومن السامرة ثلاثون ألفاً ومن اليهود مائتا ألف ووجد فيها ثلاثمائة سوق قائمة كلها، وكان يحرسها في كل ليلة على سورها مائة ألف. وحوصرت سبع سنين إلا شهراً واحداً. وقال أيضاً عمن حدثه: إن الروم خرجت في أيام ابن الزبير إلى قيسارية، فشعشها، وهدمت مسجدها الجامع، فلما استقام لعبد الملك " بن مروان " الأمر رمّ قيسارية، وبنى مسجدها وشحنها بالرجال. ولم تزل يليها من جند فلسطين إلى أن أخذها الفرنج سنة أربع وتسعين وأربعمائة بالسيف، وقتلوا من فيها من الرجال. ولم تزل بأيديهم إلى أن أخذها منهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب على يد بدر الدين دلدرم الياروقي وعون الدين قليج في سنة ثلاث وثمانين. واستمرت في يده إلى أن خرجت عنه في البلاد التي وقعت عليها الهدنة فيما بينه وبين الفرنج في سنة ثمان وثمانين. واستمرت في أيديهم إلى كسر عسكر ريد افرنس على دمياط في سنة سبع وأربعين وستمائة وأسر، ثم أطلق، فنزل الساحل، وعمر قيسارية وشيدها وحصنها. ولم تزل في أيديهم إلى أن ملك مولانا الملك الظاهر البلاد، قصدها ونازلها، وحاصرها حتى فتحها فتحا عنوة سنة ثلاث وستين وستمائة، وخرّبها حتى لم يدع لها أثراً. أرسوف طولها سبع وستين درجة، وعرضها اثنتان وثلاثون درجة وخمس دقائق. ليس لها في الفتوح العُمري ذكر، ولا فيما وقفت عليه من الكتب المؤلفة في صدر الإسلام. وأول ما أحاط به علمي من أمرها أن الفرنج تسلَّموها في سنة أربع وتسعين وأربعمائة بالأمان، ولم تزل في أيديهم إلى أن فتحها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. ولم تزل في يده إلى أن دخلت في البلاد التي وقعت الهدنة عليها بينه وبين الفرنج في سنة ثمان وثمانين. ولم تزل بأيديهم إلى أن كُسر ريد افرنس على دمياط، وأسر في سنة سبع وأربعين وستمائة، ثم أطلق، في سنة ثمان ونزل الساحل فعمر قيسارسة - كما قلنا - وأرسوف، وحصنها، وشيدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وما زالت في يد الفرنج إلى أن قصدها مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبر، ونازلها في شهر رجب من سنة ثلاث وستين وستمائة، حتى ملكها عنوة في ثاني عشر الشهر، وأخرجها على يد جيوشه ملك الأمراء بدر الدين بيليك الخزندار، فإنه فيها بلاء عجبت السيوف من مضآئه، واعانته الأقدار على إمضائه. يافا وهي على ساحل البحر، كانت عامرة، عليها سور مُحكم البناء. ولها قلعة شاهقة في الهواء. وليس لها ذكر في الفتوح العمري. والّذي اتصل بعلمي من أمرها أن فلسطين لما انتهت في الولايات إلى المستنصر العُبيدي صاحب مصر خرج عليه أتسز بن أوق التركي في سنة ثلاث وستين وأربعمائة وقصد يافا، فأخرج منها نوابه، وعاد إلى دمشق، فخرج إليه عسكر من مصر مقدَّمهُ نصرُ الدَّولة وولّي فيها. ولم تزل في أيدي العُبيديين إلى أن ملك تاجُ الدولة الشام فملك فلسطين وولّى في بلاده نوابه، وذلك في سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. ولم تزل في يده إلى أن قُتل في سنة ست وثمانين، فخرج الأفضل أمير الجيوش إلى الشام من مصر، فاستعاد يافا فيما استعاده من بلاد فلسطين، وولَّى فيها. وبقيت في أيدي نُوابهم إلى أن قصدها كندفري فتسلمها في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، فشيدها، وعمرها، وسلّمها إلى طنكريد صاحب إنطاكية. ولم تزل في أيديهم إلى أن فتحها عنوة الملك الناصر صلاح الدين في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، على يد أخيه الملك العادل، وخربها، وبقيت خرابا إلى أن تقررت الهدنة بين الملك الناصر وبين الفرنج، وشرَطوا عليه إبقاءَها في أيديهم. فلم تزل في أيديهم إلى أن خرج الملك العادل سيف الدين ابن أبي بكر أيوب من دمشق لما بلغه إغارة الفرنج على بلاد الساحل وذلك في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة فأغار على مرج عكا، وقصد يافا، ففتحها عنوة في شوال من السنة. ولم تزل في يده إلى أن خرج الفرنج، وملكوا بيروت فخرج إليهم الملك العزيز من مصر، ووقعت الهدنة بينه وبينهم، وأعيدت يافا إليهم في سنة أربع وتسعين. فلم تزل في أيديهم إلى أن أطلق ريد افرانس من الأسر في سنة ثمان وأربعين وستمائة، وصار إلى الساحل فعمرها، وبنى قلعتها، وجدد أبنيتها. وبقيت في أيديهم إلى أن قصدها السلطان الملك الظاهر، ونازلها في العشرين من جمادى الآخرة من سنة ست وستين وستمائة، فحضر عنده رسول من صاحبها بالإقامة على ما جرت به العادة، فقبض إليه، وسار إلى " يافا " ليلاً، وعسكره لابسٌ، فصبحهم بكرة فهرب من كان بالمدينة إلى القلعة، وهي على رابية عالية حصينة، فلم تغن عنهم شيئاً، وفتحها بعد يومين من نزوله عليها بالأمان، وخربها، وهي الآن خراب يباب عسقلان طولها خمس وستون درجة. وعرضها إحدى وثلاثون درجة وخمسون دقيقة. طالعها الأسد صاحب ساعة بنائها المشتري. قال البلاذري: " وكتب عُمر إلى معاوية يأمره بتتبع ما بقي من فلسطين، ففتح عسقلان صلحاً بعد كد. ويقال إن عمرو بن العاص كان قد فتحها، ثم نقض أهلها وأمدهم الرُّوم، ففتحها معاوية وأسكنها الروابط، ووكّل بها الحفظة ". وقال أيضاً عمن حدثه من أهل عسقلان: إن الروم أخربتها وأجلت أهلها عنها في أيام ابن الزّبير فلمّا ولي عبد الملك بن مروان بناها وحصنها. ولم تزل في يد من يلي فلسطين - إلى ما حكيناه - منذ فتحت إلى أن صارت في أيدي المصريين، فلما كانت أيام الآمر بأحكام الله كان بها من قبله والياً بشمس الخلافة، فراسل بغدوين ملك الفرنج، وهادنه وأهدى إليه وامتنع به من حكم المصريّين عليه. فوصلت إلى الآمر الأخبار بذلك، فبعث عسكراً وقدّم عليه قائداً، وأوعز إليه أن يمر بعسقلان، ويظهر أنه يريد الغزاة، وكتب معه كتابا إلى " شمس الخلافة " يأمره فيه بالنهوض معه، وأوصى القائد بالقبض عليه إذا خرج إليه. فلما قارب عسقلان استدعاه فامتنع من الحضور وجاهر العصيان، وأخرج منْ كان معه من الجند المرتبين معه خوفاً منهم. فلما بلغ الآمر ذلك خاف على عسقلان أن يأخذها الفرنج فأرسل إلى شمس الخلافة، وطيب قلبه، وأقطعه بلاداً بمصر حتى انقاد له، ثم إنه خاف ممن معه فيها، فأحضر جماعة من الأرمن، واتخذهم جنداً، فأنكروا عليه فعله، ووثبوا عليه فقتلوه، ونهبوا داره، وكتبوا إلى الآمر بذلك فبعث عليهم والياً، وذلك في أخر سنة أربع وخمسمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 واستمرت في أيدي أصحاب مصر إلى أن تغلب الفرنج على بلاد الساحل، فكانت آخر ما تغلبوا عليه. وسبب تأخرها أنها ليس لها ميناء يُرسي فيها المراكب، ولم تؤخذ حتى تكررت منازلة الفرنج لها مراراً عديدة. وأول من نزل عليها كندفري، ثم أخوه بغدوين، ثم الونس، ثم فلك بن فلك، وقطعوا أشجارها وكرومها، ورتبوا في الحصون المجاورة لها خيلا، تغاديها وتراوحها الغارات، وعمروا بالقرب منها في سنة أربع وأربعين وخمسمائة غزة ، وسكنوها ومدَّوها بالرجال والفرسان. فلما بلغ أهلها الجهد كتبوا إلى الملك العادل أبي الحسن علي بن السلاّر، يستنجدونه، فبعث أسامة بن مرشد بن منقذ الكناني إلى الملك نور الدين محمود إلى الشام يلتمس منه أن ينزل على طبرية، ليشغل الفرنج عن التعرض بعسقلان، وبعث معه عسكراً، وأعطاه مالاً، وأمره أنه متى لم يجد من نور الدين عوناً أن يديون بالمال من قدر عليه. فسار ابن منقذ الملك العادل فوجده محاصراً دمشق، وهو في شُغل بها عن الالتفات إلى غيرها، فاعتذر عليه، ومكنه من التديون، فدون في ثمانية أيام ثمانمائة وستين فارساً، وسار بهم إلى عسقلان، وأقام يحارب الفرنج أربعة أشهر لا ينقضي يوم منها بلا إغارة ثم أستدعي إلى مصر، فرحل عنها، وأقام الحصار عليها حتى مات فلك بن فلك، وملك بعده ولده الأكبر بغدوين فجدّ في حصارها، وعمل عليها برج خشب، وقاتلها حتى ملكها بالأمان في جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة وكان بها والٍ يسمى تميماً فلما خرج منها حمل معه رأس الحسين عليه السلام إلى القاهرة. ولم تزل في أيديهم إلى أن نازلها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، ونصب عليها المجانيق، وقاتلها قتالا شديدا حتى تسلمها يوم السبت سلخ جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وأخربها، ولم تزل في يده إلى أن تغلب الفرنج. وبقيت في أيديهم إلى أن تقررت الهدنة بينهم وبين الملك الناصر، وشرط عليهم عودها إليه وتخريبها، فأخربها في شعبان سنة ثمان وثمانين، وكان عليها سور محكم البناء، بحيث أنه كان عرضه في موضع تسعة أذرع، وفي موضعٍ عشرة. ولم تزال خراباً إلى أن ملكها الملك الصالح دمشق وأعطى الفرنج بلاداً كانت فيها وذلك سنة ثمان وثلاثين فعمروها. ولم تزل في أيديهم إلى أن قصدها عسكر الملك الصالح نجم الدين ومقدمه معين الدين بن الشيخ فحاصرها حتى أخذها عنوة، وهدمها في مستهل جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وستمائة. وبقيت في يده إلى أن توفي الملك المعظم ولده، فيما ملك بعده، إلى أن قتل، وملكها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد صاحب فيما ملكه من دمشق والسواحل. ثم خرجت عنه في صلح الملك المعز في سنة إحدى وخمسين وستمائة، ثم عادت إليه في سنة اثنتين وخمسين ثم خرجت عنه إلى التتار عند استيلائهم على البلاد، ثم عادت إلى الملك المظفر سيف الدين قطز صاحب الديار المصرية في شهر رمضان، من سنة ثمان وخمسين وستمائة. ثم ملكها السلطان الملك الظاهر فيما ملك في أواخر السنة المذكورة، ثم خرج إليها في سنة تسع وستين، وأخرب ما كان باقيا من قلعتها، وهي بيده إلى الآن. غزة وتُعرف بغزة هاشم، وهو هاشم بن عبد مناف، أبو عبد المطلب، لأنه كان كثير التردد إليها، وبها قبره. وهي نشز مرتفع على البحر، وقد تقدّم لنا فتحها، وعمارة الفرنج لها. طولها أربع وستون درجة وخمسون دقيقة، وعرضها إحدى وثلاثون درجة وثلاثون دقيقة. طالعها الثور، صاحب ساعة بنائها المشتري. ولما فتحت عسقلان، فُتحت بغير قتال في تاريخها، ولم تزل في يد صلاح الدين، ثم من بعده في يد العزيز، وفي أيامه أغارت الفرنج عليها، وعلى الداروم، فأمر بخراب قلعة الداروم. ولم تزل غزة في يده، ثم في يد الأفضل أخيه، ثم في يد عمه الملك العادل، ثم في يد ولده الملك المعظم، ثم صارت في يد الملك الكامل، إلى أن مات، فتغلب عليها الملك الناصر ابن الملك المعظم، وولّى فيها. وما زالت في يده إلى أن كانت بينه وبين الملك الجواد حرب استظهر عليه فيها الملك الجواد، فاستولى على غزة، وولَّى فيها من قبله. ثم خرج عسكر الفرنج فاستولوا على غزة فأخرج إليهم الملك العادل سيف أبو بكر ابن الملك الكامل صاحب مصر عسكراً فدفعهم عنها وكسرهم وأعادها للملك الناصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وبقيت في يده إلى أن ملك الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، فولّى فيها من قبله، واستمرت في يده إلى أن مات فصارت إلى ولده الملك المعظم إلى أن قُتل. وملك الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز محمد صاحب حلب دمشق، واستولى عليها فيما استولى عليه من بلاد الشام، وما زالت بيده إلى أن نزل عنها مع القدس للملك المعزّ عز الدين أيبك التركي صاحب مصر. وبقيت في يده إلى أن خرجت البحرية من مصر عند قتل الفارس آقطاي التركي، فاسترجعها الملك الناصر وأقطعها لجماعة منهم. وما زالت في يد الملك الناصر صلاح الدين إلى أن صارت البحرية إلى الملك المغيث صاحب الكرك، صارت دُولاً بين الملك المغيث وبين الملك الناصر إلى أن استبد بها الملك الناصر في سنة سبع وخمسين وستمائة. وبقيت في يده إلى أن خرج أخوه الملك الظاهر من دمشق منابذاً، واستولى عليها لما استولى على نابلس. ثم انقرضت دولة الملك الناصر في هذه السنة عند استيلاء التتر على البلاد، فلم يدر بعد فيها ديار، إلى أن كسر الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي التركي صاحب مصر التتر، على " عين جالوت "، واسترجع البلاد، فتراجع إليها أهلها وعمرت. وهي في عصرنا - الذي وضعناه فيه هذا الكتاب - فيها نواب مولانا السلطان الظاهر ركن الدُّنيا والدّين بيبرس الصالحي - خلد الله ملكه وجعل الأرض بأسرها ملكه -. الباب السادس في ذكر ما بمجموع هذه الأجناد الثلاثة من المزارات ما يختص بلاد جند دمشق منها: في بعلبك على باب البلد من الشمال، قبر مالك بن الأشتر النخعي والصحيح أنه بالمدينة. وبها: قبر حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصحيح أنها أم حفص أخت مُعاذ بن جبل فإن حفصة ماتت بالمدينة. وبها: دير الياس النبي عليه الصلاة والسلام، ويقال إنه كان محبوسا به. وبقلعتها: مشهد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. وبها: الوادي، والصخر الهائل، وقيل إنه الذي أنزل فيه:) وثمودَ الَّذين جَابُوا الصَّخْرَ بالوَاد (والصحيح أن الوادي هو وادي القرى، وقوم ثمود كانوا به. وبها قبر أسباط. ومن أعمالها قرية يقال لها الكرك: بها قبر نوح عليه الصلاة والسلام وقيل فيه غير ذلك، ونحن نذكره عند ذكرنا القدس. وتحت الكرك أيضاً قبر جبلة بنت نوح، بقرية يقال لها عرجوس وقبر شيث بن نوح. وقيل قبر شيث بجبل أبي قبيس، والصحيح أن الذي بجبل أبي فبيس هو قبر شيث بن آدم. وبالبقاع: قبر شيبان الراعي، وله حكاية. ومما بنواحي حوران منها: قرن الحارة: قرية بها مولد إدريس عليه الصلاة والسلام. دير أيوب: قريةٌ كان بها أيوب - عليه الصلاة والسلام - وبها ابتلاه الله عز وجل ... وبها العينُ التي ركضها برجله، والصخرة التي كان يجلس عليها، وبها قبره. نَوَى: قرية بها قبرٌ سام بن نوح عليهما الصلاة والسلام. المحّجة: قرية بها شهداء من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وبها حجر ذُكر أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس عليه. والصحيح أنه صلوات الله عليه ما تعدّى " بُصرى ". وذكروا أن بجامعها سبعين نبياً. بُسْر: قرية بها قبر اليسع. نجران: فرية بها أصحاب الأخدود. بُصرى: بلدة بها مسجد النبي صلى الله عليه وسل، صلَّى بذلك الموضع. وشرقيها: قريةٌ تعرفُ ب " ديبين "، بها قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، في صخرة سوداء على ما ذكروا. والله أعلم. وقبلي بُصرى: دير، يُقال له دير الباعقي، كان به بحيرا الراهب، وبه اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم. صرخد: بلدة بها مشهد، ذكروا أن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام كانا به لما خرجا من التية، وبه قدم هارون، والله أعلم. وُتْر: قرية بها مسجد، ذكروا أن الزبير بن العوَّام - رضي الله عنه - بناه. إمْنان: قرية بها مسجدٌ، ذكروا أن موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، سكن في موضعه. وبه موضعُ عَصَاه في الصخْر. والله أعلم. جبلُ بني هلال تحته قُرى مذكورة في التوراة يقال لها " البثنية " منها: قرية تعرف بالمالكية بها قدح وخشب، ذكروا أنه كان لرسول الله صلَّى الله عليه وسلم. الحُميمَة: قريةٌ بها قبر محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس - رضي الله عنهم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 غوْر نَابُلسُ: به قرية لها عَمَتَّا بها قبر أبي عبيدة ابن الجراح وقد زرناه بطبرية. أريحا: بها قبر ذكروا أنه قبر موسى بن عمران عليه السلام والله أعلم. وورد أن أريحا مدينة الجبارين. السَّوَاد: بلد به قرية، يقال لها المُهَيْد، ذكروا أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وُلد بها. وقد ذكرنا مولده فيما تقدم. البلقاء: بلد به الكهف والرقيم، وعنده مدينة يقال لها عَمَّان بها آثار قديمة. قال الهروي: وقد زرنا الكهف والرقيم ببلاد الروم عند مدينة يقال لها أّبسس، خربة، بها آثار عجيبة، قريبة من مدينة أبلستين. وقيل هي مدينة دقيانوس. " وبالمغرب موضع يقال له جنان الورد في بر الأندلس به الكهف والرقيم، وبه قوم موتى لا يبالون. كما ذكر أهل الموضع. وذكروا أن طليطلة هي مدينة دقيانوس " والصحيح الذي ببلاد الروم. مآب: به قرية يقال لها سيحان، بها قبر ينزل عليه النور ويراه الناس، وهو على جبل، والنَّاس يزعمون أنه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام. صَرَفة: قرية بها قبر، يزعمون أنه قبر يوشع بن النون وقد تقدم قول آخر فيه وهو الصحيح. الطُّور - ومؤتة قُرى بها قبر جعفر بن أبي طالب الطيار، وقبر زيد ابن حارث، وعبد الله بن رواحة، والحارث بن النعمان، وعبد الله بن سهيل، وسعد بن عامر بن النعمان القيسي، وأبي دُجانه الأنصاري واسمه سماك. وباللجّون: مقام إبراهيم عليه السلام. ولاوي: قرية بها قبر لاوي بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام. ظهر الحمار: قرية بها قبر بنيامين أخي يوسف الصديق عليهما السلام. مدينة نابلس: ظاهرها مسجد، ذكروا أن آدم عليه الصلاة والسلام سجد في ذلك الموضع. وبها الجبل الذي يعتقد اليهود أن إسحاق عليه الصلاة والسلام، فدي عليه وهذا الجبل تعتقد فيه اليهود، وهو مذكور عندهم في التوراة واسمه كريزِم. والسِّامرةتصلي إليه. وبها عين تحت كهف يعتقدون فيها، ويزورونها. بُلاطة: قرية من أعمال نابلس، بها عين الخضْر، وحقل يوسف الصديق، وقبر يوسف عند الشجرة. وهو الصحيح. وعورتا: قبر يوشع بن النون ومفضل ابن عمّ هارون، ويقال بها سبعون نبياً. سَيْلُون: قريةٌ كان يعقوب عليه الصلاة والسلام ساكناً بها، وإن يوسف عليه الصلاة والسَّلام، خرج منها مع إخوته، والجبّ الذي رُمي فيه بين سنْجيل ونابلس، عن يمين الطريق. ما في بلاد جُند الأردن من المزارات مدينة طبرية ممن شرقي بحيرتها: قبر سليمان بن داود عليهما الصلاة والسَّلام. والصحيح أن سليمان دُفن إلى جانب أبيه في بيت لحم. وهما في المغارة التي بها مولد عيسى عليه الصلاة والسلام ومن شرقيها أيضاً: قبر لقمان الحكيم، وابنه على ما قيل. وبطبرية: قبر أبي عبُيدة بن الجراح وزوجته، على ما قيل. وقيل بالغور. وقيل ببيسان. وفي لحف جبل طبرية: قبر أبي هريرة على ما قيل. وقيل قبرهُ بالبقيع. وقيل: بالعقيق. وبطبرية: عينُ ماء تُنسب إلى عيسى عليه الصلاة والسلام وكنيسة الشجرة، ولهذا الموضع حكاية عجيبة ذكرت في الإنجيل لعيسى عليه الصلاة والسلام مع الصباغ. وبظاهر طبرية: مشهدٌ به قبر سُكينة بنت الحسن عليه السلام، فيما قال. وبها قبر يقال إنه قبر عبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب عليه السلام. دير فاخور: موضع تعمد فيه المسيح، من يوحنَّا المعمداني على الأردن على ما ذكروا. ومن أعمال طبرية: قرية يقال لها أرْبَد: بها قبر أم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، عن يمينه الطريق، وبها أربعة من أولاد يعقوب عليهم الصلاة والسلام، وهم: دَان، وأيساخار، وزبولون، وكاد وفي الطريق إلى بانياس: قصر يعقوب، وبيت الأحزان وجبّ يوسف عليه الصلاة والسلام. والصحيح أن جبّ يوسف في طريق القدس، عند بلد يقال لها سنجيل. حطين: ويقال حُطيْم قرية بها قبر شعيب وقبر زوجته، على ما قيل. الشجرة: قرية بها قبرُ صديق بن صالح، وقبر دحية الكلبي، في مغارة على ما قيل. كفر كنه: قرية بها مقام يونس، وقبر ابنه، والله اعلم. رُومة: من أعمال طبرية، بها قبر يهوذا بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام على ما زعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وكفر مندة: قرية، قيل إنها مَدْيَن شرقي طور سينا. وبهذه القرية قبر صفوراء بنت شعيب زوجة موسى عليهما الصلاة والسلام. وبها الجب الذي قلع الصخرة من عليه، وسقى منها أغنام شعيب. والصخرة باقية هناك. وبها اثنان من أولاد يعقوب؛ وهما أشير ونفتالي. وعند هذه الأماكن جبل يقال له: الطور، قيل إن موسى عليه الصلاة والسَّلام، منْ هذا الجبل رأى النار، ومن هذا الموضع أرسله الله. كابُول: قرية بها قبران زعم أنهما قبرا روبين وشمعون. الناصرة: قرية بها دار مريم ابنة عمران ومنها كانت وبها سُميت النصارى. وجبل ساعير: قريب منها؛ والإشارة في التوراة في الجزء العاشر من السفر الخامس في حق موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم. وهو قوله تعالى " جاء الله من سيناء " يريد مناجاته لموسى على طُور سيناء. وقوله: " وأشرق من سَاعير " إشارة إلى ظهور عيسى عليه الصلاة والسلام من الناصرة. بقوله " واستعلن من جَبَل فَاران " إشارة إلى نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. إذ عندهم في التوراة جبال فاران هي جبال الحجاز والنبي صلى الله عليه وسلم ظهر منها. عكا: بها عين البقرة، ذكروا أن البقر خرجت منها لآدم، فحرث عليها. وعلى هذه العين مشهد ينسب إلى علي ابن أبي طالب عليه السلام. ويحكى أن الفرنج عملته كنيسة، وأقام بها قيم برسم عمارتها وخدمتها. فلما أصبح قال " رأيت شخصاً يقول أنا علي بن أبي طالب، قل لهم " أن " يعيدوا هذا الموضع مسجداً وإلاَّ من أَقام به هلك ". فأخبرهم، فلم يقبلوا كلامه، وأقاموا غيره، فلما أصبحوا وجدوه ميتا. فتركها الفرنج مسجداً، وهي إلى الآن. ويقولون بها قبر عكّ الذي نُسبت إليه. ويزعمون أن عك نبي. وبمرج عكا خلق شهداء. زيارات جند فلسطين القدس الشريف به الصخرة التي عُرج بالنبي صلى الله عليه وسلم منها وأثر قدمه فيها. وهي شبر وافٍ، وعلوّها مقدار ذراعين، ودائرها يزيد على " أربعة أذرع " وتحت قبة الصخر مغارة الأرواح، ذكروا أن أرواح المؤمنين يجمعها الله فيها، ويُنزَلُ في هذه أربع عشرة درجة. ويقال إن بهذه المغارة قبر زكريا عليه الصلاة والسلام. ورواق الصخرة مبني على ستّ عشرة أسطوانة من الرخام، وعلى ثمانية أركان. ولها أربعة أبواب من الحديد. وعلى الصخرة درابزين حديد يحويها، طوله قامتان. المسجد الأقصى: به محراب عمر بن الخطاب لم تغيره الفرنج وقبته أنشئت في أيام الإمام ابن العزيز صاحب مصر، وكملت في سلخ ذي القعدة سنة ستّ وعشرين وأربعمائة. وهي كلها بالفص المذهب، الكتابة والتوريق، لم يغّير منه الفرنج شيئاً. وعلوّ هذه القبة ستون ذراعاً. وتحت الأقصى، اصطبل كان لدواب سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، كما ذكروا، ومعالف الدواب إلى الآن. وهناك مغارة يقال لها مهد عيسى. وقبة السلسلة التي كان يحكم بها سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ودائرها ستون خطوة. وبالقدس: كنيسة اليعاقبة: بها بئر، يقال إن المسيح عليه الصلاة والسلام اغتسل نمنها، وآمنت السامرة على يده عندها. وبالقدس: برج داود ومحرابه. وبظاهر القُدس: عين سلوان: ماؤها مثل ماء زمزم، وهي تخرج من تحت قبة الصخرة، وتظهر في الوادي قبليَّ البلد. وكنيسة السليق: يقال إن المسيح عليه الصلاة والسلام منها رفع إلى السماء. وكنيسة صهيون: يُقال إن المائدة نزلت على عيسى والحواريين بها. وادي جَهنَمَّ: به قبر مريم أم عيسى: يُنزل إليه في ستّ وثلاثين درجة. وبه العمد من الصخر المانع والرخام. وتحت القبة: ستة عشر عموداً، ثمانية حمر، وثماني خضر. ولها أربعة أبواب على كل باب ستة عمد من الرخام. وبه كنيسة وهي الآن مشهد لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. وبأرض فلسطين: قبر راحيل أم يوسف عن يمين الطريق السالك من القدس إلى الخليل. بيت لحم: بلدة بها مولد عيسى عليه الصلاة والسلام، ويقال إن قبري داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام بها. حَلْحُلول: قرية بها قبر يونس عليه الصلاة والسلام، على ما زعموا. رامة: قرية بها مقام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. كفريريك: قرية بها قبر لوط عليه الصلاة والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ياقين: قرية بها مقام لوط عليه الصلاة والسلام، وبها كان يسكن بعد رحيله من زُغر. والموضع الذي خُسف بقومه هو اليوم: البحيرة المنتنة: ويقال الميتة، وقيل إن الحجر الذي ضربه موسى) فانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً (بزُغر. مدينة الخليل عليه السلام: بها مغارة فيها قبر إبراهيم الخليل، واسحق، ويعقوب، وسارة، عليهم الصلاة والسلام. وقيل إن قبر آدم، ونوح، وسام، فيها. والمغارة تحت هذه المغارة التي تُرى الآن وتزار قال. قال علي بن أبي بكر الهروي: حدثني جماعة من مشايخ " الخليل " أنه لما كان في زمان بغدوين الملك انخسف موضع في هذه المغارة، فدخل جماعة من الفرنج إليها باذن الملك، فوجدوا فيها إبراهيم، وإسحاق ويعقوب، وقد بليت أكفانهم، وهم مستندون إلى حائط، وعلى رؤوسهم قناديل وهي مكوفة، فجدّد الملك أكفانهم، ثم سُد الموضع، وذلك في سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. بيت جبرين: قيل هو البلد الذي ذكره الله في القرآن في سورة المائدة، وهو قوله) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الُمقَدَّسَة (إلى آخر الآية. وقيل: إن المدينة التي قال إن فيها قوما جبارين إنها أريحا. وقيل عمّان، وهو الصحيح. ووادي النمل: وقيل إن به خاطبت النملةُ سليمان ابن داود عليهما الصلاة والسلام. عسقلان: بها بئر إبراهيم. ويقال إنه حفرها بيده. وبه مشهد الحسين عليه السلام، كان به رأسه. فلما أخذها الفرنج نقله المسلمون إلى مدينة القاهرة. وذلك سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وبالرملة: قبر عُبادَة بن الصامت، والصحيح أنه بالقدس الشريف. والله أعْلمُ بالصَّواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ذكر الجزيرة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله. الحمد لله المعين على المقاصد السديدة، والهادي إلى مظان الإرادات الرشيدة، والموفق لما يرام من المعارف المفيدة، والمرشد إلى الاعتبار بحوادث الدهور المبيدة. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه صلاة تضمن من الفضل مزيده، وتحصل للمثابر عليها نعما عديدة. وبعد: فقد كنا قدمنا فيما سلف من كتابنا ذكر الشام، وتنقل بلاده في أيدي الملوك والأمراء نحن عاطفون عليه بذكر الجزيرة، ومن ملكها أولا وأخيرا إلى حين خروجها عن أيدي المسلمين إلى أيدي التتار - أنقذها الله منهم -. ونختم بذكر الموصل وإن لم تكن من الجزيرة، وإنما ساقنا إلى ذكرها المجاورة والمصاقبة، ولأنها كانت معدودة في الولايات الجزرية في صدر الإسلام في أيام بني أمية وبعض ملوك بني العباس. ذكر متأخرو المؤرخين المعنيين بتحديد الأسقاع أن الجزيرة تعرف بجزيرة أثور لمدينة كانت بها تسمى بهذا الاسم آثارها باقية قريبا من الموصل وإليها ينسب الملوك الآثوريين من الجرامقة، ملوك الجزيرة والموصل. وسميت جزيرة لأنها بين نهري الفرات ودجلة وهي تشتمل عندهم على ثلاثة أسقاع: أحدها: ديار ربيعة. والثاني: ديار مضر. والثالث: ديار بكر. فأما ديار ربيعة ففيها من البلاد ممايلي بلاد الموصل: بلد وأذرمة ونصيبين - وهي القصبة - ودارا والخابور ورأس العين وسنجار وجزيرة بني " عمر ". وأما ديار مضر: فحران - وهي القصبة -، والرها والرقة وسروج. وأما ديار بكر فأمهات بلادها: ميافارقين وأرزن وآمد، وماردين. وفي خلل هذه البلاد " بلاد " أخر أرضبنا عن ذكرها لصغرها، وكنها لم يستبد بها ملك، وإنما كانت تنتقل في أيدي المتغلبين على الأسقاع، كما سنبين فيما يأتي إن شاء الله. وأما من تقدم من مصنفي المسالك والممالك كابن خرداذبه وابن واضح فإنهم لم يفصلوها هذا التفصيل؛ بل جعلوها سقعا واحدا سموه: ديار ربيعة؛ إلا أن ابن واضح عد في كورها كورة " بلد " وبازبدي، وجزيرة الأكراد وأظنها - والله أعلم - جزيرة بني عمر لأن الأكراد كثيرا ماينتابونها، وينتجعونها لقضاء أوطارهم، وكورة باعر بابا وكورة سنجار وكورة كفر توثا. وعد ابن خرداذبة فيها: برقعيد وطورعبدين وقرقيسيا. وسبب هذا الاختلاف تداول أيدي الملوك عليها، وتغلب بعضهم على بلاد بعض. وقد رأينا أن نعول على القول الأول، فإنه أشمل وأعلم. ونذكرها منذ فتحت، وانتقلت في أيدي الملوك بلدا بلدا، وموضعها من المعمور في الأقاليم: الرابع - حسب الاستطاعة الممنوحة من ذي القوة والحول، والإفضال والطول -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فتحت الجزيرة على يد عياض بن غنم بن زهير ابن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن أهيب " بن ضبة " ابن الحارث بن فهر. كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى سعد بن أبي وقاص: إن الله تبارك وتعالى فتح على المسلمين الشام والعراق فابعث من قبلك جندا من العراق إلى الجزيرة، وأمر عليه خالد بن عرفطة، أو هاشم ابن عتبة، أو عياض بن غنم. فلما انتهى إليه كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: ما أخر أمير المؤمنين عياض بن غنم إلا أنه له فيه رأي أن أوليه، وأنا موليه، فبعثه وبعث معه جيشا، فيه أبو موسى الأشعري وابنه عمر بن سعد، وهو غلام حدث السن، وعثمان بن أبي العاص بن بشر الثقفي، وذلك في سنة تسع عشرة. فخرج عياض إلى الجزيرة، فنزل بجنده على الرها فصالحه أهلها على الجزيرة. وصالحت حران حين صالحت الرها على مثل ذلك. وقرأت في تاريخ ابن الأثير قال: وكان فتح الجزيرة في سنة سبع عشرة على يد عياض بن غنم " الربعي ". ذكر من ولي الجزيرة بمجموعها من الأمراء والوزراء إلى حين تفرقت بلادها ولي عليها عياض بن غنم إلى أن توفي في سنة عشرين. فولى عليها عمر بن الخطاب، - رضي الله عنه -: حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها. والوليد بن عقبة على عربها. ولم يزل الوليد أميراً عليها إلى أن عزله عمر - رضي الله عنه - وولى: فرات بن حيان وهند بن عرو. ولم يزل حبيب بن مسلمة أميرا إلى أن صرفه عمر في آخر سنة إحدى وعشرين. وولى عليه وعلى قنسرين وحمص عمير بن سعد ولم يزل عمير والياً عليهما إلى أن توفي عمر - رضي الله عنه - لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. وولي الخلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فأقر عميرا على إمرته، فأصابه مرض، فاستأذن عثمان في الرجوع إلى أهله، فأذن له. وجمع لمعاوية بين الشام والجزيرة ولك في سنة ست وعشرين. فولى معاوية الجزيرة حبيب بن مسلمة بن مالك وحمص وقنسرين. ثم عزله عن الجزيرة وولى عليه الضحاك بن قيس الفهري. ولم يزل واليا عليها إلى أن قتل عثمان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وولي - عليه السلام - الخلافة. فولى على الجزيرة الأشتر النخعي واسمه مالك فسار إليها، فلقيه الضحاك فاقتتلا بين حران والرقة بمكان يقال له: المرج إلى وقت المساء. وبلغ ذلك معاوية فأمد الضحاك بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد في خيل عظيمة، فبلغ ذلك الأشتر فانصرف إلى الموصل، وأقام بها يقاتل من أتاه من أجناد معاوية. ثم كانت وقعة صفين وانجلت عن أمر الحكمين فولى علي - عليه السلام - على الجزيرة شبيب بن عباس. وقتل عليٌ - عليه السلام - في شهر رمضان سنة أربعين. وولي الحسن ولده، وصالح معاوية في أوائل سنة إحدى وأربعين، واستقل بالإمرة، فولى من قبله النعمان بن بشير لجزيرة الشام. ودامت ولايته إلى أن توفي معاوية في سنة ستين من الهجرة. وصار الأمر بعده لولده يزيد، فأقر النعمان على ولايته، ثم عزله في سنة اثنتين وستين. وولى أبا خالد سعد بن مالك بن بحدل الكلبي ثم عزله بزفر بن الحارث الكلاني، ولم يزل إلى أن مات يزيد في سنة أربع وستين. وولي بعده ولده معاوية فأقر زفر على ولايته. ومات معاوية في شهر ربيع الأول من السنة. وولي مروان ابن الحكم فاستمر زفر بن الحارث فدعا لعبد الله بن الزبير على منابر قنسرين، والجزيرة، فندب إليه عبيد الله بن زياد لمحاربته لأنه كان قد خرج من البصرة وعقد البيعة فتوجه عبيد الله بن زياد وطرد زفر من قنسرين إلى الجزيرة وولي عليها. وتوفي مروان في شهر رمضان سنة خمس وستين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وتولى ولده عبد الملك وقام المختار بن " أبي " عبيد داعيا لآل محمد بالكوفة. وادعى الأخذ بثأر الحسين وأن قيامه بأمر محمد بن الحنفية - أخي الحسين لأبيه -. ووافقه إبراهيم بن الأشتر النخعي وغلب على الكوفة وأخرج ابن مطيع العدوي منها بأمان. وعقد ليزيد بن أنس الأسدي على الجزيرة ورتب معه عشرة آلاف فارس، فسار حتى قرب من نصيبين وقاتل يزيد بن أنس فهزمه، وقتل خلقا من أصحابه، فلما علم المختار بهذه الوقعة قال لإبراهيم بن الأشتر: إنما هو أنا وأنت فسيره إليهم فخرج ومعه ثلاثون ألفا، فبلغ ذلك عبد الملك فعقد للحصين وعبيد الله بن زياد، وبعث معهما أربعين ألفا، فتقارب العسكران، وتوافوا بمكان يعرف بالخازر. فلما وضعت الحرب أوزارها قتل الحصين بن نمير وعبيد الله بن زياد وحتى إبراهيم بن الأشتر على عسكر أهل الشام فجاءته هند بنت أسماء بن خارجة الفزاري، امرأة عبيد الله بن زياد، فأخبرته بانتهاب ماكان معها من مالها. فقال لها: كم ذهب منك؟ قالت: ماقيمته خمسون ألف درهم، فأمر لها بمائة ألف درهم، ووجه معها مائة فارس إلى البصرة وأكرم نزلها. وكانت هذه الوقعة سنة سبع وستين. ودخل عُبيد " الله " بن عمرو الساعدي على إبراهيم بن الأشتر فأنشده: الله أعطاك المهابة والتُّقى وأحلَّ بيتك في العديد الأكثر وأقرَّ عينك يوم وقعة خازر ... والخيلُ تعثرُ بالقنا المتكسر من ظالمين كفتُهُم آثامهم ... تُركوا لعافيةٍ وطيرٍ حُسرِ ما كان أجرئهم جزاهم ربهم ... شرّ الجزاء على ارتكاب المُنكرِ إني أتيتك إذ تناءى منزلي ... وذممتُ إخوان الغِنى من معشرِ وعلمتُ أنك لا تُضيعُ مِدحتي ... ومتى أكُنْ بسبيل خيرٍ أشكُرِ فهلُمَّ نحوي من يمينك نفحة ... إن الزمان ألحَّ يابن الأشترِ فأعطاه عشرة آلاف درهم. وأقام إبراهيم بن الأشتر بالموصل. ووجه عماله إلى مدن الجزيرة. ثم قتل مُصعبُ بن الزبير المُختار واستولى على الجزيرة فصارت بينه وبين عبد الملك دولا، إلى أن قُتل في جمادى الآخر سنة إحدى وسبعين. وصفت الإمرة من أكدار المنازعات لعبد الملك فولّى أخاه محمداً قنسرين والجزيرة، ولم يزل والياً عليها إلى أن مات عبد الملك. ووليَ الأمرُ بعده ولده الوليدُ. فأقرَّ محمدا، على ولايته. ثم عزله في سنة تسعين. وولىَّ أخاه مسلمة، وكان أكثر مقامه بحرّان، وبنى فيها قصرا، ولم يزل متوليا إلى أن مات الوليد. وولي سليمان - أخوه -. فسيّر أخاه مسلمة غازيا إلى القسطنطينية واستخلف على عمله. " ثم مات " سليمان. وَوُلّى يزيد بن عقيل السلمي - من أهل دمشق - ولم يزل إلى أن توفي عمر بن عبد العزيز. وولي يزيد بن عبد الملك فأقره مُدَّةً ثم عزله بعمر بن هبيرة، ثم عزله، وولّى مروان بن محمد ولم يزل بها واليا إلى أن توفي يزيد. ووليَ هشام بن عبد الملك في سنة خمس ومائة، فأقرَّ مروان ثم أضاف إليه أرمينية وأذربيجان في سنة أربع عشرة ومئة، ولم يزل عليها إلى أن توفي هشام سنة خمس وعشرين ومائة. وولي الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فأقره، واستمر بقية أيامه، وأيام إبراهيم بن الوليد إلى أن صار الأمر إليه، فسار إلى دمشق. وولىَّ على الجزيرة سعيد بن مسلمة بن أُمية ابن هشام الأموي وكان نائبه بها، ثم عزله. وولىَّ أبان بن يزيد بن محمد بن مروان بن الحكم واستمر بها إلى أن قُتل مروان. وصارت الخلافة لبني العباس. " فقدم عبد الله بن علي الجزيرة، فلقيه أبانُ مُسوِّدا، ودخل في طاعته، وولى على الجزيرة موسى ابن كعب، وخرج عنها إلى الشام فبيّض أهلُ الجزيرة، وخلعوا أبا العباس السّفّاح، وساروا إلى حرّان، وفيها موسى بن كعب في ثلاثة آلاف فارس، وعليهم إسحاق ابن مسلم العقيليُّ، وكان نائب مروان بن محمد على أرمينية، وحاصروا موسى نحوا من شهرين. فوجّه أبو العباس السفاح أخاه أبا جعفر في عسكرٍ، فاجتاز بقرقيسية والرَّقة، وسار نحو حرّان، فرحل إسحاقُ إلى الرُّها، وخرج موسى بن كعب إلى أبي جعفر. ثم كانت بينه وبين إسحاق عدة وقعات. وكان في ستين ألفاً، التجأ في آخرها إلى سُميساط فحاصره فيها سبعة " أشهرٍ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وكان إسحاق يقول: في عُنقي بيعةٌ، وأنا لاأدعها حتى أعلم أقُتِلَ صاحبها أم مات؟! فأرسل إليه أبو جعفر، وأخبره أن مروان قد قُتل. فسأله أن ياربص به حتى يتيقن؛ فأجابه. فلما تيقن طلب الأمان. فكتبوا إلى السفاح، فجاءهم الجواب بأمانه. وخرج إسحاق إلى أبي جعفر فأكرمه. وولى السفاح أخاه أبا جعفر الجزيرة وأذربيجان وأرمينية. وقيل: إن عبد الله بن علي هو الذي أمّن إسحاق وولى أبو جعفر من قِبَله الجزيرة مُقاتِلَ بن حكيم العكي من أهل مروٍ ثم توفي السفاح في سنة ستٍ وثلاثين ومائة. ووليَ أبو جعفر المنصور الخلافة، وكان بالحجاز. فلما رجع بلغه خروج عبد الله بن علي وقصدهُ الجزيرة ودعواه " أن " السفاح كان ولاه العهد، وأنه نزل على حرَّان وبها مقاتل العكي فتحصن منه فحصره أربعين يوما حتى نزل عنها بالأمان. وأقام معه أياما، ثم وجه به إلى عثمان ابن عبد الأغلى بن سُراقة الأزدي، وعلى يده كتابٌ، فلما وصله قتلهُ، فسيّر أبو جعفر أبا مسلم إلى الجزيرة بعسكر فالتقى بعبد الله ودامت الحروب بينهم خمسة أشهر، حتى خرج عبد الله عنها منهزما إلى البصرة. فولى المنصور الجزيرة حُميد بن قحطبة ثم عزله. وولى أخاه العباس على الجزيرة، والثغور والعواصم وذلك في سنة اثنتين وأربعين ومائة. وأقام متوليا عليها إلى أن عزله في سنة خمسٍ وخمسين. وولى موسى بن كعب ثم عزله سنة ثمان وخمسين. وولى مكانه الهيثم بن سعيد، ولم يزل عليها إلى أن مات المنصور في بقية السنة. وتولى المهدي فأقره عليها إلى أن عزله سنة تسع وخمسين وولاها الفضل بن صالح ثم عزله. وولى عبد الصمد بن علي ثم عزله. وولى زُفر بن عاصم ثم عزله. وولى عبد الصمد بن علي ثم عزله. وولى علي بن سليمان ودامت ولايته إلى أن مات المهدي في سنة تسع وستين. وولي موسى الهادي فعزل علي بن سليمان عن الجزيرة. وولى منصور بن زياد واستمرت ولايته إلى " أن " مات سنة سبعين. وولي هارون الرشيد فعزل منصورا. وولى أبا هريرة محمد بن فروخ ثم عزله سنة سبع وسبعين. وولى حرب بن قيس. ثم خرج الوليد بن طريف التغلبي بالجزيرة في سنة ثمان وسبعين وقتل " إبراهيم بن " خازم بن خزيمة بن طيبين وقويت شوكته. وعاث في أرض الجزيرة وأرض الموصل إلى أرمينية وأذربيجان فسيّر إليه الرشيد يزيد بن مزيد بن زائدة. فوقعت بينهما حرب قُتل فيها الوليد بن طريف. وقالت أخته ليلى ترثيه أبياتا وقع إليَّ منها: بِتلِّ نبايا رسمُ قبرٍ كأنه ... على علم فوق الجبال منيف تضمن جودا حاتميا ونائلا ... وسورة مقدام وقلب حصيف ألا قاتل الله الحثا كيف أضمرت ... فتىً كان بالمعروف غير عفيف فإن يكُ أرداه يزيد بن مزيد ... فيا ربَّ فضها وصفوف ألا يا لقومي للنوائب والردى ... ودهر مُلحٍ بالكرام عنيف وللبدر من بين الكواكب قد هوى ... وللشمس همت بعده بكسوف فيا شجر الخابور مالك مورقا؟! ... كأنك لم تحزن على ابن طريف! ولا الحيل إلا كُلَّ جرداء شطبة ... وكل حَصان باليدين عروف فلا تجزعا يا ابني طريف فإنني ... أرى الموت بكل شريف فقدناك فقدان الربيع وليتنا ... فديناك من دهمائنا بألوف وقال مسلم بن الوليد من قصيدة: يفترُّ عند افترار الحرب مبتسما ... إذا تغير وجه الفارس البطل موفٍ على مهجٍ، في يوم ذي رهج ... كأنه أجلٌ يسعى إلى أمل ينال بالرفق ما يعيا الرجال به ... كالموت مستعجلا يأتي على مهل واستعمل الرشيد على الجزيرة خزيمة بن خازم بن خزيمة واستمر بها إلى أن عقد الرشيد لولده القاسم على الجزيرة والشام سنة ستٍ وثمانين، وكان في حِجرِ عبد الملك بن صالح فأقره عليها. ولم يزل القاسم على الجزيرة إلى أن مات الرشيد في جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة. وولي ولده محمد الأمين فأقر أخاه القاسم على الشام. وولى خزيمة على الجزيرة، ثم عزل أخاه عن قنسرين وأضافها إلى خزيمة بن خازم ثم عزله عنها في سنة ستٍ وتسعين. وولى عبد الملك بن صالح الجزيرة والشام فمات في بقية السنة. ثم وليها خزيمة، واستمر بها إلى قَتلِ الأمين في سنة ثمان وتسعين. وولي المأمون فعزله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وولى طاهر بن الحسين الجزيرة والشام وغيرهما. واستمر طاهر بن الحسين في ولايته بالجزيرة إلى أن عزله في سنة خمس ومائتين، وولاه خراسان. وولى يحيى بن معاذ الجزيرة فمات سنة ست ومائتين. فولى عبد الله بن طاهر بن الحسين، ويُقالُ في سنة سبع، ولم يزل بها إلى أن عزله المأمون. وولى ولده العباس على الجزيرة والثغور والعواصم ولم يزل العباسُ متوليا إلى أن مات أبوه المأمون في سنة ثمان عشرة ومائتين وولي أخوه المعتصم الخلافة. فأقر ابن أخيه العباس على ولايته إلى أن قبض عليه عند منصرفه من فتح عمورية لما بلغه أنه يريد التوثب على الخلافة في سنة ثلاث وعشرين ومائتين. وولى أشناس التركي الجزيرة والشام وديار ربيعة فولى فيها من قِبله. ولم يزل مستمرا بها إلى أن مات المعتصم في شهور سنة سبع وعشرين ومائتين. وولي الواثق بالله الخلافة. فأقر أشناس على ولايته. ومات أشناس في سنة ثلاثين ومائتين. فولى الواثق بالله عُبيد الله بن عبد العزيز بن عبد الملك بن صالح الجزيرة والشام، ثم عزله. وولى محمد بن صالح بن عبد الله الجزيرة وتوفي في سنة إحدى وثلاثين ومائتين. فعقد الواثق لأحمد بن مسلم بن سلم بن قتيبة الباهلي على الجزيرة والثغور والعواصم، وحلب وقنسرين، فغزا شاتياً، فأصاب الناس شدةٌ عظيمةٌ، بحيث ماتت أكثر خيول الناس، فوجد الواثق بالله عليه فعزله. وولى نصر بن حمزة الخزاعي الجزيرة والثغور والعواصم وحلب. - ذكره الصاحب كمال الدين عمر المعروف بابن العديم -. ولما مات الواثق بالله في سنة اثنتين " وثلاثين " ومائتين. ووُلي المتوكل على الله جعفر بن المعتصم فأعاد أحمد بن سعيد إلى ولاية الجزيرة، فاستمر بها إلى أن عقد لابنه المنتصر في سنة خمس وثلاثين ومائتين على الجزيرة والشام. فولى فيهما من قِبله بُغا الكبير، فاستمر على ولايته " إلى " أن بويع له بعد قتله لأبيه في سنة سبع وأربعين ومائتين، فأشخص بُغا إليه. وولى وصيفا. ثم مات المنتصر في بقية السنة. وولي المستعين. فأقره إلى أن عزله في سنة خمسين ومائتين. وولى أحمد المولد، ولم يزل إلى أن توفي المستعين سنة اثنتين وخمسين ومائتين. وولي المعتز فعزل أحمد عن الجزيرة وولاه حلب ثم عزله بعد أيام قلائل، ثم أعاده إلى الجزيرة، فاستمر بها إلى أن عزله. وولى أبا الساج ديوداد، الجزيرة والشام. فاستمر بها إلى أن خُلع المعتز في مستهل شعبان سنة خمس وخمسين وولي المهتدي، فأقره على ولايته إلى أن تغلب عيسى ابن الشيخ على الشام. فانحاز إلى الجزيرة. فتغلب على آمد وميافارقين، وديار بكرٍ جميعها، وبقي فيها إلى أن قُتل المهتدي في سنة ست وخمسين. وولي المعتمد، فعقد لأخيه الموفق على الجزيرة والشام. فولى الجزيرة محمد بن أتامش ولم يزل بها إلى أن استولى أحمد بن طولون على الشام، فسار إلى الجزيرة فطرد محمدا عنها، وولى أخاه موسى بن أتامش ديار ربيعة وولى غلامه لؤلؤا ديار مضر، فقصد موسى إسحاق بن كنداج في سنة ست وستين فطرده إلى ديار ربيعة واستولى عليه " و " ولى فيها، وعاد إلى الموصل. واستمر لؤلؤ على ديار مضر إلى أن خالف مولاه أحمد ابن طواون وصارت إلى الموفق وذلك في سنة تسع وستين. واستولى إسحاق بن كنداج على الجزيرة، فلما توفي أحمد بن طولون في سنة سبعين طمع ابن كنداج، وابن أبي الساج في الشام، وكاتبا الموفق، واستمداه ثم جمعا وقصدا بلاد أحمد متغلبين عليها، إلى أن وصلا دمشق فملكوها، وولوا فيها، فخرج إليهما خُمارويه فطردهما عن البلاد، وهجم الشتاء، وتفرقت العساكر، ووصل المعتضد في جموعه وعساكره إلى دمشق، وخرج عنها يريد مصر. فخرج إليه خمارويه وكانت بينهما وقعة الطواحين التي انهزم " فيها " المعتضد. وسار خمارويه واسترجع البلاد الشامية من إسحاق ابن كنداج بن أبي الساج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فلما كانت سنة ثلاث وسبعين اختلف محمد بن أبي الساج، وإسحاق بن كنداج، وكانا متفقين بالجزيرة. وذلك أن أبي الساج نافس إسحاق في الأعمال، وأراد التقدم، فامتنع عليه إسحاق. فكاتب ابن أبي الساج خمارويه وانضم إليه، وخطب له بنسرين. وسيّر ولده ديوداد رهينة، فسار خمارويه إلى الشام واجتمع بابن أبي الساج ببالس. ثم عبر ابن أبي الساج الفرات إلى الرقة فلقيه ابن كنداج وجرى بينهما حرب انهزم فيها اسحاق، واستولى محمد على الجزيرة والموصل ودعا لخمارويه بن أحمد، ثم خالف عليه، وقصد الشام فخرج خمارويه من مصر فالتقيا على ثنية العقاب فانهزم ابن أبي الساج فتبعه خمارويه إلى أن عبر الفرات، فعبر خلفهن وتبعه إلى أن وصل إلى بَلد وجهز خلفه إسحاق بن كنداج ومعه عسكر كثيف فالتقى به، ووقعت بينهما حرب عند قصر حرب من أعمال الموصل فأجلت عن هزيمة ابن كنداج. وسار حتى عبر الفرات وصار إلى خمارويه، وتبعه ابن أبي الساج إلى الرقة فأقام بها داعيا للمعتمد، فبعث خمارويه ابن كنداج في جيش فعبر الفرات، وأوقع بعسكر ابن أبي الساج فانهزم بين ديه إلى الموصل، ثم سار إلى بغداد. واستولى ابن كنداج على ديار ربيعة وديار مضر وذلك في سنة ست وسبعين واستمر في الجزيرة إلى أن توفي في سنة ثمان وسبعين. وولي ولده محمد الجزيرة واستمرت ولايته داعيا لخمارويه إلى أن مات مقتولا في سنة اثنتين وثمانين. فدعا محمد للمعتضد واستمر به إلى أن عزله عنها. وولى فاتكا، وبقيت في يده إلى أن عزله في سنة ست وثمانين. وولى ولده المكتفي الجزيرة، فسكن الرقة ولم تزل في يده إلى أن مات المعتضد سنة تسع وثمانين. وبويع المكتفي فسار من الرقة إلى بغداد واستخلف على الجزيرة من يضبطها. ثم ولى مؤنسا الخادم على الجزيرة والشام ومصر فولى ديار ربيعة الحسين بن حمدان إلى سنة ثلاث وثلاثمائة، فخرج عن طاعة المقتدر وكان مؤنس غائبا بمصر. فبعث إليه الوزير علي بن عيسى رائقا بجيش، فالتقيا، فكسره الحسين، فسار إليه مؤنس من مصر. فهرب من بين يديه وتبعه إلى جزيرة ابن عمر وتفرق عسكره عنه، فسار إليه عسكر مؤنس فقبض عليه وحمله إلى بغداد راكبا على جمل. ثم ولى مؤنس الخادم بعض ديار ربيعة وصيفا البكتمريَّ واستمر بها إلى أن مات العباس بن عمرو - متولي ديار ربيعة - سنة خمس وثلاثمائة. فولى على الجزيرة وصيفا البكتمري فعجز عن ضبطها، فعُزل عنها. وولى جني الصفواني، وبقي بها إلى أن عُزل عن ديار ربيعة في سبع وثلاثمائة. وقلدها إبراهيم بن حمدان. وبقيت ديار مضر في يده.. ثم عزل إبراهيم في سنة ثمان. وولي أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان ديار ربيعة والموصل والجبال وطريق مكة، ولم تزل في يده إلى أن قتله المقتدر سنة سبع عشرة وكان نائبه على ديار ربيعة والموصل ولده ناصر الدولة الحسن فأقره المقتدر عليها. ثم ولاه استقلالا ديار ربيعة وصرفه عن الموصل سنة ثمان عشرة، ومازالت ديار ربيعة في يد بني حمدان بعدُ. وسنذكر أخبارهم فيما نأتي به من أخبار البلاد على تفاصيلها. وأما ديار مضر فإن آخر ما اتصل بعلمي من أخبار جني الصفواني فيما نقلته من تاريخ ابن الأثير قال: في سنة اثنتي عشرة ورد جني الصفواني بغداد من يدار مضر، وما أعلم هل عاد إليها أم لا!!. وقرأت في كتاب عنوان السِّير لأبي " الحسن " محمد " بن " عبد الملك الهمذاني في ترجمة بني حمدان: وملك سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان ديار مضر عند انصراف بدر الخرشني في سنة خمس وعشرين. ونقلت من تاريخ ابن الأثير في حوادث سنة سبع وعشرين وثلاثمائة: استولى أبو بكر بن رائقٍ على الرَّاضي في سنة ثمان وعشرين. وسار إلى الجزيرة فولى فيها من قِبله طريفا " السبكي "، وأضاف إليه قنسرين، والعواصمز ثم خرج أبو بكر من الجزيرة وعبر الفرات إلى الشام. فوقعت بينه وبين الإخشيد حروب نكص فيها ابن رائق على عقبه إلى العراق فقتله ناصر الدولة بن حمدان في رجب سنة ثلاثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وقلد الراضي ما كان بيد ابن رائق من البلاد لناصر الدولة ولقبه أمير الأمراء وضُربت السكة باسمه، فقلد يأنس المؤنسي الجزيرة وقنسرين فلما صار إلى قنسرين انحاز إلى الإخشيد. وبقيت الجزيرة في " يد " ناصر الدولة إلى أن قصد معز الدولة بن بويه الموصل فملكها في رمضان سنة سبع وثلاثين. وأراد أن يملك بقية البلاد، فورد عليه الخبر من أخيه ركن الدولة أن عساكر خراسان قد قصدت جُرجان والرَّيَّ، فاضطر إلى مصالحة ناصر الدولة وترددت الرسل بينهما إلى أن استقرت القاعدة على أن يؤدي ناصر الدولة عن الموصل والجزيرة مائتي ألف ألف درهم في كل سنة، ويخطب في بلاده لمعز الدولة وعماد الدولة ثم رحل إلى بغداد. ثم لوى ناصر الدولة بما ضمن لمعز الدولة فقصده في سنة سبع وأربعين، واستولى على الموصل، فهرب ناصرُ الدولة بين يديه إلى نصيبين، فتبعه إليها، فخرج منها إلى ميافارقين. ثم قصد حلب إلى أخيه سيف الدولة، فكتب سيف الدولة إلى معز الدولة يسأله القيام على الصلح، ويضمن له الوفاء بالمال، وحمل له مالا، وذلك في المحرم سنة ثمان وأربعين فنزل ناصر الدولة لأخيه سيف الدولة عن ديار مضر. ولم تزل ديار ربيعة في يد ناصر الدولة إلى أن قبض عليه ولده أبو تغلب وحبسه في قلعة كواشى من أعمال الموصل فمات فيها بعد شهر، وذلك في سنة ستٍ وخمسين وثلاثمائة. وكان قد ساءت أخلاقه، وضيق على أولاده، وأصحابه، وخالفهم في أغراضهم. وقام أبو تغلب لمعز الدولة بما كان على أبيه من الضمان. ولم تزل ديار مضر في يد سيف الدولة إلى أن وثب أهل حرَان فيها، وكان نائب سيف الدولة عليها هبة الله ابن أخيه ناصر الدولة عنده بحلب فسار إليهم هبة الله، فأغلقوا دونه أوابها، فحاصرهم شهرين، فلما عجز كتب إلى سيف الدولة، فسار إليه، وراسلهم، وضمن لهم ما اقترحوه، فسلموا له البلد، فولى فيها من قِبله، وعاد عنها إلى حلب، فلحقه في الطريق عشية أرجف الناسُ بموته، فسار هبة الله بن ناصر الدولة إلى حرَّان ووثب فيها، وحلّف أهلها فيها. فلما علِم سيف الدولة سيّر غلامه نجا فأغلق هبة الله وأهل حران أبوابها دونه، فضايقها نجا حتى سُلِّمت إليه. وخرج منها هبة الله إلى أرزن، فدخلها، وصادر أهلها بألف ألف درهم أدوها في خمسة أيام، فأفقرهم، ثم خرج عنها، وتركها شاغرة بغير والٍ، فتسلط العياّرون عليها وذلك في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. ثم ولى فيها سيف الدولة، واستمرت في أيدي نوابه إلى أن توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة. وتولى ولده سعد الدولة أبو المعالي شريف. ودامت في أيدي نوابه إلى أن قصدها أبو تغلب فضل الله بن ناصر الدولة في سنة تسع وخمسين فأغلق أهلها أبوابها، فحاصرها، وضايقها حتى أخذها واستعمل عليها سلامة البرقعيدي، فإن أهلها طلبوه منه، وكان إليه عمل الرقة. واجتمع لأبي تغلب ديار مضر وديار ربيعة. فلما كانت سنة ثمان وستين وثلاثمائة، بعث سعد الدولة جيشا إلى حران فوقعت بينه وبين سلامة البرقعيدي حروب كثيرة. وكان سعد الدولة كتب إلى عضد الدولة وعرض نفسه على خدمته، فأنفذ عضد الدولة جيشا صُحبة [النقيب] الطاهر أبي أحمد - والد الشريف ارضي -، إلى البلاد، فتسلمها بعد حروب كثيرة جرت بينهما، وأخذ النقيب الرقة لعضد الدولة، وأطلق ما فيها لسعد الدولة. وفي هذه السنة انقرضت دولة بني حمدان، واستولى عضد الدولة على ملكهم، وخرج أبو تغلب من بلاد الجزيرة إلى الشام فقُتل لعى الرملة بفلسطين في حرب كانت بينه وبين دغفل بن المفرج بن الجراح. ثم لم تزل بلاد الجزيرة في يد سعد الدولة بن سيف الدولة إلى أن توفي في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. وولي بعده أبو الفضائل سعيد الدولة واستولى على ما كان بيد أبيه من البلاد. وبموته انقرضت دولة بني حمدان وتفرقت بلاد الجزيرة، وصار كل بلد في يد ملك مستبد به. نحن نأتي على ذكرها بلدا بلدا، ونعيد الجملة إلى التفصيل، ونأتي بالتفريع تبييناً لما مضى من التفاصيل، ونقرها على ما رسمت أوضاعها، ورتبت أصقاعها. ذكر ديار مضر وقصبتها حرّان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 كانت قبل أن تخربها التتر في مستوٍ من الأرض إلى الطول ماهي، مبنية بالحجر والكلس، متسعة الشوارع، ولها سور منيع، وربضٌ عليه سورٌ أيضا متصل بسور المدينة، وقلعة كانت تسمى قديما المدور وهي أحد هياكل الصابئة التي كانت بحرّان بناءها الملك العادل سيف الدين، أبو بكر، محمد ابن أيوب. وللمدينة سبعة أبواب: باب الرقة وهو مسدود -. والباب الكبير. وباب البيار. وباب يزيد. وباب الفدان. والباب الصغير. وباب السر. وباب الماء - وكان مسدودا - ويقال: إن في برج " هذا الباب " حيتين من نحاس هما طلمسان للحيات ولربضها " أيضا أبواب ": وهي بين نهرين يسمى أحدهما: نهر ديصان، والآخر: نهر جلاب. ولها من هذا النهر مجار إلى مصانع متخذة فيها كثيرة. وخروج هذا النهر من قرية تدعى الدب وهو يسقي حران ويدخل إلى بعض آدر البلد، وإلى الجامع، وإلى مصانع السبيل على قناطر معقودة. وهذه الآبار مالحة يطلق عليها الماء في شهر كانون الثاني، فيبقى الحلو فوق المالح لا يختلط به، ويستعمله الناس إلى أن ينفد. وبها أربع مدارس كلها حنبلية: 1 - مدرسة أنشأها نور الدين محمود. 