الكتاب: البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار المؤلف: فوزان بن سابق بن فوزان (المتوفى: 1373هـ) الناشر: دار الغرب الإسلامي الطبعة: 1422هـ - 2001م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار فوزان السابق الكتاب: البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار المؤلف: فوزان بن سابق بن فوزان (المتوفى: 1373هـ) الناشر: دار الغرب الإسلامي الطبعة: 1422هـ - 2001م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... تقريظ الحمد لله الذي بعث النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وتمسك بسنته- أما بعد: فإن كتاب: (البيان والإشهار. لكشف زيغ الملحد الحاج مختار) تأليف الشيخ فوزان بن سابق بن فوزان آل فوزان كتاب مفيد في موضوعه- قد تصدى فيه مؤلفه أثابه الله لرد شبهات المشركين والمخرفين الذين يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون إما حسداً وعناداً. وإما طمعاً بالبقاء فيما هم فيه من رئاسة وأكل لأموال الناس بالباطل، فقد قام هذا المدعو: الحاج مختار بترويج شبه باطلة في وجه عقيدة التوحيد ودعوة الشيخ الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه على الحق الذين يسميهم بالوهابية ويكرر ما قاله المخذولون من أمثال: أحمد زيني دحلان، والنبهاني وغيرهما من أعداء دعوة التوحيد – فكان رد الشيخ فوزان أثابه الله وغفر له على هؤلاء رداً مفحماً مدعماً بالأدلة والبراهين وأقوال الأئمة المعتبرين. فكان هذا الرد لبنة في بناء العقيدة الصحيحة ومعولاً في هدم الخرافات والشركيات. نصر الله به الحق وقمع به الباطل وأهله، وجزى الله مؤلفه الشيخ فوزان خير الجزاء وجعله في عداد المجاهدين في سبيله المدافعين عن دينه وسنة رسوله، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. كتبه صالح بن فوزان بن عبد الله آل فوزان عضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 التعريف بالمؤلف من كتاب علماء نجد خلال ثمانية قرون لفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام الشيخ فوزان بن سابق بن فوزان (1275 هـ- 1373 هـ) (1) الشيخ فوزان بن سابق بن فوزان من عشيرة آل عثمان، أحد أفخاذ قبيلة الدواسر التي تفرقت في بلدان نجد حاضره وباديه من جنوبي نجد، حيث لا يزال يقيم في ذلك أصل القبيلة. كانت أسرته تقيم في الشماس ثم انتقلت إلى الشماسية إحدى قرى مدينة بريدة، فانتقلت منها إلى بريدة. ومن الدواسر الوداعية آل مقرن، ومنهم الشيخ محمد بن مقرن بن سند الودعاني – العلم المشهور في الشعيب -، ويجتمعون مع أهل بلده الشماسية في جدهم سابق بن حسن جد السفير السعودي فوزان السابق. ولد المترجم في بريدة عام خمسة وسبعين ومئتين وألف هجري، ونشأ في بريدة، وتعلم في كتابها مبادئ القراءة والكتابة، ثم رغب في العلم، فشرع في القراءة على علماء بلده، وأشهر مشايخه: الشيخ سليمان بن مقبل، والشيخ محمد بن عمر آل سليم، والشيخ محمد بن عبد الله بن سليم. ثم سافر إلى الرياض، فقرأ على العلامة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ حتى أدرك.   (1) ج 5، ص 378- 383. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ثم سافر هو والشيخ على بن وادي – أحد علماء مدينة عنيزة – إلى الهند للقراءة على العلامة الشيخ صديق حسن خان، فألفياه قد انشغل عن الإقراء بحكم بلاده (بهوبال) ، فأخذا في القراءة على محدث الهند الشيخ نذير حسين، واستفادا منه، ثم عادا إلى القصيم. أما المترجم فاشتغل في تجارة الإبل والخيل، يشتريها من نجد ثم يذهب بها إلى الشام، وكذلك يسافر بتجارته إلى العراق ومصر. ثم اتصل بالملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله تعالى، وشارك في بعض حروبه، ثم صارت له مشاركة في السياسة، فعيَّنة الملك عبد العزيز معتمداً له في دمشق، فاتصل برجال العلم هناك وقرأ عليهم، فكان ممن أخذ عنه من مشاهير العلماء: الشيخ طاهر الجزائري، والشيخ جمال الدين القاسمي، والشيخ عبد الرزاق البيطار، والأستاذ محمد كردعلي، ثم نقل إلى (المفوضية) السعودية بالقاهرة، فلم يزل فيها حتى طلب الإعفاء من العمل، فأعفي لكبر سنه. قال الأستاذ خير الدين الزركلي: (صحبته اثني عشر عاماً وهو قائم بأعمال المفوضية بمصر، وأنا مستشار لها، وكان الملك عبد العزيز يرى وجوده في العمل وقد طعن في السن إنما هو للبركة، ورزق بابن وهو في نحو الثمانين، فأبرق إليه الملك عبد العزيز: (سبحان من يحيي العظام وهي رميم) ، وجعله وزيراً مفوضاً نحو ثلاث سنين. ثم رأى أن ينقطع للعبادة، وإكمال كتاب شرع في تأليفه أيام كان في دمشق، فاستقال، وكتابه المذكور رد به على مطاعن وجهها (مختار أحمد المؤيد العظمي) إلى حنابلة نجد في كتابه سماه: " جلاء الأوهام عن مذاهب الأئمة العظام"، وقد طبع. أما رد الشيخ فوزان فسماه" (البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد مختار) ، وقد طبع بعد وفاته في مجلد، وقد أعيدت طباعته عام 1413 هـ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 فقرأت فيه وتصفحته، فوجدته رداً وافياً في موضوعه، كافياً في بابه وقد رد على شبهات عظيمة بالبراهين الساطعة من الكتاب والسنة وكلام أئمة الإسلام، فرحمه الله تعالى. وقال الزركلي أيضاً: وأخبرني – المترجم – أن أول رحلة له إلى مصر كانت في السنة الثانية بعد ثورة عرابي، ومعنى هذا أنه كان تاجراً سنة 1300هـ، وكان من التقى والصدق وحسن التبصر في الأمور والتفهم لها على جانب عظيم) .اهـ. من كلام الزركلي ملخصاً. وهو الذي قام بعمل فهرس منظم ومصوغ صياغة فقهية مفيدة لقواعد ابن رجب، ثم طبعه على حسابه. قدم المترجم بريدة عام 1357هـ، فاشترى بيتاً مجاوراً لمسجد في (الجردة) (1) ،يسمى مسجد حسين، فأدخله في المسجد، وأعاد تجديد بناء المسجد على حسابه. ولم يزل مقيماً في مدينة القاهرة بعد إعفائه من العمل متفرغاً للعبادة والعلم، مع أنه حصل له ضعف في سمعه مع احتفاظه بقواه الفكرية والجسمية، حتى توفي في القاهرة عام ثلاثة وسبعين وثلاثمائة وألف. رحمه الله تعالى. وهذه أخبار أخرى عن المترجم لخصناها من عدة مصادر نذكرها لمزيد الفائدة والتوثيق: كان الشيخ فوزان السابق من العلماء الأفاضل، ولقد كان رحمه الله مع طلبه العلم يشتغل بتجارة الخيل والمواشي، حتى اختاره الملك عبد العزيز ليكون سفيراً له بدمشق، ثم نقله إلى القاهرة، وبقي سفيراً في القاهرة إلى آخر أيام حياته.   (1) الجردة: ساحة واسعة في مدينة بريدة، يباع فيها الإبل والغنم وغيرها مما تجلبه البادية. اهـ (المؤلف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وقد طلب من الملك عبد العزيز عدة مرات أن يعفيه من العمل، ولكن الملك عبد العزيز رحمه الله لا يوافق على ذلك حتى بلغ أكثر من تسعين عاماً، عندها أعفاه من العمل، وأبقى له شخصيتها الاعتبارية هناك. وكان عميداً للسلك السياسي بمصر مدة تزيد عن ثلاثين سنة، وله مكانة خاصة عند الملك عبد العزيز، فهو لا يعامله كموظف، وإنما يعامله كشخصية لها مكانتها في المجتمع. والشيخ فوزان رحمه الله، هو الذي عرف المصريين بمعتقد أهل نجد، وأنهم على مذهب أهل السنة والجماعة في الأصول، وفي الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وقد شرح هذا الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله في ترجمة للشيخ فوزان بعد وفاته، ذكر فيها فضائله وشيئاً من أعماله وصفاته، والشيخ حامد الفقي هو الذي غسل وكفن الشيخ فوزان بوصية من فوزان، وهذا دليل على تقدير العلماء للشيخ فوزان. وكان إذا علم بين أحد من أهل نجد نزاع أو خلاف حل مشكلتهم برأيه وماله، وله هيبة عظيمة وتقدير في نفوس الرعايا السعوديين، إذ كان تجار الخيل والإبل يرتادون مصر بالألوف سنوياً، ويقيم بعضهم هناك عدة شهور للتجارة بالخيل والإبل والأغنام. وقد هرب من الشام إلى مصر وقت ولاية الترك على الشام، وهروبه مع إبل للبسام بهيئة بدوي، كما أفاد ذلك رحمه الله لبعض أقاربنا، وهروبه من الحكومة التركية حينما كانت تقبض على رجال العرب الذين لهم نشاط سياسي. وكان رحمه الله من رجال الدين والدنيا، ومن أهل الفضل، فقد كان منزله بمصر أكثر من أربعين عاماً موئلاً وملجاً لأهل نجد، ورجال العرب الذين لهم نشاط سياسي، ولم يكن يجهل أحوال المقيمين هناك، بل كان يتفقد أحوالهم ويساعد المحتاجين منهم، وكان يخصص للفقراء والمحتاجين منهم مخصصات شهرية من ماله الخاص، وكان إذا علم عند أحد من الرعايا السعوديين ما يوجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 نصحه استدعاه ونصحه، وربما أمره بمغادرة القاهرة. وله مكتبة من أكبر المكتبات في بريدة، فقد طلب منه العلامة الشيخ عمر بن سليم أن يضعها في جامع بريدة، فوافق على ذلك، وقد وضعت هي ومكتبة الشيخ عيسى بن رميح في مبنى أعده الشيخ عمر بن سليم في شرق جامع بريدة، وكلف الشيخ عمر رحمه الله الشيخ علي العبد العزيز العجاجي بالإشراف على المكتبة، وهي أول مكتبة أسست في بريدة، وهي الأساس للمكتبة السعودية القائمة الآن، والتي طورها فيما بعد الشيخ عبد الله بن حميد، ثم ضمت للمعارف بعد سفر الشيخ عبد الله بن حميد من بريدة، وكان الشيخ عمر رحمه الله قد قرر تطويرها، وأن يضع فيها كتب طلبة العلم الذين يتوفون فيما بعد، وأن يزودها بما يطبع من كتب العلم، وما يحصل عليه من المخطوطات النادرة. وبالجملة فهو من رجال الدين والدنيا كما هو الشأن في المسلم، فرحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 مقدمة المؤلف الحمد لله الذي جعل أتباع رسوله على محبته دليلاً، وأوضح طرق الهداية لمن شاء أن يتخذ إليه سبيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبد مخلص لم يتخذ من دونه وكيلاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اختص أمته بأن لا تزال فيها طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ولو اجتمع الثقلان على حربهم قبيلاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير الناس هدياً وأقومهم قليلا. أما بعد، فإني لما كنت في دمشق الشام، وذلك في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، جمعتني فيها مجالس مع أناس ممن يدعون العلم، وآخرين ممن ينتسبون إليهم. فكانوا لا يتورعون عن الاعتراض على أهل نجد والطعن عليهم في عقيدتهم، وتسميتهم بالوهابية، وأنهم أهل مذهب خامس، والغلاة من هؤلاء يكفرونهم. ولما كان هؤلاء الغلاة الجامدون على التقليد الأعمى، معرضين عن استقراء الحقائق في مسائل الدين من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان من أئمة الهدى والدين في هذه الأمة، وخصوصاً الأئمة الأربعة الذين يزعم هؤلاء الجاهلون تقليدهم، ويغالون فيه، ويقولون: إن من خرج عن تقليد أحد الأئمة الأربعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. ومع ذلك تراهم يخالفون الأئمة الأربعة فيما أجمعوا عليه من أصول الدين، وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 في توحيد عبادة الله تعالى، وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك في عبادته تعالى والإقرار بعلو الله تعالى على خلقه وإثبات صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وتلقاها عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان من علماء الأمة وأئمتها بالقبول والتسليم إثباتاً من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل، فقد أعرض هؤلاء المبتدعة عن اتباع الكتاب والسنة والسلف الصالح من هذه الأمة، ولم يقلدوا أحد الأئمة الأربعة، بل فتحوا باب الشرك في عبادة الله تعالى ومثلوا صفاته تعالى بصفات خلقه، فقادهم ذلك إلى الجحود والتأويل الباطل، وسيأتي بيان ذلك والكلام عليه في محله من ردنا هذا إن شاء الله تعالى. وقد جرت بيني وبين من ذكرتهم مباحث عديدة في المسائل التي هي أصل أصول الدين، وهي التي أرسل الله بها رسله، وأنزل بها كتبه، ليكون الدين كله لله وحده لا شريك له، إذ حصل في هذه المسائل تلبيس على الجهال من أناس يدعون العلم، مع أن لهم حظ من العلم ولا نصيب من الفهم. قد اجتالتهم الشياطين عن فطرة الله التي فطر عباده المؤمنين عليها فقلبوا لهم الحقائق وسموها بغير أسمائها، كدعاء غير الله تعالى من الأموات، والاستغاثة بهم، وجعلهم وسائط بين الله تعالى وبين عباده، ويدعونهم استقلالاً من دون الله تعالى، ويصرفون لهم من أنواع العبادات ما لا يجوز صرفه إلا لله تبارك وتعالى. ويسمون أعمالهم هذه: بزيارة القبور وحب المقبورين، والتوسل بهم وطلب شفاعتهم لهم إلى الله تعالى، ومع ذلك يزعمون أنهم على الهدى وأن من خالفهم في ضلال مبين، فلم تفلح هذه المباحثات مع هؤلاء لعدم الرضوخ منهم لما أمر الله تعالى به المتنازعين من الرد إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد فارقتهم سائلاً المولى تعالى لي ولهم الثبات على الإيمان الصادق والهداية إلى طريق الحق وسلوك صراطه المستقيم. ثم إني توجهت إلى مصر وأقمت فيها، وفي سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وألف من الهجرة: تلقيت كتاباً من الشام ومعه رسالة، ولما فتحت الكتاب وجدته من بعض الذين اجتمعت بهم في الشام وحصل البحث بيني وبينهم في هذه المسائل التي أشرت إليها، يقولون لي فيه: "قد أرسلنا إليك بهذه الرسالة كي ترد عليها إن كان عندك جواب" فعرفت من كتابهم هذا وتحديهم لي فيه بطلب الجواب عن تلك الرسالة: أنهم قد استعظموها في نفوسهم، معتقدين أنها الغاية القصوى في فصل الخصام بيني وبينهم في هذه المسائل التي دار فيها البحث. فلما اطلعت على هذه الرسالة المذكورة إذا هي لرجل من المعاصرين من أهل الشام يسمى "الحاج مختار بن الحاج أحمد باشا المؤيد العظمي" وهذا من الأسماء المقلوبة فحقها أن تسمى "حالك الظلام، بالافتراء على أئمة الإسلام" لأنها تنادي على جهل مؤلفها ومن أرسل بها إلينا لأنها بضاعة مزجاة تلقي من تروج عنده في هوة سحيقة لا ترجى لمن يقع فيها النجاة. فإنه يقرر فيها عبادة غير الله تعالى، واتباع غير رسوله صلى الله عليه وسلم ويرد فيها على جميع علماء أهل السنة المعاصرين له ومن تقدمهم من الأئمة المجتهدين المتبعين لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم المقتدين بسلف الأمة وأئمتها، فقد ضل هذا الملحد سبيلهم فصار يتخبط في ظلمات الجهل والتقليد الأعمى، وقد جمع في رسالته هذه من الخلط والتناقض وتحريف الكلم عن مواضعه شيئاً كثيراً مما سنجيب عليه في محله إن شاء الله تعالى. ومن عجيب أمرالحاج مختار هذا: دعواه انه من جملة المقلدين، ثم هو يفسر القرآن برأيه ويقول: إن الله ألقاه في روعه. ولم يره في كلام أحد من المفسرين (1) ، تراه يدعي الاجتهاد المطلق، وينسى تقليده لمن ابتدعوا في الدين من الذين نقل عنهم ما ظهر فيه كذبهم من الادعاءات، وما لفقوه من الشبه الباطلة الزائفة حيث عفت أنوار الحنيفية على ما لهذه الشبه من معالم وأطلال وأزهق باطلها علماء أهل السنة المحققون في سائر الأجيال.   (1) راجع الصحائف (46،56، 90) من رسالته هذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وقد انحط صاحب هذه الرسالة إلى درجة من الجهل والغباوة خرج بها عن دائرة الإنسان، فضلاً عن العقلاء، فضلاً عن العلماء، كما أنه قد صار إلى درجة من التقصير في علم الكتاب والسنة لحق فيها أسلافه، فأثمرت لهم الابتداع في الدين إذ اعتقدوا الباطل حقاً فدعوا إليه، واعتقدوا الحق باطلاً، فعادوا من كان عليه فضلوا وأضلوا كثيراً عن سواء السبيل، فقد تسكعوا في الضلالة، وتطابقوا على الجهالة وقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، وقد تمادى صاحب هذه الرسالة في القحة تيهاً منه وإعجاباً، وتنكب عن طريق الحق فلم يتحر صواباً، وقد سمعت أن لهذا الغبي أتباعاً بلغو قوله يزمجرون، وبرسالته الساقطة المفككة لفظاً ومعنى يتطاولون. ولم يعلموا أن من قلدهم في تلك الضلالات قوم لا يفقهون، قد أثخنهم حماة الإسلام فيها لطماً ووخزاً وقد ولوا مدبرين، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً؟ فلم يسعني إلى إلجام أولئك الطغام أتباع كل ناعق، مستعيناً بمن يقذف بالحق على الباطل فيدغمه فإذا هو زاهق وسميت هذا الرد "البيان والإشهار، لكشف زيغ الملحد الحج مختار"، مستمداً من الله تعالى التوفيق لسلوك صراطه المستقيم عائذاً بجلاله تعالى عن اتباع الهوى وهمزات الشياطين، فإن هذا الملحد قد أطلق لسانه وقلمه بالفجور وقول الزور وتكفير المسلمين الموحدين بغير برهان مما نعتذر عنه في ردنا هذا من شطحات القلم لرد ظلمه. قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى، الآية: 40] إلا أني لا أقابل الباطل بمثله، بل أقدم الحق الذي يقتضيه العدل والإنصاف مؤثراً أن أكون طالباً لا مطلوباً والله تعالى حسبي ونعم الوكيل. ولما كان هذا الملحد قد حشا رسالته بما لا فائدة فيه، وليس هو من موضوعنا الذي قصدنا الرد عليه لخروجه عن محل الاعتراض، وإنما يدل على خبط هذا الملحد وتخليطه، فلا نطيل بتتبع هفواته. فنقول وبالله نستعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 إظهار ما في صدر خطبة الملحد العظمى من جهل وتناقض قال الملحد صاحب الرسالة: " الحمد الذي رضي الإسلام لنا ديناً، وأكمله لنا وأتم نعمته علينا وأقامنا على سنة رسوله النقية السمحاء، حمداً تستنير به القلوب وتستضيء منه البصائر، وأشهد أن لا إله إلا الله، الهادي إلى الصراط المستقيم، القائل من استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم". أقول: أوردت صدر خطبة هذا الملحد إظهاراً لجهلة، وبياناً لمخالفته ما يدعيه من الاستقامة على السنة، وتنبيهاً على تحريفه لكلام الله تعالى عن مواضعه ليعلم المعجبون برسالته وبأمثاله من المخرفين ما هو عليه من الجهل وعدم الأمانة إن كانوا ممن يعقلون، وما أحسن ما قيل: ويخبرني عن غائب المرء فعله ... كفى الفعل عما غيب المرء مخبرا لقد استفتح هذا الملحد رسالته هذه بالكذب، إذ ادعى لنفسه زوراً ويهتاناً أنه ممن أقامهم الله تعالى على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم النقية السمحة، مع ما أضاف إلى هذه الدعوى الكاذبة من تحريق آيات الكتاب العزيز. فنحن نورد من كلامه في رسالته هذه التي نحن بصدد الرد عليها ما ينقض دعواه، ويثبت أنه من أعداء سنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم فقد قال في صحيفة (48) وما بعدها: "إن أحكام الدين لا يمكن أخذها من نصوص الكتاب والسنة لأن فيهما الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمطلق والمقيد – إلى آخر ما ذكره – قال: وإن كتب الحديث لا يوجد فيها بيان ولا إشارة تهدي إلى الصواب" وزعم " أن من رجح حكماً على حكم مستنداً فيه إلى كتب الحديث، فإن ذلك ظن لا يفيد اليقين، بل يعد الأخذ به زندقة لا إسلامية" قال: "ومتى أجمعت الأمة على التعبد والتعامل بصحيح البخاري أو غيره؟ وأي عالم أو فقيه أفتى في حكم عن البخاري أو غيره؟ " يعني من كتب الحديث – إلى آخر ما قاله في حق أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قاله أيضاً في جملتها: الذين كابدوا الأسفار، وواصلوا الليل بالنهار في جمعها وتنقيحها، مما سنذكره في محله من ردنا هذا إن شاء الله تعالى. وهذا قليل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 كثير مما نشير إليه من مخالفات هذا الملحد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ولكتاب الله تعالى الكريم. فكيف يدعي من هذه أقواله أنه ممن أقامهم الله تعالى على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 تحريف الملحد لكلام الله وتصرفه فيه فأما تحريق هذا الملحد لكتاب الله تعالى وتصرفه فيه بالزيغ: ففي قوله: "القائل من استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم" فنسب تحريفه لهذه الآية وتصرفه فيها قولاً لله تعالى، والله تعالى يقول: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة، الآية: 256] فقد أسقط شرط الاستمساك بالعروة الوثقى، وأبدل جواب الشرط الذي هو "فقد استمسك "، بمن التي لا تنطبق على سياق الآية ولا تدل على معناها، وليست قولاً لله، كما زعمه الملحد. وقد قال الإمام أبو حيان في تفسيره على هذه الآية: فالشرط هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. وجوابه: " فقد أستمسك بالعروة الوثقى" وأبرز في صورة الماضي المقرون بقد، الدالة في الماضي على تحقيقه، وإن كان مستقبلاً في المعنى لأنه إشعار بأنه مما وقع استمساكه وثبت، ذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه، انتهى. فمن هذا يتبين لك قدر أمانة هذا الملحد. فقد افترى أيضاً على بعض العلماء وحرف كلامهم عن مواضعه، وتقول عليهم ما لم يقولوه مما سيأتي بيانه في موضعه من رسالته هذه. قال الملحد: "أما بعد أيها الإخوان المتلقبون بالمتنورين، أراكم تدعون الناس لبدعه الاجتهاد في الدين وغيرها من البدع التي جرت دعاتها قبلكم إلى ما لا نرضاه لكم، زين لهم الشيطان أعمالهم فظنوا أنهم من المهتدين. نحن وأنتم متفقون بالشهادتين مقرون بالأركان لا نختلف بأصول الإيمان ولا ننكر أركان الإسلام، غير أننا نقول بالمحكم ونرجع إليه، وأنتم تتبعون المتشابه وتعولون عليه. نحن نحتاط بما لا نرتاب، وأنتم لا تتحرجون مما يريب، نحن نعتمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الإجماع والجماعة، وأنتم تترخصون بالانفراد والتأويل بالرأي. قمتم بعد أن ذهب الله بزعماء تلك المذاهب والنحل، وانتشرتم بعد أن طوى دعاة تلك البدع تدعون الناس بما لا ينفعهم في الدنيا ولا ينجيهم في الآخرة، تخلطون لهم الحق بالباطل والظن باليقين، تحرفون الكلم عن مواضعه، تقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله، تنادونهم ارجعوا إلى الدين وأنتم عنه أبعد، تأمرون بالبر وتنسون أنفسكم، تقولون بأفواهكم ما ليس في قلوبكم، ترسلون دعاة بأجسام إنسانية وأرواح شيطانية يوسوسون لأناس عاشوا في جهل أو قاموا حديثاً من مهد، ما عرفوا من الدين إلا الاسم وما نظروا من العلم إلا الرسم، فيزينون لهم غروراً ويغوونهم شروراً، والله لا يصلح عمل المفسدين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 أفاضل علماء مصر والهند والعراق الذين ردوا على دحلان والنبهاني أقول: أوردت كلام هذا الملحد جملة واحدة وإن كان كله كلام باطل مختلف لا يستحق النظر فيه ولا الالتفات إليه، فهو ينقض بعضه بعضاً، إلا أن في نشره والتنبيه عليه بياناً لجهل هذا الملحد وعدم تقواه، وأن ليس له قدم راسخة فيما زعمه من الاستقامة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم النقية السمحة، بل هو من أعدائها وأعداء السائرين عليها. فقد عنى بخطابه هذا: كل من اتبع الكتاب والسنة، واقتفى أثر السلف الصالح من هذه الأمة محارباً للبدع وأهلها. وفي مقدمة هؤلاء المخاطبين: العالم العلامة الشيخ محمود شكري الألوسي في بغداد، والشيخ جمال الدين القاسمي بالشام، والأمام الشيخ محمد عبده بمصر. فقد اشتهر هؤلاء العلماء رحمهم الله تعالى بمحاربة البدع ودعاتها، ورد أباطيلهم وخصوصاً منهم مشايخ هذا الملحد، وهما دحلان والنبهاني إمامي الضلال. فقد قلدهم هذا الملحد في إباحة الشرك في عبادة الله تعالى واتباع غير رسوله صلى الله عليه وسلم وتكفير من خالفهم في مذهبهم الباطل. وقد رد عليهم علماء أهل السنة في جميع أنحاء البلاد الإسلامية. نذكر منهم العالم الجليل والمحدث الشهير: الشيخ محمد بشير الهندي، له كتاب "صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان" ومنهم العالم العلامة الشيخ عبد الكريم بن فخر الدين الهندي، له كتاب "الحق المبين في الرد على اللهابية المبتدعين" رداً على دحلان، وغيرهما كثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 من علماء الحجاز والعراق ونجد. منهم العالم العلامة الشيخ محمود شكري الألوسي, له كتاب "غاية الأماني في الرد على النبهاني" في مجلدين. وإذاً، فليس بغريب من هذا الملحد أن يخاطب هؤلاء العلماء الأعلام أولاً بالأخوة وبالاتفاق معهم على أصول الدين وأركان الإسلام. ثم بعد ذلك ينقلب عليهم بما يخرجهم عن دائرة الإسلام، حيث يقول مخاطباً لهم: "إنكم تتبعون المتشابه وتعولون عليه، ولا تتخرجون مما يريب، وإنكم تترخصون بالانفراد والتأويل بالرأي، تدعون الناس لما لا ينفعهم في الدنيا ولا ينجيهم في الآخرة، تخلطون لهم الحق بالباطل، والظن باليقين، تحرفون الكلم عن مواضعه تقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله، تنادون بالرجوع إلى الدين وأنتم عنه أبعد، تأمرون بالبر وتنسون أنفسكم، تقولون بأفواهكم ما ليس في قلوبكم، ترسلون دعاة بأجسام إنسانية وأرواح شيطانية، يزينون للناس غروراً ويغوونهم شروراً، والله لا يصلح عمل المفسدين". فهذا ما يقوله هذا الملحد في حق هؤلاء العلماء الأعلام، الذين أقر بالاتفاق معهم على أصول الدين وأركان الإسلام. فما ندري ماذا ترك لهم من هذه الأصول والأركان بعدما رماهم بهذه الفظائع التي لا يتصف بها إلا منافق عدو للإسلام والمسلمين؟. وجوابنا عنها بأن نقول: سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم. فلسنا كما تقولون ولستم كما تدعون {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة، الآية: 111] . ودعوة المرء تطفي نور بهجته ... هذا بحق، فكيف المدعي زللا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الرد على الملحد في زعمه أن الاجتهاد بدعة ... فأما قول هذا الملحد في مخاطبته لهؤلاء العلماء: "إني أراكم تدعون الناس لبدعة الاجتهاد في الدين وغيرها من البدع" مقدماً لها ومنوهاً بها على غيرها، فما ذاك إلا لأنها في مذهبه الباطل: أكبر بدعة في الدين، بل هي عنده: أكبر من جميع ما أسنده إليهم من أعمال المنافقين، وأعمال أهل الكتاب الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 يحرفون الكلم عن مواضعه، يقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. فإن كل من خالف هؤلاء الضالين في مذهبهم الباطل المخالف لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يسمونه مجتهداً خارجاً عن مذاهب الأئمة الأربعين، كما أنهم يسمون إجماعهم على ضلالهم ومن تبعهم من العوام "إجماع الأئمة" ومن خالفهم فقد خرق إجماع الأمة. فهذه براهينهم مبنية على الكذب والمغالطات، غير ملتفتين إلى ما أجمع عليه الأئمة الأربعة في أصول الدين، فضلاً عن فروعه. وهذا الملحد جاهل أعمى متبع لهواه لذلك يسمي الاجتهاد بدعة في الدين، ولم يدر هذا الجاهل الأحمق أن الرسول صلى الله عليه وسلم جوز اجتهاد فرض من فروض الكفايات، لا يجوز خلو عصر منه. ونحن نسوق طرفاً من كلام العلماء في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 قول الإمام ابن القيم في الحض على الاجتهاد ... قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين": وقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم للحاكم أن يجتهد رأيه، وجعل له على خطئه في اجتهاد الرأي أجراً واحداً، إذا كان قصده معرفة الحق واتباعه. وقد اجتهد الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام ولم يعنفهم، كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة واجتهد بعضهم فصلاها في الطريق. وقال: "لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض" فنظروا إلى المعنى. واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلاً، نظراً إلى اللفظ. وهؤلاء سلف أهل الظاهر وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس. ولما كان علي رضي الله عنه باليمن آتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام، فقال كل منهم: هو ابني، فأقرع علي رضي الله عنه بينهم، فجعل الولد للقارع، وجعل للرجلين ثلثي الدية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه من قضاء علي. واجتهد سعد بن معاذ رضي الله عنه في بني قريظة وحكم فيهم باجتهاده، فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات" واجتهد الصحابيان اللذان خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فصليا ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر. فصوبهما، وقال للذي لم يعد: "أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك" وقال للآخر: "لك الأجر مرتين" وقال الشعبي عن شريح قال: قال لي عمر رضي الله عنه: "اقض بما استبان لك من كتاب الله، فإن لم تعلم كتاب الله تعالى فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم تعلم قضاء رسول الله فاقض بما استبان لك من قضاء الأئمة المجتهدين، فإن لم تعلم كل ماقضت به أئمة المجتهدين فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح" انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 قول الإمام الشاطبي في مختصر تنقيح الفصول: إن الاجتهاد فرض كفاية ... وقال الإمام شهاب الدين أحمد القرافي المالكي في "مختصر تنقيح الفصول" الباب التاسع عشر في الاجتهاد مذهب مالك وجمهور العلماء: وجوبه، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن، الآية: 16] إلى أن قال: واتفقوا على جواز الاجتهاد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام - إلى أن قال – وأما وقوعه في زمانه عليه الصلاة والسلام من غيره، فقيل: هو جائز في الحاضر والغائب لقول معاذ رضي الله عنه: "اجتهد رأيي" انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 قول الجلال السيوطي في كتاب الرد على من أخلد إلى الأرض ... وقال الحافظ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه "الرد على من أخلد إلى الأرض": وبعد، فإن الناس قد غلب عليهم الجهل، وعمهم وأعماهم حب العناد وأصمهم، فاستعظموا دعوى الاجتهاد، وعدوه منكراً بن العباد، ولم يشعر هؤلاء الجهلة أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات في كل عصر وواجب على أهل كل زمان أن يقوم به طائفة في كل قطر. وهذا كتاب في تحقيق ذلك سميته "الرد على من أخلد إلى الأرض جهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض" وينحصر في أربعة أبواب: الباب الأول في ذكر نصوص العلماء على أن الاجتهاد في كل عصر فرض من فروض الكفايات، وأنه لا يجوز شرعاً إخلاء العصر منه. اعلم أن نصوص العلماء من جميع المذاهب متفقة على ذلك، فأول من نص على ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه، ثم صاحبه المزني في مختصره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 قال: "اختصرت هذا من علم الشافعي، ومن معنى قوله: لأقربه على من أراده، مع إعلاميه نهيه عن وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه" هذه عبارة المزني. فنقل عن الشافعي رضي الله عنه: "أنه نهى عن تقليده وتقليد غيره" ولا شك أنه لا يمكن نهي الخلق بأسرهم عن التقليد لأن العوام يجوز لهم التقليد بالإجماع وإنما نهى الشافعي رضي الله عنه: أن يطبق أهل العصر كلهم على التقليد لأن فيه تعطيل فرض من فروض الكفايات وهو الاجتهاد، فحث على الاجتهاد ليكون في كل عصر من يقوم بهذا الفرض، هكذا قرر معنى النص الأصحاب رضي الله عنهم وسيأتي من عباراتهم ما يبين ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فصول من كتاب السيوطي في نصوص المحققين في الاجتهاد ... فصل وممن نص على ذلك: الإمام أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي في أول كتابه "الحاوي الكبير" فقال عند سياق قول المزني السابق ما نصه: فإن قيل: فلم نهى الشافعي عن تقليده وتقليد غيره، وتقليده جائز لمن استفتاه من العامة؟ قيل: التقليد مختلف باختلاف أحوال الناس بما فيهم من آلة الاجتهاد المؤدي إليه وعدمه. لأن طلب العلم من فروض الكفاية ولو منع جميع الناس من التقليد وكلفوا الاجتهاد لتعين فرض العلم على الكافة وفي هذا اختلال نظام وفساد. ولو كان يجمعهم التقليد لبطل الاجتهاد وسقط فرض العلم وفي هذا تعطيل الشريعة وذهاب العلم فلذلك وجب الاجتهاد على من تقع بع الكفاية ليكون الباقون تبعاً ومقلدين. قال الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة، الآية: 122] فلم يسقط الاجتهاد عن جميعهم ولا أمر به كافتهم. هذا كلام الماوردي بحروفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فصل ذكر الروياني في البحر نحو ذلك، ثم قال: فإن قيل: لم قال: لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه. والأولى الاحتياط: في التقليد ليسلم المقلد من مخاطرة الخطأ والصواب فيه؟ قلنا: الأولى الاحتياط: في الاجتهاد، لأن المجتهد يقدم على الأمر على علم، والمقلد يقدم فيه على جهل. قال وقيل: هذا بيان العلة في النهي عن التقليد، يعني إنما نهى عن التقليد: ليستقصي طالب العلم في تعرف وجوه الأحكام ودلائلها، ثم ينظر فيها لدينه ويحتاط لنفسه. فصل وممن نص على ذلك: القاضي حسين – وهو شيخ البغوي – رحمهم الله تعالى قال في تعليقه (1) : فصل وممن نص على ذلك: الزبيدي في "المسكت" فقال: لن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة في كل وقت وعهد وزمان. وذلك قليل من كثير. فأما أن يكون غير موجود كما قال الخصم: فليس بصواب، لأن لو عدم المجتهدون لم تقم الفرائض كلها، ولو بطلت الفرائض لحلت النقمة بذلك في الخلق، كما جاء الخبر: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" ونحن نعوذ بالله أن نؤخذ مع الأشرار. هذه عبارة الزبيدي؛ ونقلها الزركشي في كتابه "البحر" في الأصول وقال: إن وجه ذلك: أن الخلو من مجتهد يلزم منه اجتماع الأمة على الخطأ، وهو ترك الاجتهاد الذي هو فرض كفاية، انتهى.   (1) حصل هذا السقط حيث لم يورد قول القاضي حسين المروزي فقد عقد القاضي حسين في تعليقته باباً في التقليد وأحكامه ومما قاله فيه: فأما العالم فرضه أن يعمل بعلم نفسه ولا يجوز له أن يعمل بقول الغير ويظهره لأن العالم له آله الدرك والاجتهاد. أ. هـ. [من تعليقة القاضي حسين المروزي نسخة أحمد الثالث بتركيا] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فصل وممن نص على ذلك الإمام محيي السنة أبو محمد البغوي في كتابه "التهذيب" وهو من أجل الكتب المصنفة في الفقه. قال في أوله ما نصه: العلم ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية – وذكر فرض العين – ثم قال: وفرض الكفاية: هو أن يتعلم ما يبلغ به رتبة الاجتهاد، ومحل الفتوى والقضاء، ويخرج من عداد المقلدين. فعلى كافة الناس القيام بتعلمه، غير أنه إذا قام من كل ناحية واحد أو اثنان سقط الفرض عن الباقين. فإذا قعد الكل عن تعلمه عصوا جميعاً لما فيه من تعطيل أحكام الشرع. قال الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة، الآية: 122] هذا لفظه بحروفه. فصل وقال ابن سراقة أحد أصحابنا في أول كتابه "إعجاز القرآن" في حكمة تقسيم القرآن إلى محكم ومتشابه. لو كان جميعه جلياً محكماً لعدم الثواب على الاستنباط وسقط حكم الاجتهاد المؤدي إلى شرف المنزلة وعظم المروءة. ولهذا المعنى لم ينص الله تعالى على حكم جميع الحوادث مفصلاً. بل أبان بعضها وذكر أشياء في الجملة وكل بيانها إلى رسول صلى الله عليه وسلم ليرفع بذلك درجته وتفتقر أمته في علم شريعته إليه. فأبان النبي صلى الله عليه وسلم منها ما أبان ووكل ما يطرأ منها إلى العلماء بعده وجعلهم في علم التنزيل ورثته، والقائمين مقامه في إرشاد أمته إلى حكم التأويل ليعلو الطالب بتلك المنازل، ويفتقر الجاهل إلى العالم إذ كانت الدنيا دار تكليف وبلوى لا دار راحة. ولو كان العلم جلياً لا يحتاج إلى بحث واجتهاد، ولا إلى نظر واستنباط لكان علم التوحيد كذلك. فكان العلم بالله سبحانه ضرورة وكان في ذلك سقوط المثوبة وإبطال الشريعة، واستغنى عن العمل لطلب الثواب وخوف العقاب وهذه صفة الآخرة وحكم بقاء الخلق في الجنة. هذا كلام ابن سراقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فانظر كيف جعل ترك الاجتهاد مؤدياً إلى إبطال الشريعة، وهو نظير ما نص عليه غيره، انتهى. ثم سرد المصنف (1) رحمه الله نصوص الأئمة عاقداً لكل قول إمام فصلاً، كما نقلناه في الفصول المتقدمة. ولعدم التطويل نسرد أسماء من ذكرهم. قال: وممن نص على ذلك: إمام الحرمين في النهاية، وممن نص على ذلك مجلى في الذخائر وممن نص على ذلك: أبو حامد الغزالي في كتاب البسيط. وممن نص على ذلك: الإمام الرافعي. وممن نص على ذلك: الإمام تقي الدين أبو عمرو ابن الصلاح في كتابه أدب الفتيا. وممن نص على ذلك: الإمام عز الدين بن عبد السلام في كتابه الغاية. وممن نص على ذلك: الإمام محيي الدين النووي في شرح المهذب، وممن نص على ذلك: الفقيه نجم الدين ابن الرفعة في الكفاية. وممن نص على ذلك: الإمام بدر الدين الزركشي في كتاب القواعد. وممن نص على ذلك من أئمة المالكية: القاضي أبو الحسن علي بن عمر البغدادي المعروف بابن القصار، والإمام القرافي، والقاضي عبد الوهاب، ومن أئمة الحنفية والحنابلة نقل أبن الحاجب في (مختصره في الأصول) وابن الساعاتي من الحنفية في كتابه (البديع في الأصول) عن الحنابلة، أنهم قالوا: لا يجوز عقلاً خلو العصر من مجتهد، وعلله بأن الاجتهاد فرض كفاية، والخلو عنه يستلزم اتفاق الأمة على الباطل، انتهى. قال: فقد صرحوا في استدلالهم بأن الاجتهاد فرض كفاية، ثم قال: فصل فيما شرط فيه الفقهاء الاجتهاد من الأمور التي هي فرض كفاية، وذلك يؤول إلى أن الاجتهاد نفسه فرض كفاية. من ذلك: الإمامة العظمى، أطبق العلماء من الشافعية والمالكية والحنابلة على أن يشترط فيمن ينصب إماماً للأمة أن يكون مجتهداً – إلى أن قال -: ومن ذلك القضاء. نص الشافعي رحمه الله تعالى والأصحاب بأسرهم على أنه يشترط في القاضي أن يكون مجتهداً، وكذلك   (1) يعني بالمصنف السيوطي في كتابه: "الرد على من أخلد إلى الأرض" كما في ص22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 أطبق عليه المالكية والحنابلة ولم يخالف في ذلك إلا الحنفية. قال الرافعي في الشرح الكبير: يشترط في القاضي أهلية الاجتهاد، فلا يجوز تولية الجاهل بالأحكام الشرعية وطرقها المحتاج إلى تقليد غيره فيها خلافاً لأبي حنفية، واحتج الأصحاب بقوله صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة والثنان في النار، والذي في الجنة رجل عرف الحق فقضى به، واللذان في النار: رجل عرف الحق فجار في الحكم، ورجل قضى للناس على جهل" انتهى. وأقول: هذا ما لزم نقله من كلام علماء أهل السنة في مسألة الاجتهاد، مكتفياً فيه بالقليل لدحض ما زعمه هذا الملحد من أن الاجتهاد بدعة في الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 نقض زعم الملحد أنه متفق مع أهل السنة على مذهب السلف ... ثم قال الملحد: "ذكرت آنفاً اتفاقكم معنا على أركان الدين، وبينت وجوه الاختلاف بيننا، ولا ريب أن دعواكم الرجوع لما كان عليه السلف الصالح يلزم حكم الإقرار بأن السلف على الكتاب والسنة ونحن على غيرهما". والجواب: أن هذا الملحد جاهل أحمق، يتخبط في ظلمات جهله وضلاله، لأنه يزعم أنه بما قدمه من الافتراء وقول الزور فيما أسنده إلى من خاطبهم من هؤلاء العلماء الأعلام قد كشف الإشكال، وأبرز الحقائق ولم يعلم هذا الملحد أنه في درجة من الحماقة لم يحم حولها هبنقة، فأين هو الاتفاق أيها الملحد على أركان الدين؟ وما هي هذه الأركان التي تذكر؟ مع ما رميتهم به مما يهدم الأصول قبل الأركان؟ فأقصر فلست من أهل العلم حتى تعرف وجوه الاختلاف. وإنما أنت كما قيل: حمار في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حرب في زياد فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو سودت وجهك بالمداد وقد تقدم الجواب على تخبط هذا الملحد وتخليطه فيما يدعيه من بيان وجوه الاختلاف بما فيه الكفاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 إننا والحمد لله على مذهب السلف لم نخرج عنه ... وأما قول الملحد: "ولا ريب أن دعواكم الرجوع لما كان عليه السلف الصالح" إلى آخر كلامه. فجوابنا عنه: أننا بحمد الله لم نخرج عما كان عليه السلف الصالح حتى ندعي الرجوع إليه. هذا جوابنا إن كان يريد ذلك. وأما إن كان قصده: أننا ندعي اتباع السلف الصالح والرجوع إليهم، واتباع سبيلهم قولاً وعملاً فهذا ما ندين الله تعالى به وندعو إليه، بل نقر إقراراً أصولياً ولا إلزامياً بأن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من أئمة الهدى والدين – كالأئمة الأربعة وأمثالهم ومن سلك سبيلهم إلى يوم القيامة – كانوا على الكتاب والسنة وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم قامت السنة وبها قاموا. فهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، وقد جاهدوا في دين الله حق جهاده والذب عنه حتى لقوا ربهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. فأما الذين يدعون أنهم على مذهب السلف وأنهم مقلدون للأئمة الأربعة، وهم مخالفون لهم في الأصول فضلاً عن الفروع فليسوا على مذهب السلف ولا ممن قلدوا الأئمة الأربعة وليسوا على كتاب ولا سنة – أمثال هذا الملحد، ومن قلدهم – وكيف يكون على مذهب السلف أو مقلداً للأئمة الأربعة من لا يجيز التعبد والتعامل ولا الفتوى بما في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث التي صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق الأمة؟ لا يخرج عن هذا الاتفاق إلا مبطل معاند. ويقول هذا الملحد: إنه لا يوجد في كتب الحديث بيان ولا إشارة تهدي إلى الصواب، وليس يستفاد من كتب الحديث إلا مجرد ظن يعد الأخذ به زندقة، لا إسلامية؟. هذا بعض ما يقوله هذا الملحد في رسالته هذه التي نحن بصدد الرد عليها. فهل يقول هذا الكلام في حق أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يؤمن بالله واليوم الآخر؟ بل من يؤمن برسالة سيد المرسلين وما جاء به من رب العالمين؟ أليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 هذا هو غاية التنقص والاحتقار لأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتفضيل آراء الرجال عليها لغة وتفصيلاً وإجمالاً؟ وهل تناسى هذا الملحد الهِلْباجة: أن القرآن العظيم عربي غير ذي عوج وأنه أنزل على أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء الذي أعطي جوامع الكلم وأوضح البيان الذي أسكت كل فصيح وألجم كل مجادل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أدلة من كلامه في رسالته: أنه عدو للحديث ولمذهب السلف ... ثم إن هذا الملحد يفتري على الأمة، فيقول: "ومع هذا فأخبرونا متى أجمعت الأمة على التعبد والتعامل بصحيح البخاري أو غيره؟ وأي عالم أو فقيه أفتى في حكم عن البخاري أو غيره؟ ". ونقول: سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم، فض الله فاك أيها الملحد، ومن قال بما تقوله من إبطال بنصوص الكتاب والسنة؟ ثم قال الملحد: "فأسألكم: من هم السلف؟ فإن قلتم: الصحابة رضي الله عنهم، فهاكمو كتب أئمتنا، أرونا أي حكم أو قول فيها غير مأخوذ أصله عنهم. وإن قلتم: التابعون، فهذه أسانيد أئمتنا كلها مأخوذة عن الثقات منهم، وإن قلتم: غيرهم، فأبينوا لنا من هم؟ ". والجواب: أن هذا الملحد مغالط كذاب، فها هي بضاعته الخاسرة التي لا يحسن غيرها معتمداً، لا يخشى في نصرة الباطل لومة لائم فهم يوهم الجهال بأنه من أتباع أحد الأئمة الأربعة المقلدين لهم، الحافظين لأصول مذاهبهم وفروعها، المطلعين على أصل مأخذ الأئمة ومستنداتهم من الكتاب والسنة، العارفين بأسانيد الأئمة وحال رجالها، مع أنه ليس على شيء من ذلك، بل هو مقلد أعمى، متشبع بما لم يعط، متماد في غيه واتباع هواه، محلل للشرك في عبادة الله تعالى، يفتري على أئمة المسلمين ويزعم أن أعماله هذه – مخالفة لدين الإسلام – مذهب لمن يزعم تقليدهم. كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 بيان مذهب السلف، ومن هم السلف؟ ... فأما قول الملحد: "فأسالكم من هم السلف؟ " إلى آخره. فنقول له وبالله التوفيق: سفنا من أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وافترض الله علينا طاعته وتعظيمه وتوقيره، وسد إليه جميع الطرق، فلم يفتح لأحد إلا من طريقه من علم الله به من الجهالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً سيد الأولين والآخرين، من جاءنا بها بيضاء نقية، القائل: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" وروى الإمام مالك رحمه الله تعالى في الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله" وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: "وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله تعالى" وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال رجل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فأوصنا. فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكرموا أصحابي، فإنهم خياركم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب – الحديث بطوله" رواه النسائي وإسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح إلا إبراهيم الخثعمي فإنه لم يخرج له الشيخان وهو ثقة ثبت، ذكره الجزري. كذا في المرقاة واللمعات. قاله في الدين الخالص. فليس لنا سلف سوى المصطفى صلى الله عليه وسلم وما جاءنا به من كتاب ربه وسنته المطهرة، وما أرشدنا إليه من سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده وأصحابه خيار هذه الأمة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، نغرف لهم فضلهم وأمانتهم ونشهد بصدقهم وإمامتهم، لإرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره لنا باتباعهم واقتفاء أثرهم. فنحن مع نصوص الكتاب والسنة دائرون ولمن قال بها متبعون. لا تأخذنا فيهما لومة لائم ولا يثنينا عنها إرجاف منحرف في ضلالته هائم، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 خفي علينا حكم، أو أشكل علينا فهم معنى رجعنا فيه إلى من أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اتباعهم، فيسعنا ما وسعهم فقد أكمل الله لنا الدين وأتم علينا النعمة، فله الحمد والمنة لا نحصي ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه. فأما قول المعترض: "فهاكمو كتب أئمتنا. . . الخ". فالجواب أن يقال له: من هم أئمتك؟ وما هي كتبهم التي تدعي أن جميع أحكامها مأخوذ أصله عن الصحابة رضي الله عنهم، وأن أسانيد أئمتك كلها مأخوذة عن الثقات من التابعين؟ فإن ادعيت أنهم الأئمة الأربعة أو واحد منهم وأردت بكتبهم" الكتب المدونة في مذاهبهم التي تلقاها الرواة الثقات من أصحابهم عنهم، طالبناك بالدليل على إثبات تقليدك لمن ادعيت تقليده منهم مع علمنا أنه ليس عندك جواب سوى الدعوى المجردة عن الحقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 جمل من رسالة الملحد في محاربته لمذهب السلف ... فنحن نعرض أمام القراء شيئاً مما جاء في رسالتك هذه على كتب الأئمة الأربعة ونسبتك له: أنه مذهب لهم، هلي يتفق معها أو ينطبق على مذاهبهم؟ حتى يتبين الهدى من الضلال. فقد قال المعترض في أول صحيفة من رسالته: "بأن الاجتهاد بدعة في الدين" وقد أتفق الأئمة من جميع المذاهب على أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات. وقال في صحيفة (10، 11) : "أنه لا يجوز تقليد الصحابة ولا التابعين" وهذا مخالف لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي صحيفة (36) : "يدعي أن الأمة أطبعت في مشارق الأرض ومغاربها على تقليد المذاهب الأربعة، حتى إن العلماء القادرين على الاجتهاد تركوه تقليداً لهم" قال: "وقد تجد عدداً وافراً من الأولياء الذين كانوا يتلقون الشريعة من ذات صاحبها عليه السلام – الذي لا خلاف بحياته – ولا تجد واحداً منهم غير متقيد بأحد الأئمة الأربعة". وقال في صحيفة (46) : "إن أئمة الحديث لم يتتبعوا فيها أحوال الصحابة والتابعين لأجل العمل بها، بل دونوها لأجل حفظها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وقال في صحيفة (49) : "أن أئمة الحديث سردوا الأحاديث سرداً في أبوابها على علاتها. فإذا وجدتم حديثاً في البخاري وغيره في مسألة ومثله في موطأ مالك مثلاً: أحدهما فيه تشديد والثاني فيه ترخيص فأنى لكم معرفة الناسخ فترجحوه على المنسوخ؟ وهكذا في سائر الأقسام التي تتوقف صحة الحكم على معرفتها، وأنتم لا تجدون في كتب الحديث بياناً ولا إشارة تهديكم إلى الصواب، أيجوز لكم الترجيح بمجرد الظن والتخرص؟ فهذه زندقة لا إسلامية – إلى أن قال – ومع هذا فأخبرونا: متى اجتمعت الأمة على التعبد والتعامل بصحيح البخاري أو غيره؟ وأي عالم أو فقيه أفتى في حكم عن البخاري أو غيره؟ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 افتراؤه الكذب: أن التوسل بالموتى في القرآن والحديث ... وفي صحيفة (83) قال: إن علماءنا ما قالوا بجواز التوسل بالأنبياء والأولياء وندبوا إليه من تلقاء أنفسهم، حاشاهم من ذلك وهم أمناء الدين، وخلفاء الرسل، بل أخذوه من كلام الله وكلام رسول أمراً وفعلاَ". انتهى ما أردت عرضه من كلام هذا الملحد الأحمق، وهذا قليل من كثير مما جاء في رسالة هذا المعترض، ليعتبر المعتبرون وينظر فيها أهل العلم والتحقيق من أتباع الأئمة الأربعة. فهل يجوز نسبة هذا مذهباً للأئمة الأربعة أو واحد منهم؟ وهل يتفق مع الكتب المدونة في مذاهبهم في أصل أو فرع، كما زعمه المعترض؟ حماهم الله من ذلك ومن دعوى هذا المفتري فهم بريئون منه ومما نسبه إلى مذاهبهم، بل هم منه كما قيل: سارت مشرقة وسرت مغرباً ... شتان بين مشرق ومغرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 كذبه على الأئمة الأربعة بأنهم دعوا الناس إلى تقليدهم ... ثم قال المعترض: "وأما قولكم – مغالطة للجهال – إن هذا الشيء ما قاله السلف أو ما فعلوه وأن الدين كان واحداً فجعلوه أربعة، فهذا افتراء منكم عليهم من دون دليل، بل قول منشؤه الجهل والحسد والعداوة سترون إن شاء الله من أدلة إبطاله وإسقاطه ما لم يكن بحساب". فالجواب: أن كلام الملحد هذا ضرب من الهذيان، بل هو وسوسة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الشيطان، مع ما اشتمل عليه من الكذب لزعمه أن من وجه اعتراضه إليهم: يستعملون المغالطة مع الجهال في إرشادهم لما كان عليه السلف الصالح من تجريدهم الاتباع لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنهم يقولون لهم: إن الدين كان واحداً فجعلوه أربعة. فمع ما تضمنه كلام المعترض من سوء التعبير وفساد التركيب، فمراده – والله أعلم – أن الضمير في "جعلوه" راجع إلى الأئمة الأربعة وهذا منه بناء على أنه من أتباعهم المتعبدين بمذهبهم. فنقول: إن هذه الدعوى هي عين المغالطة، حيث جعل الأئمة رحمهم الله تعالى جنة لاتباع هواه لا لاتباعهم، ونسب مذهب أئمة أهل البدع إلى الأئمة الأربعة ترويجاً لباطلهم على الجهال المقلدين لكل ناعق أمثالهم. ورمى أتباعا الأئمة والسلف الصالح على الحقيقة بأنهم يفترون على الأئمة ويعادونهم ويحسدونهم وهذه دعوى لا تروج إلا على أجنبي عن دين الإسلام ومعرفة أئمته الأعلام، ومكانتهم من أهل السنة والجماعة على الحقيقة. إذ لا يوجد أحد من المسلمين يقول: بأن واحداً من الأئمة رضي الله عنهم أمر الناس بتقليده أوتقليد غيره، فإن ادعى ذلك احد من المسلمين فهو المفتري عليهم، كما لا يوجد احد من المسلمين ينكر أن الأئمة الأربعة رضي الله عنهم نهوا عن تقليدهم وتقليد غيرهم فإن أنكر ذلك أحد من المسلمين فقد افترى عليهم وعاداهم فكيف ينسب إليهم من يدعي الإسلام أنهم فرقوا الدين، ويفتري عليهم ويحسدهم ويعاديهم؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. ونحن نورد من كلام الأئمة رضي الله عنهم في هذا المعنى ما بيبين ضلال هذا المعترض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 نقل ابن القيم عن الأئمة النهي عن التقليد ... قال الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى في أعلام الموقعين: فصل. وقد نهى الأئمة الأربعة رضي الله عنهم عن تقليدهم، وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة. فقال الشافعي رحمه الله: "مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيها أفعى تلدغه وهو لا يدري" ذكره البيهقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وقال إسماعيل بن يحيى المزني في مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقر به على من أراده، مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه. وقال أبو داود: قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء. ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعد: الرجل مخير فيهم وقد فرق أحمد بين التقليد والاتباع. فقال أبو داود سمعته يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو بعد في التابعين مخير. وقال أيضاً: لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي. وخذ من حيث أخذوا، وقال: من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال. وقال بشر بن الوليد: قال أبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بمقالتنا حتى يعلم من أين قلنا. وقد صرح مالك رحمه الله تعالى بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي: إنه يستتاب، فكيف بمن ترك قول الله وقول رسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟ وقال جعفر: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثني الهيثم بن جميل قال قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوماً وضعوا كتباً يقول أحدهم: حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا ويأخذون بقول إبراهيم؟ قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية، كما صح عندهم قول إبراهيم. فقال مالك: هؤلاء يستتابون. انتهى. فهذا كلام الأئمة رضي الله عنهم صريح في النهي عن تقليدهم وتقليد غيرهم ما عدا الصحابة رضي الله عنهم الذي لا يجوز المعترض تقليدهم. فما هو وجه الاعتراض على الأئمة، كما زعم المعترض؟ وأي لوم يوجه إليهم كما يدعيه هذا الجاهل ومن قلدهم من أهل البدع الذين ينسبوه ما هم عليه من الضلال مذهباً للأئمة الأربعة؟ وهذا من أعظم الظلم والعدوان والمغالطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فالأئمة رحمهم الله تعالى بريئون منهم ومن مذهبهم فحجة أهل البدع داحضة عند ربهم وسيجزيهم بما وعد به المفترين أمثالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 تكفير الملحد لعلماء السلف ... وأما قول المعترض الملحد: "وحيث لا حاجة لإطالة البحث في فروع مذهبكم فأكتفي بالبحث في مسألتي الاجتهاد والتوسل، وما يتعلق بهما وحيث لهاتين المسألتين علاقة بمذهب الوهابية فاقتضى تقديم بيان فيه ليرى الناس ما بين مذهبكم ومذهبهم من التشابه". فالجواب: أن هذا المعترض ما زال يتخبط في ظلمات جهله وضلاله. فقد رمى من خاطبهم من هؤلاء من هؤلاء العلماء الأعلام فيما أسنده إليهم ووصفهم به من أعمال المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، ومن أعمال أهل الكتاب الذين ذمهم الله تعالى بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه يقولون: {هذا من عند الله وما هو من عند الله} ومن الذين يخلطون الحق بالباطل والظن باليقين، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون – إلى آخر ما رماهم به من أمثال هذه الموبقات التي يقول عنها: إنها من فروع مذهبهم، وأنه لا حاجة له في إطالة البحث معهم في فروعه. فهو يريد البحث معهم في الأصول وأنه سيكتفي في بحث مسألتي الاجتهاد والتوسل وما يتعلق بهما. قال: "ولما كان لهاتين المسألتين علاقة في مذهب الوهابية فإ نه سيقدم فيه بياناً ليرى الناس ما بين مذهبهم ومذهب الوهابية من التشابه". ومذهب الوهابيين عند هذا المعترض الملحد: هو المذهب الذي يقول فيه "إسلام ووهابية لا يجتمعان، وأنى يجتمع الكفر والإيمان؟ ". وبهذا فقد زاد هؤلاء العلماء على ما تقدم مما رماهم به: أن أفصح عن تكفيره لهم، كما كفر الوهابيين. وذلك بعدما خاطبهم بالأخوة وشهد لهم بأنه متفق معهم على أصول الإيمان وأركان الإسلام. فلا عجب من تناقض هذا الرجل وتخليطه فقد غلب عليه الجهل واتباع الهوى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص، الآية: 50] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وأما ما يزعمه المعترض من البحث في مسألتي "الاجتهاد والتوسل" فإنه زعم باطل لا حقيقة له. فلم يأت في بحث هاتين المسألتين إلا بما كشف عن جهله وإفلاسه من العلم، وأنه ليس من أهل البحث والتحقيق حيث سمى الاجتهاد بدعة في الدين بل هو كما قال الأخطل: فانعق بضأنك يا جرير فإنما ... منتك نفسك في الخلاء ضلالا وسنأتي إن شاء الله تعالى على تحقيق هاتين المسألتين بما يحق الحق ويبطل الباطل من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام علماء أهل السنة بما يدرأ في نحر هذا المعترض ومن قلدهم من أهل الزيغ والضلال. قال المعترض: "المذهب الوهابي كان الناس في اختباط وتردد من حقيقة مذهب الوهابيين ومقولاتهم، بسبب ما كانوا يتسترون به من مظاهر التوحيد وادعاء التمسك بالكتاب والسنة، حتى طغوا وبغوا على الحجاز وناظرهم العلماء فكشف الله عنهم الستر، وسلط عليهم إبراهيم باشا المصري. فكاد يفنيهم ويقطع دابرهم لكن لله إرادة في بقاء جرثومة من هذه الطائفة في بلاد نجد. وقد تصدى لتحرير مذهبهم وتقرير مقالاتهم والرد عليهم جمهور من علماء الحجاز منهم السيد أحمد زيني الملقب بالدحلان نزيل مكة المكرمة، المتوفى في المدينة المنورة سنة 1303هـ وبسط ذلك في تاريخه المسمى "خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام" وأنا إن شاء الله آخذ عنه ما يتعلق بموضوعنا بدون تصرف وبالله المستعان". أقول: يزعم هذا الملحد أن الناس كانوا في اختباط وتردد في حقيقة مذهب الوهابية بسبب ما يستترون به من مظاهر التوحيد وادعاء التمسك بالكتاب والسنة. فهذا الملحد جاهل أعمى أو متجاهل متبع لهواه، لذلك لم يعلم أن أهل البصائر من جميع الناس الذين أعطاهم الله هدى ونوراً يفرقون به بين الحق والباطل لم يترددوا في معرفة حقيقة مذهب الوهابية، ولم يكتموا الحق بل نصروه وقرروه وردوا على من أنكره، أو شوه حقيقته من أهل الزيغ والبدع أمثال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 دحلان ومن قلده من الأغبياء أمثال الحاج مختار الذين لا يعلمون أن مظاهر التوحيد والتمسك بالكتاب والسنة قولاً وعملاً لا يتركان سبيلاً لرواج الادعاءات الكاذبة إلى هذه الدعوة المحمدية، وإن سماها أعداء التوحيد "وهابية" فقد أعلا الله منارها، وجعل العاقبة لأهلها لأنهم في دعوتهم مخلصون لله تعالى فكيف يتهمون بالتستر، وقد جاست جيوشهم أنحاء الجزيرة العربية شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً رافعين راية التوحيد مطالبين بالعمل بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في إقامة شعائر الدين وتوحيد رب العالمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى دانت لهم جزيرة العرب كلها بالطاعة والتزام هذا الدين الحنيف، ملة أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم. فهذا الغبي الأحمق لا يدري من أخبار الناس شيئاً إلى ما عثر عليه من ضلالات دحلان. فقد صادفت منه محلاً خبيئاً يليق بتلك الضلالات والخبيثات للخبيثين، فعبر عن جميع الناس بأنهم في اختباط وتردد من مذهب الوهابية، ولم يهتد إلى ما ذكره المؤرخون وقرره العلماء المحققون في أنحاء الدنيا حتى مؤرخي الإفرنج الذين يحرصون على تمحيص الحقائق. وأما من باعوا الدين بالدنيا، وجرفهم جارف الأهواء الدنيوية والسياسة من فاسدي أدعياء العلم، أمثال دحلان ومن قلده قبله من الهمج أتباع كل ناعق فإنهم لا ينظرون إلى الحق والإنصاف، بل إلى ما يملأون به بطونهم من أكل السحت وذلك في مناصرتهم الباطل {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة، الآية: 32] فماذا على الدعوة المحمدية وإن عاداها أو تجاهلها أهل البدع والضلال أعداء الرسل في كل زمان ومكان؟ وقد قيل: ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة ... أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر فهذه تواريخ العلماء الأعلام وأقوال المحققين من أئمة الإسلام، شاهدة لحقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بأنها هي دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أقوال ثقات المؤرخين في صحة عقيدة الوهابيين ... وها أنا أنقل من كلامهم ما يبطل دعوى هذا المفتري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 كلام العلامة المصري محمود فهمي ... فمنهم: العالم الفاضل والمؤرخ الشهير الكامل محمود فهمي المصري المتوفى بجزيرة سيلان سنة 1311هـ قال رحمه الله تعالى في كتابه "البحر الزاخر في تاريخ العالم وأخبار الأوائل والأواخر" المذهب الوهابي من أعظم الحوادث المشهورة التي شاهدتها بلاد العرب من عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. الثورة التي حصلت من الوهابيين وذلك أنهم أثبتوا حماستهم العسكرية وشجاعتهم البدوية شجاعة العرب القديمة، وتعصبهم في الدين، وسيرهم في أقوم طريق مبين. وكان مؤسس هذه الدعوة وصار اسم أبيه لقباً عليها وعلى نفس ما بينه ودعا إليه من العقيدة الدينية. هو شخص اسمه محمد بن عبد الوهاب من نسل قبيلة تميم في نواحي نجد، ومن عائلة اسمها الوهابية (1) . وأطلق على ما كان متمسكاً به من العقيدة اسم "المذهب الوهابي" أو "الدين الوهابي" وكان أبوه شيخ هذه العائلة وكبيرها، وكان مولد محمد بن عبد الوهاب المذكور في سنة 1691 بعد الميلاد (2) ، في قرية تسمى "العيينة" من إقليم العارض، فجاور في أثناء شبابه بمكة والمدينة، ونزل البصرة وبغداد، وجاور في مدارس المدن المشهورة في الشرق. ولما رأى في أثناء سياحاته العديدة أن الدين الحقيقي للإسلام دخله الفساد الكلي وتسلطت عليه الخزعبلات والمنكرات في القول والفعل وأن معظم الترك والعجم صاروا من الروافض وأهل البدع، عزم وصمم في نفسه على إصلاح ما أفسده العجم المفسدون والترك المجرمون. وكانت أعماله بغاية التؤدة والرزانة وتدبيره وذكاؤه وما هو عليه من العلم والحكمة، كان حافظاً له احترام أهل بلاده فأدخل في مذهبه منهم جملة بكونه نشر عقيدة هذا الدين في مؤلفات ومصنفات اشتهرت بين أيدي أهل بلاده بالفضل الكامل، والقبول الشامل. وكان الوهابيون في عقيدتهم ومذهبهم على طريق أهل السنة والجماعة والأساس الأصلي لدينهم هو توحيد الله سبحانه وتعالى، لا يشركون به شيئاً. ويعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر، أدى ما يجب عليه من إبلاغ الرسالة   (1) صحة ذلك الوهبه فرع من قبيلة بني تميم. (2) ولادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 115هـ الموافق 1703م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الإلهية ورفضوا جميع تفاسير القرآن الخرافية المكذوبة وقرروا أحاديث أهل السنة والجماعة وبما أنهم يرون أن عموم الناس مستوون، وأن ليس لهم من العبادة والأمر شيء، وأن الأمر كله لله والعبادة بجميع أنواعها لله وحده لا شريك له، رأوا أن الاستمداد والاستغاثة بشفاعة الذين توفوا من الأولياء والصلحاء والأنبياء وطلبها منهم بعد الموت: إثم وخطيئة. ورأوا أن احترام وتعظيم رممهم البالية وعظامهم الخالية بأي نوع من العبادة زيادة عن احترام أي بشر، من الأمور المبتدعة. ومن أجل هذا رأوا أن الشواهد والقباب والأبنية المصنوعة على مقابرهم هي رجس من عمل الشيطان، وأمور مبتدعة من بني الإنسان. وأما في الآداب: فهم على نقاء وصفاء وصلابة فإنهم يحرمون الموائع الطيارة، وجميع المواد المخدرة، ويحرمون كافة أنواع الخمور والفسق، والعدول عن العدل والإنصاف، ومنع الصدقات، والعمل بالحيل والخداع والاغتصاب، ولعب الشطرنج والنرد والعيوب الأخرى المتسلطنة في المدائن المقدسة، وأما في شهامة التعصب الحقيقي للدين: فإنهم يغيرون على كل مادة صغيرة مخلة بالدين الحق، ويجعلونها مادة كبيرة في الشرع. انتهى ما أردت نقله متوخياً الاختصار.   (1) صحة ولادته عام 1163هـ الموافق 1750م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 كلام العلامة محمد بن علي الشوكاني في مدح الإمام عبد العزيز بن سعود ... وقال الإمام الشيخ المجتهد، قاضي قضاة القطر اليماني محمد بن علي بن محمد الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع" سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود. ولد تقريباً سنة ألف ومائة وستين، أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل (1) ، في وطنه ووطن أهله القرية المعروفة "بالدرعية" من البلاد النجدية. وكان قائد جيوش أبيه عبد العزيز وكان جده محمد شيخاً لقريته التي هي فيها، فوصل إليه الشيخ العلامة محمد بن عبد الوهاب الداعي إلى الوحيد، المنكر على المعتقدين في الأموات. فأجابه وقام بنصره، وما زال يجاهد من يخالفه. وكانت تلك البلاد قد غلبت عليها أمور الجاهلية وصار الإسلام فيها غريباً، ثم مات محمد بن سعود، وقد دخل في الدين بعض البلاد النجدية وقام ولده العزيز مقامه فافتتح جميع الديار   (1) صحة ولادته عام 1163هـ الموافق 1750م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 النجدية والبلاد العارضية والأحساء والقطيف، وجاوزها إلى فتح كثير من البلاد الحجازية، ثم استولى على الطائف ومكة والمدينة وغالب جزيرة العرب وغالب هذه الفتوح على يد ولده سعود ثم قام بعده سعود فتكاثرت جنوده واتسعت فتوحه ووصلت جنوده إلى اليمن، بلاد أبي عريش وما يتصل بها، ثم تابعهم الشريف حمود بن محمد شريف أبي عريش – وقد تقدمت ترجمته – وأمدوه بالجنود ففتح البلاد التهامية كاللحية والحديدة وبيت الفقيه وزبيد وما يتصل بهذه البلاد. وما زال الوافدون من سعود يفدون إلينا، إلى صنعاء، إلى حضرة الإمام المنصور وإلى حضرة ولده الإمام المتوكل بمكاتيب إليهما بالدعوة إلى التوحيد، وهدم القباب المشيدة والقبور المرتفعة، ويكتب إلي أيضاً مع ما يصل من الكتب إلى الإمامين ثم وقع الهدم للقباب والقبور المشيدة في صنعاء وفي كثير من الأمكنة المجاورة لها، وفي جهة ذمار وما يتصل بها. ثم خرج باشة مصر إلى مكة بعد إرساله بجنود افتتحوا مكة والمدينة والطائف وغلبوا عليها. وهو الآن في مكة، والحرب بينه وبين سعود مستمر ومات سعود في هذه السنة سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين وقام بالأمر ولده عبد الله بن سعود وقد أفردت هذه الحوادث العظيمة بمصنف مستقل، وسيأتي في ترجمة الشريف غالب شريف مكة إشارة إلى طرف من هذه الحوادث، انتهى. ثم قال في ترجمة الشريف غالب – بعد ما ذكر من حروبه مع الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، وذكر فشله فيها وما لحقه من الهزائم والقتل. ناقماً على الشريف غالب تحرشه بقتال ابن سعود – قال: ولو ترك ذلك واشتغل بغيره لكان أولى له. فإن من حارب من لا يقوى لحربه جر إليه البلوى، فإن صاحب نجد تبلغنا عنه قوة عظيمة لا يقوم لمثلها صاحب الترجمة. فقد سمعنا أنه استولى على بلاد الحسا والقطيف وبلاد الدواسر وغالب بلاد الحجاز، ومن دخل تحت حوزته أقام الصلاة والزكاة والصيام، وسائر شعائر الإسلام. ودخل في طاعته من عرب الشام الساكنين ما بين الحجاز وصعدة غالبهم إما رغبة وإما رهبة. وصاروا مقيمين لفرائض الدين بعد أن كانوا لا يعرفون من الإسلام شيئاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ولا يقومون بشيء من واجباته إلا مجرد التكلم بلفظ الشهادتين على ما في لفظهم بهما من عوج. وبالجملة: فكانوا جاهلية جهلاء، كما تواترت بذلك الأخبار إلينا، ثم صاروا الآن يصلون الصلوات لأوقاتها، ويأتون بسائر الأركان الإسلامية على أبلغ صفاتها – إلى أن قال – فإن صاحب نجد وجميع أتباعه يعملون بما تعلموه من الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كان حنبلياً، ثم طلب الحديث بالمدينة المشرفة، فعاد إلى نجد، وصار يعمل باجتهادات جماعة من متأخري الحنابلة، كابن تيمية وابن القيم وأضرابهما وهما من أشد الناس على معتقدي الأموات. وقد رأيت كتاباً من صاحب نجد – الذي هو الآن صاحب تلك الجهات – أجاب به على بعض أهل العلم، وقد كاتبه وسأله بيان ما يعتقده. فرأيت جوابه مشتملاً على اعتقاد حسن، موافق للكتاب والسنة: فالله أعلم بحقيقة الحال. وأما أهل مكة فصاروا يكفرونه ويطلقون عليه اسم الكافر. وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد لقصد المناظرة، فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل تدل على ثبات قدمه وقدم صاحبه في الدين. وفي سنة ألف ومائتين وخمسة عشر: وصل من صاحب نجد المذكور مجلدان لطيفان أرسل بهما إلى حضرة مولانا الإمام حفظه الله. أحدهما يشتمل على رسائل للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كلها في الإرشاد إلى إخلاص التوحيد والتنفير من الشرك الذي يفعله المعتقدون في القبور، وهي رسائل جيدة مشحونة بأدلة الكتاب والسنة، والمجلد الآخر يتضمن الرد على جماعة من المقصرين من فقهاء صنعاء وصعدة، ثم ذاكروه في مسائل متعلقة بأصول الدين وبجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، فأجاب عليهم جوابات محررة مقررة محققة، تدل على أن المجيب من العلماء المحققين العارفين بالكتاب والسنة. وقد هدم عليهم جميع ما بنوه، وأبطل جميع ما دونوه لأنهم مقصرون متعصبون فصار ما فعلوه خزياً عليهم وعلى أهل صنعاء وصعدة. وهكذا من تصدر ولم يعرف مقدار نفسه. وأرسل صاحب نجد مع الكتابين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 المذكورين بمكاتبة منه إلى سيدي المولى الإمام فدفع حفظه الله جميع ذلك إلي. فأجبت عن كتابه الذي كتب إلى مولانا الإمام حفظه الله على لسانه بما معناه: إن الجماعة الذين أرسلوا إليه بالمذاكرة لا ندري من هم، وكلامهم يدل على أنهم جهال والأصل والجواب موجودان في مجموعي الأمير. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 قصيدة العلامة محمد بن الأمير الصنعاني في مدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... وللإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، قصيدة في مدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما اشتهر به من الدعوة إلى توحيد الله تعالى، واتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. نقتطف منها ما يدرأ في نحر الحاج مختار، ويفضح ما افتراه وما جحده من هذه الدعوة المحمدية الحنيفية. قال رحمه الله تعالى: سلامي على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي لقد صدرت من سفح صنعا، سقى الحيا ... رباها وحياها بقهقهة الرعد سرت من أسير ينشد الريح إن سرت ... ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد؟ يذكرني مسراك نجداً وأهله ... لقد زادني مسراك وجداً على وجدي قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... به يهتدي من ضل عن منهج الرشد محمد الهادي لسنة أحمد ... فياحبذا الهادي، وياحبذا المهدي لقد أنكرت كل الطوائف قوله ... بلا صَدَر في الحق منهم ولا ورد وما كان قول بالقبول مقابل ... ولا كل قول واجب الطرد والرد سوى ما أتى عن ربنا ورسوله ... فذلك قول جل ياذا عن الرد وأما أقاويل الرجال: فإنها ... تدور على قدر الأدلة في النقد وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهراً ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه، فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادماً ... مشاهد، ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود، بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهراً على عمد وكم طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهن باليد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 انتهى المقصود منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 كلام الشيخ عبد الكريم الهندي في مدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... وقال الشيخ الإمام عبد الكريم بن فخر الدين الهندي رحمه الله تعالى في كتابه "الحق المبين": فأما الذي جاء في ذم الشيخ محمد بن عبد الوهاب فمن أعدائه وعامة عداوتهم له لأنه هدم أسباب الشرك، وخرب بنيان الباطل، ودعا إلى التوحيد مصداق ذلك: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج، الآية: 8] وكتاب "التوحيد" له: شاهد على ذلك ومفيد، وإن كان هو من نوع البشر غير معصوم. لكن كلام الأعداء فيه غير مقبول – إلى أن قال- قال في الصواعق الإلهية بالفارسية ما تعريبه: قد علم برواية الثقات أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان إماماً من أئمة الطريقة، آمراً بالمعروف المشروع، ناهياً عن المنكر الممنوع، وحاز قصبات والسبق على كبراء المعاصرين له في الدعوة إلى التوحيد والاعتصام بالسنة والاجتناب عن الشرك والبدعة، ولم يكن في مشام خاطره رائحة من طلب الرياسة نعم كان يدعو الناس إلى بيعة الطريقة والإرادة، فكانوا يدخلون في صحبته وينسلكون في سلسلته من كل جهة، ويفوزون بالاستفادة وأئمة العرب ومشايخ اليمن أنشدوا في مدائحه نشائد، وعملوا في مناقبه الجميلة قصائد منها قصيدة الإمام محمد شارح الجامع الصغير أستاذ أساتذة علماء صنعاء وزبيد مطلعها: سلامي على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي فمطاعن الطاعنين فيه محض افتراء وليس مقتضيه إلا اتباع الهوى، انتهى. وقال في موضع آخر: ومعلوم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان حنبلياً في المذهب، ومتبعاً للسنة في المشرب وكذلك أتباعه إلى الآن، فالله المستعان على ما قالوه فيه من البهتان وهذا من العادة المستمرة للمشركين، كانوا يقولون لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم "صابئين" ويقولون له "مذمم" عوض "محمد" كما في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يسمونني مذمماً ويلعنون، وأنا محمد" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 انتهى ما أردت نقله لتكذيب دعوى هذا المفتري ففيما أشرت إليه من بيان علماء مصر واليمن والهند كفاية لطالب الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 نقض ما زعمه الملحد من طغيان الوهابيين وبغيهم بالحجاز ... وأما قول المعترض: "حتى طغوا وبغوا وتغلبوا على الحجاز وناظرهم العلماء، فكشف الله الستر عنهم". فنقول: هذا محض افتراء من المعترض، وقلب للحقائق. بل هذا من جملة بهته وادعاءاته الباطلة. ونحن نورد من كلام العلماء المحققين والأئمة المؤرخين ما يكذب دعواه هذه. وأن الوهابيين لم يبدأوا أحداً بالقتال ولم يعتدوا على جيرانهم بالحجاز والعراق حتى غزاهم جيرانهم في عقر دارهم ومنعوهم من حج بيت الله الحرام حتى آل الأمر إلى تجذيب النساء مع النساء من تحت أستار الكعبة في وقت الشريف مسعود وبعده، فلما حيل بينهم وبين أداء ركن من أركان الإسلام تعين عليهم الجهاد فلما مكن الله لهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر لا كما يقول المعترض المفتري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 كلام المؤرخ المصري في أن الوهابيين طهروا الحجاز من الشرك والفساد ... وهذا ما ذكره العلامة محمود فهمي المصري في كتابه البحر الزاخر: قال رحمه الله تعالى: ومع ما كان عليه الوهابيون من الحروب والمبارزات في بلاد العرب لم يعتدوا على حقوق الحكومتين المجاورتين لهم، وهما حكومة بغداد والحجاز، وكانت قوافل الحجاج تمر من وسط أراضيهم من غير أن يحصل لأي قافلة ضرر أو انزعاج وكانوا في أحوال أخوية ودية مع الشريف سرور شريف مكة. وفي سنة 1781 (1) بعد الميلاد استحصلوا على رخصة منه في أداء حجهم وطوافهم بالكعبة فتولد من زيادة قوتهم ونفوذ شوكتهم اشتعال نار الغيرة والحسد في قلب الشريف غالب. وفي ظرف بضع سنين من تقلده الحكومة وتوظفه شريف بعد الشريف سرور أعلن حرباً على الوهابية. وكانت طرائق هذا الحرب مثل طرائق حرب البدو متقطعة بهدنات صغيرة قصيرة المدة. ولما انتظمت مخابرات الشريف غالب مع الدولة التركية العثمانية لم يهمل أدنى طريقة   (1) هذا التاريخ يوافق بالهجري 1196هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 يمكنه إجراؤها في تمكين الدولة العثمانية من إدخال عساكرها في بلاد العرب لأجل الوقوع بالوهابيين إلا وأجراها وادعى أنهم من الملحدين الكافرين، وأن معاملتهم مع قوافل الحجاج التركية من أقبح الأعمال الفاسدة المضرة بالدين. وبمثل هذه الأقوال عرض للدولة العثمانية بعض ولاة بغداد من الباشوات الحكام بما أنهم يشاهدون في كل سنة غارة وهجوماً على الأراضي المجاورة لبغداد من هؤلاء الثائرين، وكونهم ضربوا سنوياً ضرائب وعوائد يجمعونها من قوافل الأعجام الذين يتوجهون إلى الحج نظير مرورهم من أرضهم وخفارتهم في الصحارى – ثم ذكر تجهيز سليمان باشا والي بغداد حملة للهجوم على الدرعية ورجوعها بالفشل والتعاسة. ثم ذكر غزوة سعود لكربلاء ومحاصرته للطائف واستيلاءه على جميع أرض الحجاز، ومن بعد عدة وقائع مع الشريف غالب وحصاره في مكة – قال: وكانت مخازن المأكولات تحت يد الشريف غالب وعساكره فقط، ولما فرغت هذه المأكولات تقهقر إلى جدة مع جميع عائلته وأتباعه ومتاعه، وقبل خروجه من سرايته أضرم النار فيها لأجل حرق ما فيها من الأدوات والأمتعة التي ما أمكنه حملها معه. وبهذه الحالة خلصت مكة من شره وعاقبة أمره. وفي اليوم الثاني خرج وجوه أهل مكة وعمدها لملاقاة الوهابي والخضوع إليه، وتسليمه مكة لما يعلمون فيه جيداً من حسن النظام واعتمدوا على عدله في عدم ضررهم وخراب أملاكهم. وصدرت الأوامر في الحال من رئيس هؤلاء المنصورين للأهالي والسكان بفتح دكاكينهم، وكل شيء يطلبه العساكر يباع لهم، ويدفع ثمنه في الحال نقداً. ولا ريب أن هذه الحركة هي رأس الإدارة والسياسة – ثم ذكر هدمه لجميع القباب المبنية على القبور وإبطاله جميع القهاوي والخمارات وجميع محال المشروبات والمسكرات، وكسر أوانيها وإراقة مائعاتها، وأمر بجمع الشيش والجوز وعيدان الدخان وأحرقها بحضوره وحرم شرب الدخان والتنباك وجازى شاربهما بأشد العقاب. فانجبر الأهالي رغم أنفهم على الانقياد لهذا الأمر من دون حصول أدنى مجاملة وقلد زمام حكومة مكة إلى عبد المعين أخي الشريف غالب، وأرسل بهذا الفتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الجدير بالثناء إلى القسطنطينية في مكتوب كتبه، وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم. من سعود إلى سليم، إني دخلت مكة في يوم 4 محرم سنة 1218هـ وأبقيت على حياة الأهل والسكان، وهدمت القبور والقباب المشبهة بعبادة الأوثان، وأبطلت الضرائب والعوائد الزائدة عن اثنين ونصف بالمائة، وقررت القاضي المعين من طرفكم لفصل الأحكام في هذه الناحية بالموافقة والمطابقة لأوامر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته، وأرغب منك: أنك في السنة القابلة تصدر الأوامر إلى باشوات الشام ومصر بأن لا يرسلوا مع المحامل طبولاً ولا زموراً إلى مكة والمدينة لأن الدين لا نفع له بهذه الأشياء المحرمة، والسلام بيننا. وسلام الله عليك تحريراً في 10 محرم سنة 1218. انتهى الشاهد منه مختصراً عن الإطالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 كلام الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في تطهير الوهابيين الحجاز من الشرك والفساد ... وقال الإمام الجليل الشيخ عبد الرحمن الجبرتي رحمه الله تعالى في تاريخه "عجائب الآثار" وفي هذه الأيام – من سنة إحدى وعشرين ومائتين – (1) وصلت الأخبار من الديار الحجازية بمسالمة الشريف غالب للوهابيين. وذلك لشدة ما حصل من المضايقة الشديدة وقطع الجالب عنهم من كل ناحية حتى وصل ثمن الإردب من الأرز المصري خمسمائة ريال، والإردب من البر ثلاث مائة وعشرة قروش. وقس على ذلك السمن والعسل وغير ذلك. فلم يسع الشريف إلا مسالمتهم والدخول في طاعتهم وسلوك طريقتهم وأخذ العهد على دعاتهم وكبيرهم بداخل الكعبة. وأمر بمنع المنكرات والتجاهر بها وشرب الأراجيل بالتنباك في المسعى وبين الصفا والمروة، وبالملازمة على الصلوات في الجماعة، ودفع الزكاة وترك لبس الحرير والمقصبات، وأبطل المكوس والمظالم وكانوا خرجوا عن الحدود في ذلك حتى إن الميت يأخذون عليه خمسة فرانسة وعشرة بحسب حالته وإن لم يدفع أهله الذي يتقرر عليه فلا يقدر على رفعه ودفنه، ولا يتقرب إليه الغاسل ليغسله حتى يأتيه الإذن، وغير ذلك من البدع والمكوس والمظالم التي أحدثوها على المبيعات والمشتروات على البائع والمشتري، ومصادرة الناس في أموالهم ودورهم، فيكون الشخص من   (1) يعني بذلك العصر الهجري 1221هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 سائر الناس جالساً بداره فما يشعر على حين غفلة منها إلا والأعوان يأمرونه بإخلاء الدار وخروجه منها، ويقولون: إن سيد الجميع محتاج إليها فإما أن يخرج منها جملة وتصير من أملاك الشريف وإما أن يصالح عليها بمقدار ثمنها أو أقل أو أكثر. فعاهده على ترك ذلك كله واتباع ما أمر الله به في كتابه العزيز من إخلاص التوحيد لله وحده، واتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون إلى آخر القرن الثالث، وترك ما حدث في الناس من الالتجاء لغير الله تعالى من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدائد والمهمات، وما أحدثوه من بناء القباب على القبور والتصاوير والزخارف وتقبيل الأعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف والنذور والذبائح والقربان وعمل الأعياد والمواسم لها، واجتماع أصناف الخلائق واختلاط النساء بالرجال وباقي الأشياء التي فيها شركة المخلوقين مع الخالق في توحيد الألوهية التي بعثت الرسل إلى مقاتلة من خالفها ليكون الدين كله لله. فعاهده على منع ذلك كله وعلى هدم القباب المبنية على القبور والأضرحة لأنها من الأمور المحدثة التي لم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم وذلك بعد المناظرة مع علماء تلك الناحية وإقامة الحجة عليهم بالأدلة القطعية التي لا تقبل التأويل من الكتاب والسنة، وإذعانهم لذلك. فعند ذلك أمنت السبل، وسلكت الطرق بين مكة والمدينة وبين مكة وجدة والطائف، وانحلت الأسعار وكثر وجود المطعومات وما يجلبه عربان الشرق إلى الحرمين من الغلال والأغنام والأسمان والأعسال، حتى بيع الإردب من الحنطة بأربعة ريالات واستمر الشريف غالب يأخذ العشور من التجار وإذا نوقش في ذلك يقول: هؤلاء مشركون، وأنا آخذ من المشركين لا الموحدين. انتهى. وفيما أوردته كفاية لبطلان زعم هذا المعترض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... وأما قوله: "وناظرهم العلماء فكشف الله الستر عنهم". فهو قول مغالط، بل معاند لا يخشى معرة الكذب، ولا يتقي وعيداً {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود، الآية: 18] فقد كشف الله بدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ظلمات الشرك ومزق بها غياهب البدعة التي عمت وطمت. فكشف عورات أهلها ودعاتها وبين جهلهم وضلالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ونادى بها عليهم منادي الفلاح {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء، الآية: 81] فانتبه إلى حقيقة دعوة الشيخ رحمه الله من نور الله بصيرته وسبقت عند الله سعادته فرأى حقيقة غربة الدين، وما طرأ عليه من البدع والضلالات التي شوهت وجهه وغيرت معالمه. فعلم يقيناً أن هذا الشيخ من الأئمة المتقين الداعين إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة وإلى هدى سيد المرسلين. فقد تحمل الشيخ محمد رحمه الله تعالى أعباء هذه الدعوة وصبر على ما أصابه بسببها من المحنة والجفوة حيث شرق بهذه الدعوة الحنيفية أئمة الضلال، كدحلان وأمثاله، فهاجوا وماجوا وأدبروا واستكبروا وضلوا فأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، وألبوا عليه ما استطاعوا وقالوا له كما قال أسلافهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص، الآية: 5] فأشاعوا عنه الكذب الصراح، وكتبوا إلى الأمصار يشنعون بالشيخ وبدعوته، وينسبون إليه من عظيم القبائح مات تنبو عنه الأسماع، فرد الله كيدهم في نحرهم وأظهر دينه ولو كره المشركون. وقد وردت على الشيخ محمد رحمه الله أسئلة من الشام والعراق ومن الحجاز واليمن ومن نجد ونواحيها يسألونه فيها عما يعتقده وما يدعو الناس إليه؟ ويطلبون الحجة والدليل عليه. فأجابهم بأجوبة من الكتاب والسنة وإجماع صالح سلف الأمة، ما بمثلها يهتدي المهتدون وبها يأخذ المستدلون وعليها يعتمد المنصفون، فهدى الله من اهتدى وخاض في لجج طغيانه من آثر العمى على الهدى. وها أنا أورد بعضاً من رسائل الشيخ محمد رحمه الله تعالى إلى أشراف مكة وعلمائها، وطرفاً مما جرى بين علماء مكة وعلماء الوهابيين من المناظرة بين يدي الشريف بمكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى والي مكة الشريف أحمد بن سعيد ... قال الشيخ الإمام حسين بن غنام الإحسائي رحمه الله في تاريخه "روضة الأفكار والأفهام" ثم دخلت السنة الخامسة والثمانون بعد المائة والألف (1) وفيها أرسل الشيخ محمد وعبد العزيز بن محمد آل سعود إلى والي مكة الشريف   (1) يعني بذلك العام الهجري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 أحمد بن سعيد هدايا. وكان قد كاتبهم وراسلهم وطلب منهم أن يرسلوا فقيهاً وعالماً من جماعتهم يبين له حقيقة ما يدعو إليه من الدين ويحضر عند علماء مكة. فأرسل إليه الشيخ وعبد العزيز رحمها الله تعالى الشيخ عبد العزيز الحصين، وكتب معه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رسالة وهذه نسختها، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم. المعروض لديك أدام الله أفضل نعمه عليك، حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد أعزه الله في الدراين وأعز به دين جده سيد الثقلين، إن الكتاب لما وصل إلى الخادم، وتأمل ما فيه من الكلام الحسن، رفع يديه بالدعاء إلى الله تعالى بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية ومن تبعها، وعداوة من خرج عنها. وهذا هو الواجب على ولاة الأمور، ولما طلبتم من ناحيتنا طالب علم امتثلنا الأمر وهو واصل إليكم، ويحضر في مجلس الشريف أعزه الله تعالى هو وعلماء مكة فإن اجتمعوا فالحمد لله على ذلك، وإن اختلفوا أحضر الشريف كتبهم وكتب الحنابلة والواجب على الكل منها ومنهم أن يقصد بعلمه وجه الله تعالى ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} – إلى قوله – {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران، الآية: 81] فإن كان الله سبحانه قد أخذ الميثاق على الأنبياء إن أدكوا محمداً صلى الله عليه وسلم على الإيمان به ونصرته فكيف بنا يا أمته؟ فلا بد من الإيمان به، ولا بد من نصرته، لا يكفي أحدهما عن الآخر وأحق الناس بذلك وأولاهم به أهل البيت الذي بعثه الله منهم وشرفهم على أهل الأرض وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك يعلم الشريف أعزه الله تعالى أن غلمانك من جملة الخدام. ثم أنتم في حفظ الله وحسن رعايته. فلما وصل الشيخ عبد العزيز الحصين إلى الشريف الملقب بالفِعْر، واجتمع هو وبعض علماء مكة عنده، وهم يحيى بن صالح الحنفي، وعبد الوهاب بن حسن التركي مفتي السلطان، وعبد الغني بن هلال وتفاوضوا في ثلاث مسائل وقت المناظرة فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الأولى: ما نسب إلينا من التكفير بالعموم. والثانية: هدم القباب التي على القبور. والثالثة: إنكار دعوة الصالحين للشفاعة. فذكر لهم الشيخ عبد العزيز أن نسبة التكفير بالعموم إلينا زور وبهتان علينا وأما هدم القباب فهو الحق والصواب، كما هو مسطور في غير ما كتاب. وليس لدى العلماء فيه شك ولا ارتياب. وأما دعوة الصالحين وطلب الشفاعة منهم والاستغاثة بهم في النوازل فقد نص على تحريمه الأئمة وقرروه من الشرك الذي كفر الله به المشركين ولا يجادل في جوازه إلا كل ملحد جاهل. فأحضروا من كتب الحنابلة "الإقناع" قرأوا فيه عبارته في الوسائط وحكاية الإجماع فأقروا بموافقة الشيخ، وتفوهوا بأن هذا هو دين الله وهو مذهب الإمام المعظم وانصرف الشيخ عبد العزيز مبجلاً مكرماً. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى علماء مكة ... وقال في موضع آخر: ثم دخلت السنة الرابعة بعد المائتين والألف (1) ، وفيها أرسل غالب الشريف إلى الإمام عبد العزيز – حرسه الله تعالى – كتاباً وذكر في أثنائه: أنه يريد إنساناً عارفاً من أهل الدين حتى يعرف حقيقة هذه الدعوة، ويكون على بصيرة ويقين من أمره. فأرسل إليه الإمام الشيخ عبد العزيز الحصين وكتب معه الشيخ رسالة بين فيها حقيقة دعوته، ونصها بعد البسملة: من محمد بن عبد الوهاب إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام نصر الله بهم دين سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام، وتابعي الأئمة الأعلام. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد جرى علينا من الفتنة ما بلغكم وبلغ غيركم وسببه هدم بنيان في أرضنا على قبور الصالحين. ومع هذا نهيناهم عن دعوة الصالحين وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله تعالى. فلما أظهرنا هذه المسألة – مع ما ذكرنا من هدم البناء على القبور الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهدمه – كبر على   (1) يعني بذلك العام الهجري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 العامة وعاضدهم بعض من يدعي العلم لأسباب ما تخفى على مثلكم. أعظمها: اتباع الهوى مع أسباب أخر. فأشاعوا عنا أنا نسب الصالحين وأنا على غير جادة العلماء ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب، وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها، وأنا أخبركم بما نحن عليه بسبب أن مثلكم ما يروج عليه الكذب على أناس متظاهرين بمذهبهم عند الخاص والعام. فنحن – ولله الحمد – متبعون لا مبتدعون، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. وتعلمون – أعزكم الله – أن المطاع في كثير من البلدان لو يتبين بالعمل بهاتين المسألتين أنها تكبر على العامة الذين درجوا – هم وآباؤهم – على ضد ذلك وأنتم تعلمون رحمكم الله أنه في ولاية الشريف أحمد بن سعيد وصل إليكم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين، وأشرفتم على ما عندنا بعدما أحضروا كتب الحنابلة التي هي عندنا عمدة، كالتحفة والنهاية عند الشافعية. فلما طلب منا الشريف غالب – أعزه الله ونصره – امتثلنا وهو إليكم واصل. فإن كانت المسألة إجماعاً فلا كلام وأن كانت مسألة اجتهاد فمعلومكم أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد. فمن عمل بمذهبه في محل ولايته لا ينكر عليه. وأنا أشهد الله وملائكته وأشهدكم أني على دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأني متبع لأهل العلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فلما قدم الشيخ عبد العزيز الحصين إلى مكة المشرفة أكرمه الشريف غالب واجتمع معه مرات عديدة، وعرض عليه رسالة الشيخ إلى العلماء بمكة فعرف ما بها من الحق الهدى وما نفته من الباطل والردى. فأذعن لذلك وأقر به، ثم بعد ذلك بمدة أبى واستكبر، وتمسك بقديم مذهبه وأصر. فطلب منه الشيخ عبد العزيز الحصين أن يحضر العلماء معه ليناظرهم أمامه في أصول التوحيد فأبوا عن الحضور وقالوا: هؤلاء الجماعة ليس عندهم بضاعة إلا أدلة تبطل نهج آبائك وأجدادك، وترفع يدك عن عوائدك وجوائز بلادك، فطار لبه وارتعش قلبه. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 المناظرات التي كانت بين علماء نجد وعلماء مكة ... وقال في موضع آخر: وفي السنة الحادية عشرة بعد المائتين والألف (1) أرسل الشريف غالب رسلاً إلى عبد العزيز بن محمد بن سعود يطلب منه أن يرسل إليه علماء من أهل الدين والتوحيد، ويحرض على قدومهم مع رسله الذين أرسلهم بهذا البريد. ويزعم بذلك أنه يريد تحقيق هذه الدعوة حتى يقف على حقيقة الحال عن يقين. فأجابه عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى ذلك وأرسل إليه من علماء الذين من يكشف عنه شبه المبطلين، وكبيرهم الشيخ حمد بن ناصر بن معمر فلما وصلوا إلى بلد الله الحرام ودخلوها معتمرين فطافوا وسعوا وأتوا بالعمرة، ونحروا الجزر التي أرسلها الأمير سعود هدياً لبيت الله الحرام، فقابلهم الشريف بالإقبال والإجلال ووالى عليهم حشمته وإكرامه، وأحضرهم لديه مع علماء مكة عدة ليال عقدوا فيها للمناظرة مجالاً. وصفة ما جرى منهم: أنهم حضروا ببيت الشريف غالب. فأول ما افتتحوا به الكلام وحصلت فيه المحاورة والمفاوضة في تلك المجالس هي مسألة قتالهم للناس، وطلب الدليل عليها من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة. فأجابهم الشيخ حمد بن ناصر ببيان الحجة والدليل والنص القاطع للاحتمال والتأويل من الكتاب والسنة, وما عليه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون. فلما أوقفهم على تلك النصوص الصحيحة الصريحة لم يسعهم إلا الإقرار والإذعان، بعدما حملهم الهوى على كون تلك النصوص لم تكن في الكتب الموجودة عندهم. ثم تفاوضوا بعد ذلك في مجالس عديدة في دعوة الأموات، وأنها شرك مع الله تعالى فأبدى لهم على ذلك من نصوص الكتاب والسنة وأقوال كبار الأئمة ما أدهش عقولهم وحير أفكارهم. فلم يكن لهم من حجة إلا أن أنكروا وقوع ذلك في أقطارهم، مع أنه موجود عندهم مشاهد. وقد قال كبيرهم- وهو أول من حضر وتأهب للمناظرة للشيخ حمد بن ناصر – إعلم أني لا أخاصمك ولا أناظرك وإن أتيتني بالدليل من الكتاب والسنة وبما قاله علماء المذاهب سوى ما قاله إمامي أبو حنيفة رحمه الله لأني مقلد له فيما قال، فلا أسلم لسوى قوله، ولو   (1) يعني بذلك العام الهجري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 قلت: قال الله، أو قال رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه أعلم مني ومنك. وهذا مقال يقضي صدوره بالعجب من رجل يدعي العلم. فلما انقضت أيام تلك المناظرات طلبوا من الشيخ حمد بن ناصر أن يكتب لهم ما احتج به عليهم في هذه المسائل التي حصلت فيها المناظرة. فأجابهم الشيخ إلى ذلك، ثم طلب منهم إحضار كتب سماها لهم من جميع المذاهب الأربعة فلما حضرت هذه الكتب لديه حرر لهم منها رسالة أوجز فيها مقاله، وأتى فيها بما فيه كفاية على ما طلبوه من الحجة والدلالة، يذعن بعد سماعها كل منصف عاقل، وتقطع لسان كل معاند جاهل. وتتضمن هذه الرسالة لثلاث مسائل هي التي جرت فيها المجادلة والمناظرة. المسألة الأولى: ما قولكم فيمن دعا نبياً أو ولياً واستغاث به في تفريج الكربات كقوله: يا رسول الله، أو يا ابن عباس، أو يا محجوب، أو غيرهم من الأولياء الصالحين؟ وأما المسألة الثانية: وهي من قال "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ولم يصل ولم يزك: هل يكون مؤمناً؟ وأما المسألة الثالثة: وهي مسألة البناء على القبور. فأجاب رحمه الله تعالى عن هذه المسائل الثلاث بنصوص الكتاب والسنة وأقوال الأئمة من كل المذهب. وتسمى هذه الرسالة "بالفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب". انتهى ما نقلته باختصار لعدم التطويل على ما يقتضيه المقام. وقد تقدم قريباً ما نقلته من تاريخ الإمام الجبرتي رحمه الله تعالى، وذلك فيما ذكره عن دخول الإمام سعود لمكة المشرفة، ومسالمة الشريف غالب له، وما حصل من إبطال المظالم والمكوس وما يتبعها، وأن الشريف غالباً عاهد الإمام سعوداً على ترك ذلك كله واتباع ما أمر الله به في كتابه العزيز من إخلاص التوحيد لله تعالى وحده، واتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون إلى أخر القرن الثالث، وترك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ما حدث في الناس من الالتجاء إلى غير الله تعالى من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدائد والمهمات، وما أحدثوه من بناء القباب على القبور والتصاوير والزخارف وتقبيل الأعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف والنذور والذبائح والقربان وعمل الأعياد والمواسم لها، واجتماع أصناف الخلائق واختلاط النساء بالرجال، وباقي الأشياء التي فيها شركة المخلوقين مع الخالق في توحيد الألوهية التي بعثت الرسل لمقاتلة من خالفها، ليكون الدين كله لله تعالى، فعاهده على منع ذلك كله وعلى هدم القباب المبنية على القبور والأضرحة لأنها من الأمور المحدثة التي لم تكن على عهده صلى الله عليه وسلم. وذلك بعد المناظرة مع علماء تلك الناحة وإقامة الحجة عليهم بالأدلة القطعية التي لا تقبل التأويل من الكتاب والسنة وإذعانهم لذلك – إلى آخر ما ذكره رحمه الله تعالى. وفيما نقلناه كفاية لرد قول الملحد: "وناظرهم العلماء فكشف الله سترهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 سرور الملحد من ظهور أهل الباطل على أهل الحق والتوحيد ... وأما قول الملحد: "وسلط الله عليهم إبراهيم باشا المصري فكاد يفنيهم ويقطع دابرهم، لكن لله إرادة في بقاء جرثومة من هذه الطائفة في بلاد نجد". فنقول: إن هذا الملحد مسرور بظهور الباطل على الحق، متبجح بأن سلط الله إبراهيم باشا على أهل التوحيد من أهل نجد المتمسكين بكتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويتأسف هذا الملحد الظالم لبقاء بقية منهم في بلاد نجد تعبد الله تعالى لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج بيت الله الحرام، آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، مقيمة لحدود الله تعالى، محققة لقول الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج، الآية: 41] متحلية بأعمال الفرقة الناجية من اتباع ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان من القرون المفضلة، لا تأخذهم في اتباع الحق والدعوة إليه لومة لائم، محتسبة لما يصيبها في ذات الله تعالى من الابتلاء والامتحان، متأسية بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين الصابرين الذين قص الله علينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 خبر ابتلائه وامتحانه لهم في كتابه الكريم، وما أخبر به نبيه محمد سيد المرسلين. فلو كان هذا الملحد ممن يؤمن بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء فيهما من أخبار هذا الابتلاء والامتحان لأوليائه ومن اقتفى أثرهم بالدعوة إلى دين الله تعالى: ما كان يتخذ ما امتحن الله به عباده الموحدين من أهل نجد – بتسليط إبراهيم باشا عليهم – دليلاً على فساد أعمالهم وصلاح أعمال إبراهيم. فقد خرج أيضاً إبراهيم باشا على سيده وهو ما يسمونه خليفة المسلمين وأمعن في مملكته يستولي عليها فاتحاً بلداً بعد بلد، حتى وقف على أبواب عاصمة ملكه. فما يقوله الملحد بعد ذلك؟ إن الهوى يعمي ويصم. وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية، الآية: 23] أفلا يستحي هذا الملحد المغرور بنفسه فينظر في تاريخ من هو من ضئضئهم فيتذكر وقعة الحرة وما فعلوه من استباحة حرم الرسول صلى الله عليه وسلم وقتل أصحابه في جوار حرمه وقبره الشريف ونهب أموالهم؟ ثم استباحتهم الحرم الشريف المكي، ونصب المنجنيق على الكعبة الشريفة، وقتل خيار أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في حماها؟ ألا يذكر هذا الملحد أعمال أجداده هذه تحت راية فاسقهم فيخجل؟ فيا له من امتحان لنا فيه أكبر عبرة وعزاء فيما يصيبنا في ذات الله تعالى. فإن أهل نجد يحمدون الله تعالى أن جعل ابتلاءهم وامتحانهم في دنياهم لا في دينهم. وكانت العاقبة بحمد الله تعالى لهم. والذي يسعنا أمام هذه الفتنة العمياء أن نطوي صحيفة التاريخ، ونقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة، الآية: 134] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ثناء الملحد على دحلان لاتفاق روحيهما الخبيثتين ... وأما قول المعترض: "وقد تصدى لتحرير مذهبهم وتقرير مقولاتهم والرد عليهم جمهور من علماء الحجاز منهم السيد أحمد زيني الملقب بالدحلان – نزيل مكة المكرمة – إلى آخر ما ذكره" حيث وعد بأنه سيأخذ عن دحلان جميع ما يتعلق بموضوعه من دون تصرف وذلك دليل منه على تقليده الأعمى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فأما موضوعه هذا فهو بهت الوهابيين والكذب عليهم وتكفيرهم تقليداً لدحلان. وعليه، فإني في كل ما أوجهه من الرد على ما ينقله هذا المعترض عن دحلان فيما ينسبه للوهابيين فإنما أرد به على هاتين الروحين الخبيثتين اللتين قد اتفقتا على هدم دين الإسلام، ونشر دين الوثنية التي بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بهدمها وجهاد أهلها، حتى يكون الدين كله لله. وهذا المعترض يزعم أنه قد تصدى لتحرير مذهب الوهابيين والرد عليهم جمهور من علماء الحجاز ولم يذكر منهم سوى دحلان. فاعلم أن دحلان هذا هو منبع الزور والفجور، وهو الذي اعتمد المعترض على تقليده في تكفير الموحدين من أهل نجد، مع ما هو مشتهر به دحلان من عدم الثقة واتباع الهوى، وعدم المبالاة بالكذب الصريح الذي أسقطه عن النظر في تصانيفه البائرة عند جميع من عرفه من أهل العلم والفضل. وقد قال بعض الفضلاء من علماء مكة: تصانيف دحلان كالميتة، لا يأكلها إلى المضطر. وقد رد عليه كثير من علماء الهند والعراق ونجد وغيرهم ففضحوه وبينوا ضلاله. وقد سمعت غير واحد ممن يوثق بهم من أهل العلم يقولون: إن دحلان هذا رافضي لكنه أخفى مذهبه وتسمى بتقليد أحد الأئمة الأربعة ستراً لمقاصده الخبيثة، ولنيل المناصب التي يأكل منها. ومن أدل الدليل على رفضه الخبيث تأليفه لكتاب "أسنى المطالب في نجاة أبي طالب" الذي رد فيه بهواه نصوص الكتاب والسنة الصحيحة المتواترة. وكل من يطلع على تصانيف هذا الملحد ويستقرئ شيئاً من سيرته يعلم يقيناً صحة ما نسب إليه من مخالفة سبيل المؤمنين. فليس عنده من أدب العلم وورع العلماء ما ينظمه في سلكهم، بل هو صفر من الورع والتقوى اللذين يمنعان صاحبهما من الكذب واتباع الهوى. فإن كلامه إلى فشر السوقة والحمقى أقرب منه إلى كلام العقلاء فضلاً عن العلماء، فلا تغتر بدعاة الضلال أمثاله. وقد قال العالم العلامة الشيخ عبد الكريم بن فخر الدين الهندي في كتابه الذي سماه "الحق المبين في الرد على اللهابية المبتدعين" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 داً على دحلان: فتأمل إن كنت من طالبي الحق ما في رسالة ابن دحلان وحال كثير من أهل الزمان تجده قد لبس تلبيساً وزخرف القول غروراً وتمويهاً للباطل وتشكيكاً منثوراً. فكان كما قيل في التمثيل: جو كفراز كعبه برخيز ... دكجما ماند مسلماني يعني: إذا برز الكفر من الكعبة وثار ... كيف يبقى الإسلام على قرار فما باله يغمض عينيه عن الشركيات ولا يتعرض لما هم عليه من الكفريات كما بين ما فيهم الإمام الشوكاني وأظهر ما لديهم القاصي والداني؟ أفتعرفه ناصحاً للأمة المرحومة، كيف وقد صنع صنيعاً يهلكهم، ولا ينجيهم من المفاسد وخصال مذمومة؟ وإنما فعل ذلك خوفاً من الناس أن يقولوا في شأنه وهابي أو منكر الأولياء فيهان ويزال عن مرتبته ويخرج من الحرم كما أخرج كثير ممن يظهر الحق. وكيف لا؟ وقد كان يخاف في أدنى من ذلك فإنه قد كان يلبس لباساً فيه من الإسبال في الكمين وفي الذيل. فقيل له في ذلك، فقال: قد صار ذلك في عرف العامة من لباس الشرفاء، وتركه يعد دناءة ولم يبال بوعيد حديث "ما أسبل من الكعبين من الإزار فهو في النار" وهذا الخوف هو الذي منع علماء اليهود والنصارى من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وهلم جراً. وقد ورد: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل" انتهى. وقال العالم العلامة المحدث الشيخ محمد بشير الهندي في كتابه "صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان" أما بعد، فإني وقفت على الرسالة التي جمعها الشيخ أحمد بن زيني دحلان (1) أنقذه الله من دحلان الخذلان وسماها "الدرر السنية في الرد على الوهابية" ورأيت مؤلفها يدعي في ديباجة رسالته الساقطة الدنيئة الرديئة أنه جمع فيها ما تمسك به أهل السنة في زيادة النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل   (1) هذا من الشيخ رحمه الله بمناسبة أن دحلان كان حياً حين رده هذا عليه فلا يريد أن يحجر عليه واسعاً من رحمة الله وإلا فإن دحلان بعد موته لا يستحق الدعاء إلا بأن يعامله الله بعدله لما هو عليه من الضلال. [المؤلف] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 به من الدلائل والحجج القوية من الآيات والأحاديث النبوية فتعجبت منه العجب الصراح، كيف؟ وليس في الباب حديث حسن، فضلاً عن الصحاح. فتأملت فيها تأمل الناقد البصير، لكي أعلم أنه هل صدق في تلك الدعوى أم كذب كذب المجادل الضرير، فوجدت دعواها عارية عن لباس الصدق والحق المبين، محلاة بحلية الزور والكذب والباطل المهين. فإنه ليس فيها من الأحاديث إلا ما أورده التقي السبكي في "شفاء السقام" وهي دائرة بين الاحتمالات الثلاثة السقام: إما موضوعة، عملتها أيدي الوضاع اللئام أو ضعاف واهية رواها من وسم بمثل كثرة الغلط والخطأ والأوهام- إلى أن قال – ومن عجائب صنيعه: أن المؤلف – مع زعمه أنه من جملة المقلدين – يستدل بالأدلة الشريعة، وهو منصب المجتهدين. فعن لي أن أنبه على ما وقع فيها من ساوئ المفاهيم وزخارف الأقوال وأراجيف الاستدلال، لئلا يغتر بها من يقف عليها ممن لا خبرة له بحقائق علم السنة من المتون والرجال. فالله أستعين وأقول- وبه أحول وبه أصول. انتهى. فكتب مجلداً ضخماً في الرد على رسالة دحلان كسر به زجاج شهادته وكشف ما موه به من الباطل. فلم يقل عثراته خصوصاً فيما لبس به من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، أو ما غير معناه من الآيات والأحاديث المرفوعة. فأزاح عن محياها القتام ونفى وعصف على بيت عنكبوته نسيم الحق فهفى. وبهذا تعلم أن دحلان ليس من أهل الجرح والتعديل، بل هو ضال مضلل عن سبيل المؤمنين. فلا يلتفت إليه بل هو ساقط العدالة بشهادة من ذكرناهم من علماء الهند الراسخين في علوم الكتاب والسنة من أهل الحديث حملة علوم الشريعة النبوية. وليس لهم صلة بالطرفين، ولا علاقة بينهم وبين الفريقين، إلا الأخوة في الدين وما توجبه بعلنونه. {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران، الآية: 187] فجزاهم الله عن الإسلام ونصرة الحق على الباطل أفضل ما جزى به المجاهدين في سبيله لنصرة دينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 قال المعترض: "ومن أعجب ما رأيت: انتساب أناس لهذا المذهب حماقة وجهلاً، ولو عرفوا حقيقته وأصوله لتبرأوا منه وقالوا كما نقول: إسلام ووهابية لا يجتمعان". أقول: هذا عجب ليس له نصيب من العلم، بل العجب الذي لا ينقضي هو من هذا الملحد وشيخه دحلان، دعاة البدع والضلال، الداعين إلى مذهب الوثنيين من العكوف على القبور والتعلق على الأموات وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات من دون الله تعالى فاطر الأرض والسموات، زاعمين أنهم وسائط بين الله وبين عبادة يرفعون إليه حوائجهم كما يرفع الوزراء والمقربون من الملوك حوائج رعاياهم إليهم، ويشفعون فيهم عندهم يقولون: إن الواسطة لا تنكر على الإطلاق فما جاز في حق المخلوق جاز في حق الخالق تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. والعجب الذي لا ينقضي من هذا المعترض هو إنكاره علو الله تعالى على خلقه واستواءه على عرشه وإنكار صفات كماله ونعوت جلاله التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم. والعجب الذي لا ينقضي من هذا المعترض تحريمه العمل بنصوص الكتاب والسنة، وقوله: "إنه لا يجوز أخذ الأحكام من الحديث التي هي في صحيح البخاري أو غيره من كتب الحديث" ويعد الأخذ بها زندقة لا إسلامية، كما قرر ذلك وأثبته في رسالته هذه التي نحن بصدد الرد عليها. والعجب أيضاً من هذا الملحد: أن يحرم تقليد الصحابة رضي الله عنهم حتى الخلفاء الراشدين منهم. وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الاقتداء بهم، حيث يقول: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وهذا قليل من كثير مما يثير العجب العجاب من هذا الملحد وما هو عليه من مخالفته سبيل المؤمنين وسلوكه طريق الضالين، فإنه يعجب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 أناس يعملون على هدى من الله، حريصين على اتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويرميهم بالجهل والحمق لزعمه أنهم ينتمون إلى مذهب الوهابيين. وهذا دليل على حماقته وجهله وعدم معرفته بحقيقة دين الإسلام الذي أرسل الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنه ممن قال الله فيهم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان، الآية: 44] فإن هذا الملحد وأشياعه أعداء لأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الحقيقة. لأنهم ينكرون عليهم ما هم عليه من البدع والشرك في عبادة الله تعالى لذلك يسمونهم "وهابيين" وقد سمعنا كثيراً من مقلدة هؤلاء الضلال من يسمون الإمام أحمد رحمه الله "وهابياً" وشيخ الإسلام ابن تيمية وأمثاله من المحققين "وهابية" ووالله لو خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه بين هؤلاء الملاحدة ليسمونه "وهابياً". فيا لها من كرامة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، فقد صار اتباع الكتاب والسنة في جميع أنحاء الدنيا وفي العصور السالفة علماً على مذهبه ينسب إليه من يعمل بهما وإن كان هذا العامل لا يعرف محمد بن عبد الوهاب ولا مذهبه فليهنأ الشيخ بشهادة أعدائه له بذلك، وليهنه الذكر الجميل على عمل كل سنة، ونسبه من عمل بها إليه وإماتة كل بدعة وعداوة من عمل بها له. فلو كان هذا الملحد ممن أعطاهم الله نوراً يفرقون به بين الحق والباطل ما كان يأخذه العجب من أناس سائرين على الصراط المستقيم، فيرميهم بالحماقة والجهل فهو أولى بهما منهم زاعماً أنهم ينتسبون إلى مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب جهلاً منهم، مع أن الشيخ ليس له مذهب غير الكتاب والسنة ولا يدعو إلا إليهما، فالكتاب والسنة وما دلا عليه من جميع أنواع العبادات- عملاً واعتقاداً، أمراً ونهياً – هو مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لا يخرج عما عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين. خصوصاً منهم الأئمة الأربعة رضي الله عنهم ولا ينتسب لطريقة غير طريقتهم التي هي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يخالفهم في كثير ولا قليل، وفمن نسب إليه غير ذلك فهو من المفترين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فقد شمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى عن ساعد جده واجتهاده، وأعلن بالنصح لله ولكتابه ورسوله وسائر عباده، وصبر على ما ناله من أعباء تلك الرتبة والدعوة، وما قصد به من أنواع المحنة والجفوة. وقرر رحمه الله تعالى أن حقيقة دين الإسلام وزبدة ما جاءت به الرسل الكرام هو إفراد الله تعالى بالعبادة وإسلام الوجه له بالعمل والإرادة، وترك التعلق على الأولياء من دونه والأنداد والبراءة من عبادة من سواه من سائر المخلوقات والعباد. وهذا معنى كلمة الإخلاص والتوحيد وهو الحكمة المقصود بخلق الكائنات والعبيد. وقرر رحمه الله تعالى أن مجرد الإتيان بلفظ الشهادتين مع مخالفة ما دلتا عليه من الأصول المقررة ومع الشرك الأكبر في العبادة لا يدخل المكلف في الإسلام. إذ المقصود من الشهادتين حقيقة الأعمال التي لا يقوم الإيمان من دونها، كمحبة الله وحده والخضوع له والإنابة إليه والتوكل عليه وإفراده بالاستعانة والاستغاثة فيما لا يقدر عليه سواه، وعدم الإشراك به فيما يستحقه من العبادات كالدعاء والذبح والنذر والتقوى والخشية ونحو ذلك من الطاعات. واستدل لذلك بنصوص قاطعة وبراهين ساطعة، وحكى الإجماع على ذلك عن الأئمة الفضلاء والسادة النبلاء من سائر أهل الفقة والفتوى. وذكر عبارة من حكى الإجماع من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم. وألف في ذلك التآليف وقرر الحجة وصنف التصانيف وقد عارضه من الغلاة المارقين ومن الدعاة إلى عبادة الصالحين أناس من أهل وقته فباءوا بغضب الله ومقته وأظهره الله بعد الامتحان وحقت كلمة ربك على أهل العناد والطغيان. وهذه سنة الله التي قد خلت من قبل. وحكمته التي يظهر بها ميزان الفضل والعدل، وقد جمع أعداؤه شبهات في رد ما أبداه وجحد ما قرره وأملاه واستعانوا بملئهم من العجم والعرب، ونسبوه إلى ما يستحي من ذكره أهل العقل والأدب فضلاً عن ذوي العلوم والرتب. وزعموا أنه خارجي مخالف للسنة والجماعة كمقالة أسلافهم لرسول الله: إنه صابئ صاحب إفك وصناعة. فجاء هذا الملحد يجدد ما قالوه ويبث من الشبه ما لفقوه وانتحلوه. ويزعم أنا لو عرفنا ما عرفوه لاتبعناهم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ضلالهم وقلنا ما قالوه، ولكنا نقول: "وهابية ووثنية لا يجتمعان" خلافاً لما اعتقدوه وقالوه. وبالمثل السائر نقول: ما أنت بالحكم الترضى حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل فليس دين الإسلام هو دين عباد القبور الذين يتخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحبهم لله، ويصرفون لهم خالص العبادة من دون الله تعالى، من الدعاء والخوف والرجاء والرغبة والرهبة والذبح والنذر وغيرها من أنواع العبادة التي لا تجوز صرف شيء منها لغير الله تعالى، ويجعلون الأموات وسائط بينهم وبين الله في رفع حوائجهم إليه كما عليه هذا الملحد ومن قلدهم من أئمة الضلال. فإنهم يدعون على عبادة الأولياء والصالحين وإشراكهم مع الله تعالى في العبادة. وهذا ما ينكره الوهابيون ويحاربون أهله. لذلك يقول هذا الملحد الذي لا يعرف حقيقة دين الإسلام: "إسلام ووهابية لا يجتمعان" ومعلوم أن دين الوثنية لا يجتمع مع توحيد الله تعالى الذي أرسل به رسله من أولهم إلى آخرهم. وهو إخلاص العبادة له وحده لا شريك له يجميع أنواعها. فإن هذا هو دين الإسلام وهو الذي عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه. وإن سماه المشركون عباد الأصنام "مذهباً وهابياً" فإن الأسماء لا تغير الحقائق والله تعالى حسبنا ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 تزوير الملحد ل تاريخ الشيخ محمد بن عبد الوهاب تاريخ الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... قال المعترض: "مؤسس هذا المذهب هو محمد بن عبد الوهاب التيمي من يمامة نجد. ولد في سنة 1121 هجرية، ومات في سنة 1207 (1) كان أبوه عابداً فاضلاً ورعاً. وكان يتفرس في ابنه هذا الشقاوة، فأرسله إلى مكة ثم إلى المدينة المنورة لطلب العلم. فطلب وحصل، وأخذ عن كثير من علماء الحرمين، وكلهم كانوا يتفرسون فيه الشقاوة، ويحذرون الناس منه وكان يميل لمطالعة أخبار من ادعوا النبوة ويكتم هذا الفكر في نفسه". أقول: إن ما ذكره الملحد عن مولد الشيخ وعن وفاته غلط لا يطابق   (1) صحة ولادته عام 1115هـ ووفاته عام 1206م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الحقيقة، كذلك نسبته الشيخ بأنه "تيمي" أيضاً خطأ. فالمعترض دائماً يتقلب بين الكذب والخطأ، ولا يهمه تمحيص الحقائق. وإنما هو مقلد أعمى ونحن نبين نسب الشيخ وسيرته إثباتاً للحق، ونفياً لما يختلقه أمثال هذا الملحد وشيخه دحلان من الزور والفجور. فنقول: أما نسب الشيخ: فهو محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف بن عمر بن معضاد بن إدريس بن علي بن محمد بن علوي بن قاسم بن موسى بن مسعود بن عقبة بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيع بن ساعدة بن ثعلبة بن ربيعة بن ملكان بن عدي بن عبد مناة بن تميم. ولد سنة خمس عشرة ومائة وألف، وتوفى رحمه الله سنة ست ومائتين وألف. وكان مولده في بلد "العيينة" من البلدان النجدية. فأنبته الله نباتاً حسناً، وجلا به عن طرف الدهر وسنان كراه. ذكر الشيخ العالم العلامة حسين بن غنام الإحسائي في تاريخ "روضة الأفكار والأفهام" قال: كان الشيخ سليمان يحدث عن أخيه محمد بن عبد الوهاب قال: كان أبوه عبد الوهاب يتعجب من فهمه وإدراكه، قبل بلوغه وإدراكه ومناهزته الاحتلام وإفراكه. ويقول أيضاً استفدت من ولدي محمد فوائد من الأحكام، أو قريباً من هذا الكلام. وقد كتب والده إلى بعض إخوانه رسالة نوه فيها بشأنه يثني فيها عليه، وأن له فهماً جيداً ولديه، ولو يلازم الدرس سنة على الولاية لظهر في الحفظ والاتقان آية. وقد تحققت أنه بلغ الاحتلام قبل إكمال اثنتي عشرة سنة على الإتمام، ورأيته أهلاً للصلاة بالجماعة والائتمام فقدمته لمعرفته بالأحكام، وزوجته بعد البلوغ في ذلك العام، ثم طلب مني الحج إلى بيت الله الحرام، فأجبته بالإسعاف إلى ذلك المرام، فحج وقضى ركن الإسلام، وأدى المناسك على التمام. ثم قصد مدينته عليه الصلاة والسلام، وأقام فيها شهرين ثم رجع بعد ذلك فائزاً بأجر الزيارة والمناسك وأخذ في القراءة على والده في الفقه على مذهب الإمام أحمد، فسلك فيه الطريق الأحمد، ورزق مع الحفظ سرعة الكتابة. فكان يخبر عنه أصحابه أنه كان يخط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 بالخط الفصيح في المجلس الواحد كراساً من غير سآمة، ولا نصب ولا التباس. ثم بعد ذلك رحل في طلب العلم وسار، وجد في الطلب إلى ما يليه من الأمصار، وما يحاذيه من الأقطار. فزاحم فيه الكبار وأشرق طالعه واستنار فصار لهلاله أقمار، فوطئ الحجاز والبصرة لذلك مراراً وإلى الإحساء لتلك الأوطار. وأخذ العلم عن جماعة منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المدني، وأجازه من طريقين، وأول حديث سمعه منه الحديث المسلسل بالأولية. نقلت من خطه ما نصه: حدثني الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي – بمنزله بظاهر المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام – عن شيخ الإسلام ومفتي الشام أبي المواهب الحنبلي – إجازة – قال: أخبرنا والدي تقي الدين عبد الباقي الحنبلي – وهو اول حديث سمعته منه – قال: أخبرنا به المعمر الشيخ عبد الرحمن البهوتي الحنبلي – وهو أول حديث سمعته منه – قال: أخبرنا به شيخنا جمال الدين يوسف الأنصاري الخزرجي – وهو أول حديث سمعته منه – قال: أخبرنا به والدي شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وهو أول حديث سمعته منه – قال: أخبرنا به شيخ الإسلام أبو الفضل أحمد بن حجر العسقلاني – وهو أول حديث سمعته منه – قال: أخبرنا الصلاح محمد بن محمد المكرمي الصوفي الخازن – وهو أول حديث سمعته منه – قال: اخبرنا الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي – وهو أول حديث سمعته منه – قال: أخبرنا به الصدر أبو الفتح الميدومي – وهو أول حديث سمعته منه – قال: أخبرنا به الحافظ أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني – وهو أول حديث سمعته منه – قال: أخبرنا به الحافظ أبو الفرج بن عبد الرحمن بن علي بن الجوزي – وهو أول حديث سمعته منه – قال: أخبرنا به الحافظ إسماعيل بن صالح النيسابور – وهو أول حديث سمعته منه – قال: أخبرنا به أبو حامد صالح المؤذن – وهو أول حديث سمعته منه – قال أخبرنا به أبو طاهر محمد بن كعب بن محمد الزيادي - وهو أول حديث سمعته منه – قال أخبرنا عبد الرحمن بن تستر بن الحكم النيسابوري – وهو أول حديث سمعته منه – قال: أخبرنا سفيان بن عيينة – وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 أول حديث سمعته منه – عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاص عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" تفرد به سفيان، ولا يصح سنده عمن فوق سفيان، والله أعلم. وحدث أيضاً عنه بالمسلسل بالحنابلة قال رحمه الله: حدثني عبد الله بن إبراهيم الحنبلي بمنزله بظاهر المدينة النبوية عن شيخ الإسلام ومفتي الشام أبي المواهب تقي الدين عبد الباقي الحنبليان عفى الله عنهما إجازة عن والده تقي الدين المذكور قال: أخبرنا شيخنا عبد الرحمن البهوتي أخبرنا الشيخ تقي الدين بن النجار الفتوحي صاحب "منتهى الإرادات" أخبرنا والدي شهاب الدين أحمد قاضي القضاة الحنبلي أخبرنا بدر الدين الصفدي الظاهري الحنبلي أخبرنا عز الدين أبو البركات الحنبلي أخبرنا أبو علي حنبل بن عبد الله الرصافي قال أخبرنا أبو القاسم هبة الله الحنبلي قال: أخبرنا أبو الحسن بن علي الحنبلي قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر الحنبلي قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن الإمام أحمد الحنبلي قال: حدثني أبي أحمد بن محمد بن حنبل إمام كل حنبلي عن ابن عدي عن حميد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله. قالوا: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته" هذا حديث عظيم قد وقع ثلاثياً للإمام أحمد رضي الله عنه. وقد سمع الشيخ رحمه الله الحديث والفقه من جماعة بالبصرة كثيرة، وقرأ بها النحو وأتقن تحريره وكتب الكثير من الفقه والحديث في تلك الإقامة، وبحث على طريق الهدى والاستقامة، وكان أكثر لبثه لأخذ العلم بالبصرة. انتهى المراد منه. وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر في كتابه "توحيد الخلاق، في أجوبة أهل العراق" في ترجمته للشيخ محمد بن عبد الوهاب: وقد أجازه أيضاً كل من الشيخ علي أفندي الداغستاني، وعبد الله بن إبراهيم، وعبد اللطيف العفالقي في كل ما حواه ثبت الشيخ عبد الباقي أبي المواهب الحنبلي قراءة وتعلماً وتعليماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 من صحيح البخاري بسنده إلى مؤلفه، وصحيح مسلم بسنده إلى مؤلفه، وشروح كل منهما، وسنن الترمذي بسنده، وسنن ابن ماجه بسنده، وسنن النسائي الكبرى بسنده، وسنن الدارمي ومؤلفاته بالسند، وسلسلة العربية بسندها عن أبي الأسود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومسانيد الأئمة الأربعة، وفقه الحنابلة، وكثير من كتب الأئمة المشهورين. انتهى المراد منه. والمقصود: أن المؤسس لهذه الدعوة المحمدية الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى لم يكن قائماً بها على جهل، أو طلب جاه أو علو في الأرض أو التماس لحطام الدنيا، حماه الله من ذلك. بل قد جد واجتهد رحمه الله في تحصيل علو الدين ورحل في طلبها إلى الأمصار، وزاحم فيها العلماء الكبار، فشهدوا له بتحصيلها وإتقانه وأجازه فيها الفحول من علماء زمانه فقد أدركته عناية أحكم الحاكمين "ومن يرد الله به خيراً يفقه في الدين" وقد قام بأعباء هذه الدعوة، وصبر على ما ناله فيها من المحنة والجفوة، حتى أظهره الله تعالى على أعداء الحق، فظهر الحق وبان، واستذل الباطل وأهله واستكان، فله الحمد والمنة لا نحصي ثناء عليه. وقد ذكر العلامة المؤرخ محمود فهمي المصري المتوفى بجزيرة سيلان في سياق ما كتبه عن سيرة الوهابيين وشيخهم محمد بن عبد الوهاب، قال: ويحتمل أن المؤسس الأكبر لهذا المذهب لم يتقلد أدنى وظيفة أخرى، سوى أنه كان حاكمهم الدياني، وكان مقره الثابت في الدرعية بأرض نجدن حتى توفى في سنة 1206هـ من بعد أن تقدم في العمر حتى بلغ خمساً وتسعين سنة، واستحوذ على الدرجة العالمية من القناعة وأسر القلوب بفصاحة كلامه وعذوبة منطقه، وكان له قوام عجيب في السياسة والحروب، وما يحصل من الوقائع والكروب. واستمر إلى أن بلغ السيادة القسوى بعلمه وسيفه في بلاد العرب، وكان فيه طوع ولين، أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وقد تقدم من كلامه رحمه الله عن الوهابيين ما فيه كفاية. وأما قول المعترض: "كان أبوه عالماً فاضلاً ورعاً" فهذا حق، فإن الشيخ عبد الوهاب والد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى، كان على جانب عظيم من العلم والفضل، مشهوراً بورعه وزهده. وقد قال الشيخ العلامة المؤرخ عثمان بن عبد الله بن بشر (1) في تاريخه "عنوان المجد" وأما الشيخ عبد الوهاب فهو العالم العلامة الكامل الورع الزاهد له المعرفة الكاملة في علوم الشريعة وآلاتها، تولى القضاء في عدة أماكن من نجد منها العيينة وحريملا، وله مؤلفات حسنة، ورسائل مستحسنة، ورأيت له أسئلة وأجوبة أعجبني حسنها، وهي دالة في غزارة علمه وسعة اطلاعه، انتهى. وأما قول المعترض: "وكان يتفرس في ابنه هذا الشقاوة. . . إلى آخره". فهذه دعوى كاذبة باطلة مرذولة، تحكي دين وأمانة من اخترعها. فإن الشيخ عبد الوهاب رحمه الله قد أثنى على ولده محمد ثناء جميلاً بقوله فيه: إنه يتعجب من فهم ابنه محمد وإدراكه قبل بلوغه الاحتلام. ويقول أيضاً: لقد استفدت من ولدي محمد فوائد من الأحكام. وقد كتب الشيخ عبد الوهاب رسالة إلى بعض إخوانه نوه فيها بشأن ابنه الشيخ محمد، وما هو حائز عليه من الفهم والحفظ والإتقان الذي يعد فيه آية من آيات الله. قال: وقد تحققت أنه بلغ الاحتلام قبل إكماله اثنتي عشرة سنة فرأيته أهلاً للإمامة في الصلاة بالجماعة فقدمته لمعرفته بالأحكام. . . إلى آخر ما ذكره. فكيف يكون هذا الشيخ الجليل – مع علمه وفضله وورعه الذي أقر له به هذا المعترض – يتفرس في ابنه الشقاوة، ثم هو مع ذلك يثني عليه، وينوه بعلو شأنه في العلم والفهم، ويقدمه للإمامة في صلاة الجماعة بين يديه؟ هذا تناقض شنيع، محال أن يتصف به عالم فاضل ورع، وكذلك العلماء الذين قال عنهم المعترض: إنهم يتفرسون فيه الشقاوة، كيف تتفق هذه الفراسة مع طلبه العلم   (1) ولد عام 1210هـ وتوفي عام 1290هـ ويعتبر من أوثق المؤرخين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 عليهم وتحصيله له وإجازتهم له فيه؟ إن هذين ضدان لا يجتمعان، بل نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم. ثم يقال لهذا الملحد: ومن هذا الذي تفرس فيه الشقاوة؟ ومن هو الناقل عنه؟ وما وجه هذه الفراسة وما مصدرها غيرك أيها الكذاب؟ "ولو يعطى الناس بدعواهم لا دعى رجال دماء أقوام وأموالهم" فلا كل ناقل صادق، ولا كل طاعن مقبول، فالحق أحق أن يتبع. وأما قوله: "وكان يميل لمطالعة أخبار من ادعوا النبوة، ويكتم هذا الفكر في نفسه". فهذا من نمط ما قبله من الافتراء وقلة الحياء. وفي الحديث: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" فمن أين عرف هذا الملحد أن الشيخ كان يميل لمطالعة أخبار من ادعوا النبوة، ما دام يكتم هذا الفكر في نفسه؟ فهل عنده علم من الغيب، أم هو الذي يدعي النبوة ويزعم أن الوحي ينزل عليه من السماء يخبره عن بواطن العباد وما يسرونه في أنفسهم؟ أم هو محض الافتراء والكذب على الله وعلى عباده المؤمنين؟ وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل، الآية:105] وهل قام هذا الملحد وأمثاله بعداوتهم للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتقولوا عليه الكذب إلا بسبب ما قام به الشيخ من الدعوة إلى تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله، لأن الخصومة بينه وبين معارضيه كانت في تحقيق هذين الأصلين اللذين جهل حقيقتهما كثير من الناس، فاكتفوا منهما باللفظ دون المعنى. فجاءوا من الأعمال بما يخالفهما من صرف أنواع العبادة لغير الله تعالى، واتباع غير رسوله صلى الله عليه وسلم. فلما بين الشيخ رحمه الله تعالى أن مجرد الإتيان بلفظ الشهادتين مع مخالفة ما دلتا عليه من أصول التوحيد، ومع الشرك الأكبر في العبادة لا يدخل المكلف في الإسلام إذ المقصود من لفظ الشهادتين: حقيقة الأعمال التي لا يقوم الإيمان بدونها، كمحبة الله وحده، والخضوع له والإنابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 إليه، والتوكل عليه، وإفراده بالاستعانة والاستغاثة فيما لا يقدر عليه سواه، وعدم الإشراك به فيما يستحقه من العبادات، كالدعاء والخوف والرجاء، والذبح والنذر ونحو ذلك من العبادات التي هي معنى شهادة أن لا إله إلا الله. وأما شهادة أن محمداً رسول الله: فتصديقه فيما جاء به من عند الله، واتباعه فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر، الآية: 7] وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران، الآية: 31] فمن ابتغى طريقاً إلى الله غير طريقه صلى الله عليه وسلم فإنه لم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله، فإن الطرق إلى الله تعالى من يوم بعثته صلى الله عليه وسلم مسدودة إلا من طريقه، ومن طلب الهدى من غير هديه ضل سواء السبيل. وقد كثرت الطرق المخالفة لطريقه صلى الله عليه وسلم من أناس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله لفظاً فقط، مع مخالفة أعمالهم لما دلت عليه هاتا الشهادتان من أفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، وفرض الاتباع لرسول صلى الله عليه وسلم دون غيره. فلما قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بالدعوة إلى تحقيق هذين الأصلين عارضه ورثة أبي جهل وقالوا له كما قال أسلافهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص، الآية: 5] ورموه بالجنون والسحر ورموا أصحابه بأنهم صابئة وأنهم حثالة وغثاء. وكذلك أتباعهم على الحقيقة لهم قسط من إرثهم فسماهم هؤلاء الملاحدة خوارج ومشبهة ووهابية يميلون إلى أخبار من ادعوا النبوة وأمثال هذه المفتريات التي لا تروج إلى على كل جاهل لا يدرك الحقائق. وكيف تخفى الحقائق على من عنده أدنى اطلاع وبصيرة يفرق بهما بين الحق والباطل؟ فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد أشهر مذهبه ودعوته التي يدعو الناس إليها في مصنفاته المطولة ورسائله المختصرة فلم يترك لمعارضيه شبهة إلا كشفها، ولا طريقاً توصل إلى الله وإلى اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم على بينهما وأوضحها. وقد جاهد بلسانه وقلمه وسارت الكتائب من جيوش الموحدين لجهاد المشركين والمعاندين بأمره لتكون كلمة الله هي العليا ودينه الظاهر، فقد حمى حما التوحيد لله تعالى علناً لم يخف في الله لومة لائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فأي شيء يخفيه في نفسه بعد ذلك أيها المضللون؟ فلو كان لهذه الفرية أدنى قيمة لأوردت من كلام الشيخ رحمه الله ما يكفي ويشفي في ردها، ولكنها فرية تمثل الزور والفجور فلا تستحق رداً أكثر من احتقار صاحبها وكشف عورته، وليس أبلغ من رد هذا الملحد على نفسه. فاسمع إذاً ما يقوله بعد دعواه على الشيخ الكتمان: قال المعترض: "فلما مات أبوه في نحو سنة 1143 (1) ابتدأ بإظهار مذهبه حتى سنة 1151 فأشهر أمره وأظهر دعوته وعقيدته في نجد وأطرافها". فنقول لهذا الملحد: إذاً فليس فيه كتمان كما افتريته على الشيخ. فقد أبطلت دعواك بإقرارك بنفسك. فإن ما أظهره الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى واشتهر به من الدعوة إلى كتاب الله تعالى واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، واقتفاء أثر السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من أئمة الهدى والدين قد ظهر واشتهر أمره فلا ينكره إلا معاند مثلك أيها المفتري الذي أكذب نفسه بنفسه. فالحمد لله على ظهور الحق وخذلان الباطل وأهله.   (1) صحة وفاة الشيخ عبد الوهاب بن سليمان عام 1153هـ. [مشاهير علماء نجد وغيرهم ص 22] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 فصل - استطراد في سيرة الشيخ محمد عبد الوهاب وبعض أقواله ... ونحن نسوق طرفاً من عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ليتبين الهدى من الضلال لمن يريد الاطلاع على الحقائق، وتمييز الحق من الباطل، فلا يغتر أحد بدعاة الشرك الملحدين في دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ العلامة عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى في كتاب"منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس". فصل ونقص عليك شيئاً من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونذكر طرفاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 من أخباره وأحواله، ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان وأغراه وبالغ في كفره واستهواه، فنقول: قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته ومصنفاته المسموعة المقروءة عليه وما ثبت بخطه، وعرف واشتهر من أمره ودعوته، وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته: أنه على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله التي نطق بها الكتاب العزيز وصحت بها الأخبار النبوية وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، يثبتونها ويؤمنون بها ويمرونها كما جاءت، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين وتابعيهم من أهل العلم والإيمان وسلف الأمة وأئمتها، كسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وطلحة بن عبيد الله وسليمان بن يسار وأمثالهم من الطبقة الأولى. ومن الطبقة الثانية: كمجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وابن سيرين وعامر الشعبي وجنادة بن أبي أمية وحسان بن عطية وأمثالهم. ومن الطبقة الثالثة: علي بن الحسين وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن مسلم الزهري ومالك بن أنس وابن أبي ذئب وابن الماجشون وكحماد بن سلمة وحماد بن زيد والفضيل بن عياض وعبد الله بن المبارك وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، ومحمد بن إدريس الشافعي وإسحاق بن إبراهيم وأحمد بن حنبل ومحمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري وإخوانهم وأمثالهم ونظرائهم من أهل الفقه والأثر في كل مصر وعصر. وأما توحيد العبادة والإلهية: فلا خلاف بين أهل الإسلام فيما قاله الشيخ وثبت عنه من المعتقد الذي دعا إليه. يوضح ذلك: أن أصل الإسلام وقاعدته "شهادة أن لا إله إلا الله" وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان وهذا الأصل لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين ومدلوله وجوب عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه كائناً من كان. وهذا هو الحكمة التي خلقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 لها الإنس والجن، وأرسلت لها الرسل، وأنزلت بها الكتب. وهي تتضمن كمال الذل والحب وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم. وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام. وهو يتضمن الاستسلام لله وحده فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل، الآية: 36] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية: 25] وقال تعالى عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف، الآيات: 26- 28] وقال تعالى عنه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء، الآيات: 75- 77] وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة، الآية: 4] وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف، الآية: 45] وذكر عن رسله نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف، الآية: 59] وقال عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الكهف، الآيات: 13- 15] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء، الآية: 48] في موضعين من كتابه وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة، الآية: 72] . قال رحمه الله تعالى: والشرك المراد بهذه الآيات ونحوها يدخل فيه شرك عباد القبور وعباد الأنبياء والملائكة والصالحين. فإن هذا هو شرك جاهلية العرب الذين بعث فيهم عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يدعونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ويلتجئون إليها ويسألونها على وجه التوسل بجاهها وشفاعتها لتقربهم إلى الله، كما حكى الله ذلك عنهم في مواضع من كتابه، كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس، الآية: 18] الآية. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر، الآية: 3] وقال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف، الآية: 28] . قال رحمه الله: ومعلوم أن المشركين لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السماوات والأرض، أو استقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد ولو في خلق ذرة من الذرات. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر، الآية: 38] فهم معترفون بهذا مقرون به، لا ينازعون فيه. ولذلك حسن موقع الاستفهام وقامت الحجة عليهم بما أقروا به من هذه الجمل، وبطلت عبادة من لا يكشف الضر ولا يمسك الرحمة. ولا يخفى ما في التنكير من العموم والشمول المتناول لأقل شيء وأدناه من ضر أو رحمة. وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} – إلى قوله – {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون، الآية: 23، والآية: 89] وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف، الآية: 106] ذكر فيه السلف كابن عباس وغيره: إيمانهم هنا بما أقروا به من ربوبيته ولمكه، وفسر شركهم بعبادة غيره. قال رحمه الله: وقد بين القرآن في غير موضع أن من المشركين من أشرك بالملائكة، ومنهم من أشرك بالأنبياء والصالحين، ومنهم من أشرك بالكواكب، ومنهم من أشرك بالأصنام. وقد رد عليهم جميعهم وكفر كل أصنافهم، كما قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران، الآية: 80] وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة، الآية: 31] الآية، وقال: {لَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء، الآية: 172] ونحو ذلك في القرآن كثير. وبه يعلم المؤمنون أن عبادة الأنبياء والصالحين كعبادة الكواكب والأصنام من حيث الشرك والكفر بعبادة غير الله. قال رحمه الله: وهذه العبادات التي صرفها المشركون لآلهتهم هي أفعال العبد الصادرة منه، كالحب والخضوع والإنابة والتوكل والدعاء والاستعانة والاستغاثة والخوف والرجاء والنسك والتقوى والطواف ببيته رغبة ورجاء وتعلقاً للقلوب والآمال بفيضه وممده وإحسانه وكرمه. فهذه الأنواع أشرف أنواع العبادة وأجلها، بل هي لب سائر الأعمال الإسلامية وخلاصتها. وكل عمل يخلو منها فهو خداج مردود على صاحبه، وإنما أشرك وكفر من كفر من المشركين بقصد غير الله بهذا وتأليهه بذلك. قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل، الآية: 17] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الأنبياء، الآية: 43] وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان، الآية: 3] الآية. وحكى عن أهل النار أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدوها مع الله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء، الآيتان: 97-98] ومعلوم أنهم ماسووهم به في الخلق والتدبير والتأثير وإنما كانت التسوية في الحب والخضوع والتعظيم والدعاء ونحو ذلك من العبادات. قال رحمه الله: فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم ممن يعبد الأولياء والصالحين نحكم بأنهم مشركون، ونرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية. وما عدا هذا من الذنوب التي هي دونه في الرتبة والمفسدة لا نكفر بها ولا نحكم على أحد من أهل القبلة الذين باينوا عباد الأوثان والأصنام والقبور بالكفر بمجرد ذنب ارتكبوه، وعظيم جرم اجترحوه وغلاء الجهمية والقدرية والرافضة ونحوهم ممن كفرم السلف لا نخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى والفتوى من سلف هذه الأمة، ونبرأ إلى الله مما أتت به الخوارج وقالته في أهل الذنوب من المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 قال رحمه الله: ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها ولا عمل بمقتضاها لا يكون به المكلف مسلماً، بل هو حجة على ابن آدم، خلافاً لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار "كالكرامية"، ومجرد التصديق "كالجهمية". وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة، وسجل على كذبهم، مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع من التأكيدات. قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون، الآية: 1] فأكدوا بلفظ الشهادة و"إن" المؤكدة واللام والجملة الاسمية، فأكذبهم وأكد تكذبيهم بمثل ما أكدوا به شهادتهم سواء بسواء، وزاد التصريح باللقب الشنيع والعلم البشيع الفظيع، وبهذا تعلم أن مسمى الإيمان لا بد فيه من الصدق والعمل. ومن شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره، فلا شهادة له، وإن صلى وزكى وصام وأتى بشيء من أعمال الإسلام. قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب ورد بعضاً: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة، الآية: 85] الآية. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [النساء، الآية: 150] الآية. وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون، الآية: 117] الآية. والكفر نوعان: مطلق ومقيد. فالمطلق: أن يكفر بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والمقيد: أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول، حتى إن بعض العلماء كفر من أنكر فرعاً مجمعاً عليه، كتوريث الجد والأخت، وإن صلى وصام، فكيف بمن يدعو الصالحين ويصرف لهم خالص العبادة ولبها؟ وهذا مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة، بل كفروا ببعض الألفاظ التي تجري على ألسن بعض الجهال، وإن صلى وصام من جرت على لسانه. قال رحمه الله: والصحابة رضي الله عنهم كفروا من منع الزكاة وقاتلوهم، مع إقرارهم بالشهادتين والإتيان بالصلاة والصوم والحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 قال رحمه الله: وأجمعت الأمة على كفر بني عبيد القداح مع أنهم يتكلمون بالشهادتين، ويصلون ويبنون المساجد في قاهرة مصر وغيرها. وذكر أن ابن الجوزي صنف كتاباً في وجوب غزوهم وقتالهم سماه "النصر على مصر" قال: وهذا يعرفه من له أدنى إلمام بشيء من العلم والدين، فتشبيه عباد القبور بأنهم يصلون ويصومون ويؤمنون بالبعث مجرد تعمية على العوام وتلبيس لينفق شركهم، ويقال بإسلامهم وإيمانهم. ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون. وأما مسائل القدر والجبر والإرجاء والإمامة والتشيع، ونحو ذلك من المقالات والنحل فهو فيها أيضاً على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الهدى والدين يبرأ مما قالته القدرية النفاء، والقدرية المجبرة وما قالته المرجئة والرافضة وما عليه غلاة الشيعة والناصبة، ويوالي جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكف عما شجر بينهم ويرى أنهم أحق الناس بالعفو عما يصدر منهم، وأنهم أقرب الخلق إلى مغفرة الله وإحسانه لفضائلهم وسوابقهم وجهادهم، وما جرى على أيديهم منفتح القلوب بالعلم النافع والعلم الصالح، وفتح البلاد ومحو آثار الشرك وعبادة الأوثان والنيران والأصنام والكواكب ونحو ذلك مما عبده جهال الأنام. ويرى البراءة مما عليه الرافضة، وأنهم سفهاء لئام ويرى أن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر فعمر فعثمان فعلي رضي الله عنهم أجمعين. ويعتقد أن القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين وخاتم النبيين كلام الله غير مخلوق منهم بدا وإليه يعود. ويبرأ من رأي الجهمية القائلين بخلق القرآن، ويحكى تكفيرهم عن جمهور السلف أهل العلم والإيمان، ويبرأ من رأي الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب القائلين بأن كلام الله هو المعنى القائم بنفس الباري، وأن مانزل به جبريل حكاية أو عبارة عن المعنى النفسي. ويقول: هذا من قول الجهمية. وأول من قسم هذا التقسيم: هو ابن كلاب وأخذ عنه الأشعري وغيره كالقلانسي. ويخالف الجهمية في كمل ما قالوه وابتدعوه في دين الله ولا يرى ما ابتدعته الصوفية من البدعة والطرائق، المخالفة لهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في العبادات والخلوات والأذكار المخالفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 للمشروع. ولا يرى ترك السنن والأخبار النبوية لرأي فقيه ومذهب عالم خالف ذلك باجتهاده، بل السنة أجل في صدره وأعظم عنده أن تترك لقول أحد كائناً من كان. قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم". نعم، عند الضرورة وعدم الأهلية والمعرفة بالسنن والأخبار وقواعد الاستنباط والاستظهار، يصار إلى التقليد لا مطلقاً، بل فيما يتعسر ويخفى، ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد إلى بدليل تقوم به الحجة من الكتاب والسنة خلافاً لغلاة المقلدين. ويوالي الأئمة الأربعة، ويرى فضلهم وإمامتهم وأنهم من الفضل والفضائل في غاية ورتبة يقصر عنها المتطاول، ويوالي كافة أهل الإسلام وعلمائهم من أهل الحديث والفقه والتفسير وأهل الزهد والعبادة. ويرى المنع من الانفراد عن أئمة الدين من السلف الماضين برأي مبتدع أو قول مخترع، فلا يحدث في الدين ما ليس له أصل يتبع، وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر. ويؤمن بما نطق به الكتاب وصحت به الأخبار وجاء الوعيد عليه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، ولا يبيح من ذلك إلا ما جاء أباحه الشرع وأهدره الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن نسب إليه خلاف هذا فقد كذب وافترى وقال ما ليس له به علم، وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين. انتهى. فهذا طرف من عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي يقول عنه هذا الملحد: إنه بعد وفاة أبيه قد أشهر أمره وأظهر عقيدته، ولكن الملحد لم يذكر عن عقيدة الشيخ إلا ما يفتريه من الكذب والبهتان الذي لا أصل له، ولا سند له فيه يرجع إليه. أما العلم والبحث فيه، وتمحيص الحقائق فليس هو من أهلها. وما نقلناه عن عقيدة الشيخ محمد رحمه الله تعالى فإنه الحق، وهو ما اشتهر عنه ودعا الناس إليه بلسانه وقلمه، وأثبته في مصنفاته المطولة والمختصرة، وهو المرجع لكل من يطلب حقيقة ما عليه الشيخ رحمه الله تعالى من العقيدة في أصول الدين. وأما في الفروع فإنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه. وفي الذي أوردناه كفاية لبيان ضلال هؤلاء الملاحدة الصادين عن دين الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق ولكن الله تعالى حارس دينه وأهله، ويحق الله الحق بكلماته ولو كره الكافرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 طعن الملحد في آل سعود لنصرتهم للشيخ والرد عليه ... قال المعترض: "فقام في نصرته وإظهار عقيدته محمد بن مسعود (1) أمير الدرعية الذي ما زال أولاده يعيثون فساداً في نجد، فحمل الناس على متابعته واتباع مذهبه". أقول: وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فإن الله تعالى لما من على هذا الشيخ الجليل محمد بن عبد الوهاب بالعلم النافع والفهم الواسع في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفقه للعمل بما علم، والوفاء بعهد الله الذي أخذه على أهل العلم أن يبينوه للناس ولا يكتموه. فلما رأى الشيخ رحمه الله تعالى ما عم وطم من الفساد في الأمة المحمدية، وخصوصاً في البلاد النجدية من ظهور الشرك والبدع، وعموم الجهل واتباع الهوى، بل الرجوع إلى الجاهلية الأولى صمم رحمه الله تعالى على القيام بالدعوة إلى تحقيق دين الله الذي أرسل به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم والرجوع إليه، وترك ما خالفه من الجهل والضلال ومحاربة العادات التي ليست من دين الإسلام في شيء، بل هي من صميم الجاهلية فلما علم الله صدق نية هذا الشيخ وإخلاصه في الدعوة إليه وإلى دينه، يسر له أسباب الهداية والتوفيق، وأقام لنصرته من سبقت له من الله السعادة على التحقيق محمد بن سعود، رفع الله مقامه في جنات الخلود، وذلك بعد أن قام أعداء الله ورسوله على الشيخ فناصبوه العداء، وطلبوا قتله، وحرموه من القرار في واسع الفضاء، يعلم الناس ما جهلوه من أمر دينهم. فخرج مهاجراً على قدميه وحيداً يتلو آي القرآن، وتحفه ملائكة الرحمن حتى انتهى إلى معقل الإيمان وجنود الملك الديان. فقابلوه بالقبول والإحسان وأنزلوه منهم منزلة النظر بين الأجفان. وبنزوله عليهم نزل بهم خير الدنيا والآخرة فقد أغناهم الله بعد الفاقة، وكثرهم بعد القلة، وأعزهم بعد أن كانوا أذلة. فجعلهم ملوكاً دانت لهم الجزيرة العربية   (1) صحة الاسم محمد بن سعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 بأجمعها بالطاعة، واجتمعت عليهم بعد الفرقة ومفارقة الجماعة، وذلك ببركة هذه الدعوة المحمدية، التي صارت شجى في حلوق الملحدين وعباد القبور الوثنيين من الدحلانيين ومن اتبعهم من مردة الشياطين، فقد عارضوا دعوة الشيخ بمحض افترائهم الكذب عليه، وتشويه سمعته وسمعة أتباعه، شأن أسلافهم الماضين المعارضين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه إلى يوم الدين. حيث إن هذا الملحد قد ادعى زوراً وفجوراً على إمام المسلمين محمد بن سعود وأولاده رحمهم الله بأنهم ما زالوا يعيثون فساداً في نجد، فإن هذا من أكبر البهت والمكابرة. وقد تقدم فيما نقلته من تاريخ العلامة محمود فهمي المصري وما نقلته من تاريخ الإمام الجبرتي رحمهما الله تعالى ما يفسد دعوى هذا المفتري من شهادة هذين العالمين الجليلين لإمام المسلمين، محمد بن سعود وأولاده بإقامة العدل، والسير على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونزيد هذا المقام إيضاحاً بما ذكره العالم المؤرخ عثمان بن عبد الله بن بشر في تاريخه "عنوان المجد" حيث يقول رحمه الله: ثم إن هذا الدين الذي منَّ الله به في آخر هذا الزمان على أهل نجد، بعدما كثر فيهم الجهل والضلال والضلم والجور والقتال، فجمعهم إخواناً، فأمنت السبل، وحيث السنن، وماتت البدع، واستنار التوحيد بعدما خفي ودرس. وزال الشرك بعدما رسا في البلاد وغرس، وطفئت نيران الظلم والفتن، ورفعت مواد الفساد والمحن، ونشرت راية العدل على أهل الجور والعناد، وكان مظهر ذلك من يقول للشيء كن فيكون {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء، الآية:105] وذلك بسبب من عمت بركة علمه العباد، وشيد منار الشريعة في البلاد قدوة المحققين وبقية العلماء المجتهدين، وناصر دين سيد المرسلين شيخ مشايخنا المتقدمين، الشيخ الأجل والكهف الأظل، محمد بن عبد الوهاب، أدخله الله فسيح جناته، وتغمده برحمته ورضوانه، فآواه من جعل عز الدين في تلك الديار على يديه، وجاد بنفسه وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 لديه، ولم يخش لوم اللائمين، ولا كيد المحاربين، محمد بن سعود وبنوه ومن ساعدهم على ذلك وذووه، خلد الله ملكهم مدى الزمان، وأبقاه في صالح عقبهم ما بقي الثقلان، فشمر في نصرة الإسلام بالجهاد، وبذل الجد والجهد والاجتهاد، فقام في عداوته الأصاغر والأكابر، وجردوا عليه المدافع والقنابر، فلم يثن عزمه ما فعل المبطلون، وجاء أمر الله وهم كارهون. قال: فملأوا هذه الجزيرة بإدمان سيف نصرهم، كما ملأوها بسيل عدلهم وبرهم، واستبشرت بهم تلك البلدان لما أزالوا عنها من الجور والطغيان، والبناء على القبور والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان. ونادوا في فجاجها {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل، الآية: 90] فمهدوا السبيل لحج بيت الله الحرام، فسارت الظعينة إليه من العراق والشام، واليمن والبحرين والبصرة وما حول تلك الأقطار. لا تخشى إلا الله الواحد القهار، فبطلت جوائز الأعراب على الدروب، ولم يتجاسر أحد من سراقهم وفسقتهم – فضلاً عن رؤسائهم – أن يأخذ عقالاً (1) فما فوقه من الأثمان، فسماها الأعراب "سنين الكمام" لأنهم كموا جميع المظالم الصغار والجسام، فلا يلقى بعضهم بعضاً إلا بالسلام عليكم وعليكم السلام، والرجل يجلس مع قاتل أخيه كالأخوين، وزالت سنين الجاهلية ببركة الدين، وسيبت الأبل والخيل والجياد والبقر وجميع المواشي في الفلوات فكانت تلقح وتلد في مواضعها آمنات مطمئنات، وليس عندها من يرعاها ويحميها إلا من يأتيها غبا فيسقيها، وسارت عمالهم إلى جميع الأعراب، في الشام والعراق واليمن وأقصى الحجاز إلى ما وراء الينبع إلى دون مصر إلى عدن وما دون البصره والبحرين، وأقصى عمان وما احتوت عليه هذه الجزيرة من العربان. فيقبضون منهم الزكاة بالكمال، ويضربون من تعدى أو تخلف عن الجهاد، ويأخذون من ماله النكال، وهدموا القباب والمواضع الشركية في تلك الأقطار، وعمروا المساجد بالصلوات والدروس والأذكار، وكسروا صنم "ذي الخلصة" في تبالة بعدما اضطربت عليه أليات نساء دوس في الضلالة، ورقعت   (1) الحبل: يقيد به البعير وتعقل يده حتى لا يسير. [المؤلف] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 معجزة المصطفى المخصصة بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة" فهدموه وأعدموه وقرروا التوحيد في تبالة وبينوه، فحقيق لمن هذا حالهم وفعالهم أن يتشرف القرطاس والمداد بنشر فضائلهم في البلاد وبين العباد، انتهى. وفيما ذكرته كفاية لرد كيد هؤلاء الملحدين، وبيان ضلالهم وتعمدهم البهت والافتراء على أهل العلم والفضل، الداعين إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والله تعالى حسبنا ونعم الوكيل على كل ظالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 طعنه في آل الشيخ والرد عليه ... قال المعترض: "فرحل اللعين من بلده ونزل على ابن مسعود (1) في الدرعية، وما زال نسله فيها إلى الآن ويلقبون بأولاد الشيخ وكان يسمي جماعته من أهل بلده الأنصار ويسمي من يتبعه من غيرهم المهاجرين". أقول: قد تكرر من هذا الزنديق نعته للشيخ محمد "باللعين" وسواء وجه اللعن إلى الشيخ رحمه الله تعالى بهذه الصيغة أو لعنه مباشرة فإن قصده واحد وهو استحلال لعن العلماء الذي منعه جمهور علماء أهل السنة، لكن هذا الملحد ليس منهم وليس له أصل يقف عنده، ولا رب يخشاه فيقف عند حده. وقد قدمنا قول من لا نشك في صدقه، وهو أن دحلان هذا رافضي خبيث قد أخفى أمره، فإنهم يستحلون لعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم. وقد اشتهرت هذه الطائفة الملعونة بافتراء الكذب وبهت الأبرياء، فكان لهذا الملحد الزنذيق منهم الحظ الأوفر، والنصيب الأكبر الأخسر، وقد قلده فرخ زندقته "الحاج مختار"المقلد الأعمى الذي قد غرق في لجة من الجهل والعجب بنفسه، حتى ألقياه في الحضيض الأسفل من الردى. وأما قوله: "ونزل على ابن مسعود" فهذا المعترض لا يحسن حتى ضبط الأسماء المشهورة المعروفة لكل أحد، فكيف به في غيرها؟ فإن الفرق بين ابن   (1) الصواب على ابن سعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 سعود وبين ابن مسعود ظاهر وقد يحيل المعنى، فقس على ذلك أمانته في النقل والإسناد، فإنه ليس محلاً للضبط والأمانة بل هو من أهل الخطأ والخيانة كما سنبين ذلك في محله من ردنا هذا على هذا النوع من هفواته. وأما قوله: "وما زال نسله فيها إلى الآن ويلقبون بأولاد الشيخ" فنقول: إنه ليس في الدرعية "أحد" من أولاد الشيخ، بل قد تركوها من وقت دخول إبراهيم باشا إليها. فنزلوا في بلد "الرياض" عاصمة نجد كلها الآن وهي اليوم خير من "الدرعية" في هذه الدنيا وهم في الآخرة إلى رحمة أرحم الراحمين في جنات النعيم. قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص، الآية: 83] وأما تلقيبهم "بأولاد الشيخ" فهو كذلك وكفى بهذا اللقب شرفاً لمن انحدر منه، وسلك طريقته في اتباع الكتاب والسنة والدعوة إليهما. وأما قوله:"وكان يسمي جماعته من أهل بلده: الأنصار، ومن يتبعه من غيرهم المهاجرين". فأقول: ليس لهذا المعترض زمام ولا خطام، يردعه عن الكذب وقول الزور. فإنه يدعي أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يسمي جماعته بالمهاجرين والأنصار وهذا كذب محض لم يسمع به، ولا قاله غير هذا المفتري. ومع ذلك فنحن – على سبيل التنزل مع هذا الملحد لتفنيد مفترياته – نقول له: إذا كان الشيخ رحمه الله تعالى يسمي من نصر دين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن جاء مهاجراً لذلك: بالمهاجرين والأنصار، مع علم الشيخ بأن الشرع إنما أطلق اسم "المهاجرين والأنصار"على من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة، فما على الشيخ بهذه التسمية إذا كانت على الحق مطابقة لحقيقة الحال؟ وإن أنكرها من أعماه الهوى عن الهدى. والظاهر: أن هذا المعترض قد قاس بفهمه الفاسد، أن التسمية بالمهاجرين والأنصار كالتسمية باسم "النبوة أول الرسالة" فلا يجوز عنده لمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 اقتدى بالمهاجرين والأنصار وعمل عملهم في نصر دين الله ورسوله والهجرة في سبيله أن ينسب إليهم أو أن يسمى باسمهم مع أن التسمي بأسماء الأنبياء والتكني بكناهم جائز لما رواه الترمذي من حديث محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله، إن ولد لي ولد من بعدك، أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال: نعم" قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي سنن أبي داود عن عائشة قالت: "جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني ولدت غلاماً فسميته محمداً وكنيته أبا القاسم، فذكر لي أنك تكره ذلك. فقال: ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي؟ أو ما الذي حرم كنيتي وأحل اسمي؟ ". وعلى هذا فجواز التسمية بالمهاجرين والأنصار أولى وأحرى لمن اقتدى بهم حقيقة. كيف؟ والعمل الذي تتحقق به النسبة إليهم محبوب على الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم بل واجب على كل مسلم قادر يؤمن بالله واليوم الآخر أن يهاجر من البلد الذي لا يتمكن فيه من إقامة دينه إلى بلد يتمكن فيه من إقامته وإظهاره. وهذا المعترض يزعم أن الهجرة قد انقطعت ومضى وقتها، فلا ناصر للدين، ولا مهاجر إليه، حتى يقتدي بمن قبله وينسب إليهم. وما هذا من هذا المعترض وأمثاله إلا من غلبة الجهل وغربة الدين. وقد قال الإمام المحدث أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله المخثعمي السهيلي في كتابه "الروض الأنف" في تفسير ما اشتمل عليه حديث السيرة النبوة لابن هشام فصل – وذكر حديث أصحاب الهجرة مع النجاشي، وما قاله جعفر، إلى آخر القصة – وليس فيها إشكال. وفيه من الفقه: الخروج عن الوطن، وإن كان الوطن مكة على فضلها إذا كان الخروج فراراً بالدين، وإن لم يكن إلى إسلام. فإن الحبشة كانوا نصارى يعبدون المسيح ولا يقولون: هو عبد الله. وقد تبين ذلك في هذا الحديث، وسموا بهذه "المهاجرين" وهم أصحاب الهجرتين الذين أثنى عليهم بالسبق، فقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} [التوبة، الآية:100] وجاء في التفسير: أنهم الذين صلوا القبلتين وهاجروا الهجرتين. وقد قيل أيضاً: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، فانظر كيف أثنى الله عليهم بهذه الهجرة، وهم قد خرجوا من بيت الله الحرام إلى دار كفر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 لما كان فعلهم ذلك احتياطاً على دينهم ورجاء أن يخلى بينهم وبين عبادة ربهم يذكرونه آمنين مطمئنين. وهذا حكم مستمر متى غلب المنكر في بلد آخر، أي بلد كان، يخلى بينه وبين دينه، ويظهر فيه عبادة ربه. فإن الخروج على هذا الوجه حتم على المؤمن، وهذه الهجرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة، الآية:115] انتهى. وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله في "اقتضاء الصراط المستقيم"وذكر ما رواه مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: "اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار، فنادى المهاجري: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا للأنصار. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ إلى آخر الحديث. قال: فهذان الاسمان "المهاجرون والأنصار" اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة وسماهما بهما كما سمانا بالمسلمين من قبل. وفي هذا أن انتساب الرجل إلى المهاجرين والأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط كالانتساب إلى القبائل والأمصار، ولا من المكروه والملحق به، كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية أخرى. انتهى. وبهذا تعرف أن هذا المعترض جاهل ضال، فهو يعترض على الأسماء الشرعية وتطيب لقلبه ونفسه الخبيثة: أسماء الفرق المبتدعة التي خالفت ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 موقف سليمان بن عبد الوهاب من أخيه الشيخ محمد وكذب الملحد في روايته عنه ... وأما قول المعترض: "فلما مات قام بالدعوة ابنه عبد الله، فلما مات قام ابنه سليمان بن عبد الله فقتله إبراهيم باشا". أقول: هذا خطأ وتخليط كالذي قبله. فإن الشيخ رحمه الله لما توفي ولي القضاء بعده ابنه حسين، ثم تولي القضاء بعد الشيخ حسين أخوه عبد الله، فنقله إبراهيم باشا فيمن نقل إلى مصر. وأما أولاد الشيخ عبد الله الشيخ سليمان وأخوه الشيخ علي، فقد قتلهما إبراهيم باشا الذي اشتهر بقتل العلماء في بلاد تجد وفي بلاد الأناضول حين خروجه على دوله خليفة المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وأما قول المعترض: "وممن تصدى للرد على محمد المذكور ومناظرته: أخوه سليمان". أقول: إنه لا دخل لقريب ولا بعيد في الهداية إلى الدين، وإن أنكر سليمان على أخيه ورد عليه وناظره، فلا يلزم من ذلك كون سليمان على الحق، وكون أخيه محمد على الباطل، وفي الأنبياء عبرة بنوح وإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم ومع هذا فقد هدى الله سليمان إلى الحق، فرجع عن غيه (1) ، وأعلن خطأه، وأظهر توبته عما سلف منه. وكتب في ذلك رسالة هذا نصها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من سليمان بن عبد الوهاب إلى الإخوان أحمد بن محمد التويجري وأحمد ومحمد ابنا عثمان بن شبانه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأذكركم ما من الله به علينا وعليكم من معرفة دينه، ومعرفة ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من عنده، وبصرنا من العمى، وأنقذنا من الضلالة. وأذكركم بعد أن جئتمونا في الدرعية من معرفتكم الحق على وجهه، وابتهاجكم وثنائكم على الله تعالى الذي أنقذكم. وهذا دأبكم في سائر مجالسكم عندنا، وكل من جاءنا من المجمعة يثني عليكم والحمد لله على ذلك. وكتبت لكم بعد ذلك كتابين غير هذا أذكركم وأعظكم، ولكن يا إخواني معلومكم ماجرى منا من مخالفة الحق، واتباعنا سبل الشيطان، ومجاهدتنا في الصد عن اتباع سبل الهدى. واليوم معلومكم: لم يبق من أعمارنا إلا اليسير، والأيام معدودة، والأنفاس محسوبة، والمأمول منا أن تقوم لله ونفعل مع الهدى أكثر مما فعلنا مع الضلال، وأن يكون ذلك لله وحده لا شريك له، لا لما سواه لعل الله سبحانه يمحو عنا سيئات ما مضى وسيئات ما بقي. ومعلومكم عظم الجهاد في سبيل الله وما يكفر من الذنوب، وأن الجهاد باليد والقلب واللسان والمال، وتفهمون أجر من هدى الله به رجلاً   (1) الصحيحة أن الشيخ توقف حتى تظهر نتيجة حرب الرياض مع الدرعية. كما توقف غيره. فلما انتهت بالإستيلاء على الرياض ودخول أهلها في الدين، جاء سليمان وغيره من العلماء المتوقفين للمبايعة. ينظر في هذا بحث للدكتور محمد الشويعر باسم الشيخ سليمان بن عبد الوهاب المفترى عليه مجلة البحوث الإسلامية العدد ص 60 ص 255- 300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 واحداً. والمطلوب منكم: أكثر ما تفعلون الآن، وأن تقوموا لله قيام صدق وأن تبينوا للناس الحق على وجهه، وأن تصرحوا لهم تصريحاً بيناً بما كنتم عليه سابقاً من الغي والضلال، فيا إخواني الله الله، فالأمر أعظم من ذلك، فلو خرجنا نجأر إلى الله في الفلوات وعدنا الناس من السفهاء والمجانين في ذلك لما كان بكثير منا. وأنتم رؤساء الدين والدنيا في مكانكم أعز من الشيوخ، والعوام كلهم تبع لكم، فاحمدوا الله على ذلك ولا تتعللوا بشيء من الموانع إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يرى ما يكره، ولكن أرشدكم في ذلك إلى الصبر، كما حكى الله تعالى عن العبد الصالح في وصيته لابنه، فلا أحق من أن تحبوا الله، وتبغضوا لله، وتوالوا لله وتعادوا لله، وترى يعرض في هذا أمور شيطانية، وهي أن من الناس من ينتسب لهذا الدين، وربما يلقى الشيطان، أن هذا ما هو صادق، وأن له ملحوظاً دنيوياً وهذا أمر ما يطلع عليه إلا الله تعالى، فإذا أظهر أحد الخير فاقبلوا منه وولوه، فإذا ظهر من أحد شر وإدبار عن الدين فعادوه واكرهوه، ولو أنه أحب حبيب، وجامع الأمر في هذا أن الله خلقنا لعبادته وحده لا شريك له، ومن رحمته بعث لنا رسولاً يأمرنا بما خلقنا له، ويبين لنا طريقته. وأعظم ما نهانا عنه: الشرك بالله، وأمرنا بعداوة أهله وبغضهم، وتبيين الحق وتبيين الباطل. فمن التزم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أخوك ولو هو أبغض بغيض، ومن تنكب عن الصراط المستقيم فهو عدوك ولو هو ولدك أو أخوك. وهذا شيء أذكركموه، مع أني بحمد الله أعلم أنكم تعلمون ما ذكرت لكم ومع هذا فلا عذر لكم عن التبيين الكامل الذي لا يبقى معه لبس، وأن تذكروا دائماً في مجالسكم ما جرى منا ومنكم، وأن تقوموا مع الحق أكثر من قيامكم مع الباطل. فلا أحق من ذلك، ولا لكم عذر لأن اليوم الدين والدنيا ولله الحمد مجتمعة في ذلك. فتذاكوا ما أنتم فيه أولاً في أمور الدنيا من الخوف والأذى واعتلاء الظلمة والفسقة عليكم، ثم رفع الله ذلك كله بالدين، وجعلكم السادة والقادة ثم أيضاً ما من الله به عليكم من الدين انظروا إلى مسألة واحدة فمما نحن فيه من الجهالة، كون البدو تجري عليهم أحكام الإسلام مع معرفتنا أن الصحابة قاتلوا أهل الردة وأكثرهم متكلمون بالإسلام، ومنهم من أتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 بأركانه. ومع معرفتنا أن من كذب بحرف من القرآن كفر ولو كان عابداً، وأن من استهزأ بالدين أو بشيء منه فهو كافر، وأن من جحد حكماً مجمعاً عليه فهو كافر، إلى غير ذلك من الأحكام المكفرات. وهذا كله مجتمع في البدوى وأزيد. ونجري عليهم أحكام الإسلام اتباعاً لتقليد من قبلنا بلا برهان، فيا إخواني تأملوا تذكروا في هذا الأصل لديكم على ما هو أكثر من ذلك، وأنا أكثرت عليكم الكلام لوثوقي بكم أنكم ما تشكون في شيء فيما تحاذرون، ونصيحتي لكم ولنفسي، والعمدة في هذا أن يصير دأبكم في الليل والنهار أن تجأروا إلى الله أن يعيذكم من أنفسكم وسيئات أعمالكم، وأن يهديكم إلى صراطه المستقيم الذي كان عليه رسله وأنبياؤه وعباده الصالحون. وأن يعيذكم من مضلات الفتن. فالحق وضح وابلَوْلَج، وماذا بعد الحق إلا الضلال، فالله الله. ترى الناس إللي في جهاتكم تبع لكم في الخير والشر فإن فعلتوا ما ذكرت لكم ما قدر أحد من الناس يرميكم بشر، فصرتوا كالأعلام هداة للحيران، فالله سبحانه وتعالى هو المسؤول أن يهدينا وإياكم سبل السلام، والشيخ وعياله وعيالنا طيبين ولله الحمد، ويسلموا عليكم السلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. اللهم اغفر لكاتبه ولوالديه ولذريته، ولمن نظر فيه فدعا له بالمغفرة والمسلمين والمسلمات أجمعين". فأجابوه برسالة ينبغي أن تذكر هنا. ونصها: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين من كاتبيه الفقيرين أحمد التويجري وأحمد بن عثمان وأخيه إلى من من الله علينا وعليه باتباع دينه واقتفاء هدى محمد صلى الله عليه وسلم نبيه وأمينه، الأخ سليمان بن عبد الوهاب زادنا الله وإياه من التقوى والإيمان وأعاذنا وإياه من نزغات الشيطان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعد إبلاغ الشيخ وعياله وعبد الله وإخوانه السلام، وبعد فوصل إلينا نصيحتكم جعلكم الله من الأئمة الذين يهدون بأمره، الداعين إليه وإلى دين نبيه صلى الله عليه وسلم. فنحمد الله الذي فتح علينا وهدانا لدينه، وعدلنا عن الشرك والضلال، وأنقذنا من الباطل والبدع المضلة، وبصرنا بالإسلام الصرف الخالي عن شوائب الشرك. فلقد من الله علينا وعليكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فله الفضل والمنة بما نور لنا من اتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدلنا عن سبيل من ضل بلا برهان. ونسأله أن يتوب علينا وعليكم ويزيدنا من الإيمان. فلقد خضنا فيما مضى بالعدول عن الحق ودحضناه، وارتكبنا الباطل ونصرناه، جهلاً منا وتقليداً لمن قبلنا. فحق علينا أن نقوم مع الحق قيام صدق أكثر مما قمنا مع الباطل على جهلنا وضلالنا. فالمأمول والمبتغى منا ومنكم وجميع إخواننا التبيين الكامل الواضح، لئلا يغتر بأفعالنا الماضية من يقتدي بجهلنا، وأن نتمسك بما اتضح وابلولج من نور الإسلام، وما بين الشيخ رحمه الله تعالى من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم فلقد حاربنا الله ورسوله واتبعنا سبل والضلال. ودعونا إلى سبيل الشيطان، وتنكبنا كتاب الله تعالى وراء ظهورنا جهلاً منا وعداوة، وجاهدنا في الصد عن دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم واتبعنا كل شيطان تقليداً وجهلاً. فلا حول ولا قوة إلا بالله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف، الآية: 23] . {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء، الآية: 87] فالواجب منا لما رزقنا الله تعالى معرفة الحق: أن نقوم معه أكثر وأكثر من قيامنا مع الباطل، ونصرح بالتبيين للناس بأنا كنا على باطل فيما فات، ونقوم له مثنى وفرادى، ونتوكل على الله عسى أن يتوب علينا، ويعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يهدينا سبل السلام، ويجعلنا من الداعين إلى الهدى لا من الدعاة إلى النار. فنحمد الله الذي لا إله إلا هو حيث من علينا بهذا الشيخ في آخر هذا الزمان، وجعله بإذنه وفضله هادياً للتائه الحيران. نسأل الله العظيم أن يمتع به المسلمين ويعيذه من شر كل حاسد وباغ ويبارك في أيامه، وأن يجعل جنة الفردوس مأواه وإيانا، وأن ينفعنا بما بينه. فقلد بين دين نبيه صلى الله عليه وسلم وغم أنف كل جاحد، وصار علماً للحق حين طمس، ومصباحاً للهدى حيث درست أعلامه ونكس، وأطفأ الله به الشرك بعد ظهوره، حتى عبدت الأوثان صرفاً بال رمس. ولم يزل – من الله عليه برضاه – ينادي: أيها الناس هلموا إلى دين نبيكم الذي بعث به إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ثم لم ينقموا منه وعليه إلا أنه يقول: أيها الناس اعبدوا ربكم أو اعطوه حقه الذي خلقكم لأجله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وخلق لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه. إن الله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات، الآية: 56] وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النمل، الآية: 36] وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن، الآية: 18] وقال: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران، الآية: 20] وفسر إسلام الوجه بالقصد في العبادة. فإذا دعا غير الله، أو نذر لغير الله، أو استغاث بغير الله، أو توكل على غير الله، أو التجأ إلى غير الله، فهذه عبادة لمن قصد بذلك. هذا والله الشرك الأكبر، وإنا نشهد بذلك وقمنا مع أهله ثلاثين سنة وعادينا من أمر بتجريد التوحيد العداوة البينة التي ما بعدها عداوة. فالواجب علينا اليوم: نصر الله ودينه وكتابه ورسوله والبراءة من الشرك وأهله وعداوتهم وجهادهم باليد واللسان لعل الله أن يتوب علينا ويرحمنا ويستر مخازينا. وأكبر من هذا: البدو الذين لا يدينون دين الحق، لا يصلون ولا يزكون ولا يورثون، ولا لهم نكاح صحيح، ولا حكم عن الله ورسوله يدينون به صريح، ونقول: هم إخواننا في الإسلام، سبحانك هذا بهتان عظيم، ومكابرة لما جاء به رسول رب العالمين. فنقول: لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل. فإن اختل من هذا شيء لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس. وإن عمل بالتوحيد ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق شر من الكافر. أعاذنا الله وإياكم من الخزي يوم تبلى السرائر، فالواجب علينا وعلى من نصح نفسه: أن يعمل العمل الذي يحصل به فكاك نفسه، وأن يعبد الله ولا يعبد معه غيره، فالعبادة حق الله على العبيد، ليس لأحد فيها شرك، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عن السفلة والشياطين. وحق الله علينا أن نجأر إليه بالليل والنهار والسر والعلانية في الخلوات والفلوات، عسى أن يتوب علينا ويعفو عنا ما فات، ويعيذنا من مضلات الفتن، فالحق بحمد الله وضح وابلولج، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 افتراءات الملحد لأصول الإسلام تماديا في الإنكار على الشيخ والرد عليه ... قال الملحد: "وما ظفر اللعين وأولاده بأحد ممن رد عليهم إلا قتلوه وأفرطوا في قتل العلماء سيما في مدة استيلائهم على الحرمين. وكانوا إذا جاءهم من يريد اتباعهم أمروه بأن يشهد على نفسه وعلى أبويه: أنهم كانوا مشركين، وأن الناس كلهم منذ ستمائة سنة على شرك. ويأمرونه بلعن جماعة من العلماء والأشراف يسمونهم له. فإن فعل قبلوه ولقنوه مذهبهم، وأمروه بإعادة حجه إن كان حج قبلاً، لأنه حج على طريقة المشركين وإن امتنع عن هذه الأمور قتلوه فالقادم عليهم لا يتخلص من الموت إلا بالكفر، ونهبوا الحجرة الشريفة، وأخذوا كل ما فيها، فاستعاد إبراهيم باشا ما وجده عندهم، وأعاده للحجرة، وفقد ما كانوا أعطوه لأتباعهم، وكانوا يتأولون في تكفير المسلمين آيات نزلت في حق المشركين، ويفسرونها لأتباعهم بما ينطبق على مذهبهم. وكانوا يتسترون بالدعوة إلى التوحيد، وما هم منه على شيء، ويدعون الانتساب إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل وهو بريء منهم، ويصرحون بتكفير كل من يخالف مذهبهم، وأن المسلمين كلهم مشركون ويستحلون دم كل مسلم وماله وعرضه، ويصرحون بأن لا إيمان إلا باتباعهم، ولا يتحاشون من الطعن بالرسول عليه الصلاة والسلام بكل بذاءة. ومن قواعد مذهبهم وأصوله التي لا خلاف بين المسلمين بأنها من المكفرات: أولاً: قولهم إن الله أرسل محمداً وأنزل عليه القرآن ليبلغه للناس، وما أذن له بأن يشرع للناس أشياء من عنده. فالدين كله في القرآن وكل ما جاء في الحديث ويسميه المسلمون سنة واجبة فهو باطل، ولا يجوز التعبد والعمل به. ثانياً: قولهم حيث إن محمداً بلغ القرآن ومات. فعند نزول آخر آية من القرآن انتهت رسالة محمد، وسقطت عنه حقوق الرسالة. وهذا معنى تسميته "طارشاً" ومعناه عندهم مرسل جاء برسالة فبلغها وذهب، فلا علاقة للناس فيه والالتفات إليه شرك. ثالثاً: قولهم إن الرسل والأنبياء كسائر الناس لافرق ولا تفاضل بينهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 رابعاً: أقولهم البذيئة في حقه عليه الصلاة والسلام منها قولهم: إن العصا خير من محمد لأنها ينتفع بها ومحمد قد مات، فأي نفع منه؟ ويحظرون الصلاة والتسليم عليه ولو في التشهد ويقولون: إنه شرك بالله، ويقتلون من يتلفظ بها. ومنها قولهم: إن الربابة في بيت الزانية أقل إثماً من الصلاة والتسليم على محمد، وأحرقوا كل ما وقع بيدهم من نسخ دلائل الخيرات والصلوات والأدعية وكتب التفسير والفقه وكتب الأئمة الأربعة وغيرهم، وزعم هؤلاء الكفرة أنهم أخذوا الدين من القرآن العظيم، لكنهم في الحقيقة نبذوه كما نبذوا غيره لأنهم أباحوا لكل إنسان منهم تفسيره بما يريد وأن يعمل بما يفهم منه، وأطلقوا لأتباعهم الإرادة في الحكم بين الناس برأيهم، وحظروا الدعاء بعد الصلاة وقالوا إنه بدعة وقالوا عن الأئمة وأتباعهم إنهم ضلوا وأضلوا، حيث كانت الشريعة واحدة فجعلوها أربعة وفي كل جمعة يقول الخطيب: إن كل من يتوسل بالرسول محمد يكفر، ويتلو قول الله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر، الآية: 3] وكانوا إذا ظفروا بالعائدين من زيارة الرسول عليه الصلاة والسلام يحلقون لحاهم ويركبونهم مقلوبين ويشهرونهم. والخبيث رئيسهم: كان يسند مذهبه وكل ما يدعيه إلى الوحي. ومن مذهبه: القول بالتجسيم للباري جل وعلا، وقرروه في درسهم ولهم مطاعن بالرسل والأنبياء والأولياء تنفر منها النفوس. وفي مدة استيلائهم على الحرمين نبشوا قبور آل البيت والصحابة ودثروها، وقالوا: لا فرق بين الرسل والأنبياء وسائر الناس، بل كل رسول ونبي كسائر الناس" انتهى كلامه. أقول: أوردت كلام هذا الملحد جملة واحدة، لأنه كله زور وبهتان، بل ظلم وعدوان، يراد به الصمد عن سبيل الله والبغي على عباده المؤمنين الداعين إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فإن الملحد لم يسند شيئاً مما نسبه إلى الوهابيين وادعاه عليهم إلى الثقات، ولم ينقله عن كتب العلماء الذين يعتمد عليهم بل كله بهت لا يتصور، وكلام فحش لا يعقل، تشمئز منه نفوس العقلاء وتستنكره وتميل إليه نفوس أهل الباطل من الوثنيين أعداء أهل التوحيد وتنصره. وقد قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود، الآيتان: 18- 19] فول كان عند دحلان إيمان بالله أو تقوى له أو خشية من عذابه أو شيء ولو قليلاً من أدب أهل العلم ما كان يقدم على ما اخترعه من هذا الزور والفجور، ولكنه زنديق يبيع الدين بالدنيا، ويرضى الظلمة من الحكام بغضب رب العالمين، يحلل لهم الحرام ويكفر المسلمين، ويكذب صريح الكتاب والسنة في تكفير أصحاب الجحيم، فهو شيطان رجيم قد اتخذ إلهه هواه، والله تعالى يقول: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية، الآية: 23] وقد ذكرت فيما مضى من ردنا هذا شيئاً عن تاريخ دحلان المظلم، فلا نعيده هنا فلا تأسف لفضيحة هؤلاء الملاحدة المارقين وكشف ما هم عليه من الضلال والمروق من الدين. وأما الناقل لكلام دحلان هذا، والمقلد له في تكفير المسلمين، واستحلال الشرك في عبادة رب العالمين، صاحب هذه الرسالة "الحاج مختار" فإنه مقلد إمعة غارق في ظلمات الجهل والتقليد الأعمى، بل هو فرص من أفراخ زندقة دحلان نعوذ بالله من الخذلان. واعلم أن جملة ما نقله هذا المعترض من كلام دحلان – على كثرته – فإنه خبيث كما وصفه العالم الجليل المحدث محمد بشير الهندي في كتابه "صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان" فإنه لما ساق كلام دحلان هذا بعينه، قال أقول: الجواب على هذه الأقوال كلها أنها – على طولها وكثرتها – كاذبة خبيثة، فلا تعجبك كثرة الخبيث. فأما جوابنا نحن عن خرافاته هذه: فما كان منها له أصل قد شوهه المعترض بالتحريف والكذب، فسأكشف عن وجه الحقيقة ما غشاها من تلبيس المعترض الملحد وما تعمده من البهت وقلب الحقائق. وأما ما كان منها من هذر المجانين ووحي الشياطين فإنه لا يستحق رداً فجوابنا عنه "سبحانك هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 بهتان عظيم" كما أجاب به من نسب إليه. فاسمع إذاً ما يقوله شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابنه الشيخ عبد الله، رحمهما الله في ردهم على هذه الخرافات. قال الشيخ محمد رحمه الله في رسالة أرسلها إلى عالم بغداد الشيخ عبد الرحمن السويدي رحمه الله تعالى، ذكر له فيها عقيدته وما يدعو الناس إليه من إخلاص العبادة لله تعالى، ذكر له فيها عقيدته وما يدعو الناس إليه من إخلاص العبادة لله تعالى، وإنكار ما فشل في الناس من أمر الشرك من دعاء الأموات والالتجاء إليهم من دون الله تعالى، قال: فقام بسبب هذه الدعوة من عارضنا في ذلك وافترى علينا الكذب – إلى أن قال رحمه الله تعالى – وأيضاً: فإني ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا وشرب المسكرات وأنواع المنكرات. فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه، لكونه مستحسناً عند العوام فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد، وأنهى عنه من الشرك ولبسوا على العوام: أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس، وكبرت الفتنة جداً، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله، منها: إشاعة البهتان بما يستحي العاقل أن يحكيه، فضلاً عن أن يفتريه ومنها ما ذكرتم: أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني، وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، ويا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟ هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون؟ وكذلك قولهم: إنه يقول: لو أقدر أهدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لهدمتها. وأما دلائل الخيرات فله سبب وذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله تعالى ويظن أن القراءة فيها أجل من قراءة القرآن، , وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان فهذا من البهتان. والحاصل: أن ما ذكر عنا من الأسباب غير دعوة الناس إلى التوحيد والنهي عن الشرك فكله من البهتان وهذا لو خفي على غيركم فلا يخفى عليكم. ثم أطال الشيخ في تقرير الحقيقة. وقال الشيخ رحمه الله تعالى في رسالة أرسلها جواباً لعبد الله بن سحيم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ولا يخفاك أن المسائل التي ذكرت أنها بلغتكم في كتاب من العارض، جملتها أربع وعشرون مسألة بعضها حق، وبعضها بهتان وكذب – إلى أن قال – إذا تبين هذا، فالمسائل التي شنع بها: ففيها ما هو البهتان الظاهر، وهي قوله: "إني مبطل كتب المذاهب" وقوله: "إني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء". وقوله: "إني أدعي الاجتهاد" وقوله: "إني خارج عن التقليد" وقوله: "إني أقول إن اختلاف العلماء نقمة" وقوله: "إني أكفر من توسل بالصالحين" وقوله: "إني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق" وقوله: "إني أقول: لو أقدر على هدم حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها، وجعلت لها ميزاباً من خشب" وقوله: "إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم " وقوله: "إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم، وإني أكفر من يحلف بغير الله" فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم. ولكن قبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم ويسب الصالحين، وتشابهت قلوبهم، وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة وعيسى وعزيراً في النار. فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء، الآية: 101] ، انتهى. وقال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله في رسالة له: وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق، بأنا نقرأ القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا من دون مراجعة شروح، ولا نعول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: "النبي رمة في قبره، وعصى أحدنا أنفع منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل عليه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد، الآية: 19] مع كون الآية مدينة، وأنا لا نعتمد أقواله، ونتلف مؤلفات أهل المذاهب لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق، ومن بعد الست المائة، إلا من هو على ما نحن عليه. ومن فروع: ذلك أنا لا نقبل بيعة أحد حتى نقرر عليه بأنه كان مشركاً، وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله، وأنا ننهى عن زيارة النبي، ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقاً، وأن من دان بما نحن عليه سقط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 عنه جميع التبعات حتى الديون، وأنا لا نرى حقاً لأهل البيت رضوان الله عليهم، وأنا نجبر على تزويج غير الكفء لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح على مرافعة لدينا ولا وجه لذلك – فجميع هذه الخرافات وأشباهها جوابنا عنها في كل مسألة منها: سبحانك هذا بهتان عظيم. فمن روى عنا شيئاً من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى ومن شاهد حالنا ورأى مجلسنا وتحقق ما عندنا علم قطعاً أن جميع ذلك وضعه علينا جماهير أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان لإخلاص التوحيد لله بالعبادة. فإنا نعتقد أن من فعل أنواعاً من الكبائر، كالقتل للمسلم بغير حق، والزنا والربا وشرب الخمر، وتكرر ذلك منه: لا يخرج بفعل ذلك عن دائرة الإسلام ولا يخلد في دار الانتقام، إذا كان موحداً لله في جميع أنواع العبادة. والذي نعتقده في مرتبة نبينا صلى الله عليه وسلم أعلا مراتب المخلوقات على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة مستقرة أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام من يسلم عليه وتسن زيارته إلا أن هلا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس. ومن أنفق نفيس أوقاته في الاشتغال بالصلاة عليه الواردة عنه صلى الله عليه وسلم، فقد فاز بسعادة الدارين وكفي همه كما جاء في الحديث. انتهى ما نقلته من كلام الشيخ محمد وابنه الشيخ عبد الله في تكذيبهم لهذه الخرافات التي أوردها هذا المعترض الملحد، مختصراً عن الإطالة. ثم إني متكلم على باقي خرافاته التي له فيها بعض الشبهة، بسبب تحريفه لها، وتعمده الكذب. فأما قول المعترض: "وما ظفر اللعين وأولاده بأحد ممن رد عليهم إلى قتلوه، وأفرطوا في قتل العلماء، سيما في مدة استيلائهم على الحرمين". أقول: أما إطلاق هذا الزنديق اللعن على الشيخ وأولاده: فحسابه على الله. واللعن راجع لمستحقه والله تعالى ينتقم من أعدائه لأوليائه وقد تقدم الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 على جراءة هذا الزنديق في إطلاقه اللعن على علماء الدين المحققين له الداعين إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وأما قول الملحد: "إنهم يقتلون من يرد عليهم – إلى أخره". فإن هذا من أظهر الكذب والزور. فإنهم – بحمد الله – لم يسفكوا في الحرمين دماً إلا دم ما أحل الله من بهيمة الأنعام، ولم يقتلوا أحداً ممن رد عليهم ولم يدخلوا الحرمين في حالة حرب، إنما دخلوهما في حال صلح وأمان. وقد تقدم فيما نقلته من تاريخ الإمام الجبرتي ومن تاريخ محمود فهمي المصري ما يكذب دعوة هذا المفتري، فراجعه. فإن فيه البيان الكافي لدحض أكاذيب هذا الملحد. وقد كتب الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى، رسالة بعد دخولهم مكة المشرفة، نوردها هنا. قال رحمه الله تعالى: وبعد، فأنا معشر الموحدين لما من الله علينا – وله الحمد – بدخول مكة المشرفة نصف النهار ثامن شهر محرم الحرام سنة ألف ومائتين وثمانية عشر من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد أن طلب شريف مكة وعلماؤها وكافة العامة من أمير الغزو سعود حماه الله الأمان وقد كانوا تواطأوا – أمراء الحجيج وأمير مكة – على قتاله والإقامة في الحرم ليصدوه عن البيت. فلما رجعت أجناد الموحدين ألقى الله الرعب في قلوبهم فتفرقوا شذر مذر، كل واحد يعد الإياب غنيمة، وبذل الأمير حينئذ الأمان لمن بالحرم الشريف، فدخلناه وشعارنا التلبية، محلقين رؤوسنا ومقصرين غير خائفين من المخلوقين، بل من مالك يوم الدين. ومن حين دخل الجند الحرم وهم على كثرتهم مضبوطون متأدبون، لم يعضدوا بها شجرة، ولم ينفروا صيداً، ولم يريقوا دماً، إلا دم هدي أو ما أحله الله من بهيمة الأنعام على الوجه المشروع. ولما تمت عمرتنا جمعنا الناس ضحوة الأحد وعرض الأمير عافاه الله تعالى على العلماء ما يطلب من الناس ويقاتلهم عليه وهو إخلاص التوحيد لله وحده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وعرفناهم: أنا لم يكن بيننا وبينهم خلاف له وقع إلا في الدعاء، وتحقيق معنى الشرك الذي قاتل عليه الناس نبينا صلى الله عليه وسلم، واستمر دعاؤه برهة من الزمان بعد النبوة على ذلك التوحيد وترك الإشراك قبل أن يفرض عليه باقي أركان الإسلام. والأمر الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي لم يبق منهما إلا اسمهما، وانمحى أثرهما ورسمهما. فوافقونا على ما نحن عليه جملة وتفصيلاً، وبايعوا ذلك الأمير على الكتاب والسنة، وقبل منهم وعفا عنهم كافة، ولمن يحصل لهم أدنى مشقة، ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق، فيقررهم حال اجتماعهم، وحال انفرادهم، لدينا أدلة على ما نحن عليه، ويطلب منهم المناصحة والمذاكرة، وبينا لهم الحق وعرفناهم، بان صرح لهم الأمير حال اجتماعهم: بأنا قابلون ما وضح من كتاب وسنة أو أثر عن السلف الصالح، كالخلفاء الراشدين المأمورين باتباعهم، بقوله عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" أو عرف عن الأئمة الأربعة المجتهدين ومن تلقى العلم عنهم إلى آخر القرن الثالث لقوله عليه الصلاة والسلام: "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" وعرفناهم أنا دائرون مع الحق أينما دار، وتابعون الدليل الجلي الواضح، ولا نبالي حينئذ بمخالفة من سبق عليه من قبلنا، فلم ينقموا علينا أمراً، فألححنا عليهم في مسألة طلب الحاجات من الأموات إن بقي لهم شبهة أو شبهتان، فرددناها بالدلائل القاطعة من الكتاب والسنة، حتى أذعنوا ولم يبق عند أحد منهم شك ولا ارتياب: أن ما قاتلنا الناس عليه أنه هو الحق الجلي الذي لا غبار عليه وحلفوا لنا اليمين المعقدة من دون استحلاف لهم على انشراح صدورهم وجزم ضمائرهم وبأنه لم يبق لديهم شك فيمن قال: "يا رسول الله" أو "يا ابن عباس" أو "يا عبد القادر" أو غيرهم من المخلوقين، طالباً بذلك دفع شر أو جلب خير، من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تبارك وتعالى، من شفاء مريض، أو النصر على العدو، أو الحفظ من المكروه ونحو ذلك أنه شرك أكبر، مهدر دمه مبيح ماله، وإن كان الفاعل باعتقاده: أن المؤثر في تصريف الكون هو الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 تعالى، لكنه يعبد المخلوقين بالدعاء مستشفعاً بهم أو متقرباً بهم، لتقضى حاجته من الله بسرهم وشفاعتهم له في أيام البرزخ، وأن ما وضع على قبور الصالحين من البناء بأسماء صارت في هذه الأزمان أصناماً تعبد لطلب الدعاء، ويتضرع عندها ويهتف بأسماء أهلها في الشدائد، كما كانت تفعله الجاهلية الأولى وكان من جملتهم: عبد الملك القلقي مفتي الحنفية، وحسين المغربي مفتي المالكية، وعقيل بن عمر، ويحيى العلوي ومحمود السني وغيرهم من الأعيان. فعند ذلك أزلنا جميع ما يعبد بالتعظيم والاعتقاد ومن النفع والضر بسببه من جميع القبور، حتى لم يبق في تلك البقعة الطاهرة طاغوت والحمد لله على ذلك. ثم رفعت المكوس وكسرت آلات التنباك، ونودي بتحريمه وأحرقت أماكن الحشاشين والمشهورين بالفجور، ونودي بالمواظبة على الصلوات في الجماعات، وعدم التفرق في ذلك، بأن يجتمعوا في كل صلاة مع إمام واحد يكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأربعة رضوان الله عليهم، واجتمعت الألفة وسقطت الكلفة واستقل الأمر من دون سفك دم، ولا هتك عرض، ولا مشقة على أحد والحمد لله رب العالمين. انتهى. وبهذا وبما أوردناه سابقاً عن الإمام الجبرتي، والمؤرخ العالم المنصف محمود فهمي رحمهما الله تعالى، وهما من علماء مصر ومن أعرف الناس بهذه الحوادث وأقربهم إليها، ولم يذكر ما زعمه الملحد من قتل الوهابيين للعلماء أو غيرهم بالحرم الشريف، فبهذا يعلم كذب هذا المفتري جازاه الله بعدله. وأما قوله: "ونبهوا الحجرة الشريفة، وأخذوا كل ما فيها ... إلى آخره". فأقول: في كلام هذا الملحد إنه ضلال وتضليل، وتدليس على الجهال، وصد عن سواء السبيل، حيث أراد به المعترض التشنيع على الوهابيين، بأنهم نهبوا ما في حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ما على قبره الشريف من المجوهرات ومن آنية الذهب والفضة، لأنها وضعت في هذا المحل الشريف لأجل تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وأن إخراج شيء من هذه السحوت أو كلها من حجرته صلى الله عليه وسلم، أو من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 على قبره الشريف مخالف للشرع وغض من شرف المصطفى عليه الصلاة والسلام، فهذا زعم باطل مخالف لأمر الله ورسوله، وما شرعه لأمته صلى الله عليه وسلم. والجواب عليه من وجوه: الوجه الأول: أن الدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أمراً ونهياً، وما خالف أمر الله ورسوله أو زاد فيه أو نقص فهو مردود على صاحبه كما ورد ذلك في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ومن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن ما وضع على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو في حجرته الشريفة من هذه المجوهرات والآنية الذهبية وما معها من هذه السحوت الدنسة التي جمعت من حلال وحرام أو من حلال خالص مخالف لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليس هو مما يحبه الله ورسوله، بل هو من الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم وحذر أمته منه، ولعن من فعله من الأمم قبلنا تحذيراً لنا أن نسلك مسالكهم في الغلو في القبور وأهلها، فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك ولا التابعين لهم بإحسان من القرون المفضلة ولو كان خيراً لسبقونا إليه، أفنقول عنهم: إنهم قصروا في تعظيم نبيهم صلى الله عليه وسلم فلم يزينوا قبره ويجعلوه وحجرته الشريفة غنيين بالكنوز من مجوهرات وغيرها؟ وقد فتح الله عليهم كنوز الدنيا شرقاً وغرباً ببركة هذا النبي الكريم والدين القويم؟ أم نقول: إنه غلبهم الشح والجهل على تقديرهم لنبيهم حتى تركوا قبره الشريف وحجرته المباركة مجردين من هذه الكنوز الثمينة؟ أم ترى أنهم قد امتثلوا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم في النهي عن الغلو في القبور والبناء عليها وتجصيصها والكتابة عليها وإسراجها، وما إلى ذلك من أصناف الغلو فيها وبأصحابها؟ فنحن وكل مؤمن بالله واليوم الآخر لا نشك أن الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم من القرون المفضلة هم الذين عقلوا الدين عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنهم القدوة دون أتباع الشياطين، أمثال دحلان ومن اقتدوا به من الضلال الوثنيين، عباد الأموات وسدنة قبورهم، قاتلهم الله أني يؤفكون. وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عهنا: "أن أم سلمة رضي الله عنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وذكرت له ما رأت فيها من الصور فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" وقد كان مبدأ هذا الغلو في الصالحين بعد موتهم في قوم نوح عليه السلام كما ذكره الله في كتابه العزيز قال الله تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح، الآيات: 21-23] " كانوا قوماً صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقطون المطر، فعبدوهم، ثم عبدتهم العرب". ذكره المفسرون عن ابن عباس وغيره من السلف، وروى ابن جرير بإسناده عن منصور عن مجاهد: "أفرأيتم اللات والعزى؟ قال: كان يلت لهم السويق"وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان يلت السويق للحاج" قال ابن القيم رحمه الله: فقد رأيت أن سبب عبادة يغوث ويعوق ونسراً واللات: إنما كانت من تعظيم قبورهم، ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وقال شيخنا: وهذه هي العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور، انتهى. فقد تبين مما سقناه في هذا الوجه: أن سبب عبادة الأولياء والصالحين هو الغلو في قبورهم، ولذلك نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولعن فاعله. الوجه الثاني: إن وضع هذا الحطام في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم أو على قبره الشريف، مخالف لما أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا والتجافي عنها تحقيراً لشأنها وترغيباً لنبيه صلى الله عليه وسلم فيما لديه من النعيم المقيم، ومخالف لسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام في ذم الدنيا والزهد فيها، والرغبة فيما عند الله تعالى امتثالاً لأمره وإيماناً بصدق وعده قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر، الآيات: 87-88] قال ابن جرير: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تتمنين يا محمد ما جعلنا من زينة هذه الدنيا متاعاً للأغنياء من قومك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر يتمتعون فيها، فإن من ورائهم عذاباً غليظاً، ولا تحزن على ما متعوا به، فعجل لهم فإن لك في الآخرة ما هو خير منه مع الذي قد عجلنا لك في الدنيا من الكرامة بإعطائنا السبع المثاني والقرآن العظيم. وقال أيضاً عند قوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف، الآية:20] الآية. قال: قال ابن زيد في قول الله عز وجل: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} [الأحقاف، الآية:20] إلى آخر الآية ثم قرأ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود، الآية:15] الآية، وقرأ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى، الآية:20] ، وقرأ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} [الإسراء، الآية:18] الآية، وقال: هؤلاء الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، انتهى. وقال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف، الآيات:33-35] وفي معنى هذه الآيات: مما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في ذم الدنيا والزهد فيها ما أخرجه الترمذي وصححه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء" وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "مالي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح عنها وتركها" وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا شاة ولا درهماً ولا بعيراً، ولقد مات وما في بيته شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رق" وقال صلى الله عليه وسلم: "إني قد عرض علي ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا يا ربي، أجوع يوماً وأشبع يوماً فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذي اشبع فيها فأحمدك وأثني عليك" أخرجه أحمد والترمذي عن أبي أمامه وفي حديث آخر: "أن جبريل عليه السلام نزل عليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فقال: إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: أتحب أن أجعل لك هذه الجبال ذهباً، وتكون معك حيثما كنت؟ فأطرق ساعة، ثم قال: يا جبريل، إن الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له" أخرجه البيهقي في الشعب عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً. وعن عائشة رضي الله عنا: "إن كنا آل محمد لنمكث شهراً ما نستوقد ناراً، إن هو إلا التمر والماء" وأخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعاً من خبز، حتى مضى لسبيله، ولو شاء لأعطاه الله ما لا يخطر ببال" فهذا قليل مما ورد عن الله تعالى وعن رسول صلى الله عليه وسلم في ذم الدنيا وتحقيرها، والحث على الزهد فيها. وقد عرض الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجعل له بطحاء مكة وجبالها ذهباً وأن يسيرها معه حيث شاء، فأباها، فما معنى وضع هذا الحطام في حجرته أو على قبره الشريف، وقد جفا الدنيا وحطامها في حال حياته؟ فكيف بعد مماته وقد أفضى إلى رحمة ورضوان بل إلى مقعد صدق في أعلى الجنان؟ وقد علمت وعيد من يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، أفلا يستحي واضعو هذه السحوت الدنيوية التي جمعت من حلال وحرام أن يدنسوا بها حجرة أشرف الأولين والآخرين، ويعلو بها قبر سيد المرسلين وقد كرهها وابتعد عنها في حال حياته وقد حرم على رجال أمته التحلي بها واستعمال آنية الذهب والفضة ولبس الحرير. فما يرجوه هؤلاء الجهلة الذين يهدون هذه الأعراض الدنيوية إلى حجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلى قبره الشريف وهو صلى الله عليه وسلم قد كرهها وأباها في حال حياته؟ لقد باء هؤلاء الجهلة بغضب الله تعالى وغضب رسوله صلى الله عليه وسلم في مخالفتهم لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. الوجه الثالث: أن ما وضع في حجرة المصطفى من هذه الإغراض الدنيوية إن كان على طريق احترام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه مما يحبه الله ورسوله فما قدمناه في الوجهين قبل هذا يبطل هذه الدعوى وإن كان وضعه على وجه الصدقة لجيران رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه مدخر لحاجتهم ومعد لفاقتهم، فقد وصلت إليه يد الخيانة وعبث فيه قبل أن تصل إليه يد الوهابي، كما ذكر ذلك العلامة محمود فهمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المهندس في تاريخه قال: وفي أثناء حصار الوهابي المدينة سلب حاكمها القسم الأعظم من خزائن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، خصوصاً الأواني الذهبية وكان حاكمها في هذا الوقت شخص اسمه حسن الخلجي، زاعماً خلاصها من هذا الهول الأعظم، لكنه فرقها على أصدقائه ومحبيه. انتهى. فأما الوهابي فإنه مع ما يعتقده من مخالفة وضع هذه الإغراض في هذا المحل الشريف لأمر الله ورسوله، فإنه لم يقدم على إخراج ما وجده منها إلى بفتاوى أهل العلم من سكان المدينة المنورة ووضع خطوطهم بذلك. وحاصل ما كتب في هذه الفتاوى: أن هذه الأموال وضعت توسعة لأهل المدينة وصدقة على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أرصدت لحاجتهم وأعدت لفاقتهم، ولا حاجة برسول الله صلى الله عليه وسلم إليها وإلى اكتنازها وادخارها في حال حياته، فضلاً عن حال مماته. وقد تعطلت أسباب أهل المدينة ومرتباتهم بمنع الحاج في تلك السنة فأخرجت تلك الأموال لما وصف من الحال باطلاع وكيل الحرم وغيره من أعيان المدينة وعلمائها. وإذا كان الأمر كذلك فما هذا التشنيع في حق الوهابيين، وإيهام من لا يعرف الحقيقة بأن الوهابيين أقدموا على ما فيها هتك لحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم واستحلال ما حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ وحاشاهم من ذلك، بل الوهابيون هم الذين يحترمون الرسول عليه الصلاة والسلام باتباعه وامتثال أمره وإقامة شريعته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحقيق التوحيد وهدم أسباب الشرك. ولكن دحلان وأتباعه أعماهم الهوى عن الهدى، فلجوا في طغيانهم يعمهون فقلبوا الحقائق وغمطوا الحق، وأظهروا الباطل. ولكن الله حافظ دينه وناصر أولياءه فلا يعدم الحق ناصراً. فقد قال الإمام الجبرتي في تاريخه – لما ذكر أشياء من المنكرات عن عسكر طوسون – قال رحمه الله تعالى: ولما وصلوا بدراً، واستولوا عليها وعلى القرى والخيوف، وبها خيار الناس وبها أهل العلم والصلحاء نهبوهم وأخذوا نسائهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم. فكانوا يفعلون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فيهم ويبيعونهم من بعضهم لبعض. وقولون: هؤلاء الكفار الخوارج، حتى اتفق أن بعض أهل بدر الصلحاء طلب من بعض العسكر زوجته فقال له: حتى تبيت معي هذه الليلة وأعطيها لك من الغد. انتهى. وقال العلامة محمود فهمي في تاريخه – لما ذكر حصار المصريين للمدينة المنورة – قال: فسلط عليها المصريون نيران مدافعهم ونهبوا المدينة في الحال اهـ. فأين دحلان من هذا؟ فلو كان من أهل العلم لخاطبناه بالخيانة لله تعالى فيما أخذه على أهل العلم من بيان الحق وعدم كتمانه، ولكنه زنديق قد اتخذ إلهه هواه {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام، الآية: 132] . وأما قوله: "وكانوا يتأولون في تكفير المسلمين آيات نزلت في حق المشركين". فأقول: وهذا أيضاً من تلبيس هذا الملحد على الجهال الذين لا يعرفون الحقائق. فالشيخ محمد رحمه الله تعالى وأتباعه لم يكفروا المسلمين ولم يتأولوا في تكفيرهم آيات نزلت في حق المشركين، إنما الخطأ والتأويل الباطل في تسمية المعترض عباد القبور مسلمين. فأما الشيخ وأتباعه فإنهم لم يكفروا إلى من كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بنص التنزيل، كالمؤلهين لغير الله من المخلوقين بدعائهم ورجائهم والتوكل عليهم، وتفويض جميع أمورهم إليهم قولاً واعتقاداً، والراضين بذلك، المكفرين من يأمرهم بما أمر الله به من التوحيد، وينهاهم عما نهى الله عنه من الشرك، وكالجاحدين من الدين ما علم بالضرورة أنه منه، عملياً كان أو اعتقادياً. فالشيخ رحمه الله تعالى وأتباعه يجاهدون على ذلك كله وعلى تقويم أركان الإسلام كما جاهد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بأمر الله تعالى له بذلك في كتابه العزيز، ويستدلون بالآيات التي نزلت في حق المشركين على من عمل مثل عملهم، وإن ادعى أنهم من المسلمين كما ادعاه هذا الملحد وسمى عباد القبور "مسلمين" مع ما هم عليه من الغلو في الأولياء والصالحين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وغيرهم من الأموات الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فضلاً عن غيرهم فإنهم يحبونهم مع الله محبة تأليه وخضوع ويدعونهم ويرجونهم مع الله في المهمات والملمات والحوادث التي لا يكشفها ولا يجيب الدعاء فيها إلا فاطر الأرض والسموات. فقول هذا الملحد: "إنهم يتأولون في تكفير المسلمين آيات نزلت في حق المشركين" محض جهل وضلال، وتغيير للحقائق بقلب مسمياتها، فالمشرك مشرك شاء أم أبى، وعليه ينطبق ما توعد الله به أمثاله من المشركين قبله. فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب المجمع عليه عند علماء الأصول مما لا مجال للخلاف فيه. فإن القرآن العظيم كما نزل لأهل زمانه فإنه نزل لكافة الناس إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ، الآية:28] وقال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة، الآية:3] ونحو ذلك من الآيات. فإن كان الأمر على ما زعمه هذا الملحد وأمثاله فينبغي أن يقتصر في حكم القرآن على المهاجرين والأنصار من المؤمنين وأهل الكتاب واليهود والنصارى والمشركين من العرب. فإن من يقول: نزلت آية كذا في كذا يقول في لفظ "يا أيها الذين آمنوا" في القرآن لأهل المدينة. ولفظ "يا أيها الناس" لأهل مكة، وغير ذلك مما يعتبر به المورد. وهذا لا يقوله مسلم ولكن هذا الملحد وأشياعه من أئمة الضلال يزعمون أن آيات الكتاب العزيز نزلت في حق أناس كانوا فبانوا، وليس يقع بعدهم شرك في هذه الأمة. وقصدهم بذلك إبطال العمل بنصوص الكتاب والسنة، وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف، الآية:5] قال البيضاوي: أنكر أن يكون أحد أضل من المشركين، حيث تركوا عبادة السميع المجيب القادر إلى من لا يستجيب لهم لو سمع دعاءهم، فضلاً أن يعلم سرائرهم، ويراعي مصالحهم إلى يوم القيامة ما دامت الدنيا وهم عن دعائهم غافلون، لأنهم إما جمادات وإما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم. انتهى. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتأخذن أمتي مأخذ القرون، شبراً بشبر وذرعاً بذراع. قالوا: فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلا إولئك؟ " وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "نهى عن التشبه بالأعاجم، وقال: من تشبه بقوم فهو منهم" ذكره القاضي أبو يعلى. وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمة علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين، كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي". وفي رواية أحمد وأبي داود عن معاوية: "ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة" وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والحاكم – وصححه – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثال وسبعين فرقة" وزاد في رواية: "كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة". هذا، والأدلة الدالة من الكتاب والسنة على أن هذه الأمة تسلك مسالك الأمم قبلها أشهر من أن تذكر، ولا تخفى إلى على من أعمى الله قلبه عن الحق، فغلب عليه الهوى، كهذا المعترض الملحد الذي يريد تعطيل أحكام الشريعة المحمدية، حيث يقول: إن القرآن نزل في حق أناس كانوا فبانوا. فلا تطبق أحكامه على من جاؤوا من بعدهم ممن سلك سبيلهم على خير أو شر إلى يوم القيامة. لذلك يقول هذا الملحد: "إن الوهابيين يستدلون على تكفير المسلمين بآيات نزلت في حق المشركين" فلا يجوز عند المعترض الملحد الاستدلال بها على إخوانهم من المشركين عبد الأوثان في هذا الزمان. وقد فاق شركهم شرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 المشركين الذين قبلهم، ولكن هذا الملحد يسميهم "مسلمين" على مذهبه الباطل. نسأل الله الثبات على الإيمان. وأما قول المعترض الملحد: "ومن قواعد مذهبهم وأصوله التي لا خلاف بين المسلمين بأنها من المكفرات، أولاً: قولهم إن الله أرسل محمداً وأنزل عليه القرآن ليبلغه للناس، وما أذن له بأن يشرع للناس شيئاً من عنده. فالدين كله في القرآن وكل ما جاء في الحديث ويسميه المسلمون سنة واجبة فهو باطل، ولا يجوز التعبد والعمل به". فأقول: في كلام هذا الملحد ما ينادي على جهله وضلاله، ووخيم تناقضه الفاحش، وأنه أجنبي عن دين الإسلام، بل دخيل عليه. فالجواب على هذا المعترض الملحد في مقامين: المقام الأول: هو أن المعترض قد أقر بأن من قواعد مذهب الوهابيين وأصوله الإيمان بأن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن ليبلغه للناس وما أذن له بأن يشرع للناس أشياء من عنده. فالدين كله في القرآن. وهذا هو الشطر الأول من كلام المعترض وقد أورده على وجه الإنكار على الوهابيين. فتبين أن المعترض ينكر أن الله تعالى أرسل محمداً، وأنزل عليه القرآن ليبلغه للناس، وما أذن له أن يشرع للناس أشياء من عنده، وأن الدين كله في القرآن. ويزعم المعترض: أنه لا خلاف بين المسلمين في كفر من اعتقد هذا، ونحن نعوذ بالله من هؤلاء المسلمين الذين يوافقون هذا الملحد على ما قاله عنهم، ولا نظن أن مسلماً يسلم لهذا الملحد ما ادعاه عليهم. والدليل على ضلال هذا الملحد من كتاب الله تعالى، قول الله جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيرا} [الأحزاب، الآيتان:45-46] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة، الآية: 67] وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل، الآية:44] وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً} [النحل: الآية:89] إلى غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ذلك من الآيات الدالة على أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ وبيان ما أنزل إليه من ربه. وأما الدليل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يشرع للناس أشياء من عنده، وأن الدين كله في القرآن فقول الله جل ثناؤه: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف، الآية: 43] وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف، الآية: 110] وقاله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة، الآيات: 44 – 46] وقوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود، الآية: 49] الآية. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى، الآية: 52] وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء، الآية: 113] وقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة، الآية: 151] وقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران، الآية: 164] وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة، الآية: 2 -3] و"الحكمة" هي السنة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه" إلى آخر الحديث بطوله. رواه أبو داود. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه في الرسالة على قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب، الآية: 34] فذكر الله الكتاب، وهو القرآن، وذكر "الحكمة" فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرن يقول: "الحكمة" سنة رسول الله. وهذا يشبه ما قال والله أعلم. لأن "القرآن" ذكر وأتبعته "الحكمة" وذكر الله منة على خلقه بتعليمهم الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 والحكمة، فلم يجز والله أعلم أن يقال "الحكمة" هاهنا إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله وأن الله افترض طاعة رسوله وحتم على الناس اتباع أمره. انتهى. وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَىإِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم، الآيتان: 3- 4] وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء، الآية: 65] . فهذا الذي سقناه من الآيات يدل دلالة قاطعة على أمر الله تعالى لجميع الخلق باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم أمراً مطلقاً، وأن من رد شيئاً مما جاء به صلى الله عليه وسلم فهو ممن قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة، الآية: 85] الآية. فالدين كله في القرآن وهو الذي أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وهو الذي أخبرنا بأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فإن كان في نفس المعترض شك مما دلت عليه هذه الآيات، أو أن لها تأويلاً غير ما دل عليه ظاهرها فلا يبعد عليه، فإنه من المحرفين لكتاب الله تعالى، فقد تبين ضلاله. وأما أن كان يقر بما دلت عليه هذه الآيات، من أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن ليبلغه ويبينه للناس، وما أمره أن يشرع للناس أشياء من عنده، وأنا الدين كله في القرآن، وأن هذا من أصول مذهب الوهابيين وأن اعتراضه على الوهابيين محصور في قوله "وكل ما جاء في الحديث" إلى آخر كلامه، فهذا هو المطلوب، وعليه ينبني الجواب عن قوله: "وكل ما جاء في الحديث، ويسميه المسلمون سنة واجبة، فهو باطل ولا يجوز التعبد والعمل به " وهو المقام الثاني من جوابنا على ما افتراه هذا الملحد. فقد ظهر تناقضه، وبان كذبه. فكيف يتفق الإيمان بالله وبكتابه وبرسوله وأن الدين كله في كتابه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم مع رد سنة رسوله التي هي "الحكمة" والبيان للقرآن بنص التنزيل، وأنها باطلة لا يجوز التعبد بها؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أصل مذهب الوهابيين من القرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام ... فنحن الوهابيون نحمد الله: أن هدانا إلى الحق، فأصل مذهبنا وقواعده كلها في القرآن، ومنه أخذناها، وبه تلقينا سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالقبول، وحكمناها على كل قول سواها، فأطعناه واتبعنا أمره، تصديقاً وانقياداً لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر، الآية: 7] وقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء، الآية: 7] وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة، الآية: 92] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال، الآية: 24] وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال، الآية: 46] وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور، الآية: 56] وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور، الآية: 54] وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح، الآية: 17] وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد، الآية: 33] وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب، الآية: 71] وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور، الآية: 63] وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور، الآية: 52] وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء، الآية: 69] وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [التغابن، الآية: 12] إلى غير ذلك من الآيات في القرآن كثير يأمر جل ثناؤه فيها بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واتّباعه، أمراً مطلقاً لم يقيده بشيء، كما أمرنا باتباع كتابه العزيز الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت، الآية: 42] فمن لم يعمل بما صح من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويتلقاها بالقبول التام لاستقلالها بتشريع الأحكام وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام فقد كذب القرآن ولم يؤمن بأن الله أرسل محمداً وأنزل عليه القرآن ليبلغه وبينه للناس. وبهذا يتبين فساد ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 افتراه هذا الملحد على الوهابيين في هذا البهت الشنيع. وحيث انتهيت من تحليل هذه المفتريات وهدمها، ودللت على تناقضه المصادم لنصوص كتاب الله العزيز، وأن ما افتراه على الوهابيين لا ينطبق على حقيقة ولا يقبله العاقل، ناسب أن أزيد هذا المقام بياناً بذكر شيء من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وبيان تجريده الاتباع لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقيامه بالدعوة، وصبره على الأذى فيها، وأنها هي سبب عداوة أعداء الدين له، أمثال: دحلان ومن قلده. كصاحب هذه الرسالة التي نحن بصدد الرد عليها. قال العلامة المؤرخ الشيخ حسين بن غنام في تاريخه: "روضة الأفكار والأفهام"تتمة. قد بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في بعض رسائله: "التقليد الممنوع والمأذون فيه والمباح" فقال" وأما القول في التقليد واتباع الدليل فإن الله سبحانه فرض علينا فرضين الأول: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وترك ما خالفه في كل شيء، وأن الإنسان ما يؤمن حتى يحكمه فيما شجر بينه وبين غيره. والفرض الثاني: أن الله فرض علينا في كل مسألة تنازعنا فيها أن نردها إلى الله وإلى الرسول وخاطب بهذا جميع المؤمنين، المجتهد وغيره، ولكن نقول الواجب عليك تقوى الله ما استطعت. وذلك أن تطلب علم ما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة على قدر فهمك، فما عرفت من ذلك فاعمل به، وما لم تعرفه واحتجت فيه إلى تقليد أهل العلم قلدتهم، وما أجمعوا عليه فهو حق، وما تنازعوا فيه فرده إلى الله والرسول. وأما أخذ الإنسان ما اشتهرت نفسه ووجد عليه آباءه، وترك ما خالفه من كلام أهل العلم فهذا هو الضلال الذي ذكرنا والأدلة على هذا من كلام أهل العلم أكثر من أن تحصر منها: ما ذكر ابن رجب رحمه الله تعالى في الطبقات في ترجمة ابن هبيرة. قال مما أنكره على بعض من يفتي في عصره، قال: وتارة إذا ذكرت لأحدهم الدليل قال: ليس هذا مذهبنا، فيقيم أوثاناً تعبد مع الله تعالى قال: وقال في حاشية المنتقى في كتاب القضاء: من قلد إماماً ثم خالفه لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم وأنقى أو أورع فقد أحسن – ثم ساق الأدلة من أقول أهل العلم بهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 المعنى، وقد اقتصرت على الشاهد منه خوف الإطالة. انتهى. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في رسالة كتبها إلى عبد الله بن عبد اللطيف الإحسائي، قال فيها: وأما ما ذكر لكم عني فإني لم آته بجهالة بل أقول – ولله الحمد والمنة، وبه القوة – إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين ولست ولله الحمد أدعوا إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم، مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير رحمهم الله تعالى، بل أدعوا إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أن لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد لله وملائكته وجميع خلقه أني إن أتاني منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون وأتباعهم والأئمة كالشافعي وأحمد وأمثالهما ممن أجمع أهل الحق على هدايتهم، وكذلك ما درج عليه من سبقت له من الله الحسنى من أتباعهم، وغير خاف عليكم ما أحدث الناس في دينهم من الحوادث، وما خالفوا فيه طريق سلفهم، انتهى الشاهد منها. وقال الشيخ رحمه الله تعالى – وقد سئل عن مسائل – فأجاب: اعلم أرشدك الله تعالى أن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى الذي هو العلم ودين الحق الذي هو العمل الصالح ولما كان من الأمم قبلنا منهم من يتعانى العلم والفقه ويصول به كالفقهاء، ومنهم من يتعانى العبادة وطلب الآخرة كالصوفية، فقد بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بهاذا الدين الجامع للنوعين. ومن أعظم ما امتن الله به على أمته أن أعطاه جوامع الكلم فيذكر الله في كتابه كلمة واحدة تكون قاعدة جامعة، يدخل تحتها من المسائل ما لا يحصى، وكذلك يتكلم رسوله صلى الله عليه وسلم بالكلمة الجامعة فمن فهم هذه المسألة فهماً جيداً فهم قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة، الآية: 3] . وهذه الكلمة أيضاً من جوامع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الكلم، إذ الكامل لا يحتاج إلى زيادة فعلم منها بطلان كل محدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما أوصانا بقوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" وفهم أيضاً معنى قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء، الآية: 59] فإذا كان الله سبحانه وتعالى أوجب علينا أن نرد ما تنازعنا فيه إلى الله – أي إلى كتابه – وإلى الرسول – أي إلى سنته – علمنا قطعاً أن من رد إلى الكتاب والسنة ما تنازع الناس فيه وجد فيهما ما يفصل النزاع، وهذه الكلمات يسيرة تحتج إلى بسط طويل، وتشير إلى حظ جليل وإنما قدمتها لأن من عرفها انجلى عنه إشكالات كثيرة في مسائل لا تحصر، انتهى. وقال الشيخ رحمه الله تعالى في رسالة أرسلها إلى عبد الله بن سحيم: من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن سحيم. وبعد، فقد أتانا مكتوبكم وما ذكرت فيه من ذكرك ما بلغك عنا، ولا يخفاك أن المسائل التي ذكرت أنها بلغتكم في كتاب من العارض جملتها أربعة وعشرون مسألة، بعض حق، وبعض بهتان وكذب. وقبل الكلام فيها لا بد من تقديم أصل، وذلك أن أهل العلم إذا اختلفوا والجهال إذا تنازعوا ومثلي ومثلكم إذا اختلفنا في مسألة: هل الواجب اتباع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم، أو الواجب اتباع عادة أهل الزمان التي أدركنا الناس عليها، ولو خالفت ما ذكره العلماء في جميع كتبهم؟ وإنما ذكرت هذا – ولو كان واضحاً – لأن بعض المسائل التي ذكرت: أنا قلتها، لكن هي موافقة لما ذكره العلماء في كتبهم – الحنابلة وغيرهم – ولكن هي مخالفة لعادة الناس التي نشأوا عليها فأنكرها علي من أنكرها لأجل مخالفة العادة. وإلا فقد رأوا تلك المسائل في كتبهم عياناً، وأقروا بها وشهدوا أن كلامي هو الحق. لكن أصابهم ما أصاب الذين قال الله فيهم: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة، الآية: 89] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 انتهى ما لزم نقله من كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وبيان ما هو عليه من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولزوم سنته، والتحاكم إليها، وإلى كتاب الله تعالى في كل دقيق وجليل، وكفى بذلك فضيحة لهذا الملحد المفتري وأمثاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 افتراء الملحد عليهم في الصفات والرد عليه ... وأما قول هذا الملحد الجهمي: "ومن مذهبهم: القول بالتجسيم للباري جل وعلا، وقرروه في دروسهم". فأقول: أجمل هذا الملحد فريته، فلم يذكر وجه هذا التجسيم الذي قرره الوهابيون في دروسهم مفصلاً، كما زعمه، وقصده في هذا التدليس: إخفاء مذهبه الباطل، فهو جهمي معطل، ويعني بالتجسيم إثبات صفات الباري جل وعلا، كما هي واردة في الكتاب والسنة وكما عليه سلف الأمة، من الإيمان بالله وربما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى، الآية: 11] فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسمائه وآياته، ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه، لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفء ولا ند، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص، الآيات: 1 – 4] . فأما هؤلاء المبتدعة من الجهمية والمعتزلة، ومن قابلهم في بدعتهم من المجسمة أمثال هذا الملحد فإنهم فهموا مما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم التشبيه والتجسيم، ثم شرعوا في رد الكتاب والسنة بالتأويلات المستنكرة والتحريفات المزورة وضلوا ضلالين لأنهم شبهوا أولاً ثم عطلوا ثانياً. وأما السلف الصالح ومن تبعهم من الخلف: فمسلكهم مسلك بين مسلكين وهدى بين ضلالين، أثبتوا بغير تشبيه ولا تمثيل ونزهوا بغير تحريف ولا تعطيل، فأنكروا مذهب الجهمية والمعتزلة، وردوا على من قابلهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 المجسمة والممثلة. فالأولون كالجهم والجعد والمريسي ومن تبعهم من أئمة التعطيل، والآخرون كمحمد بن كرام وهشام بن الحكم وهشام بن الجواليقي أئمة التشبيه والتمثيل. وقد حمى الله السلف عن هذين الطريقين، وبرأهم عن مسلك الفريقين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – في سياق كلام له عن هؤلاء المبتدعة-: فإن السلف رضي الله عنهم إذا رأوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات للصفات، قالوا: هذا جهمي معطل. قال: وهذا كثير في كلامهم جداً، فإن الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبتن شيئاً من الصفات مشبهاً، كذباً وافتراء، حتى إن منهم من غلا حتى رمى بعض الأنبياء بالتشبيه، وهو ثمامة بن الأشرس من رؤساء الجهمية، وحتى إن أكثر المعتزلة يدخل عامة الأئمة في قسم التشبيه، مثل الإمام مالك وأصحابه، والثوري وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وإسحاق بن راهوية وأبي عبيد وغيرهم. وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءاً سماه "تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة" ذكر أنه صحيح على رأيه الفاسد، كما أن المشركين كانوا يلقبون النبي صلى الله عليه وسلم بألقاب افتروها، فالروافض تسميهم "نواصب" والقدرية تسميهم "مجبرة" والمرجئة تسميهم "شكاكا" والجهمية تسميهم "مشبهة" وأهل الكلام يسمونهم "حشوية، ونوابت، وغثاء، وغثرا" إلى أمثال ذلك، كما كانت قريش تسمي الرسول صلى الله عليه وسلم تارة مجنوناً، وتارة شاعراً، وتارة كاهناً، وتارة مفترياً، قالوا: وهذه علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة. فإن السنة هي مات كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، اعتقاداً واقتصاداً قولاً وعملاً، فكما أن المنحرفين عنه يسمونه بأسماء مذمومة مكذوبة فكذلك التابعون له على بصيرة لا بد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصاً، فيذمونهم بأسماء مكذوبة، انتهى. وقال الإمام الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد التيمي الشافعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 صاحب الترغيب والترهيب وشرح الصحيحين وغيرهما- وقد سئل عن صفات الرب جل وعلا – فقال: مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهوية: أن صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم من السمع والبصر، والوجه واليدين، وسائر أوصافه إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور، من غير تكييف يتوهم، ولا تشبيه ولا تأويل. قال سفيان بن عيينة: كل شيء وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره، أي على ظاهره ولا يجوز صرفه إلى المجاز بنوع من التأويل. انتهى. إذا تبين هذا، فاعلم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وأتباعه مذهبهم في صفات الله تعالى مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين ومن تبعهم، مثل هؤلاء الأئمة الذين ذكرهم الحافظ أبو القاسم، لا يخالفونهم في شيء من هذه العقيدة، وكلام الشيخ محمد رحمه الله تعالى في تحقيق عقيدة السلف الصالح في جميع مصنفاته: أشهر من أن يذكر فمن نسب إليه وإلى أتباعه قولاً أو مذهباً خلاف ما عليه هؤلاء الأئمة – الذين ذكرهم الحافظ أبو القاسم – فقد افترى عليهم وسيجزيه الله تعالى بما توعد به من أمثاله من المفترين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الوهابيون لم ينبشوا القبور بل سووها اتباعا لسنة الرسول عليه السلام ... وأما قول المعترض: "وفي مدة تسلطهم على الحرمين نبشوا قبور آل البيت والصحابة ودثروها". فأقول: دلس الملحد، وحاد عن الحقيقة، فإن كان قصده بالنبش والتدثير هو هدم القباب التي كانت على القبور، فقد دلس بذلك ليخفي مصادمته لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهدم البناء على القبور، وخص قبور آل البيت والصحابة لتضخيم الوهم على الجهال الذين لا يعلمون أن الأمة متساوية في أحكام الدين من حلال وحرام، لا ميزة في ذلك لرفيع فمن دونه. ولما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء، الآية: 214] قال صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضي الله عنها: "يا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فاطمة، أنقذي نفسك من النار، لا أغني عنك من الله شيئاً" فالمعترض ينكر ما يثبت من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في هدم البناء على القبور ويشنع بالباطل على من أطاعه واتبع أمره ويفتري على الوهابيين الكذب بأنهم يقولون: "كل ما جاء في الحديث ويسميه المسلمون سنة واجبة فهو باطل، ولا يجوز العمل به" أليس أيها الملحد هدم البناء على القبور من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه أمر بهدمها؟ قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي رضي الله عنه: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه". قال: حدثنا هارون بن سعيد الأيلي قال: حدثنا ابن وهب قال حدثني عمرو بن الحارث أن ثمامة ابن شفي حدثه قال: "كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بن عبيد بقبره يسوى، فسوي. ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها" وقال الترمذي: باب ما جاء في تسوية القبور: حدثنا محمد بن بشار – وساق بسنده – عن أبي وائل أن علياً رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته". قال: وفي الباب عن جابر، وقال ابن ماجة: باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها، حدثنا أزهر بن مروان – وساق بسنده عن جابر رضي الله عنه – قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور" حدثنا عبد الله بن سعيد – بسنده – عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب على القبر شيء" حدثنا محمد بن يحيى – بسنده – إلى أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يبنى على القبر" وقال أبو عيسى الترمذي أيضاً: باب ما جاء في التجصيص والكتابة عليها. حدثنا عبد الرحمن بن الأسود – وساق بسنده – عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ" هذا حديث حسن صحيح. وقال أبو داود: باب البناء على القبور. قال: حدثني أبو الزبير: أنه سمع جابراً يقول: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد على القبر، وأن يجصص، وأن يبنى عليه" قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: قال الشافعي رحمه الله تعالى: رأيت الأئمة في مكة يأمرون بهدم ما بني. ويؤيد الهدم قوله: "ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" وقال الأذرعي رحمه الله في قوت المحتاج: ثبت في صحيح مسلم النهي عن التجصيص والبناء على القبور. وفي الترمذي وغيره: النهي عن الكتابة. قال القاضي عياض: ولا يجوز أن يبنى عليها قباب ولا غيرها. والوصية عليه باطلة. وقال الأذرعي رحمه الله: ولا يبعد الجزم بالتحريم في ملكه وغيره من غير حاجة على من علم النهي، بل هو القياس الحق. والوجه في البناء على القبور: المباهاة ومضاهاة الجبابرة الكفار والتحريم يثبت من دون ذلك. وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة علي القبور وإنفاق الأموال الكثيرة عليه فلا ريب في تحريمه. والعجب كل العجب ممن يلزم بذلك الورثة من حكام العصر، ويعمل الوصية بذلك! انتهى كلام الأذرعي رحمه الله تعالى. وفي هذا كفاية لدحض شبهات هذا الملحد وأكاذيبه، وبه انتهى الكلام على وقاحة دحلان، ومفترياته التي سقناها جملة واحدة، وفندنا جميع مزاعمه الباطلة بالمعقول والمنقول، الذي لا يبقى معه شبة لطالب الحق وقد ضلل دحلان بأكاذيبه هذه كثيراً من الجهلة الحمقى أمثال هذا الملحد. فانظر ماذا يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 قول الملحد ببطلان مذهب الوهابية لأنه كمذهب الصحابة والتابعين ... قال: "قلت: ترى في أصول هذا المذهب كثيراً من المكفرات بإجماع المسلمين ومخالفتها للنص: الأول: حصر الدين في القرآن العظيم، وجحود ما جاءت به السنة. الثاني: قولهم بسقوط أحكام الرسالة، وانقطاعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الثالث: جعلهم الرسل والأنبياء كسائر الناس والطعن بهم. الرابع: تكفيرهم كل من خالفهم في مذهبهم من المسلمين. الخامس: استبحاة دماء المسلمين عموماً والعلماء خصوصاً وجعل قتلهم من الدين، ولو اطلعت على ما فعلوه مراراً بعلماء الحجاز والزوار، والدماء التي سفكوها في الحرم المكي وفي عرفات لوجدته أعظم وأقبح من أعمال القرامطة والتتر، فأنى لمسلم أن يجمع بين الإسلام وبين عقائد هذا المذهب؟ هل يمكن الجمع بين الكفر والإيمان؟ ". أقول: إن هذا الزنديق قد تمادى في غوايته، فلم يكفه ما نقله عن دحلان مقلداً له بل زاد عليه في قباحته وافترائه الكذب، ففرع على كلام دحلان بكلام أقبح منه وأظلم، فالأصل والفرع ظلمات بعضها فوق بعض، وقد بسطنا الرد على أكاذيبه هذه فيما تقدم بالدلائل التي لا تقبل الجدل، فأغنى عن إعادتها هنا والله تعالى حسبنا ونعم الوكيل. قال الملحد: "فانتبه أيها العاقل الذي أغراك الشيطان على انتسابك أو اعتقادك لمذهب أشد كفراً من الوثنية وأنت لا تعرف من فروعه – فضلاً عن أصوله – شيئاً، بل غاية علمك منه أنه كمذهب الصحابة والتابعين يوسع للمسلم الأخذ من الكتاب والسنة، من دون أن يتقيد بقول إمام أو عالم، وأنت تحسب أنك تحسن صنعاً. فلو هداك الله للوقوف على أصوله وفروعه، وترجمة حال أهله، ونبذ هوى النفس لوجدت نفسك على شفا جرف من الكفر من حيث لا تدري، فإنا لله وإنا إليه راجعون". أقول في كلام هذا الملحد: إنه منكر من القول، ظاهر التناقض والبطلان، فكيف يخاطب بالعاقل: من أغراه الشيطان، فاعتقد بمذهب أشد كفراً من الوثنية أنه كمذهب الصحابة والتابعين يوسع للمسلم الأخذ من الكتاب والسنة من دون أن يتقيد بقول إمام أو عالم؟ وقبل الجوال على مخرقة هذا الملحد نسجل عليه إقراره هذا، ونثبت اعترافه بأن مذهب الصحابة والتابعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 يوسع للمسلم الأخذ من الكتاب والسنة من دون أن يتقيد بقول إمام أو عالم. ثم نقول لهذا الأحمق: إن الوثنيين قد كذبوا بالرسل وقالوا لهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف، الآية: 23] فعبدوا الأموات بسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وأشركوهم في عبادة الله تعالى، فاطر الأرض والسموات، تقليداً لآبائهم ومشايخ ضلالهم، كافرين بالكتاب والسنة وبمن جاء بهما. كذلك حال من قلدوهم في أعمالهم الشركية، وإن ادعوا الإسلام فإنهم من الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض. أما الصحابة رضي الله عنهم فقد آمنوا بنبيهم فاتبعوه وصدقوه فيما جاء به من كتاب ربهم العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، قرآن عربي غير ذي عوج، وسنة مطهرة جاء بها من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وهو صلى الله عليه وسلم أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء، وقد أعطاه الله تعالى جوامع الكلم، فلا يستحق الإمامة على الحقيقة غيره صلى الله عليه وسلم، وقد اتبعهم التابعون على سلوك هذا الصراط المستقيم فكيف يلتبس على عاقل الفرق بين مذهب الصحابة والتابعين وبين مذهب هو أشد كفراً من الوثنية؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. فما لهؤلاء الملحدين لا يفقهون حديثاً؟ أمثال المقلد الأعمى "الحاج مختار" الذي جعل التوسع بالأخذ من الكتاب والسنة من دون تقليد بقول إمام أو عالم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهل من قلدهم يكون أشد كفراً من الوثنيين؟ بل ما يقول فيمن جاءوا من بعدهم من أئمة المسلمين المجتهدين وغيرهم من الذين لم يدعوا الاجتهاد المطلق، ولكنهم لم يتقيدوا بقول إمام أو عالم، بل إن الله تعالى أعطاهم عقولاً وفهماً في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واستعانوا أيضاً على فهمهما بكلام أئمة المفسرين، وأئمة أهل الحديث وبكلام فقهاء الأمة، حيث اجتمع عندهم ما لم يجتمع لمن سبقهم من تدوين جميع علوم الكتاب والسنة مصححة منقحة، لا يزيغ عنها إلا هالك؟ أفترى هذا الملحد يقول عمن ذكرنا: إنهم وثنيون أو ملفقون؟ أو يزيد على ذلك – كما هو مذهبه الباطل من القول على الله بغير علم – والطعن في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فقد قال: "إن استخراج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الأحكام من نصوص الكتاب والسنة متعذر بعد بعد الأئمة الأربعة وأنه لا يجوز الرد إلى الكتاب والسنة" وهذا نص كلامه في هذه الرسالة الضالة. قال: "الوجه الثالث: أن الكتاب والسنة فيهما الناسخ والمنسوخ، وهذا منه المنسوخ من الكتاب بالكتاب. ومنه المنسوخ من الكتاب بالسنة، ومنه المنسوخ من السنة بالسنة، وهذه الأقسام أوسع أسباب الاختلاف بين الصحابة والتابعين والأئمة، وفيهما العام والخاص، والمقيد والمطلق، والمجمل والمفصل، والظاهر والمضمر إلى آخره. فهذه كلها أحاط الأئمة الأربعة وأصحابهم بأطرافها، وما تركوا فيها زيادة لمستزيد حال كون أئمة الحديث ما تعرضوا لشيء منها البتة، بل سردوا الأحاديث سرداً في أبوابها على علاتها فإذا وجدتم حديثاً في البخاري أو غيره في مسألة ومثله في موطأ مالك مثلاً، أحدهما فيه تشديد والثاني فيه ترخيص، فأنى لكم معرفة الناسخ، فترجحوه على المنسوخ؟ وهكذا في سائر الأقسام التي تتوقف صحة الحكم على معرفتها، وأنتم لا تجدون في كتب الحديث بياناً ولا إشارة تهديكم إلى الصواب. أيجوز لكم الترجيح بمجرد الظن والترخص؟ فهذه زندقة لا إسلامية – إلى أن قال – وأما قولكم: إنكم ما خرجتم عن الإجماع فهذا هو المغالطة، لأننا بينما كنا نباحثكم عن إجماع الفقهاء والتعبد والتعامل التجأتم إلى الإجماع على كتب الحديث، ومع هذا فأخبرونا: متى أجمعت الأمة على التعبد والتعامل بصحيح البخاري أو غيره؟ وأي عالم أفتى في حكم البخاري أو غيره؟ ". انتهى كلام الملحد بحروفه، فهل بعد هذا محادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وطعن في كتابه تعالى وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي حملتها من أهل الحديث؟ وهل حمل هذا الملحد على تكفيره لخلاصة الموحدين من أهل نجد، وجعل مذهبهم أشد كفراً من الوثنية إلا ما ذكره عنهم من الأخذ بالكتاب والسنة واتباع الصحابة والتابعين من دون أن يتقيدوا بقول إمام أو عالم؟ هذا على زعمهم الباطل وإلا فإنهم في الفروع: على مذهب الإمام أحمد متقيدين به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وبعد، فهل الواجب على المكلفين أن يتقيدوا بقول إمام أو عالم، أم بقول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم؟ والله تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً} [النحل، الآية: 89] وهذا الملحد يقول: إن في الكتاب والسنة الناسخ والمنسوخ – إلى آخر ما قال. ثم يقول: إن هذه الأقسام هو أوسع أسباب الاختلاف بين الصحابة والتابعين والأئمة، وأن كتب الحديث ليس فيها بيان ولا إشارة تهدي إلى الصواب ونحن نقول: سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم. وقد تقدم الكلام في بيان مذهب الوهابيين وبيان أصوله وفروعه بما أغنى عن إعادته هنا. قال المعترض: "ولنرجع إلى المقصود من هذه الرسالة وبالله الاستعانة". فأقول: قد أتى المعترض في أول رسالته هذه على مسائل زعمها من أصول الدين وقد تمادى في الخوض فيها من غير تحقيق لها ولا بحث أو تدقيق عن وجه الحق فيها مع أن في عدم التثبت فيها مزلة أقدام، قد تفضي بصاحبها إلى المروق من الإسلام، وذلك بأن يرتكب أموراً تناقض أصل الإسلام مع زعمه أنه من المحافظين عليه. وشر هذه الأمور أن يتخذ العبد إلهه هواه ثم يعتمد على جهله وتقليده لساداته وكبرائه من أهل الضلال، الداعين إلى سبل الشيطان، المفضية بسالكها إلى ارتكاب الشرك والبدع في دين الله تعالى والدعوة إليها، ومعاداة حزب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتكفيرهم، ورميهم بما هم براء منه بمجرد الزور والبهتان، كما عليه هذا الملحد صاحب هذه الرسالة وشيخه دحلان. فإن الملحد قد افتتح رسالته هذه في أول صحيفة منها في مناقشة علماء أهل السنة والجماعة المعاصرين له، كالشيخ الإمام محمد عبده بمصر، والشيخ العلامة جمال الدين القاسمي بالشام، والإمام الجليل الشيخ محمود شكري الألوسي في بغداد وأتباعهم من أهل السنة والجماعة. وقد تغالى هذا الملحد في هذه المناقشة التي وجهها إليهم، حيث أخرجهم من الإسلام، وختم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 مناقشته لهم بأن قال لهم: "إن مذهبكم مشابه لمذهب الوهابيين" وهو الذي يقول فيه المعترض: "إسلام ووهابية لا يجتمعان" ثم شرع يبين لهم مذهب الوهابيين فيما نقله عن دحلان في تكفيره لأهل نجد، الذين يسميهم بالوهابيين وهم من خيار المسلمين وصفوة الموحدين فقد كفرهم هذا الملحد من غيرما برهان إلا ما قلد فيه دحلان سالكاً هذا المسلك الوخيم في تكفيره للمسلمين وكأن هذا الذي بدا منه في حق من رماهم بالكفر لغو من القول، لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، وإنما جاء به تمهيداً لمقصود رسالته الضالة. وهو بحث الاجتهاد مع أنه لا يحسن البحث ولا غيره بل هو جهول مخلط متناقض وقد جاريناه في ردنا هذا، على ما بنا من مضض في متابعته على تخليطه وتكرير خزعبلاته وسوء تعبيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ادعاؤه أن الوهابيين ينكرون الإجماع ودحض مفترياته ... قال المعترض: "المسألة الأولى في الاجتهاد قد تبين لك فيما تقدم أن من أصول الوهابيين إباحة التعبد بالاجتهاد بشرط الاستنباط من القرآن العظيم وإنكار الإجماع الذي اتخذه علماؤنا أصلاً من الأصول التي تنبني عليها الأحكام، وحيث إن هذا الأصل من أصول مذهب دعاة الاجتهاد في هذا الزمان، فإيضاحاً لفساد قولهم هذا أتكلم إن شاء الله عن كل فرع منه على حدة". فأقول: في كلام هذا الأحمق الجهول من الخلط وسوء التعبير ما هو اللائق بحماقته وجهله، فأما ما نسبه هنا إلى الوهابيين من الكذب فقد تقدم رده قريباً بما شفى وكفى من بيان الحق ورد الباطل. وأما قوله: "إن الوهابيين ينكرون الإجماع وأن إنكار الإجماع أصل من أصول مذهب دعاة الاجتهاد في هذا الزمان" ويعني بهم من ذكرنا أسماءهم آنفاً من الأئمة، فهذا كذب من المعترض عليهم. ونحن لا ننكر الإجماع، ومذهبنا فيه مذهب إمامنا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وإنما ننكر الإجماع الذي يزعمه المقلدون المحرفون. وهو الذي لا يستند إلى كتاب الله وسنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 نبيه صلى الله عليه وسلم وما لم تتفق جميع أئمة المسلمين المقتدى بهم على صحته، وقد قال الإمام الشيرازي الشافعي في كتابه "اللمع في أصول الفقه" باب ذكر ما ينعقد به الإجماع وما جعل حجة فيه. اعلم: أن الإجماع لا ينعقد إلا عن دليل، فإذا رأينا إجماعهم على حكم علمنا أن هناك دليلاً جمعهم سواء عرفنا ذلك الدليل أو لم نعرفه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة: فنشير إلى ما يدل على صحة الإجماع فنقول: أولاً ما من حكم اجتمعت الأمة عليه إلا وقد دل عليه النص فالإجماع دليل على نص موجود معلوم عند الأئمة، ليس مما درس علمه والناس قد اختلفوا في جواز الإجماع عن اجتهاد، ونحن نجوز أن يكون بعض المجتهدين قال عن اجتهاد، ولكن لا يكون النص خافياً على جميع المجتهدين. وما من حكم يعلم أن فيه إجماعاً إلا وفي الأمة من يعلم أن فيه نصاً وحينئذ: فالإجماع دليل على النص. انتهى. قال المعترض: "الفصل الأول في الإجماع قال في متممات التعريف: الإجماع اتفاق المجتهدين من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر على حكم شرعي، والمراد بالاتفاق: الاشتراك في القول أو الفعل" انتهى. أقول: ليس في تعريف الإجماع لغة واصطلاحاً ما يدعونا إلى الرد على المعترض، وإنما الغرض: بيان حقيقة الإجماع الذي يضلل المخالف فيه، لا ما يدعيه هذا الملحد من الإجماع الفاسد، وتضليله الأئمة القائلين باستحالة وقوع الإجماع بعد إجماع الصحابة رضي الله عنهم، ولو اهتدى المعترض بما ذكره من تعريف الإجماع لكفاه، ولكنه منحرف عن الحقائق متعلق بمجرد الأسماء، وسنبين ذلك قريباً إن شاء الله تعالى. وقد عرف الإجماع علماء الأصول، فقال الإمام المجتهد محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في كتابه "إرشاد الفحول" – بعد أن عرف الإجماع لغة – قال: وأما في الاصطلاح: فهو اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عصر من الأعصار على أمر من الأمور، والمراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 بالاتفاق: الاشتراك، إما في الاعتقاد أو في القول أو في الفعل. ويخرج بقوله: "مجتهدي أمة محمد" اتفاق العوام. فإنه لا عبرة بوفاقهم ولا بخلافهم، ويخرج منه أيضاً اتفاق بعض المجتهدين، وبالإضافة إلى "أمة محمد صلى الله عليه وسلم" اتفاق الأمم السالفة، ويخرج بقوله: "بعد وفاته" الإجماع في عصره، فإنه لا اعتبار به، ويخرج بقوله: "في عصر من الأعصار" ما يتوهم أن المراد بالمجتهدين جميع مجتهدي الأمة في جميع الأعصار إلى يوم القيامة، فإن هذا توهم باطل، لأنه يؤدي إلى عدم ثبات الإجماع. إذ لا إجماع قبل يوم القيامة، وبعد يوم القيامة لا حاجة للإجماع، فالمراد "بالعصر" عصر من كان من أهل الاجتهاد في الوقت الذي حدثت فيه المسألة فلا يعتد بمن صار مجتهداً بعد حدوثها، وإن كان المجتهدون فيها أحياء. وقوله: "على أمر من الأمور" يتناول الشرعيات، والعقليات، والعرفيات، واللغويات. ومن اشترط في حجية الإجماع: انقراض عصر المجتهدين المتفقين على ذلك الأمر زاد في الحد قيد "الانقراض" ومن اشترط عدم سبق خلاف مستقر زاد في الحد "عدم كونه مسبوقاً بخلاف" ومن اشترط عدالة المتفقين لا بلوغهم عدد التواتر زاد في الحد ما يفيد ذلك. ثم قال: البحث الثاني في إمكان الإجماع في نفسه، فقال قوم منهم النظام وبعض الشيعة: بإحالة إمكان الإجماع، قالوا: إن اتفاقهم على الحكم الواحد الذي لا يكون معلوماً بالضرورة محال، كما أن اتفاقهم على الحكم الواحد الذي لا يكون معلوماً بالضرورة محال، كما أن اتفاقهم في الساعة الواحدة على المأكول الواحد، والتكلم بالكلمة الواحدة، محال. وأجيب بأن الاتفاق إنما يمتنع فيما يستوي فيه الاحتمال، كالمأكول المعين، والكلمة العينة. أما عند الرجحان بقيام الدلالة والأمارة الظاهرة فذلك غير ممتنع، وذلك كإتفاق الجمع العظيم على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا، ثانياً: إن اتفاقهم فرع عن تساويهم في نقل الحكم إليهم، وانتشارهم في الأقطار يمنع نقل الحكم إليهم. وأجيب بمنع كون الانتشار يمنع ذلك مع جدهم في الطلب وبحثهم عن الأدلة. وإنما يمتنع ذلك على من قعد في قعر بيته لا يبحث ولا يطلب. قالوا، ثالثاً: الاتفاق إما عن قاطع أو ظني. وكلاهما باطل. أما القاطع: فلأن العادة تحيل عدم نقله فلو كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 لنقل فلما لم ينقل: علم أنه لم يوجد. كيف؟ لو نقل لأغنى عن الإجماع. وأما الظني: فلأنه يمتنع الاتفاق عادة لاختلاف الأفهام وتباين الأنظار. وأجيب بمنع ما ذكر في القاطع إذ قد يستغنى عن نقله بحصول الإجماع الذي هو أقوى منه. وأما الظني: فقد يكون جلياً لا تختلف فيه الأفهام، ولا تتباين فيه الأنظار. فهذا – أعني منع إمكان الإجماع في نفسه – هو المقام الأول. والمقام الثاني – على تقدير تسليم إمكانه في نفسه – منع إمكان العلم به. فقالوا: لا طريق لنا إلى العلم بحصوله، لأن العلم بالأشياء: إما أن يكون وجدانياً، أو لا يكون وجدانياً. أما الوجداني: فكما يجد أحدنا من نفسه، من جوعه، وعطشه، ولذته، وألمه. ولا شك أن العلم باتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس من هذا الباب. وأما الذي لا يكون وجدانياً: فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفته لا مجال للعقل فيها، إذ كون الشخص الفلاني قال بذلك القول أو لم يقل به: ليس من حكم العقل بالاتفاق. ولا مجال أيضاً للحس فيها لأن الإحساس بكلام الغير لا يكون إلا بعد معرفته. فإذاً العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد منهم، وذلك متعذر قطعاً. ومن ذا الذي يعرف جميع المجتهدين من الأمة في الشرق والغرب وسائر البلاد الإسلامية؟ فإن العمر يفنى دون مجرد البلوغ إلى مكان من الأمكنة التي يسكنها أهل العلم، فضلاً عن اختبار أحوالهم، ومعرفة من هو منهم من أهل الإجماع، ومن لم يكن من أهله، ومعرفة كونه قال بذلك أو لم يقل به، والبحث عمن هو خامل من أهل الاجتهاد بحيث لا يخفى على الناقل فرد من أفرادهم. فإن ذلك قد يخفى على الباحث في المدينة الواحدة فضلاً عن الإقليم الواحد، فضلاً عن جميع الأقاليم التي فيها أهل الإسلام. ومن أنصف من نفسه: علم أنه لا علم عند علماء الشرق بجملة علماء الغرب، والعكس. فضلاً عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل، وبكيفية مذهبه. وبما يقول في تلك المسألة بعينها. وأيضاً قد يحمل بعض من يعتبر في الإجماع على الموافقة وعدم الظهور بالخلاف: التقية، والخوف على نفسه، كما أن ذلك معلوم في كل طائفة من طوائف أهل الإسلام فإنهم قد يعتقدون شيئاً إذا خالفهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فيه مخالف خشي على نفسه من مضرتهم، وعلى تقدير إمكان معرفة ما عند كل واحد من أهل بلد وإجماعهم على أمر، فيمكن أن يرجعوا عنه أو يرجع بعضهم قبل أن يجمع أهل بلد آخر. بل لو فرضنا حتماً إجماع العالم بأسره في موضع واحد، ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة قائلين: قد اتفقنا على الحكم الفلاني فإن هذا – مع امتناعه – لا يفيد العلم بالإجماع، لاحتمال أن يكون بعضهم مخالفاً فيه، وسكت تقية وخوفاً على نفسه. وأما ما قيل: من أنا نعلم بالضرورة اتفاق المسلمين على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن أراد: الاتفاق باطناً وظاهراًن فذلك مما لا سبيل إليه البتة، والعلم بامتناعه ضروري، وإن أراد ظاهراً فقط استناداً إلى الشهرة والاستفاضة. فليس هذا هو المعتبر في الإجماع، بل المعتبر فيه: العلم بما يعتقده كل واحد من المجتهدين في تلك المسألة، بعد معرفة أن لا حامل له على الموافقة، وأنه يدين لله بذلك ظاهراً وباطناً، ولا يمكنه معرفة ذلك منه إلا بعد معرفته بعينه. ومن ادعى أنه يتمكن الناقل للإجماع من معرفة كل من يعتبر فيه من علماء الدنيا، فقد أسرف في الدعوى، وجازف في القول لما قدمنا من تعذر ذلك تعذراً ظاهراً واضحاً ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل فإنه قال: من ادعى وجود الإجماع فهو كاذب. والعجب من اشتداد نكير القاضي أبي بكر على من أنكر تصور وقوع الإجماع عادة، فإن إنكاره على المنكر هو المنكر، وفصل الجويني بين كليات الدين. فلا يمتنع الإجماع عليها، وبين المسائل المظنونة، فلا يتصور الإجماع عليها عادة. ولا وجه لهذا التفصيل. فإن النزاع إنما هو في المسائل التي دليلها الإجماع وكليات الدين معلومة بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة. جعل الأصفهاني الخلاف في غير إجماع الصحابة رضي الله عنهم وقال: الحق تعذر الاطلاع على الإجماع، لا إجماع الصحابة حيث كان المجمعون – وهم العلماء منهم – في قلة. وأما الآن وبعد انتشار الإسلام وكثرة العلماء: فلا مطمع للعلم به. قال وهو اختيار الإمام أحمد مع قرب عهده من الصحابة وقوة حفظه وشدة اطلاعه على الأمور النقلية. قال: والمصنف يعلم أن لا خبرة له من الإجماع إلا ما يجده مكتوباً في الكتب. ومن البين: أنه لا يحصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الاطلاع عليه إلا بإسماع منهم، أو بنقل أهل التواتر إلينا، ولا سبيل إلى ذلك إلا في عصر الصحابة رضي الله عنهم. وأما من بعدهم: فلا – إلى أن قال – البحث السابع: إجماع الصحابة حجة بلا خلاف. ونقل القاضي عبد الوهاب عن قوم من المبتدعة: أن إجماعهم ليس بحجة. وقد ذهب إلى اختصاص حجية الإجماع بإجماع الصحابة رضي الله عنهم داود الظاهري وهو ظاهر كلام ابن حبان في صحيحه وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. فإنه قال في رواية أبي داود عنه: الإجماع أن يتبع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وهو في التابعين مخير. وقال الإمام أبو حنيفة: إذا أجمعت الصحابة على شيء سلمنا وإذا أجمع التابعون زاحمناهم. قال أبو الحسن السهيلي في أدب الجدل: النقل عن داود فيما إذا أجمعوا عن نص كتاب أو سنة، فأما إذا أجمعوا على حكم من جهة القياس فاختلفوا فيه. وقال ابن وهب: ذهب داود وأصحابنا إلى أن الإجماع إنما هو إجماع الصحابة فقط، وهو قول لا يجوز خلافه، لأن الإجماع إنما يكون عن توقيف، والصحابة رضي الله عنهم هم الذين شهدوا التوقيف. فإن قيل: فما تقولون في إجماع من بعدهم؟ قلنا: لا يجوز، لأمرين. أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنبأ عن ذلك فقال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين". الثاني: أن سعة أقطار الأرض وكثرة العدد لا تمكن من ضبط أقوالهم ومن ادعى هذا لا يخفى على أحد كذبه. انتهى. وقال الإمام علي بن حزم رحمه الله في كتابه: "المحلى" مسألة. والإجماع: ما تيقن أن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفوه وقالوا به، ولم يختلف منهم أحد كتيقننا أنهم كلهم رضي الله عنهم صلوا معه عليه الصلاة والسلام الصلوات الخمس كما هي في عدد ركوعها وسجودها، أو علموا أنه صلاها مع الناس كذلك وأنهم كلهم صاموا، وعلموا أنه صام مع الناس رمضان في الحضر، وكذلك سائر الشرائع التي تقبل هذا اليقين، والتي من لم يقل بها لم يكن من المؤمنين. وهذا ما لا يختلف أحد في أنه إجماع. وهم كانوا حينئذ جميع المؤمنين لا مؤمن في الأرض غيرهم. من ادعى أن غير هذا إجماع كلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 البرهان على ما يدعيه، ولا سبيل له إليه. وقال في موضع آخر: ولكن لا سبيل إلى تيقن إجماع جميع أهل عصر بعد الصحابة رضي الله عنهم، لكثرة أعداد الناس بعدهم، ولأنهم طبقوا الأرض ما بين المشرق والمغرب، ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم كذلك بل كانوا عدداً ممكناً حصره وضبطه وضبط أقوالهم في المسألة وبالله التوفيق. وقد قال بعض الناس: يعلم ذلك من حيث رضى أصحاب مالك، وأصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي رحمهم الله بأقوال هؤلاء. قال علي: وهذا خطأ لأنه لا سبيل إلى أن تكون مسألة قال بها أحد هؤلاء الفقهاء إلا وفي أصحابه من يمكن أن يخالفه فيها وإن وافقه في سائر أقواله. انتهى. وقال الإمام أبو عبد الله شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى في "أعلام الموقعين" في الكلام على أصول فتاوى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، قال: ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملاً، ولا رأياً ولا قياساً، ولا قول صاحب، ولا عدم علمه بالمخالف، الذي يسميه كثير من الناس "إجماعاً" ويقدمونه على الحديث الصحيح. وقد كذب أحمد من ادعى هذا الإجماع، ولم يسوغ تقديمه على الحديث الثابت، وكذلك الشافعي رضي الله عنه أيضاً نص في رسالته الجديدة على أن ما لا يعلم فيه خلاف لا يقال إجماع، ولفظه "ما لا يعلم فيه خلاف، فليس إجماعاً" وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، مايدريه ولم ينته إليه؟ فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكنه يقول: لا نعلم الناس اختلفوا ولم يبلغني ذلك هذا لفظه، انتهى. وهذا طرف من كلام بعض الأئمة المقتدى بهم في حقيقة الإجماع، وإنكارهم لما يدعيه هذا المعترض المبتدع وأمثاله من الإجماعات الباطلة. وأما ما نقله المعترض عن ابن نجيم فكقول غيره من غلاة المقلدين. فليس قوله حجة بل ليس له قيمة مع ما قدمنا من أقوال الأئمة كأبي حنيفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من المجتهدين، وما اشتهر عن الأئمة الأربعة رحمهم الله من النهي عن تقليدهم وتقليد غيرهم يكفي في رد قوله وإبطاله، بل يكفي في رده ما نقله المعترض عن الشيخ عبد الغني النابلسي، وعن الشيخ المناوي بعد نقله عن ابن نجيم، حيث يقول: قال الشيخ عبد الغني النابلسي في المقصد الأول من كتابه "خلاصة التحقيق في حكم التقليد والتلفيق" ما نصه: اعلم أن مذاهب السلف من الصحابة والتابعين وتابع التابعين كثيرة لا تكاد تنحصر عدداً وكلها اجتهادات استوفت الشروط، ولا يجوز الطعن في شيء منها. قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي في شرح الجامع الصغير: يجب علينا أن نعتقد أن الأئمة الأربعة والسفيانين، والأوزاعي وداود وإسحاق، وسائر الأئمة على هدى وفي جمع الجوامع وشرح المحلى مثل ذلك. انتهى. هذا ما نقله المعترض بحروفه. وهذا نص صريح في الرد على ابن نجيم فيما نقله عنه المعترض، ودحض لما زعمه من الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة دون غيرهم، فالمعترض حاطب ليل لا يعرف ما له مما عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قول الملحد بعدم جواز تقليد الصحابة والتابعين والرد عليه ... ثم قال المعترض: "قال المناوي في شرح الجامع الصغير: لا يجوز تقليد الصحابة ولا التابعين كما قال إمام الحرمين أيضاً من كل من لم يدون مذهبه فيمتنع تقليد غير الأئمة الأربعة، لأن المذاهب الأربعة: انتشرت وتحررت، بخلاف غيرهم لانقراض أتباعهم" انتهى. أقول: وهذا النقل أيضاً ليس مما نحن فيه من بحث الإجماع، ولكنه قول باطل يتعين علينا رده بالحجة والبراءة منه، فنقول: إذا كان النقل صحيحاً وسالماً من تحريف المعترض وكذبه – لعدم أمانته واحترامه لأهل العلم – فإنا نقابله برده على صاحبه واحتقاره. ومما زادني شكاً في عدم صحة نقله: ما رأيته في كتاب "الرد على من أخلد إلى الأرض" لجلال الدين السيوطي نقلاً عن الطبقات الكبرى للسبكي في ترجمة إمام الحرمين. قال: الإمام لا يتقيد بالأشعري، ولا بالشافعي، وإنما يتكلم على حسب تأدية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 نظره واجتهاده. وقال في موضع آخر: وذكر إمام الحرمين في البرهان: أنه إذا خلا الزمان عن مجتهد صار كزمان الفترة. انتهى. وهذا يخالف ما نسبه الإمام المناوي لإمام الحرمين، بل يكذبه، وهو عدم جواز تقليد الصحابة رضي الله عنهم والتابعين من بعدهم، وإذا كان الخطأ والتناقض جائزاً في حق غير المعصوم صلى الله عليه وسلم فإن كل قول يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مردود على صاحبه. فما زعمه المناوي رد لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام حيث يقول: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ" إلى آخر الحديث. وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم" إلى آخر الحديث. وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم" إلى آخر الحديث، وكيف يجوز تقليد الخلف ولا يجوز تقليد الصحابة الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه ونصرة دينه؟ وقد نزل القرآن بلغتهم، وعلى أسباب عرفوها، وعلى قصص كانوا فيها، فعرفوا منطوقه ومفهومه، ومنصوصه ومعقوله، وقد شرفهم الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فما شاهدوه من أفعاله، وما نقلوه من أقواله أعظم دليل على فضلهم وعلو قدرهم وسبقهم وثبات قدمهم في العلم والفقه الذي لا يطاولهم فيه غيرهم ممن جاءوا بعدهم. وقد رضي الله عنهم ورضوا عنه الذين اتبعوهم بإحسان. قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة، الآية: 100] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 أقوال العلماء في وجوب اتباع الصحابة ... قال الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى في "أعلام الموقعين": وقد استدل الإمام مالك رضي الله عنه بهذه الآية على وجوب اتباع الصحابة رضي الله عنهم. وقال في موضع آخر: قال جعفر الفرياني حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني الهيثم بن جميل قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله "إن عندنا قوماً وضعوا كتباً، يقول أحدهم: حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا وكذا وفلان عن إبراهيم النخعي بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم؟ قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية، كما صح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 عندهم قول إبراهيم، فقال مالك: هؤلاء يستتابون" وقال في موضع آخر: وفي الصحاح من وجوه متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة ضلالة" وروى الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من كان متأسياً فليتأس بأصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قول اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوا آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" انتهى. وقال الإمام ابن القيم أيضاً في "إعلام الموقعين": فصل في جواز الفتوى بالآثار السلفية والفتاوى الصحابية وأنها أولى بالأخذ بها من آراء المتأخرين وفتاويهم، وأن قربها إلى الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وأن فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين، وفتاوى التابعين أولى من فتاوى تابع التابعين. وهلم جراً، وكما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب، وهذا حكم بحسب الجنس، لا بحسب كل فرد فرد من المسائل، كما أن عصر التابعين- وأن كان أفضل من عصر تابعيهم- فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص شخص، ولكن المفضلون في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر المتأخر، وهكذا الصواب في أقوالهم: أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم، فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين، ولعله لا يسع المفتي والحاكم عند الله أن يفتي ويحكم بقول فلان وفلان من المتأخرين من مقلدي الأئمة، ويأخذ برأيه وترجيحه، ويترك الفتوى والحكم بقول البخاري وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن نصر المروزي وأمثالهم، بل يترك قول ابن مبارك والأوزاعي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وحماد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 زيد وحماد بن سلمة وأمثالهم. بل لا يلتفت إلى قول ابن أبي ذئب، والزهري والليث بن سعد وأمثالهم، بل لا يعد قول سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وسالم وعطاء وطاووس وجابر بن زيد وشريح وأبي وائل وجعفر بن محمد وأضرابهم مما يسوغ الأخذ به. بل يرى تقديم قول المتأخرين من أتباع من قلده على فتوى أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبادة بن الصامت وأبي موسى الأشعري وأضرابهم. ما عذره غداً عند الله إذا سوى بين أقوال أولئك وفتاويهم وأقوال هؤلاء وفتاويهم؟ فكيف إذا رجحها عليها؟ فكيف إذا عين الأخذ بها إفتاء ومنع الأخذ بقول الصحابة. واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها وشهد عليه بالبدعة والضلالة ومخالفته أهل العلم، وأنه يكيد الإسلام. تالله لقد أخذ بالمثل المشهور "رمتني بدائها وانسلت" وسمى وراثة الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه هو ومن كساهم أثوابه ورماهم بدائه وكثير من هؤلاء يصرخ ويصيح، ويقول ويعلن أنه يجب على الأمة كلهم الأخذ بقول من قلدناه ديننا. ولا يجوز الأخذ بقول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغير هم من الصحابة رضي الله عنهم. وهذا كلام من أخذ به وتقلده ولأه الله ما تولى، ويجزيه عليه يوم القيامة الجزاء الأوفى، والذي ندين لله به ضد هذا القول، والرد عليه. ثم أخذ الشيخ رحمه الله يتكلم في رد هذا القول. فقدم القول في اختلاف الصحابة رضي الله عنهم، وأن الشق والذي فيه الخلفاء الراشدون أو بعضهم أولى أن يؤخذ به من الشق الآخر ثم بين ما هو من قولهم حجة وإجماعاً وما هو حجة لا إجماعاً. وبعد أن أطال الكلام في ذلك قال: فنقول الكلام في مقامين. أحدهما: في الأدلة الدالة على وجوب اتباع الصحابة رضي الله عنهم. الثاني: الجواب عن شبه النفاة. ثم أورد ستة وأربعين وجهاً من الكتاب والسنة والآثار الدالة دلالة واضحة صريحة على وجوب اتباع الصحابة رضي الله عنهم ونفي كل شبهة أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 اعترض يدلي به المخالف. فجاء رحمه الله تعالى بما شفى وكفى وجلا بنور الحق ظلمة الباطل فهفى. قال الشيخ رحمه الله تعالى في الوجه السادس والأربعين من رد هذا القول: وكيف يطيب قلب عالم يقدم على أقوال من وافق ربه تعالى في غير حكم فقال وأفتى بحضرة الرسول ونزل القرآن بموافقة ما قاله لفظاً ومعنى: قول متأخر بعده، ليس له هذه الرتبة ولا يدانيها؟ وكيف يظن أحد أن الظن المستفاد من آراء المتأخرين أرجح من الظن المستفاد من فتاوى السابقين الأولين، الذين شاهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التأويل؟ وكان الوحي ينزل خلال بيوتهم، وينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم. قال جابر: "والقرآن ينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو يعرف تأويله فما عمل به من شيء عملنا به" في حديث حجة الوداع، فمستندهم في معرفة مراد الرب تعالى من كلامه ما يشاهدونه من فعل رسوله وهديه، الذي يفصل القرآن ويفسره، فكيف يكون أحد من الأمة بعدهم أولى بالصواب منهم في شيء من الأشياء؟ هذا عين المحال. انتهى المراد منه. وقال الأوزاعي: "عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس وإياك ورأي الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول" وعين بقية بن الوليد: قال لي الأوزاعي: "يا بقية، العلم ما جاء عن أصحاب محمد، وما لم يجىء عن أصحاب محمد فليس بعلم". وقال الشعبي: إذا جاءك الخبر عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فضعه علي رأسك، وإذا جاءك عن التابعين فاضرب به أقفيتهم. وقال الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي في كتابه "الاعتصام" في الكلام على حديث افتراق الأمة، وبيان الفرقة الناجية منها، قال: فبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "ما أنا عليه وأصحابي" ووقع ذلك جواباً للسؤال الذي سألوه، إذ قالوا: "من هي يا رسول الله؟ " فأجاب: إن الفرقة الناجية من اتصف بأوصافه عليه السلام، وأوصاف أصحابه وكان ذلك معلوماً عندهم غير مخفي، فاكتفوا به. وربما يحتاج إلى تفسيره بالنسبة إلى من بعدهم في تلك الأزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وحاصل الأمر: أن أصحابه كانوا مقتدين به، مهتدين بهديه، وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم، وأثنى عليهم متبوعهم محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن. فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم، الآية:4] فالقرآن إنما هو المتبوع على الحقيقة وجاءت السنة مبينة له. فالمتبع للسنة متبع للقرآن، والصحابة رضي الله عنهم كانوا أولى الناس بذلك. فكل من اقتدى بهم فهو من الفرقة الناجية الداخلة الجنة بفضل الله، وهو معنى قوله عليه السلام: "ما أنا عليه وأصحابي" فالكتاب والسنة هم الطريق المستقيم، وما سواهما من الإجماع وغيره فناشئ عنهما، هذا هو الوصف الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو معنى ما جاء في الرواية الأخرى من قوله "وهي الجماعة" لأن الجماعة في وقت هذا الإخبار: كانوا على ذلك الوصف. انتهى ما أردت نقله. وفيما أشرت إليه كفاية في بطلان ما زعمه هذا الملحد، وهو عدم جواز تقليد الصحابة رضي الله عنهم فلو أردت استقصاء كلام علماء السلف في إبطال هذه الدعوى لاحتاج ذلك إلى مجلد ضخم. فنسأل الله تعالى أن ينظمنا في سلك {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر، الآية:10] الآية، فإن هذا المعترض الملحد وشيخه دحلان في قلوبهم غل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أئمة أهل الحديث الذين دونوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحفظوها من تلاعب هؤلاء الضلال المبتدعة بها ومن كذبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحريفهم لآيات الكتاب العزيز، كما هي طريقتهم التي لا تخفى على كل من يطلع على ما لفقوه من شبههم الفاسدة. قال المعترض: "فهذا كلام حبر من علماء الظاهر والباطن عن أجلة من علماء الدين، فأنى يؤفك الضالون؟ روى الشعراني في كشف الغمة بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" فنحن أهل السنة والجماعة اعتماداً على ما بلغنا عن رسولنا الذي لا ينطق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 عن الهوى، إن إجماعنا مقبول وحسن عند الله فلا نبالي بمن يخالفه". أقول: يشير المعترض إلى ما نقله عن المناوي من قوله بعدم جواز تقليد الصحابة رضي الله عنهم، وحصر التقليد في المذاهب الأربعة وإسناد هذا القول أيضاً إلى إما الحرمين. فهو حبر من علماء الظاهر والباطن على زعم المعترض، فالمعترض يومي من خالف هذا القول بالإفك والضلال، وقد عرفت بما قدمناه من تفنيدنا لهذا القول بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة الذين يدعي الملحد تقليدهم: بطلان ما زعمه من هذا القول الفاسد، وأن المعترض قد وصف بالضلال هؤلاء الأئمة الذين أنكروا هذا القول كالإمام مالك وغيره رحمهم الله، بل المعترض يرد أمر الرسول، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "وعضوا عليها بالنواجذ" ومع ذلك يزعم أنه من أهل السنة والجماعة هو وشيعته المبتدعة دعاة الضلال، وأن لهم إجماعاً وجماعة وأن من خالفهم فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وهذه طريقة أهل الضلال يتشبعون بما ليس فيهم وتعلقون بالأسماء دون الحقائق. ونحن نشير إلى ما ذكره علماء السلف المحققون في تفسير حديث الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة حتى يتبين بطلان ما يدعيه هذا الملحد. قال الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي في كتاب "الاعتصام" في الكلام على حديث الفرقة الناجية – المسألة السادسة عشرة إن رواية من روى في تفسير الفرقة الناجية – وهي الجماعة – محتاجة إلى التفسير، لأنه إن كان معناه بينا من جهة تفسير الرواية الأخرى وهي قوله: "ما أنا عليه وأصحابي" فمعنى "الجماعة" من حيث المراد به في إطلاق الشرع محتاج إلى التفسير، فقد جاء في أحاديث كثيرة منها الذي نحن في تفسيره ومنها ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شيئاً فمات مات ميتة جاهلية" – وذكر الأحاديث الواردة في ذلك – ثم قال: فاختلف الناس في معنى "الجماعة" المرادة في هذا الحديث على خمسة أقوال – ثم عدها، وأورد حجة كل قائل بقول منها، مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 لا يسعه ردنا هذا – وقد أبرز زبدة ما قيل في هذه الأقوال الخمسة فاكتفينا به من الإطالة. قال رحمه الله تعالى: فهذه خمسة أقوال دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع، وأنهم المرادون بالأحاديث، فلنأخذ ذلك أصلاً. وينبني عليه معنى آخر وهي المسألة السابعة عشرة وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد، سواء ضموا إليهم العوام أم لا، فإن لم يضموهم إليهم فلا إشكال أن الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم، فمن شذ عنهم فمات فميتته جاهلية، وإن ضموا إليهم العوام. فبحكم التبع لأنهم غير عارفين بالشريعة. فلا بد من رجوعهم في دينهم إلى العلماء فإنهم لو تمالأوا على مخالفة العلماء فيما حددوا لهم لكانوا هم الغالب والسواد الأعظم في ظاهر الأمر لقلة العلماء وكثرة الجهال، فلا يقول أحد: إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب، وأن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون في الحديث بل الأمر بالعكس، وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا، والعوام هم المفارقون للجماعة إن خالفوا، فإن وافقوا فهو الواجب عليهم. ومن هنا لما سئل ابن المبارك عن الجماعة الذين يقتدى بهم؟ أجاب بأن قال: "أبو بكر وعمر" قال: فلم يزل يجيب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد، قيل: فهؤلاء ماتوا، فمن الأحياء؟ قال: أبو حمزة السكري، وهو محمد بن ميمون المروزي، فلا يمكن أن يعتبر العوام في هذه المعاني بإطلاق وعلى هذا لو فرضنا خلو الزمان عن مجتهد لم يكن اتباع العوام لأمثالهم، ولا عد سوادهم أنه السواد الأعظم، المنبه عليه في الحديث الذي من خالفه فميتته جاهلية بل يتنزل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين. فالذي يلزم العوام مع وجود المجتهدين هو الذي يلزم أهل الزمان المفروض الخالي عن المجتهدين. وأيضاً فاتباع نظر من لا نظر له، واجتهاد من لا اجتهاد له: محض ضلالة، ورمي في عماية، وهو مقتضى الحديث الصحيح: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً" الحديث. روى أبو نعيم عن محمد بن القاسم الطوسي قال: سمعت إسحاق بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 راهويه – وذك في حديث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة" – فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم. فقال رجل: يا أبا يعقوب، من السواد الأعظم؟ فقال: محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعهم ثم قال: سأل رجل ابن المبارك عن السواد الأعظم فقال: أبو حمزة السكري. ثم قال: إسحاق في ذلك الزمان وفي زماننا محمد بن أسلم ومن تبعه، ثم قال إسحاق: لو سألت الجهال عن السواد الأعظم؟ لقالوا: جماعة الناس. ولا يعلمون أن "الجماعة" عالم متمسك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه، فمن كنا معه وتبعه فهو الجماعة، ثم قال إسحاق: لم أسمع عالماً منذ خمسين سنة كان أشد تمسكاً بأثر النبي صلى الله عليه وسلم من محمد بن أسلم. فانظر في حكايته تتبين غلط من ظن أن "الجماعة" هي أي جماعة، وإن لم يكن فيهم عالم وهو وهم العوام لا فهم العلماء، فليثبت الموفق في هذه المنزلة قدمه لئلا يضل عن سواء السبيل ولا توفيق إلا بالله. انتهى. وبهذا يتبين معنى "الجماعة" المذكورة في الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا كما زعمه هؤلاء الملاحدة الضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الوهابيون متبعون لا مبتدعون ... قال المعترض: "وأما الوهابية وإخوانهم الذين سول لهم الشيطان التكبر عن الأئمة العظام وأفاضل العلماء كما سولت له نفسه التكبر عن آدم عليه السلام وزين لهم عدم التقيد بمذهب من مذاهب أهل السنة، والخروج من بينهم كما هو خرج من بين الملائكة ورأوا أن المخالفة تخرجهم من الإجماع والخروج من الإجماع يدخلهم تحت خلع ربقة الإسلام. عمدوا للمكابرة والمغالطة بإنكار الإجماع فزعموا أن الإجماع غير حاصل بل غير ممكن واستدلوا على زعمهم بما بين الأئمة الأربعة من الاختلاف، وزعموا أن الإجماع لا يصح إلى بأن لا يوجد بوقت ما وعصر ما اختلاف بين اثنين في الحكم المجمع عليه، وهذا لم يكن قط، فالإجماع لم يكن قط". أقول: لقد أسرف هذا الملحد فيما زعمه من الفجور وقول الزور، الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 رمى به الوهابيين وإخوانهم من أهل السنة. وذلك بأنهم خارجون عن تقليد أحد المذاهب الأربعة، منكرون للإجماع، مع ما تهوس به من الكلام الذي يستحيل صدوره من عاقل. ونحن نبين بطلان ما ادعاه هذا الملحد بالأدلة الصحيحة الصريحة التي لا تحتمل المغالطة. فأما دعواه على الوهابيين بأنهم ينكرون الإجماع: فهذا كذب محض، وفي الكلام على الإجماع تفصيل قد استوفيناه فيما تقدم، وخلاصته: أن الإجماع الذي يضلل المخالف فيه هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وما عداه من دعوى الإجماع فمذهب الوهابيين فيه هو مذهب إمامهم أحمد بن حنبل ومن وافقه من الأئمة رضي الله عنهم. وأما ما ادعاه الملحد على الوهابيين بأنهم لا يتقيدون بأحد المذاهب الأربعة، فهذا أولاً كذب على الوهابيين، وثانياً: تقول على الله وعلى وسوله صلى الله عليه وسلم وإلزام لأمته بشرع لم يأمرهم به الله ولا رسوله، وهو إلزامهم بالتقليد في دينهم لإنسان بعينه، دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجوابنا لهذا الملحد على دعواه هذه من وجهين: الوجه الأول: أن ما نسبه هذا المعترض إلى الوهابيين وإخوانهم من علماء أهل السنة كذب وافتراء، فالوهابيون حنابلة المذهب في الفروع. يعرف ذلك كل مطلع على مذاهب أهل السنة. وهذه كتبهم مشهورة منشورة بين العالم، وفيها البيان الكافي لا ينكرها إلا معاند. وللشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كتاب في فقه الحنابلة اختصره من الشرح الكبير ومن الانصاف، وكتاب آخر اختصره من الإقناع سماه "آداب المشي إلى الصلاة" وقال الشيخ في رسالة أرسلها إلى العالم الجليل الشيخ عبد الرحمن السويدي البغدادي رحمه الله تعالى: وأخبرك أنني ولله الحمد متبع، ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين لله به هو مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة. وقال أيضاً في رسالة أرسلها إلى علماء مكة قال فيها: فنحن بحمد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 متبعون لا مبتدعون، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل. وقال أيضاً في رسالة كتبها إلى عبد الله بن سحيم قال فيها جواباً على المسائل التي شنع بها بعض أعدائه: وأما قوله إني مبطل كتب المذاهب، وقوله إني أدعي الاجتهاد، وقوله إني خارج عن التقليد – وعد بقية المسائل – قال: فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم. ولكن قبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم ويسب الصالحين وتشابهت قلوبهم ... إلى آخره. وقد تقدمت هذه الرسائل بجملتها في ردنا هذا، ما عدا رسالة عبد الله بن سحيم، اقتصرنا على الشاهد منها. وفي تاريخ الشيخ عثمان بن بشر قال: وكان الشيخ – يعني محمد بن عبد الوهاب – كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات: بأي لسان أشكر الله؟ إنه ... لذو نعمة قد أعجزت كل شاكر هداني إلى الدين القويم تفضلاً ... عليّ، وبالقرآن نور البصائر وبالنعمة العظمى اعتقاد ابن حنبل ... عليه اعتقادي يوم كشف السرائر وقال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى في رسالة أيضاً – تقدم ذكرها – إن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف. ونحن في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، ولا ننكر على من قلد الأئمة الأربعة دون غيرهم لعدم ضبط مذاهب الغير كالرافضة والزيدية والإمامية ونحوهم، فلا نقرهم على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة ولا نستحق بمرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة، غير منسوخ ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة: أخذنا به، وتركنا المذهب كإرث الجد والإخوة. فإنا نقدم الجد وإن خالف مذهب الحنابلة ولا نفتش على أحد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 مذهبه ولا نعترض إلا إذا اطلعنا على نص جلي كذلك مخالف لمذهب بعض الأئمة. وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر، كإمامة الصلاة. فنأمر الحنفي والمالكي – مثلاً – بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال والجلوس بين السجدتين، لوضوح دليل ذلك بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة، وشتان بين المسألتين فإذا قوي الدليل أشرنا لهم إلى النص، وإن خالف المذهب وذلك إنما يكون نادراً جداً. ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، ولا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد المطلق، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في بعض المسائل مخالفين للمذهب، ملتزمين تقليد صاحبه. ثم إنا نستعين على فهم كتب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة ومن أجلها لدينا تفسير الإمام ابن جرير الطبري، ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذلك البيضاوي والبغوي والخازن والحداد والجلالين وغيرهم. وعلى فهم الأحاديث بشروحها، كالقسطلاني والعسقلاني على البخاري، والنووي على مسلم، والمناوي على الجامع الصغير، ونحوهم على كتب الحديث خصوصاً الأمهات الست وشروحها، ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون، أصولاً وفروعاً، وقواعد وسيراً، وصرفاً ونحواً، وجميع علم الأمة. انتهى الشاهد منه. وقال الإمام عبد الكريم بن فخر الدين الهندي: في كتابه "الحق المبين" في رده على دحلان قال في الصواعق الإلهية بالفارسية ما تعريبه: قد علم برواية الثقات أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كان إماماً من أئمة الطريقة، آمراً بالمعروف المشروع، ناهياً عن المنكر الممنوع، وحاز قصبات السبق على كبراء المعاصرين له قدم في الدعوة إلى التوحيد والاعتصام بالسنة والاجتناب من الشرك والبدعة. وقال في موضع آخر: ومعلوم أن محمد بن عبد الوهاب كان حنبلياً في المذهب، ومتبعاً للسنة في المشرب، وكذلك أتباعه إلى الآن فالله المستعان على ما قالوا فيه من البهتان. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الوجه الثاني: على تسليم دعوى المعترض بأن الوهابيين وإخوانهم لم يتقيدوا بأحد المذاهب الأربعة، فقد أسرف فيما رماهم به وعام في بحر جهل لا ساحل له، وخاض في دين الله كخوض الذين خاضوا من قبله. وقال في حق عبادة قول من لا يرى عليه محتسباً في الدنيا ولا محاسباً في الآخرة، حيث جعل خروجهم عن تقليد أحد المذاهب الأربعة- على دعواه – كخروج إبليس من بين الملائكة. مع أن المعترض لم يدل بحجة عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن الأئمة الأربعة ولا أئمة المسلمين من بعدهم الذين يعتمد عليهم ويعتد بأقوالهم. بل قد جاء بما لم يأت به أحد قبله من الغلو الذي هو سبب المروق من الدين. وهكذا الجهل واتباع الهوى يؤولان بصاحبهما. فقد جعل من يدعي العلم من المتعصبين للتقليد ومن تبعهم من العوام أهل السنة والجماعة من خالفهم فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، فاسترسل مع خيالاته الشيطانية حتى كفر من خرج عن تقليد المذاهب الأربعة، وهذا عين الجهل والوقاحة، بل غاية في الفضيحة والقباحة، فليتقدم لمقابلة جيوش الكتاب والسنة وليتذرع بما لفقه من الشبه عن بواتر الحق وحداد تلك الأسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 أقوال الأئمة والعلماء في النهي عن التقليد والحض على الاجتهاد ... قال الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه "الرد على من أخلد إلى الأرض" الباب الثالث في ذكر من حث على الاجتهاد وأمر به، وذم التقليد ونهى عنه. اعلم أنه ما زال السلف والخلف يأمرون بالاجتهاد ويحضون عليه وينهون عن التقليد ويذمونه ويكرهونه. وقد صنف جماعة لا يحصون في ذم التقليد – ثم عد منهم جملة- إلى أن قال: وهذه نصوص العلماء في ذم التقليد. وقد تقدم نقل المزني عن الشافعي رضي الله عنه أنه نهى عن تقليده وتقليد غيره إلى أن قال: وقال الشيخ تقي الدين السبكي ومن خطه نقلت فيما انتخبه من أصول الفقه للأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني – ما نصه: استدل الأستاذ فيه على عدم التقليد بإجماعنا على أنه لو حفظ مذهب الأئمة من دفترهم، ثم أراد أن يحكم ويفتي لم يكن له ذلك. لأنه جاهل بدليل هذا المذهب، فكما حرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 عليه تقليد الميت لجهله بدليل قول حرم عليه تقليد الحي. ثم ذكر عن أبي طالب المكي في كتاب "قوت القلوب" كلاماً طويلاً بهذا المعنى- إلى أن- قال: قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب"جامع بيان العلم" ما نصه: باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد والإتباع. التقليد عند جماعة العلماء غير الإتباع، لأن الإتباع هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرف وجه القول ولا معناه، وقد ذم الله التقليد في غير موضع من كتابه، فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة، الآية:31] قال حذيفة وغيره: "لم يعبدوهم من دون الله، ولكن أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم" وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف، الآيتان:23-24] فمنعهم الاقتداء بآبائهم عن قبول الاهتداء، فقالوا: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ، الآية: 34] وفي هؤلاء ومثلهم قال الله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال، الآية:22] وفي القرآن كثير في ذم تقليد الآباء والرؤساء، وقال ابن مسعود: "ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً" وقال علي رضي الله عنه: إذا المشكلات تصدين لي ... كشفت حقائقها بالنظر ولست بإمعة في الرجا ... ل أسائل هذا، وذا، ما الخبر؟ وقال أبو عمر رحمه الله تعالى: وهذا كله نفي للتقليد، وإبطال له لمن فهمه، وهدى لرشده، وقد قال عبيد الله بن المعتز: "لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد" قال: وقد نظمت في التقليد أبياتاً وهي هذه -فذكر الأبيات- ثم قال: وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية فأحسن ما رأيت في ذلك قول المزني رحمه الله تعالى، وأنا أورده: قال: يقال لمن حكم بالتقليد: هلي لك من حجة فيما حكمت به؟ فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 قال: نعم. أبطل التقليد، وإن قال: حكمت فيه بغير حجة، قيل له: فلم أرقت الدماء، وأبحت الفروج، وأتلفت الأموال، وقد حرم الله ذلك إلا بحجة؟ قال الله عز وجل: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس، الآية: 68] أي من حجة بهذا. فإن قال: أنا أعلم أني قد أصبت، وإن لم أعرف الحجة لأني قلدت كبيراً من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت علي. قيل له: إذا جاز لك تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى، لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك، كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك، فإن قال: نعم، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه، وكذلك من هو أعلى، حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أبى ذلك نقض قوله. وقيل له: كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علماً ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علماً؟ وهذا متناقض. فإن قال: لأن معلمي – وإن كان أصغر- فقد جمع علم مت فوقه إلى علمه فهو أبصر بما أخذ، وأعلم بما ترك. قيل له: وكذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك، وعلم من هو فوقه إلى علمه فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك، وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك، فإن أعاد قوله: فقد جعل الأصغر-وما يحدث من صغار العلماء- أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع. والتابع من دونه في قياس قوله والأعلى للأدنى أبداً، وكفى بقول يؤول إلى هذا قبحاً وفساداً. هذا كلام المزني. قال ابن عبد البر: وقد اتفق العلماء على أن المقلد لا علم له ولا يسمى عالماً ولم يختلفوا في ذلك، ومن هنا قال البحتري: عرف العالمون فضلك بالعـ ... ـلم وقال الجهال بالتقليد إلى أن قال: وقال القاضي عبد الوهاب –أحد أئمة المالكية- في أول كتابه " المقدمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 في أصول الفقه" الحمد لله الذي شرع وكلف، وبين ووقف، وفرض وألزم، وأوجب وحتم، وحلل وحرم، وندب وأرشد، ووعد وأوعد، ونهى وأمر، وأباح وحظر، وأعذر وأنذر، ونصب لنا الأدلة والأعلام، على ما شرع لنا من الأحكام وفصل الحلال من الحرام، والقرب من الآثام، وحض على النظر فيهما والتفكر، والاعتبار والتدبر، فقال جل ثناؤه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر، الآية: 2] وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء، الآية:82] وقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت، الآية:43] وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص، الآية: 29] وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء، الآية:83] وقال: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة، الآية: 122] الآية. والتفقه: من التفهم والتبين، ولا يكون ذلك إلى بالنظر في الأدلة، واستيفاء الحجة دون التقليد، لأن التقليد لا يثمر علماً، ولا يفضي إلى المعرفة. وقد جاء النص بذم من أخلد إلى تقليد الآباء والرؤساء، واتباع السادات والكبراء، تاركاً بذلك ما ألزمه الله من النظر والاستدلال، وفرض عليه من الاعتبار والاجتهاد، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة، الآية: 170] وقال: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف، الآية:22] في نظائر من هذه الآيات، تنبيهاً بها على علة خطر التقليد بأن فيه ترك اتباع الأدلة. والعدول عن الانقياد إلى قول من لا يعلم أنه فيما تقلد فيه مصيب أو مخطئ. فلا يأمن من التقليد لغيره كون ما يقلده فيه خطأ وجهلاً، لأن صحة المذهب لا تتبين من فساده باعتقاد المعتقد له وشدة تمسكه به، وإنما يتميز صحيح المذاهب من فاسدها، وحقها من باطلها، بالأدلة الكاشفة عن أحوالها والمميزة بين أحكامها وذلك معدوم في المقلد لأنه متبع لقول لا تعرف صحته من فساده وإنما اعتقده لقول مقلده به. فإن زعم صاحب التقليد أنهم يعرف صحة القول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الذي قلد فيه، ويعلم أنه حق وأن اعتقاده واجب فذلك باطل منه. لأن العلم بذلك لا يكون إلا بالنظر في الأدلة التي هي طريق العلم، فإذا عدل عنها علمنا بطلان دعواه للعلم بصحة ما قلد فيه. فإن قال: علمت صحة القول الذي قلدت فيه بدليل وحجة قلنا: فأنت غير مقلد لأنك عارف بصحة القول الذي تعتقده، والتقليد هو اتباع القول لأن قائلاً قال به من غير علم بصحته من فساده. ثم قال: فإن قيل: فإذا كنتم تمنعون التقليد وتدعون إلى النظر، فيجب أن تبينوا صحته وتثبتوه طريقاً للعلم بالمنظور فيه. فالجواب: أن القرآن قد حض على النظر والاعتبار في الآيات السابقة، ولا يجوز أن يحض على النظر فيما لا يثمر علماً، ويأمر باعتقاد ما يؤدي إليه، وإن لم يكن حقاً مع قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء، الآية:36] وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة، الآية:169] وقوله: {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء، الآية:171] مع ما ورد به القرآن من الاستدلال على مدلولات والتنبيه على تصحيح إفساد مقالات وذلك في القرآن كثير يطول استيفاؤه. ومن الظاهر في ذلك المشهور ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم من الاحتجاج والاستدلال في مسائل الأحكام، ومناظرة بعضهم لبعض. وذلك أظهر وأشهر من تكلف الإطالة بتقصيه، فبان بما أوردناه صحة النظر والاستدلال وثبوته طريقاً للعلم بالمنظور فيه. فإن قيل: أخبرنا عن مريد التفقه، ما الذي يلزمه؟ قلنا: لا يسوغ لمن فيه فضل للنظر والاجتهاد، وقوة على الاستدلال والاعتبار أن يعتقد التفقه إلا من طريق الاستدلال الصحيح العاري عن آفات النظر المانعة له من استعماله على وجهه وترتيبه في حقه. فإن قيل: فهذا خلاف ما أنتم عليه من دعائكم إلى درس مذهب الإمام مالك بن أنس واعتقاده، والتدين بصحته، وفساد ما خالفه قلنا: هذا ظن منك بعيد، وإغفال شديد، لأنا لا ندعو من ندعوه إلى ذلك إلا إلى أمر قد عرفنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 صحته، وعلمنا صوابه بالطريق التي بيناها، فلم نخالف بدعائنا إليه ما قررناه وعقدنا الباب عليه. هذا كلام القاضي عبد الوهاب، وهو نظير قول من قال من أصحابنا: ما قلدنا الشافعي، ولكن طابق اجتهادنا اجتهاده. وقال القاضي عبد الوهاب أيضاً في كتابه الملخص في أصول الفقه. فصل في فساد التقليد. التقليد: لا يثمر علماً، فالقول به ساقط، وهذا الذي قلناه قول كافة أهل العلم، وذهب قوم من ينتمي للعلم وممن يفرع على نفسه من استيفاء النظر على وجهه حتى أن ينكشف له به فساد مذهب قد تمت له معه رئاسة، أو حصل له نشوة أو عادة او عصبية إلى صحة التقليد، وأنه يثمر العلم بالمقلد فيه. والدليل على فساد ذلك: أن المقلد لا يخلو إما أن يكون عالماً بصحة قول من يقلد، أو غير عالم بذلك فإن كان عالماً فهذا ليس بمقلد، لأنه متبع لقول قد عرف صحته بالطريق الذي به عرف كون قائله محقاً، وإن كان غير عالم بصحته لم يأمن أن يكون خطأ وجهلاً. فيقدم على اعتقاده ومعتقد الجهل والخطأ ليس بعالم، ولا يقال: إن اعتقاده علم. فبطل بذلك كون التقليد علماً وقد دل القرآن على فساد التقليد في غير موضع وعلى ذم من صار إليه ودان به. وقال الغزالي في المستصفى: التقليد هو قبول قول بلا حجة، وليس ذلك طريقاً إلى العلم، لا في الأصول ولا في الفروع. وذهب الحشوية والتعليمية إلى أن طريق معرفة الحق التقليد، وأن ذلك هو الواجب وأن النظر والبحث حرام ويدل على بطلان مذهبهم، مسالك: الأول: أن صدق المقلد لا يعلم ضرورة فلا بد من دليل، ودليل الصدق المعجزة فيعلم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بمعجزته، وصدق كلام الله بإخبار الرسول عن صدقه، وصدق أهل الإجماع بإخبار الرسول عن عصمتهم، فحيث لم تقم حجة ولم يعلم الصدق بضرورة ولا دليل، فالاتباع فيه اعتماد على الجهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 المسلك الثاني: أن يقال: أتحيلون الخطأ على مقلدكم أم تجوزونه؟ فإن جوزتموه فأنتم شاكون في صحة مذهبكم، وإن أحلتموه فبم عرفتم استحالته؟ أبضرورة، أم بنظر أم بتقليد؟ ولا ضرورة ولا دليل، فإن قلدتموه في قوله: إن مذهبه حق، فبم عرفتم صدقه في تصديق نفسه؟ وإن قلدتم غيره، فبم عرفتم صدق المقلد الآخر؟ وإن عولتم على سكون النفس إلى قوله: فبم تفرقون بين سكون نفوسكم وسكون نفوس النصارى واليهود؟ وبم تفرقون بين قول مقلدكم: إني صادق محق وبين قول مخالفيكم، ويقال لهم أيضاً في إيجاب التقليد: هل تعلمون وجوب التقليد أم لا؟ فإن لم تعلموا فلم قلدتم؟ وإن علمتم فبضرورة أو نظر أو تقليد؟ ويعود عليهم السؤال في التقليد، ولا سبيل لهم إلى النظر والدليل، فلا يبقى إلا إيجاب التقليد بالتحكيم. فإن قيل: عرفنا صحته بأنه مذهب الأكثرين، فهو أولى الاتباع قلنا: وبم أنكرتم على من يقول: الحق دقيق غامض، لا يدركه إلا الأقلون، ويعجز عنه الأكثرون؟ لأنه يحتاج إلى شروط كثيرة من الممارسة والتفرغ للنظر واتقاد القريحة، والخلو عن الشواغل ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم كان محقاً في ابتداء أمره، وهو في شرذمة يسيرة على خلاف الأكثرين. وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام، الآية:116] كيف وعدد الكفار في زماننا أكثر؟ ثم يلزمكم أن تتوقفوا حتى تدوروا في جميع العالم وتعدوا جميع المخالفين. كيف وهو على خلاف نص القرآن. قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ، الآية:13] ، {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون، الآية:70] قال ولهم شبه: الأولى: أن النظر مفروض في شبهات، وقد كثر ضلال الناظرين فترك الخطر وطلب السلامة أولى. قلنا: وقد كثر ضلال المقلدين من اليهود والنصارى فبم تفرقون بين تقليدكم وتقليد سائر الكفار؟ قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة. ثم يقال: إذا وجبت المعرفة كان التقليد جهلاً وضلالاً. فكأنكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 اخترتم الجهل خوفاً من الوقوع في الجهل، كمن يقتل نفسه عطشاً وجوعاً خوفاً من أن يغص بلقمة، أو يشرف بشربة لو أكل وشرب. وكمن يترك التجارة والحراثة خوفاً من نزول صاعقة، فيختار الفقر خوفاً من الفقر. الشبهة الثانية: تمسكهم بقوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر، الآية:4] والنظر فتح باب الجدل. قلنا: نهي عن الجدل بالباطل كما قال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر، الآية:5] بدليل قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل، الآية:125] ، {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت، الآية:46] ثم إنا نعارضهم بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء، الآية:36] ، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة، الآية:169] ، {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف، الآية:86] ، {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف، الآية:81] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة، الآية:111] هذا كله نهي عن التقليد، وأمر بالعلم. ولذلك عظم شأن العلماء، فقال تعالى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة، الآية:11] وقال صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين" ولا يحصل هذا بالتقليد، بل بالعلم. وقال ابن مسعود: "ولا تكونن إمعة. قيل: وما الإمعة؟ قال: أن يقول: أنا مع الناس إن ضلوا ضللت وإن اهتدوا اهتديت، ألا لا يواطنن أحدكم نفسه أن يكفر إن كفر الناس"هذا كلام الغزالي. قلت: وقد أشار إلى حمل الحديث المذكور على المجتهدين، فإن كان خيراً –كما هو ظاهر اللفظ واحد القولين في الحديث- دل على أنه لا يخلو العصر عن مجتهد، وإن كان أمراً بتقدير اللام، أي ليحمل، كما هو قول جماعة في الحديث دل على أن الاجتهاد في كل عصر فرض، وأنه لا يجوز شرعاً خلو عصر من الأعصار عنه. وعن ابن مسعود أثر أصرح في ذم التقليد من الأثر المذكور، وهو ما أخرجه البيهقي في سننه عنه، قال: "لا تقلدوا دينكم الرجال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وقال الإمام ابن حزم في كتابه " النبذ الكافية في علم الأصول": التقليد حرام ولا يحل لأحد أن يأخذ قول أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا برهان لقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف، الآية:3] وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آباءنا} [البقرة، الآية:170] . وقال في حق من لم يقلد: {فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الألباب} [الزمر، الآية:17-18] وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء، الآية:59] فلم يبح الله تعالى الرد عند التنازع إلى أحد دون القرآن والسنة. وحرم بذلك الرد عند التنازع إلى قول قائل، لأنه غير القرآن والسنة وقد صح إجماع الصحابة كلهم أولهم عن آخرهم، وإجماع جميع التابعين أولهم عن آخرهم، وإجماع تابعي التابعين أولهم عن آخرهم على الامتناع والمنع من أن يقصد منهم أحد إلى قول إنسان منهم، أو ممن قبلهم فيأخذه. فليعلم من أخذ بجميع أقوال أبي حنيفة، أو جميع أقوال مالك, أو جميع أقوال الشافعي، أو جميع أقوال أحمد رضي الله عنهم. ولم يترك من اتبع منهم أو من غيرهم إلى قول غيره، ولم يعتمد على ما جاء في القرآن والسنة غير صارف لذلك إلى قول إنسان بعينه: أنه قد خالف إجماع الأمة كلها أولها عن آخرها، بيقين لا إشكال فيه، وأنه لا يجد لنفسه سلفاً، ولا إنساناً في جميع الأعصار المحمودة الثلاثة فقد اتبع غير سبيل المؤمنين نعوذ بالله من هذه المنزلة. وأيضاً: فإن هؤلاء الفقهاء كلهم قد نهوا عن تقليدهم وتقليد غيرهم، فقد خالفهم من قلدهم، وأيضاً فما الذي جعل رجلاً من هؤلاء – أو غيرهم - أولى أن يقلد من عمر بن الخطاب، أو علي بن أبي طالب، أو ابن مسعود، أو ابن عمر، أو ابن عباس، أو عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم. فلو ساغ التقليد لكان كال واحد هؤلاء أحق بأن يتبع من غيره. وذكر في كتاب التلخيص نحو ذلك ومن عبارته فيه: وهل أباح مالك وأبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 حنيفة والشافعي رضي الله عنهم قط لأحد تقليدهم؟ حاشا الله من هذا، بل والله قد نهوا عن ذلك ومنعوا منه، ولم يفسحوا لأحد فيه. وقال في كتابه الدرة: وعلى كل أحد مقدار ما يطيق من الاجتهاد في الدين. ولا يحل لأحد أن يقلد أحداً لا حياً ولا ميتاً ولا أن يتبع أحداً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم لا قديماً ولا حديثاً. ومن التزم بطاعة إنسان بعينه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائلاً بالباطل، ومخالفاً لما عليه جماعة الصحابة وجميع التابعين أولهم عن آخرهم. وجميع تابعي التابعين بلا خلاف من احد منهم، وما كان في الإعصار الثلاثة احداً فما فوقه أخذ قول إنسان فوقه فنصره كله، واعتقده بأسره، وانتسب إليه. فهذه بدعة خالف الإجماع التام صاحبها. وقال في كتابه "إبطال التقليد" إنما حدث التقليد في القرن الرابع، والتقليد هو أن يفتي في الدين فتيا لأن فلاناً الصاحب أو فلاناً التابع أو فلاناً العالم أفتى بها بلا نص في ذلك. وهذا باطل، لأنه قول في الدين بلا برهان، وقد يختلف الصحابة والتابعون والعلماء في ذلك. فما الذي جعل بعضهم أولى بالاتباع من بعض؟ قالك ويكفي في إبطال التقليد: أن القائلين به مقرون على أنفسهم بالباطل. لأن كل طائفة من الحنفية والمالكية والشافعية مقرة بأن التقليد لا يحل وأئمتهم الثلاثة قد نهوا عن تقليدهم ثم مع ذلك خالفوهم وقلدوهم وهذا عجب ما مثله عجب، حيث أقروا ببطلان التقليد ثم دانوا الله بالتقليد. وأيضاً: فإنهم مجمعون معنا على أن جميع أهل عصر الصحابة لم يكن فيهم واحد فما فوقه يقلد صاحباً أكبر منه، فيأخذ قوله كله، وأن جميع أهل عصر التابعين لم يكن فيهم واحد يقلد صاحباً أو تابعاً أكبر منه فيأخذ بقوله كله فصح بقيناً أن هؤلاء المقلدين الذين لا يخالفون من قلدوه قد خالفوا إجماع الأمة كلها بيقين، وهذا عظيم جداً. وأيضاً: فما الذي خص أبا حنيفة ومالكاً والشافعي بأن يقلدوا دون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعائشة، ودون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 سعيد بن المسيب والزهري والنخعي والشعبي وعطاء وطاووس والحسن البصري رحمة الله على جميعهم؟ وأيضاً: فإن هذه الطوائف كلها مقرة بأن عيسى ابن مريم عليه السلام سينزل ويحكم في أهل الأرض، فهل يحكم إذا نزل برأي أبي حنيفة، أو مالك أو الشافعي؟ معاذ الله، بل يحكم بما أوحى الله إلى أخيه محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو الذي ندعوا إليه، والذي لا يحل لأحد أن يحكم، ولا أن يفتي ولا يدين بسواه. فإن قالوا: لا نقدر على الاجتهاد. قلنا: يأخذ كل أحد جهده في الطريق الموصلة إلى ذلك. ثم قالك ذكر الآثام في ذم التقليد، فأخرج بأسانيده آثاراً استوفيتها في تيسير الاجتهاد. فمنها: ما أخرجه عن معاذ بن جبل، قال: "أما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وإن افتتن فلا تقطعوا منه رجاءكم" وأخرج عن ابن عباس قال: "ويل للأتباع من غمرات العالم. قيل: وكيف ذلك؟ قال: يقول العالم من قبل رأيه، ثم يبلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيأخذ به، ويمضي الأتباع بما سمعوا" وأخرج عن ابن مسعود قال: "لا تكونن إمعة، تقول: أنا مع الناس" وأخرج مجاهد قال: "ليس أحد من الناس إلى وأنت آخذ من قوله وتارك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم" وأخرج عن أحمد بن حنبل أنه ذكر له قول مالك وترك ما سواه، فقال: لا يلتفت إلا إلى الحديث. قوم يفتنون هكذا، يتقلدون قول الرجل، ولا يبالون بالحديث. وأخرج عن سعيد بن أبي عروبة قال: "من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالماً" وأخرج عن قبيصة بن عقبة قال: "لا يفلح من لا يعرف الاختلاف" واخرج عن ابن القاسم قال: "سئل مالك لم تجوز الفتيا؟ قال: لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه. قيل له: اختلاف أهل الرأي؟ قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يفتي "قال ابن حزم: هذا قول مالك في أنه لا يجوز لأحد أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 يقتضي ولا أن يفتي، إلا أن يكون عالماً بالحديث والفقه والاختلاف. فإن كان عالماً بأحدها لم يجز له أن يقضي، ولا أن يفتي. وهذا قول أبي حنيفة والشافعي بلا خلاف. قال: فلينظر حكامهم مفتوهم اليوم هل هذه صفتهم أم لا؟ فإن كانوا ليسوا كذلك فقد خالفوا من ادعوا تقليده وحصلوا على لا شيء. وقال في رسالة أخرى: قد دل الكتاب والسنة وحضا على النظر والاجتهاد وترك التقليد، ووجدنا أصحاب رسول الله أولهم عن آخرهم، ليس منهم أحد أتى من هو فوقه في القرب والسابقة والعلم، فأخذ قوله كله فتقلده في دينه، بل رأينا كل امرئ منهم يجتهد لنفسه، ثم بحثنا عن عصر التابعين فوجدناهم على تلك الطريقة ليس منهم أحد أتى إلى تابع أكبر منه أو إلى صاحب فتقلد قوله كله. وكذلك أتباع التابعين ليس منهم أحد أتى إلى تابع أو صاحب أو فقيه من أهل عصره أكبر منه، فأخذ قوله كله ولم يخالفه في شيء منه، ولا أمروا بذلك عامياً ولا خاصياً وهذه القرون المحمودة الثلاثة. فعلمنا يقيناً أنه لو كان أخذ قول عالم بأسره فيه شيء من الخير والصواب ما سبقهم إليه ما حدث في القرون المذمومة. ولو كان ذلك فضيلة ما سبقناهم إليها، وهذا العصر الثالث: هو الذي كان فيه ابن جريج وسفيان بن عيينة بمكة، وابن أبي ذئب، ومحمد بن إسحاق، وعبد الله بن عمر، وإسماعيل بن أمية، ومالك بن أنس، وسليمان بن بلال، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وعبد العزيز الدراوردي، وإبراهيم بن سعد بالمدينة، وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ومعمر بن راشد، وأبو عوانة، وشعبة، وهمام بن يحيى، وجرير بن حازم، وهشام الدستوائي، وزكريا بن أبي زائدة، وحبيب بن الشهيد، وسوار بن عبد الله، وعبيد الله بن الحسن، وعثمان بن سليمان بالبصرة. وهشام بن بشر بواسط. وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والحسن بن يحيى، وشريك، وأبو حنيفة، وزهير بن معاوية، وجرير بن عبد الحميد، ومحمد بن حازم بالكوفة. والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، والزبيدي، والقاضي حمزة بن يحيى، وشعيب بن أبي حمزة بالشام. والليث بن سعد، وعقيل بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 خالد بمصر. كلهم على الطريقة التي ذكرت. ما منهم أحد أخذ بقول إمام ممن قبله فقبله كله دون أن يرد منه شيئاً. ثم حدث بعدهم من اعتصم بهداهم وسلك سبيلهم في نحو ذلك، نحو: يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وبشر بن المفضل، وخالد بن الحارث، وعبد الرزاق، ووكيع، ويحيى بن آدم، وحميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، والوليد بن مسلم، والحميدي، والشافعي، وابن المبارك، وحفص بن غياث، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وأبي داود الطيالسي، وأبي الوليد الطيالسي، ومحمد بن أبي عدي، ومحمد بن جعفر، ويحيى بن يحيى النيسابوري، ويزيد بن زريع، وإسماعيل بن علية، وعبد الوارث بن سعيد، وابنه عبد الصمد، ووهب بن جرير، وأزهر بن أسد، وعفان بن مسلم، وبشر ابن عمر، وأبي عاصم النبي، والمعتمر بن سليمان، والنضر بن شميل، ومسلم بن إبراهيم، والحجاج بن منهال، وأبي عامر العقدي، وعبد الوهاب الثقفي، والفريابي، ووهب بن خالد، وعبد الله بن نمير وغيرهم. ما من هؤلاء أحد قلد إماماً كان قبله. ثم تلاهم على مثل ذلك: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، وأبو ثور، وأبو عبيد، وأبو خيثمة، وأبو أيوب الهاشمي، وأبو إسحاق الفزاري، ومخلد بن الحسين، ومحمد بن يحيى الذهلي، وأبو بكر، وعثمان ابنا أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وقتيبة، ومسدد، والفضل بن دكين، ومحمد بن المثنى، وبندار، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ومحمد بن العلاء، والحسن بن محمد الزعفراني، وسليمان بن حرب، وعارم، وغيرهم. ليس منهم أحد قلد رجلاً. وقد شاهدوا من قبلهم ورأوهم. فلو رأوا أنفسهم في سعة من أن يقلدوا دينهم أحداً منهم لقلدوا. ثم أتى بعد هؤلاء: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، ومحمد بن سنجر، ويعقوب بن أبي شيبة، وداود بن علي، ومحمد بن نصر المروزي، وابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 النذر، ومحمد بن جرير الطبري، وبقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشني وغيرهم. ما منهم أحد أتى إلى إمام قبله، فأخذ قوله كله فتدين به بل كل هؤلاء نهى عن ذلك وأنكره ولم أجد أحداً ممن يوصف بالعلم قديماً وحديثاً يستجيز التقليد، ولا يأمر به. وكذلك ابن وهب، وابن الماجشون، والمغيرة بن أبي حازم، ومطرف، وابن كنانة لم يقلدوا شيخهم مالكاً في كل ما قال بل خالفوه في مواضع واختاروا غير وقوله. وكذلك الأمر في زفر، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد، وبكار بن قتيبة، والطحاوي. وكذلك القول في المزني، وأبي عبيد بن حربويه، وابن خزيمة، وابن سريج فإن كلاً منهم خالف إمامه في أشياء واختار منها غير قوله. ومن آخر من أدركنا على ذلك شيخنا أبو عمر الطلمنكي فما كان يقلد أحد وذهب إلى قول الشافعي في بعض المسائل والآن محمد بن عوف لا يقلد أحداً، وقال بقول الشافعي في بعض المسائل، إلى كثير من سلف وخلف لو ذكرتهم لطال الخطب بذكرهم، ثم أنشد لنفسه قصيدة في الاجتهاد قال في آخرها: واهرب عن التقليد فهو مضلة ... إن المقلد في سبيل الهالك تأبونه في العقل، وهو مقالكم ... في الدين يا له من ضلال فاتك هذا ما نقلته من كلام ابن حزم. وقوله في أوله: لا يقلد أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقه إليه الشافعي رضي الله عنه، فقال في مختصر المزني في باب القضاء: ولا يقلد أحداً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عوض بن أحمد الشرواني من أصحابنا في خطبة كتابه "المعتبر في تعليل المختصر" وهو شرح لمختصر المختصر، للشيخ أبي محمد الجويني ما نصه: سألني بعض من شغف بهذا الكتاب أن أشرحه بالدليل والتعليل، ليعرف الأدلة ومعانيها، ليكون على هدى البصيرة لا على عمى القلب، فسمى التقليد عمى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وقال أبو جعفر محمد بن الحسن الأرسابندي من الحنفية، في كتاب "أصول الفقه" القول في أسماء الحجج التي هي مضافة إلى أربعة أنواع: التقليد، والإلهام، واستصحاب الحال، والطرد. وهذه أسماء مستحسنة المبادئ، مستقبحة العواقب، ومداخلها هدى، ومخارجها ضلال لا ينجو من تمسك بمبادئها عن عواقبها، إلا بتأمل ونظر ودوام على حذر. فنقول وبالله التوفيق، التقليد: هو أن يقلد غيره ويتبعه من غير دليل ظهر له، وأنه من أفعال الكفرة. قال الله حاكياً عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف، الآية: 23] وقال حاكياً عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت، الآية: 12] وقال الحشوية: التقليد حق، واحتجوا بأن الأصل في بني آدم العقل، والأصل في العقلاء العمل الحق، لأن العقل يدعوهم إليه، وبأنا جوزنا تقليد الصحابي لأنه صاحب من يجب اتباعه وهكذا إلى قيام الساعة. ونقول: التقليد باطل، لأن الله تعالى ذم الكفرة على التقليد، فقال حاكياً عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف، الآية: 23] فلا يجوز أن يشتغل الإنسان بما يستحق الذم عليه، ولأن فعله يحتمل الخطأ والصواب. والمحتمل: لا يصلح حجة ولأنك تقول لهذا الرجل: قلدت فلاناً لأنه عاقل، فقلدني أيضاً، فإن قلدك فقد ترك مذهبه، وإن لم يقلدك، نقول له: الموجب لتقليده عقله. وقد وجد هنا. ولأنا نقول له: قلدته لعلمك بكونه حقاً أولاً؟ فإن قال: لا، بالجهل. لا يصلح حجة، وإن قال: نعم، فعلمه يستند إلى دليل. فلم يكن مقلداً. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "القواعد الكبرى" ومن العجب العجيب: أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه، بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً وهو مع ذلك يقلده فيه، ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم، جموداً على تقليد إمامه، بل يتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلده. قال: وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذكر لأحدهم خلاف ما وطن نفسه عليه تعجب منه غاية العجب من غير استرواح إلى دليل، بل لما ألفه من تقليد إمامه حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه، ولو تدبره لكان تعجبه من مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره، فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر، من غير فائدة يجدها. قال: وما رأيت أحداً رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره، بل يصر عليه مع علمه بضعفه وبعده. فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه، ولا يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله، ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح، والبرهان اللائح. فسبحان من أكثر (1) من أعمى التقليد بصره، حتى حمله على ما ذكرته. قال: وسأفرد إن شاء الله تعالى كتاباً أبين فيه أقرب العلماء إلى مراعاة مقاصد الشرع في كل ورد وصدر. قال: مع أني لا أعتقد أحداً منهم انفرد بالصواب في كل ما خولف فيه بل أسعدهم وأقربهم إلى الحق من كان صوابه فيما خولف فيه أكثر من خطئه. قال: ولم يزل الناس يسألون من اتفق مع العلماء من غير تقليد لمذهب، ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها عن المقلدين. فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلداً له فيما قاله، كأنه نبي أرسل إليه. وهذا نأي عن الحق، وبعد عن الصواب، لا يرضى به أحد من أولي الألباب. هذا كلام الشيخ عز الدين رحمه الله. وقال الإمام أبو شامة في "خطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول": ينبغي لمن اشتغل بالفقه أن لا يقتصر على مذهب إمام معين بأن يرفع نفسه عن هذا المقام وينظر في مذهب كل إمام، ويعتقد في كل مسألة صحة ما كان أقرب إلى دلالة الكتاب والسنة المحكمة، وذلك سهل عليه إذا كان قد أتقن معظم العلوم المتقدمة، وليتجنب التعصب والنظر في طرائق الخلاف المتأخرة،   (1) هكذا جاء ولعل الأقرب: من كثّر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 فإن مضيعة للزمان ولصفوه قال: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" قال: فما أعظم حظ من بذل نفسه وجهدها في تحصيل العلم حفظاً على الناس. فإن هذه الأزمنة قد غلب على أهلها الكسل والملل وحب الدنيا. قال: ولم يزل علم الفقه كريماً يتوارثه الأئمة معتمدين على الأصلين: الكتاب والسنة، مستظهرين بأقوال السلف على فهم ما فيهما من غير تقليد، فقد نهى إمامنا الشافعي رضي الله عنه عن تقليده وتقليد غيره. وكانت تلك الأزمنة مملوءة بالمجتهدين، فكل صنف على ما رأى وتعقب بعضهم بعضاً، مستمدين من الأصلين الكتاب والسنة، وترجيح الراجح من أقوال السلف المختلفة، ولم يزل الأمر على ما وصفت إلى أن استقرت المذاهب المدونة، ثم استظهرت المذاهب الأربعة وهجر غيرها، فقصرت همم أتباعهم إلا قليلاً منهم. فقلدوا ولم ينظروا فيما نظر فيه المتقدمون من الاستنباط من الأصلين الكتاب والسنة، فقل المجتهدون، وغلب المقلدون، حتى صاروا ممن يروم رتبة الاجتهاد: يعجبون ويزدرون. ثم قال: ولم أزل مذ فتح الله عليّ بالاشتغال بعلم الشريعة، وفهم ما ذكرت من الاتفاق والاختلاف ودلالات الكتاب والسنة مهتماً بجميع ذلك أو ما يقاربه، توفيقاً من الله لمعاودة الأمر الأول وهو ما كان عليه الأئمة المتقدمون من استنباط الأحكام من الأصلين، مستظهرين بأقوال السلف فيها، طلباً لفهم معانيها، ثم يصار إلى الراجح منها بطريقة. ثم قال: وإنما وضع الشافعي رضي الله عنه وغيره من الأئمة الكتب، إرشاداً للخلق إلى ما ظنه كل واحد منهم صواباً، لا أنهم أرادوا تقليدهم ونصرة أقوالهم كيفما كانت، فقد صح أن الشافعي رضي الله عنه نهى عن تقليده وتقليد غيره، قال صاحبه المزني في أول مختصره: "اختصرت هذا من علم الشافعي، ومن معنى قوله، لأقر به على من أراده. مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه، ويحتاط لنفسه" أي مع إعلامي من أراد علم الشافعي؛ نهى الشافعي له عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 تقليده وتقليد غيره، هذا أحسن ما أول به هذا الكلام وانظروا رحمكم الله إلى قوله: "لينظر فيه لدينه، ويحتاط لنفسه" أي: ليسترشد بذلك إلى الحق. قال الماوردي في الحاوي: وقوله "ويحتاط لنفسه" أي ليطلب الاحتياط لنفسه بالاجتهاد في المذاهب، وترك التقليد بطلب الدلالة. قال أبو شامة: فعلى هذا كان السلف الصالح يتبعون الصواب حيث كان، ويجتهدون في طلبه، وينهون عن التقليد – ثم ذكر المؤلف كلاماً طويلاً ونقلاً عن بعض الأئمة إلى أن قال: وقال الدمنهوري من أصحابنا في أول كتاب "الإرشاد": لا ينتفع إلا من رفع عن قلبه حجاب التقليد، فإنه سبب لحرمان كل خير وسائق لكل عواقة، بل أكثر ما أوقع الخلق في الكفر والنفاق منه، كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف، الآية: 23] ولما قالت لهم رسلهم: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف، الآية: 24] وذلك إنما هو من ربط الجهل على قلوبهم، وربط التقليد على أفهامهم، حتى لا يتدبروا ما يقال لهم، ويستنكفوا عمن يرشدهم، لظنهم الفاسد أنه لا يمكن أن يكون المتأخر أفضل من المتقدم. ويعتقدون أن ذلك عندهم من قبيل المستحيل، ولم يعلموا أن مواهب الله تعالى لا تنقطع، وفيض جوده لا ينفد، وإنما حرم ذلك من حرمه، إما لفساد طبعه وخلل في عقله أو لعدم تدبره وتفهمه لما بينه الله تعالى من الآيات الواضحة، والدلائل الرجحة، وإلا فكل من له طبع سليم، وفهم مستقيم، إذا رفع عن قلبه حجاب التقليد، وادرع جلباب الاجتهاد والتجريد، وتعرض لنفحات ربه أفاض بجوده عليه التأبيد والتسديد، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت، الآية: 69] . وقال ابن القيم الجوزية في كتاب "ذم التقليد": قد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من محدثات الأمور، وأخبر: "أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" ومن المعلوم بالضرورة أن ما عليه هؤلاء – من التقليد الذي يترك له كتاب الله وسنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 رسوله، ويعرض القرآن والسنة عليه، ويجعل معياراً عليهما – من أعظم المحدثات والبدع التي بدأ الله سبحانه منها القرون التي فضلها وخيرها على غيرها. قال: ومن أظهر الحجج على بطلان التقليد: ما كتبه عمر إلى شريح "أن اقض بما في كتاب الله. فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله. فإن لم يكن في سنة رسول الله فبما قضى به الصالحون" وهكذا كان سير السلف المستقيم، وهداهم القويم، فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين ساروا عكس هذا السير. قال: وقد صح عن ابن مسعود النهي عن التقليد وأن لا يكون الرجل إمعة، انتهى ما نقله من كتاب الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 هل على العامي أن يتمذهب بمذهب معين؟ رأي الإمام ابن القيم في ذلك ... وقال الإمام أبو عبد الله شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى في "أعلام الموقعين" وهل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا؟ فيه مذهبان: أحدهما: لا يلزمه وهو الصواب المقطوع به، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يوجب الله ورسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة، فيقلده دينه دون غيره. وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة أهلها من هذه النسبة. بل لا يصح للعامي مذهب، ولو تمذهب به فالعامي لا مذهب له لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال، ويكون بصيراً بالمذاهب على حسبه. أو لمن قرأ كتاباً في فروع ذلك المذهب وعرف فتوى إمامه وأقواله. وأما من لم يتأهل لذلك البتة، بل قال: أنا شافعي، أو حنبلي، أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول. كما لو قال: أنا فقيه أو نحوي أو كاتب لم يكن كذلك بمجرد قوله. يوضحه: أن القائل إنه شافعي أو مالكي أو حنبلي يزعم أنه متبع لذلك الإمام سالك طريقه. وهذا إنما يصح إذا سلك سيبله في العلم والمعرفة والاستدلال. فأما مع جهله وبعده جداً عن سيرة الإمام، وعلمه وطريقه فكيف يصح له الانتساب إليه بالدعوى المجردة والقول الفارغ من كل معنى؟ والعامي لا يتصور أن يصح له مذهب ولو تصور له ذلك لم يلزمه ولا غيره ولا يلزم أحداً قط أن يتمذهب بمذهب رجل بعينه من الأمة، بحيث يأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أقواله كلها، ويدع أقوال غيره. وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام وهم أعلى رتبة وأجل قدراً وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك، وأبعد منه قول من قال يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء. وأبعد منه قول من قال: يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة، فيالله العجب! ماتت مذاهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب التابعين وتابعيهم وسائر أئمة الإسلام، وبطلت جملة إلا مذاهب أربعة أنفس من بين سائر الأئمة والفقهاء. وهل قال ذلك أحد من الأئمة أو دعا إليه أو دلت عليه لفظة واحدة من كلامه عليه؟ والذي أوجبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على الصحابة والتابعين وتابعيهم هو الذي أوجبه على من بعدهم إلى يوم القيامة، لا يختلف الواجب ولا يتبدل. وإن اختلفت كيفيته أو قدره باختلاف القدرة والعجز، والزمان والمكان والحال، فذلك أيضاً تابع لما أوجبه الله ورسوله. ومن صحح للعامي مذهباً قال: هو قد اعتقد أن هذا المذهب الذي انتسب إليه هو الحق، فعليه الوفاء بموجب اعتقاده. وهذا الذي قاله هؤلاء – لو صح – للزمه تحريم استفتاء أهل غير هذا المذهب الذي انتسب إليه. وتحريم تمذهبه بمذهب نظير إمامه أو أرجح منه أو غير ذلك من اللوازم التي يدل فسادها على فساد ملزوماتها بل يلزم منه أنه إذا رأى نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قول خلفائه الأربعة مع غير إمامه أن يترك النص وأقوال الصحابة ويقدم عليها قول من انتسب إليه. وعلى هذا فله أن يستفتي من شاء من أتباع الأئمة وغيرهم. ولا يجب عليه ولا على المفتي أن يتقيد بأحد من الأئمة الأربعة بإجماع الأمة. كما لا يجب على العالم أن يتقيد بحديث أهل بلده أو غيره من البلاد، بل إذا صح الحديث وجب عليه العمل به حجازياً كان أو عراقياً أو شامياً أو مصرياً أو يمنياً. انتهى. وقال العالم الأصولي الفقيه الشيخ محمد بن عبد العظيم المكي الحنفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 في كتابه "القول السديد" الفصل الأول: اعلم أنه لم يكلف الله أحداً من عباده بأن يكون حنفياً أو مالكياً أو شافعياً أو حنبلياً بل أوجب عليهم الإيمان بما بعث به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم والعمل بشريعته. انتهى. فهذا ما وسع المقام نقله من كلام الأئمة المقتدى بهم في كل زمان ولو أردت استقصاء كلامهم في هذه المسألة لاحتمل مجلداً ضخماً. وفيما نقلته كفاية لبيان جهل هذا الملحد وتوغله في الضلالة. فقد رمى أئمة المسلمين من السلف والخلف بالإفك والضلالة. فقد رمى أئمة المسلمين من السلف والخلف بالإفك والضلال لأنهم لم يتقيدوا – على زعمه – بتقليد أحد الأئمة الأربعة، ولكنهم تقيدوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يتبعوا إلا من قال بهما لأنهم يعلمون أن ما وسع الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من القرون المفضلة – وفيهم الأئمة الأربعة وسائر أئمة الدين المقتدى بهم، وما جاز في حقهم من عدم تقليدهم لأحد غير من فرض الله عليهم طاعته واتباعه – يسع غيرهم ممن جاءوا من بعدهم إلى يوم القيامة. ومن لم يسعه ما وسع أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من القرون المفضلة من بعدهم فلا وسع الله عليه. وهذا الملحد يكفر من قلد محمد بن عبد الله الذي أرسله الله تعالى ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وكذا من قلد أصحابه رضي الله عنهم ومن رد عند التنازع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ويدعي أن الأمة أجمعت – أولها عن آخرها – على تقليد الأئمة الأربعة والرد عند التنازع إلى أقوالهم. أن كتب الحديث "ليس فيها بيان ولا إشارة تهدي إلى الصواب" وقد أوردنا من أقوال أئمة المسلمين من جميع المذاهب سلفاً وخلفاً ما يبطل دعوى هذا الملحد، ويدرأ في نحره. وها هي بين يديك ومن أقربها إليك ما نقلناه عن الإمام ابن القيم رحمه الله حيث يقول: ولا يلزم أحد أن يتمذهب بمذهب رجل معين من الأمة بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره. وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة لم يقل بها أحد من أئمة المسلمين. وقال الإمام أبو شامة في كتابه "المؤمل": وسئل بعض العارفين عن معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 المذهب؟ فأجاب: إن معناه دين مبدل. قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} [الروم، الآيتان: 31- 32] انتهى. وقال ابن العز في حاشية الهداية: فمن يتعصب لواحد من الناس غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرى أن قوله هو الصواب الذي يجب اتباعه دون الأئمة المتأخرين فهو ضال جاهل بل قد يكون كافراً يستتاب فإن تاب وإلا قتل. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 افتراء الملحد على الوهابيين في الإجماع على القراءات ... ثم إن المعترض – بعد أن لفق ما لفقه من الكذب على الوهابيين وإخوانهم بشأن الإجماع – قال: "فهذا ما سمعته من كثير منهم فقلت لبعض علمائهم: إن هذا القول يتناول القرآن العظيم من وجه اختلاف القراءات قال: لا أصرح بعدم توفر التواتر لكني أقول: فيه نظر. فقلت: أعوذ بالله من هذا الغلو، وأي نظر يا عدو نفسه في تواتر القرآن المحفوظ باللفظ والحرف، والأداء بالرواية الصحيحة في صدر لا أقل من ألف ألف حافظ؟ قاتلكم الله على هذا التمحل البارد، والاعتساف السخيف، والاستدلال الفاسد". أقول: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات، الآية: 6] وهذا المعترض فاسق ملحد في دين الله تعالى، وقد كذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فكيف لا يكذب على عباده المؤمنين وكيف نصدق عدواً ألد، قد اشتهر بعداوته لمن اتبع الكتاب والسنة وقد اختلق هذه الفرية على بعض علماء الوهابيين كما زعمه مع أن هذه الفرية ملفقة تلفيقاً لا تقبله العقول السليمة، ولا يتصورها إلا أحمق جاهل مثل هذا الغبي المفتري. أما الوهابيون: فإن العامي منهم – فضلاً عن العلماء – تنفي فطرهم وعقولهم هذه الخرافات وتجل علومهم عن هذه الجهالات. فقاتل الله من استحل الكذب في دينه وعلى عباده وجزاه بما جزى به أمثاله من الكاذبين. ثم ذكر المعترض كلاماً بناه على ما زعمه من أن الوهابيين يعللون عدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 صحة الإجماع بأن لا يكون في الحكم المجمع عليه خلاف بين اثنين. قال: "وهذا يتناول القرآن العظيم" وقد بينا كذبه في هذه الدعوى فيما مضى. وأما ما يتعلق بالإجماع فقد مضى أيضاً بيانه وما قاله المعترض من رفع الحرج واختلاف الصحابة والتابعين والأئمة وما جاء به من الخبط والتخليط. فهذه هي بضاعته الكاسدة التي لا تستحق النظر فيها، ولا الالتفات إليها، وليس لما يقوله قيمة إلا عند الأغبياء أمثاله وليس من قصدنا تتبع هفواته في مثل هذه المسائل إنما قصدنا الرد عليه فيما غيره من أصول الدين، ودعا إليه من الشرك والبدع وما افتراه من الكذب على أئمة المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ادعاء الملحد بأن الإجماع عرف بعد عصر الأئمة الأربعة ... إلى أن قال الملحد: "وكل ذي قلب طاهر وعقل سليم يعلم يقيناً أن اختلاف الأئمة في بعض الفروع، لا يجوز جعله حجة على أن الدين كان واحداً فجعلوه أربعة. ولو جاز هذا القول لتعدى إلى الصحابة رضي الله عنهم لأن الاختلاف بينهم في بعض الفروع ثابت بالتواتر، بل يستطرد للرسول عليه الصلاة والسلام وهذا كفر يتبرأ المسلمون منه". أقول: إن ما زعمه هذا المعترض الملحد وما لفقه من القول الساقط ورتبه عليه من تعديته إلى الصحابة رضي الله عنهم، بل نسبه إلى مقام النبوة قول مخترع وكذب مصطنع، أوحته إلى هذا المعترض شياطينه. قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام، الآية: 121] أما الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى: فإن مقامهم بحمد الله محفوظ عند جميع المسلمين من أهل السنة لا يختلف فيه منهم اثنان، وذلك لفضلهم وعلو قدرهم في العلم والإمامة. فأما من ينتسب إليهم وليس هو على طريقتهم فهذا من الذين فرقوا الدين وفارقوا طريق الأئمة الأربعة. وإذا كان ما يزعمه هذا المعترض من القول في حق الأئمة زوراً وبهتاناً فهو في تعديته إلى الصحابة رضي الله عنهم أولى وأحرى. وليت هذا الملحد وقف في هذا القول عند هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الحد من الخوض في حق الصحابة الأئمة الأربعة بل تعداه إلى مقام الرسول صلى الله عليه وسلم. فزعم أن الخلاف يتطرق إلى أعماله وأقواله فما هو هذا الخلاف الذي يستطرد إلى الرسول أيها الملحد الشاك المرتاب؟ أخزاك الله. قال المعترض: "ولو نصحتم أنفسكم لعرفتم أن الإجماع الذي أنعم الله به علينا معشر أهل السنة لم يكن مثله لأمة من الأمم أو نحلة من النحل. فنحن أهل السنة – البالغ عددنا نحو ما ئتين وخمسين مليوناً منتشرين في كل جهة من كرة الأرض – لم نزل تفقين على أخذ أصول ديننا وفروعه عن الأئمة الأبعة العظام وبواسطتهم إلى نبيناً عليه الصلاة والسلام. لا فرق في تصديق روايتهم وإخلاص مقاصدهم وبراءة ذمتهم بين علمائنا وعوامنا ولو أن سائلاً سأل كل فرد منا عن إمامه وجمع أجوبتهم لما وجد بينهم واحداً ينتسب إلى إمام خامس، فأي إجماع من عهد آدم إلى الآن أعظم من هذا الإجماع؟ الذي لا يحاول إنكاره إلا من ران على قلبه وختم الله على بصره وسمعه". أقول: إن هذا المعترض أحق بنصح نفسه، فإنه ممن قال الله فيهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: الآية: 44] مع أنه ليس من الداعين إلى البر، بل هو من الدعاة إلى الشرك بالله، والبدع في الدين. فقد أعماه الهوى وغلب عليه الجهل، فصار يخوض في دين الله بهواه ووحي شيطانه، وليس له فيه سند من كتاب ولا سنة ولا مستند يرجع إليه من أقوال أئمة أهل السنة. فقد زعم أن إجماع العوام وأهل البدع والأهواء على مخالفة الكتاب والسنة، والانحراف عن طريق الصحابة والتابعين لهم بإحسان، نعمة أنعم الله بها على هذه الأمة لم تكن لأمة غيرها من الأمم، وهذا قول معتوه جاهل لا يصدر إلا من مثل هذا المعترض الأحمق الذي يعتقد أن الإجماع شرع قائم بنفسه، قد شرعه الله ورسوله توسعة لهذه الأمة فكل فرد منها أو طائفة يستحسنون عملاً لم يرد به الشرع، أو يبتدعون بدعة في الدين بشرط أن يتبعهم عليها العوام والجهلة الطغام، فعلمهم هذا يكون إجماعاً شرعياً على مذهب الحاج مختار وشيخه دحلان المتلاعبين بدين الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فإنهم لا يعتنون بشيء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 علوم الشريعة الصحيحة فيتقيدون به ولا يقفون عند حدودها وإنما هو من أهل الأهواء الذين لم يعتمدوا في أخذ دينهم كتاب ربهم، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بل اعتمدوا على غرورهم واستحسان عقولهم الفاسدة، فقد جمعوا بين المتناقضات فزعموا أن الاجتهاد قد انقطع من بعد عصر الأئمة الأربعة، وأن من خرج عن تقليدهم فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. ومع ذلك يقولون بصحة وقوع الإجماع في كل زمان مع إقرارهم بأن تعريف الإجماع المتفق بصحة وقوع الإجماع في كل زمان مع إقرارهم بأن تعريف الإجماع المتفق عليه بين جميع أهل المذاهب أنه اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي. فكيف يتصور وقوع الإجماع مع القول بانقطاع الاجتهاد، وعدم وجود المجتهدين من بعد عصر الأئمة الأربعة؟ هذا هو غاية التناقض. وأغرب من هذا: أن المعترض قد ذكر في محل آخر من رسالته هذه كلاماً يقول فيه: "إن الشرع عندنا مبني على ثلاثة أركان، وهي: الأصول، والفروع، والقياس – ثم يقول بعد ذلك – وبعد قرن الأئمة الأربعة وظهور البدع والمنحل: أضاف العلماء للأركان الثلاثة ركناً رابعاً وهو الإجماع". فزعم أن علماءهم هم الذين جعلوا الإجماع ركناً رابعاً للشرع. وذلك بعد عصر الأئمة الأربعة، أما قبل عصر الأئمة الأربعة فلم يكن هناك إجماع على زعمه وليس هو بحجة. وهذا منتهى الجهل والغباوة اللذين لا ينازع الحاج مختار فيهما أحد قبله ولا بعده من البله الذين هم كسائمة الأنعام. وقد تقدم الكلام على الإجماع وتفصيل القول فيه، بما أغنى عن إعادته. وحاصله: أن كل إجماع لا يستند إلى دليل من الكتاب والسنة فليس بإجماع، بل الإجماع دليل على وجود نص شرعي، وإن خفي على بعض المجتمعين فلا يخفى على الباقين. وهذا ينطبق على عصر الصحابة رضي الله عنهم. أما بعد عصرهم فقد يتعذر العلم بوقوع الإجماع ممن ينعقد بهم لما ذكر في محله من الموانع التي يتعسر معها – بل يستحيل – معرفة صحة وقوع الإجماع من جميع علماء الأمة المجتهدين الذين تفرقوا في الأقطار البعيدة المتنائية الأطراف. وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 التي من ادعى الإحاطة بها، ومعرفة مذاهب أهلها، وأحوال علمائها ودرجاتهم في حمل علوم الكتاب والسنة، وبلوغهم درجة الاجتهاد فهو كاذب كما كذبه الأئمة المقتدى بهم، كالإمام أحمد وغيره من الأئمة. فليس المعول عليه في الشرع الإجماع نفسه فقط إنما المعول عليه هو المجتمعون أنفسهم، بل هو من الذين يصح الاقتداء بهم في مسائل الشرع علماً ودراية وتقوى لله تعالى؟ فتوليهم الأمة ثقتها فيما أجمعوا عليه من أحكام الدين. وتعلم أن لهم فيه مستنداً من الكتاب والسنة دل عليه إجماعهم. وهذا هو المطلوب، أما المقلدون ومن شاكلهم من العوام فليسوا من أهل العلم فضلاً عن أن ينعقد بهم إجماع وإن كثر عددهم فإنهم غثاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 زعمه أن الأمة كلها على السنة وتفنيد مفترياته ... وأما قول المعترض: "فنحن أهل السنة البالغ عددنا نحو مائتين وخمسين مليونا ً، منتشرين في كل جهة من كرة الأرض لم نزل متفقين على أخذ أصول ديننا وفروعه عن الأئمة الأربعة العظام. وبواسطتهم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام الخ". فنقول: هذه دعوى كاذبة منكرة، ولمدعيها حظ وافر من قال تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود، الآية: 18] وقد تقدم الكلام في تكذيب ما يدعيه هذا الملحد لنفسه ولإخوانه الملاحدة من أنهم من أهل السنة والجماعة. وقد دللنا على البطلان دعواه هذه بما أوردناه من كلام الأئمة المحققين في تعريفهم لأهل السنة والجماعة بأنهم المتبعون لطريق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإن قلوا. وأن هذا المعترض وأشياعه من الملاحدة ضلال مبتدعون لا متبعون فليسوا من أهل السنة والجماعة لما اشتهروا به من مخالفتهم لطريق الرسول وأصحابه. وأما زعم المعترض فيمن قدر عددهم بمائتين وخمسين مليوناً منتشرين في كل جهة من كرة الأرض: أنهم كلهم من أهل السنة، وأنهم قد اتفقوا على أخذ أصول دينهم عن الأئمة الأربعة، وبواسطتهم إلى نبينا عليه الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 والسلام – فهذا الزعم من أكذب الكذب، وأبطل الباطل، فإن هذا العدد المذكور قد يستغرق أكثر ممن يدعون الإسلام فضلاً عن كونهم كلهم من أهل السنة مع ما هو معلوم مشهور لكل منصف، مطلع على أحوال من يدعون الإسلام أن الكثرة الكاثرة منهم ليس معهم غير الاسم، وأن ما عليه الأمة المحمدية اليوم – من كثرة الملل والنحل والتفرق في الدين – شاهد لصدق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع ذلك في أمته، كما رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمة علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين كلهم في النار إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي". وفي رواية أحمد وأبي داود عن معاوية: "ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة". وأخرج أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم – وصححه – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" زاد في رواية: "كلها في النار، إلا واحدة، وهي الجماعة". فانظر إلى جرأة هذا الملحد، الذي يزعم أن هذه الفرق – التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها من أمته وأنها كلها في النار إلا واحدة – قد أخذت أصول دينها وفروعها عن الأئمة الأربعة، وبواسطتهم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام سبحانك هذا بهتان عظيم، بل هذه فرق شاقت الله ورسوله، واتبعت غير سبيل المؤمنين ولم تهتد بهدى سيد المرسلين، وعلى رأس هذه الفرق الخاسرة فرقة الحاج مختار وشيخه دحلان، دعاة الشرك في عبادة الله تعالى، والصد عن كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والكذب على عباده الموحدين، ويدعون أنهم من أتباع الأئمة الأربعة – مع أن الأئمة الأربعة بريئون منهم، ومما هم عليه من الإلحاد في دين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الله تعالى – ويغالطون باسم التقليد والإجماع والقياس لأن هذه أسماء يدخلها التمويه والمغالطة على الجهال ونحن قد رددنا على ما زعموه من وجوب التقليد وانقطاع الاجتهاد. والآن نبين فساد ما ادعاه هذا الملحد من أن جميع أهل السنة المتفرقين في الكرة الأرضية قد اتفقوا على تقليد الأئمة الأربعة مبينين أن التقليد رخصة لمن احتاج إليه، وأن الفرض على المكلفين هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم اتباع أصحابه الذين أمرنا صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم. وقد اشتهر عن الأئمة الأربعة رضي الله عنهم النهي عن تقليدهم وتقليد غيرهم، وما زال الأئمة من أصحابهم الملتزمين لمذاهبهم، يخالفونهم في بعض المسائل، إذا ترجح عندهم الدليل من الكتاب والسنة ويقولون: هذا هو حقيقة الاتباع للأئمة، وقبول نصحهم. روى ذلك عن المزني والبويطي من أصحاب الشافعي، وكذلك نبه على هذا الأئمة المتضلعون بعلوم الحديث، الباحثون عن فقهه ومعانيه، الذاكرون لأقوال العلماء ومذاهبهم من غير تقيد بواحد بعينه كأبي بكر بن المنذر وأبي سليمان الخطابي وأبي بكر البيهقي وأبي عمر بن عبد البر وغيرهم. ونبه عليه أيضاً البغوي في التهذيب وإمام الحرمين في النهاية ذكر هذا أبو شامة وروى أيضاً عن كثير من أصحاب الأئمة الأربعة رضي الله عنهم. وقال الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه "الرد على من أخلد إلى الأرض" الباب الثالث في ذكر من حث على الاجتهاد وأمر به وذم التقليد ونهى عنه، اعلم: أنه ما زال السلف والخلف يأمرون بالاجتهاد، ويحضون عليه، وينهون عن التقليد، ويذمونه ويكرهونه. وقد صنف جماعة لا يحصون في ذم التقليد، فمن صنف في ذلك: المزني، صاحب الإمام الشافعي ألف كتاب "فساد التقليد" نقل عنه ابن عبد البر في كتاب "العلم" والزركشي في "البحر" ولم أقف عليه. وألف ابن حزم ثلاثة كتب في إبطال التقليد، وقفت عليها. وألف ابن عبد البر كتاب "العلم" في ذلك، وقفت عليه. وألف أبو شامة في ذلك كتابه المسمى "خطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول" وقفت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 عليه. وألف ابن دقيق العيد كتاب "التسديد في ذم التقليد" لم أقف عليه. وألف ابن قيم الجوزية كتاباً في ذم التقليد، وقفت على كراسين منه. وألف المجد الشيرازي صاحب القاموس كتاب "الإصعاد إلى رتبة الاجتهاد" لم أقف عليه. وهذه نصوص العلماء في ذم التقليد، قد تقدم نقل المزني عن الشافعي رضي الله عنه أنه نهى عن تقليده وتقليد غيره. وقال الشافعي رضي الله عنه في كتابه "الرسالة" فكل ما أنزل الله تعالى في كتابه رحمة وحجة، علمه من علمه، وجهله من جهله، لا يعلمه من جهله، ولا يجهله من علمه. وللناس في العلم طبقات موقعهم من العلم بقدر حاجتهم في العلم به. فحق على طلبة العلم بلوغ جهدهم في الاستكثار من علمه والصبر على عارض عرض دون مطلبه. وإخلاص النية لله عز وجل في استدراك علمه نصاً واستنباطاً والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه، فإنه لا يدرك خير بلا عونه. فإنه من أدرك علم أحكام الله تعالى في كتابه نصاً واستنباطاً وفقه الله للقول والعمل بما علم منه، وفاز بالفضل في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريب، ونورت قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة. فنسأل الله المبتدى لنا بنعمه قبل استحقاقها، المديمها علينا مع تقصيرنا في الإتيان بما أوجبه من شكرها، إذ جعلنا من خير أمة أخرجت للناس أن يرزقنا فهماً في كتابه، ثم سنة نبيه، قولاً وعملاً، نؤدي به عنا حقه، ويوجب لنا نافلة مزيده". وقال الشيخ تقي الدين السبكي – ومن خطه نقلت – فيما انتخبه من أصول الفقه للأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني ما نصه: استدل الأستاذ فيه على عدم التقليد بإجماعنا على أنه لو حفظ مذهب الأئمة من دفترهم، ثم أراد أن يحكم به ويفتي لم يكن له ذلك، لأنه جاهل بدليل هذا المذهب فكما حرم عليه تقليد الميت لجهله بدليل قوله حرم عليه تقليد الحي. وقال أبو طالب المكي في كتاب "قوت القلوب": اعلم أن العبد إذا كاشفه الله بالمعرفة واليقين لم يسعه تقليد أحد من العلماء، وكذلك كان المتقدمون إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أقيموا هذا المقام خالفوا من حملوا عنه العلم، ولأجل ذلك كان الفقهاء يكرهون التقليد ويقولون: لا ينبغي للرجل أن يفتي حتى يعرف اختلاف العلماء – أي فيختار منها الأحوط للدين، والأقوى باليقين – فلو كانوا يحبون أن يفتي العالم بمذهب غيره لم يحتج أن يعرف الاختلاف، ولكان إذا عرف مذهب صاحبه كفاه، من قبل أن العبد يسأله غداً: ماذا عملت فيما علمت؟ ولا يقال له: فيما علم غيرك؟ وقال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ} [الروم، الآية: 56] فقرن بينهما. فدل على أن من أوتي إيماناً ويقيناً أوتي علماً، كما أن من أوتي علماً نافعاً أوتي إيماناً. وهذه أحد الوجوه في معنى قوله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة، الآية: 22] أي قواهم بعلم الإيمان، فعلم الإيمان هو روحه. وتكون الهاء عائدة على "الإيمان" لأن العالم هو الذي تأهل للاستنباط والاستدلال من الكتاب والسنة، ومعرفة أدوات الصنعة، وآلة الصنع، لأنه ذو تمييز وبصيرة ومن أهل التدبر والعبرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الفرق بين التقليد والاتباع ... وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب العلم ما نصه: باب فساد التقليد ونفيه والفرق بن التقليد والاتباع، "التقليد" عند جماعة من العلماء: غير الاتباع، لأن "الاتباع" هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله، وصحة مذهبه. و"التقليد" أن تقول بقوله وأنت لا تعرف وجه القول ولا معناه، وقد ذم الله التقليد في غير موضع من كتابه. فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة، الآية: 31] قال حذيفة وغيره: "لم يعدوهم من دون الله، ولكنهم أحلوا لم وحرموا، فاتبعوهم" وقال عدي بن حاتم: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب، فقال لي: يا عدي، ألق هذا الوثن من عنقك. وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة، حتى أتى على هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة، الآية: 31] قال: قلت: يا رسول الله، إنا لم نتخذهم أرباباً، قال: بلى، أليس يحلون لكم ما حرم الله عليكم، فتحلونه. ويحرمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه؟ فقلت: بلى، فقال: تلك عبادتهم". وعن أبي البحتري في قوله عز وجل: {اتَّخَذُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة، الآية: 31] قال: أما أنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكنهم أمروهم: فجعلوا حلال الله حرماً وحرامه حلالاً، فأطاعوهم. فكانت تلك الربوبية. وقال جل وعز: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف، الآيتان: 23- 24] فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء، فـ {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف، الآية: 24] وفي هؤلاء ومثلهم قال الله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال، الآية: 22] ، وقال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة، الآيتان: 166- 167] وقال جل وعز عائباً على أهل الكفر وذاماً لهم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء، الآيتان: 52 – 53] ، وقال عنهم: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ} [الأحزاب، الآية: 67] . ومثل هذا في القرآن كثير في ذم تقليد الآباء والرؤساء. وقد احتج العلماء بهذه الآيات على إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجل فكفر، وقلد آخر فأذنب، فقلد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها: كان كل واحد ملوماً على التقليد بغير حجة لأن كل ذلك يشبه بعضه بعضاً، وإن اختلفت الآثام فيه، وقال الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة، الآية: 115] وقد ثبت الاحتجاج بما قدمنا في الباب قبل هذا، وفي ثبوته إبطال التقليد أيضاً. فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا، وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها وهي الكتاب والسنة، أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك. ثم ساق أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وآثاراً عن الصحابة رضي الله عنهم فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الأمر والحث على اتباع الكتاب والسنة والتحذير عن آراء الرجال، وزلات العلماء، وأطال في ذلك – إلى أن قال – وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مما قد ذكرناه في كتابنا هذا أنه قال: "يذهب العلماء ثم يتخذ الناس رؤساً جهالاً يسألون فيفتون بغير علم، فيضلون ويضلون" وهذا كله نفي للتقليد وإبطال له لمن فهمه وهدى لرشده. قال: وقال عبيد الله بن المعتز: لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد. وهذا كله لغير العامة. فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها لأنها لا تتبين موقع الحجة ولا تصل بعدم الفهم إلى علم ذلك لأن العلم درجات، لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها، وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة، والله أعلم. ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل، الآية: 43] . قال: وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية، بعد ما تقدم، فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني رحمه الله وأنا أورده، قال: يقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حجة فيما حكمت به؟ فإن قال: نعم، أبطل التقليد، لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد، وإن قال: حكمت فيه بغير حجة، قيل له: فلم أرقت الدماء، وأبحت الفروج، وأتلفت الأموال، وقد حرم الله ذلك إلا بحجة؟ قال الله عز وجل: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس، الآية: 68] أي من حجة بهذا، قال: فإن قال: أنا أعلم أني قد أصبت، وإن لم أعرف الحجة لأني قلدت كبيراً من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت عليَّ، قيل له: إذا جاز لك تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى، لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك، كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك. فإن قال: نعم، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أبى ذلك نقض قوله، وقيل له: كيف تجوز تقليد من هو أصغر منك وأقل علماً ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علماً؟ وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 متناقض. فإن قال: لأن معلمي – وإن كان أصغر – فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه، فهو أبصر بما أخذن وأعلم بما ترك. قيل له: وكذلك من تعلم منه معلمك فهو جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه، فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك. فإن أعاد قوله: جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع، والتابع من دونه، في قياس قوله والأعلى الأدنى أبداً، وكفى بقول يؤول إلى هذا قبحاً وفساداً. قال أبو عمر: وقال أهل العلم والنظر: حد العلم التبيين، وإدراك العلوم على ما هو به، فمن بان له الشيء فقد علمه، وقالوا: والمقلد لا علم له ولم يختلفوا في ذلك ومن ههنا – والله أعلم – قال البحتري: عرف العالمون فضلك بالعـ ... ـلم وقال الجهال بالتقليد وأرى الناس مجمعين على فضـ ... ـلك من بين سيد ومسود وقال أبو عبد الله بن خويز منداد البصري المالكي: التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة. والإتباع: ما ثبتت عليه حجة. وقال في موضع آخر من كتابه: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده. والتقليد في دين الله غير صحيح، وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه والاتباع في الدين مسوغ. والتقليد ممنوع. وذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد عن سحنون قال: كان مالك بن أنس، وعبد العزيز بن أبي سلمة، ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما، وإذا سأله ابن دينار وذووه لم يجبهم. فتعرض له ابن دينار يوماً، فقال له: يا أبا بكر، لم تستحل مني ما لا يحل لك؟ فقال له: يا ابن أخي وما ذاك؟ قال: يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما وإذا سألتك أنا وذويّ فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 تجيبنا. فقال: أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك؟ قال: نعم، قال: إني قد كبرت سني ورق عظمي، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني، ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان إذا سمعا مني حقاً قبلاه، وإذا سمعا خطأ تركاه، وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه. قال محمد بن حارث: هذا والله هو الدين الكامل، والعقل الراجح، لا كمن يأتي بالهذيان، ويريد أن ينزله من القلوب منزلة القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 مناقشة المقلدين ... قال أبو عمر: يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به، وخالفت السلف في ذلك؟ فإنهم لم يقلدوا. فإن قال قلدت لأن كتاب الله عز وجل لا علم لي بتأويله، وسنة رسوله لم أحصها، والذي قلدته قد علم ذلك، فقلدت من هو أعلم مني. قيل له: أما العلماء إذا اجتمعوا على شيء من تأويل الكتاب، أو حكاية سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه. ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض، فما حجتك في تقليد بعض دون بعض وكلهم عالم؟ ولعل الذي رغبت عن قوله: أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه. فإن قال: قلدته لأني علمت أنه على صواب، قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع؟ فإن قال: علمت بدليل. فقد أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل، وإن قال: قلدته لأني أعلم أنه أنه أعلم مني، قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خلقاً كثيراً ولا تخص من قلدته إذا علتك فيه أنه أعلم منك. فإن قال: قلدته لأنه أعلم الناس. قيل له: فهو إذاً أعلم من الصحابة رضي الله عنهم. وكفى بقول مثل هذا قبحاً، وإن قال: أنا إنما أقلد بعض الصحابة، قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم؟ ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله على أن القول لا يصح لفضل قائله وإنما يصح بدلالة الدليل عليه. وقد ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك قال: ليس كلما قال رجل قولاً – وإن كان له فضل – يتبع عليه. يقول الله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر، الآية: 18] فإن قال: قصر نظري وقلة علمي يحملني على التقليد. قيل له: أما من قلد فيما ينزل به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 من أحكام شريعته عالماً بما يتفق له على علمه، فيصدر في ذلك عما يخبره به بمعذور لأنه قد أتى ما عليه، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك. ولكن من كانت هذه حاله هل تجوز له الفتوى في شرائع دين الله؟ فيحمل غيره على إباحة الفروج، وإراقة الدماء، واسترقاق الرقاب، وإزالة الأملاك، وتصييرها إلى غير من كانت في يديه بقول لا يعرف صحته ولا قام الدليل عليه، وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان هو المصيب فيما خالفه فيه. فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى، لحفظه الفروع لزمه أن يجيزها للعامة وكفى بهذا جهلاً ورداً للقرآن. قال الله عز وجل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء، الآية: 36] ، وقال: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف، الآية: 82] وقد أجمع العلماء أن ما لم يتبين ويستيقن فليس بعلم، وإنما هو ظن والظن لا يغني من الحق شيئاً. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد فأغنى ذلك عن الإكثار. انتهى كلام الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى. وقال القاضي عبد الوهاب، أحد أئمة المالكية في أول كتابه "المقدمات" في أصول الفقه: الحمد لله الذي شرع وكلف، وبين ووقف، وفرض وألزم، وأوجب وحتم، وحلل وحرم، وندب وأرشد، ووعد وأوعد، ونهى وأمر، وأباح وحظر، وأعذر وأنذر، ونصب الأدلة والأعلام على ما شرع لنا من الأحكام، وفصل الحلال من الحرام، والقرب من الآثام، وحض على النظر فيها والتفكر والاعتبار والتدبر، فقال جل ثناؤه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر، الآية: 2] وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء، الآية: 82] ، وقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت، الآية: 43] ، وقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص، الآية: 29] ، وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 مِنْهُمْ} [النساء، الآية: 83] ، وقال: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة، الآية: 122] الآية. "والتفقه" من التفهم والتبيين، ولا يكون ذلك إلا بالنظر في الأدلة واستيفاء الحجة دون التقليد، لأن التقليد لا يثمر علماً، ولا يفضي إلى معرفة، وقد جاء النص بذم من أخلد إلى تقليد الآباء والرؤساء، واتباع السادات والكبراء، تاركاً بذلك ما ألزمه الله من النظر والاستدلال، وفرض عليه من الاعتبار والاجتهاد. فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة، الآية: 170] ، وقال: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف، الآية: 22] في نظائر من هذه الآيات، تنبيهاً بها على علة حظر التقليد. بأن فيه ترك اتباع الأدلة والعدول عن الانقياد إلى قول من لا يعلم أنه فيما تقلد فيه مصيب أو مخطئ. فلا يأمن من التقليد لغيره كون ما يقلده فيه خطأ وجهلاً. لأن صحة المذهب لا تتبين من فساده باعتقاد المعتقد له، وشدة تمسكه به. وإنما يتميز صحيح المذاهب من فاسدها وحقها من باطلها بالأدلة الكاشفة عن أحوالها، والمميزة بين أحكامها. وذلك معدوم في المقلد لأنه متبع لقول لا يعرف صحته من فساده، وإنما اعتقده لقول مقلده به. فإن زعم صاحب التقليد أنه يعرف صحة القول الذي قلد فيه ويعلم أنه حق، وأن اعتقاده واجب. فذلك باطل منه لأن العلم بذلك لا يكون إلا بالنظر في الأدلة التي هي طريق العلم به فإذا عدل عنها علمنا بطلان دعواه للعلم بصحة ما قلد فيه، فإن قال: علمت صحة القول الذي قلدت فيه بدليل وحجة، قلنا: فأنت إذن غير مقلد، لأنك عارف بصحة القول الذي تعتقده، والتقليد: هو اتباع القول، لأن قائلاً قال به من غير علم بصحته من فساده. ثم قال – فإن قيل: فإذا كنتم تمنعون التقليد وتدعون إلى النظر: فيجب أن تبينوا صحته وتثبتوه طريقاً للعلم بالمنظور فيه. فالجواب: أن القرآن قد حض على النظر والاعتبار في الآيات السابقة، ولا يجوز أن يحض على النظر فيما لا يثمر علماً، ويأمر باعتقاد ما يؤدي إليه. وإن لم يكن حقاً مع قوله تعالى: {وَلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء، الآية: 36] وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة، الآية: 169] ، وقوله: {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء، الآية: 171] ومع ما ورد به القرآن من الاستدلال على مدلولات والتنبيه على تصحيح وإفساد مقالات. وذلك في القرآن كثير، يطول استيفاؤه ومن الظاهر في ذلك المشهور ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم من الاحتجاج والاستدلال في مسائل الأحكام، ومناظرة بعضهم لبعض، وذلك أشهر وأظهر من تكلف الإطالة بتقصيه، فبان بما أوردناه صحة النظر والاستدلال وثبوته طريقاً للعلم بالمنظور فيه. فإن قيل: أخبرونا عن مريد التفقه ما الذي يلزمه؟ قلنا: لا يسوغ لمن فيه فضل للنظر والاجتهاد وقوة على الاستدلال والاعتبار أن يعتقد التفقه إلا من طريق الاستدلال الصحيح، العاري عن آفات النظر المانعة له من استعماله على وجهه وترتيبه في حقه. فإن قيل: فهذا خلاف ما أنتم عليه من دعائكم إلى درس مذهب مالك بن أنس، واعتقاده، والتدين بصحته، وفساد ما خالفه؟ قلنا: هذا ظن منك بعيد، وإغفال شديد، لأنا لا ندعو من ندعوه إلى ذلك إلا إلى أمر قد عرفنا صحته، وعلمنا صوابه بالطريق التي قد بيناها، فلم نخالف بدعائنا إليه ما قررناه، وعقدنا الباب عليه. هذا كلام القاضي عبد الوهاب وهو نظير قول من قال من أصحابنا: ما قلدنا الشافعي ولكن طابق اجتهادنا اجتهاده. وقال القاضي عبد الوهاب أيضاً في كتابه "الملخص" في أصول الفقه. فصل في فساد التقليد: التقليد لا يثمر علماً، فالقول به ساقط، وهذا الذي قلنا: هو قول كافة أهل العلم. وذهب قوم من ضعفة من ينتمي للعلم، وممن يفرغ على نفسه من استيفاء النظر على وجهه حتى أن يكشف له به فساد مذهب، قد تمت له معه وئاسة، أو حصل له نشوة أو عادة، أو عصبية إلى صحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 التقليد. وأنه يثمر العلم بالمقلد فيه والدليل على فساد ذلك: أن المقلد لا يخلو أن يكون عالماً بصحة قول من يقلده، أو غير عالم بذلك، فإن كان عالماً فهذا ليس بمقلد لأن متبع لقول قد عرف صحته بالطريق الذي به عرف كون قائله محقاً، وإن كان غير عالم بصحته لم يأمن أن يكون خطأ وجهلاً. فيقدم على اعتقاده، ومعتقد الجهل والخطأ ليس بعالم. ولا يقال: إن اعتقاده علم فبطل بذلك كون التقليد علماً. وقد دل القرآن على فساد التقليد في غير موضع وعلى ذم من صار إليه، ودان به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 التقليد قبول قول بلا حجة ... وقال الغزالي في "المستصفى": التقليد هو قبول قول بلا حجة، وليس ذلك طريقاً إلى العلم، لا في الأصول ولا في الفروع. وذهب الحشوية والتعليمية إلى أن طريق معرفة الحق التقليد. وأن ذلك هو الواجب وأن النظر والبحث حرام. ويدل على بطلان مذهبهم مسالك: الأول: أن صدق المقلد لا يعلم ضرورة فلا بد من دليل، ودليل الصدق المعجزة. فيعلم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بمعجزته وصدق كلام الله بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن صدقه وصدق أهل الإجماع بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن عصمتهم. فحيث لم تقم حجة ولم يعلم الصدق بضرورة ولا دليل فالاتباع فيه اعتماد على الجهل. المسلك الثاني: أن يقال: أتحيلون الخطأ على مقلدكم أم تجوزونه؟ فإن جوزتموه فأنتم شاكون في صحة مذهبكم وإن أحلتموه فبم عرفتم استحالته؟ أبضرورة، أم بنظر أم بتقليد؟ ولا ضرورة ولا دليل. فإن قلدتموه في قوله: إن مذهبه حق، فبم عرفتم صدقه في تصديق نفسه؟ وإن قلدتم غيره فبم عرفتم صدق المقلد الآخر؟ وإن عولتم على سكون النفس إلى قوله، فبم تفرقون بين سكون نفوسكم وسكون نفوس النصارى واليهود؟ وبم تفرقون بين قول مقلدكم إني صادق محق، وبين قول مخالفيكم؟ ويقال لهم أيضاً في إيجاب التقليد: هل تعلمون وجوب التقليد أم لا؟ فإن لم تعلموا فلم قلدتم؟ وإن علمتم فبضرورة أو نظر أو تقليد؟ ويعود عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 السؤال في التقليد، ولا سبيل لهم إلى النظر والدليل. فلا يبقى إلا إيجاب التقليد بالتحكم. فإن قيل: عرفنا صحته بأنه مذهب الأكثرين فهو أولى بالاتباع. قلنا: وبم أنكرتم على من يقول الحق دقيق غامض، لا يدركه إلا الأقلون، ويعجز عنه الأكثرون لأنه يحتاج إلى شروط كثيرة من الممارسة والتفرغ للنظر وإنقاد القريحة، والخلو عن الشواغل. ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان محقاً في ابتداه أمره وهو في شرذمة يسيرة على خلاف الأكثرين. وقد قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام، الآية: 116] كيف وعدد الكفار في زماننا أكثر؟ ثم يلزمكم أن تتوقفوا حتى تدوروا في جميع العالم وتعدوا جميع المخالفين، كيف؟ وهو خلاف نص القرآن. قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ، الآية: 13] ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام، الآية: 37] ، {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون، الآية: 70] . قال: ولهم شبه. الأولى: أن النظر مفروض في شبهات، وقد كثر ضلال الناظرين فترك الخطر وطلب السلامة أولى. قلنا: وقد كثر ضلال المقلدين من اليهود والنصارى فبم تفرقون بين تقليدكم وتقليد سائر الكفار؟ قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة. ثم يقال: إذا وجبت المعرفة كان التقليد جهلاً وضلالاً، فكأنكم اخترتم الجهل خوفاً من الوقوع في الجهل، كنت يقتل نفسه عطشاً وجوعاً، خوفاً من أن يغض بلقمة، أو يشرق بشربة لو أكل أو شرب، وكمن يترك التجارة والحراثة خوفاً من نزول صاعقة فيختار الفقر. الشبهة الثانية: تمسكهم بقوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر، الآية: 4] والنظر فتح باب الجدل، قلنا: نهى عن الجدال بالباطل كما قال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر، الآية: 5] بدليل قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل، الآية: 125] ، {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت، الآية: 46] ثم إنا نعارضهم بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء، الآية: 36] ، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة، الآية: 169] ، {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف، الآية: 86] ، {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف، الآية: 81] ، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة، الآية: 111] هذا كله نهى عن التقليد وأمر بالعلم. ولذلك عظم الله شأن العلماء فقال تعالى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة، الآية: 11] وقال صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين" ولا يحصل هذا بالتقليد بل بالعلم. وقال ابن مسعود: "ولا تكن إمعة. قيل: وما الإمعة؟ قال: أن يقول: أنا مع الناس، إن ضلوا ضللت، وإن اهتدوا اهتديت، ألا لا يوطنن أحدكم نفسه أن يكفر إن كفر الناس" هذا كلام الغزالي. قال: وعن ابن مسعود أثر أصرح في ذم التقليد من الأثر المذكور وهو ما أخرجه البيهقي في سنه عن ابن مسعود قال: "لا تقلدوا دينكم الرجال". وقال الإمام ابن حزم في كتابه "النبذ الكافية في علم الأصول": التقليد حرام، ولا يحل لأحد أن يأخذ قول أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا برهان لقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف، الآية: 3] ، وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة، الآية: 170] وقال في حق من لم يقلد: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر، الآيتان: 17- 18] ، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء، الآية: 59] فلم يبح الله تعالى الرد عند التنازع إلى أحد دون القرآن والسنة. وحرم بذلك الرد عند التنازع إلى قول أي قائل لأن غير القرآن والسنة، وقد صح إجماع الصحابة رضي الله عنهم كلهم – أولهم عن آخرهم – وإجماع جميع التابعين – أولهم عن آخرهم – وإجماع تابع التابعين – أولهم عن آخرهم – على الامتناع والمنع من أن يقصد منهم أحد إلى قول إنسان منهم أو من قبلهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فليأخذه كله. فليعلم كل من أخذ بجميع أقوال أبي حنيفة أو جميع أقوال مالك أو جميع أقوال الشافعي أو جميع أقوال أحمد رضي الله عنهم ولم يترك من اتبع منهم أو من غيرهم إلى قول غيره، ولم يعتمد على ما جاء في القرآن والسنة، غير صارف لذلك إلى قول إنسان بعينه أن قد خالف إجماع الأمة كلها عن آخرها، بيقين لا إشكال فيه، وأنه لا يجد لنفسه سلفاً، ولا إنساناً في جميع الأعصار المحمودة الثلاثة فقد اتبع غير سبيل المؤمنين. نعوذ بالله من هذه المنزلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أدلة جديدة على إبطال التقليد ... وأيضاً فإن هؤلاء الفقهاء كلهم قد نهو عن تقليدهم وتقليد غيرهم، فقد خالفهم من قلدهم، وأيضاً فما الذي جعل رجلاً من هؤلاء أو من غيرهم أولى أن يقلد من عمر بن الخطاب، أو علي بن أبي طالب، أو ابن مسعود، أو ابن عمر، أو ابن عباس، أو عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم؟ فلو ساغ التقليد لكان كل واحد من هؤلاء أحق بأن يتبع من غيره. وذكر في كتاب "التلخيص" نحو ذلك. ومن عبارته فيه: وهل أباح مالك وأبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهم قط لأحد تقليدهم؟ حاشا لله من هذا، بل والله قد نهوا عن ذلك ومنعوا منه ولم يفسحوا لأحد فيه. وقال في كتابه "الدرة" وعلى كل أحد مقدار ما يطيق من الاجتهاد في الدين، ولا يحل لأحد أن يقلد أحداً، لا حياً ولا ميتاً، ولا أن يتبع أحداً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم لاقديماً ولا حديثاً. ومن التزم طاعة إنسان بعينه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان قائلاً بالباطل، ومخالفاً لما كان عليه جماعة الصحابة وجميع التابعين، أولهم عن آخرهم، وجميع تابعي التابعين بلا خلاف أحد منهم وما كان في الأعصار الثلاثة واحد – فما فوقه – أخذ قول إنسان فنصره كله، واعتقده بأسره وانتسب إليه. فهذه بدعة خالف الإجماع التام صاحبها. وقال في كتابه "إبطال التقليد": إنما حدث التقليد في القرن الرابع، والتقليد: هو أن يفتي في الدين فتيا لأن فلاناً الصاحب أو فلاناً التابع أو فلاناً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 العالم أفتى بها بلا نص في ذلك. وهذا باطل. لأنه قول في الدين بلا برهان، وقد يختلف الصحابة والتابعون والعلماء في ذلك. فما الذي جعل بعضهم أولى بالاتباع من بعض؟ قال: ويكفي في إبطال التقليد: أن القائلين به مقرون على أنفسهم بالباطل. لأن كل طائفة من الحنفية والمالكية والشافعية مقرة بأن التقليد لا يحل، وأئمتهم الثلاثة قد نهوا عن تقليدهم. ثم مع ذلك خالفوهم وقلدوهم وهذا عجب ما مثله عجب، حيث أقروا ببطلان التقليد ثم دانوا الله بالتقليد. وأيضاً فإنهم مجمعون معنا على أن جميع أهل عصر الصحابة رضي الله عنهم لم يكن فيهم واحد فما فوقه يقلد صاحباً أكبر منه، فيأخذ قوله كله وأن جميع أهل عصر التابعين لم يكن فيهم واحد يقلد صاحباً أو تابعاً أكبر منه، فيأخذ بقوله كله. فصح يقيناً أن هؤلاء المقلدين الذين لا يخالفون من قلدوه قد خالفوا إجماع الأمة كلها بيقين وهذا عظيم جداً. وأيضاً: فما الذي خص أبا حنيفة ومالكاً والشافعي بأن يقلدوا دون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم، ودون سعيد بن المسيب والزهري والنخعي والشعبي وعطاء وطاووس والحسن البصري رحمة الله على جميعهم؟ وأيضاً: فإن هذه الطوائف كلها مقرة بأن عيسى ابن مريم عليه السلام سينزل ويحكم في الأرض. فهل يحكم إذا نزل برأي أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي؟ معاذ الله، بل يحكم بما أوحى الله إلى أخيه محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الذي ندعوا إليه والذي لا يحل لأحد أن يحكم ولا أن يفتي إلا به، ولا يدين بسواه. فإن قالوا: لا نقدر على الاجتهاد. قلنا: يأخذ كل أحد جهده في الطريق الموصلة إلى ذلك. ثم قال: ذكر الآثار في ذم التقليد- وأخرج بأسانيده آثاراً استوفيتها في تيسير الاجتهاد – فمنها: ما أخرجه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "أما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم. وإن افتتن فلا تقطعوا عنه رجاءكم" وأخرج عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ويل للأتباع من غمرات العالم. قيل: وكيف ذلك؟ قال: يقول العالم من قبل رأيه، ثم يبلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيأخذ، ويمضي الأتباع بما سمعوا". وأخرج عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لا تكونن إمعة تقول أنه مع الناس" وأخرج عن مجاهد قال: "ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم" وأخرج عن مجاهد قال: "ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم". وأخرج عن الحكم بن عيينة قال: "ليس أحد من الناس إلا أنت آخذ من قوله وتارك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم" وأخرج عن أحمد بن حنبل أنه ذكر له قول مالك وترك ما سواه، فقال: "لا يلتفت إلا إلى الحديث قوم يفتنون، وهكذا يتقلدون قول الرجل ولا يبالون بالحديث" وأخرج عن سعيد بن أبي عروبة قال: "من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالماً". وأخرج عن قبيصة بن عقبة قال: "لا يفلح من لا يعرف الاختلاف" وأخرج عن ابن القاسم قال: "سئل مالك: لمن تجوز الفتيا؟ قال: لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه. قيل له: اختلاف أهل الرأي؟ قال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم الناسخ والنسوخ من القرآن، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم فذلك يفتي". قال ابن حزم: هذا قول مالك في أنه لا يجوز لأحد أن يقضي ولا أن يفتي إلا أن يكون عالماً بالحديث والفقه والاختلاف، فإن كان عالماً بأحدها لم يجز له أن يقضي ولا أن يفتي. وهذا قول أبي حنيفة والشافعي بلا خلاف. قال: فلينظر حكامهم ومفتوهم اليوم، هل هذه صفتهم أم لا؟ فإن كانوا ليسوا كذلك فقد خالفوا من ادعوا تقليده، وحصلوا على لا شيء. وقال في رسالة أخرى: قد دل الكتاب والسنة وحضا على النظر والاجتهاد وترك التقليد، ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – أولهم عن آخرهم – ليس منهم أحد أتى إلى من هو فوقه في القرب والسابقة والعلم فأخذ قوله كله، فقلده في دينه، بل رأينا كل امرئ منهم يجتهد لنفسه. ثم يحثنا عن عصر التابعين فوجدناهم على تلك الطريقة، ليس منهم أحد أتى إلى تابع أكبر منه أو إلى صاحب فتقلد قوله كله. وكذلك أتباع التابعين، ليس منهم أحد أتى إلى تابع أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 صاحب أو فقيه من أهل عصره أكبر منه فأخذ قوله كله ولم يخالفه في شيء منه، ولا أمروا بذلك عامياً منهم ولا خاصياً. وهذه القرون المحمودة الثلاثة. فعلمنا يقيناً: أنه لو كان أخذ قول عالم بأسره فيه شيء من الخير والصواب ما سبقهم إليه من حدث في القرون المذمومة. ولو كان ذلك فضيلة ما سبقناهم إليها. وهذا العصر الثالث هو الذي كان فيه ابن جريج وسفيان بن عيينة بمكة، وابن أبي ذئب، ومحمد بن إسحاق، وعبد الله بن عمر، وإسماعيل بن أمية، ومالك بن أنس، وسليمان بن بلال، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وعبد العزيز الدراوردي، وإبراهيم بن سعد بالمدينة، وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ومعمر بن راشد، وأبو عوانة، وشعبة، وهمام بن يحيى، وجرير بن حازم، وهشام الدستوائي، وزكريا بن أبي زائدة، وحبيب بن الشهيد، وسوار بن عبد الله، وعبيد الله بن الحسن، وعثمان بن سليمان بالبصرة، وعثمان بن بشر بواسط، وسفيان الثوري وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والحسن بن يحيى، وشريك، وأبو حنيفة، وزهير بن معاوية، وجرير بن عبد الحميد، ومحمد بن حازم بالكوفة، والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، والزبيدي، والقاضي حمزة بن يحيى، وشعيب بن أبي حمزة بالشام، والليث بن سعد، وعقيل بن خالد بمصر. كلهم على الطريقة التي ذكرت ما منهم أحد أخذ يقول إمام ممن قبله فقبله كله دون أن يرد منه شيئاً. ثم حدث بعدهم من اعتصم بهداهم وسلك سبيلهم في نحو ذلك، نحو يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وبشر بن المفضل، وخالد بن الحارث، وعبد الرزاق، ووكيع، ويحيى بن آدم، وحميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، والوليد بن مسلم، والحميدي، والشافعي، وابن المبارك، وحفص بن غياث، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وأبي داود الطيالسي، وأبي الوليد الطيالسي، ومحمد بن عدي، ومحمد بن جعفر، ويحيى بن يحيى النيسابوري، ويزيد بن زريع، وإسماعيل بن علية، وعبد الوارث بن سعيد، وابنه عبد الصمد، ووهب بن جرير، وأزهر بن أسد، وعفان بن مسلم، وبشر بن عمر، وأبي عاصم النبيل، والمعتمر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 سليمان، والنضر بن شميل، ومسلم بن إبراهيم، والحجاج بن منهال، وأبي عامر العقدي، وعبد الوهاب الثقفي، والفريابي، ووهب بن خالد، وعبد الله بن نمير وغيرهم. ما من هؤلاء أحد قلد إماماً كان قبله. ثم تلاهم على مثل ذلك: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وأبو عبيد، وأبو خيثمة، وأبو أيوب الهاشمي، وأبو إسحاق الفزاري، ومخلد بن الحسين، ومحمد بن يحيى الذهلي، وأبو بكر عثمان ابنا أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وقتيبة، ومسدد، والفضل بن دكين، ومحمد بن المثنى، وبندار، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ومحمد بن العلاء، والحسن بن محمد الزعفراني، وسليمان بن حرب، وعارم وغيرهم. ليس منهم أحد قلد رجلاً. وقد شاهدوا من قبلهم ورأوهم. فلو رأوا أنفسهم في سعة من أن يقلدوا دينهم أحداً منهم لقلدوا. ثم بعد هؤلاء: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، ومحمد بن سنجر، ويعقوب بن شيبة، وداود بن علي، ومحمد بن نصر المروزي، وابن المنذر، ومحمد بن جرير الطبري، وبقيُُّ بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشني، وغيرهم. ما منهم أحد أتى إلى إمام قبله فأخذ قوله كله فتدين به، بل كل هؤلاء نهى عن ذلك وأنكره، ولم أجد أحداً ممن يوصف بالعلم قديماً وحديثاً يستجيز التقليد ولا يأمر به، وكذلك ابن وهب، وابن الماجشون، والمغيرة بن أبي حازم، ومطرف بن كنانة لم يقلدوا شيخهم مالكاً في كل ما قال بل خالفوه في مواضع واختاروا غير قوله. وكذلك الأمر في زفر، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد، وبكار بن قتيبة، والطحاوي وكذلك القول في المزني، وأبي عبيد بن حربويه، وابن خزيمه، وابن سريج. فإن كلاً منهم خالف إمامه في أشياء واختار منها غير قوله. ومن آخر ما أدركنا على ذلك: شيخنا أبو عمر الطلمنكي، فما كان يقلد أحداً وذهب إلى قول الشافعي في بعض المسائل. والآن محمد بن عوف لا يقلد أحداً. وقال بقول الشافعي في بعض المسائل. إلى كثير من سلف وخلف لو ذكرتهم لطال الخطب بذكرهم. ثم أنشد لنفسه قصيدة في الاجتهاد قال في آخرها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 واهرب عن التقليد، فهو مضلة ... إن المقلد في سبيل الهالك تأبونه في العقل، وهو مقالكم ... في الدين، يا له من ضلال فاتك هذا ما نقلته من كلام ابن حزم، وقوله في أوله: "لا يقلد أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم". سبقه إليه الشافعي رضي الله عنه. فقال المزني في مختصره في باب القضاء: "ولا يقلد أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثم ذرك عن أبي جعفر محمد بن الحسن الأرسابندي من الحنفية، قال في كتاب "أصول الفقه": فنقول – وبالله التوفيق – التقليد هو أن يقلد غيره ويتبعه من غير دليل ظهر له، وإنه من أفعال الكفر. قال الله تعالى حاكياً عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف، الآية: 23] وقال حاكياً عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت، الآية: 12] وقال الحشوية: التقليد حق، واحتجوا بأن الأصل في بني آدم العقل والأصل في العقلاء العمل بالحق، لأن العقل يدعوهم إليه وبأنا جوزنا تقليد الصحابي لأنه صاحب من يجب اتباعه، فيجوز تقليد التابعي لأنه صاحب من يجب اتباعه، وهكذا إلى قيام الساعة. ونقول: التقليد الباطل لأن الله تعالى ذم الكفرة على التقليد، فقال حاكياً عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف، الآية: 23] فلا يجوز أن يشتغل الإنسان بما يستحق الذم عليه، ولأن فعله يحتمل الخطأ والصواب، والمحتمل لا يصلح حجة، ولأنك تقول لهذا الرجل: قلدت فلاناً لأنه عاقل، فقلدني أيضاً. فإن قلدك فقد ترك مذهبه وإن لم يقلدك تقول له: الموجب لتقليده عقله، وقد وجد هنا، ولأنا نقول له: قلدته لعلمك بكونه حقاً أو لا؟ فإن قال: لا، بالجهل، لا يصلح حجة، وإن قال: نعم، فعلمه يستند إلى دليل فلم يكن مقلداً. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "القواعد الكبرى": ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً، وهو مع ذلك يقلد فيه، ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم، جموداً على تقليد إمامه، بل يتحيل لدفع ظواهر الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 والسنة ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة، نضالاً عن مقلده. قال: وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذكر لأحدهم خلاف ما وطن نفسه عليه تعجب منه غاية التعجب من غير استرواح إلى دليل، بل لما ألفه من تقليد إمامه، حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه ولو تدبره لكان تعجبه من مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره. فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر، من غير فائدة يجدها. قال: وما رأيت أحداً رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره، بل يصر عليه مع علمه بضعفه وبعده. فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه، ولم أهتد له، ولات يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله، ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح، والبرهان اللائح. فسبحان من أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على ما ذكرت. قال: ولم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقليد ولا تقيد بمذهب، ولا إنكار على أحد من السائلين إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين فإن أحده يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة، مقلداً له فيما قال كأنه نبي أرسل إليه، وهذا نأي عن الحق، وبعد عن الصواب لا يرضى به أحد من أولي الألباب. هذا كلام الشيخ عز الدين. وقال الإمام أبو شامة في "خطبة كتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول": ينبغي لمن اشتغل بالفقه أن لا يقتصر على مذهب إمام معين، وبأن يرفع نفسه عن هذا المقام وينظر في مذهب كل إمام ويعتقد في كل مسألة صحيحة ما كان أقرب إلى دلالة الكتاب والسنة المحكمة، وذلك سهل عليه إذا كان قد أتقن معظم العلوم المتقدمة وليتجنب التعصب والنظر في طرائق الخلاف المتأخرة، فإنها مضيعة للزمان، ولصفوه مكدرة. قال: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" قال: فما أعظم حظ من بذل نفسه وجهدها في تحصيل العلم، حفظاً على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الناس. فإن هذه الأزمنة قد غلب على أهلها الكسل، والملل، وحب الدنيا. انتهى ما نقلته من كتاب الرد للإمام السيوطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 المذهب: معناه دين مبدل ... وقال الإمام أبو شامة أيضاً في كتاب "المؤمل": وسئل بعض العارفين عن معنى المذهب؟ فأجاب: إن معناه دين مبدل، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} [الروم، الآيتان: 31 – 32] انتهى. ولا بأس من إعادة ما نقلته قريباً في ردي هذا عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالىن قال في كتابه "أعلام الموقعين عن رب العالمين": وهل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا؟ فيه مذهبان: أحدهما: لا يلزمه. وهو الصواب المقطوع به، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يوجب الله ورسوله على أحد أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة فيقلده دينه دون غيره، وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة ويبرأ أهلها من هذه النسبة. بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به فالعامي لا مذهب له، لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال، ويكون بصيراً بالمذهب على حسبه، أو لمن قرأ كتاباً في فروع ذلك المذهب وعرف فتوى إمامه وأقواله، وأما من لم يتأهل لذلك البتة بل قال: أنا شافعي، أو حنبلي، أو غير ذلك. لم يصر كذلك بمجرد القول، كما لو قال: أنا فقيه، أو نحوي أو كاتب لم يكن كذلك بمجرد قوله. يوضحه: أن القائل أنه شافعي، أو مالكي، أو حنفي يزعم أنه متبع لذلك الإمام، سالك طريقه. وهذا إنما يصح إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة والاستدلال. فأما مع جهله وبعده جداً عن سيرة الإمام وعلمه وطريقه: فكيف يصح الانتساب إليه بالدعوى المجردة، والقول الفارغ من كل معنى؟ والعامي لا يتصور أن يصح له مذهب، ولو تصور له ذلك لم يلزمه ولا لغيره ولا يلزم أحداً قط أ، يتمذهب بمذهب رجل من الأمة، بحيث يأخذ أقواله كلها، ويدع أقوال غيره. وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 أعلى رتبة وأجل قدراً وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك. وأبعد منه قول من قال يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء، وأبعد منه قول من قال: يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة. فيالله العجب، ماتت مذاهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومذاهب التابعين وتابعيهم وسائر أئمة الإسلام، وبطلت جملة إلا مذاهب أربعة أنفس من بين سائر الأئمة والفقهاء. وهل قال ذلك أحد من الأئمة أو دعا إليه أو دلت عليه لفظة واحدة من كلامه عليه؟ والذي أوجبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على الصحابة والتابعين وتابعيهم: هو الذي أوجبه على من بعدهم إلى يوم القيامة، لا يختلف الواجب ولا يتبدل، وإن اختلفت كيفيته أو قدره باختلاف القدرة والعجز والزمان والمكان والحال فذلك أيضاً تابع لما أوجبه الله ورسوله. ومن صحح للعامي مذهباً قال: هو قد اعتقد أن هذا المذهب الذي انتسب إليه هو الحق، فعليه الوفاء بموجب اعتقاده، وهذا الذي قاله هؤلاء: لو صح للزمه تحريم استفتاء غير أهل المذهب الذي انتسب إليه، وتحريم تمذهبه بمذهب نظير إمامه أو أرجح منه أو غير ذلك من اللوازم التي يدل فسادها على فساد ملزوماتها، بل يلزم منه أنه إذا رأى نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قول خلفائه الأربعة مع غير إمامه أن يترك النص وأقوال الصحابة ويقدم عليها قول من انتسب إليه. وعلى هذا فله أن يستفتي من شاء من أتباع الأئمة وغيرهم، ولا يجب عليه ولا على المفتي أن يتقيد بأحد من الأئمة الأربعة بإجماع الأئمة، كما لا يجب على العالم أن يتقيد بحديث أهل بلده أو غيره من البلاد بل إذا صح الحديث وجب عليه العمل به، حجازياً كان أو عراقياً أو شامياً أو مصرياً أو يمنياً. انتهى. وقال العالم الأصولي الفقيه الشيخ محمد بن عبد العظيم المكي الحنفي في كتابه "القول السديد" الفصل الأول: اعلم أنه لم يكلف الله أحداً من عباده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 بأن يكون حنفياً أو مالكياً أو شافعياً أو حنبلياً، بل أوجب عليهم الإيمان بما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم والعمل بشريعته. انتهى. وقال الشيخ العلامة صالح بن محمد العمري في كتابه "إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار" وقد نقل كلاماً طويلاً عن ابن العز في حاشية الهدية في العمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: وقال ابن العز أيضاً: وما يقع لأئمة الفتوى من هذا – أي من ترك العمل بالحديث – فهم مأجورون عليه مغفور لهم. ومن تبين له شيء من ذلك لا يعذر في التقليد. فإن أبا حنيفة وأبا يوسف رحمهما الله تعالى قالا: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه، وإن كان الرجل متبعاً لأبي حنيفة أو مالك أو شافعي أو أحمد رضي الله عنهم ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى منه فاتبعه، كان قد أحسن في ذلك. ولم يقدح في دينه ولا عدالته بلا نزاع. بل هذا أولى بالحق، وأحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فمن يتعصب لواحد معين غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرى أن قوله هو الصواب الذي يجب اتباعه، دون الأئمة المتأخرين فهو ضال جاهل. بل قد يكون كافراً يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم دون الآخرين فقد جعله بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك كفر، بل غاية ما يقالك إنه يسوغ أو يجب على العامي أن يقلد واحداً من الأئمة من غير تعيين زيد ولا عمرو. أما من كان محباً للأئمة، موالياً لهم، يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة فهو محسن في ذلك والصحابة والأئمة بعدهم كانوا مؤتلفين متفقين، وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة، فإجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة. ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون التابعين فهو بمنزلة من يتعصب لواحد من الصحابة دون الباقين، كالرافضي والناصبي والخارجي. فهذه طرق أهل البدع والأهواء، الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة، ومن تبين له من العلم ما كان خفياً عليه فاتبعه فقد أصاب، زاده الله هدى. وقد قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه، الآية: 114] ومن جملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 أسباب تسليط الفرنج على بعض بلاد المغرب، والتتر على بلاد المشرق: كثرة التعصب والتفرق، والفتن بينهم في المذاهب وغيرها وكل ذلك من اتباع الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الواجب على كل مسلم: الاجتهاد في معرفة معاني القرآن والسنة ... قال: وقال شيخ مشايخنا محمد حياة السندي: اللازم على كل مسلم أن يجتهد في معرفة معاني القرآن من غير التزام مذهب لأنه يشبه اتخاذه نبياً وينبغي له أن يأخذ بالأحوط من كل مذهب، ويجوز له الأخذ بالرخص عند الضرورة. وأما بدونها فالأحسن الترك أما ما أحدثه أهل زماننا من التزام مذاهب مخصوصة لا يرى ولا يجوز كل منهم الانتقال من مذهب إلى مذهب، فجهل وبدعة وتعسف. وقد رأيناهم يتركون الأحاديث الصحاح غير المنسوخة، ويتعلقون بمذاهبهم من غير سند فإنا لله وإنا إليه راجعون، انتهى. وقال الإمام ابن رجب في طبقاته في ترجمة ابن هبيرة قال: مما أنكره علي بعض من يفتي في عصره، قال: وتارة إذا ذكرت لأحدهم الدليل، قال: ليس هذا مذهبنا فيقيم أوثاناً تعبد مع الله. انتهى. وقال الغزالي في كتابه "فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة": شرط المقلد أن يسكت ويسكت عنه، لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج، ولو كان أهلاً له، لكان مستتبعاً لا تابعاً، وإماماً لا مأموماً. وإن خاض المقلد في المحاجة فذلك منه فضول والمشتغل به ضارب في حديد بارد، وطالب لإصلاح فاسد، وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟ انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه "منهاج السنة": قال الرافضي: وذهب الجميع منهم إلى القول بالقياس، والأخذ بالرأي. فأدخلوا في دين الله ما ليس منه، وحرفوا أحكام الشريعة، واتخذوا مذاهب أربعة، لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا زمن الصحابة وأهملوا تأويل الصحابة مع أنهم نصوا على ترك القياس. وقالوا: "أول من قاس إبليس". قال الشيخ: الجواب عن هذا من وجوه – إلى أن قال – الوجه الخامس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 أن قوله: "أحدثوا مذاهب أربعة لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" إن أراد بذلك أنهم اتفقوا على أن يحدثوا هذه المذاهب مع مخالفة الصحابة رضي الله عنهم فهذا كذب عليهم. فإن هؤلاء الأئمة لم تكونوا في عصر واحد بل أبو حنيفة توفي سنة خمسين ومائة، ومالك سنة تسع وسبعين ومائة، والشافعي سنة أربع ومائتين، وأحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين، رحمه الله تعالى. وليس في هؤلاء من يقلد الآخر، ولا من يأمر باتباع الناس له بل كل منهم يدعوا إلى اتباع الكتاب والسنة إذا قال غيره قولاً يخالف الكتاب والسنة عنده رده ولا يوجب على الناس تقليده. وإن قلت: إن أصحاب هذه المذاهب اتبعهم الناس فهذا لم يحصل بمواطأة، بل اتفق أن قوماً اتبعوا هذا وقوماً اتبعوا هذا. كالحجاج الذين طلبوا من يدلهم على الطريق فرأى قوم دليلاً خريتاً فاتبعوه، وكذلك آخرون. وإذا كان كذلك لم يكن في ذلك اتفاق أهل السنة على باطل، بل كل قوم ينكرون ما بل كل قوم ينكرون ما عند غيرهم من الخطأ فلم يتفقوا على أن الشخص المعين عليه أن يقبل من كل واحد من هؤلاء ما قاله، بل جمهورهم لا يأمر العامي بتقليد شخص معين غير النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يقوله. والله تعالى قد ضمن العصمة للأمة فمن تمام العصمة أن جعل عدداً من العلماء إذا أخطأ الواحد في شيء، كان الآخر قد أصاب فيه، حتى لا يضيع الحق. ولهذا لما كان في قول بعضهم من الخطأ مسائل كبعض المسائل التي أوردها – يعني الرافضي – كان الصواب في قول الآخر، فلم يتفق أهل السنة على ضلالة أصلاً إلى أن قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 لم يقل أحد من أهل السنة: إن إجماع الأربعة حجة معصومة ... الوجه الثامن: إن أهل السنة لم يقل أحد منهم: إن إجماع الفقهاء الأربعة حجة معصومة، لا قالوا: إن الحق منحصر فيهم، وأن ما خرج عنهم باطل، بل إذا قال من ليس من أتباع الأئمة – كسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد ومن قبلهم ومن بعدهم من المجتهدين – قولاً يخالف الأئمة الأربعة: رد ما تنازعوا فيه إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. وكان القول الراجح هو الذي قام عليه الدليل. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وقال الإمام السيوطي في كتابه "الرد" السابعة والأربعين: قال الغزالي في "المنخول" فصل في التنصيص على مشاهير المجتهدين من الصحابة والتابعين وغيرهم، ولا خفاء بأمر الخلفاء الراشدين إذ لا يصلح للإمامة إلا مجتهد. وكذلك كل من أفتى في زمانهم – كالعبادلة وزيد بن ثابت وأصحاب الشورى ومعاوية إلى آخره – ثم ذكر كلاماً لبعض العلماء في مجتهدي الصحابة والتابعين – إلى أن قال: وقال الرزكشي في "البحر": قد عد ابن حزم في الأحكام فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، فبلغ بهم مائة ونيفاً، وهذا حيف. وقد قال الشيخ أبو إسحاق في طبقاته: أكثر الصحابة الملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم كانوا فقهاء مجتهدين لأن طريق الفقه فهم خطاب الله وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم وأفعاله. وكانوا عارفين بذلك لأن القرآن نزل بلغتهم، وعلى أسباب عرفوها، وقصص كانوا فيها. فعرفوا منطوقة ومفهومه ومنصوصه ومعقوله – إلى أن قال – وقال الزركشي في "البحر": ولا يطمع في عد آحاد المجتهدين من الصحابة والتابعين لكثرتهم وعدم حصرهم. وقد عقد الشيخ أبو إسحاق في طبقاته الفقهاء، وظاهر كلامه في خطبته أنه لم يذكر فيها سوى المجتهدين. فإنه قال: "هذا كتاب مختصر في ذكر الفقهاء لا يسع الفقيه جهله، لحاجته إليه في معرفة من يعتبر قوله في انعقاد الإجماع ويعتد به في الخلاف. وبدأت بفقهاء الصحابة رضي الله عنهم ثم بمن بعدهم من التابعين وتابعي التابعين، والأئمة الأربعة، وجملة من أقرانهم وأتباعهم وداود الظاهري وجملة من أتباعه". وقال النووي في شرح "المهذب": المزني وأبو ثور وأبو بكر بن المنذر أئمة مجتهدون، وهم منسوبون للشافعي. وقد عد كثيراً من الأئمة المجتهدين ممن عاصروا الأئمة الأربعة، أو تقدموهم، أو جاءوا من بعدهم ونحن نذكر أسماء من جاءوا من بعدهم على سبيل التلخيص عن الإطالة، فمنهم: حرملة، وعبدان المروزي، والإمام ابن جرير الطبري، وأبو عبيد القاسم بن سلام، والقاسم بن محمد بن سيار القرطبي، وابن المنذر، والقاضي أبو بكر أحمد بن كليل، والإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر، والقاضي أبو الطيب، ومحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الجويني، والإمام البغوي، وأبو يعلى بن الفراء، وأبو الفضل الهمداني القرطبي، وأبو نصر الصباغ، والقاضي عبد الوهاب أحد المالكية، وإمام الحرمين، والإمام الغزالي، وأبو علي الحسن بن الخطير النعماني الفارسي، والقاضي أبو القاسم الطيب بن محمد، والشيخ عز الدين بن عبد السلام، وأبو شامة، والإمام النووي، والشيخ تاج الدين الفركاح، والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية. وقد عد كثيراً من المجتهدين يطول حصرهم، وكلهم بعد الأئمة الأربعة. ثم إن في اليمن وفي الهند من فحول العلماء المجتهدين الذين جمعوا علوم الأولين والآخرين- وخصوصاً على الكتاب والسنة اللذين هما أصل الأصول، وعليهما مدار سعادة الدنيا والآخرة- خلقاً كثيراً لا ينكر فضلهم، وبلوغهم رتبة الاجتهاد في علوم الشريعة إلا مكابر معاند، يحاول تكذيب أخبار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في حفظ هذا الدين، وبقاء طائفة من أمته على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم قائمون على حفظه. ينفون عنه غلو الغالين، وانتحال المبطلين فهذه الطائفة هم المجتهدون الذين يحكمون بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم نصاً واستنباطاً متبعين في ذلك الصحابة والتابعين، ومن سلك لسبيلهم إلى يوم الدين. فأما المقلدون فليسوا من أهل العلم، ولا من حماته ولا تقوم بهم حجة ولا ينعقد بهم إجماع. فمن متأخري علماء اليمن المجتهدين السيد محمد إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى، والإمام محمد بن علي الشوكاني رحمه الله تعالى. وقد صنف الشوكاني كتاباً سماه "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع" قال فيه- بعد الخطبة- وبعد: فإنه لما شاع على ألسن جماعة من الرعاع اختصاص سلف هذه الأمة بإخراز فضيلة السبق في العلوم دون خلفها، حتى اشتهر عن جماعة من أهل المذاهب الأربعة تعذر وجود مجتهد بعد المائة السادسة- كما نقل عن البعض- أو بعد المائة السابعة- كما زعمه آخرون- وكانت هذه المقالة بمكان من الجهالة لا تخفى على من له أدنى حظ من علم، أو نزر نصيب من عرفان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وأحقر حصة من فهم لأنها قصر للفضل الإلهي والفيض الرباني على بعض العباد دون البعض. وعلى أهل عصر دون عصر، وأبناء دهر دون دهر، من دون برهان ولا قرآن. على أن هذه المقالة المخذولة، والحكاية المرذولة تستلزم خلو هذه الأعصار المتأخرة عن قائم بحجج الله، ومترجم عن كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومبين لما شرعه لعباده وذلك هو ضياع الشريعة بلا مرية، وذهاب الدين بلا شك. وهو تعالى قد تكفل بحفظ دينه وليس المراد حفظه في بطون الصحف والدفاتر، بل إيجاد من يبينه للناس في كل وقت وعند كل حاجة: حداني ذلك إلى وضع كتاب يشتمل على تراجم أكابر العلماء من أهل القرن الثامن ومن بعدهم. ممن بلغني خبره إلى عصرنا هذا، ليعلم صاحب تلك المقالة: أن الله – وله المنة – قد تفضل على الخلف، كما تفضل على السلف، بل ربما كان في أهل العصور المتأخرة من العلماء المحيطين بالمعارف العلمية على اختلاف أنواعها من يقل نظيره من أهل العصور المتقدمة كما سيقف على ذلك من أمعن النظر في هذا الكتاب. وحل عن عنقه عرى التقليد وقد ضممت إلى العلماء من بلغني خبره من العباد والخلفاء والملوك والرؤساء والأدباء ولم أذكر منهم إلا من له جلالة قدر، ونبالة ذكر، وفخامة شأن، دون من لم يكن كذلك انتهى المراد منه. فقد ذكر رحمه الله تعالى في هذا الكتاب عدداً كثيراً من أهل العلم والفضل، المتبحرين في علوم الشريعة وسائر فنون العلم التي يلزم المجتهد الإحاطة بها بل زادوا عليها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وقد أطلت الرد على مزاعم هذا الجاهل الأحمق، وهي لا تستحق النظر فيها، فضلاً عن الاشتغال بالرد عليها. ولكن أمثاله كثير – لا كثرهم الله – فقد زعموا أن التعبد بنصوص الكتاب والسنة والرد إليهما عند التنازع: محظور علينا، وأن الرجوع في ذلك إلى غيرهما من تقليد الرجال الذين يجوز عليهم الخطأ، وأن تقليد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يجوز {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم، الآية: 59] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 والحاصل مما تقدم: أن التقليد رخصة لمن عجز عن استخراج الأحكام من نصوص الكتاب والسنة فواجب العاجز السؤال لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل، الآية: 43] وشرط السؤال: أن يكون عن حكم الله ورسوله، لا عن مذهب رجل معين يتقيد به دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قول المعترض: "فأي إجماع من عهد آدم إلى اليوم أعظم من هذا الإجماع الذي لا يحاول إنكاره إلا من ران على قلبه، وختم الله على بصره وسمعه". فنقول لهذا الجاهل الأحمق: إننا بما أوردناه من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ومن كلام الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين، من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا. قد بينا له فيه بطلان ما ادعاه من الإجماع الذي لم يستند فيه إلا على مجرد الدعوى، مع مخالفة من ذكرناهم. وأما تعبير هذا الأحمق الساقط، وما ظهر به من الجهل المركب، والغباوة المتناهية فإنه لم يشارك المعترض فيهما أحد، حتى من البله الذين تضرب بهم الأمثال قبله، فإنه – أولاً – لم يذكر فاعل "ران" من قوله: "إلا من ران على قلبه" وفي هذا من وخيم الجهل ما ينطق بحاقة هذا المعترض. وأيضاً فأنه وصف الختم على العيون، وهذا لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في حديث رسوله صلى الله عليه وسلم: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة، الآية: 7] قال الإمام ابن جرير في تفسيره، قوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة، الآية: 7] خبر مبتدأ، بعد تمام الخبر عما ختم الله جل ثناؤه عليه من جوارح الكفار، الذين مضت قصصهم. وذلك أن "غشاوة" مرفوعاً بقوله "وعلى أبصارهم" فذلك دليل على أنه خبر مبتدأ، وأن قوله: "ختم الله على قلوبهم" قد تناهى عند قوله: "وعلى سمعهم" وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين. أحدهما: اتفاق الحجة من القراء والعلماء على الشهادة بتصحيحها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وانفراد المخالف لهم في ذلك، وشذوذه عما هم على تخطئته مجمعون، وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهداً على خطئها. والثاني: أن "الختم" غير موصوفة به العيون في شيء من كتاب الله، ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا موجود في لغة أحد من العرب. وقد قال تعالى في سورة أخرى: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} [الجاثية، الآية: 23] ، ثم قال: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية، الآية: 23] فلم يدخل البصر في معنى الختم. وذلك هو المعروف في كلام العرب. فلم يجز لنا ولا لأحد من الناس القراءة بنصب الغشاوة، لما وصفت من العلتين اللتين ذكرت – ثم ذكر شواهد على ذلك من الآثار – وذكر بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة، الآية: 7] والغشاوة على أبصارهم. وبسنده إلى ابن جريج قال: الختم على القلب والسمع، والغشاوة على الصر. قال الله تعالى ذكره: {فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى، الآية: 24] ثم قال {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية، الآية: 23] و"الغشاوة" في كلام العرب: الغطاء، ثم ذكر له شواهد من أشعار العرب. انتهى. فهذا المعترض ليس بأهل لأن نضيع الوقت بالرد عليه لأنه ساقط عن درجة العقلاء، فضلاً عن العلماء. ولكن لكل ساقطة لا قطة، فوجب رده عن غيه لئلا يغتر من لا تمييز عنده بين الحق والباطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 افتراءات أخرى للملحد على الوهابيين ودحضها ... ثم قال المعترض: "لكن للأسف المضحك أنكم شرذمة قليلة وما زلتم في اختلاف في أصول مذهبكم، فبعضكم يجعل الصلاة والوضوء والاغتسال وصوم رمضان اختياراً غير واجب، وإخوانه ينكرون عليه، وبعضكم يرى طهارة الخمر وإباحته وحل الموقوذة والخنزير، وإخوانه ينكرون ذلك وبعضكم يقول باستباحة التيمم بلا عذر، وبعضكم يستحل قتل النفس لسبب يراه مبيحاً له وأمثال هذه الموبقات التي لو صرحت بأسماء القائلين بها، لظهر للناس نفاقهم في الدين". أقول: إن الأسف لا يضحك، بل من الأسف المبكي المحزن على دين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الإسلام أن يتلاعب به أمثال هؤلاء الحيارى المتهوكين، الذين يقولون على الله وعلى رسوله وفي دينه ما لا يعلمون ثم يتعمدون الكذب والافتراء على علماء الدين، وحماة شريعة سيد المرسلين بمثل ما تهور به هذا الملحد المفتون من الفجور، وقول الزور، الذي نسبه إليهم، فما المانع له من التصريح بأسماء من رماهم بهذا الافتراء، وأن يسوق أقوالهم بعينها، ثم يرد عليهم بالبرهان الصحيح، لا بمجرد الدعوى. فهل يجوز السكوت وعدم التصريح بضلال من يجعل الصلاة والوضوء والاغتسال وصوم رمضان اختياراً غير واجب؟ أم كيف يجوز السكوت على من يبيح الخمر ويستحل الموقوذة ولحم الخنزير؟ أو من يبيح التيمم من غير عذر ويستحل قتل النفس بغير حق؟ هذا لا يرضاه مسلم ولا يسكت عن التصريح بضلال من قال به مؤمن: وعلى هذا فإن المعترض يتستر على من غيروا وبدلوا في دين الله تعالى، وشرع نبيه صلى الله عليه وسلم. ولا يصرح بأسمائهم فهو المنافق حقيقة، ولو أن عنده برهاناً على صدق ما يدعيه ماكان يكتمه ولماذا يكتمه؟ وهو يصرح بلعن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فهل من يصرح باللعن مراراً تأخذه شفقة على من يلعنه، فيكتم اسمه ستراً لفضائحه؟ هذا لا يروج إلا على أمثاله من الحمقى الأغبياء، الصم البكم الذين لا يعقلون. ولكنه كذاب مغالط. وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ} [البقرة، الآية: 159] . وأما قول المعترض: "وسيأتي في المباحث الآتية ما يبهت الوهابية وإخوانهم". فحقيقته: البهتان، وسنورد في رده من الحق ما يزهق باطله بحول الله وقوته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 كذبه على الفخر الرازي ... قال المعترض: "وقد بسط الفخر الرازي مسألة الإجماع في تفسير قوله تعالى في سورة النساء: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء، الآية: 59] ومما قاله ما نصه: قد دللنا على أن قوله: "وأولي الأمر منكم" يدل على أن الإجماع حجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 فنقول: كما أنه دل على هذا الأصل فكذلك دل على مسائل كثيرة من فروع القول بالإجماع ونحن نذكر بعضاً – وذكر بعضها – فقال: ومنها الفرع الثاني الذي محصله أن الإجماع الحاصل عقيب الخلاف الواقع بين الأئمة يبقى حجة، ولا تأثير للاختلاف فيه" انتهى. أقول: أما الكلام على الإجماع فقد تقدم منه ما شفى وكفى. فلا حاجة بي إلى إعادة البحث فيه وتتبع خزعبلات هذا الجاهل المعاند لتفنيدها عند كل سانحة تسنح له من أفكاره الباطلة. فإنه مهذار مخلط وإنما أقصد الآن بيان جرأة هذا الملحد في كذبه على العلماء، وتحريف كلامهم عن مواضعه. فأقول: أن المعترض قد كذب على الفخر الرازي، وحرف كلامه وزاد فيه ونقص ظلماً وعدواناً متعمداً، فحذف منه ما هو حجة عليه وهدم لما يزعمه من انعقاد الإجماع بالعوام وممن ليس من أهل الاجتهاد بل من المقلدين. وهو الفرع الأول. فإن الفخر الرازي لما تكلم على آية سورة النساء وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء، الآية: 59] تكلم على دلالتها على حجية الإجماع، وقرر أن المراد بأولي الأمر: هم العلماء المجتهدون. فقال ما نصه بالحرف الواحد: المسألة الحادية عشرة: قد دللنا على أن قوله: "وأولي الأمر منكم" يدل على أن الإجماع حجة، فنقول: كما أنه دل على هذا الأصل، فكذلك دل على مسائل كثيرة من فروع القول بالإجماع. ونحن نذكر بعضها: الفرع الأول: مذهبنا أن الإجماع لا ينعقد إلا بقول العلماء الذين يمكنهم استنباط أحكام الله من نصوص الكتاب والسنة، وهؤلاء هم المسمون بأهل الحل والعقد في كتب أصول الفقه، نقولك الآية دالة عليه، لأنه تعالى أوجب طاعة أولي الأمر، والذين لهم الأمر والنهي في الشرع ليس إلا هذا الصنف من العلماء، لأن المتكلم الذي لا معرفة له بكيفية استنباط الأحكام من النصوص لا اعتبار بأمره ونهيه. وكذلك المفسر والمحدث الذي لا قدرة له على استنباط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الأحكام من القرآن والحديث. فدل على ما ذكرناه. فلما دلت الآية على أن إجماع أولي الأمر حجة علمنا دلالة الآية على أنه ينعقد الإجماع بمجرد قول هذه الطائفة من العلماء. وأما دلالة الآية على أن العامي غير داخل فيه فظاهر، لأنه من الظاهر أنهم ليسوا من أولي الأمر. الفرع الثاني: اختلفوا في أن الإجماع الحاصل عقيب الخلاف: هل هو حجة؟ والأصح: أنه حجة، والدليل عليه هذه الآية: وذلك لأنا بينا أن قوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء، الآية: 59] يقتضي وجوب طاعة جملة أهل الحل والعقد من الأمة وهذا يدخل فيه ما حصل بعد الخلاف ما لم يكن كذلك، فوجب أن يكون الكل حجة. انتهى. فقد تبين بما سقناه من كلام الفخر الرازي في تفسيره بالحرف الواحد: تحريف المعترض وتصرفه فيه بالزيادة والنقصان، الذي مسخ به كلام الرازي. فقد أسقط الفرع الأول الذي بناه الرازي على الأصل الذي دلت عليه الآية من حجية الإجماع، ثم بين بهذا الفرع ما يكون حجة في صحة انعقاد الإجماع من مدلول الآية الشريفة، وأنه لا ينعقد إلا بقول العلماء المجتهدين الذين يمكنهم استنباط أحكام الله من نصوص الكتاب والسنة وأنهم المسمون بقوله تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء، الآية:59] وأنه لا عبرة بغيرهم، وإن كانوا مفسرين او محدثين لكونهم لا قدرة لهم على استنباط أحكام الله تعالى من النصوص. فإسقاطه لهذا الفرع من اكبر الخيانة لأئمة الدين وعلماء الأمة الذين يقتدي بهم. ثم إن الفرع الثاني فرع عن الأول وقد حرفه المعترض وبدل لفظه ومعناه. فإن الفخر الرازي لم يقل كما زعمه المعترض إن الإجماع الحاصل عقيب الخلاف الواقع بين الأئمة يبقى حجة، ولا تأثير للخلاف فيه فكلام الرازي- كما تراه منقولاً بالحرف الواحد –لا يتفق مع ما نسبه المعترض إليه. فأي خيانة بعد هذا؟ خصوصاً وهي في أشرف العلوم، وأصل الأصول. وهو تفسير كتاب الله العزيز. وهل زاد اليهود على هذا التحريف والتبدل؟ الجواب: لا، بل هذا اقتفاء أثرهم حذو القذة بالقذة. وهذا لا يعد من الجهل والخطأ، بل هو من سوء القصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 واتباع الهوى. وقد قال تعالى: {أفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية، الآية:23] ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص، الآية:50] . وأما قول المعترض –بعد أن ساق كلام الفخر الرازي على صورته المتقدمة – "فهذا إجماعنا على أئمتنا، وهذا ما ندين لله به ونلقاه عليه إن شاء الله". فهنا يقف المطلع على كلام هذا الأحمق حائراً، مستبعداً أن يبلغ الجهل والهوى –أو الغفلة والحمق –بصاحبهم ما بلغ بهذا المعترض. فقد كذب على العلماء ونسب إلى الأئمة الأربعة من الزور ما هم منهم بريئون، ويبرئهم من كل من سلك سبيلهم. وها هو أيضاً يحرف كلام الفخر الرازي ويفتري عليه ثم يقول: "فهذا إجماعنا على أئمتنا وهذا ما ندين الله به ونلقاه عليه". فالعاقل –إزاء تخبط هذا الأحمق- يعوذ بالله من زيغ القلوب وانتكاسها، فكيف يتصور أن يصدر هذا من عاقل، بل ولا من جاهل؟ بعد أن كذب على العلماء وحرف كلامهم عن مواضعه عمداً، يتمنى أن يلقى الله على هذه الحالة؟ ألا إن هذا هو الحور بعد الكور، والضلال بعد الهدى، أستغفر الله، بل متى كان هذا الملحد مهتدياً؟ وقد نشأ في حجر الوثنية، وشب وترعرع على الخبيث من ثمرات التقليد الأعمى والجاهلية. نسأل الله الثبات على الإيمان. وهذا آخر الكلام على الفصل الأول الذي عقده المعترض لبيان فروع الإجماع الذي وعد بأن يتكلم على كل فرع منه على خدة. لكن المعترض لم يأت بشيء مما يتعلق بأصل الإجماع ولا فروعه إلا بمثل قوله: "فنحن أهل السنة البالغ عددنا مائتين وخمسين مليوناً، متفقين على أخذ أصول ديننا وفروعه عن الأئمة الأربعة" وقوله: " فنحن أهل السنة والجماعة اعتماداً على ما بلغنا عن نبينا أن إجماعنا حسن ومقبول، فلا نبالي بمن خالفنا" وقوله: "فهذا إجماعنا على أئمتنا، وهذا ما ندين الله به ونلقاه عليه إن شاء الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فهذا هو حاصل ما جاء به من الكلام على فروع الإجماع بالفصل الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 كذبه على الوهابيين بأنهم قالوا إن الدين كان واحدا وجعله الأئمة أربعا ... وأما الفصل الثاني: فهذا هو. فألق سمعك لبيان فروع إجماع الحاج مختار وإياك أن يصيبك برشاش بحر جهله الأجاج، المتلاطم بوخيم الهوس والحماقة. قال المعترض: "الفصل الثاني في أسباب اختلاف الأئمة، تقدم قبلاً قول الوهابية وإخوانهم: بأن الدين كان واحد والأئمة جعلوه أربعة. ولا جرم أن كل متفقه في الدين يعلم أن هذا القول كذب وافتراء على الدين والأئمة، وتضليل للناس، بل هم الذين جعلوه شاغراً مباحاً لكل عالم وجاهل أن يتعبد ويعامل كما يشاء ويرى. ولا دليل له إلا رأيه واستنباطه، فقل لي بعمرك هل سمعت أن في الدنيا هكذا دين؟ فما من دين ولا مذهب إلا وله أصول وفروع محررة يرجع إليها أهله، حتى الماديين ما أطلقوا القل لمن يشاء، بل لهم أصول يرجعون إليها. فأي ضلال وفساد أقبح من هذا الإطلاق؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون". أقول: قد تقدم الكلام على هذه الفرية التي يلصقها المعترض بالوهابيين وإخوانهم، وهي أنهم يقولون: "إن الدين كان واحداً والأئمة جعلوه أربعة" فقد كذبناها فيما مضى قريباً، ورددناها بالبرهان بما اغنى عن إعادته ههنا. وأما قول المعترض: "بل هم الذين جعلوه شاغراً مباحاً لكل عالم وجاهل" إلى آخره. فهذا كذب منه وبهت كعادته، فأما الجاهل: فلا خلاف عند من يعتد به من أئمة المسلمين أ، فرضه السؤال، كما أرشده الله إلى ذلك في كتابه الكريم حيث يقول تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل، الآية:43] ففرض الجاهل سؤال أهل الذكر عن حكم الله تعالى، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، لا عن مذهب فلان وفلان، وأن لا يسأل جاهلاً أو مقلداً مثله. وأما العالم: ففرضه الرد إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم عند الاختلاف. لقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء، الآية:59] ومعلوم أ، الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته هو الرد إلى سنته. لا خلاف في ذلك، وعلى هذا فإن العالم الذي لا يقدر على استخراج الأحكام من كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مع ما يستعان به على فهمهما من تفاسير الأئمة لكتاب الله تعالى وشروحهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفاريع فقهاء الأمة عليهما لا يعد من أهل الذكر، ولا يطلق عليه اسم العلم. وأما قول المعترض: "فقل لي بعمرك –إلى آخره ... " فهذا جهل قبيح منه بحقيقة دين الإسلام، وما فرضه الله تعالى على عباده في كتابه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وما جاءت به سنة المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى من الآيات والأحاديث، الآمرة بطاعة الله، وطاعة رسوله، واتباعه صلى الله عليه وسلم دون غيره، لا يجهل هذا الفرض إلا أغلف القلب، أعمى البصر والبصيرة. وقد أقسم الله بنفسه الكريمة أنه لا إيمان لمن لم يرض بحكم رسوله فيما شجر بينه وبين خصمه من الخلاف. مسلمين لحكمه راضين به، لا يجدون في أنفسهم حرجاً منه ويسلموا له تسليماً. فأين هذا مما يدعو إليه هذا الملحد من أصول أصلها من يجوز عليهم الخطأ وليسوا بمعصومين، قد جعلها المعترض عوضاً عن الأصول التي لا يغني غيرها شيئاً عند الله تعالى. وهي كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بل قام يكفر من يقول: إ، أصل دينه الكتاب والسنة، وأن الرجع عند الاختلاف إليهما لا إلى غيرهما. ويقول هذا الملحد الضال: "فقل لي بعمرك: هل سمعت أن في الدنيا هكذا دين، فما من دين ولا مذهب إلى وله أصول وفروع محررة يرجع إليها أهله حتى الماديين" إلى آخره. ونحن نقول لهذا المعترض: إن أصول ديننا وفروعه محررة مقررة، وهي كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد ضمن الله لنا حفظهما عن التغيير والتبديل وأخبرنا أنه أكمل لنا بهما الدين، وأتم بهما علينا النعمة. فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة، الآية:3] ومعلوم أن الكامل لا يحتاج إلى زيادة، وكيف يكون ذلك؟ وقد أرسل إلينا رسولاً من أنفسنا يبين لنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ما نزل إلينا من ربنا، فبين لنا الحلال من الحرام، وفصل لنا ما أجمل ووضح لنا ما أشكل، فقال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك". فما عذر من يعرض عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويجعلهما نسياً منسياً؟ كما يدعو إليه هذا الملحد ويكتفي عنهما بأقوال معقدة لا يعرف صحيحها من سقيمها؟ إن الكتاب الذي أعجز البلغاء، وعقل ألسنة الفصحاء عن ان يأتوا بآية مثله أحق بالتقليد والاتباع. كذلك سنة نبيه صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى وهو أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء. وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم وقد أمنه الله تعالى على تبليغ رسالته، فهو أحق بالاتباع، دون غيره ممن لم يتعبدنا الله بتقليدهم، ولا اتباعهم. فإن تجاهل هذا الملحد كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجحد أنهما الأصل لهذا الدين الذين بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وتعبد الخلق بطاعته واتباعه، دون غيره كائناً من كان، وأن المعترض: لم يسمع أن في الدنيا هكذا دين، وفضل عليه دين الماديين. فال أرضاه الله، وليشهد علينا هو ومن على شاكلته أننا له مخالفون، ولأصولهم المخالفة لكتاب الله تعالى سنة نبيه منكرون، كما ننكر أصول الماديين وغيرهم من أهم الضلال، ونكفر بها وبمن قلدهم فيها، كالحاج مختار وشيخه دحلان، دعاة البدع والضلال. قال المعترض: "فإذا علمت هذا، فاعلم أن الشرع عندنا مبني على ثلاثة أركان وهي: الأصول والفروع والقياس. فالأصول كلها عن كتاب الله تعالى. والفروع كلها عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بيان للأصول ودليله قوله تعالى: {لتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل، الآية:44] ، وقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم، الآيتان:3-4] وهذا ضروري بالنص والعقل. ولو لم يبيين الله على لسان رسوله ما جاء في القرآن من الأحكام مجملاً، أو النص فيه متشابهاً، أو الأسماء مشتركة لكان الدين على غاية من التشويش. ولا يصح عليه وصف الكمال وإتمام النعمة، لأننا في الأركان الثلاثة- فضلاً عن غيرها – نقع في اختباط. فالقرآن العظيم ما صرح لنا بعدد أوقات الصلاة وأسمائها وعدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ركوعها وسجودها وتشهدها إلى آخره ... ولا بنصابات الزكاة وما يتعلق بها، ولا بأكثر مناسك الحج وما يتعلق به، ولا بأكثر واجبات التعامل. فلولا أن السنة أتت بتفاصيلها لكان الدين ألعوبة بيد العلماء والأمراء، كما هو الحال في أكثر الأديان. فالتنكب عن السنة والاعتماد على ما يفهم من القرآن فقط تنكب عن الدين، بل خروج منه ولا يقوله إلا الأحمق، لا يعرف من الدين شيئاً، أو كافر يتستر بالدين وما هو منه على شيء. وأما القياس: فبعض أرباب البدع أنكره، لكن جمهور الأمة على القول والعمل به. وأصله عن احتهاد علماء الصحابة فيما لم يعلموا فيه نصاً. ثم اتبعهم به التابعون والأئمة المجتهدون على قاعدته وشرطه، ثم بعد قرن الأئمة وظهور البدع والنحل أضاف العلماء للأركان الثلاثة ركناً رابعاً وهو الإجماع. وهذا أيضاً اقتبسوه من حديث "ما رآه المسلمون حسناً" وقاعدة القياس عندهم معلومة ويرجعون فيما يختلفون فيه إلى ما صح عن أكثر علماء الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 بيان جهل الملحد ... أقول: ليس لنا غرض في الدخول مع المعترض في هذه المسائل التي هي أصول أحكام الشرع لشهرتها، وعدم الخلاف فيها بين أئمة أهل السنة، وإن كان المعترض قد خاض فيها بجهله وعدم معرفته لأصول الدين من فروعه. فقصدنا من نشر كلامه هنا بنصه: إنما هو لأجل فضيحته وبيان انه من الصم البكم الذين لا يعقلون. فإن أصول الشرع وفروعه قد أحكمها الله في كتابه، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ودونها المفسرون وشراح الحديث، وبينوها بما لا نحتاج معه إلى تخليط أمثال هذا الجاهل الملحد، الذي جعل سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فرعاً، لا تستقل بتشريع الأحكام، وجعل القياس ركناً ثالثاً للكتاب والسنة. وقال عن الإجماع: إنه حدث بعد قرن الأئمة الأربعة، وأن العلماء لما كثرت الملل والنحل جعلوه ركناً رابعاً للكتاب والسنة والقياس. فهل عين رأت أو أذن سمعت بمثل تخليط هذا الأحمق الجهول؟. وأعظم وأطم من ذلك: تعليل هذا الملحد لأحكام القرآن بأنها على غاية من التشويش، ولا يصح عليها وصف الكمال وإتمام النعمة، والله تعالى يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة، الآية:3] ، ويقول: {مافَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام، الآية:38] ، ويقول تعالى: {َلقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران، الآية:164] ، ويقول تعالى: {ُوَهوالَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة، الآية:2] إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى كثير. و"الحكمة" كما قال الشافعي رضي الله عنه وغيره من الأئمة هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد أخبر الله عباده: بأنه بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، وأنزل عليه كتاباً قد أكمل لهم به الدين، وأتم عليهم به النعمة، ووكل بيان وتفصيل ما أنزله في كتابه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ففرض عليهم طاعته، واتباع أمره، وأخبرهم بأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. فأين زاغ المعترض عن هذا البيان المبين، والتفصيل الفاصل عن الشك باليقين؟ فقد أعماه الهوى عن الهدى، فلم يهتد إليه وناداه منادي الكتاب العزيز: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام، الآية:38] فلم يلتفت إليه، هائماً في ضلالته متوغلاً في بيداء جهالته، لا يعرف الأصول من الفروع، ولا يفرق بين أدلة الأحكام من أصول الأحكام. وهكذا تنقض عرى الإسلام عروة عروة بمثل هؤلاء الجهلة الحمقى، لا أكثر الله منهم بين المسلمين. قال المعترض: "واعلم أن الاختلاف في الفروع والقياس ليس من محدثات الأئمة الأربعة، بل هو واقع من زمن الصحابة. وكان يقع بينهم ذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فيراجعونه فيما يختلفون فيه وبعد وفاته يرجعون فيه إلى العلماء منهم، وهكذا حال التابعين. وهذه حقائق مستفاضة مذكورة في مواضعها، من كتب الحديث والتفسير والأصول ومطولات الفقه المعتمد عليها عند أهل الدين، وحوادثها وأمثلتها أكثر من أن تجمع، ولا يجهلها إلا العامي الأحمق، فمن هداه الله في دينه، وأرشده لما ينجيه يوفقه لتتبع كتب علماء الدين فيرى الحق ظاهراً كالشمس، وأما من أضله الله وأشقاه فينصب على مطالعة كتب أهل البدع والمقولات، ويتلقى أضاليلهم، كحقائق ثابتة، فيعيش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ألعوبة بيد أهوائه، وسخرية بأعين أهل الدين، ويموت هالكاً للنار، والعياذ بالله تعالى". أقول في كلام المعترض هذا: إنه من جنس خرافاته المتقدمة، ومغالطاته المتكررة. فهو دائماً يهذي بهذه الحماقات التي ليس له عليها دليل إلا مجرد الدعوى الباطلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ليس الأئمة سبب الاختلاف بل هو من غلاة المقلدين ... فقول المعترض: "واعلم أن الاختلاف في الفروع والقياس ليس من محدثات الأئمة الأربعة" يشير به إلى أن هناك أناساً يقولون: إن الأئمة الأربعة هم سبب الاختلاف الواقع بين متعصبة المذاهب الأربعة، ومن تشعب منها من الفرق الضالة. وهذا من المعترض افتراء وتعريض بالأئمة الأربعة، ينزهون عنه وإنما يقع الذم على المحدثين لهذا الاختلاف والتفرق بين المسلمين. فقد ابتدعوا في دين الله بدعاً لم يأذن بها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك يدعون أنهم من أتباع الأئمة الأربعة، مع مخالفتهم للأئمة في أصول الدين وفروعه. وهذا المعترض يقول: إن اختلاف الغلاة من المقلدين، ومن عداهم من أهل الأهواء كاختلاف الصحابة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبعده. فقد كذب على الصحابة رضي الله عنهم وأعظم الفرية فيما زعمه إذ جعل ما يقع بين الصحابة رضي الله عنهم من اختلاف في سبيل الوقوف على دليل الحكم من الكتاب والسنة حجة في جواز اختلاف هؤلاء المبتدعين، ومن تبعهم من غلاة المقلدين {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف، الآية:5] فما كان اختلاف أصحاب رسول الله تعصباً لمذهب أو لقول قائل غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس ما يقع بينهم يسمى اختلافاً بل هو بحث وتحقيق لحكم الله وحكم رسوله. فإذا بان لهم الحكم مع من كان قابلوه بالرضا والتسليم، لا يطلبون له تأويلاً أو تعليلاً لموافقة مذهب انتحلوه، كما عليه غلاة أهل التقليد، وهذا معروف مشهور من سيرة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجهله إلا أحمق، كصاحب هذه الرسالة: الحاج مختار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 فإن أول اختلاف وقع بين الصحابة رضي الله عنهم حين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك في حقيقة موته، وموضع دفنه. فلما حضر أبو بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين قام فيهم خطيباً، وتلا قول الله تعالى: {ومَامُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران، الآية:144] وأخبرهم بما حفظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع دفنه، فكلهم رضي الله عنهم قابلوه بالتسليم ولم يختلفوا فيه. وكذلك الأمر في قتال مانعي الزكاة لما أراد الصديق رضي الله عنه قتالهم، عارضه من عارضه من الصحابة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "إن الزكاة من حق لا إله إلا الله- أو قال: من حق المال- والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عقالاً- أو عناقاً- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها" فلما رأوا الحق مع الصديق رجعوا إليه راضين بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وأما رجوع الفاروق عمر رضي الله عنه عن قول قاله على المنبر، فهو أكبر دليل على بعد الصحابة عن الاختلاف في الدين. فقد أمر رضي الله عنه بأن لا يزاد في مهور النساء على قدر ذكره، فذكرته امرأة بقول الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء، الآية:20] فترك قوله، وقال: "كل أحد أفقه منك يا عمر" وقال: "امرأة أصابت وأمير المؤمنين أخطأ" وأمر رضي الله عنه برجم امرأة ولدت لست أشهر فذكره علي رضي الله عنهم بقول الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف، الآية:15] مع قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة، الآية:233] فرجع عن الأمر برجمها. وكذلك علي رضي الله عنه سأله رجل عن مسألة فقال فيها علي، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا. فقال علي: "أصبت وأخطأت، وفوق كل ذي علم عليم" وأيضاً ابن عباس وزيد رضي الله عنهما لما اختلفا في الحائض قال له زيد: "القول ما قلت" وهذا كثير يفوق الحصر مما يجري بين الصحابة رضي الله عنهم. فإنه لا خلاف بينهم أمام حكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم. فلا يتعصبون لرأي رأوه، ولا لقول قاله كبير أو صغير، بل الكتاب والسنة هما ضالتهم المنشودة، وغايتهم المقصودة لا كما عليه غلاة المقلدين، المتنكبين عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإنه لا يستدل على جواز اختلاف هؤلاء في الدين، وتفريقهم لجماعة المسلمين بما يقع بين الصحابة من تحقيقهم للحق، إلا من عميت بصيرته كصاحب هذه الرسالة المقلد الأعمى. ثم إن هذا المعترض قد أثبت هنا اختلاف الصحابة والأئمة الأربعة في الفروع والقياس، مع أنه قد سبق القول منه قريباً: "بأن الفروع والقياس ركنان للشرع عندهم. والركن الثالث لهما: كتاب الله تعالى" فهذا ما يقوله الحاج مختار فليس بغريب على غباوته {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم، الآية:59] . وأما قوله: "وهذه حقائق مستفاضة مذكورة في مواضعها من كتب الحديث والتفسير- إلى قوله – ولا يجهلها إلا العامي الأحمق". فأقول: لا أجهل ولا أحمق من هذا الملحد المغالط، فلو كان يعرف من هذه الحقائق المستفيضة- كما يقول –حقيقة واحدة لذكرها. وأنى له ذلك وهو أجنبي عنها وليس من أهلها؟ بل هو يدعي التقليد زوراً وبهتاناً. وأما قول الملحد: "فمن هداه الله في دينه، وأرشده لما ينجيه يوفقه لتتبع كتب علماء الدين – إلى آخر ما قال". فأقول: إن هذا الملحد قد أجمل في محل التفصيل، ودلس مغالطاً في مقام النصيحة منه والبيان. ي فلم يسم كتب علماء الدين التي في مطالعتها التوفيق والنجاة ولم يبين كتب أهل البدع والمقولات التي عاقبة من انكب عليها أن يموت هالكاً إلى النار، ولكن الملحد تعمد التدليس والمغالطة، مع شدة الحاجة إلى البيان والتفصيل في هذا المقام. وما ذاك إلا لعلمه بأنه لو بين أسماء هذه الكتب التي يشير إليها، لتبين للناس ضلاله وعدوله عن الصراط المستقيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 فهو لذلك منافق صميم، ولما كانت الأعمال هي التي تصدق الأقوال وتزكيها، وقد قيل: ويخبرني عن غائب المرء فعله ... كفى الفعل عما غيب المرء مخبرا فإن إمامنا من أعمال هذا الملحد وأقواله في رسالته هذه- التي نحن بصدد الرد عليها – ما يفضح سريرته، ويكشف عورته، ويدلنا على مراده من هذه الكتب التي أشار إليها. فأما الكتب التي حث على مطالعتها فهي: كتب دحلان وإخوانه من أهل البدع والضلال، فإنه قد اعتمدها في أول رسالته والتزم النقل عنها من دون تصرف – كما قاله في أول رسالته – مقلداً لدحلان في تكفير المسلمين، وإباحة الشرك في عبادة رب العالمين، فراجعه في الصحيفة الرابعة من رسالته. ثم تتبع بعد ذلك الكتب التي ينقل عنها: هل ترى فيها كتاباً من كتب الحديث، أو كتاباً من كتب تفسير القرآن المجيد؟ إلا ما نقله من تفسير الفخر الرازي فحرفه وكذب على الرازي فيه، وقد نبهنا على ذلك في محله من ردنا هذا. وأما الكتب التي بحذر عنها الملحد، ويقول عنها: إنها كتب أهل البدع والمقولات. فهي صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث، وما تفرع عنهما من كتب أئمة المسلمين. فقد أبطل العمل بما حوته هذه الكتب من أحكام الدين وجعل الأخذ بما رجحته من الأحكام زندقة لا إسلامية، وإليك ما يقوله الملحد الحاج مختار وذلك في صحيفة (49) من رسالته: قال: "إن الأئمة الأربعة أحاطوا بجميع علوم الدين وما تركوا فيها زيادة لمستزيد، حال كون أئمة الحديث ما تعرضوا لشيء منها البتة، بل سردوا الأحاديث سرداً في أبوابها على علاتها. فإذا وجدتم حديثاً في البخاري أو غيره في مسألة ومثله في موطأ مالك مثلاً، أحدهما: فيه تشديد، والآخر: فيه ترخيص، فأنى لكم معرفة الناسخ فترجحوه على المنسوخ؟ وهكذا في سائر الأقسام التي تتوقف صحة الحكم على معرفتها وأنتم لا تجدون في كتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الحديث بياناً ولا إشارة تهديكم إلى الصواب. أيجوز لكم الترجيح بمجرد الظن والترخص؟ فهذه زندقة لا إسلامية – إلى أن قال – وأما قولكم: إنكم ما خرجتم عن الإجماع، فهذا هو المغالطة. لأننا بينما كنا نباحثكم عن إجماع الفقهاء والتعبد والتعامل التجأتم إلى الإجماع على كتب الحديث. ومع هذا فأخبرنا متى أجمعت الأمة على التعبد والتعامل بصحيح البخاري أو غيره؟ وأي عالم أفتى في حكم عن البخاري أو غيره؟ يعني من كتب الحديث". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 عداوة الملحد لكتب الحديث وأهل الحديث ... وقال في صحيفة (47) : "إن أئمة الحديث ما دونوا الحديث لأجل العمل به، ولا تتبعوا فيه أحوال الصحابة والتابعين، وبل دونه لأجل حفظه. انتهى". فهذا بعض من كلام الملحد بالحرف الواحد. فأي عداوة لكتب الحديث وأهل الحديث والتحذير عنها وعنهم أبلغ من ذلك؟ مع ما يصرح به هذا الملحد من أن ما ترجحه كتب الحديث من الأحكام يعد الأخذ به زندقة لا إسلامية لأنه ظن لا يفيد اليقين، لأن كتب الحديث ليس فيها – بزعمه الفاسد – بيان ولا إشارة تعدي إلى الصواب، لذلك حذر من مطالعتها، وسماها كتب أهل البدع والمقولات. جازاه الله بعدله. ثم إن المعترض عقد فصلاً نقل تحته من كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلاماً – من أوله إلى أخره – نحن بحمد الله تعالى أسعد به من المعترض، وأحفظ لما جاء فيه في حق الأئمة الأربعة، قولاً وعملاً. وليس للمعترض فيه حجة إلا التدليس والمغالطة وإلا فإنه من ألد أعداء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. أما نحن وجميع علماء أهل السنة فإننا موافقون لشيخ الإسلام فيما حققه في كتابه المذكور من هذه الأصول المهمة التي يجب على كل مسلم اعتقادها في حق أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم ممن اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم. كما وصفهم شيخ الإسلام بأن هذا الصنف من العلماء هم المؤمنون، ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، الذين أجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 المسلمون على هدايتهم ودرايتهم. فهؤلاء معذورون في خطئهم، مأجورون عليه أجراً واحداً ومأجورون في إصابتهم الحق أجرين، ولكن هذا المعترض وإخوانه من المتدعين يريدون سلب هذا الوصف عن أهله وإلصاقه بمن هم أبعد الناس عنه من أهل البدع والضلال الذين يزعمون أنهم بمجرد انتسابهم إلى تقليد الأئمة الأربعة – مع مخالفتهم لهم في أصول الدين وفروعه – يحلون محل الأئمة الأربعة. فما يصدر عنهم من بدع وضلالات ينسبونها إلى مذاهب الأئمة الأربعة، فإذا عارضهم معارض وسفه أحلامهم عالم رشيد وبين خطأهم قالوا: هذا عيب في الأئمة الأربعة، واعتراض عليهم. وهذا ظلم وعدوان بل إساءة إلى الأئمة، وتنقيص لحقهم، وعلو مقامهم ونزول بهم إلى مواطن الجدل والتحقير، قد قال أبو حامد الغزالي في كتابه "فاتحة العلوم": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 (فصل) : وبالحري أن نذكر في هذا المقام نبذة من سيرة أئمة المذاهب ، ليعلم المقتدون بهم أن شرفهم وعلو درجتهم ومكانتهم عند الله تعالى لم يكن بمجرد العلم الظاهر، والتوسع في تفاريع المسائل الفقهية. بل لكونهم من علماء الآخرة جامعين لعلاماتها، متأسين فيها بالصحابة رضي الله عنهم والتابعين والسلف الصالحين. ونبين أن كل واحد منهم كان عابداً وزاهداً، وعالماً بعلوم الآخرة، وفقيهاً في مصالح الخلق، ومعاملات الدنيا ومريداً بفقهه وجه الله تعالى. فهذه خمس خصال اتبعهم فقهاء الفرق من جملتها على خصلة واحدة، وهي التشمير والمبالغة في تفاريع الفقه. لأن الخصال الأربع لا تصلح إلا للآخرة وهذه الخصلة الواحدة تصلح للدنيا وللآخرة أيضاً، إن أريد بها الآخرة فلصالحها للدنيا شمروا لها، وادعوا بها مشابهة أولئك الأئمة، وزعموا أن من طعن فينا فقد طعن فيهم، وطعن في العلماء وفي العلم وهيهات. فلا تقاس الملائكة بالحدادين، بل هم في القيامة أول خصومهم وخصوم أتباعهم الذين انتسبوا إليهم، وانتحلوا مذاهبهم إن أنصفوا أنفسهم. انتهى. فأين الغزالي رحمه الله تعالى ينظر إلى ما نحن فيه اليوم من الحاج مختار وأمثاله من السفلة الجهلة؟ لا بارك الله فيهم ووقى المسلمين شرورهم. ثم اعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 أن المعترض – فيما نقله عن شيخ الإسلام من كتابه "رفع الملام" – وإن كان قليلاً – فقد حرف فيه وبدل، وزاد فيه ونقص في أكثر من ثلاث وعشرين موضعاً، تركت مناقشته عليها لأن هذا المعترض سلسلة أكاذيب وأغلاط لا آخر لها. ولم أكن ملتزماً لمناقشته في جميع أغلاطه، بل فيما لا يجوز السكوت عليه منها كدعائه إلى الشرك في عبادة الله تعالى واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وكالابتداع في الدين بما لم يأذن به الله تعالى ولا رسول الله أو ما يفتريه من الكذب على أئمة المسلمين. فهذه المسائل قد عاهدت الله على جهاد أعدائه فيها، كالحاج مختار وشيخه شيخ الضلال دحلان. والله حسبنا ونعم الوكيل. وبعد أن انتهى المعترض من نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى صار يفرع على كلامه، ويقتبس ألفاظاً وجملاً من كلام الشيخ يبني عليها ما يمليه عليه عقله الفاسد، وفهمه العاطل من الهذر الذي لا يعقل، بل زاد عليه بأن كتب الحديث – وخص منها الصحاح الستة – فيها من الاختلاف ما ينوف عن الثلث منها، وأنه رأى في شرح الزرقاني على موطأ مالك: مئات المسائل المختلف فيها بين الصحابة، وكثير منها ما كان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه لما صار الفتح تفرق الصحابة في أقطار الأرض، وصار كل منهم يفتي بما عنده من العلم، وأن الأئمة الأربعة كل واحد منهم قد تلقى علومه على أهل البلد التي حل فيها، مثل الحرمين والعراق وغيرهما. وأنه بسبب الرخص والعزائم والناسخ والمنسوخ وقعت الاختلافات في الدين بين الصحابة فمن بعدهم. فيخيل لسامع كلام هذا الجاهل الأحمق: أن الدين كان على عهد الصحابة رضي الله عنهم – وكذا على عهد التابعين لهم – في حالة من الغموض وعدم البيان وكثرة الاختلافات، لعدم ضبطه ومعرفة ناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، يتعذر معها معرفة الأحكام من كتاب الله تعالى وسنة ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل يشعر كلامه هذا: أنه لا وجود للكتاب والسنة وأن أحكام الدين هي ما يتلقى من بعض الصحابة الذين تفرقوا في أقطار الأرض بعد الفتح، على ما فيه من اختلاف بينهم، حتى جاء الأئمة الأربعة، فأصلحوا من أمر هذا الدين ما كان مضطرباً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وبينوا ما كان خافياً مما عجز الصحابة والتابعون من بعدهم عن معرفته وبيانه. وكأنه هذا القائل لم يسمع الآيات والأحاديث الواردة في إكمال الله تعالى لهذا الدين، وحفظه له من كيد أعدائه الظالمين، وإبلاغه لهذه الأمة بأتم بلاغ مبين، حيث يقول تعالى: {وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة، الآية: 3] وقال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" وذلك وقبل أن يخلق الأئمة الأربعة وقرنهم الذي كانوا فيه. ومع ذلك فإن الأئمة الأربعة رحمهم الله لم يدعوا لأنفسهم ما ادعاه لهم هذا الملحد الذي يزعم أنه يدافع عن مقام الأئمة الأربعة، مع أن هذا كذب منه، بل زور وبهتان بل ضلال وإضلال، فإنه من ألد أعدائهم، فإنه مشرك وهم موحدون وجاحد لصفات الله تعالى وهم لها مثبتون، ومبتدع في الدين وهم متبعون، ومقلد أعمى عن الهدى وهم بنور الله مهتدون. فهو إنما يدافع عن نفسه وشيعته أهل البدع والضلال، الذين أحلوا أنفسهم محل الأئمة الأربعة، وزعموا أن من طعن فيهم فقد طعن في الأئمة الأربعة كما ذكر ذلك الغزالي. وهكذا يتقمص هؤلاء الضلال شخصيات الصالحين وهم من ألد أعداء الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 قول الملحد برفع الحرج عن الأمة بتعدد بتعدد الأهواء ... قال الجهول الأحمق: "تأمل بفكر طهره الله من أقذار الهوى: الحرج الذي كان يلحق الأمة، والإهمال الذي كانت تقع فيه لو انحصرت في مذهب واحد، والفوضى التي كانت تقع في الدين لو أطلق الرأي لكل إنسان بما يفهم من الكتاب والسنة وبما يجتهد فيه". أقول: إن كل من تأمل في كلام هذا الأحمق بفكر طهره الله من أقذار الجهل والهوى، ونور الله بصيرته في الدين عن الزيغ والعمى، يحمد الله على الهداية والسلامة وتجنب طرق الضلالة والغواية، التي انغمس فيها هذا الجاهل الأحمق، الذي حارب الله تعالى ورسوله وهو يحسب أنه يحسن صنعاً. فقد صرح هنا بما كان يلمح به سابقاً من الغمز في أحكام الدين إذ كان يرميها به من الغموض والخفاء وتعارض النصوص وكثرة اختلاف الصحابة رضي الله عنهم وعدم معرفة الناسخ والمنسوخ منها. وكذا الرخص والعزائم إلى آخره ... وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 نبهنا على ذلك قريباً، ثم هو ههنا يقول: "إن الأمة المحمدية لو انحصرت في مذهب واحد وأخذت بما تفهم من الكتاب والسنة، وبما يجتهد فيه منهما المجتهدون، فإنها تقع في حرج وإهمال وفوضى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 في هذا القول طعن فيما كان عليه رسول الله وأصحابه ... وهذا القول من هذا الضال طعن فيما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم من القرون المفضلة. فإنهم كانوا على مذهب واحد، لا يعرفون إماماً غير رسول الله، ولا يدينون بغير ما جاءهم به من كتاب ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ممتثلين لأوامرهما، واقفين عند حدودهما. مضى على ذلك أصحاب رسول الله ومن تبعهم من القرون المفضلة، مجتهدين في استخراج الأحكام من هذين النورين: كتاب الله تعالى وسنة رسوله المطهرة، ملتزمين أثر هذا النبي الكريم، لا يعرفون متبوعاً غيره في جميع أقواله وأفعاله، مضوا على ذلك وهم في عز وسعة، وجماعة محكمة. لا فرقة فيها مجاهدين في سبيل الله تعالى وفي حفظ دينه عن كل معاند ومنافق، أو مخالف لسبيل المؤمنين، مبتدع في الدين، أحمق مشاقق، حتى بلغ الدين في عصرهم أعلى ذروة المجد والسؤدد، ففتحوا الأقطار، ومصروا الأمصار، وخضعت لهم رقاب الجبابرة. فدخل في هذا الدين – الذي هو على مذهب واحد – جميع الأقطار التي فتحوها، فلم يشكوا من دينهم حرجاً ولا إهمالاً ولا فوضى، كما زعمه الحاج مختار الجاهل الأحمق. وبعد هذا خلف خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فرقوا الدين وجعلوا أهله شيعاً، كل حزب بما لديهم فرحون، نصبوا أئمة من عند أنفسهم جعلوهم في مقام الرسول صلى الله عليه وسلم في وجوب الإتباع، وألفوا كتباً نسبوها مذاهب لهؤلاء الأئمة بغير رضاهم، زعموا أنها تغني عن الكتاب والسنة والرد إليهما. فرفعوا هؤلاء الأئمة من مقام الإرشاد إلى مقام الرسالة في وجوب إتباعهم، وتركوا الكتاب والسنة ومن جاء بهما نسياً منسياً، ومنعوا الرد إليها في حال الاختلاف. وأقاموا النكير على من رد عند التنازع إليهما، وأخرجوه من الإسلام وقالوا عنه: إنه صاحب مذهب خامس، فقد استحكم الغلو في أمر التقليد في هذه الأزمان المتأخرة حتى انطمست فيها أكثر معالم الدين، ولولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 حفظ الله تعالى لدينه وصدق وعد نبيه صلى الله عليه وسلم بأن "لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" لقضى هؤلاء الدعاة إلى ترك الكتاب والسنة بحجة التقليد على البقية من هذا الدين الحنيف. ولكن الله تعالى حافظ دينه، ومصدق وعد نبيه فإنه من عصر الصحابة إلى يومنا هذا لم يزل أئمة المسلمين- ومنهم الأئمة الأربعة- ينكرون التقليد ويذمونه، ويحذرون منه، ويحثون على الاجتهاد والأخذ من الكتاب والسنة. وقد أمر الله تعالى بطاعة رسول صلى الله عليه وسلم فقال: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر، الآية: 7] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران، الآية:31] ، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء، الآية:80] ، وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور، الآية:54] والآيات في القرآن كثيرة يأمر الله تعالى فيها بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم, وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد" وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه في موعظة رسول الله صلى الله عليه وسلم البليغة، وفيها: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" أخرجه أبو داود والترمذي. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكرموا أصحابي، فأنهم خياركم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب – إلى آخر الحديث.." رواه النسائي بإسناد صحيح. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "ذم التقليد": قد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من محدثات الأمور وأخبر: "أن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". ومن المعلوم بالضرورة أن ما عليه هؤلاء من التقليد الذي يتركون له كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويعرض القرآن والسنة عليه، ويجعل معياراً عليهما: من أعظم المحدثات والبدع التي برأ الله سبحانه منها القرون التي فضلها، وخيرها على غيرها – إلى آخر كلامه ... ". وقال رحمه الله تعالى أيضاً في كتابه "أعلام الموقعين": وهل يلزم العامي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا؟ فيه مذهبان: أحدهما: لا يلزمه وهو الصواب على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه دون غيره. وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة مبرأ أهلها من هذه النسبة، بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به، فالعامي لا مذهب له، لأن المذاهب إنما تكون لمن له نوع ونظر واستلال، ويكون بصيراً بالمذاهب على حسبه، أو لمن قرأ كتاباً في فروع ذلك المذهب، وعرف فتاوى إمامه وأقواله، وأما من لم يتأهل لذلك البتة، بل قال: أنا شافعي، أو حنبلي، أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول كما لو قال: أنا فقيه أو نحوي أو كاتب لم يصر كذلك بمجرد قوله. يوضحه: أن القائل هو شافعي أو مالكي أو حنفي يزعم أنه متبع لذلك الأمام، سالك طريقه، وهذا إنما يصح له إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة والاستدلال، فأما مع جهله وبعده جداً عن سيرة الإمام وعلمه وطريقه: فكيف يصح الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة، والقول الفارغ من كل معنى؟ والعامي لا يتصور أن يصح له مذهب، ولو تصور ذلك لم يلزمه ولا لغيره، ولا يلزم أحداً قط أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة بحيث يأخذ أقوالها كلها ويدع أقوال غيره، وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة، لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام، وهم أعلى رتبة وأجل قدراً، وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك، إلى كلامه رحمه الله. ومن كلام الشيخ عز الدين عبد السلام – وقد تقدم بطوله – قال: ولم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقليد لمذهب، ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين. فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلداً له فيما قاله، كأنه نبي أرسل إليه. وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب لم يرض به أحد من أولي الألباب، انتهى. وقال الإمام أبو شامة في كتابه "المؤمل في الرد إلى الأمر الأول" وسئل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 بعض العارفين عن المذهب؟ فأجاب: إن معناه دين مبدل، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} [الروم، الآيتان:31-32] انتهى. وقال الشيخ ابن العز في حاشية الهداية: فمن يتعصب لواحد معين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرى أن قوله هو الصواب الذي يجب اتباعه دون الأئمة المتأخرين فهو ضال جاهل. وقد يكون كافراً يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وقال العالم الأصولي الفقيه الشيخ محمد بن عبد العظيم المكي الحنفي في كتابه "القول السديد" الفصل الأول: اعلم أنه لم يكلف أحداً من عباده بأن يكون حنفياً أو مالكياً أو شافعياً أو حنبلياً، بل أوجب عليهم الإيمان بما بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم، والعمل بشريعته. انتهى. وفي هذا كفاية في بيان ضلال هذا الملحد، لئلا يغتر به من لا علم عنده. قال المعترض الملحد: "يزعم هؤلاء الضالون أن ابن تيمية أفتى بجواز الاجتهاد، والأخذ عن غير الأئمة الأربعة، فأقول: نعم، قال ابن تيمية في الرسالة المذكورة: بجواز الاجتهاد، والأخذ عن غير الأئمة الأربعة، لكنه بكافة كتبه ومباحثه يصرح باتباعه واعتماده على مذهب الإمام أحمد بن حنبل. ثم تجده قيد التجويز بشروط سيأتي بيانهم لعلها ما توفرت فيه وفي أقرانه، فضلاً عن علماء زماننا". أقول: يزعم هذا الملحد أن الوهابيين ومن وافقهم من أهل السنة – قديماً وحديثاً- يدينون بالاجتهاد المطلق. وأنهم يقلدون في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وقد كذبنا دعواه هذه فيما تقدم. ومع ذلك: فإن المعترض ينكر وجود الاجتهاد من بعد عصر الأئمة الأربعة، ويقول: إن الاجتهاد بدعة في الدين وقد فندنا دعواه هذه أيضاً وبينا بطلانها في أول ردنا هذا بما أوردناه من كلام أئمة المسلمين من جميع المذاهب الأربعة وغيرهم بأن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات، وأنه لا يجوز خلو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 عصر منهم وان ترك الاجتهاد مؤد إلى إبطال الشريعة، ولم ينقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذلك حرفاً واحداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 كذبه على شيخ الإسلام ابن تيمية ... وأما ما ذكره الملحد عن الشيخ ابن تيمية وكتبه ومباحثه فهو كذب ومجرد دعوى بلا دليل، فإنه لا يعرف من كتب ابن تيمية غير هذه الرسالة الصغيرة "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لأنه وجد فيها -بزعمه- ما يوافق هواه ومع ذلك فقد حرف في النقل ههنا أشنع تحريف. وافترى على الشيخ فيها ونسب إليه قولاً كذباً وزوراً، كما سنراه قريباً بعد هذا، فيما أنا مورده من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ما يكذب دعوى هذا الملحد على الشيخ ويبين جهله. فإنه في جهالة عمياء، وغباوة شنعاء، يتلقف معلوماته وعقائده من حثالات المبتدعين، ومن الجهلة الجاثمين على عادات آبائهم وأجدادهم السالفين. ويجري مع الهوى، مفترياً الكذب على أئمة الدين، محرفاً لكلامهم، لا يرجو من الله وعداً، ولا يخلف وعيداً. وقد قال تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود، الآية:18] . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه "منهاج السنة": قال الرافضي: وذهب الجميع منهم إلى القول بالقياس، والأخذ بالرأي. فأدخلوا في دين الله ما ليس منه، وحرفوا أحكام الشريعة، واتخذوا مذاهب أربعة، لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن الصحابة، وأهملوا تأويل الصحابة مع أنهم نصوا على ترك القياس وقالوا: أول من قاس إبليس. قال الشيخ: الجواب عن هذا من وجوه –إلى أن قال- الوجه الخامس: أن قوله: "أحدثوا مذاهب أربعة لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" إن أراد بذلك: أنهم اتفقوا على أن يحدثوا هذه المذاهب مع مخالفة الصحابة رضي الله عنهم. فهذا كذب عليهم، فإن هؤلاء الأئمة لم يكونوا على عصر واحد، بل أبو حنيفة توفى سنة خمسين ومائة ومالك سنة تسع وسبعين ومائة، والشافعي سنة أربع ومائتين وأحمد بن حنبل إحدى وأربعين ومائتين رحمهم الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وليس في هؤلاء من كان يقلد الآخر، ولا من يأمر الناس باتباعه، بل كل منهم كان يدعوا إلى اتباع الكتاب والسنة. وإذا قال غيره قولاً يخالف الكتاب والسنة عنده رده، ولا يوجب على الناس تقليده. وإن قلت: إن أصحاب هذه المذاهب اتبعهم الناس، فهذا لم يحصل بمواطأة، بل اتفق أن قوماً اتبعوا هذا، وقوماً اتبعوا هذا، كالحجاج الذين طلبوا من يدلهم على الطريق. فرأى قوم هذا دليلاً خريتا فاتبعوه. وكذلك آخرون وإذا كان كذلك لم يكن في ذل ك اتفاق أهل السنة على باطل بل كل قوم ينكرون ما عند غيرهم من الخطأ. فلم يتفقوا على أن الشخص المعين عليه أن يقبل من كل هؤلاء ما قالوه، بل جمهورهم لا يأمر العامي بتقليد شخص معين، غير النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى قد ضمن العصمة للأمة فمن تمام العصمة أن يجعل عدداً من العلماء إذا أخطأ الواحد في شيء كان الآخر قد أصاب فيه، حتى لا يضيع الحق، ولهذا لما كان في قول بعضهم من الخطأ مسائل- كبعض المسائل التي أوردها الرافضي- كان الصواب في قول الآخر، فلم يتفق أهل السنة على ضلالة أصلاً- إلى أن قال: الوجه الثامن: أن أهل السنة لم يقل أحد منهم إن إجماع الفقهاء الأربعة حجة معصومة، ولا قالوا إن الحق منحصر فيها، وأن ما خرج عنها باطل، بل إذا قال من ليس من أتباع الأئمة الأربعة – كسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد ومن قبلهم ومن بعدهم من المجتهدين – قولاً يخالف الأئمة الأربعة رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وكان الراجح هو الذي قام عليه الدليل. انتهى ما نقلته من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. فهل يتفق هذا مع ما فتراه هذا الملحد الضال، ونسبه إلى الشيخ؟ فإن هذا دأبه مع جميع علماء المسلمين من أهل السنة، والكذب عليهم وتحريف كلامهم. قال المعترض: "ثم قال – يعني الشيخ ابن تيمية – في آخر الرسالة المذكورة ما نصه: واعلم أن سبيل اتباع الأئمة هي التي يجب سلوكها، وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 سواها فهو أقبح من أقوال الخوارج والمعتزلة، وغيرهم من أهل الضلال، انتهى. فهذا كلام إمامكم بنصه ولا جرم أنكم عالمون بما كان عليه من الحق والإنصاف، لكن الشيطان أغراكم على اتهامه بما هو بريء منه وليس هذا الإمام وحده أنصف من نفسه، بل جميع أجلاء علماء أهل السنة كانوا – وما زالوا – على هذا الهوى، وهذا الصراط المستقيم". أقول: إن ما نسبه الملحد من هذا الكلام إلى الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى: كله كذب بحت، لم يقله الشيخ، لا لفظاً ولا تضمنه كلامه معنى، وإنما هو من اختلاق هذا الملحد كعادته في تحريف كلام العلماء والكذب عليهم ونحن ننقل كلام الشيخ ابن تيمية الذي حرفه المعترض بنصه. قال الشيخ رحمه الله تعالى في كتابه "رفع الملام" في الكلام على نصوص الوعيد، فإن قيل: فهلا قلتم: إن أحاديث الوعيد لا تتناول محل الخلاف وإنما تتناول محل الوفاق، وكل فعل لعن فاعله، أو توعد بغضب أو عقاب حمل على فعل اتفق على تحريمه، لئلا يدخل بعض المجتهدين في الوعيد، إذا فعل ما اعتقد تحليله، بل المعتقد أبلغ من الفاعل، إذ هو الآمر له بالفعل، فيكون قد ألحق به وعيد اللعن، أو الغضب بطريق الالتزام؟ قلنا: الجواب من وجوه – ثم ذكر اثني عشر وجهاً – ثم قال في الوجه الثاني عشر منها: أن نصوص الوعيد من الكتاب والسنة كثيرة جداً، والقول بموجبها واجب على وجه العموم والإطلاق، من غير أن يعين شخص من الأشخاص، فيقال: هذا ملعون أو مغضوب عليه ومستحق للنار، لا سيما إن كان لذلك الشخص فضائل وحسنات: فإن من سوى الأنبياء يجوز عليهم الصغار والكبائر، مع إمكان أن يكون ذلك الشخص صديقاً أو شهيداً أو صالحاً. لما تقدم أن موجب الذنب: يختلف عنه بتوبة أو استغفار، أو حسنات ما حية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة، أو لمحض مشيئته ورحمته. فإذا قلنا بموجب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا} [النساء، الآية: 10] ثم ساق آيات في هذا المعنى – وقال: إلى غير ذلك من آيات الوعيد، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 قلنا بموجب قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من شرب الخمر أو عق والديه" – ثم ذكر أيضاً أحاديث بهذا المعنى – ثم قال: إلى غير ذلك من أحاديث الوعيد: لم يجز أن يعين شخص ممن فعل بعض هذه الأفعال. ونقول: هذا المعين قد أصابه هذا الوعيد، لإمكان التوبة وغيرها من مسقطات العقوبة. ولم يجز أن نقول: هذا يستلزم لعن المسلمين ولعن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولعن الصديقين، أو الصالحين لأنه يقال: الصديق والصالح متى صدرت منه بعض هذه الأفعال، فلا بد من مانع يمنع لحوق الوعيد به، مع قيام سببه. ففعل هذه الأمور ممن يحسب أنها مباحة باجتهاد، أو تقليد، أو نحو ذلك، غايته أن يكون نوعاً من أنواع الصديقين الذين امتنع لحوق الوعيد بهم لمانع، كما امتنع لحوق الوعيد به لتوبة أو حسنات ماحية أو غير ذلك. واعلم أن هذه السبيل هي التي يجب سلوكها، فإن ما سواها طريقان خبيثان: أحدهما: القول بلحوق الوعيد لكل فرد من الأفراد بعينه، ودعوى أن هذا عمل بموجب النصوص وهذا أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب والمعتزلة وغيرهم، وفساده معلوم بالاضطرار، وأدلته معلومة في غير هذا الموضوع. انتهى المقصود من نقل كلام الشيخ ابن تيمية الذي حرفه المعترض ليقابله القراء، وكل مطلع عليه، وليتحققوا تحريف هذا الملحد لكلام العلماء ونسبته إلى الشيخ ابن تيمية من القول ما لم يقله. وأما قول المعترض: "فهذا كلام إمامكم بنصه". فالجواب أن نقول: ليس هذا كلام إمامنا، فقد غير المعترض لفظ كلام إمامنا ومعناه. وقد أوردنا نحن نص كلام إمامنا بالحرف الواحد، ليعلم قدر أمانة هذا المحرف المنحرف عن سبيل المؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وأما قول المعرض: "ولا جرم أنكم عالمون بما كان عليه من الحق والانصاف ... إلى أخره". فنقول للمعترض: نحن عالمون بما كان عليه شيخ الإسلام ابن تيمية من الحق والإنصاف، وعلمنا بذلك علم يقين، ورسوخ في الحق، مقرون لهذا الشيخ الجليل بأنه في العلم والحق والإنصاف علم الأعلام، ومصباح الظلام. وهو حجة الله الناطقة على المعاندين، وسيف الله المسلول على رقاب الزنادقة والمبتدعين. نسأل الله تعالى له الرحمة والغفران، وإعلاء مقامه في جنات النعيم، مع الصديقين والشهداء والصالحين، وإن رغم أنف الحاج مختار المتلون في دينه وسنحتج علي بما أقر به هنا من فضل الشيخ وإمامته، وأنه من أهل الحق والإنصاف، وأنه من جلة علماء أهل السنة، الذين كانوا – وما زالوا – على الصراط المستقيم، إن شاء الله. وذلك حينما يبدأ هذا اللحد في طريق الزندقة والحور بعد الكور في حق شيخ الإسلام ابن تيمية – رضي الله عنه – من سبه للشيخ وتضليله إياه، بغير برهان ولا حجة إلا فيما خالف فيه هواه، ودمغه على رأسه من كلام شيخ الإسلام الذي هدم به شركه وضلاله. وأما إطلاق المعترض على شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه إمامنا: فمع كون الشيخ رحمه الله تعالى أهلاً للإمامة والإرشاد، وهو خير من يقتدى به من أهل عصره إلى يومنا هذا. فما كنا له مقلدين ولا متابعين إلا بما يفرضه علينا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن قبول الحق ونصرته ممن جاء به، ولما كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من وقت ظهروه إلى وقتنا هذا هو إمام الأئمة المحققين لتوحيد الله تعالى، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله على طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم من القرون المفضلة فإنا له موافقون، وبفضله وإمامته شاهدون. وأما في الفروع: فإننا على مذهب إمامنا الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ولم تقلد شيخ الإسلام ابن تيمية فيما خالف فيه الإمام أحمد، كمسألة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الطلاق الثلاث دفعة واحدة وغيرها فالمعترض ملفق، بعيد عن الحق. ثم إن المعترض أورد كلاماً بطريق الاستشكال ثم أجاب عنه بجواب من نوعهن كله خلط وتحريف، وهذيان متناقض لا طائل تحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 إنكاره بقاء الاجتهاد في الأمة ... ثم قال المعترض: "الفصل الثالث في الاجتهاد، وفيه مقدمة ومباحث". أقول: قد تقدم أن المعترض قال: "ولنرجع إلى المقصود من هذه الرسالة، المسألة الأولى في الاجتهاد". فلم يذكر شيئاً مما يتعلق ببحث الاجتهاد، بل رجع إلى عادته في البهت وافتراء الكذب على الوهابيين وإخوانهم فقال: "إنهم يبيحون التعبد بالاجتهاد بشرط الاستنباط من القرآن العظيم فقط، وينكرون الإجماع الذي اتخذه علماؤنا أصلاً من الأصول التي تنبني عليها الأحكام. فإيضاحاً لفساد قولهم هذا: أتكلم إن شاء الله تعالى عن كل فرع منه على حدة" يعني من فروع الإجماع. ثم شرع في بيان الإجماع وفروعه، فقال: "الفصل الأول في الإجماع – إلى آخره" ثم ذكر الفصل الثاني في أسباب اختلاف الأئمة إلى آخره. وهو فرع من فروع الإجماع عند المعترض ثم قال "الفصل الثالث في الاجتهاد" وهو هذا الذي نحن بصدده. وظاهر هذا الترتيب وهذا التصرف من المعترض: أن الاجتهاد واختلاف الأئمة من فروع الإجماع. وهذا يكفي في سقوط المعترض عن درجة العقلاء، فضلاً عن العلماء. وقد نبهت فيما تقدم على أن هذا الملحد في حالة من الجهل والحمق لا يعرف معها الأصول من الفروع، ولا الفرق بينهما، بل هو أعمى مخلط. فمما يجب التنبيه عليه هنا: أن هذا المعترض ينكر بقاء الاجتهاد ووجود المجتهدين في هذه الأمة بعد عصر الأئمة الأربعة. وقد عقد هذه الترجمة للاجتهاد زاعماً: أنه يرد فيها على القائلين ببقائه، وقد سمى المعترض "الاجتهاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 بدعة في الدين" وذلك في أول رسالته هذه، وفي بدء مناقشته للأئمة الذين ذكرنا أسماءهم. فإن أول ما خاطبهم به مفتتحاً به رسالته قوله: "أما بعد أيها الإخوان المتلقبون بالمتنورين، أراكم تدعون الناس لبدعة الاجتهاد في الدين، وغيرها من البدع" إلى آخر ما هذى به. وقد استوفينا من الرد عليه ما فيه كفاية وذكرنا أقوال جميع علماء المذاهب الأربعة بأن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات لا يجوز خلو عصر منه، وأن ترك الاجتهاد مؤد إلى إبطال الشريعة. فأما ما ذكره المعترض هنا، تحت هذا الفصل من مقدمة ومباحث: فينقسم إلى قسمين: أحدهما: المقدمة وما يتبعها من كلام المعترض نفسه. فإن كلام يدل على جهل محض لا يخالطه شيء من العلم وعلى حمق لا يصحبه شيء من العقل الذي يرشد صاحبه إلى طلب الحق والهداية إليه. وأما القسم الثاني: وهو ما نقله عن بعض العلماء تحت هذه المباحث الثلاثة، وهي تعريف الاجتهاد، وجوازه، وما يجب على المجتهد فيه فإن كلام العلماء الذي نقله المعترض مثبت لبقاء الاجتهاد في هذه الأمة ووجود المجتهدين فيها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأن هذا الأحمق ومن قلدهم ضالون في زعمهم: انقطاع الاجتهاد بعد عصر الأئمة الأربعة مردود عليهم في ذلك من جميع المذاهب الأربعة. والغريب في أمر هذا المعترض أنه لا يعرف معاني ما ينقله من كلام العلماء، ويكفيه منه مجرد النقل عنهم مغالطاً مع تحريف كلامهم والتصرف فيه بالزيادة والنقصان، حتى إنه لا يفرق فيه بين ما هو حجة له أو عليه. فهو كالحمار يحمل أسفاراً. ومن ذلك ما نقله هنا عن صاحب "كشف الظنون" فإنه حجة عليه في طعنه على أئمة أهل الحديث وبيان لفساد فهمه وأنه ليس على شيء من العلم. قال المعترض: "قال في كشف الظنون: في حرف الجيم مع الميم: وإن من أصول فرض الكفاية علم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وآثار أصحابه التي هي ثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 أدلة الأحكام. وله أصول وأحكام وقواعد واصطلاحات ذكرها العلماء يحتاج طالبه إلى معرفتها، كالعلم بالرجال وأسمائهم وأنسابهم وأعمارهم، ووقت وفاتهم، والعلم بصفات الرواة وشرائطهم، والعلم بمستند الرواة وإيرادهم ما سمعوه، وذكر مراتبه، والعلم بجواز نقل الحديث، والعلم بالمسند والعالي والنازل، والمرسل والمنقطع والموقوف، والمعضل، والعلم بالجرح والتعديل الخ ... والعلم بأقسام الصحيح والكذب، والغريب والحسن والمتواتر والآحاد، والناسخ والمنسوخ. وغير ذلك فمن أتقنها أتى دار هذا العلم من بابها. انتهى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 جهله بالأصول والقواعد والمصطلحات ... قال المعترض: "قلت: قوله إنها ثاني أدلة الأحكام، بناء على قاعدتهم: إذا تعارض حديثان في حكم يرجعون فيه إلى ما صح منهما عن الصحابة وهذه قاعدة إمامنا مالك رضي الله عنه ترجيح ما عمل به أهل المدينة". أقول: انظر كيف خرج هذا الأحمق من كلام صاحب كشف الظنون بهذا الفهم والاستنباط العاطل، ولم يفهم معنى الكلام، وما ورد فيه من مراعاة هذه الأصول وما ذكر معها من الأحكام والقواعد، والمصطلحات التي يجب معرفتها واتقانها على من أراد أن يكون من حملة أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام التي هي ثاني أدلة الأحكام بعد كتاب الله تعالى. فقد جهل هذا الملحد أن معرفة هذه الأصول يتوقف عليها مدار علم الحديث. وقد أتقنها أئمة أهل الحديث، واعتنوا بها غاية الاعتناء. لأنه لا يكون إماماً في الحديث من يجهل أصوله واصطلاحاته، كما زعمه هذا الملحد. ويكفيهم إجماع الأمة على إمامتهم، وصحة ما دونوه في كتبهم المشهورة بين المسلمين وفي مقدمتها: الصحيحان – البخاري ومسلم – وهما اللذان ينكر هذا الملحد العمل والفتوى بنصوصهما ولو يعلم المعترض ما تضمنه كلام صاحب "كشف الظنون" لما أورده هنا. فهو كما قلنا عنه آنفاً: كالحمار يحمل أسفاراً. فإن هذا الذي نقله عن صاحب "كشف الظنون" يلقمه حجراً، ويرد كيده في نحره، فيما زعمه من اتهامه أئمة أهل الحديث بالتسامح والتقصير، وأنهم لم يدونوا الأحاديث لأجل العمل بها، بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 لحفظها فقط. وقد فهم هذا الأحمق من كلام صاحب "كشف الظنون": أن آثار الصحابة رضي الله عنهم هي ثاني أدلة الأحكام. فقال: "قلت: إن قوله إنها ثاني أدلة الأحكام بناء على قاعدتهم، إلى آخر استنباطه" فما أحق هذا الأحمق بقول القائل: قصرت في الفهم، فاقصر في الكلام فما ... ذا عشك، ادرج، فما حبر كجاهله ثم إن المعترض نقل كلاماً ذكر أنه رآه في الفصل السادس من كتاب "الفلاكة والمفلوكون" ذكر في آخره كلاماً مستطاباً في الثناء على الأئمة المجتهدين، ورواة الحديث في الصدر الأول من هذه الأمة. وهذا مما يضيق له صدر هذا الملحد ولكنه ختمه بقوله: "إنه قد تقرر الإجماع على تقليد المذاهب الأربعة". ثم قال: "فانظر يا أخي أي برهان أوضح لذي بصيرة أنارها الله بالإيمان من اجتماع بضع وتسعين جزءاً من مائة جزء من المسلمين – وهم أهل السنة – على هذه المذاهب الأربعة من حين ظهورهم إلى الآن مع ما هم عليه من تباعد الأقطار واختلاف اللغات والعوائد والأخلاق، ولو أردت إحصاء ما ظهر في هذه القرون من هذه الأمم من كبار العلماء الشاهدة آثارهم على عظيم مقامهم وقوة اقتدارهم على الاجتهاد لو أرادوه لما استطعت ذلك". أقول: إن هذا المعترض قد أكثر من ترديد هذه الافتراءات على المسلمين وأهل السنة بأنهم مجمعون على تقليد الأئمة الأربعة، إلى آخر ما هذى به. وقد تقدم من كلام المعترض شيء كثير في هذا المعنى قد وفيناه حقه من الرد عليه. وربما بكون في ردنا هنا نوع تكرير. فما العمل؟ ونحن أمام أحمق مبطل، بضاعته تكرير الكلام وترويج الباطل. فنقول: قد تقدم قريباً كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على الرافضي، حيث رمى أهل السنة بأنهم قد أحدثوا مذاهب أربعة، لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا زمن أصحابه. وقال الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 في كتابه "الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض" السادسة عشرة: قال النووي في الروضة تبعاً للرافعي: المنتسبون إلى مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك ثلاثة أصناف: أحدها: العوام. الثاني: البالغون رتبة الاجتهاد، واستعمال الأدلة، وترتيب بعضها على بعض. ووافق اجتهادهم اجتهاد. وإنما خالفوه أحياناً ولم يبالوا بالمخالفة. والصنف الثالث: المتوسطون. وهم الذين لا يبلغون رتبة الاجتهاد في أصل الشرع، لكنهم وقفوا على أصول الإمام في الأبواب وتمكنوا من قياس ما لم يجدوه منصوصاً له على ما نص عليه. وهؤلاء مقلدون له – ثم قال: السابعة عشرة: قال ابن قيم الجوزية في كتابه "ذم التقليد": أنكر بعض المقلدين على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في تدريسه في مدرسة ابن الحنبلي، وهي وقف على الحنابلة: والمجتهد ليس منهم فقال: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي بمذهب أحمد، لا على تقليدي له. ومن المحال أن يكون هؤلاء المتأخرون على مذهب الأئمة دون أصحابهم الذين لم يكونوا يقلدونهم فأتبع الناس لمالك ابن وهب وطبقته ممن يحكم الحجة، وينقاد للدليل أين كان. وكذلك أبو يوسف أتبع لأبي حنيفة من المقلدين له مع كثرة مخالفته له. وكذلك الأثرم وطبقته من أصحاب أحمد رحمهم الله أتبع له من المقلدين المحض المنتسبين إليه. وعلى هذا: فالوقف على أتباع الأئمة أهل الحجة والعلم أحق به من المقلدين في الأمر نفسه. انتهى. قال السيوطي: وقد كنت أجبت بمثل هذا الجواب قبل أن أقف عليه لما قيل لي مثل ذلك في العام الماضي، واستندت إلى أن ابن الصلاح ولى تدريس الشافعية بالنظامية وهو موصوف بالاجتهاد المطلق وابن عبد السلام ولى تدريس الشافعية بالصالحية والظاهرية. وابن دقيق العيد ولى تدريس المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي وغيرها من المدارس الموقوفة على الشافعية. وكذلك السبكي والبلقيني كل قد ولى مدارس الشافعية، مع القطع بأنهم مجتهدون بقولهم وشهادة الناس لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الثامنة عشرة: ذكر البلقيني في "تصحيح المنهاج" قال الماوردي في الأحكام السلطانية: إذا كان القاضي شافعياً لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها. وإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل به. وقال في الحاوي: إن القاضي المنتسب إلى مذهب الشافعي وأبي حنيفة لا يجوز له تقليد صاحب المذهب، بل يعمل على اجتهاد نفسه وإن خالف مذهب من اعتزى إليه. وقال بعض أصحابنا: إنه يحكم بمذهب صاحبه وأصول الشرع تنافيه، وكذا في "الذخائر" انتهى. فانظر إلى هؤلاء الأئمة كيف لم يستنكروا أن يكون الإنسان مجتهداً وهو مع ذلك ينتسب إلى الشافعي، أو أبي حنيفة أو غيرهما؟ وقال في موضع آخر: قال الغزالي في المنخول: الاجتهاد ركن عظيم في الشريعة، لا ينكره منكر وعليه عول الصحابة رضي الله عنهم بعد أن استأثر الله برسوله صلى الله عليه وسلم وتابعهم عليه التابعون إلى زماننا هذا – إلى أن قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ذكر جملة من العلماء المجتهدين ... السابعة والأربعون: قال الغزالي: فصل في التنصيص على مشاهير المجتهدين من الصحابة والتابعين وغيرهم ولا خفاء بأمر الخلفاء الراشدين، إذ لا يصلح للإمة إلا مجتهد. وكذلك كل من أفتى في زمانهم كالعبادلة وزيد بن ثابت، وأصحاب الشورى، ومعاوية. والضابط عندنا: أن من علمنا قطعاً أنه تصدى للفتوى في أعصارهم، ولم يمتنع عها فهو من المجتهدين. ومن لم يتصد لها قطعاً فلا. ومن ترددنا في ذلك في حقه ترددنا في صفته. قال: وقد انقسمت الصحابة رضي الله عنهم إلى ممسكين لا يفتون بالعلم، وإلى معتنين به. وأصحاب العمل منهم لم يكن لهم منصب الفتوى والذين تعلموا وأفتوا فهم المفتون، ولا مطمع في عد آحادهم بعد ذكر الضابط وهو الضابط أيضاً في التابعين. هذا كلام الغزالي. وقال ألكيا الهراسي في تعليقه في الأصول ما نصه، فإن قيل: فاذكروا لنا المجتهدين ممن تقدم، قلنا: بدأ بالصدر الأول، فالخلفاء الأربعة مجتهدون وبعدهم أهل الشورى: طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 عوف، وسعد بن أبي وقاص، وبعدهم معاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس رضي الله عنهم وكل من تصدى للفتوى. ونقلت عنه المذاهب من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين كالفقهاء السبعة، وابن سيرين. وقال ابن برهان: أما الصحابة فلا شك أن الفقهاء المشهورين منهم من أهل الاجتهاد وأساميهم معلومة في التواريخ، منهم العشرة، وابن مسعود، وعائشة، وابن عمر، وجابر، وأبو هريرة، وأنس وغيرهم. وأما التابعون: فقد اشتهر المجتهدون منهم كسعيد بن المسيب، والأوزاعي، والشعبي، والحسن، وابن سيرين الفقهاء السبعة. وقال الزركشي في البحر: قد عد ابن حزم في الأحكام فقهاء الصحابة فبلغ بهم مائة ونيفاً وهذا حيف. وقد قال الشيخ أبو إسحاق في طبقاته: أكثر الصحابة الملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم كانوا فقهاء مجتهدين. لأن طريق الفقهاء فهم خطاب الله وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم وأفعاله. وقد كانوا عارفين بذلك لأن القرآن نزل بلغتهم وعلى أسباب عرفوها، وعلى قصص كانوا فيها فعرفوا منطوقه ومفهومه، ومنصوصه ومعقوله. ولهذا قال أبو عبيدة في كتاب "المجاز" لم ينقل أن أحداً من الصحابة رجع في معرفة شيء من القرآن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بلغتهم، يعرفون معناه، ويفهمون منطوقه وفحواه. وأفعاله هي التي فعلها من العبادات والمعاملات والسير والسياسات. وقد شاهدوا ذلك كله وعرفوه، وتكرر عليهم وتحروه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم، بأبيهم اقتديتم اهتديتم". ولأن من نظر فيما نقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقواله، وتأمل ما وصفوه من أفعاله في العبادات وغيرها اضطر إلى العلم بفقههم وفضلهم. هذا كلام الشيخ أبي إسحاق. قال الزركشي في البحر: ولا يطمع في عد آحاد المجتهدين من الصحابة والتابعين لكثرتهم وعدم حصرهم. انتهى. وقد تقدم في كلام ابن حزم عند جماعة من المجتهدين فيهم كثرة، فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 نطيل بإعادتهم. وقد عق الشيخ أبو إسحاق في طبقاته – وظهر كلامه في خطبته: أنه لم يذكر فيها سوى المجتهدين – فإن قال: هذا كتاب مختصر في ذكر الفقهاء لا يسع الفقيه جهله لحاجته إليه في معرفة من يعتبر قوله في انعقاد الإجماع، ويعتد به في الخلاف. وبدأت بفقهاء الصحابة ثم بمن بعدم من التابعين وتابعي التابعين، ثم بفقهاء الأمصار، ثم ذكر جملة من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين والأئمة الأربعة. وجملة من أقرانهم وأتباعهم، وداود الظاهري وجملة من أتباعه. فظاهر صنعه: أن كل من ذكره في هذا الكتاب فهو مجتهد لأنه شرط في كتابه ذكر من يعتبر قوله في انعقاد الإجماع ويعتد به في الخلاف وهذا الوصف ليس إلا للمجتهد. وقال النووي في شرح المهذب: المزني وأبو ثور وأبو بكر بن المنذر أئمة مجتهدون. وهم منسوبون للشافعي. فأما المزني وأبو ثور: فصاحبان للشافعي حقيقة، وابن المنذر متأخر عنهما وقد صرح في المهذب في مواضع كثيرة بأن الثلاثة من أصحابنا أصحاب والوجوه. وجعل أقوالهم وجوهاً في المذهب. وتارة يشير إلى أنها ليست وجوهاً. وقد قال إمام الحرمين في باب ما ينقض الوضوء من النهاية: إذا انفرد المزني برأي فهو صاحب مذهب، وإذا خرج الشافعي قولاً: فتخريجه أولى من تخريج غيره. وهو يلتحق بالمذهب لا محالة. قال النووي: وهذا الذي قاله الإمام حسن لا شك في أنه متعين. وذكر النووي في شرح المهذب: أن حرملة له مذهب مستقل لنفسه. وفي طبقات ابن السبكي في ترجمة عبدان المروزي أحد الحفاظ قال: روى أبو بكر بن السمعاني بإسناده عن بعض المشائخ قال: اجتمع في عبدان أربعة أنواع من المناقب: الفقه والإسناد والورع والاجتهاد. وقال ابن الصلاح في ترجمة محمد بن نصر المروزي: ربما تذرع متذرع بكثرة اختياراته المخالفة لمذهب الشافعي إلى الإنكار على الجماعة العادين له في أصحابنا. وليس الأمر كذلك لأنه في هذا بمنزلة ابن خزيمة والمزني وأبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ثور وغيرهم. ولقد كثرت اختياراتهم المخالفة لمذهب الشافعي ثم لم يخرجهم ذلك عن أن يكونوا في قبيل أصحاب الشافعي معدودين، وبوصف الاعتزاء إليه موصوفين. ووصف ابن السبكي في طبقاته الإمام أبا بكر ابن خزيمة بالاجتهاد المطلق. وذكر الذهبي وغيره في ترجمة الإمام أبي جعفر بن جرير الطبري: أنه كان من المجتهدين لا يقلد أحداً، وله مذهب مستقل، وتصانيف على مذهبه، وأتباع مقلدون له، يفتون ويقضون بقوله. وأشار إلى ذلك النووي في تهذيب الأسماء واللغات ونقل فيه عن الرافعي: أنه قال: تفرد ابن جرير لا يعد وجهاً في مذهبنا وإن كان معدوداً في طبقات أصحاب الشافعي. وقال الذهبي في طبقات القراء، في ترجمة أبي عبيد القاسم بن سلام: كان يجتهد ولا يقلد أحداً. وقال ابن السبكي في الطبقات الوسطى، في ترجمة قاسم بن محمد بن سيار القرطبي: كان يذهب مذهب الحجة والنظر، وترك التقليد، ويميل إلى مذهب الشافعي يعني مع كونه من المنسوبين إلى أتباع الإمام مالك – ولكنه كان يترك التقليد، ويميل إلى مذهب الشافعي لأنه أداه اجتهاده إليه ثم قال: الوليد: لم يكن بالأندلس مثله في حسن النظر، والبصر بالحجة. وروى عن ابن عبد الحكم أنه قال: لم يقدم علينا من الأندلس أحد أعلم من قاسم بن محمد. وقال الأسنوي في الطبقات في ترجمة ابن المنذر: كان أحد الأئمة الأعلام لم يقلد أحداً في آخر عمره. وقال الدارقطني في ترجمة شيخه القاضي أبي بكر أحمد بن كليل أحد أصحاب ابن جرير: كان يختار ولا يقلد أحداً. قيل له: أما كان جريري المذهب؟ يعنى على مذهب شيخه ابن جرير – فقال: بل خالفه، واختار لنفسه. وقال القرطبي في مختصر التمهيد في ترجمة الإمام أبي عمر يوسف بن عبد البر: كان يرى الاجتهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وقال الشيخ أبو إسحاق في ترجمة شيخه القاضي أبي الطيب: لم أر فيمن رأيت أكمل اجتهاداً منه. وألف الشيخ الجويني كتاباً لم يلتزم فيه مذهب الشافعي واختار فيه أشياء مختلفة للمذهب. وكتب له البلقيني رسالة يقول فيها: الشيخ أهل لأن يجتهد ويتخير. ووصفه غير واحد بالاجتهاد ووصف الذهبي في طبقات الحفاظ: البغوي بالاجتهاد، وأشار البغوي نفسه إلى ذلك في خطبة التهذيب. وقال ابن السبكي في الطبقات: قال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي: لم أدرك فيمن رأيت وحضرت من العلماء –على اختلاف مذاهبهم- من كملت له شرائط الاجتهاد المطلق إلا ثلاثة: أبو يعلى ابن الفراء، وأبو الفضل الهمداني القرطبي، وأبو نصر بن الصباغ. وادعى عبد الوهاب أحد أئمة المالكية الاجتهاد في كتابه "المقدمات" كما تقدم نقله عنه. وقال ابن السبكي في الطبقات الكبرى، في ترجمة إمام الحرمين: الإمام لا يتقيد بالأشعري، ولا بالشافعي، وإنما يتكلم على حسب تأدية نظره واجتهاده. وقال الإمام ناصر الدين بن المنير في أول تفسيره في حق إمام الحرمين: له علو همة إلى مساواة المجتهدين. ووصفه بالحافظ سراج الدين القزويني في فهرسته بأنه المجتهد ابن المجتهد. وادعى الغزالي الاجتهاد في كتابه "المنقذ من الضلال" وأشار فيه إلى أنه المبعوث على رأس المائة الخامسة لتجديد الدين. وذكر الصلاح الصفدي في ترجمة ابن خزيز منداد، أحد أئمة المالكية: أن له اختيارات اختارها لنفسه خالف فيها أهل مذهبه، وهذا شأن المجتهدين. وقال أيضاً في ترجمة العلامة أبي عبد الله محمد بن الخيار العبدري القرطبي، صاحب التنبيهات على المدونة: إنه كان من أهل الحفظ والاستبجار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ورأس قبل موته في النظر وترك التقليد، وأخذ بالحديث وتوفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وقال أيضاً في ترجمة الإمام أبي عبد الله محمد بن علي المازري، أحد أئمة المالكية: أخبرت عن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العبد أنه كان يقول: ما رأيت أعجب من هذا –يعني المازري- لأي شيء ما ادعى الاجتهاد؟ وكانت وفاة المازري سنة ست وثلاثين وخمسمائة. ووصف الذهبي في طبقات الحفاظ القاضي أبا بكر بن العربي أحد أئمة المالكية بالاجتهاد المطلق. وكان أبو علي الحسن بن الخطير النعماني الفارسي، أحد أئمة الحنفية يقول: قد انتحلت مذهب أبي حنفية، وانتصرت له فيما وافق اجتهادي وكانت وفاته سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. وذكر الحافظ أبو جعفر بن الزبير في تاريخ الأندلس في ترجمة القاضي أبي القاسم الطيب بن محمد المرسي: أنه كان ممن يتعاطى درجة الاجتهاد، كانت وفاته سنة ثمان عشرة وستمائة. وأشار ابن الصلاح إلى دعوى الاجتهاد. فإنه أفتى في صلاة الرغائب بأنها من البدع المنكرة. ثم بعد مدة صنف جزءاً في تقريرها وتحسين حالها، وإلحاقها بالبدع الحسنة، فشنع عليه الناس بأنه ناقض ما أفتى به أولاً فاعتذر عن ذلك بأنه تغير اجتهاده. وقال: الاجتهاد يختلف على ما قد عرف. قال أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث" بعد حكاية كلامه: ونحن نأخذ باجتهاده الأول الموافق للدليل وفتوى غيره. ونرد اجتهاده الثاني المنفرد هو به. وقال الذهبي في العبر في ترجمة الشيخ عز الدين بن عبد السلام: انتهت إليه معرفة المذهب، وبلغ رتبة الاجتهاد. ووصفه ابن السبكي في الطبقات بالاجتهاد المطلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وقال ابن كثير في تاريخه: كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام في آخر أمره لا يتقيد بالمذهب، بل اتسع نطاقه وأفتى بما أدى إليه اجتهاده. وقال الزركشي في شرح المنهاج: لم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد. ووصف الشيخ تاج الدين بن الفركاح وأبا شامة بالاجتهاد. وذكره السبكي في طبقاته، فقال في ترجمته: وكان يقال: إنه بلغ رتبة الاجتهاد. وأشار أبو شامة نفسه إلى ذلك في خطبته الكتاب"المؤمل في الرد إلى الأمر الأول". ومن تأمل صنع النووي في شرح المهذب عرف أنه بلغ رتبة الاجتهاد لا محالة، خصوصاً اختياراته الخارجة عن المذهب. فإن ذلك شأن المجتهد. وخرج الشيخ تاج الدين بن الفركاح بدعوى الاجتهاد لنفسه، فإنه ألف كتاباً سماه "الرخصة العميمة في أحكام الغنيمة" قرر فيه شيئاً خارجاً عن المذهب. وقال في آخره: هذا ما أدى إليه اجتهادي في هذه الأقوال على حسب هذه الأحوال بالاستنباط من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ومغازيه. وأقوال العلماء. هذه عبارته. وما زلت في عجب مما كان بلغني من قول ابن الفركاح هذه المقالة. وكنت أقول: هذا شيء لا يعرف في المذهب، حتى رأيت كتابه وتصريحه فيه: بأنه قال ذلك اجتهاداً لنفسه لا نقلاً للمذهب، فانجلى ما كان في خاطري من ذلك. وقال أبو حيان في النضار، في ترجمة قاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن علي بن يحيى المعروف بالشريف: كان يميل إلى الاجتهاد. وكانت وفاته سنة اثنتين وثمانين وستمائة. وادعى القاضي ناصر الدين بن المنير أحد أئمة المالكية –وهو رفيق ابن دقيق العيد- الاجتهاد. فقال في أول تفسيره: المقلد أعمى، والمخصوم أعشى، والمجتهد هو الذي يستبصر إن شاء الله، وقد شاء. فقوله: "وقد شاء" تصريح تدعواه إلى: وقد شاء الله إلى. وقال بعد ذلك: إن الإمام جمال الدين بن الحاجب كتب له إجازة بالفتوى. فكتب له فيها: إنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 أهل لذلك، وفوق الأهل لذلك فقيل له: وما فوق الأهل لذلك إلى أين المظهر فقال: الرتبة المصطلح عليها الآن في الفتيا: رتبة متوسطة بين التقليد والاجتهاد، وفوق ذلك: أعلى من الوسط. وكانت وفاته سنة ثلاث وثمانين وستمائة. وذكر ابن فرحون في طبقات المالكية في ترجمة أخي ابن المثير هذا، واسمه علي: أنه كان يفضل على أخيه، وأنه كان ممن له أهلية الترجيح والاجتهاد في مذهب مالك وكانت وفاته سنة بضع وثمانين وستمائة. وعين المجتهدين في هذا العصر الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد. قال في "الطالع السعيد" في ترجمة: ذي الباع الواسع في استنباط المسائل والأجوبة الشافعية لكل سائل- إلى أن قال: إن ذكر التفسير، فمحمد فيه محمود المذهب أو الحديث: فالقشيري صاحب الرقم المعلم والطراز المذهب، أو الفقه فأبو الفتح العزيز، والإمام الذي الاجتهاد إليه ينتسب- إلى أن قال: جعل وظيفة العلم والعمل له ملة، حتى قال بعض الفضلاء: من مائة سنة فقد الناس مثله. وكتب له: بقية المجتهدين وهذا بين يديه فأقر عليه ولا شك أنه من أهل الاجتهاد ولا ينازع في ذلك إلا من هو من أهل العناد، ومن تأمل كلامه عرف أنه أكثر تحقيقاً، وأمثل وأعلم من بعض المجتهدين فيما تقدم واتفق. ثم قال: حكى صاحبنا الفقيه الفاضل العدل علم الدين الأصفوني قال: ذكره شيخنا العلامة علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي، فأثنى عليه. فقلت: لكنه ادعى الاجتهاد. فسكت ساعة مفكراً. فقال: والله ما هو ببعيد. قال: وقال شيخنا أبو حيان: هو أشبه من رأيناه يميل إلى الاجتهاد. وهذا من أبي حيان غاية الإنصاف، فإنه كان بينه وبين ابن دقيق العيد وقفة مشهورة. وقال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس في ترجمته: كان حسن الاستنباط للأحكام والمعاني من السنة والكتاب. وقال ابن السبكي في الطبقات الكبرى: هو المجتهد المطلق. قال: ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ندرك أحداً من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة، المشار إليه في الحديث النبوي صلى الله عليه وسلم فإنه أستاذ زمانه علماً وديناً. وقال الصلاح الصفدي في تذكرته: لم تجتمع شروط الاجتهاد في عصر ابن دقيق العيد إلا فيه، وقال في تاريخ: وكان ابن دقيق العيد مجتهداً ثم نقل عنه أنه قال: طابق اجتهادي اجتهاد الشافعي، إلا في مسألتين إحداهما: أن الابن لا يزوج أمه، ولم يذكر الأخرى. وقال العلامة ركن الدين بن القويع من قصيدة يمدح بها ابن دقيق العيد: إلى صدر الأئمة باتفاق ... وقدوة كل حبر ألْمَعِيٍّ ومن بالاجتهاد غدا فريدا ... وحاز الفضل بالقدم العلي وقال الكمال الإدفوي: أخبرني الشيخ نجم الدين القمولي: أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد أعطاه دراهم، ,أمره أن يشتري بها ورقاً ويجلده أبيض. قال: ففعلت ذلك، وكان عدد الكراريس خمسة وعشرين كراساً فصنف تصنيفاً. وقال: إنه لا يظهر في حياته. قال ابن النقاش: يذكر أن ذلك الكتاب اسمه "التسديد في ذم التقليد" وذكروا: أن ابن عدلان أخذه إليه واختص به. قال: ولعمري إن هذا الكتاب لفرد في معناه، فذ في جلالته ومبناه. وذكر الحافظ ابن حجر في خطبة كتابه"تغليق التعليق" أنه كان مجتهد الوقت. وكان في هذا العصر الإمام نجم الدين بن الرفعة، وله أهلية الاجتهاد والترجيح في المذهب ومات سنة عشر وسبعمائة. وذكر الذهبي في ترجمة الكمال ابن الزملكاني: أنه كان عالم العصر، وكان بقية المجتهدين. ونقل ذلك ابن السبكي في الطبقات. وكانت وفاته سنة سبع وعشرين وسبعمائة. وفي هذا العصر: شيخ الإسلام العلامة تقي الدين بن تيمية رحمه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 تعالى، وصفه غير واحد بالاجتهاد، منهم الشيخ ولي الدين العراقي في فتاويه. وفيه أيضاً شيخ الإسلام تقي الدين السبكي وصفه غير واحد بالاجتهاد في زمنه، وبعده منهم: ولده الشيخ تاج الدين في الترشيح وفي الطبقات. وبعده ولده الشيخ تاج الدين المذكور، أشار إلى دعوى الاجتهاد في بعض تصانيفه، وقال في كتابه"جمع الجوامع": لما تكلم على مسألة خلو الزمان عن مجتهد. فقال: والمختار أنه لم يثبت وقوعه, فهذا تصريح منه بأن الزمان إلى حين عصره ما خلا عن مجتهد، وفي عصره: شيخ الشافعية جمال الدين الأسنوي كانت له أهلية الاجتهاد في المذهب ترجيحاً وتخريجاً، والعلامة شمس الدين محمد يوسف القونوي الحنفي فإن لاحافظ ابن حجر قال في ترجمته: صار له في ’خر أمره اختيارات تخالف المذاهب الأربعة، لما يظهر له من دليل الحديث. وبعده شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، وصفه غير واحد بالاجتهاد، منهم ولده. قال في ترجمته: منحه الله درجتي الاجتهاد والإطلاق، فتمكن من استخراج الأحكام بالاستنباط من الدليل. وبعده: مجد الدين الشيرازي صاحب القاموس، ادعى الاجتهاد، وصنف في ذلك كتاباً سماه "الإصعاد إلى رتبة الاجتهاد" وكانت وفاته في شوال سنة سبع عشرة وثمانمائة والحمد لله وحده، انتهى. وقال السيوطي: أيضاً في موضع آخر من الكتاب المذكور "الباب الثالث" في ذكر من حدث على الاجتهاد وأمر به، وذم التقليد ونهى عنه. اعلم أنه ما زال السلف والخلف يأمرون بالاجتهاد، ويحضون عليه، وينهون عن التقليد ويذمونه ويكرهونه. وقد صنف جماعة لا يحصون في ذم التقليد. فمن صنف في ذلك: المزني صاحب الإمام الشافعي ألف كتاب"فساد التقليد" نقل عنه ابن عبد البر في كتاب"العلم"، والزركشي في "البحر"، ولم أقف عليه. وألف ابن حزم ثالثة كتب في إبطال التقليد، وقفت عليها، وألف ابن عبد البر كتاب العلم في ذلك، وقفت عليه، وألف أبو شامة في ذلك كتابه المسمى"خطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول" وقفت عليه، وألف ابن دقيق العيد كتاب "التسديد في ذم التقليد" لم أقف عليه، وألف ابن قيم الجوزية كتاباً في ذم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 التقليد، وقفت على كراسين منه، وألف المجد الشيرازي صاحب القاموس كتاب "الإصعاد إلى رتبة الاجتهاد" انتهى كلام السيوطي. قال العلامة الشيخ أبو الخير نور الحسن بن أبي الطيب صديق بن حسن رحمهما الله في "الطريق المثلى" دل كلام المحققين من أهل الفروع دلالة أوضح من شمس النهار على أن التقليد لا يجوز لرجل قد بلغ رتبة الاجتهاد لمجتهد مثله أو أعلم منه، وقد عرفوا ما وقع في كتب الأصول: أن علوم الاجتهاد خمسة من عرفها على الصفة التي بينها أهل هذا الشأن وأوضحها أهل التأليف في ذلك صار مجتهداً. فكيف بمن عرفها وعرف زيادة عليها، كما نعرفه من جماعة قريبة من علماء العصر، من يعرف هذه العلوم كما ينبغي. فإن الله – وله الحمد والمنة- قد أوجد في قرب عصرنا هذا –فضلاً عمن تقدم- كثيراً من العلماء القائمين بعلوم الاجتهاد، على الوجه المعتبر، بل عرفت فيمن أدركته من شيوخ مشايخي رحمهم الله تعالى والمعاصرين لهم من لديه من كل علم من العلوم الخمسة التي ذكرها أهل الأصول أضعاف ما اعتبره من كل واحد منها. بل ومنهم – كالعلامة الشوكاني، ومن حذا حذوه من علماء السنة الكائنين بالقطر اليماني، ومن سلك مسلكهم من بعدهم بالتوفيق الرباني – من يعرف علوماً أخرى غير تلك العلوم، يقر بهذا ولا ينكره، ويعترف به ولا يجحده، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل أولو الفضل. انتهى. وهذا ما وسع المقام نقله من كلام أئمة أهل السنة قديماً وحديثاً في وجود المجتهدين في هذه الأمة، قبل عصر الأئمة الأربعة وفي عصرهم ومن بعد عصرهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وأن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات لا يجوز خلو عصر منه وأن ترك الاجتهاد مؤد إلى إبطال الشريعة. فدعوى هذا المعترض إجماع الأمة على التقليد الأئمة الأربعة: دعوى مكابر معاند، سالك غير سبيل المؤمنين، خصوصاً ما آل إليه التقليد في هذه الأزمنة المتأخرة من هجرة الكتاب والسنة، وعدم الالتفات إليهما. أعاذنا الله من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 افتراؤه بوجود أولياء كانوا يتلقون الشريعة من ذات صاحبها عليه السلام بدون واسطة ... وأما قوله: "وقد تجد منهم عدداً وافراً من الأولياء الذين كانوا يتلقون الشريعة من ذات صاحبها عليه الصلاة والسلام، الذي لا خلاف بحياته. ولا تجد واحداً منهم غير متقيد بأحد الأئمة الأربعة - إلى آخر ما هذى به". فأقول: إن تبجح هذا الملحد بهذا الزور والكفر، ودعواه أن هناك عدداً وافراً من الأولياء يتلقون الشريعة من ذات صاحبها عليه الصلاة والسلام بعد وفاته، ومن دون واسطة، ومع حصولهم على هذه الكرامة فإنهم لم يتقيدوا بما تلقوه عن صاحب الشريعة. قال: "بل لا تجد واحداً منهم غير متقيد بأحد الأئمة الأربعة" وهذا قول باطل منكر وزور وبهتان من جهة تلقي الشريعة من ذات صاحبها، بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. وقد ادعى هذه الدعوى من أغواهم الشيطان وزين لهم سوء أعمالهم وأحوالهم ممن غلبت عليهم الزندقة والمروق من الدين جملة. فإن هؤلاء من أولياء الشيطان، وإن زعم هذا الملحد وحزبه الأخسرون أنهم من أولياء الرحمن. وهذا الملحد وشيخه دحلان من جنود الشيطان يبثون الإلحاد بين العباد، ويروجون هذه الضلالات الكفرية بينهم، ويكذبون أخبار الله تعالى، وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتنقصون الصحابة رضي الله عنهم، ويبخسونهم حقهم في أفضليتهم لهذه الأمة المحمدية. إذ يزعم هؤلاء الملاحدة أن الحياة البرزخية كالحياة الدنيوية وأن ما يجوز طلبه من الأحياء يجوز طلبه من الأموات لأنهم أحياء في قبورهم، حياة يتصرفون فيها كتصرفهم في حياتهم الدنيوية. والله تعالى يقول: {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر، الآية:22] ويقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر، الآية:30] يعني أنكم ببشريتكم تموتون موتة واحدة. ويقول تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران، الآية:144] ويقول تعالى عن نبيه ورسوله عيسى عليه السلام: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة، الآية: 117] وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" وروى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه، قال:ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده. قال عمر رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا، وكثر اللغط فقال: قوموا عني، لا ينبغي عندي التنازع. فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه". وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا الفرائض والقرآن، وعلموا الناس فإني مقبوض". وفي أحاديث الحوض الذي أكرم الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري، وفيه: "ليردن علي ناس من أصحابي، حتى إذا عرفتم اختلجوا دوني. فأقول: أصحابي؟ فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك". ورواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه: "يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب، إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" وروى البخاري عن سهل بن سعد الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم". قال أبو حاتم: فسمعني النعمان بن عياش فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم. فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري سمعته وهو يزيد فيه: "فأقول: إنهم من أمتي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي". وفي هذه النصوص من الكتاب والسنة: ما يغني عن الإطالة في بيان الأدلة على ضلال هؤلاء المارقين من الدين من زنادقة هذه الأمة، الذين يزعمون أن أولياءهم الكذبة الدجالين يتلقون الشريعة من الرسول بعد موته. ولو أن الله تعالى قد قضى بإعطاء مثل هذه الكرامة لأحد من هذه الأمة المحمدية ما كان أحد أحق بها من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم لأنهم خيار هذه الأمة، وأكرمها على الله، فقد اختار الله لصحبة نبيه وشرفهم بها وأنزل عليه الكتاب يتلى عليهم، وفيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة، الآية: 3] وقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 تجري من تحتها الأنهار. وفيهم الخلفاء الأربعة، وفيهم عترته وأهل بيته وفيهم المشهود لهم بالجنة، وفيهم الذين غفر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، وهم الذين لو أنفق أحدنا من بعدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. وقد حدث بينهم الاختلاف في أمور كثيرة، منها خلاف علي وفاطمة مع أبي بكر في ميراثهما من رسول الله، بل اختلفوا والرسول صلى الله عليه وسلم مسجى بين أظهرهم قبل دفنه وبعده فيما تدعو الحاجة – بل الضرورة – إلى بيانه من ذاته الشريفة عليه أفضل الصلاة والسلام. فيما منهم من أحد جاء إلى قبره صلى الله عليه وسلم يسأله، كما كانوا يسألونه في حال حياته لأنهم يعلمون بأنه لا يستوي الأحياء ولا الأموات، ولم يطمع الشيطان في أحد منهم، أو ممن بعدهم من القرون المفضلة، فيتمثل لهم أو يسمعهم من الكلام ما يغويهم به، كما أغوى هؤلاء الملاحدة من متأخري هذه الأمة، الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فقد ادعى هؤلاء الزنادقة المحال، وكذبوا المعقول والمنقول، قاتلهم الله أنى يؤفكون. ثم إن المعترض أورد إشكالين، ثم أجاب عنهما من عنده، فالأصل والجواب كله جهل في جهل، وظلمات بعضها فوق بعض، يستحقان الترك والسخرية بصاحبهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 اعتباره التلفيق أصلا في الشريعة ... قال المعترض: "البحث الرابع: في التلفيق". ثم نقل تحت هذه الترجمة أقوالاً عن بعض العلماء جرى فيها على عادته من الجهل والتخليط. وقد سمى الأخذ بما دلت عليه الأحاديث التي في صحيح البخاري تلفيقاً جازاه الله بما يستحقه. ونحن لا يهمنا من بحث المعترض هذا شيء لأنه بحث مخترع، هو التلفيق بعينه، لأننا لا نعلم للتلفيق أصلاً في الشريعة، ولم ينقل فيه شيء عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا التابعين لهم من القرون المفضلة، ولم يذكروا الأئمة الأربعة ولا أصحابهم. وإنما هو من اختراع المتعصبين للتقليد الأعمى من متأخري جهلة هذه الأمة فإنهم يسمون من يطلب الدليل على مسائل الدين من الكتاب والسنة: ملفقاً. بل يسمون من قلد من قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 بهما من الأئمة ملفقاً لأنه لم يتقيد عندهم بتقليد إمام واحد من الأئمة الأربعة، ويجعله بمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم في تجريد الإتباع له. وهذا من محدثات الأمور التي حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته عنها، فقال: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". نقول: فأي بدعة أقبح مما بلغه التقليد اليوم من الغلو الذي أبطل العمل بنصوص الكتاب والسنة عند هؤلاء المتعصبين للتقيد الأعمى؟ انظر إلى ما يقوله الملحد مختار فيما سبق قريباً في رسالته هذه. قال: "ومع هذا فأخبرونا: متى أجمعت الأمة على التعبد والتعامل بصحيح البخاري أو غيره؟ وأي عالم أو فقيه أفتى في حكم عن البخاري أو غيره؟ " يعني من كتب الحديث. قاتله الله أنى يؤفك هذا المفتري الضال. ثم قال الملحد: "البحث الخامس في ترجمة الأئمة الأربعة" فأخذ يتهوس بكلام من عنده في حق الأئمة الأربعة هم في غنى عنه لأنه يتقول على الله بغير علم. إذ جزم هذا الملحد على الله: بأنه سبق في علمه أن يكون الأئمة الأربعة واسطة تدوين شريعته، وحفظ دينه. رشحهم لذلك كترشيح الأنبياء والرسل- إلى آخر ما هذى به من فضول الكلام، الذي ليس له صلة بترجمة الأئمة الأربعة. فقد ترك من ترجمتهم ما هو اللائق بهم ذكره من إخلاصهم العبادة لله تعالى، والزهد في الدنيا، وطلب الآخرة، مع ما أعطاهم الله من الفهم والفقه في علوم الشريعة، وتجريد الاتباع لصاحبها عليه الصلاة والسلام، حيث استحقوا أن يسموا بذلك أئمة يقتدى بهم إلى منهج المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. فأما ما يدعيه هذا الملحد من الغلو في تقليدهم: فكله جهل وخوض في دين الله بغير علم. قد نهى الأئمة الأربعة عنه، وأغلظوا القول فيه، والتحذير منه. فقد قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "إنما أنا بشر، أصيب وأخطئ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة" وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى وأبو يوسف: "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه" وقال أبو حنيفة أيضاً: "هذا رأي فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلناه" وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس" وقال: "إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط" وقال: "إذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فإني أقول بها" وقال أبو داود: قلت لأحمد: "الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ فقال: لا يتقلد دينك أحداً من هؤلاء. ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فخذ به، ثم التابعين بعد الرجل مخير" وقال الإمام أحمد أيضاً: "لاتقلدني ولاتقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذنا". وقال: "من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال" وقد قدمنا من نصوص الأئمة من جميع المذاهب في هذا المعنى ما فيه كفاية. وأما زعمه هذا الملحد – بل جزم به على الله تعالى – وهو: "أنه تعالى وكل حفظ دينه إلى الأئمة الأربعة، دون غيرهم" فهذا قول لم يقله غيره ممن سبقه من هذه الأمة، بل قد أعلمنا الله في كتابه الكريم المنزل على سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم أنه تعالى وحده الحافظ لدينه. حيث يقول جل ذكره: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر، الآية: 9] وقد أخذ الله تعالى الميثاق على الذين أتوا الكتاب ليبينه للناس، ولا يكتمونه. فالأمة كلها مأمورة بحفظ هذا الدين والجهاد في سبيله وليس هذا الأمر محصوراً في أشخاص من هذه الأمة دون غيرهم، كما خص الرسل والأنبياء بالقيام بأعباء ما كلفوا به من أداء النبوة الرسالة. فهذا الغبي الأحمق لا يمنعه مانع من القول على الله بغير علم. وأما إهماله ذكر ترجمة الإمام أحمد رحمه الله تعالى فلأنه من أئمة أهل الحديث، فليس بمستنكر من الحاج مختار إهماله لترجمة الصديق الثاني الإمام أحمد رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 قال الأحمق: "فإن قيل: إن القائلين بجواز الاجتهاد لا يعنون المعاني التي ذهبتهم إليها، ولا يقولون بالخروج عن الإجماع، ولا غاية لهم إلا العمل بالكتاب والسنة، هم لما سمعوا من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه ما جعل في الدين من حرج، وأن شريعتنا سمحاء، لا عذر لأحد في تنكبها، ورأوا الأئمة الأربعة أخذوا الأمة بالشدة والحرج، حتى اضطر كثير من الناس لترك فروض لا عذر لهم في تركها، إلا ما في أدائها من الحرج. ورأوا أئمة الحديث الذي أجمعت الأمة أيضاً على صحة ما دونوه في كتبهم نقلوا أحاديث تخرج الأمة من الحرج. قالوا: أي بأس علينا، وأي خلل في ديننا إذا رجحنا قولاً في مسألة. رواه البخاري مثلاً على قول رواه أبو حنيفة في تلك المسألة، فخرجنا برواية البخاري من الحرج الذي أخذنا به أبو حنيفة، ولم نخرج بذلك عن شرع الشارع، ولا عن إجماع الأمة. ونكون قطعنا عذرا من يعتذر من الحرج؟ فهذا مذهبنا. وهذا ما ندين الله به وما أساء ظنكم بنا إلا عدم التفاهم". أقول: إن هذا الجاهل الأحمق معجب بنفسه، متماد في غيه. فهو يهذي بما لا يدري. فقد افترى على من يقولون بجواز الاجتهاد، كما يعبر عنهم. فإنهم لم يقولوا في حق الأئمة الأربعة إ، هم أخذوا الأمة بالشدة والحرج ... إلى آخر ما قال. فإن هذه التهمة لا يسندها إلى الأئمة الأربعة إلا عدو للإسلام ولأئمته رضي الله عنهم. فقد جني هذا الملحد على الأئمة الأربعة، ورماهم بما يبرأون منه وممن قاله في حقهم. بل هم فيما يختلفون فيه من فروع الشريعة، وما يستنبطونه من أحكامها يوسعون على الأمة لا يضيقون عليها. عليها. وهم مع ذلك يأمرون بإتباع الكتاب والسنة وينهون عن تقليدهم وتقليد غيرهم كما تقدم ذكره في ردنا هذا. وإن هذا الملحد ليدل قوله على أنه من المتلاعبين، الذين اتخذوا الهوى لهم إلها، والشيطان لهم ولياً. فهو يظن أن الناس مثله، يتتبعون من الدين ما وافق هواهم، ويتلاعبون به كما يتلاعب. ونبرأ إلى الله منه ومن قوله وندين من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 قلوب مخلصة: أنه لن يؤمن أحدنا حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به رسول الله كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم. وأما حجة القائلين ببقاء الاجتهاد في هذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فليست هي اتهام الأئمة الأربعة بأخذ الأمة بالشدة والحرج، حتى يضطر كثير من الناس لترك فروض لا عذر لهم في تركها إلى ما في أدائها من الحرج، كما يقوله هذا الأحمق سبحانك هذا بهتان عظيم. بل حجتهم هي: اتفاق الأئمة من كل مذهب على أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات لا يجوز خلو عصر منه، وأن ترك الاجتهاد مؤد إلى إبطال الشريعة. وهذا الاتفاق المجمع عليه منهم استناداً إلى عمل الصحابة رضي الله عنهم، وإجازة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ثم العمل على ذلك من بعدهم في القرون المفضلة، واتفاق الأئمة الأربعة عليه، لنهيهم عن تقليدهم وتقليد غيرهم. وقد تقدم بحث الاجتهاد فيما مضى من ردنا هذا ونقلنا من أقوال الأئمة في كل مذهب الاتفاق على باء الاجتهاد في هذه الأمة ما أغنى عن إعادته هنا. وقد أقر الملحد هنا بأن الأمة أجمعت على صحة ما دونه أئمة الحديث في كتبهم من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الإقرار –بعدما تقدم منه من الطعن في أئمة أهل الحديث، وما قاله فيهم، وإنكاره أخذ الأحكام من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: "إن ترجيح الر اجح من نصوص الأحاديث لا يفيد إلا ظناً، يعد الأخذ به زندقة لا إسلامية، قال: وأنتم لا تجدون في كتب الحديث بياناً ولا إشارة تهديكم إلى الصواب" وهنا يقرن الملحد بين حديث رواه البخاري وبين قول قاله أبو حنيفة، منكراً على من يقدم رواية البخاري على قول أبي حنيفة، وهكذا هذا الملحد هائم في ظلمات كفره وجهلة. وأما قوله: "فالجواب أن في هذا التعليل أنواع مغالطات ... إلى آخر ما قال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 فجوابنا عنه: أن نقول هذا التعليل والمغالطات والجواب عنها من الملحد بدأ وإليه يعود، وقد رد على نفسه بنفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ادعاؤه أن الاختلاف هو عين الرحمة والرد عليه من الكتاب والسنة وكلام العلماء ... وأما قوله: "ولا خلاف بين المسلمين أن اختلاف الأئمة في الفروع هو عين الرحمة". فنقول: إن الاختلاف في الدين – من حيث هو – عذاب لا رحمة، إلا ما كان لإظهار الحق والرجوع إليه مع من كان، لا ما هو واقع بين كثير من الناس من التحزب والتعصب للمذاهب. وقد قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود، الآيتان: 118 – 119] ، وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران، الآية: 105] وقال تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام، الآية: 153] وقال تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم، الآيتان: 31 -32] إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم والتابعين لهم في ذم الاختلاف في الدين والنهي عنه ما لا يحصر. قال الإمام البغوي رحمه الله في تفسيره على قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود، الآيتان: 118 – 119] معناه: لكن من رحم ربك فهداهم إلى الحق فهم لا يختلفون – إلى أن قال – وقال الفراء: خلف أهل الرحمة للرحمة، وأهل الاختلاف للاختلاف. ومحصول الآية: أن أهل الباطل مختلفون، وأهل الحق متفقون، فخلق الله أهل الحق للاتفاق، وأهل الباطل للاختلاف. انتهى. وفي كتاب "الإبانة" عن شريعة الفرقة الناجية لأبي عبد الله بن بطة قال: حدثنا أبو حفص عمر الحافظ قال: حدثنا أبو حاتم الرازي قال: حدثنا أبو صالح كاتب الليث قال: حدثني معاوية بن صالح عن علي بن طلحة عن ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الأنعام، الآية: 68] ، وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران، الآية: 7] وقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام، الآية: 153] ، وقوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى، الآية:13] ، وقوله: {إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} [النساء، الآية:140] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} [الأنعام، الآية:195] الآية، وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران، الآية: 105] وقوله: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الانبياء، الآية: 93] ونحو هذا في القرآن كثير. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة. وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله عز وجل" انتهى. وقال الإمام يوسف بن عبد البر رحمه الله في كتابه "جامع بيان العلم" باب ذكر الدليل في أقاويل السلف رضي الله عنهم على أن الاختلاف خطأ وصواب، يلزم طلب الحجة عنده – ثم ذكر ما خطأ فيه بعضهم بعضاً، وأنكره بعضهم على بعض عند اختلافهم، وذكر معنى قوله صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم" – ثم روى عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: " إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل، فقال: كذب. حدثني أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم – فذكر الحديث بطوله" قال أبو عمر: قد رد أبو بكر رضي الله عنه قول الصحابة في الردة. وقال: "والله لو منعوني عقالاً – أو قال عناقاً – مما أعطوه رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه" ثم أطال رحمه الله تعالى في ذكر ما ورد عن الصحابة والتابعين في هذا الباب – إلى أن قال: قال أبو عمر: هذا كثير في كتب العلماء. وكذلك اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يحيط به كتاب، فضلاً عن أن يجمع في باب وفيما ذكرنا منه دليل على ما عنه سكتنا. وفي رجوع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض، ورد بعضهم على بعض دليل واضح على أن اختلافهم عندهم خطأ وصواب. ولولا ذلك كان يقول كل واحد منهم: جائز ما قلت أنت، وجائز ما قلت أنا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وكلانا نجم يهتدى به، فلا علينا شيء من اختلافنا. قال أبو عمر: والصواب مما اختلف فيه وتدافع: وجه واحد. ولو كان الصواب في وجهين متدافعين ما خطأ السلف بعضهم بعضاً في اجتهادهم وقضائهم وفتواهم. والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صواباً. وقد أحسن القائل: إثبات ضدين معاً في حال ... أقبح ما يأتي من المحال ومن تدبر رجوع عمر إلى قول معاذ رضي الله عنهما في المرأة الحامل، وقوله" لولا معاذ هلك عمر" علم صحة ما قلنا. وكذلك رجع عثمان في مثلها إلى قول علي رضي الله عنهما-وأطال في ذلك إلى أن قال- وروى عن مطرف بن عبد الله بن الشخير أنه قال: "لو كانت الأهواء كلها واحد لقال القائل: لعل الحق فيه. فلما تشعبت وتفرقت عرف كل ذي عقل أن الحق لا نفرق" وعن مجاهد: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود، الآية: 118] قال: أهل الباطل: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود، الآية: 119] قال: أهل الحق، ليس بينهم اختلاف. وقال أشهب: سمعت مالكاً يقول: ما الحق إلا واحد قولان مختلفان لا يكونان صواباً جميعاً. ما الحق والصواب إلا واحد. قال أشهب: وبه يقول الليث. قال أبو عمر: الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة: إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجة في قوله. قال المازني رحمه الله تعالى: يقال لمن جوز الاختلاف، وزعم أن العالمين إذا اجتهدا في الحادثة فقال أحدهما: حلال، والآخر حرام. فقد أدى كل واحد منهما جهده وما كلف. وهو في اجتهاده مصيب الحق: أبأصل قلت هذا، أم بقياس؟ وإن قال: بأصل، قيل له: كيف يكون أصلاً والكتاب أصل ينفي الخلاف؟ وإن قال: بقياس. قيل له: كيف تكون أصلاً والكتاب أصل ينفي الخلاف؟ وإن قال: بقياس. قيل له: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف. ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف؟ هذا ما لا يجوزه عاقل، فضلاً عن عالم. ويقال له: أليس إذا ثبت حديثان مختلفان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى واحد أحله أحدهما وحرمه الآخر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وفي كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على إثبات أحدهما ونفي الآخر. أليس يثبت الذي يثبته الدليل، ويبطل الآخر، ويبطل الحكم به؟ فإن خفي الدليل على أحدهما، وأشكل الأمر فيهما وجب الوقوف؟ فإذا قال: نعم، ولا بد من نعم، وإلا خالف جماعة العلماء. قيل: فلم لا تصنع هذا برأي العالمين المختلفين فتثبت ما يثبته الدليل وتبطل ما أبطله الدليل؟ قال أبو عمر: ما ألزمه المزني عندي لازم. فلذلك ذكرته وأضفته إلى قائله لأنه يقال: من بركة العلم أن تضيف الشيء إلى قائله. وهذا باب يتسع فيه القول وقد جمع الفقهاء من أهل النظر في هذا وطولوا. وفيما لوحنا مقنع، ونصاب كاف لمن فهمه وأنصف نفسه، ولم يخادعها بتقليد الرجال. قال أبو عمر رحمه الله تعالى: لأصحابنا من رد بعضهم لقول بعض بدليل وبغير دليل شيء لا يكاد يحصى كثرة. ولو تقصيته لقام منه كتاب أكبر من كتابنا هذا. ولكني رأيت القصد إلى ما يلزم أولى وأوجب، فاقتصرنا على الحجة عندنا وبالله عصمتنا وتوفيقنا، وهو نعم المولى ونعم المستعان، انتهى مختصراً. وفيما ذكرته كفاية لرد قول الملحد الأحمق المتخبط في دين الله، والقائل عليه ما لا يعلم. قال المعترض: "قال الشيخ عبد الغني النابلسي في المقصد الأول من كتابه خلاصة التحقيق، قال والدي رحمه الله في شرحه على شرح الدرر: روى البيهقي في المدخل بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به، لا عذر لأحد في تركه. فإن لم يكن في كتاب الله فسنة ماضية فإن لم تكن سنة مني فبما قال أصحابي. إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة". والجواب: أن ما نقله المعترض هنا من رواية البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما حجة على فساد التقليد لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه. وهو أن العمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 بكتاب الله تعالى وبسنته صلى الله عليه وسلم لا عذر لأحد في تركه. فإن لم يكن في الكتاب ولا في السنة فبما قال أصحابه رضي الله عنهم. وهذا هو الذي يعيبه علينا المعترض وينكر علينا الأخذ بأحاديث رسول الله، ويزعم أننا باتباعها والعمل بها ملفقون، ويلزمنا بتقليد أحد الأئمة الأربعة في كل شيء دون جميع الصحابة والتابعين. وقد أورد المعترض هذا الحديث وهو لا يفهم معناه ولا يدري إن كان هو حجة له أو عليه. ولست أقول: إنه مغالط، حاشا المغالطين أن ينحدروا إلى هذه الدركة من الغفلة والبلاهة. وأما قوله: "فبما قال أصحابي". فقد قال الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر رحمه الله تعالى في كتاب "جامع بيان العلم" قال المزني رحمه الله تعالى في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم" قال: إن صح هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه وشهدوا به عليه فكلهم ثقة مؤتمن على ما جاء به، لا يجوز عندي غير هذا، وأما ما قالوا فيه برأيهم، فلو كان عند أنفسهم كذلك ما خطأ بعضهم بعضاً، ولا أنكر بعضهم على بعض، ولا رجع منهم أحد إلى قول صاحبه، فتدبر. وعن محمد بن أيوب الرقي قال: قال لنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، سألتهم عما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم مما في أيدي العامة – يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "إنما مثل أصحابي كمثل النجوم، أو أصحابي كالنجوم، فبأيها اقتدوا اهتدوا" قالوا: هذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبما رواه عبد الرحيم عن أبيه عن ابن عمر، وإنما أتى ضعف الحديث من قبل عبد الرحيم بن زيد، لأهل العلم قد سكتوا عن الرواية لحديثه. والكلام أيضاً منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، فعضوا عليها بالنواجذ" وهذا الكلام يعارض حديث عبد الرحيم لو ثبت، فكيف ولم يثبت؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الاختلاف بعده من أصحابه والله أعلم. هذا آخر كلام البزار. قال أبو عمر: قد روى أبو شهاب الحناط عن أبي حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أصحابي مثل النجوم فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم" وهذا إسناد لا يصح، ولا يرويه عن نافع من يحتج به. وليس كلام البزار بصحيح على كل حال لأن الاقتداء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منفردين، إنما هو لمن جهل ما يسأل عنه ومن كانت هذه حاله فالتقليد لازم له. ولم يأمر أصحابه أن يقتدي بعضهم ببعض إذا تأولوا تأويلاً سائغاً جائزاً ممكناً في الأصول. وإنما كل واحد منهم نجم جائز أن يقتدي به العامي الجاهل، بمعنى ما يحتاج إليه من دينه. وكذلك سائر العلماء مع العامة. والله أعلم. وقد روى في هذا الحديث إسناد غير ما ذكر البزار عن سلام بن سليم، قال حدثنا الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم" قال أبو عمر: هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول. وعن الحكم بن عتيبة قال: "ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم" وعن ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: "ليس أحد من خلق الله إلا ويؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم" وعن عبد الله بن وهب قال: سمعت سفيان يحدث عن عبد الكريم عن مجاهد أنه قال: "ليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك" وعن يونس بن عبد الأعلى قال: حدثنا ابن عيينة عن عبد الكريم عن مجاهد مثله. وعن حسن بن محمد بن الصباح الزعفراني قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الكريم عن مجاهد مثله أيضاً. قال أبو عمر: وافق الحسن الزعفراني ويونس بن عبد الأعلى: ابن وهب في إسناد هذا الحديث، وخالفهم ابن أبي عمر، وكلام الحديثين صحيح إن شاء الله، وجائز أن يكون عند ابن عيينة هذا الحديث عن عبد الكريم الجزري وابن أبي نجيح جميعاً عن مجاهد. وعن خالد بن الحارث قال: قال سليمان التيمي: "لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله" وفيه رواية عنه: "إن أخذت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله". قال أبو عمر رحمه الله تعالى: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وأما قول الملحد: "واختلاف أصحابي لكم رحمة". فهذه الزيادة لم تذكر في جميع روايات هذا الحديث، الذي لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما هو مبين فيما نقلناه من كتاب الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى. ولا شك في أن هذه الزيادة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلقها المعترض أو غيره. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". وأما ما نقله المعترض عن الإمام السيوطي من الكلام على حديث ابن عباس الذي رواه البيهقي فإن سلم النقل من تحريف المعترض –كما هي عادته في تحريف الكلم عن مواضعه- فإنه كلام لا قيمة له، بل صرف لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غير مراده. لا يتابع عليه قائله، فقد دل الحديث دلالة أوضح من شمس الظهيرة على لزوم العمل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم اتباع أصحابه من بعده، وما ورد عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين من بعدهم في ذم الاختلاف في الدين والتحذير منه، يرد هذا الكلام المنسوب إلى الإمام السيوطي. وكيف يصدر هذا الكلام المخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولما عليه سلف الأمة وأئمتها من عالم يدعي الاجتهاد. وله كتاب "الرد على من أخلد إلى الأرض" يبطل به التقليد ويذمه، ويحث على الاجتهاد والعمل بنصوص الكتاب والسنة هذا بعيد عن العقل. فإن صح نقل المعترض هذا عن السيوطي: فإنه يرجع إلى كلام قديم رجع عنه وهدمه في كتاب الرد، وهو الكتاب الذي محا به ما قبله ولا يعلو عليه ما بعده، لأن الحق لا يعلو عليه الباطل. وأما ما نقله المعترض عن الخطيب البغدادي- فيما رواه من قصة هارون الرشيد مع الإمام مالك رحمهما الله تعالى- فإنها قصة يكذبها ما قدمناه قريباً عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الإمام مالك من رواية أشهب. قال: سمعت مالكاً يقول: "ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان لا يكونان صواباً جميعاً. ما الحق والصواب إلا واحد" والكلام في هذا عن الإمام مالك كثير شهير، لا يتفق مع هذه القصة. قال المعترض: "وأما قولكم عن تاركي التعبد هرباً من الحرج" إلى آخر ما هذى به من المخرقة والخوض في الباطل في كلام لا يعقل، فنتركه فيه حائراً يتخبط في ظلمات جهله، ونعوذ بالله من العمى والضلال بعد الهدى. قال المعترض: "وأما قولكم إنك تأخذون عن البخاري وغيره ما يرفع عنكم الحرج. فهذا هو التلفيق بعينه والخطأ فيه ظاهر من وجوه". أقول: قد أجتمعت الأمة على أن صحيح البخاري رحمه الله تعالى أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى. فمن تلقاه بالقبول وجعله إمامه- بعد كتاب الله تعالى- فقد نجا وأفلح، وسعد في الدنيا والآخرة، لا كما زعم هذا المعترض الزائغ عن الهدى: أنه ملفق. لقد توغل هذا المعترض الأحمق بالسفاهة، وأطلق لسانه بالخوض في دين الله تعالى خارجاً على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حيث زعم أن أخذ أحكام الدين من صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث تلفيق، مع ما هو معلوم أن معنى "التلفيق" إنما هو التلاعب في دين الله تعالى بتتبع الرخص المرجوحة، والاستعاضة بها عن أحكام الشريعة الغراء، المتفق على العمل بها بين أئمة المسلمين فقول المعترض هذا: هو عين المحادة لله ولرسوله، والمخالفة لهما، وقد قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور، الآية:63] . قال المعترض: "أحدها: مكن المسلم به أن الأئمة الأربعة ضبطوا في كتبهم التفسير والحديث بقصد العمل بها، فلذا تحروا وجوه صحة ما دونوه، وما اتفق عليه الصحابة وما اختلفوا فيه وما كان عليه التابعون بعد الصحابة". أقول: إنه من المسلم به عند يعتد بهم من الأمة ما اشتهر به الأئمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 الأربعة من غزارة العلم في جميع فنون علم الشريعة. ولكن لا يلزم من ذلك أن تدعى الأمة لترك الكتاب والسنة والنظر فيهما، وفقه معانيهما، والحرص على العمل بما فيهما من شرائع، مكتفية عنهما بعلوم الأئمة الأربعة، ولا أن تلتزم تقليدهم وعدم الخروج عن هذه الكتب المنسوبة إلى مذاهبهم، وهم لم يعلموا بها، ولا علم بها أصحابهم المعاصرون لهم. وقد بنيت أكثر هذه الكتب على محض آراء الرجال وتفريعاتهم. وفيها من المسائل المخالفة لمذاهب الأئمة الأربعة في أصول الدين – فضلا عن فروعه- شيء كثير. وقد تغالى كثير من الجهلة الحمقى- أمثال هذا المعترض- في الدعوة إلى التقليد الأعمى. وحرموا النظر في نصوص الكتاب والسنة لأجل العمل بهما والتحاكم إليهما. وقد قال هذا المعترض الملحد: "ومع هذا فأخبرونا متى اجتمعت الأمة على التعبد والتعامل بصحيح البخاري أو غيره؟ وأي عالم أو فقيه أفتى في حكم عن البخاري أو غيره؟ " ويعني بغيره: كتب الحديث. وهذا شطط عن سلوك سبيل المؤمنين ورفع للتقليد عن حدوده الجائزة بين من يعتد بهم من أئمة المسلمين. وهو عدم وجود النص أما إذا وجد النص من الكتاب أو السنة فلا يجوز التقليد. فكيف بمن ينكر النص والعمل به في أصح كتاب، بعد كتاب الله تعالى باتفاق الأمة وهو صحيح البخاري؟. ويقول: إنه لا يجوز تقليد أحد من هذه الأمة من أولها إلا آخرها، إلا الأئمة الأربعة مع أن الأئمة الأربعة قد نهوا عن تقليدهم وتقليد غيرهم، وأنكروا التقليد أشد إنكار في نصوص عنهم لا تقبل المغالطة. فأي تقليد يدعيه هؤلاء المبطلون، بعد ما اشتهر عن الأئمة من إنكار التقليد؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 افتراء الملحد على أئمة أهل الحديث والرد عليه ... قال المعترض: "وأئمة الحديث ما دونوه بهذا القصد، ولا تتبعوا فيه أحوال الصحابة والتابعين، بل دونوه لأجل حفظه. فلذا ما كان من مقصدهم تحري ما تحراه الأئمة سيما أن الأربعة سبقوهم لبيان ما يجوز التعبد به والتعامل فيه وما لا يجوز. ومن البديهي: أن مدون الأحكام بقصد العمل بها أعلم من مدونها بقصد جمعها". أقول: هذا افتراء من الملحد على أئمة أهل الحديث، وحط من قدرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وعلمهم، وبخس لثمرة جدهم واجتهادهم، وفضلهم في حفظ شريعة نبيهم صلى الله عليه وسلم وتنقيحها وتنظيمها، وقد أتعبوا في ذلك أجسامهم وأفكارهم، وهجروا في جمعها أوطانهم، واستغرقوا في تقييدها وتصحيحها ليلهم ونهارهم، فأبرزوها في كتب نهجوا فيها منهاج التحقيق والتدقيق، وبينوا فيها صحيحها من سقيمها، وقويها من ضعيفها، وبينوا حال رجالها وعللها وجميع طرقها. وبينوا ناسخها ومنسوخها، وعامها وخاصها ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفصلها، وظاهرها ومضمرها. وبينوا غريبها ومشكلها، ومعانيها وفقهها، واستنبطوا غوامضها وما دلت عليه من فنون الشريعة في جميع العبادات والمعاملات التي كلف الله بها عباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. ولولا أئمة أهل الحديث واعتناؤهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمعه وتدوينه ما عرفنا منه شيئاً ولا وصل إلينا منه إلا القليل ممزوجاً بآراء الرجال. فجزى الله أهل الحديث عن حفظهم لشريعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم أفضل ما جزى به المجاهدين المحسنين وإن رغم أنف الملحد الحاج مختار. فليس يضير أهل الحديث شيء من أقوال هؤلاء الحمقى الضالين" {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد، الآية:17] فهذه علوم أهل الحديث، وأعلامهم ساطعة أنوارها للسالكين، هادية إلى المحجة لسنة سيد المرسلين. وقل للعيون الرمد للشمس أعين ... سواك تراها في مغيب ومطلع وسامح نفوساً أطفأ الله نورها ... بأهوائها لا تستفيق ولا تعي وبعد هذا، فيحسن بنا في هذا المقام أن نورد نبذة يسيرة من كلام أهل العلم تدل على شرف علم الحديث وأهله، وبيان فضلهم وحسن قصدهم في حفظ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وإبرازها لهذه الأمة نقية كما خرجت عن مشكاة النبوة لتقوم بها الحجة على المكلفين بما فيها من أمر ونهي، لا كما يزعمه الهلباجة الحاج مختار، من أنها إنما جمعت لحفظها، لا للعمل بها. قال الإمام العالم العلامة صديق حسن القنوجي رحمه الله تعالى في كتابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 "الحطة في ذكر الصحاح السنة" الفصل الثاني في شرف علم الحديث، وفضيلة المحدثين: اعلم أن أنف العلوم الشرعية ومفتاحها، ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها، وعمدة المناهج اليقينية ورأسها، ومبنى شرائع الإسلام وأساسها، ومستند الروايات الفقهية كلها، ومأخذ الفنون الدينية دقها وجلها، وأسوة جملة الأحكام وأسها، وقاعدة العقائد وأسطقسها، وسماء العبادات وقطب مدارها، ومركز المعاملات ومحط حارها وقارها: هو علم الحديث الشريف، الذي تعرف به جوامع الكلم، وتنفجر منه ينابيع الحكم، وتدور عليه رحى الشرع بالأسر، وهو ملاك كل نهي وأمر، ولولاه لقال من شاء ما شاء، وخبط الناس خبط عشواء، وركبوا متن عمياء، فطوبى لمن جد فيه، وحصل منه على تنويه، يملك من العلوم النواصي، ويقرب من أطرافها البعيد القاصي، ومن لم يرضع من درة، ولم يخض في بحره، ولم يقتطف من زهره، ثم تعرض للكلام في المسائل والأحكام: فقد جار فيما حكم، وقال على الله تعالى ما لم يعلم، كيف؟ وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. والرسول أشرف الخلق كلهم أجمعين، وقد أوتي جوامع الكلم، وسواطع الحكم، من عند رب العالمين. فكلامه أشرف الكلم وأفضلها، وأجمع الحكم وأكملها، كما قيل: "كلام الملوك ملك الكلام" وهو تلو كلام الملك العلام، وثاني أدلة الأحكام. فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها، وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها، وقواعد الطريقة الحقة بحذافيرها، وكذا الكشفيات والعقليات بنقيرها وقطميرها: تتوقف على بيانه صلى الله عليه وسلم، فإنها ما لم توزن بهذا القسطاس المستقيم، ولم تضرب على ذلك المعيار القويم، لا يعتمد عليها ولا يصار إليها. فهذا العلم المنصوص، والبناء المرصوص بمنزلة الصيرف لجواهر العلوم، عقليها نقليها، وكالنقاد لنقود كل فنون أصليها وفرعيها، من وجوه التفاسير والفقهيات، ونصوص الأحكام، ومآخذ عقائد الإسلام، وطرق السلوك إلى الله سبحانه وتعالى ذي الجلال والإكرام. فما كان منها كامل المعيار في نقد هذا الصراف، فهوا لحري بالترويج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 والاشتهار، وما كان زيفاً غير جيد عند ذاك النقاد فهو القمين بالرد والطرد والإنكار. فكل قول يصدقه خبر الرسول عليه الصلاة والسلام فهو الأصلح للقبول، وكل ما لا يساعده الحديث والقرآن فذلك في الحقيقة سفسطة بلا برهان. فهي مصابيح الدجى، ومعالم الهدى، وبمنزلة البدر المنير، من انقاد لها فقد رشد واهتدى، وأوتي الخير الكثير، ومن أعرض عنها وتولى، فقد غوى وهوى. وما زاد نفسه إلا التخسير. فإنه صلى الله عليه وسلم نهى وأمر وأنذر وبشر، وضرب الأمثال وذكر، وإنها لمثل القرآن، بل هي أكثر. وقد ارتبط بها اتباعه صلى الله عليه وسلم الذي هو ملاك سعادة الدارين، والحياة الأبدية بلا مين. كيف؟ وما الحق إلا فيما قاله صلى الله عليه وسلم أو عمل به، أو قرره، أو أشار إليه، أو تفكر فيه، أو خطر بباله، أو هجس في خلده، واستقام عليه. فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب. والعمل بهما في كل إياب وذهاب. ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قاله من علم سيط بدمه الحق والهدى، ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى، وقد كان الإمام محمد بن علي بن حسين رضي الله عنهم يقول: إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث. انتهى ما أردت نقله. ثم أطال الكلام رحمه الله تعالى في مدح علم الحديث وأهله مما لا يتسع له ردنا هذا. ثم قال رحمه الله تعالى الفصل الثاني في مبدأ جمع الحديث وتأليفه وانتشاره: فإنه لما كان من أصول الفروض وجب الاعتناء به، والاهتمام بضبطه وحفظه. ولذلك يسر الله سبحانه وتعالى له العلماء الثقات، الذي حفظوا قوانينه، وأحاطوا قوافيه، فتناقلوه كابراً عن كابر، وأوصله كما سمعه أول إلى آخر، وحببه الله تعالى إليهم لحكمة حفظ دينه وحراسة شريعته، فلم يزل هذا العلم من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم غضاً طرياً، والدين محكم الأساس قوياً، أشرف العلوم وأجلها لدى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، خلفاً بعد سلف. لا يشرف بينهم أحد بعد كتاب الله سبحانه وتعالى إلا بقدر ما يحفظ منه ولا يعظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 في النفوس إلا بحسب ما سمع من الأحاديث. فتوفرت فيه الرغبات فما زال لهم من لدن رسول الله إلى أن انقطعت الهمم على تعلمه حتى لقد كان أحدهم يرحل إليه المراحل ذوات العدد، ويقطع الفيافي والمفاوز، ويجوب البلاد شرقاً وغرباً، في طلب حديث واحد ليسمعه من راويه. فمنهم من يكون الباعث له على الرحلة طلب ذلك الحديث لذاته، ومنهم من يقرن بتلك الرغبة سماعه من ذلك الراوي بعينه إما لثقته في نفسه، وإما لعلو إسناده، فانبعثت العزائم على تحصيله وكان اعتمادهم أولاً على الحفظ والضبط في القلوب، غير ملتفتين إلى ما يكتبونه، محافظة على هذا العلم كحفظهم كتاب الله سبحانه وتعالى، ولا معولين على ما يسطرونه، وذلك لسرعة حفظهم وسيلان أذهانهم. فلما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار، وتفرقت الصحابة في الأقطار وكثرت الفتوحات ومات معظم الصحابة رضي الله عنهم، وتفرق أصحابهم وأتباعهم، وقل الضبط واتسع الخرق، وكاد الباطل أن يلتبس بالحق احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخائف يغفل، والقلم يحفظ، فمارسوا الدفاتر، وسايروا المحابر، وأجالوا في نظم قلائده أفكارهم، وأنفقوا في تحصيله أعمارهم، واستغرقوا لتقييده ليلهم ونهارهم، فأبرزوا تصانيف كثرت صنوفها ودونوا دواوين ظهرت شفوقها، فاتخذها العالمون قدوة، ونصبها العارفون قبلة، فجزاهم الله سبحانه وتعالى عن سعيهم الحميد أحسن ما جزى به علماء أمة وأحبار ملة. وكان أول من أمر بتدوين الحديث وجمعه بالكتابة: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه خوف اندراسه. كما في الموطأ رواية محمد بن الحسن، أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم: "أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء". وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصفهان عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه كتب إلى الآفاق: "انظروا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه". وعلقه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، فيستفاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 منه –كما قال الحافظ ابن حجر- ابتداء تدوين الحديث النبوي. وقال الهروي رحمه الله في ذم الكلام: ولم تكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث إنما كانوا يؤدونها حفظاً، ويأخذونها لفظاً، إلا كتب الصدقات، والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء، حتى خيف عليه الدروس، وأسرع في العلماء الموت: أمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أبا بكر بن محمد فيما كتب إليه"أن انظر ما كان من سنة أو حديث فاكتبه" وفي "هدى الساري مقدمة فتح الباري" أول من جمع ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما. وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن انتهى إلى كبار الطبقة الثالثة، وزمن جماعة من الأئمة، مثل عبد الملك بن جريج، ومالك بن أنس وغيرهما. فدونوا الحديث حتى قيل: إن أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج. وقيل: موطأ مالك. وقيل: أول من صنف وبوب: الربيع بن صبيح بالبصرة، وقال القسطلاني: صنف مالك الموطأ بالمدينة، وعبد الملك بن جريج بمكة، وعبد الرحمن الأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالكوفة وحماد بن سلمة بن دينار بالبصرة. ثم تلاهم كثير من الأئمة في التصنيف، كل على حسب ما سنح له وانتهى إليه علمه. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 مبدأ جمع الحديث وتأليفه وانتشاره ... وانتشر جمع الحديث وتدوينه وتسطيره في الأجزاء والكتب، وكثر ذلك وعظم نفعه إلى زمن الإمامين العظيمين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري. فدونا كتابيهما، وأثبتا فيهما من الأحاديث ما قطعا بصحته، وثبت عندهما نقله. وسميا "الصحيحين" من الحديث. وقد صدقا فيما قالا، والله مجازيهما عليه. ولذلك رزقهم الله القبول شرقاً وغرباً ثم ازداد انتشار هذا النوع من التصنيف وكثر في الأيدي وتفرقت أغراض الناس، وتنوعت مقاصدهم إلى أن انقرض ذلك العصر الذي اجتمعوا واتفقوا فيه، مثل أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، ومثل أبي داود سليمان بن الأشعت السجستاني، وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، وغيرهم. فكان ذلك العصر خلاصة العصور في تحصيل هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 العلم وإليه المنتهى كذا في كشف الظنون. وقال ابن خلدون: وكان علم الشريعة في مبدأ هذا الأمر نقلا صرفاً، وشمر لها السلف وتحروا الصحيح حتى أكملوها. وكتب مالك كتاب "الموطأ" أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه. ورتبه على أبواب الفقه ثم عني الحافظ بمعرفة طرق الأحاديث وأسانيدها المختلفة. وربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين. وقد يقع الحديث أيضاً في أبواب متعددة باختلاف المعاني التي اشتمل عليها. وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام المحدثين في عصره فخرج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين، واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه وكرر الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث فتكررت لذلك أحاديثه، حتى يقال: إنه اشتمل على تسعة آلاف حديث ومائتين منها ثلاثة آلاف متكررة، وفرق الطرق والأسانيد عليها مختلفة في كل باب. ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري رحمه الله تعالى فألف مسنده الصحيح، حذا فيه حذو البخاري في نقل المجمع عليه وحذف المتكرر منها وجمع الطرق والأسانيد، وبوبه على أبواب الفقه وتراجمه. ومع ذلك فلم يستوعبا الصحيح كله. وقد استدرك الناس عليهما في ذلك ثم كتب أبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي في سنن بأوسع من الصحيح وقصدوا ما توفرت فيه شروط العمل، إما من الرتبة العالية في الأسانيد وهو الصحيح، كما هو معروف، وإما من الذي دونه من الحسن وغيره ليكون ذلك إماماً للسنة والعمل. وهذه هي المسانيد المشهورة في الملة وهي أمهات كتب الحديث في السنة. فإنها- وإن تعددت- ترجع إلى هذه في الأغلب، ومعرفة هذه الشروط والاصطلاحات كلها: هي علم الحديث. وربما يفرد عنها الناسخ والمنسوخ فيجعل فنا برأسه. وكذا الغريب. وللناس فيه تآليف مشهورة انتهى. ثم نقص بعد ذلك الطلب وقل الحرص، وفترت الهمم. وكذلك كل نوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 من أنواع العلوم والصنائع والدول وغيرها. فإنه يبتدئ قليلاً قليلاً ولا يزال ينمو ويزيد إلى أن يصل إلى غاية هي منتهاه، ثم لا يعود. وكأن غاية هذا العلم: انتهت إلى البخاري ومسلم ومن كان في عصرهما. ثم نزل وتقاصر إلى ما شاء الله تعالى حتى لا يوجد اليوم ممن يعلم الحديث، واحد في الجمع الجم من الناس. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الناس كالإبل المائة، لا تكاد توجد فيها راحلة، وإنما هم كحفالة الشعير" (1) فإنا لله وإنا إليه راجعون. الفصل الثالث: في اختلاف الأغراض من تصانيف علم الحديث. اعلم أن هذا العلم، على شرفه وعلو منزلته: كان علماً غزيراً، مشكل اللفظ والمعنى. ولذلك كان الناس في تصانيفهم مختلفي الأغراض، فمنهم من قصر همته على تدوين الحديث مطلقاً ليحفظ لفظه، ويستنبط منه الحكم. كما فعله عبد الله بن موسى الضبي، وأبوا داود الطيالسي وغيرهما أولاً. وثانياً أحمد بن حنبل ومن بعده. فإنهم أثبتوا الأحاديث من مسانيد ذواتها. فيذكرون مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويثبتون فيه كل ما رووه عنه. ثم يذكرون بعده الصحابة واحداً بعد واحد على هذا المنسق، قال القسطلاني: فمنهم من رتب عل المسانيد، كالإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن منيع، وأبي خيثمة، والحسن بن سفيان، وأبي بكر البزار، وغيرهم. انتهى. ومنهم من يثبت الأحاديث في الأماكن التي هي دليل عليها، فيضعون لكل حديث باباً يختص به فإن كان في معنى الصلاة: ذكروه في باب الصلاة وإن كان في معنى الزكاة ذكروه فيها. كما فعل مالك في الموطأ، إلا أنه لقلة ما فيه من الأحاديث: قلت أبوابه، ثم اقتدى به من بعده. فلما انتهى الأمر إلى زمن البخاري ومسلم كثرت الأحاديث المودعة في كتابيهما، واقتدى بهما من جاء بعدهما. وهذا النوع أسهل من الأول، لأن الإنسان قد يعرف المعنى وإن لم يعرف راويه، بل ربما لا يحتاج إلى معرفة راويه. فإذا أراد حديثاً يتعلق بالصلاة   (1) حقالة الشعير: حثالته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 طلبه من كتاب الصلاة. لأن الحديث إذا أورد في كتاب الصلاة علم الناظر أن ذلك الحديث هو دليل ذلك الحكم، فلا يحتاج إلى أن يفكر فيه، بخلاف الأول. ومنهم من استخرج أحاديث تتضمن ألفاظاً لغوية، ومعاني مشكلة فوضع لها كتاباً، قصره على ذكر متن الحديث، وشرح غريبه وإعرابه ومعناه، ولم يتعرض لذكر الأحكام كما فعل أبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، وغيرهما. ومنهم من رتب على العلل بان يجمع في كل متن طرقه، واختلاف الرواة فيه، بحيث يتضح إرسال ما يكون متصلاً، أو وقف ما يكون مرفوعاً، أو غير ذلك. ومنهم من قصد إلى استخراج أحاديث تتضمن ترغياً وترهيباً، وأحاديث تتضمن أحكاماً شرعية غير جامعة، فدونها وأخرجها متونها وحدها، كما فعل أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي في المصالح واللؤلؤء في المشكاة، وغير هؤلاء فإنهما حذفا الإسناد واقتصرا على المتن فقط. ومنهم من اضاف إلى هذا الاختيار ذكر الأحكام وآراء الفقهاء، مثل أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي، في معالم السنن وأعلام السنن (1) . ومنهم من قصد ذكر الغريب، دون المتن من الحديث، واستخرج الكلمات الغريبة، ودونها ورتبها وشرحها، كما فعل أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي وغيره من العلماء. وبالجملة فقد كثرت في هذا الشأن التصانيف، وانتشرت في أنواعه وفنونه التآليف، واتسعت دائرة المشارق والمغارب، واستنارت مناهج السنة لكل طالب. ولكن لما كان أولئك الأعلام السابقون فيه، لم يأت صنيعهم على أكمل الأوضاع، فإن غرضهم كان أولاً حفظ الحديث مطلقاً وإثباته، ودفع الكذب عنه والنظر في طرقه وحفظ رجاله وتزكيتهم، واعتبار أحوالهم، والتفتيش عن أمورهم، حتى قدحوا وجرحوا، وعدلوا وأخذوا وتركوا. هذا بعد الأحتياط   (1) اختلف في اسمه قيل أحمد وقيل حمد توفي عام 388هـ[الأعلام للزركلي2: 304] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 والضبط والتدبير. فكان هذا مقصدهم الأكبر، وغرضهم الأول، ولم يتسع الزمان لهم والعمر لأكثر من هذا الغرض الأعم، والمهم الأعظم. ولا رأوا في أيامهم أن يشتغلوا بغيره من لوازم هذا الفن التي هي كالتوابع، بل ولا يجوز لهم ذلك. فإن الواجب أولاً إثبات الذات، ثم ترتيب الصفات والأصل إنما هو عين الحديث ثم ترتيبه، وتحسين وضعه. ففعلوا ما هو الغرض المتعين، واخترمتهم المنايا قبل الفراغ، والتخلي لما فعله التابعون لهم والمقتدون بهم. فتعبوا لراحة من بعدهم ثم جاء الخلف الصالح فأحبوا أن يظهروا تلك الفضيلة، ويشيعوا تلك العلوم التي أفنوا أعمارهم في جمعها، بإبداع ترتيب، او بزيادة تهذيب، أو اختصار أو تقريب، أو استنباط حكم، أو شرح غريب. فمن هؤلاء المتأخرين من جمع بين كتب الأولين بنوع من التصرف والاختصار، كمن جمع بين كتابي البخاري ومسلم، مثل أبي بكر أحمد بن محمد الرماني، وأبي مسعود إبراهيم بن عبيد الدمشقي، وأبي عبد الله محمد الحميدي، فإنهم رتبوا على المسانيد دون الأبواب كما سبق. وتلاهم أبو الحسن رزين بن معاوية العبدري فجمع بين كتب البخاري ومسلم والموطأ لمالك، وجامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي، ورتب على الأبواب إلا أن هؤلاء أودعوا متون الحديث عارية من الشرح وكان كتاب رزين أكبرها وأعمها، حيث حوى هذه الكتب الستة التي هي أم كتب الحديث وأشهرها، وبأحاديثها أخذ العلماء واستدل الفقهاء وأثبتوا الأحكام ومصنفوها أشهر علماء الحديث، وأكثرهم حفظاً، وإليهم المنتهى. وتلاه الإمام أبو السعادات مبارك بن محمد بن الأثير الجزري. فجمع بين كتاب رزين وبين الأصول الستة بتهذيبه وترتيب أبوابه، وتسهيل مطلبه، وشرح غريبه في "جامع الأصول" فكان أجمع ما جمع فيه. ثم جاء الحافظ جلال الدين السيوطي، فجمع بين الكتب الستة والمسانيد العشرة وغيرها في "جمع الجوامع" فكان أعظم بكثير من جامع الأصول، من جهة المتون إلا أنه لم يبال بما صنع فيه من جمع الأحاديث الضعيفة، بل الموضوعة. وكان أول ما بدأ به هؤلاء المتأخرون أنهم خذفوا الأسانيد اكتفاء بذكر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 روى الحديث من الصحابي إن كان خبراً. وبذكر من يرويه عن الصحابي إن كان أثراً، والرمز إلى المخرج، لأن الغرض من ذكر الأسانيد كان أولاً إثبات الحديث وتصحيحه. وهذه كانت وظيفة الأولين، وقد كفوا تلك المؤنة فلا حاجة بهم إلى ذكر ما فرغوا منه. كذا في كشف الظنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ثم قال في موضع آخر: الفصل الأول في طبقات كتب الحديث . اعلم أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الشرائع والأحكام إلى خبر النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف المصالح، فإنها قد تدرك بالتجربة والنظر الصادق والحدس ونحو ذلك ولا سبيل لنا إلى معرفة أخباره صلى الله عليه وسلم إلا تلقي الروايات المنتهية إليه بالاتصال والعنعنة، سواء كانت من لفظه صلى الله عليه وسلم أو كانت أحاديث موقوفة قد صحت الرواية بها عن جماعة من الصحابة والتابعين، بحيث يبعد إقدامهم على الجزم بمثله لولا النص والإشارة من الشارع. فمثل ذلك رواية عنه صلى الله عليه وسلم دلالة، وتلقي تلك الروايات لا سبيل إليه في يومنا هذا إلا بتتبع الكتب المدونة في علم الحديث، فإنه لا يوجد اليوم رواية يعتمد عليها غير مدونة وكتب الحديث على طبقات مختلفة، ومنازل متباينة فوجب الاعتناء بمعرفة صفات كتب الحديث. فنقول: هي باعتبار الصحة والشهرة على أربع طبقات. وذلك لأن أعلى أقسام الحديث ما ثبت بالتواتر، وأجمعت الأمة على قبوله والعمل به ثم استفاض من طرق متعددة، لا يبقى معها شبهة يعتد بها واتفق على العمل به جمهور فقهاء الأمصار، أو لم يختلف فيه علماء الحرمين خاصة – إلى أن قال: الطبقة الأولى: منحصرة على بالاستقراء في ثلاثة كتب: الموطأ، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم. قال الشافعي رحمه الله تعالى: أصح الكتب بعد كتاب الله موطأ مالك. وقد اتفق أهل الحديث على أن جميع ما فيه صحيح على رأي مالك ومن وافقه وأما على رأي غيره: فليس فيه مرسل ولا منقطع إلا قد اتصل السند به من طرق أخرى. فلا جرم أنها صحيحة من هذا الوجه. وقد صنف في زمان مالك موطآت كثيرة في تخريج أحاديثه، ووصل منقطعه مثل كتاب ابن أبي ذئب، وابن عيينة، والثوري، ومعمر، وغيرهم ممن شارك في الشيوخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وقد رواه عن مالك بغير واسطة أكثر من ألف رجل، وقد ضرب الناس فيه أكباد الإبل إلى مالك من أقاصي البلاد. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في حديثه، فمنهم المبرزون من الفقهاء كالشافعي ومحمد بن الحسن، وابن وهب، وابن القاسم، ومنهم نحارير المحدثين، كيحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق، ومنهم الملوك والأمراء كالرشيد وابنيه، وقد اشتهر فيه عصره، حتى بلغ إلى جميع ديار الإسلام، ثم لم يأت زمان إلا وهو أكثر له شهرة وأقوى به عناية وعليه بنى فقهاء الأمصار مذاهبهم حتى أهل العراق في بعض أمرهم، ولم يزل العلماء يخرجون أحاديثهم ويذكرون متابعاته وشواهده، ويشرحون غريبه، ويضبطون مشكله، ويبحثون عن فقهه، ويفتشون عن رجاله إلى غاية ليس بعدها غاية. وإن شئت الحق الصراح: فقس كتاب الموطأ بكتاب الآثار لمحمد، والأمالي لأبي يوسف تجد بينه وبينهما بعد المشرقين، فهل سمعت أحداً من المحديثين والفقهاء، تعرض لهما واعتنى بهما؟ أما الصحيحان: فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع. وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأن كل من يهون أمرهما فهو مبتدع غير سبيل المؤمنين، وإن شئت الحق الصراح فقسهما بكتاب بن أبي شيبة، وكتاب الطحاوي، ومسند الخوارزمي وغيرها تجد بينها وبينهما بعد المشرقين. وقال في موضع آخر: وأما فضل صحيح البخاري فهو أصح الكتب المؤلفة في هذا الشأن والمتلقى بالقبول من العلماء في كل زمان. يقول أبو زيد المروزي كنت نائماً بين الركن والمقام، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعي، وما تدرس كتابي؟ فقلت: يا رسول الله، وما كتابك؟ قال: جامع محمد بن إسماعيل البخاري، وقال الذهبي: في تاريخ الإسلام، وأما جامع البخاري الصحيح: فأجل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى وهو أعلى في وقتنا هذا إسناداً للناس، ومن ثلاثين سنة يفرحون بعلو سماعه، فكيف اليوم؟ فلو رحل الشخص ألف فرسخ لسماعه لما ضاعت رحلته. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وهذا قاله الذهبي في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة. وروي بالإسناد الثابت عن البخاري أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم. وكأني واقف بين يديه، وبيدي مروحة أذب بها عنه. فسألت بعض المعبرين؟ فقال لي: أنت تذب عنه الكذب. فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح. وأيضاً قال البخاري: كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال لي بعض أصحابه: لو جمع أحد كتاباً مختصراً في السنن الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي بلغت من الصحة أقصى درجاتها كان أحسن، وتيسر العمل عليه للعاملين من دون رجوع إلى المجتهدين فوقع ذلك في قلبي. وأخذ بمجامع خاطري، فصنفت هذا الجامع الصحيح. وقال النسائي: أجود هذه الكتب كتاب البخاري. وقال البخاري: ما كتبت في كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين، وقال: أخرجته من نحو ستمائة ألف حديث، وصنفته في ست عشرة سنة. وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى. وقال: ما أدخلت فيه إلا صحيحاً، وما تركت من الصحيح أكثر حتى لا يطول. وقال: صنفت كتابي هذا في السجد الحرام. وما أدخلت فيه حديثاً حتى استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته. وقال الفربري رحمه الله تعالى: قال البخاري: ما وضعت في الصحيح حديثاً إلا اغتلست قبل ذلك، وصليت ركعتين وأرجو أن يبارك الله تعالى في هذه المصنفات. وروى عن عبد القدوس بن همام قال: سمعت عدة من المشايخ يقولون: حول البخاري تراجم جامعه بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره. وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين. وقال عماد الدين بن كثير: وكتاب البخاري الصحيح يستسقي بقراءته الغمام، وأجمع على قبوله وصحة ما فيه أهل الإسلام. انتهى ملخصاً. ثم قال: الفصل الثالث في ذكر الجامع الصحيح للإمام الحافظ أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، المتوفى سنة إحدى وستين وما ئتين. وهو أحد الصحيحين اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى. والثاني من الأصول الستة قال النيسابوري شيخ الحاكم: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم. ووافقه على ذلك بعض شيوخ المغرب، ومستندهم: أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 شرط أن لا يكتب في صحيحه إلا ما رواه تابعيان ثقتان عن صحابيين. قال مسلم: ألفت كتابي من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة. وقال: لو أن أهل الأرض يكتبون الحديث مائتي سنة: ما كان مدارهم إلا على هذا المسند. قال: وما وضعت شيئاً في كتابي هذا إلا حجة. وما أسقطت شيئاً منه إلا بحجة. وقال مكي بن عبدان أحد حفاظ نيسابور: سمعت مسلماً يقول: عرضت كتابي هذا على أبي رزعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته. وكل ما قال: إنه صحيح وليس له علة خرجته. رواه الخطيب البغدادي بإسناده. وقال ابن الصلاح: جميع ما حكم مسلم بصحته في هذا الكتاب فهو مقطوع بصحته والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر وهكذا ما حكم البخاري بصحته. وذلك: لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع. قال إمام الحرمين: لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتاب البخاري ومسلم – مما حكما بصحته– من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق، ولا حنثته. لإجماع المسلمين على صحتهما. وقد اتفقت الأمة على أن ما اتفق البخاري ومسلم على صحته فهو حق وصدق. ثم قال: الفصل الرابع في ذكر الجامع الصحيح للإمام الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي رحمه الله تعالى – إلى أن قال – وبالجملة: فهو ثالث الكتب الستة. قال الترمذي: صنفت هذا الكتاب فعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان. فرضوا به ومن كان في بيته: فكأنما النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيته يتكلم. قال ابن الأثير: وكتابه هذا أحسن الكتب، وأكثرها فائدة، وأحسنها ترتيباً، وأقلها تكراراً. وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال وتبيين أنواع الحديث الصحيح والحسن الغريب. وقال في بستان المحديثين: تصانيف الترمذي كثيرة وأحسنها هذا الجامع الصحيح، بل هو – من بعض الوجوه والحيثيات – أحسن من جميع كتب الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 الأول: من جهة حسن الترتيب، وعدم التكرار. الثاني: من جهة ذكر مذاهب الفقهاء ووجوه الاستدلال لكل أحد من أهل المذاهب. الثالث: من جهة بيان أنواع الحديث، من الصحيح والحسن والضعيف والغريب والمعلل بالعلل. الرابع: من جهة بيان أسماء الرواة وألقابهم وكناهم، ونحوها من الفوائد المتعلقة بعلم الرجال. وفي آخر الجامع المذكور كتاب العلل، وفيه من الفوائد الحسنة ما لا يخفى على الفطن. ولهذا قالوا: هو كاف للمجتهد، ومغن للمقلد. قال الترمذي: جميع ما في هذا الكتاب من الحديث هو معمول به. وبه أخذ بعض أهل العلم. وقال الباجوري في حاشية الشمائل للترمذي: وناهيك بجامعه الصحيح، الجامع للفوائد الحديثة والفقهية والمذاهب السلفية والخلفية فهو كاف للمجتهد مغن للمقلد. انتهى باختصار. ثم قال: الفصل الخامس في ذكر السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السجستاني المتوفى سنة خمس وسبعين ومائتين – إلى أن قال- قال أبو داود: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث. انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب وجمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث من الصحيح وما يشبهه ويقاربه. ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدها: "إنما الأعمال بالنيات" والثاني: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، والثالث: "لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه"، الرابع: "الحلال بين والحرام بين ... الحديث" ورى الحافظ أبو طاهر السلفي بسنده إلى حسن بن محمد بن إبراهيم أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام يقول: من أراد أن يتمسك بالسنن فليقرأ سنن أبي داود. وروى عن يحيى بن زكريا بن يحيى الساجي أنه قال: أصل الإسلام كتاب الله تعالى. وعماده سنن أبي داود. وقال ابن الأعرابي: إن حصل لأحد علم كتاب الله وسنن أبي داود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 يكفيه ذلك في مقدمات الدين. ولهذا مثلوا في كتب الأصول لبضاعة الاجتهاد في علم الحديث بسنن أبي داود. ولما جمع أبو داود كتاب السنن قديماً عرضه على الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى فاستجاده واستحسنه. وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: كتاب السنن لأبي داود شريف. لم يصنف في علم الدين كتبا مثله. وقد رزق القبول من كافة الناس، وطبقات الفقهاء، على اختلاف مذاهبهم، وعليه معول أهل العراق ومصر وبلاد المغرب، وكثير من أقطار الأرض. فكان تصنيف علماء الحديث قبل أبي داود الجوامع والمسانيد ونحوها. فتجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخباراً وقصصاً ومواعظ وأدباً. فأما السنن المحضة: فلم يقصد أحد جمعها واستيفاءها على حسب ما اتفق لأبي داود، لذلك حل هذا الكتاب عند أئمة أهل الحديث وعلماء الأثر محل العجب فضربت إليه أكباد الإبل ودامت إليه الرحل. قال ابن الأعرابي: لو أن رجلاً لم يكن عنده من العلم إلا المصحف ثم كتاب أبي داود، لم يحتج معهما إلى شيء من العلم. قال الخطابي: وهو كما قال، لا شك فيه. فقد جمع في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لم نعلم متقدماً سبقه إليه، ولا متأخراً لحقه فيه. وقال النووي رحمه الله تعالى في القطعة التي كتبها من شرح سنن أبي داود: ينبغي للمشتغل بالفقه وغيره الاعتبار بسنن أبي داود بمعرفته التامة. فإن معظم أحاديث الأحكام التي يحتج بها فيه، مع سهولة تناوله وتلخيص أحاديثه، وبراعة مصنفة، واعتنائه بتهذيبه. وقال إبراهيم الحربي: لما صنف أبو داود كتاب السنن ألين لأبي داود الحديث، كما ألين لداود الحديد. انتهى ما نقلته من كتاب الحطة لإمام زمانه رحمه الله تعالى. وقال الإمام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي في كتابه "ذم الكلام" أنبأنا عبد الواحد بن أحمد أنبأنا محمد بن عبد الله سمعت أبا علي الحافظ قال حدثنا جعفر بن أحمد بن سنان الواسطي سمعت أحمد بن سنان يقول: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث. وإذا ابتدع الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 بدعة نزعت حلاوة الحديث من قبله. وبسنده إلى الحسين بن حرب عن الحسين بن بشر الأدمي قال: قال لي: يا حسين: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} [غافر، الآية: 70] ما هو بعد الكتاب؟ قلت: السنة. قال: صدقت. كان جبريل يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما يختلف إليه بالكتاب، وبسنده إلى أبي نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارى سمعت أبا نصر سلام البخاري الفقيه يقول: ليس شيء أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث. وبإسناده: أنبأنا يعقوب أنبأنا أبو النصر محمد بن الحسين أنبأنا محمد بن إبراهيم بن خالد حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى قال قلت لأبي: رجل وقعت له مسألة، وفي البلد رجل من أهل الحديث فيه ضعف، وفقيه من أهل الرأي. أيهما يسأل؟ قال: لا يسأل أهل الرأي. ضعيف الحديث خير من قوي الرأي. وبسنده حدثنا محمد بن عبد العزيز سمعت أبي عن عبد الله عن سفيان الثوري قال: إنما الدين الآثار. وبسنده إلى إبراهيم بن يحيى يقول: سمعت الزعفراني يقول: ما على وجه الأرض قوم أفضل من أصحاب هذه المحابر يتتبعون آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكتبونها كيلا تدرس. وبسنده إلى علي بن عمر الحافظ يقول: سمعت أبا بكر النيسابوري قال: قال البخاري: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي فأتاه رجل. فسأله عن مسألة؟ فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. فقال الرجل للشافعي. أنت ما تقول؟ قال سبحان الله! تراني في كنيسة؟ تراني في بيعة؟ ترى على وسطي زناراً؟ أقول لك: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول لي: ما تقول أنت؟ وبسنده حدثنا حرملة: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوها. ولا تلتفتوا إلى أحد. وفيه: سمعت الربيع يقول سمعت الشافعي يقول: لولا أصحاب الحديث لكنا نبيع الفول. وبسنده إلى سعيد بن المسيب قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الناس فقال: "أيها الناس، إلا إن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا إذا سألهم الناس أن يقولوا: لا ندري. فعاندوا السنن بأيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 فضلوا وأضلوا كثيراً، والذي نفس عمر بيده، ما قبض الله نبيه، ولا رفع الوحي عنهم حتى أغناهم عن الرأي. ولو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان أسفل الخف أحق بالمسح من أعلاه، فإياك وإياهم، ثم إياك وإياهم" وبسنده عن نافع ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة" وبسنده عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال بالرأي فقد اتهمني بالنبوة" زاد إسحاق وقال الحارث: تصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر، الآية:7] . انتهى. ولله در أبي بكر بن حميد القرطبي رحمه الله تعالى حيث يقول: نور الحديث مبين فادن واقتبس ... واحد الركاب له نحو الرضى الندس واطلبه بالصين، فهو العلم إن رفعت ... أعلامه برباها يابن أندلس فلا تضع في سوى تقييد شاردة ... عمراً يفوتك بين اللحظ والنفس وخل سمعك عن بلوى أخي جدل ... شغل اللبيب بها ضرب من الهوس ما إن سمت بأبي بكر ولا عمر ... ولا أتت عن أبي هر ولا أنس إلا هوى وخصومات ملفقة ... ليست برطب إذا عدت ولا يبس فلا يغرنك من أربابها هذر ... أجدى وجدك منها نغمة الجرس أعرهم أذنا صماً إذا نطقوا ... وكن إذا سألوا تعزى إلى خرس ما العلم إلا كتاب الله أو أثر ... يجلو بنور هداه كل ملتبس نور لملتبس خير لمقتبس ... حمى لمحترس نعمى لمبتئس فاعكف ببابهما ... على طلابهما ... تمحو العمى بهما عن كل ملتمس ورد بقلبك عذباً من حياضهما ... تغسل بماء الهدى ما فيه من دنس واقف النبي وأتباع النبي، وكن ... من هديهم أبداً تدنو إلى قبس والزم مجالسهم واحفظ مجالسهم ... واندب مدارسهم بالأربع الدرس واسلك طريقهم، واتبع فريقهم ... تكن رفيقهم في حضرة القدس تلك السعادة إن تلمم بساحتها ... فحط رحلك قد عوفيت من تعس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ومن قول أبي بكر بن أبي داود السجستاني رحمه الله تعالى، في التحريض على علم الحديث: تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعياً لعلك تفلح ولذ بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربح ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح ولا تك في قوم تلهو بدينهم ... فتطعن في أهل الحديث وتقدح إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه ... فأنت على خير تبيت وتصبح وقال أبو محمد هبة الله بن الحسن الشيرازي رحمه الله تعالى وعفا عنه: عليك بأصحاب الحديث، فإنهم ... على منهج للدين ما زال معجما وما النور إلا في الحديث وأهله ... إذا ما دجا الليل البهيم وأظلما فأعلى البرايا من إلى السنن اعتزى ... وأعمى البرايا من إلى البدع انتمى ومن ترك الآثار ضلل سعيه ... وهل يترك الآثار من كان مسلماً؟ وفي هذا القدر كفاية لكشف زيغ هذا الملحد الضال. وبيان كذبه على أئمة أهل الحديث وبهته لهم بما ليس فيهم جازاه الله بما يستحقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 بين أئمة المذاهب وأئمة الحديث ... قال المعترض: "ثانيها: من البديه الذي لا مكابرة فيه، أن رواية الأقرب فالأقرب للشارع أصح وأحكم من رواية الأبعد فالأبعد. ولا نزاع بأن الأئمة الأربعة أقرب عهداً للشارع من أئمة الحديث". والجواب أن يقال لهذا المعترض: نحن لا نقدم تقليد أئمة أهل الحديث برأي دون الأئمة الأربعة، بل إنما نقدم اتباع أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام التي حملوها إلينا على أقوال الرجال. وأيضاً: فإنا نجيب هذا الأحمق على حكم بديهته بأن رواية الأقرب فالأقرب للشارع أصح وأحكم. فندعوه إلى رواية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه. فهل في هذا القرب تعليل عند المعترض، أو وسيله أقرب منها فيذكرها لنا؟ فإن زعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 هذا الأحمق – على مذهبه الباطل – أن أحكام الله تعالى لا يصح تلقيها، والعمل بها مباشرة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بواسطة، فليس أقرب ولا أفضل من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". وهل يشك أحد في أن أصحابه صلى الله عليه وسلم هم أفضل هذه الأمة وأقربها إليه، وأكملها علماً وديناً. وقد تلقوا الشريعة منه صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل عليه وهو بين أظهرهم، ولم يقبضه الله تعالى حتى أكمل لهم الدين وأتم عليهم النعمة فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة، الآية: 3] فالرسول صلى الله عليه وسلم بلغ هذا الدين الكامل إلى أصحابه رضي الله عنهم، وأصحابه بلغوه عنه لمن بعدهم، كما سمعوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم فهل جاء بعدهم أحد من هذه الأمة بزيادة عن هذا الذي بغله الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه لأصحابه؟ أم هل جاء أعلم منهم بكتابه تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو أعلم منهم بلغة العرب الفصحى، لغة القرآن والسنة حتى تدعى الأمة لاتباعه وتقليده دون الصحابة رضي الله عنهم؟ والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء، الآية: 59] ويقول تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء، الآية: 80] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" هؤلاء هم أصحابه رضي الله عنهم، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟. قال المعترض: "ومن عجيب التوفيق أنك تجد نحو ربع أو ثلث البخاري متصلاً للإمام مالك، كما أنك تجد سنن أبي داود كأنها ملخصة من موطأ مالك وهذا ظاهر على شدة الثقة والاعتماد على روايات مالك رضي الله عنهم أجمعين". والجواب: أن هذا الأحمق – بناء على فهمه الفاسد – يشير بهذا الكلام إلى أن أئمة أهل الحديث – كالبخاري وأبي داود – يعتمدون في أغلب نقلهم في كتبهم على الإمام مالك. فهم بذلك مقلدون له لشدة ثقتهم به، واعتمادهم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 روايته. وهذا مبلغه من العلم لأنه جاهل أحمق. يظن أن رواية الحديث من باب القليد، فلا يستغرب هذا على فهمه العاطل. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ... الحديث" وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه وبلغه فرب حامل فقه ليس بفقيه" وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم" ذكر هذه الأحاديث ابن عبد البر في جامع بيان العلم. فأئمة أهل الحديث – وإن تأخر زمانهم – فقد اجتمع لهم من سنة رسول الله ما لم يجتمع لمن قبلهم من أفراد الأئمة وذلك بما بذلوه من العناية في جمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من مختلف أقطار الأرض التي تفرق فيه الصحابة. فقد كابدوا الأسفار الطويلة في طلب الأحاديث من حفاظها. واجتهدوا في تدوين متونها، وضبطها وتمحيصها، وجمع طرقها وتحرير رواياتها، ومعرفة حال رجالها، وصحة أسانيدها، وقويها من ضعيفها، وغير ذلك مما يحتاج إليه علم الحديث، وهذا الأمر مما لم تتجه إليه همة كل من سبقهم من الأئمة. وإن كان أغزر منهم علماً وأقوى منهم استنباطاً للأحكام من الكتاب والسنة. فقد حبا الله بعض عباده بفضل، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، وجعل فوق كل ذي علم عليم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. قال المعترض: "الوجه الثالث: لا خلاف أن في الكتاب والسنة: الناسخ والمنسوخ. وهذا منه المنسوخ من الكتاب بالكتاب ومنه المنسوخ من الكتاب بالسنة. ومنه المنسوخ من السنة بالسنة. وهذه الأقسام أوسع أسباب الاختلاف بين الصحابة والتابعين والأئمة وفيها العام والخاص، والمقيد والمطلق، والمجمل والمفصل، والظاهر والمضمر – إلى آخره. فهذه كلها أحاط الأئمة الأربعة وأصحابهم بأطرافها وما تركوا فيها زيادة لمستزيد، حال كون أئمة الحديث ما تعرضوا لشيء منها البتة. بل سردوا الأحاديث سرداً في أبوابها على علاتها، فإذا وجدتم حديثاً في البخاري أو غيره في سألة، ومثله في موطأ مالك مثلاً، أحدهما فيه تشديد والثاني فيه ترخيص، فأنى لكم معرفة الناسخ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فترجحوه على المنسوخ؟ وهكذا في سائر الأقسام التي تتوقف صحة الحكم على معرفتها. وأنتم لا تجدون في كتب الحديث بياناً ولا إشارة تهديكم إلى الصواب أيجوز لكم الترجيح بمجرد الظن والتخرص؟ هذه زندقة إسلامية، ثم قال: وأما قولكم إنكم ما خرجتم عن الإجماع، فهذا هو المغالطة لأنا بينما كنا نباحثكم عن إجماع الفقهاء والتعبد والتعامل: التجأتم إلى الإجماع على كتب الحديث. ومع هذا فأخبرونا متى أجمعت الأمة على التعبد والتعامل بصحيح البخاري أو غيره؟ وأي عالم أو فقيه أفتى في حكم عن البخاري أو غيره؟ " إلى آخر ما هذى به من الجهل والتخليط الذي لا يعقل. والجواب: أننا أوردنا كلام هذا الملحد الأحمق جملة واحدة. لأن كله منكر من القول وزور. لا يحتاج إلى رد، ولا تحليل إن لم يكن صحابه مصاباً في عقله. فإنه مروق من الإسلام وخوض في دين الله بالباطل مع الخائضين. فلقد تهور هذا الملحد بذكر الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، حيث جعله عقبة كأداء دون فهم الكتاب والسنة وأنه لا يفهم هذا العلم إلا أفراد قليلون من هذه الأمة، وأن هذا هو أعظم سبب لعدم جواز العمل بنصوص الكتاب والسنة، ووجوب التقليد كما زعم أيضاً أن الناسخ والمنسوخ أوسع أسباب الاختلاف بين الصحابة والتابعين والأئمة، مع كذبه أيضاً على أئمة أهل الحديث بأنهم ما تعرضوا لبيان شيء من علوم الكتاب والسنة، بل سردوا الأحاديث سرداً في أبوابها على علاتها، وأن أحاديث الرسول متعارضة، وليس يوجد في كتب الحديث بيان ولا إشارة تهدي إلى الصواب. وأشنع من ذلك: زعمه الباطل بأن أخذ الأحكام من نصوص الكتاب والسنة وترجيح الراجح بما دلت عليه من الأحكام: ظن لا يفيد اليقين، بعد الأخذ به وزندقة لا إسلامية. وهذا كلام في غاية الفحش والنكر، يدلنا دلالة صادقة على أن قائله مسلوب العقل والإيمان نعوذ بالله من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ادعاء الملحد أن الأمة لم تجمع على صحيح البخاري ... ولقد أكد هذا الملحد قوله الباطل بقول أبشع منه، إذ يقول: "ومع هذا فأخبرونا متى أجمعت الأمة على التعبد والتعامل بصحيح البخاري أو غيره؟ " يعني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 من كتب الحديث. فزعم أن الأمة قد كفرت بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله تعالى. إذ أنكر إجماع الأمة على العمل بأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام وخص منها أصح كتاب في الدين بعد كتاب الله تعالى، وهو صحيح البخاري مع أن هذه الدعوى مكابرة، وقلب للحقائق، وإنكار لما أجمعت عليه الأمة من العمل بصحيح البخاري ومسلم. وهذا مما لا تجوز المغالطة فيه. وقد اتفق المحدثون على أن جميع ما في الصحيحين من المتصل المرفوع: صحيح بالقطع وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأن كل من يهون من أمرهما فهو مبتدع، متبع غير سبيل المؤمنين، كما عليه هذا الجاهل الأحمق من إنكار العمل بنصوص الكتاب والسنة. فأين تقع أقوال هذا الملحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومما روي عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أنه أتاه رجل، فسأله عن مسألة: فقال الشافعي: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. فقال الرجل للشافعي: أنت ما تقول؟ قال: سبحان الله! تراني في كنيسة؟ تراني في بيعة؟ ترى على وسطي زناراً؟ أقول لك قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول لي ما تقول أنت؟ وأين يقع كلام هذا الملحد أيضاَ من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الهيثم بن جميل قال قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوماً وضعوا كتباً يقول أحدهم: حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم؟ قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية، كما صح عندهم قول إبراهيم. فقال مالك: هؤلاء يستتابون وهذا القول من الإمام مالك في حق عمر رضي الله عنه فكيف بمن يرد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم – التي هي في صحيح البخاري- جملة واحدة، وما في غيره أيضاً من كتب الحديث. وقال عبد الله بن الإمام أحمد رحمهم الله تعالى: قلت لأبي: رجل وقعت له مسألة. وفي البلد رجل من أهل الحديث، فيه ضعف. وفقيه من أهل الرأي، أيهما يسأل؟ قال: لا يسأل أهل الرأي. ضعيف الحديث خير من قوي الرأي. هذا هو كلام أئمة الهدى والدين المقتدى بهم، وهذا أدبهم مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين هذا الملحد من تقليدهم واتباع سبيلهم؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 سارت مشرقة وسرت مغرباً ... شتان بين مشرق ومغرب ومن تأمل كلام هذا الملحد يعلم أنه كلام جاهل متهوس لا قيمة له، ولا يستحق إضاعة الوقت في مناقشته، ومع أنا قد رددنا على جميع أقواله هذه في مناسبات كثيرة من ردنا هذا. فإن عادة هذا الملحد تكرير الكلام، مع الخلط والتناقض في كل ما يكتبه فلا نطيل في تتبع زلاته ووخيم خزعبلاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 جهله بالأصول وطعنه في أحاديث الرسول ... قال الملحد: "بينما كنت أكتب في هذا الفصل رأيت في سنن أبي داود ثمانية أحاديث في احتجام الصائم خمسة في حظره، وثلاثة في إباحته. وما بين أبو داود أيها الناسخ وأيها المنسوخ؟ ومن رواة الحظر: الإمام أحمد، فمن أين لنا الوقوف على الصواب لو لم يبين الإمام مالك وغيره أن حديث الحظر كان عام الفتح، وحديث، الإباحة كان في حجة الوداع، فالثاني ناسخ للأول؟ ". أقول: إذا كان هذا الجاهل الأحمق ممن طبع الله على قلبه، وصدق فيه قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان، الآية:44] فما على الإمام أبي داود وغيره من أئمة أهل الحديث من بأس إذا كان هذا الجاهل الأحمق وأمثاله من المعترضين عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لا يفهمون منها مواقع الخطاب. ولا حدود الحلال من الحرام، ولا يميزون بين الرخص والعزائم ولا يعرفون الناسخ من المنسوخ، ولا المفصل من المجمل، ولا المقيد من المطلق، ولا الخاص من العام، إلى غير ذلك من القيود والشروط التي يجب معرفتها على كل من يريد أن يعقل عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم أحكام دينه وفقه شريعته. ثم إن هؤلاء الجهلة يزعمون – كذباً منهم- على أئمة أهل الحديث: أنهم لم يتعرضوا لبيان علوم الكتاب والسنة، بل سردوا الأحاديث سرداً في أبوابها على علاتها. وقد بينا بطلان هذه الدعوى بما قدمناه قريباً من ردنا هذا. وبينا فضل أئمة أهل الحديث وما قاموا به من حفظ شريعة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وما أبرزوه لهذه الأمة من أحكامها وغوامض معانيها خالصة نقية، كما خرجت من مشكاة النبوة فقيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 كمال الهدى والنور لكل مفيد ومستفيد بما أغنى عن إعادته ههنا. وقد صنف بعض الأئمة في علم الناسخ والمنسوخ وما يلحق بهما كتباً مستقلة ككتاب الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس، وكتاب الموجز في الناسخ والمنسوخ للإمام ابن خزيمة رحمه الله وكتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحافظ أبي بكر محمد بن موسى ألحازمي، وغيرهم ممن تكلم على هذا العلم الذي ليس هو من عويص العلوم، ولا من بحوره المتلاطمة الأمواج، بل هو علم محدود لا خفاء فيه إلا على المقلدين الجامدين على التقليد الأعمى. أمثال الحاج مختار وشيعته الضالين الذين يقولون: إن الناسخ والمنسوخ هو أوسع أسباب الاختلاف بين الصحابة والتابعين والأئمة وأنه عقبة كئود دون فهم نصوص الكتاب والسنة، بل حائل دون الأخذ بأحكامهما إلا بواسطة تقليد الرجال، والقول بقولهم لا بقول الله ولا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الجاهل الأحمق يقول: "بينما كنت أكتب في هذا الفصل" إلى آخر ما ذكره. وهذا منه تشويه لوجه الحق، وقلب للحقائق فإن أبا داود رحمه الله تعالى قد أبان معنى الأحاديث، وميز بين ما دلت عليه من الحظر والرخصة. فقال: "باب في الصائم يحتجم" أورد فيه حديث ثوبان وما في معنا إلى آخر الباب. ثم قال: "باب الرخصة في ذلك" أورد فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم" إلى آخره، فما يريد هذا الأحمق من أبي داود غير هذا البيان؟ ولكن كما قيل: عليك بالبحث أن تبدي غوامضه ... وما عليك إذا لم تفهم البقر فأما جزم المعترض الأحمق بأن حديث الحظر كان عام الفتح، وحديث الإباحة كان في حجة الوداع، ودعواه نسخ الأول بالثاني. فهذا ليس بصحيح لأنه لم يثبت تأخر حديث الرخصة على حديث الحظر. ولم تثبت صحة الزيادة التي في حديث ابن عباس. وهي قوله: "في حجة الوداع" والخلاف في هذه المسألة معروف في محله من كتب الأحكام، وإنما القصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 بيان خطأ هذا الجاهل وافترائه على أئمة أهل الحديث. قال الجاهل الأحمق: "ورأيت في كثير من أبواب البخاري أحاديث قد أجمعت الأمة على أن أحكامها منسوخة، ولا تجد في البخاري حديثاً يشير لنسخ واحد منها وأمثال هذا لا يكاد يحصى، فذكرت هذا استطراداً". والجواب: أن هذا الملحد قد تعمد الكذب الصريح الذي لا مغالطة فيه، لا يخشى فيه ما توعد الله به أمثاله من الكاذبين في قوله تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود، الآية:18] يقول هذا الملحد: إنه رأى في كثير من أبواب البخاري أحاديث قد أجمعت الأمة على نسخ أحكامها. وأن البخاري لم يشر إلى نسخ واحد منها قال: وأمثال هذا لا يكاد يحصى وأنه ذكر هذا استطراداً، وهذا الكلام المنكر من هذا الملحد الضال لا شك أنه استطراداً منه بالكذب لنصرة الباطل. يقصد به الطعن في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. فقد قال: إنه يستحيل أخذ الأحكام منها مباشرة. لأن فيها الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد، والمجمل والمفصل، وأنه لا يعرف صحيحها من ضعيفها- إلى غير ذلك من أقوال هذا الملحد – التي يريد بها الصد عن العمل بنصوص الكتاب والسنة إلى وجوب التقليد. ولم يكتف هذا الملحد بالكذب على صحيح البخاري، ورمى صاحبه بالتدليس. بل قال: "إن كتب الحديث ليس فيها بيان ولا إشارة تهدي إلى الصواب" إلى آخر ما قاله من الزور والفجور في حق أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بل زاد على ذلك بأن الأمة قد أجمعت على ما زعمه من نسخ كثير من أحاديث صحيح البخاري، مستهيناً بهذه الأمة التي هو بين أظهرها، يفتري عليها الكذب بكل جراءة ووقاحة. لا يرى عليه حسيباً في الدنيا ولا محاسباً في الآخرة بريئة منه ومما نسبه إليه. فقد أجمعت الأمة قديماًً إجماعاً صحيحاً على قبول صحيح البخاري، وصحة ما فيه من أحديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي كتاب "الحطة في ذكر الصحاح السنة" قال: "وأما الصحيحان: فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأن كل من يهون أمرهما فهو مبتدع، متبع غير سبيل المؤمنين". وقال الإمام عماد الدين بن كثير رحمه الله تعالى: "وكتاب البخاري الصحيح يستسقى بقراءته الغمام، وأجمع على قبوله وصحة ما فيه أهل الإسلام" وفي مقدمة فتح الباري على صحيح البخاري: قال أبو جعفر العقيلي: "لما صنف البخاري رحمه الله تعالى كتاب الصحيح عرضه على ابن ألمديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم. فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث". قال العقيلي: "والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة" وقال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: "إن الإجماع الصحيح من الأمة على أن النسخ الواقع في جملة أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام لا تبلغ عشرة أحاديث. قالوا: ولا شطرها". انتهى. فأين هذا مما يزعمه هذا الملحد الضال على أحاديث صحيح البخاري، فضلاً عن جملة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؟. قال الملحد: "وأما قولكم: إنا لا قصد لنا إلا الرجوع إلى الشريعة وإلى ما كان عليه السلف..الخ، فنسألكم: أي شريعة تعنون؟ وأي سلف تريدون؟ فإن قلتم: نعني الشريعة المحمدية ونريد الصحابة والتابعين قلنا لكم: فلنعم ما عنيتم، ونعم ما أردتم. لكنا لا نكون معكم كما قيل: أعمى يقود بصيراً، بل نطالبكم بالدليل لنكون باتباعكم كما نحن باتباع أئمتنا على يقين". الجواب: أن هذا الملحد يخلق ما يقول، مستحلاً الكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى عباده المؤمنين. فنحن لم نقل: إن قصدنا الرجوع إلى الشريعة وما كان عليه السلف، لأننا لم نخرج عنهما، حتى ندعي الرجوع إليهما. ولم نسلك بحمد الله تعالى طريقاً غير طريق السلف الصالح من هذه الأمة. ولا نعرف شريعة غير شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وهي الشريعة التي ختم الله بها جميع الشرائع. فما وجه سؤال هذا الملحد واستفساره عن أي شريعة نعني؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وعن أي سلف نريد؟ فهل عنده شرائع متعددة، أو سلف غير من حملوا هذه الشريعة المحمدية إلينا؟ حتى يورد علينا هذا السؤال اللائق به، وبكل أعمى ممن قلدهم، من الملحدين الصادين عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فالكتاب والسنة هما دليلنا وحجتنا. ومن قال بهما فهو إمامنا وليس لنا سلف إلا من أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى اتباع سنتهم، حيث يقول: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعه ضلالة" فأما الذين يدعون تقليد الأئمة الأربعة، وهم مخالفون لهم فيما هم مجمعون عليه، من النهي عن تقليدهم وتقليد غيرهم، ومع ذلك أيضاً يخالفون فيما هم مجمعون عليه من أصول الدين فضلاً عن فروعه: فدعواهم هذه من أبطل الباطل، بل حقيقتها المغالطة باسم تقليد الأئمة، لترويج باطلهم. يشهد لذلك ما نحن بصدد الرد عليه، مما جاء في رسالة هذا الملحد التي هي بين أيدينا، فقد حشاها بالبدع والشرك في عبادة الله تعالى، ناسباً عمله هذا إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلى مذهب من قلده من الأئمة الأربعة، يرى ذلك كل مطلع عليها ممن نور الله بصيرته. يقول هذا الملحد: "هذه كتب أئمتنا وأتباعهم- إلى قوله- أأنتم أعلم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وطريقة أصحابه وتابعهم، أم من تقدم ومضى من أعلام الفقهاء وأجلاء المحدثين والمفسرين والأولياء والفلاسفة والحكماء من أهل السنة؟ أرأيتم أم سمعتم أن أحداً منهم كان على غير مذهب من المذاهب الأربعة، أو أن أحداً منهم تصدى لوضع مذهب خامس؟ فالافتراء على الأحياء والأموات، وادعاء الإنسان بما ليس فيه سهل. لكن الامتحان يكشف الحق ويكب المبطل على وجهه، فتسود وجوه وتبيض وجوه" إلى آخر ما قاله من الهذيان الذي لا طائل تحته. فأما قوله" "هذه كتب أئمتنا" فإن كان يقصد الأئمة الأربعة وأتباعهم المحققين لمذهب أئمتهم وما دونوه من الكتب الصحيحة المنقحة في مذهب كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 إمام منهم، فليس لنا اعتراض عليها ونحن أعلم بها منه فإليها نرجع، وهي الحكم بيننا وبين هذا المفتري الضال، والله خير الحاكمين. وأما إن كان يريد الفلاسفة والحكماء ودحلان وأمثالهم: فلا نلتفت إليه ولا ننظر في كتبهم إلا لرد باطلهم، وتفنيد أكاذبيبهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الملحد ليس على مذهب من المذاهب الأربعة ... وأما قوله: "أرأيتم أم سمعتم – إلى أخره" فالجواب أننا قد رأينا وسمعنا: أن هذا المعترض ليس على مذهب من المذاهب الأربعة، بل هو من المفترين عليهم وهو أيضاً من المفترين على الأحياء والأموات، وهو الذي يدعي لنفسه ما ليس لها. وعند الامتحان يوم القيامة: سوف ينكشف جهله ويظهر الحق على باطله، فيكبه الله على وجهه مسوداً يوم تبيض وجوه أهل السنة والجماعة. وسيأتي هو إن شاء الله تحت لواء مسيلمة الكذاب. لأنه قد وافق مسيلمة بالكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. أما شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: فسيأتي إن شاء الله تعالى تحت لواء سيد المسلمين لأنه من أنصاره والمجدد لما اندرس من ملته الحنيفية. فهو أحق بها وأهلها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة، الآية: 120] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 عقيدة الملحد في التوسل والرد عليها ... قال المعترض: "المسألة الثانية في التوسل والزيارة إذا سبق القضاء بشقاء إنسان، تنوعت عليه أساليب إغواء الشيطان، وتفتحت له أبواب الشقاء، فيدخل الشيطان الكفر عليه والعياذ بالله تعالى من باب العبادة، من حيث يرى فيه ميلاً إليه. وقد دخل علي في واقعة حال وقعت لي وأنا في المدينة، فالتزمت التوسل ونذرت صدقه فأتاني من حيث يميل طبعي، فقال: إذا كان القضاء مبرماً والقدر مقدراً، فما فائدة التوسل والصدقة؟ فاتركهما والزم التوكل والتسليم فوقع في نفسي هذا الكلام وملت إليه لكن الله اللطيف أراني في تلك الليلة رؤيا عصمني بها من شر هذا الخبيث". أقول: إنه مما يجب التنبيه عليه ههنا: أولاً: هو بيان معنى التوسل والزيارة في عرف ومذهب هذا المعترض لئلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 يلتبس الحق بالباطل. فإن التوسل والزيادة عنده هما: دعاء الأموات استقلالاً من دون الله تعالى، والغلو بالقبور وأصحابها وجعلهما أوثاناً تعبد من دون الله تعالى. وهكذا يتذرع أعداء الله وأعداء رسول الله – لستر ضلالهم – بذكر الأسماء فقط، وقلب الحقائق. فيصادمون نصوص الكتاب والسنة، ويحرفونها عن مواضعها، وقد مهد هذا المعترض لما يسميه مسألة "التوسل والزيادة" بكلام هو أحق به. لأنه ينطبق على قوله وعمله وقد شهد بذلك على نفسه فقال: "وقد دخل علي الشيطان في واقعة حال وقعت لي وأنا في المدينة" إلى آخر القصة. فرجل – كهذا الأحمق – ينزل نفسه منزلة العلماء بل منزلة من يزعم أنه من الأولياء، يقر على نفسه بأن الشيطان دخل عليه فشككه في مسألة من الدين، لا تخفى إلا على الجهلة الطغام أمثاله. وهي أن التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة – من الدعاء ونذر الصدقات لوجه الله تعالى – ينافي التوكل على الله، والتسليم لقضائه وقدره، وأنه أيضاً أتاه الشيطان من حيث يميل طبعه، وهذه شهادة أخرى على جهله وأنه يميل إلى التشكك في أمور دينه. ولم يجد في كتاب الله تعالى ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يدفع به شر هذا الخبيث. حتى رأى رؤيا في المنام عصمه الله تعالى بها – بزعمه – من شر هذا الخبيث، والواقع أنه زاد استخذاءً له، وازداد تمكن الشيطان منه بزيادة غفلته وعماه عن هدى الله في كتابه وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم. نقول: إن هذا رجل أجنبي عن دين الإسلام، فما هو دخل الرؤيا في الأحكام – نفياً أو إثباتاً – ثم ما غرض هذا المشعوذ من إيراد هذه القصة الزائفة، إلا ليزكي بها نفسه، ويعلن أنه من الأولياء الذين يزعم أنهم يأخذون الأحكام من ذات النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مشافهة. وذلك إما بطريق الرؤيا، أو بكشف الحجاب، وأن ذلك يغنيهم عن النظر في الكتاب والسنة؟ هذا ما يقوله فيما تقدم من رسالته هذه. ولولا تزكية هذا الأحمق لنفسه ما كان لإيراد هذه القصة معنى ولا فائدة، إلا فضيحة نفسه، والله تعالى لا يصلح عمل المفسدين. وأما قول المعترض: "وقد يرمي الإنسان في شرك الشرك من طريق الطاعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 كما رمى الوهابيين وإخوانهم بإغواهئم على أن التوسل بجاه الرسول عليه الصلاة والسلام وزيارة قبره الشريف: شرك بالله ومناف للتوحيد، وأغواهم بما جاء في القرآن العظيم بحق المشركين. فذهب بإيمانهم تحت ستار العبادة، وغرس في قلوبهم بغض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاداته بتعليل الطاعة، ففسروا الزيارة بمعاني عبادة الأوثان، وشبهوا التوسل بما يفعله مشركو العرب وغيرهم فانظر ما أشقاهم وأحمقهم وأبعدهم عن الحق". فنقول: إن دعوى المعترض على الوهابيين وإخوانهم بأنهم يقولون: إن التوسل بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره الشريف: شرك بالله ومناف للتوحيد، كذب وافتراء من المعترض، بل إن الوهابيين وإخوانهم يقولون: إن التوسل بجاه المخلوقين كافة لم يشرعه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا فعله أصحابه، ولا التابعون من بعدهم، ولا قال به الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى. وإذا كان ذلك كذلك فهو خلاف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم. وكذلك التابعون من بعدهم فيكون ذلك مردوداً على من جاء به بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية: "من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد" هذا ولو لم يكن في هذا الحدّث إلا مخالفة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام ومخالفة عمله وعمل أصحابه رضي الله عنهم والتابعين من بعدهم، لكفى في رده. فضلاً عن أنه من أعظم وسائل الشرك في عبادة الله تعالى، كما هو معروف اليوم من أعمال الجهلة الغلاة بالقبور والمقبورين. وأما زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها عند الوهابيين من أفضل الأعمال، وكذا زيارة المسلمين فإنها سنّة، وذلك على ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته فيما علمه لأصحابه. وأما شد الرحال لزيارة القبور كافة: ففيها خلاف بين العلماء وحجة المانعين لشد الرحال إليها أقوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وأما قول المعترض: "وأغواهم بما جاء في القرآن العظيم بحق المشركين" فنقول: سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم، وسنة الغواية لما جاء في القرآن قول وخيم. وهذه جرأة من هذا المعترض تليق بحماقته وجهله، وإلا فإن القرآن العظيم قد جاء لهداية الخلق إلى الحق وإلى طريق السعادة، وتحذيرهم وإنذارهم على طريق الشقاوة والغواية. والقرآن عربي غير ذي عوج أنزله الله هي سنته صلى الله عليه وسلم وفيها بيان شرعه، وتفصيل ما أجمل في كتاب ربه، فلم يترك صلى الله عليه وسلم خيراً إلا دل أمته عليه، ولا شراً إلا حذرها عنه. وقال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 افتراؤه بأن القرآن جاء بالتوسل بالرسل والأولياء ... فقول المعترض: "إن ما جاء في القرآن العظيم بحق المشركين: هو الذي ذهب بإيمان الوهابيين تحت ستار العبادة" قول مفتر وقح. لا يعرف ما جاء في القرآن العظيم، بل هو من الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون. أما الوهابيون: فإن الكتاب والسنّة هما الإمام المتبع لهم، سالكين طريق السلف الصالح، من الصحابة والتابعين ومن تبعهم. لا يحيدون عن طريقهم ولا يقولون في كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم من عند أنفسهم، ولا ينفردون بقول لا يشهد له الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ومن تبعهم من الأئمة المحققين. ويعتمدون في القرآن على تفاسير الأئمة المتفق على إمامتهم، كتفسير الإمام محمد بن جرير الطبري، والإمام العماد ابن كثير وغيرهما من أئمة المفسرين. وأما السنّة المطهرة: فعندهم مدونات الحديث، كالصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها من كتب الحديث وشروحها لأئمة أهل الحديث. لا يقولون في شيء منها برأيهم، بل الحق ضالتهم مع من كان. فالوهابيون يعلمون أن نبيهم محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، وأن الله تعالى أرسله للناس كافة بشيراً ونذيراً، وأنزل عليه كتاباً لا تغيير فيه ولا تبديل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأن ما جاء فيه من الأحكام والأمر والنهي والوعد والوعيد فه ولكافة الأمة المحمدية من أولها إلى آخرها حتى قيام الساعة. وأما القول بأن الآيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 التي نزلت بحق المشركين من العرب: لا يجوز تطبيقها على من عمل عملهم ممن يتسمى بالإسلام، لأنه يقول: "لا إله إلا الله" فهو قول من أغواه الشيطان فآمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، لأن مجرد اللفظ بقول "لا إله إلا الله" مع مخالفة العمل بما دلت عليه، لا تنفع قائلها ما لم يقم بحق "لا إله إلا الله" نفياً وإثباتاً. وإلا كان قوله لغواً، لا فائدة فيه، وقد قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة. وقال: "إنها من حق لا إله إلا الله" إلى آخر الحديث. وروى الترمذي وصححه عن أبي واقد الليثي رضي الله عته قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنيني، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط فمررنا بسدرة. فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر. إنها السنن. قلتم والذي نفسه بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم" فأين هذا ممن يدعون الأموات استقلالاً من دون الله تعالى، ويصرفون لهم من العبادات ما لا يجوز صرفه لغير الله تعالى، ويعتقدون فيهم النفع والضر، والقدرة على ما لا يقدر عليه إلا الله تبارك وتعالى؟ فالمعترض يريد تعطيل أحكام الكتاب والسنّة وقصرها على من نزلت فيهم. وهذا القول يقتضي رفع التكليف عن آخر هذه الأمة، والرجوع بها إلى الجاهلية الأولى. أم الوهابيون وإخوانهم: فأنهم متمسكون بكتاب الله تعالى سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم وهما قدوتهم ومن قال بهما، فإنهما يدفعان عمن يتمسك بهما الغواية، ويغرسان في قلبه حبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وموالاته، ومعاداة من ألحد فيها وحرفهما عن مواضعهما، أمثال هذه الأحمق المستحق لوصفه بالشقاوة، والبعد عن الحق. والله تعالى هو الحكم العدل، وسيحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ادعاؤه بأنه لا يجوز تطبيق صفات الكافرين والمشركين على المسلمين ولو عملوا مثل أعمالهم واعتقدوا مثل عقائده ... قال المعترض: "ولو صح لهم هذا التأويل الباطل لكانوا هم أشد الناس شركاً لأنهم يزورون الأمراء والحكام، ويتزلفون إليهم، ويتوسلون ببعضهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 حوائجهم بكل قول وعمل. وربما خاب أملهم بما يرجون فماذا علينا إذا توسلنا بجاه من فضله الله على كل خلقه في طلب نعيم دائم ورضا كريم. لا يمن ولا ينفع أو بقضاء حاجة دنيوية؟ فالمؤمن لا يعتقد لمخلوق فعلاً أو تأثيراً. وقد بسط العلماء الجواب عما يفعله العوام مما يظن أن فيه شبهة شرك، وما هي فيه. ونحن وإياهم ما نقصد بذلك إلا إتباع أمر الله تعالى باتخاذ الوسائل، وابتغاء الأسباب التي منها السعي والكسب والدعاء، واتخاذ الوسائط، والتوسل بجاه أحبابه. وكل هذا صريح في القرآن العظيم والسنّة. لكن إذا سبق الشقاء عميت الأبصار وضلت البصائر". أقول: إن المعترض يعني بالتأويل الباطل: تطبيق الآيات القرآنية على جميع الأمة المحمدية، حتى تقول الساعة، فمن اتصف بصفات أهل الخير وعمل عملهم فهو منهم ومن اتصف بصفات أهل الشرك والكفر وعمل عملهم فهو منهم. لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة. حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ ". يقول المعترض: إننا نتأوَّل آيات نزلت بحق المشركين وقد مضوا. فمن تسمّى بالإسلام ولو عمل عملهم فأنه لا يضره ذلك، ولا يسمى مشركاً. وهذا قول من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وفساد هذا القول معلوم بنصوص الكتاب والسنّة التي لا تقبل تأويلاً. ولا يجهلها إلا معاند أو معرض عن معرفة ما فرضه الله تعالى عليه من واجبات دينه. وأما قول المعترض: "إنهم بهذا التأويل يكونون أشد الناس شركاً لأنهم يزورون الأمراء والحكام ... إلى آخره". فإنه قول غبي أحمق، وهو أن دعاء الأحياء فيما بينهم ومخاطبة بعضهم بعضاً في قضاء حوائجهم، وسؤال الضعيف من القوي فيما هو تحت قدرته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 يكون كدعاء الأموات أو الغائبين، وسؤالهم ما لا يجوز سؤاله إلا من رب العالمين. بل يقول المعترض: إن بحق الأحياء أشد شركاً مما هو في حق الأموات والغائبين والله تعالى يقول في كتابه العظيم: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر، الآية:22] وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو عمل ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" ومن المعلوم بالحس والعقل أنه إذا مات الإنسان فقد انقطعت عنه كل صلة في هذه الحياة الدنيا، وانقطع عنه كل حبيب من قرب أو بعيد، وأفضى إلى عالم آخر، وبرزخ ينتظر فيه يوماً: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج، الآية:2] لا يملكون لأنفسهم نفعاً. ولا يدفعون عنها ضراً فضلاً عن غيرهم أإله من الله أيها المشركون المتعلقون على الأموات؟ وأما الأحياء: فإنهم في دار التكليف، خلقهم الله تعالى لعبادته، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً. وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً، وقدرة وإرادة. وجعل منافعهم مشتركة فيما بينهم وأمرهم بالتعاون، ورفع بعضهم فوق بعض درجات. ليتخذ بعضهم بعضاً سُخررياً كل ذلك لحكمة، وهي عمارة هذا الكون الذي يجمعهم ويعيشون فيه ولولا ذلك لتعطلت الأسباب، واختل نظام العالم أجمع، فالمساواة بين الأحياء والأموات، وتكليف الأموات بأعمال الأحياء مخالف للمعقول والمنقول، بل للمحسوس الملموس المستقر في فطرة كل مخلوق، إلا من سلب عقله وينه، والحمد لله الذي عافانا. وأما قول المعترض: "فماذا علينا إذا توسلنا بجاه مَم فضَّله الله على كل خلقه؟ " فقد تقدم الجواب عنه قريباً فلا نعيده. وأما قوله: "فالمؤمن لا يعتقد أن لمخلوق فعلاً أو تأثيراً". فالجواب: أن من يجعل المخلوق شريكاً لله تعالى في عبادته يخافه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ويرجوه، ويدعوه من دون الله تعالى لنفعه، وكشف ضره، إلى غير ذلك مما يصرفه له من أنواع العبادة: فأن هذا مشرك وليس بمؤمن وكيف يكون مؤمناً من يتعلق على الأموات، يخافهم ويرجوهم، وينذر لهم النذور ويقرب لهم القرابين، معرضاً عن رب كريم، قادر سميع بصير، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، إلى ميت عاجز قد انقطع عمله؟ والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة، الآية:186] ويقول تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل، الآية:62] . ثم يقال لهذا المعترض الأحمق: من هم العلماء الذي تقول عنهم إنهم بسطوا الجواب عما يفعله غلاة عباد القبور من الشرك بالله عندها. وزعموا أن عملهم هذا ليس بشرك فلا بد أن هؤلاء العلماء الذين يقول عنهم المعترض هذا القول هم الذين قادوه إلى الضلالة، وأوقعوه في الهاوية، كدحلان وأمثاله من أئمة الضلال. وأما المغالطة وتحريف آيات الكتاب وأحاديث السنّة المطهرة فهذه هي بضاعة أهل الباطل. وأما قوله: "ونحن وإياهم ما نقصد بذلك إلا إتباع أمر الله تعالى". فهذه كذب على الله تعالى. فأن الله لم يأمر بأن يشرك معه أحد في عبادته و {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل، الآية:105] إن الذين صرح به القرآن هو النهي عن الشرك قليله وكثيره وتخليد المشركين في نار جهنم، وتحريم الجنة عليهم. وأما هذه الحجج التي ينتحلها المعترض فإنما هي حجج باطلة، بل مفاتيح لأبواب الشرك في عبادة الله تعالى، وما يقصد منتحلو هذه الحجج إلا إتباع أهوائهم، وما يسوله لهم الشيطان. فإن هذه الأسماء التي يغالطون بها من اسم "الوسيلة، والشفاعة، والوسائط" وغيرها مجرد أسماء مقلوبة الحقائق. وإنما هي دعاء غير الله تعالى وصرف عبادته لهؤلاء الأموات، الذي يزعمون أنهم وسائط بينهم وبين الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 تعالى وأنهم يشفعون لهم عند الله وقد جاء القرآن بتكذيبهم وتضليلهم ودحض باطلهم لا كما يدعي هذا الملحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 قوله بحياة الرسول في قبره والرد عليه ... وأما قوله: "وحيث إن هذه المسألة ذات فروع، ويتعلق بها مسائل أخر فأقسمها إلى مباحث: المبحث الأول: في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم أن هذه المسألة من أهم المسائل التي اختلف فيها علماؤها ببعضهم، وهم والمعتزلة وغيرهم. وسببه عدم وجود نص في القرآن العظيم يبيّن كيفية حياته عليه الصلاة والسلام بعد وفاته، يؤيد الأحاديث الدالة على حياته الجسدية بعد وفاته، وحيث إن هذه الأحاديث مع أحاديث المعراج المشيرة لحياة بعض الرسل الذين رآهم عليه الصلاة والسلام في تلك الليلة، وآيتي سورة البقرة وسورة آل عمران المذكور فيهما حياة الشهداء: تكون حجة قوية بإثبات حياته الجسدية من نص القرآن بقاعدة القياس التي هي أحد أصول الدين عندنا. فما أدري كيف غفل علماؤنا عنها؟ وذهب النافون منهم وراء تعاليل يعارضها النص والعقل ... إلى آخر ما هذى به". والجواب: أن في كلام هذا الأحمق من العجمة وسوء التعبير ما هو اللائق بجهله وحماقته. وقد جعل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم البرزخية بعد وفاته من فروع مسألة التوسل ومتعلقاتها. وثم مضى في بيداء جهله وإتّباع هواه يقلب الحقائق وينصر الباطل والله تعالى لا يصلح عمل المفسدين. فأما قوله: "اعلم أن هذه المسألة من أهم المسائل التي اختلف فيها علماؤنا ببعضهم وهم والمعتزلة وغيرهم". فنقول: إن هذه المسألة التي يعنيها الأحمق ليست كما قال: ذات أهمية لغموضها، وعدم بيانها إلا عليه وعلى علمائه الذين ذكرهم. وإلا فقد وردت بها نصوص الكتاب والسنّة، ولم يختلف أحد من علماء المسلمين المقتدى بهم في أن هذه الحياة البرزخية عامة لجميع الخلق. أما حياة الشهداء البرزخية التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 خصوا بها دون غيرهم فهي جزاء لهم على ما قاموا به من إجابة داعي الجهاد في سبيل الله تعالى وبيع أرواحهم لله ابتغاء مرضاته، وطلباً لوعده بأن لهم الجنة في الدار الباقية، يرزقون من نعيمها المقيم، في حياتهم البرزخية قبل غيرهم، لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى. لا أنهم يردون إلى الحياة الدنيا حياة الهم والحزن والتكليف، كما يريده لهم هذا الأحمق ومشايخه أمثال دحلان والنبهاني الذين يزعمون أنهم أحيوا بعد موتهم، وردوا إلى حياتهم الدنيا إلا أنّا لا نراهم، وأنه يسمعون دعاء من يدعوهم، ويجيبون سؤال من يسألهم. ويقولون فوق ذلك: إن الأموات أفضل من الأحياء، وأقرب إلى الله تعالى منهم. فهم أولى وأحق بأن يسأل منهم كل ما يجوز سؤالهم من الأحياء والله تعالى يقول: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر، الآية:22] . وأما قوله: "إن سبب هذا الاختلاف هو عدم وجود نص في القرآن العظيم يبيّن كيفية حياته عليه الصلاة والسلام بعد وفاته". فالجواب: أن هذا الأحمق قد غفل أو تغافل، أو جهل أو تجاهل، عما أنزله الله تعالى في كتابه الكريم، وما جاء في سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، حيث يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: الآيتان30-31] وقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران، الآية:144] ، وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء، الآيتان:34-35] ففي هذه الآيات قد سوى الله تعالى بين نبيه صلى الله عليه وسلم وبين كل مخلوق في الموت والبعث، والاختصام عنده تعالى. وقال سبحانه وتعالى عن عبده ونبيه عيسى عليه السلام: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة، الآية: 117] وأما السنّة فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ابن آدم انقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" وروى البخاري في صحيحه حديث الحوض وفيه: "ليردن عليَّ أناس من أصحابي حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني فأقول: أصحابي. فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك" وروى البخاري أيضاً في صحيحه عن سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني فرطكم على الحوض، من مر عليّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، وليردن عليَّ أقوام لم أعرفهم، ثم يحال بيني وبينهم" قال أبو حاتم: فسمعني النعمان بن عياش فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم، فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري سمعته وهو يزيد فيه: "فأقول: إنهم من أمتي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي". وروى البخاري عن ابن عباس رض الله عنهما قال: "لما حُضر رسول الله صلى الله عليه وسلم- وفي البيت رجال- فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده. فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك. فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا عني. فكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لنا ذلك، لاختلافهم ولغطهم". وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإني مقبوض" وفي شرح المواهب اللدنية قال: ولما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال للناس: خذوا عني مناسككم، فلعلني لا ألقاكم بعد عامي هذا، وطفق يودع الناس. فقالوا: هذه حجة الوداع، فلما رجع من حجه إلى المدينة جمع الناس بما يدعي خَمًّا في طريقه بين مكة والمدينة. فخطبهم وقال- بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظ- أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتيني رسول ربي، فأجيب. ثم خض على التمسك بكتاب الله تعالى ووصى بأهل بيته. وعن عائشة رضي الله عنها: "أن عمر رضي الله عنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يقول: والله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ما مات رسول الله، فجاء أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله وقال: بأبي أنت وأمي، طبت حياً وميتاً. والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً. ثم خرج فقال: أيها الحالف، على رِسْلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر رضي الله عنهما، فحمد الله وأنثى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن يعبد الله فإن الله حي لا يموت. وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر، الآية:30] ، وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران، الآية:144] قال: فنشج الناس يبكون" رواه البخاري. ثم قال: "فرجع عمر رضي الله عنه عن مقالته التي قالها" كما ذكره الوائلي أبو نصر عبد الله في كتاب "الإبانة" عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين بويع أبو بكر رضي الله عنه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم استوى على منبره وتشهد عمر رضي الله عنه ثم قال: "أما بعد، فإني قلت لكم أمس مقالة، وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب الله تعالى، ولا عهد إليَّ رسول الله، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله حتى يدبرنا- أي يكون آخرنا موتاً أو كما قال- فاختار الله ع وجل لرسوله الذي عنده على الذي عندكم. وهذا الكتاب الذي هدى الله عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم. فخذوا به تهتدوا لما هدى له رسوله صلى الله عليه وسلم". قال: واختلف في معنى قول أبي بكر رضي الله عنه: "لا يجمع الله عليك الموتتين" فقيل: هو على حقيقته وأشار بذلك إلى الرد على من زعم- هو عمر- أنه: "سيجئ فيقطع أيدي رجال" كما في البخاري في المناقب. قالت عائشة رضي الله عنها: وقال عمر: "وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم" لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى ثانية. إذ لا بد من الموت قبل يوم القيامة. فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين، كما جمعهما على غيره. كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف- أربعة، أو ثمانية، أو عشرة، أو ثلاثون، أو أربعون ألفاً- حذر الموت وهم قوم من بني إسرائيل وقع الطاعون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ببلادهم ففروا. فقال لهم الله: موتوا. فماتوا. ثم أحياهم بعد ثمانية أيام أو أكثر بدعاء نبيهم حزقيل. فعاشوا دهراً عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالفن، واستمرت في أسباطهم، وكالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها. قال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة، الآية: 259] . وفيما أوردناه من نصوص الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة في كيفية وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وفي حياته البرزخية التي يقول عنها الملحد: إنه لا يوجد نص في القرآن العظيم يبيّن كيفية حياته البرزخية بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كفاية في فضيحته وإشهار جهله بكتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه أجنبي عنهما جملة وتفصيلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 تناقضه بادعائه الاجتهاد الذي نفاه نفاه قبلا وتفسيره القرآن بهواه ... ومع هذا الجهل المركب في هذا الملحد فهو يدعي الاجتهاد المطلق انظر إلى قوله: "وحيث إن هذه الأحاديث مع أحاديث المعراج المشيرة لحياة بعض الرسل، الذين رآهم عليه الصلاة والسلام في تلك الليلة، وآيتي سورة البقرة وآل عمران المذكور فيهما حياة الشهداء: تكون حجة قوية بإثبات حياته الجدية من نص القرآن بقاعدة القياس التي هي أحد أصول الدين عندنا. فما أدري كيف غفل علماؤنا عنها؟ وذهب النافون منهم وراء تعاليل يعارضها النص والعقل" إلى آخر كلامه. فهذا الملحد الأحمق من الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وإن هم إلا يظنون. فقد لبس ثوب الاجتهاد المطلق في تأويل كتاب الله تعالى بعدما كان ينكر وجوده في هذه الأمة من بعد عصر الأئمة الأربعة، ويضلل من يقول ببقاء الاجتهاد في هذه الأمة إلى قيام الساعة، ويكفر أيضاً من يخرج من تقليد أحد الأئمة الأربعة ويقول: "إنه خارج عن الإسلام، كما خرج إبليس من بين الملائكة" وها هو الآن يخالف الأئمة الأربعة ويخالف علماء الدين الذين نعى عليهم غفلتهم، عما أحاطت به قريحته من الاستدلال على حياة الشهداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الجسمية من نص القرآن بقاعدة القياس التي يقول إنها أحد أركان الشرع عندنا. ويقول: "إن القياس المستعمل في الاستدلال ثلاثة: قياس اللغة، وقياس الدلالة، وقياس الشبه. وحيث إن بحثنا هذا ينطبق القياس فيه على قياس العلة والدلالة، كما سترى، فإن أنكر عليّ منكر فليأت بالبرهان الناقض". ونحن نقول: لا برهان أصرح على فساد قياسك من انفرادك به، ومخالفتك للمعقول والمنقول، ولعلمائك الذين تدّعي تقليدهم، وإقراراك بذلك على نفسك حيث تقول: "فهذا ما ألقاه الله في روعي بدون أن أراه في موضع" فما هي قاعدة القياس التي تقيس بها الأموات على الأحياء، وتقيس بها الآخرة على الدنيا، فأقصر فلست عالماً ولا عاقلاً، وإنما أنت جاهل أحمق، وضعت نفسك في جملة الأئمة المجتهدين وأنت من جملة الأغبياء الضالين الممخرقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 أقوال العلماء في الحياة البرزخية ... ولما كان هذا الأحمق، قد أطال الكلام على آيتي سورة البقرة وآل عمران بمحض رايه تبعاً لهواه، وجخله المتناهي، الذي لا يستحق النظر فيه ولا الالتفات إليه. فإني ذاكر ما قاله بعض أئمة المفسرين على هاتين الآيتين، ليتبيّن جهله وضلاله، وأنه بوادٍ، وأئمة التفسير بواد آخر. قال الإمام محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى: القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154] يقول تعالى ذكره، يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر على طاعتي في جهاد عدوكم، وترك معاصيي، وأداء سائر فرائضي عليكم. ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله: هو ميت. فإن الميت من خلقي من سلبته حياته وأعدمته حواسه. فلا يلتذ لذة ولا يدرك نعيماً. فإن من قتل منكم ومن سائر خلقي في سبيلي أحياء عندي في حياة ونعيم وعيش هنيء، ورزق سني، فرحين بما آتيتهم من فضلي، وحبوتهم به من كرامتي. كما حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران، الآية:169] من ثمرات الجنة، ويجدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ريحها، وليسوا فيها، حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال حدثنا يزيد، قال حدثنا سعيد عن قتادة قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154] كما يحدث "أن أرواح الشهداء تتعارف في طير ببض، يأكلن من ثمار الجنة، وأن مساكنهم سدرة المنتهى" وأن للمجاهد في سبيل الله ثلاث خصال من الخير: من قتل في سبيل الله منهم صار حياً مرزوقاً. ومن غُلب آتاه الله أجراً عظيماً. ومن مات رزقه الله رزقاً حسناً. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154] قال: "أرواح الشهداء في صور طير أبيض" حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع في قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154] "في صور طير خضر يطيرون في الجنة حيث شاءوا منها، يأكلون من حيث شاءوا" حدثني المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثن عثمان بن غياث، قال: سمعت عكرمة يقول في قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154] قال: "أرواح الشهداء في طير خضر في الجنة". فإن قال لنا قائل: وما في قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154] من خصوصية الخبر عن المقتول في سبيل الله الذي لم يعم به غيره. وقد علمت تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وصف حال المؤمنين والكافرين بعد وفاتهم. فأخبر عن المؤمنين أنه يفتح لهم من قبورهم أبواب الجنة يشمون روحها، ويستعجلون لله قيام السّاعة، ليصيروا إلى مساكنهم منها. ويجمع بينهم وبين أهليهم وأولادهم فيها. وعن الكافرين: أنه يفتح لهم من قبورهم أبواب إلى النار، ينظرون إليها، ويصيبهم من نتنها ومكروهها، ويسلط عليهم فيها إلى قيام الساعة، من يقمعهم فيها. ويسألون الله فيها تأخير قيام الساعة، حذراً من المصير إلى ما أعده الله لهم فيها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 مع أشباه ذلك من الأخبار؟ وإذا كانت الأخبار بذلك متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما الذين خص به القتيل في سبيل الله مما لم يعم به سائر البشر غيره من الحياة، وسائر الكافر والمؤمنين غيره أحياء في البرزخ. أما الكافر فمعذبون فيه بالمعيشة الضنك، وأما المؤمنون فمنعّمون بالروح والريحان ونسيم الجنان؟ قيل: إن الذي خص الله به الشهداء في ذلك وأفاد المؤمنين بخبره عنهم تعالى ذكره، إعلامه إياهم أنهم مرزوقون من مآكل الجنة ومطاعمها في برزخهم قبل بعثهم، ومنعمون بالذي ينعم به داخلوها بعد البعث من سائر البشر، من لذيذ مطاعمها الذي لم يطعمه الله أحداً غيرهم في برزخه قبل بعثه. فذلك هو الفضيلة التي لضلهم وخصهم بها عن غيرهم. والفائدة التي أفاد المؤمنين عنهم، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران، الآيتان:169-170] وبمثل الذي قلنا جاء الخبر عن رسول الله صلى عليه وسلم: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان وعبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن محمود بن لبيد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء على بارق نهر بباب الجنة بكرة وعشياً" حدثنا أبو كريب قال: حدثنا جابر بن نوح عن الأفريقي عن ابن باشر السلمي- أو أبي بشار، شك أو جعفر- قال: "أرواح الشهداء في قباب بيض من قباب الجنة، في كل قبة زوجتان، رزقهم في كل يوم طلعت فيه الشمس: ثور وحوت، فأما الثور ففيه طعم كل ثمرة في الجنة. وأما الحوت: ففيه طعم كل شراب في الجنة" فإن قال قائل: فإن الخبر عما ذكرت أن الله تعالى ذكره، أفاد المؤمنين بخبره عن الشهداء من النعمة التي خصهم بها في البرزخ غيره موجود في قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} [البقرة، الآية:154] وإنما فيه الخبر عن حالهم أموات هم أم أحيا؟ قيل: إن المقصود بذكر الخبر عن حياتهم: إنما هو الخبر عما هم فيه من النعمة، ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عباده عما خص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 به الشهداء في قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران، الآية:169] وعلموا حالهم بخبره ذلك. ثم كان المراد من الله تعالى ذكره في قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} [البقرة، الآية:154] نهى خلقه عن أن يقولوا للشهداء: إنهم موتى، ترك إعادة ذكر ما قد بيَّن لهم من خبرهم. وأما قوله: {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154] فإنه يعني به: ولكنكم لا ترونهم فتعلمون أنهم أحياء، وإنما تعلمون ذلك بخبري إياكم به، وإنما رفع قوله: {أَمْوَاتٌ} [البقرة، الآية:154] بإضمار مكنى عن أسماء من يقتل في سبيل الله. ومعنى ذلك: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات، ولا يجوز النصب في "أموات" لأن القول لا يعمل فيهم. وكذلك قوله "بل أحياء" رفع بمعنى: أنهم أحياء. انتهى. وقال على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج، الآية:58] يقول تعالى ذكره: والذين فارقوا أوطانهم وعشائرهم، فتركوا ذلك في رضي الله تعالى وطاعته وجهاد أعدائه. ثم قتلوا أو ماتوا وهم كذلك ليرزقنهم الله يوم القيامة في جناته رزقاً حسناً. يعني بالحسن: الكريم، وإنما يعني بالرزق الحسن: الثواب الجزيل: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج، الآية:58] يقول: وإن الله لهو خير من بسط فضله على أهل طاعته وأكرمهم. وقال على قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء، الآيتان:34-35] يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وما خلدنا أحداً من بني آدم يا محمد قبلك في الدنيا فنخلدك فيها. ولا بد لك من أن تموت كما مات من قبلك من رسلنا {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء، الآية:34] يقول: فهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون في الدنيا بعدك؟ لا، ما ذلك كذلك، بل ميتون بكل حال عشت أو مت. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وقال الإمام عماد الدين ابن كثير على قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} [البقرة، الآية:154] الآية، يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون، كما في صحيح مسلم: "أن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت. ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فاطّلع عليهم ربك اطلاعه. فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا وأي شيء نبغي؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يُتركون من أن يسألوا قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نتقل فبك مرة أخرى، لما يرون من ثواب الشهادة. فيقول الرب جل دلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون" وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعها الله إلى جسده يوم يبعثه" ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضاً، وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن، تشريفاً لهم وتكريماً وتعظيماً. قال الحسن: إن الشهداء أحياء عند الله تعالى، تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشياً، فيصل إليهم الوجع، انتهى. وقال العلامة السيد محمود الألوسي في تفسيره "روح البيان" على قوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة، الآية:154] أي لا تحسون ولا تدركون ما حالهم بالمشاعر. لأنها من أحوال البرزخ التي لا يُطّلع عليها ولا طريق للعلم بها إلا بالوحي- ثم ذكر ما ورد في ذلك عن السلف إلى أن قال- وأما القول في حياة هذا الجسد الرميم، مع هَدْم بنيته، وتفرق أجزائه، وذهاب هيئته، وإن لم يكن ذلك بعيداً عن قدرة من بدأَ الخلق ثم يعيده، لكن ليس إليه كثير حاجة. ولا فيه مزيد فضل، ولا عظيم منة. بل ليس فيه سوى إيقاع ضعفة المؤمنين بالشكوك والأوهام، وتكليفهم من غير حاجة بالإيمان بما يعدون قائله من سفهاء الأحلام، وما يحكى من مشاهدة بعض الشهداء الذي قتلوا منذ مئات السنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وأنهم إلى اليوم تشخب جروحهم دماً إذا رفعت العصابة عنها، فذلك مما رواه هَيَّان بن بَيَّان وما هو إلا حديث خرافة. وكلام يشهد على مصدقيه بتقديم السخافة. هذا ثم إن نهي المؤمنين عن أن يقولوا في شأن الشهداء "أموات" إما أن يكون دفعاً لإبهام مساواتهم لغيرهم في ذلك البزرخ، وتلك خصوصية لهم، وإن شاركهم في النعيم- بل وزاد عليهم- بعض عباد الله تعالى المقربين، ممن يقال في حقهم ذلك، وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين والمنافقون في شأن أولئك الكرام، قاصدين بها أنهم حرموا من النعيم ولم يروه أبداً. وليس في الآية نهي عن نسبة "الموت" إليهم بالكلية، بحيث إنهم ما ذاقوه أصلاً ولا طرفة عين، وإلا لقال تعالى: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله ماتوا. فحيث عدل عنه إلى ما ترى: علم أنهم امتازوا- بعد أن قتلوا- بحياة لائقة بهم، مانعة عن أن يقال في شأنهم "أموات" وعدل سبحانه عن "قتلوا" المعبر عنه في آل عمران إلى "يتقل" رَوْماً للمبالغة في النهي، وتأكيداً للفعل في تلك السورة، يقول مقام هذا العدول هنا كما قرره بعض أحبابنا من الفضلاء المعاصرين. انتهى. ونحن نكتفي بهذا القدر من الرد على خرافات هذا الأحمق فيما ذكره في هذا البحث من التخليط، من دون أن نتتبع هفواته ومتناقضاته لأنها كلها جهل ومعارضة لنصوص الكتاب والسنّة كما بيّنا ذلك فيما أوردناه من الآيات والأحاديث وأقوال السلف الصالح وأئمة المفسرين. وكما أقر هو بذلك على نفسه في موضعين من بحثه هذا، وهو الذي يريد به إثبات الحياة الجسدية للشهداء والأنبياء، وهي الحياة التي يزعم أنها لا تختلف عن حياتهم في الدنيا يتصرفون فيها كيف شاءوا، ويسمعون ويجيبون، وينفعون ويضرون من دون الله. هذا هو غاية بحثه، ومنتهى قصده. أما الحياة التي شرف الله تعالى بها الشهداء ومن شاء من صالحي عباده، وزادهم فيها شرفاً بالعندية عنده تعالى: فليست في نظر هذا الأحمق شيئاً في جانب الحياة الدنيا، بل الحياة الدنيا عنده أفضل منها. لذلك تراه يحاول، ويعمن في تحريف الكلم عن مواضعه، لإثبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أن أرواحهم ردت إليهم، وأنهم أذن لهم بالخروج والتصرف، كما نقل ذلك عن دحلان والنبهاني، وذلك نقلاً منهما عن السيوطي من كتاب "تقويم الحلك: له، إن صدق في النقل. وبعد هذا قال: "فإن قيل: أي علاقة لهذا البحث مع ما أنت بصدده؟ قلت: العلاقة كلية. لأنه إذا صح لنا دليل حياته صلى الله عليه وسلم الجسمية بعد وفاته- وقد صح بعون الله- تمهد لنا تقرير كل ما أنكروه علينا وحصل لنا بذلك فضيلة أخرى وهي نوع من الصحبة ولم ينقصنا من الصحبة التامة سوى رؤية ذاته الشريفة". هذا ما قاله الأحمق في بيان مقصده من هذا البحث، وهو إثبات الحياة الجسمية الكاملة للشهداء والأنبياء، ليتسنى له تقرير ما أنكرناه عليه من تحريم دعاء الأموات والغائبين، وطلب الحاجات من المخلوقين فيما لا يقدر على إجابته إلا رب العالمين. ومع ما عليه هذا الملحد من الانحراف عن الصراط المستقيم، وكونه من الداعين إلى عبادة الأولياء والصالحين يزعم أنه حصل على نوع من الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لم ينقصه من الصحبة التامة إلا رؤية ذاته الشريفة. ولم يعلم هذا الجاهل الغبي: أنه من أعداء الله تعالى وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، المشركين في عبادته تعالى غيره. وقد غرَّه الغرور، قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر، الآية:8] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 افتراء الملحد على الوهابيين أنهم أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ... قال الملحد: "واعلم يا أخي أن للوهابيين وإخوانهم أعداء الله ورسوله مطاعن كثيرة بالرسول عليه الصلاة والسلام، كلها من المكفرات، وإن كانت بحد ذاته من المضحكات، تجل عقول الصبيان عن التمسك بها. لكن علماء الحرمين والهند ما قصروا بواجباتهم بل أنزلوا على رؤوسهم صواعق الردود التي لا محيص منها إلا لذي وقاحة وقحة وسفاهة، كهذه الطائفة ومن على شاكلتهم". أقول: على زعم هذا المفتري بأننا أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سبحانك هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 بهتان عظيم، وهذا الزعم الباطل ليس بكثير ولا بمستغرب من الحاد مختار، لأنه سفيه أحمق، وليس له حظ من العلم والتقى، وإنما هو ممن اتخذ إلهه هواه، فزعن أننا أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم بغير برهان من الله تعالى. وما حمله على ما رمانا به من الافتراء علينا إلا أننا قد جردنا إتّباعنا لكتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وحققنا ما جاء بهما قولاً وعملاً، مقتفين أثر السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم من أئمة الهدى والدين، محققين لتوحيد الله تعالى في جميع أنوع العبادة، والبراءة من كل تعلق على غيره تعالى من الأموات وغيرهم، وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، ونذر النذور لهم وخوفهم ورجائهم، وغير ذلك مما يفعله عباد القبور ويسمون عملهم هذا "تشفعاً بهم إلى الله تعالى وتوسلاً بجاههم عنده" لأنهم يزعمون أنهم واسطة بين الله تعالى وبين عباده، يرفعون إليه حوائجهم، وهذا الملحد من ورثتهم، ومن الداعين إلى مذهبهم. وقد قال في صحيفة "53" من رسالته هذه: "إن القرآن صرح باتخاذ الوسائط والتوسل بجاه أحبابه". وقال في صحيفة "83" منها: "إن علماءنا ما قالوا بجواز التوسل بالأنبياء والأولياء، وندبوا إليه من تلقاء أنفسهم. حاشاهم من ذلك، وهم أمناء الدين، وخلفاء الرسل، بل أخذوه من كلام الله وكلام رسوله أمراً وفعلاً". فهذا ما يقوله الأحمق الملحد مفترياً على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فكيف لا يفتري على الوهابيين ويزعم أنهم أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؟ إذ إنهم يخالفونه في عقيدته الوثنية فأنكروها عليه، وعادوه من أجلها، وتبرأوا منه ومن كل مشرك مع الله غيره في عبادته. وأما قوله: "إن للوهابيين مطاعن كثيرة بالرسول عليه الصلاة والسلام". فهذا من الفجور وقول الزور، وقد سبق في أول رسالته هذه ما نقل عن دحلان من بهته وافترائه على الوهابيين، ما قد أشبعنا الرد عليه مفصلاً في محله ما أغنانا عن إعادته ههنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وأما قوله: "إن علماء الحرمين والهند ما قصروا بواجبهم من الرد على الوهابيين ... إلى آخره". فنقول: إن هذه سنّة الله التي قد مضت في خلقه، فما منهم إلا راد ومردود عليه، فمحق ومبطل. وقد قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود، الآيتان: 118-119] وقال إمام دار الهجرة مالك رضي الله عنه: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم نقول أيضاً: وهل أوذي أحد من خلق الله تعالى وعورض، ورد عليه أكثر مما أوذي وعورض أنبياء الله تعالى ورسله؟ وقد قال فرعون لعنه الله تعالى لقومه: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر، الآية:26] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف، الآية:179] فماذا علينا إذا رد علينا أمثال هؤلاء الحيارى الضالين ما دمنا متمسكين بكتاب ربنا، وبسنّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم مقتفين أثر سلفنا الصالح من الصحابة ومن تبعهم من أئمة الهدى الدين من هذه الأمة المحمدية؟ وأيضاً فإنه قد رد على هؤلاء الضلاّل المعتدين من قد حقق الحق وأبطل الباطل من علماء الهند المحققين من أهل الحديث، ومن علماء نجد والعراق وقد مضى ذكر ردودهم، وذكر مناظرة علماء الوهابيين مع علماء مكة بمكة، وذلك بحضور الشريف غالب، وأنه بعد المناظرة وإلزام علماء مكة الحجة من الكتاب والسنّة في جميع المسائل التي جرت فيها الخصومة بين الفريقين: أقر علماء مكة بأن الحق هو ما كان عليه الوهابيون، فرادعه ترى الحق واضحاً، فلا نطيل بترديد الكلام إتباعاً لهذا الأحمق المفلس من الحق والصدق. وأما ما ذكره الملحد عن أحمد رضا خان: فإنه رواية. ولم يذكر من كلامه كلمة واحدة ونحن أيضاً لم نقف على شيء من كلام هذا الرجل، وحيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 إن من عادة هذا الأحمق الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى العلماء أيضاً من بعدهم، والجرأة على تحريف كلامهم مع ما اتصف به من الغباء والفهم العاطل، والنظر القاصر، اللذين لا يمكن أن يدرك معهما معاني كلام الله تعالى، ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يفرق بين أئمة الإسلام المحققين وبين المبتدعين الضالين، فليس هو أمين فيما ينقله أو بعزوه لعالم من علماء المسلمين. وعلى تقدير صحة ما يقوله عن محمد رضا خان: هو بمعصوم، فقد يكون أرضى هذا الملحد في تعضيد باطله والله تعالى لا يرضى عن القوم الظالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 زعمه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب استقلالا ... وأما المسألة: "اطلاع الرسول صلى الله عليه وسلم على علم الغيب". فإن هذا الملحد، ومن أتبعه من المارقين من الدين، يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب استقلالاً، كما يعلمه الله تبارك وتعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف، الآية:5] وهذا الزعم ينكره كل مؤمن بالله وبكتابه وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وكل مؤمن يؤمن بأن الله تعالى يطلق من يشاء من أنبيائه ورسله على بعض المغيبات. وهذه مسألة لا تحتاج إلى جدل، كيف؟ ونصوص الكتاب والكريم ناطقة بذلك. يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل، الآية:65] ، ويقول تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف، الآية:188} ويقول تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف، الآية:9] وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} (الجن، الآيتان:26-27] وقال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام، الآية:50] فمن لم يقف مع هذه النصوص ويعطي كل ذي حق حقه فقد جعل مع الله إلهاً غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 عقيدته في الزيارة ودحض مفترياته ... قال الملحد: "البحث الثاني: في الزيارة. اعلم يا أخي- شرح الله قلبي وقلبك بنور الإخلاص- إن لنا معشر المؤمنين وجداناً في حب نبيّنا عليه الصلاة والسلام يكفينا عن الاستدلال والاستشهاد على ما نحن في صدده، فيمن شاء فليتبعنا فيتذوق بما ذقنا، ولا تنازع في الأذواق". أقول: في كلام هذا الجاهل من الركاكة وسوء التعبير ما هو اللائق بجهله وغروره في نفسهن إذ إنه لم يكن من الذين شرح الله صدورهم للإسلام، ونوَّر قلوبهم بنور الإيمان، المتلقى من مشكاة النبوة، وإنما هو من الجامدين على العادات الجاهلية والتقاليد والوثنية التي نشأوا عليها وحكموها في وجدانهم الضال، فجعلوها ديناً يقدمونها على كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم. فلم يكن مصدر وجدانهم عن علم ولا هدى ولا نور، وإنما هي عن بلادة وتقليد أعمى وغرور بما ورثوا من الجهالات والضلالات والبعيدة كل البعد عن خالص الإيمان بالله وبرسوله وما جاء به من عند الله تعالى من تعزيزه وتوقيره وإتباع النور الذي أنزله معه. فمواجيدهم صادرة عن هوى نفوسهم الأمارة بالسوء، وعن وسوسة الشيطان الذي أضلهم عن سلوك سبيل المؤمنين، لذلك يقول الأحمق: "إنه يكتفي بوجدانه فيما يزعمه من حب نبيّنا عليه الصلاة والسلام عن الاستدلال والاستشهاد لما هو في صدده" ويعني به: ما سيذكره من الغلو الذي آله بهم إلى الكفر الشنيع، ومن ثم حذر ونهى الله عنه ورسوله في حقه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وفي حق كل مخلوق، وذلك فيما يموه به عباد القبور من اسم الزيارة عامة وزيارة قبره الشريف خاصة، فإن حقيقة هذه الزيارة عندهم هي دعاء الأموات وصرف خالص العبادة لهم من دون الله فاطر الأرض والسموات. وأما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم: فإنها تبع لمحبة الله تعالى. وقد ادعى قوم محبة الله تعالى، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران، الآية:31] ، وكل من ادعى ما ليس فيه طولب بالدليل: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة، الآية:111] وكيف يدعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم من هو خصم لدعوته إخوانه من الرسل، وهي توحيد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 تعالى؟ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية:25] ، وهذا الملحد وإخوانه من عباد القبور يصرفون العبادة للموتى الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ويسمونها زيارة القبور، ويقول هذا الأحمق بكل وقاحة: "فمن شاء فليتبعنا فيتذوق بما ذقنا، ولا تنازع في الأذواق". فنقول له: ومن أنت أيها الجهول الظلوم الكفار، حتى تكون متبوعاً؟ ألست من حثالة الجهلة المقلدين؟ الدُّعاة إلى غير سبيل المؤمنين؟ فبعداً وسحقاً للقول الظالمين. ثم يقال لهذا الإمعة: إن التنازع كل التنازع في الأذواق التي جعلتها أساس دينك، فبطل وانهار فوق رأسك: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر، الآية:8] ولولا التنازع في الأذواق، ما كن في الدنيا راد ولا مردود عليه، ولا كان شيطان أبي واستكبر وكان من الكافرين، ولا كنت وسلفك من أولياء الشيطان الرجيم. ثم إن هذا الأحمق قام يتهوس بكلام كله نفاق ورياء لا يهمنا، وليس هو من موضوعنا في شيء إلا أنه زعم فيه: "أن من لم يرقص ويتمرغ في الرمل في عرفات" وما ذكر معه من هراء القول والسخرية حيث قال: "فإنه لا يشعر بشيء، ولا يدرك ولا يد لذة باغتنام أجر، ولا رغبة في زيادة فضل- إلى أن قال- بل قف في الحرم المكي، واصرف نظرك إلى الناس إذا قال المؤذن يا أرحم الراحمين ارحمنا. ترى من خَرَّ مصروعاً، ومن علا نحيبه وبكاؤه وشخص ببصره إلى السماء مندهشاً" إلى آخر ما هذى به من هذه الخرافات والنفاق الخالص الذي ينضح بخبيث الشرك والكفر والفسوق عن أمر الله وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم فإن هذا هو شأن هؤلاء المنافقين الدجالين الذين يتصنعون في هذه المجتمعات الشريفة أنواع الحيل لبلوغ في نفوسهم، مكراً وخداعاً، فليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 هؤلاء السفلة- إخوان الحاج مختار- أفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أتقى لله، ولا أعرف به منهم. فإنهم لم يعملوا هذه الأعمال فلم يرقصوا ولم يتمرغوا في الرمل، ولم يصرعوا متخبطين، كما يصرع حزب الشيطان من وليهم الشطان الرجيم، وإنما كانوا كما وصفهم الله، وأثنى عليهم بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد، الآية:28] . ثم قال الأحمق: "أما الأحاديث الواردة بفضل زيارة الرسول عليه الصلاة والسلام، والأنبياء والأولياء والصالحين، وما يحصل منها من البركات والخيرات فهي أكثر من أن تجمع في مختصر مثل هذا" إلى آخر ما هذى به. فالجواب: أن الزيارة الشرعية لقبور موتى المؤمنين من الأنبياء والأولياء والصالحين وكافة قبور المسلمين سنّة متفق عليها، لا خلاف فيها عند كافة المسلمين. وأما القبور الوثنية التي بنيت عليها القباب، وأقيمت عليها الأستار والأنصاب، وبنيت عليها المساجد، فكل ذلك مما لعن رسول الله فاعله، وكذلك الزيادة البدعية الشرعية المخالفة لهدى الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم ومن تبعهم من القرون المفضلة، وما يحدث بسببها من الغلو بأصحاب القبور وما يُصْرف لهم من أنواع العبادات من الدعاء والخوف والرجاء ونذر النذور لهم، وغيرهم مما لا يجوز صرفه لغير الله تعالى. فإن هذه هي الزيارة المحرمة وصاحبها ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه هي الزيارة التي ننكرها وينكرها كل من نوَّر الله بصيرته بهدى الإسلام، ورزقه فهماً صالحاً يميز به بين الحق والباطل. وأما من أغواهم الشيطان: فإنهم يجعلون مع الله تعالى آلهة أخرى، يصرفون لهم ما لله من العبادة من الدعاء والخوف والرجاء، وغير ذلك مما عليه عباد القبور من الغلو بأصحابها، وهذا أمر واقع لا ينكره إلا مكابر معاند، أمثال الحاج مختارة من قلدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وأما قوله: "إن الشيطان أغوانا، وإننا نزعم أن زيارة قبور الرسل والأنبياء والتوسل بجاههم شرك بالله تعالى". فهذا كذب، والذي ننكره من ذلك هو ما صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه وكل ما فيه صرف حق الله تعالى لغيره كما تقدم ذكره آنفاً. وأما قوله: "أننا نتزلف للأمراء، وأن هذا التزلف منا أقبح من عبادة الأوثان والأصنام". فهذا القول من هذا الملحد من هذر المجانين، ونزغات الشياطين، التي تحلى بها وبأمثالها من الأقوال الباطلة هذا الأحمق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 إقامة المواليد بدعة وضلالة ... وأما قوله: "زعموا أن القيام في المولد الشريف بدعة. فالجواب: أن القيام والقعود وإقامة الموالد كله بدعة، إذا يقترن بها ما هو واقع فيها اليوم من المفاسد وأنواع الفسوق. فإذا انضمت إليها هذه المنكرات التي يجب أن صان عنها جناب المصطفى صلى الله عليه وسلم ويطهر ذكره عن أوساخها، فلا يشك عاقل- فضلاًً عن عالم- في أنها من البدع المحرمة التي لم تكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عهد أصحابه ولا القرون المفضلة من بعدهم. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية: " من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد". فهل لهذا الملحد أن يأتينا بدليل عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم في إقامة هذه الموالد، أو عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، أو أحد من التابعين، أو أحد من الأئمة الأربعة؟ وإذا كان هذا ليس معروفاً من أقوال وأفعال من ذكرناهم فلا شك ولا ريب في أنه مردود على قائله، مأزور فاعله بنص حديث عائشة رضي الله عنها الذي قدمناه آنفاً. قال الملحد: "تتبعت المظان من الكتب لأعرف أول قائل بهذه الضلالة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وداع إليها. فما وجدت لها أثراً عن أحد من علماء أهل السنّة قبل الشيخ أحمد بن تيمية، فتعقبت ما عرفت من مؤلفاته، لأقف على نص صريح له فوجدته ذكر هذه المسألة في موضعين من كتابه "الجواب الصحيح" الأول في صحيفة (121) من الجزء الأول، والثاني في صحيفة (55) من الجزء الثاني. نقل في الأول حديث: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وحديث: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" وحديث: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". ثم قال: إلى أمثال ذلك مما فيه تجريد التوحيد لله رب العالمين، صم استطرد في تشبيه ما جاء في هذه الأحاديث بعبادة الشمس والقمر والأوثان والصور والسجود لها والاستشفاع بها وبأصحابها- إلى أن قال-: وإن كان يذكر عن بعض الأنبياء تصوير صورة لمصلحة فإن هذه من الأمور التي قد تنوعت فيها الشرائع بخلاف السدود لها، والاستشفاع بأصحابها. فإن هذا لم يشرعه نبي من الأنبياء ولا أمر أحد قط من الأنبياء أن يدعي غير الله عز وجل، لا عند قبره ولا في مغبيه، ولا يتشفع به في مغيبه بعد موته، بخلاف الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ويوم القيامة وبالتوسل به بدعائه والإيمان به، فهذا من شرع الأنبياء عليهم السلام، وانتهى. فانظر ما في هذا الكلام من التلاعب والتقلب، والقياس الفاسد، والتهور الذي أدخله في زمرة محرفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواضعه، فالأحاديث التي استدل بها وحرفها صريحة في النهي عن الجلوس على القبور، كما يفعله أهل زماننا نساء ورجالاً والصلاة إليها، كما يفعله الوثنيون. ليس فيها نهي عن الزيارة، ولا تشبيه من يزور قبر نبي أو غيره بعابد الشمس والقمر وغيرهما. وسيأتي حيث النهي عن الزيارة ثم إباحتها، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يزور أهل البيقع، ويستغفر لهم. ونعوذ بالله من الغلو المؤدي إلى خرق إجماع الأمة من عهد الرسول إلى اليوم، وتشبيه كافة المسلمين بعبادة الشمس والقمر والأوثان. ولا يغرنك ما رأيته من استثناء الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه حصر الاستثناء في حياته ويوم القيامة ومن هذا الحصر تفهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 اعتقاده بتحريم زيارة القبر الشريف، والتمويه بعدم إنكاره ما جاء في كلام الله، وإنكاره الأحاديث الواردة بحق الزيارة والتوسل والاستشفاع. فهل بعد هذا الضلال ضلال؟ والعياذ بالله. وأما كلامه الثاني: فإنه بعدما نقل آيات في حق المشركين قال: وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية:25] فالمسيح صلوات الله وسلامه عليه ومن قبله من الرسل إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وفي التوراة من ذلك ما يعظم وصفه، لم يأمر أحد من الأنبياء بأن يعبد ملك، ولا نبي، ولا كوكب، ولا وثن. ولا تسأل الشفاعة إلى الله من ميت ولا غائب ولا نبي ولا ملك فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعو الملائكة ويقول: اشفعوا لنا إلى الله. انتهى. فانظر ما في هذا الكلام من الخلط والضلال: أولاً: قياسه التوسل والاستشفاع على عبادة النصارى والوثنيين للصور والأوثان. ثانياً: جعل الاستشفاع والتوسل بهذا القياس من المكفرات. ثالثاً: استثناء الأحياء والحاضرين وحصر التحريم بالأموات والغائبين، وإدخال الملائكة مع الأموات والغائبين. مع أن الملائكة ليسوا أمواتاً ولا غائبين والتوسل والاستشفاع بالحي أقرب لمظنة الشرك من الميت، وجميع الفرق المشركة ما قالوا بألوهية حدثت لميت بعد موته، بل كلهم قالوا بألوهية أحياء وكلهم ينكرون موت آلهتهم، وسيأتي في البحث الثالث إن شاء الله من كلام الله تعالى رسوله ما يثبت به ضلال هذا المضلّ ويدحض افتراءه على الله وأنبيائه، فلعمر الحق إن كلام هذا الرجل إن لم يكن عن فسق وزيغ فهو أجدر بالجنون واختلال العقل". والجواب أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم. إن هذا الملحد الدجال بعدما افترى ما افتراه على الوهابيين من الكذب: بأنهم يقولون: "إن التوسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره الشريف شرك باله، ومناف للتوحيد" إلى آخر ما نسبه إليهم من الأكاذيب الباطلة التي لا تجوز المغالطة فيها، بل ي إفك مبين. قد أوفيناها حق الرد عليها من نصوص الكتاب والسنّة بما أزهق باطلها، فهو هنا يتعرض بالافتراء على شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه يزعم أنه إمام الوهابيين وأنهم يقلدونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 تحريف الملحد لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية وصرفه عن معناه ... يقول هذا الملحد: "إنه تتبع المظان من الكتب ليرى أول قائل بهذه الضلالة وداع إليها" إلى آخر كلامه الذي نقلناه هنا بالحرف الواحد. فإن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الذين نقله الملحد من كتاب الشيخ المذكور ليس فيه كلمة واحدة تدل على ما زعمه هذا المفتري من أن ابن تيمية يحرم فيه زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر قبور المسلمين، بل كله في تحقيق التوحيد لله تعالى، وفي الرد على النصارى فيما بدلوه من دين المسيح عليه السلام، وما جاءوا به من الغلو الشنيع، وعلى اليهود وغيرهم من أهل الملل الضالة وكل من تشبه بهم وسلك سبيلهم ممن جاءوا من بعدهم، لتحذر هذه الأمة المحمدية سلوك سبيلهم، قارعاً أسماعهم بالآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة النبوية، وكلها نصوص صريحة في لعن هؤلاء الغلاة، ولعن من تشبه بهم سالكاً سبيلهم، لا تقبل تأويلاً ولا مغالطة، كما تعمده هذا الملحد من صرفه لمعاني كلام شيخ الإسلام وتحريفه له عن مواضعه، ونسبته إلى الشيخ من القول ما لم يقله بل ولم يشر إليه بحرف واحد. لذلك رأيت أن أبلغ رد على هذا الملحد، وبياناً لكذبه وافترائه هو أن أبرز كلام شيخ الإسلام الذي زعم أنه نقله من كتاب الشيخ: "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" كاملاً مجرداً عن تعليقه عليه، ومغالطاته ليراه كل مطلع عليه من أهل العلم والتحقيق، فيعلموا براءة شيخ الإسلام مما رماه به هذا الدجال، ويتحققوا جراءة هذا الملحد على أئمة المسلمين في الافتراء عليهم، وتحريف كلامهم عن مواضعه. فأن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يتعرض في كلامه هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 لمسألة زيارة القبور كافة، لا بتحريم ولا كراهة لأن زيارة القبور سنّة متفق عليها عند جميع المسلمين فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بها، وعلمها لأصحابه، فمن فعلها كما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمها لأصحابه فهو عامل بسنّة، مأجور عليها ومن أهمل العلم بها فهو تارك لسنّة غير مأزور بتركها. وأما المسألة التي يتكلم عليها شيخ الإسلام: فهي أم مسائل دين الإسلام وهي تحقيق التوحيد لله تعالى، وإفراده بجميع أنواع العبادات. وهذا التوحيد هو معنى "لا إله إلا الله" لا مجرد لفظها، وبهذا أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، ليكون الدين كله لله تعالى. فأين مسألة زيارة القبور- التي هي سنّة- من هذه المسالة- التي هي أصل دين الإسلام؟ {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم، الآية:59] ولكن هذا الملحد ومن قلدهم من دعاة الوثنية سموا دعاء الأموات وصرف أنواع العبادات لهم بزيارة القبور، فضلوا وأضلوا كثيراً من الجهلة عن سواء السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 نص كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ... وهذا نص كلام شيخ الإسلام الذي حرفه الملحد بقصد المغالطة. قال في"ج1، ص 122،121". فلما ظهر دين المسيح عليه السلام- بعد أرسطو بنحو ثلاثمائة سنة- في بلاد الروم واليونان: كانوا على التوحيد، إلى أن ظهرت فيهم البدع، فصوروا الصور المرقومة في الحيطان، وجعلوا هذه الصور عوضاً عن تلك الصور. وكان أولئك يسجدون للشمس والقمر والكواكب، فصار هؤلاء يسجدون إليها إلى جهة الشرق التي تظهر منها الشمس والقمر والكواكب، وجعلوا السجود إليها بدلاً عن السجود لها ولهذا جاء خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه الذي ختم الله به الرسالة، وأظهر به من كمال التوحيد ما لم يظهر من قبله. فأمر صلى الله عليه وسلم أن لا يتحرى أحد بصلاته طلوع الشمس ولا غروبها، لأن المشركين يسجدون لها تلك الساعة. فإذا صلى الموحدون لله عز وجل في تلك الساعة صار ذلك نوع مشابهة لهم، فيتخذ ذريعة إلى السجود لهاز وكان من أعظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 أسباب عبادة الأصنام: تصوير الصور وتعظيم القبور. ففي صحيح مسلم وغيره عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأمرني أن لا أدع قبراً مُشْرِفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته" وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا" وفي الصحيحين أنه قال قبل موته بخمس ليال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك". ولما ذكرت له أم سلمة وأم حبيبة كنيسة بأرض الحبشة- وذكرتا من زخرفها وتصاوير فيها- قال: "أولئكِ كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا تلك التصاوير، أولئكِ شرار الخلق عند الله" متفق عليه. ونهي: " أن يستقبل الرجل القبر في الصلاة" حتى لا يتشبه بالمشركين الذي يسجدون للقبور. ففي الصحيح أنه قال: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" إلى أمثال ذلك مما فيه تجريد التوحيد لرب العالمين، الذي أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله. فأين هذا ممن يصور صور المخلوقين في الكنائس ويعظمها، ويستشفع بمن صُوّرت على صورته؟ وهل كان أصل عبادة الأصنام في بني آدم من عهد نوح عليه السلام إلا هذا؟ والصلاة إلى الشمس والقمر والكواكب والسجود إليها ذريعة إلى السجود لها. ولم يأمر أحد من الأنبياء باتّخاذ الصور والاستشفاع بأصحابها ولا بالسجود إلى الشمس والقمر والكواكب، وإن كان يذكر عن بعض الأنبياء تصوير صورة لمصلحة، فإن هذا من الأمر التي تتنوع فيها الشرائع بخلاف السجود لها، والاستشفاع بأصحابها. فإن هذا لم يشرعه نبي من الأنبياء ولا أمر قط أحد من الأنبياء أن يدعى غير الله عز وجل، لا عند قبره، ولا في مغيبه، ولا يتشفع به في مغيبه ولا بعد موته. بخلاف الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وفي يوم القيامة، وبالتوسل به بدعائه، والإيمان به. فهذا من شرع الأنبياء عليهم السلام. ولهذا قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف، الآية:45] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية:25] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل، الآية:36] ، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس، الآية:18] وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ. لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر، الآيات:1-4] . انتهى ما أشار إليه المعترض من كلام الشيخ في صحيفة "120" وما بعدها من الجزء الأول. ثم نسوق بعده نص كلام الشيخ في "ج5، ص55" من "الجواب الصحيح" الذي ذكره الملحد. قال الشيخ رحمه الله تعالى في سياق الرد على النصارى في دعواهم نفي الشرك عن أنفسهم، مستدلين على ذلك بالآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة، الآية:82] . قال: وأما قولهم: "ونفى عنا اسم الشرك" فلا ريب أن الله تعالى فرق بين المشركين وأهل الكتاب في عدة مواضع، ووصف من أشرك منهم في بعض المواضع، بل قد ميز بين الصابئين والمجوس، وبين المشركين في بعض المواضع وكلا الأمرين حق، فالأول: كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة، الآية: 1] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج، الآية:17] ، وقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة، الآية:82] ، وأما وصفهم بالشرك ففي قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، الآية:31] فنزه نفسه تعالى عن شركهم. وذلك أن أصل دينهم: ليس فيه شرك، فإن الله إنما بعث رسله بالتوحيد، والنهي عن الشرك كما قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف، الآية:45] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل، الآية:36] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية:25] فالمسيح صلوات الله وسلامه عليه ومن قبله من الرسل إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي التوراة من ذلك ما يعظم وصفه، لم يأمر أحد من الأنبياء بأن يعبد ملك، ولا نبي ولا كوكب ولا وثن، ولا أن تسأل الشفاعة إلى الله من ميت ولا غائب ولا نبي ولا ملك، فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعو الملائكة، ويقول: اشفعوا لنا إلى الله، ولا يدعو الأنبياء ولا الصالحين من الموتى والغائبين. ويقول: اشفعوا لنا إلى الله، ولا نصور تماثيلهم ولا مجسدة ذات ظل، ولا مصورة في الحيطان. ولا يجعل دعاء تماثيلهم وتعظيمها قربة وطاعة، وسواء قصدوا دعاء أصحاب التماثيل وتعظيمهم والاستشفاع بهم، وطلبوا منهم أن يسألوا الله تعالى وجعلوا تلك التماثيل تذكرة بأصحابها، أو قصدوا دعاء التماثيل، ولم يستشعروا أن المقصود دعاء أصحابها، كما فعله جهال المشركين، وإن كانوا في هذا جميعه إنما يعبدون الشيطان. وإن كانوا لا يقصدون عبادته فإنه قد يتصور لهم في صورة ما، يظنون أنها صورة الذي يعظّمونه. ويقول: أنا الخضر، أنا المسيح، أنا جرجس، أنا الشيخ فلان، كما وقع هذا لغير واحد من المنتسبين إلى المسلمين والنصارى. وقد يدخل الشيطان في بعض التماثيل فيخاطبهم وقد يقضي بعض حاجاتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 فبهذا السب وأمثاله: ظهر الشرك قديماً وحديثاً وفعل النصارى وأشباههم ما فعلوا من الشرك. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه اله تعالى من كتابه "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" فقد نقلناه بالحرف الواحد مبسوطاً، لما كما تصرّف فيه هذا الملحد في تحريف لفظه ومعناه للتمويه على الجهال. وبذلك يعلم كل مطلع عليه بطلان ما نسبه هذا الملحد الكذاب، لشيخ الإسلام ابن تيمية بأنه يحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر قبور المسلمين ففيما أبرزناه من نص كلام الشيخ- الذي يغالط فيه هذا الملحد- كفاية لرد افترائه على ابن تيمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 حنقه على شيخ الإسلام لتحقيقه توحيد الله تعالى وإفراده بجميع أنواع العبادات ... وأما ما تمادى فيه هذا الملحد من الفجور وقول الزور، في حق شيخ الإسلام ابن تيمية من وصفه له بأنه م المحرفين لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورميه بالفسق والجنون والافتراء على الله وأنبيائه- إلى آخر ما هذى به من الفجور وقول الزور- فليس هذا بغريب من هذا الملحد المتناقض، الذي قد اتخذ إلهه هواه. نعوذ بالله من زيغ القلوب، ومن العمى والضلال بعد الهوى. لقد شهد هذا الملحد في رسالته هذه لشيخ الإسلام ابن تيمية بأنه إمام جليل، مقتدى به، وأنه من أهل الحق والإنصاف، وأنه من أجلاء علماء أهل السنّة الذين كانوا وما زالوا على هذا الهدى، وهذا الصراط المستقيم "راجع صحيفة 17 و25 من رسالته هذه" ترى هذه الشهادة من هذا الملحد للشيخ، وبعدها بقليل يرمي الشيخ بهذه الفظائع التي لا تليق ولا تنطبق إلا على من اختلقها. وهو هذا الملحد الذي قد حازها جميعاً متضلعاً بها قولاً وعملاً. إن الذين أثار غضب هذا الملحد على شيخ الإسلام: هو تحقيق الشيخ لتوحيد الله تعالى، وإفراده بجميع أنواع العبادة، ورده على اليهود والنصارى ما غيروه من دين أنبيائهم، فجعلوا مع الله آلهة أخرى، بسبب الغلو الذي أوجب لعنهم على لسان نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، محذراً أمته أن تسلك سبيلهم، وهذا السبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 هو الذي يدعو إليه هذا الملحد ومن اقتدى بهم من أئمة الضلال. وإننا نجل شيخ الإسلام ابن تيمية أن نعرّض باسمه مدافعين عنه، أو ناشرين من فضائله ما يلجم كل منافق مارق، متطاول على أئمة المسلمين بالشتم والكذب، من أمثال هذا الملحد بل نعده من الكلاب النابحين. وقد قيل: فما على العنبر الفواح من حرج ... إن مات شمه الزَّيَّال والجُعَل؟ أو هل على الأسد الكرار من ضرر ... أن ينهق العير مربوطاً أو البغل؟ أو هل على الأنجم الزهراء منقصة ... إن عابها من حضيض البيد منجدل؟ وفي كتاب "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية" لأبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد بن حفص العطار. قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري قال: حدثنا خلف بن تميم قال: حدثنا عبد الله بن السري عن ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا علن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل على محمد" وبسنده إلى عبيد الله بن موهب بن عصمة بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمقام أحدكم في الدنيا يتكلم بكلمة حق يرد بها باطلاً، أو يحق بها حقاً، أفضل من هجرة معي". إن هذا الملحد ومن قلدهم من دعاة الشرك في عبادة الله تعالى- أمثال دحلان والنبهاني- ممن جعلوا الأموات وسائط بين الله عباده، وصرفوا لهم خالص العبادة من دون الله تعالى. هؤلاء هم الذين أضلوا كثيراً من جهلة المسلمين وفتحوا لهم أبواب الشرك في عبادة الله تعالى. وسموها زيارة القبور، وطلب الشفاعة من أهلها، وأن الأموات هم وسيلة الأحياء إلى الله تعالى، لأنهم أقرب منهم إلى الله تعالى، وسواء سموا هؤلاء المدعوين أنبياء أو أولياء فإنهم عباد الله تعالى. يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر، الآيتان:2-3] ويقول تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر، الآيتان:43-44] إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الصحيحة، نصوص بهذا المعنى لا تقبل تحريفاً ولا تأويلاً. قد صدّ عنها هؤلاء الوثنيون الذي تجب محاربتهم وإشهار ضلالهم، وتحذير جهلة المسلمين من سلوك سبيلهم عملاً بهذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قول الملحد: "ولا أطيل الرد عليه لأن جمهوراً من علماء عصره، منهم الإمام السبكي ألقوا كتاباً بالرد عليه، وإثبات مخالفته للسنّة والكتاب والإجماع. فلما قام محمد عبده مفتي مصر المعلوم بإحياء هذه الضلالة طبع رسالة بالرد على الإمام السبكي، زعم أنها تأليف أحد تلاميذ شيخه ابن تيمية. فلما عرف علماء مصر مصدرها، تصدى للرد عليه نخبة من علماء القاهرة منهم الشيخ إبراهيم السمنودي، برسالة سماها "نصرة الإمام السبكي: استوفى فيها إبطال كافة أضاليله". والجواب: أن الذين ردوا على شيخ الإسلام ابن تيمية: هم الذي خالفوا الكتاب والسنّة والإجماع بل خالفوا جميع ما جاءت به الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي بعثهم الله تعالى بكلمة التوحيد وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له وإمام هؤلاء المخالفين هو السبكي الذي رد عليه علماء عصره وأئمة مذهبه. فقد كشفوا ما لفقه من الشبهات، وهدموا ما بناه على جرف هار من المغالطات، بعد أن صار بها إماماً للمبتدعين. فمن الذي ردوا عليه: الحافظ أحمد بن محمد بن عبد الهادي، في كتاب سماه "الصارم المنكبي في الرد على السبكي" فضح به دس السبكي وتدليسه، فيما أورده من الأحاديث الضعيفة والمكذوبة، وما حرف معناه من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم مستدلاً بها على جعل قبور الأنبياء ومن دونهم من الأموات كعبة يحج إليها ويطاف بها. وتنذر النذور لها وتسفك دماء القرابين لساكنيها في سوحها، إلى أمثال هذه الضلالات التي فتح السبكي أبوابها للجهال الذي لا يفرقون بين الحق والباطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وسماها "شفاء السقام في زيارة خير الأنام". قال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في مقدمة كتابه "الصارم المنكي": أما بعد، فإني وقفت على الكتاب الذي ألفه بعض قضاة الشافعية، في الرد على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى في مسألة شد الرحال، وإعمال المطي إلى القبور. وذكر أنه قد سماه "شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة" ثم زعم أنه اختار أن يسميه "شفاء السقام في زيارة خير الأنام" فوجدت كتاب مشتملاً على تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة، والآثار القوية المقبولة، وتحريفها عن مواضعها وصرفها عن ظاهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلاً ممارياً، معجباً برأيه، متبعاً لهواه، ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة، والآراء الساقطة، صائراً في أشياء مما يعتمده إلى الشبه المحيلة، والحجج الداحضة. وربما خرق الإجماع في مواضع لم يسبق إليها، ولم يوافقه أحد من الأئمة عليه. وهو في الجملة: لون عجيب، وبناء غريب. تارة يسلك فيما ينصره ويقويه مسلك المجتهدين، فيكون مخطئاً في ذلك الاجتهاد، ومرة يزعم فيما يقوله ويدعيه أنه من جملة المقلدين، فيكون من قلده مخطئاً في ذلك الاعتقاد. نسأل الله سبحانه أن يلهمنا رشدنا، ويرزقنا الهداية والسداد. هذا مع أنه إن ذكر حديثاً مرفوعاً أو أثراً موقوفاً- وهو غير ثابت- قبله إذا كان موافقاً لهواه، وإن كان ثابتاً رده إما بتأويل أو غيره، ما يوافق رأيه قبله، وإن كان مطعوناً فيه غير صحيح عنه، وإن كان مما يخالف رأيه رده ولم يقبله، وإن كان صحيحاً ثابتاً عنه وإن حكى شيئاً مما يتعلق بالكلام على الحديث، وأحوال الرواة عن أحد أئمة الجرح والتعديل- كالإمام أحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وأبي حاتم بن حبان البستي، وأبي جعفر العقيلي، وأبي أحمد بن عدي، وأبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك، وأبي بكر البيهقي، وغيرهم من الحفاظ- وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 مخالفاً لما ذهب إليه لم يقبل قوله، ورده عليه، وناقشه فيه وإن كان ذلك الإمام قد أصاب في ذلك القول، ووافقه عليه غيره من الأئمة، وإن كان موافقاً لما صار إليه تلقاه بالقبول. واحتج به واعتمد عليه، وإن كان ذلك الإمام قد خولف في ذلك، ولم يتابعه غيره من الأئمة عليه. وهذا هو الجور والظلم، وعدم القيام بالقسط. نسأل الله التوفيق ونعوذ به من الخذلان، وإتباع الهوى. إلى أن قال: فانظر إلى كلام هذا المعترض المتضمن لرد النقل الصحيح بالرأي الفاسد، واجمع بينه وبين ما حكاه عن شيخ الإسلام من الافتراء العظيم والإفك المبين، والكذب الصراح. وهو ما نقله عنه من أنه جعل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: معصية بالإجماع، مقطوع بها. هكذا هذا المعترض عن بعض قضاة الشافعية عن الشيخ أنه قال هذا القول الذي لا يشك عاقل من أصحابه وغير أصحابه أنه كذب مفترى، لم يقله قط، ولا يوجد في شيء من كتبه، ولا دل عليه كلامه، بل كتبه كلها ومناسكه وفتاويه، وأقواله تشهد ببطلان هذا النقل عنه. ومن له أدنى علم وبصيرة يقطع بأن هذا مفتعل مختلق على الشيخ، وأنه لم يقله قط. وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات، الآية:6] إلى أن قال: فلما وقفت على هذا الكتاب المذكور أحببت أن أنبه على ما وقع فيه من الأمور المنكرة، والأشياء المردودة، وخلط الحق بالباطل، لئلا يغتر بذلك بعض من يقف عليه ممن لا خبرة له بحقائق الدين، مع أن كثيراً مما فيه من الوهم والخطأ يعرفه خلق من المبتدئين بالعلم بأدنى تأمل، ولله الحمد. ولو نوقش مؤلف هذا الكتاب على جميع ما اشتمل عليه من الظلم والعدوان والخطأ والخبط والتخليط والغلو والتشنيع والتلبيس: لطال الخطاب، ولبلغ الجواب مجلدات، ولكن التنبيه على القليل مرشد إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم. والله المستعان. إلى أن قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ثم ختم الكتاب بجمع الألفاظ الواردة في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ذكر قبل ذلك بعدة أوراق كلاماً يشير به إلى التشنيع على شيخ الإسلام وهو قوله: "ولا شك أن من قال: لا يزار أو لا يسافر لزيارته، ولا يستغاث به بعيد من الأدب معه. نسأل الله العافية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 لم يحرم شيخ الإسلام ابن تيمية زيارة القبور على الوجه المشروع بل منع تعظيمها وشد الرحال إليها اتباعا للسنة ... وليعلم قبل الشروع في الكلام مع هذا المعترض: أن شيخ الإسلام لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه، ولم ينه عنها ولم يكرهها، بل استحبها، وحض عليها. ومناسكه ومصنفاته طافحة بذكر استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر القبور. ثم ذكر طرفاً من نصوص كلام شيخ الإسلام في مناسكه باستحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها. قال في آخره: هذا كلام الشيخ بحروفه وكذلك سائر كتبه، ذكر فيها استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم القبور وإنما تكلم على مسألة شد الرجال وإعمال المطي إلى مجرد زيارة القبور، وذكر في ذلك قولين للعلماء المتقدمين والمتأخرين: أحدهما: القول بإباحة ذلك، كما يقوله بعض أصحاب الشافعي وأحمد. الثاني: أنه منهى عنه، كما نص إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى. ولم ينقل عن الأئمة الثلاثة خلافه وإليه ذهب جماعة من أصحاب الشافعي وأحمد. هكذا ذكر الشيخ الخلاف في شد الرحل، وإعمال المطي إلى القبور، ولم يذكر في الزيارة الخالية عن شد رحل وإعمال مطي والسفر إلى زيارة القبور. ومسألة زيارتها من غير سفر مسألة أخرى. ومن خلط هذه المسألة بهذه المسألة وجعلهما مسألة واحدة، وحكم عليهما بحكم واحد، وأخذ في التشنيع على من فرق بينهما، وبالغ في التنفير عنه فقد حرم التوفيق، وحاد عن سواء الطريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 واحتج الشيخ لمن قال بمنع شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور بالحديث المشهور المتفق على صحته وثبوته، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى" هكذا أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما بصيغة الخبر "لا تشد الرحال" ومعنى الخبر في هذا معنى النهي، يبين ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشدوا الرحال إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى" هكذا رواه مسلم بصيغة النهي ورواه الإمام إسحاق بن راهويه في مسنده بصيغة الحصر: "إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: مسجد إبراهيم، ومسجد محمد، ومسجد بيت المقدس". وقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة النهي: "لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس" هذا هو الذي فعل الشيخ، حكى الخلاف في المسألة بين العلماء واحتج لأحد القولين بحديث متفق على صحته. فأي عتب عليه في ذلك؟ ولكن نعوذ بالله من الحسد والبغي، وإتباع الهوى. والله سبحانه المسؤول أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه، من العمل الصالح، والقول الجميل، فإنه يقول الحق وهو يهدي السبيل. انتهى المقصود من نقل ما أردنا نقله من مقدمة كتاب "الصارم المنكي في الرد على السبكي" لبيان طريقة هؤلاء الوثنيين وأئمتهم الضالين، وما يموهون به على الجهال من ذكر الأسماء مع تغيير الحقائق والادعاءات الكاذبة. وأما قول الملحد: "فلما قام محمد عبده إلى آخر ما قاله في حقه من الافتراء، مستنداً إليه أنه هو الذي طبع كتاب "الصارم المنكي في الرد على السبكي" وأنه بطبع هذا الكتاب أحيا هذه الضلالة" ويعني بهذه الضلالة: تحقيق التوحيد لله تعالى وحده لا شريك له، والرد على عباد القبور وأمثاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 فالجواب: أن طابع الكتاب المذكور هو الشيخ الجليل السيد عبد القادر التلمساني رحمه الله تعالى. أما الشيخ الإمام محمد عبده: فإن المعلوم عنه هو تحقيق التوحيد لرب العالمين وتجريد الأتباع لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فمضمون كتاب "الصارم المنكي في الرد على السبكي" مطبوع في قلب الإمام محمد عبده، وفي أعماله وأقواله التي حاز بها إمامة أهل السنّة في زمانه، رحمه الله تعالى، وأعلى مقامه في جنات النعيم بما قام به من نصر الحق وقمع الباطل وأهله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 كل من تصدى للرد على شيخ الإسلام كانوا من حثالة المقلدين ... وأما قول الملحد: "بأن الشيخ إبراهيم السمنودي قد انتصر للسبكي". فإنه انتصار مزعوم وبشهب الحق مرجوم، لأنه لم يستند في انتصاره إلى ركن وثيق من كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل إلى شبهات وضلالات قلد فيها السبكي: حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقاً، وكلٌّ كاسر مكسور فالسمنودي وأمثاله كلهم من حُثالة المقلدين، ومن الذين لا تقول بهم الحجة ولا يلتفت إلى ما قالوه لمخالفتهم الكتاب والسنّة في تحقيق توحيد الله الذي بعث به رسله في إخلاص العبادة له وحده لا شريك له، ولسلوكهم سبيل من حذر النبي صلى الله عليه وسلم سلوك سبيلهم ممن جعلوا مع الله آلهة أخرى. وأما ما نقله الملحد عن الشيخ خليل أحمد الهندي،: فما كان منه موافقاً في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية، مع سائر قبور المسلمين. فهذه الزيارة مما هو متفق عليه عند جميع أهل السنّة، وأما ما خالف الزيارة الشرعية التي علمها الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ومضى عليها الصدر الأول من الصحابة والتابعين ومن تبعهم فمردود على من جاء به، لمخالفته لنصوص الكتاب والسنّة. وكذلك ما نقله الملحد عن النبهاني فيما ذكره في كتابه "الفضائل المحمدية" عن السبكي وابن حجر المكي: أنهما ألفاً كتباً مستقلة في فضل زيارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الرسول عليه الصلاة والسلام. فهذه الزيارة الشرعية- كما قدمنا- ليس فيها ولا في فضلها خلاف. وقد مضت عليها القرون المفضلة، عاملين فيها بسنّة نبيهم عليه الصلاة والسلام حتى جاء السبكي وابن حجر المكي الهيثمي ومن قلدوهم، فجعلوا القبور مساجد، وصرفوا لها ولأهلها مخ العبادة من دون الله تعالى، وسموها زيارة القبور. وما ذكروه من الأحاديث فإنه دائر بين الضعيف والموضوع وقد تكلم عليها لحافظ ابن عبد الهادي في كتابه "الصارم المنكي" وذكر أقوال علماء الحديث في أسانيدها حال رواتها وأنها لا تصلح لمعارضة نصوص الكتاب والسنّة. وما نقله الملحد عن الإمام النووي والقاضي عياض والغزالي: فإنه في الزيارة الشرعية التي لا خلاف فيها، وإنما هو يريد المغالطة بذكر أسماء هؤلاء الأئمة الذين هو ألد أعدائهم. قال الملحد: "وذكر الشيخ الزرقاني في شرح المواهب إجماع السادة المالكية على وجوب زيارة القبر الشريف، وأقام النكير على ابن تيمية وأتباعه الذين اتهموا الإمام مالك بالمنع". والجواب: أن هذا الملحد لا تأخذه لومة لائم في الكذب على أئمة المسلمين وتغيير كلامهم عن مواضعه. وقد تكرر منه هذا العمل، متعمداً متبعاً لهواه {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص، الآية:50] وقد نبهنا عليه فيما تقدم. والآن نورد كلام الشيخ الزرقاني بالحرف الواحد من كتابه "شرح المواهب" لفضيحة هذا الملحد المفتري: قال الشيخ الزرقاني رحمه الله تعالى "ج8، ص297" من شرح المواهب: وقد أطلق بعض المالكية- وهو أبو عمران موسى بن عيسى الفقيه الفاسي- إنها، أي الزيارة واجبة. قال: ولعله أراد وجوب السنن والمؤكد طلبها بحيث شبهت بالواجب، وقد صرح الجمال الإقفهسي في شرح الرسالة بأنها سنّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 مؤكدة، وقال القاضي عياض في الشفاء: إنها سنّة من سنن المسلمين، مجمع عليها، أي على كونها سنّة مأثورة، وفضيلة مرغب فيها. انتهى. وقال في صحيفة "298" من الجزء المذكور، ولابن عدي في الكامل وابن وآخرين، كلهم عنابن عمر مرفوعاً: "من حج ولم يزرني فقد جفاني" ولا يصح إسناده. وعلى تقدير ثبوته فليتأمل قوله "فقد جفاني" فإنه ظاهر في حرمة ترك الزيارة لأن الجفاء بالمد ويقصر، نقيض الصلة: أذى، والأذى حرام بالإجماع. فتجب الزيارة إذ إزالة الجفاء واجبة وهي- أي إزالة الجفاء- بالزيارة، فالزيارة حينئذ واجبة ولا قائل به إلا الظاهرية، انتهى. فأين هذا مما يزعمه الكذاب الحاج مختار على السادة المالكية؟ جزاه الله بما جزى به الكاذبين أمثاله. قال المعترض الأحمق: "قلت: إن من لم يجاور في المدينة مدة ما، أو يأتيها في الموسم لا يعرف من أحوالها والمعجزات الظاهرة فيها شيئاً، أما وفود الزوار فلو جاء أعداء الله ورسوله إلى المدينة المنورة في شهر محرم، حينما يأتي الزوار القافلون من الحج، ورأوا مئات ألوف من مسلمي أقطار الأرض يطوفون حول الحجرة الطاهرة في الصباح، وبعد العصر وكل منهم ينادي بلغته، ويتوسل بلسانه متوسلاً بصاحب الشفاعة لائذاً بحماه، وسمعوا عجيجهم وثجيجهم، وبكاءهم ونحيبهم، لعميت عيونهم، وانفطرت قلوبهم، وانشقت أفئدتهم. وقال العاقل منهم: كل هؤلاء الناس على ضلال ونحن على هدى؟ إن هذا محال، وهزؤ لا تتصوره عقول العقلاء". أقول: يزعم هذا الملحد المارق بأننا أعداء لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وما ذنبناعنده إلا إتّباعنا لكتاب الله تعالى وسنّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وهو أننا لا نغلو بالقبر وأصحابها ولا نصرف للمقبورين حقاً من حقول الله تعالى، ولا نتخذها مساجد، ممتثلين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم فيما جاءتنا به الأحاديث الصحيحة الصريحة، التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 خرَّجها البخاري ومسلم وأهل السنن والإمام مالك رحمهم الله تعالى، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وحديث ابن مسعود رضي الله عنه: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذي يتخذون القبور مساجد" وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وحديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل. فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". وحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "لما نُزِل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفِقَ يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغْتَمَّ بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالت عائشة رضي الله عنها: يُحذِّر ما صنعوا، ولولا ذلك لأُبرز قبره. ولكن خَشِي أن يتخذ مسجداً". وفي رواية لمسلم: "وصالحيهم" ومع هذه النصوص التي لا تقبل المغالطة، فقد بلغ الغلو بهذا الملحد مبلغاً من الشرك لم يصل إليه إلا عبدة الأصنام. يقول عنا: "إننا لو جئنا إلى المدينة المنورة في شهر محرم حينما يأتي الزوار القافلون من الحد ورأينا ما يفعله مئات ألوف الحجاج من مسلمي كافة الأقطار حول حجرة الرسول الطاهرة ومن الطواف والتوسل واللواذ بحماه، ونسمع عجيجهم وثجيجهم وبكاءهم ونحيبهم، لعميت عيوننا وانفطرت قلوبنا، وانشقت أفئدتنا- إلى آخر ما ذكره". ونحن نجيب هذا المارق: بأنه قد يصيبنا أكثر مما ذكره إذا رأينا وسمعنا ما يقوله عنهم مم يغضب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وذلك أسفاً منا على المسلمين الذي بدلوا الهدى ضلالاً، والوحيد شركاً، وطاعة الرسول ومشاقة. وكيف لا ينفطر قلب كل مسلم يرى تغيير معالم الدين، ويسمع الشرك برب العالمين في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 مهبط وحيه، وفي حرم نبيه صلى الله عليه وسلم وفي جوار قبره الشريف؟ فهل فرض الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الطواف بغير الكعبة؟ وهل فعل ذلك الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان من القرون المفضلة؟ وهل كان العجيج والثجيج والبكاء والنحيب إلا لله وحده لا شريك له في مناجاته في الخلوات، وفي بيته الحرام ومشاعر الحج التي جعلها الله قياماً للناس وأمناً، ويؤدون فيها مناسكهم بين العجيج والثجيج والبكاء والنحيب، لا يذكرون غير الله تعالى، ولا يتوسلون إليه إلا بالأعمال الصالحة عائذين بجلاله تعالى، لائذين بحماه الذي لا يرام {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة، الآية:186] ، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل، الآية:62] هذا هو خالص العبادة لله تعالى، بل مخها، صرفه عباد القبور لو لائجهم الموتى من دون الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة، الآية:5] ، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة، الآية:59] وما سبب ذلك إلا الغلو بالصالحين، ومجاوزة الحد الذي شرعه الله تعالى من حقوق أنبيائه وأوليائه. قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة، الآية:77] وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح، الآية:23] "هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح لما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا لهم أنصاباً، وصوروا تماثيلهم. فلما مات أولئك ونسي العلم: عبدت". وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله" وقال صلى الله عليه وسلم لمن قال له: "ما شاء الله وشئت": "أجعلتني لله نداً؟ قل: ما شاء الله وحده". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وأما استدلال الملحد بالكثرة: فجوابه قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام، الآية:116] . وأما باقي كلام هذا الأحمق: فليس له قيمة، وليس هو من موضوعنا في شيء. إلى أن قال: "وجماع القول في هذه المسألة التي وقع إجماع المسلمين من أهل السنّة والشيعة على فضلها ووجوبها: هي من جملة الأمور التي خرق الوهابيون وإخوانهم الإجماع بحظرها وإنكارها، ومرقوا بهذا الخرق من الإجماع، وخلعوا ربقة الإسلام من عنقهم، والعياذ بالله تعالى". أقول: إن أراد الملحد بهذه المسألة: زيارة القبور الشرعية، فقد كذب علينا، بل ي عندنا سنّة مؤكدة كما أشرنا إلى ذلك في مواضع كثيرة من ردنا هذا. ولم مخالف بحمد الله إجماع المسلمين في زيارة القبور الشرعية. وإن أراد الملحد بالمسألة التي ادعى إجماع المسلمين والشيعة على فضلها ووجوبها: ما عليه الشيعة اليوم من الغلو بالقبور وأهلها، وعبادتهم إياها من دون الله تعالى ومن سل سبيلهم ممن يدعون الإسلام، وأنهم من أهل السنّة، فهؤلاء ليسوا من أهل السنّة، بل هم من عبدة الأوثان. فالوهابيون بريئون منهم جميعاً. ومن إجماعهم، وينكرون ما هم عليه من عبادة الأصنام، وإن سموها بما شاؤوا من الأسماء التي سماها بها أسلافهم من المشركين فهذا هو الشرك بالله تعالى، وهو خرق إجماع المسلمين وصاحبه قد خلع ربقة الإسلام من عنقه حقيقة، لا كما يدعيه هذا المارق على حزب الله تعال وحزم رسوله الموحدين أهل السنّة والجماعة. ثم قال المعترض: "فصل. وأما زيارة سائر القبور من المسلمين ففي إباحتها أحاديث كثيرة بأسانيد صحيحة، فمنها: ما رواه إمامنا مالك رحمه الله في باب جامع الوضوء من موطئه عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة. فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 إن شاء الله بكم لاحقون. إلى آخر الحديث" وهذا الحديث رواه مسلم والقاضي عياض والنووي وغيرهم. وروى الإمام أيضاً فيه عن سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهيتكم عن لحوم الأضاحي، فكلوا وتصدقوا وادخروا. ونهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام. ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة ولا تقولوا سوءاً" انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 زيارة القبور الشرعية ليست مباحة فقط، بل هي سنة مؤكدة ... أقول: إن زيارة قبور المسلمين ليست مباحة فقط، كما فهم الغبي الأحمق، بل هي سنّة مؤكدة فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها، كما هو صريح في هذين الحديثين. ولم يرد في ذلك تخصيص لقبر نبي أو ولي. وكل ما روي في ذلك لا نصيب له من الصحة باتفاق أئمة المسلمين المعول على اتفاقهم. وقد أورد الملحد هذين الحديثين- مع أنهما حجة عليه- لما فيهما من البيان الواضح عن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره. وذلك في تحديد زيارة القبور الشرعية، والنهي عن الغلو فيها، وعن قول السوء، ومع ذلك كله فالملحد مخالف لكل ما جاء فيهما من أمر أو نهي من صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام. فهو كالحمار يحمل أسفاراً ل يدري ما يقول، ولو أنه فهم أن ما جاء فيهما هادم لكل ما يتعلق به عباد القبور أمثاله من الشُّبه والضلالات لنكص على عقبه عن إيرادهما. فأي سوء أسوأ وزور أقبح من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحادته عن الإعلان بأن مئات الألوف من المسلمين الوافدين من أقطار الأرض يطوفون حول قبر الرسول، ويلوذون بحماه، ويصرخون بدعائه والاستغاثة به في حوائجهم الدنيوية والأخروية؟ هل هناك أسوأ وأقبح من هذا؟ فضلاً عما يصنعونه بقبور موتاهم الآخرين من الشرك في عبادة الله تعالى، وهو دعاء الأموات، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات ونذر النذور، وتقريب القرابين لهم في حضرتهم، خاضعين متذللين لهم، راجين رضاهم قبل رضاء رب العالمين، مسمين أعمالهم هذه بزيارة القبور، وتعظيم أهلها ليرضوا عنهم، فيرفعون حاجاتهم إلى الله تعالى قائلين كما أسلافهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر، الآية:3] ، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس، الآية:18] هذا ما يلبس به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 السبكي وابن حجر المكي ومقلدوهم، أمثال دحلان والنبهاني ومقلدهم الملحد مختار العظمي. فهؤلاء الوثنيون يتعلقون بالأسماء ويغيرون الحقائق من نصوص الكتاب والسنّة، ويحرفونها عن مواضعها، ويعارضونها بالأحاديث الموضوعة والضعيفة، محتجين بها على فتح أبواب شركهم وضلالهم الذي أضلوا به كثيراً من جهلة هذه الأمة، مقتفين في ذلك أثر من حذرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم عن سلوك سبيلهم. وذلك فيما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة في لعن متخذي القبور مساجد، لأنه من الغلو الذي نهى الله تعالى عنه وهو أصل عبادة الأصنام. ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه: "ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً" فهؤلاء المبتدعة أئمة الضلال- من ذكرناهم آنفاً- يتعمدون الكذب وتحريف الكلم عن مواضعه، إتباعاً لهوائهم، ويلبسون الحق بالباطل على الجهال. وهذه هي بضاعتهم الضالة الخاسرة التي هي تحليل الشرك في عبادة الله تعالى، وتسميته بزيارة القبور وهذا الملحد يستدل هنا على إباحة زيارة القبور بالأحاديث الشريفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيها: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة، ولا تقولوا سوءاً" لكن هذا الملحد يستدل بها على إباحة زيارة القبور فقط، أما ما دلت عليه ودعت إليه من معنى الزيارة والقصد منها، وما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه: فإن هذا الملحد لم يرفع به رأساً، ولم يلتفت إليه، بل صد عنه وصادم أمر النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد أعمى الشيطان أولياءه من الجاهليين وأصمهم عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وتذكر الآخرة" فمروا عليها مر اللئام، ولم يحاولوا أن يفهموا ما أراده منها الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن معناها البين: أن الزيارة المشروعة التي أبيحت بعد الحظر: إنما هي للقبور الدارسة التي تذكر بالدار الآخرة. أما القبور المشيدة المعظمة ببناء القباب والمساجد عليها والتي يطاف بها، ويدعي أصحابها مع الله فلا يزال النهي منصباً عليها. كما حقق ذلك الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان في كلامه على الزيارة الشرعية والبدعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ليس قصد التبرك من زيارة القبور إلا على دين المشركين الأولين ... وقد قال الملحد في الصحيفة الثانية بعدها: "وإن سمعت من عامي كلاماً يفهم منه اعتقاد التأثير، فما هو إلا من عجزه عن التعبير الشرعي. لكن قلبه غير زائغ وإن رأيته يقبِّل الأعتاب والأبواب والجدران فليس عن اعتقاد شيء بها، كما يعتقده عبدة الأوثان بل لا قصد له إلا التبرك بها". فهل غاب عن هذا الملحد: أن هذا التبرك هو ما أراده المشركون الأولون حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر، الآية:3] {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس، الآية:18] بل أين هذا التبرك مما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. فيما رواه الترمذي عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حُدَثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم: والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون. لتتبعن سنن من كان قبلكم" فهل طلب الصحابة رضي الله عنهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم إلهاً كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يجعل لهم إلهاً، أم طلبوا أن يجعل لهم شجرة يتبركون بها، ويستظلون وينوطون بها أسلحتهم كما هي للمشركين؟ ثم انظر إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد جمع بين الطلبين، وجعلهما متحدذين في المبنى والمعنى، وأقسم على ذلك بأعز قسم وأعظم وأخلصه، بأنَّ طلبهم هذا كطلب بني إسرائيل من موسى. فهل يشك من يعقل عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في أن ما يعمله غلاة القبوريين اليوم عندها: أنه هو الشرك الذي هو كفر الله به المشركين، ولعنهم عليه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وإن اختلفت عباراتهم، كما يزعمون. فقد اتفقت أعمالهم فالأصل يجمعهم، والوعيد يشملهم والله تعالى يحاسبهم بما اتفقوا عليه من ظاهر أعمالهم وباطنها قولاً وعملاً، وسبباً موصلاً إلى ما أقسم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الأسماء لا تغير الحقائق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 خلط الملحد بين التوسل والاستشفاع والاستغفار ... قال الملحد: "البحث الثالث في التوسل والاستشفاع والاستغفار: كلها ألفاظ مختلفة معناها واحد عند العلماء. لكن لما كان يتطرق لفهم العوام التوسل ما لا يتطرق لفهمه من الاستغفار والاستشفاع. فذكرته في بحث على حدة. وبالله أستعين". والجواب: أن قول الملحد بأن التوسل والاستشفاع والاستغفار ألفاظ مختلفة، معناها واحد عند العلماء قول مبني على مذهب علمائه الذين قلدهم أر دينه. أمثال دحلان والنبهاني، ممن أشركوا المخلوق في خالص حق الخالق في عبادته التي لا يجوز صرف شيء منها لغير الله تعالى. مما هو معلوم من أعمال عباد القبور من دعاء أهلها وخوفهم ورجائهم، ونذر النذور لهم، وسفك دماء الذبائح والقرابين لهم، سائلينهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، إلى غير ذلك من أنواع العبادات ويسمونها زيارة القبور، والتوسل، والوسيلة، والتشفع، والشفاعة، والاستغفار. ويقولون: إن هذه كلها ألفاظ مختلفة. معناها واحد، وطلبها من الأموات والغائبين جائز ومن أنكرها فقد خرق إجماع المسلمين وتنقص الرسل والصالحين، وأنكر كراماتهم، وهكذا يغالط هؤلاء الوثنيون بالأسماء مع تغيير الحقائق. انظر إلى خرط هذا الملحد وتخليطه، ومخرقته التي تدل على عدم توفيقه لتعمده سلوك غير سبيل المؤمنين. يقول الملحد: "إذا نظرت بعين البصيرة رأيت التوسل بمعنييه- اللغوي والمصطلح- ناموس جعله الله في الكون لصالح الإنسان في أمر حياته ومعاشه في الدنيا. لا يستغنى عنه إلا من عصمهم الله، والشرع ما أنكره، كما أنكره هؤلاء الحمقى، مع تلبسهم فيه، وعدم استغنائهم عنه، ولا حسبه شركاً. كما حسبوه، بل أباحه. لكن المنكر منه اعتقاد التأثير من غير الله وهو الشرك الخفي. ومع أنك ترى أكثر الناس واقعين في هذا الشرك الخفي، سيما المعتقدون خلق الأفعال، ومنهم من يعتقد يقيناً أن الإنسان يضر وينفع، كما يعتقد بتأثير الأعراض. كالعَدْوَى والأدوية وأمثالها. لكنك لا تجد مؤمناً يعتقد بالرسول عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الصلاة والسلام هكذا اعتقاداً، بل غاية اعتقاده: التوسل بجاهه، مع التفويض لله تعالى. وإن سمعت من عامي كلاماً يفهم منه اعتقاد التأثير، فما هو إلا عن عجزه عن التعبير الشرعي، لكن قلبه غير زائغ. وإن رأيته يقبِّل الأعتاب، والأبواب والجدران فليس عن اعتقاد شيء بها، كما يعتقده عبدة الأوثان، فهذا اعتقاد لا يتطرق لقلب مسلم، بل لا قصد له إلا التبرك بها. ألا ترى مراسم المعايدة عند خلفاء آل عثمان بتقبيل السجق المعلق على طرق السدة الجالس فيها السلطان، فما معنى هذا؟ معناه: تقبيل يد الخليفة، فهل فيه شبهة شرك، أو كفر؟ حاشا وألف حاشا، وخلفاؤنا أنزه وأجل من الرضا بشيء فيه شبهة دينية". هذا بعض مما يقوله الملحد مختار العظمي من النفاق الوضيع، والكفر الشنيع. فما كفاه تحليل الشرك الأكبر في عبادة الله تعالى، وتسميته بالشرك الخفي، ولا ما افتراه على الشرع الشريف بأنه لم ينكر الشرك في عبادة الله تعالى، بل أباحه وما كفته مخرقته فيما يقوله في خلق أفعال العباد والعدوى والأدوية من قلب أوضاع الشريعة، بل أبا دعاء الأموات، وتقبيل أعتابهم وأبوابه وجدرانهم. ويقول: إن هذا ليس عن اعتقاد شيء بها، كما يعتقده عبدة الأوثان وما كفاه هذا الفجور وقول الزور حتى شبه الخالق جل جلاله بسلاطين آل عثمان: تعالى لله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. فكلام هذا الملحد من أوله إلى آخره كلام باطل متناقض، مبني على مذهب عباد القبور، الذي بنوا مذاهبهم على المغالطة في ذكر الأسماء مع تغيير الحقائق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 جعله التوسل إلى الله كالتوسل إلى السلاطين ... فأما قول الملحد: "إذا نظرت بعين البصيرة، رأيت التوسل بمعنييه اللغوي والمصطلح، ناموس جعله الله في الكون لصالح الإنسان في أمره حياته ومعاشه في الدنيا، لا يستغنى عنه إلا عصمهم الله". فجوابنا عنه: أن الناظر بعين البصيرة يرى أن كلام هذا الملحد كلام ساقط، لا يستند إلى لغة، ولا إلى اصطلاح صحيح، وإنما هو محض الجهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 والتظليل، مع الافتراء على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذا الملحد المخترع لهاذ الناموس لا يعرف لغة ولا اصطلاحاً ولا ناموساً، غلا ما يتصوره من خيالاته الضالة الشيطانية، وأعمال الجهلة الوثنيين الضالين فإن الله تعالى لم يجعل التوسل والوسيلة ناموساً لدعاء الأموات، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربان. بل أمر بابتغاء الوسيلة إليه وحده، وهي التي أجمع المفسرون وأهل اللغة على أنها القربة إليه تعالى بالأعمال الصالحة الخالصة لوجهه الكريم، مع إتّباع رسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به من عند الله تعالى. وقد قال صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة عنه: "سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجوا أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حَلَّت عليه شفاعتي يوم القيامة" وأما لفظ "التوسل" في اللغة: فهو التقرب، والوسيلة ما يتقرب به إلى الشيء، ولم يجعل الشرع للتوسل حقيقة غير حقيقته اللغوية. فصرفها إلى دعاء الأموات، وجعلهم وسيلة بين الله وبين عباده، يُدعَون ويرجون من دون الله تعالى جهل وضلال، ما أنزل الله به من سلطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 كذبه على الله بأن الشرع أباح التوسل ... فقول هذا الملحد "والشرع ما أنكره بل أباحه" ويعني به: توسل عباد القبور الذي هو دعاء الأموات من دون الله تعالى: قول مكابر لا يخشى في الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم لومة لائم. فقد جهل هذا الملحد أو تجاهل أن ما أرسل الله تعالى به رسله من أولهم إلى آخرهم، إنما هو الدعوة إلى عبادته تعالى وحده، حيث يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية:25] و"العبادة" اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال. فالدعاء: عبادة، بل مخ العبادة: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر، الآية:60] كما أن العكوف حول القبور، وتقبيل الأبواب، والأعتاب، والجدران والنذر لساكنيها عبادة، وتقريب القرابين لهم عبادة، واعتقاد النفع والضر منهم وفيهم عبادة. وغيرها كثير من أعمال عباد القبور التي صرفوها لولائجهم من دون الله تعالى كلها عبادة، وإن سموها بما شاؤوا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 الأسماء التي منها التوسل والوسيلة، متعلقين بالأسماء، مع قبل الحقائق لتضليل الجهلة {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام، الآية:132] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 فصل من كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" ... وقد كتب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" ننقل منها ما يلزم نقله لموضوعنا هذا. قال رحمه الله تعالى ورضي عنه: (فصل) إذا عرف هذا: فقد تبين أن لفظ "الوسيلة" والتوسل فيه إجمال واشتباه، يجب أن تعرف معانيه، ويعطي كل ذي حق حقه، فيعرف ما ورد به الكتاب والسنّة من ذلك ومعناه. وما كان يتكلم به الصحابة رضي الله عنهم ويفعلونه ومعنى ذلك. ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه. فإن كثيراً من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فضل الخطاب. فلفظ "الوسيلة" مذكور في القرآن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} {المائدة، الآية:35] وفي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء، الآيتان:56-57] فالوسيلة التي أمر الله بها. أن تبتغي إليه وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات. فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها، تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً. فالواجب والمستحب هو ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأمر به أمر إيجاب، أو استحباب. وأصل ذلك: الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه بإتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك. والثاني لفظ "الوسيلة" في الأحاديث الصحيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله لي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حَلَّت عليه شفاعتي يوم القيامة" وقوله: "من قال حين سمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة والقائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت عليه الشفاعة" فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة وأخبرنا أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله، وهو يرجوا أن يكون ذلك العبد وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول صلى الله عليه وسلم وأخبرنا أن من سأل له الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة لأن الجزاء من جنس العمل. فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم فإن الشفاعة نوع من الدعاء، كما قال: "إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً". وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة رضي الله عنهم: فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته، والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به، والسؤال به، كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يٌعتقد فيه الصلاح. وحينئذ فلفظ: "التوسل" يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين. ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنّة، فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء: فأحدهما: هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته. والثاني: دعاؤه وشفاعته، كما تقدم. فهذان جائزان بإجماع المسلمين. ومن هذه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا. وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" أي بدعائه وشفاعته. وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة، الآية:35] أي القربة إليه بطاعته، وطاعة رسوله. قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء، الآية:80] فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وأما التوسل بدعائه وشفاعته، كما قال عمر: فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به بعد موته إلى التوسل بعمه العباس. ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس. فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته صلى الله عليه وسلم، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له. فإنه مشروع دائماً فلفظ "التوسل" يراد به ثلاثة معان: أحدها: التوسل بطاعته، فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به. والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياته، ويكون يوم القيامة، يتوسلون بشفاعته. والثالث: التوسل بمعنى الإقسام على الله بذاته، والسؤال بذاته: فهذا هو الذي لم تكن الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته ولا بعد مماته عليه الصلاة السلام، لا عند قبره ولا قبر غيره. ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل بشيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة، أو عمن ليس قوله حجة كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى. وهذا هو الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه: أنه لا يجوز ونهوا عنه حيث قالوا: لا يسأل الله بمخلوق، ولا يقول أحد أسألك بحق أنبيائك، قاله أبو الحسن القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي في باب الكراهة. وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة. قال بشر بن الوليد: حدثنا أبو يوسف، قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقاً. انتهى المقصود منه. وبما أوردناه من تحقيق معنى "الوسيلة والتوسل" الوارد ذكرهما في كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم لطالب الحق، وبيان لبطلان كل ما يتعلق به دعاة الوثنية ويغالطون به من ذكر الأسماء مع تغيير الحقائق، وكشف لضلال هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الملحد المخلط المتناقض فكيف تحمد العصمة من ناموسه هذا وهو الذي ألبسه خيري الدنيا والآخرة؟ {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر، الآية:31] . وأما قول الملحد: "فانظر ما أقبح تناقض الوهابيين وإخوانهم، فمن جهة تراهم يعتقدون تأثير الأعراض ومن جهة يمنعون التوسل بالأنبياء". والجواب: أن الوهابيين متمسكون بكتاب ربهم وسنّة نبيّهم صلى الله عليه وسلم ومن تمسك بهما عصمه الله تعالى عن التناقض. فأما المتناقضون: فهم الذين يتلاعبون في دين الله تعالى بأهوائهم، محرفين لكتاب الله تعالى وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم أمثال هذا الملحد ومن قلدهم دينه من دعاة الوثنية، الذين جعلوا القبور مساجد، وأشركوا أهلها مع الله تعالى في خالص عبادته، بدعائهم وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات. ويسمون شركهم بهؤلاء الأموات مع الله تعالى توسلاً واستغفاراً وتشفعاً، وغيرها من الأسماء التي هي قلب للحقائق وتحريف للكلم عن مواضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 افتراء الملحد بأن الوهابيين يعتقدون تأثير الأعراض ... فأما قول الملحد مفترياً علينا: "بأننا نعتقد بتأثير الأعراض" فهذا من ضمن أكاذيبه علينا فنحن لا نعتقد بتأثير من الأعراض، إلا ما جعله الله تعالى سبباً فيها لصالح عباده، مما أرشدنا إليه نبينا صلى الله عليه وسلم، مع اعتقادنا بأن النفع والضر كله بيد الله تعالى، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن فلا نطلب إلا منه ولا نرجو أحداً سواه، ولا نتوسل إليه إلا بالأعمال الصالحة من الإيمان به تعالى وبكتبه ورسله، مع تجريدنا الإتباع لنبينا صلى الله عليه وسلم في كل ما جاءنا به من عند الله تبارك وتعالى. فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أنزل الله داء إلى أنزل له شفاء" وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برأ بإذن الله" وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن أسامة بن شريك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله" وفي لفظ: "لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 يضع داء إلا وضع له شفاء- أو دواء- إلا داءً واحداً. قالوا: يا رسول الله ما هو؟ قال: الهرم". قال الترمذي: حديث صحيح. وأما قوله: "ذكرتُ قبلاً قول الوهابيين بتكفير من يتوسل بالرسول عليه الصلاة والسلام وغيره واستدلالهم الباطل، فلا حاجة لإعادته، وكل ذي بصير يعلم أن هذا الاستدلال تحريف للفظ والمعنى. فالله تعالى سمى عمل أولئك عبادة، ما سماه توسلاً، ولا استغفاراً، ولا اشتراكاً في اللغة، ولا ترادف بين اللفظين. فتبديل حقائق كلام الله وتحريفه كفر محض، وتحريف منكر، أولئك كانوا يعبدون تلك الأشياء عبادة حقيقية، ويسمونها آلهة تسمية حقيقية، ويتقربون إليها بجميع أنواع العبادة، ويذكرون أسماءها على ذبائحهم، دون اسم الله تعالى ويعتقدون أن النفع والضر والخير والشر بيد تلك الآلهة وبأمرهم". والجواب: أن الوهابيين لا يكفرون بمجرد التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم وغيره، وإنما يكفرون يدعون الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات ويسألونهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات وغيرها من أنواع العبادات التي لا يقدر على إجابتها إلا فاطر الأرض والسموات. ويسمون أعمالهم هذه: توسلاً واستغفاراً وتشفعاً وغيرها من الأسماء التي يموهون بها على جهلة المسلمين. فأما التوسل الذي ليس فيه ما ينافي توحيد الله تعالى في ربوبيته وإلهيته، وإنما فيه الإقسام على الله تعالى بأحد من خلقه: فإن الوهابيين لا يكفرون به، بل هو عندهم حرام، كما يقول به جمهور العلماء المقتدى بهم. فالوهابيون يستدلون عن بطلان أعمال هؤلاء الوثنيين بنصوص الكتاب والسنّة التي لا تقبل تحريفاً ولا تأويلاً، متبعين في ذلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 جهله بأن الدعاء هو العبادة ... فقول الملحد: "وكل ذي بصيرة يعلم أن هذا الاستدلال تحريف للفظ والمعنى، فإن الله تعالى سمى عمل أولئك عبادة، ما سماه توسلاً ولا استغفاراً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ولا اشتراك في اللغة، ولا ترادف بين اللفظين، فتبديل حقائق كلام الله وتحريفه كفر محض وتحريف منكر". جوابنا عنه: أنه قول جاهل غبي مغالط، في ذكر الأسماء مع جهله بالحقائق التي لا تخفى إلا على أعمى البصر والبصيرة أمثاله. فإن هذا الملحد لا يعرف معنى ما يقوله من الاشتراك في اللغة. ولا ترادف الألفاظ فيها، ولا شيئاً من تصريف ألفاظها، بل هو أجنبي عنها. لذلك جهل أن الله تعالى سمى الدعاء عبادة في كتابه العزيز، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى الدعاء "عبادة" بل سماه "مخ العبادة" كما جهل اتفاق أئمة أهل الكتاب والسنّة على أن "العبادة" اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر، الآية:60] ويقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة، الآية:186] وعن النعمان بن يشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة". وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء مخ العبادة" فإن كان هذا الملحد قد جهل هذه النصوص التي هي في كتاب الله تعالى، وفي سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه أئمة أهل الكتاب والسنّة في مسمى "العبادة" فقد ثبت أنه من الصم والبكم والذين لا يعقلون، وإن كان علم بهذه النصوص وتعمد تحريفها وتبديلها، منكراً ما دلت عليه مثل "العبادة" فقد حكم على نفسه بالكفر المحض، والتحريف المنكر بإقراره هذا الذي أثبته على من بدل كلام الله تعالى وحرفه. فقد اضطلع هذا الملحد بهذا التبديل والتحريف الظاهر الذي لا يجد عنه مفراً، وليس له منه مخرج وهكذا الهوى يعمي ويصم. كما أن الجهل المركب والتقليد الأعمى يقودان صاحبهما إلى الخذلان والضلال عن الهدى. نعوذ بالله من ذلك. وأما قول الملحد: "أولئك كانوا يعبدون تلك الأشياء عبادة حقيقية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 ويسمونها آلهة حقيقية، ويتقربون إليها بجميع أنواع العبادة، ويذكرون أسماءها على ذبائحهم دون اسم الله، ويعتقدون أن النفع والضر والخير والشر بيد تكل الآلهة وبأمرهم". فالجواب: أن هذه الملحد يعني بقوله أولئك المشركين الأولين، يقول عنهم: إنهم كانوا يعبدون تلك الأصنام لذاتها ولا يذكرون لهم إلهاً غيرها، صارفين لها جميع أنواع العبادة بأسمائها، لا يذكرون اسم الله تعالى- إلى آخر كلامه الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه- وليس الحق بالباطل، والمدافعة عن أعمال عباد الأوثان باسم القبور من هذه الأمة الذي سلكوا سبيل من قبلهم من المشركين الأولين، يقول عنهم هذا الملحد: "إنهم لا يسمون من يدعونهم من الأموات أصناماً كما يسميهم المشركون قبلهم، بل هم أولياء مقربون عند الله ولهم عنده كرامات فهم لهم وسيلة وشفعاء، ووسطاء بينهم وبين الله تعالى". وما إلى هذه الأسماء التي يصرفون لهم فيها مخ العبادة من دون الله تعالى من الدعاء وسفك الدماء، ونذر النذور وغيرها من الأعمال التي لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، بل أشركوهم مع الله تعالى في توحيد ربوبيته، زاعمين أنهم يعلمون الغيب ويتصرفون في الكون، وغير ذلك من العقائد التي فاقوا بها على شرك المشركين عباد الأصنام، وهذا كتاب الله تعالى يخبر عن المشركين عباد الأصنام: أنهم كانوا يقرون لله تعالى بأنه ربهم، وخالقهم ورازقهم، وأن الأرض وما فيها له وحده، وأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم، وأن بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وأنهم ما عبدوا مَن عبدوا من تلك الأصنام إلا ليقربوهم إلى الله زلفى. ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس، الآية:18] كما أخبر بذلك عنهم أصدق القائلين في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر، الآية:3] ويقول تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس، الآية:18] ويقول تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس، الآيتان:31-32] ، يقول تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون، الآية:84-89] ويقول تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان، الآية:32] إلى غير هذه الآيات التي جهلها هذا الملحد أو تجاهلها، وتعمد إلى جحدها محرفاً لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لتضليل الجهلة عن سلوك صراط الله المستقيم. وأما قول الملحد: "فإذا علمت هذا وفهمت كيف دخلوا بالتحريف والمغالطة على العوام، فاعلم أن علماءنا ما قالوا1 بجواز التوسل بالأنبياء والأولياء، وندبوا إليه من تلقاء أنفسهم، حاشاهم من ذلك وهم أمناء الدين، وخلفاء الرسل، بل أخذوه من كلام الله تعالى وكلام رسول أمراً وفعلاً، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وماذا عليهم إذا لم تفهم وعول نجد، وجواميس مصر وبقر الشام مقاصدهم ومآخذ أقوالهم؟ ". والجواب: أن كل مطلع على كلام هذا الملحد ممن أعطاهم الله علماً نافعاً، ونوراً يفرقون بهما بين الحق والباطل: يعلمون علم اليقين أن هذا الملحد ممن ضل عن سلوك صراط الله المستقيم، فهو غارق في ظلمات جهله وضلاله، وأنه من المحرفين لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم جهاراً، لا يخشى في ذلك حسيباً في الدنيا، ولا محاسباً في الآخرة. فقد سمى سادته وكبراءه- دحلان   (1) هكذا أثبتها الملحد بالواو والرفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 والنبهاني ومن سلك سبيلهم- أمناء الدين، وخلفاء الرسل، مع أنهم قد اشتهروا بعمل كل قبيح من الأعمال، وبكل فجور من الأقوال، معارضين بهما كتاب الله وسنّة نبيّه، وناسبين إلى علماء أهل السنّة من الأقوال ما لم يقولوه، ومحرفين لكلامهم عن مواضعه. وهذا الملحد يقول: إن مضلليه- دحلان والنبهاني- ما قالوا بجواز التوسل، الذي هو دعاء الأموات من الأنبياء والأولياء، وندبوا إليه من تلقاء أنفسهم، حاشاهم من ذلك، بل أخذوه من كلام الله تعالى وكلام رسوله أمراً وفعلاً. وهذا الكلام من هذا الملحد هو عين الكذب والافتراء على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فأين من كلام الله تعالى أيها الملحد؟ وأين من كلام رسوله الأمر بدعاء الأموات، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وطلب رحمتهم لغفران الذنوب دون رحمة الله أرحم الراحمين؟ فمن هو من الصحابة أيها الملحد دعا ميتاً أو غائباً، أو توسل به لجلب نفع أو دفع ضر، أو جعله واسطة بينه وبين الله تعالى؟ ومن هو من الصحابة جعل القبور مساجد؟ بل أين من التابعين وتابع التابعين والأئمة الأربعة: من قال بقول سادتك ومضليك أيها الملحد؟ فاقصر فَضَّ الله فاك. ومن قال بقولك وقول سادتك الضالين المضلين. وأما قول الملحد: "وقد فصلت كيفية عبادتهم وأقسامها في كتبي الثلاثة، رد الافتراء، ومظهر الإحسان، ومرشد الحيران، وهذه يتبرأ منها كل مسلم". فالجواب: أن كتب هذا الملحد الثلاثة كلها ظلمات بعضها فوق بعض، فهي كما قال مؤلفها الملحد "تبرأ منها كل مسلم" ونحن نسميها: محض الافتراء، ومظهر الخسران، والتائه الحيران. وأما قول الملحد في حق علمائه "وماذا عليهم إذا لم تفهم وعول نجد وجواميس مصر وبقر الشام مقاصدهم ومآخذ أقوالهم؟ ". فالجواب: أن الله تعالى لم يكلف وعول نجد، ولا جواميس مصر، ولا بقر الشام، بفهم شيء من العبادة التي كلف بها عباده من بني آدم، فتكليف هذا الملحد لها بفهم مقاصد سادته ومآخذ أقوالهم ظلم وعدوان ما أنزل الله به من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 سلطان. فأما علماء نجد ومصر والشام: فقد قاموا بأداء ما أخذه الله تعالى من الميثاق على أهل العلم بأن يبينوه للناس ولا يكتموه فإنهم قد أظهروا الحق ونصوره، وأبطلوا الباطل وخذلوه. وفضحوا سادتك ومضلليك، ومن سلك سبيلهم من دعاة الشرك في عبادة الله رب العالمين وقد تقدم ذكر بعض مَن رد عليهم من علماء نجد والعراق والهند بما أغنى عن إعادته ههنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 لم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة إن التوسل هو دعاء الأموات ... وأما قول الملحد: "قد تقدم آنفاً أن التوسل من ضروريات حياة الإنسان الدنيوية وإباحة الشرع للمنافع الأخروية. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة، الآية:35] وكذلك جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قولاً وفعلاً". والجواب: أنه قد تقدم الكلام على مسألة التوسل والوسيلة، وتحقيق القول في معناهما لغة وشرعاً وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم قولاً واحداً بأنهما القربة والتقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة، ولم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان من القرون المفضلة- وفيهم الأئمة الأربعة- إن التوسل والوسيلة: هما دعاء الأموات، وجعلهم وسيلة وواسطة بين الله تعالى وبين عباده، يرفعون إليه تعالى حاجاتهم كما يقوله هذا الملحد ومضللوه دعاة الوثنية، حيث يقولون: إن الأموات أقرب إلى الله تعالى من الأحياء، وأنهم يسمعون نداء من يناديهم، ويجيبون دعاء داعيهم وقد شبهوا الخالق جل جلاله بخلقه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. فكلام هذا الملحد من هذر المجانين، وزخرفة الشياطين، الذين يلبسون الحق بالباطل، لترويج مذهب الوثنيين عبّاد الأموات، وإشراكهم في عبادة الله تعالى فاطر الأرض والسموات. فهم يتعلقون بالأسماء مع قلب الحقائق، ويقولون: هذا من عند الله، وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون قاتلهم الله أنى يؤفكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وأما قول الملحد: "ومن المقرر ببديهة العقول السليمة أن العاقل يتحرّى في حوائجه الواسطة الأقرب مناسبة، وأنجح وسيلة للموسط إليه، والمطلوب منه ولا يرتاب مسلم: أن ما في الكون وسيلة أقرب مناسبة لله تعالى من حبيبه الأكرم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، بل كيف لا يكون هو أقرب الوسائل وكلام الله شاهد له بذلك؟ أما هو الذين قال الله له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء، الآية:107] أما هو الذي قال الله عنه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (الأحزاب، الآية:6] أما هو الذي قال الله عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة، الآية:128] أما هو الذي أمرنا الله على لسانه بقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران، الآية:31] فانظروا يا من خذلهم الله أي مقام أعظم من هذا المقام الذي علق الله محبته ومغفرته على إتباعه عليه الصلاة والسلام؟ أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ فانتظروا ما جاء بحقكم في هذه الآية أما هو الذي قال الله له: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء، الآية:64] أما هو الذي قال الله له: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء، الآية:65] ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 إن الله لم يتعبدنا باتباع عقولنا بل أرسل إلينا رسولا بالمؤمنين رؤوف رحيم ... والجواب: أن الله تعالى لم يتعبدنا بإتباع بديهة عقولنا السليمة، ولم يتركنا لها هملاً، بل أرسل إلينا رسولاً من أنفسنا عزيز عليه، ما يعنتنا، بالمؤمنين رؤوف رحيم. جداءنا بكتاب عزيز: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت، الآية:42] يقول الله تعالى فيه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة، الآية:128] ويقول تعالى فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة، الآية:3] ويقول تعالى فيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر، الآية:7] فلم يأمرنا الله تعالى في كتابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 العزيز، ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في سنته المطهرة، بأن ندعو الأموات والغائبين بأهوائنا المضللين من سادتنا وكبرائنا ولا أن نجعلهم لنا وسيلة ولا واسطة بيننا وبينه تعالى، يرفعون إليه حاجاتنا. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. بل قال الله لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة، الآية:186] فهؤلاء المدعوون- وإن كانوا أنبياء أو أولياء أو ملائكة مقربين- فليسوا هم شركاء لله تعالى في عبادته فإن العقول التي ترى أن دعاء الأموات والغائبين من دون الله تعالى: أنجح وسيلة تقرِّب إلى الله تعالى، عقول ليست بسليمة، بل هي عقول مريضة شيطانية، بل هي أهواء زائفة، تدعو إلى محادة الله ورسوله والشرك في عبادة الله، ومخالفة جميع رسله، من أولهم إلى آخرهم، الذين أرسلهم الله تعالى بالدعوة إلى توحيده تعالى، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له. حيث يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية:25] ويقول تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر، الآية:2-3] ويقول تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر، الآيات:64-66] ويقول تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس، الآيتان:106-107] ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل، الآيتان:20-21] ويقول تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف، الآيتان:5-6] ويقول تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل، الآية:62] ويقول تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم، الآيتان:52-53] ويقول تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ، الآيتان:22-23] ويقول تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر، الآيتان:13-14] ويقول تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ. وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ. وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر، الآيات:19-23] ويقول تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر، الآية:38] ويقول تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر، الآيتان:44] ويقول تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت، الآية:6] ويقول تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً. قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن، الآيات:20-23] ويقول تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف، الآية:188] إلى غير ذلك من الآيات البينات المحكمات التي لا تقبل تأويلاً ولا تحريفاً، ولا معارضاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 في إفراد ربنا الباري جل وعلا في عبادته وحده لا شريك له، وهي العبادة التي مخها الدعاء، كما قاله المصطفى عليه الصلاة والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وأما ما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم من حمايته لحمى التوحيد امتثالاً لأمر ربهن شرك المشركين الأولين: ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء، الآية:214] فقال: يا معشر قريش- أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا غنى عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب، لا أعنى عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئتِ، لا أغنى عنك من الله شيئاً" وروى الترمذي عن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين- ونحن حُدَثاء عهد بكفر- وللمشركين سِدْرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر، إنها السنن. قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. قال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف، الآية:138] لتركبن سنن من كان قبلكم سنن من كان قبلكم" وفي سنن أبي داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي. فقال: يا رسول الله، جهِدَتْ الأنفس، وضاعت العيال، ونُهِكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله، وسنتشفع بالله عليك. فقال رسول الله: ويحك، أتدري ما تقول؟ وسَبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما زال يسبّح، حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه. ثم قال: ويحك، إنه لا يتشفع بالله على أحد من خلقه. شأنُ الله أعظم من ذلك. الحديث". وروى أبو داود عن عبد الله بن الشخِّير رضي الله عنه قال: "انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله تبارك وتعالى، قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً، فقال: قولوا بقولكم، أو ببعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 قولكم، ولا يستجْرِينّكم الشيطان" وروى النسائي عن أنس رضي الله عنه: "أن أناساً قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. فقال: يا أيها الناس، قولوا بقولكم هذا، ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رجلاً قال للنبي: ما شاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله نداً؟ ما شاء وحده" وروى الطبراني عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين. فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله" وروى أبو داود عن قيس بن سعد قال: "أتيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أحق أن يُسجد له. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم. فأنت أحق بأن يسجد لك. فقال لي: لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ فقلت: لا، فقال: لا تفعلوا، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهن عليهن من حق" وروى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأواه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وهذا قليل من كثير مما ورد عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم من نصوص الكتاب والسنّة الصحيحة الصرحية، التي لا تقبل تأويلاً ولا تحريفاً عما جاءت له من الأمر بتحقيق التوحيد لله تعالى وحده، لا شريك له في جميع أنواع العبادة، ونفي وإبطال كل ما يتعلق به دعاة الأموات من الشبهات والضلالات، وما يحرفونه من كتاب الله تعالى ومن سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم عن مواضعهما، إتباعاً لأهوائهم الشيطانية فيما يدعون إليه من الغلو بالأنبياء والأولياء وغيرهم. ممن أشركوهم مع الله تعالى في خالص عبادته، من الدعاء والخوف والرجاء، ونذر النذور، وسف الدماء، وغيرها من أنواع العبادة. وما كفاهم هذا، بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله وكيف يكون مسلماً من يعارض نصوص الكتاب والسنّة جهاراً لا يخشى فيها لومة لائم، حتى ولا يتكلف لها تحريفاً ولا تأويلاً؟ يقول الله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر، الآية:22] ويقول هذا الملحد وسادته دحلان والنبهاني: "بل يسمعون ويجيبون من يدعوهم" ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخ العبادة" ويقول هذا الملحد وسادته "ليس بعبادة، بل هو توسل والله أمر به" ويسمون دعاءهم للأموات وعبادتهم إياهم بجميع أنواع العبادة: توسلاً. وهكذا يحرفون الكلم عن مواضعه فقد ضلوا وأضلوا كثيراً عن سواء السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وأما قول الملحد: "فانظروا يا من خذلهم الله، أي مقام أعظم من هذا الذي علق الله محبته ومغفرته على إتباعه عليه الصلاة والسلام أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ ". والجواب: أن المخذول من اتخذ إلهه هواه، وختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة. فهو لا يفرق بين الحق والباطل، بل يؤثر الباطل على الحق، إتباعاً لهواه {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص، الآية:50] {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة، الآية:51] إن المخذول: هو هذا الملحد المتناقض، الذي لم يحترم صاحب هذا المقام العظيم سيد الأولين والآخرين، من أرسله تعالى رحمة للعالمين بل عارضه في أصل رسالته التي أرسله الله تعالى بها إلى جميع خلقه: بأن يعبدوه الله تعالى وحده لا يشركون معه في عبادته أحداً من خلقه. فقام هذا الملحد ومن قلدهم بمعارضة هذا الرسول الكريم في أصل دعوته، التي أرسله الله بها، وجميع الرسل من قبله بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية:25] : فقام هؤلاء الوثنيون يدعون إلى إشراك الخلق مع خالقهم في خالص عبادته تعالى. وما كفاهم فقد أشركوهم مع الله تعالى في ربوبيته. فقالوا: إنهم يعلمون الغيب ويتصرفون في الكون تعالى الله عما يقول الظالمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 ما جاء عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لحماية حمى التوحيد ... أشركوهم مع الله تعالى في توحيد الربوبية. فقالوا: إنهم يعلمون الغيب، ويتصرفون مع الله تعالى في تدبير ملكه، وغير هذا من العقائد الباطلة التي لم يسبقهم إليها عبدة الأصنام في الجاهلية الأولى وهذا هو محل الخلاف، بل مثار العداوة بيننا وبين هذا الملحد ومن قلدهم من سادته وكبرائه الضلال، دعاة الشرك في عبادة الله تعالى ومن سلك سبيلهم، ممن جعلوا مع الله آلهة أخرى يدعون ويرجون لجلب الخير وكشف الضر من دون الله تعالى. لا ما أورده من هذه الآيات التي يقول فيها: "أما هو الذي قال الله له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء، الآية:107] إلى آخر الآيات التي يقول فيها: أما هو؟ أما هو؟ لأجل المغالطة وتضليل الجهلة. فهذه الآيات كلها في حق الرسول عليه الصلاة والسلام، وما شرفه الله تعالى به على جميع خلقه من الأمر بطاعته وإتّباع أمره. فمن لم يؤمن بها قولاً وعملاً واعتقاداً، فليس هو بمسلم، فضلاً عن الإيمان. ولكنها لا تجعل الرسول صلى الله عليه وسلم شريكاً لله تعالى في عبادته، يدعى ويرجى من دون الله تعالى، كما يدعو إليه هذا الملحد بغباوة عقله الوثنية، بل هو عبد الله ورسوله وكفى له بهذا شرفاً، عليه أفضل الصلاة والسلام والتسليم. وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم آنفاً: "يا أيها الناس، قولوا بقولكم هذا، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" وقال صلى الله عليه وسلم لمن قال له: "ما شاء الله وشئت أجعلتني لله نداً؟ قال: ما شاء الله وحده" ففي هذه الآيات والأحاديث- التي قدمنا- ما يشفي ويكفي لطالب الحق في هذه المسألة التي هي تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. فهذه الشهادة هي أصل أصول الإسلام والإيمان. على تحقيقها تنبني جميع الأحكام التي أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ومن دون تحقيقها وما تستلزمه من توحيد لله تعالى في جميع أنواع العبادة لله وحده لا شريك له، مع تجريد الإتباع لرسوله الكريم ونبيه- الذي هو بالمؤمنين رؤوف رحيم- في جميع ما أمر، والانتهاء عن كل ما نهى عنه وزجر، وتقديم محبته على النفس والوالد والولد والناس أجمعين فلا إسلام ولا إيمان لمن لم يحقق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 هذا الملحد المخذول هو الذي عارض الرسول - عليه السلام - في أصل رسالته ... علواً كبيراً وقد أوردنا من نصوص الكتاب والسنّة في رد أباطيلهم وكشف ضلالهم، وتضليلهم ما فيه الكفاية لطالب الحق ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 شهادة للوهابيين بالإيمان بالقرآن وإنكاره عليهم محبة الرسول وهذا مما لا يتفق مع الشهادة ... وأما قول الملحد: "فهذه بشرى أزفها إليكم يا وهابيون، لتكونوا على يقين بأن إيمانكم بالله وبالقرآن لا يفيدكم شيئاً ما زلتم معادين لرسول الله ومتمردين عليه". والجواب: إن هذا الملحد جاهل متناقض لا يدري ما يقول، ولا يتقيد بمعقول ولا منقول عن الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم، بل هو يسوق ما يقول بما تمليه عليه همزات الشياطين. فيسأله الوهابيون عن هذه البشرى التي شهد لهم فيها بالإيمان بالله وبالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أي طريق عرف الوهابيون ربهم فآمنوا به، وبالقرآن المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا معادين لرسوله ومتمردين عليه؟ فهل يتصور هذا الكلام في عقل عاقل، فضلاً عن العالم لأنه افتراء وبهت وخيم وقول شيطان رجيم. جوابنا عليه أن نقول له: اخسأ يا لعين. ولولا أن لكل ساقطة لاقطة ما كنت تستحق يا هذا الملحد النظر في كلامك الذي كله جهل وضلال مبين. وأما قول الملحد: "وليست هذه الآية مختصة بمن نزلت بحقهم، بل تشمل كل من يؤثر قوانين البشر وأحكامهم على أحكام رسول الله، ويزعم الزمان اقتضى ذلك. ولو آمن بالله ورسوله حق الإيمان لوجد كل ما يقتضيه كل مكان وكل زمان وكل شعب في شريعة الله، فنعوذ بالله من الضلال على علم أو على جهل". والجواب: إن هذا كلام حق إذا كان العمل يصدقه. أما إذا كان من لغو المنافقين المحرّفين لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم- أمثال هذا الملحد ومضلليه دحلان والنبهاني- فأنهم هم المؤثرون لقوانين البشر وأحكامهم على أحكام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم متبعين لأهوائهم، وإرضاء لحكامهم ولسياستهم المنحرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 التي من أجلها كفّروا المسلمين، وقدموا قوانينهم على شريعة سيد المرسلين. فهم رؤساء محاكمه الطاغوتية الظالمة، وهم القائلون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وهم الذين يقولون على الله الكذب وهم يعلمون. فقد أضلوا كثيراً من الجهلة وضلوا عن سواء السبيل، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الوهابيون بحمد الله سميعون مطيعون منفذون لكلام الله ولسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ... وأما الوهابيون: فإنهم بحمد الله تعالى سميعون مطيعون منقادون لكتاب الله تعالى، ولسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم كافرون بكل قانون لم يأت عن الله تعالى، ولا عن رسوله. وهذه كتبهم بحمد الله تعالى منشورة في جميع البلاد، وبين العباد، تنادي بتجريد الإتباع لسيد المرسلين، وتحكيم شرعه، مع التسليم له بكل إخلاص ويقين. فالحمد لله الذي أظهر الحق وأعلاه، ودحر الباطل وأقصاه وجعل العاقبة للمتقين. وأما قول الملحد: "اعلم يا أخي أنه لما كانت الرسالة تبليغاً بالأمر والعمل، فالرسول عليه الصلاة والسلام كما بلغ الأمة كل أمر شفاهي كذلك بلغهم بالعمل، ليكون إقتداؤهم به وأخذهم عنه جامعاً بين الأمر والعمل، إلا ما كان من مخصصاته الذاتية. فكان ينهاهم عما فيه مشقة عليهم إذا قلدوه فيه. ويسكت عما لا مشقة فيه. ومن ذلك: ما نحن بصدده. وإليك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في معنى التوسل وإليه استند علماؤنا وبه اقتدوا: الأول في البخاري في باب تعاون المؤمنين عن محمد بن يوسف عن سفيان عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً إذ جاء رجل يسأل أو طالب حاجة فأقبل علينا صلى الله عليه وسلم بوجهه. فقال: اشفعوا فلتؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء". والجواب: أننا بحمد الله تعالى في غنىّ عن فلسفة هذا الملحد بنصوص الكتاب والسنّة الصحيحة الصريحة فقد جاءنا بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بيضاء نقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك ولم يكن خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا عنه. والله تعالى يقول في كتابه العزيز: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً} [المائدة، الآية:3] فالكامل لا يحتاج إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 مزيد ولا إلى فلسفة شيطان مريد. والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين وأشهد على ذلك في أكبر مجمع من مجامع المسلمين وذلك في حجة الوداع. فقول هذا الملحد بعد هذه الفلسفة التي يريد بها المغالطة ولبس الحق بالباطل: "ومن ذلك ما نحن بصدده، وإليك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في معنى التوسل وإليه استند علماؤنا، وبه اقتدوا، الأول في البخاري إلى آخر ما ذكره". من تحريفه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظاً ومعنى مما يدل على سوء قصده الباطل، وتعمده لتحريف الكلم عن مواضعه، إتباعاً لهواه {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص، الآية:50] فقد تصرف الملحد بهذا الحديث الشريف تصرف المضل المخادع. إذ حذف أصله، بل لبه الذي قيل الحديث من أجله وهو تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً، ولأهمية هذا التعاون وأنه ركن من أركان الإسلام الذي لا يتم إلا به. فقد أحكم النبي صلى الله عليه وسلم وصف هذا التعاون بالقول والعمل، حيث شبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه. ولما جاء هذا الحديث على أصحابه في تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً. زادهم في بيان هذا التعاون إذ حثهم على عمل الخير في إجابة هذا السائل أو طلب الحاجة الذي هو من إخوانهم المؤمنين. فأما أصل هذا التعاون وأساسه: فهو الجهاد في سبيل الله تعالى لإقامة دينه الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه ليكون الدين كله لله وحده لا شريك له ولأجل إقامة هذا الدين الذي هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. فرض الله تعالى على عباده المؤمنين جهاد المشركين متعاونين كالبنيان يشد بعضه بعضاً. ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف، الآية:4] ولذلك أباح الله تعالى للمؤمنين دماء المشركين وأموالهم حتى يكون الدين لكله لله وحده لا شريك له. فهذا هو معنى تعاون المؤمنين بعضهم بضهاً. إنما هو في إقامة دينهم، وما هو تحت قدرتهم فيما بينهم من أمور دنياهم، لاما يزعمه هذا الملحد وسادته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 الضلاّل دعاة الوثنية عبدة الأصنام من أن معنى تعاون المؤمنين: هو دعاء الأموات من الأنبياء والأولياء وغيرهم من دون الله تعالى، وجعلهم أصناماً تعبد مع الله تعالى لجلب النفع، ودفع الضر وسؤالهم ما لا يجيب المضطر فيه إلا الله تبارك وتعالى، ويفترون على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم الكذب. انظر إلى تحريف هذا الملحد لهذا الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أصل من أصول الدين وذلك في تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً، كيف تصرف فيه فشوَّه لفظه وحرَّف معناه؟ حيث حذف الأصل وجاء بالفرع من أجل المغالطة. وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث لما حضر السائل "اشفعوا لتؤجروا" فهذا الملحد وضلال مضلليه دحلان والنبهاني يقولون: إن التوسل والاستشفاع والاستغفار ألفاظ مختلفة معناها واحد عند العلماء، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشفعوا" أمر منه بالتوسل الذي هو في مذهبهم دعاء الأموات. لذلك يقول الملحد مختار: "وإليك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في معنى التوسل وإليه استند علماؤنا وبه اقتدوا الأول في البخاري" ثم ساق الحديث كاملاً برجاله، وأسقط أصل الحديث الذي أحكمه المصطفى صلى الله عليه وسلم لفظاً ومعنى في تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً. وما ذلك منه إلا للمغالطة وتضليل الجهلة لتصحيح باطلهم الذي يدعون إليه من إشراك المخلوقين في خالص عبادة الخالق {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة، الآية:30] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 حديث "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وتلاعب الملحد به ... ونحن نسوق نص حديث البخاري الذي تلاعب به هذا الملحد، قال البخاري رحمه الله تعالى: " باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً، حدثنا محمد بن يوسف- وساق بسنده إلى أبي موسى الأشعري- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً- ثم شبك بين أصابعه وكان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً- إذ جاء رجل أو طالب حاجة، أقبل علينا بوجهه فقال: اشفعوا فلتؤجروا، وليقض الله على لسان نبيه ما شاء" انتهى. قال الإمام العسقلاني شارح البخاري رحمه الله تعالى: وفي الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الحث على عمل الخير بالفعل وبالتسبب إليه بكل وجه، والشفاعة إلى الكبير في كشف كربه ومعونة ضعيف، إذ ليس كل أحد يقدر على الوصول إلى الرئيس، ولا التمكن منه ليلج عليه، أو يوضح له مراده، ليعرف حاله على وجهه، وإلا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتجب. انتهى. هذا هو نص حديث البخاري وهذا هو كلام الإمام العسقلاني عليه في بيان معنى تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً، فأي دليل في هذا الحديث على معنى التوسل الذي استند إليه علماء هذا الملحد، وبه اقتدوا في جواز دعاء الأموات من دون الله تعالى وإشراكهم مع الله تعالى في خالص عبادته التي خلق خلقه لأجلها؟ بل ما كفاهم هذا التحريف، وقلب الحقائق حتى شبهوا الخالق جل جلاله بخلقه {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء، الآية:43] فقد ضلوا وأضلوا كثيراً من جهلة المسلمين جازاهم الله تعالى بعدله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 آية {من يشفع شفاعة حسنة} وإلحاده في معناها ... قال الملحد: "الثاني وفي هذا الباب قال القسطلاني في قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء، الآية:85] إن الله بين في هذه الآية جواز الشفاعة في جلب نفع أو دفع ضر، لم يكن فيه إبطال حق ولا منع حد شرعي، ولا نفع ذاتي. فإن كانت في خير كان له ثواب ذلك وإن كانت في شر كان عليه وبالها". والجواب: أن هذه الملحد عبر عن كلام الله تعالى في هذه الآية بأنه حديث ثان لأحاديثه التي سيوردها وهي التي استند إليها هو وسادته، وبها اقتدوا على جواز دعاء الأموات مع إخلاص هذا الدعاء لهم، الذي هو مخ العبادة من دون الله تعالى. وقد قال الملحد في آخر ما أورده من أحاديثه: "فهذه عشرة من مئات، وفي كل واحد من هذه معنى من معاني التوسل" قال: "وفي هذا الباب قال القسطلاني إلى آخر ما ذكره" مما أراد به المغالطة وتحريف الكلم عن مواضعه. ولو علم هذا الملحد أن ما نقله من كلام القسطلاني على معنى الشفاعة في هذه الآية الشريفة: أنه مما يلقمه ومضلليه أحجاراً فيما ذهبوا إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 من تحريف كتاب الله تعالى، وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم ما كان تعرض لذكره ولكن الهوى يعمي ويصم. فقد قال الإمام القسطلاني: "إن الله تعالى بين في هذه الآية جواز الشفاعة في جلب نفع أو دفع ضر، لم يكن فيه إبطال حق، ولا منع حد شرعي، ولا نفع ذاتي" إلى آخر كلامه الذي بين فيه أن هذه الشفاعة هي بين الناس بعضهم لبعض في هذه الدنيا. وقد قال الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري: قوله "باب قول الله تعالى من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها كذا لأبي ذر- وساق غيره إلى قوله- "مقيتاً". وقد عقب المصنف الحديث المذكور قبله بهذه الترجمة إشارة إلى أن الأجر على الشفاعة ليس على العموم، بل مخصوص بما تجوز فيه الشفاعة. وهي الشفاعة الحسنة. وضابطها: ما أذن فيه الشرع، دون ما لم يأذن فيه، كما دلت عليه الآية. وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن مجاهد قال: "هي في شفاعة الناس بعضهم لبعض" وحاصله: أن من شفع لأحد في الخير كان له نصيب من الأجر ومن شفع له بالباطل كان له نصيب من الوزر، وقيل: الشفاعة الحسنة الدعاء للمؤمن، والسيئة الدعاء عليه انتهى. ففي كلام هذه الإمامين على هذه الآية ما يثبت كمال التوحيد لله تعالى وينفي كل شبهة أو مغالطة أو تحريف للكلم عن مواضعه مما يتعلق به دعاة الوثنية عبدة الأصنام قاتلهم الله أني يؤفكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 حديث "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك" وبيان أنه واه ... قال الملحد: "الثالث: أخرج ابن ماجه والحافظ والبيقهي عن أبي سعيد الخدري والسيوطي في الجامع الكبير عنه أيضاً وابن السّني عن بلال قال: "كان إذا خرج عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة قال: بسم الله، آمنت بالله، وتوكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق مخرجي هذا إليك، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياء ولا سمعة. خرجت اتِّقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" انتهى. في هذا الحديث ثلاثة أدلة لنا الأول: توسله عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين المعبَّر عنهم بالسائلين، وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 أفضل خلق الله، وأغنى الخلق عن الخلق، فكيف لا نتوسل بجاهه ونحن أفقر الخلق إلى جاهه؟ وبهذا نص صريح بجواز التوسل بالأنبياء وما دونهم من كل مؤمن. الثاني: أبلغ بالتجوز توسله صلى الله عليه وسلم بشيء مجازي وهو المخرج بنصب الميم والراء أو المخرج برفع الميم وكسر الراء. الثالث: إيراد التوسل بصيغة القسم، أي قوله: "بحق" فهذا أبلغ وأعظم بالتذلل على الله تعالى من صيغة الرجاء. والجواب: أن هذا الحديث من رواية ابن السّني عن بلال رضي الله عنه. لا تقوم به حجة باتفاق أئمة أهل الحديث على ذلك لضعف إسناده. فقد قال الشيخ محمد بشير الهندي رحمه الله تعالى في كتابه "صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان": إن القول بصحة إسناد هذا الحديث خطأ بيِّن، وغلط فاحش. فإن هذا الحديث أشد ضعفاً من حديث أبي سعيد الخدري قال النووي في الأذكار: حديث ضعيف، أحد رواته: الوازع بن نافع العقيلي، وهو منفق على ضعفه، وأنه منكر الحديث. قال الحافظ: والقول فيه أشد من ذلك. فقال ابن معين والنسائي: ليس بثقة. وقال أبو حاتم وجماعة متروك وقال الحاكم: روى أحاديث موضوعة، وقال ابن عدي: أحاديثه كلها غير محفوظة. قال الحافظ: وقد اضطرب في هذا الحديث، فأخرجه أبو نعيم في اليوم والليلة، من وجه آخر عنه فقال: عن سالم بن عمر عن بلال محل قوله في الطريق الأول عن نافع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عن بلال. قال الحافظ: ولم يتابع عليه كذا في الفتوحات الربانية. وفي كتاب الجرح والتعديل لأبي حاتم: الوازع بن نافع العقيلي: أصله من المدينة، سكن الجزيرة، يروى عن سالم بن عبد الله، وأبي مسلمة بن عبد الرحمن. روى عنه أهل الجزيرة وكان ممن يروي الموضوعات عن الثقات على قلة روايته. ويشبه أنه لم يكن المعتمد لذلك، بل وقع في روايته لكثرة وهمه. فبطل الاحتجاج بما انفرد به عن الثقات بما ليس من أحاديثهم. حدثنا الحنبلي: قال حدثنا أحمد بن زهير عن يحيى بن معين قال: وازع بن نافع ليس بثقة، ثم نقل عنه أحاديث تكلّم في إسناد بعضها بأنه موضوع أو مقلوب. كذا في الفتوحات الربانية. وقال الذهبي في الميزان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 الوازع بن نافع العقيلي الجزري، روى عن أبي سلمة وسالم بن عبد الله وعنه علي بن ثابت وبقية وجماعة. قال ابن معين: ليس بثقة. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك. وقال: ليس بثقة. قال ابن عدي: عامة ما يرويه الوازع غير محفوظ، وقال الدارقطني في سننه: الوازع بن نافع ضعيف الحديث، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وهو ضعيف. وقال أيضاً: وهو متروك، وقال: وهو مجمع على ضعفه. انتهى. هذا من جهة إسناد هذا الحديث الذي قد اتفق أئمة أهل الحديث على ضعفه وعدم جواز الاحتجاج به. وأما تحريف الملحد لمعناه: فهذا مما لا يخفى بل هو من غزير جهله وضلاله وإتباعه لهواه {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص، الآية:50] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الحديث ... وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى على معنى هذا الحديث بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنّة. قال رحمه الله تعالى: فتقدير ثبوت هذا الحديث فإن: "حق السائلين عليه سبحانه وتعالى" أن يجيبهم: "وحق المطيعين له" أن يثيبهم: فالسؤال والطاعة له سبب لحصول إجابته وإثابته. فهو من التوسل به، والتوجه والتسبب به ولو قدر أنه قسم لكان قسماً بما هو من صفاته تعالى. فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله. فصار هذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" والاستعاذة لا تصح بمخلوق. كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة. وأما قول الملحد: "في هذا الحديث ثلاثة أدلة لنا: الأول توسله عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين إلى آخر ما قاله في هذا الدليل الباطل والفهم العاطل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 فنقول لهذا الملحد: كذبت. وكذّبت من قلدتهم من المحرفين أمثالك. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتوسل بمخلوق، لا حي ولا ميت، بل أرسله الله تعالى بتحقيق توحيده سبحانه وتعالى، في عبادته وحده لا شريك له والنهي عن الشرك قليله وكثيره، وجهاده من أشرك معه أحداً من خلقه، وأحل دماءهم وأموالهم حتى يكون الدين كله لله، وأنزل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر، الآيتان:65-66] ن وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية:25] . ونصوص الكتاب والسنّة في ذلك كثيرة لا تخفى إلا على أعمى البصر والبصيرة أمثال هذا الملحد الذي لا يعرف من العبادة مسماها، أو صورة الصلاة والصيام وهي التي خلق الله الخلق لأجلها، وأرسل الرسل لتحقيقها له وحده لا شريك له في جميع أنواعها. فهي ما أجمع عليه علماء أهل السنّة وأئمتهم بأنها أمر جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "الدعاء مخ العبادة" وقد صرف دعاة الشرك لولائجهم من الأموات والغائبين، مخلصين لهم الدعاء من دون الله تعال، مسمين شركهم هذا توسلاً وتشفعاً بهم وقد قادهم هذا الغلو في الأموات إلى إشراكهم مع الله تعالى في خالص عبادته بما لم يصل إليه شرك المشركين قبلهم فقد سفكوا لهم الدماء، وخصوهم بالدعاء، خاشعين لهم، متذللين من دون الله رب العالمين. وأما قول الملحد: "الثاني: توسله صلى الله عليه وسلم بشيء مجازي وهو المخرج". فقد جهل هذا الملحج أن المخرج والممشى إلى الصلاة حقيقي لا مجازي. ثم صار يمخرق بتصريف حروف المخرج ليوهم أنه من أهل اللغة، وحاشاها الله، فهو أعدمي أخرق لأنه لا يعرف المجاز من الحقيقة. وأما قوله: "الثالث: إيراد التوسل بصيغة القسم". فهذا قد تقدم جوابه قريباً في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 على معنى هذا الحديث. وأما قول الملحد: "فهذا أبلغ وأبلغ في التذلل على الله تعالى من صيغة الرجاء". فجوابنا عنه: أن هذا ابلغ وأبلغ في وقاحة هذا الملحد وجهله وضلاله، وذلك فيما أسنده إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم من التدلل على الله تعالى، وفيما تجاوز به حد الأدب نحو العزيز الجبار جل جلاله. فهذا الملحد لا يستحق النظر في كلامه فليس عنده من العلم ولا من العقل ما يستحق به ذلك بل هو ضال مضل متبع لهواه {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص، الآية:50] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 تضعيف حديث قصة فاطمة بنت أسد ... وأما قول الملحد: "الحديث الرابع: أخبرني الطبراني وابن حبان والحاكم وأبو نعيم والسيوطي في الجامع الكبير وكلهم عن أنس رضي الله عنه، وابن عبد البر عن ابن عباس رضي الله عنه: حديث حضوره عليه الصلاة والسلام دفن فاطمة بنت أسد والدة علي رضي الله عنه، ونزوله في قبرها، وقوله: اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذي من قبلي. انتهى. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوسل بنفسه وبالأنبياء كلهم وكانوا أمواتاً". والجواب: إن هذا الملحد: ومن قلدهم من دعاة الشرك في عبادة الله تعالى يتعلقون بالمتشابه بل بالأوهام وبتحريف الكلم عن مواضعه، وبالأحاديث الضعيفة والموضوعة، معرضين عن نصوص الكتابة والسنّة الصحيحة الصريحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تجريد التوحيد لله تعالى وحده لا شريك له في جميع أنواع العبادة. فهذا الحديث الذي أورده الملحد من رواية الطبرني في الكبير والأوسط: فيه روح بن الصلاح ضعيف. قال الذهبي في الميزان: روح بن صلاح المصري، يقال له: ابن سبابه، ضعفه ابن عدي، يكنى أبا الحارث، ومما يزيد في ضعف هذا الحديث ما روى عن أمثاله في هذا الباب من حديث أبي أمامة، وفيه: "أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك" رواه الطبراني في الكبير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه فضالة بن جبير. وهو ضعيف مجمع على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ضعفه، قال الذهبي في الميزان: فضالة بن جبير أو الهند العداني صاحب أبي أمامة. قال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به بحال يروي أحاديث لا أصل لها. وروى الكناني عن أبي حاتم الرازي قال: ضعيف الحديث. وفي الباب أيضاً حديث أن ابن عباس رضي الله عنه قال: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه؟ قال: سأل بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي. فتيب عليه". قال الدارقطني: تفرد به عمرو بن ثابت. وقال يحيى: إنه لا ثقة ولا مأمون. وقال ابن حبان: يروى الموضوعات. كذا في الفوائد المجموعة للشوكاني. قال الذهبي في الميزان: عمرو بن ثابت أبو المقدام ابن هرمز الكوفي. يكنى أبا ثابت قال ابن معين: ليس بشيء. وقال مرة: رافضي. وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم. وقال هَنَّاد: كتبت عنه كثيراً فبلغني أنه كان عند حبان بن علي، فأخبرني من سمعه يقول: كفر الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعة. فقيل لحبان: ألا تنكر عليه؟ فقال حبان: هو جليسنا. ولما تكلم عمرو بهذا أخذ يتنادم- يعني حبان- وقال ابن المبارك: لا تحدثوا عن عمرو بن ثابت. فإنه كان يسب السلف. وقال الفلاس: سألت عبد الرحمن عن حديث لعمرو بن ثابت؟ فأبى أن يحدث عنه. وفي سؤالات الآجري: سألت أبا داود عنه؟ فقال: رافضي خبيث. وقد روى إسماعيل بن أبي خالد وسفيان عنه كذا. انتهى ملخصاً. قاله الشيخ محمد بشير الهندي في كتابه "صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 نقض دعوى الملحد أن النبي يتوسل بنفسه وبالأنبياء ... وأما قول الملحد: "فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوسل بنفسه، وبالأنبياء كلهم وكانوا أمواتاً". فالجواب: أن كلام هذا الملحد مفتاح من مفاتيح الشرك في عبادة الله تعالى يضللون به الجهلة من هذه الأمة. ومَنْ أغواهم الشيطان من الدعاة أمثالهم، فهذا الحديث لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تراه في كلام أئمة الحديث على أسانيد هذه الحديث الثلاثة التي هي متفقة نصاً ومعنى. ولو قدر ثبوتها لكان معناها ما وافق نصوص الكتاب والسنّة، لا ما تأوله دعاة الأموات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 المحرفون للكلم عن مواضعه. وقد أقر الملحد بموت الأنبياء، بعد ما كان ينكره هو وشيخاه دحلان والنبهاني. ويقولون: إنهم أحيوا بعد موتهم، وردوا إلى حياتهم الدنيا، إلا أنّا لا نراهم، وأنهم يسمعون دعاء من يدعوهم وسؤال من يسألهم. إلى آخر هذيانهم الباطل {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر، الآية:2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 نقض دعوى الملحد في حديث الأعمى والكلام على ضعفه ومعناه ... قال الملحد: "الحديث الخامس: أخرج الترمذي والنسائي والبيهقي والطبراني عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه: "أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال له: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، وهو خير لك. قال الرجل: فادعه، فأمره أن يتوضأ ويحسن وضوءه، ويدعو الله بقوله: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضي. اللهم شفعه في، فعاد الرجل، وقد أبصر". انتهى. وأخرج هذا الحديث البخاري في تاريخه وابن ماجه والحاكم في المستدرك والسيوطي في الجامعين، وشاع هذا الدعاء بين الصحابة حتى استعملوه فيما بينهم. والجواب: أن هذا الحديث غير صحيح فإن رواته مختلفون في سنده ومتنه، مع أنه لم يذكر في شيء من الكتب المعتمدة. بل جاء ذكره في بعض الكتب التي تذكر فيها الأحاديث الضعيفة والموضوعة على وجه التنبيه. وأيضاً في سنده أبو جعفر عيسى بن ماهان الرازي. قال الحافظ ابن حجر في التقريب: الأكثرون على ضعفه. وقال الفلاس: سيئ الحفظ. وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير. وقال أبو زرعة: يهم كثيراً. هذا بعض ما قيل في سند هذا الحديث. وأما ما قيل في معناه من القول الذي يفصل الباطل عن الحق: فهو ما ذكره العالم الجليل السيد محمود شكري الألوسي في كتابه "فتح المنان" تتمة منهاج التأسيس. قال رحمه الله تعالى في الكلام على حديث عثمان بن حنيف هذا. والجواب: أن هذا الدليل لا يفيد العراقي شيئاً، بل هو من نمط ما قبله. وببيان معنى الحديث يعلم ذلك. فقوله: "اللهم إني أسألك" أي اطلب منك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 "وأتوجه إليك بنبيك محمد" صرح باسمه مع ورود النهي عن ذلك تواضعاً منه، لكون التعليم من قبله. وفي ذلك قصر السؤال الذي هو الدعاء على الله تعالى الملك المتعال، ولكنه توسل بالنبي، أي بدعائه. ولذا قال في آخره: "اللهم شفعه فيَّ" إذ شفاعته لا تكون إلا بدعائه قطعاً، ولو كان المراد التوسل بذاته فقط لم يكن لذلك التعقيب معنى. إذ التوسل بقوله "بنبيك" كاف في إفادة هذا المعنى. فقوله: "يا محمد إني توجهت بك إلى ربي" قال الطيبي: الباء في "بك" للاستعانة. وقوله: "إني أتوجه بك" بعد قوله: "أتوجه إليك" فيه معنى قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة، الآية:255] فيكون خطاباً لحاضر معاين في قلبه، مرتبط بما توجه به عند ربه من سؤال نبيه بدعائه، الذي هو عين شفاعته. ولذلك أتى بالصيغة الماضوية بعد الصيغة المضارعية، المفيد كل ذلك: أن هذا الداعي قد توسل بشفاعة نبيه في دعائه. فكأنه استحضره وقت ندائه ومثل ذلك كثير في المقامات الخطابية، والقرائن الاعتبارية. فقوله: "في حاجتي هذه، لتقضى له" أي ليقضيها لي ربي بشفاعته، أي بدعائه. وذلك مشروع مأمور به. فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يطلبون منه الدعاء، وكان يدعو لهم. وكذلك يجوز الآن أن تأتي رجلاً صالحاً فتطلب منه الدعاء لك، بل يجوز للأعلى أن يطلب من الأدنى الدعاء له، كما طلبه النبي صلى الله عليه وسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عمرته بأن قال له: "لا تنسانا يا أخي من دعائك" قال عمر رضي الله عنه: ""ما يسرُّني أن لي بها حمر النعم" قال العلامة المناوي: سأل الله أولاً أن يأذن لنبيّه أن يشفع. ثم أقبل على النبي ملتمساً شفاعته له، ثم كرَّ مقبلاً على ربه أن يقبل شفاعته. والباء في "بنبيك" للتعدية وفي "بك" للاستعانة. وقوله: "اللهم فشفعه بي" أي اقبل شفاعته في حقي والعطف على مقدر. أي اجعله شفيعاً لي فشفعه. وكل هذه المعاني دالة على وجود شفاعته بذلك. وهو دعاؤه صلى الله عليه وسلم له بكشف عاهته وليس ذلك بمحظور، غاية الأمر أنه توسل من غير دعاء، بل هو نداء الحاضر. والدعاء أخص من النداء إذ هو نداء عبادة شامل للسؤال بما لا يقدر عليه إلا الله. وإنما المحظور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 السؤال بالذات، لا مطلقاً. بل على معنى: أنهم وسائل الله تعالى بذواتهم وأما كونهم وسائل بدعائهم فغير محظور. وإذا اعتقد أنهم وسائل لله بذواتهم يُسأل منهم الشفاعة للتقريب إليه، فذلك عين ما كان عليه المشركون الأولون. فتبين: أنه لا دلالة في الحديث على جواز الاستعانة بالنبي أصلاً. انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" والميت لا يُطلب منه شيء، لا دعاء ولا غيره. وكذلك حديث الأعمى فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له، ليرد الله عليه بصره. فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، أمره فيه: أن يسأل الله قبول شفاعه نبيِّه فيه. فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته. وأن قوله: "أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" أي بدعائه وشفاعته. كما قال عمر رضي الله عنه: "كنا نتوسل إليك بنبينا" فلفظ "التوسل" و"التوجه" في الحديثين بمعنى واحد. ثم قال: "يا محمد يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها. اللهم فشفعه فيّ" فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه صلى الله عليه وسلم. وقوله: "يا محمد يا نبي الله" هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب فيما يخاطب المشهود في القلب، كما يقول المصلي: "السلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته" والإنسان يفعل مثل هذا كثيراً، يخاطب من يتصوره في نفسه، وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب. فلفظ "التوسط" بالشخص، و"التوجه" به، و"السؤال به" فيه إجمال واشتراك، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة رضي الله عنهم. يراد به التسبب به، لكونه داعياً وشافعاً مثلاً. ولكون الداعي محباً له، مطيعاً لأمره مقتدياً به، فيكون التسبب إما لمحبة السائل له وإتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويراد به الإقسام به، والتوسل بذاته. فلا يكون التوسل منه ولا من السائل، بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله. فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه. وكذلك السؤال بشيء، قد يراد به: المعنى الأول. وهو التسبب لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام. إلى آخر ما قاله. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 كذب الملحد في دعوى عمل الصحابة بحديث الأعمى ... وأما قول الملحد: "وشاع هذا الدعاء بين الصحابة حتى استعملوه فيما بينهم". فهذا من تلفيق هذا الملحد وأكاذيبه التي لا يرى له عليها حسيباً في الدنيا، ولا محاسباً في الآخرة. لذلك لا يعصب عليه الافتراء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. جازاه الله بما يستحقه. وأما قول الملحد "السادس: روى البيهقي وابن أبي شيبة "أن الناس أصابهم قحط في خلافة عمر رضي الله عنه، فجاء بلال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك، فإنهم هلكوا. فسقاهم الله في الحال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 تحريف الملحد للمنام بجعله حديثا ... فالجواب: أن ما يسميه هذا الملحد حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس هو بحديث عن المصطفى عليه صلى الله عليه وسلم. بل هو رؤيا منام، وحلم من الأحلام فضلاً عن أن راويه متهم بالزندقة، وأن عامة أحاديثه التي يرويها منكرة، فلا تعارض بحديثه هذا نصوص الكتاب والسنّة وعمل الصحابة رضي الله عنهم، حيث روى البخاري عدولَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الاستسقاء برسول اله صلى الله عليه وسلم، بعد وفاته، إلى الاستسقاء بعمه العباس رضي الله عنه. وتبعه على ذلك جميع الصحابة رضوان الله عليه أجمعين مما دل على أن الاستسقاء بدعائه لا يشخصه وعلى هذه السنّة درج جميع الصحابة ومن اقتفى أثرهم إلى يومنا هذا ولا يزال إلى يوم القيامة لمن اهتدى بهديهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 قصة رؤيا بلال بن الحارث مكذوبة ... وأما الكلام على سند هذا الحديث: فقد قال الشيخ الجليل محمد بشير الهندي في كتابه "صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان"- بعدما ساق هذا الحديث- أقول: قال الحافظ في الفتح: وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الداري- وكان خازن عمر بن الخطاب رضي الله عنه- قال: "أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استق لأمتك. فإنهم قد هلكوا. فأُتى الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر ... الحديث" وقد روى سيف في الفتوح: أن الذين رأى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 المنام هو بلال بن الحارث المزني، أحد الصحابة. انتهى. فعلم أن ما روى بإسناد صحيح ليس فيه أن الجائي أحد الصحابة. وما فيه: أن الجائي "أحد الصحابة" ضعيف غاية الضعف. قال الذهبي في الميزان: سيف بن عمر الضبي الأسدي- ويقال التيمي البرجمي، ويقال السعدي الكوفي، مصنف الفتوح والردة وغير ذلك هو كالواقدي، يروى عن هشام بن عروة وعبيد الله بن عمر، وجابر الجعفي وخلق كثير من المجهولين. كان إخبارياً عارفاً. روى عنه عبادة بن المغلس وأبو معمر القطيعي، والنضر بن حماد العتكي وجماعة. قال عباس الدوري عن يحيى: ضعيف. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: متروك. وقال ابن حبان: اتهم بالزندقة. وقال ابن عدي: عامة أحاديثه منكرة. وقال مكحول البيروتي: سمعت جعفر بن أبان سمعت ابن نمير يقول: سيف الضبي تميمي، وكان جميع ما يقول: حدثني رجل من بني تميم، وكان سيف يضع الحديث، وقد اتهم بالزنادقة. انتهى ملخصاً. وقال الحافظ في التقريب: سيف بن عمر التميمي صاحب الردة، ويقال له: غير ذلك، الكوفي ضعيف في الحديث عمدة في الأخبار، أفحش ابن حبان القول فيه. وقال الذهبي في الكاشف: قال ابن معين وغيره: ضعيف. وقال في الخلاصة: سيف بن عمر الأسدي الكوفي- صاحب الردة عن جابر الجعفي، وأبي الزبير، وعن: محمد بن عيسى الطباع وأبو معمر الهذلي- ضعفوه، انتهى. هذا ما قيل في سند هذا الحديث، مع ما ثبت فيه من معنى التوسل الذي دل عليه عمل الصحابة رضي الله عنهم. فبطل ما قصده هذا الملحد من التمويه والكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وفتح أبواب الشرك في عبادة الله تعالى، فبعداً للقوم الظالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 تحريف الملحد في توسل عمر بالعباس ... قال الملحد: "السابع: روى البخاري في الاستسقاء عن أنس رضي الله عنه: أن الناس أصابهم قحط في خلافة عمر رضي الله عنه، وهو عام الرَّمادة، فأخذ عمر بيد العباس رضي الله عنهما، والناس خلفهما، فوقف وتوسل لله تعالى بحرمة نبيّه عليه الصلاة والسلام، فما قفلوا حتى سقاهم الله". قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 القسطلاني في شرح هذا الحديث: إن عمر رضي الله عنه قال: يا أيها الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فافتدوا به في عمه، واتخذوه وسيلة إلى الله تعالى". والجواب: إن هذا الملحد يتعمد الكذب والمغالطة، لترويج باطله الذي يدعو إليه، من إشراك المخلوق مع الخالق جل جلاله، في عبادته التي خلق الله الخلق من أجلها، فقد اختلق هذا القول من عنده وافتراه بمنتهى الوقاحة والفجور، وظن أن الناس كلهم على مثل جهله وضلاله وعمى قلبه، وتجاهل أن نسخ صحيح البخاري لا يكاد يخلو منها بيت. وأن من السهل اليسير على كل مسلم أن يفتح صحيح البخاري ليجد فيه في "باب سؤال الناس الإمام إذا قحطوا" ويقرأ ما يصفع هذا الملحد على وجهه الأسود الكالح، فيزيده سواداً. فإن نص الحديث فيه: عن أنس: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن المطلب. فقال: اللهم إنّا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا. وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون". وشتان بين هذا القول الصحيح وبين الظلمات التي افتراها هذا الملحد ونسبها إلى البخاري. فهذا الحديث في دعاء الأحياء بينهم حاضر لحاضر، فهو حدة لنا على بطلان دعاء الأموات، مقتدين بعمل أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام. وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي في كتابه الصارم المنكي في الرد على السبكي: وقد أجدب الناس على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستسقى بالعباس، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا. وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون" فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته. وهم إنما كانوا يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم، فيدعو لهم ويدعون معه، كالإمام والمأمومين. من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، كما أنه ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق. ولما مات صلى الله عليه وسلم توسلوا بدعاء العباس واستقوا به. وانتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وقال الحافظ في الفتح: وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك. فأخرج بإسناد له: "أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة. وقد توجه القوم بي لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة، فاستقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الحبال، حتى أخصبت الأرض وعاش الناس" انتهى. وأما ما ذكره عن القسطلاني فمردود عليه، إذ لم يذكره بسند يرجع إليه، ولم يذكره أيضاً عن أحد من المحققين يعتمد عليه، فلا يلتفت إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 كذب حديث توسل آدم برسول الله ... قال الملحد: "الثامن: حديث استغائة آدم بالرسول صلى الله عليه وسلم" وهذا الحديث من نوع المتواتر عند جمهور المفسرين والمحدثين بطرق عديدة عن عمر رضي الله عنه، والحجة البالغة في هذا الحديث: هي أن الرسول عليه الصلاة السلام كان في عالم الغيب، فهذا أبلغ في الحجة مما كان بعد وفاته". والجواب: أن هذا الحديث وحديث قول الله تعالى لآدم: "لولا محمد ما خلقتك" وما في معناهما من هذه الروايات، كلها كذب موضوعة. ما أنزل الله بها من سلطان. فحقيقة الاستغاثة: هي الدعاء الذي هو مخ العبادة. وأما أصل خلق هذا العالم: ففي قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات، الآية:56] والله تعالى يقول في كتابه الكريم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران، الآية:144] . وأما قول الملحد في هذا الحديث: "إنه من نوع المتواتر عند جمهور المفسرين والمحدثين بطرق عديدة عن عمر رضي الله عنه". فهو قول لا أصل له يرجع إليه. فلذلك لم يذكر الملحد سند هذا الحديث، ولا واحداً من رواته عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فلو أفصح عن رواة هذا الحديث وطرقه- كما يقول- لنكص على عقبه. ولعرف أن له حظاً وافراً من قوله صلى الله عليه وسلم: من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الكاذبين". فهذا الحديث وطرقه ورواته قد قابله أئمة أهل السنّة وأئمة أهل الحديث بالنبذ والسخرية كما ذكر ذلك الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه قال: "اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يحدثك عن أبيه عن نوح" وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: سأل رجل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: حدثك أبوك عن أبيه عن جده: أن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت ركعتين؟ قال: نعم, فهذا عبد الرحمن بن زيد هو راوي حديث استغاثة آدم بمحمد، وحديث "لولا محمد ما خلقتك". وأما ما قاله أئمة أهل الحديث في هذا الحديث أيضاً: فقد قال الشيخ محمد بشير الهندي في كتابه "صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان" جواباً على هذا الحديث، أقول: العجب من المؤلف أنه ينقل عن الذهبي ما قال في وصف كتاب "دلائل النبوة" ولم يذكر ما قاله في حق هذا الحديث بالخصوص. قال الذهبي في الميزان: عبد الله بن مسلم أبو الحارث الفهري عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبراً باطلاً. فيه: "يا آدم لولا محمد ما خلقتك" رواه البيهقي في دلائل النبوة. قال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وفيه من لم أعرفهم. وقال أيضاً في " الصارم المنكي" وإني لأتعجب منه، كيف قلد الحاكم فيما صححه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم الذي رواه في التوسل. وفيه قول الله لأدم: "لولا محمد ما خلقتك" مع أنه حديث غير صحيح ولا ثابت، بل حديث ضعيف الإسناد جداً. وقد حكم عليه بعض الأئمة بالوضع. وليس إسناده من الحاكم إلى عبد الرحمن بن زيد بصحيح، بل مفتعل على عبد الرحمن كما سنبينه. ولو كان صحيحاً إلى عبد الرحمن لكان ضعيفاً غير محتج به، لأن عبد الرحمن في طريقه، وقد أخطأ الحاكم في تصحيحه، وتناقض تناقضاً فاحشاً، كما عرف له ذلك في غير موضع. فأنه قال في كتاب الضعفاء- بعد أن ذكر عبد الرحمن منهم- وقال: ما حكتيه عنه فيما تقدم: أنه روى عن أبيه أحاديث موضوعة، لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه. وقال في آخر هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 الكتاب: فهؤلاء الذي قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم، لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة. فهم الذين أُبيِّن جرحهم لمن طالبني به. فإن الجرح لا أستحله تقليداً والذي أختاره لصاحب هذا الشأن أن لا يكتب حديث واحد من هؤلاء الذي سميتهم. فالراوي لحديثهم داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حديث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين". هذا كله كلام الحاكم أبي عبد الله صاحب المستدرك. وهو متضمن أن عبد الرحمن بن زيد قد ظهر له جرحه بالدليل، وأن الراوي لحديثه داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين". ثم إنه رحمه الله لما جمع المستدرك ذكر فيه من الأحاديث الضعيفة والمنكرة، بل والموضوعة، جملة كثيرة. وروى فيه لجماعة من المجروحين الذين ذكرهم في كتابه في الضعفاء، وذكر أنه تبين له جرحهم، وقد أنكر عليه غير واحد من الأئمة هذا الفعل وذكر بعضهم: أنه حصل تغير وغفلة في آخر عمره فلذلك وقع منه ما وقع وليس ذلك ببعيد. انتهى. وأما قول الملحد: "والحجة المبالغة في هذا الحديث: هي أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان في عالم الغيب فهذا في الحجة مما كان بعد وفاته". فالجواب: أن هذا الحديث ضعيف، بل محكوم عليه بالوضع. فحجة هذا الملحد فيه: أبلغ وأبلغ بالوضع والافتراء على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 تحريف الملحد في استدلاله على دعاء الموتى بحديث الشفاعة ... قال الملحد: "التاسع: رواه البخاري وجمهور أهل الحديث في حديث الشفاعة: أن الخلق بينما هم في هول يوم القيامة استغاثوا بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى، وكلهم يعتذرون، فيقول عيسى: اذهبوا إلى محمد، فيأتون إليه فيقول: أنا لها. أنا لها ... الحديث" وقد سلم ابن تيمية بهذا الحديث وما كابر بإنكاره". والجواب: أن هذا الحديث لا يحتج به على جواز دعاء الأموات والغائبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وسؤالهم ما لا يجيب فيه المضطر إلا رب العالمين، إلا كل جاهل أحمق، ضال مضل عن سبيل المؤمنين. فإن هذا الحديث يخبر عن يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع فيه كل ذات حمل حملها. وترى الناس فيه سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، يوم تشخص فيه الأبصار إلى العزيز الجبار وحده، يوم يفزع العباد فيه جميعاً إلى ربهم الواحد الأحد، مخلصين له الدعاء مقدمين فيه إمامهم محمداً المصطفى عليه وعلى جميع الأنبياء والرسل صلاة وسلامه، طالبين منه رفع هذا الدعاء إلى ربهم أرحم الراحمين، راجين منه كشف هول هذا الموقف العظيم، الذي تبيضّ فيه وجوه الموحدين، وتسودّ فيه وجوه دعاة الأموات والغائبين. موقف الفصل والجزاء، إما نعيم مقيم أو عذاب أليم. فأين حجة دعاة الأموات في هذا اليوم العظيم؟ فقد خاب تضليلهم وتحريفهم الكلم عن مواضعه. هذا هو جوابنا على استدلالهم بهذا الحديث على جواز دعاء الأموات والغائبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 أقوال علماء السلف في حديث الشفاعة ... وأما ما أجاب به بعض العلماء المحققين: فقد قال الشيخ الجليل محمد بشير الهندي في كتابه "صيانة الإنسان، عن وسوسة دحلان"- لما ساق حديث الشفاعة- أقول: هذا ليس مما نحن فيه، فإن الاستغاثة بالمخلوق على نوعين: أحدهما: أن يستغاث بالمخلوق الحي فيما يقدر على الغوث فيه، مثل أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل حجر، أو يحول بينه وبين عدوه الكافر، أو يدفع عنه سبعاً صائلاً، أو لصاً أو نحو ذلك. ومن ذلك: طلب الدعاء لله تعالى من بعض عباده لبعض. وهذا لا خلاف في جوازه. والاستغاثة الواردة في حديث المحشر: من هذا القبيل. فإن الأنبياء الذين تستغيث العباد بهم يوم القيامة يكونون أحياء، وهذه الاستغاثة إنما تكون بأن يأتي أهل المحشر هؤلاء الأنبياء يطلبون منهم: أن يشفعوا لهم إلى الله سبحانه، ويدعوا لهم بفصل الحساب، والإراحة من ذلك الموقف، ولا ريب أن الأنبياء قادرون على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 الدعاء، فهذه الاستغاثة تكون بالمخلوق الحي فيما يقدر على الغوث فيه. والثاني: أن يستغاث بمخلوق ميت أو حي فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى. وهذا هو الذي يقول فيه أهل التحقيق: إنه منكر غير جائز. انتهى. وقال الشيخ الجليل محمود شكري الألوسي في كتابه "فتح المنان" لما ساق حديث الشفاعة: والجواب: أن استغاثة الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآدم ثم بنوح، ثم بموسى- إلى آخر الحديث- فهذه شفاعة بالدعاء واستغاثة بما يقدر عليه المستغاث، مستحسنة عقلاً وشرعاً. ومن ذلك: الرفقة يستغيث بعضهم بعضاً، أي في مهماتهم التي يقدرون عليها. وكذلك ما طلب الناس من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي الدعاء. ولذلك يقول سيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: "فأجيء فأسجد" وأن الله تعال يلهمه من الثناء والدعاء شيئاً لم يفتحه لغيره صلى الله عليه وسلم. فعند ذلك يأذن الله له في الشفاعة. ويقول له كما ورد في الحديث: "يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع" وهذا ظاهر جداً. انتهى. وأما قول الملحد: "وقد سلم ابن تيمية بهذا الحديث وما كابر بإنكاره". فنقول لهذا الملحد: إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لا يكابر بإنكار الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل يحميها عن تحريف المحرفين، وتأويل المبطلين أمثالك، وأمثال من قلدتهم على عمى، دحلان والنبهاني ويكابر أشد المكابرة في إنكار أحاديثكم الموضوعة التي لا أصل لها عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم. بل هي دعاية شيطانية، لتشريك المخلوق مع الخالق دل جلاله في خالص عبادته. الذي هو الدعاء، ألست أيها الملحد العدو الألد لسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحًملتها، إذ تحرم العلم بنصوصها؟ هل ترمي من يدعو إليها بالزندقة، ألست القائل في رسالتك هذه الضالة: "وأما قولكم: إنكم ما خرجتم عن الإجماع فهذا هو المغالطة. لأنا بينما كنا نباحثكم على إجماع الفقهاء والتعامل، التجأتم إلى الإجماع على كتب الحديث. ومع هذا فأخبرونا متى أجمعت الأمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 على التعبد والتعامل بصحيح البخاري أو غيره؟ وأي عالم أو فقيه أفتى في حكم على البخاري، أو غيره؟ " ألست القائل: "إن أئمة أهل الحديث ما تعرضوا لشيء منها البتة، بل سردوا الأحاديث سرداً في أبوابها على علاتها. فإذا وجدتهم حديثاً في البخاري وغيره في مسألة، ومثله في موطأ مالك مثلاً أحدهما فيه تشديد والثاني فيه ترخيص. فأنَّى لكم معرفة الناسخ فترجحوه على المنسوخ؟ وهكذا في سائر الأقسام التي تتوقف صحة الحكم على معرفتها. وأنتهم لا تجدون في كتب بالحديث بياناً، ولا إشارة تهديكم إلى الصواب. أيجوز لكم الترجيح بمجرد الظن والتخرص؟ فهذه زنذقة لا إسلامية" انتهى. المراد منه للإشارة إلى عداوة هذا الملحد لأئمة أهل الحديث، وتحريمه أخذ الأحكام من نصوص الكتاب والسنّة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خص منها صحيح البخاري، جازاه الله تعالى بما يستحقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 تحريف الملحد في استدلاله بحديث "يا عباد الله احبسوا" ... قال الملحد: "العاشر: روى الطبراني عن زيد بن عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ضل أحدكم شيئاً، أو أراد عوناً وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل: يا عباد الله، أعينوني، فإن لله عباداً لا يراهم" انتهى. والجواب: إن هذا الملحد مغالط، يتعلق بما ليس له به حجة. فإن ما يفيده هذا الحديث- على تقدير ثبوته- هو نداء حي حاضر لحاضر. إما من الملائكة الموكلين أو من مسلمي الجن، أو من غيرهم ممن سخرهم الله لذلك. وهذا النداء لما هم قادرون عليه، لا نداء على شيء لا يقدر عليه إلا الله تعالى. فأين هذا من دعاء الأموات والغائبين وسؤالهم ما لا يجيب المضطر فيه إلا رب العالمين؟ فإن هذا هو التحريف مع قلب الحقائق لا يخفى إلا على أعمى البصر والبصيرة من دعاة الشرك في عبادة الله تعالى، أمثال صاحب هذه الرسالة الضالة. وقد قال الشيخ العالم الجليل محمد بشير الهندي في كتابه "صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان" لما ساق هذا الحديث أقول: قال في مجمع الزوائد: وعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 عتبة بن غزوان نبي الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد أحدكم شيئاً أو أراد عوناً، وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل: يا عباد الله، أعينوني، يا عباد الله أعينوني، يا عباد الله أعينوني، فإن لله عباداً لا نراهم" وقد جرب ذلك رواه الطبراني، ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم، لأن زيداً بن علي لم يدرك عتبة. انتهى. فالحديث ضعيف بسبب الانقطاع، فادعاه المؤلف فيما تقدم صحته ليس بشيء، وعلى تقدير ثبوته: فليس فيه إلا نداء الأحياء والطلب منهم لما يقدر هؤلاء الأحياء عليه. وذلك مما لم يجحده أحد وذكر هذا الحديث أيضاً في نداء الجمادات دال على أن ذاكره ليس له حظ من العقل. انتهى. فهذا الحديث ليس فيه حجة ولا أدنى شبهة لما يتعلق به هذا الملحد ومن قلدهم على جواز دعاء الأموات والغائبين، وتسميته توسلاً بهم. وما أورده من هذه الأحاديث العشرة، كلها دائر بين الضعيف والموضوع، مع تحريف معانيها عن مواضعها. فدعوى هذا الملحد باطلة، مبنية على فهمه العاطل، وزعمه الباطل من إشراك المخلوق مع الخالق تعالى في خالص عبادته الذي هو الدعاء. وأما قوله الملحد: "فهذه عشرة من مئات الأحاديث، في كل واحد منها معنى من معاني التوسل". فالجواب: أن هذه دعوى كاذبة، لا أصل لها إلا المغالطة لإشراك المخلوق، مع الخالق جل جلاله في خالص عبادته التي هي الدعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 كفر الحاج مختار بضربه الأمثال لله بخلقه ... وأما قول الملحد: "وأزيدك إقناعاً بمثلٍ أضربه لك من نفسك" إلى آخر كلامه القبيح الوقح. فقد تكرر منه ضر بالأمثال لله عز وجلاله وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. فإن أعمال هذا الملحد وأقواله تحقق له الوقوع فيما حذر عنه من الوقوع في الحفرة التي وقع فيها إبليس، وهو يحسب أنه يحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 صنعاً. كما أنه أيضاً يحذر عن دسائس الشيطان، مع أنه هو أكبر دسيسة للشيطان يدعو إلى الشرك في عبادة الله تعالى. وهي التي خلق الله الخلق من أجلها. يقول تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات، الآية:56] ومخ العبادة هو الدعاء الذي يدعو هذا الملحد لصرفه للأموات الغائبين من دون اله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 ضلال الملحد وسادته في معاني الاستشفاع والاستغفار والتوسل ... وأما ما نقله الملحد عن الشعراني عن الفتوحات المكية: فليس هو مما نحن فيه بل نقابله بالسخرية والتكذيب. وأما قول الملحد: "البحث الرابع في الاستغفار والاستشفاع، وإن كان فيما تقدم عن التوسل كفاية لإثبات جواز الاستغفار والاستشفاع، لكني رأيت في كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام ما انفرد معناه عن معنى التوسل الذي يذهب إليه العوام، فأفردته في هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 نحريف الملحد لآيات القرآن في الاستشفاع والاستغفار والتوسل ... سؤال: هل جاء في القرآن العظيم والحديث الشريف وقوع الاستغفار والاستشفاع من الأنبياء وغيرهم؟ فإن قلت: نعم، قلنا: حيث إن الوهابية وإخوانهم لا ينكرون هذا النوع لكنهم يحظرون طلبه بواسطة أحد. فهل جاء بالقرآن العظيم والحديث الشريف ما يبيح الطلب؟ الجواب: إن كلام النوعين وارد في القرآن العظيم والحديث الشريف. وفي بعض ما جاء فيهما ليس إباحة فقط، بل أمر بالطلب، ولا يخفاك أن كل ما جاء بصيغة الأمر ق يكون فرضاً وقد يكون واجباً، وإليك بيان كل نوع على الترتيب: النوع الأول: الشاهد الأول. قال الله تعالى في سورة المؤمن: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر، الآية:7] إلى آخر الآيات الثلاث. ففي هذه الآيات: جمع الأمور الثلاثة، التوسل بقولهم "ربنا وسعت كل شيء" وطب المغفرة بقولهم: "فاغفر" والشفاعة بقولهم "وأخلهم وقهم السيئات" فهذا ما أخبر الله به عن حملة عرشه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وغيرهم ومثل هذه في أول سورة الشورى. والثاني: قال الله تعالى في سورة الشعراء على لسان خليله إبراهيم عليه السلم: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ. وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء، الآيتان:86-87] فهذا الخليل عليه السلام مع علمه بإصرار أبيه على الشرك ما ترك الإلحاح على ربه بنجاة أبيه". والجواب: إن كلام هذا الملحد لا يسمى تأويلاً ولا تحريفاً، بل هو تلفيق وقلب للحقائق، يليق بكل جاهل أعمى، أمثال هذا الملحد. فإنه يسمي ما يدعو إليه من الشكر الأكبر الذي هو دعاء الأموات والغائبين، وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، مع إخلاص الدعاء لهم ن دون الله تعالى توسلاً وتشفعاً واستغفاراً، وما شاء من المغالطات، متمسكاً بذكر الأسماء، مع قلب الحقائق متبعاً لهواه، ولنزعات شيطانه، الذي أعمى بصره وبصيرته عن سلوك الصراط المستقيم. فهذا الملحد من المجادلين بالباطل ليدحضوا الحق به. انظر إلى خبطه وتخليطه فيما يصروه من السؤال والجواب، اللذين يريد بهما صرف نصوص الكتاب والسنة العزيز والسنّة المطهرة عن مواضعها رأساً على عقب، عامداً متعمداً لهذه المغالطة الباطلة لما يدعو إليه من الشرك في خالص عبادة الله تعالى، بل مخها الذي هو الدعاء، حيث يقول في هذا البحث الفاسد: سؤال: "هل جاء في القرآن العظيم والحديث الشريف وقوع الاستغفار والاستشفاع من الأنبياء وغيرهم لأحد من الناس؟ فإن قلت: نعم، قلنا: حيث إن الوهابية وإخوانهم لا ينكرون هذا النوع لكنهم يحظرون طلبه بواسطة أحد. فهل جاء في القرآن العظيم والحديث الشريف ما يبيح الطلب؟ ". الجواب: إن كلا النوعين وارد في القرآن العظيم والحديث الشريف. وفي بعض ما جاء فيهما ليس إباحة فقط، بل أمر بالطلب. ولا يخفاك أن ما جاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 بصيغة الأمر قد يكون فرضاً وقد يكون واجباً. إليك بيان كل نوع على الترتيب. النوع الأول، الشاهد الأول: قال الله تعالى في سورة المؤمن". إلى آخر ما أورده من الآيات والأحاديث في بحثه هنا. فهذه الآيات والأحاديث ليس فيها حرف واحد يشهد لما زعمه هذا الملحد، بل كلها آيات محكمات مصدرة بذكر دعاء ملائكة الرحمن من حمله عرشه ومن حوله، وعن أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين. يخبر تعالى عنهم بأنهم يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا، وعن خليله إبراهيم عليه السلام ودعائه لأبيه. إلى آخر هذه الآيات التي كلها تشهد بخالص التوحيد لله تعالى من ملائكته وأنبيائه ورسله، وعباده المؤمنين، وبخالص العبادة لله تعالى. فلم يجعلوا بينهم وبين الله تعالى واسطة، ولا وسيلة، ولا شفيعاً، ولا ملكاً، ولا نبياً ولا ولياً، ولا سيداً ولا بدوياً بل وحدوا الله الواحد الأحد في خالص عبادته، كما حققتها أيضاً هذه الأمة المحمدية مستجيبة لقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة، الآية:186] ولقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر، الآية:60] فهذا ما أرسل الله به رسله إلى خلقه أجمعين، وعلمه لملائكته المقربين، وحملة عرشه الأقربين، ليدعوا به الحاضر للغائب، والآخر للأول، والفاضل للمفضول، موحدين الله تعالى لا يشركون معه أحداً من خلقه، حتى جاءنا مختار العظمى الجاهل الأحمق يقول في رسالته هذه الضالة الباطلة: "سؤال: فهل جاء في القرآن العظيم والحديث الشريف ما يبيح الطلب؟ " ويعني بالطلب: دعاء الأموات والغائبين، وسؤالهم ما لا يجيب المضطر فيه إلا رب العالمين. يقول أيضاً في جوابه: "إن كلا النوعين ورد في القرآن العظيم والحديث الشريف" ويعني بالنوعين: ما يسميه توسلاً وتشفعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ويزيد على ذلك قوله: "وفي بعض ما جاء في القرآن والحديث الشريف ليس إباحة فقط، بل أمر بالطلب. ولا يخفاك أن كل ما جاء بصيغة الأمر قد يكون فرضاً وقد يكون واجباً، وإليك بيان كل نوع على الترتيب. النوع الأول: الشاهد الأول: قوله تعالى في سورة المؤمن: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر، الآية:7] إلى آخر الآيات الثلاث، ففي هذه الآيات: جمع الأمور الثلاثة، التوسل بقولهم: "ربنا وسعت كل شيء" وطلب المغفرة بقولهم" "فاغفر" والشفاعة بقولهم: "وأدخلهم، وقهم السيئات". هذا ما يقوله الملحد في تقسيمه لحروف هذه الآيات المحكمات إلى الأسماء التي يتعلق بها هو ومن قلدهم من دعاة الشرك في عبادة الله تعالى. فالتوسل والتشفع والاستغفار: هي من الألفاظ التي يموهون بها على الجهال، ويقلبون بها الحقائق على أمثالهم ممن استهوتهم الشياطين، والذين هم من سائمة الأنعام. وهكذا يتصرف هذا الملحد في جميع هذه الآيات والأحاديث التي أوردها في هذا البحث تحريفاً، وقلباً لحقائقها رأساً على عقب لما يدعو إليه من الشرك الأكبر في عبادة الله تعالى. فكل مطلع على كلام هذا الملحد ممن أعطاهم الله تعالى علماً نافعاً، وإيماناً صادقاً، يعلم علماً يقيناً: أن هذا الملحد مسلوب العقل والإيمان لما أقدم عليه من قلب معاني كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم عن مواضعهما. ولولا التنبيه على زيغه وضلاله، لئلا يغتر به بض الجاهلين ما كان يستحق النظر في خرطه وتخليطه، الذي لم يسبقه إليه جاهل قبله. وقد شهد بذلك على نقسه حيث يقول: "وهذا استنباط لم أره في كلام أحد. وفي هذا التنبيه كفاية لكشف ضلاله وافترائه على الله تعالى، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم لمن هداه الله ونوّر بصيرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 كذب الملحد وشيعته على الوهابيين بدعوى تحريم الصلاة على رسول الله ... ثم قال الملحد: "البحث الخامس: في الصلاة على الرسول عليه الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 والسلام. قد علمت مما تقدم: أن الوهابيين وإخوانهم قالوا بتحريم الصلاة على الرسول عليه الصلاة والسلام، وتكفير من يفعل ذلك. وهذا كفر صريح منهم". إلى آخر بحثه. والجواب: أن نقول: سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم، لا يصدقه عاقل، ولا يسيغه من في قبله وزن ذرة من إيمان. فهو اختراع شيطان رجيم نبرأ إلى الله تعالى منه ومن مخترعه الأثيم، ونؤمن بالله وكتبه ورسله، ونشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمداً لصلى الله عليه وسلم أفضل خلق اله أجمعين، وسيد ولد آدم، وأن الله تعالى صلى الله عليه وملائكته، وأمر عباده المؤمنين بالصلاة والتسليم عليه، وأن من صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً، اللهم صل وسلم عليه، بعدد من صلى وسلم عليه، وبعدد من غفل عن الصلاة والتسليم عليه إلى يوم الدين، اللهم صلى وسلم على سيد المرسلين، وإمام الحنفاء الموحدين، صلاة دائمة إلى يوم الدين، وإن رغم أنف الحاج مختار العظمي، الكذاب الأثيم، والله تعالى حسبنا ونعم الوكيل. وأما قول الملحد: "قال السيد أحمد دحلان: وحاصل مذهب أهل السنّة والجماعة والشيعة أيضاً: صحة التوسل وجوازه بالنبي عليه الصلاة والسلام في حياته وبعد وفاته، وكذا بغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين، كما دلت عليه الآيات والأحاديث التي لا تحصى، لأنا معاشر أهل السنّة لا نعتقد تأثيراً ولا خلقاً، ولا نفعاً، ولا ضراً، لغير الله وحده. ولا فرق عندنا في التوسل بالنبي وغيره، كما لا فرق بين كونهم أحياء أو أمواتاً، لأنا نعلم أن لا تأثير لهم بشيء، وتوسلنا بهم هو لكونهم مقربين عند الله مكرمين لديه، ولا نرتاب بأن جاههم عند الله محفوظ بعد موتهم، كما كان في حياتهم، وهذا ليس منه شيء من الشرك، لكن الشرك المحض: هو عند من يحوزون التوسل بالأحياء دون الأموات. ويعتقدون أن لهم تأثيراً، وبيدهم نفع وضر، بل يعتقدون تأثير الأعراض والجمادات كالعَدْوَى والتوسل والتشفع والاستغاثة كلها عندنا بمعنى واحد، والفاعل المطلق: هو الله تعالى. انتهى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 والجواب: أن هذا الملحد: مقلد أعمى، فقد حشا رسالته هذه الباطلة بأكاذيب دحلان وضلالالته، التي كلها زور وافتراء على كتاب الله تعالى، وعلى سنّة رسوله صلى الله ليه وسلم، وعلى مذهب أهل السنّة والجماعة، فيما ينسبه إليهم من الأدلة على جواز دعاء الأموات من الأنبياء والأولياء والصالحين، وتسميته توسلاً. فيقال لهذا الملحد الكذاب: فأين من هذه الآيات والأحاديث التي تقول عنها: "أنها لا تحصى، وإنها تدل على جواز دعاء الأموات والغائبين؟ " فهلا ذكرت آية واحدة أو حديثاً واحداً يدلان على جواز ما تدعيه من إشراك المخلوق مع الخالق، جل جلاله؟ فاقصر فَضَّ الله فاك، وكفى المسلمين شرَّك وشر كل أفاك أثيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 أكاذيب دحلان وضلالاته في تسوية الأحياء بالأموات ... ثم إن هذا الملحد يسوي بين الأحياء والأموات ويقول: "إن الشرك المحض هو عند من يجوزون التوسل بالأحياء دو الأموات، ويعتقدون أن لهم تأثيراً إلى آخر كلامه الباطل المعارض لكتاب الله تعالى وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم. فهذا الملحد من الصم البكم الذي لا يعقلون. فلم يعلم قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات، الآية:56] ,أن الله تعالى جعل لهم أفئدة وأسماعاً وأبصاراً، وأعطاهم قوة وإرادة للقيام بأداء ما كلفهم به من عبادته، وما شرعه لهم في أمور دينهم ودنياهم. فقد جعل الله لكل نفس منهم ما كسبت وعليها ما اكتسبت. وقال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف، الآية:32] وفرق تعالى بين الأحياء والأموات، فقال: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر، الآية:22] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 معارضة الملحدين نصوص الكتاب والسنة بأهوائهم ... فأما دحلان ومقلده مختار العظمي: فهما يعارضان نصوص الكتاب والسنّة، بل يضربان بهما عرض الحائط، ويقول دحلان: "إنه لا فرق بين الأحياء والأموات" بل يقدم تصرف الأموات على تصرف الأحياء ويقول: إن الشرك المحض: هو ما أمر الله به المؤمنين الأحياء لا الأموات من التعاون بينهم في حياتهم الدنيا لإقامة أمر دينهم ودنياهم، يشد بعضهم بعضاً، ويتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بضعاً. ثم شبك بين أصابعه". فهذا الملحدان- دحلان وصاحب هذه الرسالة مختار العظمى- ينكران تعاون المؤمنين الأحياء فيما بينهم في هذه الحياة الدنيا، ويقرانه للأموات مطلقاً لكل من يسألهم ويلتجئ إليهم من دون الله تعالى مخلصاً لهم الدعاء. فسبحان مقلب القلوب القائل: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج، الآية:46] وما ذلك إلا لإتِّباع الهوى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص، الآية:50] . انتهى الجواب على هذه الرسالة الساقطة الباطلة. ونسأل الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المسلمين سلوك صراطه المستقيم، وأن يُعلى كلمة الحقِّ والدين. اللهم انصر من نصرهما، واخذل من خالفهما، إنك يا مولانا سميع عليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، إنك على كل شيء قدير. وصلّى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله الكريم محمد وعلى آله أجمعين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384