الكتاب: الإيمان بين السلف والمتكلمين المؤلف: أحمد بن عطية بن علي الغامدي الناشر: مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1432هـ/2002م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الإيمان بين السلف والمتكلمين أحمد بن عطية بن علي الغامدي الكتاب: الإيمان بين السلف والمتكلمين المؤلف: أحمد بن عطية بن علي الغامدي الناشر: مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1432هـ/2002م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وأنزل عليه قرآناً عربياً، معجزة خالدة، ودستوراً ناطقاً بالحق، وهادياً إلى سواء السبيل، ومصدِّقاً لِما بين يديه من الكتاب، وناطقاً بكل أمر رشيد، أحمده سبحانه، لا أُحصي ثناءاً عليه، وأُصلِّي وأُسلِّم علىخير خلقه وخاتم رسله سيدنا ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومَن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: فقد يسّر الله تبارك وتعالى لي الالتحق بقسم الدراسات العليا الشرعية، بكلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز. ولمّا كان من نظم الجامعة أن يكتب كل طالب بحثاً علمياً في مجال تخصصه لينال به درجة الماجستير، ولما كان تخصصي في الشريعة الإسلامية، وفي فرع العقيدة بالذات، وكانت العقيدة الإسلامية هي الأساس الذي عليه ينبني التشريع، وتتوطد دعائمه، ولما كان هذا الدين يشمل جميع مناحي الحياة البشرية علماً، وعملاً، واعتقاداً وقد بيَّن الله تبارك وتعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم،جميع ما يجب أن نعتقد وأن نعمل، ورسم لنا منهجاً واضحاً لا لبس فيه، ولا غموض، وألزمنا بالتمسك به، فليس لنا أن نحيد عنه، أو نسلك سبلاً من شأنها أن تبعدنا عن منهجه، وتزجّ بنا في متاهات الخلف، والافتراق، لا سيما ذلك الافتراق المشؤوم الذي حدث في مجال العقيدة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الفصل الرابع: وكان عن بيان وجهة نظر السلف إزاء المتكلمين في مسألة الاستثناء. وأما الخاتمة: فقد ذكرت فيها النتائج التي توصلت إليها من هذا البحث. وقد رجعت في بحثي هذا إلى أهم المصادر وعلى رأسها كتاب الله تعالى والصحيحان، وقد رجعت في بيان مذهب السلف إلى كتبهم ككتاب السنة للإمام أحمد، وكتاب الشريعة للآجرى، وكتاب الإيمان لابن تيمية وغيرها. أما المتكلمون: فإنني لم أقلْ قولاً عنهم إلا بإسناده إلى مرجعه من كتبهم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، حتى لا أكون متجنياً على أحد، كما رجعت إلى كتب الفِرق لإيضاح المذاهب التي لم نجد كتباً تخصّها. وقد بذلت أقصى جهدي في سبيل تحقيق الغرض المنشود من رواء هذا البحث والوصول به إلى هذا المستوى، فإن كنت قد وُفقت فذلك من الله، وبتوفيقه وعونه، والله الهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ففرّق هذه الأمة وباعد بين قلوبها، مع وضوح المنهج الرّباني، وصراحة الوحي في كل ما قرره وأرشد إليه. وإن هذا الاختلاف الذي حدث في الأمة الإسلامية، كان منشؤوه العدول عن منهج القرآن الكريم واستبداله بمناهج عقلية سقيمة أدّت بأصحابها إلى الفرقة والتناحر والضلال. ولما كانت مسألة الإيمان من أهم المسائل التي وقع الافتراق فيها بين إفراط وتفريط، مع أن الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صريحة الدلالة إلى ما يجب أن يُتبع وما ينبغي أن يُقال في هذا الموضوع. ولما كانت هذه المسألة، مسألة مصيرية بالنسبة للإنسان المسلم، فقد توكلت على الله وقررت أن يكون موضوع رسالتي ((الإيمان بين السلف والمتكلمين)) وذلك لعدة أسباب منها: أولاً: أن السلف الصلاح قد تمسكوا في بيانهم لِما يتعلق بالإيمان، بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولم يتعسّفوا في توجيه الدليل، فكان بيانهم لهذه المسألة واضحاً جلياً، لا تعقيد فيه ولا غموض. ثانياً: أن مذهب السلف هو المذهب المنطقي الذي يتماشى مع صرح القرآن وصحيح السنة. ثالثاً: أن مذاهب المتكلمين مع تمسكها هي أيضاً بالوحي قد تكلّفت في توجيه نصوصه، وتعسّفتها، وحمّلتها ما لا تحتمل من معانٍ، ووجهتها غير وجهتها بغض النظر عن بعض الفرق التي وافقت السلف في بعض ما ذهبوا إليه. رابعاً: أن المتكلمين قد ظلموا الإنسان المسلم، وجاروا عليه، إذ أن منهم مَن أُطلق له العنان حتى جاروا على الدين نفسه فمحوه كلية من ملامح الحياة وذلك بادعائهم أن الإنسان في حلٍّ مما يفعل وما يقول إذا اشتمل قلبه فقط على الإيمان. ومنهم مَن ظلم الإنسان المسلم أيضاً بإخراجه عن نطاق الإسلام وإدخاله في الكفر البواح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 خامساً: أن تلك المذاهب الكلامية قد جنَتْ على الدين الإسلامي ككل، إذ أنها تؤدي إلى تقاعس أهله عن تطبيق تعاليمه. وإسهاماً في درء تلك الأخطار التي اشتملت عليها تلك المذاهب قررت أن يكون موضوع الإيمان هو موضوع بحثي، حيث حاولت من خلال ما كتبت أن أُبيِّن الصحيح الذي يجب أن يُتبع، والسقيم الذي يجب أن يُنبذ. وقد اقتنعت بهذا الموضوع، ووافق المسؤولون على تسجيله، فاستعنت بالله تعالى، وتوكلت عليه، واستمديثت منه العون والتوفيق، وحاولت جاهداً أن أرسم الخطة التي تؤدي إلى الغرض الذي قصدت. وقسمت رسالتي إلى: مقدمة، وتمهيد، وثلاثة أبواب، وخاتمة. أما المقدمة: فقد ذكرت فيها الدوافع والأسباب التي حملتني على اختيار هذا الموضوع للدراسة، كما بيَّنت فيها الخطة والمنهج الذي سرت عليه في كتابة الرسالة. وأما التمهيد: فقد عرفت فيه تعريفاً موجزاً بالسلف والمتكلمين وأما الباب الأول: فقد بيَّنت فيه مذهب السلف في الإيمان، وأدلتهم التي تمسكوا بها، وقد قسمته إلى خمسة فصول: الفصل الأول: وكان لبيان مذهب السلف في حققة الإيمان. الفصل الثاني: وقد بينت فيه رأي السلف في الصلة بين الإيمان والإسلام. الفصل الثالث: وكان لإيضاح مذهب السلف في زيادة الإيمان ونقصه. الفصل الرابع: وبينت فيه موقف السلف من العصاة. الفصل الخامس: وقد كان عن وجهة نظر السلف في مسألة الاستثناء، وقد بينت في كل ذلك الأدلة التي استندوا إليها في تقرير ما ذهبوا إليه. وأما الباب الثاني: فقد عقدته لبيان مذاهب المتكلمين في الإيمان. وقسمته إلى فصول سبعة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الفصل الأول: كان في مذهب الخوارج في الإيمان. الفصل الثاني: مذهب المرجئة. الفصل الثالث: وكان عن أبي حنيفة والإرجاء، وقد بينت في هذا الفصل مذهب أبي حنيفة في الإيمان، والأساس الذي استند إليه مَن اتهمه بالإرجاء، ثم تكلمت عن مدى صحة هذه التهمة، مبيِّناً أنه ليس مرجئاً بالمعنى المتفق على ذمِّه بين جميع الطوائف. الفصل الرابع: وكان عن بيان مذهب الجهمية. الفصل الخامس: عن مذهب الكرامية. الفصل السادس: وكان عن بيان مذهب المعتزلة في مسائل الإيمان. أما الفصل السابع: فتناولت فيه مذهب الأشاعرة في مسائل الإيمان أيضاً. وقد تناولت عند بيان مذهب كل فرقة ذكر الأدلة التي استندوا إليها لتقرير مذهبهم. الباب الثالث: وقد عقدته للمقارنة بين مذهب السلف، ومذاهب المتكلمين مبيِّناً موقف السلف منهم، وجوابهم عن أدلتهم التي استندوا إليها، ومن ثم تقرير المذهب الصحيح على ضوء هذه المقارنة. وقد قسمت هذا الباب أيضاً إلى فصول: الفصل الأول: كان عن موقف السلف من المتكلمين في حقيقة الإيمان. الفصل الثاني: وكان عن موقف السلف من المتكلمين في زيادة الإيمان ونقصه. الفصل الثالث: وكان عن موقف السلف من المتكلمين في حكم العصاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 تمهيد وقبل البدء في بيان المذاهب في الإيمان، أرى من المناسب أن أُنبَّه إلى أن المقصود بالسلف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تبعهم بإحسان، أولئك الرجال الذين سلكوا منهج القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، دون أن يحيدوا عنها إلى فلسفات عقلية، قد تجر صاحبها إلى مهالك لم يكن يتوقعها. وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بأحسان، لم يكونوا لِيتكلموا في مسألة عقدية إلا بلسان القرآن، ومنطوق السنة، لأن العقيدة أمور تتعلّق بالغيب، ومبنية على التوقيف فلا اجتهاد فيها، وكل مسلم لا يسعه إلا الوقوف عند دلائل الوحي الإلهي. من هنا ورد بيان النبي صلى الله عليه وسلم للفرقة الناجية ـ بأنها المتمسكة بما هو عليه هو وأصحابه من التزامٍ لطريق الوحي، وتطبيقٍ لِما يرشد إليه. وقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم، مدحه صلى الله عليه وسلم للقرون الثلاثة الأولى بقوله: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ". ومن استقرائنا لمنهج أصحاب هذه القرون الثلاثة من الصحابة الذين هم موضع القدوة للجميع، وهم المقصودون بالقرن الأول في الحديث، ومن التابعين الذين نهجوا نهجهم في الالتزام بالنصوص والوقوف عند دلائلها، وهم المعنيون بالقرن الثاني، ومن اتباع التابعين الذين سلكوا طريق سلفهم الصالح في ذلك المنهج، نجدهم قد اعتمدوا في بيان العقائد على الوحي، فلم يأخذوها إلا من الكتاب والسنة فيأخذون من القرآن أصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 العقيدة، والدليل الذي بُنيت عليه، ويمنعون العقل من الجموح إلى ما يبعد عن الوحي من الطرق المبتدعة، ويقيدونه بالتفكر في آيات الله، وفي إيضاح العقيدة من خلال كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك اتضح المتهج السلفي القويم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} . وكل مَن سايرهم في ذلك المنهج ممن جاء بعدهم إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله فإنه يُعدُّ سلفياً، فأولئك سلف، ومن تبعهم في طرق استنتاج العقائد وإيضاحها فهو سلفي. أما المتكلمون فهم أولئك القوم الذي فضّلوا أن يسلكوا طرقاً عقلية لإيضاح العقائد، وقد تصل بهم في أغلب الأحيان إلى الإعراض عن مسلك القرآن، وتفضيل تلك المسالك العقلية على الأدلة النقلية، مما يؤدي بهم أحياناً إلى فهم لا يتفق مع الوحي، فكل من تكلم في العقائد أو في بعضها بطريق العقل المجرد فهو متكلم. وهذا اللقب فيما يظهر لي أنه قد لزمهم من جانب السلف، إذ ورد أن الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ قال: " حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنعال، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبَلَ على الكلام ". وعلى كل حال فإنهم هم أنفسهم قد ارتضوا هذه التسمية، فكانوا يُسمُّون كتبهم بها كما في ((غاية المرام في علم الكلام)) لسيف الدين الآمدي، ((ونهاية الأقدام في علم الكلام)) للشهرستاني، وغيرها. وهذه تسمية مطابقة لِما هم عليه من مناهج، فإنك إذا فتحت كتاباً واحداً من كتبهم تجدهم يطيلون الكلام في سَوْق حجج عقلية، ومناظرات كلامية لإثبات معتقد، أو لإبطال آخر، ضاربين صفحاً في كثيرٍ من الأحيان عن مناهج القرآن والسنة. ومناهج المتكلمين العقلية مذمومة في جملتها من جانب السلف، لأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 بلغت بهم إلى حد تمجيد العقل، وجعله مهيمناً حتى على النص وما خالفه من نصوص أَوَّلوها لِتُوافق تصوُّر العقل. وعلى كل حال فإن الفَرق بين السلف والمتكلمين يتضح بالمنهج وحده، فمَن نَهَجَ طريق القرآن في إثبات العقائد فهو سلفيّ. ومَن حاد عنها واشتغل بالطرق العقلية بعيداً عن الوحي فهو متكلم كائناً مَن كان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الباب الأول: مذهب السلف في الإيمان الفصل الأول: في حقيقة الإيمان ... الفصل الأول مذهب السلف في حقيقة الإيمان إذا استعرضنا رأي السلف حول حقيقة الإيمان فإننا نجد عباراتهم قد اختلفت في التعبير عنهما، فمالك، وأبوبكر بن عياش، وعبد العزيز بن أبي سلمة 1، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد يقولون: الإيمان: المعرفة والإقرار والعمل 2. وسُئل فضيل بن عياض عن الإيمان فقال: الإيمان عندنا داخله وخارجه الإقرار باللسان والقبول بالقلب والعمل به 3. وقال عبيد بن عمير الليثي4: ليس الإيمان بالتمنّي، ولكن الإيمان قول يُعقل وعمل يُعمل 5. وقد حصر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ   1 هو عبد العزيز بن أبي سلمة، الماجشون، بكسر الجيم، بعدها معجمة، مضمومة المدني، نزيل بغداد، مولى آل الهدير، ثقة فقيه، مصنف. مات سنة أربع وستين، أخرج له الجماعة، انظر: ((تقريب التهذيب)) لابن حجر، ج1 ص 510. 2 ابن حنبل، أحمد بن محمد، كتاب السنة، ص74 ط المطبعة السلفية سنة 1349هـ. 3 المصدر نفسه ص 75. 4 هو عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، أبو عاصم المكي، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قاله مسلم، وعدَّه غيره في كبار التابعين، وكان قاصَّ أهل مكة، مجمع على ثقته، مات قبل ابن عمر، خرَّج له الجماعة، ابن حجر، المصدر السابق ص 544. 5 ابن حنبل، المصدر السابق ص76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 عباراتهم المستعملة في أربع: قول وعمل، وقول وعمل ونية، وقول وعمل واتباع السنة، وقول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح 1. وقد بيَّن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ مقصود السلف في عباراتهم هذه بقوله: " والمقصود هنا، أن مَن قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يُفهَم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب. ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يُفهَم منه النية، فزاد ذلك. ومن زاد اتباع السنة، فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال، والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط، فقالوا: بل هو قول وعمل. والذين جعلوه أربعة، بينوا مرادهم، كما سُئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو فقال: قول وعمل ونية وسنة، لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل، فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذاك كان قولاً وعملاً ونية لا سنة فهو بدعة " 2. وبهذا البيان الشافي من شيخ الإسلام، يندفع ما قد يتوهم من خلاف بين عبارات السلف، لأنها جميعها تلتقي عند مفهوم واحد، فجميعهم يقولون لا بدَّ من تصديق القلب وإظهار هذا التصديق بالقول باللسان، ثم التصديق العملي لذلك، بالقيام بعمل ما أوجبه الله ورسوله من الأعمال الظاهرة، والباطنة، واجتناب ما نهى الله ورسوله عنه منها، وفق الكتاب والسنة، كما قال محمد بن الحسين الآجري: " ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب، والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً، ولا تجزئ معرفة بالقلب ونطق باللسان، حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمناً " 3.   1 ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، كتاب الإيمان ص 142 ط المكتب الإسلامي بدمشق. 2 ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، المصدر السابق ص 143. 3 الآجري، أبو بكر محمد بن الحسين،كتاب الشريعة، بتحقيق محمد حامد الفقي، ص119 ط1 بمطبعة السنة المحمدية سنة 1369هـ ـ 1950م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ويقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " كان مَن مضى من سلفنا، لا يفرِّقون بين الإيمان والعمل، والعمل من الإيمان، والإيمان من العمل … فمَن آمن بلسانه، وعرف بقلبه، وصدَّق بعمله، فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها. ومَن قال بلسانه، ولم يعرف بقلبه، ولم يصدِّق بعمله، كان في الآخرة من الخاسرين. وهذا معروف عن غير واحد من السلف، والخلف، أنهم يجعلون العمل مصدِّقاً للقول " 1. ومن القائلين بأن الإيمان قول وعمل: الأئمة الثلاثة، أحمد بن حنبل، ومحمد بن إدريس الشافعي، ومالك بن أنس، وغيرهم من الأئمة، كسفيان الثوري، والأوزاعي، وابن جريج، ومعمر بن راشد، وغيرهم2. وقد ذكر هذا القول أيضاً عن هؤلاء الأئمة وغيرهم، أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة حيث بسط عقيدة كل إمام في باب مستقل، وكلهم يقول بأن الإيمان قول وعمل. كما أن الإمامين الجليلين، صاحبي أصح كتابين بعد كتاب الله تعالى، اللذين اتفقت الأمة بأسرها على جلالتهما، وعلوِّ قدرهما، قد قالا بهذا القول أيضاً، وعوَّلا عليه في كتابيهما واستدلا له استدلالاً واضحاً جلياً. فقد رتب الإمام البخاري كتاب الإيمان من صحيحه ترتيباً ينمُّ عن عقيدته في القول بركنية العمل في الإيمان، وفضلاً عن ذلك فقد استهل كتاب الإيمان بقوله: وهو قول وفعل، ويزيد وينقص. ثم سرد أدلته على ذلك من الكتاب والسنة. ويتضح لنا مما تقدم أن السلف ـ عليهم رحمة الله ـ لم يكتفوا في الإيمان بجانب واحد بل يرون أنه لا بد من الاعتقاد بأنه مكوَّن من أمور ثلاثة، لا غنى عن أحدها، فهو قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، وكلهم مجمعون على ذلك، لأنهم رأوا أن   1 ابن تيمية، المصدر السابق ص 250. 2 ابن حجر، أحمد بن علي، فتح الباري، ج1 ص47 ط المطبعة السلفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الكتاب والسنة يؤيدان هذا المعتقد، بل يشتملان على ما يوجب الأخذ به دون سواه. وقبل البدء في إيضاح أدلتهم على معتقدهم هذا، أرى من الضروري أن أشير إلى أن قول شيخ الإسلام الهروي1: الإيمان تصديق كله. والذي ذكره عنه ابن تيمية 2، لا يتنافى مع الأقوال المتقدمة، والتي اتضح لنا أن المراد منها واحد في المعنى، وكذلك تعبير الشيخ الهروي هنا عن الإيمان، يلتقي معها في المفهوم المعنوي، لأن مراده أن كل ركن من أركان الإيمان، يصدق عليه اسم التصديق، كما أن اعتقاد القلب يعتبر تصديقاً، فكذلك القول باللسان، يصدِّق هذا الاعتقاد، ويبرز وجوده. والعمل يدلُّ على صدق الإنسان فيما اعتقده بقلبه، وأبرزه بلسانه، فإن الإنسان إذا عمل بالواجبات، وتفانى في عمله، فإن ذلك أكبر برهان على صدق ما ادعاه بلسانه، واعتقده بقلبه. وبعد أن اتضح لنا رأي السلف في حقيقة الإيمان القائل بتركُّبه من أمور ثلاثة، تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، واتفاقهم جميعاً على هذا الاعتقاد، إليك عرضاً لأدلتهم التي استندوا إليها. أدلة السلف على مذهبهم في حقيقة الإيمان: إن طريق أهل السنة، كما هو معروف من استقرائنا لِما قدَّموه لنا من تراث عظيم في مجال العقيدة الإسلامية، ومن مواقفهم البطولية في الدفاع عنها، وتثبيت مبدئهم ومنهجهم الذي يسيرون عليه في بيانها وإيضاحها،   1 هو أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن علي بن جعفر بن منصور بن مت الأنصاري الهروي، ولد سنة ست وتسعين وثلاثمائة، وتوفي في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وقد جاوز أربعاً وثمانين. وله مؤلفات كثيرة، منها كتاب الفاروق في الصفات وكتاب ذم الكلام وأهله، ومنازل السائرين. انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ للذهبي، ج3 ص 1183 إلى ص1191، طبع دائرة المعارف العثمانية. 2 ابن تيمية، المصدر السابق ص 251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ومن ثم تقديمها لنا واضحة جلية لا تعقيد فيها: أنهم لا يعدلون عن النص الصحيح، ولا يعارضونه بمعقول، ولا بقول فلان وفلان، كما قال الإمام البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ " كنا عند الشافعي ـ رحمه الله ـ فأتاه رجل فسأله عن مسألة فقال: " قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا "، فقال رجل للشافعي: " ما تقول أنت؟ " فقال: " سبحان الله! أتراني في كنيسة؟ تراني على وسطي زنّار؟! أقول لك قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: ما تقول أنت؟! " 1. ونظائر هذا في كلام السلف كثير، فجميعهم يعلم أن الوحي الإلهي هو الذي يرسم للبشرية معتقدها الصحيح، ويرشدها إلى سبل الخير، ومناهج التطبيق، وأما العقل البشري فقاصر عن تصور العقيدة الصحيحة بمفرده، ووظيفته تنحصر في التفكر في آيات الله في الكون، من خلال توجيهات الوحي الإلهي، وتدبُّر ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله من إيضاح للعقيدة السليمة، إذ ليس لأحد رأي مع التوجيهات النبوية السديدة، ولا قول مع قول الرب تبارك وتعالى، لأنه سبحانه قد أوقف البشر عند حدود رسمها لهم، وقيَّدهم بقضائه، وقضاء رسوله عليه الصلاة والسلام، الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} حيث يقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 2. وتماشياً مع هذا المبدأ، وسيراً على ذلك الطريق السوي، والمنهج القويم، فإن السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ لم يقولوا رأيهم السابق في حقيقة الإيمان، إلا بعد استقراءٍ لنصوص الكتاب والسنة، وسبرٍ لأغوارهما، حيث انتهوا إلى القول به، واعتقاده، وإبطال ما سواه، لأنه هو الرأي الذي يسنده الدليل، ويرشد إليه الوحي الإلهي دون ما سواه. فمن أدلتهم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ   1 شرح العقيدة الطحاوية ص 237 ط3. 2 الأحزاب: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. وقال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2. وقال سبحانه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ … } 3. وغير ذلك من الآيات التي تضيف الإيمان إلى القلب. قالوا: وهذه الآيات دالة على ما لزم القلب من فرض الإيمان، وهو التصديق الجازم، ولا ينفع القول به إذا لم يكن القلب مصدقاً بما ينطق به اللسان مع العمل 4. وأما فرض الإيمان باللسان فدليله قوله سبحانه في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ … } 5. وقال سبحانه في سورة آل عمران: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} 6. وقال عليه الصلاة والسلام: " أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله … " 7.   1 المائدة: 41. 2 النحل: 106. 3 الحجرات ت: 14. 4 انظر: كتاب الشريعة للآجري، ص 119 ط مطبعة السنة المحمدية سنة 1369هـ ـ 1950م. 5 البقرة: 136-137. 6 آل عمران: 136-137. 7 صحيح مسلم مع شرح النووي له، ج1 ص206 ط بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فهذه أدلة على وجوب الإيمان باللسان نطقاً 1. ومن أبرز الأدلة على أن الأعمال من الإيمان: تسميته سبحانه للصلاة إيماناً في قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2. وإنما نزلت في الذين توفوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم على الصلاة إلى بيت المقدس، فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فنزلت هذه الآية 3. ثم أنزل الله تبارك وتعالى فرض الزكاة، حيث قال سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 4، فلو أنهم ممتنعون من الزكاة عند الإقرار، وأعطوه ذلك بالألسنة وأقاموا الصلاة، غير أنهم ممتنعون من الزكاة، كان ذلك مزيلاً لما قبله، وناقضاً للإقرار والصلاة، كما أن إباء الصلاة قبل ذلك ناقض لما تقدم من الإقرار5. وقد أورد أبو عبيد القاسم بن سلام قوله تعلى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) } 6، وقوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه} 7. أوردها كدليل على أن العمل من الإيمان، وقال بعد ذلك: أفلست تراه تبارك وتعالى، قد امتحنهم بتصديق القول بالفعل، ولم يكتفِ منهم بالإقرار دون العمل، حتى جعل أحدهما من الآخرة؟ فأي شيئ يتَّبع بعد كتاب الله   1 الآجري، محمد بن الحسين، المصدر المذكور آنفاً ص 120. 2 البقرة: 143. 3 أخرجه البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، ج1 ص95 ط المطبعة السلفية. 4 التوبة: 103. 5 أبو عبيد القاسم بن سلام، كتاب الإيمان، رسالة رقم ((2)) من رسائل كنوز السنة تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ص56 ط المطبعة العمومية بدمشق بدون تاريخ. 6 العنكبوت: 1-3. 7 العنكبوت: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهاج السلف بعده، الذين هم موضع القدوة والإمامة؟! 1. والحاصل، أن أدلة السلف على أن الأعمال ركن في الإيمان، من القرآن الكريم، كثيرة جداً، وقد حصرها الآجري ـ رحمه الله ـ في ستة وخمسين موضعاً، حيث قال: " واعلموا رحمنا الله تعالى وإياكم، يا أهل القرآن، ويا أهل العلم، ويا أهل السنن والآثار، ويا معشر من فقَّههم الله عز وجل في الدين، بعلم الحلال والحرام، أنكم إن تدبرتم القرآن، كما أمركم الله عز وجل، وعلمتم أن الله عز وجل أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله العمل، وأنه عز وجل، لم يثنِ على المؤمنين بأنه قد رضي عنهم، وأنهم قد رضوا عنه، وأثابهم على ذلك الدخول إلى الجنة، والنجاة من النار، إلا بالإيمان والعمل الصالح. وقرن بالإيمان العمل الصالح، ولم يدخلهم الجنة بالإيمان وحده، حتى ضمَّ إليه العمل الصالح، الذي قد وفَّقهم إليه فصار الإيمان لا يتمُّ لأحد حتى يكون مصدِّقاً بقلبه، وناطقاً بلسانه، وعاملاً بجوارحه. لا يخفى، مَن تدبَّر القرآن وتصفحه وجده كما ذكرت. واعلموا ـ رحمنا الله وإياكم ـ أني قد تصفحت القرآن، فوجدت فيه ما ذكرته في ستة وخمسين موضعاً من كتاب الله عز وجل … " 2 ثم سرد الستة والخمسين موضعاً التي ذكر3. ويطول بنا الحديث إن ذكرناها، ولكن مَن أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى كتابه المشهور ((الشريعة)) الذي انتصر فيه لمذهب السلف. أما السنة المطهرة، فأدلة السلف منها كثيرة جداً، يصعب حصرها كذلك ولكني هنا أكتفي بذكر بعض منها فأقول: إن من أبرزها، واظهرها دلالة حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ المتفق عليه: " بُنيَ الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله،   1 أبو عبيد القاسم بن سلام، المصدر السابق ص66. 2 الآجري، محمد بن الحسين، المصدر المذكور آنفاً ص122. 3 انظر: المصدر نفسه من ص122ـ132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان " 1. ووجه الدلالة في هذا الحديث: أنه جعل الإسلام الذي هو الإيمان كما يشهد له حديث وفد عبد القيس الآتي ـ هو مجموع هذه الأمور الخمسة، وهي أعمال، فدل ذلك على أن الأعمال من الإيمان. وهنا يَرِدُ شبهة على هذا الحديث، فقد يقول قائل: الأركان الأربعة المذكورة بعد الشهادة مبنية عليها، إذ لا يصح شيئ منها إلا بعد وجود الشهادة، فكيف يضمّ مبني إلى مبني عليه في مسمى واحد؟ وقد أجاب ابن حجر عن هذه الشبهة بقوله: أجيب بجواز ابتناء أمر على أمر، ينبني على الأمرين أمر آخر، فإن قيل المبني لا بدَّ أن يكون غير المبني عليه، أجيب بأن المجموع غير من حيث الانفراد، عين من حيث الجمع، ومثاله البيت من الشعر، يُجعل على خمسة أعمدة، أحدها أوسط والبقية أركان، فما دام الأوسط قائماً، فيسمَّى البيت موجود، لو سقط مهما سقط من الأركان، فإذا سقط الأوسط سقط مسمَّى البيت. فالبيت بالنظر إلى مجموعه شيئ واحد، وبالنظر إلى أفراده أشياء، وأيضاً فالنظر إلى أسِّه وأركانه، الأسُّ أصلٌ، والأركان تبعٌ وتكملةٌ 2. ومن أدلة السلف أيضاً على دخول الأعمال في الإيمان، حديث وفد عبد القيس الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: " آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ " قالوا: " الله ورسوله أعلم "، قال: " شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم " 3. قال شارح العقيدة الطحاوية، بعد سَوْقه لهذا الحديث: " ومعلوم أنه لم   1 متفق عليه، وهذا لفظ البخاري. انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، ج1 ص49، وصحيح مسلم مع شرح النووي له ج1 ص176. 2 انظر: فتح الباري، ج1 ص49 ط المطبعة السلفية. 3 مسلم، صحيح مسلم مع شرح النووي له، ج1 ص188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 يردْ أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لِما قد أخبر في مواضع أنه لا بد من إيمان القلب، فعُلِم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان، وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق، للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود " 1. وهناك حديث جبريل المشهور2 الذي فسر فيه الإسلام والإيمان، تفسيرَين مختلفَين. وهنا في حديث وفد عبد القيس فسر الإيمان بما فسر به الإسلام في حديث جبريل وحيث بُنيَ الإسلام على خمس الآنف الذكر. وقد يُتوهم الاختلاف بينها، ولكن توهم الخلاف يزول، إذا علمنا أن الإسلام والإيمان، إن وردا مجتمعَين ـ كما في حديث جبريل فإنه يراد من أحدهما غير ما يراد من الآخر. أما إن ورد أحدهما منفصلاً عن الآخر، فإن الآخر يدخل فيه، كما في حديث وفد عبد القيس هنا وحديث بني الإسلام على خمس السابق. ومن أدلة السلف أيضاً حديث شُعب الإيمان المتفق عليه، كما ذكر ابن منده في كتاب الإيمان، حيث قال: قال محمد بن نصر: وقد جاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الإيمان بضع وسبعون، أو ستون شعبة، أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " 3. فجعل الإيمان شُعباً بعضها باللسان والشفتَين، وبعضها بالقلب، وبعضها بسائر الجوارح. فشهادة أن لا إله إلا الله فعل اللسان، تقول: شهدتُ أشهدُ شهادة، والشهادة فعلها بالقلب واللسان، لا اختلاف بين المسلمين في ذلك، والحياء في القلب، وإماطة الأذى عن الطريق فعل سائر الجوارح" 4اهـ. وقصارى القول، أن أدلة السلف من السنة النبوية   1 شرح العقيدة الطحاوية، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، ص327 ط3. 2 انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، ج1 ص114، ط المطبعة السلفية. 3 صحيح البخاري مع شرحه، ح1. 4 كتاب الإيمان لابن منده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 على أن الأعمال ركن في الإيمان أكثر من أن تُحصر، ولا داعي للاستطراد في ذكرها، فليس غرضنا الاستقصاء، بل التمثيل ـ وبيان طريقتهم في الاستدلال إذ أن حديثاً واحداً صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، برواية الرجال الأثبات أو آية واحدة من كتاب الله تعالى، واضحة الدلالة، كافية للاستدلال. ومَن أراد المزيد، فليرجع إلى كتب السنة، فسيجد عشرات الأحاديث التي تدل على ما ذهب إليه السلف في هذا الموضوع. ولكن الذي يهمني هنا، هو بيان مذهب السلف، الذي يتمثل في اعتقادهم أن الإيمان عبارة عن أمور ثلاثة: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان. والاعتقاد القلبيّ هو الأصل الذي لا شيئ قبله، والأعمال بالجوارح تصديق للإيمان بالقلب. فمَن لم يصدِّق الإيمان بعمل جوارحه، كالطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والجهاد، وأشباه ذلك، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه العمل تكذيباً منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكر تصديقاً منه لإيمانه. إذ أن الدين الإسلامي يتَّسم بالإيجاب، ولا مجال للسلبية فيه، وترك العمل، سلب لروح هذا الدين الحنيف، الذي أتى لِيحثَّ على العمل والتسابق فيه، بعد تطهير النفوس من شوائب الشرك وأدران الجاهلية. إلا أن السلف ـ رحمهم الله ـ في قولهم بأن العمل جزء من الإيمان، وأن التصديق القلبيّ والإقرار اللساني أجزاء أخرى، يقفون من رأي الخوارج والمعتزلة موقف المضاد. إذ أن هؤلاء الأخيرين يعتبرون الإيمان كلاًّ لا يتجزأ، وإن تركَّب من الأمور السالفة الذكر، لذلك قالوا بتخليد مرتكب الكبيرة في النار، وسلبه اسم الإيمان، وإطلاق الكفر عليه عند الخوارج، وجعله في منزلة بين المنزلتين عند المعتزلة. أمّا السلف فقالوا بتجزّء الإيمان فيمكن ذهاب بعضه، وبقاء بعضه الآخر، فيذهب بعض الإيمان بترك بعض الأعمال الواجبة، مالم يكن مستحلاً لتركها بالطبع. وقد بيّن ابن منده ذلك بقوله: " وقال أهل الجماعة: الإيمان (هي) 1 الطاعات كلها بالقلب واللسان   1 هكذا في الأصل، ولعل الصواب ((هو)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وسائر الجوارح، غير أن له أصلاً وفرعاً، فأصله المعرفة بالله، والتصديق له، وبه وبما جاء من عنده بالقلب، واللسان مع الخضوع له، والحب له، والخوف منه، والتعظيم له مع ترك التكبّر والاستخفاف والمعاندة، فإذا أتى بهذا الأصل فقد دخل في الإيمان، ولزمه اسمه وأحكامه ولا يكون مستكملاً له حتى يأتي بفرعه، وفرعه المفترض عليه أداء الفرائض، واجتناب المحارم " 1 وساق حديث شعب الإيمان، وكلام محمد بن نصر. وبهذا يندفع ما قيل ويقال بأن رأي السلف هذا يؤدي إلى قول الخوارج والمعتزلة.   1 ابن منده، محمد بن إسحاق بن محمد، كتاب الإيمان، ورقة رقم 23، مصور بمكتبة جامعة الملك عبد العزيز بمكة رقم 996. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الفصل الثاني الصلة بين الإيمان والإسلام هذه المسألة مما اختلف فيها السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ نظراً لاختلاف فهمهم لبعض النصوص التي وردت في هذا الموضوع. واختلافهم يدور حول آراء ثلاثة: (1) القول الأول: القول بالترادف بينهما، وأنهما اسمان لِمسمَّى واحد. وهذا الرأي قال به جماعة من السلف منهم الإمام الجليل محمد بن إسماعيل البخاري ـ رحمه الله ـ فقد قال في صحيحه: باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة، وبيان النبي، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " جاء جبريل يعلِّمكم دينكم "، فجعل ذلك كله ديناً. وما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم لِوفد عبد القيس من الإيمان، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 1 ثم ساق حديث جبريل عليه السلام 2. ومحصّل كلامه على ما ذكره الإمام ابن حجر في فتح الباري: أن المصنِّف يرى أن الإيمان والإسلام عبارة عن معنى واحد، فلما كان ظاهر   1 آل عمران: 85. 2 البخاري، محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح مع شرحه لابن حجر، ج1 ص114 ط المطبعة السلفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام، وجوابه يقتضي تغايرهما، وأن الإيمان تصديق بأمور مخصوصة والإسلام إظهار أعمال مخصوصة، وأراد أن يرد ذلك بالتأويل إلى طريقته، قوله " وبيان " أي مع بيان أن الاعتقاد والعمل دِين، وقوله " وما بيَّن " أي مع ما بيَّن للوفد أن الإيمان هو الإسلام، حيث فسره في قصتهم بما فسر به الإسلام هنا، وقول الله أي مع ما دلَّت عليه الآية أن الإسلام هو الدين، ودل عليه خير أبي سفيان1 أن الإيمان هو الدين، فاقتضى ذلك أن الإسلام والإيمان أمر واحد 2 أهـ. ومن هذا الكلام يتبيَّن لنا جزم الإمام البخاري بالترادف. وممن قال بهذا الرأي أيضاً، الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده حيث قال في كتابه ((الإيمان)) : " ذكر الأخبار الدالة، والبيان الواضح من الكتاب، أن الإيمان والإسلام اسمان لمعنى، وأن الإيمان الذي دعا الله العباد إليه، هو الإسلام الذي جعله الله ديناً، وارتضاه لعباده، ودعاهم إليه، وهو ضد الكفر الذي سخطه ولم يرضَه لعباده " 3. ثم بدأ في سرد أدلته من القرآن الكريم على هذا المعتقد، ومن أدلته ـ وهي طبعاً أدلة كل مَن وافقه في هذا الرأي ـ: قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} 4. وقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّه} 5. فمدح الله الإسلام بمثل ما مدح به الإيمان وجعله اسم ثناء وتزكية، وأخبر أن مَن أسلم فهو على نور من ربه وهدىً، وأخبر أنه دينه الذي ارتضاه لعباده، كما في قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 6. ألا ترى أن أنبياء الله ورسله رغبوا فيه إليه، وسألوه إياه، فقال إبراهيم   1 انظر: حديث رقم 51 من صحيح البخاري ـ ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. 2 ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج1 ص114، ط المطبعة السلفية. 3 ابن منده، المصدر المذكور آنفاً ورقة رقم 22. 4 الأنعام: 125. 5 الزمر: 22. 