2 - ومدرسة أنشأها شمس الدين شقير. 3 - ومدرسة أنشأتها الحاجة ست النعم، نسيبة شرف الدين بن العطار. 4 - ومدرسة أنشأها شمس الدين، أبو محمد بن سلامة بن العطار. وبها خانقاه أنشأها نور الدين محمود. وبها خانقاه أنشأها جمال الدين شاذنخت " موقوفة " على الفقراء عامة من العرب والعجم. وبيمارستان أنشأه مظفر الدين صاحب إربل، وكان دارا له يسكنها فوقفها. وبها من المزارات: 1 - مسجد إبراهيم الخليل - عليه السلام -. 2 - ومسجد به صخرة يقال إن إبراهيم - عليه السلام - كان يستند إليها. وجدد جامعها نور الدين " محمود بن زنكي " وزاد فيه، وكان هيكلاً للصابئة عظيما، أخذه منهم عياض ابن غنم لما فتح حران وعوضهم عنه موضعا آخر عمروه بحران وكان بأيديهم إلى أن خربه يحيى بن الشاطر - متولي حران - من قبل شرف الدولة " مسلم بن قريش ". طالعها الجوزاء وعطارد. طولها سبع وسبعون درجة. عرضها ست وثلاثون درجة وأربعون دقيقة. ذكر بنائص وإلى من تنسب يقال: إنها بنيت بعد الطوفان بمائتين وخمس وسبعين سنة. بناها هارون، ويقال: آران باسم ملكها. فعربتها العرب فقالوا: حران، وذلك أن الهاء والحاء " من حروف الحلق، فأبدلوا من الحاء " هاء، ثم أسقطوا الألف تخفيفا. هذا القول حكاه " أبو " منصور، موهوب بن " أحمد بن محمد بن " الخضر الجواليقي في كتاب: المعرب. وقال محمد بن جرير الطبري في تاريخه: إن سارة ابنة هاران الأكبر - عم إبراهيم الخليل - ملك حران، ويقال: إن نوحا خطها عند انقضاء الطوفان وخط سورها بنفسه، ثم دمشق بعدها. وقيل: إن إبراهيم - عليه السلام - قال: أخبرني ربي أن حران أول مدينة وضعت على وجع الأرض، وهي العجوز ثم بابل، " ثم مدينة " نينوى، ثم دمشق ثم صنعاء اليمن، ثم إنطاكية، ثم رومية. ويقال: إن إبراهيم كان له أخوان أكبر منه، يقال لأحدهما: آران، وبه سميت حران. وذكر صاحب كتاب ابتداء عمران البلدان في كتابه فقال: حران، بنيت لمئتين وخمس وسبعين سنة بعد الطوفان بناها قينان بن أرفخشذ بن سام بن نوح وسماها: آران. ودخلها من الأنبياء - فيما زعم أهل التواريخ القديمة - نوح، وإبراهيم، ويعقوب، وعيسى. ذكر ملوكها قد ذكرنا من ملكها مع سائر بلاد الجزيرة بعد فتحها إلى أن انتهينا إلى آخر دولة بني حمدان مجملة؛ إذ لم يمكن تفصيل بلادها حينئذ، ثم ملكها بعدهم وثاب ابن سابق النميري وكان نائبا عن سعيد الدولة قبل موته. فلما مات استبد بها، ولم يزل متوليا عليها إلى أن مات سنة عشر وأربعمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فملكها بعده ولده شبيب واستمر بها إلى أن توفي سنة إحدى وثلاثين، فملك حران بعده أخواه: مطاعن وقوام واستمر بها إلى أن أخرجها عنهما شرف الدولة مسلم بن قريش بخلف جرى فيها، وكان واليها من قبلهما: يحيى ابن الشاطر - أحد عبيد بني وثاب - واستولى على الجزيرة والموصل واستمرت حران في يده إلى أن عصي عليه أهلها في سنة ست وسبعين، وهو نازل على دمشق " وأطاعوا قاضيهم ابن جلبة، وأرادوا هم وابن عطر النميري تسليم البلد إلى جبق أمير التركمان " فلما بلغ ذلك شرف الدولة، رحل عن دمشق، وسار إلى حران فحاصرها، ورماها بالمنجنيق، حتى خرب من سورها بدنة، وفتح البلد في جمادى الأولى. وأخذ القاضي وابنين له فصلبهم على السور وصلب معهم مائة نفس، وقطع على البلد مائة ألف دينار. وكانت مدة عصيانهم نيفا وتسعين يوما. ولم تزل حران في يده إلى أن قتل لست بقين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربع مائة. وولي بعده أخوه مؤيد الدولة إبراهيم وكان معتقلاً بقلعة سنجار، فأطلقه خادم كان لشرف الدولة يسمى: لؤلؤ. ما كان في يده من البلاد. ولم تزل في يده إلى أن وصل السلطان ملكشاه إلى الجزيرة قاصدا حلب في سنة تسع وسبعين وأربعمائة. نزل على حران فسلمها له ابن الشاطر - نائب إبراهيم بن قريش عليها - مع غيرها من البلاد، فأقطعها لمحمد بن شرف الدولة وسروج والرحبة وأقطع بزان الرها. وأقطع سالم بن مالك الرقة وقلعة جعبر. وأقطع إبراهيم بن قريش الموصل ونصيبين وسنجار. وفي سنة اثنتين وثمانين تسلم بن جهير بأمر السلطان ما كان في يد إبراهيم بن قريش ويد ابن أخيه محمد وقبض عليهما وسيرهما إلى أصفهان فحبسهما فيها. واستمرت البلاد في يد نواب السلطان، الملك المعظم، ملك شاه إلى أن مات في السادس عشر من شوال سنة خمس وثمانين. وملك ابنه محمود فأطلق إبراهيم بن قريش وابن أخيه. فوصل إبراهيم إلى بلاده، وطرد ابن أخيه عن المملكة، واستولى على بلاده. ولما ملك تاج الدولة الشام خرج من دمشق وسار إلى حران فتسلمها، وتسلم جميع ما كان في يد إبراهيم ابن قريش وذلك في سنة ست وثمانين وكسره كسرة عظيمة، وأسره وعمه مقبل. وقتلهما صبرا في ثاني عشر شهر ربيع الأول. وأقطع حران عماد الدولة بزان وسار إلى البلاد: أرمينية وديار بكر فولى فيها حتى وصل إلى أذربيجان ففسخ عنه قسم الدولة آق سنقر وعماد الدولة بزان. وسار إلى بركياروق، وكان بالري فرجع منكفئا حتى قطع الفرات وصار إلى دمشق. ولما وصل بزان وقسيم الدولة إلى بركياروق وطلباه أن يسير معهما إلى بلادهما حلب وحران والرها وضمنا له أن يكونا بينه وبين تاج الدولة، فسار معهما إلى الرحبة، وخالف بينهما وبين علي بن شرف الدولة وسار كل منهما إلى بلاده. وعاد بركياروق إلى بغداد فخرج تاج الدولة من دمشق يريد حلب، فخرج إليه آق سنقر وبزان وكربغا وكان مقدم عسكر أنجد به بركياروق قسيم الدولة بعسكر فالتقوا به، فانكسروا. وأسر آق سنقر فقتل صبرا. وهرب بزان وكربغا إلى حلب، فقصدها وتسلمها. وقبض على بزان فقتله صبرا، وحبس كربغا بقلعة حلب. ثم سار حتى قطع الفرات، فتسلم حران والرها واستخلف على حران فراجا مملوكة، وتأتمر بها إلى أن قتل تاج الدولة في مصاف كان بينه وبين بركياروق على الري. وتولى ولده رضوان حلبه، وولده دقاق دمشق فعصي قراجا علي رضوان. ولم تزل في يده إلى أن أفرج رضوان عن كربغا بأمر السلطان ركن الدين بركياروق في سنة تسع وثمانين فقصد حران وملكها، وأقر قراجا فيها، وسار إلى الموصل، فلما كانت سنة ست وتسعين خرج قراجا للقاء الفرنج، واستخلف على حران محمد الأصفهاني فعصي بها على قراجا باتفاق من أهلها، وقبض على غلمان قراجا خلا مملوك يعرف بجاولي فجعله مقدم جنده، وأنس به، فجلس معه يوما للشرب، وقد اتفق مع خادم على قتله، فقتلاه، وهو سكران. فبلغ الفرنج ذلك، فسارواحتى نزلوا على حمران. واتفق معين الدين سقمان بن أرتق، وشمس الدولة جكرمش وكان بينهما خُلفٌ على دفع الفرنج عن حران، فسارا إليها، والتقيا بالفرنج على البليخ، فكسرا عسكرهم، واستولى جكرمش على حران، وذلك في سنة سبع وتسعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فلما كانت سنة ثمان وتسعين سار قليج أرسلان بن قطلمش السلجوقي في عسكره، وقصد الرُها فكتب إليه نواب جكرمش بحران يستدعونه ليتسلم حران فوصل إليها وتسلمها، ثم عاد عنها، ولم تزل في يده إلى أن قُتل بعد أخذه للموصل في ذي القعدة سنة خمس مائة. وولى ولده، فطمع الفرنج فيها، وساروا إليها وحاصروها فقصدها سكمان القطبي، صاحب أرمينية بجمع من التركمان فرحل الفرنج عنها، وسلمها لشرف الدين ممدود، صاحب الموصل، فأقطعها نجم الدين يلغازي بن أرتق. وذلك في سنة اثنتين وخمسمائة. ولم تزل في أيدي نوابه إلى أن وصل السلطان محمد إلى بغداد فبلغه موت مودود فسيّر سنقر البرسقي إلى الموصل وتسلم جميع الأعمال التي كانت في يد ممدود بعد امتناعٍ من كافة من كان بها، وتوجه إلى حران، فخافه ممدود نائب إيلغازي المقيم بحران، وراسل الفرن الذين بالرُّها في وصولهم إليه، ليقصده بهم، فأحس رئيس حران جعفر بن أبي الفهم، وأهلها بالحال، فراسلوا البرسقي، يستحثونه في الوصول إليهم، فوصل إليها ملكها، ثم خرج منها، وضيق على أعمال إيلغازي، وذلك في سنة ثمان وخمس مائة. ولم تزل في يد آق سنقر البرسقي إلى أن قصدها نجم الدين إيلغازي في سنة اثنتي عشرة. وقد كان نزل عليها عسكر أوبنا التركماني، فطرده عنها، وتسلمها، وقبض على رئيس البلد جعفر بن أبي الفهم وقطع عليه مالا وحمله إلى ماردين، ولم تزل نوابه بحران إلى أن توفي في سنة ست عشرة. فقصد بُلُك بن بهرام بن أرنق حران فملكها في ربيع الأول من السنة، ولم تزل في يده إلى أن قتل في سنة ثمان عشرة على منبج فملكها تمرتاش، فسار إليها آق سنقر البرسقي فملكها مرة ثانية، ولم تزل في يده إلى أن قُتل في سنة عشرين وخمس مائة. وتولى ولده عز الدين مسعود، ولم تزل حران في يد نواب مسعود إلى أن توفي في سنة إحدى وعشرين. فولى السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه عماد الدين زنكي الموصل وحران وحلب. فأقطع حران سوتكين الكرجي فعصي فيها، فاستعادها منه، ولم تزل نواب عماد الدين بها إلى أن قُتل على قلعة جعبر سنة إحدى وأربعين. فاستولى ولده سيف الدين غازي على ما كان في يده من بلاد الجزيرة ووليّ في حرَّان، ولم تزل في يد نوابه إلى أن توفي بالموصل في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين. وملك بعده أخوه قطب الدين ممدود ما كان في يده من البلاد، وولى في حران. ثم اتفق " أن " أخاه نور الدين، صاحب حلب، لما مات سيف الدين سار إلى سنجار، فملكها، وجرت بينه وبين أخيه أمور أدت إلى الصلح، على أن يعيد سنجار إليه، ويعوضه عنها الرّحبة والرَّقة والرُّها. ثم بعد انفصال هذا الصلح طلب منه حران، فنزل له عنها، فولى فيها من قِبله عبد الملك المقدَّم، فلم تزل في يده إلى أن وصل من الموصل زين الدين علي كوجك إلى حلب فأقبل عليه نور الدين وأعطاه ما يساوي مائتي ألف دينار، وأقطعه حران، وذلك يف سنة سبع وأربعين، ولم تزل في يد نائبه إلى أن استعادها نور الدين وأقطعها لأخيه نصير الدين أميران في سنة اثنتين وخمسين. ولم تزل في يده إلى أن تغير عليه نور الدين، فسيّر عسكره إليه وحاصره، وضايقه إلى أن تسلمها في سنة أربع وخمسين. ثم أقطعها زين الدين علي كوجك، فاستناب فيها خادما له يسمى قايماز، ولم تزل في يده إلى أن تسلمها منه قطب الدين ممدود، صاحب الموصل، واستمرت في يد نوابه إلى أن توفي سنة خمس وستين وخمس مائة. ووليِّ ولده الصغير سيف الدين غازي بعهدٍ منه، وعدل عن ولده الأكبر عماد الدين زنكي، فسار نور الدين في سنة ست وستين إلى سنجار، فأخذها من أخيه أميران وسلمها لعماد الدين زنكي، وسار إلى الموصل، فتسلمها، ثم أنعم بها على ولد أخيه سيف الدين غازي، وأخذ منه حران وغيرها - فيما يأتي ذكره - فأقطعها، وقيل: استناب بها غلاما له يسمى قايماز الحراني، ولم تزل بيده إلى أن توفي نور الدين في شوال سنة تسع وستين. فسار سيف الدين غازي وقصد حران وحاصرها أياما، فامتنع قايماز من تسليمها فقاتله قتالا شديدا، فأطاعه على أن يكون له حران نائبا فيها، فأجابه، فلما نزل إليه قتله، وملك بلاد الجزيرة خلا الرقة ورأس العين وسنذكر تفصيل ذلك. ولم تزل حران في يد نواب سيف الدين إلى أن توفي في سنة ست وسبعين وخمس مائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وتولى عز الدين مسعود - أخوه - فأقطع مظفر الدين كُكُبري حران، ولم تزل في يده إلى أن أنضم إلى صلاح الدين، وخرج عن طاعة عز الدين مسعود، ولم تزل حران في يده إلى أن توفي أخوه زين الدين يوسف بن علي كوجك في سنة ست وثمانين، وكان بيده إربل وأعمالها، فصيّر صلاح الدين ما كان بيد أخيه من البلاد، وتوجه إليها، وتسلمها. وأقطع حران لولد أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، مضافا إلى ما كان بيده من البلاد في سنة سبع وثمانين. ثم توفي في ذهه السنة بخرت برت. فتسلمها الملك العادل واستخلف فيها ابنه الملك الكامل، ولم تزل بيده إلى أن ملك مصر واستدعي الملك الكامل إليها، وأقطع الملك الأشرف حران في سنة تسع وتسعين وخمس مائة، فولى فيها الحاجب عليّاً. وبقيت في يد الأشرف إلى أن قايض أخاه الملك الكامل عن دمشق بحرَّان، والرُّها، وسروج في شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة. فولى الملك الكامل، في حران الأمير شمس الدين صواب العادلي وما زال متوليا الجزيرة بمفرده إلى أن قصد الملك العادل، آمد وفتحها في سنة تسع وعشرين، واستناب ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب في الجزيرة، وكان مُدِّبرُ دولته شمس الدين صواب. واستقل الملك الصالح بالملك، ولم تزل في يد الملك " الصالح " إلى أن قصد علاء الدين صاحب لاروم، فلم يمكنه الدخول من الدربند، فعاد قصد الدخول من خرت برت فخرج علاء الدين، وكسره، وطرده عن تلك البلاد، واستولى على حران وغيرها، مما يأتي مفصلا، وذلك في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين. " ولم تزل في يده إلى أن قصدها الملك الكامل في سنة ثلاث وثلاثين " فنازلها حتى ملكها في رابع عشر شهر ربيع الآخر، وبقيت في يده إلى أن مات في حايد عشر شهر رجب سنة خمس وثلاثين. واستولى عليها الملك الصالح - ولده - على ما كان في يد أبيه من بلاد الجزيرة، واستمرت في يده إلى أن استدعى الخوارزمية، واستنجدهم، فأقطع مدينة حران بركت خان الخوارزمي وبقيت القلعة في يد نوابه. وقصد سنجار فنزل عليه فيها بدر الدين لؤلؤ، صاحب الموصل، فبذل قلعة حران للخوارزمية حتى رحّلوه عنها. ثم تغلبوا على بلد الجزيرة فقصدهم عسكر الملك الناصر، صاحب حلب، فالتقى بهم في العشرين من شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وستمائة، فطردوهم عن حران في بقية الشهر. وولي فيها من قبل الملك الناصر الأمير حسام الدين ألطاش ابن تركمان إلى " أن " عزله في سنة أربعين وستمائة. وولى فيها الملك الأعز ابن الملك الأعز يعقوب ابن الملك الناصر صلاح الدين ولم يزل بها متوليا عليها إلى سنة اثنتين وأربعين. ثم عزله وولاها الأمير سيف الدين أبا بكر بن عمر الرادكي، واستمر في نيابتها، ولم تزل في يده إلى أن توفي في سنة سبع وخمسين بحلب. وكان نائبه بالمدينة ناصر الدين نصر الله بن سيّار ونائبه بالقلعة ناصر الدين محمد بن حسام الدين أبي بكر المعروف بصاحب عين تاب. فلم تزل تحت نظرهما إلى أن قصدها هولاكو في أوائل سنة ثمان وخمسين، فنازلها وضايقها، وأشرف على أخذها، فنزل إليه الشيخ يوسف بن حماد الحراني ومعه عليُّ الصوراني، فاجتمعا بهولاكو، وبذلوا له الطاعة، فكتب لهم بذلك يغلِغ وتسلم البلد. ووليّ علي الصوراني رئاسة حران، ودخلها التتر ولم يؤذوا بها أحدا من أهلها، واستمر الحصار على القلعة إلى أن سقط منها برج، فخاف من فيها أنها متى أخذت عنوة قُتِلوا. فبعثوا إلى هولاكو الشيخ أبا القاسم ابن الشيخ أبي بكر ابن الشيخ حياة الحراني، والنقليس محاسن ابن البقال - والي البر - فاجتمعا بهولاكو وطلبا منه الأمان لمن في القلعة، فأمنهم على حريمهم وأموالهم، وتسلم القلعة وأخربها، وأخرب شراريف سور البلد. ونزل إليه ناصر الدين محمد العين تابي وقال له: أخذْتَ ثأرنا، فإن عين تاب كانت لنا، وأخذها منا المسلمون، وحلق رأسه، ولبس سراقوجا، وارتدَّ. وبقيت حران في أيدي نواب التتر إلى أن كُسر كَتْبُغا على عين جالوت في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة. ثم قُتل الملك المظفر في بقية السنة، وملك مولانا السلطان الملك المظفر، ركن الدين يببرس البلاد التي كانت التتر استولوا عليها. فخرج شمس الدين آقوش البرلي، فصار إلى حلب، خائفا من مولانا السلطان الملك الظاهر وولى في حران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فلما قصده عسكر مولانا السلطان خرج من حلب إلى حران في شعبان سنة تسع وخمسين، وبقيت في يده إلى أن كُسر على سنجار في رابع جمادى الآخرة سنة ستين وستمائة. فعادت نواب التتر إلى حران، واستمرت نوابهم بها بعدُ على أسوأ حال من العرب الذين في طاعة مولانا السلطان بتلك البلاد، وانتقل أكثر من رعيتها إلى ماردين والموصل. فلما كانت سنة سبعين، سير مولانا السلطان من حلب الأمير علاء الدين طيبرس، وجامعة من العرب مُقدَّمهم عيسى بن مُهنا إلى قاطع الفرات، وكان بحران جماعة من نواب التتر، فلما رأوا العسكر ألقوا سلاحهم، فقُبضوا عن آخرهم، وأسروا، وكانوا فوق الثمانين نفسا، وبعد القبض عليهم سأل من كان بحران طيبرس أن يُليِّ عليهم من قبله، فلم يُجبهم، وأخذ بعضهم وعاد. ولما تحقق التتر عجزهم عن حفظها، وحفظ من فيها، نقلوا جميع من فيها إلى ماردين وغيرها، وأخربوا جامعها، وسدوا أبوابها، وتركوها خاوية على عروشها، فكأنها التي عناها الشاعر بقوله: أَضْحَت خَلاءً، وأَضْحى أَهْلُها احْتَملوُا ... أَخْنىً عَليْها الذّضيِ أخنى على لُبدِ كان من الحمامات بها: 1 - حمّامُ بُلاط. 2 - حمامُ الكنيسة. 3 - حمامُ الشيخ. 4 - حمامُ السّباعِ. 5 - حمامُ عليِّ. 6 - حمامُ الوليّات. 7 - حمام الرئيس. 8 - حمام باب فدان. 9 - حمام الزَّكيِّ. 10 - حمام الوليِّ. " وفي الخارج " منها أربعة: 1 - حمامان على الباب الكبير. 2 - وحمامان على باب يزيد، إنشاء الحاجب علي. ارتفاعها لمّا ملكها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب في سنة ثمان وثلاثين وستمائة بعثني إليها في سنة أربعين لأكشفها، فكان ارتفاعها - أعني قصبتها في ذلك التاريخ - ألفي ألف درهم. وبلغني أنه كان في زمن الملك الأشرف ثلاثة آلاف ألف درهم. ولما قصدها التتر مرة بعد مرة تقهقر إلى ما يذكر مُفصلاً: - الإسقاء: مائة وسبعون ألف درهم. - الضواحي: مائة وخمسون ألف درهم. - الباب الكبير: مائة وثلاثون ألف درهم. - دار الوكالة: مائة وخمسة وعشرون ألف درهم. - الجهات المجموعة: مائة ألف درهم. - الأقطان: ثلاثون ألف درهم. - الصبغ: ثلاثون ألف درهم. - العرصة: أربعون ألف درهم. - الجوالي: خمسة عشر ألف درهم. - فائض الأوقاف: مائة ألف درهم. - العداد: خمسون ألف درهم. - الحمامات: عشرة آلاف درهم. - الأوثار: ثمانية آلاف درهم. - السجون: خمسة آلاف درهم. - الجنايات: أربعون ألف درهم. - الخفارتين: مائة ألف وستون ألف درهم. - المواريث: مائة وستون ألف درهم. - المفادنة: مائة ألف درهم. وكان في عملها من القرى ثمانمائة قرية، منها عامر خمسمائة قرية. يصرف من مغلها في ألف فارس، والباقي حملا لبيت المال. جملين والموزر قلعتان لهما عملان متسعان بين بلاد ديار مضر وبلاد ديار بكر، على يوم من حران. مازالتا في أيدي من تملك ديار مضر إلى أن استولى عليهما الفرنج عند ملكهم للرها وبقيتا في أيديهم إلى أن فتحهما الأرتقية أصحاب ديار بكر. وبقيتا في أيديهم إلى أن أخذ عماد الدين زنكي بن آق سنقر منهم المورز في سنة خمسة وثلاثين، وحملين في سنة ثمان وثلاثين. ثم استرجعوهما بعد موته، وصارتا في أيديهم إلى أن أخيهما الملك الأشرف وانضافتا إلى حران. وصار حكمهما في الأخذ والترك لهما حكم حران إلى أن استولت عليهما التتر فيما استولوا عليه من البلاد، ثم نزلوا عنهما لصاحب ماردين وهما في يده إلى عصرنا الذي وضعنا فيه هذا الكتاب. ذكر الرقة عن هشام ابن الكلبي قال: إنما سميت الرقة لأنها على شاطئ الفرات. وكل أرض تكون على الشط ملساء مستوية فهي رقة. وقال صاحب كتاب نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق: الرقة مدينة على شرقي الفرات، ويقال لها: الرقة البيضاء استولى عليها الخراب. وقال ابن حوقل في كتاب المسالك والممالك: الرقة والرافقة مدينتان كالمتلاصقتين وكل واحدة منهما بائنة عن الأخرى بأذرع كثيرة. وفي كل واحدة منها مسجد جامع. وهما على شرقي الفرات من الشام وكان لهما عمارة وأعمال، وأشجار ومياه، ورساتيق وكور، فقل حظهما لما ملك بنو حمدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فقلت: والرقة مدينة قديمة، والرافقة مدينة محدثة بناها المنصور في سنة خمس وخمسين ومائة، على يد ولده المهدي على هيئة الطيلسان. وقرأت في تاريخ الطبري: " وفي سنة أربع وخمسين ومائة سار المنصور إلى الشام فنزل الرقة فاستحسن مكانها، فأمر ببناء مدينة في بقعتها، فمنعه أهل الرقة فهم بمحاربتهم ثم كف. ولما عاد من الشام سنة ثمانين خرج الرشيد من بغداد وسار إلى الرقة فاتخذها موطنا، وبنى سورها، واسمه مكتوب على باب السبال من الجانب الشرقي، مثاله: " امر بعمارته أمير المؤمنين هارون الرشيد - أطال الله بقاءه - بتولي الفضل ابن الربيع - مولاه - ". طالعها القوس والمشتري. طولها ثلاث وسبعون درجة وخمس عشرة دقيقة. وعرضها ست وثلاثون درجة، وثمان دقائق. بها مدرستان: 1 - شافعية. 2 - وحنفية. وبيمارستان. وخانقاه من بناء نور الدين. وبنى بها عماد الدين الأصفهاني، وزير قطب الدين صاحب الموصل خانقاه. ولما ملكها الملك الأشرف غرس بها بساتين كثيرة وجلب إليها الغروس من كل بلد، حتى النخل والموز، وبنى بها الجواسق والحمامات. وبها من المزارات مشهد علي بن أبي طالب - عليه السلام -. وبها مشهد الجنائز. وبها قبر يحيى بن عبد الله بن الحسن " بن الحسن " بن علي بن أبي طالب - عليه السلام -. وبها جماعة ممن قتل بصفين، من أصحاب علي بن أبي طالب - عليه السلام - معروفة قبورهم. ولم تزل الرقة في يد من يتولى الجزيرة منذ فتحت إلى أن صارت ديار مضر في " يد " سيف الدولة فطلب منه أخوه الرقة ناصر الدولة، أبو محمد، الحسن بن أبي الهيجاء، عبد الله بن حمدان فأعطاه إياها. وبقيت في يده إلى أن أقطعها ولده حمدان مع الرحبة. ولم تزل في يده إلى سنة ثمان وخمسين. فوقع بينه وبين أخيه أبي تغلب، فنزل عليه في الرقة وحاصره، وضيق عليه إلى أن صالحه على أن يقتصر على الرحبة وسلم إليه الرقة. ومازالت في يده إلى أن وقعت بينه وبين سعد الدولة وحشة ومنافرة ألجأت سعد الدولة إلى أن كاتب عضد الدولة وعرض نفسه عليه، فأنفذ عضد الدولة النقيب أبا أحمد - والد الرضي والمرتضى - إلى ديار مضر فتسلمها من سلامة البرقعيدي - نائب أبي تغلب فضل الله بن ناصر الدولة بن حمدان بعد حروب شديدة. فأخذ الرقة عضد الدولة، وسلم باقي البلاد لسعد الدولة. ولم تزل الرقة في يد عضد الدولة إلى أن خرج بكجور - غلام سعد الدولة - هاربا من دمشق إليها في شهر رجب سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، وأقام الدعوة فيها للمصريين، واستمر بها إلى أن خرج له سعد الدولة من حلب فالتقى به على الناعورة في سلخ المحرم سنة إحدى وثمانين فقتله، وسار إلى الرقة، وفيها حرمه وأمواله وأولاده، فتلقاه أهل الرقة برجالهم ونسائهم وأولادهم. ودخلوا عليه حريم بكجور وسألوه أن يهبهم نفوسهم وأموالهم، فأجابهم إلى ذلك واصطنعهم، وحلف لهم. فمدحه أبو الحسن محمد بن عيسى النامي بقصيدة أولها: غَرائزُ الجُودِ طَبْعٌ غيرُ مَقْصُودِ ... وَلَسْتَ عَنْ كَرَمٍ يُرْجى بمَصْدُودِ فلما خرج أولاد بكجور بأموالهم استكثر سعد الدولة فقال له وزيره أبو الهيثم: أنت حلفت لهم على مال بكجور ومن أين لبكجور مالٌ؟! المال لك. فنكث وغدر، وقبض على المال، وكان مقداره ثمان مائة ألف دينار، وصادر نواب بكجور واستأصل أموالهم وعاد إلى حلب فأصابه الفالج في طريقه، فاستُدعي الطبيب فطلب يده ليجس نبضه، فناوله اليسرى، فقال: يمينك أيها الأمير فقال: ما أبقت لي اليمين يمينٌ، ومات بعد أيام، فحُمل تابوته إلى الرقة، فدُفن بها. وصارت الرقة إلى ولده سعيد الدولة فيما صار إليه من بلاد أبيه. واستمرت في يده إلى أن توفي في صفر سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة. وولي بعده ابناه: أبو الحسن علي، وأبو المعالي شريف وقام بتدميرهما غلام أبيهما لؤلؤ، ثم استبد بالملك، وقبض عليهما وسيرهما إلى مصر " فتغلب على " الرقة واليها من قبل سعد الدولة فخرج إليها واسترجعها، وولي فيها من قبله، وذلك في سنة ثمان وتسعين. وفي هذه السنة توفي وولي بعده ولده أبو نصر منصور. فاستولى على الرقة وثاب بن سابق النميري لما ملك حران، ولم تزل في يده إلى أن توفي في سنة عشر وأربع مائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وملك بعده ولده شبيب، فلم تزل في يده إلى أن توفي في سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، فاستولى أخواه مطاعن وقوام علي ما كان بيده من بلاد الجزيرة. وكانت أخته السيدة عليوة امرأة نصر مقيمة بالرافقة، فتحيلت على غلام أخويها، الوالي بها، إلى أن أخرجته واستولت على البلد، وتزوجت بمعز الدولة أبي علوان ثمال بن صالح لتقيم هيبتها به. فحضر في الرقة ولم تزل في يده إلى أن سلمها لمنيع بن شبيب بن وثاب في سنة تسع وأربعين وأربع مائة. واستمرت إلى أن قصدها عطية بن صالح فأخذها منه، وبقيت في يده إلى أن قصدها شرف الدولة مسلم بن قريش العقيلي فملكها في سنة ثلاث أو أربع وستين وأربع مائة. ثم زاده السلطان ملكشاه في سنة ثلاث وسبعين حلب وحران وغيرهما من البلاد، ولم يزل مالكا لما بيده من البلاد إلى أن قتل سنة ثمان وسبعين. فملك بعده أخوه إبراهيم، ولم تزل في يده إلى أن قصد السلطان ملك شاه الشام وملك حلب وأقطعها مملوكه قسيم الدولة آق سنقر وتسلم قلعتها من شمس الدولة سالم بن مالك العقيلي وعوضه عنها قلعة جعبر والرقة، ولم تزل في يده إلى أن كبرت سنة ففوض أمره لولده نجم الدولة مالك واعتزل. فولى نجم الدولة أخاه شهاب الدولة الرقة فوقع بينه وبين أهل الرقة وبني نمير منافرة فقاموا عليه وقتلوه. وملكوا الرقة منصور بن جوشن النميري، واتصلت الحرب بينه وبين نجم الدولة بالقلعة. وفي أثناء ذلك قصده جاولي سقاوه في سنة اثنتين وخمس مئة وحاصره في البلد، فاضطر إلى مصانعته حتى رحل عنه. ثم استمرت الحرب بينه وبين نجم الدولة حتى باع الرقة من الملك رضوان صاحب حلب بقلعة نجم وضياع بحلب فصانع عنها نجم الدولة مالك إلى أن عادت إليه. فولى فيها أخاه زعيم الدولة مسيب فأقام بها إلى أن اجتاز بها عماد الدين زنكي وهو متوجه إلى الشام، فخرج إليه مسلما عليه، فنزل بها عماد الدين فملكها، وأخرجه عنها، وذلك يوم السبت سادس عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وخمسمائة. فأقطعها شهاب الدين أميرك الجاندار فدامت في يده إلى أن قتل عماد الدين على قلعة جعبر وملك ولده نور الدين حلب وملك أخوه سيف الدين غازي الموصل، فانضاف شهاب الدين إلى سيف الدين غازي وبقي في حاشيته إلى أن توفي في سنة أربع وأربعين وخمسمائة. وتولى أخوه قطب الدين ممدود فقصد نور الدين سنجار وملكها، فراسله قطب الدين واصطلحا على أن يأخذ نور الدين حران والرحبة وحمص، وأن يكون شهاب الدين أميرك في خدمته، واستمرت الرقة في يد شهاب الدين إلى أن مات بها سنة أربع وخمسين، فأقرها نور الدين في يد أكبر أولاده إسحاق. ثم استرجعها منه في بقية السنة، وولى فيها من قبله. ولم تزل كذلك إلى أن تسلم نورد الدين حمص من الشان صلاح الدين الأعرج وسلمها إلى أبن أخيه سيف الدين غازي وعوض الشان عنها بالرقة وذلك في سنة ستين وخمسمائة. ولم تزل في يده إلى ان استعادها منه سنة اثنتين وستين، وسلمها لأخيه قطب الدين - صاحب الموصل - على ان يقيم عسكرا للقاء الفرنج، ولم تزل بيده إلى أن توفي سنة خمس وستين وخمس مائة. وولي ولده الأصغر بعهد من أبيه، فلما بلغ الخبر نور الدين سار إلى الرقة وبها والٍ من قبل قطب الدين يقال له كردك بن موسى الكردي فتحصن بها، فحاصره إلى أن فتحها عنوة في سلخ السنة، ونهب أهلها، وقتل منهم جماعة، وأعطى كردك سن ابن عطير واستمرت الرقة في أيدي نواب نور الدين إلى أن توفي سنة تسع وستين. وولي بعده ولده الملك الصالح إسماعيل واستولى على ماكان في يد أبيه من البلاد، فسير سيف الدين غازي عسكرا استولى على الخابور والرقة وحران وسروج والرها وذلك في سنة سبعين وخمس مئة. ولم يكن للملك الصالح قدرة على دفعه، فصالحه على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 واستمرت الرقة في يد سيف الدين إلى أن خرج إليه ابن حسان فأقطعه إياها في سنة إحدى وسبعين، واستمرت في يده إلى أن انتزعها منه الملك الناصر صلاح الدين يوسف في سنة ثمان وسبعين. ولما تسلم حلب من عماد الدين زنكي في سادس عشر صفر سنة تسع وسبعين، عوضه عنها سنجار والخابور والرقة ونصيبين، فأقطع عماد الدين الرقة لعز الدين طمان، فإنه الذي توسط بينهما. ولم تزل بيده إلى أن توفي الملك الناصر صلاح الدين سنة تسع وثمانين فاتفق عز الدين مسعود - صاحب الموصل - وسيف الدين بكتمر - صاحب خلاط - وخطبا لكيفاذ - صاحب بلاد الروم - وخرج من بلاده معاضدا لهما ومساعدا، وسار إلى ديار مضر فسار الملك العادل في عسكر من حمص وعسكر من دمشق وعسكر من حلب لدفعهما عن البلاد، فاتفق أن عز الدين مسعود مرض وعاد إلى الموصل ومات. ووثب غلمان بكتمر عليه فقتلوه. ومات كيقباذ - صاحب بلاد الروم - بسيواس فاستولى الملك العادل على حران وسروج، وصار إلى الرقة، فأخذها بعد حصار من عز الدين طمان في العشرين من شهر رجب سنة تسع وثمانين وولى فيها. ثم أقطعها لولده الملك الأشرف موسى وبقيت في يده إلى أن سار وصاحب آمد نجدة لبدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - فأخذ سنجار من صاحبها، وعوضه عنها بالرقة وذلك في جمادى الأولى سنة سبع عشرة وستمائة ثم استعادها منه، ولم تزل في يده إلى أن وقعت المقايضة بينه وبين أخيه بالرقة والبلاد التي قدمنا ذكرها في حران عن دمش في شهر رمضان سنة ست وعشرين، ولم تزل في يد نواب الملك الكامل إلى أن كسره كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان - صاحب بلاد الروم -. واستولى على ما كان بيده من بلاد الجزيرة، وبقيت حران في يده إلى أن عاد الملك الكامل واستعادها من نواب صاحب الروم وولاها ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب فيما ولاه من بلاد الجزيرة، وبقيت في يده إلى أن توفي الملك الكامل في سنة خمس وثلاثين. فاستبد بما في يده إلى أن قابض الملك الجواد مظفر الدين يونس بن ممدود عن دمشق بسنجار وعانا والرقة وكانت إقطاعا لصاروخان الخوارزمي، وبقيت الرقة في يده أياما، فوصلت الخوارزمية فأخرجوه منها، واستمرت في أيديهم إلى أن كسرهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف - صاحب حلب - في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين واستولى عليها وولىّ فيها. ولم تزل في يده إلى أن أقطعها الأمير حسام الدين الحسن بن أبي الفوارس القيمري في سنة تسع وثلاثين. وبقيت في يده إلى أن استعادها منه لما ملك دمشق وأقطعها في سنة تسع وأربعين الأمير مجاهد الدين بن قليج، واستمرت في يده إلى أن مات في سنة اثنتين وخمسين فأقطعها الملك الصالح إسماعيل ابن الملك المجاهد - صاحب حمص - ثم استعادها منه في سنة خمس وخمسين ولم يقطعها بعد، وبقيت في خاصته إلى أن انقرضت دولته بعد ذلك واستولى التتر على البلاد، فخربوا الرقة ولم يسكن بها أحد بعد ذلك إلى عصرنا الذي وضعنا فيه هذا الكتاب. فهي كما قيل: كَأنْ لَمْ يَكُنْ بينَ الحجُون إلى الصَّف ... أَنيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكّةَ سَامِرُ ذكر الرُّها قال ابن الكلبي: سميت الرها برها بن السندباد بن مالك ذعر بن يويب بن عيفا بن مدين بن إبراهيم. ويقال: إن ماني الزنديق بن فتق بني الرها. وقرأت في تاريخ محبوب بن قسطنطين الرومي المنبجي أن في سنة أربع وثمانين من مولد أرعو وعشر سنين مضت من الألف الثالثة قام الملك الأول على جميع الأرض ببابل نمروذ بن كنعان " بن حام " فملك تسعا وستين سنة، وكان إكليله منسوجا لم يكن من ذهب، وأنه بنى من المدن أراح وأحا وكيلا، التي هي الرها ونصيبين والسلوقية. وفي السنة الثالثة من سني بطلميوس بن أرنب بن سلقوس بنيت أفامية وحلب وقنسرين والرها وسلوقية واللاذقية. ونقلت من كتاب نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق. مدينة الرها بقعة تتصل بمدينة حران، وسطة من المدن، أكثر أهلها نصارى، وبها لهم ما يناهز ثلاثمائة بيعة ودير منها: كنيسة هي إحدى عجائب الدنيا، بنتها هيلاني - أم قسطنطين -. وقال ابن أبي يعقوب: والرها مدينة رومية، ذات عيون كثيرة، تجري منها الأنهار. وأخبرني من رآها أن لها سورا من حجر يحيط بأشجار وأرحاء وبساتين. وتجري في المدينة عينان: تسمى إحداهما: العين الطويلة والأخرى: العين المدورة. ولها ثلاث أبواب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 1 - باب حران. 2 - وباب أقساس. 3 - وباب شاع. وكان لها قلعة على جبل يتصل بها سور المدينة من الجانب الغربي، فخربها الملك الكامل، وسنذكر تخريبه لها فيما يأتي. طولها: ثلاث وسبعون درجة وعشرون دقيقة. وعرضها: سبع وثلاثون درجة. طالعها: برج الأسد. صاحب ساعة بنائها الشمس. ذكر فتحها " قال الواقدي: لما مات أبو عبيدة استخلف عياض ابن غنم فورد عليه كتاب عمر - رضي الله عنه - بتوليته حمص وقنسرين والجزيرة. فسار إلى الجزيرة يوم الخميس النصف من شعبان سنة ثمان عشرة في خمسة آلاف؛ فانتهت طليعة عياض إلى الرقة فأغاروا على حاصر كان حولها، فأصابا مغنما، وهرب من نجا منهم فدخل المدينة. وأقبل عياض في عسكره حتى نزل بالرها في تعبئة فرمى المسلمون ساعة حتى جرح بعضهم. ثم إنه تأخر عنهم لئلا تبلغه حجارتهم وسهامهم. وركب فطاف حول المدينة، ووضع على أبوابها روابط. ثم رجع إلى عسكره، وبعض السرايا، فجعلوا يأتون بالأسرى من القرى ... ". فما مضت خمسة أيام أو ستة، حتى أرسل بطريق المدينة إلى عياض يطلب الأمان، فصالحه عياض على أن أمن أهلها جميهم على أنفسهم، وذراريهم، وأموالهم، ومدينتهم " ووضعوا الجزية على رقابهم. على كل رجل منهم دينارا في " كل " سنة ... ووظف عليهم مع الدينار أقفزة من قمح، وشيئا من عسل وزيت وخل. ثم إنهم فتحوا أبواب المدينة وأقاموا للمسلمين سوقا على باب الرها. وكتب لهم عياض: هذا كتاب من عياض بن غنمٍ لأسقف الرُّها، إنكم إن فتحتم لي باب المدينة على أنكم تودُّون إليَّ عن كل رجل دينارا، ومُدَّي قمح فأنتم آمنون على أنفسكم، وأموالكم، ومن تبعكم، وعليكم إرشادُ الضالِّ، وإصلاحُ الجسور والطرق، ونصيحة المسلمين، شهد الله وكفى به شهيدا. ثم تنقلت بعدُ في أيدي الولاة على حكم تنقُّل ماعداها من بلاد الجزيرة كما حكيناه فيما مضى، إلى أن صارت في يد وثّاب بن سابق النميري لما ملك حران، فأعطاها ابن عمه عُطيرا، وبقيت في يده إلى أن مات وثّاب في سنة عشرٍ، فقصد نصر الدولة بن مروان - صاحب ديار بكر - الرُّها، وكان فيها نائب لعطيرٍ وكان فيه عدلٌ، وحسنُ سيرةٍ، وأهل البلد يميلون إليه ويختارونه على عطير لأنه كان على عكس هذه الصفات. فلما رأى عطيرٌ ميل الرَّعيةِ إلى نائبه حسده فقتله، فأنكرت الرعية ذلك، وكاتبوا نصر الدولة ليسلموا إليه البلد، فسيّر إليهم نائبا كان له بآمد يسمى زنك فتسلمها وأقام بها ... ومضى عطيرٌ إلى صالح بن مرداس وسأله الشفاعة " له " إلى نصر الدولة فشُفّع فيه، فأعطاه نصف البلد.. " وتسلم عطير نصف البلد " ظاهرا وباطنا، وأقام " فيه " مع نائب نصر الدولة زمانا. واتفق أن " نائب نصر الدولة " عمل طعاما ودعاه فأكل وشرب واستدعى ولدا كان لنائب عطير الذي قتله وقال له: تريد أن تأخذ بثأر أبيك؟ قال: نعم! قال: هذا عطير عندي في نفرٍ يسيرٍ، فإذا خرج فاقتله ولا تخف فإني من ورائك وأهل البلد. ففعل ما أمره به وقتل عطيرا .... فاجتمع بنو نُمير وقالوا: هذا فعل زنك يعنون: نائب نصر الدولة ولئن لم نأخذ بثأرنا ليخرجننا من بلادنا.. فأغارت منهم طائفة على البلد، وقد كمن غيرهم. فسمع زنك الخبر، فخرج إليهم في جنده، فاندفعوا بين يديه، فتبعهم، فخرج عليهم الكمين فقاتلهم فأصابه حجر مقلاعٍ صرعه قتيلا، وذلك في سنة ثمان عشرة وأربعمائة. وسار ابنُ عُطير وابنُ شبل النميريين فتشفّعا بصالح ابن مرداس إلى نصر الدولة ليرد عليهما الرُّها فشفعه وسلمهما إليهما. وكان فيها برجان ... فأخذ ابن عطير البرج الكبير وأخذ ابن شبل البرج الصغير وأقاما في البلد إلى أن راسل ابن عطير أرمانوس - ملك لاروم - وباعه حصته. بعشرين ألف دينار وعدَّة قرى من جملتها قريةٌ تعرف الآن بسنِّ ابن عطير، وتسلموا البرج الذي له، ودخلوا البلد وخربوا المساجد. وسمع نصر الدولة الخبر فسيّر جيشا إلى الرها فحصروها وفتحوها عنوة، واعتصم من بها من الروم بالبرجين واحتمى النصارى بالبية التي لهم - وهي من أكبر البيع - فحصرهم " المسلمون " بها، وأخرجوهم، وقتلوا أكثرهم، ونهبوا البلد، وبقي الروم في البرجين وسير إليهم ملكهم عسكرا نحو عشرة آلاف مقاتل، فخرج منها أصحاب ابن مروان بين أيديهم، ودخلوا البلد، ومازالت في أيديهم إلى سنة تسع وسبعين وأربعمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 فيها: وصل السلطان ملكشاه إلى الرها فملكها من أيديهم على يد بُزان ولم يزل بها إلى أن تسلمها منه تاج الدولة وضرب رقبته صبرا، وذلك في سنة سبع وثمانين ... وبقيت في يده إلى أن وصلها ابن أخي سليمان بن قطلمش فملكها في سنة تسع وثمانين. وأقام بها أياما ومات. فتغلب عليها مقدمها الكربلاط وبقي فيها إلى أن وصل إليها بغدوين - أخو الملك كندفري، صاحب القدس - فسلمها له في بقية السنة، وتسلطوا بها على كثير من بلاد الجزيرة فملكوه. " ثم تنقلت في أيدي ملوك الفرنج إلى أن فتحها عنوة عماد الدين زنكي في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين.. بعد أن نازلها ثمانية وعشرين يوما. وكانت في يد جوسلين بن جوسلين " ولما ملكها ولى فيها قطب الدين ينال بن حسان - صاحب منبج - وبقي بها إلى أن قُتل عماد الدين على قاعة جعبر في سنة " إحدى " وأربعين. فراسل جوسلين الأرمن الذين كانوا بالرها، وحملهم على العصيان والامتناع على المسلمين وسار إليها ليلا فملكها، وامتنعت عليه القلعة بمن فيها من المسلمين فقاتلها، فبلغ ذلك نور الدين محمود بن زنكي وهو بحلب فسار إليها مُجّدا ... فلما قاربها خرج منها جوسلين هاربا ... فدخلها نور الدين فنهبها، وسبى أهلها فإنهم كانوا ظاهروا الأرمن، وولى فيها قطب الدين ينال واستمر بها إلى أن عوضه عنها في سنة ثلاث وستين بمنبج وقلعة نجم. وولي الأمير فخر الدين مسعود بن الزعفراني وبقيت في يده إلى أن ملكها الملك الناصر صلاح الدين في جمادى الآخرة سنة ثمان وسبعين. فسلمها إلى الأمير مظفر الدين بن زين الدين علي كوجك وبقيت في يده إلى أن قبض عليه في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثمانين. وأخذ منه حران والرها ثم رضي عنه بعد أيام قلائل وأعادهما إليه. وبقيت الرها في يده إلى أن توفي أخوه زين الدين يوسف - صاحب إربل وأعمالها - فصيّر إليه صلاح الدين ما كان بيد أخيه من البلاد، فتوجه إليها وتسلمها. وأقطع حران والرها ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين في سنة سبع وثمانين. ثم توفي بخرت برت في بقية السنة. فأُقطعت للملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب فولاها لولده الملك الكامل ولم تزل في يده إلى أن ملك الملك العادل مصر فاستدعاه إليها. وأقطع الملك العادل ما كان بيد ولده الملك الكامل للملك الأشرف. وأفرد الرها لولده الملك المظفر شهاب الدين غازي ولم تزل في يده إلى أن أخذها منه الملك الأشرف في سنة ثمان عشرة وست مئة، وعوضه عنها ميفارقين. وبقيت في يد الأشرف إلى أن وقعت المقايضة بينه وبين أخيه الملك الكامل عن دمشق فتسلمها فما تسلم من البلاد، وبقيت في يد نوابه إلى أن كانت وقعة الدربند وانهزم عسكر الكامل بين يدي علاء الدين كيقباد - صاحب الروم - في سنة اثنتين وثلاثين. وسار علاء الدين إلى الرها فامتنعت عليه فقاتلها وحاصرها. وكان للملك الكامل بها خزانة وحاصل، فتسلمها بالأمان وأخذ ما فيها، واستخلف عليها، ولم تزل في يده إلى أن عاد الملك الكامل من مصر إلى بلاد الشرق فاسترجعها، بعد حصار، يوم الأربعاء ثالث عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين. وهدم قلعتها، وكانت حصينة منيعة، يُضرب بها الأمثال في القلاع، فلم تُعمر بعدُ، فلما ملكها سلمها مع غيرها من البلاد لولده الملك الصالح نجم الدين أيوب ولم تزل في يده إلى أاستدعى الخوارزمية من الروم ليستعين بهم على قصد حصار حلب نُصرةً لأبيه الملك الكامل في سنة خمس وثلاثين. فاتفق أن مات الملك الكامل في هذه السنة في رجب، فطمعت الخوارزمية في الملك الصالح وخاف منهم فأقطعهم الرها وحران وغيرها، من غير قلاع من البلاد. وسار إلى سنجار في شوال، فصده بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - فتوجه ولده الملك المغيث ومعه بدر الدين قاضي سنجار إلى حران، واجتمعا بالخوارزمية وسلموا إليهم قلعة حران وقلعة الرها ليدفعوا بدر الدين عن سنجار، فساروا إليه ورحلوه في بقية السنة. ولم تزل الرها في أيديهم، وكانت في يد كشلوخان الخوارزمي إلى أن كسرهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف يوم الأربعاء العشرين من شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وستمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وتسلم الرها وولى فيها من قبله، ولم تزل في يده إلى أن قصدت التتر البلاد واستولوا عليها في سنة ثمان وخمسين وستمائة، وبقيت في أيديهم إلى أن كسرهم الملك المظفر قُطُز في شهر رمضان من السنة هرب من كان بحلب منهم، وأخربوا ما بقي من قلعة الرها ونفر أهلها منها، وليس بها في عصرنا من أهلها أحدٌ غير أناسٍ قلائل من التركمان. وكان يُصرفُ ما يُتحصل منها من الحقوق السلطانية في خمس مائة فارس وجوه ذلك: البساتين: خمسة وثلاثون ألف درهم. ورق التوت: خمسة وعشرون ألف درهم. عُنّاب: ثلاثون ألف درهم. الرباع: خمسة وعشرون ألف درهم. الطواحين: أربعة آلاف درهم. العشر: خمسة وعشرون ألف درهم. الختم: عشرة آلاف درهم. المقاث: أحد عشر ألف درهم. الثلج: خمسة آلاف درهم. عداد الغنم: ستون ألف درهم. الجنايات: ثلاثون ألف درهم. المواريث: ثلاثون ألف درهم. العرصة: خمسة وعشرون ألف درهم. الجوالي: خمسة وعشرون ألف درهم. الأفراح: خمسة وثلاثون ألف درهم. الدرب: خمسة وعشرون ألف درهم. السجون: خمسة وعشرون ألف درهم. المفادنة: مائة وخمسة آلاف درهم. الصبغ: خمسة آلاف درهم. فذلك خمس مائة ألف وستون وأربعون ألف درهم خارجا عن الغلال. وكان في عملنا من القرى سبعمائة قرية، تشتمل على أربعة عشر ألف فدان وستمائة. سروج وهي عن شمال حران، إلى جسر منج، حسنة حصينة، كثيرة الأشجار والمياه والزبيب، ويعمل من زبيبها الناطف. طولها ثلاث وسبعون درجة. وعرضها سبع وثلاثون درجة. ذكر البلاذري في تاريخه قال: لما فرغ عياض بن غنم من سميساط أتى سروج فرأسكيفا والأرض البيضاء فغلب على أرضها، وصالح أهل حصونها، على مثل صلح الرها. لم يزل حكمها في التنقل في أيدي الولاة حكم سائر بلاد الجزيرة إلى أن صارت في يد سيف الدولة فهجمها الروم وملكوها وأخربوها، وقتلوا وسبوا. وذلك في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. ثم خرجوا عنها فقصدها سيف الدولة وعمرها وحصنها. ولم تزل في يده إلى أن توفي في سنة ست وخمسين وثلاث مائة. وملك بعده ولده فاستمرت في يده إلى أن قصدها أبو تغلب فضل الله بن ناصر الدولة بن حمدان في سنة تسع وخمسين فملكها، واستمرت في يده إلى أن فتحها عضد الدولة فيما فتحه من بلاد الجزيرة، وأنعم بها على سعد الدولة واستمرت في يده إلى أن توفي في سنة إحدى وثمانين. وملك بعده أبو الفضائل سعيد الدولة فاستمرت في يده إلى أن استولى عليها وثاب النميري فيما استولى عليه من البلاد، وبقيت في يده إلى أن توفي في سنة عشر وأربعمائة. وملك بعده ولده منيع فاستمرت في يده إلى أن توفي سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. فاستولى عليها ولده حسن بن منيع ولم تزل في يده إلى أن أخذها منه شرف الدولة مسلم ابن قريش العقيلي سنة أربع وسبعين وأربعمائة. وعوضه عنها نصيبين ولم تزل في يده إلى أن قتل في مصاف كان بينه وبين سليمان بن قطلمش سنة ثمان وسبعين. وولي ولده محمد الموصل والجزيرة. فلم تزل سروج في يده إلى أن وصل السلطان ملكشاه الشام في سنة تسع وسبعين وأربعمائة، فأقره على ما في يده من البلاد. ولم تزل في يده إلى أن قصد الوزير ابن جهير الجزيرة واستولى عليها وأخذ ما كان في يد ولده من البلاد وأخذهما واعتقلهما بأصبهان وذلك في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة. ولم تزل بلاد الجزيرة في يده إلى أن مات. ثم مات بعده ملكشاه بشهر وذلك في خمس وثمانين وأربع مئة، فأطلقهما محمود بن ملكشاه وأعادهما إلى بلادهما. فتغلب إبراهيم على بلاد ابن أخيه وطرده عنها. ولم تزل سروج في يد إبراهيم إلى أن قصد تاج الدولة بلاد الجزيرة فملك الرحبة وحران وسروج وأقطعها لبزان وذلك في سنة ست وثمانين وأربعمائة. ولم تزل في يده إلى أن خرج عن طاعته واتفق مع آق سنقر ونابذه. وخرج تاج الدولة إلى حلب وأوقع بآق سنقر وقتله، وأسر بزان وقتله صبرا، واستعاد من نوابه ما كان بيده من البلاد، وأقطعها سقمان بن أرتق وبقيت في يده إلى أن قتل تاج الدولة في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. وملك ولده رضوان حلب فأقرها في يده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وكان بسروج من قبله ابن أخيه - بلك - فأساء التدبير، وظلم الرعية، وأخذ أموالهم، فاضطر أهل سروج إلى أن كاتبوا قمص الرها وسلموا إليه سروج فهرب بلك منها فاستمرت في أيدي الفرنج إلى أن قصدها بلك في سنة أربع وتسعين، وفتحها عنوة، وقتل من فيها، ثم خرج عنها بعد أن رثت أحوالها، فقصدها الفرنج فافتتحوها مرة ثانية، وقتلوا كل من فيها. ولم تزل في أيديهم إلى أن فتحها عماد الدين زنكي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وولي فيها حسانا - والي منبج - ولم تزل في يده إلى أن توفي عماد الدين على قلعة جعبر سنة " إحدى " وأربعين. وملك بعده ولده نور الدين محمود فأقرها في يده، واستمر فيها إلى أن توفي في سنة اثنتين وأربعين. فوليها ولده سيف الدين أيوب ولم تزل في يده إلى أن توفي سنة تسع وأربعين. فوليها ولده غازي فعصي على نور الدين فنهد إليه عسكرا مقدميه مجد الدين ابن الداية وأسد الدين شيركوه فقاتلاه حتى تسلما منه منبج وقلعة نجم وأبقوا عليه سروجا وذلك في سنة اثنتين وستين وخمسمائة. ولم تزل في يده إلى أن أخذها منه نور الدين سنة أربع وستين وعوضه عنها ببالس، وبقيت في يده إلى أن تسلم قلعة جعبر من عز الدين علي بن مالك العُقيلي وعوضه عنها أشياء من جملتها سروج تمليكا، وبقيت في يده ويد عقبه إلى أن مات نور الدين سنة تسع وستين وخمس مائة. فقصدها سيف الدين غازي - صاحب الموصل - واستولى عليها ولم تزل في يد نوابه إلى أن توفي في سنة ست وسبعين. وتولى أخوه عز الدين مسعود فملكها فيما ملك من البلاد، ولم تزل في يده إلى أن قصدها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف في سنة ثمان وسبعين، فملكها، وبقيت في يده إلى أن أخذ حلب من عماد الدين زنكي بن قطب الدين مودود في سنة تسع وثمانين. وعوضه عنها سنجار والخابور ونصيبين وسروج، ولم تزل في يده إلى أن توفي صلاح الدين سنة تسع وثمانين. واتفق عز الدين مسعود - صاحب الموصل - وسيف الدين بكتمر - صاحب خلاط - على أخذ ما كان في يد صلاح الدين البلاد، وخطبا لكيقباد - صاحب الروم - ليعاضدهما ويساعدهما. فخرج بكنمر من خلاط، وخرج مسعود من الموصل، واجتمعا على الرها فأخذاها، ثم إن مسعود مرض ورجع إلى الموصل ومات بها، ووثب أحد غلمان سيف الدين بكتمر عليه فقتله. ومات كيقباد بسيواس بعد أن خرج من بلاده. فسار الملك العادل إلى الجزير فاستولى على سروج فيما استولى عليه من البلاد، وأقطعها ولده الملك المظفر شهاب الدين غازي، ولم تزل في يده إلى أن أخذها منه في سنة ثمان عشرة وستمائةٍ الملك الأشرف وعوضه عنها ميافارقين، وبقيت في يد نواب الملك الأشرف إلى أن قايض أخاه الملك الكامل وأخذ منه دمشق في سنة ستٍ وعشرين، لما صارت في يد الملك الكامل وولى فيها شمس الدين صواب، ولم تزل في يد الكامل إلى أن كسر كيقباد - صاحب الروم - لعسكر الملك الكامل على الدربند. وعاد الملك الكامل إلى مصر في سنة اثنتين وثلاثين. واستولى كيقباد على سروج وغيرها من البلاد، وولى فيها، وبقيت في يد نوابه إلى أن خرج الملك الكامل من مصر وقصد الجزيرة فاسترجع سروج عند حصاره الرها يوم الأربعاء ثالث عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين، وهدم قلعة ساكما وكانت تضرب بها الأمثال في الحصانة، فلم تعمر بعد فلما ملكها سلمها لولده الملك الصالح نجم الدين أيوب مع غيرها من البلاد. ولم تزل في يده إلى أن استعان بالخوارزمية وأسكنهم معه في البلاد سنة خمس وثلاثين. فلما مات الملك الكامل طمعوا فيه، ورأى منهم ما لا يطيق حمله، فهرب منهم إلى سنجار بعد أن أقطعهم سروج فيما أقطعهم من البلاد، ثم ملكوها بعد على ما حكيناه في الرا. ونزل بها منهم خان بغدي ولم تزل في يده إلى أن كسرهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز محمد - صاحب حلب - في سنة ثمان وثلاثين. واستولى على البلاد، ولم تزل سروج في أيدي نوابه إلى أن استولى عليها التتر فيما استولوا عليه من البلاد سنة ثمان وخمسين وستمائة، وبقيت في أيديهم إلى أن أخلوها وانتزحوا عنها في سنة ثلاث وستين وستمائة. وكان ما يتحصل من ضياعها يُصرف في ثلاثمائة فارس، وما يُستخرج من قصبتها يُحمل إلى بيت المال، ومقداره يزيد على أربع مائة ألف درهم. قلعة جَعْبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وهي بريةٌ بحريةٌ جزريةٌ، على تل مشرف على الفرات، لها ربضٌ. كانت عامرة بالأسواق، كثيرة الأرزاق. طولها ثلاث وسبعون وثلاثون درجة فقط. وكانت تُعرف قديما بقلعة دوسر ويقال: إنه غلامٌ للنعمان بن المنذر اللخمي - ملك العرب وصاحب الجزيرة - تركه على أفواه الشام، والنعمان مقيم بالحيرة فبنى هذه القلعة، فنُسبت إليه. وما زالت هذه القلعة في أيدي ملوك الجزيرة، تنتقل بانتقالها، إلى أن صارت لبني نُمير فاشتراها الدزبري لما ملك حلب من بعضهم -، يقال: إنه منيع بن شبيب بن وثاب - ثم تغلبوا عليها بعد موته، فعمل عليهم جعبر بن سابق القشيري وكان له عدة أولاد فسرقها من بني عطير فلما استولى عليها جدد بناءها وحصنها فنسبت " إليه " ولم تزل في يده إلى أن توفي في المحرم سنة أربع وستين وأربعمائة. واستولى عليها ولده سابق، وكان أعمى. وكانت رجاله يقطعون الطريق وينتهكون محارم الله. ولم يزالوا على ذلك إلى أن توجه السلطان الملك العادل ملكشاه ابن ألب أرسلان محمد بن جعفر بك بن ميكائيل بن سلجوق قاصدا حلب لما قتل شرف الدولة مسلم بن قريش ملكها، وبقيت بلا ملك، فعبر على قلعة جعبر فحاصرها يوما وليلة حتى فتحها وقتل سابقا وأهله وصلبه. فلما ملك حلب عصي بقلعتها شمس الدولة سالم بن مالك بن بدران العقيلي. ثم نزل عنها فعوضه عنها بقلعة حعبر ووقفها عليه وعلى أولاده بكتاب شرعي وأقطعه معها الرقة وضياعا، فأقام بها إلى أن توفي يوم الأربعاء العشرين من شوال سنة تسع عشرة وخمس مائة. فملكها بعده ولده شهاب الدين نجم الدولة مالك. " وكان بينه وبين ابن منقذ مودة أكيدة فأجتاز على صاحب شيزر جماعة كثيرة من حجاج الفرنج يريدون أفامية فضلوا عن الطريق، فدخلوا شيزر " وهي " إذ ذاك بغير سور، فوثب عليهم أهلها، فقتلوا الرجال، وسبوا النساء والصبيان. وحمل ذلك إلى ابن منقذ فرأى منهن جارية حسنة فكساها وأصلح شأنها وأنقذها إلى شهاب الدين المذكور، فأعجبته وحظيت عنده. واستولدها ولدا سماه بدران وجعله ولي عهده. فلما توفي ملك بعده بدران. فتدلت أمة من القلعة ومضت إلى سروج، وفيها الفرنج فتزوجت برجل إسكاف ". ودام بدران المذكور بقلعة جعبر إلى أن عمل عليه أخوه سيف الدولة علي بن مالك وقتله في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. وملك القلعة ولم يزل بها إلى أن نزل عليها عماد الدين زنكي بن آق سنقر صاحب الموصل وحلب يوم الثلاثاء ثامن ذي الحجة سنة " إحدى " وأربعين فحاصرها وضايقها. وسير إلى عز الدين ابن حسان - صاحب منبج - لتقرير الصلح. وتسلميها، والعوض عنها. فقال: أنظرني إلى غد فقال له ابن حسان: وأي شيء يأتيك في غد؟ فقال له: الذي جاء لبلك بن أرتق، وهو محاصر لك في منبج. فلما كانت ليلة الأحد سادس شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وثب على عماد الدين زنكي خادم له، فقتله. وافترق العسكر، ونهب بعضهم بعضا، ورحلوا عن قلعة جعبر وأخذ كل من ولديه جهة. ولم يزل عز الدين بها إلى أن قتل يوم السبت ثالث عشر ربيع الآخر سنة ست وأربعين. وكان السبب في قتله أن العرب أغارت على نواحي الرقة، فاتصل به الخبر، فخرج إليهم، وكان مع العسكر، عسكر أميرك الجاندار، فأصابه منهم سهم فمات. وملك بعده ولده شهاب الدين مالك، ولم يزل بها إلى أن خرج إلى الصيد في سنة أربع وستين فوقع عليه عرب من بني هذيل من كلب، فأثخنوه جراحا، مسكوه وحملوه إلى نور الدين فضيق عليه وعذبه، وبعث سابق الدين عثمان ومجد الدين - ابني الداية - صاحب بالس إذ ذاك، وفخر الدين مسعود بن الزعفراني إلى قلعة جعبر، فنازلوها في شعبان من السنة. فلما عجزوا عن حصارها، زاد في التضييق على شهاب الدين فسلمها إليه. وكان آخر من ملكها من بني عقيل، وكانت مدة ملكهم ثمانية وثمانين سنة. ولما ملكها نور الدين أقطعها مجد الدين بن الداية، فاستناب فيها شمس الدين، وعوض شهاب الدين عنها سروج وبلدها، وباب بزاعا وعشرين ألف دينار نقدا. ووقف عليه أورم الكبرى والملوحة والحمامين اللتين بالحاضر، ودار ابن الأيسر - بباطن حلب المعروفة الآن بدور بني قليج. وأعطى نائبه بها، وهو القائد محمد بن عروة خمسمائة دينار، وخلعة وهو بها بسخت وسرفسار، وأقطعه الرصافة وكتبها له ملكا. وأعطى الأجناد خمس مائة دينار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وكان بها قوم من الباطنية فأمر بإخراجهم على الوجه الجميل. ولم تزل يد شمس الدين عليها إلى أن توفي نور الدين في سنة تسع وستين. وملك ولده الملك الصالح إسماعيل ووصل من دمشق إلى حلب. في سنة سعين: قبض على شمس الدين واخوته. وكان ينوب عن نور الدين في حلب. وولى فيها. ولما كانت سنة اثنتين وسبعين حاصر صلاح الدين حلب ورحل عنها عن صلح وقع. فشفع في شمس الدين واخوته فأطلقهم، ولم يبق بأيديهم مما كان نور الدين أقطعهم غير قلعة جعبر في يد شمس الدين وشيزر في يد سابق الدين عثمان. ولم تزل قلعة جعبر بيده إلى أن توفي سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. وولي ولده علاء الدين يوسف ولم يزل بها إلى أن مات بها. وتسلمها الملك الظاهر غياث الدين غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين بوصية منه، إما في سنة ست وثمانين، أو سبع وثمانين وخمسمائة فولى فيها غلامه بدر الدين أيد مر - المعروف بالوالي -. وبقيت في يد الملك الظاهر إلى أن تسلمها الملك العادل سيف الدين، أبو بكر محمد بن أيوب. وكان السبب في تسلميها أن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه لما توفي أقطع الملك الناصر صلاح الدين ما كان في يده من بلاد الجزيرة أخاه الملك العادل، فطلب منه قلعة جعبر فامتنع عليه، وكره أن ينزعها من يد ولده. وجعل يسوفه ويعده ويمنيه، وهو مع ذلك يتوسل إليه بالشفاعات حتى أبرمه، فسير إلى الملك الظاهر يأمره بتسليمها له، وأن ينزل عنها فأنفذ الملك الظاهر إلى الوالي بها يأمره بتسليمها إلى نواب الملك العادل ولم ينفذ إليه بعلامة يثق بها ويستند إليها؛ وإنما فعل ذلك ليسوف الأوقات، ويدافع الساعات، والملك العادل يجد في طلبها، ورسله في ذلك لا تنقطع، حتى الجأ الملك الظاهر إلى تسليمها وأعطى لنواب الملك العادل العلامة التي كانت بينه وبين الوالي. فحدث أن مات الملك الناصر في اليوم الذي تسلمها. وكان أول مبادي سعادة الملك العادل. ولم تزل في أيدي نوابه إلى أن استناب فيها الملك الحافظ في سنة خمس عشرة وستمائة فاستولى ولده الملك الحافظ نور الدين أرسلان عليها، وبقيت في يده إلى أن تسلمها منه الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز - صاحب حلب - في صفر سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وعوضه عنها بعزاز. وكان السبب في ذلك أن الخوارزمية وضعوا أيديهم على أرشين من بلاد البيرة في سنة سبع وثلاثين وطمعوا فيما عداها. وكثر إجحافهم بأطراف ضواحي قلعة جعبر، والملك الحافظ يداريهم ويبذل لهم الأموال، وهم مع ذلك لا ينفكون عن الفساد. واتفق " أن " أصابه " فالجٌ "، وحصلت بينه وبين ولده تقي الدين مسعود وحشة خرج من أجلها تقي الدين إلى الخوارزمية، ومعه رجل يُقال له ابنُ قاضي نابلس وقصداهُم بحران وأطماعهم في قلعة جعبر وغيرها، وأوحيا إليهم أن أموال أهل بالس مودعة عند الملك الحافظ فسيَّروا إليه، وطلبوا منه المال وتوعدوه إن لم يعطه، فخاف، وأرسل إلى أخته الملكة بحلب، وطلب منها التعويض عن قلعة جعبر وبالس بما يعمل له مقدار ارتفاعهما فجرى ما ذكرناه. وسيَّرت الأمير ناصح الدين أبا المعالي الفارسي فتسلم منه القلعة، وخرج الملك الحافظ فدخل حلب، فأُكرم وأُنزل في الدار المعروفة قديما بدار صاحب عين تاب. واستمرت في مملكة الناصر صلاح الدين إلى أن استولى التترُ على البلاد، وتسلموها من الوالي بها يومئذ، وكان عماد الدين أحمد بن أبي القاسم بما فيها من غير حصار لها، وإنما عماد الدين سار إلى هولاكو وهو بحارم بمفاتيحها وهدية فأخربوها وحاضرها، ولم يُبقِ بها إلاّ مساكن، ثم نزح بعد ذلك من كان بها. البيرة قلعةٌ حصينةٌ على جبل مُشرف على الفرات، من شرقيها إلى الطول ما هيُّ، لها مما يلي الفرات حائطٌ ممتدٌ، ومما يلي البرِّ سورٌ وأبرجةٌ. طولها: اثنتان وسبعون درجة وثلاثون دقيقة. وعرضها: سبعٌ وثلاثون درجة. لم يتصل بعلمي شيء من أخبارها فيما طالعته من كتب التواريخ المصنفة في صدر الإسلام. والذي أحطتُ به علما أن بغدوين نزل عليها في سنة سبع عشرة وخمسمائة وأخذ أهلها أسرى. ولم تزل يف أيدي الفرنج إلى سنة تسع وثلاثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وفيها: قصدها عماد الدين زنكي بنُ آق سنقر وحاصرها وضايقها وأشرف على أخذها، فبلغه قتلُ نائبه بالموصل فرحل عنها ضرورة، فوصل إليها حسامُ الدين تمرتاش بن نجم اليدن إيلغازي بن أُرتُق فأخذها وبقيت في يده إلى أن تسلمها منه نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي وأعطاها لشهاب الدين محمد بن إلياس بن إيلغازي بن أرتق، ولم تزل في يده إلى أن توفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة. ووليها بعده فخر الدولة ياقوت أرسلان فقصده عسكر قطب الدين إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق وحصره. فكاتب صلاح الدين ودخل في طاعته. فسيَّر صلاح الدين إلى قطب الدين فرحّله عنه وبقيت البيرة في يد ياقوت إلى أن توفي. وتولى ولده شهاب الدين محمد ولم تزل بيده إلى أن تسلمها الملك الظاهر غياث الدين غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بسبب أنه زوَّج أخاه الملك الزاهر داود بابنة شهاب الدين وتُدعى: سُفْرى خاتون. وكانت له بنت أخرى تُدعى: إلْتي خاتون تزوجها الأمير عز الدين عزيز ابن الأمير سيف الدين علي بن علم الدين سليمان ابن جندر. ولما ملكها الملك الزاهر استولى على عمق البيرة ونهر الجوز وكفر سود والأوشين. وبقيت في يده إلى أن توفي في صفر سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. فتسلمها ابن أخيه الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر وسلمها إليه قبل موته. ولم تزل في يده إلى أن توفي في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين فملكها ولده الملك الناصر وبقيت في يده إلى سنة ثمان وخمسين وستمائة. فاستولى عليها هولاكو - ملك التتر - بعد حصار شديد، وأمدٍ مديدٍ، وولى فيها من قِبله. ولم تزل في يده إلى أن كسر الملك المظفر سيف الدين قطز التركي المعزي - صاحب مصر - التتر على عين جالوت في شهر رمضان من السنة. فسير إلى حلب نائبا عنه علاء الدين علي بن بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - فتسلم البيرة وولى عليها من قبله أسد الدين - حاجب الأمير حسام الدين جو كان دار -. ولم يزل بها مستمرا إلى أن ملك علم الدين الحلبي دمشق وقبض السلطان الملك الظاهر عليه، واستدعاه إلى مصر تحت الحوطة. وولا " هـ " حلب، وسار إلى حلب فكاتبه على أن يُسلِّم إليه القلعة على مال استقر بينهما، فتسلم المال ولم يُسلم القلعة وبقيت في يده إلى أن استدعى شمس الدين أقوش البرلي من حران وسلمها إليه. ولم تزل في يه إلى أن قصدها مولانا السلطان الملك الظاهر، ركن الدين بيبرس في سنة ستين فتسلمها، واستمرت في أيدي نوابه إلى عصرنا الذي وضعنا فيه هذا التاريخ. وقصتها التتر - خذلهم الله تعالى - وحاصروها ثلاثة دفوعٍ، يأتي ذكرها في تاريخنا المرتب على السنين، في سيرة السلطان الملك الظاهر - خلد الله ملكه -. ذكر ديار ربيعة من الجزيرة وقصبة مدنها نصيبين. وهي مدينةٌ في مستو من الأرض. ومخرج مائها من " شعب يعرف " ببالوسا، وهو أنوه مكان بها، ثم يبسط في بساتينها ومزارعها. ويدخل إلى كثيرٍ من دورها. وبها عقارب قاتلة. وبقربها جبل ماردين وارتفاعه نحو فرسخين، عليه قلعة تُعرف بالباز الأشهب من بناء بني حمدان. طالعها الأسدُ والشمس. صاحب ساعة بنائها القمر. طولها خمسٌ وسبعون درجة وثلاثون دقيقة. عرضها سبعٌ وثلاثون درجة. بها: مشهد علي بن أبي طالب - عليه السلام - وبها شجرة عُنّابٍ. وبها: كفُّ عليٍّ - عليه السلام - في مسجد باب الروم. وبها: مسجد أبي هريرة في محلة الزاهية، وعلى بابه حجرٌ فيه خط باليوناني، قد جُرب اوجع الظهر. وبها: مشهد زين العابدين - عليه السلام -. وبها: مشهد الرأس في سوق النشابين. يقالُ: إن رأس الحُسين - عليه السلام - عُلّقَ به لما عبروا بالسبّي إلى الشام. وبها: مشهد النُّقطة. يقال: إنه نقط من دم الرأس نقطةٌ هناك. وبها: مسجد بني بكرة، وهو أول مسجد عُمر بها، وهو كان الجامع القديم. وبها: مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الحضيرة. وبها: مسجد باب سنجار، كان به مصحف عثمان - رضي الله عنه. وبها: قبلة باب الناصر من الشرق قبر جُبير بن إسحاق. قال البلاذري: فتح عياض بن غنم نصيبين بعد قتال على مثل صلح الرُّها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ولم يزل من يلي الجزيرة منذ فُتحت إلى أن تغلب عليها وعلى دار حمدان بن حمدون بن حارث بن لقمان بن راشد التغلبي وتحصن بقلعة ماردين، فخرج المعتضد إليه في سنة إحدى وثمانين. فهرب من القلعة وبقي فيها ولده. فلما وصل المعتضد إلى القلعة وقف ببابها وقال: يا بن حمدان! افتح الباب ففتحه، ودخل المعتضد إليها، وأمر بنقل ما فيها وهدمها. ثم ظفر به بعد ذلك فحبسه ثم أطلقه، وأعاد عليه بلاده واصطنع ولده الحُسين. ثم صارت نصيبين بعد إلى ما كانت عليه، في كونها في يد من يلي بلاد الجزيرة. ولم تزل كذلك إلى أن ولى المكتفي الحُسين بن حمدان ديار ربيعة سنة اثنتين وتسعين ومائتين. " ولم يزل بها متوليا إلى أن خرج عن طاعة المقتدر فبعث إليه مؤنسا الخادم فظفر به وأدخله بغداد على جملٍ " وقيل: على فيل. وولى ديار ربيعة عثمان الغنوي وذلك في سنة ثلاث وثلاث مائة. ولم يزل واليا عليها إلى أن عزله في سنة سبع وثلاث متئة. فوليها إبراهيم بن حمدان. ولم تزل في يده إلى أن توفي في سنة ثمان وثلاثمائة. فوليها داود بن حمدان، ولم يزل متوليا بها إلى أن عُزل عنها سنة ثمان عشرة. ووليها ناصر الدولة الحسن بن أبي الهيجاء مع الموصل ولم تزل في يده إلى أن تغلب على ما في يده من البلاد في سنة سبع وعشرين فقصده الراضي وبجكم فكسراه. وسار إلى آمد واستولى عليها، ولم تزل في يده إلى أن قبض عليه ولده أبو تغلب وحبسه بقلعة كواشى من أعمال الموصل في سنة ست وخمسين. وبقيت البلاد في يده إلى أن اختلف أولاد ناصر الدولة في سنة تسع وخمسين فقصد حمدان نصيبين فاستولى عليها، فبعث إليه أبو تغلب أخاه أبا الفوارس في جيش فهزمه وملك نصيبين فسار حمدان إلى سنجار فملكها، ولم يزل أبو الفوارس بنصيبين إلى أن استولى عليها عضد الدولة فيما استولى عليه من بلاد الجزيرة في سنة ثمان وستين وولى فيها من قِبله أبا الوفاء. ولم تزل نصيبين في يد عضد الدولة إلى أن توفي في سنة سبعين وثلاث مئة. وملك صمصام الدولة فأقر فيها أبا الوفاء. ولم يزل بها إلى أن قصد نصيبين باد الكردي الحمُيدي - خال بني مروان - فاستولى عليها في سنة ثلاث وسبعين ثم ملك الموصل، فسيَّر إيله صمصام الدولة جيشا فطرده عن البلاد وولى في نصيبين سعدا ولم يزل بها إلى أن ملك بهاء الدولة في سنة تسع وسبعين فجمع أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسين - ابنا ناصر الدولة -، وقصدا الموصل فأخذاها بعد حرب، وملكا ديار ربيعة، فسار إليهما باد الكردي فأوقع بهما، واستولى على ما استوليا عليه. وأقطع لأبي ذوَّادٍ محمد بن المسيب نصيبين وجزيرة ابن عمر، وذلك في بقية سنة تسع وسبعين ليُساعده على الحروب. ولم تزل في يد أبي ذواد إلى أن توفي في سنة سبع وثمانين وثلاث مئة، فوليها بعده أخوه أبو حسان، المقلد بن المسيب. وبقيت في يده إلى أن قتله غلام له في سنة إحدى وتسعين وتولى بعده أبو المُنيع قرواش، ولم تزل نصيبين في يده مع ما استولى عليه إلى أن أعطاها لأخيه بدران في سنة سبع عشرة فقصدها نصر الدولة بن مروان واستولى عليها سنة ثمان عشرة ولم تزل بيده إلى أن وقعت بينه وبين بدران بن المقلد حربتكافآ فيه وانفصل كل منهما عن صاحبه، ولم يظفر منه بشيء. فقصد بدران نصر الدولة وهو بميافارقين، وطلب منه نصيبين عوضا عن صداق عمته فأجابه إلى ذلك، فتسلمها، ولم يزل. ووليها بعده ولده قريش ولم تزل بيده إلى أن قصدها. طُغرلبك في سنة تسع وأربعين. ثم عاد منها، واستمر بها " قريش بن بدران إلى أن توفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. ووليها بعده ولده شرف الدولة مسلم بن قريش ولم تزل بيده إلى أن فتح سروج " وأخذها " من حسن ابن " منيع بن " وثاب النميري وعوضه عنها بنصيبين. ولم تزل في يده إلى أن قبض عليه وقتله في سنة خمس وسبعين وأربعمائة واستعاد نصيبين منه. ولم تزل بيده إلى قتل سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وملك أخوه مؤيد الدولة إبراهيم واستولى على ما كان بيده من البلاد. وبقيت في يده إلى أن قصد نصيبين تاج الدولة تتش في سنة خمس وثمانين وأربعمائة فنازلها وقاتل من فيها من نواب مؤيد الدولة حتى أخذها عنوة، ونهبها وقتل أكثر أهلها، فسار إليه إبراهيم في جموع جمعها، والتقى به في شهر ربيع الآخر على نهر الهرماس فكسرهم تاج الدولة. فلما رأى إبراهيم ذلك رجع إلى خيمته، فنزل وجلس على التخت حتى أتوه، فقتلوه عليه، واستولوا على عسكره. وولي تاج الدولة نصيبين من قبله محمد بن شرف الدولة، ولم تزل في يده إلى أن قصدها كربوقا في سنة تسع وثمانين " فالتقاه على مرحلتين من نصيبين، فاستحلفه لنفسه فحلف له، وغدر به كربوقا بعد ذلك، وقبض عليه، وأتى نصيبين فامتنعت عليه، فحاصرها أربعين يوما ثم تسلمها وقتل محمد بن شرف الدولة ". ولم تزل نصيبن في يده إلى أن توفي في سنة خمس وتسعين فقصد شمس الدولة حكرمش - صاحب جزيرة ابن عمر - فتسلمها، ولم تزل بيده إلى أن قصده قليج أرسلان بن سليمان بن قطلمش السلجوقي - صاحب الموصل - فأخذها منه في سنة خمسمائة، ولم تزل في يده إلى أن التقاه جاولي سقاقوه في بقية السنة، واقتتلا فقتل قليج أرسلان. فصار نجم الدين إيلغازي بن أرتق إلى نصيبين فملكها في بقية السنة، وولى بها من قبله ولده. ولم يزل بها إلى أن استولى عليها مودود وعلى جميع بلاد الموصل في سنة اثنتين وخمسمائة. ولم تزل بيده إلى أن قتل في سنة سبع وخمسمائة. وفيها: وصل السلطان محمد بن إصفهان إلى بغداد ورد أمر الموصل وأعمالها، ونصيبين إلى آق سنقر البرسقي وجعله أتابك عسكر ولده مسعود. واستمرت تحت نظره إلى أن استولى عليها نجم الدين إبلغازي في سنة اثنتي عشرة، ولم تزل في يده إلى استولى عليها آق سنقر البرسقي - صاحب الموصل - مرة ثانية في سنة خمس عشرة، ولم تزل في يده " إلى " أن قتل سنة عشرين فاستولى عليها حسام الدين تمرتاش وبقيت في يده إلى أن قصدها عماد الدين زنكي في " سنة " إحدى وعشرين، ولم تزل بيد نوابه إلى أن قتل في سنة إحدى وأربعين فاستولى على ما كان بيده من البلاد الجزرية ولده سيف الدين غازي، ولم تزل في يده إلى أن توفي بالموصل سنة أربع وأربعين. واستولى قطب الدين مودود على ما كان بيده من البلاد، ثم مات في سنة خمس وستين. وولي ولده الصغير سيف الدين غازي بعهد منه ووصية، فلم تزل نصيبين بيده إلى أن صار إليه نور الدين وأخذها منه. وعوضه عنها بالموصل في سنة " ست و " ستين وخمسمائة ولم تزل في يد نوابه إلى أن توفي في شوال سنة تسع وستين. ولما توفي قصدها سيف الدين غازي - صاحب الموصل - في عسكره فملكها. ولم تزل في يد نوابه إلى أن توفي في سنة ست وسبعين. وتولى أخوه عز الدين مسعود ولم تزل في يده إلى أن عبر صلاح الدين الفرات في سنة ثمان وسبعين وسار إلى نصيبين فملكها، وأقطعها لأبي الهيجاء السمين ثم استرجعها منه، وأقطعها محمد بن مروان. فلما ملك الناصر حلب من عماد الدين زنكي ابن قطب الدين مودود عوضه عنها سنجار ونصيبين، وسروج والخابور والرقة. ولم تزل نصيبين بيد عماد الدين إلى أن توفي في المحرم سنة أربع وتسعين. وملك بعده ولده قطب الدين سنجار ونصيبين فسار ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود إلى نصيبين فأخذها بعد حصار وقتال شديد في جمادى الأولى من السنة. ثم استرجعها بمساعدة الملك العادل في شهر رمضان من السنة. ولم تزل في يد قطب الدين إلى أن قصدها نور الدين أرسلان شاه بجموعٍ كثيرةٍ، فملكها في سنة ستمائة. ثم أخذها قطب الدين بمساعدة الملك العادل له مرة ثانية. ولم تزل في يده إلى أن قصد الملك العادل قطب الدين في سنجار سنة ستٍ وستمائة فحاصره وضايقه إلى أن صالحه على نصيبين والخابور واتفقا على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ولم تزل في يد الملك العادل إلى أن مات، واستولى عليها الملك الأشرف، ولم تزل في يده إلى أن توفي في رابع المحرم سنة خمس وثلاثين وستمائة. فقصدها الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل فأخذها، ولم تزل في يده إلى أن توفي والده في رجب سنة خمس وثلاثين " ثم " قصده، وهو بسنجار بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - فنازله وحاصره، واستولى على نصيبين فبعث الملك الصالح إلى الخوارزمية ولده الملك المُغيث وبدر الدين - قاضي سنجار -. وكانوا في ديار مضر وأرغبهم في البلاد، ووعدهم بها إن هُم رحّلوا عنه بدر الدين فساروا إلى نصيبين فملكوها، واستولوا عليها. ورحّلوا بدر الدين عن سنجار. وسنذكر هذه الوقائع على ما وقعت، مبينة واضحة في تاريخنا الذي جعلناه ذيلا لتاريخ ابن الأثير. ولم تزل البلاد التي استولوا عليها في أيديهم إلى أن كسرهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف - صاحب حلب - في سنة ثمان وثلاثين واستولى على ما كان بأيديهم. فسار بدر الدين إلى دارا ونصيبين وولى فيهما، فاسترجع منه نصيبين وأبقى عليه دارا، وبقيت في يد نوابه إلى أن التجأت الخوارزمية إلى شهاب الدين غازي، فوصل بهم إلى نصيبين فأخذوها وولى فيها، فسار إليه عسكر الملك الناصر، ومقدمه صاحب حمص، فكسروه واستولوا على نصيبين مرة ثانية. وأقطع بعضها لصاحب الموصل وما زال باقيها في يده، إلى أن انضافت الخوارزمية إلى صاحب ماردين، فخرج عسكر حلب مقدمه الملك المعظم وجمال الدولة، وقصد دُنيسر في بقية سنة أربعين وضايقوها إلى أن وقع الاتفاق على أن أعطوا رأس العين لصاحب ماردين وأعطوا نصيبين للخوارزمية. ولم تزل في ايديهم إلى أن هربوا من التتار لما قصدوا بلاد الروم وأخلوا البلاد، وقصدوا الساحل. فأقطع الملك الناصر صلاح الدين نصيبين لصاحب ماردين ولصاحب الموصل وللملك المعظم ابن الملك الصالح - صاحب حصن كيفا - وولي عليها من قِبله. ولم تزل في يده إلى أن قصدت التتر ميافارقين فوصل شهاب الدين غازي إلى نصيبين هاربا بين أيديهم. ثم رحلوا عنها في سنة اثنتين وأربعين وعاد شهاب الدين إلى ميافارقين فسار إلى نصيبين صاحب ماردين الملك السعيد نجم الدين إيلغازي في سنة ثلاث وأربعين واستولى عليها، وبقيت يف يده إلى أن وصل الشيخ نجم الدين الباذرائي - رسول الديوان العزيز المستعصمي - وأصلح بين صاحب الموصل وصاحب ماردين على أن تكون نصيبين على القاعدة التي قررها الملك الناصر - صاحب حلب - في سنة خمس وأربعين. ثم نقض بدر الدين لؤلؤ هذه القاعدة، وصد نصيبين واستولى عليها، وأزج عسكر صاحب ماردين، وذلك في سنة ست وأربعين فخرج الملك المعظم من حلب في عسكر واجتمع بصاحب ماردين وكسروا بدر الدين في سابع شهر ربيع الآخر من السنة، وتسلموا نصيبين من علم الدين قيصر الموصلي. وكان بدر الدين قد بنى قلعتها، وله بها خزانةٌ، وولى فيها من قِبل الملك الناصر، وأقطع من ضياعها لصاحب ماردين سبعين قرية. وبقيت في يد الملك الناصر إلى أن استشفع بدر الدين بالخليفة المستعصم إلى الملك الناصر في نصيبين، فنزل له عنها، ورتب عليه مالا يحمله في كل سنة، وأقطع صاحب ماردين عوضا عن سهمه الذي كان له في قراها ماكسين والمجدل وقرى من الخابور، وبقيت في يد بدر الدين إلى أن قصدها الملك السعيد - صاحب ماردين - فملكها في سنة إحدى وخمسين وبقيت في يده إلى أن وصل الشيخ الباذرائي - رسول الديوان العزيز - مع الصاحب كمال الدين ابن العديم، وأصلح بين صاحب الموصل وصاحب ماردين على أن تكون لصاحب الموصل فتسلمها في سنة ثلاث وخمسين واستمرت في يده إلى أن توفي في شعبان سنة سبع وخمسين وستمائة. وبقيت من بعده في يد ولده الملك الصالح إسماعيل مع الموصل إلى أن استولت التتر على البلاد الشامية في سنة ثمان وخمسين. فهرب الملك الصالح من الموصل وقصد باب السلطان الملك الظاهر في سنة تسع وخمسين. فولت التتر في بلاده نوابا. ولم تزل نصيبين في أيديهم إلى سنة إحدى وستين، فضمنها منهم الملك المظفر قرا أرسلان ابن الملك السعيد غازي - صاحب ماردين - واستولى عليها، وفي يده إلى عصرنا الذي وضعنا فيه هذا الكتاب. دارا قال ابن حوقل: " وهي مدينة، كانت، طيبة في نفسها " وإنما تغيرت في أيام بني حمدان، وكانت مضافة إلى نصيبين " - هنا انتهى كلامه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 بناها دارا بن دارا - آخر ملوك الطبقة الثانية من الفرس -، وهو الذي قتله الإسكندر، وكان ملكه أربع عشرة سنة. طولها: خمس وسبعون درجة، وخمس عشرة دقيقة. عرضها: سبع وثلاثون درجة، وعشر دقائق. طالعها: برج الميزان. صاحب ساعة بنائها المشتري. لم تزل تنتقل في أيدي من يلي ديار ربيعة إلى أن انفردت نصيبين بنفسها، فصارت مضافة إليها في الولاية، إلى أن قتل كربوقا محمد بن شرف الدولة لما أخذ منه نصيبين فلما مات كربوقا في سنة خمس وتسعين وأربعمائة ملك شمس الدولة جكرمش نصيبين، وملك سقمان بن أرتق دارا وحصن كيفا ولم تزل في يده إلى أن ملكها من بني أرتق عماد الدين - ابن عم الملك الصالح - صاحب آمد. فلما قصد الملك المعظم مظفر الدين - صاحب إربل - حصار الموصل في سنة ست عشرة وستمائة، وجاءه الملك الأشرف إلى الموصل ومعه ملوك الشرق لنجدة عسكر الموصل وكان " من " جملة الملوك، الملك الصالح - صاحب آمد -. فشكا للملك الأشرف من سوء مجاورة ابن عمه عماد الدين في دارا فقال له: لاأدخل بينكما. فقبض عليه وأخذ منه دارا في سنة سبع عشرة. واستمرت في ملكه إلى أن توفي في سنة تسع عشرة وانتقلت مملكته إلى ولده اللمك المسعود، فأخذ الملك الأشرف دارا لكونها مجاورة لصيبين وأعطاها لملوكه عز الدين أيبك المعروف بصاحب دارا واستمرت في ولايته إلى أن قتله الخوارزمية في خلاط وكان بها نائبا عن الملك الأشرف عندما أخذوها في سنة سبع وعشرين. ووليها ولده صلاح الدين محمد، وبقي فيها إلى أن توفي الملك الأشرف سنة خمس وثلاثين وستمائة. فصارت إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل فاستولت عليها الخوارزمية عندما تغلبوا على البلاد التي كانت يف يده من أرض الجزيرة. ولم تزل في أيديهم إلى أن قصدهم عسكر الملك الناصر - صاحب حلب - في صفر سنة ثمان وثلاثين وستمائة، فكسروه، واسروا مقدم جيشه الملك المعظم فخر الدين توران شاه وجماعة من أمرائه. ثم التقاهم العسكر مرة أخرى في بقية السنة فكسرهم واستولى على ما كان بأيديهم من بلاد الجزيرة وتغلبوا، فقصد بدر الدين لؤل صاحب الموصل دارا وفيها الملك المعظم محبوس، فحاصرها، ونصب عليها المجانيق، وسير إلى الملك المعظم يسأله أن يتوسط بينه وبين نواب صاحبها دونلك، وشرط على نفسه ألا يعدل بدارا عنه إذا أخذها، فتوسط بينهما إلى أن تسلمها، وولى فيها، واخذ معه الملك المعظم إلى سنجار فأرغد عليه في الإنام والإكرام. ثم سأله أن يُنعم عليه بدارا فأجابه. ثم سار إلى الملك الناصر واستنجز له توقيعا بها. واستمرت في يده إلى أن اتفق " بدر الدين " لؤلؤ مع الملك الصالح نجم الدين أيوب - صاحب مصر - في سنة ستٍ وأربعين. وقصد دُنيسر و رأس العين فنهبهما، واستصرخ صاحب ماردين بالملك الناصر فسير إليه عسكرا مقدمه الملك المعظم فخر الدين فكسر بدر الدين، واستعاد منه دارا، وخربها وسلم بلدها للملك السعيد نجم الدين غازي ابن الملك المنصور بن أرتق، ولم تزل في يده إلى أن توفي في سنة تسع وخمسين. وملك بعده ولده الملك المظفر قرا أرسلان وهي في يده إلى عصرنا الذي وضعنا فيه هذا التاريخ. رأس العين وهي مدينة في مستو من الأرض، أكبر من دارا. لها سور يشتمل على طواحين ومزارع وبساتين. وبها أكثر من ثلاثمائة عين جارية صافية، منها ما لا يعرف له قرار، وقد وُضع عليها شباك من حديد. تجتمع هذه المياه فتصير نهرا واحدا، ويجري على وجه الأرض ويعرف بنهر الخابور. يقع إلى قرقيسيا . فيكون عليه مقدار عشرين فرسخا قرى، منها ماهي كالمدن، وهي: عرابانُ، والمجدل، وماكسين. ولعرابان سور منيع. طالع رأس العين الدالي. متولي ساعة بنائها المشتري. طولها أربع وسبعون درجة. عرضها ست وثلاثون درجة وخمسون دقيقة. فقال البلاذري: لما فتح عياض بن غنم البلاد امتنعت عليه رأس العين ففتحها عمير بن سعد وهو إذ ذاك والي عمر " بن الخطاب - رضي الله عنه - " على الجزيرة بعد أن قاتل أهلها قتالا شديدا ودخلها المسلمون عنوة، ثم صالحهم بعد ذلك على أن دفعت الأرض إليهم، ووضعت الجزية على رؤوسهم، على كل رأس أربعة دنانير، ولم يسب نساءهم ولا أولادهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 لم يزل يليها من يلي ديار ربيعة منذ فتحت في صدر الإسلام إلى أن ملك تاج الدولة تتش ديار بكر، واستولى على كثير من بلاد ديار ربيعة، فلما قتله ابن أخيه بركياروق ابن ملكشاه استولى على ما كان بيده من البلاد، فوهب لمغن له يسمى لجا كسرى ماردين فلم يزل بها إلى أن أخذها منه ياقوتي ابن أرتق. وسبب أخذها أن كربوقا - متولي الموصل من قبل بركياروق - قصد آمد وحارب صاحبها، فاستنجد بسقمان فسار حتى التقى بكربوقا. ووقعت بينهم معركة أجلت عن هزيمة سقمان وأسر أخاه ياقوتي بن أرتق، فحبسه بقلعة ماردين عند لجاكري، فمضت زوجة أرتق إلى كربوقا، وسألته في إطلاق ابنها فأطلقه، فنزل في ظاهر ماردين. وكان من بنواحي ماردين من الأكراد قد طمعوا في صاحبها، فلا يزالون يشنون الغارات على أطرافها، فسير ياقوتي إليه يقول له: قد صار بيني وبينك مودة وصداقة، وأريد أن أعمر بلدك بأن أمنع عنه الأكراد، وآخذ أموالهم، وأعينك بها على مقاصدك، على أن أقيم في الربض، وتكون أنت في القلعة " وترتب " معي من أجنادك من أستظهر به. فأنعم له بما طلب. فجعل يغير في نواحي خلاط وأرمينية وكلما تحصل له من الكسب يقرفه في الأجناد، فاختدع بذلك أكثر أجناد ماردين، وصاروا معه. فرجع في بعض الأوقات من إغارة فقبض عليهم وقيدهم، وجاء بهم إلى القلعة، ونادى من بها من أهلها: " إن فتحتم الباب وإلا ضربت أعناق من معي " فامتنعوا، فقتل إنسانا منهم، فأذعنوا بتسليمها، فلما ملكها، وذلك في سنة ست وتسعين وأربعمائة، جمع جموعا وأغار بها على بلاد جكرمش، وملك رأس العين، وبقيت في يده إلى أن قتل في حرب كانت بينه وبين جكرمش، فاستولى على ما كان بيده، وبقيت في يده رأس العين إلى أن مات سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وملك بعده إيلغازي - أبن أخيه -. ولم تزل رأس العين بيده إلى أن توفي في شهر رمضان سنة ست عشرة وخمسمائة، وملك بعده ولده حسام الدين تمرتاش رأس العين فيما ملكه من البلاد. ولم تزل في يده إلى أن توفي في سنة سبع وأربعين، وولي بعده نجم الدين إلبي، ولم تزل في يده إلى أن مات. وملك بعده ولده إيلغازي ثم مات في سنة ثمانين وخمسمائة. وملك بعده حسام الدين يولق أرسلان، ولم يزل مالكا إلى أن قصد الملك العادل ماردين وولي في رأس العين ودنيسر ثم رحل عنها بعد أن حاصرها ولم يظفر منها بطائل في سنة خمس وتسعين، فاسترجع ما كان أخذ من بلاده. ثم عاد جيش الملك العادل إلى البلاد، ومقدمه الملك الأشرف وملك رأس العين، ثم وقعت بينهما على مال قرر، وأن يخطب للملك العادل في بلاده. ولم تزل رأس العين في يد حسام الدين.. إلى أن قتل في سنة ستمائة، وولي بعده أخوه إيلغازي، ولم يزل بها إلى أن قصده الملك الأشرف في سنة سبع عشرة، ومعه الملك الصالح وضايقه، ثم اتفقا على أن يعطي الملك الأشرف رأس العين وثلاثين ألف دينار، ويعوضه الموزر ولم تزل بعد في يد الملك الأشرف إلى أن دخلت في البلاد التي قايض بها أخاه الملك الكامل عن دمشق في سنة ست وعشرين. ولم تزل في يد نواب الملك الكامل إلى أن توفي في سنة خمس وثلاثين. واستمرت في يد الملك الصالح نجم الدين أيوب - ولده - إلى أن استولى عليها الخوارزمية في سنة خمس وثلاثين. ولم تزل بأيديهم إلى أن كسرهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف - صاحب حلب - في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وأخذها، وولى فيها، واستمرت في يده إلى أن أقطعها الملك السعيد نجم الدين غازي ابن الملك المنصور ناصر الدين أرتق بن إيلغازي، وساتمرت بيده إلى أن توفي في سنة تسع وخمسين، وملك ولده الملك المظفر قرا أرسلان فصالح التتر على ما في يده من البلاد عندما قصدوها في السنة المذكورة. واستمرت رأس العين في يده إلى عصرنا الذي وضعنا فيه هذا التاريخ، وهو سنة خمس وسبعين وستمائة. قرقيسيا هي قصبة كورة الخابور، وعند مصب نهر الخابور في الفرات. وفي كورتها من البلاد: ماكسين، وعربان، والمجدل. لم يتصل بعلمي من ملكها بعد خروجها عن أيدي بني قريش فيما طالعته من كتب التواريخ. إلى أن قرأت في تاريخ ابن الأثير. قال في حوادث سنة أربع وعشرين وستمائة: مات الملك المظفر نور الدين محمود بن زنكي بن قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي - صاحب قرقيسيا - وكان الملك الأشرف قد أخذها منه وعوضه عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ولم تزل في يد نواب الملك الأشرف " إلى أن توفي " في رابع المحرم سنة خمس وثلاثين وستمائة. فاستولى عليها السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهو حينئذ نائب عن والده السلطان الملك الكامل، وبقيت في يده إلى أن تغلب عليها الخوارزمية، ولم تزل في أيديهم إلى أن كسرهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف - صاحب حلب - واسترجعها منهم، وأقطعها للملك المنصور، ناصر صلاح الدين أبي طاهر إبراهيم ابن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه - صاحب حمص - ولم تزل في يده إلى أن مات في سنة أربع وأربعين وستمائة. وعادت بعد موت الملك المنصور - صاحب حمص - إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف - صاحب الشام - والخابور معها لبدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - في سنة سبع وأربعين وستمائة. فلما توفي بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - في سنة سبع وخمسين وستمائة عاد السلطان الملك الناصر ولىّ عليها من قبله. ولم تزل في يده إلى أن دخلت سنة ثمان وخمسين وستمائة، واستولت التتر على البلاد الشامية، فطلبها من التتر الملك الصالح ركن الدين إسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - فأعطيها، وولىّ فيها من قبله، ولم تزل بيده إلى أن خرج من الموصل قاصدا الديار المصرية في سنة تسع وخمسين وستمائة. فعادت إلى ولاية التتر وهي بأيديهم إلى حين وضعنا هذا الكتاب، وهو سنة تسع وسبعين وستمائة، وأظنها - والله أعلم - أنها لصاحب ماردين غير أن بها من جهة التتر ناسا لأجل حفظ المعابر. سنجار قال " ابن " الكلبي: وسنجار، وهيت وآمد أسماء أولاد البلندي بن مالك بن ذعر بن بويب بن عيفا بن مدين بن إبراهيم. نزلوا بهذه الأماكن فعرفت بهم ونسبت إليهم. وذكر ابن حوقل: مدينة في وسط البرية في سفح جبل، بها أنهار جارية، وعيون مطردة، ومباخس وإسقاء وضياع، وعليها سور من الحجر والكلس منيع. واستوصفت أحد أهلها بها، فذكر أنها كانت قبل استيلاء أحد أهلها لها، فذكر أنها كانت قبل استيلاء التتر عليها بليدة صغيرة، لها سوران، أحدهما أعلى من الآخر، وكلاهما مبني بالحجر والجص. ولها قلعتان على تلين: إحداهما: من بناء أحد العقيليين الذين كانوا ملوك الموصل أولا، وهو الذي جدد بناء سورها، وبنى بها برحا كبيرا يعرف ببرج الخزانة. والقلعة الأخرى تسمى الجديدة أنشأها قطب الدين محمد ابن الأثابك عماد الدين زنكي بن آق سنقر سنة ست وستمائة. ولما استولت التتر - خذلهم الله - على سنجار سنة ستين وستمائة أخربوا السور والقلعتين، وأخربوا مشهدا كان ملاصقا للسور يعرف بمشهد علي - عليه السلام - فجدده نائب لهم من العجم يدعى قوام الجين محمد اليزدي، واقيمت فيه الجمعة. وفي وسط المدينة نهران: وفي وسط المدينة نهران: أحدهما يعرف بنهر دار العين. والآخر يخرج من عين في البلد ثرة تسمى عين الأحتات فتجري في البلد، ثم تخرج من تحت السور. وكان لها أربعة أبواب، ثلاثة منها في قبليها: أحدها: باب الماء. والثاني: الباب العتيق. والثالث: الباب الجديد، ويدخل من هذا الباب إلى ساحة كبيرة فيها دور السلطنة. والباب الرابع: من شماليها يدعى باب الجبل. ويطل على البلد جبل مرتفع من شماليها، كثير البساتين الأشبة. ولها ربضان، وفيها الأسواق العامرة، والمساجد الآهلة، والآخر من شرقيها. وبها ست مدارس: منها اثنتان داخلها: إحداهما: إنشاء السلطان الشهيد نور الدين محمود بن زنكي، يدرس فيها مذهب أبي حنيفة. والآخر أنشأها الشيخ صدر الدين المعروف بابن الشيخ، وكان رئيس البلد وكبيرها وعينها، يدرس فيها مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه -. وأربع بخارجها: إحداها إنشاء الأمير مجاهد الدين قايماز، عتيق عماد الدين زنكي، يدرس فيها مذهب أبي حنيفة. والثانية أنشأها صاحب الديوان شمس الدين المعروف بابن الكافي يدرس فيها المذهبان. والثالثة من إنشاء عماد الدين زنكي. والرابعة ليس لها وقف، من إنشاء أم قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي، دفن فيها الملك الفائز إبراهيم ابن الملك العادل. وبها خانقاهات ثلاث، منها: واحدة داخلها إنشاء نور الدين محمود بن زنكي. وبخارجها اثنتان: إحداهما من إنشاء جمال الدين محمد الأصفهاني - الوزير -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 والثانية من إنشاء السلطان الشهيد نور الدين - رحمه الله - مرصدة للواردين الغرباء. ذكر فتح مدينة سنجار وملكها قال أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري: حدثني محمد ابن المفضل الموصلي عن مشايخ من أهل سنجار قالوا: كانت سنجار في أيدي الروم فاتفق أن كسرى المعروف بأبرويو أراد قتل مائة رجل من الفرس كانوا حملوا إليه بسبب خلاف ومعصية. فكلم فيهم " فأمر أن يوجهوا إلى سنجار وهو يومئذ يعاني فتحها، فمات منهم " في الطريق رجلان، ووصل " إليها " ثمانية وتسعون " رجلا "، فصادفوا المسلمين عليها محاصرين لها، فنزلوا على ناحية منها وقاتلوها، ففتحوها دون المسلمين وتحصنوا بها. فلما انصرف عياض بن غنم من خلاط " وصار " إلى الجزيرة بعض إلى سنجار ففتحها " صلحا " وأسكنها قوما من العرب. ذكر من وليها بعد خروج الجزيرة عن أيدي بني حمدان في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة قد تقدم القول بذكر من فتحها، ومن ملك الجزيرة بمجموعها أولا، فأعني عن إعادته ثانيا. فإن سنجار لم تزل مضافة إلى من يلي ديار ربيعة والموصل. فلما أن خرجت عن أيدي بني حمدان في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة انتقلت إلى أمراء بني عقيل - ملوك الموصل - وأولهم: أبو الذواد محمد بن المسيب بن رافع بن المقلد ابن جعفر بن عمرو بن المهنا عبد الرحمن بن بريد - مصغرا - بن عبد الله بن زيد بن قيس بن جوثة بن طهفة ابن حزن بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ابن معاوية بن بكر بن هوزان. تغلب أبو الذواد على الموصل وملكها وسنجار فلم تزل في يده إلى أن توفي في سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. ووليها المقلد - أخوه - إلى أن قتل في سنة إحدى وتسعين. ووليها ولده قرواش، وتوفي سنة اثنتين وأربعين " وأربعمائة " ولم تزل " في يد " من يلي الموصل من بني عقيل إلى زمن الأمير شرف الدولة، أبي المكارم مسلم بن أبي المعالم قريش. وكان استولى على ديار عظيمة، وسيرته حسنة. فساس الناس سياسة حسنة. وشمل الأمن جميع الرعية والسبل. وقد استوفينا بعض سيرته في أخبار حلب. ولم يزل مالكا الموصل وسنجار وحلب إلى أن قتل في حرب جرت بينه وبين سليمان بن قتلمش - ظاهر إنطاكية - في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. وولي بعده أخوه أبو سالم إبراهيم بن قريش. وكان قد اعتقله أخوه شرق الدولة في قلعة سنجار أربع عشرة سنة. فلما توفي أخوه اجتمعت العشيرة على إخراجه وتوليته مكان أخيه، فأخرجوه وولوه الموصل وسنجار. فلم يزل بهما إلى أن وصل السلطان ملكشاه في سنة ثمانين وأربعمائة، فقبض على إبراهيم بن قريش وسلم البلاد إلى أبي عبد الله محمد بن شرف الدولة بن قريش وأزوجه أخته زليخا واستمرت إلى أن استدعاه السلطان ملكشاه إليه واعتقله. فلم يزل معتقلا إلى أن توفي السلطان ملكشاه ليلة الجمعة النصف من شوال من سنة خمس وثمانين وأربعمائة، فأطلقته تركان خاتون - زوجة السلطان - ولعمه إبراهيم فوصلا إلى الجزيرة. وكان نواب أبي عبد الله محمد بن شرف الدولة بسنجار مدة حبسه. فوصل إلى الجزيرة. ولما بلغ تاج الدولة تتش السلجوقي، صاحب دمشق - أخو ملكشاه - خرج من دمشق بعساكره طمعا في ملك أخيه ملكشاه. فوصل إلى الجزيرة واستولى على هيت، وعاد إلى دمشق. ثم خرج ثانيا، فوصل إلى حلب وقتل قسيم الدولة آق سنقر - صاحب حلب - في وقعة كانت بينهما بظاهر حلب وملكها. ثم سار إلى الرها فملكها، وإلى ميافارقين وآمد فملكهما، وتسلم تصيبين، وسلمها إلى محمد ابن شرف الدولة بن قريش. وتوجه إلى لقاء ابن أخيه بك ياروق وضرب معه مصافا، فقتل تاج الدولة في الوقعة، وذلك في سنة ثمان وثمانين وأربع مائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ولم يزل محمد بن مسلم بن قريش واليا على الموصل وسنجار إلى أن قتله كربوقا في وقعة جرت بينهما، بعد أن أسره، وذلك في سنة تسع وثمانين وأربع مائة. واستولى على الموصل بعد حصار. ولم يزل حاكما على الموصل وسنجار إلى أن توفي في سنة خمس وتسعين وأربع مائة وذكر ابن الأثير في تاريخه " الكامل " في حوادث سنة اثنتين وخمسمائة أن تميرك كان متوليا على سنجار مستقلا بملكها، ولم نتحقق تمليكه لها، هل كان نيابة أو تغلبا. واستمر نميرك في ولاية سنجار إلى أن دخلت سنة خمس عشرة وخمسمائة فأقطع السلطان " محمود بن محمد مدينة الموصل وسنجار والخابور وغيرها من البلاد لآق سنقر البرسقي فلم يزل مالكا لسنجار إلى أن قتل بالموصل في الجامع يوم الجمعة ثامن ذي القعدة سنة عشرين وخمسمائة. ووليّ ولده عز الدين مسعود، ولم يزل واليا على الموصل وسنجار إلى أن توفي بمدينة الرحبة سنة إحدى وعشرين وخمسمائة. وبقي جاولي - مملوك البرسقي - على الموصل وسنجار أشهرا. ذكر ولاية عماد الدين زنكي الموصل أقطع السلطان محمود الموصل والجزيرة وما يليهما لعماد الدين زنكي بن قسيم الدولة آق سنقر الذي كان ملك سنة احدى وعشرين وخمس مائة فاستقل بملكها. ثم سار إلى نصيبين فملكها. وسار إلى سنجار، فامتنع من بها ثم صالحوه وسلموها إليه وملك الجزيرة بكمالها. ولم تزل في يده إلى أن قصد قلعة جعبر وحاصرها. وقتل بها سنة إحدى وأربعين وخمس مائة. وملك ولده الكبير سيف الدين غازي الموصل وبلاد الجزيرة وسنجار يوم الاثنين سابع شهر ربيع الآخر منها. وملك سيف الدين غازي الموصل وسنجار بعد أبيه. ونقل خزائن الموصل إلى سنجار. وكان الوالي بها رجل يقال له يلمان فعزله وولاها لعبد الملك المقدم الديلمي. ولم تزل سنجار في يده إلى أن توفي في جتدي الآخرة من سنة أربع وأربعين وخمس مائة. فلما توفي سيف الدين غازي كان أخوه قطب الدين مودود مقيما بالموصل، وكان له ولد صغير فتوفي بعده فملك الموصل قطب الدين مودود بعد أخيه. ذكر استيلاء نور الدين على سنجار لما ملك قطب الدين مودود الموصل، [بعد أخيه سيف الدين غازي] كان أخوه الأكبر نور الدين محمود بالشام، وله حلب وحماة، فكاتبه جماعة من الأمراء، وطلبوه. ومن جملة من كاتبه المقدم عبد الملك، وكان حينئذ مستحفظا لسنجار فأرسل إليه يستدعيه، ليسلم إليه سنجار. فسار جريدةً في سبعين فأرسل من أمراء دولته. فوصل إلى ماكسين في نفر يسير قد سبق أصحابه. وكان يوما شديد المطر، فلم يعرفهم الذي كان يحفظ الباب، فأخبر الشحنة أن نفرا من التركمان المتجندة قد دخلوا البلد، فلم يستتم كلامه حتى دخل نور الدين الدار على الشحنة، فقام إليه، وقبل يده، ولحق به باقي أصحابه. ثم سار إلى سنجار، فوصلها، وليس معه غير ركابي واحد وسلاح دار، ونزل بظاهر البلد، وأرسل إلى المقدم يعلمه بوصوله. وكان المقدم حينئذ قد توجه إلى الموصل، فسيَّر خلفه من أعلمه بوصول نور الدين. فعاد إلى سنجار وسلمها إليه، فدخلها نور الدين وتسلمها. وأرسل إلى فخر الدين قرا أرسلان - صاحب الحصن - يستدعيه لمودة كانت بينهما، فوصل إليه في عسكره. ولما سمع أتابك قطب الدين مودود وجمال الدين محمد الإصبهاني، الوزير، وزين الدين علي كوجك بذلك جمعوا عساكرهم وساروا نو سنجار، فوصلوا إلى تل يعفر وترددت الرسل بينهم، بعد أن كانوا عازمين على قصد سنجار فقال لهم جمال الدين: ليس من الرأي قتاله، فإننا نحن قد عظّمنا محلّه عند السلطان. وجعلنا أنفسنا دونه، وهو أيضا يعظمنا عند الفرنج. فإذا لقيناه، فإن هزمناه طمع السلطان فينا، ويقول: هذا الذي " كانوا " يعظمونه ويحتمون به أضعف منهم " وقد هزموه "، وإن هزمنا طمع الفرنج فيه، وتطرفوا إلى البلاد. وبالجملة فهذا هو ولد أتابك الكبير وأشار بالصلح، ويسلم سنجار إلى أخيه قطب الدين ويتسلم مدينة حمص والرحبة بأرض الشام. فعاد الشام له، والجزيرة لأخيه واتفقا. وعاد نور الدين " إلى " حلب، وأخذ معه ما كان ادخره أبوه أتابك الشهيد فيها من الجواهر، وكانت شيئا كثيرا جدا. ولم تزل سنجار في يد قطب الدين إلى أن توفي في سنة خمس وستين وخمس مائة. وكان قد جعل ولي عهده عماد الدين زنكي ولده، فعدل عنه إلى ولده الصغير سيف الدين غازي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وكان السبب في عدوله عن ولده الكبير أن وزيرا كان رجلا يدعى فخر الدين عبد المسيح، فحسّن له العدول عن ابنه عماد الدين زنكي، وتولية ابنه الصغير، فولى سيف الدين غازي، فسار ولده الكبير إلى عمه نور الدين وكان يبغض فخر الدين عبد المسيح. ذكر ملك نور الدين الموصل وسنجار لما بلغ نور الدين محمود بن زنكي وفاة أخيه قطب الدين مودود - " صاحب " الموصل - وملك " ولد " أخيه سيف الدين غازي الموصل والبلاد التي كانت لأبيه بعد وفاته، وقيام فخر الدين عبد المسيح بالأمر معه، وتحكّمه عليه، أنف لذلك، وعظم عليه وقال: أنا أولى بتدبير بني أخي وملكهم. وسار عند انقضاء العزاء جريدةً في قلةٍ " من " العسكر، وعبر الفرات عند قلعة جعبر مستهل المحرم من هذه السنة وقصد الرقة فحصرها، وأخذها. ثم سار إلى الخابور " فملكه جميعا ". وملك نصيبين وأقام بها، فجمع العسكر، فأتاه نور الدين محمد بن قرا أرسلان ابن داود - صاحب حصن كيفا - وكان قد كثر جمعه. وكان قد ترك أكثر عساكره بالشام لحفظ ثغوره، فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها، ونصب عليها المجانيق، فملكها وسلمها إلى عماد الدين ابن أخيه قطب الدين. وكان قد جاءته كتب الأمراء " الذين بالموصل " سرا يبذلون له الطاعة، ويحثونه على الوصول " إليهم "، فسار إلى الموصل، فأتي مدينة بلد وعبر دجلة " عندها " في مخاضةٍ إلى الجانب الشرقي، وسار فنزل شرقي الموصل على حصن نينوى ودجلة بينه وبين الموصل. ومن العجب أن يوم نزوله سقط من سورها بَدَنةٌ. وكان سيف الدين غازي وفخر الدين قد سيرا عز الدين مسعود بن قطب الدين " إلى أتابك شمس الدين إيلكز، صاحب همذان، وبلد الجبل، وأذربيجان، وأصفهان الري وتلك الأعمال " يستنجده على عمه نور الدين، فسير " إيلدكز " رسولا إلى نور الدين ينهاه عن التعرض إلى الموصل ويقول له: إن هذه البلاد بلاد السلطان فلا تقصدها فلم يلتفت إليه، وقال للرسول: قل لصاحبك، أنا أصلح لأولاد أخي منك، فلِمَ تُدخل نفسك بيننا؟ وعند الفراغ من إصلاح بلادهم، يكون الحديث معك على باب همذان فنك قد ملكت هذه المملكة العظيمة وأهملت الثغور حتى غلبت عليها الكُرج، وقد بُليتُ أنا، ولي مثل ربع بلادك بالفرنج، وهم أشجع العالم، فأخذتُ معظم بلادهم، وأسرتُ ملوكهم، فلايحل لي السكوت عنك، فإنه يجب علينا وعلى كل مسلم القيام " بحفظ " ما أهملتَ، وإزالة الظُلم عن المسلمين. وأقام نور الدين على الموصل، فعزمَ من بها من الأمراء على مجاهرة فخر الدين عبد المسيح بالعصيان، وتسليم البلد إلى نور الدين فعلِم بذلك، فأرسل إلى نور الدين في تسليم البلد إليه، على أن يُقّضرهُ بيد سيف الدين، ويطلب لنفسه الأمان ولماله. فأجابهُ إلى ذلك، وشرط أن يأخذهُ معه إلى الشام، ويعطيه عنده إقطاعا يرضيه. فسلم إليه البلد ثالث عشر جمادى الأولى من هذه السنة، ودخل القلعة من باب السر، لأنه لما بلغه عصيان عبد المسيح عليه، حلف أنهُ لا يدخلها إلا من أحصن مكان فيها. ولما ملكها أطلق ما بها من المكوس وغيرها من " أبواب " المظالم. وكذلك فعل بنصيبين وسنجار والخابور، وهكذا فعل في جميع بلاده من الشام ومصر. ووصله وهو على الموصل " يحاصرها " خلعة من الخليفة المستضيئ بأمر الله فلبسها. ثم أعطى سنجار لعماد الدين، فلم يزل بها إلى أن توفي نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر وملك ولده الملك الصالح إسماعيل حلب. ولم يزل عماد الدين مستمرا بسنجار إلى أن مات الملك الصالح في سنة سبع وسبعين وخمس مائة. وكان لما اشتد مرضه أوصى بأن تُسلم حلب إلى ابن عمه عز الدين مسعود - صاحب الموصل - فوصل إليها وتسلمها إلى أن توفي. ذكر تسليم حلب إلى عماد الدين من عز الدين صاحب الموصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 " لما وصل عز الدين إلى الرقة، جاءته رسل أخيه عماد الدين - صاحب سنجار - وطلب أن يسلم إليه مدينة حلب، ويأخذ عوضا عنها مدينة سنجار فلم يجبه إلى ذلك. ولجّض عماد الدين وقال: إن لم تُسلم إليَّ حلب، وإلا سلمت أنا سنجار إلى صلاح الدين. فأشار حينئذ جماعة من الأمراء بتسليمها إليه. وكان أشدهم في ذلك مجاهد الدين قايماز، فلم يُمْكنِ عز الدين مخالفته لتمكنه في لادولة، وكثرة عساكره وبلاده. وإنما حمل مجاهد الدين على " ذلك " خوفه م عز الدين لأنه عظم في نفسه وكثر معه العسكر. فكان الأمراء الحلبيون لا يلتفتون إلى مجاهد الدين ويسلكون معه من الأدب ما يسلكه معه عسكر الموصل، فاستقر الأمر على تسليم حلب إلى عماد الدين ودفع سنجار إلى أخيه، وعاد إلى الموصل. وكان صلاح الدين إذ توجّه بمصر، فلما بلغه خبر ملك عز الدين حلب، عظم عليه. وخاف أن يسير منها إلى دمشق وغيرها، ويملك الجميع. فأيس من حلب. فلما بلغه ملك عماد الدين لها برز " من مصر " من يومه. وسار إلى الشام. وكان " من الوهن على " دولة عز الدين ما نذكره - إن شار الله تعالى -. ذكر ملك صلاح الدين سنجار " لما سار صلاح الدين عن الموصل إلى سنجار سيَّر مجاهد الدين " قايماز " إليها عسكرا، قوة لها ونجدة، فسمع بهم صلاح الدين فمنعهم من الوصول إليها، وأوقع بهم، واذخ سلاحهم، ودوابهم وعلوفاتها، وسار إليها ونازلها. وكان بها شرف الدين أمير أميران " هندوا " وأخوه عز الدين - صاحب الموصل - معه في عسكرٍ، فحصر البلد وضايقه، وألح في قتاله، فكاتبه بعض الأمراء الأكراد، " الذين به " من الزرزارية " وخامر معه "، وأشار عليه بقصده من الناحية التي هو فيها " ليسلم إليه " البلد، فطرقه صلاح الدين ليلا، فسلم إليه ناحيته، فملك الباشورة لا غير. فلما سمع شرف " الدين " الخبر استكان وخضع، وطلب الأمان فأمِّن. ولو قاتل على تلك الناحية لكان أخرج العسكر الصلاحي عنها. ولو امتنع بالقلعة لحفظها ومنعها، لكنه عجز. فلما طلب الأمان أجابه صلاح الدين إلى ذلك وأمنَّهُ، وملك البلد، وسار شرف " الدين " ومن معه إلى الموصل " واستقر الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بملك سنجار. " واستناب بها سعد الدين بن معين الدين أنُر، وكان من أكابر الأمراء وأحسنهم صورة ومعنى ". ولم تزل سنجار بيد صلاح الدين إلى أن دخلت سنة تسع وسبعين وخمس مائة، فملك صلاح الدين آمد، وأنعم بها على نور الدين بن قرا أرسلان - صاحب الحصن -. وقصد حلب وحاصرها. وكان بها عماد الدين زنكي ابن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي، وضايقها، فأرسل عماد الدين إليه، وطلب الصلح، فعوضه عنها سنجار ونصيبين والرقة وسروج والخابور. وكان ذلك في ثامن عشر صفر من السنة. ولم تزل سنجار بيد عماد الدين زنكي " بن مودود بن زنكي بن آق سنقر إلى أن توفي في المحرم سنة أربع وتسعين وخمس مائة وملكها ولده قطب الدين محمد. ذكر وفاة عماد الدين زنكي بن مودود " في هذه السنة من المحرم توفي عماد الدين زنكي بن مودود ابن " زنكي ن " آق سنقر - صاحب سنجار ونصيبين والخابور والرقة. وقد تقدم ذكره، كيف ملكها سنة تسع وسبعين. وكان - رحمه الله - عادلا، حسن السيرة في رعيته، عفيفا عن أموالهم، وأملاكهم، متواضعا، يحب أهل العلم والدين، ويحترمهم، ويجلس معهم، ويرجع إلى أقوالهم إلا أنه كان بخيلا شديد البخل، وملك بعده ولده قطب الدين محمد وتولىّ تدبير دولته مجاهد الدين يرنقش - مملوك أبيه -. وكان دينا، خيرا، عادلا، حسن السيرة، كثير البر والإحسان إلى الفقراء، وكان - رحمه الله - شديد التعصب على مذهب الحنفية، كقير الذم للشافعية. فمن جملة تعصبه أنه بنى مدرسة للحنفية بسنجار، وشرط أن يكون النظر إلى الحنفية من أولاده، دون الشافعية، وشرط أن يكون البواب والفراش على مذهب أبي حنيفة. وشرط للفقهاء طبيخا يطبخ لهم كل يوم؟ وهذا نظر حسن، رحمه الله تعالى. ذكر حصار الملك العادل سنجار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وفي سنة ست وستمائة قصد الملك العادل أبو بكر " محمد " بن أيوب نصيبين والخابور وملكهما، وحصر مدينة سنجار " والجميع " من أعمال الجزيرة، وهي بيد قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي " بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي " بن آق سنقر ". وسبب ذلك أن قطب الدين المذكور كان بينه وبين ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود - صاحب الموصل - عداوة مستحكمة، وقد تقدم ذكر ذلك. فلما كان سنة خمس وستمائة حصلت مصاهرة بين نور الدين والملك العادل فإن بعض أولاد الملك العادل تزوج بابنة نور الدين. وكان وزراء نور الدين يحبون أن يشتغل عنهم، فحسنوا له مراسلة الملك العادل، والاتفاق معه على أن يقتسموا البلاد التي لقطب الدين، وبالولاية التي لولد سنجر شاه بن غازي ابن مودود وهي جزيرة ابن عمر وأعمالها فيكون " ملك " قطب الدين للملك العادل، وتكون الجزيرة لنور الدين. فوافق هذا القول هوى نور الدين فأرسل إلى الملك العادل في المعنى، فأجابه إلى ذلك مستبشرا، وجاءه ما لم يكن يرجوه. لأنه علم أنه متى ملك هذه البلاد إذا ملكها لولده الذي هو زوج ابنة نور الدين ويكون مقامه في خدمته بالموصل. واستقرت القاعدة على ذلك، وتحالفا عليها. فبادر الملك العادل إلى المسير من دمشق إلى الفرات في عساكره، وقصد الخابور فأخذه. فلما سمع نور الدين بوصوله خاف واستشعر، فأحضر من يرجع إلى رأيهم وقولهم وعرفهم وصول الملك العادل واستشارهم فيما يفعله. فأما من أشار عليه بذلك فسكتوا، وكان فيهم من لا يعلم هذه الحال فعظم الأمر، وأشار بالاستعداد والحصار وجمع الرجال، وتحصيل الذخائر وما يحتاج إليه. فقال نور الدين: نحن فعلنا ذلك وخبرة بالخبر فقال: بأي رأي تجيء إني عدو لك، وهو أقوى منك وأكثر جمعا، وهو بعيدٌ منك متى تحرك تعلم به فلا يصل إليك إلا وقد فرغت من جميع ما تريده، تسعى حتى يصير قريبا منك ويزداد قوة إلى قوته؟!. ثم " إن " الذي استقر بينكما أنه له تمليكه أولا بغير تعب وغير مشقة، وتبقى أنت لا يمكنك أن تفارق الموصل إلى الجزيرة وتحصرها، والملك العادل ههنا. هذا إن وفى لك بما استقرت القاعدة عليه؛ بل لايجوز أن تفارق الموصل إلى إن عاد الشام لأنه قد صار له ملك خلاط وبعض ديار بكر والجزيرة، جميعها، - والجميع بيد أولاده - متى سرت عن الموصل أمكنهم أن يحولوا بينك وبينها. فما زدت على أن آذيت نفسك وابن عمك وقويت عدوك، وجعلته شعارك، وقد فات الأمر. وليس يجوز إلا أن تقف معه على الأمر الذي استقر بينكما، لئلا يجعل ذلك حجة ويبتدئ بك. هذا والملك العادل قد ملك الخابور ونصيبين وعاد إلى سنجار وحضرها. وكان في عزم قطب الدين - صاحبها - أن يسلمها إليه بعوض يأخذه عنها، فمنعه من ذلك أمير كان معه اسمه أحمد بن يرنقش مملوك " أبيه " زنكي وقام بحفظ المدينة والذب عنها. وجهز نور الدين عسكرا مع ولده الملك القاهر يسيروا إلى الملك العادل. فبينما الأمر على ذلك إذ جاءهم أمر لم يكن في الحساب، وهو أن مظفر الدين كوكبري - صاحب إربل - أرسل وزيره إلى نور الدين يبذل له من نفسه المساعدة على منع الملك العادل عن سنجار، والاتفاق معه على ما يريد فوصل الرسول ليلا، فوقف مقابل دار نور الدين وصاح، فعبر إليه سفينة عبر فيها، واجتمع بنور الدين ليلا وأبلغه الرسالة، فأجاب نور الدين إلى ما طلب من الموافقة، وحلف له على ذلك، وعاد الوزير من ليلته، فسار مظفر الدين فاجتمع هو ونور الدين فنزلا في عساكرهما بظاهر الموصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وكان سبب ما فعله مظفر الدين أن صاحب سنجار أرسل ولده إلى مظفر الدين يستشفع يه إلى الملك العادل ليبقي عليه سنجار. وكان مظفر الدين يظن أنه لو شفع في نصف ملك العادل لشفعه فيه لأثره الجميل عنده، وقيامه في خدمته والذب عن ملكها غير مرة. فشفع إليه فلم يشفعه الملك العادل ظنا منه أنه بعد اتفاقه مع نور الدين لا يبالي بمظفر الدين، فلما رد الملك العادل شفاعته، راسل نور الدين في الموافقة عليه. ووصل إلى الموصل، واجتمع بنور الدين وراسلا الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين، صاحب حلب، وكيخسرو ابن قليج أرسلان - صاحب بلاد الروم - بالاتفاق معهما. وكلاهما أجاب على ذلك. وتواعدوا على الحركة، وقصد بلاد الملك العادل إن امتنع من الاتفاق والصلح وأرسلا أيضا الخليفة الناصر لدين الله ليرسل رسولا إلى الملك العادل في الصلح " أيضا "، فقويت حينئذ نفس صاحب سنجار على الامتناع، ووصلت رسل الخليفة وهو بهاء الدين أبو نصر بن هبة الله بن المبارك ابن الضحاك - أستاذ الدار -، والأمير آق باش وهو من خواص مماليك العادل وهو يحاصر سنجار. وكان الذين معه لايناصحونه القتال، لاسيما أسد الذين شيركوه - صاحب حمص والرحبة - فإنه كان يدخل إليها الأغنام " وغيرها " من الأقوات ظاهرا، ولا يقاتل عليها، وكذلك غيره. فلما وصلت رسل الخليفة إلى الملك العادل أجاب أولا إلى الرحيل ثم امتنع من ذلك وغالط، " وأطال " الأمر لعله ينال منها غرضا، فلم ينل منها ما أمله، فأجاب إلى الصلح، على أن يكون له ما أخذه، وتبقى سنجار لصاحبها، فاستقرت القاعدة على ذلك، وتحالفوا على " هذا كلهم وعلى " أن يكونوا يدا واحدة على الناكث منهم. ورحل الملك العادل عن سنجار إلى حران. وكان مظفر الدين عند مقامه بالموصل قد زوج ابنتيه لولدي نور الدين، وهما عز الدين مسعود وعماد الدين زنكي ". ذكر وفاة صاحب سنجار وملك ابنه وقتله وملك أخيه " في هذه السنة في ثامن صفر، توفي قطب الدين محمد ابن زنكي بن مودود بن زنكي - صاحب سنجار - وكان كريما، حسن السيرة في رعيته، حسن المعاملة مع التجار، كثير الإحسان إليهم. وأما أصحابه فكانوا معه في أرغد عيش، يعمهم بإحسانه، لا يخافون أذاه. وكان عاجزا عن حفظ بلده، مسلما الأمور إلى نوابه. ولما توفي ملك بعده ابنه عماد الدين شاهنشاه، وركب الناس معه، وبقي مالكا سنجار عدة شهور، وسار إلى تل يعفر وهي له، فدخل عليه أخوه عمر بن محمد بن زنكي، ومعه جماعة فقتلوه، وملك أخوه عمر بعده، فبقي كذلك إلى أن سلم سنجار إلى الملك الأشرف على ماسنذكره، ولم يتمتع بملكه الذي قطع رحمه، وأراق الدم الحرام لأجله. ولما سلم سنجار أخذ عوضها الرقة. فأخذت منه عن قريب، وتوفي بعد أخذها منه بقليل، وعدم روحه وشبابه. وهذا عاقبة قطيعة الرحم، فإن قطيعتها تهدم العمر، وصلتها تزيد في العمر ". ذكر ملك الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك العادل مدينة سنجار كان بدر الدين لؤلؤة - صاحب الموصل - لما مات الملك القاهر عز الدين مسعود بن نور الدين أرسلان " شاه " بن عز الدين مسعود - صاحب الموصل -. وولي ولده ناصر الدين محمود الموصل، فأقام بدر الدين بأمر ولده. والتجأ إلى الملك الأشرف مظفر الدين أبي الفتح موسى ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب - صاحب خلال والجزيرة - وتعلق به. ولما قصده مظفر الدين كوكبري - صاحب إربل - ونازله كاتب الملك الأشرف، وكان إذ ذاك بحب مقيما قبالة قلبج أرسلان - صاحب الروم - ليدفعه عنها، وكان قد دفعه. فلما كاتبه خرج من حلب ووصل إلى دنيسر ووصل إليه الملك ناصر الدين محمود - صاحب آمد - واجتمع به وصالح صاحب ماردين وساروا جميعا إلى قصد الموصل. فلقيه رسل صاحب سنجار يبذل له تسليمها إليه، ويطلب العوض عنها مدينة الرقا. وكان قد خانه أصحابه وثقاته. وزادوه رعبا وخوفا فتغدوا به قبل أن يتعشى بهم وعزموا على قتله، كونه قتل أخاه الذي كان مالكا سنجار قبله بعد أبيه. فأجابه الملك الأشرف وتسلم سنجار في مستهل جمادى الأولى. وفارقها صاحبها وإخوته بأهليهم وأموالهم. وكان هذا آخر ملك البيت الأتابكي لسنجار، فسبحان الحي الدائم الذي لا يموت وليس لملكه آخر. وكان مدة ملكهم لها تسعا وعشرين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ولم تزل في يد الملك الأشرف، وهو محسن إلى أهلها، كثير الاعتناء بأمرهم، وأحبوه محبة عظيمة، لعدله فيهم، وحسن سيرته، ومكارم أخلاقه إلى أن توفي بدمشق خامس المحرم سنة خمس وثلاثين وستمائة. ذكر حصار بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل سنجار قد كنا قدمنا أن الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل لما قصد والده الشام شن الغارة على بلد الموصل بمن معه من الخوارزمية وغيرهم ونهبه، فضاق بدر الدين به ذرعا، وبعث إليه هدية يصانعه بها عن نفسه، فأخذها ولم يكف عنه. فلما توفي الملك الكامل ووقع الاتفاق بين السلطان غياث الدين - صاحب الروم - وبين صاحب حلب وصاحب ماردين وصاحب ميافارقين وأقطعهم بلاد الجزيرة عدلت الخوارزمية عن الملك الصالح إلى الملك المنصور - صاحب ماردين - فانحاز إلى سنجار خوفا منهم، فجمع بدر لدين عساكره ومن في بلد الموصل من التركمان ونزل على سنجار محصارا لها، فبعث الملك الصالح إلى ولده الملك المغيث عمر وهو بحصن كيفا وأمره أن يصير إلى حلب يستصرخ بعمته - أم الملك العزيز - فسار الملك المغيث وقصد قلعة جعبر وعبر الفرات قاصدا منبج. فلما سمعت الخوارزمية بمسيره تبعته، وحالت بينه وبين حلب، وقد تعدى منبج، فلما شعر بذلك حاد عن الطريق الجادة وقصد جسر العادل فعبر منه الفرات عائدا إلى الحصن، فصادفه بدر الدين أبو المحاسن يوسف - قاضي سنجار -. وكان الملك الصالح قد بعثه إلى السلطان غياث الدين يطلب منه أن يكون من جملة من انتمى إليه من الملوك ويخطب له في البلاد التي في يده بعد أبيه فلم يجبه. فقال: إن أدام بدر الدين على حصار أبيك أخذه، والمصلحة أن تسير بنا إلى الخوارزمية في دفعه عنه. فسار إليهم، وهم بحران. فقالوا له: لا نُنجدك حتى تسلم إلينا قلعة حران فسلمها إليهم وساروا معهم، فلما أحس بهم بدر الدين هرب، وترك أثقاله فنهبوها، وعادوا إلى حران. ثم ترددت الرسل بين الملك الصالح وبدر الدين حتى استقرت الحال على أن لا يتعدى أحدٌ منهم على الآخر في البلاد التي بيده. ذكر ملك الملك الصالح نجم الدين أيوب دمشق لما توفي السلطان الملك الكالم ناصر الدين محمد ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب بدمشق أجمعوا أمراء دولته - كما تقدم - على أن ولوا الملك الجواد مظفر الدين يونس ابن الملك المعظم شمس الدين مودود ابن الملك العادل - ابن أخيه - دمشق نيابة عن الملك العادل سيف الدين أبي بكر ابن الملك الكامل صاحب الديار المصرية بع أبيه الملك الكامل أنكر الملك العادل ولاية الملك الجواد لكونه أصرف الخزاين التي كانت صُحبة والده بدمشق فسيّر " من " أنكر عليه مع عماد الدين ابن الشيخ فحمله الخوف على أن كاتب الملك الصالح نجم الدين أيوب بأن يسلم إليه دمشق ويعوضه عنها بسنجار والرقة وعانا فأجابه. ووصل نجم الدين أيوب إلى دمشق يوم الجمعة التاسع والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وستمائة وملكها. ثم واقع الملك الجواد الندم على تسليم دمشق فسار الملك الجواد من دمشق بالخزاين والأموال التي كان أخذها من دمشق وقصد الرقة، فعثر بنجّابٍ معه كتابٌ من الملك الصالخ إلى الخوارزمية يأمرهم بالقبض عليه. فأسرع إلى عانا وتسلمها خوفا " من أن " يسبقه النجاب، وأقام بها، فخرج بدر الدين لؤلؤ بعساكر الموصل ونزل على سنجار محاصرا لها. فبعث الملك الجواد إلى الخوارزمية مالا وتقدمة، وطلب منهم أن يرحِّلوا بدر الدين عن سنجار فساروا إليه، فلما أحسَّ بهم رحل عن سنجار فتسلمها واستقل بملكها. ذكر تمليك بدر الدين لؤلؤ سنجار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 كان السبب في أخذ سنجار أن الملك الجواد لما ملك سنجار شرع في مكاتبة الخوارزمية والتجائه إليهم والتقوي بهم. فخاف برد الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - منه أن يتفق مع الخوارزمية ويقصده، فراسله وهاداه حتى أمن جانبه، واستأذن الإمام المستنصر في أخذها، وأوحى إليه أن الملك الجواد عازم على تسليمها إلى الخوارزمية فأذن له. ثم إن الملك الجواد شرع في إعمال الحيلة على بدر الدين - صاحب الموصل - فراسله وهاداه، وأظهر أن له بنتا، وهو يختارُ الوصلة إليه، ويسأله أحد أولاده، لتصير بينهم لُحمة نسب واتفاق. ولم يكن للملك الجواد ابنةٌ وإنما قصد بذلك فتح باب الحيلة على بدر الدين. وكان بدر الدين أيضا تحقق أن الملك الجواد ليس له بنت، فشرع أيضا في إعمال الحيلة عليه، ولم يُظهر أن عنده من ذلك علم. فأجابه إلى ما سال، وخطب إليه وحمل له مهرا يحمله مستكثره وقماشا، وما يجري مجرى ذلك. فقال له الملك الجواد: إني عازم على التوجه إلى عانا فليأت إلى سنجار ويدخل على زوجته عندي، فأجاب بدر الدين لؤلؤ إلى ذلك، وجهز ابنه. وكان بسنجار رئيس له الأموال ليساعده على أخذ سنجار. وكان الملك الجواد قد تقدم إلى نوابه بسنجار أن يقبضوا عليه إذا دخلاه. فاتفق والي المدينة ووالي القلعة على ذلك. وكل واحد من الملك الجواد وبدر الدين لؤلؤ قد عمل الحيلة على صاحبه. فسيّر بدر الدين ولده يف جماعة من عسكره، وأوصاهم باليقظة واغتنام الفرصة في هجم سنجار على غفلة ممن فيها. فوصل إلى سنجار كما تقرر بينهما. فعند وصوله شرع والي المدينة في إعمال الحيلة عليه عند دخوله المدينة، فأمره والي القلعة أن يخرج إليه، ويحتال على صعوده إلى القلعة ليقبض عليه. فعندما فتح باب القلعة هجموا القلعة وقبضوا على واليها، وملكوها عفوا، وشربوا زلالها صفوا. وكان بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - شديد الحرص على تملكها. فلم يزل يعمل الحيلة إلى أن افتتحه الملك الجواد، فانفتح له باب الحيلة، وسيّر ولده إليه ليأمن على نفسه ويثق به. ولما بلغ الملك الجواد تملك بدر الدين لؤلؤ سنجار قصد بغداد مستعديا عليه. فلم يعبأ به، وأقام سبعة أشهر ثم أُعطي أربعة آلاف دينار، وأُمر بالسفر فأخذها وسار إلى عانا. ولم تزل سنجار في يد بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - إلى أن توفي في الثالث من شعبان سنة سبع وخمسين فوليها ولده الملك الصالح ركن الدين إسماعيل مع الموصل وعملاه استقلالا. وتولىّ الملك المجاهد سيف الدين إسحاق الجزيرة وبلادها وولده الملك المظفر علاء الدين على سنجار وتل يعفر. ولم تزل سنجار في يد الملك المظفر بعد وفاة أبيه إلى شعبان من سنة سبع وخمسين فتركها، وقصد الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب - قدس الله أرواحهم - فأقبل عليه وأكرمه. ذكر تملك الملك الصالح سنجار وترتيب ولده فيها لما خرج منها الملك المظفر علاء الدين، في التاريخ المقدم ذكره، ساق أخوه الملك الصالح ركن الدين إسماعيل إلى سنجار فتسلمها وتل يعفر وولىّ فيها ولده الملك العادل نور الدين. ولم تزل سنجار في يد الملك الصالح إلى أن استشعر من التتار وخرج من الموصل فوصل إلى قرقيسيا. وكتب إلى أخيه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق، وكان بالجزيرة يومئذ، يعرف بحركته، ويشير عليه بقصد الملك الظاهر بالديار المصرية. ثم سافر إلى أن وصل القاهرة في ثاني عشر رجب فخرج الملك الظاهر إلى لقائه، وأكرمه، واحترمه، فأقام عنده بالديار المصرية إلى تاسع عشر شهر رمضان المعظم. فخرج الملك الظاهر - صاحب الديار المصرية - في التاريخ المذكور إلى البركة وخرج معه الخليفة المستنصر بالله، أبو القاسم أحمد بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد الواصل إلى الديار المصرية، ومبايعته بالخلافة، ووصلا إلى دمشق يوم الاثنين سابع ذي القعدة من السنة تسع وخمسين وستمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وتوجه الخليفة وأولاد صاحب الموصل إلى العراق بعد تجهيز الجميع، وهم الملك الصالح ركن الدين إسماعيل والملك المجاهد سيف الدين إسحاق - صاحب الجزيرة - والملك المظفر علاء الدين - صاحب سنجار - بعد أن قرر بينهم أن تكون سنجار للملك المظفر. وساروا فوصلوا إلى سنجار. فأما الملك المجاهد سيف الدين إسحاق والملك المظفر علاء الدين فإنهما أقاما بسنجار إلى أن بلغهم أن الخليفة قتل على بغداد في محاربة التتار فعاد الملك المظفر والملك المجاهد، وخرجوا من سنجار في المحرم من سنة ستين وستمائة وطلبوا الديار المصرية. وأما التتار فإنهم لم يعارضوا سنجار وبقيت سنجار وليس لها مالك. فأجمعوا أهل سنجار على أن فوضوا أمرهم إلى فخر الدين - قاضيها -. ولم يزل القاضي يحكم فيها إى أن قصدوا التتار الموصل وحاصروها. وكان الملك الصالح ركن الدين إسماعيل مقيما بها، فلما جدوا في حصاره، سير إلى الأمير شمس الدين أقوش البرلي العزيزي، وكان يومئذ قد خرج عن طاعة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس - صاحب الديار " المصرية " - واستولى على حلب وحران وما يليهما. فكاتبه الملك الصالح وهو في الحصار يستحثه على الوصول إليه ليرحل التتار عن حصار الموصل. فسير الأمير شمس الدين أقش البرلي وكان بحلب استأذن الملك الظاهر - صاحب الديار المصرية - في التوجه إلى الموصل ليدفع التتار عنها، فأذن له. فخرج من حلب، وسار إلى حران، ثم سار إلى أن وصل إلى سنجار واستولى عليها واعتقل فخر الدين - قاضيها - بعد أن صادره. واتفق في ذلك الوقت أن الزين الحافظي - لا بل " الله " له ثرى - وصل من عند هولاكو إلى ماردين فكتب إلى التتار الذي على حصار الموصل وعرفهم أن شمس الدين البرلي في جماعة قليلة، وأشار عليهم بقصده وقتاله، فهو مصلحة لئلا تنسبون إلى العجز، فيطمع فيكم ويرحلكم، فلا يهولنكم جمعه. ذكر قصد التتار شمس الدين البزلي وكسرهم له لما بلغهم ما قاله الزين الحافظي، وما أشار عليهم به من قصد الأمير شمس الدين البرلي وقتاله، رأوه صوابا، فساروا نحوه، وكانت عدتهم عشرة آلاف فارس. وكانت عدة الذين مع الأمير شمس الدين البرلي ألفا وأربع مائة فارس. فتردد عزمه في ذلك. ثم التقى بهم يوم الأحد رابع عشر جمادى الآخرة فكانت الكسرة عليه، فانهزم جريحا في رجله، وقتل أكثر من كان معه من أصحابه، وعاد إلى البيرة. ذكر استيلاء التتار على سنجار كان السبب في ذلك كسرهم لشمس الدين البرلي - كما تقدم - ودخلوا سنجار. في تاريخ كسرهم له، واستولوا عليها، وأخربوا قلعتها، وهدموا شراريفها، ورتبوا فيها الأمير علم الدين قيصر الموصلي نائبا بها. ولم تزل بأيديهم إلى تاريخ وضعنا هذا الكتاب، وهو سنة تسع وسبعين وستمائة. جزيرة ابن عمر مدينة مسورة، تحيط بها دجلة مثل الهلال. وهي إسلامية محدثة، اختطها الحسن بن عمر بن الخطاب التغلبي، بعد المائتين في أيام المأمون فعرفت به. وعد ابن واضح في كور ديار ربيعة جزيرة الأكراد، وأظنها هذه الجزيرة، وأنها كانت تعرف بذلك، قبل أن يختطها ابن عمر التي نسبت إليه. عرضها سبع وثلاثون درجة. طالعها برج السنبلة. ولسورها ثلاث أبواب: 1 - باب الجبل. 2 - والباب الجديد. 3 - وباب الماء. وبها جامعان تقام فيهما الجمعة، أحدهما قديم. والآخر من إنشاء شبل الدولة - أحد موالي الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل -. وبها أربع مدارس يدرس بها مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه -. 1 - مدرسة تعرف بابن البزري. 2 - ومدرسة تعرف بظهير الدين قايماز الأتابكي. 3 - ومدرسة تعرف بالرضوية. 4 - ومدرسة تعرف بالقاضي جمال الدين عبد الرحيم ومدرسة بظاهرها تعرف بشمس الدين سرتكين. وبها من داخلها خانقتان: إحداهما تعرف بصلاح الدين الأعرج، والأخرى تعرف بالظهيرية. وبظاهرها خانقتان، إحداهما تعرف بخانقاه الباتنا. ويذكر أن بها ثمانين مسجدا. وبها بيمارستان. أربع عشرة حماما. وداخلها تحت السور ما يناهز ثلاثين بستانا. ولها من القلاع: 1 - الجراحية. 2 - قلعة فرح. 3 - برخو. 4 - فنك. 5 - الجديدة. 6 - القصر. 7 - أروخ. 8 - كنكور. ذكر من ولي الجزيرة، جزيرة ابن عمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 قد تقدم القول بأن جزيرة ابن عمر أنشأها الحسن بن عمر بن الخطاب التغلبي وكان معاصرا دولتي الأمين والمأمون - ولدي هارون الرشيد - فبناؤها يكون في دولة أحدهما. فلما توفي الحسن المذكور وليها بعده أخوه أحمد بن عمر بن الخطاب ولم يزل عليها إلى أن توفي في أيام المأمون. واستمرت جزيرة ابن عمر في يدي من يلي ديار ربيعة " تارة " وتارة في يدي من يلي الموصل. ولم تزل كذلك إلى أن تولى محمد بن رائق ديار بكر، وبقيت في يده إلى أن تغلب أبو موسى عيسى بن الشيخ بن السليل على ديار بكر فأضيفت إذ ذاك إلى ملوك الموصل. ثم تغلب بنو حمدان على ماردين وديار بكر وملكوا الموصل، فلم تزل في أيديهم إلى انقراض دولة ناصر الدولة على يد عضد الدولة في سنة تسع وستين وثلاثمائة. ولم تزل في يد عضد الدولة بن بويه إلى أن توفي عضد الدولة في شوال من سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة. وبعده تغلب أبو عبد الله الحسين بن دوستك الكردي المعروف بباد على ديار بكر والموصل فانضافت الجزيرة إليه، ولم تزل بيده إلى أن قُتل باد الكردي في سنة ثمانين وثلاثمائة. وتغلب على الجزيرة ابن أخته نصر الدولة أبو نصر ابن مروان ولم تزل في يده إلى أن توفي في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. وقسم البلاد بين أولاده فكان لنظام الدين أبي القاسم ميافارقين وجزيرة ابن عمر. وبعد وفاة نظام الدين انتقل ملكه إلى ناصر الدولة. فلم تزل جزيرة ابن عمر في يده إلى أن قصده الوزير فخر الدولة محمد بن محمد بن جهير من قبل السلطان ملكشاه فملك الجزيرة المذكورة مع ديار بكر في سنة ثمان وسبعين وأربع مائة. ولم تزل جزيرة ابن عمر في يدي نواب ابن جهير إلى سنة تسع وسبعين وأربع مائة. ندب السلطان ملكشاه العميد أبا " الفتح " علي البلخي إلى ديار بكر فاستولى على جزيرة ابن عمر فيما استولى عليه، ولم تزل إلى أن مات السلطان ملكشاه في سنة خمس وثمانين وأربع مائة. وكان ناصر الدولة منصور بن نظام الدين بن نصر الدولة ابن مروان ببغداد، فسار من بغداد إلى جزيرة ابن عمر فملكها، ولم تزل في يده إلى سنة سبع وثمانين وأربع مائة فقصده جكرمش فملكها، ولم تزل في يده إلى " أن " مات " الأمير شمس الدولة " في سنة خمس مائة. وقتل قليج أرسلان وملك جاولي الموصل فولى جزيرة ابن عمر حبشي بن جكرمش ومعه أمير من غلمان أبيه اسمه غزاغلي. فلما كانت سنة إحدى وخمس مائة ملك مودود الموصل فتسلم الجزيرة الجزيرة حبشي. ثم قتل مودود وملك الموصل آق سنقر البرسقي وتسلم الجزيرة في سنة خمس عشرة وخمس مائة. ولم يزل مالكا إلى أن قتله كان ابنه عز الدين مسعود. ذكر وفاة عز الدين مسعود توفي عز الدين مسعود في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، وولي عماد الدين زنكي ووقع له السلطان بذلك، وسار عنها إلى جزيرة ابن عمر. ملك عماد الدين زنكي جزيرة ابن عمر " ولما سار عماد الدين زنكي إلى جزيرة ابن عمر وبها مماليك البرسقي امتنعوا عليه، فحصرهم وراسلهم وبذلت لهم البذول الكثيرة إن سلموا فلم يجيبوه إلى ذلك. فجد في قتالهم وبينه وبين البلد دجلة. فأمر الناس فإلقاء أنفسهم في الماء ليعبروه إلى البلد ففعلوا وعبر بعضهم سباحة، وبعضهم في السفن، وبعضهم في الأكلاك، وتكاثروا على أهل الجزيرة، وكانوا قد خرجوا عن الجزيرة إلى أرض بين الجزيرة ودجلة تعرف بالزلاقة ليمنعوا من يريد عبور دجلة. فلما عبر العسكر إليهم قاتلوه ومانعوه، فتكاثر عسكر عماد الدين عليهم، فانهزم أهل البلد على الزلاقة فلما رأى من بالبلد ذلك ضعفوا ووهنوا، وأيقنوا أن البلد يملك سلمان أو عنوة، فأرسلوا يطلبون الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وهو أيضا مع عسكره بالزلاقة فسلموا البلد إليه، فدخله هو وعسكره. ثم إن دجلة زادت في تلك الليلة زيادة عظيمة لحقت بأسوار البلد وصارت الزلاقة التي كان عماد الدين نازلا بها مملوءة ماء، فلو أقام إلى اليوم الثاني لهلك هو وعسكره، ولم يسلم منهم أحد. فلما رأى أهل البلد وغيرهم ذلك أيقنوا بسعادته، وعلموا أن أمرا هذا بدايته لعظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ولم تزل بيده إلى أن قتل على قلعة جعبر سنة إحدى وأربعين لخمس مضين من شهر ربيع الآخر. وملك ولده سيف الدين غازي الموصل والجزيرة، فأقطع جزيرة ابن عمر لأبي بكر الدبيسي. ولم تزل بيد أبي بكر الدبيسي إلى أن توفي سيف الدين غازي بن زنكي - صاحب الموصل - في سنة أربع وأربعين وخمس مئة. وولي قطب الدين مودود الموصل، وعجز عن خلاص جزيرة ابن عمر من أبي بكر الدبيسي. ولم تزل في يد أبي بكر الدبيسي إلى أن توفي في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة ولم يخلف ولدا، فاستولى عليها مملوك له يسمى أغلبك وأطاعه جندها، فسار إليها ثلاثة أشهر قطب الدين مودود - صاحب الموصل - وحصرها ثلاثة أشهر، ثم تسلمها من أغلبك في صفر سنة ثلاث وخمسين وخمس مائة، وعوضه عنها إقطاعا. ولم يزل قطب الدين مالكا لجزيرة ابن عمر إلى أن توفي وملك ابنه سيف الدين غازي. ذكر حمايته ينبغي للملوك أن يحترزوا من مثلها قال ابن الأثير في تاريخه: " حدثني والدي - رضي الله عنه - قال: كنت أتولى جزيرة ابن عمر لقطب الدين، كما عملتم، فلما كان قبل موته بيسير، أتانا كتاب من الديوان بالموصل يأمر بمساحة جميع بساتين العقيمة وهي قرية تحاذي الجزيرة بينهما دجلة ولها بساتين كثيرة، بعضها يمسح فيؤخذ منه على كل جريب شيء معلوم، " بعضها عليه " وبعضها " خارج " مطلق ما عليه شيء. وكان لي فيها ملك كثير، فكنت أقول: المصلحة ألا تغبر على الناس شيئا، وما كنت أقول ذلك إلا نظرا لي لأجل ملكي، وإنما أريد أن يدوم الدعاء من الناس للدولة. فجاءني كتاب النائب: أنه لا بد من المساحة. قال: فأظهرت الأمر وكان بها قوم صالحون، وكان لي بهم أنس، وبيننا مودة فجاءني الناس كلهم، وأولئك معهم يطلبون المراجعة، فجاءني منهم رجلان، أعرف صلاحهما وطلبا مني المخاطبة ثانيا، ففعلت، " فأصروا على المساحة، فعرفتهما الحال. قال: فما مضى إلا عدة أيام " وإذا قد جاءني الرجلان، فلما رأيتهما ظننت أنهما جاءا يطلبان المعاودة، فعجبت منهما، وأخذت أعتذر إليهما، فقالا: ما جئنا إليك في هذا وإنما جئنا نعرفك أن حاجتنا قد قضيت " قال ": فظننت أنهما قد أرسلا إلى الموصل إلى من يشفع لهما. فقلت: من الذي تحدث لكما في هذا بالموصل؟ فقالا: إن حاجتنا قد قضيت من السماء ولكافة أهل العقيمة " قال ": فظننت أن هذا مما قد حدثا به نفوسهما ثم قاما " عني " وخرجا. قال: فلم تمض غير عشرة أيام وإذا قد جاءنا كتاب من الموصل يأمرون فيه بإطلاق " المساجين والمحبوسين " والمساحة والمكوس ويأمرون بالصدقة. و " يقال ": إن السلطان قطب الدين مريض مرضا شديدا. ثم بعد يومين أو ثلاثة جاءنا الكتاب بوفاته، فعجبت من قولهما، واعتقدته كرامة لهما، فصار والدي بعد ذلك كثيرا ما يزورهما، ويكثر إكرامهما واحترامهما ". ذكر ملك معز الدين سنجرشاه الجزيرة ولم تزل الجزيرة بيد سيف الدين غازي إلى أن توفي في صفر سنة ست وسبعين وخمسمائة. وكان قد عهد بالملك بعده إلى ولده معز الدين سنجرشاه وكان عمره يومئذ اثنتي عشرة سنة. وكان السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب إذ ذاك قد قوي وعظم شأنه وتمكن، فخافوا منه، وامتنع أخوه عز الدين مسعود بن مودود من الإذعان إلى تمليكه والإجابة إلى ذلك. فأشار الأمراء والأكابر ومجاهد الدين قايماز بأن يجعل الملك في أخيه عز الدين مسعود لكبره، وما فيه من الشجاعة والعقل وقوة النفس وأن يعطي ولداه بعض البلاد، ويكون مرجوعهما إلى عز الدين عمهما، والمتولي لأمرهما مجاهد الدين قايماز ففعل ذلك وجعل الملك في أخيه، فأعطى معز الدين سنجر شاه جزيرة ابن عمر، وأعطى أخاه كسك - الصغير - قلعة عقر الحميدية واستقل عز الدين مسعود بالملك، وانقادت له الأمور، ولم يختلف عليه اثنان ". ولم تزل في يده إلى أن دخلت سنة خمس وستمائة. ذكر قتل سنجر شاه وملك ابنه محمود في هذه السنة: قتل سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آق سنقر - صاحب جزيرة ابن عمر - وهو ابن عم نور الدين - صاحب الموصل - قتله ابنه غازي. ولقد سلك في قتله طريقا عجيبا، يدل على مكر ودهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وسبب ذلك أن سنجر شاه كان سيئ السيرة مع الناس كلهم من الرعية، والجند، والحريم، والأولاد. وبلغ من قبح سيرته مع أولاده أنه سيرّ ابنيه محمودا ومودودا إلى قلعة فرح من بلدان الزوزان. وأخرج ابنه هذا إلى دار بالمدينة أسكنه فيها، ووكل به من يمنعه من الخروج والتصرف وكانت الدار إلى جانب بستان لبعض الرعية، فكان يدخل إليه منها الحيات، والعقارب، وغير ذلك من الحيوانات المؤذية. ففي بعض الأيام اصطاد حية، وسيرها في منديل إلى أبيه، لعلع يرق له، فلم يعطف عليه فأعمل " غازي " الحيلة حتى نزل من الدار التي كان بها، " واختفى " ووضع إنسانا كان يخدمه، وكان كثير الشبه به، وأمره أن يخرج من الجزيرة ويقصد الموصل، ويظهر أنه غازي بن سنجر شاه فسار الرجل، وأظهر أنه غازي بن سنجر شاه. فلما سمع نور الدين بقربه من الموصل أرسل إليه ثيابا، ونفقة، وخيلا، وأمره بالعود " إلى أبيه " وقال: إن أباك يختلق لنا الذنوب التي لم نعملها، ويقبح ذكرنا، فإذا صرت عندنا جعل ذلك ذريعة إلى الشناعات والشفاعات ونقع معه في صراع لا ينادي وليده!! فسار الرجل إلى الشام " وأظهر أنه غازي - ابن صاحب الجزيرة - في كل مكان وصل إليه ". واختفى غازي مدة، ثم أعمل الحيلة إلى أن دخل إلى دار أبيه، واختفى عند بعض سراريه، وعلم به أكثر من في الدار، فسترن عليه بغضا لأبيه، وتوقعا للخلاص منه لشدته عليهن، فبقي كذلك على حاله. وثبت عند أبيه أنه بالشام، فترك طلبه. و" اتفق " ان أباه شرب يوما، ظاهر البلد مع ندمائه، فكان عامة ذلك النهار يقترح على المغنين الغناء في الفراق " وما شاكل ذلك " ويبكي، ويظهر في قوله قرب الأجل، ودنو الموت، وزوال ما هو فيه. فلم يزل كذلك إلى آخر النهار، وعاد إلى داره، ودخل إلى بعض حظاياه وكان ابنه عند تلك الحظية. فلما كان في أثناء الليل، دخل أبوه إلى الخلاء، فدخل خلفه وضربه بالسكين أربعة عشر ضربا، ثم ذبحه وتركه ملقى " ودخل الحمام "، وقد يلعب مع الجواري، فلو فتح باب الدار، وأحضر الجند، واستحلفهم، لملك البلد، لكنه " أمن و " اطمأن إلى ذلك، ولم يشك في الملك. فاتفق أن بعض الخدم الصغار خرج إلى باب الدار، وأعلم أستاذ دار سنجر شاه بالخبر. فأحضر أعيان الدولة وعرفهم ذلك، وغلق الأبواب على غازي واستحلف الناس لمحمود بن سنجر شاه وأرسل إليه أحضره من قلعة فرح ومعه أخوه مودود فلما حلفوا له وسكنوا، فتحوا باب الدار على غازي، ودخلوا عليه ليأخذوه فمانعهم عن نفسه فقتلوه وألقوه على باب الدار وأكلت الكلاب بعض لحمه ودفنوا باقيه. ووصل محمود إلى البلد وملكه، ولقب بمعز الدين، لقب أبيه. فلما استقر أخذ كثيرا من الجواري اللاتي كن لأبيه فغرقهن في دجلة. وحكى ابن الأثير في تاريخه قال: لقد حدثني صديق لنا أنه رأى بدجلة في مقدار نصف غلوة سهم سبع جواري مغرقات، منهن ثلاث، وقد أحرقت وجوههن بالنار، فلم أعلم سبب ذلك الحريق حتى حدثتني جارية اشتريتها بالموصل في جواريه أن محمودا كان يأخذ الجارية فيجعل وجهها في النار، فإذا احترقت ألقاها في دجلة. وباع من لم يغرقه منهن. فتفرق أهل تلك الدار أيدي سبأ. وجرى في داره ما ذكرناه من التحريق والتغريق والتفريق. ولم يزل الملك المعظم معز الدين مالكا للجزيرة وكل وقت يتردد إلى خدمة الملك الأشرف واللمك العادل وبني أيوب، ويناوئ بيت أعمامه، وبدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - إلى أن توفي في سنة ثمان وأربعين وستمائة. ذكر وفاة معز الدين محمود وتولية ولده الملك المسعود وشاهان شاه توفي الملك المعظم معز الدين محمود بن معز الدين سنجر شاه ابن سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي ابن آق سنقر - صاحب الجزيرة - في أواخر سنة ثمان وأربعين وستمائة. وكان سبب وفاته أنه كان أكولا، فأمعن يوما في الأكل، فحصل له منه تخمةٌ، فأقام بها أياما قلائل، وتوفي إلى رحمة الله. وولي بعده ولده الملك المسعود شاهان شاه ملك جزيرة ابن عمر واستمر بها. ودخلت سنة تسع وأربعين وستمائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 كان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز - صاحب الشام - قد عاد من كسرة المصريين له على الصورة. فلما وصل إلى دمشق وصحبته الملك المظفر علاء الدين علي ابن بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - ومجاهد الدين قايماز - مقدم عسكر الموصل - وكانا لحقاه إلى العريش عند قصده مصر، وصلت إليه رسل بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - بعد عشرين يوما من وصوله، ومعهم هدية سنية من خيلٍ وقماشٍ وآلات تساوي عشرين ألف دينار، مهنئا له بالسلامة، ومعهم كتاب إلى ولده الملك المظفر علاء الدين علي المذكور بأمره فيه ألا يبرح في خدمة المولى الملك الناصر ولو خاض البحر خض معه، أو ولج النار لج معه. فبعد أيام وصلت رسل من بايجو نوين ومعهم تجار وعلي أيديهم يغالغ تتضمن حوالات على سائر الملوك منها: - يغلغ على السلطان الملك الناصر. بمائتي ألف دينار. - وعلى صاحب الروم عز الدين بمائتي ألف دينار. - وعلى بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - بمائة ألف دينار. - وعلى الملك السعيد - صاحب ماردين - بمائة ألف دينار. - وعلى الملك الكامل - صاحب ميافارقين - بمائة ألف دينار. - وعلى صاحب الجزيرة بمائة ألف دينار. - وعلى صاحب حصن كيفا بخمسين ألف دينار. وكانت الرسل والتجار قد راحوا إلى جميع الملوك والتمسوا ما كان في اليغالغ فأحالوهم علينا، واحتجوا بأن السلطان الملك الناصر هو كبيرنا، ونحن نخطب له، وما يمكنا أن نزن شيئا إن لم يزن هو. فجاؤوا إلى الملك الناصر - كما ذكرنا - وطالبوه، فأشار عليه الزين سليمان الحافظي وجماعة أن يصالحهم. يقول جامع هذا الكتاب فقلت: على أي صورة نصالحهم؟ ونحن لما توجه تاج الملوك إلى كويك خان سنة ثلاث وأربعين وستمائة، كتبوا له يغالغ مضمونها: إننا لا نقبل حوالة، ولا ننجد بعسكر. فلما سمع الملك " الناصر " كلامي سير إلى حلب واستحضر اليغالغ، فلما حضرت وجد مضمونها كما قلت، فتقدم إلي بالمسير مع الرسل إلى الملوك المذكورين لأحاققهم بحضور الرسل والتجار، وأمرني بالسفر. فاتفق في ذلك الوقت وصول رسل الملك المسعود - صاحب الجزيرة - يستصرخ إلى السلطان الملك الناصر من بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - ويشكو منه ومن تعديه عليه لوفاة والده الملك المعظم ويطلب أن يسلم الجزيرة إليه وأن يعوض عنها، فلم يسمع الملك الناصر ذلك الوقت لاشتغال وجهه بالمصريين أن يأخذ الجزيرة وأن يعوض عنها. فرسم لي أن أشفع له عنه عند إلى بدر الدين - صاحب الموصل - وأوفق بينهما. وسير معي جارت به العادة من خيل وخلع وسنجق فتوجهت وتقدمتني الرسل إلى الموصل. وكان مجد الدين عبد الرحمن ابن الصاحب كمال الدين عمر المعروف بابن العديم قد توجه إلى الموصل معزيا له في ولده فتقدمني إليه. فلما وصلتُ إلى الموصل اجتمعتُ ببدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - وأديتُ ما معي من الرسالة، وتحدثت معه في قضية الملك المسعود وشفعت فيه عن السلطان الملك الناصر فأخذ بذكر ما اعتمده الملك المسعود في حقه بعد وفاة أبيه من التعدي، ومن إسماعه لابنته الكلام القبيح، وذكر ما لا يليق. ثم أمرني بأن أكون حيث أكون أسمع كلام ابنته فأبيتُ وقلت: ما يحتاج مع كلام السلطان إلى برهان!! وفي كلامه كفايةٌ. وقال لي: البلاد تصلح لمن ينفع المسلمين ويداري عنهم، وهذا فهو مشغول بالانهماك في اللذات والأكل والشرب. وإذا نزلت بالمسلمين نازلة لم ينفعهم، وأنا أحمل إلى السلطان الملك الناصر خمسين ألف دينار عينا ويسلم إليَّ الجزيرة. وتقيم أنت عندي إلى أن أسير إليه وأشاوره. فلاطفته وقلت: ما يليقُ أن تردَّ خلعة الملك الناصر وسنجنه!!. فلما لم يرَّ مني موافقة على ما أراد، عدل عن الحديث معي، وتحدث مع مجد الدين ابن العديم. فكتب كتابا إلى والده كمال الدين وإلى السلطان الملك الناصر يقول له: إن فلانا قد طلب أن يخرج بدر الدين من يدك لأجل صاحب الجزيرة. وأصلح السلطان الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ الصاحب كمال الدين في الباطن بما عطف به الملك الناصر وسيَّر رسلا من جهته، خِفية عني، وسيَّر معي رسولا إلى صاحب الجزيرة فخرجت من عنده وتوجهت إلى الجزيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ولما وصل رسول بدر الدين سيره باطنا إلى السلطان الملك الناصر واجتمع بالصاحب كمال الدين والشيخ نجم الدين الباذرائي - رسول الديوان - فاتفقا والملك المظفر علاء الدين علي بن بدر الدين لؤلؤ. ولم يزالوا إلى أن أخذوا منديل السلطان الملك الناصر بأنه متى خلا وجهه من جهة المصريين يأذن له في أخذها. ولما وصلتُ أنا إلى الجزيرة تعلق بي الملك المسعود وقال: أنا أسلم إليك الجزيرة وأتوجه إلى الملك الناصر وتقيم أنت فأبيت ذلك، وخرجتُ من الجزيرة، وتوجهت إلى ماردين. رجعنا إلى ما جرى بين بدر الدين صاحب الموصل ورسل التتار الواصلين بالحوالة ولما وصلت الرسل - المقدم ذكرهم - إلى بدر الدين أحضرني وأحضرهم، وادَّعوا عليه بالمائة ألف دينار، فكان جوابه: إنني مملوك السلطان الملك الناصر ونائبه في البلاد. وأنا أخطب له، والبلاد بلاده، فإن وافقكم في الوزن وزنت. وكان جوابي أن قلت: ونحن معنا يغالغ تُخلصنا، مضمونها أننا لا نقبل حوالة، ولا نُنجد بعسكر. فحرَّجوا على بدر الدين وخاطبوه بما لا يليق. فقال لي: أنت ما جئت بهم إلا حتى أخرقوا بي. فقلت له: أنت كنت السبب في جسارة هؤلاء عليك وعلينا فحمله هذا القول على أنه أخرق بهم وأقامهم من مجلسه أقبح قيام. ثم أُحضر نائب للتتر بالموصل يقال له نوين، فشكا إليه منهم، فأحضرهم وعنّفهم ثم أحضرهم إليَّ وأنا نازل في دار السِّباع بالموصل وكان جوابي للرسل: نحن ما نزن لكم شيئا ولا نقبل حوالة حسب ما تقتضيه البوايز التي بأيدينا، وهؤلاء الملوك جميعهم تابعون لنا لا يعطونكم شيئا، وخرجوا من الموصل شاكين مني ومن بدر الدين وخرجوا من بلاد الموصل، ودخلوا في أرض إربل فسير بدر الدين في السر جماعة قطعوا عليهم الطريق، وقتلوهم عن آخرهم، وأخذوا ما معهم من القماش وآلات. فلما بلغ نوين ذلك حضر إلى عند بدر الدين وعتبه على ذلك. فقال: ما قُتلوا في أرضي، على أنني لابد ما أبحث عمن فعل هذا الأمر ... وتقدم إليهم في السر أن يحضروا معهم، من سائر قلاعه من وجب عليهم القتلُ. فغابوا مدة وقدموا ومعهم جماعةٌ في جريدٍ، فأمر بشنق الجميع، ودفع إلى نوين ما كان معهم من القماش وقال: هؤلاء الذين تعدَّوا على الرسل، وهذا ما كان أخذوه منهم، فأعجب ذلك نوين ورضي به. ثم قال لي بدر الدين سرا: رأيت هذا الأمر؟! أيُحسن مولانا السلطان الملك الناصر بعمل مثله؟. ذكر ملك بدر الدين لؤلؤ الجزيرة قد تقدم القول بأنَّ السلطان الملك الناصر أعطى منديله للشيخ الباذرائي وللملك المظفر علاء الدين علي - ولد بدر الدين صاحب الموصل - على ما تقدم من الشرط. وهو أنه متى خلا وجهه من جهة مصر أذِن لبدر الدين في أخذ الجزيرة. فلما وصل المنديل إليه، لم يقف مع الشرط، بل سار إليها ونازلها وحاصرها إلى أن ملكها في شهر رجب من سنة تسع وأربعين وستمائة. وقبض على الملك المسعود وأركبه في زورق وسيره إلى نحو الموصل وكان آخر العهد به، وهو آخر من كان قد بقي من بيت أتابك. وكان مدة ملكهم مائة وسبعا وخمسين سنة، من حيث ولي آق " سنقر " والد عماد الدين زنكي إلى حيث غرق الملك المسعود هذا. فسبحان من لا يدوم إلا ملكه!!. ولما ملكها بدر الدين أنعم بها على ولده الملك المجاهد سيف الدين إسحاق فلم تزل في يده نيابة عن أبيه إلى أن توفي بدر الدين في شعبان من سنة سبع وخمسين وستمائة. فاستقل ولده الملك المجاهد بها، ولم تزل في يده إلى أن استولت التتر على الشام فحصل لأخيه الملك الصالح من الخوف من العدو ما أخرجه من الموصل. وكان ملكها بعد أبيه، وانتجع الديار المصرية فلم يمكن أخوه التخلف بعده، فتركها ولحقه إلى الديار المصرية، وهو باق بها إلى حين وضعنا هذا الكتاب في سنة تسع وسبعين وستمائة. وفي خدمة ملوك مصر. وعادت الجزيرة إلى ملك التتر، وبها نوابهم إلى حين وضعنا الكتاب، وهو سنة تسع وسبعين وستمائة. ذكر ما كان بيد الملك الناصر من بلاد الجزيرة الذي كان بيده من بلاد الجزيرة: حران والرها وسروج والرقة وقلعة جعبر والبيرة وجملين والموزر. ومن ديار ربيعة: نصيبين ورأس عين ودارا والخابور - بكماله - وقرقيسيا خلا سنجار وبلد وجزيرة ابن عمر. ذكر ديار بكر وهذا الخبر يشتمل على أمصار وحصون: فالأمصار أربعة وهي: - آمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 - وميارفارقين. - وأرزن. - وماردين. والحصون: ومنها: ما هو قديم رومي، و " منها ما هو " محدث إسلامي، وهي: - قلعة الجبابرة. - وقلعة أكل. - وقلعة الشقيقين. - وحاني. - وقلعة أرقنين. - وقلعة جرموك. - وقلعة باغين السفلى. - وقلعة شمشكاراك. - وقلعة كفر زال. - وقلعة أنكر خرت. - وقلعة بغنيك. - وقلعة سيروس. - وقلعة السويداء. - وقلعة فطينا. - وقلعة بلدنين. - وقلعة تل أرجوك. - وقلعة بالو. - وقلعة كركر. - وقلعة كختا. - وحصن منصور. - وقلعة الهيلار. - ونصيبين الروم. - وقلعة خصور. - وقلعة خصور. - وقلعة قف انظر. - وقلعة شيروا. - وحصن الران. - وقلعة طبوس. - وقلعة اليمانية. والديورة وهي ثلاثة: - دير السجين. - دير مرقحا. - دير برصوما. وكلها حصون مانعة. - ومدينة دنيسر. - ومدينة إسعرد. - وحصن كيفا. - وحصن الهيثم. - وحصن طالب. - والقريشة. - وقلعة باهمرد. - وقلعة صاف. - وقلعة فطليس - وقلعة جوارا. - وقلعة أروق. - والمعدنان. - والبحيرتان - وهما حصنان أحدهما في الماء والآخر على جانب البحيرة. - وقلعة باتاساه. - وحصن حارث. - وقلعة اسبالرد. - وقلعة ايرون. - والحصن الجديد. - وحصن ذي القرنين. - والصَّورُ. - " والهتاخ. - والبارعية. - وجبل حيني ". - والسلاسلة. - وجبل جور. ولم تزل هذه البلاد إلا المحدث منها في يد من كان يملكها أيام بني أمية وصدرا من أيام بني العباس إلى أن مُلكت أمصارها بالتغلب، وتقسمت حصونها بالتوثب، فصار لكل مصر منها ناحية تشتمل على قلاع وضياع. ولما صار الحال فيها ذلك، لم يُفدها في أيدي الملاك الاستمرار، ولم يبقها عليهم الاستقرار؛ بل كانت تتردد مع هذا يوما، ومع هذا أخرى، حتى كأنها عواريُّ مستردةٌ، وقطع شطرنج للنقل معدة. المصر الأول من أمصار ديار بكر آمد سميت بآمد بن البلندي بن مالك بن ذعر لأنه أول من اختطها - كذا حكى الشرقي بن القُطامي -. عرضها ثمان وثلاثون درجة. وطولها خمس وستون درجة. طالعها الدلو. ورب الساعة زحل. وهذه المدينة على دجلة. يُحيط بها سوران. أحدهما كبيرٌ. والآخر فصيلٌ. أخرب هذا الفصيل الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل سيف الدين بن أبي بكر بن أيوب كام ملكها، وجعلها مغلة للسور الكبير، وعدة أبراجه ستون برجا. وله خمسة أبواب: 1 - باب التل. 2 - وباب الماء. 3 - وباب الفرح. 4 - وباب الروم. 5 - وباب من وراء السور قلعة أنشأها الملك الصالح محمود بن نور الدين على تل مشرف على عين سورا. والسور مبني بحجر أسود مانع، لا يعمل فيه الحديد، يمشي على عرضه خمسة أفراس، صفا. ويُحكى أن أبا موسى عيسى، ابن الشيخ لما استبد بملك آمد قصده المعتضد في سنة خمس وثمانين ومائتين، فحاصره فيها، إلى أن أخذها عنوة. فلما صارت في يده، قصر من سورها، ولم يزل قصيرا بعد، إلى أن مرَّ به رجل حمال يُعرف بابن دمنة وعلى ظهره كارة حنطة، فوضعها عنه ليستريح، فجلس وجعل ينظر إلى السور فرآه قصيرا فقال: ما أحكم بناءه لولا قصره!!