6 المائدة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} 1، وقال يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} 2، وقال سبحانه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3، وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} 4، وقال في موضع آخر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ} إلى قوله سبحانه: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} 5فحكم الله بأن مَن أسلم فقد اهتدى، فسوَّى بينهما6. وهذا هو رأي محمد بن نصر المروزي الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ 7. وأصحاب هذا الرأي فسروا قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 8 بأن المراد بالإسلام في هذه الآية، الاستسلام خوف السبي والقتل، مثل إسلام المنافقين قالوا: وهؤلاء كفار، فإن الإيمان لم يدخل قلوبهم ومَن لم يدخل الإيمان في قبله فهو كافر. وقد ترجم الإمام البخاري لهذه الآية بقوله: باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل كقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 9 يعني أن المقصود بالإسلام هنا الحقيقة اللغوية لا الشرعية، يقولون: إن كل مسلم مؤمن، وكل مؤمن مسلم، فإثبات أحدهما، هو بعينه إثبات الآخر، ونفي أحدهما هو نفي الآخر.   1 البقرة: 128. 2 يوسف: 101. 3 البقرة: 132. 4 آل عمران: 30. 5 البقرة: 137. 6 ابن منده، المصدر السابق ورقة رقم 22. 7 ابن تيمية، كتاب الإيمان، ص 310، دمشق، ط المكتب الإسلامي. 8 الحجرات: 14. 9 البخاري، محمد بن إسماعيل، المصدر المذكور آنفاً جذ ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 (1) القول الثاني: التفريق بين مسمَّى الإسلام والإيمان، وأن الإسلام هو الكلمة والإيمان هو العمل. وهذا قول جماعة من السلف، منهم الزهري وحماد بن زيد، ورواية عن أحمد، كما ذكر ابن منده عن عبد الملك الميموني قال: سألت أحمد بن حنبل: " أتفرِّق بين الإيمان والإسلام؟ " قال: " تعم … " وقال بهذا القول جماعة من الصحابة والتابعين، منهم عبد الله بن عباس، والحسن، ومحمد بن سيرين1. واستدل هؤلاء بآية الحجرات: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 2. وقالوا: إن التفسير الصحيح للآية ليس كما ذكره البخاري ومَن حذا حذوه، لأن القول الراجح في تفسير هذه الآية أنهم ليسوا بمؤمنين كاملي الإيمان، لا أنهم منافقون، كما نفي الإيمان عن القاتل، والزاني، والسارق، ومَن لا أمانة له. ويؤيد هذا سياق الآية، فإن السورة من أوَّلها إلى هنا، في النهي عن المعاصي، وأحكام بعض العصاة، ونحو ذلك، وليس فيها ذكر المنافقين. ثم قال بعد ذلك: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} 2 ولو كانوا منافقين ما نفعتهم الطاعة. ثم قال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 3، يعني ـ والله أعلم ـ أن المؤمنين الكاملي الإيمان، هم هؤلاء لا أنتم، بل أنتم منتفٍ عنكم الإيمان الكامل. يؤيد هذا أنه أمرهم، أو أذن لهم أن يقولوا أسلمنا والمنافق لا يقال له ذلك، ولو كانوا منافقين لَنُفيَ عنهم الإسلام، كما نُفيَ عنهم الإيمان، ونهاهم أن يمنّوا بإسلامهم، فأثبت لهم إسلامهم، ونهاهم أن يمنّوا به على رسوله، ولو لم يكن إسلاماً صحيحاً لقال: لم تسلموا بل أنتم كاذبون، كما كذَّبهم في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} 4. ومن   1 ابن منده، محمد بن إسحاق، المصدر المذكور آنفاً ورقة رقم 21. 2 الحجرات: 14. 3 الحجرات: 15. 4 المنافقون: 1. انظر هذا الرأي في تفسير آية الحجرات في شرح العقيدة الطحاوية، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني ص231، ط3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 أدلة أصحاب هذا الرأي أيضاً، حديث سعد بن أبي وقاص: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً، ولم يعطِ رجلاً منهم شيئاً، فقلت: " يارسول الله، أعطيت فلاناً وفلاناً،ولم تعطِ فلاناً وهو مؤمن "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أو مسلم. أعادها ثلاثاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أو مسلم، ثم قال: إني لأعطي رجالاً وأمنع آخرين، وهم أحب إليَّ منهم، مخافة أن يُكَبوا على وجوههم في النار " 1. وقالوا: إن الإيمان خاص، يثبت الاسم به بالعمل مع التوحيد، والإسلام عام، يثبت الاسم بالتوحيد، والخروج من ملل الكفر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر هذا القول وأشار إلى استدلال أصحابه بحديث سعد السابق، قال: " وهذا على وجهين، فإنه قد يراد به الكلمة بتوابعها من الأعمال الظاهرة، وهذا هو الإسلام، الذي بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت " 2. وقد يراد به الكلمة فقط، من غير فعل الواجبات الظاهرة، وليس هذا هو الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم. لكن قد يقال: إسلام الأعراب كان من هذا، فيقال: الأعراب وغيرهم كانوا إذا أسلموا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أُلزموا بالأعمال الظاهرة: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. ولم يكن أحد يُترك بمجرد الكلمة، بل كان مَن أظهر المعصية يُعاقب عليها. وأحمد إن كان أراد من هذه الرواية أن الإسلام هو الشهادتان فقط، فكل مَن قالها فهو مسلم، فهذه إحدى الروايات عنه. والرواية الأخرى: لا يكون مسلماً حتى يأتي بها ويصلي، فإذا لم يصلِّ كان كافراً. والثالثة: إنه كافر بترك الزكاة أيضاً. والرابعة: إنه يكفر بترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها، دون ما إذا لم يقاتل، وعنه أنه لو قال: أنا   1 رواه البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه، حديث رقم 27، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. انظر: صحيح البخاري مع الشرح، ج1 ص79، ط المكتبة السلفية. 2 هذا هو تفسير الإسلام الوارد في حديث جبريل المشهور، المتفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 أؤديها، ولا أدفعها إلى الإمام، لم يكن للإمام أن يقتله. وكذلك عنه رواية: إنه يكفر بترك الصيام والحج، إذا عزم أنه لا يحج أبداً. ومعلوم أنه على القول يكفر تارك المباني، يمتنع أن يكون الإسلام مجرد الكلمة، بل المراد أنه إذا أتى بالكلمة دخل في الإسلام، وهذا صحيح، فإنه يُشهد له بالإسلام، ولا يُشهد له بالإيمان الذي في القلب، ولا يُستثنى في هذا الإسلام، لأنه أمر مشهور، لكن الإسلام الذي هو أداء الخمس، كما أُمر به يقبل الاستثناء، فالإسلام الذي لا يُستثنى فيه الشهادتان باللسان فقط فإنها لا تزيد، ولاتنقص، فلا استثناء فيه " 1. كما أشار ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إلى ضعف القولين السالفين، ووصفهما بالتطرف ومخالفتهما لحديث جبريل، وسائر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم 2. وصحة ما قاله ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ حول ما ذكر من الأقوال ظاهرة، ويزيدها وضوحاً ما سيأتي عند ذكر القول الثالث، الذي هو تحقيق مذهب السلف في هذه المسألة. (1) القول الثالث: وهو تحقيق مذهب السلف، الذي تجتمع عليه النصوص الواردة في هذا الموضوع، أن بين الإسلام والإيمان تلازماً مع افتراق اسميهما، وأنَّ حال اقتران الإسلام بالإيمان، غير حال إفراد أحدهما عن الآخر، فمثل الإسلام من الإيمان، كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى، فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم، كشيئ واحد. كذلك الإسلام والإيمان، لا إيمان لِمَن لا إسلام له، ولا إسلام لِمَن لا إيمان له، إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه، ولا يخلو المسلم من إيمان به يصحُّ إسلامه.   1 ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، كتاب الإيمان، ص216-217، ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر بدمشق. 2 المصدر نفسه ص 320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وهذا المعنى صحيح وسليم في نظري، لأن لكلٍّ من الإيمان والإسلام حقيقة شرعية مستقلة، كما أن لكلٍّ منهما حقيقة لغوية مستقلة، وغاية ما يقال أنهما متلازمان في الوجود، لا مترادفان في الحقيقة والمعنى. ولقوة ارتباط كل منهما بالآخر، فإنه إذا وُجد أحدهما منفرداً في نص من النصوص، لا يمكننا أن نتصوره وحده، فيكون الآخر داخلاً فيه على سبيل التلازم والارتباط وتحقيق الهدف المراد من كلٍّ منهما مجتمعين. وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ هذه الوجهة بقوله: " إذا قيل إن الإسلام والإيمان التام متلازما، لم يلزم أن يكون أحدهما هو الآخر، كالروح والبدن، لا يوجد عندنا روح إلا مع البدن، ولا يوجد بدن حيّ إلا مع الروح، وليس أحدهما الآخر، فالإيمان كالروح، فإنه قائم بالروح، ومتصل بالبدن، والإسلام كالبدن، ولا يكون البدن حيّاً إلا مع الروح بمعى أنهما متلازمان، لا أن مسمَّى أحدهما هو الآخر. وإسلام المنافقين كبدن الميت، جسد بلا روح، فما من بدنٍ حيٍّ إلا وفيه روح، ولكن الأوراح متنوعة … " 1. وهذا الرأي في نظري أسلم، وأوْجَه، لأن النصوص تدل على ذلك دلالة واضحة والقول به يُعتبر جمعاً بين الآراء التي تَقدَّم ذكرها، لأن غاية ما يقال للتقريب بين الأراء المختلفة: إن مَن قال بالترادف، إنما قاله مبالغة منه في قوة ارتباط الإسلام والإيمان كل منهما بالآخر، حتى لكأنَّهما شيئ واحد. ومَن قال بأن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، فإنه لم يُرِد الكلمة مجردة عن توابعها المذكورة في حديث جبريل، وإنما أرادها مع توابعها، وأنه حقيقة شرعية للإسلام، تختلف عن الحقيقة الشرعية للإيمان الواردة في حديث جبريل وهي أعمال القلب، ولم يُرِد أنهما متغايران، بحيث يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر في الاعتبار الشرعي. وعليه فإن هذا الرأي أجمع للنظرتين، وأبعد عن التعبيرات التي قد تُوهم اعتقاداً لم يقصده السلف، وهو إنكار الحقيقة الشرعية المستقلة على الرأي الأول، وتُوهم التغاير بينهما   1 ابن تيمية، المصدر السابق ص 313. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 على الرأي الثاني مما يؤدي إلى إنكار النصوص الشرعية الواردة في بيان المذهب السليم الذي نحن بصدد سياقه. أما آية الحجرات السالفة الذكر وهي قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فإن تفسير أصحاب الرأي الأول لها أصح، لأنه نفى أن يكون الإيمان قد دخل قلوبهم نفياً قاطعاً، فيكون الإسلام الوارد في الآية المقصود منه الحقيقة اللغوية لا الشرعية. أما النصوص التي هي مناط الاستدلال لهذا الرأي الأخير ـ وهو القول بالتلازم بين الإسلام والإيمان مع افتراق اسميهما ـ فحديث جبريل المشهور، وحديث وفد عبد القيس. أما حديث جبريل، فقد رواه عبد الله بن عمر عن أبيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتَيه إلى ركبتَيه، ووضع كفَّيه على فخذَيه، وقال: " ما محمد، أخبرني عن الإسلام "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة،وتصوم رمضان، وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلاً "، قال: " صدقت ". قال: فعجِبنا له يسأله ويصدِّقه. قال:" فأخبرني عن الإيمان "، قال:" أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره "، قال:" صدقت ". قال: " فأخبرني عن الإحسان " … 1. وأما حديث وفد عبد القيس، فرواه مسلم في صحيحه، عن ابن   1 متفق عليه. وهذا لفظ مسلم. انظر: صحيح مسلم مع شرح النووي له، ج1 ص157، وصحيج البخاري مع شرحه فتح الباري، ج1 ص 114، ط المطبعة السلفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 عباس رضي الله عنهما قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا هذا الحيّ من ربيعة، بيننا وبينك كفار مضر، فلا نخلص إليك إلا في شهر حرام، فمُرْنا بأمر نعمل به، وندعوا إليه من رواءنا، قال: " آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، الإيمان بالله، ثم فسرها لهم فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن أربع … " 1. ووجه الاستدلال بهذين الحديثين: أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الإسلام والإيمان في حديث جبريل، فجعل الإسلام الأعمال الظاهرة، والإيمان الاعتقاد الباطن وهذا يدل على اختلافهما من حيث الحقيقة الشرعية، ودفعاً لِتوهّم التباين بينهما فقد فسر الإيمان في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام في حديث جبريل لنكون على علم بالتلازم في الوجود، مع افتراق الاسم وقد تقدَّم تشبيههما بالشهادتين. ودفعاً لِتوهّم التعارض بين الحديثين، فقد جمع السلف بينهما ـ على أن الإيمان والإسلام إذا ذُكرا مجتمعَين، كما في حديث جبريل، فإنه يراد من كل منهما غير ما يراد من الآخر، فيراد من الإيمان ما في القلب،من الإيمان بالله وملائكته … إلى آخر ما ذُكر في الحديث. ويراد بالإسلام الشهادتان بتوابعهما من الأعمال الظاهرة. وإذا ذُكر أحدهما مجرداً عن الآخر دخل الآخر فيه، كما في حديث وفد عبد القيس. قال أبو عمرو بن الصلاح في كلامه على حديث جبريل: قوله صلى الله عليه وسلم: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. والإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ". قال: هذا بيان لأصل الإيمان وهو التصديق الباطن،   1 صحيح مسلم، مع شرحه للنووي، ج1 ص183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وبيان لأصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد الظاهر، وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتمُّ استسلامه ـ وتركه لها يُشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله. ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث، وسائر الطاعات، لكونها ثمرات للتصديق الباطن، الذي هو أصل الإيمان ومقويات ومتممات وحافظات له. ولهذا فسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، وإعطاء الخُمس من المغنم. ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على مَن ارتكب كبيرة، أو بدل فريضة، لأن اسم الشيئ مطلقاً يُطلق على الكامل منه، ولا يُستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد، ولذلك جاز نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ". واسم الإسلام يتناول أيضاً ما هو أصل الإيمان، وهو التصديق الباطن ويتناول أصل الطاعات، فإن ذلك كله استسلام، قال: فخرج مما ذكرنا وحققنا أن الإيمان والإسلام يجتمعان، ويفترقان، وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، قال: وهذا تحقيق وافر بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام، والتي طالما غلط فيه الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم 1أهـ. وكلام ابن الصلاح هذا كافٍ في بيان ما يمكن أن تجتمع عليه نصوص الكتاب والسنة، التي استدل بها كل فريق. أما ما ذكره من أن الجمهور من أهل السنة يقولون: إن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، فلقائل أن يقول: كيف تثبت هذا القول على سبيل الإقرار، وأنت ذكرت في التحقيق السابق أنه لا يمكن أن يوجد إسلام بدون إيمان، إذ لا بد للمسلم من إيمان به يصح إسلامه؟ قلت: هذا صحيح، ولكنه لا يتنافى مع   1 نقلاً عن: النووي محي الدين يحيى بن شرف، شرح صحيح مسلم، ج1 ص147ـ 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ما ذكره ابن الصلاح هنا. إذ أننا نظرنا إليه بنظرتين، فإذا نظرنا إليه من الناحية الشرعية المعتبرة، ارتسم أمامنا القول الأول، إذ من الناحية الشرعية لا يمكن أن يوجد إسلام بدون إيمان، فالأسلام المعتبر لا بد معه من إيمان يصححه. أما هذا المعنى الذي ذكره ابن الصلاح فيمكن أنه يقصد أن كل مؤمن كامل الإيمان فهو مسلم.أما المؤمن العاصي، فإنه ناقص الإيمان، فلا يُعطى الاسم الكامل إلا بقيدٍ، أو يقال أنه مسلم ولا يقال مؤمن، لأن الإطلاق لا يكون إلا للكامل منه فحينئذٍ يكون مسلماً وليس مؤمناً بمعنى أنه ليس كامل الإيمان، لا أنه لا إيمان معه البتة. وقد يراد به المعنى اللغوي للإسلام، والمعاملة الظاهرة من قبَلنا لِمَن ادعى ذلك، ففي اللغة اسم المسلم يُطلق على المنافق الذي يدَّعي الإسلام، ولنا أن نعامله في الظاهر بأنه مسلم، فمَن أسلم بظاهره دون باطنه فهو منافق يُقبل منه ما أظهر من إسلام، لأننا لم نؤمَر بالشقِّ عن قلوب الناس، والنفاذ إلى ما وَقَرَ فيها لِتَبيُّنه، ثم اعتبار ما أخفاه في قلبه نَكِلَه إلى الله سبحانه وتعالى، لأنه هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولا المعنيين صحيح. لكن الظاهر أن ابن الصلاح قصد الأول منهما. أما قوله: إن الطاعات ثمرات التصديق الباطن، فإنه يقصد الإيمان في القلب، فإنه يُوجب ويقتضي القيام بالأعمال الظاهرة، التي هي لوازم له، إذ لا يُعقل وجود الملزوم بدون اللازم، فانتفاء اللازم دليل على عدم الملزوم أو ضعفه، وحينئذٍ فكل نقص يقع في الأعمال الظاهرة إنما هو انعكاس لنقص الإيمان الباطن، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار، والحب والانقياد باطناً، ولا يحصل أثر ذلك في الظاهر مع القدرة عليه، لا أن الإيمان الباطن قد يكون سبباً، وقد يكون الإيمان الباطن تاماً كاملاً وهي لم توجد، كما قالت المرجئة. ومن أدلة هذا الرأي أيضاً، أن الله قد جعل ضد الإسلام والإيمان واحداً، فلولا أنهما كشيئ واحد في الحكم والمعنى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ما كان ضدهما واحداً فقال سبحانه: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} 1 وقال: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2. وعلى مثل هذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام من صنف واحد، كما في حديث وقد عبد القيس المتقدم، مع حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بُنيَ الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة،وحج البيت، وصوم رمضان " وفي رواية " وصيام رمضان، وحج البيت ". فدل ذلك على أنه لا إيمان باطن إلا بإسلام ظاهر، ولا إسلام ظاهر إلا بإيمان باطن، وأن الإيمان والعمل قرينان، لا ينفع أحدهما بدون صاحبه. وهكذا يتبيَّن لنا أن هذا الرأي هو الصحيح الذي ينبغي أن يقال: والذي عليه تجتمع آراء السلف، لأن الخلاف بينهم في هذه المسألة لفظيّ في نظري إذ أن الجميع متفقون على أن العمل لا بد منه، وأن الإيمان لا قيمة له إذا لم يُشفع بالعمل. وكلهم يقول بنفصان الإيمان إذا قصر في العمل وزيادته حتى درجة الكمال، إذا حافظ الإنسان على جميع المأمورات واجتنب كافة المنهيات وتوخى الإحسان والدقة في ذلك.   1 آل عمران: 76. 2 آل عمران: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الفصل الثالث زيادة الإيمان ونقصه هذه المسألة هي محور خلاف بين الطوائف الإسلامية، فكل فرقة منها بَنَتْ رأيها في الإيمان على أساس أن ينتج القول بالزيادة والنقصان، أو عدمهما، كما سيتبيَّن ذلك أثناء بسطنا لآرائهم في مواضعها إن شاء الله. وبيت القصيد في هذا الفصل، هو بيان المذهب الذي ارتضاه السلف رحمهم الله، في هذه المسألة، فأقول وبالله التوفيق: إن السلف رحمهم الله تعالى، بعد أن أجمعوا على القول بركنية العمل في الإيمان، نظروا إلى الأمر الواقع، فرأوا الناس على درجات من التفاوت في الأعمال إذ لا يمكنهم التساوي في الإتيان بها على الوجه المطلوب، وذلك لتفاوت استعداداتهم في تقبّل ما يصل إليهم من التكاليف. فمنهم مَن بلغ من الكمال درجة يستطيع معها تنفيذ الأوامر التشريعية، واجتناب جميع المنهيات، التي نهى عنها الشارع الحكيم، فهو بهذا تقبّل التشريع الرَّباني، مصدِّقاً بقلبه تصديقاً جازماً، فأنتج العمل، دون تفريط. ثم أنه لم يقف عند هذا الحد بل طفق ينشد درجة أكمل، فحرص على المحافظة على الإتيان بطاعات حثَّ الشارع على الإتيان بها استحباباً لا إيجاباً، كإماطة الأذى عن الطريق، والتصدق على الفقراء، ومواساة أهل المصائب والمنكوبين، ونحو ذلك من مكارم الأخلاف وصالح الأعمال. وصنف آخر شارك هؤلاء في الإتيان بسائر الأوامر، واجتناب كافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 المنهيات، إلا أنه اقتصر عليها ولم يتعدَها إلى ما سواها من النوافل وثالث تقبّل التشريع وصدَّق به، إلا أنه قصر في الإتيان ببعض الواجبات تهاوناً، وقادته شهوته الجامحة إلى ارتكاب بعض المحرمات. فهؤلاء أصناف ثلاثة، على درجات متباينة من الاجتهاد في استقصاء متطلبات الإيمان. وهذا أمر واقع محسوس لا يملك أحد إنكاره، ولا يستطيع عاقل أن يساوي بين الأول والأخير، والتفاوت بينهما أوضح وأجلى من أن يُدَلَّلَ عليه بدليل. هكذا تفحَّص السلف في هذا الأمر المحسوس وعليه بنوا رأيهم في الإيمان فأجمعوا على القول بزيادته ونقصانه وتفاضل أهله فيه. فمن أتى بجميع ما أمره الله به من الأقوال والأعمال، واجتنب جميع ما أُمر باجتنابه منها، كان أكمل إيماناً ممن فرَّط في شيئ من ذلك. وعليه فإن إيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أكمل من إيمان معاوية، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل الأمة إيماناً، بل أكمل البشرية كلها. وهذا القول هو الذي أجمع السلف وأصحاب الحديث على القول به واعتقاده1، ومنهم الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، إلا أن هناك قولاً آخر يُروى عنه وهو أن الإيمان يزيد، أما النقصان فتوقف فيه، فلم يجزم بنفي ولا إثبات. وله في ذلك شبهتان ذكرهما الإمام النووي: 1 ـ أن التصديق بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم لا ينقص، لأنه إذا نقص صار شكّاً وخرج عن اسم الإيمان. 2 ـ وقال بعضهم: إنما توقف الإيمان الإمام مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأوَّل عليه موافقة الخوارج الذين يكفِّرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب 2.   1 انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية، ص186. 2 النووي، محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف، شرح صحيح مسلم، ج1 ص146، ط المطبعة المصرية ومكتبتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وقد يكون السبب الذي دفع الإمام مالكاً إلى هذا الرأي ـ على فرض صحة نسبته إليه ـ هو أن القرآن الكريم إنما صرَّح بالزيادة ولم يتعرَّض للنقصان. ولكن الأليق بمسلك مالك الرواية الأخرى التي يوافق فيها السلف لأن الشُّبَه التي ذكرها الإمام النووي تؤدي إلى القول بأنه يقصد بالإيمان التصديق فقط، وهذا ما لم يقلْه الإمام مالك، بل المعروف عنه قوله بما قال به السلف من أن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وقد تقدم ذلك. كما أن الرواية الأخرى التي تذكر عنه موافقته للسلف أقوى وأشهر من حيث أنها توافق مبدأه المعروف عنه. وقد ذكر هذه الرواية الإمام النووي أيضاً عن عبد الرزاق قال: سمعت مَن أدركتُ من شيوخنا، وأصحابنا، سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وعبيد الله بن عمر، والأوزاعي، ومعمر بن راشد، وابن جريج، وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. وهذا قول ابن مسعود، وحذيفة، والنخعي، والحسن البصري، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعبد الله بن المبارك1. كما ذكر هذا القول عن مالك أيضاً الإمام أحمد في كتاب السنة 2 وقد ثبت لفظ الزيادة والنقصان من الإيمان عن الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يُعرف فيه مخالف من الصحابة. فروى الناس من وجوه كثيرة مشهورة: عن حماد بن سلمة، عن أبي جعفر، عن جدِّه عمير بن حبيب الخطمي، وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الإيمان يزيد وينقص "، قيل له: " وما زيادته وما نقصانه؟ " قال: " إذا ذكرنا الله وحمدناه، وسبحناه فتلك زيادته، وإذا أغفلنا ونسينا فتلك نقصانه " 3.   1 النووي، محي الدين يحيى بن شرف، شرح صحيح مسلم ج1 ص146، ط المطبعة المصرية ومكتبتها. 2 ابن حنبل، أحمد بن حنبل كتاب السنة، ص76، ط المطبعة السلفية سنة 1349هـ. 3 ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، كتاب الإيمان، ص186. دمشق، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر. وانظر: كتاب الإيمان لابن أبي شيبة، ج 7 حديث رقم 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: " الإيمان يزيد وينقص " 1. وقال: " إن من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد إيمانه أم ينقص؟ وإن من فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنَّى تأتيه" 2. فهذه أقوال وردت عن الصحابة رضوان الله عليهم واضحة الدلالة منطوقاً ومفهوماً على أنهم كانوا يعتقدون زيادة الإيمان ونقصه، ولا شك أنهم أعلم بدلائل النصوص الشرعية وأكثر فهماً لها، وإنما نحن عالة عليهم وعلى من اقتفى أثرهم من سلف هذه الأمة الذين لم يحيدوا قيد أنملة عن دلائل النصوص الشرعية المتمثلة في الكتاب والسنة. ومن أبرز عبارات السلف في هذا الموضوع ما رواه البخاري في صحيحه عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه من أنه كتب إلى عدي بن عدي: " إن للإيمان فرائضاً وشرائعاً، وحدوداً وسنناً، فمَن استكملها استكمل الإيمان، ومَن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان. فإن أعِشْ فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمُتْ فما أنا على صحبتكم بحريص " 3. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن مالك بن دينار قوله: " الإيمان يبدو في القلب ضعيفاً ضئيلاً كالبقلة، فإن صاحبه تعاهده فسقاه بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة، وأماط عنه الدغل، وما يضعفه ويوهنه، أوشك أن ينمو ويزداد، ويصير له أصل وفروع وثمرة وظلَّ إلى ما لا يتناهى حتى يصير أمثال الجبال. وإن صاحبه أهمله ولم يتعاهده، جاءه عنز فنتفها، أو صبي فذهب بها أو أكثر عليها الدغل فأضعفها، أو أهلكها، أو أيبسها كذلك الإيمان " 4.   1 المصدر نفسه. 2 المصدر نفسه. 3 البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري مع الشرح، كتاب الإيمان، ح1 ص45، ط المطبعة السلفية. 4 ابن تيمية، كتاب الإيمان، ص188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 والآثار الواردة في هذا المعنى عن الصحابة والتابعين وأئمة السلف من بعدهم كثيرة، كلها تنطق بأنهم يُجمعون على رأي واحد هو القول بزيادة الإيمان ونقصه من عدة وجوه ذكرها الإمام ابن تيمية في كتاب الإيمان وهي: الأول: الإجمال والتفصيل فيما أُمروا به، فإنه وإن وجب على جميع الخلق الإيمان بالله ورسوله، ووجب على كل أمة التزام ما يأمر به رسولهم مجملاً، فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل عبد من الإيمان المفصَّل مما أخبر به الرسول ما يجب على مَن بلغه خبره، فمَن عرف القرآن والسنن ومعانيها لزمه من الإيمان المفصل بذلك ما لا يلزم غيره , ولو آمن الرجل بالله وبالرسول باطناً وظاهراً، ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين مات مؤمناً بما وجب عليه من الإيمان، وليس ما وجب عليه ولا وقع منه مثل إيمان مَن عرف الشرائع فآمن بها وعمل بها. بل إيمان هذا أكمل وجوباً ووقوعاً، فإن ما وجب عليه من الإيمان أكمل، وما وقع منه أكمل. وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1 أي في التشريع بالأمر والنهي، لا أن كل واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة وأنه فعل ذلك، بل الناس متفاضلون في الإيمان أعظم تفاضل. الثاني: الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم، فمَن طلب علم التفصيل وعمل به، فإيمانه أكمل ممن عرف ما يجب عليه والتزمه وأقرَّ به ولم يعمل بذلك كله. وهذاالمُقرُّ المقصِّر في العمل، إن اعترف بذنبه وكان خائفاً من عقوبة ربه علىترك العمل أكمل إيماناً ممن لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عمل بذلك، ولا هو خائف أن يُعاقب بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به   1 المائدة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه مُقرٌّ بنبوَّته باطناً وظاهراً، فكل ما علم القلب بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فصدَّقه، وما أمر به فالتزمه كان ذلك زيادة في إيمانه على مَن لم يحصل له ذلك، وإن كان معه إقرار عام والتزام. وكذلك مَن عرف أسماء الله تعالى ومعانيها فآمن بها، كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء بل آمن بها إيماناً مجملاً أو عرف بعضها، وكلما ازداد الإنسان معرفة بأسماء الله تعالى، وصفاته كان إيمانه به أكمل. الثالث: أن العلم والتصديق نفسه، يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت وأبعد عن الشك والريب، وهذا أمر يشهده كل أحد من نفسه. كما أن الحس الظاهر بالشيئ الواحد، مثل رؤية الناس للهلال، وإن اشتركوا فيها، فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض، وكذلك سماع الصوت الواحد، وشمّ الرائحة الواحدة، وذوق النوع الواحد من الطعام، فكذلك معرفة القلب وتصديقه، يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعددة، والمعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الرب وكلامه، يتفاضل الناس في معرفتها، أعظم من تفاضلهم في معرفة غيرها. الرابع: أن التصديق المستلزم لعمل القلب، أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله، فالعلم الذي يعمل به صاحبه، أكمل من العلم الذي لا يعمل به. وإذا كان شخصان يعلمان أن الله حق، ورسوله حق، والجنة حق، والنار حق، وهذا علمه أوجب له محبة الله، وخشيته، والرغبة في الجنة، والهرب من النار، والآخر علمه لم يوجب له ذلك فعلم الأول أكمل. فإن قوة المسبب دلّ على قوة السبب، وهذه الأمور نشأت عن العلم، فالعلم بالمحبوب يستلزم طلبه، والعلم بالمخوف يستلزم الهرب منه، فإذا لم يحصل اللازم، دل على ضعف الملزوم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ليس المُخبَر كالمعاين ". فإن موسى عليه السلام لما أخبره ربه أن قومه عبدوا العجل، لم يُلقِ الألواح فلما رآهم قد عبدوه ألقاها. وليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ذلك لِشكِّ موسى عليه السلام في خبر الله لكن المخبَر وإن جزم بصدق المخبِر، فقد لا يتصور المخبَر به، وإن كان مصدِّقاً به. ومعلوم أنه عند المعاينة، يحصل له من تصور المخبَر به، ما لم يكن عند الخبر، فهذا التصديق أكمل من ذلك التصديق. الخامس: أن أعمال القلوب، مثل محبة الله ورسوله، وخشية الله تعالى ورجائه، ونحو ذلك، هي كلها من الإيمان، كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق السلف، وهذه يتفاضل الناس فيها تفاضلاً عظيماً. السادس: أن الأعمال الظاهرة مع الباطنة، هي أيضاً من الإيمان، والناس يتفاضلون فيها. السابع: ذكر الإنسان بقلبه ما أُمر به، واستحضاره، بحيث لا يكون غافلاً عنه، أكمل ممن صدَّق به وغفل عنه، فإن الغفلة تضاد كمال العلم، والتصديق، والذكر، والاستحضار يكمل العلم اليقين. ولهذا قال عمير بن حبيب كما تقدم: " إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا أغفلنا ونسينا وضيَّعنا فتلك نقصانه ". الثامن: أن الإنسان قد يكون مُكذِّباً ومُنكِراً لأمور لا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بها، وأمر بها، ولو علم ذلك لم يكذِّب، ولم ينكر، بل قلبه جازم بأنه لا يخبر إلا بصدق، ولا يأمر إلا بحق، ثم يسمع الآية أو الحديث، أو يتدبر ذلك، أو يفسر له معناه، أو يظهر له ذلك بوجه من الوجوه، فيصدِّق بما كان مكذِّباً به، ويعرف ما كان مُنكِراً، وهذا تصديق جديد، وإيمان جديد ازداد به إيمانه، ولم يكن قبل ذلك كافراً بل جاهلاً. وهذا وإن أشبَه المجمل والمفصل لكون قلبه سليماً عن تكذيب وتصديق لشيئ من التفاصيل، وعن معرفة وإنكار لشيئ من ذلك، فيأتيه التفصيل بعد الإجمال على قلب ساذج. وأما كثير من الناس، بل من أهل العلوم والعبادات، فيقوم بقلوبهم من التفصيل أمور كثيرة تخالف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم لا يعرفون أنها تخالف، فإذا عرفوا رجعوا. وكل مَن ابتدع في الدين قولاً أخطأ فيه أو عمل عملاً أخطأ فيه، وهو مؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو عرف ما قاله وآمن به، لم يعدل عنه، هو من هذا الباب. وكل مبتدِع قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو من هذا الباب. فمَن علم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمل به، أكمل ممن أخطأ ذلك، ومَن علم الصواب بعد الخطأ، وعمل به فهو أكمل ممن لم يكن كذلك1 اهـ. (بشيئ من الاختصار) . وبعد هذا التفصيل الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية للأوجه التي يزيد الإيمان وينقص بها، أعود فأقول إن السلف جميعاً ما تقدم ذكره منهم والإمام أحمد بن حنبل، والشافعي، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن علي، والطبري، جميعهم يقولون إن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي 2 وقد قالوا هذا القول، وجزموا باعتقاده مستندين كعادتهم إلى نصوص الوحيين الكتاب والسنة. أما الزيادة فنطق بها القرآن الكريم في آيات كثيرة ذكر بعضاً منها الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في مستهل كتاب الإيمان من صحيحه. فمنها قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} 3، وقال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} 4، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 5، وقال تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناًليستيقن الذين} 6، وقال عز وجل {الذين   1 انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية ص193-198. 2 انظر: لوامع الأنوار البهية للشيخ محمد بن أحمد السفاريني، ج1 ص416. 3 التوبة:124. 4 الفتح: 4. 5 الأنفال: 2. 6 المدثر: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قال لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} 1إلى غير ذلك من الآيات المصرِّحة بالزيادة. فهذه أدلة السلف من القرآن الكريم على أن الإيمان يزيد بصريح اللفظ، كما أنها تدل عن طريق الالتزام على أنه ينقص، لأن الشيئ الذي تعتريه الزيادة لا بد وأنه ينقص، وإلا فلا معنى للزيادة، إذ لا يمكن أن يتصور شيئ قابل للزيادة غير قابل للنقصان. أما أدلتهم من السنة المطهرة فكثيرة أيضاً، منها حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالتصدق وقال بعد ذلك:" ما رأيت ناقصات عقل ودِين أذهب لِلُبِّ الرجل الحازم من أحداكن "، قُلْنَ: " وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ " قال: " أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ " قلن: " بلى يا رسول الله "، قال: " فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصُمْ؟ " قلن: " بلى "، قال: " فذلك من نقصان دينها "2. فهذا الحديث يدل على أن إيمان الرجل أكمل من إيمان المرأة إذ المرأة يمرُّ عليها أوقات لا تقيم فيها بعض الشعائر الدينية والرجل مستمر في القيام بها دون انقطاع. أليس الرجل يزيد على المرأة بهذه المدة وأداء تلك الشعائر فيها، مما يجعل إيمانه أكمل وأوفى. قد يقال: إن هذا نقصان في التكاليف، وهذا صحيح ولكن الذي يُكلَّف بأمر فيمتثل، فهو زائد في الأجر على من لم يكلَّف به، لأنه لم يعمله، فلم يكسب أجره، والزيادة في الإيمان، إنما تكون بالزيادة في العمل. ومن أدلة السلف أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " 3. قال الإمام النووي في بيان معنى هذا الحديث: " فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من   1 آل عمران: 173. 2 متفق عليه. 3 مسلم، صحيح مسلم مع الشرح، ج2 ص41، ط المطبعة المصرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الألفاظ التي تطلق على نفي الشيئ ويراد نفي كماله " 1. ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " 2 والمراد نفي الكمال ونظائره كثيرة. ومن أشهر ما استدل به السلف من الأحاديث حديث شعب الإيمان المتفق على صحته وفيه:" الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " 3. فأخبر في هذا الحديث بأن الإيمان له أعلى وأدنى، وفي هذا إشارة إلى أن مراتبها متفاوتة. وتحت ((باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال)) ذكر الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا مَن كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيخرجون منها، قد اسودُّوا فيُلقَون في نهر الحيا ـ أو الحياة، شكَّ مالك ـ فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم ترَ أنها تخرج صفراء ملتوية " 4. وقال الإمام البخاري أيضاً: " باب زيادة الإيمان ونقصانه، وقول الله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص. ثم ساق حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج من النار مُن قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار مَن قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله   1 النووي، محي الدين يحيى بن شرف، شرح صحيح مسلم، ج2 ص41، ط المطبعة المصرية. 2 متفق عليه. 3 متفق عليه وقد تقدم عند بيان حقيقة الإيمان. 4 البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، ج1 ص72، ط المطبعة السلفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وفي قلبه وزن ذرَّة من خير " وفي رواية " من إيمان " مكان " من خير " 1. وقد ذكر ابن منده حديثاً ترجم له بقوله: ذكر خبر يدل على أن الإيمان ينقص حتى لا يبقى في قلب العبد مثقال حبة خردل. ثم ساق حديث ابن مسعود الذي رواه مسلم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " 2. وأدلة السلف على زيادة الإيمان ونقصه كثيرة جداً ولكن من أشهرها ما ذكرت فأكتفي بذكره عن غيره ليكون مثالاً واضحاً لأدلتهم التي لم أذكر والتي مُلئت بها كتب السنة. وجميعها صريح الدلالة منطوقاً ومفهوماً على صحة ما ذهب إليه السلف في هذا الموضوع الذي هو من أخطر ما بحث في مجال العقيدة الإسلامية إذ عليه يترتب جانب مهم من حياة المسلم الدينية. إذ أن المسلم إذا اطلع على ما قالته الفِرق الأخرى من أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فإن ذلك قد يؤدي به إلى التكاسل فلا يعمل بما أُمر ولا ينتهي عما نُهي عنه إذا أخذ هذا الرأي مُسلَّماً دون تمحيص وعرض على نصوص التشريع ليتبين له الحق في ذلك والله المستعان.   1 المصدر السابق ص103. 2 ابن منده، محمد بن إسحاق بن محمد، كتاب الإيمان ورقة رقم 24، مصور بالمكتبة المركزية بجامعة الملك عبد العزيز بمكة رقم 996. وانظر: صحيح مسلم مع شرحه للنووي، ج2 ص27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الفصل الرابع مذهب السلف في مرتكب الكبيرة قبل البدء في بيان مذهب السلف في هذا الموضوع، أرى من الضرورة بيان الفرق بين الصغائر والكبائر، فأقول وبالله التوفيق: إن جماهير الأمة من السلف والخلف، من جميع الطوائف قد ذهبوا إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر. وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب والسنة، واستعمال سلف الأمة وخلفها. ولا شك أن هذين الصنفين من المعاصي بينهما فارق لا يمكن إنكاره، ولا شك أيضاً أن المخالفة لأوامر الله تعالى ونواهيه، قبيحة جداً، بالنسبة إلى عظمة الباري جل جلاله، ولكن بعضها أعظم قبحاً من البعض الآخر، وتنقسم بهذا الاعتبار إلى ما تكفره الصلوات الخمس، أو صوم رمضان، أو الحج، أو العمرة، أو الوضوء، أو صوم عاشوراء، أو فعل الحسنة، أو غير ذلك مما وردت به الأحاديث الصحيحة المذكورة في مصادرها، وإلى ما لا يكفره شيئ من ذلك. فما يمكن تكفيره بمثل هذه الأعمال فهو من الصغائر وما لا يمكن تكفيره من الكبائر. ولكن هذا لا يُخرج الصغائر عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى، فإنه صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها لكونها أقلّ قبحاً، ولكون تكفيرها سهلاً ميسوراً. وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، فقد اختلف العلماء في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ضبطها اختلافاً كثيراً، ذكره الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم، وإليك عرضاً لهذه الآراء: 1 ـ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب. ونحو هذا عن الحسن البصري. 2 ـ وقال آخرون: هي ما أوعد الله عليه بنار، أو حدّ في الدنيا. 3 ـ وقال أبو حامد الغزالي في ضبط الكبيرة: إن كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف وحذار ندم، كالمتهاون بارتكابها والمتجرئ عليه اعتياداً، فما أشعرَ بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة، وما يحمل على فلتات النفس أو اللسان وفترة مراقبة التقوى، ولا ينفك عن تندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية، فهذا لا يمنع العدالة، وليس هو بكبيرة. 4ـ وقال أبو عمرو بن الصلاح ـ رحمه الله ـ الكبيرة كل ذنب كبر وعظم عِظَماً يصح معه أن يُطلق عليه اسم الكبيرة، ووصف بكونه عظيماً على الإطلاق قال: فهذا حد الكبيرة، ثم لها إمارات منها إيجاب الحد، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها وصف فاعلها بالفسق نصاً، ومنها اللعن، كَلعن الله سبحانه وتعالى من غَيَّر منار الأرض. 5ـ وقال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ: إذا أردت معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو ربَتْ عليه فهي من الكبائر … وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأنها كل ذنب قُرِن به وعيد، أو حد، أو لعن. فعلى هذا كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قُرِن به الوعيد أو الحد أو اللعن أو أكثر من مفسدته فهو كبيرة. ثم قال: والأَوْلى أن تُضبط الكبيرة بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 يُشعِر بتهاون مرتكبها في دينه، إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها. 6ـ وقال الإمام أبو الحسن الواحدي المفسر، وغيره: الصحيح أن حدّ الكبيرة غير معروف، بل ورد الشرع بوصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر، وأنواع بأنها صغائر، وأنواع لم تُوصف، وهي مشتملة على صغائر وكبائر، والحكمة في عدم بيانها أن يكون العبد ممتنعاً من جميعها مخافة أن تكون من الكبائر. قالوا: وهذا شبيه بإخفاء ليلة القدر، وساعة يوم الجمعة، وساعة إجابة الدعاء من الليل، واسم الله الأعظم، ونحو ذلك مما أخفى1، والله أعلم. وهذه الآراء التي عرضها الإمام النووي ذكر بعضاً منها شارح العقيدة الطحاوية، ومال إلى القول برجحان الأول منها2. كما ذكرها ـ وعليها مزيد ـ ابن القيم في مدارج السالكين 3. ومهما يكن من تعدد الآراء حول التفريق بين الصغائر والكبائر فإن جميعها متقاربة، ومتداخلة، ولكنني أرى أن المبدأ الذي يجب أن يُقَرر ويُتّخَذ مقياساً ما ورد عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم من أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. ومعناه أن الكبيرة تُمحى بالاستغفار والصغيرة تكون كبيرة بالإصرار. قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في حد الإصرار: هو أن تتكرر منه الصغيرة تكراراً يُشعر بقلة مبالاته بدينه، إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك، قال: وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يُشعر مجموعها بما يُشعر به أصغر الكبائر4. فالصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف،   1 النووي، شرح صحيح مسلم، ج2ص85-86، ط المطبعة المصرية بدون تاريخ. 2 شرح العقيدة الطحاوية ص355-356. 3 النظر: مدارج السالكين لابن القيم، ج1 ص320-327، ط المطبعة السنة المحمدية سنة 1375هـ ـ 1956م. 4 النووي، شرح صحيح مسلم، ج2ص86-87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ما يُلحفها بالكبائر، وقد يقترن بالكبيرة من الحياء، والخوف، والوجل، ما يُلحقها بالصغائر وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب. وعلى هذا فليس للكبائر عدد محدود، وما رود عن الرسول صلى الله عليه وسلم من مثل قول: " اجتنبوا السبع الموبقات … " 1، وحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الكبائر فقال: " الشرك بالله، وقتل النفس وعقوق الوالدين " 2. أما الشرك فلا نزاع في أنه كفر يُخرج عن الملة وهو أكبر المعاصي على الإطلاق، وإنما قُرنت به بقية المعاصي المذكورة في الأحاديث على سبيل التشنيع، زجراً عن ارتكابها، وإشعاراً بأنه أكبر الكبائر، وإلا فيوجد في غيرها من الذنوب التي لم تُذكر في الأحاديث على أنها كبائر، يوجد فيها ما هو كبيرة. وما ذُكر مقروناً بوصف الكبيرة، أو أكبر الكبائر، فإنما وردت كذلك لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لا سيما فيها كانت عليه الجاهلية. وبعد أن اتضح لنا الفرق بين هذين الصنفين من المعاصي، إليك مذهب السلف الذي قالوا به في حكم مرتكب الكبيرة: فقد ذهب السلف ـ عليهم رحمة الله ـ إلى أن مرتكب الكبيرة فاسق، وأنه لا يخرج من الإيمان بمجرد فسقه، ولا يخلد في النار في الآخرة، بل هو تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء عفا عنه بفضله وكرمه، وأدخله الجنة، من أول وهلة. وإن شاء عذَّبه بقدر ذنوب ثم أدخله الجنة، فلا بد من دخول الجنة. فالعاصي معرَّض لعقوبة الله تعالى، وعذابه. وتقريراً لمذهب السلف في هذا الأمر، قال الإمام الصابوني في رسالته ((عقيدة السلف)) : " ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة، صغائر وكبائر، فإنه لا يكفر بها، وإن خرج من الدنيا غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص، فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً، غير مُبتلى بالنار، ولا مُعاقَب على ما ارتكبه، واكتسبه، ثم استصحبه   1 صحيح مسلم مع شرحه للنووي، ج2 ص83. 2 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 إلى يوم القيامة من الآثام، والأوزار، وإن شاء (عفا عنه) 1 وعذَّبه مدة بعذاب النار، وإذا عذَّبه لم يخلده فيها، بل أَعتقه، وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار " 2. وروى اللالكائي بسنده إلى الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، أنه قال: " ولا يشهد على أهل القبلة بعمل (يعمله) 3 بجنة ولا نار، يرجو للصالح ويخاف على المسيئ المذنب، ويرجو له رحمة الله. ومَن لقي الله بذنب يجب له به النار (تايب) 4 غير مصرّ عليه، فإن الله عز وجل يتوب عليه ويقبل التوبة من عباده وعفو عن السيئات. ومن لقيه وقد أُقيم عليه حد ذلك الذنب في الدنيا فهو كفارته، كما جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن لقيه مصراً، غير تايب من الذنوب، التي استوجب بها العقوبة، فأمره إلى الله عز وجل، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له. ومن لقيه كافراً عذَّبه ولم يغفر له " 5. وفي تقرير هذه العقيدة أيضاً يقول الإمام الطحاوي: " وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم 6 في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم   1 هكذا في الأصل المطبوع، ولعل الصواب إسقاط جملة عفا عنه. 2 الصابوني، أبو عثمان إسماعيل. عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل النبوية، ج1 ص124-125، بيروت، ط محمد أمين دمج سنة 1970م. 3 هكذا في الأصل المصور عن النسخة الخطية، ولعل الصواب يعملونه. 4 هكذا في الأصل، ولعله يوجد نقص في الكلام فيكون وهو تايب، أو أن الصحيح تائباً بالنصب على الحال. 5 اللالكائي، هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري، شرح السنن ص42-43، مخطوط مصور بالمكتبة المركزية بجامعة الملك عبد العزيز بمكة تحت رقم 446. 6 قوله: " من أمة محمد " تخصيصه أمة محمد صلى الله عليه وسلم يُفهم منه أن أهل الكبائر من غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم قبل نسخ تلك الشرائع به حكمهم مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد، وفي ذاك نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " متفق عليه. ولم يخص أمته بذلك، بل ذكر الإيمان مطلقاً، فتأمله، وليس في بعض النسخ ذكر الأمة. انظر: شرح الطحاوية، ص355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين 1. وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم، وعفا عنهم بفضله كما ذكر الله عز وجل في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2. وإن شاء عذبهم في النار بِعدلِه، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم الله إلى جنته " 3. هكذا يتقرر مذهب السلف، فالمذنب إن تاب فتوبته مقبولة، وإن مات ولم بتبْ فأمره مفوَّض إلى الله، إن شاء عذبه بعدله، وإن شاء عفا عنه بفضله. لكن حتى إن عُذِّب فإن تعذيبه يختلف تماماً عن تعذيب الكافر فهو إنما يُعذَّب لِيطهر من الآثام التي ارتكبها. وقد ذكر الصابوني الفرق بين العذابين عن شيخه سهل بن محمد حيث قال:" وكان شيخنا سهل بن محمد ـ رحمه الله ـ يقول: المؤمن المذنب، وإن عُذب بالنار فإنه لا يُلقى فيها إلقاء الكفار، ولا يبقى فيها بقاء الكفار، ولا يشقى فيها شقاء الكفار. ومعنى ذلك أن الكافر يُسحَب على وجهه إلى النار، ويلقى فيها منكوساً في السلاسل والإغلال، والأنكال الثقال. والمؤمن المذنب، إذا ابتُلِي بالنار فإنه يدخل النار كما يدخل المجرم في الدنيا السجن، على الرِّجل من غير إلقاء وتنكيس. معنى قوله: " لا يبقى في النار بقاء الكافر "، أن الكافر يُحرَق بدنه كله كلما نضج جلده، بدّل جلداً غيره، ليذوق العذاب، كما بينه الله في كتابه في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} 4. وأما المؤمنون فلا تلفح وجوههم النار، ولا تحرق أعضاء السجود منهم، إذ حرَّم الله أعضاء (سجوده) 5. ومعنى قوله:   1 لو قال مؤمنين بدل قوله عارفين، كان أَوْلى، لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر، وإنما اكتفى بالمعرفة الجهم، وقوله مردود باطل. انظر: المصدر نفسه ص 357. 2 النساء: 48-116. 3 الطحاوي، أحمد بن محمد بن سلامة، العقيدة الطحاوية مع الشرح، ص354-355، ط3، ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر. 4 النساء: 56. 5 هكذا في الأصل المطبوع، ولعل الصواب ((أعضاء سجودهم)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 " لا يبقى في النار بقاء الكفار "، أن الكافر يخلد فيها، ولا يخرج منها أبداً ولا يخلد الله من مذنبي المؤمنين في النار أحداً. ومعنى قوله: " لا يشقى بالنار شقاء الكفار "، أن الكفار ييأسون فيها من رحمة الله، ولا يرجون راحة بحال، وأما المؤمنون فلا ينقطع طمعهم من رحمة الله في كل حال وعاقبة المؤمنين كلهم الجنة، لأنهم خُلِقوا لها، وخُلِقت لهم، فضلاً من الله ومنّة " 1اهـ. هذا هو حكم مرتكب الكبيرة فيما يتعلق بمصيره في الآخرة، بقي أن نعرف ما له وما عليه، بالنسبة لأحكام الدنيا، فلا يجوز لنا أن نسلبه اسم الإيمان بالكلية بل نقول: إنه مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ويستحق من المعاملة باسم الإسلام، ما يستحقه سائر المسلمين. وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " والتحقيق أن يقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ولا يُعطى الاسم المطلق، واسم الإيمان بتناوله فيما أمر الله به ورسوله، لأن ذلك إيجاب عليه، وتحريم عليه، وهو لازم له كما يلزمه غيره. وعلى هذا، فالخطاب بالإيمان يدخل فيه ثلاث طوائف، يدخل فيه المؤمن حقاً، ويدخل فيه المنافق في أحكامه الظاهرة، وإن كان في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، وهو في الباطن يُنفى عنه الإسلام، والإيمان، وفي الظاهر يُثبَت له الإسلام، والإيمان الظاهر، ويدخل فيه الذين أسلموا، ولم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، لكن معهم جزء من الإيمان، وإسلام يُثابون عليه، ثم قد يكونون مفرِّطين فيما فُرض عليهم، وليس معهم من الكبائر ما يُعاقبون عليه كأهل الكبائر، لكن يُعاقبون على ترك المفروضات، وهؤلاء كالأعراب المذكورين في الآية وغيرهم، فإنهم قالوا آمنا من غير قيام منهم بما أُمروا به باطناً وظاهراً " 2. هكذا قال السلف ـ رحمهم الله ـ في مرتكب الكبيرة، إذ أنه إنسان   1 الصابوني، المصدر المذكور آنفاً ص125. 2 ابن تيمية، المصدر المذكور آنفاً ص202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 معرَّض لوساوس الشيطان، ومائل إلى الهوى والشهوات بطبيعته فإن هو أخطأ بارتكاب كبيرة، فتكفيره ليس أمراً سهلاً، يمكن الحكم به لأول بادرة من الجرائم، أو حتى إن أصبح ارتكاب المحرمات الكبيرة سجية له، فإن ما في قلبه من إصرار واستحلال أو عدمهما أمر خاف علينا، وقد يؤنبه ضميره بعد ارتكابها ويتحرك الإيمان في قلبه فيندم، ولكن لِضعف إيمانه ذاك يتغلَّب عليه الشيطان مرة أخرى، فيوقعه في حبائله، وهكذا دواليك، حتى أن من رآه يظنه انسلخ من إيمانه كلية ورضي بعبادة الشيطان، والأمر غير ذلك. والسلف ـ رحمهم الله ـ إنما أجمعوا على القول بتكفير من ارتكب محرماً، معلوماً تحريمه من الدين بالضرورة، مستحلاً له، لأن ذلك مكابرة وتكذيباً صريحاً لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك ولا شك كفر بواح. وبعد عرضنا لمذهب السلف في مرتكب الكبيرة إليك أبرز أدلتهم لما ذهبوا إليه: أما من القرآن الكريم: فقد استدلوا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1. قال ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية: وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليها، ما لم تكن كبيرة شركاً بالله 2. وقوله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا … } 3 وقد أورد الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ هذه الآية في صحيحه، مستدلاً بها على أن المؤمن إذا ارتكب معصية لا يكفر، ولا يُسلب منه اسم الإيمان، لأن الله تبارك وتعالى سماهم مؤمنين مع اقتتالهم 4.   1 النساء: 48، 116. 2 الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج5 ص126، ط2 بمطبعة مصطفى الحلبي بمصر، سنة 1373هـ ـ 1954م. 3 الحجرات: 9. 4 انظر: صحيح البخاري مع شرح فتح الباري، ج1 ص84، ط المطبعة السلفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وما ورد في قصة حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ إذ حاول إخبار قريش بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال الله تبارك وتعالى في شأته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ … } 1. ولا شك أنه ارتكب كبيرة بفعلته هذه، ومع ذلك أبقى الله عليه اسم الإيمان فخاطبه به، ولا شك في فضل هذا الصحابي الجليل، وإنما وقع منه ما وقع عن حسن نية، ولم يكن يعلم أنه ارتكب خطأً شنيعاً، ولذلك لما أخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالدوافع التي لأجلها كتب الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد صدقكم "، فقال عمر: " يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق "، فقال: " إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " 2. إلى غير ذلك من الآيات التي تخاطب أهل الذنوب الكبيرة باسم الإيمان. أما من السنة المطهرة: فاستدلوا بحديث أبي بكرة الذي رواه البخاري،وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار "، فقلت: " يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ " قال:" إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " 3. قال البخاري ـ رحمه الله ـ: " سمَّاهما مسلمَين مع التوعد بالنار " 4. وتحت عنوان: المعاصي من أمر الجاهلية عقد الإمام الجليل البخاري باباً فقال: " باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها، إلا بالشرك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنك امرؤ فيك جاهلية " 5. ثم ساق حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: إني ساببت رجلاً فعيَّرته   1 الممتحنة: 1. 2 انظر: هذه القصة في سبب نزول الآية، ج28 ص58 من جامع البيان للطبري. 3 البخاري، محمد بن إسماعيل، المصدر المذكور آنفاً ج1ص84. 4 المصدر نفسه. 5 المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر، أعيَّرته بأُمِّه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية … " 1. قال ابن حجر: " قصة أبي ذر، إنما ذُكرت لِيُستدلّ بها على أن من بقيت فيه خصلة من خصال الجاهلية سوى الشرك، لا يخرج عن الإيمان بها، سواء كانت من الصغائر أم الكبائر " 2. ومن هذه الأدلة أيضاً حديث أبي ذر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فجلست إليه فقال: " ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة "، قلت: " وإن زنى وإن سرق "، قال: " وإن زنى وإن سرق "، ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: " على رغم أنف أبي ذر " 3. وحديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وحوله عصابة من أصحابه ـ: " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم، وأرجلكم ولا تعصوا في معروف. فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعُوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه "، فبايعناه 4. قال الإمام النووي ـ مشيراً إلى حديث عبادة بن الصامت هذا، وحديث أبي ذر السابق ـ قال: " فهذان الحديثان مع نظائرها في الصحيح،   1 المصدر السابق، حديث رقم 30. قال الشارح: قيل إن الرجل المذكور هو بلال المؤذن، مولى أبي بكر … ويظهر لي أن ذلك كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريمه، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده. فلهذا قال كما عند المؤلف في الأدب: قلت: " على ساعتي هذه من كبر السن؟ " قال: " نعم ". كأنه تعجَّب من خفاء ذلك عليه مع كبر سنِّه فيبيِّن له كون هذه الخصلة مذمومة شرعاً ـ وكان بعد ذلك يساوي غلامه في الملبوس وغيره أخذاً بالأحوط. انظر: فتح الباري، ج1 ص86-87. 2 ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج1 ص85. 3 رواه مسلم. انظر: صحيح مسلم مع شرحه للنووي، ج2 ص94، ط المطبعة المصرية. 4 البخاري، محمد بن إسماعيل، المصدر المذكور آنفاً ج1 ص64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 مع قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل، وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك، لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون، ناقصو الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرِّين على كبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله تعالى عفا عنهم، وأدخلهم الجنة أولاً، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة " 1. ومما يسند ذلك أيضاً حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا مَن كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. فيخرجون منها، قد اسودُّوا فيُلقَون في نهر الحيا ـ أو (الحياة) شكَّ مالك ـ فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم ترَ أنها تخرج صفراء ملتوية " 2. والأحاديث من النوع كثيرة ويطول بنا الحديث إن أردنا سرد جميع ما استدل به السلف لمذهبهم في هذه المسألة. فهي كثيرة جداً ـ وكلها تدل على أن مرتكب الكبيرة مؤمن، وأنه معرَّض لعقاب الله، وإن عوقب فإنه لا يخلد في النار بل يخرج منها. ولكثرتها يصعب حصرها واستقصاؤها لذلك أرى فيما ذكرت غنية عما سواه وقد وردت أحديث مشكلة في الظاهر على ما تقدم. منها حديث أبي هريرة وقد تقدم ذكره: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.. ". وقد أزال إشكاله الإمام النووي بقوله: " هذا الحديث مما اختُلِف في معناه فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيئ ويراد نفي كماله … وتأول بعض العلماء هذا الحديث على من فعل ذلك مستحلاً له مع علمه بورود الشرع بتحريمه. وقال الحسن وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري: معناه ينزع منه اسم المدح الذي يُسمَّى به أولياء لله   1 النووي، محي الدين يحيى بن شرف، المصدر المذكور آنفاً ج2 ص41. 2 رواه البخاري في صحيحه. انظر: المصدر السابق ص72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 المؤمنين. ويستحق اسم الذم فيقال: سارق، وفاجر،وفاسق. وحكى عن ابن عباس رضي الله عهنما أن معناه ينزع منه نور الإيمان "1. وفي الجمع بين هذا الحديث، حديث أبي ذر السابق: " ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة وإن زنى وإن سرق … ". ذكر الإمام ابن قتيبة أن المقصود بنفي الإيمان في حديث أبي هريرة، هو نفي الكمال على ما اختاره النووي وعلى هذه القاعدة، يجري تفسير كل حديث ورد فيه نفي الإيمان عن مرتكب الذنب كحديث: " لم يؤمن من لم يأمن جارُه بوائقه " وأمثاله 2. أما حديث أبي ذر فقال في معناه: إنه لا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون قاله على العاقبة، ـ يريد أن عاقبة أمره إلى الجنة، وإن عُذب بالزنا والسرقة. والآخر: أن تلحقه رحمة الله تعالى، وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير إلى الجنة، بشهادة أن لا إله إلا الله 3. أما قوله صلى الله عليه وسلم:" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كِبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان " 4، فقد ذكر ابن قتيبة أيضاً في الجمع بين هذين الحديثين مع حديث أبي ذر السابق، أن هذا خرج مخرج الحكم. إذ المراد أنه ليس حكم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، أن يدخل النار، ولا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أن يدخل الجنة، والله تعالى يفعل بعد ذلك ما يشاء. ومثل هذا من الكلام، قولك ـ في دار رأيتها صغيرة ـ لا   1 النووي، المصدر المذكور آنفاً ص42. 2 انظر: تأويل مختلف الحديث لا بن قتيبة، ص171، ط دار الجيل، بيروت سنة 1393هـ ـ 1973م. 3 المصدر السابق نفسه ص172. 4 هذا الحديث رواه مسلم، انظر: صحيح مسلم مع شرحه للنووي، ج2 ص89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ينزل في هذه الدار أمير. تريد حكمها، وحكم أمثالها أن لا ينزلها الأمراء، وقد يجوز أن ينزلوها 1. ومن الأحاديث المشكلة على ما تقدم أيضاً، حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خلَّة منهن، كانت فيه خلَّة من نفاق حتى يدعها، إذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر "، وفي رواية عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان " 2. قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث من صحيح مسلم: هذا الحديث مما عدَّه جماعة من العلماء مشكلاً، من حيث أن هذه الخصال توجد في المسلم المصدِّق، الذي ليس فيه شك، وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدِّقاً بقلبه ولسانه، وفعل هذه الخصال، لا يُحكَم عليه بكفر، ولا هو منافق يخلد في النار، فإن إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال، وكذا وُجد لِبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله. وهذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه فالذي قاله المحققون والأكثرون، ـ وهو الصحيح المختار ـ أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلق بأخلافهم فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه. وهذا المعنى موجود في هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدَّثه، ووعده، وائتمنه، وخاصمه، وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام، فيظهره، وهو يبطن الكفر، ولم يُرِد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار. وقوله صلى الله عليه وسلم: " كان منافقاً خالصاً " معناه شديد الشبه بالمنافقين، بسبب هذه الخصال. قال بعض العلماء: وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه فأما من يندر ذلك منه فليس داخلاً فيه. فهذا هو   1 ابن قتيبة، المصدر السابق ص117-118. 2 رواه مسلم، انظر: صحيح مسلم مع الشرح، ج2 ص46، ط المطبعة المصرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 المختار في معنى الحديث 1، وذكر أقوالاً أخرى غير هذا، فمنها أنه نفاق عمل، ومنها ان المراد المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثوا بإيمانهم وكذبوا، وائتمنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا، وفجروا في خصوماتهم. وذكر أن هذا قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح. إلى غير ذلك من الأقوال التي ذكرها 2. وروى اللالكائي عن الإمام أحمد قوله في هذا الحديث وأمثاله: والنفاق هو الكفران، يكفر بالله ويعبد غيره، ويظهر الإسلام في العلانية، مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كنَّ فيه فهو منافق " هذا على التغليظ ـ نرويها كما جاءت ولا نفسرها، وقوله: " لا ترجعوا بعدي كفاراً، ضلالاً ـ يضرب بعضكم رقاب بعض "، ومثل: " إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمفتول في النار " 3. هذه أقوال ذُكرت فيما يتعلق بهذا الحديث وأمثاله، وفي نظري أنها جمعياً لها محل ووجه من النظر الصائب، ويمكن القول به دون تعارض مع الرآي الآخر. إذ أن من وُجدت فيه هذه الخصال، يمكن تفسير ما ورد بحقه أنه خالص النفاق بحق من خاصمه وحدثه وخاه. ويمكن إطلاق ذلك والتوقف فيه دون بيان للمراد، وإمراره على ظاهره الذي يشعر بإدخال من تخلَّق بهذه الخصال في زمرة المنافقين، ليكون ذلك أدعى للزجر عن التخلُّق بها. فالتوقف عن التفسير يريد به من قاله أن يكون عندما يكون مجدياً ـ لا سيما في مجال الوعظ ـ للتنفير عن التخلُّق بهذه الخصال، وما شابهها ولكن هذا لا يمنع تفسيرها على الوجه السابق، إذا اقتضى الحال   1 النووي، المصدر المذكور آنفاً ج2 ص46-47. 2 انظر: المصدر نفسه. 3 اللالكائي، هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري، شرح السنن ـ مخطوط مصور بمكتبة جامعة الملك عبد العزيز بمكة تحت رقم 446. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الفصل الخامس الاستثناء في الإيمان تقدم لنا معرفة ما قاله السلف في حقيقة الإيمان، وأنه قول وعمل يزيد وينقص لأن الناس يتفاوتون في استيفاء متطلبات الإيمان من العمل واتقانه. فالإنسان عرضة للتقصير في أي صورة من صوره سواء كان هذا التقصير قليلاً أم كثيراً، لأن الكمال لله وحده، ولا أحد يستطيع أن يصل إلى هذه الدرجة مهما نشدها، وحاول الوصول إليها اللهم إلا من عصمه الله من الزلل، كالرسل عليهم الصلاة والسلام. وإذاً فالإنسان له طاقاته المحدودة، ومداركه القاصرة التي ينشد بها الكمال، ويتفانى في سبيل الوصول إلى هذه الدرجة، إن كان ممن أعطاهم الله قوة العزيمة وشدة المراس. وأنَّى له ذلك، لأن الإنسان له عدو ملازم له ملازمة الظل لصاحبه، لا يمكن أن يفارقه أبداً وآلى على نفسه أن يظل دائب العمل من أجل إغواء البشرية كلها، إرضاءً لذلك الحقد الذي زرعه في قلبه على أبيهم آدم عليه السلام. لكنه اعترف بالعجز عن تحقيق هذا الهدف من عباد الله الذين منَّ الله عليهم بحصانة واقية من وساوس الشيطان اللعين. قال تعالى على لسان إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} 1، وقال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} 2.   1 الحجر: 39-40. 2 ص: 82-83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 غير أن تلك الحصانة تختلف قوة وضعفاً، من إنسان لآخر، وحتى أقواهم معرَّض للوقوع في مزالق الشيطان التي أعدها له، وعمل جاهداً على إيقاعه فيها، وبناءً على ذلك فإن الإنسان لا يستطيع أن يحكم لنفسه بالإيمان الكامل. ولذلك فإن السلف عليهم رحمة الله، نظروا إلى هذا الأمر الواقع، فاحتاطوا له، بأن قالوا بالاستثناء في الإيمان1 استحباباً لا إيجاباً. غير أن هذا الاستثناء لا يجوز أن يكون عن شكّ في المعتقد، لأن الشاكَّ لم يعدْ مؤمناً، وإنما هو لأجل تجنب تزكية الإنسان نفسه بما يوهم استكماله للإيمان. وتزكية النفس منهي عنها، كما في قوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 2. والعمل كما هو معروف من مذهب السلف ركن في الإيمان، والأعمال كثيرة، فلا يدري الإنسان لعلَّه قصر في بعضها. وعليه فإن الاستثناء إنما يكون في الأعمال الموجبة لِحقيقة الإيمان، لا في القول، ولا في التصديق القلبي. يقول محمد بن الحسن الآجري ـ رحمه الله ـ: " من صفة أهل الحق ممن ذكرنا من أهل العلم الاستثناء في الإيمان، لا على جهة الشك، نعوذ بالله من الشك في الإيمان، ولكن خوف التزكية لأنفسهم من الاستكمال للإيمان، لأنه لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا؟ وذلك أن أهل العلم من أهل الحق إذا سُئلوا أمؤمن أنت؟ قال آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والجنة والنار، وأشباه هذا. والناطق بهذا، والمصدِّق به بقلبه مؤمن، وإنما الاستثناء في الإيمان، لأنه لا يدري أهو ممن يستوجب ما نعتَ الله عز وجل به   1 الاستثناء المذكور هنا المراد به غير ما هو معلوم في اللغة لأن الاستثناء اللغوي له أدواته المعروفة، غير أن هذا الاستثناء، المقصود به ما اصطلح عليه علماء الإسلام من تعليق الإيمان الشرعي بالمشيئة، وإذاً فهو استثناء اصطلاحي لا دخل له في الاستثناء اللغوي. 2 النجم: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 المؤمنين من حقيقة الإيمان أم لا؟ هذا طريق الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان. عندهم أن الاستثناء في الأعمال، لا يكون في القول والتصديق بالقلب وإنما الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان. والناس عندهم على الظاهر مؤمنون، به يتوارثون، وبه يتناكحون، وبه تجري أحكام ملة الإسلام، لكن الاستثناء منهم على حسب ما بيَّناه لك، وبيَّنه العلماء قبلنا " 1اهـ. وهذا هو مذهب سلف أصحاب الحديث، كابن مسعود وأصحابه، والثوري، وابن عيينة، وأكثر علماء الكوفة، ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء أهل البصرة، وأحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة فكانوا يستثنون في الإيمان، وهذا متواتر عنهم 2. بل هذا مذهب عامة السلف ـ رحمهم الله ـ كما قال أحمد بن حنبل: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركت أحداً إلا على الاستثناء 3. وقال ـ رحمه الله ـ: إذا قال أنا مؤمن إن شاء الله فليس هو بِشاكٍّ، قيل له: إن شاء الله ليس هو بشك؟ فقال: معاذ الله، أليس قد قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وفي علمه أنهم يدخلونه، وصاحب القبر إذا قيل له: " وعليه تُبعث إن شاء الله " فأي شكِّ ههنا؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " 4. وقد ذكر صاحب المدخل ما قاله الإمام أحمد في رسالته المطوَّلة التي رواها عنه أحمد بن جعفر بن يعقوب الإصطخري التي منها قوله: ويُستثنى في الإيمان غير أن لا يكون الاستثناء شكاً، إنما هي سنة عند العلماء   1 انظر: كتاب الشريعة بتحقيق محمد حامد الفقي، ص 136، ط1 سنة 1369هـ ـ 1950م مطبعة السنة المحمدية. 2 انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية، ص374، دمشق، ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر. 3 انظر: كتاب الشريعة للآجري، ص136. 