، اللهم إن ملكتني هذا البلد لأزيد في هذا السور قامة. فضرب الدهر ضرباته، وجرى على عاداته في إنزال أسافل طغامه منازل ساداته، فملك مُمهِّد الدولة فألقى إلى ابن دمنة مقاليد دولته، وسوَّغه تدبير مملكته، فوفى بنذره، وزاد في ارتفاع السور وبنى الفصيل. والزيادة باقية تُرى ظاهرة إلى الوقت الذي وُضع فيه هذا الكتاب، وهو سنة تسع وسبعين وستمائة. وفي أيام نظام الدين أبي القاسم نصر بن نصر الدولة بن مروان عمر في سور آمد مواضع عديدة، اسمه عليها، ظاهرا وباطنا. وبنى الجسر على الشط، شرقي آمد. ..... تحت الصخرة .... وهو نيف وعشرون عينا. ووقف على إصلاح ما يتشعث منه ضياعا كثيرة. وبها عينان تجريان: إحداهما، داخل السور، تسمى عين سورا لا يُعرف منبع أصلها. وبعض الناس يزعم أن منبعها من جبل ليسون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 والأخرى، خارج السور، تعرف بعين زعورا عند باب الروم. في وسطها قبة بناها ممهد الدولة بن مروان. وعلى البعد منها عين تسمى باكلا يجري منها نهر يدخل البلد، ويتصرف فيها في قساطل، وللجامع منها حصة تصب في بركة كبيرة. وبها مدرستان: إحداهما، شرقي الجامع، تُعرف بالتاجية إنشاء تاج والآخر إلى الجامع. وبها بيعتان: إحداهما من جهة باب لاروم تعرف ببيعة مريم، وبناؤها قديم محكم، يُضرب به المثل في الإتقان. والأخرى في جوار بستان يعرف بالمنازي وكان بها بيعة عظيمة قبل فتح المسلمين لها. فلما فتحت المدينة عنوة، هرب من كان بها إلى البيعة، فتبعهم المسلمون، فلم يجدوا ممن هرب أحدا غير امرأة واقفة على باب سرداب، فسألوها عمن دخل البيعة، فأخبرتهم أنهم دخلوا هذا السرداب، وهو ينتهي بهم إلى بلاد الروم. هدمت البيعة في أيام الملك الصالح محمود وبني ببعض أحجارها قيسارية للبز، وبقيت منها بقية تدل على عظمتها. ميافارقين قال الشرقي بن القطامي: " ميا " اسم الأودية، و " فارقين " اسم امرأة بنتها، فكأنهم قالوا: " أودية فارقين ". ونقلت من بعض التواريخ أنه كان موضعها أجمة وشوكا. وكان الربض قرية عظيمة. " وبها بيعة من عهد المسيح - عليه السلام - منها حائط باقٍ إلى الآن. وكان رئيس هذه الديار رجلا يُسمى " ليوطا ". وكان مقدما مكرما، وكان حاكما على هذه الولاية. وتزوج بنت رئيس هذا الجبل الذي فيه الآن السناسنة. وكانت تُسمى مريم فأقامت معه وأولدت له ثلاثة أولاد ذكور، فحصل ولدان منهم في خدمة الملك ثيودوسيسوس الصغير اليوناني، وبقي الابن الصغير في هذه الديار عند أبيه. وكان اسمه مروثا، واشتغل اليوم بالعلوم والحكمة. فلما مات أبوه جلس مكانه وارتفع شأنه، وسكن البيعة التي بالقرية، وآتاه الله من العلوم والزهد ما لم يؤت غيره، وهو من جملة الثلاث مائة وثمانية عشر الذين كانوا بعد الحواريين. وكانت همته مصروفة إلى عمارة الأديرة والبيع. وكان ملك الروم برومية الكبرى - وهي دار ملكه - وكان بينه وبين سابوربن أردشير، العاشر من ملوك الفرس عداوة عظيمة. فكانت الفرس تشن الغارات من أرزن على هذه الديار إلى آمد. وما وراءها، وتسبي أهلها وتقتل الرهبان. وكان الملك ثيودوسيوس تزوج بامرأة من أهل الرها تسمى هيلانة - وخبرها مشهور عند النصرانية - فأولدها ولدا سماه: قسطنطين وهو: قسطنطين الأكبر. فبقي مدة ومات. وملكت هيلانة الملك بعده، وكبر قسطنطين وبلغ مبلغ الرجال، وملك موضع أبيه، وبقي برومية الكبرى مدة، ثم بنى القسطنطينية فلما أتمها سكنها، وتديرها الناس فصارت دار ملك الروم. وكان مروثا مقيما بهذه الخطة التي هي الآن ميافارقين، وكان صاحب ماشية من غنم وبقر وغيرهما. وكانت همته مصروفة إلى عمارة الأديرة - كما ذكرنا - بحيث يقال: إنه قل أن يكون دير قديم إلا وهو من إنشائه. فكانت الفرس في غارتها على هذه الديار تأخذ ماشيته فيما تأخذ منها فعمد إلى أرض ميافارقين، فقطع منها الشوك والقصب والطراش، وجعله سياجا ودوارا للغنم، تبيت به ليلا، خوفا من السراق. فاتفق أنه كانت لملك الفرس ابنة فائقة الجمال، وكانت عنده بمنزلة عظيمة، فعرض لها مرض من الجنون، فجمع الأطباء والكهنة فعالجوها فلم تبرأ من ذلك المرض، فضاق صدره لذلك، فاستشار أهل مملكته ووزراءه في أمرها فأشاروا عليه بالإنفاذ إلى قسطنطين - ملك الروم - بأن يتقدم إلى مروثا بالحضور إليك ومعالجتها. فنفذ إلى ملك الروم رسولا، ومعه هدايا وتحف عظيمة، فنفذ الملك إلى مروثا، وأمره بالمسير إليه. فسار مع الرسول إلى أن وصل إلى الملك سابور، ودخل على ابنته وعالجها أياما فبرئت مما كانت فيه. ففرح الملك فرحا عظيما، وقال لمروثا: تمن علي!! فقال: أريد الصلح والهدنة بينك وبين الملك قسطنطين، وتكون المودة بينكما دائمة، فأجابه إلى ذلك، وكتب بينهما عهدا لا ينقض مدة حياتهما. فلما عزم على المسير، سأله الملك: هل لك حاجة؟ فقال: مالي حاجة. ولكني أسألك جمع عظام الرهبان والشهداء الذين قتلوهم أصحابك في بلادنا، وحملها معي إلى موضعي. فأمر له بذلك. وطيف بتلك الديار وجمع ما بها من عظام من قتله الفرس، وحملها معه إلى مقرة، ودفنها في موضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ثم إنه سار إلى قسطنطين وأعلمه بحال الهدنة والصلح. ففرح بذلك فرحا عظيما، وقال له: تمن علي ما أردت! فقال: مالي حاجة في الدنيا، ولكني أسألك أن أبني في موضعي دوارا للغنم، وبيعة داخل الدوار. وأريد منك المعونة على ذلك. فكتب الملك له إلى هذه الديار بإطلاق يده فيما يريد. فأتى إلى هذه الخطة وقطع الحجر، وحرق الآجر، وبنى البيعة في رأس التل، وأحاط بها سورا ضعيفا. ثم استأذن الملك في بناء بنية تحصنه من العدو فأذن له. فبنى البرج المعروف ببرج الملك. وبنى به بيعة وكتب اسم الملك عليها. فوشي به إلى الملك وقيل: إنه قد بنى بنية عظيمة، وربما خرج عن الطاعة!! فسير الملك ثقاته، وأمرهم أنهم أن وجدوا اسم الملك مكتوبا على ما عمره " فأبقوا على ما عمر " وإلا فاهدموا ما عمره. فلما وصلوا وعاينوا البيعة وعليها اسم الملك عادوا إليه وأخبروه بذلك. فتقدم الملك إلى وزرائه بإفراد ارتفاع البلاد من قاطع القسطنطينية إلى آخر ولاية نصيبين. وجباية الأموال وحملها إلى مروثا وأمره بإتمام المدينة. فجمع الصناع، وأدار السور، وأكمل العمارة، وسميت ميافارقين، وتفسيره بالعربي: مدينة الشهداء، لعظام الشهداء المنقولة إليها وهي إلى يومنا هذا لم تؤخذ بالسيف عنوة. وآمد إلى جانبها أقوى منها وأحصن، وقد أخذت بالسيف مرارا. ثم إن هيلانة شرعت في بناء البيعة الكبيرة، وهي أول بيعة بنيت لأن الصليب مصور بالمذبح، وذلك يعمل في أول بيعة تبنى. وتقدم الملك إلى وزرائه الثلاثة ببناء أبرجة: فبنى أحدهم برج الرومية، والبيعة بالعقبة. - وبنى الآخر برج الزاوية ويعرف ببرج علي بن وهب، وبيعة كانت تحت التل وهي الآن خراب وأثرها باق مقابل حمام النجارين -. - وبنى الثالث برج باب الربض والبيعة المدورة. وعمل بها من الطلمسات مالا يوسف. وجعل لها ثمانية أبواب: " 1 " -: باب أرزن ويعرف بباب الجنائز. " 2 " -: وباب قلوفح وهو بين برجي الطبالين. ويسمى: باب المرآة. لأنه كان عليه مرآة في أعلاه بين البرجين، فكانت إذا طلعت الشمس يرد شعاعها الجبل من فرسخ. وأثر المرأة باق إلى الآن، وبعض الضبات الحديد باقية بين الأحجار. " 3 " - " وباب الشهوة وهو من برج الملك. " 4 " -: وباب مقابل باب أرزن - نصبا - ويعرف: بباب الجبل. " 5 " -: وباب بالربض أيضا بين البرجين. " 6 " -: وباب الفرج والغم، وصورتا الفرج والغم منقوشتان في الحجر، مما يلي القبلة، من ركن الباب صورة الفرج رجل يصفق بيديه، وصورة الغم رجل قائم على رأسه صخرة. فما عُلم أنه بات بمياقارقين أحد مغموما ولا مهموما إلا النادر من الناس، بخلاف آمد فإن الغريب بها من العصر يأخذه الغمُّ وينزل عليه الحزن، ويسمى هذا باب القصر العتيق الذي بناه بنو حمدان. " 7 " -: وباب في أسفل العقبة، عند مخرج الماء. " 8 " -: وباب فتحه سيف الدولة يعرف بباب الميدان. وفي من هذه الأبواب، على ما شاهدت عند قدومي عليها أربعة: " 1 " -: باب المُحدثة - وهو قبليها -. " 2 " -: والباب الجديد - عند القصر -. " 3 " -: وباب الربض. " 4 " -: وباب آخر يفتح من القصر - شمالي البلد -. " 5 " -: وآخران مسدودان. ذكر ما جُدِّد فيها من العماير بعد الفتح بني أحمد بن عيسى بن الشيخ منارة الجامع، واسمه مكتوب عليها في لوح تاريخه سنة ثلاث " وسبعين ومائتين ". وبنى البرج القبلي واسمه أيضا مكتوب عليه. ولما وليها سيف الدولة ابن حمدان رمَّ سورها، وكان قد تشعث. " ولم يكن على الباب الأوسط باب، بل كان له مشط من الحديد، فكسره القاضي عبد الله بن الخليل وزاد عليه وضرب الحديد مصراعين، وركبهما على الباب سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. ووزن المصراعين ثلاثة آلاف وثلاث مائة رطل بالظاهري. وكان على الفصيل باب ضعيف حديد، فكسره القاضي أيضا، وزاد عليه، فصار وزن المصراعين ألفين وأربعمائة وستين رطلاً بالظاهري واسم سيف الدولة والقاضي مكتوبان على البابين حفرا ". " وكان شراب أهل ميافارقين من الآبار، فأجرى سيف الدولة من العين التي بالربض المعروفة برأس العين قناة، وساقها في وسط البلد، ودخل بها من باب الربض، وجاءت بين السورين، وأجراها في المدينة إلى أن أوصلها إلى القصر العتيق، وهي أول قناة سقت إلى المدينة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ولما مات سيف الدولة اهتمت جميلة أخته في عمل الخندق حول ميافارقين. وكان سيف الدولة قد شرع فيه. ويقال: إن المال الذي صُرف في حفرة هذا الخندق أصله أن رجلا من الحفارين حفر يوما ظاهر البلد، من جهة باب الهوة حفيرا، فهوي به إلى هوة فنزل فيها فرأى مالا عظيما، فقصد جميلة - أخت سيف الدولة - وزوجته العُقيلية فأطلعها على ما وجد فنقلاه. وأخذت جميلة نصفه فصرفته في حفر الخندق. وأخذت العقيلية نصفه الآخر، وصرفته في بناء سور الربض. ولما استولى الحاجب أبو الوفاء طاهر بن محمد على ميافارقين ولى فيها أبا علي الحسن بن علي التميمي فبنى ما تشعث من سورها وكتب عليها اسم عضد الدولة. ولما ملكها ممهد الدولة أبو منصور " سعيد " بن مروان رمَّ في سورها مواضع، وكتب اسمه عليها. وتهدم باب من أبواب المدينة في سنة تسع وسبعين وثلاث مائة ففتح الناس باب قلوفح وكان مسدودا مدة عمارة هذا الباب فلما فرغ منه غلق باب قلوفح. ولما ملكها نصير الدولة أراد أن يعمر بها قصرا يسكنه فأشير عليه بعمارته على رأس التل، فأشار عليه خواجا أن يعمره موضعه الآن، ليكون برج الملك داخلا تحت حكمه. فابتدأ في عمارته في سنة ثلاث وأربعمائة. واسمه مكتوب عليه. وبنى المنظرة العتيقة. وغرس بستان القصر ويقال: إنه كان مكانه بيعة. وساق إلى القصر الماء من رأس العين التي بالربض. وبنى نصر الدولة بها البيمارستان ووقف عليه الضياع والأملاك. وبنى جسر الحسينية الذي على تل بنان. وبنى قصرا على الشط، وعمل له بابا من الصفر، وهو الآن على الجامع. وأقام الأسواق. وبنى الحمامات. وبنى جامع المحدثة والمصلى سنة ثلاث وعشرين وأربع مائة، ووقف عليهما أملاكا. وبنى حمامي العقبة ووقفهما على السور. " وكان في زمانه بالبلد شيخ من أعيان التجار يعرف بأبي بكر بن جرى استأذنه في إجراء قناة إلى الجامع من عين حنباص، فأذن له، فساقها في طرف البلد في الربض الغربي إلى أن دخل بها بين السورين من عند باب الفصيل الذي للربض وأدخلها من السور. فيقال: إنه غرم على عملها خمسين ألف دينار. ولما أجراها عبر بها على باب داره ولم يدخل منها إلى داره شيئا، لئلا يقال: إنما أجراها لمنفعته. وبنى نصر الدولة الحصن الجديد الذي بجهة السناسنة فصار حدا وسدا في وجوههم. وبنت ست الملك بنت نصر الدولة في سنة ست وخمسين وأربعمائة قبة إلى جانب الجامع بالميدان، ونقلت إليها أباها فدفن بها. ولما وليها العميد قوام الملك أبو علي البلخي من قبل السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان سمع في بعض الليالي ناقوسا، فلما أصبح سأل عنه، فقيل له: إنه دير على الجبل. فجمع الناس، ومضى إليه ليهدمه، فأعطى فيه النصارى خمسين ألف دينار، على أن يتركه لهم، فأبى وهدمه. وسقط من الجامع الجهة القبلية في ربيع الأول من سنة تسع وأربعين وخمسمائة، فعمر جديدا. وابتدأ في نقض برج الأربعين وعمره في شهور سنة تسع وخمسين وخمسمائة. هذا ما كانت عليه قديما. ولما دخلتها اعتبرت حالها وما هي مشتملة عليه من المباني: فكانت عدة أبرجة سورها اثنين وأربعين برجا. ودون هذا السور فصيل وبينها خمسة عشر ذراعا. ولها خندق جميعه برك قد فصل بينهما بمقاطع عدته ستون بركة. تسمى الغدران أصل مائها من حنباص. وللسور أربعة أبواب. - باب المحدثة وهو من القبلة. - والباب الجديد وهو من الشرق. - وباب الربض وهو من الغرب. - وباب الهوة - يفتح من القصر - وهو من جهة الشمال. وبها، داخل البلد قصر عظيم، كان دار السلطنة - قد تقدم ذكر من بناه - وللمدينة ربض من شمالها في وسطه عين تسمى عين الحفيرة يدخل ماء العين إلى البلد، وعليه داخل البلد أربعة أرحاء. ولها من جهة القبلة ربض يسمى المحدثة، فيه الحانات والأسواق. وفي طرفها سوق الخيل. وفي رأس سوق الخيل جامع يعرف " بجامع " بني مروان. وفي شمالي البلد جبل يسمى حرم عباد لأن على قمته ديرا يسمى: دير عباد. وفي الجبل أديرة تسمى الحصون لمنعتها معمورة بالرهبان. وفي شرقيها ميدان وجوسق من إنشاء شهاب الدين غازي. وبها من المدارس: - مدرسة للحنفية من إنشاء شهاب الدين غازي. - ومدرسة للحنابلة عند باب الجامع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ومدرسة أنشأها فخر الدين عثمان المعروف بابن الفقاعي لمذهب الشافعي. وبها ما يناهز مائتي مسجد. وبها من الحمامات: - حمام القاضي - إلى جانب الجامع -. - وتحت القصر: - حمام سعيد. - وحمام العقبة. - وحمام الحطابين. - وحمام الأزج. - والحمام الجديد. - وحمام خزيمة، أنشاها ابن الفقاعي. وبالمحدثة، خارج البلد، حمامان. وبالربض حمامان: - حمام حنباص. - وحمام جوزة. عرض هذه البلد ثمان وثلاثون درجة، وطولها سبع وسبعون درجة وثلث. طالعها السرطان وقيل: الجوزاء. وصاحب الساعة الزهرة. ذكر من فتح ميافارقين آمد ووليهما " لم تزل الجزيرة وديار ربيعة وديار مضر وديار بكر منذ صدر الإسلام يليها وال واحد، وتارة تنفرد ديار ربيعة، وتارة تنفرد ديار مضر، وتارة تنفرد ديار بكر. وأن آمد وميارفارقين وماردين وأرزن وما أضيف إليها من الحصون لم تزل في أكثر الأوقات ولاية واحدة، خصوصا آمد، وميافارقين فإنهما لم ينفردا، فلذلك جمعنا بينهما. ذكر أحمد بن يوسف بن علي بن الأزرق - صاحب تاريخ ميافارقين وآمد - " أن كسرى قباذ بن فيروز، وهو التاسع عشر من ملوك الفرس ". وكان ملكا جبارا غزا ديار بكر، وديار ربيعة، وفتحها بأسرها من آمد وميافارقين ودارا ونصيبين والرحة، وغيرها. وسبى أهلها. واستمرت في يده مع غيرها من البلاد ثم من بعده في يد ولده عرمز ". " ثم في يد ولده بلاس كذلك " إلى أن بلغت كسرى أبرويز. وكان ملكا عادلا فطنعت فيه ملوك الروم فخرج ملك الروم وهو هرقل - صاحب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وغزا هذه البلاد وملكها بأسرها، وبقيت تحت حكمه، وذلك في السنة الحادية عشرة من ولاية كسرى هرمز بن أنو شروان العادل. وبقيت في يد الروم إلى سنة ثماني عشرة للهجرة في خلافة عمر - رضي الله عنه -. قيل: إن عمر - رضي الله عنه - لما جهز العساكر وأنفذها إلى الشام كان يوم اليرموك في سنة خمس عشرة للهجرة، وكسر عرقل - ملك الروم -. وأمير الجيش أبو عبيدة بن الجراح، ولم يزل يفتح موضعا موضعا إلى سنة ثماني عشرة. وأمر عياض بن غنم على بعض الجيش، فقصد الجزيرة فدخلها وفتحها موضعا موضعا. وكان على ميسرته خالد بن الوليد ووضمّ إليه ثلاثة آلاف فارس، وجعل رأسهم الأشتر النخعي، وأمرهما بالمسير إلى آمد وميافارقين. فلما وصلاها ورأيا سور آمد وميافارقين. فلما وصلاها ورأيا سور آمد جزعا وتقطعا. وكان بآمد عشرون ألفا من الروم، فوقع الخلف بينهم، واقتتلوا قتالا شديدا. وقيل: " وفتحها عنوة، وذاك أن رجلا من المسلمين رأى كلبا خارجا من مخرج الماء، فدار ساعة وعاد دخل إلى البلد، فتبعه الرجل ودخل خلفه فانتهى إلى داخل البلد، فعاد خرج، وأعلم خالدا بذلك. فلما كان الليل دخل الرجل ودخل معه خالد وجماعة من المسلمين وصاحوا بالناس، وملكوه عنوة. وقيل: بل صالحه بطريقها، وخرج إليه، وحمل له خمسين ألف دينار، وجعل على كل محتلم أربعة دنانير، وقيل دينارين، وقفيزين حنطة، ومد زيت، ومدّ خلّ، ومدّ عسل، وكل من عبر بها من المسلمين يضاف ثلاثة أيام. وجعل بها مسلحة للمسلمين ". ذكر من ولي ديار بكر بأسرها ومن ولي منها مكانا بمفرده لم يزل عياض بن غنم ونوابة عليها إلى أن توفي في سنة عشرين. فولىّ عليها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها. وعلى عربها الوليد ابن عقبة، فلم يزل أميرا عليها إلى أن عوله عمر - رضي الله عنه -. وولىّ فرات بن حيان، وهند بن عمرو. ولم يزل حبيب بن مسلمة أميرا على عجم الجزيرة إلى أن أصرفه عمر في آخر سنة إحدى وعشرين. وولىّ عليها وعلى قنسرين وحمص عمير بن سعد. ولم يزل عمير واليا عليها إلى أن توفي عمر - رضي الله عنه - لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. وولي الخلافة عثمان - رضي الله عنه - فأقر عميرا على إمرته، فأصابه مرض فاستأذن عثمان في الرجوع إلى أهله فأذن له. وجمع لمعاوية بن الشام والجزيرة وذلك في سنة ست وعشرين. فولىّ معاوية الجزيرة حبيب بن مسلمة بن مالك ثم عزله عن الجزيرة. وولى عليها الضحاك بن قيس الفهري. ولم يزل واليا عليها إلى أن قتل عثمان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ووليّ عليٌ - عليه السلام - فولاها مالكا الأشتر النخعي وقثم بن العباس. ولم تزل في أيديهما مدة خلافة عليّ - عليه السلام - وخلافه ولده الحسن - رضي الله عنه -. وولي الجزيرة والثغور في خلافة معاوية مروان بن الحكم مدة ثم أشخصه معاوية إلى دمشق. ووليها في ولاية يزيد بن معاوية من قبل مروان بن الحكم أسعد بن يحيى الهشلي. فلم يزل بها إلى أن مات يزيد. وولي معاوية ومات. ووليّ مروان بن الحكم الخلافة في أواخر سنة أربع وستين. فولىّ على الجزيرة والثغور سعيد بن قيس الثقفي مدة ولايته. فلما مات ولي ابنه عبد الملك بن مروان. وخرج عليه المختار بن أبي عبيد وملك العراق وديار بكر والجزيرة بأسرها. ووليّ على ديار بكر إبراهيم بن الأشتر النخعي. ونفذ إلى آمد وميافارقين وديار بكر عبد الله بن مساور. فلما قتل المختار وملك عبد الملك بن مروان أقطع الثغور، وديار بكر والجزيرة لأخيه محمد بن مروان. قيل: وفي ولاية سليمان بن عبد الملك كان والي الثغور محمد بن إبراهيم بن الأشتر النخعي. وفي ولاية " عمر بن " عبد العزيز ولىّ الجزيرة والثغور ميمون بن مهران، فولىّ ميافارقين وآمد سعد بن مهران - أخا المذكور -. وفي ولاية يزيد بن عبد الملك ولىّ ميافارقين وآمد والثغور مهران بن ميمون بن مهران مدة ولاية يزيد فلم تزل بيده إلى أن عزله هشام بن عبد الملك وولاها مروان ابن محمد المعروف بالحمار. فلم تزل بيده مدة ولاية هشام، والوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد ونوابه بها إلى سنة سبع وعشرين ومائة ثم ولي مروان الخلافة. فولىّ آمد وميافارقين، أبا عامر بن أبان وإسماعيل ابن سعيد فلم يزالا بها إلى أن قتل مروان الحمار وانقرضت دولة بني أمية. وانتقلت الخلافة إلى بني العباس: فأول من وليّ منهم السفاح ويكنى بأبي العباس فكان واليه على الثغور وديار بكر أخاه أبا جعفر المنصور وموسى ابن مصعب. وفي ولاية المنصور - أخي السفاح - ولى على ديار بكر والثغور: مقاتل بن حكيم العكي. وحُميد بن قحطبة. وعبد الصمد بن علي. ومُصعب بن موسى. ................... والهيثم بن سعيد ثم عزله. وولى المسيب بن زهير وعزله. وولى عبد الصمد بن علي بن عمر وعزله. وولى زُفرُ بن عاصم الهلالي وعزله. وولى ابن علي. والفضل بن صالح. وفي ولاية موسى الهادي: كان الوالي على آمد وميافارقين وماردين والثغور: أبا هريرة محمد بن فروخ. ومحمد بن إبراهيم بن علي وعزلا. وولى العباس بن محمد. وفي خلافة الرشيد ولى آمد وميافارقين وماردين: عبد الرحمن بن عبد الملك الزاهري ثم عزله الرشيد وولى: شيبة بن عبد الله " ثم عزله ". وولى علي بن سليمان الهاشمي ثم عزله: وولى محمد بن صالح وأخاه عبد الملك بن صالح. ولم يزالا إلى ولاية الأمين فعزلا. وولي العباس بن موسى وسعيد بن عمران مدة ولاية الأمين. وولي في خلافة المأمون الجزيرة والثغور ولده العباس ولم تزل نوابه بها إلى أن مات المأمون ووُليَّ المعتصم فأقطعها هارون الواثق فرتب فيها: نصر بن سعيد. وعبد الله بن كثير. ومحمد بن معروف. ففي ولاية الواثق وُيل آمد وميافارقين: عب الله بن الزيات. ومحمد بن العباس بن المأمون. وسعيد بن عبد الله. ومحمد بن الربيع، الوزير. إلى ولاية المتوكل، ولى الجزيرة وآمد وميافارقين من قبله: نصر بن خاقان. وسعيد بن عليٍّ. ومحمد بن عبيد الله. إلى ولاية المنتصر، ولى الجزيرة والثغور: سعيد بن الحسين. وعبد الله بن سيّار. وفي أيام المستعين والمعتز ولي الجزيرة وآمد وميافارقين: عبد الله بن ميمون. ونصر بن صالح بن خاقان. وأبو الفضل بن عيسى الهاشمي. وعبد الرحمن بن سعيد. وفي خلافة المهتدي في سنة خمس ومائتين وُلي آمد وميافارقين: أبو موسى بن الشيخ بن السليل الشيباني، وكانت أرزن بيد موسى بن زرارة. ذكر عصيان عيسى بن الشيخ بديار بكر سبب ذلك أنه كان عاملا على دمشق من قبل الخليفة المهتدي، وعلى حلب أيضا - هذا كلام ابن العديم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وقال غيره: بل على دمشق، والأردن، وفلسطين، واجتمع عنده مال عظيم فُتحت نفسه عليه ولم يحمله إلى الخليفة على ما جرت به العادة. وبلغ ذلك الخليفة، فأنفذ إليه توقيعا بأرمينية. وكان قصده أن يصير إليه فيقبض عليه، فاستشعر عيسى بن الشيخ ذلك، فعصي بديار بكر واستبد بها دون أمر الخليفة. ورتب ولديه محمد بن عيسى بآمد، وأحمد بن عيسى بميافارقين. " وبنى أحمد بن عيسى منارة بجامع ميافارقين ". واسمه عليها مكتوب في لوح حُفر تاريخه سنة ثلاث وسبعين ومائتين. واسم أحمد بن عيسى على لوح في البرج القبلي الذي تحت الباب، من جانب الغرب. وما على السور لوحٌ إسلامي أقدم منه. وهو حفرٌ في حجرٍ. وبقيت بيد أحمد بن عيسى إلى أن مات. وولي ولده محمد بن أحمد ديار بكر. وهذا يدل على أن أحمد بن عيسى تغلب على أخيه وأخذ آمد في حياته، أو انتقلت إليه بحكم وفاة أخيه محمد فلأجل ذلك عهد إلى ولده محمد بجميع ديار بكر. ذكر قصد المعتضد الجزيرة وديار بكر ولما وصل الخبر إلى المعتضد بموت أحمد بن عيسى بن الشيخ وتولية ولده محمد ديار بكر تجهز إلى ديار بكر في سنة خمس وثمانين ومائتين، ونازل آمد وحاصرها، وهدم سوريا، ودخلاه عنوة. واستأمن إليه محمد بن أحمد وأهل بيته فأمنهم ونفذ سرية إلى ميافارقين، فدخلوا تحت الطاعة. وسلموها إليه. وأقام بآمد مدة، وأقطع ديار بكر وديار ربيعة ولده عليّا - المكتفي -. وولى ميافارقين وآمد الفضل بن عمران وسلم إليه جميع الثغور: ونزل المعتضد إلى بغداد وتوفي بها ودفن في حجرة الرخام. وولي الخلافة المكتفي. وأقرَّ الفضل بن عمران على ديار بكر وأضاف إليه علي بن منصور الهاشمي مدة ولاية المكتفي. ثم وُلي في أيام المقتدر المبارك بن ميمون بن الخليل واسمه في الجامع في المقصورة الغربية على لوح. " وفي سنة ثمان وتسعين ومائتين نفذوا أهل ميافارقين ضعفها، وأنها تحتاج إلى من يحفظها "؟. وكانت قلعة اليماني، وأكِلّ والجبابرة للروم وهو يُغيرون كل يوم إلى باب المدينة، وتأخذُ ما حولها. وكان على باب المدينة الوسطاني مشط من حديد، ولم يكن عليه باب، فكان إذا هجم العدو ودخل باب الفصيل حطوا المشط من أعلى السور، ويبقى أهل البلد والعدو يتطاعنون في المشط، وكان مشبكا. وكانت آمد كذلك من الضائقة. فلما طولع بذلك المقتدر نفذ رجلا من أهل بغداد يسمى ألطاشي عبد الرحمن بن سعيد فوصل إلى ميافارقين وباع بها أملاكا كثيرة، وجند بها العساكر، كذلك فعل بآمد. وأملاك أهل ميافارقين اقتُنيت من هذه السنة. وعاد ألطاشي إلى بغداد. وفي سنة ثمان وتسع وتسعين ومائتين وُلي خفيف الأرتكني من قبل المقتدر. وكان وليها وجميع ديار بكر علي بن أبي السلاسل. وفي سنة اثنتين وثلاث مائة وليها وأرزن معها خلف بن الحسن، وكان يحيى بن زكريا يلي ديوان المكاتبات بديار بكر أجمع. وفي سنة أربع وثلاثمائة وليها الطيب بن يعقوب مدة وعُزل. وعاد خلف بن الحسن. وفي سنة خمس وست وثلاثمائة ولي " ديار " بكر أجمع وقِرْدى وبازبدي " محمد بن جني الكاتب ". وفي ولاية الراضي ولى ميافارقين سعيد بن عاصم في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وكانت ضعيفة جدا لمجاورة الروم لها، فبقي مدة ثم عُزل. وولى الراضي بها أبا علي بن جعفر الديلمي، وكانت الديلمية قد ظهرت، وظهر معز الدولة أحمد بن بويه وقوي، وعلت كلمته. وكان أخوه ركن الدولة أبو علي بخراسان، وقد استقر فيها، وأطاعه كل من بها، وفتح بلاد خراسان ومعز الدولة ببلاد فارس وشيراز والاهما. ذكر ابتداء ملك بني حمدان لديار بكر قد تقدم القول بضعف ميافارقين وآمد، وقلة من بهما من الأجناد، بسبب غارات الروم عليها. وأنهم أنهوا حالهم إلى المقتدر فرأى أن يضيف ديار بكر إلى الأمير ناصر الدولة الحسن بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان مضافا إلى ما كان بيده من ديار ربيعة، وذلك في سنة ثماني عشرة وثلاثمائة. وكان النائب إذ ذاك " أبو " علي بن جعفر الديلمي بديار بكر فأقره على ولايته. ولم يزل " أبو " علي بن جعفر مستمرا إلى أن دخلت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. فتوجه الأمير ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان إلى الروم واستنقذ ملطية وحصونها من أيدي الروم وعاد سالما منصورا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ذكر ولاية سيف الدولة ديار بكر من قبل أخيه ناصر الدولة وفي سنة ثلاث وعشرين وثلاث مئة، سلم الأمير ناصر الدولة أبو محمد بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان ميافارقين. وديار بكر إلى أخيه سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء نائبا عنه. وفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة خرج الدمستق إلى ناحية آمد وسميساط. فسار إليه سيف الدولة وهزمه وعاد إلى ميافارقين وأرزن. وكان بأرزن يومئذ " أبو " علي بن جعفر الديلمي. فعصي بها. فحاصره سيف الدولة إلى أن التمس منه الأمان ونزل على حكمه فأمنه. وتوجه سيف الدولة إلى خدمة أخيه ناصر الدولة بالموصل، فوصلهما فيها التشاريف والتقاليد من الخليفة الراضي في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، وأكرما غاية الإكرام. ونظر سيف الدولة في مصالح ميافارقين، " وروم ما كان استهدم من سورها، وعمر بها مواضع كثيرة، ظاهرا وباطنا، واسمه عليها مكتوب بتوليّ القاضي عبد الله بن الخليل. ولم يكن على الباب الوسطاني باب، بل كان له مشط من الحديد مشبكا، فعمد القاضي إلى ذلك المشط فكسره، وزاد عليه وعمله بابا، وركبه على الباب الوسطاني في سنة ثلاث وثلاثين ومائة. ووزن المصراعين ثلاثة آلاف وثلاثة مائة رطل بالظاهري. وكان على باب الفصيل باب واهن ضعيف، فكسره القاضي أيضا وزاد عليه وعمله بابا وركبه عليه، وهو الذي عليه إلى الآن. ووزن المصراعين ألفان وأربع مائة وستون رطى بالظاهر ". وفي سنة ثمان وثلاثين وثلاث مائة توفي عبد الله بن سيف الدولة بميافارقين ودفن بها، ورثاه المتنبي وعزاه. واجتمع عند سيف الدولة من الفضلاء والعلماء والشعراء ما لم يجتمع مثله إلا في زمان المأمون. وكان سيف الدولة أكثرهم فضلا. واجتمع عنده ابن خالويه وخطيب الخطباء عبد الرحيم ابن نباتة والقاضي أبو بكر بن قريعة والمتبني وأبو فراس. كل منهم يقر لسيف الدولة أنه أكثر فضلا منه. ذكر محاولة استيلاء الروم على آمد بحيله كانت أمد يومئذ بيد ناصر الدولة وبها نوابه. وكان بالبلد رجل من النصارى فراسلوه الروم وراسلهم، وسعى لهم في أخذ البلد، وذلك أنه نقب نقبا عن أربعة أميال تحت الأرض إلى المدينة. ففطن لذلك أهل المدينة، فلحقوا النقب وأخذوه. وقتلوا ذلك الرجل. واستمرت آمد في يد نواب ناصر الدولة. عدنا إلى أخبار ميافارقين وسيف الدولة وفي سنة إحدى وأربعين وثلاث مائة سار الدمستق إلى بلد آمد لقصدها وغيرها من البلاد، فسار إليه سيف الدولة فهزمه. وفي سنة اثنتين وأربعين وثلاث مائة وقع الصلح بين سيف الدولة وملك الروم. ذكر حصار الروم آمد وميافارقين وفي سنة ثمان وأربعين وثلاث مائة وردت الروم مع ملكها ابن سمسقيق ونزل على باب ميارفاقين، وحوصرت مدة. ثم انتقل عنها ونزل على آمد وحاصرها سبع سنين وضرب كمين سنادين الحديد في المناجيق، وغرس على آمد الكروم بباب الجبل، وأقام إلى أن حمل العنب وأكل منه. ثم رحل عنها إلى نصيبين، وأقام بها مدة ثم رحل عنها. وأخرب في طريقه مدينة دارا والهتاخ وفندق الرأس وتل ميمون. ولم يفتح موضعا إلا خربه، وعاد إلى بلاده. وهذا كلام أحمد بن الأزرق - صاحب تاريخ ميافارقين وآمد - وعمل الخطيب عبد الرحيم بن نباتة خطبة في الجهاد. ذكر قتل نجا غلام سيف الدولة وملك سيف الدولة خلاط وفي سنة أربع وخمسين وثلاث مائة قتل نجا - غلام سيف الدولة - وكان السبب في قتله أنه لما وقع أبو الورد - صاحب خلاط ومنازجرد - من السور ومات، سار نجا إلى تلك النواحي، وملكها بعساكر سيف الدولة. فلما أن ملكها عصى على سيف الدولة وسار إلى ميافارقين وحاصرها في سنة ثلاث وخمسين وثلاث مائة ليأخذها ويسلمها إلى معز الدولة، وكان قد أمده بالعساكر، فلما جد في القتال لميافارقين بلغه أن قرابة ابن أبي الورد وثب على منازجرد فأخذها، فانفصل عن ميافارقين وطلب خلاط وتلك الولاية، ونهب عساكر قرابة أبي الورد. وفي سنة أربع وخمسين وثلاث مائة حضر نجا في مجلس سيف الدولة وعنده جماعة، وهم على الشراب، فحاجَّ سيف الدولة وخرج عليه بكلام قبيح. وكان لسيف الدولة غلام يسمى نجاح فوثب على نجا فضربه بالسيف فقتله. وكان له قلوفح إقطاعا برسم مائدة رمضان. وحُمل إلى ميافارقين ودُفن بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ثم سار سيف الدولة إلى خلاط ومنازجرد وجميع تلك الولاية فملكها. وأخذ معه صفوان وثنا وهما - أخو نجا - وعاد بهما إلى ميافارقين. وقد خلص أبا الفوارس بن ناصر الدولة من الروم بالمفاداة ووصل إلى ميافارقين يوم السبت ثاني صفر سنة خمس وخمسين وثلاث مائة. وفي الخمسين خامس عشر من شهر ربيع الأول وصل كتاب من ناصر الدولة يذكر أنه ولد لأبي عليّ الباهلي بغلة، وحملت إلى ناصر الدولة وولده أبي تغلب ورأيها، والمشيمة معها، والولد حي، وعاش بعد ذلك. وفي سنة خمس أيضا في شعبان: أغارت الروم من حصن اليماني على بلد ميافارقين ونهبت ضياعها، فخرج أحمد بن نصر - الوالي بها - ولحقهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة. وبنى سيف الدولة بميافارقين القصر العتيق - داخل البلد - عند برج عليّ بن وهب وأحكمه، وأحسن عمارته، وسكن فيه. واجتمع عند سيف الدولة من أهله خلق عظيم. كانوا معه، وتحت كنفه، بحيث أن جميلة - أخت سيف الدولة - اطلعت يوما من الأيام من القصر العتيق على الميدان فرأت من أهلها مقدار عشرين ألف فارس فقالت: لا إله إلا الله، يوشك أن تقوم الساعة على آل حمدان!! هذا سوى من كان عند ناصر الدولة وأبي تغلب ومن كان بالشام منهم مقيما. فما مرّ بهم غير ستين أو سبعين سنة وما بقي منهم أحد يقول: أنا من بني حمدان؟!!. وكان قد بقي منهم جماعة انتقلوا إلى الساحل وملكوا صور وما حولها، ثم انقرضوا ولم يبق منهم أحد. ولم يكن لميافارقين ماء يسرح في أقطارها، وكان شربهم من الآبار. فشرع سيف الدولة في عمل العين التي بالربض، المعروفة برأس العين فساق منها قناة وجاء بها في وسط الربض، ودخل بها المدينة إلى أن أوصلها إلى القصر العتيق، وهي أول قناة سيقت إلى المدينة. وفي يوم الجمعة التاسع والعشرين من المحرم سنة ست وخمسين وثلاث مائة: انكسفت الشمس كسوفا عظيما، بحيث ظهرت الكواكب بالنهار. وعمل الخطيب عبد الرحيم خطبة الكسوف، وخطب بها في ذلك اليوم. ذكر وفاة سيف الدولة بن حمدان في رابع ساعة من يوم الجمعة، وقيل ثالث ساعة لخمس بقين من صفر سنة ست وخمسين وثلاثمائة، توفي الأمير سيف الدولة، أبو الحسن، علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان - رحمه الله - بحلب. وكان مرضه عسر البول. وكان عمره أربعا وخمسين سنة قمرية، وثلاثا وخمسين سنة شمسية. وتولىّ أمره أبو الهيثم بن أبي حصين، وغسله عبد الحميد بن سهل المالكي - قاضي الكوفة - وغسله تسعة أغسال: غسل بالماء أولا. ثم بالسدر، ثم بالصندل، ثم بالذريرة، ثم بالعنبر، ثم بالكافور، ثم بماء الورد، ثم بالماء القراح أخيرا غسلين. ونشف بثوب ديبقي ثمنه نيف وخمسون دينارا - أخذه الغاسل مع ما أخذه -. وصبر برطلين صبر، ورطل مر، ومنوين كافور، وجعل في لحيته ونحره مائة مثقال غالية. " وفي أذنيه وعينيه وأنفه وعنقه ثلاثون مثقالا كافورا ". وكفن في سبعة أثواب، تساوي ألف دينار، منها: قميص قصب أدرج فيه بالكافور. وبردان معمدان حبرتان. وثوب شرب. وعمامة شرب. وجعل في التابوت مضربة، ومخدتان، وذر على الجميع الكافور. وصلى عليه أبو عبد الله الأقسامي الكوفي، وكبر عليه خمسا. وحمل فراشه إلى الأفطس العلوي بوصية منه. واجتمع الناس إلى الأمير أبي المعالي شريف بن سيف الدولة ولقب بسعد الدولة. وتسلم تابوت سيف الدولة غلام له يسمى تقيّ وحمله وسار به إلى ميافارقين ودفن بالتربة، داخل البلد، عند أمه وأخته. ذكر ولاية أبي المعالي شريف ولد الأمير سيف الدولة كان الأمير سيف الدولة قد عهد إليه قبل وفاته، فاستقلّ بملك حلب وميافارقين وغيرهما مما كان بيد والده. فرتب أمور حلب وأحوالها وسار إلى ميافارقين ليرتب أحوالها. وكان بها تقي غلام والده، فحدثته نفسه بالغدر بأبي المعالي فعلم به، فقبض عليه وصادره على ثلاثين ألف دينار، وحمل مقيدا إلى حصن كيفا فبقي فيه مدة. ثم أن الأمير أبا المعالي أراد المسير إلى الشام فاستحضر تقيا من حصن كيفا ورضي عنه، وخلع عليه، وسلم إليه ميافارقين وسار إلى الشام، وأقام بها، وتقي بميافارقين. وأقامت جميلة أخت سيف الدولة " و " زوجة الأمير سيف الدولة بميافارقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وكان ناصر الدولة قد تغيرات أحواله، فقبض عليه ولده أبو تغلب باتفاق من إخوته أولاد ناصر الدولة وسير من الموصل إلى قلعة أردمشت. ثم إن أبا تغلب الغضنفر خرج من الموصل بعد زواجه بابنة عمه سيف الدولة، ووصل آمد فكاتبه تقي ليسلم إليه ميافارقين لما كان في نفسه من سعد الدولة لما قبضه وصادره، فوصل أبو تغلب وتسلم ميافارقين في سنة ستين. وفي سنة اثنتين وستين وثلاث مائة شرعت جميلة في عمل الخندق حول ميافارقين. وكان سيف الدولة شرع فيه أولا، عند وصول ملك الروم إلى ميافارقين ولم يتمه. فشرعت جميلة في إتمامه وغرمت عليه مالا عظيما. ويقال: إن ذلك المال أصله أن رجلا من التترابين كان ينقل التراب من ظاهر البلد من عند باب الهوة، من عند مسجد الدكة، فحفر يوما، فهوي به إلى هوة فوجد فيها مالا عظيما. فقصد جميلة - أخت الأمير سيف الدولة وزوجته - وأعلمهما بالمال، فسيرا من حمله، فكان شيئا كثيرا. فقالت: ما إلي هذا المال حاجة، فغرمته على الخندق. وأما زوجة الأمير فأنفقت نصف المال الباقي على سور الربض، ولم يريا أن ينفردا بالمال، بل أنفقاه على مصالح البلد. ولقي الناس من أخت الأمير وزوجته كل خير من المراعاة والإحسان، وحسن النظر في أمر الرعية ومصالح البلد. ذكر ولاية عضد الدولة ديار بكر وديار ربيعه " وفي سنة سبع وستين وثلاثمائة قصد أبو شجاع فنا خسرو بن ركن الدولة أبي علي بن بويه الموصل ونازلها وأخذها من أبي طاهر وأبي علي ابني ناصر الدولة ". وملك ديار ربيعه بأسرها، وصعد بطلب أبا تغلب إلى الجزيرة فقصده عضد الدولة فانهزم إلى بدليس فملك الجزيرة ونفذ في طلبه عسكر إلى بدليس فانهزم وصعد إلى خلاط ودخل إلى بلاد الروم وقصد قاليقلا وهي - أرزن الروم - وخرج منها إلى حصن زياد فلحقه العسكر الذي سيره عضد الدولة وعليه زياد أبو الوفاء فحاربه ودخل في ملطية. وقيل: ظفر به وأسره في صفر سنة تسع وستين وثلاثمائة ونفذه إلى عضد الدولة فقتله في ثاني عشر صفر منها. وعاد أبو الوفاء بخيله ورجله فنزل على ميافارقين، وحوصرت مدة وأخذت الحصون التي حولها. وأخذت أرزن في ثلاثة أيام. " ونصبت المجانيق على ميافارقين مدة ثلاثة أشهر. وجد هزار مرد - نائب أبي تغلب - وكان صاحب أبي الهيجاء بن حمدان. وكان شيخا مجربا، شهما من الرجال في حفظ البلد ". - وكانت جميلة بميافارقين تدبرها مع هزار مرد - " واشتد القتال، وجاء الشتاء، وكثرت الأمطار والثلوج ومات هزار مرد فنفذ أبو المعالي إلى ميافارقين حاجبا له يسمى يونس. وكان شجاعا بطلا خاصا عنده، فوصل إلى ميافارقين، وتوصل حتى دخل البلد ". وكانت جميلة لما مات هزا مرد قد أحضرت أهل البلد، والقاضي أبا الحسين محمد بن علي بن المبارك، وكان يعرف هذا البيت بيت " ابن أبي " إدريس فقالت له ولأهل البلد: هذا قد مات، وأنتم أهل البلد، ويجب عليكم حفظهّ! فشرعوا في حفظ البلد، وقاتلوا ورتبوا ما احتاجوا إليه، إلى أن وصل يونس إلى ميافارقين. " وتساعد جميع أهل البلد ويونس على مصالح الناس. وكاتبه أبو الوفاء وخاطبه، فأبى إلا القتال والمنازلة " فبقي مدة. وكان في البلد رجل متقدم من أهل البلد يسمى أحمد بن عبيد الله الفارقي وكان أهل البلد يرجعون إلى قوله، فنفذ إليه أبو الوفاء سرا وطيب قلبه، ووعده بالجميل ولأهل بيته ولمن يلوذ به. وكان هذا الرجل صهر القاضي المذكور، وكان بينهما مصاهرة الأهل، فاجتمع بالناس وتحدث معهم، واستوثق منهم، واستظهر بهم. ثم إنه من الغد حضر عند القاضي ومعه جماعة فشكوا ما هم عليه من المضايقة والحصار، فقال القاضي: " وأين صبركم وجَلَدُكم؟! فبعد ما أكلتم الكلاب، ولا أكلتم أولادكم. ولامات منكم مائة في يوم واحد من الجوع!! وكم هي مدة الحصار؟! ". فقال له أبو الحسن أحمد بن عبيد الله المذكور: يلقى الناس هذا جميعه حتى تكون أنت صاحب البلد؟! لا كرامة ولا عزازة!!. ثم صاح بالناس وخرج ومعه أهل البلد، فثاروا على يونس ومن معه. " ووقفت الصيحة وفتحوا الباب ودخل أبو " الفتح " المظفر بن " محمد " الحاجب إلى ميافارقين يوم الجمعة تاسع عشري صفر من سنة تسع وستين وثلاثمائة. وكان الحصار في آخر سنة ثمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وقُبض على يونس والقاضي وحُملا إلى عضد الدولة، وقيل: ضُربت رقابهم بميافارقين على الباب، وهو صحيح. وانهزم الغضنفر أبو تغلب وأخته جميلة إلى الرحبة ومن كان معهم من النساء. وسار أبو الوفاء إلى آمد وحاصرها إلى أن فتحها بعد جهد جهيد وقتال شديد. هذا آخر كلام أحمد بن يوسف بن الأزرق صاحب تاريخ ميافارقين وآمد ". ذكر ملك باد الكردي ميافارقين وآمد لم يذكر ابن الأزرق باد الكردي ولا أنه ملك ميافارقين ولا آمد ولم يجرِ له ذكراً. قال ابن الأثير: وفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، " قيو أمر باد الكردي واسمه أبو عبد الله الحسين بن دوستك، وهو من الأكراد الحُميدية، وكان في ابتداء أمره، كثير الغزو لثغور ديار بكر، وكان عظيم الخلقة ذا بأس وشدة ". فلما مات عضد الدولة في السنة الخالية استفحل أمره وقوي واجتمع إليه عالم، وقصد آمد وميافارقين وملكهما وديار بكر ولم يزل مالكا لها إلى أن دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة. ولما ملك آمد وميافارقين ولى من قبله أبا علي الحسن بن علي التميمي ولم يزل عليهما مدة ملك باد الكردي لديار بكر إلى أن جرت معه وقعة بين باد وبين صاحب الموصل فقتل فيها. واستمر أبو علي الحسن بن علي التميمي " في " ديار بكر. ذكر ابتداء ملك ابن دمنة آمد قد تقدم القول أن آمد وميافارقين كان بهما جماعة من الخراسانية والديلم، وأنهم كانوا يؤذون الناس، وينظرون إلى أخذ أموالهم، والتعرض لحريمهم، ويسيئون العِشرة معهم، والحسن التميمي مساعد لهم على ذلك. وكان الديلم يجتمعون تحت قبة بالسوق، فاتفق أن خرجت امرأة من حمام الحطابين فوثب واحد من جماعة الديلم سكران. فجذب المرأة وقبلها، فصاحت واجتمع الناس وخلصوها منه. ومضت إلى زوجها، وكان قصابا، فأعلمته بالحال وقالت: إما أن تكونوا رجالا وتحمون النساء، وإلا فألزموا البيوت وكونوا نساء. وأنا فقد حفظت نفسي، فإن كان فيكم نخوة فستظهر. وكان بآمد شيخ يُعرف بعبد البِّر، وهو شيخ البلد، يُرجع إلى رأيه. فاجتمع جماعة من أهل البلد وقصدوا الشيخ عبد البر وشكوا حالهم إليه. فأشار عليهم بقتل أبي علي الحسن التميمي، فقالوا: كيف السبيل إلى قتله؟. قال: إذا دخل الدركاه بالقصر فانثروا عليه الدراهم، واقصدوا بها وجهه، فسيستر وجهه عند ذلك، فثبوا عليه حينئذ وقتلوه. فلما دخل القصر فعلوا ما قال لهم، ونثروا عليه الدراهم، وقصدوا بها وجهه، فجعل يستر وجهه فوثبوا عليه. وكان فيهم رجل يُعرف بابن دمنة حمالا، وكان ذا بأس ونجدة، وقوة نفس، فهجم عليه وباشر قتله وحز رأسه ورمى به إلى جماعة من الديلم، فلما عاينوا الرأس انهزموا وقصدوا ميافارقين وقال عبد البر - شيخ البلد - عند ذلك: يا أهل آمد! أنا قد قتلته لكم، فمن أطاعني كنت له، ومن عصاني فالأمر إليه. فلما رأى أهل البلد ذلك حاروا، وأجاب الجميع بالسمع والطاعة فاستحلفهم واستولى على آمد، وقبض ما بها من الخزائن، وعلا شأن ابن دمنة عنده إلى أن زوجه بابنته. وأما أصحاب التميمي فإنهم لما وصلوا إلى ميافارقين لم يخف على النائب بها أنهم خائفون، فأنكر ذلك، وقال لهم: لا يكون الأمير قد عدم، فإن كان حيا فالبلاد بلاده، وإن كان قد عدم عملنا رأينا. ذكر قتل عبد البر وتمليك ابن دمنة وأما ابن دمنة فإنه واقعه الحسد لعبد البر لكونه كان هو المباشر للقتل، والأمر والنهي لغيره. فاصطنع لعبد البر دعوة ودعاه إليها، وأعمل الحيلة إلى أن قتله وخرج إلى أهل البلد برأسه وقال لهم: إن هذا الشيخ كان قد عزم على قتلي وقتل أكابركم، وقد بدأت به وقتلته. ورمى برأسه إليهم، فلما رأوا الرأس أجابوه بالسمع والطاعة. فاستحلفهم وفتح الخزائن وفرق الأموال، وأحسن إلى أهل آمد وعمرها وحصنها وحسنها. وكان المعتضد لما حاصرها هدم من شراريفها مواضع، فعاد ابن دمنة رمّها وعلّى سورها. ومن عجائب الاتفاقات أن ابن دمنة كان أولا حمالا وأنه حمل يوما كارة حنطة، ودخل بها بين السورين، فتركها عن ظهره وجلس يستريح فجعل ينظر إلى السور وما هو عليه من حُسن العمارة والحصانة وإحكام البناء فقال: ما أحسنه وأحصنه؟! لولا قِصرٌ فيه، لئن ملكني الله هذه المدينة لأزيدن في سورها ارتفاع قامة. فاتفق أن الله ملكه البلد فوفى بنذره وزار في ارتفاع السور، والزيادة ظاهرة إلى الآن تُرى به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 واستولى ابن دمنة على آمد وميافارقين وكاتبته الخلفاء العباسيون والمصريون، وأتته هداياهم وتواقيعهم وهدايا الملوك من جميع النواحي، وأعطى الجزيل من الأموال، وسار ذكره، فقصدته الشعراء وامتدحته، وقصده التُهامي وامتدحه. وكان إذ ركب يُقاد بين يديه سبعون جنيبا بمراكب الذهب المرصعة بالجواهر، وقوي أمره وعظم شأنه. وكانت ولايته ثماني وعشرين سنة، ذكره أحمد بن يوسف ابن علي بن الأزرق - صاحب تاريخ ميافارقين -. وذكر ابن الأثير، أن ولاية ابن دمنة كانت ثلاثا وعشرين سنة. ذكر تمليك أبي علي بن مروان كان السبب في ذلك أن أهل آمد وميافارقين أنفت أنفسهم من ولاية ابن دمنة عليهم، فكاتبوا أبا علي بن مروان، وكان إذ ذاك بحصن كيفا فوصل إليهم، فملكوه آمد وميافارقين ورأى من أهل ميافارقين جفاء في حقه. فتربص بهم إلى أن كان يوم العيد، وقد خرجوا إلى المصلى، وكان يف البلد شيخ يرجع أهل البلد إلى رأيه فقبض عليه وقتله ورمى برأسه من على السور، وغلق الأبواب البلد وقال لمن كان خرج إلى الصلاة: اذهبوا حيث شئتم. ذكر ملك ممهد الدولة أبي منصور بن مروان لما ملك أبو علي بن مروان البلد وغلق أبوابه على من خرج من أهله للصلاة يوم العيد. لم يكن أسرع من أن وصل ممهد الدولة أبو منصور بن مروان فملك ميافارقين واستقر بها، وملك آمد وجميع ديار بكر وقوي أمره، وراسل الملوك وخليفتي بغداد ومصر، وجاءته التوقيعات والتشاريف من الملوك. وعمر بسور ميافارقين مواضع عديدة. قال ابن الأزرق - صاحب تاريخ ميافارقين -: ولقد عددت اسمه في اثنين وعشرين موضعا من أبرجة وبدنات. " وانهد برج باب المدينة، وهو بين برجي الطبالين، إلى أن عمل هذا البرج، فلما فرغ ركب عليه بابا، وغلق باب قلوفح ". وبقي الممهد متوليا إلى سنة إحدى وأربعمائة. ذكر قتل ممهد الدولة وملك شروة كان هذا شروة متوليا أموره، وكان قد قربه قربا زائدا، وأحبه محبة عظيمة، بحيث إنه أطلعه على نسائه، وحرمه، حتى قال له يوما: روحي دون روحك يا أب شجاع، ويومي قبل يومك. وكان لشروة غلام يُسمى ابن فيلوس وكان يحبه محبة زائدة. وكان قلده الشرطة. وكان الممهد شديد البغض لهذا ابن فيلوس لا يستطيع أن يراه، وهمَّ بقتله مرارا " ثم " كان يُحفِظُ فيه قلب شروة. " وعلم ابن فيلوس منه ذلك فخلا يوما مع شروة " وقال له: أنت تعلم ما أنا عليه من المحبة والمناصحة لك، ومع هذا فإن حياتي مقرونة بحياتك، وأُعلمك أن رأي الأمير قد فسد فيَّ وفيك. وهذا التقريب الذي تراه منه خديعة ومكر إلى أن يتبين له وجه الفرصة ثم يبطش بنا. فقال له شروة: فما الرأي؟ قال: قتله، وتأخذ لنفسك، وإلا هلكنا. فقال له شروة: ما يراني الله أن أغدر به، ولا أنقض عهده! وله عليَّ من الإحسان ما قد عرفه الناس وقد أطلعني " على " حرمه. فقال له: إن مهجتك أحب إليك من قربه ومحبته، فهما خديعة. ولم يزل يردد هذا الكلام في نفس شروة إلى أن أثبته في نفسه. فدسَّ إليه السم مرارا فلم يقدر الله تعالى عمله فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وكان الممهد أعطى لشروة حصن الهتاخ وكان مطلا على مستنزهات. وكان الأمير يخرج إليه أيام الربيع، فيقيم به أياما يتصيد ويتنزه ظاهره. فلما أن جاء الربيع جاءه شروة في الصيد والأكل والشرب. وحمل إليهم ابن فيلوس شيئا عظيما من الإقامة. فجلسوا يوما للشرب، فرتب ابن فيلوس على الباب جماعة من الجند، وأمرهم ألا يُمكِّنوا أحدا من الدخول إليهم، وأقبلوا على الأكل والشرب، والأمير متوفر على مسرّته، ويحلف على شروة بالجلوس، وهو يقبل الأرض ولا يفعل ويناوله القدح ويشرب بيسارة. وكلما سكر واحد من الجماعة من بني عم الأمير وأصحابه قد أخذه شروة وأخرجه كأنه يمضي به إلى منامه، فقبض عليه ويُريه أن هذا برأي الأمير، إلى أن لم يبق غير المغنين وثلاثة نفر وخادم على رأسه يسمى شرقا. فلما ظهر السكر في وجهه قال له شروة: إن رأى مولانا أن ينهض إلى منامه. فقال: قد بقي لي هذا القدح، أشربه أنا وأنت بحياتي عليك!! قال: السمع والطاعة، فشرباه. ثم انتقل الأمير إلى مجلس منامه وأذخ الخادم رجليه في حجزه يغمزها فقال ابن فيلوس لشروة: قد أمكنتك الفرصة وهذا وقتك!! فقال: والله ما تطاوعني نفسي على ذلك، فقال له: لابد من ذلك وإلا هلكنا جميعا. فقال شروة: أنا لا أفعل ولكن إذا أردت أنت فافعل. فدخل ابن فيلوس وبيده سيف مجرد فأحس به الأمير فقال: ما دخولك في هذا الوقت؟! فقال: دخلت إلى الخدمة فقال: اذهب ولا تعد فوقف موضعه، فوثب الأمير يطلب سيفه، وكان لا يفارقه فلم يجده، فقال: ياشروة! أين السيف؟ فوثب شروة وأخذ السيف وضرب به الأمير حلَّ عاتقه فقال: ياشروة عملتها عليَّ! واتبعت غرض ابن فيلوس ولاله لا أفلحت بعده!. ثم قبضوا على الخادم وأيقظ شروة من يأمنه من الجند وأعلمهم بما جرى، واستحلف الخادم وأطلقه، وأطلق من الجماعة من وثق به، وسار في باقي ليلته إلى ميافارقين مجدا، فوصلها وقت السحر. وكان الحراس بها والحفّاظ لا يفتحون الباب إذا عاد الأمير في مثل ذلك الوقت حتى يعاينوا الخادم، فلما وصلوا صاحوا إليهم الخادم فنزلوا وفتحوا الباب ودخل شروة وابن فيلوس وبين أيديهما المشاعل والجند. فلما لم يروا الأمير مسكوا شروة وألقوه عن فرسه، فعاد عليهم ابن فيلوس وقتل منهم ثلاثة نفر، ودخل شروة وأصحابه وابن فيلوس البلد ونزلوا بقصر بني حمدان، وكان الممهد نازلا به، واستولى على الخزائن. وسير من الغد سرية، فيها خمسمائة فارس، ليقبضوا على الأمير أبي نصر - أخي الأمير - بإسعرد. وكان لما قُتل الأمير أبو علي مع أخيه أبي منصور غائبا. فلما عاد وملك الممهد وبقي عنده مدة، فقال له يوما: يا أخي رأيت البارحة كأن القمر وقع في حجري. فقال له: هذه الرؤيا تدل على أنك تملك الملك فلا تُريني وجهك وأعطاه أسرد فتوجه إليها، ولم يرَ أخاه مدة حياته. وكان أخوه إذا عوتب في أمره يقول: رأيت في منامي كأن الشمس سقطت في حجري، فوثب أخي فناهبني إياها وأخذها من حجري فمالي قُدرة على رؤيته. وكانت الحنطة يومئذ يساوي الجريب عشرة دنانير، فقال الأمير أبو نصر: اللهم إن مُلكت الملك لأتصدقن كل يوم بجريب حنطة في الجامع. وكانت ولاية الممهد أربع عشرة سنة، من سنة سبع وثمانين وثلاثمائة إلى إحدى وأربعمائة. ذكر ولاية نصر الدولة أبي نصر بن مروان ولما سير شروة السرية لقبض الأمير أبي نصر بأسعرد نفذ فتسلم جميع الحصون بخاتم الأمير. ونقذ سرية مع عبد الرحمن بن أبي الورد الدنبلي إلى أرزن، وكان بها رجل شيخ متقدم يسمى خواجا أبا القاسم. وكان أعجميا من إصبهان من مدن ولاية الأمير علي " و " الممهد. وكان ذا رأي وعقل وتدبير، فحضر عبد الرحمن عنده، وتحدث معه ومع أصحابه، فلم يقدر أن يسند منهم أحدا. ثم إنهما خرجا إلى الصيد، فانفرد خواجا أبو القاسم فرأى رجلا مجدا، فلحقه وقال: ما وراءك؟!. فقال: إن شروة قتل الأمير وملك ميافارقين وقد مسك الطرقات لئلا يشيع الخبر. وقد سير سرية لقبض الأمير أبي نصر وأنا ماض أعلمه بذلك. فوجم خواجا من ذلك، وعاد إلى عبد الرحمن وخدعه إلى أن صعد القلعة، فندم عبد الرحمن على تمكينه من صعود القلعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وكان " خواجا شيخ العشائر ومدبرها قدر باد ولاء. وكان " مقدما في الأكراد، موسوما بالشجاعة، فحين حصل بالقلعة شق ثيابه وجمع الناس، ونفذ إلى الأمير أبي نصر فقال له: تعطي الحيل أعنتها إلى أرزن وتبادر بالسبق فوصل إليه من غدوه فأعلمه بالحال، وأقام بأرزن إلى أن عبرت خيل شروة في طلبه، فلما علموا أنه قد حصل في قلعة أرزن وأمن على نفسه، عادوا إلى شروة وأن خواجا اجتمع بالأمير وعرفه الحال، وأنه له وبين يديه. وأحضر خواجا أبا الأمير - مروان - وأمه من تربة الأمير أبي عليّ وتحدث معهم، وحلف بين أيديهم أنه لا يخالف أمره، وأحضر القاضي والشهود واستوثق منه بين أيديهم. فلما وثق منه خرج وجمع الأكراد والعشائر. ونادى بثأر الأمير أبي منصور فأطاعته العشائر بأسرها، وحلفوا ألا يعودوا دون قتل شروة ولا يطالبوه بعطاء إلى أن يملك البلاد. فسار في خلق عظيم وكبس الربض وقتل خلقا عظيما، وأخذ أموالا عظيمة لا تحصى كثرة، وانهزم عسكر شروة وغنموا ما كان معهم وقتلوا منهم خلقا وعادوا إلى أرزن. وكان مقدم العساكر خواجا أبو القاسم، والأمير مقيم بأرزن فأطلق لهم جميع الغنيمة، وحكم لأبي القاسم في بيوت الأموال فأعطى الناس. وخرج ثانية بنفسه وجميع العشائر وخواجا، ونزل على أربعة فراسخ من البلد، فأقام هناك. فندم شروة على ما كان منه " لأنه " كان قد أساء إلى جماعة من أهل البلد، فعاد أحسن إليهم. فأشار عليه ابن فيلوس بمكاتبة ملك الروم فنفذ إليه هدايا وتحفا، فسمع بذلك أهل البلد فكرهوه، ولعنوا شروة وابن فيلوس فكانا يسمعان لعنتهما. ثم إن شروة جمع ما كان عنده من الأموال والجواهر في صناديق. وكان بينه وبين أبي طاهر بن دمنة محبة ومودة فنفذ إليه وقال له: إما أن تسير إلي وإما أن تنفذ لي ثقتك، فنفذ له حاجبه وصهره على ابنته القائد مرتج فسلم إليه تلك الأموال على سبيل الوديعة بعد ما أراه إياها قطعة قطعة، وكيسا كيسا، وزنا وعينا ووصفا، وحملت الأموال إلى آمد. وحلف له ابن دمنة وحلف شروة أيضا أنهما يكونان يدا واحدة ... فمضى شروة إلى آمد واستوثق منه، وعاد إلى ميافارقين وثبت في قلوب الناس أن شروة معول على تسليم البلد إلى ملك الروم، والإيقاع بهم يوم الجمعة عند الصلاة. " فلما كان يوم الجمعة حضر ابن فيلوس، ومعه خلق عظيم فلم يشك الناس، وكانوا وجلين من نوبة الأمير " أبي " علي ويوم العيد فثاروا عليه فانهزم منهم فطلبوه. فرموهم الكرج بالنشاب فقتل منهم جماعة وخرج شروة، وسكن الناس فقاتلوه فدخل القصر وفتح الخزاين وفرقها على الجند، وقاتل، وقتل من الفريقين مقتلة عظيمة، وانهزم شروة وقتل ابن فيلوس وجر الصبيان جثته في أزقة المدينة ومثلوا به، ونجا شروة فتحصن ببرج الملك واستصرخ بمشايخ البلد فجاءوا إليه فاستأمنهم فأمنوه، وتوسطوا أمره مع الأمير أبي نصر فنزل إليهم واستحلفهم في دار رجل منهم كان مقدما مسموع الكلمة يسمى أبا الطيب محمد بن عبد المجيد ابن المحور، وهو جد أب شيخ الشيوخ أبي الحسن علي بن المحور، فاجتمعوا عليه مدة ثم اختلفوا، فنهاهم فلم ينتهوا، وهدموا القصر العتيق ونهبوا ما فيه واستولوا عليه، وكتبوا إلى الأمير أبي نصر أن يحضر إليهم فحضر وطالبهم بتسليم البلد وشروة فلم يفعلوا، وقالوا: فَدْ أمّنّاه على نفسه وماله. ووقع الخلف بينهم فنهاهم الشيخ أبو الطيب بن المحور فلم يقبلوا، فأخرج نفسه من بينهم، وانفرد في داره وقال: لا أدخل فيما أنتم فيه، فقدموا رجلا آخر يُعرف بابي طاهر بن الحمامي، وكان ممن يُرجع إلى رأيه مدة، ثم رأى خُلفهم، فانعزل عنهم. فرجعوا إلى شيخ منهم من مقدمي السوق، يسمى أحمد ابن وصيف البزاز، وكان من الشهود. وكان له صديق يعرف بابن " أبي " الريحان، وكان له أتباع فأحضره، واتفقا كلاهما، وشرعا في حفظ البلد، والنظر في أحوال الناس وقويت يده، واسترجع بعض ما نهب، وحصَّل مالا عظيما. ثم إن الأمير أبا نصر أوقع بالناس القتال، وجدَّ في حصار وقطع الميرة، وضايق البلد مضايقة شديدة، فخاف ابن وصيف أن يستجيب العامة للأمير أبي نصر ويبقى هو العدو. فراسل الأمير أبا نصر يطلب أيمانه وأيمان خواجا أبي القاسم، وشرط لنفسه ما أراد، واستظهر بما أمكنه فأجيب إلى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فلما وثق من الأمير جمع المشايخ إلى الجامع وقال لهم: إلى متى ما نحن فيه؟ قد خربت بيوتنا وأملاكنا، وبطلت مكاسبنا، وطال هذا الأمر، ومالنا من نستند إليه، وأمير فما يجيء منا، وقد انقلعنا في هوى من؟!. قالوا: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تُصلح أحوالنا ونكاتب الأمير وخواجا في هذا الأمر، ونخاطبه في شروة ونسأله العفو عنه. فإن فعل وإلا فيتلف نحن بأسرنا. فقالوا الأمر إليك. فاتفقوا. فخرج منهم " جماعة " إلى الأمير فأكرمهم وكتب لهم الأمان على كل ما طلبوه، وأمّن شروة، ودخلوا البلد وباتوا وأصبحوا وفتحوا أبواب البلد بأسرها. ودخل الأمير أبو نصر وخواجة والعساكر ونزل الأمير في دار شروة لأن قصر الإمارة كان قد خرب ونزل إليه شروة من برج الملك. وكان دخوله البلد آخر سنة إحدى وأربعمائة ونظر في أمور لناس. واستوزر خواجا أبا القاسم لا يصدر إلا عن رأيه. وطرد أقواما مفسدين من الجند، وهرب من خاف من الباقين. وولى أبا الحسن " أحمد " بن وصيف ناحية طنزى وتل فافان، ونفذه إليها. وبقي مدة ثم قبض على شروة ونفذه إلى الموضع الذي قُتل فيه الممهد وصلبه هناك وجماعة من المفسدين، وأخلى ميافارقين ممن كان يرى رأي شروة وممن طلب الفساد. " وحمل تابوت الأمير أبي منصور إلى أرزن إلى قبة الأمير أبي علي - وكان مروان قد عمي، وهو وزوجته مقيمان هناك - فدُفن عند أخيه في القبة. ولم يُعقب الممهد. ولما قُتل شروة انهزم ابن وصيف من تل فافان وقصد بغداد وأقام بها. " واستقر ملك الأمير أبي نصر ولُقب بنصر الدولة واستولى على جميع ديار بكر، وراسلته الملوك. ونفذ ابنُ دمنة إليه صهره مرتج إلى ميافارقين ومعه هدايا وتُحف، وألطاف. ودخل تحت حكمه، على ما كان مع أخيه ممهد الدولة من الحطبة والسكة، وحمل ما جرت به العادة ". " وأن نصر الدولة أراد أن يُعمر قصره يسكنه. فعزم على عمارة القصر العتيق فأشاروا عليه أن يعمر القلعة على رأس التل ويكون القصر فيها فعزم على ذلك. فأشار خواجا أبو القاسم أن يعمر القصر موضعه الآن، وأن يكون برج الملك تحت حكمك. ويكون من جملة القصر. فابتدأ في عمارته في سنة ثلاث وأربعمائة ". واسمه مكتوب على باب القصر الوسطاني. " وبنى المنظرة العتيقة. وغرس بستان القصر وقيل: كان في موضعه بيعة، وكان بعض دار السيدة بيعة ونقل شاهدها إلى بيعة الملكية ". " وساق الماء إلى القصر من رأس العين وعمل البرك والحمامين في القصر ". وعند فراغ القصر، وهو آخر سنة ثلاث وأربع مائة - قبل العيد الكبير بثلاثة أيام -. ووصل خادم من خداع الخليفة القادر بالله ومعه حاجب من فخر الملك ابن بويه يسمى أبا الفرج محمد بن محمد بن مزيد. ووصلته الخلع، والمنشور بديار بكر جميعها، ولقب بنصر الدولة وعمادها ذي الصرامتين. وكانت الخلعة سبع قطع: قباء، وفرجية، وعمامة سوداء معممة، وطوق، وسوارين ذهب مرصعة، وسيف محلى، وفرس بمركب ذهب والتوقيع بجميع ديار بكر وقلاعها وحصونها. وليس الأمير الخلع. وقرئ المنشور بحضرة القاضي والشهود، وأكابر الناس. وفي عشية ذلك اليوم وصل رسول خليفة مصر الإمام الظاهر لإعزاز دين الله - وكان ولي بعد أبيه الحاكم - وورد معه الخلع والتحف والهدايا. وخرج إلى لقائه كل من في الدولة ". " فلما كان في اليوم الثالث، بكرة ورد رسول ملك الروم ومعه من النقود، والجنايب، والهدايا، ما لم يسر مثله ". " وأصبح اليوم الرابع العيد، وجلس الأمير نصر الدولة على التخت. وحضر رسول الخليفة ورسول السلطان فجلسا عن يمين نصر الدولة ورسول خليفة مصر، ورسول ملك الروم فجلسا عن الشمال. وحضر جميع الناس، والأمراء، وقرئ المنشور، وكان يوما مشهودا، خلع فيه الأمير خلعا عظيمة ". وكان ذلك كله برأي خواجا - الوزير - ومشورته. " وكبر شأن نصر الدولة وتقررت مملكته، وفعل الخير، وعدل في الناس ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وكان قد تهدم من السور مواضع عديدة فبناها، ووقف على السور وقفا من ضياع وغيرها، وجعل يتصدق كل يوم بجريب حنطة إيفاء بنذره الأول في سنة ثمان وأربع مائة، ثم إنه أفكر وقال: ربما أشتغلُ في بعض الأوقات فلا أكون قد وفيت بنذري فأحضر الشيخ أبا محمد الحسن بن محمد بن عبيد بن المحور، وكانت الأوقاف تحت يده وقال له: تجلس في الديوان عند خواجا أبي القاسم وتفرد ضيعة يكون دخلها ثلاث مائة وستين جريبا حنطة، حتى أوقفها على الفقراء والمساكين، فوقع اختيارهم على قرية العطشا - غربي ميافارقين - فوقفها نصر الدولة على الفقراء والمساكين. فكان مغلُّها في كل سنة إلى صحن الجامع، ويتصدق به مدة ولايته، وهي باقية إلى الآن، فلعنة الله على من يصرفها لغير مستحقيها، وفي غير وجهها. " وفي سنة أربع عشرة وأربع مائة بني نصر الدولة البيمارستان من ماله، بتولي أبي سعيد الحارث بن بختيشوع " ووقف عليه الضياع، وأقام به المرضى. وكان قد انهدم جامع الراضي فجدده وبنى منارته. " وتزوج بنت فضلون بن منوجهر - صاحب أرمينية الكبير وأران جميعها - ورزق منها الأمير سعيد والأمير شاهان شاه - وهو الأكبر - والأمير أبا الحسن ". " ثم تزوج السيدة بنت معتمد الدولة قرواش بن المقلد وبنى لها دار السيدة - إلى جانب القصر - ". " ثم اشترى جارية كانت لرجل يعلمها الغناء يُّسمى الفرج فلما سمع بها بالغ في ثمنها، إلى أن اشتراها، فلما وصلت إليه اشتغل بها عن جميع نسائه. فخرجت الفضلونية إلى بيت أبيها على سبيل الزيارة، فلم ترجع، وبقي الأمير سعيد عند أبيه، وماتت هناك ". " وفي سنة خمس عشرة وأربع مائة وصل مُرتج من عند ابن دمنة من آمد، ومعه الحمل، والتحف والهدايا على العادة، وكان صهر ابن دمنة - على ابنته - فطلب من الأمير خلوة، فلما خلا به قال له: هل لك في آمد؟ قال: نعم فقال مرتج: تحلفُ لي على ما أريد؟ فاستحلفه على أملاك ابن دمنة وأمواله، وألا يقبل فيه قول أحد من الناس، فحلف واستوثق منه. وكان مرتج قد حصل له آمد وأملاكا كثيرة، ومالا عظيما، وكان ابن دمنة يحسده على أملاكه، فخاف مرتج منه ثم عاد إلى آمد. واستحلف جماعة على ما أراد، فلما وثق منهم تقد إلى أربعة نفر معروفين بالشهامة، ذووا البأس، وأمرهم أن يصعدوا ويطلبوا من ابن دمنة استحقاقهم، وكان مرتج ليحجب عنه، فدخل، وأولئك الأربعة معه فطالبوه - وكان على سرير لطيف - ولم يكن عنده غير فرَّاش واحد، فأغلظ لهم في الكلام، فوثبوا عليه بالسكاكين فقتلوه، فصاح الفرَّاش بالناس، فازدحم الناس في باب القصر " فدخلوا " فوجدوا ابن دمنة يخور في دمه. فصاح " الفرَّاش ": الغلمان، ودخلوا إلى البيت الذي فيه بنت ابن دمنة، وقالوا " لها " إن زوجك قد قتل أباك، فخرج أولاد مرتج، واجتمع الناس فوثب الفرَّاش على مرتج فقتله، وفتح الخزانة، وأخذ جواهر لها " قيمة "، وفتح الباب، وخرج يطلب ميافارقين. وزحفت أهل آمد إلى القصر فنهبوا ما فيه. وملك أولاد مرتج القصر والسور، ونفذوا في الحال أعلموا نصر الدولة. فركب لوقته، ومعه خواجا فلقيهم الفرّاش في الطريق فأخبره بالحال. فأخذ نصر الدولة ما كان معه من الجواهر، وعرَّفه أين هو مال ابن دمنة، ومن أخذه، وأين ودائعه، فسار إلى آمد فملكها وعاد إلى ميافارقين ". " وفي شعبان منها توفي خواجا أبو القاسم - الوزير - وقيل: في رمضان، فوجد عليه وجدا عظيما ". وكان الوزير أبو القاسم الحسين بن علي المغربي قد وصل إلى ميافارقين، " فاستوزره، ورد الأمور كلها إليه. وكان رجلا عاقلا فاضلا. قيل: إنه لم يزر لملك ولا لخليفة أكفأ منه رجلا، وسار بالناس سيرة حسنة. وبنى نصر الدولة النصرية أحسن بناء وبنى جسر الحسينية الذي على تل بنان وبنى بالنصرية قصرا حسنا على شاطئ الشط وعمل له بابا من الصفر، وهو الآن بجامع ميافارقين وعمل دولابا على شط ساتيدما. وبنى كلٌ من بني عمه وأولاده دورا، وغرسوا بها البساتين، وأقام الأسواق، وبنى الحمامات، وحصلت ميافارقين على أحسن ما يكون من العمارة. وقصد سليمان بن فهد. و" قصده " الملك العزيز بن بويه وحمل الحبل الياقوت الأحمر، وكان وزنه سبعة مثاقيل ومصحفا بخط أمير المؤمنين علي عليه السلام، وقال له: قد حملت لك الدنيا والآخرة. فأجازه بعشرة آلاف دينار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 " وفي سنة ثلاث عشرة وأربعمائة بنى جامع المحدثة والمصلى من ماله، وغرم عليه جملة كثيرة، ووقف عليه الوقوف ". وفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة توفي الوزير المغربي بميافارقين، ودفن بالكوفة بوصية منه بباب المشهد بالغري وأمر أن يُكتب على لوح عند رأسه: " يا جامع الناس لميقات يوم معلوم اجعل الحسين ابن علي من الفائزين الآمنين، واحشره يوم القيامة في جملة التوابين ". ووقف بميافارقين خزانة الكتب المعروفة إلى الآن: بخزانة المغربي. وبنى نصر الدولة حمامي العقبة ووقفهما على السور والحمام الجديد وقفها أيضا. وساق الماء من رأس العين التي في الربض إلى المدينة فانتفع الناس بها. " وكان في ولايته رجل شيخ من أكابر التجار ومتقدميهم يُعرف بأبي بكر محمد بن جُرّى فشرع في عمل قناة الجامع، فساقها من عين حنباص وأعين غيرها. وغرم عليها إلى أن وصلت إلى الجامع خمسين ألف دينار، وساقها إلى الجامع وإلى الطهارات والحمامات. وانتفع بها اعمَّ منفعة. وعبر الماء على باب داره ولم يُدخل إلى داره منه قطرة، قال لئلا يقول الناس: إنما كان هذا لأجل نفسه - رحمه الله تعالى -. " وكان أولا سمسارا، فاشترى مرة خاما أول النهار، فعد الظهر وصل قفلٌ، لمشتى خام، فباعهم إياه قبل إيفاء ثمنه، فربح خمس مائة دينار، فسمع نصر الدولة ذلك فاستدعاه فصعد إليه، ومعه الذهب، " فسأله عن ذلك، فقال: نعم وقد حملت الذهب "، ووضعه بين يديه، فقال له: والله ما قصدت هذا! وإنما أردت أن أعلم صحة ذلك وأنَّ في بلدي من كسب في يوم خمسة مائة دينار. فحلف ابن الشَّهاب، وهو ابن جُرَّى - المذكور - أنه لا يأخذها، وحلف الأمير أنه لا يأخذها. فاشترى بها قرية بالسلسة تعرف ببثق نوح ووقفها على حراس الحصون أكلّ واليمانية والجبابرة ". " ولم يصادر أحدٌ في زمانه سوى هذا الرجل الذي هو ابن جرَّى، وسببه أنه أتُهم بأن صاحب السناسنة صديقه. ووجدوا في بيته سلاحا، فاستشعر منه، فقُبض عليه وصودر، فبلغت مصادرته أربعمائة ألف دينار، وبقي لورثته ثمانون ألف دينار، من أمتعة وقماش وغيره ". " وكان قد ورد إلى نصر الدولة منجم عالم من الهند فاجتمع به، وحكم له بأشياء، ولبيته. واستدل على جميع ذلك بشيء واضح ثم قال له: يا مولانا! يخرج على دولتك بعدك بمدة رجل قد أحسنت إليه وأكرمته فيأخذ الملك من يدك ويقلع البيت ويكون السبب في خروج الملك عن ولدك. ففكر الأمير ساعة ثم رفع رأسه إلى الوزير " ابن " جهير وقال: إن كان هذا الحديث يصح فسيكون هذا الشيخ!! - عن الوزير المذكور - ثم رفع رأسه إليه، وقال له: يا أبا نصر! إن ملكت فأبق عليهم. فقبل الأرض وقال: " الله الله يا مولانا! أين أنا من هذا؟ ". وحكى من سمع من الوزير ابن جهير أنه قال: والله من ذلك اليوم ثبت في خاطري أخذُ البلاد، وسيأتي ". " وفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة عُزل القاضي أبو منصور الطوسي عن قضاء ميافارقين وولي القاضي أبو القاسم ابن القاضي أبي علي بن البغل الآمدي، وحضر معه والده القاضي أبو علي وأخوه " أبو " الحسن وابن أبي أيوب وابن بكرون وابن عقيل الخطيب وكانوا سادات آمد ومقدميها. وقرأ ابن عقيل عهده يوم الجمعة على المنبر بميافارقين وكان سبب ولايته أن أباه القاضي أبو علي كان بآمد، فاستمال أهلها بماله وكلمته. فبلغ ذلك الأمير نصر الدولة وقيل له: وأنت فما صدَّقت أن تأخذ آمد من ابن دمنة حتى يملكها ابن البغل!!. فاستدعى ابنه وولاه قضاء ميافارقين - وهو في الظاهر قاض وفي الباطن رهينة -. وكان ذلك بتوصل الوزير ابن جهير. ثم قبض على القاضي أبي علي ومات في السجن بميافارقين، وحُمل إلى آمد فدُفن بها. وفاة الأمير نصر الدولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 " وفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة في التاسع والعشرين وقيل: سلخ شوال منها، وهو اليوم السادس من تشرين الثاني مات الأمير نصر الدولة - رحمه الله - ودُفن بجامع المُحدثة، وقيل: في القصر بالسدلي إلى أن بنت ابنته ست الملك القبة إلى جانب الجامع بالميدان في سنة ست وخمسين وأربع مائة ونقلته إليها. والوزير يومئذ الكافي أبو نصر محمد " بن محمد " ابن جهير. فرتب الدولة، وساس الأمر أحسن سياسة ". وأنفذ صاحب العسكر أحضر نظام الدين بن نصر الدولة وكان أصغر من الأمير سعيد، وهو ولي العهد لعقله وسداده. وأصعده القصر. ولقيه الوزير فقبل الأرض بين يديه، وسلم عليه بالإمارة، وعزاه عن أبيه، وأجلسه على التخت. فلما اجتمعت الناس نزل عن التخت وجلس على الأرض، وحضر المُقرئون والشعراء - على العادة - ودفن الأمير ولم يختلف على نظام الدين أحد من اخوته وبني عمته، واستقر في ملكه في غرة ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. وبقي مدة. " ثم اختلف هو وأخوه الأمير سعيد، فسار الأمير سعيد إلى السلطان طغرلبك وقصده، فسير معه خمسة آلاف فارس مع أمير مقدم، فوصل إلى البلاد في سنة ست وخمسين ونزل على باب البلد وأخذ الغارة، فخرج الوزير وتحدث معه وقال: لا يكون قلع بيتكم على يديك وخوفه وقرر معه أن يحمل له مبلغا من المال، ويسلم إليه آمد. فاصطلحا على ذلك، وحمل له نظام الدين خمسين ألف دينار، وعادوا عنه ". " ودخل نظام الدين وأخوه الأمير سعيد القصر وبات هو وإياه في الحجرة الخاص. فلما كان آخر الليل أتى الأمير سعيدا خادم يسمى فروخا فأيقظه وقال له: أخوك نائم إلى جانبك، وما في الحجرة غيركما، وسيفك أنت أخبر الناس له به، فقم وأضرب عنقه وانفرد بالبلاد!!. فقال له: ويلك!! يكون هو ابن عجب - مملوكه - ويفي، وأكون ابن الفضلونية وأغدر به، لا كان ذلك أبدا!! ثم نام ساعة واستيقظ، فأيقظ أخاه نظام الدين وتحادثا إلى الصباح، ثم قاما فسار الأمير سعيد إلى آمد فتسلمها ". ذكر وفاة الأمير سعيد بن نصر الدولة وأقام بها مدة. ثم إن نظام الدين " اشترى جارية مليحة، وبقيت عنده مدة. ثم قال لها: هل لك في أن أتزوجك وتكونين صاحبة البلاد؟ فقالت: من لي بذلك؟ فقال: أريد أنفذك إلى أخي إلى آمد هدية، فإذا خلوت معه تعطيه هذا المنديل عند فراغه مما يكون بينكما. فوافقته على ذلك، وطمعت في قوله ". " فنفذها إلى أخيه، وقال له: إني اشتريت هذه الجارية، فلما رأيت ما هي من الجمال واللباقة أحببت أن تكون لك. فلما وصلت إلى الأمير سعيد شُغف بها، ولم يملك عنها صبرا، فبقيت كذلك مدة، ثم اجتمعا ليلة، فلما انفصل ناولته المنديل، فمسح به حُجره، فنزل من وقته، وبقي ثلاثة أيام ومات. فقصد نظام الدين آمد، نفذ إلى الست عزيزة وقال لها: الأولاد أولادي، وأنا لكِ، فسلمت إليه آمد فملكها " وتزوج بالست عزيزة وعاد إلى ميافارقين، ورُزق منها ولدا سماه أحمد، عاش أربع سنين ومات. " وفي سنة خمس وخمسين وأربعمائة أنفذ الخليفة القائم بأمر الله إلى الوزير أبي نصر بن جهير استدعاه إلى بغداد ليزر له، فنفذه نظام الدين ونفذ معه من الهدايا والتحف والدواب وآلات التحمُّل شيئا عظيما ". " وكانوا بنو مروان يفتخرون يقولون: وزر لنا المغربي، وزير خليفة مصر ووزر وزيرنا لخليفة بغداد "، عن ابن جهير، ولُقَّب مؤيد الدين فخر الدولة، وارتفعت منزلته. " وفيها وصل الوزير أبو الفضل إبراهيم بن عبد الكريم بن الأنبا ري إلى ميافارقين، وكان ناظرا لأبي المنيع قرواش وانفصل عنه وقصد نظام الدين فوزر له بعد ابن جهير " فبقي ثلاث سنين ومات، " ودُفن في أزجّ، غربي مشهد أمير المؤمنين علي - عليه السلام - في لحف جبل ميافارقين. واستوزر ولده عين الكفاة أبا طاهر سلامة بن إبراهيم، واستقر في الوزارة. وكان اسمه في الكفاية والتدبير ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 " وفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وصل إلى البلاد أمير يُسمى سلار خراسان ومعه خمسة آلاف فارس من عند السلطان طغرلبك فأغار على البلاد، فتلطف الوزير معه الحال على أن يحمل إليه ثلاثمائة ألف دينار ويرحل عنهم، فأجابهم، فأخرجوا إليه الأمير حسن - أخا الأمير - رهينة، ثم ركب ليدخل البلد من باب الهوة، فلما قاربه ندم واستراب وأراد العود فعلم الوزير منه ذلك، فقال: عليَّ بالأمير فضلون - أخي الأمير - والأمير بابك - أخيه الآخر - فلام حضرا أضافهم إلى الأمير حسن فطاب قلبه عند ذلك ". ذكر قتل سلار خراسان واخوة الأمير لما حصلت اخوة الأمير الثلاثة تحت يده " طاب قلبه ودخل البلد، فلما حصل في القصر لم يدخل معه من أصحابه غير عشرة نفر، فجلس. ثم إن الأمير اجتمع بالوزير وقال: ما الرأي؟ فقال: قبضُهُ. فقال: اخوتي معه، قال: هم أشد عداوة لك منه، وتشتري بهم ديار بكر. فقبض عليه، فقال: غدرتم؟ قالوا: نعم! فقال: لا إله إلا الله، أخذ أعدائه بأعدائي!!، واختبط عسكره وأخذ أخوي الأمير فضُربت رقابهما على الدكة وأخذ الآخر، فشُد في ذنب مهر وأُرسل، فبقي يومين، ووقع به بعض الفلاحين فخلصه وعالجه فبرئ وعاش، ويقال: هو فضلون. ثم خرجوا فنهبوا العسكر، واستغنى الناس وأُخرج سلار خراسان فضُربت رقبته، وخمسة نفر من أصحابه ". واستقر نظام الدين في الإمارة، والوزير أبو طاهر بن الأنباري إلى سنة إحدى وستين وأربعمائة. ذكر قصد السلطان ألب أرسلان بن السلطان جغري بك الشام والسواحل " وفي هذه السنة قصد السلطان ألب أرسلان بن السلطان جغري بك الشام وفتح السواحل بعد وفاة عمه في سنة خمس وخمسين وأربعمائة. فنزل بالحرشفية وأخرج له نظام الدين الإقامة والجمال. ودخل خواجا نظام الملك ميافارقين، فأنزله الأمير بالقصر، وبالغ في إكرامه. وخرجت الست عزيزة والست زبيدة والست زينب - زوجة الأمير وأختاه - فدخلن على خواجا فضمن لهن الجميل وقال: والله لأخرجنه من ميافارقين أميرا وأعيده سلطانا فخرج معه إلى الحرشفية ". " ولقي السلطان فأكرمه، وقاد له الجنائب وأعطاه أموالا كثيرة، وخلع عليه وعلى الوزير ورده إلى ميافارقين. ذكر خروج عساكر الروم وكسرهم " لما عاد نظام الدين من خدمة السلطان ألب أرسلان إلى ميافارقين وصل الخبر بأن الروم قد خرجت وقاربت خلاط فسار السلطان طالبا للعراق. فوصل إليه القاضي ابن مرد وجماعة من البلاد يعلمونه بوصول الروم، فقال: أرجع إلى العراق وأجمع العساكر وأعود فقالوا له: الله الله يا مولانا!! إلى أن تصل العراق قد ملك العدو إلى أذربيجان، فعاد من الموصل وصعد خلا، وترددت الرسل بينهما. وكانت الروم خلقا لا يحصى يقال: إنهم كانوا ثلاثمائة ألف. وكان المسلمون أقل من عشرهم، فنفذ ابن المحلبان رسولا إلى ملك الروم فقال له: أخبرني: أيهما أطيب إصبهان أو همذان؟ وفي أيهما المقام أطيب؟ فقد قيل لي إن همذان شديدة البرد. فقال: هو كذلك. فقال: نُشتِّي نحن بإصبهان وتشتي الكراع بهمذان. فقال له: أما الكراع فيشتي بهمذان صحيح. وأما أنت فلا أعلم ذلك!! ثم عاد. فلما كان يوم الجمعة ضايق السلطان الوقت إلى أن حانت صلاة الجمعة فركب وأمر الناس بالحملة فقالوا: مالنا طاقة بهذا الجم الغفير، فقال السلطان: اليوم الجمعة، وفي هذه الساعة ليس في الإسلام منبر إلا ويقال عليه: اللهم انصر جيوش المسلمين، فلعل الله أن يستجيب من واحد منهم، وحمل على الروم وكانت الكرة للمسلمين. فقتلوا خلقا عظيما، وغنموا ما لا يحصره العدد. واقتسم الذهب والفضة بالأرطال، واستغني أهل خلاط من ذلك اليوم. وكانت في سنة ثلاث وستين. ذكر وفاة السلطان ألب أرسلان وفي سنة خمس وستين وأربعمائة توفي السلطان ألب أرسلان بن السلطان جغري بك بإصبهان، وولي ولده ملك شاه. ولم يُر سلطان أعدل منه. وفي سنة ثمان وستين وأربع مائة مات القاضي أبو نصر بن جرجور بميافارقين فجأة، وانتدب لقضائها جماعة، ووقع الاختيار على رجل من أهل إسعرد يسمى محمد ويُكنى بأبي بكر بن علي بن صدقة لنيابة الحكم وعناية الوزير. ذكر وفاة الأمير نظام الدين وبقي نظام الدين في الإمارة مستقرا، وكان خفيف الوطأة، كثير الإحسان، عادلا. ولم تر ميافارقين أعمر ولا أحسن ما كان في أيامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وعمّر في سوري آمد وميافارقين مواضع عديدة. وبنى الجسر في أول ولايته - كما تقدم -. " وبقي نظام الدين إلى سنة اثنتين وسبعين وأربع مائة ومات في ميافارقين في ذي الحجة منها، فكانت ولايته ثلاثين سنة وأشهرا. ووقعت الصيحة بموته، فأحضر الوزير أبو طاهر الأنبا ري ولده ناصر الدولة، وكان ولي عهده، وأحضر العلماء والمنجمين، وكان فيهم رجل من أهل بغداد، عالم يسمى ابن عيشون فحكم له أن جلوسه يكون بعد ثلاثة أيام. فغسل الأمير وكفن، وترك في التابوت ثلاثة أيام، فيقال: إن الفأر أكلت عينيه ". فلما كان في اليوم الرابع حضر ناصر الدولة وجلس على التخت، وسلم عليه الوزير بالإمرة، وكذلك أعمامه وبنو عمه، وأهل بيته ودولته، وخوطب بالإمارة، ووسم الملك، وحضر القاضي والعلماء والشعراء - على العادة - وأُنشدت قصائد الهناءة. ثم نهض ودخل الحجرة، والوزير معه وأهل بيته ولبث ساعة، ثم خرج الوزير، وقد شق ثيابه، وشوَّش عمامته، وكذلك الأمير، ولبس ثياب العزاء، وجلس على الأرض، وحضر القرَّاء والشعراء وأُنشدت المراثي. وكان قد مات في ذلك اليوم رجل زاهد من أهل ميافارقين يُعرف بابن خلف، وكان في مسجد قريب القصر. وكان أولا من أكابر أهل البلد، فرسم الأمير بدخول جنازته إلى القصر، ليصلي عليه وعلى الأمير، فدخلت الجنازة وصلى عليهما، وخرجت الجنازتان من باب الهوة وأدخل نظام الدين التربة فدُفن عند أبيه في القبة. ولم يكن دخول الجنازة إلى القصر مباركا على ناصر الدولة. وخلّف نظام الدين من الأولاد الأمير ناصر الدولة - ولي عهده - والأمير بهرام والأمير أحمد صغيرا، والست قان، زوَّجها بالأمير المجاهد أبي القاسم هبة الله ابن موسك - صاحب بدليس - فمات، ولم يدخل بها، فتزوجها أخوه أبو عبد الله محمد بن موسك فدخل بها، وماتت عنده ولم يعقب. وقيل: إن ابن عيشون - المنجم - كان عند نظام الدين في سنة سبعين ليلة من الليالي في المنظرة العتيقة يشرب عند الأمير فخرج في أثناء الليل، فنظر إلى المدينة وإشراق سورها في ضوء القمر والربض وعمارة البساتين محيطة بها فعاد إلى نظام الدين وقال: يا مولانا ما أحسن هذا البلد وأعمره؟! لكن طالعه يقضي أنه بعدك يستولي عليه الخراب والظلم والجور، فلا يزال كذلك نيفا وثمانين سنة فكان ما قاله. وذلك أنه بعد نظام الدين خرجت البلاد من يد ناصر الدولة وخربت ميافارقين وسيأتي. واستقر ناصر الدولة في الملك والوزير ابن الأنبا ري مدبر الدولة، فساسها أحسن سياسة مدة. ثم إنه تقدم الأمير ناصر الدولة رجل طبيب وكان له حانوت بسوق العطارين وارتفعت منزلته عنده، وتقدمت زوجته عند زوجة الأمير، فلم يزل يتقدم إلى أن قبض الوزير أبو طاهر وولي الأمور جميعها. وكان الوزير فخر الدولة، ابن جهير قد عُزل عن وزارة الخليفة، وولي ولده، ووزر للمقتدر. ذكر توجه الوزير فخر الدولة بالعساكر وملك ميافارقين وآمد كان الوزير فخر الدولة ابن جهير بعد عزله عن وزارة الخليفة قد قصد دركاه السلطان ملكشاه، فبلغه اختلاف بني مروان، وولاية أبي سالم الطبيب، فتحدث مع خواجه وضمن له أخذ البلاد، وتحصيل الكثير من الأموال، فتقدم السلطان إلى الأمير أرتق أحد الأصحاب، وجهز معه العساكر، والوزير فخر الدولة ابن جهير مقدم عليهم، وقصدوا ديار بكر، فلما تحقق ناصر الدولة الحال سلم البلد إلى أبي سالم الطبيب وزوجته، وأمر أهل البلاد بطاعته، وأخذ معه جماعة وقصد السلطان بإصبهان ونزلت العساكر، وتفرقت بديار بكر ومضر. وسير الوزير فخر الدولة ولده زعيم الدولة إلى آمد بعسكر، ونزل الوزير على ميافارقين في سنة سبع أو ثمان وسبعين وأربعمائة وحاصرها، وقطع المياه عنها، وضايقها أشد مضايقة، وحوصرت ديار بكر بأسرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وكان ناصر الدولة بدركاه السلطان ملكشاه بإصبهان والناس يسألون السلطان له. فقال له السلطان: سلم البلاد، ونحن نعطيك ميافارقين خاصة، لأنها بيتك، ونعطيك آمد عوضا عن الجزيرة فقال: علي مشورة. ففي تلك الليلة وصل كتاب من أبي سالم الطبيب أن البلاد على الزين ونحن، فلو حوصرنا عشر سنين لم نبال، فلا تضيق صدرك فالبلاد منيعة، وقد بلغني أنهم طلبوا منك كذا وكذا، فإياك أن تُخدع أو تُغلب على رأيك، فأصبح ناصر الدولة، ونفذ إلى السلطان وقال له: أنا لا أسلم بلادي، ولا أخرج عن بيتي. ولعمري من يكون أبو سالم الطبيب وزيره، ومدبره، ومشيره، تكون عاقبة بيته الخراب، وملكه إلى الذهاب!!. وفتح زعيم الدولة آمد في سنة ثمان وسبعين وأربع مائة ودخلها، وفتحت ديار بكر بأسرها ولم يبق غير مفارقين فسير السلطان خادما يسمى الكوهياري ومعه عسكر نجدة فقاتل الناس قتالا شديدا، وضيقهم اشد مضايقة إلى أن سلمت إليه فدخلاه يوم السبت سادس عشر جمادى الأولى من سنة تسع وسبعين وأربعمائة. واستولى على ذخائر بيت مروان وقبض على أبي سالم الطبيب. ورمَّ ما كان استهدم من أسوار البلد، وعادت العساكر إلى السلطان، وبقي الأمير جبق بديار بكر ومعه ثلاثمائة فارس إلى أن مات وملكها أولاده، فأخذها منهم الأمير بلك بن بهرام بن أرتق، وانتقلت إلى الأمير داود وأولاه. وبلغ ناصر الدولة فتح البلاد، وكانت السعادة قد انتهت، فكان يجري منه من سوء التدبير والمخالفات واللجاج مالا تفعله الصبيان. هكذا تكون أواخر البيوت وانقراض الدول. نعوذ بالله من زوال النعم، وتولي السعادة. فنفذ إليه السلطان يقول له: انظر ما تريد نعطيك عوض البلاد، فقال: حربة تقع في صدري تخرج من ظهري. فقيل للسلطان: قد طلب حربي فأقطعها - وهي قرية فوق بغداد، ارتفاعها ثلاثون ألف دينار أميرية - فمضى إليها وأقام بها إلى أن مات السلطان ملكشاه. ثم إن الوزير فخر الدولة أقام بميافارقين وولده زعيم الدولة بآمد وأطلق الوزير ابن الأنباري من السجن ونفذه إلى حصن كيفا إلى خادم يسمى ياقوت كان والي الحصن، وأمره بقتله، فأخفاه، وأشاع موته، وأخرجت جنازته، وصلى عليها، وكتب بموته مكتوبا وأسجل. وبقي مشحونا بالحصن إلى أن خرج الوزير فخر الدولة من البلاد - وسيأتي ذكر ذلك في موضعه -. وأحسن فخر الدولة إلى أهل ميافارقين خاصة وإلى أهل ديار بكر جميعها، وأسقط عنهم أشياء كثيرة، فطابت معايشهم، وفتح ذخائر بني مروان ونقلها إلى حصن كيفا إلى ولده عميد الدولة. فآخر ما حمل " إلى " الحصن: مائدة بلور دورها خمسة أشبار، وقوائمها منها. وخمس قطع زبادي بلور. وصحنين. وثلاث حمليات. وخمسة أقداح برسم الشراب الجميع بلور ثم اخرج حُقّا من ذهب، وأخرج منه قطنا كان فيه، وأخرج منه سبحة لها شعاع كشعاع الشمس، أضاء منها الموضع كانت لنصر الدولة، وكانت مائة وأربعين حبة لؤلؤ - الحبة منها مثقال فصاعدا - وفي وسطها الجبل - الياقوت الأحمر - الذي حمله الملك العزيز ابن بويه. وفيها عشر قصبات زمرد، القصبة كالإصبع، فقال الوزير: هذه كانت سبب خراب بيت مروان. فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: لما مات نصر الدولة بلغ السلطان أنه خلف أموالا وآلات عظيمة لا توصف، وخلف سبحة، من حالها كذا وكذا، وخلف سيفا أخذه من موسك يقدّ به البعير. فنفذ السلطان، وخلف سُبحة، من ألب أرسلان وطلب السبحة والسيف من نظام الدين، ولده فنفذ غيره، وسُبحة غيرها لها قيمة، وحلف أن السبحة لم تظهر. فلما ولي الأمير منصور نفذ السلطان ملكشاه إليه وطلب السبحة والسيف، فحلف أنه ما رآهما، ولم تسمح نفسه بهما، ولم يُنفذ له هدية تساوي دينارا واحدا. واتفق وصول الرسول، وأنا حاضر عند خواجا، فوجدت الفرصة، واستمعَ مني الكلام، فجهزتُ العساكر وأتيتُ، فقيل له: فكم قيمتها؟ فقال: كان قد حصل بعضها قديما، وحصَّلت أنا في أيام وزارتي خمسا وأربعين حبة وبعض الجواهر، بمقدار خمسة وستين ألف دينار، وحسبت جملة مشتراها، فكان - غير الجبل الياقوت - مائتين وخمسة عشر ألف دينار. وأعطى الملك العزيز عن الجبل الياقوت عشرة آلاف دينار. فحملت إلى بغداد إلى عميد الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وقيل: إن فخر الدولة بن جهير حمل من ذخائر بني مروان غير ما أخذه أبو سالم الطبيب وأودعه ألفي ألف دينار، عينا، سوى الآنية، والآلات، والأعلاق، من ذهب وفضة وجوهر، وأودع بديار بكر شيئا كثيرا. وأقام فخر الدولة بالبلاد سنتين، ونفذ السلطان يستدعيه، فهمَّ بالعصيان. ثم أفكر أن ذلك لا يتم له لكون ولده عميد الدولة ببغداد فسار إلى بغداد وترك ولده زعيم الدولة بميافارقين على جميع ديار بكر فلما وصل رفع عليه ما أخذه من بيت بني مروان فغني به خواجا. فرسم السلطان بديار بكر للعميد قوام الملك أبي علي البلخي فوُلي ديار بكر وسار إليها، فدخلها في سنة اثنتين وثمانين وأربع مائة. فسار بالناس سيرة حسنة. كان يجلس كل يوم بكرة للتدريس إلى ضحى النهار، ثم ينتقل فينظر في أحوال الرعية إلى العصر. وشُبّهت أيامه بأيام نظام الدين في العدل وحسن السيرة، وأمن البلاد والطرق. فسمع ليلة ناقوسا وقت السحر فقال: ما هذا؟ فقيل: دير عباد على رأس الجبل، فلما أصبح جمع الناس، وقال: يُضرب على رؤوس المسلمين بالناقوس، فإذا نحن بالقسطنطينية؟!. ثم نهض إليه وأمره بقلع المذبح، وعمل المحراب، واتخذه مسجدا وسُمي مسجد الفتح. واجتمع النصارى وبذلوا خمسين ألف دينار، فلم يُقبل منهم، وبقي على " حاله مسجدا ". ويُقال: إن الوزير فخر الدولة بن جهير هو الذي عمله مسجدا، فبذل له ثلاثون ألف دينار، فأعاده ديرا، ثم إن العميد أعاده مسجدا، وعمل صحنه محرابا ومُصلىَّ. وكان العميد ولىَّ أرزن رجلا من أهل بُست فظلم الناس وعسفهم. وكان الناس يريدون بيت جهير فمضى جماعة منهم إلى عند السلطان، وتظلموا منه، فحضر المقابلة، وعوَّل السلطان على رده إلى ديار بكر، فحضر القاضي أبو بكر بن صدقة وابن زيدان والقاضي أبو القاسم ابن نباتة، وابن موسك والأمير أبو الهيجاء، وبنو غالب وتألموا منه، فوقع السلطان بديار بكر للوزير زعيم الدولة بن أبي طاهر بن الأنباري. وكان السديد ابن الأنباري أخو الوزير أبي طاهر ابن الأنباري الذي اعتُقل عند توجه فخر الدولة وطلب منه أخاه فادَّعى موته، وجرى بينهما شرحٌ يطول ذكره. ثم أنفذ واستحضره من عند ياقوت الخادم من حصن كيفا، ومضى إلى دركاه السلطان وأقام بها إلى أن عُزل العميد أبو علي، وتوصل إلى أن كتب له التوقيع بديار بكرن وبقي معه تسعة أيام. ثم اتفق أن عميد الدولة ابن جهير عزل عن الوزارة للمقتدي بأمر الله، فحضر دركاه السلطان وضمن ديار بكر ثلاث سنين بألف ألف دينار، فأُعطيها. وتقدم السلطان إلى أهل ديار بكر بالمسير صحبته، ورسم له بعشرة آلاف دينار، تُنفق في أكابر أهل ديار بكر، منها للفارقية خاصة أربعة آلاف دينار. والباقي لسائر أهل ديرا بكر. فاجتمع أهل البلد وقالوا: هذه يأخذها الرؤساء ولا يصح لنا شيء، ونحن نسأل من السلطان إطلاق الغريب والبلدي، وهو ما يدخل من البساتين والكروم والكور من الفاكهة والخضر وغيرهما، وكذلك الفم والحطب ليشترك في هذه الإنعام الغني والفقير، فأُسقط عنهم، واستمر. وباقي البلاد أخذوا ما أطلق لهم، أخذه الأكابر منهم، ولم يُسقط عنهم شيء. ذكر ملك عميد الدولة ديار بكر وفي سنة اثنتين وثمانين، في ذي الحجة منها، وصل عميد الدولة وملك ديار بكر وأقام بها وجبي أموالها، وأحسن إلى الناس وأكرمهم وراعاهم. وأخذ ما كان له من الودائع. ويقال: إن أخذه البلاد كان لهذا السبب، أعني الودائع التي كانت لأبيه بديار بكر. وفي شهر رمضان من سنة اثنتين وثمانين وأربع مائة استقل فخر الدولة ابن جهير بديار ربيعة وخُطب له على منابرها، فأقام إلى رجب من سنة ثلاث وثمانين وأربع مائة. وتوفي بالموصل وحملت أمراء بني عقيل جنازته، ودُفن بتل توبة. وبقي عميد الدولة بميافارقين إلى آخر سنة أربع وثمانين وأربع مائة. واستدعي إلى دركاه السلطان، فخرج ومعه جماعة من متعيني ميافارقين إلى أن وصل إلى إصبهان. وأقام مدة ثم عاد إلى بغداد. فلما وصل عميد الدولة وزر للمقتدي ثانيا. وكان عند خروجه من ميافارقين ترك بها أخاه كافي الدولة أبا البركات " بن فخر الدولة محمد بن محمد " بن جهير - وكان الصغير من أولاده - فبقي بديار بكر إلى شهر رمضان من سنة خمس وثمانين وأربع مائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 واستدعي إلى باب السلطان فحمل معه ما كان تحصل من الأموال، وسار إلى السلطان. وكان إذ ذاك ببغداد وترك ولده أبا الحسن بميافارقين على ديار بكر فلما وصل الكافي إلى الموصل بلغه أن السلطان ملكشاه مات ببغداد مسموما في شوال من السنة، وحُمل إلى إصبهان، ودُفن بها، ورُتب في السلطنة ولده بك ياروق ولُقب شهاب الدولة وخُطب له ببغداد وكان عادلا، وخلع عليه المقتدي واستقر في السلطنة. ذكر ملك ناصر الدولة ميافارقين ووصل خبر موت السلطان إلى ميافارقين فاختبط الناس بها واختلفوا. ثم اتفقوا على أن يُنفذوا إلى السلطان بك ياروق يستدعونه أو نائبا يتسلم البلاد. فهي بلاد أبيك. فلم يكن له فراغ، وطال الأمر، فاجتمع الناس ثانيا، ووقع اتفاقهم على الشيخ أبي سالم يحيى بن الحسن بن المحور لما علموا دينه وعقله فألزموه بذلك وأجلسوه في القصر مُكرها، وسلمت إليه مفاتيح البلد، فلما طال عليهم الأمر وتعذر وصول السلطان اختلفوا أيضا فقال قوم: نستدعي ناصر الدولة ابن مروان وكان بحربى عند موت السلطان، فقصد الجزيرة وملكها. وكره بعض الناس بيت مروان لما عاينوا من عدل السلطان وإحسانه. وكان في المدينة رجل يعرف بابن أسد فرأس الجُهال والسوقة والرعاع. وجعل يدور على السور والمدينة ويحفظها. فلما طال عليهم الأمد اتفقوا على أن سييروا إلى نصيبين إلى السلطان تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان - أخي ملشكاه - وكان له دمشق وحلب والشامين فلما بلغه موت أخيه سار إلى الرقة وملكها، ونزل على نصيبين، فوصل إليه رؤساء ميافارقين ومقدموها فأكرمهم، فقالوا له: قد حفظنا لك البلدن، وأنت أخو السلطان وما نريد غيركم فقال: تصبرون أياما ونسير إلى آمد ثم إلى ميافارقين. وكان ناصر الدولة قد ملك الجزيرة وسمع بخبر ميافارقين فنفذ إلى ابن أسد، ووعده بالجميل، فأجابه واستدعاه واتفق خلو ميافارقين فوصلها في أول سنة ست وثمانين وأربع مائة وتسلمها ونزل الشيخ ابن المحور من برج الملك، ودخلها ناصر الدولة، واستوزر ابن أسد ولُقب محي الدولة، وصعد إليه الشيخ أبو الحسن ابن المحور. فأمنه على نفسه وماله ومن يلوذ به، واستقر بميافارقين. ذكر ملك تاج الدولة تتش ميافارقين وآمد ووصل تاج الدولة تتش نصيبين " ثم إنه فتحها " سيفا، وقتل بها خلقا عظيما، ونهب وسبى ما لم يجرِ على الكفار مثله. وسار والجماعة معه إلى آمد وملكها بعد حصار شديد وبقي أياما، وسار إلى ميافارقين. وكان معه خلق عظيم فراسل أهل البلد وخوَّفهم مما جرى على أهل نصيبين. ثم ركب السلطان، ونزل من الرابية، وقصد برج علي بن وهب، فحين رآه الناس صاحوا بأسرهم وسلم البلد إليه، فدخله من يومه وهو.. من ربيع الأول سنة ست وثمانين وأربعمائة. وخرج الأمير منصور من باب الهوة ودخل مخيم الأمير الحاجب والوزير أبي النجم. وكانت مدة ولايته " الأخيرة " خمسة أشهر. واستقر السلطان بميافارقين وأحسن إلى أهلها وأسقط عنهم الأعشار والمؤن والكلف، وحصل الناس معه في أهنأ عيش. ونفذ إلى الكافي ابن جهير والوزير أبي طاهر بن الأنباري ليستوزرهما أو أحدهما. فسبق الكافي فاستورزه، ووصل بعده الوزير أبو طاهر بأيام، ففاتته الوزارة، فسلم إليه ميافارقين ورتبه بها، ورتب بالقصر مملوكا له يسمى طغتكين وسار بجمع العساكر، وأقام بحران لتكتمل العساكر فيمضي إلى بك ياروق بصافُّه. وكان ابن أسد لما ملك السلطان " ميافارقين " انهزم وانهزم واختفى ببعض البلاد مدة. ثم قصد السلطان وامتدحه بقصيدة يقول فيها بيتا - الفأل موكل بالمنطق - وهو: واسْتَحْلَبَتْ حَلَبٌ جَفْ، نيَّ فانهملا ... وَبشّرَتْني بِحَرِّ الشّوْقِ حَرَّانُ!! فأُعجب السلطان بشعره، فقيل له: أيعرف مولانا السلطان من هذا؟ فقال: لا! قال: هذا ابن أسد الذي أحضر ناصر الدولة بن مروان وملكه ميافارقين فأمر بضرب عنقه بحران فقيل: وبشرتني بحر القتل حران كان الوزير أبو طاهر ابن الأنباري مقيما بميافارقين فلما قتل ابن أسد استشعر وخرج من ميافارقين وقصد الهتاخ في رابع عشر ذي القعدة من سنة سبع وثمانين وأربع مائة، فدخلها وأقام بها، وكان معه ولداه أبو القاسم، وأبو سعد، وابن أخيه محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وكان أخوه السديد أبو الغنائم تخلف بميافارقين فقبض عليه طغتكين. وأقام الوزير بالهتاخ مدة فبلغ السلطان ذلك فنفذ يتوعده، فخرج من الهتاخ وقصد خرت برت وكانت لابن جبق فأقام عند أُخت جبق. فنفذ السلطان إلى أخت جبق وقال: تسلميه إليَّ وإلا ضربت عنق ابن أخيك - وكان معه في العسكر - فسلمته وولده الأكبر أبا القاسم وبقي عندها ولده أبو سعد، وابن أخيه أبو عبد الله محمد، وقالت: هؤلاء ما جنوا ولا أساءوا!! فلما وصل الوزير وولده إلى السلطان ضرب رقابهما بسميساط في جمادى الآخرة، من سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وحملت الرؤوس إلى ميافارقين وأُخرج أخوه السديد أبو الغنائم يوم الخميس غرة رجب، فجاءه رجل بسطل فيه ماء وقال له: اشرب فقال: أنا صائم، ولا ألقى الله تعالى إلا صائما فضُربت رقبته، وطيف برأسه مع الرؤوس في المدينة. ثم دفنت الجثة والرؤوس في المقابر التي يدفن فيها القتلى. وبقي النور ينزل على قبره أياما. وخرج ولده أبو سعد وولد أخيه من خرت برت وسارا إلى بغداد وأقاما هناك. وخدم أبو عبد الله للمستظهر ولُقب بسديد الدولة - لقب أبيه - ونفذ في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة من حمل الجثة والرؤوس إلى بغداد فدفنهم هناك في مشهد كان بناه لهم بباب التبن، عند موسى ابن جعفر - عليهما السلام - وبقي في خدمة المستظهر إلى سنة سبع وخمس مائة وولي ديوان الإنشاء، ولُقب بمؤيد الدين وندب إلى وزارة المسترشد والمقتفي فلم يجب. وكانت له المنزلة العالية والمكانة الرفيعة عند الخلفاء. ذكر وفاة السلطان تاج الدولة تتش لما قتل السلطان تاج الدولة الوزير رحل طالبا أذربيجان لمصاف ابن أخيه شهاب الدولة بك ياروق ومعه العساكر وأمراء الشام. فالفصل عنه آق سنقر وبزان وانهزما. فعاد في طلبهما، فظفر بهما، وقال لهما: ما صنعت معكما من القبيح؟! كان لي دمشق، ولكما حلب والرها. وضرب رقابهما - وكانا مملوكين للسلطان ملكشاه -. وسار يطلب أبن أخيه بك ياروق. إلى أن التقا به وتصافا. فلما التقى الجمعان عارضه مملوك لبزان في المعمعة، فضربه بسهم من وراءه خرج من صدره فمات، وذلك في سنة تسعين، وقيل: الأصح أنه كان في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة في صفر منها، وكسر العسكر. واستقر بكياروق في السلطنة واستبد بها. وبقي الشام وديار بكر في يد ولدي تاج الدولة. الملكين: الملك رضوان - ملك حلب -، والملك دقاق - ملك دمشق -. وكان طغتكين بميافارقين فولى به أميرا يسمى إلياس ويلقب بشمس الدولة وسار إلى دمشق وجعل أتابكا للملك دقاق. وبقي إلياس بميافارقين. واستوزر أبا الحسن علي بن محمد بن صافي - وكان صافي مملوكا لبني نباتا - وكان ولده محمد على البيع في العرصة فولد له أبو الحسن من بنت أبن خلف وجعل جابيا في الوقف بين يدي الشيخ أبي سالم يحيى بن المحور. ثم خدم القاضي أبا بكر بن صدقة. وتوصل إلى الحسبة ثم وزر للأمير إلياس وكان ثقيل الوطأة كثير الجور والظلم والمصادرات والتواصل إلى قلع بيوت الناس ومضارهم ولقد أخرب بيوت أكثر أهل ميافارقين. ذكر وفاة الأمير ناصر الدولة وفي سنة ست وثمانين مات الأمير ناصر الدولة منصور بالجزيرة وحمل إلى آمد، ودفن بها في قبة على رأس القصر مطلة على دجلة والسلسلة كانت بنتها زوجته ست الناس - بنت عنه سعيد - ودفنها بها جميعا. وكانت آخر ولاية بني مروان. فإنهم ولوا في سنة ثمانين وثلاث مئة من أول ولاية الأمير أبي علي إلى أن ملك ابن جهير في سنة تسع وسبعين. وعاد ناصر الدولة ملك مدة خمسة أشهر فتكملت ولايتهم مائة سنة كاملة. وانقرضت دولتهم، وزال ملكهم - فسبحان من لا يزول ملكه ولا يبيد سلطانه - ذكر ميافاقين ذكر ولاية شمس الملوك دقاق ميافارقين استقلالا بعد وفاة أبيه تاج الدولة تتش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 قد تقدم القول بأن تاج الدولة تتش لما ملك ميافارقين رتب فيها غلامه طغتكين وجعله أتابكا لولده شمس الملوك دقاق. فلما عزم تاج الدولة على لقاء ابن أخيه بكياروق في سنة ثمان وثمانين وأربع مائة، استدعى طغتكين فحضر المصاف التي قتل فيها تاج الدولة تتش. وبقي شمس الملوك دقاق مقيما بميافارقين مع الأمير شمس الدولة الياس - المقدم ذكه - ولم يزل شمس الملوك دقاق مقيما بميافارقين إلى أن بلغه قتل والده، وأن أخاه رضوان عاد من عانة وطلب حلب فركب من ميافارقين وقصد أخاه بحلب، وأقام عنده مدة ثم توجه إلى دمشق فملكها واستقل بملكها. وأما ظهير الدين طغتكين فإنه كان قد أسر في جملة من أسر، فأحسن التدبير إلى أن تخلص ووصل إلى دمشق إلى عند شمس الملوك دقاق فأحسن إليه، وقدمه على عساكره وبقي عنده. وأما شمس الملوك دُقاق فإنه أقام بدمشق إلى أن رتب أحوالها ثم عاد إلى ميافارقين فرتب أحوالها وكان معه سكمان بن أرتق. وكان شمس الدولة الياس قد أطمع نفسه بملكها، وتسلمها، ورتب فيها من قبله من يحفظها. وعاد في سنة ثلاث وتسعين وأربع مائة. وحضر إلى خدمته أمراء ديار بكر منهم الأمير سكمان بن أرتق، صاحب حصن كيفا وماردين، والسبع الأحمر وكان له اسعر، وحسام الدولة التمشكين صاحب أرزن وبدليس، والأمير إبراهيم وكان له آمد، والأمير سباروخ وكان له حاني، وكان معه الوزير محمد الأعجمي - من أهل دوين -. ورتب الملك دقاق بميافارقين الوزير محمدا بالقصر. وحاجيه يغمر ببرج الملك، وسار إلى دمشق. فتزوج الوزير بحطانة وبقي بميافارقين. ذكر وفاة شمس الملوك دقاق وفي سنة سبع وتسعين وأربع مائة توفي شمس الملوك دقاق بن تاج الدولة تتش في اليوم الثاني عشر من المحرم منها وولي ولده تاج الدولة تتش، وكان عمره يومئذ اثنتي عشرة سنة. وتوليّ أتابكيته ظهير الدين طغتكين. ثم إن ظهير الدين هذا رأى من المصلحة إحضار أرتاش - أخي شمس الملوك - وكان محبوسا ببعلبك، فأحضره وولاه دمشق لخمس بقين من ذي الحجة من سنة سبع وتسعين. ذكر ملك السلطان قليج أرسلان بن سليمان ن قطر مش السلجوقي ميافارقين ودخلت سنة ثمان وتسعين وأربع مائة، والوزير محمد مقيم بميافارقين. فلما تحقق موت شمس الملوك كاتب السلطان قليج أرسلان بن سليمان ن قطرمش السلجوق - صاحب بلاد الروم يومئذ - فوصل إليه في سابع عشري جمادى الأولى من سنة ثمان وتسعين وأربع مائة وملكها، واستوزر الوزير محمدا وأعطاه أبلستين إقطاعا، وأخذه معه. ووليّ بميافارقين الأتابك السليماني - غلام أبيه سليمان - وتوجه إلى الموصل وصافّ جاولي سقاوه مملوك السلطان محمد وعاد، وقد كسر، وغرق في الخابور سنة تسع وتسعين وأربع مائة وحمل تابوته إلى ميافارقن، ودفن بالقبة التي بنيت له وتعرف بقبة السلطان مسعود. واستقل خمرتاش بملك ميافارقين، وظلم هو وزوجته، وأجحف بالناس وصادرهم. وفيها نزل الأمير سقمان القطبي - صاحب أرمينية - واجتمع بجكرمش - صاحب الموصل - وسار إلى حران ولقيا الفرنج وكسراهم كسرة عظيمة، وهي وقعة البليخ. وذكر ابن الأثير أن هذه الوقائع كانت في سنة خمسمائة. ذكر ملك سقمان القطبي ميافارقين " وفي سنة اثنتين وخمس مائة نزل سقمان القطبي على ميافارقين وحاصرها وضايقها، ثم أخذها بعد حصار تسعة أشهر في شوال منها ودخلها. وأحسن إلى أهلها وأزال عنهم الكذب، والمؤن، والأعشار، وحط عنهم أشياء كثيرة وأجراهم على أملاكهم، وأزال عنهم ماكان قد أحدثه المحتسب وأتابك ووليّ فيها مملوكه قزاغلي بالقصير، وولي البلد أثير الدولة أبا الفتوح فجرت أحوال الناس على السداد ". ذكر وفاة سقمان القطبي ولم تزل نوابه بميافارقين إلى أن توجه إلى خدمة ظهير الدين طغتكين وصاحب الموصل واجتمعوا على حصار تل باش. ثم عادوا فمات عند عوده في سنة أربع وخمس مائة. ولم يزل قزاغلي على ميافارقين إلى سنة ست وخمس مائة فوصل الأمير إبراهيم بن سقمان والخاتون - والدته - إلى ميافارقين. فعزل قزاغلي وولي السديد الوزارة. ووليّ المعين - أخا السديد - ميافارقين. وفي سنة سبع وخمس مائة قتل الأمير إبراهيم بن سقمان القطبي وزيره السديد أخا المعين في ولاية منازجرد فأظهر المعين العصيان بميافارقين وأستبد بها. ذكر ملك قراجا الساقي ميافارقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 " وفي سنة ثمان وخمس مائة وصل قراجا الساقي - مملوك السلطان محمد - إلى باب ميافارقين ونزل الرّوابي، والمعين بالبلد، وقراجا لا يظهر إلا أنه عابر سبيل، وهو ينتظر من يلحقه من أصحابه، ولم يراسل المعين ولم يكلمه بل يركب كل يوم للصيد، ويسير ويعبر على باب البلد. فعبر يوما السلسلة بالسيف فقطعها، ودخل ". ووثب رجل، ومشى بين يديه إلى باب القصر، فبقي ساعة، ثم فتح له، ودخل الأمير قراجا ونزل المعين إلى دار ابن موسك واستقل قراجا بالبلد واستوزر المعين " وردّ إليه الأمور كلها وبقي قراجا بميافارقين مدة. ثم نفذ سلطان محمد في طلبه، فسار إليه فولاه " شيراز، وفارس. " ونفذ السلطان إلى جكرمش - صاحب الموصل - يأمره أن ينفذ إلى ميافارقين واليا ويحضر زوجة قراجا. فسير إليها عماد الدين زنكي بن آق سنقر وكان له في ذلك الوقت تل يعفر لا غير ". وفي ولايته تطاولت الأيدي إلى ميافارقين وأخذت من كل جانب، وخرب أكثر بلدها. أخذ منه الأمير سقمان بن أرتق بحصن كيفا بلد حزة مقدار مائة ضيعة، قاطع الشط إلى شط أرزن. وأخذ نجم الدين إيل غازي إلى بلد الحياطلة من قاطع دجلة إلى الجبل نحو ثمانين ضيعة. وأخذ " الأمير إبراهيم صاحب آمد نحو ثلاثين ضيعة " " وأخذ الأمير " سباروخ - صاحب حاني - رأس الحير. وأخذ الأمير أحمد بلد الهتاخ. وأخذت السناسنة نحو ثلاثين قرية. وأخذ حسام الدولة - صاحب أرزن - من بين النهرين خمس عشرة ضيعة. كل ذلك لقلة حماتها. ابتداء ولاية نجم الدين إيلغازي بن سقمان بن أرتق وملكه ميافارقين سبب ذلك أن نجم الدين إيلغازي بن سقمان بن أرتق قصد خدمة السلطان محمد السلجوقي حلوان. ثم أعطاه شحنكية بغداد، فأقام مدة إلى سنة اثنتي عشرة، فوقع له بميافارقين. وكتب إلى الرزبيكي أن يسلمها إليه، فسار إليه نجم الدين إيلغازي وتسلمها في الرابع عشر جمادى الآخرة من السنة، فدخلها وملكها، وخرج الرزبيكي فنزل على الروابي ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع وصله رسول من السلطان محمد يأمره ألا يسلمها. فوجد الأمر قد فات. واستقر نجم الدين بميافارقين وأظهر العدل، وأسقط عنهم الكلف والمؤن. وكانت ميافارقين قد خرجت أكثرها من الظلم والإنزال، وما كان يلقى أهلها من الأجناد. وإخراجهم من بيوتهم. فلما ملكها نجم الدين استقروا في دورهم، وزال النزال عنهم. فكان الجند الذين مالهم مساكن ينزلون في خرابات المدينة في فركاهات. وكانت البلاد مخيفة من الحرامية والقوافل لا تسير من ميافارقين إلى آمد وحاني وأرزن وماردين وحصن كيفا إلا ومعهم خيل تخفرهم في هذه المسافة القريبة. فحيث ملك نجم الدين أمنت البلاد والطرقات، وانهزمت الحرامية وعمرت الضياع ومدت ميافارقين في العمارة. وساس الناس أحسن سياسة. وبقي إلى سنة ثلاث عشرة وخمس مائة. ولقي الفرنج وكسرهم كسرة عظيمة وغنم منهم شيئا كثيرا وهي كسرة البلاط. وفي سنة أربع عشرة وخمس مائة ملك نجم الدين نصيبين وسار إليه القاضي علم الدين أبو الحسن بن نباتة وجماعة من أكابر ميافارقين ولقوه بنصيبين وهنؤوه بفتحها، فخلع عليهم وأجازهم. وفي سنة خمس عشرة نفذوا أهل تفليس إلى نجم الدين إيلغازي يستدعونه ليسلموا إليه تفليس فسار إليها ومعه " نور الدولة " دُبيس بن " سيف الدولة صدقة المزيدي وكان صهر نجم الدين على ابنته كهار خاتون فسار بالعساكر فوجد تفليس مُحاصرة في غاية الضِّيق، وكان المُحاصر لها الملك داود ملك الكرج والأنجاز ومعه خلقٌ لا يحصى. وكان قد وصل إلى تفليس السلطان طغرل بك وفخرُ الدين طُغان أرسلان بن الأحدب فاقتتلوا قتالا عظيما، قَتل وأسَر من المسلمين مالا يحصى. وعاد نجم الدين هزيما في عشرين فارسا إلى ميافارقين، ومعه صهره دُبيس، فأقام مدة، ثم سار إلى ماردين، وأقام بها سنة ستة عشرة وخمس مائة. ذكر وفاة نجم الدين إيلغازي في هذه السنة مرِض نجم الدين إيلغازي بماردين وحُمل إلى أوشل بميافارقين ومعه إيلخاتون بنت طغتكين وولده شمس الدولة سليمان، وتخلف السعيد حسام الدين " تمرتاش " بماردين. وتُوفي نجم الدين إيلغازي يوم الخميس سابع عشر شهر رمضان من سنة ست عشرة وخمس مائة بالأوشل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وركب شمس الدولة وإيلخاتون ليلا، ووصلوا إلى باب الهوة ونادوا بالوالي، وكان اسمه كيغلي فنزل، وفتح الباب ودخلوا وقد أركبوا نجم الدين على فرس، وأُركب خلفه رجل يُمسكه، وقيل: إن الأمير مريض، ودخلوا القصر. فلما حصلوا في القصر وقعت الضجة