4 الآجري، محمد بن الحسين، كتاب الشريعة، بتحقيق محمد حامد الفقي، ص136، ط1 سنة 1369هـ ـ 1950م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ماضية، قال: وإذا سئل الرجل أمؤمن أنت فإنه يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، أن يقول: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله 1. وقال سفيان الثوري: الناس عندنا مؤمنون في الأحكام وفي المواريث ولا ندري كيف هم عند الله عز وجل، ونرجو أن نكون كذلك 2. وقال الأوزاعي: من قال أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن لقول الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقد علم أنهم داخلون3. وعن إبراهيم النخعي قال: قال رجل لعلقمة: أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو إن شاء الله 4. قال أبو عبيد: " ولهذا كان يأخذ سفيان ومن وافقه الاستثناء فيه وإنما كراهتهم عندنا أن يبقوا الشهادة بالإيمان، مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية، والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإن أهل الملة جميعاً مؤمنون، لأن ولايتهم، وذبائحهم، وشهاداتهم، ومناكحتهم، وجميع سنتهم، إنما هي على الإيمان، ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين 5. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " وقد كان أحمد وغيره من السلف مع هذا يكرهون سؤال الرجل لغيره: أمؤمن أنت؟ ويكرهون الجواب، لأن هذه بدعة أحدثها المرجئة ليحتجوا بها لقولهم، فإن الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر بل يجد قلبه مصدِّقاً بما جاء به الرسول،   1 الدمشقي، عبد القادر بن أحمد بن مصطفى، المعروف بابن بدران. المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ص46، ط إدارة الطباعة المنيرية بمصر، بدون تاريخ. 2 الآجري، محمد بن الحسين، المصدر السابق ص137. 3 أبو عبيد القاسم بن سلام، كتاب الإيمان، رسالة رقم 2 من رسائل من كنوز السنة بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني، ص69، دمشق، المطبعة العمومية. 4 المصدر نفسه ص68. 5 أبو عبيد القاسم بن سلام، المصدر السابق ص68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فيقول: أنا مؤمن، فيثبت أن الإيمان هو التصديق، لأنك تجزم بأنك مؤمن ولا تجزم بأنك فعلت كل ما أمرت به. فلما علم السلف مقصدهم صاروا يكرهون الجواب أو يفصِّلون في الجواب، وهذا لأن لفظ الإيمان منه إطلاق وتقييد، فكانوا يجيبون بالإيمان المقيد الذي لا يستلزم أنه شاهد لنفسه بالكمال. ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقال: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل، ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء يقدِّمه " 1. هذا هو مذهب السلف في الإيمان، والنقول الواردة عنهم في هذه المسألة كثيرة، ولكن مما ذكرت تتبين وجهة نظرهم التي تتمثل في النقاط التالية: 1 ـ استحباب الاستثناء في الإيمان، وجواز تركه، كأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو أنا مؤمن، دون استثناء. ولكن الاستثناء أَوْلى من عدمه، لما في الإطلاق من تزكية للنفس بإيهامه أنه مستكمل للإيمان. أما إذا قصد أنه مؤمن بمعنى أنه داخل في الإيمان لا مستكمل له، فلا شيئ في ذلك وعليه يحمل كلام الأوزاعي السابق وأمثاله. 2 ـ الاستثناء لا يكون إلا في الأعمال، لا في الاعتقاد القلبي، ولا في القول باللسان، لأن هذين الأمرين يعلمهما الإنسان قطعاً. فهو يعلم من نفسه أنه اعتقد اعتقاداً جازماً بقلبه، وأنه قال بلسانه، وهذا أمر ظاهر للإنسان من نفسه. فلا يكون الاستثناء إلا في الأعمال التي لا يكتمل إيمانه إلا بكمالها. والإنسان لا يستطيع أن يجزم بأنه أتى بجميع ما يُطلب منه من أعمال وعلى فرض أنه تصور إتيانه بها جميعاً، فإنه لايدري أهي قُبلت منه كلها أم لا، ولعلَّ هناك أموراً خفيت على الإنسان يُحبط بها عمله.   1 ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، الإيمان، ص383، دمشق، ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 3 ـ أن الاستثناء لا يجوز أن يقع من الإنسان على جهة الشك، لأنه إذا شك في إيمانه لم يعُدْ مؤمناً، بل يستثني مع الجزم كما ورد في الكتاب والسنة من استثناء في أمور مقطوع بها. 4 ـ كراهة السؤال عن الإيمان، فيكره أن يسأل الرجل غيره: أمؤمن أنت؟ كما قال محمد بن الحسين الآجري ـ رحمه الله ـ: " إذا قال لك رجل: أنت مؤمن؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والموت والبعث من بعد الموت والجنة والنار. وإن أحببت أن لا تجيبه تقول له: سؤالك إياي بدعة، فلا أجيبك. وإن أجبته فقلت: أنا مؤمن إن شاء الله على النعت الذي ذكرناه، فلا بأس به واحذر مناظرة مثل هذا، فإن هذا عند العلماء مذموم 1. وروى الآجري أيضاً أنه قيل لسفيان بن عيينة: الرجل يقول: مؤمن أنت؟ فقال: فقل: ما أشك في إيماني، وسؤالك إياي بدعة، وتقول ما أدري أنا عند الله عز وجل شقي أم سعيد، أمقبول العمل أم لا؟ 2 وإنما كرهوا ذلك واعتبروه بدعة لما تقدم من أن هذا السؤال إنما جاء من جهة المرجئة، استدراجاً منهم للإيقاع في معتقدهم في الإيمان لأن الرجل المؤمن إذا سئل هذا السؤال فإنه يعلم ما في قلبه من التصديق، فإذا أجاب بأنه مؤمن قاصداً أنه مصدق فإن في ذلك حجة للمرجئة على مذهبهم. فلما علم السلف مقصدهم كرهوا الجواب أو فصَّلوا فيه فأجابوا بالإيمان المقيد الذي لا يستلزم الشهادة بالكمال. وهكذا فإن السلف ـ رحمهم الله ـ سلكوا مسلك الحذر في تجويزهم الاستثناء وعدمه، ووضعوا قيوداً لذلك تمنع الإنسان من الوقوع في ما هو محذور إن هو راعى الدقة في ذلك. ومذهب السلف هذا أسندوه بالدليل من الكتاب والسنة كعادتهم في   1 انظر: كتاب الشريعة بتحقيق محمد حامد الفقي، ص140، ط1 مطبعة السنة المحمدية سنة 1369هـ ـ 1950م. 2 المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 تقرير كل معتقد فإنهم رأوا أنه ورد في الكتاب والسنة نصوص تستثني في الأمور المقطوع بثبوتها ووقوعها. فمن القرآن الكريم قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 1 فقد استثنى الرب تبارك وتعالى مع أن دخولهم المسجد الحرام أمر واقع مقطوع به لا محالة. وهذا دليل على جواز الاستثناء في ما هو مقطوع به كالإيمان وغيره. أما من السنة النبوية المطهرة فما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول:" السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لا حقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد " 2. فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم شاك في موته؟ طبعاً لا. إذاً فقد استثنى في أمر مقطوع به وواقع لا محالة. وروي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً " 3، فأي شك في هذا الاستثناء. وقد تقدم أيضاً أن الإيمان متضمن للعمل، ولا يستطيع أحد أن يزعم أنه أتى بأعمال الإيمان كلها. وقد ورد أيضاً عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم يرون الاستثناء في الإيمان، كما ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام أن رجلاً قال عند ابن مسعود: أنا مؤمن، فقال ابن مسعود: أفأنت من أهل الجنة؟ فقال: أرجو، فقال ابن مسعود: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى 4.   1 الفتح: 27. 2 مسلم، صحيح مسلم مع شرح النووي، ج7 ص40، ط المطبعة المصرية ومكتبتها. 3 مسلم، المصدر السابق ج3 ص74. 4 أبو عبيد القاسم بن سلام، كتاب الإيمان، رسالة رقم 2 من رسائل من كنوز السنة بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني، ص67، دمشق، المطبعة العمومية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فإذاً هذا الرأي الذي قال به السلف ـ سبقهم إلى القول به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القدوة لمن تبعهم، لأنهم أعلم بمقاصد التشريع. روى إسحاق بن إبراهيم عن أحمد بن حنبل أنه كان يقول: اذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان، لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول ونخشى أن نكون فرَّطنا في العمل فيعجبني أن يُستثنى في الإيمان بقول: أنا مؤمن إن شاء الله 1. وبعد: فإننا مما تقدم تبينا وجهة نظر السلف في مسألة الاستثناء واتضحت لنا أدلتهم الشرعية على ما ذهبوا إليه. كما أن ذلك كله دليل قاطع على مدى حرصهم على مسايرة النصوص الشرعية، واتباع ما ترشد إليه، دون تفريط، والله أعلم.   1 ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، الإيمان، ص382، دمشق، ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الباب الثاني: مذاهب المتكلمين في الإيمان الفصل الأول: الخوارج ... الفصل الأول الخوارج نشأتهم: قبل البدء في إيضاح مذهب الخوارج في الإيمان، أحب أن أقدم بين يدي القارئ تعريفاً لهذه الفرقة، حتى يكون على علم بأصلها، والظروف التي أدت إلى ظهروها. فالخوارج فرقة من أشهر الفرق الإسلامية، ومن أقدمها ظهوراً. فقد ذكر ابن كثير ـ رحمه الله ـ في حوادث سنة سبع وثلاثين من الهجرة النبوية، التي وقعت فيها موقعة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، أن هذه الفرقة ظهرت في هذا العام إثر قصة التحكيم. حين رفع حزب معاوية المصحف على أسنَّة الرماح، ونادوا بتحكيم كتاب الله تعالى، فأجابهم عليّ إلى ذلك، وكان من الأمر ما كان. ونتيجة لهذا التحكيم خرج قوم من حزب عليّ عليه، يقرب تعدادهم من اثني عشر ألفاً، وانحازوا إلى قرية حروراء ـ معلنين سخطهم لعلي حين رضي التحكيم وقالوا له كلمتهم المشهورة: لا حكم إلا لله ـ وهي كلمة حق أُريد بها باطل ـ وانتقدوا عليه أموراً، على رأسها مسألة التحكيم هذه التي كانت ذريعة لهم في انفصالهم عن عليّ، ومناصبته العداء. وأرسل عليّ إليهم عبد الله بن عباس، فناظرهم، ورجع منهم من رجع، وبقي أكثرهم. فخرج عليّ رضي الله عنه لقتالهم، وحروبه معهم كثيرة مبسوطة حوادثها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 مواضعها من كتب التاريخ1. والخوارج من أشد الفرق الإسلامية تمسكاً بمذهبها الذي تعتقده وتدعو إليه، وتحاول تطبيقه بالقوة، مستخدمة القتل والفتك بالإعراض إذا اقتضى الحال. ألقابهم: ولهم ألقاب خمسة عُرفوا بها على مر التاريخ، وهي: المارقة، والشراة، والخوارج، والحرورية، والمحكمة. وقد ذكر ألقابهم هذه وأسباب إطلاقها عليهم الشيخ أبو حاتم الرازي في كتاب ((الزينة في الكلمات الإسلامية العربية)) . 1 ـ المارقة: وهو اللقب القديم الذي جاءت في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في قصة الرجل الذي حضر قسمة النبي صلى الله عليه وسلم للهدية التي وجهها إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه من اليمن، إذ قام ذلك الرجل الذي ورد وصفه بأنه مضطرب الخلق، غائر العينين، ناتئ الجبهة، فقال له: لقد رأيت قسمة ما أريد بها وجه الله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورَّد خداه، ثم قال:" يأتمنني الله على أهل الأرض، ولا تأتمنونني ". فقام عمر رضي الله عنه فقال: ألا نقتله يا رسول الله؟ فقال: " إنه يخرج من ضضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية … ". 2 ـ الحرورية: وقد لُقبوا بهذا اللقب، لاجتماعهم بقرية حروراء ـ موضع بالنهروان ـ بعد خروجهم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 3 ـ المحكمة: وسُمُّوا بذلك، لأنهم لمَّا جرى أمر الحكمَين بصفِّين، اجتمع قوم من جملة أصحاب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقالوا:   1 انظر: نشأة الخوارج، وقصتهم مع عليّ في كتاب البداية والنهاية لابن كثير،ج7 ص278-282، ط1سنة 1966م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 لا حكم إلا الله، وأن الله قد حكم في التنزيل وقال: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وقالوا: إن عليّاً ترك حكم الله، وحكّم الحكمين، فلا حكم إلا لله. 4 ـ الشراة: وسموا شراة، لأنهم قالوا: شرينا أنفسنا من الله، نقاتل في سبيل الله، فنَقتُل ونُقتَل. وذهبوا في ذلك إلى قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} ، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} . وواحد الشراة: شاري. ومعنى شرى نفسه من الله، أي باعها. 5 ـ الخوارج: وسموا بذلك لخروجهم على كل إمام، واعتقادهم أن ذلك فريضة عليهم، لا يسعهم المقام في طاعته، حتى يخرجوا، ويتخذوا لأنفسهم دار هجرة، وحتى يكونوا منابذين لمن خالفهم من المسلمين، حرباً لهم. والمسلمون عندهم كفار مشركون، إلا من وافقهم، وبايعهم، واستجار بهم حتى يسمع كلام الله. فهذه خمسة ألقاب للخوارج، اشتهروا بها على مر التاريخ، وهي كما يُلاحظ أسماء منوعة لفرقة أصلها واحد، وكل واحد منها، يجمع فرق الخوارج التي تشعبت فيما بعد إلى فِرق كثيرة، تنفرد كل واحدة منها برأي عن الأخرى. ونكتفي بهذا التعريف، والآن إلى رأيهم في الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 مذهب الخوارج في الإيمان ذهب الخوارج إلى أن الإيمان يتركب من مجموع أمور ثلاثة: 1 ـ تصديق بالجنان. 2 ـ إقرار باللسان. 3 ـ عمل بالجوارح. وهو كل عمل خير فرضاً كان أو نافلة مع ترك الكبائر 1، فهم يعتبرون الطاعات بجميع أنواعها إيماناً، موافقين بذلك جماعة السلف. ونقطة الخلاف بينهم وبين السلف في هذه المسألة أنهم جعلوا ذلك كلاً لا يتجزأ، إذ لا يمكن ذهاب بعضه وبقاء بعضه عندهم، بل إذا ذهب البعض ذهب الكل، فالإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص أبداً، فبمعصية واحدة يخسر جميع أعمال الخير التي عملها طوال حياته. وأدلتهم في قولهم بتركب الإيمان من الأمور سالفة الذكر هي بعينها أدلة السلف، التي يستندون إليها، وإنما الخلاف في قولهم بأنه كل لا يتجزأ كما ذكرت. ومن هنا توصلوا إلى أخطر النتائج التي ضجَّ المجتمع الإسلامي بها وحقد على الخوارج بسببها، وبسبب غيرها من العقائد التي علم فسادها من الدين بالضرورة. إذ أنهم يعتقدون أن مَن أخلَّ بأي أمر من أمور الدين، فإنه يُسلب منه اسم الإيمان بالكلية، ويُسمى كافراً ويستحق الخلود في النار وتجري عليه في الدنيا أحكام الكفار، فيكون حلال الدم والمال. ولعلّ الشبهة التي قادت الخوارج والمعتزلة إلى سلب العاصي اسم الإيمان، هو اعتقادهم أنه حقيقة مركبة من أجزاء، فيلزم أن يزول إذا زال بعضها، وذلك كالعشرة مثلاً، إذا نقص منها واحد أو أكثر لم تبقَ عشرة. فإذا كان الإيمان   1 انظر معتقدهم هذا في الملل والنحل لابن حزم الظاهري، ج3 ص188، وأصول الدين للبغدادي، ص249، ط مطبعة الدولة باستانبول سنة 1346هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 مركّباّ من أقوال وأعمال باطنة وظاهرة لزم زواله بزوال بعضها. وبنى الخوارج على هذا أن من ارتكب كبيرة ثم مات عليها، ولم يتبْ منها فهو كافر مخلد في النار (مع ملاحظة أن الخوارج أنكرت أن يكون في المعاصي صغيرة، وحكمت بأن الكل كبيرة) 1. وبناء على هذا، فقد تجرأ الخوارج على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كفَّروا عليّاً رضي الله عنه، زاعمين أنه ارتكب كبيرة بتحكميه أبا موسى الأشعري، فحكموا بكفره، وكفر معاوية والحكمين، وكل من رضي بالتحكيم، واستحلوا دماء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسموا مبادئ وضعوها مقياساً للإيمان واتخذوها ديناً لهم، وحاربوا كل من خالفهم فيها، لاعتقادهم كفره وخرجه على ملة الإسلام. وفي بيان اعتقاد مذهب هذه الطائفة يقول الإسفرائيني في كتاب ((التبصير في الدين)) : " اعلم أن الخوارج عشرون فرقة … وكلهم متفقوه على أمرين لا مزيد عليهما في الكفر والبدعة: أحدهما: أنهم يزعمون أن علياً وعثمان، وأصحاب الجمل، والحكمين وكل من رضي بالتحكيم كفروا كلهم. والثاني: أنهم يزعمون أن كل من أذنب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، ويكون في النار خالداً مخلداً، إلا النجدات منهم فإنهم قالوا: إن الفاسق كافر على معنى الكفران لا على معنى الكفر 2. فالخوارج جماعة غلاة. استحلوا دماء المسلمين وأعراضهم، بأدنى فعلة هي كبيرة في نظرهم، وإن كانت صغيرة، إذ لا فرق عندهم بين الذنوب، فكلها عندهم كبائر كما ذكرت، وهي في مستوى واحد، وتؤدي   1 انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، تحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان، ص632، ط1 بمطبعة الاستقلال الكبرى، القاهرة، سنة 1384هـ. 2 التبصير في الدين، لأبي المظفر الإسفرائيني، المتوفى سنة 471هـ، تحقيق محمد زاهد الكوثري، ص46، ط مطبعة الأنوار سنة 1359هـ ـ 1940م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 إلى نتيجة واحدة. وبهذا فقد قالت الخوارج بما لا يمكن تبريره، وفعلت ما لا يمكن أن يفعله ناشد حقيقة أبداً. أدلة الخوارج: وقد استدل الخوارج على تكفير مرتكب الكبيرة بالنصوص الناطقة بكفر العصاة. فمن القرآن الكريم استدلوا بقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1، وقوله تعالى في تارك الحج: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 2، وقوله سبحانه: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 3، وغيرها مما ورد في القرآن من الآيات الناطقة بكفر العصاة. أما من السنة النبوية: فاستدلوا بأحاديث كثيرة منها قوله عليه السلام: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر "، وقوله عليه السلام:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن … ". ووجه الاستدلال بهذين الحديثين أنه أَطلقَ على العاصي في الحديث الأول اسم الكفر، وفي الثاني نفى عنه الإيمان، ومن لم يكن مؤمناً فهو كافر. واستدلوا أيضاً بقوله عليه السلام في تارك الصلاة: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ". إلى غير ذلك من أشباه هذه النصوص التي وردت بشأن العصاة، وسيأتي أنه لا دليل لهم فيها وأن رأيهم ساقط، كل الهدف منه بثّ الفرقة بين المسلمين، وإشباع نزوات تتطلع إلى سفك الدماء، وانتهاك الحرمات. فرق مخالفة: وقد تقدم في كلام الإسفرائيني أن النجدات من الخوارج لم يوافقوا   1 المائدة:44. 2 آل عمران: 97. 3 النور: 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 على إطلاق اسم الكفر على المذنب بالمعنى المعروف، إذ قالوا بأنه كافر كفر نعمة لا كفر شرك. إلا أن المصيبة لم تخفّ بل بقوا على الرأي السائد عندهم، وهو استحلال دم المخالف كما ذكر ابن حزم عن الإباضية أصحاب إباض بن عمرو ما يوافق النجدات في أن مرتكب الكبيرة كافر كفر نعمة، وقالوا بأنه تحلّ موارثته ومناكحته وأكل ذبيحته وليس مؤمناً ولا كافراً على الإطلاق 1. إلا أن أبا الحسين الملطي ـ المتوفى سنة 377هـ، والذي يعتبر من أقدم من ألَّف في الفِرق، قَرَن هاتين الفرقتين مع أصحابهم في الرأيين اللذين ذكرهما الإسفرائيني ولم يذكر مخالفتهم في شيئ بل بيَّن أنهم على مذهب أصحابهم من القول بقتل الأطفال وإراقة الدماء واستحلال الأعراض، وتكفير الأمَّة2. غير أن الأرجح الذي عليه أغلب مؤرخي الفرق ما ذكره الإسفرائيني بشأن النجدات وما قاله ابن حزم بشأن الأباضية. أما الفرقة التي خالفت الخوارج في مذهبهم هذا دون جدال فهم الصفرية، فقد ذكر عنهم الإسفرائيني، أن منهم من يرى أن الذنوب التي فيها حد مقرر، لا يتجاوز بمرتكبها ما سماه الله من أنه زانٍ، أو سارق، أو قاذف، وأنه لا يُباح قتل نساء مخالفيهم ولا أطفالهم. وفي بيان هذه المخالفة من جانب الصفرية يقول الإسفرائيني: الفرقة الرابعة من الخوارج الصفرية، وهم أتباع زياد بن الأصفر، وقولهم كقول الأزارقة في فساق هذه الأمة، ولكنهم لا يبيحون قتل نساء مخالفيهم، ولا أطفالهم. وقال فريق منهم: كل ذنب له حد معلوم في الشريعة لا يُسمى مرتكبه مشركاً ولا كافراً، بل يدعى باسمه المشتق من جريمته، يقال: سارق، وقاتل، وقاذف، وكل ذنب ليس فيه حد معلوم في الشريعة مثل الإعراض عن الصلاة فمرتكبه   1 الفصل في الملل والنحل لابن حزم، ج3 ص229. 2 انظر: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع لأبي الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي، تحقيق محمد زاهد الكوثري، ص52، ط سنة 1388هـ ـ 1968م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 كافر، ولا يُسمُّون مرتكب واحد من هذين النوعين جميعاً مؤمناً. وقال فريق منهم: إن المذنب لا يكون كافراً إلى أن يحده الوالي ويحكم بكفره. وهؤلاء الفرق الثلاث من الصفرية. فمن النص السالف عن الإسفرائيني يتبيَّن لنا أن مذهب الصفرية يتردد بين التكفير لمرتكب الذنب من نوع معين، وعدمه لنوع آخر، مع إخراج النوعين من اسم الإيمان كلية. وفرقة أخرى منهم جعلت الحكم بالكفر للحاكم، بمعنى أنه إذا حكم بكفره فهو كذلك وإن لم يحكم الوالي بكفره فلا. أما نساء المخالفين وأطفالهم، فلا يحل قتلهم عند الصفرية، ولا شك أنهم بقولهم هذا، أخف فرق الخوارج، التي حاولت نشر مبادئها علىجسر من الجماجم وبحر من الدماء، فكان الإرهاب سمة من أبرز سماتها. على أن أبا الحسين الملطي برأ هذه الفرقة من جميع المذاهب التي قال بها الخوارج، وانتهجوها في مسألة العصاة حيث قال عنهم: " … لم يوذوا الناس، ولا كفروا الأمة، ولا قالوا بشيئ من قول الخوارج ". غير أن هذا الرأي السائد عن هذه الفرقة هو ما ذكره الإسفرائيني، لا ما ذكره الملطي، فهذه الفرقة وإن كان مذهبها أخف، إلا أنها لم تخلُ من تطرّفٍ كأصحابها في مسألة العصاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الفصل الثاني المرجئة المرجئة واحدة من الفرق الإسلامية التي اشتهرت بقولها في الإيمان ومخالفتها لما عليه السلف في هذا الموضوع. وقبل البدء في بيان مقالاتهم أرى من المناسب أن أذكر معنى الإرجاء، وسبب تسمية هذه الفرقة بالمرجئة فأقول وبالله التوفيق: جاء في القاموس: أرجأ الأمر: أخَّره، وترك الهمز لغة. {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} 1. أي مؤخرون حتى يُنزِل الله فيهم ما يريد ومنه سُمِّيت المرجئة2. وقال الشهرستاني: الإرجاء على معنيين: أحدهما التأخير، كما في قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} 3 أي أمهله وأخِّره. والثاني: إعطاء الرجاء. أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح، لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد. وأما بالمعنى الثاني فظاهر، فإنهم كانوا يقولون: لا تضرّ مع الإيمان   1 التوبة: 106. 2 الفيروز أبادي، مجد الدين، القاموس المحيط، ج1 ص16، مصر، مطبعة السعادة، بدون تاريخ. 3 الأعراف: 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقيل الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يُقضى عليه بحكم ((ما)) في الدنيا، من كونه من أهل الجنة، أو من أهل النار، فعلى هذا المرجئة والوعيدية فرقتان متقابلتان1. فالشهرستاني يرى أن المرجئة إنما لزمهم هذا اللقب لأمرين: أحدهما: تأخيرهم العمل عن النية والقصد. وثانيهما: إعطاؤهم المؤمن العاصي الرجاء في عفو الله، بإرجائهم العمل عن الاعتبار في مجال الإيمان، لأن المهم عندهم هو العقد القلبي. وذكر إرجاءً آخر لا ضير فيه، وهو تأخير حكم العاصي إلى يوم القيامة ليكون تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له دون جزم بأحد الأمرين. هذا وقد درج أهل السنة على تسمية كل من أخَّر العمل عن الركنية في الإيمان مرجئاً وكذلك فعل بعض مؤرخي الفرق. فقد حصر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أصناف المرجئة ـ في نظره ـ بقوله: " والمرجئة ثلاثة أصناف، الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة. كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه 2، وقد ذكر فرقاً كثيرة يطول ذكرها، لكن ذكرنا جمل أقوالهم ومنهم من لا يدخلها كجهم ومن اتبعه كالصالحي، وهذا هو الذي نصره هو وأكثر أصحابه. والقول الثاني: من يقول هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يُعرف لأحد قبل الكرامية. والثالث: تصديق القلب، وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم3 يعني أبا حنيفة وأصحابه.   1 الشهرستاني، محمد عبد الكريم، الملل والنحل بتحقيق محمد سيد كيلاني، ج1 ص139، مصر، مطبعة الحلبي سنة 1387هـ ـ 1967م. 2 مقالات الإسلاميين، ج1 ص213-223. 3 ابن تيمية، المصدر المذكور آنفاً ص163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وهنا نجد ابن تيمية يعدُّ الكرامية، والجهمية، والأحناف، من المرجئة موافقاً بذلك أبا الحسن الأشعري، الذي عدهم مرجئة، كما أشار ابن تيمية إلى ذلك. غير أن ابن تيمية يجعل الأشعري وأصحابه مرجئة أيضاً مناصرة لمذهب جهم في الإيمان الذي يعتبره السلف من أفسد الآراء، وأكثرها شذوذاً. على أن ابن حزم الأندلسي قد سبق ابن تيمية في عده الأشاعرة من المرجئة وشنَّع عليهم ولذلك موضعه، وإنما ذكرته هنا استيفاءً لكل من وُصِف بالإرجاء من الفرق الإسلامية، وسأفرد لكلٍّ من هذه الفرق فصلاً مستقلاً أستعرض فيه آراءها في الإيمان، أما هذا الفصل فسأقتصر فيه على بحث مقالات المرجئة الخالصة وبالله التوفيق. مقالات المرجئة في الإيمان ذكر الشهرستاني مقالات ست طوائف من المرجئة الخالصة، ناسباً كل طائفة منها إلى مؤسسها الأول، ونحن نوردها نقلاً عنه على سبيل الاختصار. الأولى: اليونسية، أصحاب يونس بن عون النميري، وقد زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله، والخضوع له، وترك الاستكبار عليه، والمحبة بالقلب. فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن، وما سوى ذلك من الطاعة فليس من الإيمان، ولا يضر تركها حقيقة الإيمان. الثانية: العبيدية، أصحاب عبيد المكتئب، حكي عنه أنه قال: ما دون الشرك مغفور لا محالة، وأن العبد إذا مات على توحيده لا يضرّه ما اقترف من الآثام، واجترح من السيئات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الثالثة: الغسّانية، أصحاب غسّان الكوفي، زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى، وبرسوله، والإقرار بما أنزل الله، وبما جاء به الرسول في الجملة دون التفصيل، وقال: الإيمان لا يزيد ولا ينقص. الرابعة: الثوبانية، أصحاب أبي ثوبان المرجئ، الذين زعموا أن الإيمان هو المعرفة، والإقرار بالله تعالى، وبرسله عليهم الصلاة والسلام، وأخَّروا العمل كله عن الإيمان. الخامسة: التومنية، أصحاب أبي معاذ التومني، زعم أن الإيمان هو ما عصم من الكفر، وهو اسم لخصال، إذا تركها العبد، أو ترك خصلة منها كفر، وهي: المعرفة، والتصديق، والمحبة، والإخلاص، والإقرار بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. قال: وكل معصية لم يُجمع عليها المسلمون بأنه كفر، لا يقال لصاحبها فاسق، ولكن يقال فسق وعصى. السادسة: الصالحية، أصحاب صالح بن عمر. قال: إن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى على الإطلاق وهو أن للعالم صانعاً فقط، والكفر هو الجهل به على الإطلاق، ومعرفة الله هي المحبة والخضوع له، ولا عبادة لله إلا الإيمان به، وهو معرفته 1. وأما الإمام أبو الحسن الأشعري، فيبلغ بالمرجئة في كتابه مقالات الإسلاميين إلى اثنتي عشرة فرقة فيعدُّ منهم: 1 ـ الجهمية، أتباع الجهم بن صفوان الترمذي، الذين يزعمون أن الإيمان هو معرفة القلب، وأنه لا يتبعض، ولا يتفاضل أهله فيه، وأن الإيمان والكفر لا يكون إلا في القلب دون الجوارح. 2 ـ النجارية، أتباع الحسين بن محمد النجار، وهؤلاء برون أن الناس يتفاضلون في إيمانهم، ويكون بعضهم أكثر تصديقاً من بعض، وأن الإيمان يزيد ولا ينقص.   1 الشهرستاني، المصدر المذكور آنفاً ص141-145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 3 ـ الغيلانية، أصحاب غيلان، يزعمون أن الإيمان المعرفة الثانية بالله، والمحبة، والخضوع، والإقرار بما جاء به الرسول، وبما جاء به من عند الله، وأما المعرفة الأولى فهي اضطرار، فلذلك لم يجعلها من الإيمان. 4 ـ أصحاب محمد بن شبيب، ويذهبون إلى أن الإيمان هو الإقرار بالله والمعرفة بأنبيائه ورسله، وبجميع ما جاءت به من عند الله، مما نص عليه المسلمون، ونقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إن الإيمان يتبعض ويتفاضل أهله فيه. 5 ـ أبو حنفية وأصحابه، يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله، وبالرسول، والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفصيل. 6 ـ الكرامية، أتباع محمد بن كرام، يزعمون أن الإيمان هو الإقرار، والتصديق باللسان دون القلب، وأنكروا أن تكون معرفة القلب أو شيئ غير التصديق باللسان إيماناً. ومما تقدم نتبين أن أبا الحسن الأشعري خالف الشهرستاني في تعداد الفرق التي توصف بالمرجئة حيث عد أبا حنيفة وأصحابه من جملتهم وسنرى ما إذا كان هذا القول له وجه من الصحة عند كلامنا عن أبي حنيفة فيما بعد إن شاء الله. كما أن الأشعري ذكر هنا فرقتين عدَّهما من المرجئة وهما النجارية أتباع الحسين بن محمد النجار، وأصحاب محمد بن شبيب. وفي عدِّهم من المرجئة الخالصة نظر، حيث ذكر عنهم قولهم بتفاضل الناس في الإيمان، وهذا ما لم يقله المرجئة الخالصة. وقد تقدم أن المرجئة الخالصة مبدؤها الذي تتميز به قولهم أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، كما أنهم يقولون بأنه لا تفاضل في الإيمان بين أهله كما سيأتي فيما بعد. ومما يدل على أن هاتين الفرقتين ليستا من المرجئة الخالصة أن الشهرستاني لم يتعرَّض لذكرهما عند كلامه عن المرجئة الخالصة.كما أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 البغدادي جزم بإخراج النجارية عن فرق المرجئة الخالصة وعقد لها فصلاً خاصاً ذكر رأيها الذي تجتمع عليه في الإيمان وهو عين ما ذكره الأشعري1. وما ذكره الشهرستاني وذكر بعضه الأشعري من مقالات المرجئة قد يظن الشخص لتعددها أنها مختلفة، فيتساءل كيف يمكن أن يُجمَعوا تحت اسم واحد مع اختلاف أقوالهم؟ ونحن نقول أنه مهما يكن من تعدد طوائف المرجئة، فإن أقوالهم متقاربة ويكادون يُجمِعون على أن العمل ليس ركناً في الإيمان ولا داخلاً في مفهومه، كما أن المبدأ العام الذي يجمعهم هو ما اشتهر عنهم من قولهم: " إنه لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة " 2. فهؤلاء هم المرجئة الخالصة، وهذه هي مقالتهم المشتهرة عنهم، كما يقول التفتازاني أيضاً في ((شرح المقاصد)) : " وإنما المرجئة الخالصة الباطلة، هم الذين يحكمون بأن صاحب الكبيرة لا يُعذَّب أصلاً، وإنما العذاب والنار للكفار، وهذا تفريط، كما أن قول الوعيدية إفراط، والتفويض إلى الله تعالى وسط بينهما " 3. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أن هؤلاء المرجئة يتفقون مع الخوارج والمعتزلة والجهمية في مذهبهم القائل بأنه لا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعاً، بل من دخل إحداهما لم يدخل الأخرى. وبناء على هذا الأصل قال غلاة المرجئة: إن أهل الكبائر يدخلون الجنة، ولا يدخلون النار، مقابلة للخوارج والمعتزلة القائلين بأنهم يدخلون النار، ولا يخرجون منها، لأن من دخلها عندهم يخلد فيها 4.   1 البغدادي، عبد القاهر بن طاهر التميمي، الفَرق بين الفِرق، بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ص202، القاهرة، مطبعة المدني. 2 السفاريني، محمد بن أحمد الأثري الحنبلي، لوامع الأنوار البهية، ج1 ص42 طبع حكومة قطر، وانظر: الرفع والتكميل للكنوي، بتحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ص30، 31،149،164، وتأنيب الخطيب للكوثري، ص31، ونهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني، ص471. 3 التفتازاني، سعد بن مسعود بن عمر، شرح المقاصد، ج2 ص175، طبع سنة 1277هـ. 4 انظر: ابن تيمية، المصدر المذكرو آنفاً ص301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ويحكي الشهرستاني عن بعضهم أنه كان يقول: لو قال قائل: أعلم أن الله عز وجل، قد حرم أكل الخنزير، ولا أدري هل الخنزير الذي حرمه الله هذه الشاة أم غيرها، كان مؤمناً. ولو قال: أعلم أنه قد فرض الحج إلى الكعبة غير أني لا أدري أين الكعبة ولعلها بالهند، كان مؤمناً 1. وقد ذكر الآجري في كتاب الشريعة عن المرجئة قولهم: " إن من قال لا إله إلا الله لم تضره الكبائر أن يعملها، ولا الفواحش أن يرتكبها، وإن البار التقي الذي لا يباشر من ذلك شيئاً، والفاجر يكونان سواء" 2. وقال الآجري أيضاً (ص146) : " احذروا رحمكم الله قول من يقول إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل ومن يقول: أنا مؤمن عند الله، وأنا مؤمن مستكمل الإيمان، هذا كله مذهب أهل الأرجاء ". وقال سفيان الثوري: " خالفنا المرجئة في ثلاث، نحن نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: قول بلا عمل. ونحن نقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص. ونحن نقول: نحن مؤمنون بالإقرار، وهم يقولون: نحن مؤمنون عند الله " 3. هذا عرض لما ذكره مؤرخو الفرق من آراء المرجئة ويتلخص لنا منه أن المرجئة قالت: 1 ـ إن العمل ليس ركناً في الإيمان. 2 ـ إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل أهله فيه، إلا ما ذكرنا من خلاف فرقتي النجارية، وأصحاب محمد بن شبيب في هذا الأصل والذي بناءً عليه أخرجناهم من جملة المرجئة الخالصة.   1 الشهرستاني، المصدر السابق ص141. 2 الآجري، محمد بن الحسين، كتاب الشريعة، بتحقيق محمد حامد الفقي ص147، ط1، مطبعة السنة المحمدية سنة1369هـ. 3 البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود، شرح السنة، بتحقيق شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش،ج1 ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 3 ـ إن مرتكب الكبيرة في الجنة دون سابقة عذاب، لأنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. 4 ـ إن الاستثناء في الإيمان غير جائز. هذه هي خلاصة مقالات المرجئة في الإيمان كما ذكرها مؤرخو الفرق ومحررو العقيدة من العلماء. لكننا نقول: هل المرجئة أخذت هذه الأقوال مذهباً دون أن تسندها بدليل. طبعاً لا. فالمرجئة كغيرها من الفرق الإسلامية استدلَّت بالوحي الإلهي الذي هو مصدر العقيدة، وفسرته على حسب هواها. وكل يدَّعي وصلاً لِليلى وليلى لا تُقِرُّ لهم بِذاكا 1 ـ أما قولهم بعدم ركنية العلم في الإيمان فاستدلوا عليه بمثل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} 1، ففرقوا بين الإيمان والعمل، ورأوا أن الله تبارك تعالى خاطب الإنسان بالإيمان قبل وجود الأعمال، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق} 2، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} 3. وقالوا: لو أن رجلاً آمن بالله ورسوله ضحوة، ومات قبل أن يجب عليه شيئ من الأعمال مات مؤمناً، وكان من أهل الجنة. فدل على أن الأعمال ليست من الإيمان4. هذه هي أدلة المرجئة على قولهم بعدم ركنية العمل، وعدم اعتباره في مجال الإيمان.   1 البقرة: 25. 2 المائدة:6. 3 الجمعة: 9. 4 انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية، ص162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 2 ـ أما دعواهم عدم زيادة الإيمان ونقصه فقد استدلوا لذلك بأن الإيمان شيئ واحد لا تعدد فيه، فلا يتعدد إلى اثنين أو ثلاثة فإنه إذا كان ذا عدد أمكن ذهاب بعضه، وبقاء بعضه، بل لا يكون إلا شيئاً واحداً، ولذلك لا يتبعض ولا يتفاضل أهله فيه. 3 ـ وأما قولهم بأن المعاصي غير ضارة مع الإيمان، وأن العاصي مصيره إلى الجنة قطعاً وابتداءً، فقد استدلوا عليه بظاهر حديث " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ". فهذا الحديث هو مناط استدلالهم على هذه الدعوى، وبه يتشبثون لإسناد رأيهم هذا. 4 ـ أما قولهم بعدم جواز الاستثناء في الإيمان، فهم يقولون: إن الإيمان لا يكون إلا عن جزم لا يعتوره الشك، ولا الشبهة، والاستثناء دليل على أن المستثنى شاك في إيمانه لم يُعدّ مؤمناً فلا بد من الجزم في الإيمان. تلك هي مقالات المرجئة في الإيمان، وهذه هي أدلتهم، وسنرى موقف السلف منهم ومن مذاهبهم وأدلتهم فيما بعد إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الفصل الثالث أبو حنيفة والإرجاء عرفنا فيما تقدم المرجئة وما ذهبوا إليه في الإيمان، وفي هذا الفصل نناقش مسألة خطيرة، برزت على مسرح البحث والمناقشة بين العلماء، بين مؤيد ومعارض. وهذه المسألة هي ما ذكر من اتهام أبي حنيفة بالإرجاء، وأن مذهبه في الإيمان هو عين مذهبهم. وأبو حنيفة ـ رحمه الله ـ أحد الأئمة الأربعة وصاحب أتباع كثيرين، يتشبثون بمذهبه، وينتصرون له. وكما أنه قدوة لهم، فهو قدوة لنا أيضاً، وله مكانته في قلوب المسلمين جميعاً، لأنه إمام عظيم، خدم الدين بإخلاص، وبذل جهداً جباراً ـ كغيره من الأئمة الأعلام ـ في سبيل إبراز تشريعاته العملية والعقدية، والذَّب عن حياضها، وإيصالها إلينا نقية صافية من شوائب البدع والخرافات التي حاول مروجوها إدخالها في الدين، وإضافة ما ليس منه إليه. لذلك كان لزاماً علينا أن ندفع عنه كل تهمة توجه إليه، ما دامت ليس لها أساس من الصحة، آخذين بعين الاعتبار بشريته، وأنه كغيره من العلماء، عرضة للخطأ، والعصمة إنما هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوحى. وأبو حنيفة رضي الله عنه، يسرّه أن يُصحح خطؤه إذا أخطأ، وفق ما هو موجود في كتاب الله وسنة رسوله اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها "، وقال عليه الصلام:" تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله، وسنتي "، إذ إنه ـ رحمه الله ـ إمام ملتزم بهما ويدعو إلى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وأبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ سلفي العقيدة ولا ريب، إلا أن هناك مسألة عقدية تعرَّض للنقد فيها من جانب أئمة السلف، وعلمائهم، وهي قوله في الإيمان، الذي لأجله رُميَ بالإرجاء. رأي أبي حنيفة في حقيقة الإيمان: وقبل أن أذكر وجهة نظر الناقدين له يحسن بي أن أبين رأي الإمام أبي حنيفة في الإيمان أولاً، فأقول وبالله التوفيق: إن أبا حنيفة ـ رضي الله عنه ـ قد اشتهر عنه قوله بأن الإيمان عبارة عن أمرين لا ثالث لهما، تصديق بالقلب، وإقرار باللسان. قال ـ رحمه الله ـ في ((الوصية)) 1: الإيمان إقرار باللسان، وتصديق بالجنان، والإقرار لا يكون وحده إيماناً، لأنه لو كان إيماناً لكان المنافقون كلهم مؤمنين. وكذلك المعرفة وحدها لا تكون إيماناً، لأنها لو كانت إيماناً لكان أهل الكتاب كلهم مؤمنين. قال تعالى في حق المنافقين: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 2، وقال تعالى في حق أهل الكتاب: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} 3. قال شارح الفقه الأكبر ـ بعد سَوْقِه لما تقدم ـ ضمن شرحه: والمعنى أن مجرد معرفة أهل الكتاب بالله ورسوله لا ينفعهم4، حيث ما أقروا بنبوة   1 وصية الإمام أبي حنيفة، ص1، مخطوطة بمكتبة أسعد أفندي، ضمن المكتبة السليمانية باستانبول، رقم 1296. وانظر: الفقه الأكبر مع شرحه لعلي القاري، ص85، ط مطبعة الحلبي، مصر سنة 1375هـ. 2 المنافقون:1. 3 الأنعام:20. 4 هناك فارق بين التصور الإسلامي للألوهية، وبين تصور أهل الكتاب للألوهية، الذي ينطوي على الشرك أحياناً، وعلى التجسيد، ومشابهة المخلوقات أحياناً أخرى، ثم القول بأن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب خاصة، هو رأي قلة من منصفيهم، مع أنه رأي باطل أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 محمد صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ورسالته إليهم وإلى الخلق كافة، فإنهم كانوا يزعمون أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مبعوث إلى العرب خاصة، فإقرارهم بهذا الطريق لا يكون خالصاً. ثم التصديق ركن حسن لِعَينِه، لا يحتمل السقوط في حال من الأحوال بخلاف الإقرار فإنه شرط أو شطر، وركن حسن لغيره، ولهذا يسقط في حال الإكراه وحصول العذر، وهذا لأن اللسان ترجمان الجنان، فيكون دليل التصديق وجوداً وعدماً، فإذا بدله بغيره في وقت يكون متمكناً من إظهاره كان كافراً، وأما إذا زال تمكنه من الإظهار بالإكراه، لم يصِرْ كافراً، لأن سبب الخوف على نفسه دليل ظاهر، على بقاء التصديق في قلبه، وأن الحامل على هذا التبديل، حاجته إلى دفع المهلكة عن نفسه، لا تبديل الاعتقاد في حقه، كما أشار إليه قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} 1. فأما تبديله في وقت تمكنه، فإنه دليل على تبديل اعتقاده، فكان ركن الإيمان وجوداً وعدماً 2. فإذاً أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ يجعل الإيمان مركَّباً من جزئين، أحدهما: أصلي ثابت، لا يحتمل السقوط أبداً، وهو التصديق، وثانهما: يمكن سقوطه، والتجاوز عنه لوجود ملابسات تمنع من الوفاء به، وهو الإقرار. ويزيدنا إيضاحاً وتأكيداً لما تقدم، ما ذكره ـ رحمه الله ـ في كتاب ((العالم والمتعلم)) ، حيث قال: والناس في التصديق على (ثلاثة) 3 منازل: فمنهم من يصدق بالله وبما جاء منه بقلبه ولسانه. ومنهم من يصدق بلسانه، ويكذب بقلبه. ومنهم من يصدق بقلبه، ويكذب بلسانه4.   1 النحل: 106. 2 ملا علي بن سلطان القاري، شرح الفقه الأكبر، ص85، 86، ط طبعة الحلبي، مصر سنة 1375هـ. 3 هكذا في الأصل المطبوع، والصحيح: ثلاث منازل. 4 أبو حنيفة، العالم والمتعلم، تحقيق محمد رواس، وعبد الوهاب الندوي، ص52، ط1 مطبعة البلاغة، حلب سنة 1392هـ, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فهذه ثلاث مراتب للناس في مسألة التصديق، ذكرها وأصدر حكمه على كل طائفة منها بعد ذلك فقال:" من صدق بالله، وبما جاء من عند الله بقلبه ولسانه، فهو عند الله وعند الناس مؤمن. ومن صدق بلسانه وكذب بقلبه كان عند الله كافراً وعند الناس مؤمناً، لأن الناس لا يعلمون ما في قلبه، وعليهم أن يُسمُّوه مؤمناً بما ظهر لهم من الإقرار بهذه الشهادة، وليس لهم أن يتكلَّفوا علم ما في القلوب. ومنهم من يكون عند الله مؤمناً، وعند الناس كافراً،وذلك بأن الرجل يكون مؤمنا بالله، وبما جاء من عنده، ويُظهر الكفر بلسانه في حال التُّقية، أي في حال الإكراه، فيسمِّيه من لا يعرف أنه يتقي كافراً، وهو عند الله مؤمن " 1. ومن مجموع ما تقدم ذكره من النصوص يتبين لنا أن مذهب أبي حنيفة في الإيمان عبارة عن أمرين: إقرار، وتصديق، كما صرح هو بذلك، فيما قدمنا، وكما ذكر عنه أصحابه في كتبهم. إلا أن التصديق عنده، له مكانة ليست للإقرار، إذ التصديق أرسخ، لا يمكن زواله بحال، فلا يزول إلا بالكفر. أما الركن الآخر فيمكن سقوطه وزواله، مع بقاء الإنسان مؤمناً بذلك التصديق القلبي، وكما في حال العذر والإكراه على إظهار ضده، فيمتثل تقية من عدوٍّ أو نحوه. وقد استدل على ما ذهب إليه من أن الإيمان عبارة عن التصديق والإقرار بما يأتي: أما على أنه تصديق فاستدل بعين أدلة الأشاعرة على ذلك من الآيات التي أضافت الإيمان إلى القلب من مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} 2، وقوله سبحانه: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُم} 3، وغيرها مما سنذكره عند بيان مذهبهم إن شاء الله. أما جعل الإقرار ركناً آخر في الإيمان فاستدل له بدليل عقلي وهو أن اللسان ترجمان الجنان، فيكون دليل التصديق وجوداً وعدماً، بمعنى أن   1 المصدر السابق. 2 المجادلة:22. 3 الحجرات:14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 التصديق أمر خفي يوجد في قرارة قلب المؤمن، ولا يمكننا اكتشاف وجوده، والإطلاع عليه إلا إذا وُجد الإقرار اللساني، الذي يدلنا على وجوده، كما أن عدم وجود الإقرار اللساني يدل بدوره على انتفاء التصديق، وعدم وجوده في القلب، فهما ركنان متلازمان في الوجود. هذا ما ذهب إليه أبو حنفية نفسه. أما أصحابه: فقد ذهب جماعة منهم أبو منصور الماتريدي إلى أن الإيمان هو التصديق فقط، وأن الإقرار إنما هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية عليه، وليس هو داخلاً في الإيمان، كما ذكر ذلك عنه أبو المعين النسفي في ((بحر الكلام)) 1. وقد وجدت في رسالة في العقائد على مذهبه ما يوافق أبا حنيفة فيما ذهب إليه من ركنية الإقرار2. وقد ذكر شارح الفقه الأكبر أيضاً أن جمهوراً من المحققين ذهبوا إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وإنما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا، لما كان تصديق القلب أمراً باطناً، لا بد له من علامة، فمن صدق بقلبه، ولم يُقرّ بلسانه فهو مؤمن عند الله تعالى، وإن لم يكن مؤمناً في أحكام الدنيا، ومن أقرَّ بلسانه، ولم يصدق بقلبه كالمنافق فهو بالعكس. 3 كما ذكر ذلك الشيخ كمال الدين محمد بن محمد القدسي في كتابه   1 انظر: بحر الكلام لأبي المعين النسفي، ص20، مخطوط بمكتبة علي باشا ضمن المكتبة السليمانية، استانبول رقم 1571. 2 رسالة في العقائد على مذهب أبي منصور الماتريدي، مجهولة المؤلف، ص5، مخطوطة بمكتبة ((لا له لي)) ضمن المكتبة السليمانية، استانبول رقم 2240. 3 انظر: شرح الفقه الأكبر لعلي القاري، ص86-87، ط مطبعة الحلبي، مصر سنة 1375هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ((المسايرة بشرح المسامرة)) وعزاه إلى أبي البركات عبد الله بن محمد بن محمود النسفي من الأحناف كما ذكر أن هذا القول هو بعينه المختار عند الأشاعرة 1. فإذاً يوجد من أصحاب أبي حنيفة من خالفه في ركنية الإقرار واختار رأي الأشاعرة من أن التصديق كافٍ في الإيمان، وإنما الإقرار شرط لإجراء أحكام الدنيا عليه، من الصلاة خلفه وعليه ودفنه في مقابر المسلمين، وعصمة الدم والمال، ونكاح المسلمة ونحو ذلك من الأحكام. أما أبو حنيفة فهو ـ كما تقدم ـ قد أخذ الأمرين جميعاً، أعني التصديق والإقرار وجعلهما ركني الإيمان. والفرق بين الرأيين: إن أبا حنيفة ومن ذهب مذهبه يرون أن الإقرار ركن أصلي في الإيمان إذا كان الإنسان قادراً على الوفاء به فلا عذر، ولا اعتبار لتصديقه أبداً إذا لم يُقرّ بلسانه، وإنما يُعتبر تصديقه القلبي كافياً إذا لم يستطع الإقرار لعذر كما تقدم بيانه. أما الرأي الآخر الذي قال به بعض أصحابه من أن الإقرار شرط لا شطر، فإنه يعتبر التصديق كافياً في اعتبار الإيمان عند الله تعالى، إذا أخلَّ المؤمن بشرط الإقرار، وإنما الإقرار يُعتبر بياناً ودليلاً على ما وَقَرَ في قلبه من إيمان يحملنا، بل ويحتم علينا معاملته كما يعامل بقية المسلمين، فيجب الإتيان بالإقرار لهذا الغرض فحسب. أما العمل: فلم يجعله أبو حنيفة من أركان الإيمان، وجعله مغايراً له، كما قال ـ رحمه الله ـ في ((الوصية)) : " والإيمان غير العمل، والعمل غير الإيمان.   1 المسايرة بشرح المسامرة، ص333-334، ط مطبعة السعادة، مصر، بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 بدليل أن كثيراً من الأوقات يرتفع العمل من المؤمن، ولا يصح أن يقال ارتفع الإيمان عنه، فإن الخائض والنفساء يرفع الله تعالى عنهما الصلاة والصوم، ولا يصح أن يقال: يَرفع عنهما الإيمان، أو أمَرهما بترك الإيمان، وقد قال عليه السلام: " دعي الصوم في أيام أقرائك ثم اقضيه ". ولا يصح أن يقال: دعي الإيمان ثم اقضيه. ويجوز أن يقال: ليس على الفقير الزكاة، ولا يجوز أن يقال: ليس على الفقير الإيمان " 1. كما استدل ـ رحمه الله ـ على المغايرة بين الإيمان والعمل، بالآيات التي تعطف العمل على الإيمان، من مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 2ونحوها3 مما استدل به من قال بالمغايرة بين الأمرين. والإسلام عنده: هو الأعمال التي هي غير الإيمان، لكنه وإن جعل الإسلام غير الإيمان في المعنى، إلا أنه جعل بينهما تلازماً قوياً، بحيث لا يمكن وجود أحدهما دون وجود الآخر، وفي ذلك قوله: " والإسلام هو التسليم والانقياد لأوامر الله تعالى، ففي طريق اللغة فرق بين الإيمان والإسلام، ولكن لا يكون إيمان بلا إسلام، ولا إسلام بلا إيمان، فهما كالظهر مع البطن، والدين اسم واقع على الإيمان والإسلام والشرائع كلها" 4. فهو رحمه الله ـ وإن فرَّق بين الإيمان والإسلام، وجعل هذا غير ذلك من الناحية اللغوية، وكذلك الحقيقة الشرعية. ـ كما يدل على ذلك حديث جبريل المشهور ـ إلا أنه جعل بينهما   1 وصية الإمام أبي حنيفة، ص2، مخطوطة بمكتبة أسعد أفندي ضمن المكتبة السليمانية، استانبول، رقم 1296. 2 الرعد: 29. 3 انظر: كتاب العالم والمتعلم، بتحقيق محمد رواس، وعبد الوهاب الندوي، ص49، ط مطبعة البلاغة، حلب، سنة 1392هـ. 4 الفقه الأكبر مع شرح لعلي القاري، ص89-90، ط مطبعة الحلبي، مصر، سنة 1375هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 تلازماً في الوجود، إذ لا يمكن أن يوجد إيمان صحيح إلا ومعه إسلام، كنتيجة حتمية، كما أن الإسلام المعتبر لا بد له من إيمان يصححه. وهذا الرأي ـ كما عرفنا ـ هو الرأي الثالث من آراء السلف في هذه المسألة، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لاجتماع الأدلة عليه، كما بينا ذلك في موضعه. رأي أبي حنيفة في زيادة الإيمان ونقصه: أما عن رأيه ـ رحمه الله ـ في زيادة الإيمان ونقصه، فقد أجمعت المصادر التي تحكي رأيه في هذه المسألة على أنه قد ذهب إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقد صرَّح هو بذلك فيما وصلنا من كتبه، وفيما يلي نورد بعض النصوص من كتبه لإيضاح مذهبه هذا. فقد قال ـ رحمه الله ـ في كتاب ((الوصية)) : " والإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأنه لا يتصور نقصانه إلا بزيادة الكفر، ولا يتصور زيادته إلا بنقصان الكفر، وكيف يجوز أن يكون الشخص الواحد في حال واحدة مؤمناً وكافراً، والمؤمن مؤمن حقاً، والكافر كافر حقاً، وليس في الإيمان شك، كما أنه ليس في الكفر شك " 1. ومن النص المتقدم نرى أن أبا حنيفة استدل على عدم زيادة الإيمان ونقصانه، بأن زيادة الإيمان لا يتصور إلا بنقصان الكفر، ونقصانه لا يتصور إلا بزيادة الكفر، واجتماعهما في ذات واحدة في حال واحدة محال، وهذا لأن الكفر ضد الإيمان، وهو تكذيب وجحود، فالإنسان إما مؤمن أو كافر. ويقول ـ رحمه الله ـ في ((الفقه الأكبر)) : " … وإيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص، والمؤمنون مستوون في الإيمان والتوحيد، متفاضلون في الأعمال " 2.   1 وصية أبي حنيفة، ص1، مخطوطة بمكتبة أسعد أفندي ضمن المكتبة السليمانية، استانبول، رقم 1296. 2 الفقه الأكبر مع شرح علي القاري له، ص87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ويقول ـ رحمه الله ـ عن إيمان الملائكة: " وقد علمت أنهم كانوا أطوع منا، وقد حدّثتك أن الإيمان غير العمل، فإيماننا مثل إيمانهم، لأننا صدَّقنا من وحدانية الله، وربوبيته، وقدرته، وبما جاء من عنده، بمثل ما أقرَّت به الملائكة، لأننا آمنا بكل شيئ آمنت به الملائكة، مما عاينته الملائكة من عجائب آيات الله، ولم نعاينه نحن " 1. فمما تقدم يتجلَّى لنا مذهب أبي حنيفة القائل بأن الإيمان الذي هو التصديق لا يزيد ولا ينقص، والكل متساوون فيه، غير أن التفاضل بين الناس والملائكة والأنبياء حاصل من جهة الأعمال، وتقدم لنا بيان دليله، الذي هو من الغموض بمكان. وبما أن هذا المذهب غير ملائم لما ورد في النصوص من تصريح بزيادة الإيمان ونقصه، وبما هو معروف في العقل وسليم المنطق من أن الناس لا يمكن أن يتساووا مع أنبيائهم في الإيمان سواء كان تصديقاً فحسب على رأي أبي حنيفة، أو تصديقاً وعملاً كما يراه السلف. كما أنهم لا يمكن أن يكونوا في الإيمان مع الملائكة الذين {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} سواء، بل لا يمكن أن يتصور استواء إيمان العالم والجاهل {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} فقد حاول أصحابه، ومؤيدوه توجيه رأيه على نمط لا يتعارض في نظرهم مع النصوص المعارضة له، ومع العقل والمنطق. ومن ذلك ما قاله شارح الفقه الأكبر: من أن مراد أبي حنيفة لا يزيد ولا ينقص أي من جهة المؤمن به نفسه، لأن التصديق إذا لم يكن على وجه التحقيق يكون في مرتبة الظن والتردد، والظن غير مفيد في مقام الاعتقاد، قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئا} 2. فالتحقيق أن الإيمان ـ كما قال الإمام الرازي ـ لا يقبل الزيادة والنقصان من حيثية أصل التصديق، لا من جهة اليقين، فإن مراتب أهلها مختلفة في كمال الدين، كما أشار إليه سبحانه   1 العالم والمتعلم لأبي حنيفة، ص58. 2 يونس: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 1 فإن مرتبة عين اليقين، فوق مرتبة علم اليقين، وكذا ورد " ليس الخبر كالمعاينة " وإن قال بعضهم: لو كشف الغطاء ما ازددت إلا يقيناً، يعني أصل اليقين، لمطابقة علم اليقين في ذلك الحين، وهو لا ينافي زيادة اليقين عند الرؤية، كما هو مُشاهَد لمن له علم بالكعبة في الغيبة، ثم حصل له المشاهدة في عالم الحضرة، وعلى هذا فالمراد بالزيادة والنقصان القوة والضعف، فإن التصديق بطلوع الشمس أقوى من التصديق بدحوث العالم، وإن كانا متساويين في أصل تصديق المؤمن به. ونحن نعلم قطعاً أن إيمان آحاد الأمة، ليس كإيمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كإيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه، باعتبار هذا التحقيق وهذا معنى ما ورد: لو وُزن إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه بإيمان جميع المؤمنين لرجح إيمانه، يعني لرجحان إيقانه، ووقار جنانه، وثبات اتقانه، وتحقيق عرفانه، لا من جهة ثمرات الإيمان، من زيادات الإحسان، لتفاوت أفراد الإنسان من أهل الإيمان في كثرة الطاعات وقلة العصيان، وعكسه في مرتبة النقصان مع بقاء أصل وصف الإيمان في حق كلٍّ منهما بنعت الإيقان، فالخلاف لفظي بين أرباب العرفان2 اهـ. ويتلخص توجيهه لكلام أبي حنيفة في أن المراد بالإيمان الذي لا يزيد ولا ينقص هو أقصى درجات اليقين، الذي ليس بعده إلا الشك، فهو الذي يتساوى فيه الناس وهو الذي لا يزيد ولا ينقص، أو أن المراد لا يزيد ولا ينقص باعتبار الشيئ المؤمَن به. وقد أجابوا عن الآيات المصرِّحة بالزيادة مثل قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا} أن معناها زادتهم إيقاناً، لأن اليقين درجات، أو أن ذلك مؤول بأن المراد زيادة الإيمان بزيادة نزول المؤمَن به أي القرآن 3.   1 البقرة: 260. 2 علي القاري، شرح الفقه الأكبر، ص87، ط مطبعة الحلبي، مصر، سنة 1375هـ ـ 1955م. 3 المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 كما ذكر شارح وصية ابي حنيفة أن ذلك إنما هو في حق الصحابة رضي الله عنهم، لأن القرآن كان ينزل في كل وقت فيؤمنون به، فيكون زيادة على الأول، وأما في حقنا فلا، لانقطاع الوحي 1. وقد ذهب بعضهم في الجمع بين رأي أبي حنيفة هذا وبين الآيات المصرحة بزيادة الإيمان إلى القول بأن الزيادة محمولة على الزيادة في ثمرات الإيمان بالأعمال الصالحة فتكون الزيادة في كمال الإيمان لا في أصله 2. ولا يخفى أن هذا الرأي الأخير لا يتفق مع رأي أبي حنيفة الذي يجعل العمل مغايراً للإيمان، وثمرة الشيئ تحمل اسمه، ولم يقلْ أبو حنيفة أن الأعمال إيمان. وعلى كل حال، فهذه التأويلات، والمحاولة للتوفيق لرأي أبي حنيفة مع ما خالفه من صريح النصوص القرآنية، والحديثية التي تنطق صراحة وبدون أدنى شبهة بالزيادة في الإيمان فيها تكلُّف وعنت، لا ينبغي للعلماء أن يطرقوه، وهم يعلمون عدم ملاءمته، من أجل تبرير خطأ أحد الأئمة وقد عُرِف عنه الالتزام بالنص والحثِّ على الالتزام به، واتباع تعاليمه، والضرب برأيه عرض الحائط إذا خالفه. رأيه في مرتكب الكبيرة: أما عن مرتكب الكبيرة فمذهب أبي حنيفة فيه، هو عين مذهب السلف، إذ جعله تحت المشيئة بين الخوف والرجاء، مما حدا بشارح العقيدة الطحاوية أن يعتبر الخلاف بينه وبين السلف، فيما سبق تقريره في حقيقة الإيمان خلافاً لفظياً، حيث قال: " والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوَريّ، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان مع الاتفاق على أن مرتكب   1 الجوهرة المنيفة شرح وصية أبي حنيفة لحسين السكندري، ص5، مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم288. 2 انظر: شرح عقائد الطحاوي لأكمل الدين الباباراني، مخطوطة بمكتبة أسعد أفندي، استانبول، غير مرقمة الصفحات. وشرح المقاصد للتفتازاني، ج2 ص262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الكبيرة لا يخرج من الإيمان بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد " 1. وبهذا القدر نكتفي في بيان مذهب الإمام أبي حنيفة في الإيمان، الذي نلخصه في النقاط التالية: 1 ـ أن الإيمان تصديق وإقرار، والعمل خارج عنه ومغاير له. 2 ـ ملازمة الإسلام للإيمان مع افتراق مفهوميهما. 3 ـ أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأهله متساوون فيه. 4 ـ أن مرتكب الكبيرة تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له، مع بقاء إيمانه. وإن عذبه فإنه لا يخلده في النار. أبو حنيفة ومذهب الإرجاء: وبعد، فقد رمى جماعة من العلماء أبا حنيفة بالإرجاء، وعدوه من جملة المرجئة. ومن هؤلاء العلماء الذين وجّهوا هذا الاتهام إلى الإمام أبي حنيفة، شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب ((الإيمان)) 2، والإمام أبو الحسن الأشعري في ((المقالات)) 3. وقد برّروا موقفهم هذا من أبي حنيفة بأنه جعل الإيمان تصديقاً وإقراراً فقط، وأخّر العمل عن الركنية فيه. وأبو الحسن الأشعري يقول بأنه جعله معرفة وإقراراً. فإذا كان أبو حنيفة قد أخر العمل عن الركنية في الإيمان، ولم يجعله جزءاً منه، وقال: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والناس فيه سواء، وهذا بعينه ما ذهبت إليه المرجئة فأبو حنيفة لهذا مرجئ، هذا ما قاله من اتهم أبا حنيفة بالإرجاء.   1 شرح العقيدة الطحاوية، ص312، ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر. 2 انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية، ص163، ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر. 3 انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري، ج1 ص219، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ط2 سنة 1389هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ولكني أقول: إن تأخير العمل عن الركنية في الإيمان، قد قال به أبو حنيفة ولا ريب وهو أحد أنواع الإرجاء وأبو حنيفة بهذا المعنى، وهو ما يُسمِّيه أصحابه، ومن ذهب مذهبه إرجاء السنة، أي أن السنة تدل عليه، فلا ضير فيه على رأيهم. لكن الإرجاء الذي عُرف بالذم بين جميع الطوائف الإسلامية هوما تقدم تقريره من أنه إعطاء العاصي الرجاء، وإطماعه في عفو الله، بجعله في حل مما يقول وما يفعل، وذلك لقول أصحابه: " لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة ". وأبو حنيفة وإن خالف السلف بتأخيره العمل عن الركنية في الإيمان فإنه لم يدْعُ برأيه هذا أرباب الشهوات، لإشباع شهواتهم، وتحقيق رغباتهم، باللعب بالمحظورات، وانتهاك أستار الشريعة الإسلامية الغرّاء. كما فعل المرجئة الذين رفعوا اللوم عن العصاة وفتحوا لهم الطريق إلى هتك محارم الله، دون خشية من عقاب الله تعالى، إذ أن الإنسان في حل مما يفعل، فلا تثريب عليه أبداً إذا هو اتصف بالإيمان، الذي هو عبارة عن التصديق عندهم فحسب. وأبو حنيفة، حاشاه أن يقول بهذا القول، أو يقف ذلك الموقف. فلا يجوز لنا أن نَصِفه بالإرجاء المطلق، لأن الإرجاء الذي يتبادر إلى الذهن، هو ذلك القول الذي لا يقول به مسلم أبداً. وبالإضافة إلى ذلك، فإن أبا حنيفة قال بخلاف ما قال به السلف حيث جعلوا العمل ركناً في الإيمان، أما أبو حنيفة فأخره عن الركنية، لكنه لم يهمله كما أهمله المرجئة. فنحن نعلم جميعاً أنه ـ رحمه الله ـ إمام جليل برع وبرز في مجال تقرير التشريعات العملية، ومذهبه في الفقه الإسلامي يُعتبر أوسع المذاهب فقد أفنى عمره في سبيل بيان الواجب والمحرم، والمستحب والمباح. وفي هذا المجال يقول الشهرستاني مدافعاً عن أبي حنيفة: " … كان يقال لأبي حنيفة وأصحابه مرجئة السنة، وعدَّه كثير من أصحاب المقالات من جملة المرجئة ولعلَّ السبب فيه أنه لما كان يقول: الإيمان هو التصديق بالقلب وهو لا يزيد ولا ينقص، ظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان والرجل مع تخريجه في العمل، كيف يفتي بترك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 العمل ". فوصفه بالإرجاء مطلقاً غير لائق ـ إذ أن قوله يختلف عن قول المرجئة ومنهجه مغاير لمنهجهم الإباحي، كما أسلفنا بيان ذلك. وأما قوله بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فهذا مخالف لما عليه السلف أيضاً من زيادة الإيمان ونقصه، وما ذكر من تأويلات لهذا القول فيها تكلف لا يطاق، فلا يسعنا إلا أن نقول: رحم الله أبا حنيفة وغفر له، فقد قال هنا بما يخالف كتاب الله وسنة رسوله مع جزمنا بأن ذلك كان من غير قصد منه للمخالفة، بل اجتهاده في فهم مدلولات النص أداه إلى هذا. ومعلوم من منهجه ـ رحمه الله ـ كما علمنا من منهج أمثاله من الأئمة، أنه لا يتعصب لرأيه في حال اكتشاف خطئه، فالجميع كما قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ: " ما منا إلا رادّ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر ـ مشيراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ". على أن هناك خبراً ذكره شارح العقيدة الطحاوية فيه ما يدل على رجوع أبي حنيفة عن رأيه في الإيمان إلى رأي السلف ـ رحمهم الله ـ حيث قال: وقد حكى الطحاوي حكاية عن أبي حنيفة مع حماد بن زيد، وأن حماد بن زيد لما روى له حديث: أيّ الإسلام أفضل … الخ. قال له: " ألا تراه يقول: أي الإسلام أفضل "، قال: " الإيمان، ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ " فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: " ألا تجيبه يا أبا حنيفة؟ " قال: " بما أجيبه وهو يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الفصل الرابع الجهمية أصحاب جهم بن صفوان الترمذي، ومذهبهم في الإيمان أنه مجرد المعرفة بأن الله هو الرب الخالق لكل شيئ، وكانوا يقولون: إن الناس متساوون في هذه المعرفة كأسنان المشط ـ لا يزيد أحد فيها على الآخر، ولا ينقص عنه، ومن أتى بتلك المعرفة، ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده، لأن المعرفة والعلم لا يزولان بالجحد، والإيمان لا يتبعض إلى عقد، وقول وعمل، ولا يتفاضل أهله فيه ومن أجل رأيهم هذا في الإيمان عدَّهم أبو الحسن الأشعري في كتابه ((مقالات الإسلاميين)) من فرق المرجئة 1 كما تقدم. فإذاً الجهمية ترى أن الإيمان عبارة عن شيئ واحد، وهو المعرفة، وأنه لا يزيد ولا ينقص، والناس فيه سواء. ومع ملاحظتنا أن أكثر الباحثين في الفرق وعقائدها تذكر أن جهماً يرى أن الإيمان هو المعرفة، ولا ينوِّعون التعبير عن هذه المعرفة بالتصديق، وذلك لاعتقادهم الفرق بين اللفظين وسيأتي بيان تفريقهم عند ذكر مذهب الأشاعرة. بينما نرى جماعة أخرى من الباحثين تذكر مذهب جهم في الإيمان   1 مقالات الإسلاميين للأشعري، ج1 ص213-214. وانظر: مقالتهم في الملل والنحل للشهرستاني، ج1 ص88، والفرق بين الفرق للبغدادي، ص211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 على أنه التصديق وذلك لأنهم لا يفرِّقون بين التصديق والمعرفة كما فرَّق غيرهم، وكلاهما يرجع إلى القلب وهما شيئ واحد، ومن هؤلاء الباحثين شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حيث ذكر أن جهماً قال بأن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، ولم يجعل أعمال القلوب من الإيمان 1. ثم يذكر في موضع آخر أنه لا فرق بين المعرفة والتصديق حيث قال: " الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد، الذي يجعل قول القلب أمراً دقيقاً، وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته، لا يجب على أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما، وأكثر الناس لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه " 2. ورأي ابن تيمية هذا في نظري صحيح، ولكن الفرق بين رأي جهم ورأي غيره ممن قال بأن الإيمان هو التصديق فرق جوهري، لأن جهماً جعله تصديقاً مجرداً عن الانقياد القلبي فمن عرف الله بقلبه فهو المؤمن، ولا يشترط أن يتبع تلك المعرفة خضوعاً له وانقياداً، فيكون قد صدَّقه بقول قلبه وعمل قلبه محبة وتعظيماً. أما الآخرون الذي قالوا بأن الإيمان مجرد التصديق، فإنهم يقصدون تصديق القلب وانقياده بإدخال أعمال القلوب فيه بأن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ويصدقه في جميع ما نزل من الوحي الإلهي. فيكون الفرق بين المذهبين أن جهماً جعل الإيمان تصديقاً مجرداً عن أعمال القلب، بينما غيره أدخل فيه أعمال القلوب. وقد تابع شيخ الإسلام في رأيه هذا الشيخ محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي في كتابه ((لوامع الأنوار البهيَّة)) 3. ورأي جهم في الإيمان الذي تقدم ذكره تكاد تجمع المصادر التي تذكر آراءه على أنه قد قال به، ودعا إليه. فالإيمان إذن عند جهم لا يتناول إلا الباطن، بحيث أن الإنسان إذا   1 كتاب الإيمان لابن تيمية، ص157. 2 ابن تيمية، المصدر السابق ص340. 3 ج1 ص363، ط1 بمطبعة مجلة المنار، مصر، سنة 1324هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده، فالمعرفة بالله فحسب شرط العقد، والعلم والمعرفة لا تزول بنطق اللسان. كما أن الإيمان لا يتبعض إلى قول، وعقد وعمل، والناس فيه سواء، لأن المعرفة شيئ واحد لا تفاضل فيه. ولا شك أن مذهب جهم هذا من أقبح المذاهب في مجال الإيمان وأكثرها تطرّفاً وشذوذاً. وقد وقفت منه جميع الطوائف الإسلامية موقف الرفض والإنكار، لأنه يُدخل في الإيمان ما عُلِم ضرورة وبداهة خروجه منه، ومع هذا فقد حاول تاج الدين السبكي أن يجد مخرجاً للجهم حيث قال: وأما جهم فنحن على قطع بأنه رجل مبتدع ومع ذلك لا أعتقد أنه ينتهي إلى القول بأن من عاند الله وأنبياءه ورسله، وأظهر الكفر وتعبد به يكون مؤمناً، لكونه عرف بقلبه، فلعل الناقل عنه حمل اللفظ ما لا يطيقه، أو جازف كما جازف في النقل عن غيره1. وقد أشار بذلك إلى ابن حزم الذي أشرك الأشعري مع الجهم في هذا المذهب 2. أما هذا المذهب فلم يختص ابن حزم بذكره عن الجهم، بل اشتهر بين جميع محرري المذاهب، لذلك من الخطأ أن نصفه بالمجازفة في النقل. وأما إشراك الأشعري معه فيه فهذا ما لا نوافق عليه، لأنه حين قال أولاً إن الإيمان هو التصديق لم يقصد مجرد العلم ـ بل قصد بذلك علم القلب وعمله ـ بأن يعلم ثم يتبع ذلك بالانقياد القلبي، الذي هو عمل القلب. مع أن الأشعري رجع أخيراً إلى القول بقول السلف وأنه قول وعمل يزيد وينقص كما هو موجود في الإبانة، … والمقالات3. ولا شك أن جهماً قال قولاً شر من قول المرجئة، وأشد خطراً منه،   1 السبكي، تاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي، طبقات الشافعية، ج1 ص91، تحقيق محمود محمد الطناحي، وعبد الفتاح محمد الحلو، ط1 مطبعة عيسى الحلبي، سنة 1383هـ. 2 ابن حزم، الفصل في الملل والنحل، ج3 ص188. 3 انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري،ج1 ص347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 إذ أنه جعل مجرد العلم الذي لا انقياد معه إيماناً، كما جعل الكفر الذي هو ضد الإيمان مجرد الجهل بما كان ينبغي أن يُعرف، فهو ولا شك مرجئ. ولكنه بالغ في الإرجاء حتى كان مذهبه يفوق مذهبهم من حيث الفساد، وسفاهة الرأي، والجهم كما عرفنا يرى أن إيمان الناس سواء لا تفاضل بينهم فيه، لأنهم لم يُكلَّفوا في الإيمان إلا بالمعرفة المجردة. والعصاة قال فيهم بقول المرجئة فجعلهم في حل مما يفعلون، وذلك بناء على رأيه في الجبر، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة، إلا لله وحده، وأنه هو الفاعل وأن الناس إنما تُنسَب إليهم أفعالهم على المجاز، كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك. فالإنسان عنده كالريشة المعلقة في مهب الريح فكيف يؤاخذ على أعمال لا قدرة له عليها. ولا شك أن هذا المذهب ظاهر الفساد فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وأعطاه القدرة على أن يفعل أو لا يفعل فهو مخير بين الفعل وتركه لا مجبور عليه، فأعطاه القدرة ووضع القيود، فإذا فعل فعل باختياره، وقدرته، وإذا ترك كذلك، فهو مؤاخذ على فعله وتركه لأنه بقدرته واختياره. ثم إن المصادر التي ذكرت رأيه في الإيمان لم تذكر له دليلاً عليه. ونشأة الجهم، وكثرة مخالفاته، وسيرته الشريرة، تُنبئنا عن أنه قال أقوالاً يعرف أنها فاسدة، ولكن هواه قاده إلى تبنِّيها. ولا نكلف أنفسنا عناء البحث عن أدلة رأي لا يُقرِّه عقل، فضلاً عن أن يسنده ويقرره دين، والأمة بأسرها أجمعت على فساده وتفاهته، وبطلانه معلوم من الدين بالضرورة، وليس جهم ممن يُعتدُّ برأيه، ولولا الوفاء بالمذاهب في الإيمان لما تطرقت إلى ذكره. وقد أدى هذا الأصل من أصول عقيدة جهم إلى هجوم السلف عليه، وسنبين عند ذكرنا لموقفهم من آراء المتكلمين، ما ردوا به عليه، وألزموه به من إلزامات تدل على فساد مذهبه، وخروجه على مجال العقيدة الصحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الفصل الخامس الكرامية أتباع أبي عبد الله محمد بن كرام السجستاني، ومذهبهم في الإيمان، أنه عبارة عن أمر واحد لا تعدد فيه، فهو إقرار باللسان فقط. وقد ذكر هذا الرأي عن الكرامية جميع كتب الفرق تقريباً، فقد ورد عنهم قولهم في الإيمان: إنه هو الإقرار المجرد، وليس من شرط كونه إيماناً وجود التصديق والمعرفة. ويزعون أن مَن اعتقد الكفر بقلبه، وأقر بلسانه بالصانع، وبالكتب والرسل، وغير ذلك من أركان الإيمان كان مؤمناً حقاً بإقراره، وكان المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنين حقاً 1. ويقول أبو المظفر الإسفرائيني عن الكرامية: … ومن بدعهم في باب الإيمان قولهم: إن الإيمان قول مجرد، لا هذا القول الذي يقوله القائل الآن أنه لا إله إلا الله، ولكن هذا القول الذي صدر عن ذرية آدم في بعث الميثاق، حين قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 2 ويقولون: إن ذلك القول قول   1 انظر: تبصرة الأدلة، لأبي المعين النسفي، ص333، مخطوط بمكتبة الأزهر، تحت رقم 4406، وبحر الكلام في علم العقائد للمؤلف نفسه، ص20، مخطوط بمكتبة علي باشا، ضمن المكتبة السليمانية باستانبول، وكتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، ج3 ص188. 