وقيل: قد مات الأمير الساعة. وصعد الناس القصر وغُسل الأمير ودُفن بالقصر مدة. ثم أُخرج إلى مسجد الأمير فدفن هناك. ذكر ولاية ولده السعيد حسام الدين ولما مات شمس الدولة حضر السعيد حسام الدين، ونزل على باب المدينة وراسل خطليشا واستقر الأمر بينهما. وسلّم إليه البلد في شوال من سنة ثمان عشرة وخمس مائة. واستوزر الوزير عبد الملك. وحصل له ما كان لأبيه نجم الدين ومَلَك حلب واستبد بالمُلك، وتزوج بزوجة أخيه إلياس وأولد منها أولادا. وكان ملكا عالما عادلا ذكيا مشاركا في جميع " العلوم ". وفي سنة أربع وعشرين وخمس مائة ماتت الملكة سيدةُ خاتون بنت قليج أرسلان بميافارقين ودُفنت عند أمها بالقبة ووصل أخوها الملك طغرل من حصن كيفا وتسلّم ما خلفته. وكان صهر الأمير على ابنته. وفي سنة سبع وعشرين وخمس مائة مات الوزير عبد الملك بميافارقين. وولي النّظر بالديوان النّاصح علي بن أحمد الآمدي. وفيها: نازل أتابك زنكي والسعيد حسام الدين قلعة الصَّور. وفتحها الأتابك وقتل بها الأمير حمدان بن أسلم. وكانت للأمير حمدان بن أسلم. وكانت للأمير رُكن الدولة داود فسلّمها إلى السعيد حسام الدين. وفي سنة ثمان وعشرين وخمس مائة وصل المؤيّد أبو الحسن بن مخطر من الجزيرة فرُتِّب في الاستيفاء مع أخيه الناصح أبي سعيد بميافارقين. وفيها: وصل حبشيُّ بن محمد بن حبشيِّ من العراق والمكينُ أبو البركات بن أبي الفَهيم الحرانيُّ إلى خدمة السعيد حسام الدين. وولي حبشي الوزارة، واستقر بها. وبلغ مرتبة لم يبلغها غيره. وعمل حساب أرباب الأعمال والكُتّاب، وسلك بهم أعسف الطرق. وقبض على الناصح وولده، وصادرهما. ومات الناصح بميافارقين وولي مكانه الوزير أبو طاهر، ابن المُحتسب - كان مسجونا فأطلقه وولاه -. وفي سنة تسع وعشرين وخمس مائة: تزوج السعيد حسام الدين بالملكة .... بنت رضوان - بدر الدين - وعقد عليه مجد الدين ابن السديد. وفي سنة ثلاثين: وقع الخُلفُ بين السعيد حسام الدين وبين الأمير داود. فأمر السعيد حسام الدين بنقض الرَّبض والمُحدثة. فابتُدئ فيه يوم الجمعة تاسع المحرم. واجتمع السعيد حسام الدين والأتابك وكسرا الأمير داود على باب آمد. وسارا إلى جبل جور والسيوان فملكوهما، وسلّمهما أتابك إلى السعيد حسام الدين، وانهزم الأمير أرسلان إلى الأمير داود. وفي سنة ثلاث وثلاثين: وقع الخُلفُ بين أتابك زنكي والسعيد حسام الدين. وصعد صلاح الدين إلى ماردين وقرر أمر الصلح بينهما فسلّم إليه دارا. وعقد على ضيفة خاتون بنت السعيد حسام الدين. وفي سنة خمس وثلاثين. أغار الأمير داود على ميافارقين ونهب البلد، ونزل على المدينة. وأقام ثمانية أيام ورحل إلى تل شيخ وأخذها، وأقطع البلد. وكان يغيرُ كل يوم إلى باب البلد ويأخذُ من الناس " الثياب " من النهر. وكان بميافارقين يومئذ حبشي والحاجبُ يوسف ينالُ في الولاية. فدبرا الناس، وساسا البلد. وبقي الخُلفُ بين السعيد حسام الدين والأمير داود إلى أو سنة ست وثلاثين وخمس مائة، واصطلحا واتفقا، ووصل الأمير داود إلى ميافارقين واجتمعا بالقصر. وفي آخرها: سار شرف الدين حبشي إلى الموصل رسولا إلى أتابك، فقيل: إنه قرَّر في نفس أتابك أن يأخذ له ميافارقين. ذكر قتل شرف الدين حبشي " وفي سنة سبع وثلاثين وخمس مائة: قصد أتابك " زنكي " ولاية الأمير يعقوب وملَك حيزان والمعدن وأرزن وجميع ولايته. وفي سنة ثمان وثلاثين: قصد ميافارقين ووصل إلى تل بسمي ونزل بها. ففي أثناء الليل دخل على حبشي في خيمته مؤمل الشافصي ومحمد بن أبي المكارم وقتلاه، وأخذا رأسه وخرجا. فوقعت الصيحة في المعسكر، واختبط الناس، وأصبح أتابك راحلا من غُدوةٍ وسار إلى بلاده ". ذكر وفاة الأمير داود صاحب حاني وفي سنة تسع وثلاثين وخمس مائة في يوم من المحرم منها تُوفي الأمير داود بحاني وحُمل إلى حصن كيفا فدُفن هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وملك بعده ولده فخر الدين قرا أرسلان، وقصده أتابك فأخذ حاني وجبل جور والسيوان وأرقنين وجرموك وجميع تلك الولاية. ووقع الخُلفُ بين أتابك والسعيد حسام الدين. وفي سنة إحدى وأربعين وخمس مائة شرع السعيد حسام الدين في بناء جسر القرمان بالقيطوم بتولي الزاهد أبي الحسن علي، وأسس قواعده من الجانبين، فجاء المدُّ فهمه لضعف عمله، فألزم الزاهد الغرامة. ثم وليهُ سيف الدين شير باريك مودود بن علي بن أُرتق، وابتدأ في عمارته بتولي أبي " الخير " بن الحكيم الغاسول فعمله إلى سنة ثمان وأربعين وخمس مائة، وبقي منه شيء يسير. وفي ليلة الاثنين ثاني عشر ربيع الأول منها انهدم الجامع، ووقع مكان المنبر والأروقة، فهَدم الباقي منه، ثم أمر بتجديده، فأُصلح إصلاحا حسنا. ذكر وفاة السعيد حسام الدين ولم يزل السعيد حسام الدين مالكا ميافارقين مستقلا إلى أن تُوفي يوم الخميس ثاني ذي القعدة من سنة ثمان وأربعين وخمس مائة بماردين ودُفن بها. وكان مرضه أياما. ذكر نُّوابه بميافارقين وليها الحاجبُ أبو بكر وبيرم وعثمان - بنو خمرتاش -. وليها الحاجب بير مرتين، ولك واحد من أخويه مرة. ثم وُلي الحاجب عبد الكريم بن علي ثم عُزل. ووُلي الحاجب يوسف ينال ثم عُزل. وأُعطي قلعة سرجة فأخذها منه اتابك زنكي. ثم وُلي مملوكٌ كان للأمير يسمى قزا أُغلي مدة، ثم مات. وجلس في القصر الأمير قايماز الخادم والحاجب بيرم مدة. ووُلي الحاجب برنقش الحُسامي وعُزل. ووُلي يوسف ينال - ثانيا - وبقي في الولاية إلى يوم الجمعة ثالث رجب من سنة تسع وثلاثين وخمس مائة، ومات بها، ودُفن بها أيضا. ثم وليها ناصر الدولة صندلُ في ذي القعدة منها، وبقي إلى شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين، وعُزل. ووُلي اسر سلار وبقي إلى آخر شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وأربعين، ومات بها، وبقي ولده. ووُلي ينال بُرج المَلك. وجلس الحاجب بيرم في القصر مدة. ثم استقل ينال بالولاية إلى أن مات السعيد حسام الدين في التاريخ المقدم ذكره. ذكر ملك نجم الدين ألبي بن السعيد حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي بن سكمان بن أرتق ميافارقين لما مات السعيد حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي بماردين ملكها بعده ولده نجم الدين إلبي. ثم سيّر من يومه سعد الدولة ألتونتاش إلى ميافارقين، فوصلها وصبَّحها صبيحة نهار الجمعة، وجاء إلى باب المدينة، فدخل وقصد باب القصر ليُستأذن له. ثم صعد خلف الداخل يستأذن له إلى بُرج الملك. ودخل الرجل إلى ينال وسعد الدولة خلفه، فقام إليه ولقّبه، وأصرف مَنْ عنده، وأعلمه بالحال، وبموت الأمير، وأن الملك بعده ولده نجم الدين. فنفذ وأحضر أكابر الأمراء، والقاضي، وقرَّر الحال، ونزل الخطيب، وخطب بالناس، ودعا لنجم الدين ولم يكن عند أكثر الناس خبرٌ من ذلك. ولم تنفسخ على نجم الدين حالٌ، وملك جميع ولاية أبيه، ولم يختلف عليه أحدٌ من اخوته ولا غيرهم، ولم يعصَ عليه موضعٌ، وراسل جميع الجوانب واستحلفهم، وراسلوه وعزُّوه في أبيه. وأظهر نجم الدين العدل والإحسان، ولقي الناس منه خيرا كثيرا، وسار بهم أحسن سيرة، ولم يُرَ ملكٌ أعفُّ منه عن أموال الرعية وحرمهم إلى أن مات في تاريخ لم يحقق. وولي بعده قطب الدين إيل غازي ثم مات. " وملك بعده ولده حسام الدين يولق، وهو طفلٌ، فقام بتربيته وتدبير ملكه نظام الدين ألبقش - مملوك أبيه -. وكان شاه أرمن - صاحب خلاط خالَ قطب الدين - فحكم في دولته بعد موته، وهو رتّب ألبقش مع ولده. وكان ألبقش ديِّنا خيِّرا عادلا، حسن السِّيرة، حليما، فأحسن تربية الولد، وتزوج أمه. فلما كبر الولد لم يُمكِّنه النِّظام أُلبقش من مملكته لهوج كان فيه. وكان للنِّظام مملوك اسمه لؤلؤ قد تحكّم في دولته، فكان يحملُ النظام على ما يفعله مع الولد، ولم يزل كذلك إلى أن مات الولدُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وكان له أخٌ صغيرٌ، لقبه قطب الدين، واسمه أرسلان، فرتَّبه النِّظام مكان أخيه في الملك، وليس له منه إلا الاسم، والحكم للنِّظام وللؤلؤ، فبقي كذلك إلى سنة إحدى وست مائة. فمرض نِظام الدين أَلبقش فأتاه قطب الدين يعوده. فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤٌ فضربه قطب الدين بالسكين فقتله، ثم دخل إلى النظام، وبيده السكين، فقتله أيضا، وخرج وحده، ومعه خادمٌ له وألقى الرأسين إلى الأجناد، وكانوا كلهم قد أنشأهم النِّظام ولؤلؤٌ، فأذعنوا له بالطاعة. فلما تمكّن أخرج من أراد، وترك من أراد، واستولى على ماردين، والبارعيّة، والصّور وأعمالها ". ولم يزل إلى أن تُوفي في سنة ثمانين وخمسمائة. وكان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إذا ذاك مقيما بحماة، عازما على قصد الموصل، فلما وصل إلى حلب خرج أخوه الملك العادل من حلب لتلقيه، ثم تواترت عليه كتب مظفر الدين كوكُبُري - صاحب إربل - تحُثُه على قصد الموصل. فعبر صلاح الدين الفُرات وقبض على مظفر الدين كوكبري، وكان إذ ذاك صاحب حرّان وسروج وسميساط، ثم رضي عنه وأطلقه، وأعاد إليه بلاده. وتقسم فكر صلاح " الدين " بين قصد خِلاط والموصل فرجحوا جماعةٌ صفد خِلاط فسار إليها، فوصل إلى ميافارقين فوصله كتابٌ من ناصر الدين محمد ابن أسد الدين شيركوه يستأذنه في الوصول إليه، فأذِن له، فأتاه وقال له: الرأي أن نبتدئ بحصار ميافارقين وفتْحها. ذكرُ حصار الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ميافارقين وفتحها من هناك افترقت ميافارقين فإنها لم تزل مجموعة إلى آمد بيد من وليها. " ولما سار صلاح الدين قاصدا خِلاط جعل طريقه على ميافارقين وطمع في ملكها، لوفاة صاحبها قطب الدين - صاحب ماردين - فلما نازلها رآها مشحونة بالرجال، وبها زوجة قطب الدين - وهي ابنة قرا أرسلان وأُخت نور الدين محمد - فحصرها مدة. وكانت زوجة قطب الدين تُحرضُ الناس على القتال، فلم يصل الملك الناصر إلى ما يريد منها، فعدل عن الحرب إلى إعمال الحيلة، فراسل زوجة قطب الدين وقال لها: إنَّ أسد الدين يرنقش قد مال إلينا، ورغب في تسليم البلد، ونحن فنرعى حق أخيك نور الدين فيك بعد وفاته. ونريد أن يكون لك في هذا الأمر نصيبٌ، ونُزوج بناتك بأولادي، وتكون ميافارقين وغيرها لك، وترك مَنْ أرسِلَ إلى أسد الدين يقول له: إن الخاتون قد مالت إلى الانقياد إلى السُّلطان وأن مَنْ بخِلاط قد كاتبوه ليسلموها إليه، فخذ لنفسك!!. واتفق أنه وصل في ذلك الوقت رسولٌ من خِلاط إلى صلاح الدين يبذلون له الطاعة، فأمره صلاح الدين فدخل إلى ميافارقين واجتمع بأسد الدين وقال: أنت عمّنْ تقاتل؟ وأنا قد جئت في تسليم خِلاط إلى صلاح الدين. فأسقط في يده، وضعُفت نفسه، فأرسل واقترح إقطاعا ومالا، فأُجيب إلى ذلك. وسلم البلد في جمادى الأولى من سنة سبع وثمانين وعقد لإحدى بناتها على ولده الملك المُعزِّ وأقرَّ بيدها قلعة الهتّاخ. وولي ميافارقين مملوكه سُنقُر الخلاطي. ذكر ملك تقي الدين عمر بن شاهنشاه ابن أخي صلاح الدين الملك الناصر ميافارقين ولم تزل ميافارقين بيد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى أن أقطعها لتقي الدين عمر ابن شاهنشاه فيما كان أقطعه مما كان بيد مظفر الدين كُكبري - صاحب إربل - فمضى إليها، وأقام بها إلى أن تُوفي في تاسع عشر شهر رمضان من السنة. فأقطعها مع الشرق بأسره ولاية الملك العادل. وتُوفي صلاح الدين في سنة تسع وثمانين، والبلاد بيد أخيه الملك العادل على حالها. ولم تزل في يد نواب الملك العادل إلى أن دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة - وكان الملك العادل إذ ذاك " عند بُحيرة قَدَس - بحمص - فعين لولده الملك الكامل مصر، ولولده الملك الأشرف موسى حرَّان والرُّها وسروج وجميع ماله بالشرق، خلا ميافارقين فإنها عُينت لولده الملك الأوحد نجم الدين أيوب، فلم تزل بيده إلى أن ملك خِلاط في سنة أربع وستمائة في جمادى الأولى منها. فاستمرت بيده مع خِلاط إلى سنة تسع وست مائة فمرِض. ذكر ملك الملك الأشرف ميافارقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ولما مرض الملك الأوحد استدعى أخاه الملك الأشرف موسى من حرَّان فأتاه وأقام عنده مدة مرضه. فلما أبلَّ من مرضه، وتمت عافيته ودَّعهُ الملك الأشرف عازما على العودة إلى بلاده. فاجتمع به رجلٌ مُنّجمٌ من أهل خِلاط فقال له سرا: لا ترحل، فإن هذا الشهر لا يخرجُ إلا وأخوك قد مات. فقال له الملك الأشرف: كيف وقد ركب ولعب بالكرة؟! فقال: لابد من ذلك، ولا يجاوز الأسبوع. فاتفق أنه في ذلك الأسبوع أكل أكلة فأُتخم منها فمات. فملكها الملك الأشرف وبقيت في يد نوابه مستمرة. وفي سنة خمس عشرة وستمائة تُوفي الملك العادل بعالقين في سابع جمادى الآخرة منها. واستمرت ميافارقين بيد الملك الأشرف إلى سنة إحدى ذكر تمليك شهاب الدين غازي أرزن " كان حسام الدين - صاحب أرزن - من ديار بكر، مصاحبا للملك الأشرف ناصحا له، مشاهدا جميع حروبه وحوادثه، منفقا أمواله في طاعته. فكان يعادي أعدائه ويوالي أولياءه. ومن جملة موافقته له أنه كان محصورا بخلاط لما حصرها جلال الدين فلقي من الشدة ما لقيه من بها - وصبر إلى أن ملكها جلال الدين. وأسره جلال الدين، وأراد " أن " يأخذ منه أرازن فقيل له: إن هذا من بيت قديم عريق في الملك. وأنه ورث هذه أرزن من أسلافه وكان لهم غيرها من البلاد، فخرج الجميع. فعطف عليه ورقَّ له، وأبقى عليه مدينته وأخذ عليه العهود والمواثيق أنه لا يقاتله، فعاد وأقام بها. فلما جاء الملك الأشرف وعلاء الدين - صاحب الروم - محاربين لجلال الدين لم يحضر معهم في الحرب، فلما انهزم جلال الدين " سار شهاب الدين غازي ابن الملك العادل إليه " " وهو بمدينة أرزن فحصره بها " إلى أن " ملكها صلحا، وعوَّضه عنها بحاني من ديار بكر ". وكان هذا - حسام الدين - رجلا كريما جوادا حسن السيرة، لا يخلو بابه ممن يستميحه. وكان " من بيت كبير قديم يقال له: بيت طُغان أرسلان. وكان لهم مع أرزن بدليس ووسْطان وغيرهما من البلاد، ويعرفون ببيت الأحدب وكانت البلاد معهم من ايام السلطان ملكشاه ابن ألب أرسلان السلجوقي. فأخذ بكتَمُر منهم بدليس، أخذها من عم هذا حسام الدين لموافقته لصلاح الدين. وبقيت أرزن إلى أن أخذها شهاب الدين غازي ". " ولكل أوَّل آخر، فسبحان من لا له أول ولا آخر ". ولم يزل شهاب الدين غازي مالك ميافارقين إلى أن تُوفي في شهر رجب من سنة خمس وأربعين وستمائة. وكان شجاعا حازما قويَّ النفس. كان قد استولى على حصون جماعةٍ من أعمال آمد بعد وفاة أخيه السلطان الملك الكامل. وبعد تمليك الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل الديار المصرية أخذ من بلد الحصن " قرى " جماعة. وكذلك من بلد آمد. ونحن نذكر الآن بعض وقائعه ومجرياته مع السلطان جلال الدين مع أنّا قد استوفينا ذلك مفصلا في كتابنا الموسوم: " بجنى الجنتين في أخبار الدولتين ". ذكر مقتل جلال الدين وتفرُّق عسكره " لما كان نازلا ببلد حاني ورد عليه علم الدين سنجر المعروف بقصب السكر رسولا من الملك المسعود - صاحب آمد - برسالة تتضمن الطاعة، وزيّن له قصد الرُّوم، وطمّعه في الاستيلاء عليها، وهو متى استظهر ببلد الرُّوم واستند إلى قفجاق هابه التتر " " وأن السلطان متى عزم على ذلك " خرج " بنفسه، وأمده بأربعة آلاف فارس ". فعدل عن المسير إلى إصبهان، وعدل إلى ناحية آمد، ونزل قريبا منا في خامس عشر شوال من سنة ثمان وعشرين وستمائة. وشرب تلك الليلة، " فأتاه في أثناء الليل تُركماني وقال: إني رأيت بمنزلتك التي كنت بها أمس نازلا عسكرا زيهم غير زيّك بخيل أكثرها شهبٌ. فكذبه وقال: هذه حيلة من لا يختار أن تتوسط بلاده. فلم تنقضِ ليلته تلك، حتى أحاط به عسكرُ التتار مُصبحين، وهو في خُماره: فَمسّاهُمْ وفُرشُهُمُ حريرٌ ... وصَبّحُهُمْ وفُرشُهُمُ تُرابُ وَمَنْ في كَفِّهِ مِنْهم قناةٌ ... كمَنْ في كفِّهِ خضابُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وتفرَّق عسكره في الأقطار، وطاروا كلَّ مطار، وأحاطت التتر بخركاه السلطان، فحمل عليهم أورخانُ وكشفهم عنها، ودخل بعض خواصه، فأخرجه وعليه طاقيةٌ بيضاء، وأركبه الفرس وسار نحو آمد، فلم يُمكّن من الدخول إليها، فسار إلى أن ألجأه النصب والليل إلى قرية من قرى ميافارقين، فنزل ببيدرها، وأقام به يستره الليل، فأدركته التتر عند الفجر، فركب بين أيديهم، وتوقّل الجبل. وكان به أكرادٌ يحفظونه ويحفظون الطرق لِسحت يجمعونه، فأخذوه وسلبوه وهمّوا بقتله، فقال لكبيرهم سرا: أنا السلطان، فلا تعجل في أمري، في إيصالي إلى شهاب الدين غازي فيغنيك، أو إيصالي إلى بلدي فتصير ملكا. فرغب في إيصاله إلى بلاده، وسار به حلّته، فتركه عند امرأته، ومضى إلى الجبل لإحضار خيله. ففي غيبته جاء رجلٌ من سِفلة الأكراد، ومعه حربةٌ. فقال للمرأة: ما هذا الخوارزمي؟ وهلا قتلتموه؟!! " فقالت: إنَّ زوجي أُمنّه وعرف أنه السلطان. فقال: كيف تبقونه وقد قتل لي خلاط أخا خيرا منه؟!! ثم ضربه بالحربة " ضربة " فارقت بها روحه جسمه ومحت من لوح الوجود اسمه " وذلك في حادي عشر شوال. ولما كُبس بظاهر آمد تفرَّق عسكره، فأخذت طائفةٌ منهم نحو حرّان، وأخرى نحو سنجار ونصيبين وأخرى إلى ميافارقين فأقبل عليهم شهاب الدين غازي، وكان فيهم أطلس خان، فبقي عنده إلى أن بعثه إلى الملك الكامل وأخبره بقتل جلال " الدين " وواقعته مع التتر " وأن التتر " بعد قتل جلال الدين قصدته منهم طائفةٌ، فخرج إليهم وكسرهم وغنم أسلحتهم .... شيئا سيره إلى أخيه الملك الكامل وشكى إليه مجاورة التتر وطلب إذنه في نقل حريمه إلى مصر فلم يُجبهُ إلى ذلك. وقال: إذا أُخذت ميافارقين أخذت مصر. وكيف يليق ببني أيوب أن يفسحوا لك في ذلك، ووراءهم خمسون ألف فارس؟!! فثبت جنانه. ذكر حصار عسكر حلب ميافارقين لما قصدوا الخوارزمية حلب بعد كسر عسكرها في سنة ثمان وثلاثين وست مائة. وكان عسكر حلب يومئذ مُفرَّقا في البلاد. بعضه بحمص لما أغاروا الفرنج على بلدها، وبعضه في الروم صحبة الأمير حسام الدين ألطاش بن تركمان، وبعضه بقلعة جعبر مع الأمير ناصح الدين أبي المعالي الفارسي، وبعضه بعزازٍ بسب التركماني الآغا خريه ولم يكن بحلب يومئذ إلا دون الألفي فارس، وهي التي خرج بها الملك المعظم فخر الدين توران شاه ابن الملك الناصر صلاح الدين، فالتقى بهم، واتفق ما قدَّره الله من كسرهم. فاهتمت الملكة خاتون بجمع العساكر، فدخلت الخزائن وأخرجت الأموال، واستخدمت الأجناد، وطلبت النجدة من الملوك. فكان ممن طُلب منه نجدة الملك المظفر شهاب الدين غازي فحصل منه تسويف ومماطلة إلى أن قدرها الله تعالى اجتماع العساكر وكسر الخوارزمية وملك الجزيرة فوصل من شهاب الدين غازي كمال الدين، أبو سالم بن طلحة مُهنئاً للسلطان الملك الناصر بلمْك الجزيرة، ومُعتذرا عن قعوده، وتأخر نجدته. ويطلبُ بعد ذلك الصلح والموادعة، وألاَّ يُمكِّن غياث الدين، صاحب الرُّوم من قصد بلاده، فلم يُجبه السلطان الملك الناصر إلى ذلك. فلما عاد رسوله بما لا تهوى نفسه خرج من ميافارقين واتفق مع الخوارزمية على قصد آمد. فلما بلغ السلطان الملك الناصر ذلك أخرج الملك المعظم فخر الدين توران شاه بعسكر فسار إلى آمد فرّحل عنها الملك المظفر والخوارزمية فعاد إلى ميافارقين، سار الملك المعظم خلفه، وشنَّ الغارة على بلدها، فاعتصمت الخوارزمية بالمدينة فنُوزلوا فيها وقوتولا أشد قتالٍ. ووصل عسكرٌ من غياث الدين نجدةً لعسكر حلب فضايقوا ميافارقين. فراسل الملك المعظم في أنه قد نشب مع الخوارزمية، وعجز عن دفعهم، وأنكم ترضونهم بمهما يقع الاتفاق عليه. فترددت الرسل في ذلك إلى أن اتفق الأمر على أن السلطان غياث الدين يُقطعُ الخوارزمية ن بلاده ما كان لهم أولا. وأن يُعطي ولده إقطاعا من الملكة خاتون - عمته - فعادوا عنه. ثم إنه بعد مدة سيّر رسوله، ومعه رسولٌ من الخوارزمية يلتمسون من صاحب حلب إقطاعا، زيادةً على ما وقع عليه الشّرطُ، فلم يُجابوا إلى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فلما عادت رُسلهم بالسعي المُخفق ساروا إلى بلد الموصل وضايقوها. فاستصرخ بدر الدين لؤلؤ - صاحبها - بالملك الناصر فسيّر إليه عسكرا مقدمه الملك المنصور ناصر الدين إبراهيم - صاحب حمص -، والأمير شمس الدين لؤلؤ الأميني مشاركا في التدبير. فلما علم شهاب الدين غازي قصدهم إياه رحل عن الموصل وقصد نصيبين فنهب بلدها، وأخذ من بها من عسكر حلب، وفيهم الأمير نجم الدين محمد بن الافتخار ياقوت - أمير حاجب - والأمير سيف الدين الجالي - من أمراء حرّان - وبعث بهم إلى ميافارقين فحبسهم بها. فلما تحقق قصد عسكر حلب له سار إلى ميافارقين وأخرج الأمراء المذكورين، وخلع عليهم، وسيّرهم إلى الأمير شمس الدين لؤلؤ. ثم رحل الملك المنصور لقصد شهاب الدين غازي فنزل بظاهر آمد، وبعث إلى السلطان - صاحب الروم - يستدعي منه نجدةً فتأخرت لغارات التتر على أطراف بلاد الروم وتواترت الأخبار على الأمير شمس الدين لؤلؤ والملك المنصور بملك التتر أرزن الروم، وإغارتهم على خرت برت وانهم يريدون كبس العسكر، فرحلا عن آمد وقصدا راس العين. فلما بلغ الملك المظفر ذلك خرج من ميافارقين ومعه الخوارزمية وقصد دُيَنسر. ذكر كسر عسكر حلب شهاب الدين غازي لما وصل شهاب الدين غازي دنيسر بعث رسوله إلى شمس الدين لؤلؤ بكلام أغلظ له فيه. وكذلك للملك المنصور أيضا. واكن آخر كلامه: إما أن تنزلوا لي عن الجزيرة بأسرها، وإلاَّ فالحرب بيني وبينكم. فأخّروا الجواب إلى أن يُسيّروا إلى حلب يُعرِّفون الملكة، إذ هي صاحبة البلاد، فلا يكون الجواب إلا منها. ثم إنهم أجمعوا رأيهم على تسيير الأمير سعد الدين بن الدربوش إلى حلب لإحضار خزاين وحِلع وزرد خاناه، فتوّجه إلى حلب. فكانت غيبته عشرة أيام؛ وحضر ومعه ألفا ألف درهم؛ وثلاثة أحمال خِلع وزرد خاناه؛ فأنفق ما وصل في ضَعفَة العسكر. وأحضر رسول شهاب الدين غازي واخبره أن الجواب ورد من أُخته الملكة " ضيفة " خاتون تقول:) وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما (وجوابنا نحن فما طلبه من الحرب. فعاد الرسول ورحل العسكر في إثره. فلما أنهى الرسول إلى شهاب الدين غازي ما قالوه، انزعج لذلك. ورحل لوقته ونزل على المجدل من الخابور، وجمع من التركمان خلقا عظيما مقدمهم ابن داودا. فلما تراءى الجمعان قال ابن داودا للملك المظفر: أنا أكسر هؤلاء بالجوابنة الذين معي، فإن معي سبعون ألف جوبان. ولما نزل الملك المظفر بالمجدل أشار الأمير شمس الدين بالمناجزة. فالتقى الجمعان وتصافا يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر صفر سنة أربعين وستمائة. وحمل الأمير شمس الدين على القلب وقصد الملك المظفر فولي الدُّبُر وأتبعه عسكره لا يلوي الولد على أبيه، ولا أخ على أخيه، والجموع تحوشهم، والسيوف تنوشهم، وحالت بينهم الحيم، فلم يُقتل منهم إلا اليسير. واشتغل العسكر بالنهب والسبي، ونزل الملك المنصور في خيمة الملك المظفر، واستولى على أمواله وأثقاله؛ ونجا الملك المظفر - كما قيل - برأس طِمرَّةٍ ولجام. ذكر نزول التتر على ميافارقين كان التتر قد قصدوا حلب، ونزلوا على حيلان - قرية شمالي حلب - وعاثوا في البلد، وقتلوا وأسروا، فاضطربت حلب لذلك. وتحصنوا واستعدوا للحصار؛ وخرج من بها من العسكر فناوشهم. فلما لم تر التتر في حلب طمعا استكانوا للمسالمة، وطلبوا الضِّيافة فحمل إليهم ما طابت نفوسهم به، ورحلوا إلى صحراء موش؛ فأقاموا بها إلى أواخر صفر من سنة اثنتين وأربعين وستمائة، ثم قصدوا ميافارقين. فلما اتصل بالملك المظفر قصدهم إياها حصنها وسترها وأعدَّ فيها المؤن والأقوات وآلات الحصار. ثم خرج منها ومعه ولده الملك السعيد عمر وابن أخيه تاج الملوك الأمير حسن وقصد نصيبين فنزل على رأس الماء ليستريح، فنام يوم وصوله طلبا للراحة، وجلس ابنه وابن أخيه يلعبان بسكين، فسبقت يد الأمير حسن بالسكين إلى الملك السعيد فقتله، فخاف من عمه وهمَّ بقتله فرآه بعض الغلمان، فتواثبوا عليه ومنعوه. واستيقظ الملك المظفر، وسأل عن الخبر، فأُخبر بما جرى فقال: لو أقمنا بميافارقين لم يجرِ علينا من التتر أكثر من هذا!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ثم سار منها إلى حرَّان فنزل في دار العافية. فلما اتصل بالملك النار - صاحب " حلب " - نزوله بحرَّان. تقدم إلى نوابه بها أن يعرضوا عليه النزول يف القلعة فأبى. وقال: م أشُكُ في شفقة السلطان وإحسانه. وقصدت التتر ميافارقين فنازلوها وضايقوها. ووصلت غاراتهم إلى بلد ماردين وبلد آمد، فراسلهم النائب بميافارقين وصانعهم بمال فرحلوا عنها، وعاد إليها الملك المظفر شهاب الدين غازي. ذكر وفاة الملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين وفي سنة خمس وأربعين وستمائة تُوفي الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر لن أيوب، صاحب ميافارقين. في يوم الاثنين ثامن شعبان، وقيل: رجب منها، وترك من الأولاد ثلاثة وهم: - الملك الأفضل نور الدين علي - وهو الأكبر -. - والملك الكامل ناصر الدين محمد - وهو الأوسط -. - والملك الأشرف موسى. ولما حضرته الوفاة أوصى بالملك لولده الملك الأفضل، وجعل تدبيره لعز الدين أبيك - مملوكه - فلما مات طمع الملك الأفضل في الملك، فأخرج من ميافارقين وسار إلى ماردين فأقام بها إلى أن توفي. واستقل الملك الكامل بالملك، وبعث رسولا إلى حلب يعلم بوفاة أبيه، ويرغب إلى الملك الناصر في أن يستمر به على القاعدة التي كانت بينه وبين أبيه، فجلس الملك الناصر في العزاء. ثم بعث الزين الحافظي إليه بإجابته إلى ما سأل. " وأرسل له " على يده خلعة وسنجقا. وكان شهاب الدين غازي - رحمه الله - شجاعا كريما، عالي الهمة، قوي النفس، له وقائع مشهورة. وكان قد نيف على الخمسين سنة. ذكر نزول التتر على ميافارقين ثاني مرة ورحيلهم عنها وفي سنة خمسين " وستمائة " في ربيع الأول منها، نزل بايجونوين على ميافارقين. وكان الملك الكامل لما بلغه قصد التتر بلده رحل عن ميافارقين واستخلف عليها العتمي واستصحب معه أهله، فرتب معه الأمير عز الدين أبيك - الساقي الأتابك - دليلا يعرف بالناصح بن جندر. وكانت إليه ولاية البر، وأوصاه أن يأخذ به طريق الحصن، ليأخذ هو طريق القريشية فيتحصن بها. فسار الملك الكامل إلى جهة حصن كيفا. وأخذ عز الدين أبيك طريق القريشية، فلما وصلها قال له متوليها: إن كان معك الملك الكامل، وإلا لن أفتح لك. وبعث من القلعة من كشف له. هل هو معه أم لا؟. فلما تحقق أنه ماهو معه لم يمكنه من الصعود. وأما الملك الكامل فإنه توجه به الدليل إلى حصن كيفا فأقام عند صاحبه الملك الموحد. وبعث أخاه الملك الأشرف إلى باتو وقصده في منع بايجونوين عن بلاده، وإن كان نزل على بلده فيرحله عنه. فأجابه إلى ما سأل. وشرط عليه أنه متى رحل عنه بايجونوين وأن يصير إليه ليوجهه إلى منكوقا آن وعاد الملك الأشرف فوجد بايجونوين قد نزل على ميافارقين وله عليها أحد عشر يوما. فأورد عليه رسالة باتوخان إليه، فرحل عنها. ولما بلغ الملك الكامل رحيله خرج من الحصن وقصد القريشية عز الدين أيبك - الساقي فلم ينكر عليه مفارقته له. وكان قد رتب بميافارقين أمراء وأجناد عند خروجه منها لحفظها. فلما رحل عنها خرجوا على أنهم يكشفون أخبار التتر فهربوا، وتفرقوا في الجبال، إلى " أن " بلغهم رحيل التتر عن ميافارقين فقصدوا القريشية ليتفقوا مع عز الدين أيبك - الساقي - ويملكوه، فالتقى بهم، فأوجس ذلك " خيفة " فلم برهم أن عنده وهما من ذلك، وعمل لهم دعوة وأحضرهم فقبض عليهم وهم: الأمير سبف الدين بلبان الثورمزي وشمس الدين سرا سنقر وصارم الدين علكان وناصر الدين برايدن وصارم الدين أزبك الخوارزمي وحبسهم في قلعة أرزن. وأراد قبض عز الدين أبيك فهرب إلى بلاد الروم وأقام بها إلى أن مات. ذكر توجه الملك الكامل إلى منكوقاآن لما استقر الملك الكامل بميافارقين، وقبض على من ذكرنا من الأمراء. وكان قد تقرر الأمر بينه وبين باتو على يد أخيه الملك الأشرف أنّه متى رحل بايجونوين عن ميافارقين أن يصير إليه ليوجهه إلى منكوقاآن في بقية السنة التي هي سنة خمسين وستمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فلما وصل إليه قدم ما معه من التحف. وانفق وصول الملك المظفر - ابن صاحب ماردين - والملك الصالح ركن الدين إسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل -، وليفون ابن هينوم - صاحب سيس - وأتهم لما حضروا عند منكوقاآن ادعى كل واحد من الملك المظفر - ابن صاحب ماردين - والملك الكامل، صاحب ميافارقين أنه أحق بالملك من صاحبه، وأكبر بيتا منه. فقال لهما منكوقاآن: ليصف كل منكما ملكه فوصف كل واحد منهما بلاده وممالكه، وما في يده. فأخذ منكوقاآن بيد الملك الكامل فأجلسه فوق الملك المظفر، وقال: أنت أكبر مملكة. ثم جهزهما للعود، وكتب معهما كتابا إلى أخيه هولاكو بالوصية بهما، وقال لهما عند وداعه: ما بقيتم بعد هذه تجتمعون بي إلا من طلبته، وأمركم عائد إلى هولاكو. ذكر عود صاحب ميافارقين من عند منكوقاآن وفي سنة خمس وخمسين وستمائة في أواخر المحرم منها وصل رسوله إلى دمشق وعلى يده هدية وسرالة إلى الملك الناصر، مضمونها أنه وصل إلى ميافارقين سالما في الثاني عشر من المحرم منها: ويخبر أنه فارق الملك الجواد عند منكوقاآن " سالما " وهو على نيةّ الحركة المباركة إلى الشام. ذكر أخذ صاحب ميافارقين آمد كان السبب في ذلك أنه لما عاد من عند منكوقا آن اتصل به أنّ بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - قد كتب إلى ابن خبير الحر - أحد أكابر آمد - ووعده بأشياء كثيرة، وضمن له الوفاء بما وعده على أن يساعده على أخذ آمد. وكان بها نواب صاحب الروم فكتب إلى الملك السعيد - صاحب ماردين - يعرفه بما عزم عليه بدر الدين، ويطلب منه المساعدة على أخذ آمد. فأجابه إلى ذلك. فبعث الملك الكامل إليها عسكرا قدم عليه الملك المشمر - ابن عمه - ونجم الدين مختار - معتق والده - فنزل عليها وحاصرها في شهر ربيع الأول منها، أعني سنة خمس وخمسين " وست مائة ". واتفق أن خرج الأمير شرف الدين أحمد بن شجاع الدين داود بن بلس الهكاري المموري من الروم ومعه عسكر عظيم، ليكشف عن آمد. فلما اتصل بالملك المشمر قربه منه وبعث إليه على يد العماد الهكاري رسالة مضمونها: إنا لم نقصد آمد إلا لما بلغنا أن بدر الدين قد عزم على قصدها، فأقم في منزلتك التي أنت بها إلى أن نجمع عسكرنا، فإنه قد تفرق ثم نرحل عنها. فوصل إليه الرسول، واجتمع به فيما جاء فيه. فبينما هو معه إذ ثارت غبرة انجلت عن فارسين: أحدهما: الملك المشمر، والآخر: مملوك له. فقال العماد لشرف الدين: هذا الملك المشمر قد أتى ليسلم على الأمير. فركب بغلته وتقاه بعيدا عن عسكره. فسلم عليه وعانقه، ثم لحق بالملك المشمر عسكر وأحاطوا به وأخذوه ثم قصدوا عسكره وأحاطوا به وأخذوه. ثم قصدوا عسكر شرف الدين، وهم على غير استعداد، فقتلوا منهم خلقا، وانهزم الباقون ونهبوهم. ثم حمل شرف الدين إلى مخيمه ووكل عليه، وهو في خيمة، فدخل عليه ليلا رجل تركماني يسمى العادل بن سمري فقتله. وعاد الملك المشمر إلى آمد وجدّ في حصارها إلى أن أخذها عنوة في التاريخ المذكور. ذكر توجه صاحب ميافارقين إلى الملك الناصر لما عاد الملك الكامل من عند منكوقاآن إلى ميافارقين خلع الطاعة، وحبس نواب التتر. واتصل ذلك بمنكوقاآن فلم يظهر له تنكر وبعث إليه يأمره أن يتوجه بعسكره إلى بغداد فدافعه وسوفه. فلما نزل هولاكو على بغداد خرج من ميافارقين إلى حرّان فلما وصلها كتب إليَّ كتابا، وكنت بحلب على عزم السفر بالهدية يحذرني من الحركة ويشير عليّ بالمقام إلى أن يجتمع بي. فكتب إلى الملك الناصر أعرفه بوصوله. وخرج الملك " الكامل " من حرّان وسار على البرية حتى نزل القريتين - من أعمال دمشق -. فلما اتصل بالملك الناصر وصوله استشار ذوي الرأي من أهل دولته في تلقيه فأشاروا عليه بالخروج، خلا الزَّين الحافظي فإنه قال: متى بلغ هولاكو خروجك إليه جعله سببا إلى قصد بلادك، والمصلحة اعتذارك إليه ورده. فلم يُمكنِ الملك الناصر إلا موافقة الجم الغفير، فخرج إليه وتلقّاه وأنزله بدار السعادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فلما اجتمعا قال له الملك الكامل: إن هؤلاء التتر لا تُفيد معهم مداراة، ولا تنجح فيهم خدمةٌ، وليس لهم غرض إلا في ذهاب الأنفس، والاستيلاء على البلاد. ومولانا السلطان قد بذل لهم الأموال من سنة اثنتين وأربعين وإلى اليوم فما الذي أثرت فيهم من خلوص المودة؟ فلا يغترَّ مولانا بكلام بدر الدين ولا بكلام رسولك فإنهما جعلاك خبزا ومعيشة. وأحذرك كل الحذر من رسولك فإنه لا يناصحك ولا يختارك عليهم، وغرضه إخراج ملكك من يدك، وأنا فقد علمت أنني مقتول سواء كنت لهم أو عليهم، فاخترت بأن أكون باذلا مهجتي في سبيل الله. وما الانتظار وقد نزلوا على بغداد؟!! والمصلحة خروج السلطان بعساكره لإنجاد المسلمين، وأنا بين يديه، فإن أدركناه عليها فبها ونَعْمتْ، وكانت لنا عند الخليفة اليد البيضاء وإن لم ندركه أخذنا بثأره. فحسن هذا القول في عقول من حضر خلا الملك الصالح نور الدين علي - ابن صاحب حمص - وابن أخيه الملك الأشرف موسى والأمير نجم الدين محمد بن الافتخار ياقوت - أمير حاجب - فإنهم كانوا متفقين مع الزَّين الحافظي باطنا. فعرض عليه الملك الناصر أن يبعث معه رسولا إلى هولاكو يُشفّعُ فيه عنده. فقال له: جئتك في أمر ديني تُعوّضُني عنه بأمرٍ دنيوي، ولو أردت هذا كنت أوجه منك عنده، فإني رأيت وجهه مرتين. فقال له: متى نزلوا عليك أنفذت لك عسكرا تستنصر به عليهم. فقال: كل هذا لا ينفعني حينئذٍ، إذ لا وصول له إليَّ، ثم انفصل الحالُ. وبقي إلى أن أخذت بغداد فاجتمع به، وقرر معه أن ينجده متى قصدهُ. ثم فارقه وقصد بلاده. فلما وصل إلى حلب اجتمعتُ به وقلتُ له: أصبت في قصدك الملك الناصر وما أصبت في رجوعك، هلا قصدت مصر!! فقال: خفت على قلب الملك الناصر. فأشرت عليه أنه إذا وصل إلى بلاده يُخرِجُ منها حريمهُ، ويستخلف بها نوابا ويعود إلى الملك الناصر لعل تنهضُ عزيمته فيُعينه على بلوغ مُراده منه. ذكر ما اعتمده صاحب ميافارقين بعد عوده لما عاد الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازي إلى ميافارقين تواترت عليه الأخبارُ بقصد التتر بلاده، فنقل حريمه إلى قلعة اليمانيّة، وخرج من ميافارقين إلى آمد، فلما وصل إليها جرَّدَ منها عسكرا إلى ميافارقين لتكون مع نائبه فيها الأمير عماد الدين ابن نُباتة. فلما خرج العسكر من آمد عرج منه الأمير شرف الدين الآوي وقصد ماردين لحقد كان في نفسه، وذلك أن الملك الكامل كان قد منع الخمر في بلاده. وكان شرف الدين هذا مُدمنا لها فسأله استئثاره بها فأبى، فحملته الحمية على أن كاتب التتر ووعدهم أن يُسلم إليهم ميافارقين. ولما وصل إلى ماردين أطلع صاحبها الملك السعيد على عزم التتر ليأخذ حذره منهم وأقام عنده إلى أن قصد التتر ميافارقين فتوجّه إليهم. ذكر نزول التتر على ميافارقين خرجت التتر من موغان إلى خِلاط. فلما وصلوا إليها تقدمتهم طائفة إلى ميافارقين مقدَّمها كهداي فاتصل ذلك بالملك الكامل وهو بآمد فجمع خواصَّه واستشارهم. فأشار عليه سيف الدين بن مجلي - زوباشي آمد - ألا يخرج إليهم، ولا أحدٌ من جهته. فلم يوافق ذلك رأيه، وخرج من آمد يريد كبس كهداي. فلما قرُب من عسكره رأى أن لا طاقة له بهم، وخاف ان يُلقي بنفسه إلى التهلكة، وكان ذلك ليلا، فلم يصبح الصباحُ إلا ويشموط بن هولاكو قد وصل بالعساكر. فبادر الملك الكامل إلى ميافارقين فدخلها. ونزلت العساكر عليها في يوم الأربعاء الثاني عشر من ذي القعدة من سنة ستٍ وخمسين. وبعث كهداي رسولا إلى الملك الكامل يحضُّه على الخروج إلى يشموط بهديّةٍ وأن يضايفهُ، فأنكر عماد الدين بن نباتة أن الملك الكامل في ميافارقين، وبعث إليهم ضيافةً فقبلوها. وكانت الهدية على يد ناصر الدين محمد بن ركن الدين طنغر - مملوك السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب - أخي تقيِّ الدين عباس ابن الملك العادل من أمه. فسألوه عن السلطان الملك الكامل فأنكره، فوعدوه بالجميل، وأن يكون في خدمتهم، فأقرَّ أنه بالبلد، واستمر في خدمة التتر ولم يعد إلى ميافارقين، وجُعل أمير شكار بسب أنه كان معه في جملة الهدية طيورٌ جوارحٌ، وكان يلعب بالجارح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ثم وصلت إلى التتر نجدةُ صاحب الموصل مع ولديه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق والملك المظفر علاء الدين علي وعلم الدين سنجر الآمدي. ووصلت إليهم نجدةُ صاحب ماردين مع ولده الملك المظفر، وجدُّوا في طلب الملك الكامل. فلما تمادى أهل ميافارقين على إنكاره حفروا خندقا، ونصبوا المجانيق. ودخلت سنة سبع وخمسين وستمائة. ذكر توجُّهي رسولاً من التتر الذين على ميافارقين خرجت من دمشق رسولا إلى التتر النازلين على ميافارقين في مستهل المحرم صحبة الملك المُفضَّل صلاح الدين يوسف ابن الملك المفضل موسى بن صلاح الدين وأخرج معنا الملك الناصر أولاده الثلاثة وحريمه ليكونوا بحلب وهم: الملك العادل والملك الأشرف وولدٌ آخر صغير. وأمر نأخذ معنا من حلب هديةً إلى يشموط، وهي ألفٌ وخمس مائة دينار عينا، وحياصةٌ مجَوهَرةٌ. فلما وصلنا حماة تعرضت رُسُل التتر لصاحبها وانتهكوا حرمته، وأخذوا شجاع الدين مرشد الخادم - مقدَّم عسكره - وشيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز. وطلبوا الملك المظفر ليأخذوه معهم بسبب الرُّسُل الذين قُتلوا في بلاده، فتوسّطتُ بينه وبينهم على ألفي درهمٍ وضيافةٍ فقبلوها، وأطلقوا من كان أُخِذَ. ثم وصلنا إلى حلب في الخامس عشر من المحرم، وخرجنا منها في الثالث والعشرين منه، فوصلنا إلى حرّان في الثامن والعشرين. ورحلنا منها مستهل صفر، فوصلنا إلى ماردين في الرابع منه فأقمنا باه ليلتين واجتمعنا بالملك السعيد - صاحبها -، وأنهينا إليه رسالةً من الملك الناصر مشافهةً، تتضمن استشارته في أمر التتر. لفم يجبنا بكلمةٍ، وقال: قد ضجِرتُ من نصحي إياه. ثم توجهنا إلى ميافارقين، فوافينا في طريقنا على مدينة صور طائفة من التتر قاصدين الإغارة على الجزيرة ومقدَّمها هندوخان، فقدَّمنا له تقدمةً وانفصلنا عنه بعد أن طبقنا إلى ماردين، وحرّان " وحلب "، بتجفيل مَنْ بها. ثم رحلنا من صور وعبرنا الشطَّ فنزلنا منزلة وصل إلينا فيها من المُغل جماعة كبيرة، ومعهم أميرٌ يقال له: صقلبو، فنزل عندنا، وطلب منا طعاما فأطعمناه. ثمَّ رحلنا ونزلنا منزلة أخرى فوصل إلينا من التتر جماعةٌ، ومعهم قامات، فعرضوا جميع أصحابنا وما معنا من الدَّواب. ثمَّ أوقدوا نارا في ناحيتين، ومروا بنا بينهما، وهم يُضرِّبُنا بالعصيِّ، وأخذوا من عرض الثياب ثوبا خطائيا مذهبا، فقطعوا منه قدر ذراع، ثم قطعوا الذراع قطعا صغارا، ولَقُّوها وأحرقوها بالنار. ثم قالوا: إيل خان يأمركم أن تستريحوا الليلة وتحضروا عنده غدا. فلما أصبحنا حضر إلينا جماعةٌ، وأخذوا ما كان معنا من الهدية، وحملوها بين أيدينا، وأمرونا بالمسير معهم، فلما حضرنا عنده أدَّينا الرسالة، وكان مضمونها التهنئة بالقدوم والشكوى من تعرضهم لبلاده الجزيرة وقتل من بها من الرعية. ونمت عليهم بانقياده إليهم منذ عشرين سنة طوعا واختيارا. وبما يبعثه من الهدايا والأموال التي لم تُجد عليه شيئا. فلما سمعوا الرسالة، أذنُوا لنا بالانصراف إلى المكان الذي أُنزلنا فيه. فلما كان الغد، أحضرونا وأسمعونا كلاما غليظا، وقالوا: إن رعاياكم قاتلونا وبدؤونا الحرب، وإنا لم ندخل الجزيرة إلا في طلب أعدائنا التركمان والعرب. وطلبتُ منهم ما كانوا أخذوه من بلد حرَّان أو العوض عنه. وقُلتٌ: متى لم تنصفونا خرجنا عن الطاعة. فأغاظهم ذلك، وقالوا لي: كم لك رأسٌ؟ من ذا الذي يقابل إيل خان بهذا الكلام؟. ثم أقامونا مُزعَجين، ومروا بنا على قتلى، وقالوا لنا: إن لم تكونوا عقلاء، وإلا كنتم مثل هؤلاء. ذكر ما جرى لي مع نواب صاحب ميافارقين كنا قدمنا القول بأن التتر طلبوه لما نزلوا على ميافارقين فأنكروه!. فلماّ تحققوا أنه أحضرت بعد يومين من هذه المحاورة، وقيل لي: صاحب ميافارقين بطلبك!!. فقلت: مالي عندي حاجة، فقالوا: تتوجه إليه بأمرنا. فقلت: ما أمرني صاحبي بذلك، فقالوا: لابدّ من مضيك إليه. فقلت: ما الذي أقول له إذا اجتمعت به؟ قالوا: تقول له: قد جئنا من عند الملك الناصر لنشفع فيك، على أن تخرج إلى إيل خان وتكون في طاعته. فأبيت تحمل هذه الرسالة، فأمروا بإخراجي، ومروا بي على وادٍ مملوء قتلى، وقالوا: أنت إلى ساعةٍ أخرى من هؤلاء!! فقلت: لا يدفع قضاء الله بحيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فسألني بعض كبرائهم عن المانع من الدخول إليه والاجتماع به. قلت: هؤلاء يريدون أن يعملوا بي حيلة حتى أخرج صاحبها فيقتلوه ويملكوا البلد فيقتلوا من فيه، وأكون السبب في ذلك. فاستعظم ما قلته!! وقال لي: لا تتكلم بهذا تقتل. ثمّ تقدمت إلى باب المدينة ومعي أزدمر بن بايجو فلما وصلنا إلى بابها، خرج إلينا علم الدين الأعسر - واليها - فقلت له: قد أخذت المسألة منكم ومنهم حقّها، وأنتم أخبر بمصلحتكم. وترددنا بينهما ثلاثة أيام، وهم مع ذلك يبعثون إلينا الشواء، والحلوى، والدجاج، ليظهروا بذلك قوة، وكانوا في ضيق من الحال شديد. وقررنا الصلح على مائة ألف درهم سلطانية، وستة آلاف نصفية من عمل البلد، وثلاثين جملا، وثلاثين بغلا، وسبعين فرسا. فأخرجوا لنا بعضها، وقالوا: متى رحلوا سيرنا الباقي إليهم. فرحلوا من غربي البلد إلى شرقية، عازمين على الرحيل. فوردت عليهم كتاب من بدر الدين - صاحب الموصل - يخبرهم فيها أن الشهرزورية والأمراء الصالحية وصاحب الكرك قد اتفقوا على الملك الناصر وأخرجوا عساكره من البلاد، وألجؤوهم إلى دمشق، وقد عزم على الهرب منها. هذا وكتبه تصل إليّ يحرضني على ترحيل التتر عن ميافارقين والإصلاح بين الملك الكامل وبينهم، فلما وقفوا على مكاتبته، عدلوا عن الصلح، ومالوا إلى الغدر. وكان القتال قد بطل أياما، فاغتنم الملك الكامل الفرصة في عمارة ما هدمته المجانيق من السور. فأحضرنا عند يشموط وسألنا عن الأمراء الصالحية وعدتهم، فأخبرته أنهم شجعاءُ الإسلام، وهم الذين كسروا عسكر اريدافرانس على دمياط. وأنهم يكونون ألف فارس، فأنكروا ذلك وقالوا: إن عدتهم أقل من هذا. فقلت لهم: أنا أعرف الذي نقل إليكم. ثم جدوا في القتال، وأمروني بالعود. ذكر عودي إلى حلب لما أذن لي يشموط بالعود رحلت إلى ماردين، واجتمعت بالملك السعيد فقال لي: قد بلغني ما فعلته في حق المسلمين، فجزاك الله خيرا. ثم قال لي: أنا أقرض صاحبكم ثلاث مائة ألف دينار مصرية، ويسير لي ثلاثة آلاف فارس، اقتراحهم عليه، ويصل إلى حلب بنفسه، وله عليّ أن أرحل التتر عن ميافارقين. فإذا بلغت غرضي من ذلك، اتفقت معه على قصد الموصل وإخراجها من يد هذا المنافق. فاستحلفته على ذلك فحلف. ثم توجهت إلى حران فوافاني عليها كتابه يخبر فيه أن التتر ندموا على إقامتهم، وعزموا على ردك لتوفق بينهم وبين صاحب ميافارقين. ثم توجهت إلى حلب فوافاني بها كتاب الملك السعيد يخبر أن يشموط رحل عن ميافارقين واستخلف سنتاي في ثلاثة آلاف راجل ليمنعوا صاحبها من الخروج منها. والسبب في رحيلهم كثرة الأمطار والثلوج. وعدم الأقوات، ووقوع الفناء في خيولهم، حتى لم يبق معهم سوى ألف وخمس مائة فرس. وكان رحيله في سلخ شهر ربيع الأول. ورسل الملك الكامل تتواتر إلى دمشق، وقصاد حريمه مستصرخين، بحيث إنهم سيروا مقانعهن وشعورهن. واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقضت سنة سبع وخمسين. ولما حللت حلب ورد عليّ كتاب الملك الناصر يستدعيني فخرجت منها قاصدا دمشق فدخلتها في العشرين من جمادى الأولى. ثم خرجت منها قاصدا الملك الناصر فوافيته عائدا من القدس الشريف ومعه العساكر والشهرزورية على قراوى. فعرفته ما شار به صاحب ماردين فلم يحر جوابا. ذكر استيلاء التتر على ميافارقين قد مضى لنا في سنة ست وسبع وخمسين طرف من أخبارها. ووقفنا عند رحيل يشموط عنها بسبب الموتان الذي وقع في الخيل وقلة العلوفات في عسكره، وهجوم الشتاء. فلما انقضى الفصل عاد بجيوش كثيفة إليها، ونزل عليها. وكان أهلها لما رحل عنها قد بنوا سورا وحفروا خندقا وأجروا فيه الماء من عين حنباص وعين جوزة، وقطعوه عن البلد، وبنوا الشراريف، وحفظوا الأسوار ممن يريد الخروج من البلد والهروب. ووصل إليهم بعد نزول يشموط شرف الدين العلائي - أمير القراغلية - وقال: إني قد اشتريت هذا البلد وأهله بسبعين ألف دينار من هولاكو. وطلب منهم برانس جوخ على أنه إلى نسائه ويحضرهن إليهم. فوثقوا بقوله وأعطوه سبعين برنسا، وكان ذلك حيلة منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ثم وصل إليهم من بدر الدين - صاحب الموصل - مملوك أخبرهم أن بدر الدين قد بذل روحه وماله وابتاع البلد من هولاكو. فقال له علم الدين سنجر الأعسر الخوارزمي وحسام الدين بن رش وعماد الدين الهكاري: نحن نعرف محال أستاذك، والله ما ينزل إلا مع حجارتها فإنا قد بايعنا الله تعالى. وعزم حسام الدين على ضرب رقبته، فلم يمكنه عماد الدين. ولما فارق السلطان عز الدين - صاحب بلاد الروم - هؤلاء على سروج عند قصده حلب وصل إلى ميافارقين ووقف تجاه السور. وطلب الطواشي نجم الدين مختار، وحسام الدين بن رش وعماد الدين الهكاري وعلم الدين سنجر الأعسر، فلما حضروا قال لهم: المصلحة أن يخرج الملك الكامل إلى هولاكو، فإني قد استطلقته منه، وقد عفا عنه. فقالوا له: إن رحل عسكر التتر عنا إلى جسر القرمان خرجنا بحريمنا وأولادنا، ونحضر مع الملك الكامل إلى بين يدي " هولاكو ". فلم يجيبوا التتر إلى ذلك وقالوا: متى خرج الملك الكامل من ميافارقين تعلق بالحبال. ولما توجه عز الدين جدوا في الحصار وقلت الأقوات في البلد، ووقع الوباء في أهله، ونصبت التتر على البلد ست مائة سلم على السور. يصعد في عرض الدرجة ست عشرة نفسا. وكان المتسلم لباب الكر والقبلة الأمير سابق الدين لاجين الخرندار - أحد مماليك شهاب الدين غازي -. فنزل إلى بيته بعض الليالي، من غير أن يعلم به، فنزل مملوك له يسمى أقوش إلى التتر وأعلمهم بغيبة أستاذه عن الباب. فأقاموا سلما وصعد فيه نحو من ثلاث مائة نفس. وكان بين السورين خادم لصاحب الحصن يسمى دينار، فلما رآهم أخذ رمحه ومشى مع السور، وطعن منهم رجلا فوقع على أصحابه، فصاحوا، فشعروا بهم، ونهض الناس إلى قتالهم، وركب الملك الكامل والطواشي نجم الدين مختار وطلعا إلى السور، وجد القتال بين التتر وبين المسلمين، فقتلوا التتر عن آخرهم، ووقعت جثثهم خارج السور. فأمر الملك الكامل ألا يمكن التتر من أخذها. ففتح الباب وخرج منه سبعون فارسا ومئتا راجل، فأخذوا ما قدروا عليه بعد حرب شديد. ثم اشتدت الحال على ميافارقين بكثرة القتل والجوع والفناء. فوقع الاتفاق على أن يخرج الملك الأشرف موسى ابن الملك المظفر شهاب الدين غازي إلى سنتاي ويبذل له السناسنة على أن يرحل عن ميافارقين. فأجابهم إلى ذلك، خداعا منه. وتوجه فتح الدين يحيى بن بدر الدين ممدوح ابن الصرمنكي في طائفة من المغل ليسلمها إليهم، فطلب من الوالي تسليمها ظاهرا، وهو يشير إليه ألا يفعل، فتبين لهم منه ذلك فقتلوه، وبقي عندهم الأشرف موكلا عليه. ثم اتفق بعد خروجه أن مملوكين من مماليك افتخار الدين ياقوت الخادم السّعدي ضربهما أُستاذهما بسبب تقدمهما على غلمان الملك الكامل وقلة أدبهما معهم، فعظُم ذلك عليهما وحملهما على أكاتبا التتر وقالا لهم: أيَّ شيءٍ تعطونا حتى نسلم إليكم البلد؟ فقالوا: نُعطيه لكما. وكتبوا لهما بذلك كتابا. فقالا لهم: إذا كان يوم الخميس، وهو اليوم الثالث والعشرون من ربيع الآخر ينزل الحرس إلى أشغالهم، فارموا إلينا سلّما. فلما كان سحر ذلك اليوم اتفق أن نزل افتخار الدين ياقوت وعلم الدين سنجر الخوارزمي إلى الحمام، وخلا السور، فأخذ المملوكان السُّلّم ونصباه فصعد فيه من المُغُل البهادريّة جماعةٌ، واستبق بعضهم بعضا فتكمّل على السور في الساعة الراهنة ستة آلاف نفرٍٍ، فقاتلهم الأمير حسام الدين بن رش حتى قُتل ووجدت فيه اثنتان وسبعون ضربة بالنُّشاب. وسار الأمير علم الدين سنجر إلى الملك الكامل فاستنهض عزمته، وأيقظ همّته، فركب إليهم، ومعه الأمير علم الدين - المذكور - فقاتلا قتالا شديدا. ثم انهزم الملك الكامل واحتمى ببعض الأبراج. وأُسر علم الدين. وكان أحد مقدَّمي المغل يسمى بوتاي نُوينَ قد رأى مصابرة علم الدين في الحرب، فطلبه من يشموط فأعطاه إياه، فحماه. فلما اطّلع سُنتاي على ذلك أخذه وقتله، وقال: هذا قَتَل من المُغُل خلقا كثيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ثم هجم التتر البرج الذي فيه الملك الكامل فقاتلهم مَنْ فيه إلى أن قُتل أكثرهم، وأُخذ أسيرا، ومعه مملوكٌ له تُركيُّ يُسمى قراسُنقُر وقالوا له: نحن ما نقتلم، لأنّا لم نؤمر بذلك. وسلّموه إلى صاحب كنجْةَ وجعلوا في عنقه دوشاخ خشبٍ، وحُمل وأخوه الملك الأشرف إلى هولاكو فلقوه قريبا من سروج عائدا من الشام فاستحضر الملك الأشرف أولا، وقال: لأي معنى كنت معنا إلى أن كان الحصارُ فخرجت عنّا إلى أخيك وصرتَ معه؟. وَلِمَ لا خرجت إلى ولدي؟ فقال: إنيَّ لم يكُن لي حُلمٌ، وإنما كان لأخي، وكنت تبعا له. فأمر بقتله، فقُتِل. ثم أحضر أخاه الملك الكامل، فلما مثل بين يديه قال: إنه أنت تعلمُ سياسة المغل وما هم عليه، وإنهم إذا عمل أحدهم ثلاثة ذنوب يُعفى عنه، وفي الرابع يُقتل، وأنت: سقيتُك في همذان فما شربت؟ وأمرتك بهدم سور آمد وتُعطيها لرِكن الدين - صاحب بلاد الروم - ما فعلت! وقُلت لك: خُذ اخوتك، وأموالك وعساكرك والتقيني على بغداد حتى نُقاتل الخليفة فامتنعت!! والذنب الرابع: إني عبرتُ على بيوتك فلم تخرُج إليَّ، ولا سيّرت لي هدية ولا ضيافةً، ولا أبصرتَ وجهي حتى لا تموت. فأجابه الملك الكامل: من أنت حتى أتحمل المشقة في رؤية وجهك؟! أنت ما لكَ قولٌ ولا دينٌ؛ بل خارجيٌ يجبُ عليَّ قتالك، وأنا خيرٌ مِنْكَ. فقال هولاكو: بأي شيء أنت خيرٌ منيِّ؟ فقال: لأنني أؤمن بالله وبرسوله، ولي دينٌ وامانةٌ، ومع هذا فإن المُلك بيد الله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء. وكان لنا من عَدنٍ إلى تبريز، فذهب منا ذلك. وكذلك يفعل الله بك إذا أراد، يُرسلُ عليك مَنْ يقتلك، ويسبي ذرِّيّتك، ولا يترك من عسكرك أحداً. فقال له: كلامك أكبر منك، لأنك من السّلاطين الصِّغار؟. ثم وكزه بسيف كان في يده فخرق بطنه. وأمر سونجق فضرب عنقه وبعث برأسه إلى الشام، فطيف به في البلاد، وعُلّق على باب الفراديس بدمشق، فبقي مدة. ثم سرقه مجد الدين - إمام مسجد رُقيّة ودفنه في طاقٍ إلى جانب محراب المسجد. - رحمه الله -. ذكر ما لقي أهل ميافارقين م الشدة في الحصار لما ملك التتر ميافارقين وجدوا بها من العوام ثلاثةً وستين نفسا، ومن الأجناد اثنين وأربعين رجلا وافتخار الدين ياقوت السعدي. ونجم الدين مختار الخادم المظفري وبلغت الأسعار بالمدينة: القمحُ - المكوكُ بكيل ميافارقين - خمسة وأربعون ألف درهم. والخبز - رِطلٌ، وهو سبعمائة وعشرون درهما - بستمائة درهم. اللحمُ - من سائر أجناس الحيوان - الرطل بستمائة درهم. واللبنُ الرطل بسبعمائة درهم. والعسلُ الأوقية بستمائة درهم. والبصلة بثلاثةٍ وخمسين درهما. وأُبيعَ رأس كلبٍ بستين درهما. وحكى المخبرُ بهذا أنه رأى بقرةً أيبعى لنجم الدين مخترا الخادم سبعين ألف درهم. واشترى الملك الأشرف رأسها وكوارعها بستة آلاف درهم وخمسمائة درهم. وعملها قريصا وأهداها لأخيه. وبيعت أوقية السلق بستة دراهم. وذكر أن رجلا يُدعى أبا بكر بن عبد الرحمن البزاز، اتُّهم أنه يطلبُ النزول إلى التتر فأمر الملك الكامل بشنقه. فشفع فيه حتى حُبس، ثم سُئل سنقر العلكاني وكان من وجوه الدولة أن يُشّفعَ فيه، فشرط على أهله شِبعَهُ. فاشترى له من رجلٍ يدعى التقيُّ الرَّبضيُّ رطل خبز بسبعمائة درهم. وأُوقيتي عسلٍ بستمائة درهم. وأوقيتي سمنٍ بستمائة درهم. وعُمل له ذلك بسيسة. واشتُريَ له حجلتان وقعتا من صيد البر بثلاثمائة وخمسين درهم. وأبيعت فروجان بسبعمائة درهم. وأبيعت الجلود المصلوقة، الرطل بمائة وأربعين درهما. وأبيعت فجلةٌ بخمسة عشر درهما. وبلغت بهم الحال إلى أنه من قويَ على صاحبه أكله. كل ذلك وهم يحافظون على مَلكِهم. وكان ينزل إليهم كلَّ جمعة ويجتمع بهم في الجامع ويقول لهم: ليس الغرض من هؤلاء الجماعة كلهم غيري، دعوين أخرج إليهم وسلّموا البلد إليهم لتأمنوا على أنفسكم ومواليكم. فيقولون: معاذ الله أن نفارقك حتى تروح أرواحنا؟! ولما أُخذت ميافارقين ودخلوها التتر، جمعوا من بقي فيها من أعيان أهلها في الجامع، وهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 سيف الدين المعلم وأخواه: نجم الدين دفتر خوان وتقي الدين الأطروش والشمس بن الخطيلي، وفخر الدين محمد بن الفقاعي - الوزير -. وغيرهم. وطلبوا منهم مالا، فلم يعطوهم شيئا، وقالوا: نحن قادرون على المال، ولكنا نرى المسلمين أحقَّ منكم فقتلوهم، خلا تقيَّ الدين الأطروش فإنهم أبقوا عليه، وأبادوا من بقي في البلد من أهله، حتى لم يبقَ منهم إلا سبعة أنفسٍ وهم: 1 - شمس الدين قراسُنقُر. 2 - وعلاء الدين اللاوي. 3 - والحاج محمد الحصني. 4 - والحاج محمد القاصد. 5 - وتقي الدين الأطروش. 6 - والنجم ابن الجبل جودي. 7 - وشمس الدين سنقر العلكاني. ثم أخربوا البلد، ونقضوا أسواره، وهدموا الفصيل، ورحلوا عنها، ولحقوا بهولاكو. فأعطي البلد لعبد الله اللاوي - أمير آخور هولاكو - وهو بها من قِبلِهم إلى حين وضعنا هذا الكتاب، وهو سنة تسع وسبعين وستمائة. فسبحان مَنْ ليس لملكه انتهاء، ولا لسلطانه وعِزِّه انقضاء. ذكر آمد عدنا إلى أخبار آمد ومن وليها بعد افتراقها عن ميافارقين وما تجدد فيها ذكر مُلك الأمير صادر آمد لم تزل أمد في يد تاج الدول تُتُش إلى أن قُتل في صفر سنة ثمان وثمانين وأربع مائة. فاستولى الأمير صادرُ على آمد، وبقيت في يده إلى أن توفي سنة ........ فملكها الأمير ينال - أخوه - ثم توفي. وملكها فخر الدولة إبراهيم، فبقيت في يده إلى أن توفي. فملكها ولده سعد الدولة إيللدي إلى سنة ست وثلاثين وخمس مائة ومات. وولي بعده ولده جمال الدين محمود ولم يزل بها إلى سنة اثنتين وأربعين وخمس مائة. فخطب من حسام الدين تمرتاش بن أُرتق ابنته ضيفة خاتون فوصل إليه عز الدولة بن مؤيد الدين بن نيسان وعقد له عليها فحملت إليه إلى آمد، ثم توفيت بعد ذك. ثم إن حسام الدين تمرتاش قصد آمد وحاصر جمال الدين محمود وضايقه، فأدى الحال إلى أن خرج مؤيد الدين بن نيسان وأولاد جمال الدين معه إلى خدمته، وقدموا له تقدمةً أصلحوا الحال معه فرحل عنهم. وفي سنة إحدى وخمسين وخمس مائة توفي مؤيد الدين أبو علي بن نيسان بآمد في غُرة شعبان منها. وولي جمال الدولة، أبو القاسم مكانه. وتوفي جمال الدين محمود ولم أتحقق وفاته. وولي ولده الصغير، وولي أمره وأتابكيّة عسكره الأمير بهاء الدين إبراهيم بن نيسان، ولم يزل بها إلى أن قصده السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة سبع وسبعين وخمس مائة. ذكر ملك الملك الناصر صلاح الدين آمد وإقطاعها لنور الدين قرا أرسلان " كان السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب قد نزل بحرزم - تحت ماردين - فلم يطمع بها، فسار إلى آمد، وكان نور الدين محمد ابن قرا أرسلان يطالبه بقصدها كل وقت، فسار إليها ووصلها في سابع عشر ذي الحجة من سنة ثمان وسبعين وخمس مائة، ونازلها، وأقام بحصرها، فكان المتولي لأمرها، والحاكم فيها بهاء الدين إبراهيم بن نيسان، ولم يكن لصاحبها أمرٌ مع ابن نيسان. فلما نازلها صلاح الدين أساء ابن نيسان سيرته مع أهلها، ولم يُعطِ الناس شيئا من الذخائر، ولا فرَّق فيهم دينارا واحدا ولا قوتا، وقال لأهل البلد: قاتلوا عن أنفسكم، فقال له بعض أصحابه: ليس العدو كافرا حتى يقاتلوا عن أنفسهم. فلم يفعل شيئا. وقاتلهم الملك الناصر صلاح الدين ونصب المجانيق، وزحف عليها وهي الغايةُ في الحصانة، وبها وبسورها يُضرب المثل، وابن نيسان مستمر على حاله بالشُّحِّ بالمال، وتصرفه تصرف من قد ولّت سعادته، وأدبرت دولته. فلما رأى الناس منه ذلك تهاونوا بالقتال وجنحوا إلى السلامة. وكانت أيام بني نيسان قد طالت وثقلت على أهل البلد، لسوء صنيعهم، وتضييقهم في مكاسبهم فالناس كارهون لها، مُحبون لانقراضها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وأمر صلاح الدين أن يكتب على السهام إلى أهل البلد يعدهم الخير والإحسان إن أطاعوه، ويتهددهم إن هم قاتلوه. فزادهم ذلك تقاعدا وتخاذلا، وأحبوا مُلكهُ، وتركوا القتال. فوصل النقَّابون إلى السور فنقبوه وعلقوه، فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك طمعوا في ابن نيسان، واشتطُّوا في الطلب، فحين صارت الحال كذلك أخرج ابن نيسان نساءه إلى القاضي الفاضل - وزير صلاح الدين - يسأله أن يأخذ له الأمان ولأهله وماله، وأن يؤخّر ثلاثة أيام لينقل ماله بالبلد من الأموال والذخائر. فسعى له القاضي في ذلك. فأجابه صلاح الدين فتسلم البلد في العشر الأوَّل من المحرم من هذه السنة. وأخرج خيمته إلى ظاهر البلد، ورام نقل ماله فتعذر ذلك عليه لزوال حكمه على أصحابه، واطّرحهم أمرهُ ونهيه، فأرسل إلى صلاح الدين سأله مساعدته على ذلك، فأمده بالدواب. فنُقل البعض وسُرق البعض، وانقضت الأيام الثلاثة قبل الفراغ. فمُنع من الباقي، وكانت أبراج المدينة مملوءة من الذخائر فتركها بحالها، ولو أخرج البعض منها لحفظ البلد، وترك باقي نعمه وأمواله، فإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه. فلما تسلمها صلاح الدين سلمها إلى نور الدين - صاحب حصن كيفا - فقيل له قبل أن يسلمها إليه: إن هذه المدينة فيها من الذخائر ما يزيد على ألف ألف دينار، فلو أخذت ذلك وأعطيته جندك وأصحابك، وسلمت إليه البلد فارغا لكان راضيا به، فإنه لا يطمع في غيره. فامتنع من ذلك وقال: ما كنت لأعطيه الأصل وأبخل عليه بالفرع. فلما تسلمها نور الدين اصطنع دعوة عظيمة دعا إليها السلطان الملك الناصر صلاح الدين وأُمراءه، ولِمَنْ دخل من أهل البلد، وقدم من الهدايا والتحف " شيئا كثيرا ". ذكر وفاة نور الدين محمد بن قرا أرسلان ولم يزل نور الدين محمد بن قرا أرسلان مالكا آمد يُحسن السِّيرة في الرعية من إسقاط المؤن والكِلف عنهم، وإظهار العدل فيهم. وعمّر ما كان استهدم منها إلى أن توفي في سنة إحدى وثمانين وخمس مائة. " ولما توفي سار ولده قُطبُ الدين سقمان إلى خدمة السلطان الملك الناصر صلاح الدين، وهو إذ ذاك على ميافارقين فأقره على ملك أبيه، ومن جملته آمد، وكان خائفا أن يأخذها منه فلم يفعل. وردَّهم إلى بلادهم، وشرط عليهم أن يصدروا عن أمره ونهيه ويراجعوه فيما يفعلونه. ورتب معه أمير من أصحابه يُقالُ له: صلاح "، " واستمر قطب الدين سقمان بن نور الدين محمد ابن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أُرتق، صاحب آمد والحصن بآمد إلى أن سقط من سطح جوسق كان له بظاهر ححصن كيفا فمات يف سنة سبع وتسعين وخمس مائة. وكان شديد الكراهية لأخيه، فأبعده عنه وأنزله حصن منصور، وهو آخر بلادهم، واتخذ مملوكا اسمه إياس وأحبه حبّا شديدا وزوجه أخته، وجعله ولي عهده. فلما توفي مَلكَ بعده عدة أيام وتهدد وزيرا كان لقطب الدين، وكذلك غيره من أمراء الدولة فأرسلوا إلى أخيه الملك الصالح ناصر الدين محمود سرا يستدعونه، فسار مجدّا فوصل إلى آمد وقد سبقه إليها إياس - مملوك أخيه - فلم يُقدم إياس على الامتناع منه فتسلم الملك الصالح البلاد جميعها وآمد، ومَلكَها وحبس إياس، فبقي مدة محبوسا، ثم شُفع فيه صاحب بلاد الروم فأُطلق من الحبس، وسار إلى بلاد الروم فصار أميرا ". ولم يزل الملك الصالح ناصر الدين محمود بن نور الدين محمد ابن قرا أرسلان مستمرا على ملكه آمد وما بيده غيرها إلى سنة تسع عشرة وست مائة. وكان على ما يُقال: مائلا " إلى " الظلم، وقُبح السِّيرة، متظاهرا بمذهب الفلاسفة، فبقي فيها إلى أن توفي. وملك بعده ولده الملك المسعود، رُكن الدين مودود، فسلك سيرة أبيه في الظلم والعسف، وارتكاب الأليق إلى سنة تسع وعشرين وستمائة. قصده الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب - صاحب الديار المصرية - وكان ذلك أن الملك المسعود المذكور ظهرت منه أُمورٌ لا تليق بمثله، من جملتها انتماؤه إلى جلال الدين فخطب له في بلاده، وأساء جوار الملك المظفر شهاب الدين غازي - صاحب ميافارقين - وتخطف بلاده، وجاهر الملك الكامل بالعداوة، وكذلك صاحب قونية علاء الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وأوكد الأسباب أنه كان كثير الولع بالنساء، منهمكا في ذلك، وكان والد مُزوَّجا بابنة السلطان الملك العادل. فلما مات والده أساء إليها إساءة كثيرة، وبدا منه في حقها أمورٌ لا يليق ذكرها. فخرجت من عنده وقصدت أخاها الملك المظفر شهاب الدين غازي بميافارقين، وكان شقيقها وشكت إليه، فكتب إلى أخويه الملك الكامل والملك الأشرف وعرَّفهما بذلك. فكتب الملك الكامل إلى الإمام المستنصر بالله يشكوه إليه، ويذكر معايبه، وتعرضه لحرم رعيته، ويستأذنه في قصده فأذِن له. ذكر ملك الملك الكامل ناصر الدين آمد لما أذن له الإمام المستنصر " بالله " بقصده، سار إليها، ومعه أخوه الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك العادل ونزلا عليها في العشرين من ذي الحجة من سنة تسع وعشرين وستمائة. وكان معهما مُنجمٌ يُدعى شمس الدين يوسف فأمرهما ألاّ يزحفا عليها إلاَّ في وقتٍ عيّنه لهما، وهو اليوم الخامس والعشرون من الشهر، فلما كان اليوم المعيّن رتب العسكر للزحف، وقرر مع " أصحاب " الطبل خاناه أن تحرُّكَ حتى يرسم لهم. وبقي العسكر واقفا في ذلك الوقت، ومعه جِمالٌ تحمل تبنا، وعلى أحدها طبلٌ، فلما قَرُبَ من العسكر ضربَ طبله على عادته فسمعته طبل خاناه الأمراء، فظنوا أن طبل خاناه السلطان قد ضربت، فضرب العسكر جميعه، فزحف الأطلاب زحفة رجل واحد، فلما رآهم صاحب آمد، هاله ذلك، فنادى بالأمان، فأمنّه الملك الكامل على أمواله وأهله، وعلى أن يُقطع إقطاعا بالديار المصرية، فتسلمها وما كان في يده من الحصون خلا حصن كيفا ، فإن الذي كان به نائبا لم يسلمه. فسيّر الملك المسعود إليه فسار إلى الحصن وأظهر لمن فيه أنه يُعذَّبُ بسب امتناعهم من تسليمه، فسلموه إليه في المحرم من سنة ثلاثين وست مائة فرتب فيه وفي آمد نائبا عنه ابن أخيه شمس الملوك، سيف الإسلام، أحمد ابن الملك الأعزِّ شرف الدين يعقوب ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب فحكم بها اثني عشر يوما ثم توفي، فدُفن على باب آمد - رحمه الله -. وحكى لي الأمير نجم الدين محمود بن الشقاري - أحد حُجاب السلطان الملك الكامل - أن شمس الدين يوسف - المنجم المقدم كره - حضر بين يدي السلطان الملك الكامل، وهو راكبٌ في ساعة الزحف، فقال له: إن زحفت عليها الساعة أخذتها، وما تُصليِّ العصر إلا بها. فزحف عليها، فأخذها في الحال، وصلى العصر بها، ولم يصب من العسكر غير رجل واحد يُعرف بعثمان الزَّرّاق أصيب في وجهه فمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ولما توفي شمس الملوك بآمد، ودُفن - كما ذكرنا - رأى السلطان الملك الكامل أن يخبر مصاب ولده شهاب الدين غازي، ورمى بذلك حقَّ والده، فولاه آمد، وأشرك معه شمس الدين صواب العادلي، فلم يزل بها إلى أن بلغ السلطان الملك الكامل عنه أنّه كابت صاحب الروم علاء الدين وأراد بيع آمد فنفذ إليه استدعاه إلى مصر، فحبسه بها، وولاها ولده السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب فاستقل بها، ومعه شمس الدين صواب - الحاكم بها - إلى أن دخلت سنة ثلاث وثلاثين وست مائة توفي شمس الدين صواب ودُفن بآمد، واستقل السلطان الملك الصالح بآمد وغيرها، ولم تزل في يده إلى أن خرج منها إلى الديار المصرية وملكها، فاستناب بها ولده الملك المعظم توران شاه فأقام بها إلى أن بلغه قصدُ عسكر السلطان غياث الدين آمد فخرج منها، وترك بها نوابه، فنازلها العسكر المذكور، وحاصروها وضايقوا، فلم يكن للذين بهم طاقةٌ بهم، فطلبوا منهم الأمان على نفوسهم وأموالهم، فأُجيبوا إلى ذلك وملكوها. ولم تزل بأيديهم إلى سنة خمس وخمسين وستمائة، في شهر رجب منها، قصدها الملك الكامل ناصر لدين محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب - صاحب ميافارقين - وكان السبب في قصده لها أنه لما عاد من عند منكوقاآن اتصل به أن ابن خبير الجار - أحد أكابر آمد - قد كاتبه بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل -، واستماله بالمواعيد، وضمن له الوفاء بها إن هو أعانه على أخذ آمد. وكان بها نواب صاحب بلاد الروم. فلما اتصل ذلك بالملك الكامل كتب إلى الملك السعيد - صاحب ماردين - يُعرِّفه بما عزم عليه بدر الدين لؤلؤ ويطلب منه إنجاده وإسعاده على قصد آمد فأجابه إلى ذلك. فبعث الملك الكامل إليها عسكرا قدَّم عليه الملك المُشمِّر - ابن عمه -، ونجم الدين مختار - مُعتَق والد - فنزل عليها في ربيع الأول وحاصرها. واتفق أن خرج الأمير شرف الدين أحمد بن شجاع الدين داود بن بلس الهكاري المموي من الروم، ومعه عسكرٌ عظيمٌ لكشف حال آمد، فاتصل بالملك المشمر قُربهُ من البلاد، فبعث إليع رسالة على يد العماد الهكاري من مضمونها: إنّا لم نقصدُ آمد إلا لما بلغنا قصدُ بدر الدين لها، فأقم في منزلتك التي أنت بها حتى نُجمِّع عسكرنا، فإنه مفرَّقٌ في بلدها للغارات، ونرحل عنها. فلما وصل إليه الرسولُ، واجتمع به فيما جاء به، فبيما هو مجتمعٌ به ثار قتامٌ ثم انجلى عن فارسين أحدهما الملك المشمر ومملوكٌ له يقال له العماد. ..... هذا الملك المشمر قد جاء ليسلم عليك، فركب شرف الدين بغلته وتلقاه من مدى بعيد عن عسكره، فسلم عليه وعانقه. ثم لحقَ الملك المشمر جماعةٌ من عسكره، فأحاطوا بشرف الدين وأخذوه وتواترت أصحاب الملك المشمر وقصدوا عسكر شرف الدين على غير استعداد فنهبوهم، وقتلوا منهم خلقا وانهزم الباقون. ثم حمل شرف الدين إلى مخيمه فجُعل في خيمةٍ، فدخل عليه في الليل تركمانيٌ يُقال له ابن سمرى فقتلهُ. ولم يزل الملك المشمر محاصرا لها إلى أن أخذها في التاريخ المقدم ذكره، وقد تقدم ذكر ذلك مُستقصي في ترجمة ميافارقين، ونزول يشموط بن هولاكو على ميافارقين وحصاره لها، وبها يومئذ اللمك الكامل ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المظفر شهاب الدين غازي صاحبها. فلم يزل التتر محاصرين لميافارقين إلى شهر ذي الحجة من سنة سبع وخمسين وست مائة. " إلى أن " وصل هولاكو واستدعى بسيف الدين ذل ابن مجلي - النائب بآمد يومئذ، عن الملك الكامل فخرج إليه فطلب منه تسليم آمد فسلمها إليه فتسلمها، ثم سلمها إلى عز الدين وأخيه رُكن الدين - صاحبي بلاد الروم - فتسلماها. ثم إنهما اقتسما البلاد، فحصلت آمد في يد رُكن الدين قليج أرسلان، فلم تزل بيده إلى أن قتل في سنة ست وستين وست مائة، ونوابه بآمد مع نواب التتار. ثم انتقلت بعد أن قُتل رُكن الدولة " إلى " ولده غياث الدين. ولم تزل بيده إلى حين وضعنا هذا الكتاب، وهو سنة تسع وتسعين وست مائة. فسبحان الدائم الذي ليس لمُلكه انتهاء، ولا لسلطانه انقضاء. ووقفتُ على رسالة للقاضي الفاضل في صفة آمد لما افتتحها صلاح الدين يوسف بن أيوب في المحرم من سنة ثمان وسبعين وخمس مائة، نقلت منها فصلا، وهو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 " ذِكرُها بين العالم مُتعالمٌ، وطالما صادم جَانبهَا من تقادم، فرجع عنها مجدوعا أنفه وإن كان فحلا. وفرَّ عنها فريد الهمّة وإن استصحب حفلاً. ورأى حَجَرها فقدَّر أنه لا يُفكُّ له حجرٌ، وسوادهّا فحسِبَ أنه لا ينسخه فجرٌ، وحِميّةٌ أنفِ أنفَتَها فاعتقد أنه لا يستجيب لِزجرٍ، من ملوك كلهم قد طوى صدره على الغليل إلى موردها. وكلهم وقف بها وقفة المُحبِّ المسائل، فلم يفُزْ بما أمّل مِنْ سؤال مَعهدِها ". حصن كَيفَا كهفٌ على جبلٍ عالٍ، زايد الارتفاع، مستوٍ كالحائط تحفُّ به جبالٌ شاهقةٌ من ثلاث جهات، خلا الجهة الشمالية فإنها يحفُّ بها الشطُّ. وبالقلعة قصورٌ ودورٌ للسلطنة وغيرها، وأبرجةٌ مبنيةٌ بالحجر على نفس الجبل. وبالقلعة ميدان أخضر، وجامعٌ، وبها مزارع يزرع بها من القمح والشعير والحبوب ما يَميُر أهلها من السنة إلى السنة. وبالجبال المحيطة بها أعينٌ خرَّارة. وبالجبل الذي من شرقيها عينُ ماء تأتي من ناحية طور عبدين تدخل إلى الحصن ومنها حضرة الميدان. وبالحصن سرابات تحت الأرض إلى الشط، على هيئة الحلزون، ينزل منها أهل الحصن إلى الشط يستقون الماء ويعودون ولا يراهم أحدٌ. والسرابات واسعة بحيث أنه تنزل فيها البغال لنقل الماء. وللقلعة من جهة الشرق طريق، تُعرف بالشِّعبِ، عسرُ المسلك يُدخلُ منه إلى القلعة، ويُنزلُ منه إلى الخندق. وبالخندق دورٌ ومساكنُ وحوانيتُ معطّلةٌ ليس بها ساكنٌ. ولها ربضٌ من جهة الشمال، به الأسواق والحوانيت والمدارس والحمامات. وبها مدافن، وتُرب الملوك من بني أُرتق وبني مروان. وبالربض من جانب الشط دارٌ تُعرفُ بدار السلطنة مليحة جدا. ولها جسر على قناطر معقودة، يُعبرُ عليه إلى الربض، وهو معقود بالحجر خلا وسطه فإنه مسقف بالخشب. فإذا طرق البلد عدو انتقل من الربض إلى الخندق، وقطعوا الجسر. ويكون بيعهم وشراؤهم ومسكنهم في الخندق من غير وصول أحد إليهم. وللقلعة سبعة أبواب، يُصعدُ إليها منها، وهي باب دون باب، متصلة إلى أعلاها. ولها ربض آخر يُعرف بالقرية، بطرفه ميدان وجوسق. وقُبالة البلد من الشمال جبل عال، زايد في العلو، به مغاور لا يصل أحد إليها، يُحتمى بها إذا طُرق البلد، فلا يُوصلُ إليهم. وقُبالة البلد على الشط قرية تُسمى الزهيرية بها جامع ومئذنة. وللبلد كروم كثيرة، وبساتين عديدة. وجميع جهات هذا الحصن التي يُقصد منها وعرة وضيقة، عسرة المسالك لا تُسلك إلا الواحد " بعد الواحد ". فهو بهذه الحال في غاية الحصانة والمنعة. وبه من المدارس ثلاث. وبه من الحمامات أربعة منها بالربض الكبير: 1 - حمام الفَصيل. 2 - وحمام السلطان. 3 - وحمام الأسد محمود الجلحي. 4 - وحمام أخرى بالربض الآخر. وهذا الحصن المذكور، لم يزل مضافا إلى من يلي ديار بكر أو بعضها، وأكثر ما كان مضافا إلى آمد. ولقد بالغتُ في التقصي عمّن اختطه ومن عَمَره ونُسب إليه وملكه فلم أعثر على شيء من ذلك، مع استيعابي مطالعة كتب التواريخ، والمسالك والممالك، وما يتعلق بهذا الفن إلى سنة خمس وسبعين وأربع مائة كان يف يد شخص يُعرف بموسى التركماني، كان نائبا به من قبلِ كربوقا - صاحب الموصل -. فلما مات كربوقا كاتب جماعة من أعيان الموصل في تمليكه الحصن فأجابوه إلى ذلك، فملكه واستقل به. واتفق أن وقع بينه وبين جكرمش - صاحب الجزيرة - فلم يكن له به طاقة، فكاتب سكمان بن أُرتق، وكان بديار بكر وبذل له الحصن المذكور على أن يعوضه بما يرجع إليه. فسيّر له عشرة آلاف دينار فسلم إليه الحصن. فلم يزل بيد سقمان إلى أن توفي في أواخر سنة ثمان وتسعين وأربع مائة. وملك ولده داود الحصن المذكور ولم يزل بيده إلى أن " مات " ... وملك ولده قرا أرسلان ثم مات في .... وترك ولده نور الدين محمد، وهو الذي ملّكهُ السلطان الملك الناصر صلاح الدين آمد ولم يزل بيده إلى أن توفي في سنة إحدى وثمانين وخمس مائة. وولي ولده قطب الدين سكمان " ولم يزل بيده إلى أن توفي " في سنة سبع وتسعين وخمس مائة. وملكه الملك الصالح ناصر الدين محمود إلى أن توفي في سنة تسع عشرة وست مائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وملكه ولده الملك المسعود ركن الدين مودود، ولم يزل بيده إلى أن ملكه الملك الكامل في أوائل سنة إحدى وثلاثين وستمائة. ولم يزل بيد نوابه إلى أن أقطعه ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب، ولم يزل بيده إلى أن توفي والده الملك الكامل نيابة. ثم استقل بعد وفاة أبيه، ولم يزل بيده إلى أن خرج منه، وقصد الديار المصرية وملكها، فترك به ولده الملك المعظم توران شاه، فلم يزل بيده إلى أن خرج منه في أواخر سنة سبع وأربعين وستمائة، بحكم وفاة والده الملك الصالح نجم الدين أيوب فوصل إلى الديار المصرية وملكها، وكسر الفرنج في السنة المذكورة. وقُتل في أوائل سنة ثمان وأربعين وستمائة. وبقي به ولده الملك الأوحد عبد الله، وهو في يده إلى حين وضع هذا الكتاب. ولما استولت التتر على الشام في أوائل سنة ثمان وخمسين وستمائة قصد المذكور هولاكو وقدم له تقدمة. فلما حضر عنده، سأله عن نسبه، وجلية أمره، فرق له وأبقى عليه الحصن. وهو به إلى الآن، وهو سنة تسع وسبعين وستمائة. أرْزَن قلعة مدورة على تل عال. عدة أبراجها خمسة وثلاثون برجا، غير البدنات. ولها باب من قبليِّها، يُخرجُ منه على جسر على الخندق المحيط بالقلعة، مبني بالحجر المنحوت، على قناطر، يكون مداه نحو المائتي ذراع إلى أن ينتهي إلى وجه الأرض، وهي المدينة، شرقي القلعة، وبها أسواق ومعايش. وبها حمّةٌ في طرف البلد من الشرق بها أسماك كثيرة، وعليها باب. وبالمدينة أعينٌ. وشِربُ أهل القلعة والربض من الشط. وأكثر أهل أرزن يُصيفون على الشط. ولأرزن كروم كثيرة، وفواكه. وتُعملُ بها الأُرُزُ الرَّفاع، والأبراد، والنّصافي والبطائن، وتُحملُ منها إلى البلاد. وبها مدرسة، وبيمارستان. ذكر فتحها فتحها عياض بن غنم فيما فتحه في سنة تسع عشرة من الهجرة، وبقيت مضافة إلى ديار بكر يتولاها من يلي ديار ربيعة. وفي سنة خمس وخمسين ومائتين كانت أرزن في يد موسى بن زرارة. وفي سنة اثنتين وثلاث مائة وليها مع ميافارقين شخص يُعرفُ بخَلفِ بن الحسن. ولم تزل " مضافة إلى " ميافارقين إلى ولاية بني حمدان. ففي سنة ثمان عشرة وثلاث مائة أضيفت ديار بكر جميعها إلى ناصر الدولة الحسن بن أبي الهيجاء بن حمدان مع أرزن. ولما سلم الحسن - المذكور - ميافارقين وديار بكر إلى أخيه سيف الدولة ولى أرزن أبا علي بن جعفر الديلمي، نقله إيلها من ميافارقين. فعصي بها في سنة أربع وعشرين وثلاث مائة، فحاصره سيف الدولة إلى أن سلمها إليه، ونزل على حكمه. ثم انتقلت بعد بني حمدان إلى بني مروان فلم تزل بأيديهم إلى أن وصل السلطان جلال الدولة ملكشاه السلجوقي في سنة ثمانين وأربع مائة وأخذ الجزيرة " و " أنعم بها على بني الأحدب، وكان لهم مع أرزن بدليس ووسطان وغيرهما. فلم تزل بأيديهم إلى أن حاصرها شهاب الدين غازي. ذكر ملك شهاب الدين غازي أرزن " كان حسام الدين - صاحب أرزن - من ديار بكر مصاحبا الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك العادل مناصحا له، مشاهدا جميع حروبه وحوادثه، منفقا أمواله في طاعته، باذلا عساكره في مساعدته. فكان يُعادي أعدائه، ويُوالي أولياءه بحيث أنه حصر نفسه في خِلاط لما حاصرها جلال الدين، ولقي ما لقي أهلها من الضائقة لأجله. وصبر بها إلى أن ملكها جلال الدين، فأسره مع من أسر من أكابر الناس. وأراد أن يأخذ منه أرزن، فقيل له: إن هذا من بيت قديم عريق في المُلك. وأنه ورث هذه أرزن من أسلافه، وكان لهم غيرها من البلاد، فخرج الجميع " من أيديهم " ولم يبقَ غير هذه. فرَقَّ له، وعطف عليه، وأبقى عليه مدينته، وأخذ عليه العهود والمواثيق أنه لا يُقاتله. فعاد وأقام بمدينته. فلما جاء الملك الأشرف وعلاء الدين - صاحب بلاد الروم - محاربين لجلال الدين " لم يحضر معهم حربا. فلما انهزم جلال الدين " سار شهاب " الدين " غازي ابن الملك العادل - أخي الملك الأشرف - صاحب ميافارقين - وهو بمدينة أرزن فحصره بها إلى أن ملكها صُلحا، وعوَّضه عنها مدينة حاني من ديار بكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وكان هذا - حسام الدين - " نعمَ " الرجلُ، حسن السيرة كريما، جوادا، لا يخلو بابه ممن يستميحه، وهو من بيت قديم، يقال له بيت طُغان أرسلان ويعرفون ببيت الأحدب، وكان لهم بدليس مع غيرها من أيام السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي. فأخذ بكتمر - صاحب خِلاط - منهم بدليس، " أخذها: من عمِّ هذا حسام الدين لموافقته للملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. وبقيت أرزن بيد هذا - حسام الدين - إلى أن أخذها شهاب الدين غازي منه. ولكل أول آخر، فسبحان من لا له أول ولا آخر " لبقائه ". ولم تزل في يد نواب شهاب الدين غازي إلى أن توفي في رجب من سنة خمس وأربعين وستمائة. وولي بعده ولده الملك الكامل ناصر الدين محمد فلم تزل في يده إلى أن استولت التتر على ميافارقين في سنة ثمان وسبعين وستمائة. فولوا ميافارقين شرف الدين عبد الله اللاوي - أمير آخور شهاب الدين غازي - وأضافوا إليه أرزن وهو متوليها إلى حين وضعنا هذا الكتاب وهو سنة تسع وسبعين وستمائة. مارِدين مدينة لها سور واحد ليس بمرتفع، يُحيط به خندق، وفي شماليها واد يُقال له: وادي الرجلة معمور بالبساتين والجنات الملتفة الأشجار. وصور المدينة أنها مبنية علىالجبل، " والجبل " في نفسه كالدرج، بعضه دون بعض، كدرج الراقي، بحيث إن الدور تُشرف بعضها على بعض. وكذلك الأسواق، ولها قلعة على قُنة هذا الجبل مشرفة على البلد. ولارتفاع منازل البلد ومساكنه لا يعلو فوقه طيرٌ، ويُرى السحاب دونها. ولوعورة طرقها لا يمكن أن يصعد إليها إلا الواحد بعد الواحد. وبقلعتها نِقرٌ في أسفله عين ماء، عليه سوان تحمل الماء منه إلى أعلاه، فيتفرق في منازل القلعة، ويُجرى إليها في قساطل. ولسور المدينة ستة أبواب: 1 - باب السور - مفتوحٌ -. 2 - وباب قسيس - مفتوح -. 3 - " وباب " الشواط - مفتوحٌ -. 4 - والباب الجديد - مفتوحٌ -. 5 - وباب الزيتون - مغلقٌ -. 6 - وباب الخَمّارة - مغلقٌ -. وفي داخل البلد ثلاثة أعين: 1 - عين الجوزة. 2 - وعين الحربيات. 3 - وعين الخرنوب. وكان بظاهر البلد من شرقيه ساحة، فبنى فيها بنو أٌرتق سورا. وعمل الملك السعيد - صاحبها - بها جواسق وبساتين على عين تسمى عين التوتة. وسمّى ذلك الموضع الفردوس. وبها من المدارس: 1 - مدرسة أنشأها نجم الدين إيلغازي. 2 - ومدرسة أنشأها نظام الدين ألبقش. 3 - ومدرسة أنشأها القاضي سديد الدين - بجوار الجامع -. 4 - ومدرسة عمارة خاتون - حنفيةٌ -. 5 - ومدرسة أنشأها الملك المنصور أُرتق. فلما مات عمل بها ولده الملك السعيد نجم الدين إيلغازي منبرا، وأقام بها الجمعة، لكثرة من انضوى إلى ماردين من الناس عند قصد التتر البلاد. يُدرَّسُ بها المذهبان. وبها نحو مائة مسجد. وبها حمامات ستة. عرض هذه المدينة سبع وثلاثون درجة وثلثا درجة. وطولها ست وسبعون درجة وثلثا دقيقة. ذكر فتحها ومن مَلَكَها فتحها عياض بن غنم مع مافتح من الجزيرة وديار بكر ولم تزل بيد من ولي الجزيرة وديار بكر إلى سنة خمسين ومائتين. كانت بيد إسحاق بن كنداج، ولم تزل بيده إلى أن سار إلى نصيبين وملكها في سنة سبع وستين ومائتين، واستأمن إليه عبد الله بن عيسى ابن الضيخ وابن ميمون الفارقي وإسحاق بن خلف الفارقي، وسلموا إليه ميافارقين فملكها، ولم تزل بيده مع غيرها من البلاد إلى أن توفي في السنة المذكورة، ووليها ولده محمد بن إسحاق بن كنداج. ثم إن أحمد بن عيسى بن الشيخ توصل إلى أن سرق ماردين، ولم تزل بيده إلى أن تغلب عليها حمدان بن حمدون بن الحارث التغلبي العدوي وعلى دارا ونصيبين وتحصن بقلعة ماردين. وذكر ابن الأثير في تاريخه في حوادث سنة إحدى وثمانين ومائتين: " أن المعتضد خرج الخرجة الثانية إلى الموصل قاصدا لحمدان بن حمدون لما بلغه ميله إلى هارون الشاريّ وأنه دعا له. فلماّ بلغ الأعراب و " الأكراد " مسير المعتضد تحالفوا على أنهم يقتلون على دم واحد، واجتمعوا واعتدوا؛ فسار المعتضد إليهم " في خيله " " جريدة، وأوقع بهم، وقتل منهم وغرق في الزاب منهم خلق كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وسار المعتضد إلى الموصل يريد قلعة ماردين "، وكان بها حمدان، فلما بلغه قصد المعتضد إياه خرج منها هاربا، وترك بها ابنه، فنازلها المعتضد وقاتله يومه كله. " فلما " كان من الغد، ركب المعتضد وصعد إلى باب القلعه وصاح: يابن حمدان!! فأجابه، فقال: افتح الباب. ففتحه فقعد المعتضد في الباب، وأمر بنقل ما في القلعة وهدمها. ثم سير خلف ابن حمدان وطلبه أشدّ الطلب، وأخذ ماله بالقلعة. ثم إنه ظفر به بعد عوده إلى بغداد. وفي عوده قصد الحسنية وبها رجل كردي يقال له شداد في جيش كثيف نحو العشرة آلاف فارس، وكان له قلعة " في المدينة "، فظفر به المعتضد، وهدم قلعته ". وذكر الهمذاني في تاريخه أنه هدم قلعته، ثم عفا عنه وأقر على ما تغلب عليه. وكان أهل الموصل وديار بكر قد عمهم الغلاء، فحمل إليهم حمدان من الأقوات ما أرخص عليهم الأسعار. وأنفق على سور ملطية سبعين ألف دينار، ووقف عليهم أربع مائة فرس. وتوفي - " رحمه الله " - في سنة اثنتين وثمانين ومائتين. وولي ولجه أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وقلده المقتدر بالله الموصل وديار ربيعة والدينور والجبل والكوفة وطريق مكة. فاستخلف ابنه سيف الدولة علياً على الجبل وله اثنتا عشرة سنة، وفيه يقول المتنبي: يابْنَ المُعَفّرِ في نَجْدٍ فوارسَها ... بسيفه وله كوفان والحَرَمُ وكان أبو الهيجاء قد أعان الوزير أبا الحسن عليّ بن عيسى في مصادرته بعشرين ألف دينار، فلما أعادها إليه حلف أبو الهيجاء أنها لا ترجع إلى ملكه، ففرقت في الفقراء وغيرهم. وخلع أبو الهيجاء المقتدر بالله وبايع أخاه القاهر، فاجتمعت الرجالة وقتلوا نازوكا - صاحب الشرطة - فبادر أبو الهيجاء ليخرج، فقال له القاهر: تسلمني يا أبا الهيجاء؟!! قد أخلته الحمية وقال: لا، وتربة حمدان لا أسلمتك أو أقتل دونك!!. ثم إنه تبع الخدم، فرموه بالنشاب، فخلع جبته وجرد سيفه، وهجم عليهم، فأجفلوا بين يديه، ثم رموه بالسهام إلى أن أثخنوه بالجراح، وهو ينادي: يا آل تغلب؟! أين الدهماء؟!. ثم سقط من السهام، فقطعوا يده، وحزوا رأسه. وكان المقتدر يحبه لشجاعته، فكتب له أمانا بخطه، وقال لبعض حجابه: ويلك؟! بادر إليه وأدركه لئلا يتم عليه أمر. فلما حصل ببعض الطريق تلقاه خادم برأسه، فحزن عليه المقتدر كثيرا. وقيل عنه: إنه كان ليلة مع بعض جواريه في خلوة في بعض أسفاره. فسمع زئير الأسد عند باب مضربة، فجرد سيفه، وخرج إليه فقتله، وعاد برأسه إلى الجارية، ولم تفر شهوته، ولا كلت آلته. وكان قتله - رحمه الله - في سنة سبع عشرة وثلاث مائة. وردّ المقتدر بالله الموصل وديار بكر إلى أخيه في السنة المذكورة. ثمّ. نقلته من التاريخ المظفري. وكان ولده نائبا عنه بماردين، فلما توفي وليها ولده ناصر الدولة أبو محمد الحسن، ولم تزل في يده إلى أن قبضوا عليه أولاده سنة ست وخمسين وثلاثمائة. وكان ينوب عنه بماردين والرحبة ابنه حمدان، فلما قبض عليه أبو تغلب في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وحمله إلى قلعة كواشي وتوفي بها، وكان قد أعطى ماردين والرحبة لولده حمدان. فلم تزل في يد حمدان ابن ناصر الدولة إلى أن دخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائة في شوال منها، ملكها الغنضنفر، أبو تغلب ابن حمدان، سلمها إليه نائب أخيه حمدان. فأخذ أبو تغلب ما كان لأخيه من أهل، ومال، وسلاح، وأثاث، وحمله إلى الموصل. ولم تزل ماردين بيده، ويد نوابه، إلى أن ملك عضد الدولة الموصل في سنة سبع وستين وثلاث مائة. وملك ديار ربيعة في سنة ثمان وستين وثلاثمائة. ولم تزل في يد عضد الدولة، ويد نوابه، إلى أن توفي في سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة. ذكر ابن الأثير في تاريخه في تراجم ماردين وآمد: أن باد بن دوستك الكردي الحميدي - خال بني مروان - ملك ديار بكر بعد عضد الدولة. ولم يزل مالكها إلى سنة ثمانين وثلاثمائة. وتوفي وانتقلت إلى بني مروان. قال أحمد بن يوسف بن عليّ المعروف بابن الأزرق - صاحب تاريخ ميافارقين -: إن ديار بمر بعد عضد الدولة انتقلت إلى ممهد الدولة أبي منصور بن مروان، وأضرب عن ذكر باد. وذكر الهمذاني في التذييل: أن ممهد الدولة لم يملك ديار بكر سوى سنة واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وذكر ابن الأزرق - صاحب تاريخ ميافارقين -: أن ممهد الدولة أقام إلى سنة إحدى وأربعمائة وملك نصر الدولة آمد وديار بكر، ولم تزل في يده إلى أن توفي في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. وقد استوفينا حديثه في حديث آمد وميافارقين. وملك بعد ولده نظام الدين. واستمرت في يد بني مروان إلى أن نفذ السلطان ملكشاه فخر الدولة محمد بن جهير في سنة سبع وسبعين. واستولى على ديار بكر في سنة ثمان وسبعين. ولم أعثر لها بعد ذلك على ذكر إلا في تاريخ ابن الأثير في حوادث سنة ثمان وتسعين وأربعمائة في وفاة سكمان بن أرتق يذكر أن بركيارق ملك بعد وفاة والده السلطان ملكشاه، ووهب ماردين لمُغنِّ يُقال له لجا كسرى، طلب منه مارِدِبن وأعمالها، فأعطاها إياها. وكان اتفق أن وقعت حرب بين كربوقا - صاحب الموصل - وبين صاحب آمد. فاستنجد صاحب آمد عليه بسكمان. وكان ياقوتي ابن أُخت سقمان معه. فلما التقيا أسر كربوقا لياقوتي فيمن أسر في الوقعة المذكورة، وحمله إلى قلعة ماردين لقربها من مكان الوقعة، وأودعه للمغني الذي وهبه مارِدِين. فسجنه بها. فمضت أمُّ ياقوتي إلى كربوقا - صاحب الموصل - وسألته في ولدها، فأطلقه لها، وسيّر إلى المُغني يأمره بالإفراج عنه. فلما أفرج عنه سأله أن يكون مقامه عنده بماردين، وكانت ماردين قد أعجبت ياقوتي فطمع في مُلكها والاستيلاء عليها. وكان من حول ماردين من الأكراد قد طمعوا في صاحبها - المغني -، فأغاروا على بلد ماردين وعاثوا بها، وتكررت غاراتهم. فقال ياقوتي لصاحب ماردين: إنه قد صار بيننا مودة وصداقة، وأرى هؤلاء الأكراد قد كثر عيثهم في البلاد، وقد عزمت على ردعهم وعمارة بلدك، لما صار بيننا من الصحبة. واستأذنه في إغارته، وأن يكون مقيما ببلده، فأذن له. فجعل يركب بمن اتفق معه من " باب " خلاط ويغير على نحو بغداد، فكان يركب معه للغارة بعض أجناد القلعة طلبا للكسب، وهو يكرمهم، ويوفر نصيبهم، ولا يعرض لهم، فأمنوا إليه. فكانوا في كل غارة يزيدون إلى بعض الغارات نهض معه أكثر من بالقلعة. فلما عادوا " من الغارة " أمر بقبضهم وتقييدهم، وسبقّهم إلى القلعة ونادى من بها من أهلهم: إن فتحتم الباب، وإلا ضربت أعناق من معي؟! فامتنعوا. فقتل واحدا منهم، ففُتح له الباب، وسُلِّمت القلعة إليه، فتسلمها. ثم إنه جمع جمعا، وسار إلى نصيبين، فأغار على بلد جزيرة ابن عمر، وهي يومئذ لحكرمش، فلما عاد أصحابه بالغنيمة، أتاهم جكرمش،. وكان ياقوتي قد لحقه مرض منعه عن الركوب ولبس السلاح، فلما رأى جكرمش طلب فرسه ليركب، فقُرِّب إليه وحمل إلى أن ركب، والتقى الجمعان، فأصاب ياقوتي سهم سقط منه. فأتاه جكرمش وهو يجود بنفسه فبكى، وقال له: ما حملك على ما صنعت يا ياقوتي؟! فلم يُجبه، ومات. فمضت زوجة أُرتق إلى ولدها سكمان وجمعت التركمان وطلبت بثأر ابن ولدها فحصر سكمان نصيبين وهي لجكرمش، فسيّر جكرمش إلى سكمان مالا كثيرا سرا فأخذه، ورضي به. وقال لأم ياقوتي: إنه قُتل على يد العرب، ولا يُعرف قاتله. وبعد ياقوتي ملك ماردين أخوه عليٌّ وصار في طاعة جكرمش واستخلف بها أميرا اسمه عيل أيضا. فأرسل عليٌّ هذا إلى سكمان يقول له: إن ابن أخيك عليا يريد أن يُسلم ماردين إلى جكرمش، فسار سكمان بنفسه وتسلمها، فجاء إليه عليٌّ - ابن أخيه - وطلب إعادة القلعة إليه، فقال له: إنما أخذتُها لئلا يخرب البيت. وأقطعه جبل جور ونقله إليه. وكان جكرمش يدفع إلى علي كل سنة عشرين ألف دينار. فلما أخذ عمه سكمان ماردين منه، أرسل علي إلى جكرمش يطلب منه ما كان يحمله إليه، فقال: إنما كنت أُعطيك احتراما لماردين وخوفا من مجاورتك، والآن فاصنع ما أنت صانع. وتوفي سكمان سنة ثمان وتسعين وأربعمائة. فهذا دليل على أن ياقوتي ملكها عند ملك بكياروق بعد وفاة صاحبها، إما في سنة سبع أو ثمان وثمانين. ولم نقدر على تحقيق اليوم بعينه. فلما مات سكمان ملك بعده ولده نجم الدين إيلغازي بن أُرتق وملك مدينة حلب. فكان يتردد إلى الشام، وإلى ماردين وإلى ميافارقين إلى أن توفي في سنة ست عشرة وخمس مائة بميافارقين. وملك بعده ولده الأمير حسام الدين تمرتاش، وقام بسياستها بعد أبيه أحسن قيام. واتفق هو وعماد الدين زنكي ابن أتابك وصار يدا واحدة. وملك عماد الدين الصَّور وأعطاها لحسام الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ولم يزل حسام الدين مالكها إلى أن توفي في أوائل المحرم سنة ست وأربعين وخمس مائة. وولي مكانه نجم الدين إلبي إلى " أن " مات في سنة ...... وولي ولده قطب الدين إيلغازي بن نجم الدين إلبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن سقمان بن أُرتق. ولم تزل بيده إلى أن توفي في سنة ثمانين وخمس مائة. " وخلّف ولده حسام الدين يولق أرسلان، وكان طفلا، فوليَّ تدبير دولته نظام الدين ألبقش - مملوك أبيه - وكان لهذا - نظام الدين - مملوك أسنه لؤلؤ قد تحكّم في الدولة، فلم يترك نظام الدين يُحكِّم حسام الدين في شيء، ولا يتصرف في نفسه. فبقي كذلك إلى أن مات الصغير. وكان له أخ أصغر منه اسمه قطب الدين أرسلان، فرتبه نظام الدين في الملك مكان أخيه، فجلس في الملك، وليس له منه إلا الاسم، بل الأمر والنهي لنظام الدين لؤلؤ، فلم يزل كذلك إلى سنة إحدى وستمائة، فمرض ألبقش الذي هو نظام الدين، فأتاه قطب الدين يعوده، فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤ، فضربه قطب الدين بسكين كانت معه فقتله. ثم دخل قطب الدين إلى نظام الدين وبيده السكين فقتله أيضا وخرج ومعه خادم له وألقى الرأسين إلى الأجناد. وكانوا كلهم قد أنشأهم النظام ولؤلؤ فأذعنوا بالطاعة. فلما تمكن أخرج من أراد، وترك من أراد، واستولى على قلعة ماردين وأعمالها، والبارعية، وقلعة الصَّور. ولم يزل قطب الدين أرسلان مالكا إلى أن مات سنة ..... وولي ولده الملك المنصور أُرتق. وكان الملك العادل قد حاصر ماردين في سنة خمس وتسعين وخمس مائة، وملك ربضها ثم رحل عنها. ذكر ذلك ابن الأثير في تاريخه مفصلا. واستمر الملك المنصور أُرتق بها إلى أن قُتل. ذكر قتل الملك المنصور أرتق صاحب ماردين في ليلة الأحد، ثامن ذي الحجة من سنة ست وثلاثين وستمائة، اجتمعت مماليك الملك المنصور أُرتق بن قطب الدين أرسلان ابن نجم الدين إيلغازي بن إلبي بن تمرتاش بن إبل غازي بن أرتق على قتله. ونزلوا عليه في الليل، وهو نائم عند نسائه، فخنقوه بوتر قوس، ثم تحيّروا بعد قتله فيمن يولونه عليهم؟ فوقع اختيارهم على ولده الملك السعيد نجم الدين إيل غازي، وكان مجبوسا بالبارعية فسيّروا وراءه فخر الدين أمير سلاح - أحد مماليك أبيه - فأحضره، فلما حضر ملّكوه. فلما استقر في الملك اجتمع رأي الأمراء على قتل من وافق على قتل أبيه فلم يحسُن ذلك برأي الملك السعيد لكونهم أخرجوه من السجن وملكوه، بل نفاهم وأخرجهم من بلد ماردين وكانوا زُهاء مائتي نفر. وكان عمر والده يوم قُتل سبعا وخمسين سنة، وكان ملكه ماردين في سنة إحدى وستمائة. ذكر حصار التتر ماردين واتفاقهم مع الملك السعيد صاحبها كان هولاكو لما نزل على آمد في أواخر سنة سبع وخمسين وستمائة، بعث إلى الملك السعيد نجم الدين إيلغازي - صاحب ماردين - ليستدعيه إليه. فسير إليه الملك السعيد ولده الملك المظفر قرا أرسلان، وقاضي القضاة مهذب الدين محمد بن مجلي المعروف، والأمير سابق الدين بلبان. وكان من أكابر أمرائه، ومعهم هدية سنية وعلى أيديهم رسالة تتضمن الاعتذار من تباطئه عن المثول والحضور بمرض منعه من الاستطاعة على الحركة. ووافق وصولهم إليه أخذه قلعة اليمانية وإنزل من كان بها من حريم الملك الكامل - صاحب ميافارقين رحمه الله - وأولاده وأقاربه وهم: ولده الملك الناصر صلاح الدين يوسف جقطاي والسبب في تسميته بهذا الاسم أنّ الملك الكامل لما توجه إلى منكوقاآن البرية إلى الملك الناصر يستحثه على الحركة إلى حلب، ويعده أنه متى وصل إلى حلب رحل إليه برحاله وماله. وسيرّ الأمير عز الدين يوسف بن الشماع رسولا في الظاهر إلى هولاكو بهديةّ، وإلى ولده وولدي غياث الدين - صاحب بلاد الروم - باطنا، يحرض ولده على الهرب وينكر على عز الدين كونه ألقي بنفسه إلى التهلكة في محبة هولاكو. وقال له: متى أبقى عليك فإنما ذلك ليغرّ الملك الناصر بك، لا لمحبة لك، ورغبة فيك، فأوسع الحيلة في الانفصال عنه، والحذر منه. فشكره عز الدين على ما نبهه عليه، وقال: والله ما خرجت البلاد عن أيدينا إلا بتخاذل بعضنا عن بعض!! فلو كانت الكلمة محتمعه لم يجر علينا ما جرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ولما نزل هولاكو على حلب واستولى عليها وهرب الملك الناصر من دمشق قاصدا مصر مرض الملك السعيد مرضا أشرف منه على التلف، ثم بل، وبعث إلى هولاكو يطلب منه الأمير سابق الدين بلبان، فبعث به إليه، وكان قد استماله في مدة مقامة عنده، فلما اجتمع بالملك السعيد أخبره ما لقي أهل حلب من القتل والسبي والفتك ليخوفه، وأشار عليه بتسيير هدية أخرى، فسيره وأصحبه عز الدين ابن بطة بهدية، فلما وصلا إليه وجداه على عزاز، وقد عاد من حارم، فاجتمعا به، وقدما له الهدية، وأشار عليه ساب الدين أن يستميل عز الدين ابن بطة، فاستدعاه سرا، وقال له: اقض لي حاجة أقض لك ألف حاجة. قال: ما هي؟. قال: أريد منك أن تعرفني هل الملك السعيد مريض حقيقة أم متمارض؟. فقال له: كان متوعكا، وازداد مرضه عند أخذك حلب ثم عوفي فقال: إذا ألزمته بالمجيء، تعلم أنه يفعل؟! قال له ما يفعل أصلا. فقال: لأي سبب؟. قال: لأشياء كثيرة منها: - إنكم لا تفون لأحد، ولا تقفون عند كلام تقولونه. - وإنكم تكلفونهم مالا تطيقه نفوسهم. - وقد تحقق أنه متى نزل إليك قتلته!!. قال: فإن قصدته أيقدر أن يمنع نفسه مني؟! قال: نعم. قال: بأي شيء؟. قال: بحصانة قلعته، وما فيها من الذخائر والأقوات، فإنه ادخر فيها قوت أربعين سنة!!. فلما فرغا من الكلام أعطاه بالشت وزنة سبعمائة مثقال، وثيابا. فلما أصبح استدعاه الأمير سابق الدين وكتب لهما جوابا مضمونه: إني قد أعفيتك من النزول، فطيب قلبك ". ثم اجتمع بسابق الدين سرا، واتفق معه على استفساد من في ماردين من أكابر أهله وأعيانها وأمرائها وأجنادها. وكتب لهم فرمانات، وألزمه بتكفل ذلك. فأشار عليه أن يسير معه الملك المظفر ابن الملك السعيد ليطمئن قلبه بذلك، ويسكن جأشه، فأجابه بتلك الوسيلة إلى ما طلب، فسيره معهما، فلما وصلا أديا الرسالة. ثم خلا عز الدين بالملك السعيد، وعرفه ميل سابق الدين إلى هولاكو وأنه عليه لا له، وأن التتر لابد لهم من قصده، ففت ذلك في عضده. وكان قد سير سابق الدين بلبان - المذكور - بهدية أخرى وجواب يعتذر فيه. وبعد انفصاله خلا الملك السعيد بعض غلمانه، وعرفه ما هو عليه سابق الدين من الميل مع هولاكو، وأنه متى اجتمع به أفسد عليك الأحوال، فالمصلحة أن تمسكه، ووافق ذلك ما نقله عز الدين عنه، فسير في طلبه على أنه يحمله رسالة في أمر تجدد بعد سفره ليقبض عليه. وكان في خدمة الملك السعيد أمير يقال له: أسد الدين البخي، وكان قد وصله فرمان على يد سابق الدين - المذكور -، فاطلع على ما عزم عليه الملك السعيد من قبضه، فسير إليه غلاما له عجلا، بحيث إنه ركب فرسا عريا، ولحقه إلى دنيسر وعرفه رأي الملك السعيد فيه، وأنه متى وصل قبض عليه فلحق بهولاكو ولم يعد إليه. وتحقق الملك السعيد أن التتر لابدّ لهم من قصده، فاستعد لقتالهم، ونقل ما كان في البلد من الذخائر إلى القلعة. ثم بعد ذلك بأربعة أيام وصلت رسل من هولاكو وعلى أيديهم هدية للملك السعيد. ثم وصل عقيبهم عسكر غنزل على ماردين في ثالث جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين وستمائة، ولم يقاتلها ستة عشر يوما. ويقال: إن هولاكو كان معهم ليشرف على القلعة، ويرى ما هي عليه من الحصانة، ورحل في طائفة من أصحابه. ولما انقضت هذه المدة وصل ابن قاضي خلاط من هولاكو إلى الملك السعيد برسالة مضمونها يلتمس منه أن يفتح أبواب البلد ليدخل عسكره يستمير منها الأقوات والعلوفات أياما قلائل ويرحلون عنها. فأذن لهم، فدخلوها وترددوا في الدخول والخروج. فلما كان اليوم الثاني والعشرون من جمادى الأولى، وقت العصر، صعد التتر على أسوار البلد ودقوا طبولهم، وجردوا السيوف، وهجموا البلد، فقاتلهم أهلها، ودربوا شوارعهم، ودام قتالهم ثلاثة سنين يوما، إلى أن فتح لهم بعض مقدمي البلد دربا فملكوه، ودخلوا منه إلى الجامع، وصعدوا المنائر، ورموا منها بالنشاب، فضعف أهل البلد عن حفظ الدروب، واحتموا بالكنائس، لباطن كان لأصحابها مع التتر. وإنجاز أكثرهم إلى القلعة، فملكت التتر البلد، وأخذوا في قتال القلعة، ثم نصبوا المجانيق، وكانت عدتها ستة، فلم يصل إلى القلعة منها سوى ثلاثة أحجار، واستمر الحصار إلى أن خلت سنة ثمان ودخلت سنة تسع وخمسين وستمائة. ذكر وفاة صاحب ماردين وتولي ولده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وتوفي الملك السعيد نجم الدين إيلغازي في سادس عشر صفر، " سنة تسع وخمسين " وقيل: في ذي الحجة من سنة ثمان وخمسين وستمائة. وكانت وفاته وتولية ولده في السنة الخالية - نقله الله إلى رضوانه ووفر حظّه من عفرانه - من وباء وقع في أهل القلعة، فأهلك أكثرهم. ووصل الخبر بوفاته إلى التتر من رجل يسمى أحمد بن الفارس " علي " الشافصني رمى بنفسه من القلعة إليهم. ولما اتصل بهم وفاته، بعثوا رسولا إلى ولده الملك المظفر، وطلبوا منه الدخول في الطاعة، فبعث إليهم عز الدين يوسف بن الشماع ليتعرف منهم ما أضمرته له نفوسهم. فلما اجتمع بمقدَّميهم وهما: قُطُز نوين وجرمون، قالا له: إن بين الملك المظفر قرا أرسلان وبين إيل خان، يعنون هولاكو، وعدا أن والده متى مات، وتسلم الملك بعده، دخل في طاعته. فقال لهم عز الدين: هذا صحيح، لكن أنتم أخربتم بلاده وقلتتم رعيته، فبأي شيء يدخل في طاعته حتى يداري عنه؟!! فقالا: قد علمنا ذلك، ونحن نضمن له أن إيل خان متى اتصل به خبر وفاة الملك السعيد، وأن ولده الملك المظفر دخل تحت طاعته، على ما كان تقرر بينهما، عوَّضه عما خرب من بلاده بلادا عامرة مما جاوره. فلما عاد عز الدين إلى الملك المظفر، وأخبره بما دار بينه وبين مقدَّمي التتر ردَّه إليهم برسالة مضمونها: إن أردتم أن اٍيِّر إلى إيل خان فابعثا إليَّ رهائن من جهتكما تكون عندي إلى أن يُرجِعُوا رسُلي. وترددت الرسل " بينه و " بينهم إلى أن استقر " الحال " بينهم أن بعث قطز نوين ولده، وبعث جرمون ابن أخيه، فلما صعدا إليه، بعث ور الدين محمود بن كاجار - أخو الملك السعيد لأمه - وأصحبه قطز نوين من جهته سابق الدين بلبان، فوصلا إلى هولاكو، وكان بالمراغة، فأديا الرسالة إليه، وكان مضمونها ما تقدم، فأجاب إلى ما ضمناه قطز نوين وجرمون وكتب لهم بذلك فرامين، وبعث بها مع قصادٍ من جهته، وأبقى الرسل عنده، وأمرهما بالرحيل عن ماردين، فرحلا في شهر رجب من سنة تسع " وخمسين وست مائة ". ثم بعث هولاكو الرسولين وأصحبهم كوهداي - " من أكابر أمرائه ومقدميه " - فوصلوا إلى ماردين وانتظم الصلح والهدنة بين الملك المظفر والتتر، واسلم " بعد ذلك المقدمُ " كوهداي على يد الملك المظفر فزوّجه أخته " من أبيه ". ذكر توجُّه الملك المظفر إلى التتر إلى عند هولاكو ثم توجه الملك المظفر قرا أرسلان - صاحب ماردين - في شهر رمضان إلى هولاكو، واستصحب معه هدية سنية من تحف ادخرها أبوه وجدوده، من جملتها باطيّة مجوهرة، قيمتها على ما ذكر، أربعة وثمانون ألف دينار، فاجمع به بصحرا دريه بنهر يقال له: ما الباغ - من أعمال سلماس - فأقبل عليه وأكرمه، ثم قال له: بلغني أن أولاد صاحب الموصل هربوا من البلاد إلى مصر، وأنا أعلم أن أصحابهم كانوا السبب في خروجهم، فاترك أصحابك الذين وصلوا معك عندي، فإني لا آمنهم أن يحرفوك عني، ويرغِّبوك في النزوح عن بلادك إلى مصر، وإذا دخلتُ إلى البلاد استصحبتُهم معي، فأجابه إلى ذلك. ثم انفصل عنه عائدا إلى بلده، فلما كان في اثناء الطريق لحقته رسل هولاكو يأمره بالعود، فعاد وفرائصه ترجفُ خوفا، والنوم لا يطرق له طرفا، فلما اجتمع به قال له: إن أصحابك أخبروني أن لك باطنا مع صاحب مصر، وقد رأيت أن يكون عندك من جهتي من يمنعك من التسحب إليه. ثم عيّن له أميرا يُدعى أحمد بٌغا، وردَّه إلى ماردين وزاده نصيبين والخابور. وأمره بهدم شراريف القلعة. ولما فارقه ضرب هولاكو رقاب الجماعة، وكانت عدَّتهم سبعين نفسا منهم: الملك المنصور ناصر الدين أرتق ابن الملك السعيد ونور الدين محمد وأسد الدين البختي وحسام الدين عزيز البختي وفخر الدين بن حاجري وعلاء الدين - والي القلعة -، وعلم الدين بن جندر. ولم يكن لأحد منهم ذنبٌ، وإنما قصد بقتلهم أن يحُصَّ جناح الملك المظفر. واستمر الملك المظفر في الملك إلى الوقت الذي وضعنا فيه هذا الكتاب، وهو سنة تسع وسبعين وستمائة. تم كان الفراغ منه بكرة نهار السبت خامس عشري رجب في سنة تسع وثمانين وسبع مائة على يد أضعف العباد الراجي عفو ربه وغفرانه سليمان بن غازي بن محمد الأيوبي. رحم الله من ترحّم عليهم، ودعا لهم المغفرة ولساير المسلمين. آمين يا ربَّ العالمين. والحمد لله والصلاة على سيد المرسلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204