2 الأعراف: 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 باقٍ أبداً لا يزول حكمه، إلا أن يرتد عنه، فحينئذٍ يزول حكمه. وقالوا: إن الزنديق أو المنافق إذا قال بلسانه لا إله إلا الله وفي قلبه النفاق والزندقة فهو مؤمن حقاً، وإيمانه كإيمان جبريل، وميكائيل، وجميع الأنبياء والأولياء1. فمن النصوص سالفة الذكر عن مذهب الكرامية، نرى أنها تعتقد إيمان المنافق وغيره من كل من خالف باطنه ظاهره، وأنهم مؤمنون حقاً، إذا شهدوا أن لا إله إلا الله بألسنتهم، حتى وإن أشركوا معه غيره في عبادته، أو فعلوا ما فعلوا من المخالفات مهما كان نوعها. غير أن ما ذكره الإسفرائيني من أن الكرامية تقصد بالقول، ذلك الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين بعثهم في عالم الذرِّ محل نظر، لأن هذا يقتضي أن يكون جميع الناس مؤمنين ما لم ينطقوا بالكفر، والكرامية إنما قالت أن من شهد بلسانه أن لا إله إلا الله ظاهراً الآن هو المؤمن، ولم تكتف بالقول السابق في عالم الذرِّ. ونفهم مما تقدم أيضاً أن الكرامية لا تشترط للإيمان موافقة الظاهر للباطن. ومن أقر بلسانه فهو في الإيمان مع الأنبياء والملائكة وغيرهم درجة واحدة، بمعنى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. إلا أن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بين مذهب هذه الفرقة على نحو آخر فقال: والكرامية يقولون: المنافق مؤمن، وهو مخلد في النار، لأنه آمن ظاهراً لا باطناً، وإنما يدخل الجنة، من آمن ظاهراً وباطناً … والكرامية توافق المرجئة والجهمية في أن إيمان الناس كلهم سواء، ولا يستثنون في الإيمان، بل يقولون هو مؤمن حقاً، لمن أظهر الإيمان، وإذا كان منافقاً فهو مخلد في النار عندهم، فإنه إنما يدخل الجنة من آمن باطناً وظاهراً، ومن حكى عنهم أنهم يقولون: المنافق يدخل الجنة، فقد كذب عليهم، بل يقولون المنافق مؤمن، لأن الإيمان هو القول   1 التبصير في الدين للإسفرائيني، تحيق محمد زاهد الكوثري، ص69، ط1 مطبعة الأنوار سنة 1359هـ ـ 1940م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الظاهر 1. وقد ذكر ـ رحمه الله ـ أن هذا القول ينفرد به الكرامية، فلم يسبقهم أحد إليه. ومن تقرير شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ نرى أن الكرامية إنما يطلقون على المنافق اسم المؤمن ويعتبرونه مؤمناً حقاً باعتبار ما ظهر منه من إقرار، غير أن الإ يمان الذي يُدخل صاحبه الجنة يُشترط فيه عندهم أن يطابق الباطن، حتى يستحق الجنة، وعليه فإن المنافقين مخلدون في النار، فهم إنما يخالفون الجماعة في الاسم دون الحكم. كما أن الإيمان واحد في جميع الناس، فهم وإن أوجبوا المعرفة والتصديق، لكن يقولون لا يدخل في اسم الإيمان حذراً من تبعضه وتعدده، إذ أنهم يرون كرأي الخوارج أن الإيمان لا يمكن ذهاب بعضه، وبقاء بعضه، مثلهم في ذلك، مثل من اقتصر على التصديق في الإيمان وأوجب العمل، إلا أنه لا يدخله في اسم الإيمان. فالكرامية إذاً فرقوا بين تسمية المؤمن مؤمناً فيما يرجع إلى أحكام الظاهر والتكليف، وفيما يرجع إلى أحكام الآخرة والجزاء، فالمنافق عندهم مؤمن في الدنيا على الحقيقة، مستحق للعقاب الأبدي في الآخرة. وهذا ما يستفاد من بيان شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ. غير أن الرأي الذي أستنتج موافقة ابن تيمية عليه، هو أنهم يرون أن العصاة إذا أقروا بألسنتهم، وتحقق شرط موافقة الباطن لذلك الإقرار فلا تثريب عليهم فيما فعلوا من المعاصي والمنكرات، كما هو رأي المرجئة الخالصة. أدلة الكرامية: وقد استدل الكرامية بظاهر حديث: " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة " 2 وقوله عليه السلام: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله   1 كتاب الإيمان لابن تيمية، ص118. 2 انظر: بحر الكلام لأبي المعين النسفي، ص20، مخطوط بمكتبة علي باشا ضمن المكتبة السليمانية باستانبول، رقم 1571. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 إلا الله … ". كما ذكر ابن تيمية دليلهم على شمول الإيمان للمنافق، فقال: " قالوا: والدليل على شمول الإيمان له أنه يدخل في الأحكام الدنيوية المتعلقة باسم الإيمان كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ويخاطب في الظاهر بالجمعة، والطهارة وغير ذلك مما خوطب به الذين آمنوا ". وعلى كل حال، فإن التصويرين السالفين يُدخلان ابن كرام في جملة المرجئة الخالصة إذ هو يتفق معهم في شأن العصاة، وأنهم من أهل الجنة إذا أقرُّوا بألسنتهم ـ الذي به يُعتبرون مؤمنين حقيقة، وجاءوا بالواجب عليهم، وهو التصديق القلبي. وأن إيمان الناس سواء فلا زيادة في إيمان أحدهم على إيمان الآخر لأنه عبارة عن أمر واحد لا تبعض فيه. أما حكمه على المنافقين، فإنني لا أعتقد أنه يصل من الجرأة إلى حدِّ حكمه لهم بالجنة، وقد قال الله فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ولعل ما ذكره ابن تيمية من اشتراطهم موافقة الباطن للظاهر، فيكون المنافقون مخلَّدين في النار هو الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الفصل السادس: المعتزلة * ... الفصل السادس الإيمان عند المعتزلة المعتزلة فرقة من أشهر الفرق الإسلامية التي ظهرت في القرون الأولى من تاريخ الإسلام، فقد كان ظهورهم في أيام عبد الملك بن مروان، وهشام بن عبد الملك. وكانت لهم آراء انفردوا بها عن غيرهم من الطوائف الإسلامية الأخرى، من أشهرها القول بخلق القرآن، الذي امتُحِن فيه عدد كبير من الأئمة، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه، وهم جماعة عقليون، يمجدون العقل، ويجعلونه مهيمناً حتى على الوحي المنزل من عند الله، فهو عندهم المرجع الأول، والأخير، وهم فرق كثيرة، لها أصول تجتمع عليها، وتفترق فيما سواها، ومن أسمائهم أصحاب العدل والتوحيد، ويُلقَبون بالقدرية والعدلية. وقد ذكر مؤرخو الفرق أن المعتزلة كان ظهورها أول ما ظهرت من مجلس الحسن البصري، حيث كان زعيمها واصل بن عطاء الغزال تلميذاً له، ثم اعتزل مجلسه أخيراً بسبب رأيه في مرتكب الكبيرة، الذي من أجله سُمِّي هو وأصحابه معتزلة، وهذه المسألة هي نقطة البدء في حياتهم. فقد ذكر الشهرستاني ما معناه أن الحسن البصري كان ذات يوم جالساً في مجلسه، فدخل عليه رجل وقال له: " يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به من الملة وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً في الإيمان، ولا يضرّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً "، فبينما كان الحسن يفكر في الجواب، سبقه واصل فقال:" أنا أقول إن صاحب الكبيرة لا مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن، ولا كافر ". ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد، يقرر مذهبه الجديد هذا على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن:" اعتزل عنا واصل "، فسُمي هو وأصحابه معتزلة اهـ. (بتصرف) . فمن هذه القصة يتبين لنا أن سبب تسمية هذه الفرقة بالمعتزلة هو إما اعتزالهم مجلس الحسن، أو اعتزالهم رأي الأمة كلها في مرتكب الكبيرة. ولا مانع من أن يكون الأمران جميعاً هما سبب هذه التسمية. وقد ذكر أحمد بن يحيى بن المرتضى أن سبب التسمية بهذا الاسم هو الأول، أي اعتزالهم مجلس الحسن. كما ذكر الرأي الآخر، وبين أن هناك من يجعله سبب التسمية. والمعتزلة اثنتا عشرة طبقة، كما عدها صاحب كتاب ((طبقات المعتزلة)) حيث ابتدأهم بالصحابة رضوان الله عليهم ـ وليس ذلك غريباً فكل فرقة تدَّعي أن رأيها هو بعينه رأي الصحابة ـ وانتهاءاً بأصحاب القاضي عبد الجبار بن أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 المبحث الأول حقيقة الإيمان عند المعتزلة يرى المعتزلة أن الإيمان الشرعي المعتبر مركب من أجزاء ثلاثة: اعتقاد بالقلب، وتصديق باللسان، وعمل بالجوارح. وهم بهذا يوافقون السلف الذين قالوا بهذا القول، واستدلوا له من الكتاب والسنة، وإنما الخلاف بين الفريقين يكمن في حكم العصاة من المؤمنين وليس هذا موضع إيضاح لجوهر هذا الخلاف فلذلك موضعه، غير أننا هنا نكتفي ببيان مذهب المعتزلة على حقيقته فنقول: إن الألفاظ المعبِّرة عن هذا المذهب قد اختلفت من باحث لآخر. وقبل بيان المراد من جميع ما أورده العلماء من تعريفات للإيمان على مذهب هذه الفرقة أبدأ بسرد بعض ما ورد من تلك الألفاظ. فهذا أبو محمد ابن حزم الأندلسي يحكي عن المعتزلة وغيرهم قولهم: إن الإيمان هو المعرفة بالقلب بالدين، والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح، وإن كل طاعة وعمل خير فرضاً كان أو نافلة فهي إيمان 1. وحكى البغدادي عنهم قولهم برجوع الإيمان إلى جميع الفرائض مع ترك الكبائر 2. أما ابن تيمية فحكى   1 ابن حزم، أبو محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهري، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج3 ص188. 2 البغدادي، أبو منصور، عبد القاهر بن طاهر التميمي، أصول الدين، ص249، ط1 مطبعة الدولة باستانبول، سنة 1346هـ ـ 1928م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 عنهم قولهم: إن الإيمان جماع الطاعات1. إلى غير ذلك من المصادر التي تحكي عنهم قولاً واحداً، نأتي بعد ذلك إلى أبي الحسن الأشعري حيث ذكر عنهم أقوالاً ستة، فقال: واختلفت المعتزلة في الإيمان ما هو على ستة أقاويل: 1 ـ فقال قائلون: الإيمان هو جميع الطاعات فرضها ونفلها. وإن المعاصي ضربان: منها ما هو صغائر، ومنها ما هو كبائر. وإن الكبائر على ضربين، منها ما هو كفر، ومنها ما ليس بكفر … الخ. والقائل بهذا القول هم أصحاب أبي الهذيل، وإلى هذا القول كان يذهب أبو الهذيل. 2 ـ وقال هشام الفوطي: الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها، والإيمان على ضربين، إيمان بالله، وإيمان لله، ولا يقال إنه إيمان بالله. 3 ـ وقال عباد بن سليمان: " الإيمان هو جميع ما أمر الله سبحانه به من الفرض وما رغب فيه من النفل، والإيمان على وجهين: إيمان بالله وهو ما كان تاركه أو تارك شيئ منه كافراً كالملة،والتوحيد، والإيمان لله إذا تركه تارك لم يكفر "اهـ. 4 ـ وقال إبراهيم النظام: الإيمان اجتناب الكبائر … 5 ـ وقال آخرون: الإيمان اجتناب ما فيه الوعيد عندنا وعند الله … 6 ـ وكان محمد بن عبد الوهاب الجبائي يزعم أن الإيمان لله هو جميع ما افترضه الله سبحانه ـ على عباده، وأن النوافل ليست بإيمان وأن كل خصلة من الخصال التي افترضها الله سبحانه فهي بعض إيمان لله 2 اهـ.   1 ابن تيمية، كتاب الإيمان، ص280،، دمشق، ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، بدون تاريخ. 2 انتهى باختصار، نقلاً عن مقالات الإسلاميين للأشعري، بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ج1 ص329-331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وهكذا فإن أغلب مؤرخي الفرق يحكي عن المعتزلة اتفاقهم على قول واحد، أما أبو الحسن الأشعري فجعل آراءهم ستة. وبعد إمعان النظر في ذلك كله وجدت أن جميع الآراء التي ذكرها الأشعري بالإضافة إلى ما تقدم، ترجع في جملتها إلى رأيين اثنين لا ثالث لهما. والخلاف في تعدد الآراء إنما يرجع إلى اللفظ لا إلى الحقيقة، وهذان الرأيان هما: 1 ـ إن الإيمان هو جميع الطاعات فرضها ونفلها، واجتناب الكبائر. 2 ـ إن الإيمان هو جميع الطاعات الفرض منها دون النفل، واجتناب الكبائر وقد ذكر هذين الرأيين القاضي عبد الجبار حيث قال: الإيمان عند أبي علي وأبي هاشم عبارة عن أداء الطاعات الفرائض دون النوافل، واجتناب المقبَّحات. وعند أبي الهذيل عبارة عن أداء الطاعات الفرائض منها والنوافل واجتناب المقبَّحات. قال المعلق: وهو الصحيح من المذهب الذي اختاره قاضي القضاة1. ورأي المعتزلة الذي تتفق عليه والذي يبدو واضحاً من التعريفين السالفين هو جعل الطاعات المفروضة من الإيمان وهذا هو بعينه مذهب الزيدية الذين يوافقونهم في هذا الباب2. والخلاف كما هو واضح ينحصر بينهم في النوافل هل هي داخلة في الإيمان أو لا. وحينما يعبرون بالطاعات فإنهم يقصدون الطاعات التي تصدر عن القلب، فطاعته اعتقاده وتصديقه، وعن اللسان وطاعته قوله الخير وتعبيره عما في قلبه، والعمل ببقية الجوارح   1 انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، تعليق الإمام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم، وتحقيق الدكتور عثمان، ص707، ط1 مطبعة الاستقلال الكبرى، القاهرة، سنة 1384هـ ـ 1965م. 2 انظر: كتاب العقد الثمين في معرفة رب العالمين للعالم الزيدي الأمير الحسين بن بدر الدين المتوفى سنة 662هـ، ط1 مطبوعات دار مكتبة الحياة، بيروت، سنة 1392هـ ـ 1972م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 سواء كان ذلك مفروضاً أو نافلة. وقد ذكر أحمد بن يحيى بن المرتضى في كتابه طبقات المعتزلة اجماعهم على هذا المعنى حيث قال: أجمعت المعتزلة على أن الإيمان قول ومعرفة وعمل1. وإذاً فالمعتزلة قد عوَّلوا على العمل كثيراً، والعمل عندهم له شأن، لأنه لا قيمة للتكاليف إذا لم يقم بها مَن كُلِّفوا بأدائها، ولهذا جعلوا الإيمان فولاً ومعرفة وعملاً، فالقول لا بد منه حتى يكون كالبيان والإظهار لما في القلب، ولا يمكن أن نميِّز المؤمن من غيره إلا بالنطق باللسان ولا يقلّ العمل عندهم في تحقيق الإيمان عن الركنين الآخرين. وهذا الأمر موضع اتفاق بين المعتزلة والسلف. أما أدلة المعتزلة على ما ذهبوا إليه في حقيقة الإيمان، فهي بعينها أدلة السلف في هذا الباب، وقد تقدم ذكرها فأكتفي هنا ببيان مثال منها لتتبين الموافقة في طريقة الاستدلال. فمن أدلة المعتزلة من القرآن الكريم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (1) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (2) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّا} 2. يقول القاضي عبد الجبار: إن هذه الآية تدل على أن الإيمان ليس هو القول باللسان، أو اعتقاد القلب على ما ذهب المخالف إليه، ولكنه كل واجب وطاعة، لأنه تعالى ذكر في صفة المؤمنين ما يختص بالقلب، وما يختص بالجوارح لما اشترك الكل في أنه من الطاعات والفرائض 3. ومما استدلوا به من الأحاديث النبوية الشريفة: حديث شعب الإيمان ـ وقد تقدم ـ فقد ذكره كدليل للمعتزلة على هذا الرأي العالم الزيدي جعفر بن   1 أحمد بن يحيى بن المرتضي، طبقات المعتزلة بتحقيق سوسنة ديفلد، ص8، ط المطبعة الكاثوليكية، بيروت، سنة 1380هـ ـ 1961م. 2 الأنفال: 2-4. 3 عبد الجبار بن أحمد، متشابه القرآن، تحقيق الدكتور عدنان محمد زرزور، ج1 ص312، القاهرة، ط دار النصر للطباعة، بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أحمد بن عبد السلام في كتابه ((أمالي القاضي عبد الجبار المعتزلي)) ، وعقب عليه بذكر كلام القاضي عبد الجبار على هذا الحديث حيث قال قاضي القضاة: وإنما أراد صلى الله عليه وسلم أن يأتي بالشهادة على معرفة وبصيرة، لا كما ينطق بها المنافق، ودل بذلك على أن الإيمان كما يدخل فيه القول، كذلك يدخل فيه الفعل بالجوارح. وقد ذكر المصنف أدلة مماثلة، وسرد طريقة المعتزلة في الاستدلال بها على هذا النمط، الذي هو بعينه استدلال السلف، فلا داعي لإعادتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 المبحث الثاني الصلة بين الإيمان والإسلام يرى المعتزلة أن الإيمان والإسلام اسمان لمسمى واحد فعندما يذكر الإسلام فهو الإيمان بعينه، وعندما يذكر الإيمان فيراد به الإسلام أيضاً، وإذاً فالترادف بينهما هو ما ذهب إليه القوم، فهذان اللفظان عندهم جُعلا اسماً لمن يستحق المدح والتعظيم لا فرق بينهما إلا من حيث اللفظ فقط، يدل على هذا ما ذكره القاضي عبد الجبار حيث قال: قولنا مؤمن من الأسماء التي نُقلت من اللغة إلى الشرع، وصار بالشرع اسماً لمن يستحق المدح والتعظيم، كما أن قولنا مؤمن جُعل بالشرع اسماً لمن يستحق التعظيم والإجلال، فكذلك قولنا: مسلم، جُعل بالشرع اسماً لمن يستحق المدح والتعظيم حتى لا فرق بينهما إلا من جهة اللفظ 1. ثم ساق القاضي بعد ذلك أدلة أصحابه على هذا الرأي حيث استدل أولاً بأن اسم المسلم نقل من معناه اللغوي الذي هو الانقياد والاستسلام إلى معنى شرعي جديد غير معناه اللغوي حيث أصبح في الشرع اسماً لمن يستحق المدح والتعظيم لأنه لو كان مُبقى على أصله اللغوي لجاز إجراؤه على الكافر إذا انقاد للغير، ومعلوم خلاف ذلك، ولما كان يجوز إجراؤه على النائم والساهي. لأن الانقياد منهما غير مقصود، ولكان يجب أن   1 عبد الجبار بن أحمد، شرح الأصول الخمسة بتحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان، ص705، ط مطبعة الاستقلال الكبرى، القاهرة، سنة 1384هـ ـ 1965م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 لا يُسمى الآن بهذا الاسم إلا المشتغل به دون من سبق منه الإسلام، ومتى قيل كذا، قلنا: يلزم على هذا أن لا نسمي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الآن مسلمين حقيقة، وقد عرف خلاف ذلك، وكان يجب أيضاً أن لا يزول هذا الاسم بالندم وغيره، وقد عرف خلافه 1 اهـ. (بتصرف) . ثم استدل بعد ذلك على هذا النقل ـ أي نقل اسم الإسلام من معناه اللغوي إلى معناه الشرعي الجديد ـ استدل بقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} 2، فقال: سمى هذه الجُمل دِيناً، ثم بين في آية أخرى أن الدين عند الله الإسلام، ولو كان مُبقى على أصل اللغة لم يصح ذلك، لأنه في الأصل غير مستعمل في إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهذا كما يدل على أنه غير مُبقى على الأصل، فإنه يدل على أنه لا يجوز إجراؤه إلا على من يستحق المدح والتعظيم كالمؤمن سواء 3. وقال أيضاً: ومما يدل على أن الدين والإسلام واحد قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 4 والمعلوم أنه لو اتخذ الإيمان ديناً لقُبل منه 5. فالآية الأولى استدل بها على أن الإسلام نقل من معناه اللغوي المعروف إلى معنى شرعي فيه انقياد مخصوص ووجه الاستدلال واضح من كلامه. أما هذه الآية الثانية فقد استدل بها على الترادف بين الإيمان والإسلام الشرعيين، ووجه ذلك أن الله تبارك وتعالى صرَّح في الآية بأن أيَّ دين غير دين الإسلام فهو مردود مرفوض ولا أحد ينكر أن من اتخذ الإيمان ديناً أن ذلك مقبول بدون جدال، فدل ذلك على اتحاد معنى الإيمان والإسلام، واندراجهما تحت كلمة دين.   1 المصدر السابق، ولا يخفى ما في هذا الكلام من تلاعب بالألفاظ ولكن المنهج العقلي عندهم يبرر كل قول يريدونه ويقتنعون به. 2 البينة: 5. 3 عبد الجبار بن أحمد، المصدر السابق ص706. 4 آل عمران: 85. 5 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ومن أدلتهم على الترادف أيضاً قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، قال عبد الجبار: فلو لم يكن أحدهما هو الآخر لكان لا يصح الاستثناء على هذا الوجه. ويقول أيضاً في كتابه ((متشابه القرآن)) في بيان المراد من قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ، يقول: فإنه لا يدل على أن الإيمان غير الإسلام، وذلك أن المراد بهذا الكلام أنهم لم يؤمنوا في الحقيقة، وانقادوا واستسلموا، فذكر تعالى في حالهم ما ذكره يبين ذلك أنه تعالى قال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ومن لم يدخل الإيمان في قلبه البتة لا يكون مسلماً عند أحد إلا بعض المتأخرين فإنه يقول في مظهر الشهادتين أنه مسلم، لكنه لا يقول مع ذلك أنه مؤمن أيضاً، فلا يقدح خلافه فيما ذكرناه. إلى غير ذلك مما استدل به القوم على ما ذهبوا إليه من القول بالترادف بين الإيمان والإسلام، من حيث الحقيقة الشرعية، فكما أن الإيمان تصديق وقول وعمل، فكذلك الإسلام وكما أن الإيمان يزيد وينقص، على ما سنبين من مذهبهم في ذلك فكذلك الإسلام يزيد وينقص، وكما أن اسم الإيمان يُسلَب كلية عن مرتكب الذنب الكبير، فكذلك اسم الإسلام. ومذهبهم هذا ـ أي القول بالترادف بين الإيمان والإسلام قد تقدم في بيان مذهب السلف في هذه الناحية أنه أحد أقوالهم. وأدلة القائلين بالترادف من السلف وغيرهم متقاربة، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 المبحث الثالث زيادة الإيمان ونقصه أما عن زيادة الإيمان ونقصه عندهم، فإنهم حين قالوا بتكوّن الإيمان من العناصر الثلاثة السالفة الذكر، وتلك يتفاوت الناس في الإتيان بها من ناحية التكاليف، إذ الناس يتفاوتون في التكليف، فقد يُكلَّف أحدهم بما لم يُكلَّف به الآخر، وذلك مثل الزكاة فإن التكليف بها يخص الغني دون الفقير، إذ الفقير لا مال لديه حتى يزكيه، وكذلك الصلاة فإن الصحيح المعافى مكلف فيها بما لم يكلف به المريض وذلك كالقيام، والوضوء ونحوها، ولهذا فإن الإنسان قد يزيد إيمانه على إيمان غيره بزيادة التكاليف في حقه لعدم قدرة الآخر عليها، فإذاً الإنسان المسلم يزيد إيمانه وينقص عند المعتزلة من هذا الوجه. يقول القاضي عبد الجبار بن أحمد بعد سَوْقِه آية الأنفال السالفة الذكر { … وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ، إن هذه الآية تدل على أن الإيمان يزيد وينقص على ما نقوله، لأنه إذا كان عبارة عن هذه الأمور التي يتخلف التعبد فيها على المكلفين، فيكون اللازم لبعضهم أكثر مما يلزم الغير، فتجب صحة الزيادة والنقصان، وإنما يمتنع ذلك لو كان الإيمان خصلة واحدة هو القول باللسان أو اعتقادات مخصوصة بالقلب 1.   1 عبد الجبار بن أحمد، متشابه القرآن، تحقيق الدكتور عدنان محمد زرزور، ج1 ص312-313، ط دار النصر للطباعة، القاهرة، بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ويقول في كتاب ((المختصر في أصول الدين)) : " فإن قال: أفتقولون في الإيمان أنه يزيد وينقص؟ قيل له: نعم، لأن الإيمان كل واجب يلزم المكلف القيام به، والواجب على بعض المكلفين أكثر من الواجب على غيره، فهو يزيد وينقص من هذا الوجه. وقد وصف الله تعالى الصلاة بذلك فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} 1 كما وصفه ديناً فقال: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 2، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا إيمان لمن لا أمانة له " و " لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " فجعل من الإيمان ترك السرقة، فبطل قول المرجئة في أن الإيمان قول فقط، أو قول واعتقاد، وأنه لا يزيد ولا ينقص وعلى هذا المذهب يصح تفاضل العباد في الإيمان، فيكون إيمان الرسول عليه السلام أعظم من إيمان غيره على قولنا، وعلى قولهم لا يصح " 3. فإذاً مذهب المعتزلة هو القول بزيادة الإيمان ونقصه من ناحية التكاليف فالزيادة والنقصان عندهم شيئ نسبي بين المكلفين فذاك الشخص إيمانه أكثر من إيمان هذا لأن ذاك كُلِّف بشيئ زائد لم يكلف به الآخر، والآخر غير مؤاخذ على تركه لأنه لم يكلف به لعدم قدرته عليه، أو لوجود مانع يمنع من ذلك كالحيض للنساء، مثلاً، ومن هذا يتبين لنا أن الإنسان الواحد عندهم لا يتصور في إيمانه زيادة ولا نقصان إلا بالنسبة لغيره فالزيادة في كمِّ الإيمان لا في كيفه، لهذا فإنه يظهر من مذهبهم أنهم يوافقون المرجئة في القول بأن الإيمان القلبي لا يزيد ولا ينقص لأن التكليف فيه واحد على المكلفين جميعاً. ولهذا تبدو مخالفتهم للسلف في هذه المسألة من عدة وجوه: 1 ـ إن الزيادة والنقصان في الإيمان نسبية بين الأشخاص فزيد أكثر   1 البقرة: 143. 2 البينة: 5. 3 عبد الجبار بن أحمد، المختصر في أصول الدين، ضمن مجموعة رسائل العدل والتوحيد، تحقيق محمد عمارة، ج1 ص247، ط مؤسسة الهلال، سنة 1971م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 إيماناً من عمرو، لأن زيداً غني فهو مكلف بأمر زائد وهو الزكاة التي لم يكلف بها عمرو لفقره. والشخص الواحد لا يزيد إيمانه بالطاعة وينقص بالمعصية: لأن المعصية أمر يخرجه من الإيمان بالكلية. 2 ـ إن المعصية لا اعتبار لها في زيادة الإيمان ونقصه ـ كما ذهب إليه السلف لأنها عند المعتزلة تخرجه من الإيمان وتخلِّده في النار. 3 ـ إن الزيادة في الكمِّ الذي يكون بطاعات الجوارح وتكاليفها، أما الكيف فلا زيادة فيه ولا نقصان لاستواء المكلفين في وجوب التصديق القلبي الذي لا تجزئة فيه، ولعدم قبوله للزيادة والنقصان عندهم. وقد استدل المعتزلة على مذهبهم في زيادة الإيمان ونقصه من ناحية التكاليف بما تقدم وروده من آيات في النصوص التي نقلتُها عن القاضي عبد الجبار ووجه استدلالهم بها: أن الإيمان إذا كان عبارة عن تلك الخصال المذكورة، والناس يتفاوتون في التكليف بها، فإن الإيمان يزيد وينقص من هذا الوجه، أما الأحاديث التي ذكرها فإن وجه استدلاله بها على هذا الرأي غير واضح لأن السرقة كبيرة وعندهم يُسلَب صاحبها اسم الإيمان ويخلد في النار، وكذلك ترك الأمانة، والتكليف بها واحد بين الناس. فجميع المسلمين مكلفون باجتناب السرقة لما فيها من اعتداء على أموال الغير، وكذلك واجب على الكل مراعاة التخلق بالأمانة والاتصاف بها. نعم استدل السلف بهذين الحديثين وأمثالهما على زيادة الإيمان ونقصه، ولكنهم لا يرون سلب مرتكب الذنب الكبير من الإيمان بالكلية، والقول بتخليده في النار كما فعل المعتزلة، لذلك كان استدلالهم سائغاً مقبولاً، فإذاً هذه الأحاديث وأمثالها حجة على المعتزلة لا لهم. وجعل المعتزلة ترك السرقة وفعل الأمانة من الإيمان لا غبار عليه ولا اعتراض، ولكن كيف يقال: إن الناس المتفاوتين في ترك السرقة متفاوتون في الإيمان، مع أن السرقة أمر محرم واجب على جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 المكلَّفين اجتنابه، وعلى مذهب المعتزلة فاعل السرقة لم يَعُدْ مؤمناً فكيف يقال بأن إيمان تاركها أكثر من إيمانه مع أن فاعلها لم يَعُدْ معه إيمان يمكن المفاضلة بينه وبين إيمان التارك. فإذاً مثل هذين الحديثين لا دليل فيه للمعتزلة بل دليل عليهم، لأن فيها نفي للكمال الدال على وجود الإيمان الناقص، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 المبحث الرابع حكم مرتكب الكبيرة عند المعتزلة المعتزلة كغيرهم من الطوائف الإسلامية، يرون أن المعاصي تنقسم إلى ما هو صغيرة، وإلى ما هو كبيرة، نظراً لما ورد في بيان ذلك من نصوص شرعية، فقد وردت آيات كريمات مشتملة على ذكر الصغيرة والكبيرة، كقوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} 1 وقوله سبحانه: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} 2 وقال: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَان} 3، فرتب المعاصي هذا الترتيب حيث بدأ بالكفر الذي هو أعظم الذنوب، وثناه بالفسق، وختم بالعصيان، فلا بد من أن يكون قد أراد به الصغائر، وقد صرح بذكر الكفر والفسق قبله، إلى غير ذلك الآيات الدالة على هذا المعنى، وهذا قدر متفق عليه بين الفرق كما ذكرت عند بيان مذهب السلف، ما عدا الخوارج. أما تحديد معنى كل من الصغيرة والكبيرة عند المعتزلة فقد وقع بينهم خلاف في ذلك. فقد ذهب القاضي عبد الجبار إلى أن الكبيرة في عرف الشرع هو ما يكون عقاب فاعله أكثر من ثوابه إما محققاً وإما مقدراً.   1 الكهف: 49. 2 القمر: 53. 3 الحجرات: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وأما الصغيرة فهو ما يكون ثواب فاعله أكثر من عقابه إما محققاً وإما مقدراً. ثم قال: واحترزنا في الموضعين بقولنا إما محققاً وإما مقدراً عن الكافر ومن لم يطع البتة، فإنه قد وقع في أفعال الصغيرة والكبيرة، على معنى أنه لو كان له ثواب لكان يكون محبطاً بما ارتكبه من المعصية، أو يكون عقاب ما أتى به من الصغيرة مكفراً في جنب ما يستحقه من الثواب1. ومن تعريفات الصغيرة والكبيرة عند المعتزلة ما ذكره الأشعري عن جعفر بن حرب وذكره القاضي عبد الجبار على سبيل النقد فقد ذكر عنه قوله: إن كل عمد كبير. وقال بعد ذلك: وأظن أن ذلك مذهب لبعض السلف من أصحابنا2. فجعفر بن حرب هذا يرى أن الكبيرة هي القبيح الذي يقترن بعمد الإنسان وإصراره أي أنه يميل إلى وصف الجريمة بحال الفاعل لا بموضوع القبيح. وأنكر القاضي ذلك من وجهين: الأول: إن العمد لا تأثير له في كون الفعل كبيراً أو صغيراً، لأن للقبيح موضوعاً أو بمعنى آخر: أن للجريمة صفة موضوعية إذا ما وقعت من أي إنسان كانت كبيرة أو صغيرة. الثاني: إن الطريق إلى تحديد الكبائر وتعيينها هو الدلالة الشرعية وقد حدد الشرع أن القتل والزنا والقذف وغيرهما كبائر، وهذ لايتفق مع القول بالعمد 3. ولا خلاف بين المعتزلة في وجود الصغيرة والكبيرة بين القبائح إلا أن   1 عبد الجبار بن أحمد، شرح الأصول الخمسة بتحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان، ص632، ط1، مطبعة الاستقلال الكبرى، القاهرة، سنة 1384. 2 المصدر نفسه ص634. 3 انظر: المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الخلاف ـ بينهم كان حول طريق الدلالة على ذلك فذهب البعض وهم الأكثر ـ إلى أن الشرع هو الذي يعرّفنا باشتمال المعاصي على صغير وكبير، ولو ترك للعقل لحكم بأن جميع المعاصي كبائر، لأن من المعلوم أن أقلّ القليل منها يستحق جزءاً من العقاب كما أن أقلّ القليل من الطاعات يستحق جزءاً من الثواب. ومن هؤلاء أبو علي والقاضي عبد الجبار وغيرهم، وقد استدلوا بما تقدم من أدلة شرعية. أما الآخرون فذهبوا إلى أن العقل بمفرده يستطيع أن يميز بين الصغيرة والكبيرة فسرقة درهم ليست كسرقة عشرة دراهم وإلى هذا الرأي كان يذهب أبو هاشم ومال إليه جعفر بن حرب كما هو واضح من رأيه المتقدم في تحديد الفرق بين الصغيرة والكبيرة. وقد تختلف آراء المعتزلة في تحديد معنى الصغيرة والكبيرة، وتتسع مسافة الخلاف بينهم، لكن ما تبنّوه من آراء هو موضع نظرنا، إذ أنها لا تحدد لنا تحديداً واضحاً الفرق بين الأمرين، لا سيما ما ذهب إليه القاضي عبد الجبار ـ وإن كان هو الأكثر انسجاماً مع مذهب القوم ـ لأن الثواب والعقاب مما لا يعلم مقداره إلا الله سبحانه وتعالى، فاختلافه قلة وكثرة من شخص لآخر أمر خفي، لا يمكننا إدراكه، على أن الضابط الذي ذكره القاضي عبد الجبار على أنه تحقيق للمذهب، مناقض لما هو مشهور من مذهب المعتزلة الذي سيأتي بعد من أن ثواب الطاعات محبط لا وزن له مع ارتكاب الإنسان للكبيرة، لأن صاحبها مخلد في النار، فأين الثواب الذي يمكن أن يقاس مع العقاب ويحدد بموجبه كل من الصغيرة والكبيرة؟ غير أن الأهم من ذلك كله أن المعتزلة مهما اختلفوا في تحديد الضابط مقرون بانقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، فما حكم كل منهما عندهم؟ أما الصغائر فقد ذكر أبو الحسن الأشعري أنهم لم يتفقوا أيضاً على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 قول واحد بشأنه بل دار بينهم الخلاف في ذلك على أقوال ثلاثة: 1 ـ أن الله سبحانه يغفر الصغائر إذا اجتنبت الكبائر تفضلاً. 2 ـ يغفر الصغائر إذا اجتنبت الكبائر باستحقاق. 3 ـ أن الله لا يغفر الصغائر إلا بالتوبة 1. فهذه أقوال ثلاثة عند المعتزلة، اثنان منها قالت بالغفران، والخلاف بينهما في الاستحقاق والتفضل، والاستحقاق كما هو واضح فيه تحكُّم على الله سبحانه ـ وذلك غير لائق بحال. ولكن من مبادئ المعتزلة المشهورة عنهم قولهم بوجوب الصلاح والأصلح، ولا يخفى ما في هذا المبدأ من جسارة وعدم تأدب مع الله سبحانه وتعالى. أما القول الثالث فإنه يجعل الصغيرة بمنزلة الكبيرة في عدم الغفران إلا بالتوبة وهذا لم يقلْ به أحد، ومخالف أيضاً لما عليه المعتزلة أنفسهم من الفرق بين الصغيرة والكبيرة من حيث المعنى والاعتبار. وعلى كل حال فالأهم من ذلك كله هو مرتكب الذنب الكبير، فماذا يقول القوم في حكمه؟ هذه المسألة تُسمَّى عند مؤرخي الفرق والمعتزلة بالأسماء والأحكام، لأنها تبحث في صفة مرتكب الكبيرة وحكمه. يقول الدكتور عبد الكريم عثمان في الكلام على هذه المسألة: … وقد أثار تحديد مكان مرتكب الكبيرة وحكمه خلافاً شديداً بين المسلمين، وجعله بعض مؤرخي الفرق سبباً مباشراً لظهور مذهب الاعتزال. فقد قالت الخوارج إن صاحب الكبيرة كافر، وذهب المرجئة إلى أنه مؤمن، وقرر الحسن البصري أنه منافق، أما واصل فقد أعلن أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً ولا كافراً، ولا منافقاً، بل هو فاسق، أو في منزلة بين المنزلتين:   1 انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ج1 ص332،ط2 سنة 1389هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الإيمان والكفر، ومن هنا أُطلق على هذا الأصل عند المعتزلة اسم المنزلة بين المنزلتين، أو الأسماء والأحكام 1. فالمعتزلة يرون أن مرتكب الكبيرة، لا مؤمن ولا كافر، بل له اسم بين الاسمين وحكم بين الحكمين، فلا يكون اسمه اسم الكافر، ولا اسمه اسم المؤمن، وإنما يُسمى فاسقاً وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر، ولا حكم المؤمن، بل يُفرَد له حكم ثالث وهذا الحكم هو ما يُسمى بالمنزلة بين المنزلتين. فإن صاحب الكبيرة عندهم له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان، فليست منزلته منزلة الكافر، ولا منزلة المؤمن، بل له منزلة بينهما 2. والمراد من هذا بيان الحكم الدنيوي لمرتكب الكبيرة، ففيه أن مرتكبها يُسلَب منه اسم الإيمان بالكلية، لأنه بارتكابها يزول ما معه من إيمان، فلم يعدْ مؤمناً غير أنهم في هذا الحكم الدنيوي لم يبلغوا به درجة الكافر فلم يُجَوِّزوا تسميته كافراً، كما لم يُجَوِّزوا تسميته مؤمناً، بل جعلوا له منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان وهي الفسق. وقد برزت هذه المقالة أول ما برزت على يد واصل بن عطاء الغزال أحد زعماء المعتزلة، بل زعيمهم الأول والذي كان تلميذاً للحسن البصري، المشتهر بقوله بأن مرتكب الكبيرة منافق. وقد بينها الشهرستاني في ((الملل والنحل)) بقوله: " ووجه تقريره لهذه المسألة أنه ـ أي واصل بن عطاء ـ قال: إن الإيمان عبارة عن خصال خير، إذا اجتمعت سُمي المرء مؤمناً، وهو اسم مدح، والفاسق لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح، فلا يسمى مؤمناً، وليس هو بكافر مطلقاً أيضاً، لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها 3.   1 الدكتور عبد الكريم عثمان، نظرية التكليف، ص494، ط مؤسسة الرسالة، بيروت، سنة1391هـ ـ 1971م. 2 انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، ص697. 3 انظر: الملل والنحل للشهرستاني، تحقيق محمد سيد الكيلاني، ج1 ص48، ط مطبعة الحلبي، مصر، سنة 1387هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وكل هذا ليس إلا بحثاً في التسمية والمعاملة الدنيوية إذ أنهم ذهبوا هذا المذهب ليؤدي لهم غرضين في آنٍ واحدٍ. الغرض الأول: هو القول بأن مرتكب الكبيرة يعامل في الدنيا كما يعامل بقية المسلمين فتجوز مناحكته، وموارثته، ودفنه في مقابر المسلمين، وغير ذلك من الأحكام الجارية عليه في الدنيا. الغرض الثاني: هو القول بالتأبيد في النار ـ على ما سيأتي بعد ـ فإنهم لم يوصلوه في الوصف الدنيوي إلى درجة الكفر، حتى تجري عليه تلك الأحكام الدنيوية، وعزَّ عليهم أن يعطوه اسم الإيمان، لأنه في نظرهم لا بد وأن يدخل النار ليجازى بما عمل من السيئات، وداخل النار عندهم لا يخرج منها، والمؤمن لا يمكن أن يدخل النار في نظرهم. ويزيد المسألة وضوحاً ما ذكره القاضي عبد الجبار من استدلال على هذا المعتقد حيث قال ما معناه: والذي يدل على الفصل الأول، وهو الكلام في أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمناً، هو ما قد ثبت من أنه يستحق بارتكاب الكبيرة الذم واللعن والاستخفاف والإهانة، وثبت أن اسم المؤمن صار بالشرع اسماً لمن يستحق المدح والتعظيم والموالاة، فإذ قد ثبت هذان الأصلان، فلا إشكال في أن صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى مؤمناً 1. ثم ذكر بعد ذلك الأدلة على أن اسم المؤمن صار بالشرع اسماً لمن يستحق المدح والتعظيم كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} 2 وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 3 إلى غير ذلك من الآيات. أما الدليل على أن مرتكب الكبيرة لا يسمى كافراً فهو أنه جعل الكافر في الشرع اسماً لمن يستحق العقاب العظيم، ويختص بأحكام مخصوصة   1 عبد الجبار بن أحمد، المصدر المذكور آنفاً ص701، 702. 2 المؤمنون: 1. 3 الأنفال: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 نحو المنع من المناكحة والموارثة، والدفن في مقابر المسلمين، إذا ثبت هذا ومعلوم أن صاحب الكبيرة ممن لا يستحق العقاب العظيم ولا تجري عليه هذه الأحكام، فلم يجز أن يسمى كافراً 1. ومن أدلة المعتزلة أيضاً على قولهم بالمنزلة بين المنزلتين ما ذكره عضد الدين الأيجي في المواقف حيث ذكر احتجاجهم على ذلك بوجهين: أحدهما: ما تقدم من أن الإيمان عبارة عن الطاعات، وأن الفاسق يعامل في الدنيا معاملة سائر المسلمين. أما الوجه الثاني: فهو ما قاله واصل بن عطاء لعمرو بن عبيد، فرجع عمرو إلى مذهبه وهو أن فسقه معلوم وفاقاً، وإيمانه مختلف فيه، أي الأمة مجمعة على أن صاحب الكبيرة فاسق واختلفوا في كونه مؤمناً أو كافراً فنترك المختلف فيه ونأخذ بالمتفق عليه 2. وهذا هو الدليل الأساسي الذي يستدل به القوم، ويوضحه القاسم الرسي بقوله … والأمة مجمعة على أن من أتى كبيرة، أو ترك طاعة فريضة كالصلاة والزكاة والصيام من أهل الملة فهو فاسق، وهي مختلفة في غير ذلك من أسمائه. قال بعضهم: هو مشرك فاسق منافق، فكلهم قد أقرَّ بأنه فاسق كافر3، وقال بعضهم: فاسق منافق فكلهم قد أقر بأنه فاسق، واختلفوا في غير ذلك من أسمائه. فالحق ما أجمعوا عليه من تسميتهم إياه بالفسق، والباطل ما اختلفوا فيه، ففي إجماعهم الحجة والبرهان4. وهذا كله ـ كما سبق وأن قلت ـ لا يعدو كونه كلاماً في حكم دنيوي وهو القدر الذي يختلفون فيه مع الخوارج، حيث قالوا بكفره ابتداءً،   1 عبد الجبار بن أحمد، المصدر السابق ص712. 2 انظر: المواقف بشرح الجرجاني، ج8 ص338، ط1، مطبعة السعادة، مصر، سنة 1325هـ ـ1907م. 3 هذا هو رأي الخوارج في مرتكب الكبيرة. 4 القاسم الرسي، كتاب العدل والتوحيد، ضمن مجموعة رسائل العدل والتوحيد تحقيق محمد عمارة، ج1 ص130، ط مطابع مؤسسة دار الهلال، سنة 1971م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وخروجه من ملة الإسلام. أم الحكم الأخروي لمرتكب الكبيرة عند المعتزلة: فعندهم أن من استوعب عمراً في طاعة الله سبحانه وتعالى، ثم قارف كبيرة واحدة، ولم يوفق للتوبة عنها، ومات على هذه الحال، فهو مخلد في النار مع المشركين الذين لم يؤمنوا ولم يأتوا بحسنة قط1. وهذا هو بعينه رأي الزيدية الذين تبنوا أصول الاعتزال، وعنهم يقول الشهرستاني: أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذو القذة بالقذة، ويعظمون أئمة الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمة أهل البيت 2. فعند هؤلاء جميعاً أن الإنسان مهما عمل من الخيرات، ومهما جاهد في سبيل إرضاء ربه، من فعل للواجبات، واجتناب للمحرمات، وكبح لجماح النفس وصد لشهواتها، فإن جميع طاعاته هذه تذهب هباء عندما يزل في يوم من الأيام فيرتكب كبيرة، لأن هذه المعصية تحبط جميع تلك الأعمال الخيرة، فلا يبقى لها وزن، ولا يعود لها اعتبار، لأن مرتكب الكبيرة إذا لم يقلع عنها بتوبة جازمة نصوح لا عودة بعدها، فلا بد وأن يدخل النار خالداً مخلداً فيها، لأن داخل النار عندهم لا يخرج منها أبد الآبدين. وهذا المذهب في مرتكب الكبيرة تذكره كتب الفرق على أنه أصل من أصول المعتزلة التي يجمعون عليها، إلا أن إمام الحرمين الجويني ذكر أن معتزلة البصرة، وبعض البغداديين واقفية في وعيد مرتكب الكبيرة، إذ قالوا بأن من مات من المؤمنين على إصراره على المعاصي، لا يقطع عليه بعقاب، بل أمره مفوَّض إلى ربه تعالى، فإن عاقبه فذلك بعدله، وإن تجاوز عنه فذلك بفضله ورحمته، فلا يُستنكر ذلك عقلاً وشرعاً 3.   1 انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، بتحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان، ص666، ط1 مطبعة الاستقلال الكبرى، القاهرة، سنة 1384هـ. 2 الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر، الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني، ج1ص162، ط مطبعة الحلبي، القاهرة، سنة 1387هـ. 3 انظر: الإرشاد لإمام الحرمين الجويني، تحقيق الدكتور محمد يوسف موسى، وعلي عبد المنعم، ص393، ط مطبعة السعادة، مصر، سنة 1369هـ ـ 1950م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وعلى كل حال، فهذا أصل من أصول المعتزلة سواء أجمعوا عليه أم لم يجمعوا فهو المذهب المشهور الشائع عنهم، وأي خلاف فيه من قبلهم فإنه لا ينقض المذهب، لا سيما وأنهم قد اشتهروا بتبنِّيه والاستدلال له. ومن رجع منهم عن القول به فإنما كان ذلك منه لأنه في نظري ناشد للحقيقة غير متبع ولا مقلد، فلا يستغرب ذلك، إلا أنه كما قلت هو المذهب المقترن باسم المعتزلة عند ذكرهم دائماً. أما أدلتهم على قولهم بخلود مرتكب الكبيرة في النار، فقد استدلوا بأدلة عقلية ونقلية: فأما الأدلة العقلية: فمنها ما ذكره القاسم الرسي من أن أحداً لا يقدر أن يؤدي كل ما استحق الله تبارك تعالى من عباده، من شكر نعمته وإحسانه، بالكمال والتمام، حتى لا يبقى مما يحق لله جل ثناؤه شيئاً إلا أداه، هيهات فكيف وهو يقول تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 1 فكيف يؤدي شكر ما لا يحصى؟ ولم يفترض على خلقه ذلك، ولا سأل كل ما له عليهم مما يستحق لديهم، لعلمه بضعفهم وأن في بعض ذلك استفراغ جهدهم، وما تعجز عنه أنفسهم وأنهم لا يقدرون على ذلك ويقصرون عن بلوغ ذلك … وغفر لهم صغير ذنوبهم كله إذا اجتنبوا كبيرة رحمة بهم، ونظراً لهم 2، فأما من رجا الرحمة 3 وهو مقيم على الكبيرة فقد وضع الرجاء في غير موضعه، واغترَّ بربه واستهزأ بنفسه، وخدعه وغره من لا دين له، إلا أن يتوب فيغفر له بالتوبة، فأما الإقامة على الكبائر فلا … وذلك أن للجنة والنار طريقان فطريق الجنة طاعته المجردة عن الكبائر   1 النحل: 18. 2 يريد رعاية لهم. 3 من هنا سمى المعتزلة السلف مرجئة لقولهم بإرجاء حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يحكم عليه بحكم ما في الدنيا بل يترك حكمه إلى الله إن شاء عذبه عدلاً منه وأخرجه من النار، وإن شاء عفا عنه ابتداءً بفضله ورحمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 من معاصي الله، وطريق النار معصية الله، وإن لم تكن مجردة من بعض طاعات الله، لأننا قد نجد العبد يؤمن بكتاب الله كله، ويكفر ببعضه فلا يكون مؤمناً، ولا بما آمن به من النار ناجياً. يصدق ذلك قول الله عز وجل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} 1 فلم يُسموا بما آمنوا مؤمنين، بل سُموا بما كفروا به منه لكله كافرين. وعلى هذه الطريق فيمن لم يكفر من الفاسقين أهل الكبائر العاصين، فمن كان على المعصية الكبيرة مقيماً فهو على طريق النار، فكيف يرجو البلوغ إلى الجنة وهو يسلك ذلك الطريق، كرجل توجه إلى طريق خراسان فسلكه وهو يقول: أنا أرجو أن أبلغ الشام، فهذا من وضع الرجاء في غير موضعه 2. وملخص الدليل العقلي السابق أن الله تبارك وتعالى له نِعَم على عباده لا تُحصى ومهما عمل الإنسان لا يستطيع الوفاء بشكرها، إذ أن ذلك يتطلب منه استيفاء كل حق لله عليه. وقد علم الله من عباده عجزهم وضعفهم عن الوفاء بجميع ذلك، لذلك أكتفى منهم بالقليل بعد أن أعطاهم الكثبر، بل وعفا عن صغائر ذنوبهم، وهذه منَّة عظيمة أخرى منه ـ تبارك وتعالى ـ فعلى الإنسان إذاً الإتيان بهذا القليل الذي كُلِّف به دون تفريط، وإذا قصَّر فيه بارتكاب الكبائر فعلاً لمحرم، أو تركاً لواجب فهو من أهل النار لا محالة، لأن الله تجاوز له عن الكثير لم يكلفه به، فإذا قصر في ذلك القليل المطلوب منه فهو ممن سلك طريق النار، والطريق إلى الشيئ المعين توصل إليه لا إلى ما يوجد في جهة معاكسة، وطريق النار المعصية وهذه لا يمكن أن يصل عن طريقها إلى الجنة، كما أن طريق الجنة الطاعة، وهذه أيضاً لا يمكن أن توصل بصاحبها إلى النار، وضرب مثلاً بسالك طريق خراسان، وهو يقصد الوصول إلى الشام.   1 البقرة: 85. 2 القاسم الرسي، كتاب العدل والتوحيد، ضمن مجموعة رسائل العدل والتوحيد، تحقيق محمد عمارة، ج1 ص123-124، ط مطابع مؤسسة الهلال، سنة 1971م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فهذا دليل عقلي على أن الفاسق مصيره إلى النار، وأنه يفعل به ما يستحقه. وهناك دليل عقلي آخر ذكره القاضي عبد الجبار وهذا الدليل هو أن الله أمر ونهى، أي كلف الإنسان، ووعده وتوعده، وكل خلف بالوعد أو الوعيد نوع من الكذب لا يجوز على الله. ولو ثبت أنه يخلف وعيده ولا يعاقب الفاسقين لكان في ذلك إغراء له على فعل القبيح، إذ أن للمكلف أن يعصي ويتجاوز حدود الله، وهو مطمئن إلى أنه سيُغفر له 1. أما الأدلة السمعية: فقد استدلوا بعموم الآيات الواردة في الوعيد، ومن هذه الآيات التي هي مناط استدلالهم قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} 2. ووجه الاستدلال: أن الله تبارك وتعالى أخبر أن العصاة يعذبون بالنار ويخلدون فيها، والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر جميعاً، فيجب حمله عليهما، لأنه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبيَّنه، فلما لم يبيِّنه دل على ما ذكرناه 3. ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} 4. ووجه الاستدلال: هو أنه تعالى يبين أن من يقتل مؤمناً عمداً جازاه وعاقبه وغضب عليه ولعنه، وفي ذلك ما قلناه5، أي أن ذلك يكون على سبيل الدوام كما هو مصرّح بذكر الخلود في الآية. ومما استدل به المعتزلة أيضاً قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} 6. ووجه الاستدلال: أن المجرم اسم يتناول الكافر والفاسق   1 انظر: شرح الأصول الخمسة، ص650. 2 النساء: 14. 3 عبد الجبار بن أحمد، المصدر السابق ص657. 4 النساء: 93. 5 عبد الجبار بن أحمد، المصدر السابق ص660. 6 الزخرف: 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 جميعاً فيجب أن يكونا مرادين بالآية، معنيين بالنار، لأنه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينه، فلما لم يبينه دل على أنه أرادهما جميعاً 1. هذه بعض أدلة المعتزلة من القرآن الكريم على قولهم بتخليد مرتكب الكبيرة في النار. يقول القاضي عبد الجبار بعد ذكره لهذه الآية: فإنها كما تدل على أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة، تدل على أنه يخلد، إذ ما من آية من هذه الآيات التي مرت إلا وفيها ذكر الخلود والتأبيد، أو ما يجري مجراهما 2. ثم ذكر بعد ذلك طريقة أخرى للاستدلال على هذه المعتقد حيث قال: وهنا طريقة أخرى مركبة من السمع، وتحريرها: هو أن العاصي لا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يعفى عنه، أو لا يعفى عنه، فإن لم يعف عنه فقد بقي في النار خالداً، وهو الذي نقوله. وإن عفي عنه فلا يخلو، إما أن يدخل الجنة أو لا، فإن لم يدخل الجنة لم يصح، لأنه لا دار بين الجنة والنار، فإذا لم يكن في النار وجب أن يكون في الجنة لا محالة، وإذا دخل الجنة فلا يخلو إما أن يدخلها مثاباً أو متفضلاً عليه ولا يجوز أن يدخل الجنة متفضلاً عليه، لأن الأمة اتفقت على أن المكلف إذا دخل الجنة فلا بد أن يكون حاله متميزاً عن حال الوِلدان المخلَّدين وعن حال الأطفال والمجانين، ولا يجوز أن يدخل الجنة مثاباً، لأنه غير مستحق، وإثابة من لا يستحق الثواب قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح 3. وغرضه من هذا الكلام هو القول بأن الفاسق لا يجوز على الله تعالى أن يعفو عنه ويدخله الجنة، لأن دخوله الجنة لا يكون إلا عن ثواب لا عن تفضل من الله سبحانه، فالجنة عوض لازم للإنسان على أعمال الخير إذا لم يشبْها كبائر، والفاسق لا ثواب له، وإثابة من لا يستحق الثواب قبيح على الله تعالى، والحُسن والقبح كما هو معروف أحد أصول المعتزلة التي يسيرون   1 عبد الجبار بن أحمد، المصدر السابق. 2 المصدر نفسه ص666. 3 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 عليها في معتقداتهم، وإذا ثبت هذا فلا بد من دخول الفاسق النار خالداً، ولا يجوز على الله تعالى أن يعفو عنه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وأرى لزاماً عليَّ قبل أن أختم الكلام عن مذهب المعتزلة بشأن مرتكب الكبيرة أن أنبِّه هنا إلى أن الدكتور عبد الكريم عثمان قد ذكر في كتابه نظرية التكليف أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد وافق المعتزلة على رأيهم في وجوب إنفاذ الوعد والوعيد وتخليد مرتكب الكبيرة في النار. وهذا الكلام فيه مكابرة للواقع ومخالفة للحقيقة الظاهرة الواضحة التي قد يكون الاستدلال عليها من العبث بمكان فموقف ابن تيمية ـ رحمه الله ـ واضح جلي لا غموض فيه ولا شبهة وهو من هو بالنسبة لمذهب السلف الصحيح فقد قرره ودافع عنه وانتصر له وهو المذهب الغني عن الإعادة والبيان ولم يقل أحد سوى الدكتور عبد الكريم عثمان أن ابن تيمية، قال بأنه يجب على الله إثابة المطيع، بل ابن تيمية يقول إن الله يثيب المطيع تفضلاً منه ونحن لم نوجب ذلك عليه بل أوجبه سبحانه على نفسه. أما عقاب العصاة فإن الله أوعدهم بالعقاب ورحمته وسعت كل شيئ فقد يتخلف الوعيد بعفوه سبحانه أما إذا عاقب فإنه لا يخلِّد لأنه يُخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. هذا هو بعينه مذهب السلف، والقدح في ابن تيمية الذي نذر نفسه للدفاع عن الحق الذي يسنده الدليل، يعتبر قدحاً في أهل الحق من السنة والجماعة وقد تقدم إيضاح مذهبهم في هذه المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الفصل السابع:الأشاعرة * ... الفصل السابع مذهب الأشاعرة في الإيمان الأشاعرة فرقة من أكبر الفرق الإسلامية، وأوسعها انتشاراً، وهم ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري ـ رحمه الله ـ الذي ولد سنة 260، وتوفي سنة 324 على ما صححه ابن عساكر والذي تخرج على المعتزلة في علم الكلام، وتتلمذ لشيخهم في عصره أبي علي الجبائي. غير أن الأشعري بعد ذلك سلك طريقاً غير طريق المعتزلة، إذ هداه الله إلى الحق، فأخذ يرد على المعتزلة، ويفنِّد مذاهبهم. غير أنه لا يخفى أن مذهب الأشاعرة المعروف لم يبق على ما كان عليه أبو الحسن، بل تطور وأخذ شكلاً يختلف كلية عما هو معروف عن الأشعري من آراء، ونأخذ على سبيل المثال مسألة الإيمان التي نحن بصددها، فقد قال جمهور الأشاعرة كما سيأتي بعد بأن الإيمان مجرد التصديق القلبي، وأنه لا يزيد ولا ينقص، بينما يذهب أبو الحسن الأشعري في كتاب ((الإبانة)) الذي يُعتبر آخر مؤلفاته إلى أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. والملاحظ في هذه الفرقة أنه بقيت متحدة من حيث النسبة، إذ لم يوجد فيها فرق متناحرة، كما وُجد في غيرها، على الرغم من وجود خلافات كثيرة بين رجالاتها في كثير من الأمور الاعتقادية. ومن أشهر رجال الأشاعرة الذين برزوا على مسرح البيان لمذهب هذه الفرقة، والانتصار له، إمام الحرمين الجويني، والإمام الغزالي، وأبو بكر الباقلاني، والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 والملاحظ في هذه الفرقة أنه بقيت متحدة من حيث النسبة، إذ لم يوجد فيها فرق متناحرة، كما وُجد في غيرها، على الرغم من وجود خلافات كثيرة بين رجالاتها في كثير من الأمور الاعتقادية. ومن أشهر رجال الأشاعرة الذين برزوا على مسرح البيان لمذهب هذه الفرقة، والانتصار له، إمام الحرمين الجويني، والإمام الغزالي، وأبو بكر الباقلاني، والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 المبحث الأول حقيقة الإيمان عند الأشاعرة ذهب جمهور الأشاعرة في هذه المسألة إلى القول بأن الإيمان الشرعي هو شيئ واحد فقط لا تعدد فيه وهو التصديق القلبي، بالله تعالى، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتصديقه فيما أخبر به عن الله عز وجل وصفاته، وأنبيائه، وغير ذلك، فالإيمان عندهم تصديق قلبي فقط، وهذا هو المذهب المشهور عندهم. وبياناً له أورد ما ذكره صاحب ((المواقف)) في هذا المقام حيث قال: " اعلم أن الإيمان في اللغة هو التصديق مطلقاً، قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} 1 أي بمصدق فيما حدثناك به، قال عليه الصلاة والسلام: " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله " أي تصدق، ويقال: فلان يؤمن بكذا أي يصدقه، ويعترف به. وأما في الشرع، وهو متعلق ما ذكرنا من الأحكام ـ يعني الثواب على التفاصيل المكذورة ـ فهو عندنا ـ يعني أتباع أبي الحسن الأشعري ـ وعليه أكثر الأئمة كالقاضي والأستاذ2 ووافقهم على ذلك الصالحي وابن الراوندي من المعتزلة: التصديق للرسول فيما علم بمجيئه به ضرورة، تفصيلاً فيما عُلم تفصيلاً، وإجمالاً فيما عُلم إجمالاً، فهو في الشرع تصديق خاص 3.   1 يوسف: 17. 2 يعني أبا إسحاق الإسفرائيني. 3 انظر: المواقف بشرح الجرجاني، ج8 ص322، ط مطبعة السعادة، مصر، سنة 1325هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فالإيمان الشرعي هو بعينه الإيمان اللغوي، إلا أن الإيمان الشرعي خاص فيما أمرنا بالتصديق به من الأمور الشرعية، واللغوي عام. وهناك قول آخر ذهب إلى الأخذ به إمام الحرمين الجويني وهو أن الإيمان مركب من أمرين: تصديق قلبي وإقرار لساني حيث قال: والمؤمن على التحقيق مَن انطوى عقداً على المعرفة بصدق من أخبر عن صانع العالم وصفاته، وأنبيائه. فإن اعترف بلسانه بما عرف بجنانه فهو مؤمن ظاهراً وباطناً، وإن لم يعترف بلسانه معانداً لم ينفعه علم قلبه، وكان في حكم الله من الكافرين، كفر جحود وعناد. وكذلك كان فرعون وكل معاند جحود، وكذلك عرف أحبار اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصادفوا نعته في التوراة، فجحدوا بغياً وحسداً، فأصبحوا من الكافرين. ومَن أظهر كلمة الإيمان، وأضمر الكفر فهو المنافق الذي يتبوأ الدرك الأسفل من النار 1. فهذا أحد أقطاب الأشاعرة ينفرد عنهم بهذا الرأي، الذي يوافق فيه أبا حنيفة ومن ذهب مذهبه، في أن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، إلا في حال تعذر النطق باللسان فهو عندهم ركن يحتمل السقوط لعذر كالخرس ونحوه. وهذا الرأي أفردته بالبحث عند الكلام عن أبي حنيفة. ولكن الذي يهمنا هنا هو بيان المذهب المشهور عن الأشاعرة، والذي تبنَّته كتبهم المعتبرة وقررته، واستدلت له، وهو ما تقدم من أنه تصديق خاص. أما الإقرار اللساني والعمل بالجوارح فهم وإن لم يجعلوهما من الإيمان، إلا أنهم لم يهملوهما بل جعلوا لهما اعتبارهما في الوجود، فقد جعلوهما شرطاً به يتحقق الإيمان، ويأثم تاركهما إثماً كبيراً، لأنهما دليل على صدق الإيمان الباطن، ومدى تحققه. وفي بيان ذلك يقول عضد الدين الإيجي بعد ذكر مذهبهم في الإيمان: … والتلفظ بكلمتي الشهادتين مع القدرة عليه شرط، فمن أخل به فهو كافر مخلد في النار، ولا تنفعه المعرفة القلبية من غير إذعان وقبول، فإن من الكفار من كان يعرف   1 الجويني، إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك، العقيدة النظامية بتحقيق محمد زاهد الكوثري، ص62، ط مطبعة الأنوار، سنة 1367هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الحق يقيناً، وكان إنكاره عناداً واستكباراً، قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} 1. فالعمل له عندهم مكانة كبيرة، فتاركه أو تارك شيئ منه يكون مذنباً معرَّضاً للعقاب وهذا ما يجعلني أقول: إن ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، وما سبقه إليه ابن حزم الظاهري من عد طائفة الأشاعرة من جملة المرجئة المناصرة لمذهب جهم في الإيمان 2، أمر لا يتناسب مع الواقع. والإنصاف يدفعنا إلى القول بأن القوم لم يقصروا كثيراً في اعتبار العلم إلى حد يبرِّر إلزاقه هذا اللقب ـ الذي عُرف بالذم والقبح عند أغلب الطوائف ـ بهم، وعدهم من جملة الجهمية المرجئة، إذ أن الخلاف في هذه المسألة بينهم وبين جماعة السلف خلاف لفظي، لأنه ينحصر في الشرطية التي قال بها الأشاعرة والشطرية التي قال بها السلف، والكل متفق على ضرورة الإتيان بالعمل والإقرار دون تفريط أو تقصير، والمقصر فيهما مؤاخذ على تقصيره ومعرَّض للعقاب، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له، وأن الإيمان المنجي من التخليد في النار هو التصديق القلبي الجازم لقوله صلى الله عليه وسلم: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " شريطة أن لا يكون قد ترك العمل استحلالاً وجحوداً وعناداً. فإذاً القوم يخرجون الإقرار والعمل عن الركنية في الإيمان، مع التشدد في الإتيان بهما كشرط لتحقق الإيمان وكماله وكدليل ظاهري محسوس على وجود حقيقته في أعماق القلب. وقد أوردوا أدلة تؤيد ما ذهبوا إليه، فمما أوردوه كدليل على إخراج الإقرار عن الركنية قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} 3،   1 انظر: العقائد العضدية بشرح جلال الدين الدواني، ج2 ص285،286، ط المطبعة العثمانية، سنة 1316هـ. 2 انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية، ص10، ط المكتب الإسلامي، دمشق، وكتاب الفصل لابن حزم، ج2 ص188. 3 المجادلة: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وقوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 1، وقوله سبحانه: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} 2، وقوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم ثبت قلبي على دينك ". حيث نسب فيها وفي نظائرها الغير محصورة الإيمان إلى القلب، فدل ذلك على أنه فعل القلب وهو التصديق 3. ثم ذكر الإيجي بعد ذلك دليلهم على خروج العمل عن الإيمان حيث قال: " والعمل خارج عنه، لمجيئه مقروناً بالإيمان معطوفاً عليه في عدة مواضع من الكتاب، كقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 4 فإن الجزء لا يُعطف على كله، فلا يقال: جاءني القوم وأفرادهم ولا عندي العشرة وآحادها " 5. غير أنهم قالوا إن الإيمان قد يُطلق على العمل إطلاقاً مجازياً 6 وعلى ذلك جرى توجيههم للآيات والأحاديث التي ورد فيها إطلاق الإيمان على العمل ثم إنهم لما ذهبوا إلى القول بأن الإيمان هو التصديق، وكان ثمة التباس في أن التصديق هو المعرفة، فيوافقون بذلك الجهمية، أو أنه يختلف عنها فيكونون قد سلكوا طريقاً غير طريقهم، وقالوا بغير مذهبهم. ودفعاً لهذا التوهم في موافقة المعرفة للتصديق الذي قد يحمل بعض العلماء على إدخالهم في زمرة الجهمية القائلة بأن الإيمان هو المعرفة، كما فعله ابن تيمية وابن حزم ـ رحمهما الله ـ، فرَّقوا بين الأمرين بأن الأمرين المتطابقين ضدهما واحد، وضد المعرفة غير ضد التصديق، لأن ضد المعرفة النكارة وضد التصديق التكذيب، واختلاف الضدين دليل على اختلاف كل من المعرفة والتصديق، فبين المعنيين فرق شاسع، وأيضاً فإن التصديق عبارة عن   1 الحجرات: 14. 2 النحل: 106. 3 انظر: العقائد للإيجي، ج2 ص286. 4 الرعد: 29. 5 الإيجي، المصدر السابق. 6 انظر: غاية المرام في علم الكلام للآمدي، ص311، تحقيق حسن محمود عبد اللطيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 أمر كسبي للمصدق اختيار فيه، ولهذا يؤمر به ويثاب عليه أما المعرفة فقد تحصل بلا كسب، وإذاً فالمعرفة أعم من التصديق، فكل من صدق فقد عرف، وليس كل من عرف مصدقاً. وفي هذا يقول التفتازاني في شرح المقاصد مفرِّقاً بين الأمرين: " … فاقتصر بعضهم على أن ضد التصديق هو الإنكار والتكذيب، وضد المعرفة النكارة والجهالة، وإليه أشار الإمام الغزالي حيث فسر التصديق بالتسليم فإنه لا يكون مع الإنكار والاستكبار، بخلاف العلم والمعرفة، وفصَّل بعضهم زيادة تفصيل فقال: التصديق عبارة عن ربط القلب على ما عُلم من إخبار المخبِر، وهو أمر كسبي يثبت باختيار المصدِّق، ولهذا يؤمَر به ويثاب عليه، بل يُجعل رأس العبادات بخلاف المعرفة فإنها ربما تحصل بلا كسب، كمن وقع بصره على جسم فحصل له معرفة أنه جدار أو حجر " 1. فإذاً الأشاعرة يدَّعون أن الإيمان الشرعي هو بعينه الإيمان اللغوي، ومن ضمن أدلتهم على أن الإيمان الشرعي هو الإيمان اللغوي وهو الصديق، أن الإيمان مُبقَى على أصله اللغوي لم ينقل إلى معنى شرعي آخر. وبيانه فيما قاله الباقلاني، حيث قال: " فإن قال قائل: خبِّرونا ما الإيمان عندكم؟ قلنا: الإيمان هو التصديق بالله تعالى، وهو العلم، والتصديق يوجد بالقلب، فإن قال: وما الدليل على ما قلتم؟ قيل له: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان في اللغة قبل نزول القرآن، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم هو التصديق، لا يعرفون في لغتهم إيماناً غير ذلك ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} 2 أي ما أنت بمصدق لنا، ومنه قولهم: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان لا يؤمن بعذاب القبر، أي لا يصدق بذلك. فوجب أن يكون الإيمان في الشريعة هو   1 التفتازاني، سعد الدين، شرح المقاصد، ج2 ص251، ط مطبعة الحاج محرم أفندي، بدون تاريخ. 2 يوسف: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الإيمان المعروف في الللغة، لأن الله عز وجل ما غير اللسان العربي ولا قلبه، ولو فعل لتواترت الأخبار بفعله، وتوفرت دواعي الأمة على نقله ولغلب إظهاره وإشهاره على طيه وكتمانه، وفي علمنا بأنه لم يفعل ذلك، بل أقر أسماء الأشياء، والتخاطب بأسره على ما كان فيها، دليل على أن الإيمان في الشرع هو الإيمان اللغوي. ومما يدل على ذلك ويبينه قول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 1، وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} 2 فخبَّر أنه أنزل القرآن بلغة القوم، وسمى الأشياء بمسمياتهم، فلا وجه للعدول بهذه الآيات عن ظواهرها بغير حجة، وسيما مع قولهم بالعموم وحصول التوقيت، على أن الخطاب نزل بلغتهم، فدل ما قلناه على أن الإيمان هو ما وصفناه دون ما سواه من سائر الطاعات من النوافل والمفروضات " 3. ومما تقدم يتلخص لنا ما يأتي: 1 ـ أن الإيمان الشرعي: هو الإيمان المعروف في اللغة وهو التصديق المخصوص. 2 ـ أن التصديق محله القلب فقط، بدليل الآيات التي تنسبه إليه دون غيره، وقد تقدم ذكرها ـ وذلك دليل على أن الإقرار والعمل لا دخل لهما في التصديق. 3 ـ أن العمل خارج عن الإيمان ومغاير له، بدليل عطف العمل على الإيمان والعطف دليل على المغايرة. 4 ـ أن القرآن الكريم ولغة العرب، والإجماع، تدل على بقاء الإيمان على أصله اللغوي.   1 إبراهيم: 4. 2 الزخرف: 3. 3 أبو بكر، محمد بن الطيب، التمهيد، ص346،347، المكتبة الشرقية، بيروت، سنة1957م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 5 ـ أن الإقرار والعمل شرط في الإيمان، يلزم الإتيان بهما، ومَن فرَّط فيهما فهو معَّرض للعقاب. فهذه النقاط الخمس هي ملخص مذهب جمهور الأشاعرة في حقيقة الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 المبحث الثاني الصلة بين الإيمان والإسلام عند الأشاعرة هذه المسألة لم يتفق الأشاعرة فيها أيضاً بل وقع بينهم خلاف فافترقوا على رأيين، فمن قائل بالترادف بينهما، ومن قائل بالتغاير، وكل فريق استدل لرأيه بما يدل عليه من الكتاب والسنة. وفيما يلي أُورد بعض النصوص في ذلك من كتبهم المعتبرة ثم أُعقب ذلك ببيان ما تضمنته من أفكار. يقول الشيخ عبد السلام بن إبراهيم اللقاني في شرحه لجوهرة التوحيد: " … ولما كان الإيمان والإسلام لغة متغايرَي المدلول لأن الإيمان هو التصديق، والإسلام هو الخضوع والانقياد اختُلِف فيهما شرعاً، فذهب جمهور الأشاعرة إلى تغايرهما أيضاً، لأن مفهوم الإيمان ما علمته آنفاً، ومفهوم الإسلام امتثال الأوامر والنواهي ببناء العمل على ذلك الإذعان، فهما مختلفان ذاتاً ومفهوماً وإن تلازما شرعاً بحيث لا يوجد مسلم ليس بمؤمن ولا مؤمن ليس بمسلم … وذهب جمهور الماتريدية والمحققون من الأشاعرة إلى اتحاد مفهوميهما بمعنى وحدة ما يراد منهما في الشرع وتساويهما بحسب الوجود، على معنى أن كل من اتصف بأحدهما فهو متصف بالآخر شرعاً ـ وعلى هذا فالخلاف لفظي باعتبار المآل" 1.   1 اللقاني، عبد السلام بن إبراهيم المالكي، اتحاف المريد بجوهرة التوحيد، تعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ، ص38-40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ويقول الشيخ سعد الدين التفتازاني في كتابه المشهور ((شرح المقاصد)) : الجمهور على أن الإسلام والإيمان واحد، إذ معنى آمنت بما جاء به النبي عليه السلام صدقته، ومعنى أسلمت له سلمته. ولا يظهر بينهما كثير فرق لرجوعهما إلى معنى الاعتراف والانقياد والإذعان والقبول، وبالجملة لا يعقل بحسب الشرع مؤمن ليس بمسلم أو مسلم ليس بمؤمن. وهذا مراد القوم بترادف الاسمين، واتحاد المعنى وعدم التغاير على ما قال في ((التبصرة)) : الاسمان من قبيل الأسماء المترادفة وكل مؤمن مسلم وكل مسلم مؤمن، لأن الإيمان اسم لتصديق شهادة العقول والآثار على وحدانية الله تعالى، وأن له الخلق والأمر لا شريك له في ذلك، والإسلام إسلام المرء نفسه بكليتها لله تعالى بالعبودية له من غير شرك، فحصلا من طريق المراد منهما على معنى واحد. ولو كان الاسمان متغايرين لتصور وجود أحداهما بدون الآخر ولتصور مؤمن ليس بمسلم، أو مسلم ليس بمؤمن، فيكون لأحدهما في الدنيا أو الآخرة حكم ليس للآخر وهذا باطل قطعاً. وقال في ((الكفاية)) : الإيمان هو تصديق الله فيما أخبر من أوامره ونواهيه، والإسلام هو الانقياد والخضوع لألوهيته، وإذا لا يتحقق إلا بقبول الأمر والنهي، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكماً فلا يتغيران، وإذا كان المراد بالاتحاد هذا المعنى صح التمسك فيه بالإجماع، على أنه يمتنع أن يأتي أحد بجميع ما اعتبر في الإسلام ولا يكون مؤمناً، وعلى أنه ليس للمؤمن حكم لا يكون للمسلم وبالعكس، وعلى أن دار الإيمان دار الإسلام وبالعكس، وعلى أن الناس كانوا في عهد النبي عليه السلام ثلاث فرق مؤمن وكافر ومنافق لا رابع لهم 1. ويقول إمام الجويني في العقيدة النظامية: " فإن قيل هل يفرق بين الإيمان والسلام، قلنا: وقد يطلق والمراد به الإذعان والاستسلام ظاهراً من غير إظهار حقيقة الإيمان، قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فالمؤمن إذن المستسلم، وقد لا يكون المستسلم مؤمناً   1 التفتازاني، سعد الدين عمر، شرح المقاصد، ج2 ص259-260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فكل مؤمن على ذلك مسلم وليس كل مسلم مؤمناً " 1. فمما تقدم من النصوص يتضح لنا أن مذهب الأشاعرة في الصلة بين الإيمان والإسلام مبني على الخلاف إذ لم يتفقوا فيها على رأي بل اختلفوا في ذلك على قولين: 1 ـ أن الإيمان والإسلام متغايران ذاتاً ومفهوماً مع القول بتلازمهما شرعاً في الوجود بمعنى أنه لا يوجد مسلم ليس بمؤمن، كما أنه لا يمكن وجود مؤمن ليس بمسلم مع اختلاف حقيقتي الإيمان والإسلام. وهذا الرأي عزاه ـ كما تقدم ـ الشيخ اللقاني إلى جمهور الأشاعرة، وهو ما اختاره إمام الحرمين نفسه وقال به كما يتضح لنا من كلامه المتقدم، ولعله قصد بقوله فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً أن الانقياد والاستسلام قد يحصل بدون تصديق فلا يعتد به، أما التصديق إذا حصل فلا بد وأن ينتج الانقياد والاستسلام الذي هو معنى الإسلام فيكون بذلك مؤمناً مسلماً وإلا فهو يقول ـ كغيره من أصحاب هذا الرأي ـ بالتلازم بين الإيمان والإسلام في الوجود. وقد قال بهذا القول وأيده بشدة تاج الدين السبكي في ((طبقات الشافعية)) 2. 2 ـ أن الإيمان والإسلام متحدان، بمعنى أنهما مترادفان مفهوماً ومراداً، ومتساويان في الوجود، فكل متصف بأحدهما، فهو متصف بالآخر من الناحية الشرعية. وهذا يشبه ما تقدم في الرأي الأول من القول بالتلازم في الوجود، مما حدا بشارح ((جوهرة التوحيد)) إلى اعتبار الخلاف بين الرأيين لفظي باعتبار النتيجة والمآل، وهو في الحقيقة كذلك.   1 إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني، العقيدة النظامية، بتحقيق محمد زاهد الكوثري، ص63، ط مطبعة الأنوار، سنة 1367هـ ـ 1948م. 2 السبكي، تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي، طبقات الشافعية، تحقيق محمود محمد الطناحي، وعبد الفتاح محمد الحلو، ط1 مطبعة عيسى الحلبي، سنة 1383هـ ـ 1964م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 فعند هؤلاء لا يعقل بحسب الشرع مؤمن ليس بمسلم أو مسلم ليس بمؤمن، وهو مرادهم من الترادف. وهذا الرأي ـ كما تقدم ـ اختيار الشيخ التفتازاني وعزاه إلى الجمهور، ورواه عن أبي المعين النسفي من كتابه ((تبصرة الأدلة)) ، وضمنه بعض الأدلة على إثباته وترجيحه. فمن أدلته: الإجماع على أنه لا يمكن أن يأتي أحد بجميع ما اعتبر في الإيمان ولا يكون مسلماً، أو بجميع ما اعتبر في الإسلام ولا يكون مؤمناً، وعلى أنه ليس للمؤمن حكم خاص به ولا يكون للمسلم وبالعكس إلى ما آخر ما ذكر من المسائل. وقد ساق بعد ذلك أدلتهم السمعية بقوله: " والمشهور من استدلال القوم وجهان: أحدهما: أن الإيمان لو كان غير الإسلام لم يقبل من مبتغيه لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 1. وثانيهما: أنه لو كان غيره لم يصح استثناء أحدهما من الآخر … لقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2 أي فلم نجد ممن كان فيها من المؤمنين إلا أهل بيت من المسلمين " 3. وبعد أن ذكر التفتازاني هذا الرأي، واستدل له، التفت إلى الرأي الآخر وعزاه إلى الحشوية ـ على حد تعبيره ـ وبعض المعتزلة، وهو رأي في نظره باطل. وأنا أقول: إن هذا الرأي الذي أبطله، وأنكر أن يكون قد تبناه جماعة من الأشاعرة، يعتد بقولهم، أقول: إن هذا الرأي هو الذي يتناسب مع ما سبق تقريره من أن الإيمان عند الأشاعرة هو التصديق فقط، واعتبار الأعمال التي تمثل الإسلام من لوازم ذلك التصديق. وأصحاب القول بالترادف من   1 آل عمران: 85. 2 الذاريات: 35،36. 3 التفتازاني، شرح المقاصد، ج2 ص260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الأشاعرة قد شعروا بوجود تناقض بين مذهبهم في حقيقة الإيمان، ومذهبهم في القول بالترادف بين الإيمان والإسلام، لذلك حاولوا تفسير وجهة نظرهم بأن المراد بالترادف، الترادف في المراد، بمعنى أن المراد من الإيمان الإذعان بالقلب، والإسلام الإذعان بالجوارح. والمعنيان واحد وكلاهما مطلوب شرعاً، والمراد منهما واحد وهو الإذعان. كما يتضح ذلك من كلام التفتازاني السابق. وقد سبق أن ذكرت عند بيان رأي السلف في هذه المسألة، أن الخلاف بينهم تمَّ على رأيين أيضاً، هما القول بالترادف، والافتراق، وذكرت أن الرأي الصائب هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من القول بالافتراق مع التلازم الشديد بينهما إلى درجة أنه لا يمكن أن يتصور وجود أحدهما بدون الآخر، وأن هذا الرأي هو الذي تجتمع عليه الأدلة، حيث لا يخفى ما بينهما من بُعد لا يمكن أن تجتمع معه إلا على مثل هذا الرأي القائل بالتلازم، بحيث أن الإيمان إذا ذكر منفرداً كما في حديث وفد عبد القيس دخل فيه الإسلام لا محالة؛ وإذا ذكر الإسلام منفرداً دخل الإيمان فيه أيضاً. وإذا ذُكرا مجتمعين ـ كما في حديث جبريل ـ افترقا فيراد من أحدهما غير ما يراد من الآخر من حيث المعنى. والرأي القائل بالترادف عند السلف، له وجهة لا تتعارض مع رأيهم في حقيقة الإيمان، لإطلاقهم الإيمان على الأعمال، وجعلها جزءاً منه بدلالة النصوص، بخلاف رأي الأشاعرة القائل بالترادف، فإنه يتعارض مع مذهبهم القائل بأن الإيمان تصديق قلبي فحسب، والأعمال لوازم للإيمان، فهي غيره، هذا ما يقتضيه مذهبهم. بقي أن أذكر أدلة القائلين بالتغاير، فمن أدلتهم قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 1 حيث أثبت أحدهما ونفى الآخر.   1 الحجرات: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 واستدلوا على التغاير أيضاً بعطف أحدهما على الآخر، والعطف ـ كما يقولون ـ دليل على المغايرة، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} والتسليم هو الإسلام. وبأن جبريل لما جاء لتعليم الدين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كل منهما على حدة، وأجاب النبي لكلٍّ بجواب وذلك أنه قال: " أخبرني عن الإيمان. فقال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله … قال: أخبرني عن الإسلام. فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله … ". وذلك حديث جبريل المشهور، ولا يخفى قوة أدلة كل من الفريقين لا يجمعهما إلا ما ذكرت آنفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 المبحث الثالث مذهب الأشاعرة في زيادة الإيمان ونقصه هذه المسألة اختلفت آراء الأشاعرة فيها، فلم يثبتوا على رأي واحد، بل منهم من منع القول بزيادة الإيمان ونقصه، ومنهم من أثبتها، وبعض آخر أثبت الزيادة ومنع النقصان ولكلٍّ وجهة تختلف عن وجهة الآخر ودليل غير دليله. فقد ذكر البغدادي أن من ذهب من الأشاعرة إلى القول بأن الإيمان تصديق بالقلب فقط منع القول بالنقصان، واختلفوا في الزيادة وقد اختار هو القول بالزيادة والنقصان وساق الأدلة على ذلك 1. وقد ذكر صاحب ((المواقف)) عن الإمام الرازي وكثير من المتكلمين رأيهم بأنه بحث لفظي، لأنه فرع تفسير الإيمان، فمن قال هو التصديق فليس هو قابلاً للزيادة والنقصان، وعللوه بأن الواجب هو اليقين وأنه لا يقبل التفاوت لا بحسب ذاته، لأن التفاوت إنما هو لاحتمال النقيض وهو ـ أي احتماله ـ ولو بأبعد وجه ينافي اليقين فلا يجامعه، ولا بحسب متعلقه، لأنه جميع ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، والجميع من حيث هو جميع لا يتصور فيه تعدد، وإلا لم يكن جميعاً، وإن قلنا هو الأعمال، إما وحدها أو مع التصديق فيقبلهما وهو ظاهر 2. وهذا القول ـ أي أن الخلاف   1 انظر: أصول الدين للبغدادي، ص252، ط مطبعة الدولة باستانبول، سنة 1346هـ ـ 1928م. 2 انظر: المواقف بشرح الجرجاني، ج8 ص330، ط مطبعة السعادة، مصر، سنة 1325هـ ـ 1907م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 في مسألة زيادة الإيمان ونقصه لفظي ـ في نظري غير صحيح، لأن ثمة من قال بأن الإيمان هو التصديق، ومع ذلك قال إن الإيمان يزيد وينقص بحسب ذاته أي التصديق نفسه يزيد وينقص، وبحسب متعلقه وهي أفراد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يجب التصديق به. وممن قال بأن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصه لفظي الإمام أبو حامد الغزالي 1. على أنني أحب أن أنبه هنا إلى أنهم لا يقصدون بقولهم: إن الخلاف لفظي أن الآراء ترجع إلى رأي واحد إما القول بالزيادة والنقصان أو عدمهما على تعددها، بل المقصود أن الرأي في ذلك فرع عن الرأي في حقيقة الإيمان. ثم إن عضد الدين الإيجي صاحب ((المواقف)) ، رجح القول بأن الإيمان يزيد وينقص حتى وإن كان التصديق وحده حيث قال: والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان لوجهين: أي بحسب الذات وبحسب التعلق. الأول: القوة والضعف من التصديق من الكيفيات النفسانية المتفاوتة قوة وضعفاً. الثاني: من وجهَي التفاوت ـ أعني ما هو بحسب المتعلق ـ أن يقال: التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان يثاب عليه ثوابه على تصديقه بالإجمال، يعني أن أفراد ما جاء به متعددة وداخلة في التصديق الإجمالي. فإذا علم واحداً منها بخصوصه وصدق به، كان هذا تصديقاً مغايراً لذلك التصديق المجمل، وجزءاً من الإيمان. ولا شك أن التصديقات التفصيلية تقبل الزيادة فكذلك الإيمان، والنصوص كنحو قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} دالة على قبوله لهما ـ أي قبول الإيمان للزيادة والنقصان ـ بالوجه الثاني، كما أن نص قوله   1 انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي، تحقيق الدكتور عادل العوا، ص208، ط1 بدار الأمانة، بيروت، سنة 1388هـ ـ1969م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} دل على قبوله لهما بالوجه الأول 1. هذا ما ارتضاه صاحب ((المواقف)) ، وقد رد على من قال من أصحابه بأن الإيمان ـ الذي هو التصديق عندهم لا يزيد ولا ينقص بقوله: قولكم الواجب اليقين والتفاوت لا يكون إلا لاحتمال النقيض ـ قلنا لا نسلم أن التفاوت لذلك الاحتمال فقط، إذ يجوز أن يكون بالقوة والضعف بلا احتمال للنقيض ـ ثم ذلك الذي ذكرتموه يقتضي أن يكون إيمان النبي صلى الله عليه وسلم وآحاد الأمة سواء، وأنه باطل إجماعاً. ولقول إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فإنه يدل على قبول التصديق اليقيني للزيادة كما سلف تقريره والظاهر أن الظن الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض بالبال حكم حكم اليقين، في كونه إيماناً حقيقياً، فإن إيمان أكثر العوام من هذا القيبل، وعلى هذا فكون التصديق الإيماني قابلاً للزيادة واضح وضوحاً تاماً 2. وقد ذكر تاج الدين السبكي أن هناك جماعة قالوا بأن الإيمان هو التصديق، ومع ذلك قالوا أيضاً بأنه يزيد وينقص، وأنهم إنما ذهبوا هذا المذهب ليجمعوا بين كلام السلف القائلين بأن الإيمان يتجزأ وما أنكروا أن يكون تصديقاً، وبين قول أبي الحسن الأشعري القائل بأنه التصديق فقط، وما أنكر أن يصح تجزؤه فجمعوا بين الأمرين بأن قالوا: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال ونقصانها، وقالوا: إن في هذا توفيقاً بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة، وأقاويل السلف وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون، وممن قال بهذا الرأي من متكلمي الأشاعرة الآمدي في كتابه ((أبكار الأفكار)) 3.   1 المواقف بشرح الجرجاني،ج8 ص331، ط مطبعة السعادة، مصر، سنة 1325هـ ـ 1907م. 2 المصدر السابق نفسه. 3 انظر: طبقات الشافعية لتاج الدين السبكي، بتحقيق محمود محمد الطناحي، وعبد الفتاح محمد الحلو، ج1 ص131-132، ط1 مطبعة عيسى الحلبي، سنة 1383هـ ـ 1964م، وشرح صحيح مسلم للإمام النووي، ج1 ص148، ط المطبعة المصرية ومكتبتها، بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وقد استحسن الإمام النووي من محدثي الأشاعرة هذا الرأي إلا أنه مال إلى القول بأن نفس التصديق يزيد وينقص حيث قال: " وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهراً حسناً فالأظهر ـ والله أعلم ـ أن نفس التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر، وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة، ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك. فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: أردكت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل " 1 اهـ. ويتبين لنا مما تتقدم أن الأشاعرة اختلفوا في زيادة الإيمان ونقصه على النحو التالي: 1 ـ أن الإيمان هو التصديق، وهو لا يزيد ولا ينقص، ولهم في ذلك حجة عقلية بحتة وهي أن الإيمان عبارة عن التصديق الجازم البالغ حد اليقين. واليقين لا يقبل التفاوت، لأن التفاوت فيه إنما هو لاحتمال النقيض، واحتمال النقيض الذي هو الشك ينافي اليقين. وهذا قول جماعة قليلة من الأشاعرة ويُنسب إلى أبي الحسن الأشعري نفسه، وهو غير صحيح، لأن ما صرح به في كتاب ((الإبانة)) الذي هو آخر ما صنف يثبت أنه يقول بزيادة الإيمان ونقصه 2 كما أسلفنا.   1 النووي، المصدر نفسه ص149. 2 انظر: كتاب الإبانة عن أصول الديانة للأشعري، ص10، ط إدارة الطباعة المنيرية بالأزهر، بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 2 ـ أن الإيمان الذي هو التصديق أيضاً يزيد وينقص، ولأصحاب هذا القول مسلكان: أـ القول بأن التصديق نفسه يزيد وينقص، فيصح إطلاق القول بالزيادة والنقصان على الإيمان بحسب الذات الذي هو التصديق، وبحسب المتعلق، وهو أفراد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يجب الإيمان به، وقد استدل هؤلاء على كلا الأمرين. فاستدلوا على زيادة التصديق ونقصانه بحسب ذاته بدليل عقلي وآخر نقلي، فدليلهم العقلي هو " أن التصديق القلبي يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة، وعدم ذلك، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقيناً وإخلاصاً منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها " 1. أما ما استدلوا به من النقل فقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فاطمئنان القلب الذي هو أقصى درجات التصديق هو ما قصده إبراهيم عليه السلام وإلا فهو مصدق دون شك. كما استدلوا على أن الإيمان يزيد وينقص بحسب متعلقة بأن التصديق التفصيلي في أفراد ما وجب عليه الإيمان به جزء من الإيمان يثاب عليه، كما يثاب على تصديقه بالكل. وأضافوا الى ذلك الآيات المصرحة بزيادة الإيمان. ولا شك أن القابل للزيادة قابل للنقصان. ب ـ المسلك الثاني: القول بأن الإيمان يزيد وينقص بحسب متعلقه فقط، أما التصديق نفسه فلا يزيد ولا ينقص، وقد ذهبوا هذا المذهب ليكون جمعاً بين رأي السلف القائل بأن الإيمان يتجزأ والتصديق   1 اللقاني، عبد السلام بن إبراهيم المالكي، اتحاف المريد بجوهرة التوحيد، ص43، تحقيق الشيخ محمد يوسف الشيخ، ط1 سنة 1379هـ ـ 1960م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 داخل فيه، وقول القائلين بأنه التصديق فقط ولم ينكروا أنه يتجزأ. ووجه الجمع: أن الكل اتفقوا على أن الإيمان يتجزأ سواء هو التصديق وحده أو التصديق والعلم فتقول: إن التصديق الذي هو أصل الإيمان لا يزد ولا ينقص، والزيادة والنقصان إنما تكون في الأعمال التي هي ثمرات الإيمان والإيمان يُطلق عليها حقيقة عند قوم، ومجازاً عند آخرين. ويكون في هذا جمع بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة، وأقاويل السلف، وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون من أنه التصديق فقط. 3 ـ أما الرأي الثالث وهو القول بأن الإيمان يزيد ولا ينقص ـ فهذا رأي قليل الأنصار واضح البطلان ولولا الوفاء بتعداد الآراء لما استحق الذكر، إذ أنه لا يتصور شيئ قابل للزيادة، غير قابل للنقصان. والراجح من هذه الآراء الذي عليه جمهور الأشاعرة هو الرأي القائل بأن الإيمان يزيد وينقص وإن كان هو التصديق وحده. " لأن التفاوت لا يكون باحتمال النقيض بل بالقوة والضعف، ولليقين مراتب، من أجلى البديهيات إلى أخفى النظريات، فما يُعلَم بداهة أقوى يقيناً مما يُعلَم نظراً، وما يُعلَم بأدلة أوضح وأكثر وأشد يقيناً من غيره " هكذا قال المعلِّق على شرح ((جوهرة التوحيد)) . هذا هو رأي الأشاعرة في زيادة الإيمان ونقصه واختلافهم كما رأيت يدور حول هل التصديق نفسه يزيد وينقص، أم أن الزيادة والنقصان تكون من قِبَل ثمراته التي هي الأعمال، فالمسألة خلافية بينهم، ولكن ما عليه جمهورهم هو ما تقدم ذكره، والله أعلم.   انظر: اتحاف المريد بجوهرة التوحيد، تعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ، ط سنة 1379هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 المبحث الرابع رأي الأشاعرة في مرتكب الكبيرة اتفق الأشاعرة على انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر. أما الصغائر فقد ذكر شارح ((المقاصد)) اتفاق الأمة عن أن الله تعالى يعفو عنها مطلقاً 1 ويفهم منه أن الأشاعرة مجمعون على ذلك، إلا أن شارح ((جوهرة التوحيد)) ذكر رأيين في هذه المسألة بعد أن ذكر الاتفاق على ترتيب التكفير على اجتناب الكبائر، فقال: ذهب أئمة الكلام إلى أنه لا يجب التكفير على القطع بل يجوز ويغلب على الظن ويقوى فيه الرجاء، لأنا لو قطعنا لمجتنب الكبائر بتكفير صغائره بالاجتناب، لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بأنه لا تبعة فيه. وذلك نقض لعُرى الشريعة،فقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} معناه إن شئنا حملاً له على قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . وذهب جماعة من الفقهاء والمحدثين والمعتزلة إلى أن المكلف إذا اجتنب الكبائر كفرت صغائره قطعاً ولم يجز تعذيبه عليها، بمعنى أنه لا يجوز أن يقع لقيام الأدلة السمعية على عدم وقوعه كقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ … } والنظم ظاهر في هذا الثاني وهو أشهر من الأول عندهم، ومبنى القولين جواز العقاب على الصغيرة وامتناعه   1 شرح المقاصد، ج2 ص235، ودعوى اتفاق الأمة غير صحيح، فخلاف الخوارج مشهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 والأول هو الحق 1. وهذا الكلام يدل على انقسام القوم في غفران الصغيرة إلى رأيين. أحدهما: القول بأنها تُغفَر قطعاً نظراً لوعد الله سبحانه وتعالى بذلك في كتابه حيث قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} 2، وهذا إيجاب منه تعالى على نفسه بغفران الصغائر إذا اجتُنِبَت الكبائر فلا بد وأن الصغائر تغفر لا محالة تفضلاً منه سبحانه. وهذا الرأي هو المذهب المشهور عن الأشاعرة كما ذكر ذلك شارح ((المقاصد)) الذي يعتبر كتابه من أشهر الكتب التي يعتمد عليها أصحابه. أما الرأي الثاني فهو القول بأن الصغائر يجوز أن تغفر، ولا نقول بالقطع لأن في ذلك إغراءاً بفعلها، وهو دليل عقلي بحت ولا يخفى ما بين الرأيين من تقارب؛ إذ كلها تتفق على أن الصغائر تغفر إذا اجتنبت الكبائر تفضلاً والخلاف في القطع بذلك أو عدمه. ولكن الرأي الذي يسنده الدليل هو القائل بأنه تغفر قطعاً إذا اجتنبت الكبائر لوضوح الأدلة على ذلك، ولا تخفى مؤاخذة صاحبها إن كانت تجرّه إلى فعل الكبيرة. هذا بشأن حكم الصغيرة عند الأشاعرة أما حكم مرتكبي الكبائر، فالكلام في ذلك ذو شقين أحدهما الكلام في صفته وتسميته في الدنيا، والثاني الكلام في حكمه الأخروي. فأما تسميته وحكمه الدنيوي فقد ذهبوا إلى القول بأن مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق، لأن ارتكاب الكبيرة لا يُذهِب إيمانه كما ذهب إليه المعتزلة وإنما يؤثر فيه بالنقصان، فيُسلب منه كمال الإيمان، ويُقيَّد بما اتصف به من معصية وفسق، فيقال مؤمن فاسق. وفي هذا يقول أبو بكر الباقلاني في ((التمهيد)) : فإن قال قائل: فخبِّروني عن الفاسق الملِّي هل تسمونه مؤمناً بإيمانه الذي فيه، وهل تقولون إن فسقه لا يضاد إيمانه؟ قيل له: أجل، فإن قال: فلمَ قلتم إن الفسق الذي ليس   1 اللقاني، عبد السلام بن إبراهيم المالكي، اتحاف المريد بجوهرة التوحيد، ص158، تعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ،ط سنة 1379هـ ـ 1960م. 2 النساء: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 بجهل بالله لا يضاد الإيمان؟ قيل له: لأن الشيئين إنما يتضادان في محل واحد، وقد علمنا أن ما يوجد بالجوارح لا يجوز أن يُنفى علماً وتصديقاً، يوجد بالقلب فثبت أنه غير مضاد للعلم بالله والتصديق له. والدليل على ذلك أنه قد يعزم على معصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقلبه من لا ينفي عزمه على ذلك معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتصديقه له، وكذلك حكم القول في العزم على معصية الله عز وجل، وأنه غير مضاد لمعرفته والعلم به، والتصديق له هو الإيمان لا غير. فصح بذلك اجتماع الفسق الذي ليس بكفر مع الإيمان وأنهما غير متضادين. فإن قال: ولم قلتم إنه يجب أن يسمى الفاسق الملي بما فيه من الإيمان مؤمناً؟ قيل له: لأن أهل اللغة إنما يشتقون هذا الاسم للمسمى به من وجود الإيمان به، فلما كان الإيمان موجوداً بالفاسق الذي وصفنا حاله، وجب أن يسمى مؤمناً كما أنه لما لم يضاد ما فيه من الإيمان فسقه الذي ليس بكفر وجب أن يسمى به فاسقاً. وأهل اللغة متفقون على أن اجتماع الوصفين المختلفين لا يوجب منع اشتقاق الأسماء منهما، ومن أحدهما، فوجب بذلك ما قلناه 1. فمما تقدم يتبين لنا الرأي ودليله، وذلك الدليل الذي ساقه الباقلاني ذو شقين، أحدهما عقلي والآخر لغوي. أما العقلي: فيقول إن الفسق لا يضاد الإيمان، لأن التضاد بين الشيئين لا يكون إلا إذا وجدا في محل واحد، والمعصية التي بها يكون الفسق محلها الجوارح، والإيمان عندهم محله القلب فقط. وما يوجد بالجوارح لا يجوز أن ينفي ما يوجد بالقلب، لأنه غير مضاد له، إذ قد يعص الله تعالى من هو مصدق بقلبه بالله ورسله، فصح بذلك اجتماع الفسق والإيمان. وأما اللغوي: فهو أن أهل اللغة يشتقون تسمية الشيئ من صفة توجد   1 الباقلاني، أبو بكر محمد بن الطيب، كتاب التمهيد، ص349-350، نشر المكتبة الشرقية، بيروت، سنة1957م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فيه، والإيمان الذي هو التصديق القلبي موجود في الفاسق الذي عصى الله تعالى بعمل قبيح صدر عن الجوارح غير مضاد للإيمان. وهذان الدليلان ـ كما هو واضح ـ مبنيان على مذهبهم القائل بأن الإيمان هو التصديق القلبي بالله وملائكته وكتبه ورسله، الذي تقدم بيانه، وأن أعمال الجوارح إنما هي ثمرات ذلك التصديق القلبي، وليست ركناً فيه، ولا جزءاً في مفهومه. وهم موافقون للسف في إطلاقهم هذه الصفة على مرتكب الذنب الكبير وقد تقدم استدلالهم على هذه التسمية بمثل قوله تعالى في شأن حاطب بن أبي بلتعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ … } فقد خاطبه باسم الإيمان مع ما ارتكبه من عظيم الذنب بشأن الله ورسوله في قصته المشهورة ومثل قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فسماهم مؤمنين مع اقتتالهم، وغير ذلك من الآيات التي تطلق على فاعل الذنب الكبير اسم المؤمن، وذلك أيضاً دليل للأشاعرة لأنهم يرون نفس الرأي. أما الحكم الأخروي لمرتكب الكبيرة عند الأشاعرة، فإنهم أيضاً يوافقون السلف فيه. حيث فوَّضوا أمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه بعدله وإن شاء غفر له بفضله وذلك إذا مات المذنب من غير توبة، وعن سابق إصرار وفي ذلك يقول البغدادي من الأشاعرة: " … فأما أصحاب الذنوب من المسلمين إذا ماتوا قبل التوبة فمنهم من يغفر الله عز وجل له قبل تعذيب أهل العذاب، ومنهم من يعذبه في النار مدة ثم يغفر له ويرده إلى الجنة برحمته " 1. ويقول الشيخ عبد السلام بن إبراهيم اللقاني في شرح ((جوهرة التوحيد)) : " … فذهب أهل الحق إلى أنه لا يقطع له بعفو ولا عقاب، بل هو في مشيئة الله سبحانه وتعالى، وعلى تقدير وقوع العقاب عدلاً   1 البغدادي، أبو منصور عبد القاهر بن طاهر، أصول الدين، ص242، ط1 مطبعة الدولة، استانبول، سنة1346هـ ـ 1928م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 منه سبحانه وتعالى يقطع له بعدم الخلود في النار … ". ولا نعلم خلافاً للأشاعرة في هذه المسألة. ويتبين لنا مما تقدم أن معتقد القوم في مرتكب الكبيرة أنه لا يقطع عليه بحكم ما، بل يفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى، إن شاء غفر له ذنوبه ابتداءً من غير سابق تعذيب فيدخله الجنة بفضله ورحمته، وإن شاء أدخله النار وعذبه بقدر جرمه ثم أخرجه منها وأدخله الجنة. وكل هذا يستندون فيه إلى أدلة شرعية منها ما يدل على إمكان غفران الذنوب، ومنها ما يدل على عدم تخليد المذنب المؤمن إذا هو أدخل النار لمعاقبته التي تتم بعدل من الله سبحانه وتعالى. فمن النصوص التي استدلوا بها على غفران الذنوب ما عدا الشرك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} إلى غير ذلك مما استدلوا به على هذه المسألة مما ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه مما تقدم ذكره في بيان مذهب السلف، فلا داعي لتكراره. ثم إنهم استدلوا على هذه المسألة أيضاً بأن العقاب حقه تعالى فيحسن إسقاطه مع أن فيه نفعاً للعبد من غير ضرر لأحد. أما دليلهم على أن من عُذب من العصاة لا يخلد في النار فهو أيضاً عين ما استدل به السلف من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة " قالوا: وليس ذلك استقامة الكلام: خاصاً بما قبل دخول النار بل قد يكون بعده. وهي مسألة انقطاع العذاب أو بدونه وهي مسألة العفو التام. ومن أدلتهم أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " إلى غير   انظر: اتحاف المريد بجوهرة التوحيد، تعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ، ص173، ط سنة 1379هـ. النساء: 48. الزمر: 53. عبد السلام بن إبراهيم اللقاني، المصدر السابق ص172. المصدر نفسه ص174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ذلك من الأدلة التي سبق ذكرها عند بيان مذهب السلف في هذه المسألة والتي يتفق الأشاعرة معهم فيها. وقصارى القول في هذه المسألة: أن الأشاعرة يتفقون مع السلف فيها من ناحية الاعتقاد وطريقة الاستدلال، ولزيادة التفصيل والبيان يرجع لما تقدم تقريره في مذهب السلف، والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 المبحث الخامس الاستثناء في الإيمان عند الأشاعرة ذهب الأشاعرة في هذه المسألة إلى أن الإيمان الذي يتصف به الإنسان في الحال مقطوع به لا يجوز الاستثناء فيه وإنما يجوز الاستثناء في الإيمان باعتبار الموافاة في المستقبل. وفي ذلك يقول التفتازاني في شرح ((المقاصد)) بعد ذكره للآراء الواردة في هذه المسألة يقول: " … الثالث وعليه التعويل ما قال إمام الحرمين: أن الإيمان ثابت في الحال قطعاً من غير شك فيه، لكون الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة إيمان الموافاة، فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة، ولم يقصدوا الشك في الإيمان الناجز. ومعنى الموافاة الإتيان والوصول إلى آخر الحياة وأول منازل الآخرة، ولا خفاء في أن الإيمان المنجي والكفر المهلك ما يكون في تلك الحال، وإن كان مسبوقاً بالضد لا ما ثبت أولاً، وتغير إلى الضد. فلهذا يرى الكثير من الأشاعرة ـ (يبنون القول بأن العبرة بإيمان الموافاة) 1 وسعادتها بمعنى أن ذلك هو المنجي، لا بمعنى أن إيمان الحال ليس بإيمان وكفره ليس بكفر، وكذا السعادة والشقاوة، والولاية والعداوة، … وبالجملة لا يشك المؤمن في ثبوت الإيمان وتحققه في الحال، ولا في الجزم بالثبات والبقاء عليه في الحال، لكن يخاف سوء الخاتمة ويرجو حسن العاقبة، فيربط إيمان   1 هكذا في الأصل المطبوع: ولعل الكلام فيه نقص واستقامته: يبنون القول بجواز الاستثناء على أن العبرة. . الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الموافاة الذي هو آية النجاة ووسيلة نيل الدرجات بمشيئة الله جرياً على مقتضى قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} " 1. فإذاً نتبين مما تقدم أن المسألة ذات شقين، أحدهما: عدم جواز الاستثناء في الإيمان الناجز، لأن ذلك يُعتبر شكاً في الإيمان والشاك في إيمانه لا يُعتبر مؤمناً، فإذا سئل أمؤمن هو؟ جزم بالإيجاب لا بالتعليق بالمشيئة. وثانيهما: جواز الاستثناء باعتبار واحد فقط، وهو أن الإيمان المعتبر في النجاة من النار ودخول الجنة هو ما يختم به للإنسان فيستثنى من أجل أنه لا يدري ما يوافي الله به من الإيمان لأن خاتمة مجهولة مع رجائه أن تكون حسنة. وهذا هو المذهب المشهور عن الأشاعرة. كما ذكر البغدادي أنهم مختلفون في ذلك وبيَّن اختلافهم بقوله: " والقائلون بأن الإيمان هو التصديق من أصحاب الحديث مختلفون في الاستثناء فيه فمنهم من يقول به، وهو اختيار شيخنا أبي سهل محمد بن سليمان الصعلوكي، وأبي بكر محمد بن الحسين بن فورك، ومنهم من ينكره وهذا اختيار جماعة من شيوخ عصرنا، منهم أبو عبد الله بن مجاهد، والقاضي أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرائيني" 2. ووجهة المجيزين ما تقدم ذكره، أما المانعون منه فلا دليل لهم إلا أنهم يعتبرون ذلك شكاً، والشك في الإيمان غير جائز. وينضم إلى أدلة المجيزين لهذه المسألة ما تقدم ذكره عند بيان مذهب السلف من مثل قوله عليه السلام عند زيارة القبور: " إنا إن شاء الله بكم لاحقون " وقوله تعالى:   1 التفتازاني سعد الدين، شرح المقاصد، ج2 ص263-264، ط مطبعة الحاج محرم أفندي، سنة 1305هـ. 2 البغدادي، أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي، أصول الدين، ص253، ط1 مطبعة الدولة باستانبول، سنة 1346هـ ـ 1928م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} حيث كان الاستثناء في أمر مقطوع به، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الباب الثالث: موقف السلف من أراء مذاهب المتكلمين الفصل الأول: موقف السلف من آراء المتكلمين في حقيقة الإيمان ... الفصل الأول موقف السلف من آراء المتكلمين في حقيقة الإيمان جمعاً لشتات آراء المتكلمين في حقيقة الإيمان، أوجزها فيما يأتي فأقول: إن حاصل ما تقدم من الآراء في حقيقة الإيمان يمكن إجمالها في نوعين: مفرد ومركب. فالبسيط منها ثلاثة: 1 ـ التصديق الذي هو رأي المرجئة والمختار عند الأشاعرة وبعض الأحناف. 2 ـ المعرفة وهذا رأي جهم بن صفوان الترمذي. 3 ـ الإقرار فقط وهو ما ذهبت إليه الكرامية. أما المركب فاثنان: واحد منهما للمتكلمين من الأحناف وبعض الأشاعرة وهو التصديق والإقرار. وثانيهما: ما ذهب إليه السلف، والمعتزلة والخوارج من المتكلمين من أنه تصديق، وإقرار، وعمل. ويلاحظ من آراء المتكلمين السالفة الذكر أنهم يجمعون على تأخير العمل عن الركنية في الإيمان وعدم دخوله فيه ما عدا الخوارج والمعتزلة طبعاً. وإليك موقف السلف من هذا الرأي. 1 ـ موقف السلف من المتكلمين في تأخيرهم العمل عن الإيمان: لقد وقف السلف من هذا الرأي موقفاً ينكرون فيه صحته ويقررون ضده، فقد تقدم أن السلف قالوا بدخول الأعمال في الإيمان، وأنها ركن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ثالث من أركانه، واعتبروا ما عدا هذا الرأي رأياً خاطئاً، معارضاً لما ورد من نصوص تطلق على الأعمال إيماناً، فنصوص الكتاب والسنة، مليئة بما يصعب حصره مما يدل على هذا الرأي. وكمثال لهذا الاستدلال الذي يتضمن الرد على الرأي المخالف، ما ذكره الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ـ رحمه الله ـ من نصوص صريحة ورتَّبها ترتيباً قصد به الرد على من أخر العمل عن الإيمان. وإليك بعضاً من النصوص التي أوردها والمنهج الذي سلكه، فقد وضع ـ رحمه الله ـ تراجم، وأدرج تحتها ما يدل عليه من آية أو حديث حيث قال: " باب أمور الإيمان " 1 ثم ساق قول الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} 2. وساق بعد هذه الآية حديث شعب الإيمان. ثم بدأ بعد ذلك يعقد باباً لكل خصلة من خصال الإيمان فقال: " باب المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده " 3. ثم ساق حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ". وقال أيضاً: " باب قيام ليلة القدر من الإيمان " 4ثم ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ". و" باب الجهاد من الإيمان " 5و " باب تطوع قيام رمضان من الإيمان " 6   1 انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، ج1 ص50. 2 البقرة: 177. 3 صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، ج1 ص53. 4 المصدر نفسه ص91. 5 المصدر نفسه ص 92. 6 المصدر نفسه ص 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 و " باب الصلاة من الإيمان " 1 ثم ساق قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} 2، إلى غير ذلك مما ذكره رحمه الله. وقد عُرف هذا المنهج واشتهر بين العلماء. وهو منهج قصد به الرد على المرجئة، ومن وافقهم في إخراج العمل عن الركنية في الإيمان. ووجه الاستدلال بما تقدم ذكره: أن كتاب الله رسنة رسوله أطلقت على الأعمال اسم الإيمان، فالجهاد من الإيمان والصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة وجميع أعمال البر، فكيف يصح القول بأن الأعمال ليست من الإيمان مع أن الشارع الحكيم أطلق عليها إيماناً. وزعم خلاف ذلك باطل يشتمل على مخالفة واضحة، وصريحة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فواجبنا الاتباع فيما قرره الوحي. وما قاله البخاري وقرره، هو بعينه رأي السلف جميعاً، وقد بدَّعوا من خالفه وأنكروا عليهم رأيهم. وقد قرر هذا المعتقد، وبين هذا الموقف من جانب السلف (الإمام أحمد) في كتاب السنة، حيث بين أن المذهب الصحيح هو القائل بتركب الإيمان من أمور ثلاثة وأن الأعمال أحد هذه الأركان، وقرر الأدلة التي قال بها البخاري ومن نحا نحوه 3. فإذاً السلف تمسكوا بالوحي الذي يؤمن به الجميع وردوا على مخالفيهم بالنصوص الصحيحة الصريحة. وبالإضافة إلى هذه الطريقة المثلى في إثبات المعتقد والرد على الخصوم ـ سلكوا طريقاً آخراً لإفساد رأي من أخَّر العمل عن الإيمان وهو طريق الإلزام حيث ذكر ابن تيمية عن أبي ثور قوله في الرد على أصحاب هذا الرأي: … فأما الطائفة التي ذهبت إلى أن العمل ليس من الإيمان، فيقال لهم: ماذا أراد الله من العباد إذ قال لهم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 4 الإقرار بذلك أو الإقرار والعمل؟ فإن قالت: إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل، فقد كفرت.   1 المصدر نفسه ص95. 2 البقرة: 143. 3 انظر: كتاب السنة للإمام أحمد، ص72-106، ط المطبعة السلفية، سنة 1349هـ. 4 البقرة: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 … وإن قالت: أراد منهم الإقرار والعمل ـ قيل: فإذا كان أراد منهم الأمرين جميعاً، لِمَ زعمتم أنه يكون مؤمناً بأحدهما دون الآخر، وقد أرادهما جميعاً؟ أرأيتم لو أن رجلاً قال: أعمل جميع ما أمر به الله ولا أقرّ‍ به، أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإن قال: أقرُّ بجميع ما أمر الله به، ولا أعمل به يكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم، قيل: ما الفرق. فقد زعمتم أن الله أراد الأمرين جميعاً، فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمناً إذا ترك الآخر، جاز أن يكون بالآخر إذا عمل به ولم يقر مؤمناً، ولا فرق بين ذلك. فإن احتجّ فقال: لو أن رجلاً أسلم فأقرَّ بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أيكون مؤمناً بهذا الإقرار قبل أن يجيء وقت عمل. قيل له: إنما يطلق له الاسم بتصديق أن العمل عليه بقوله أن يعمله في وقته إذا جاء وليس عليه في هذا الوقت الإقرار بجميع ما يكون به مؤمناً، ولو قال: أقر ولا أعمل لم يطلق عليه اسم الإيمان ـ يعني أنه لا يكون مؤمناً إلا إذا التزم بالعمل مع الإقرار، وإلا فلو أقر ولم يلتزم بالعمل لم يكن مؤمناً 1. فإذاً العمل ركن في الإيمان على رأي السلف والقول بأخراجه غير صحيح والسلف جميعاً ضد هذا الرأي الأخير لما له من نتائج خطيرة على الإسلام الذي هو دين عملٍ وكدٍّ وكفاحٍ، لا يعرف الكلل، ولا يركن إلى السلبيات، بل يبحث عن الإيجابيات التي تحرك المسلم، وتدفع به إلى الإنتاج النافع، الذي يرتفع بمستوى هذا الدين إلى المكانة اللائقة، التي يجب أن نحاول الوصول بديننا الحنيف إليها. فالمسلمون كانوا في الصدر الأول مدركين لهذه الحقيقة، إذ ورد في وصفهم بأنهم كانوا رهباناً بالليل، أسوداً بالنهار، فينبغي أن يسلك المسلمون في هذا العصر، وفي كل زمان بعده، مسلك أولئك الرجال الذين كانوا خير مثل في تطبيق تعاليم هذا الدين الحنيف. وهذا المسلك لا يتناسب معه إلا رأي السلف الصالح، الذي   1 انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية، ص332. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 يجعل العمل جزءاً من الإيمان الذي هو بعينه الإسلام عندهم، وعند بعضهم ملازم له ملازمة الروح للجسد، أما تلك الآراء التي تبعد العمل عن الإيمان ففيها تثبيط للهمم، وتقاعس عن العمل الجاد المثمر، الذي يطلبه الإسلام، مع أنه ينبغي هنا ـ من باب الإنصاف ـ أن نفرق بين الرأيين اللذين تضمنا تأخير العمل عن الإيمان. فأحد الرأيين كما اتضح لنا في موضعه، إباحي بالمرة، ينادي صراحة بما يخالف تعاليم الإسلام أمراً ونهياً، فيقول للإنسان صدق بقلبك وكفى، ثم اسلك ما شئت من طرق الشر والضلال، وهو ما تضمنه قولهم: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وهؤلاء هم غلاة المرجئة، ولا أحد يشك في تفاهة هذا الرأي وخطره على الإسلام. أما الرأي الآخر الذي تضمن تأخير العمل عن الإيمان، فإنه وقف إلى جانب السلف في إنكار الرأي السالف للمرجئة، إذ قال أصحابه بوجوب الإتيان بالعمل، ومن قصَّر فيه فليعرف أنه في خطر كبير، إذ أنه معرض لعقاب الله تعالى. ولا شك أن هذا الأخير أخف من ذاك، بل هو في نظري مقارب لمذهب السلف في اعتبار الأعمال. وإنما الخلاف في كون السلف يجعلونه ركناً داخلاً في الإيمان، وأطلقوا عليه اسم الإيمان أما هؤلاء فقالوا ليس ركناً ولا يطلق عليه إيمان، وهو موضع النقد والمخالفة التي تقدم بيانها. فالخلاف بين هؤلاء وبين السلف لفظي، ولكن لا ينبغي أن يفهم من قولي بلفظية الخلاف أنني أوافقهم، وأقرهم على إخراج العمل عن الإيمان، لأن اللفظ الذي يجب أن يقال ويقرر ما دل الوحي عليه، وهو أن الأعمال جزء من الإيمان، وتسمى إيماناً. أما ما استدلوا به على رأيهم من النصوص التي عطفت الأعمال على الإيمان ـ كقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إذ قالوا: إن العطف دليل على المغايرة، فإن هذا غير صحيح أيضاً، فدلالة العطف على المغايرة، ليست في كل حال من أحوال العطف والعطف هنا لا دليل لهم فيه، إذ أنه من باب عطف الخاص على العام، وأمثلته في القرآن كثيرة. منها قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} 1 فلا أحد ينكر أن جبريل وميكال من الملائكة، ولو كان العطف يقتضي المغايرة في جميع أحواله، لدلَّت هذه الآية على أن جبريل وميكال من جنس آخر غير الملائكة، وذلك ما لا يقول به أحد. ومنها قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 2 إلى غير ذلك من الأمثلة التي أجاب بها السلف 3. وقد تقدم قول السلف أن الإسلام الذي هو الأعمال الظاهرة كما هو مفسر في حديث جبريل إذا ذكر مقروناً بالإيمان فإنه يراد من أحدهما غير ما يراد من الآخر في الحقيقة الشرعية ولكنه لا يدل على التغاير بينهما تغايراً لا التقاء معه، لأن أحدهما إذا ذكر منفرداً دخل الآخر فيه كما في حديث وفد عبد القيس وكذلك يقال في كل نص شرعي من آية أو حديث ورد فيه الإسلام مقروناً بالإيمان أو مفصلاً عنه. وقد وجد المتكلمون أن النصوص المستفيضة تطلق على العمل اسم الإيمان، فلم يجدوا مخرجاً منها إلا بأن قالوا: دلالة لفظ الإيمان على الأعمال مجاز، وعلى تصديق القلب كما في حديث جبريل حقيقة. وقد رد هذا القول بأنه ـ كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ: اصطلاح حادث بعد انفضاء القرون الثلاثة لم يتكلم به أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم، كمالك، والثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، والشافعي. بل ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو، كالخليل، وسيبويه، وأبي عمرو بن العلاء ونحوهم. وأول من عُرف أنه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه، ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وإنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية … وإنما هذا الاصطلاح حاديث، والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين، فإنه لم يوجد هذا في كلام أحد من أهل الفقه، والأصول، والتفسير، والحديث ونحوهم من السلف. وهذا الشافعي هو أول   1 البقرة: 98. 2 البقرة: 238. 3 انظر: كتاب الإيمان لا بن تيمية، ص166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 من جرد الكلام في أصول الفقه، لم يقسم هذ االتقسيم ولا تكلم بلفظ الحقيقة والمجاز … وكذلك سائر الأئمة، لم يوجد لفظ المجاز في كلام أحد منهم، إلا في كلام أحمد بن حنبل، فإنه قال في كتاب الرد على الجهمية في قوله (أنا ونحن) ونحو ذلك في القرآن، هذا من مجاز اللغة. … وبهذا احتج على مذهبه من أصحابه من قال أن في القرآن مجازاً … والذين أنكروا أن يكون أحمد أو غيره نطقوا بهذا التقسيم، قالوا: ولم يرد أحمد بذلك أن اللفظ استعمل في غير ما وضع له … ثم يقال ثانياً: هذا التقسيم لا حقيقة له، وليس لمن فرق بينهما حد صحيح، يميز بين هذا وهذا، فعلم أن هذا التقسيم باطل،وهو تقسيم من لم يتصور ما يقول، بل يتكلم بلا علم، فهم مبتدعة في الشرع، مخالفون للعقل وذلك أنهم قالوا: الحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز: هو المستعمل في غير ما وضع له، فاحتاجوا إلى إثبات الوضع السابق على الاستعمال، وهذا يتعذر 1. فمما تقدم نفهم أن السلف ينكرون أن يكون في القرآن مجاز، ولا حتى في اللغة، وعلى فرض وجوده فالقرآن يخلو منه. غير أني أقول: إن القرآن قد يشتمل على مجاز في بعض سوره، غير أن كل آية فيه تقرر عقيدة فإنها تدل عليها دلالة حقيقية، ودعوى المجاز في هذا النوع من نصوص القرآن دعوى باطلة، وإنما خطر الاختلاف في العقائد، كان منبعه حكاية المجاز، إذ جنى على العقيدة الإسلامية جناية كبيرة، وأحدث بين أهلها الفرقة في كثير من أفكارهم وتصوراتهم. ثم على فرض اشتمال القرآن ككل على مجاز ـ وهذا ما لا يقرّه السلف ولا كل ناشد للحقيقة فإنه لا بد من قرينة تصرفه عن ظاهر معناه الأصلي، ولا قرينة هنا يمكن أن نصرف بها النصوص السالفة الذكر عن ظاهر معناها الدال على أن الأعمال من الإيمان. ثم على فرض وجوده   1 انظر: كتاب الإيمان لا بن تيمية، ص72-80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 أيضاً، فإنه لا يمكن أن يستعمل على هذا النطاق الواسع، فكثرة النصوص الواردة في هذا الموضوع تدفعنا إلى القول بأن المجاز لو كان وارداً هنا لكانت نصوصه قليلة، ولكن كثرة التكرار فيه تأكيد لا يقبل الجدل على أن العمل من الإيمان حقيقة لا مجازاً، وكل رأي غير هذا الرأي فلا اعتبار له. 2 ـ موقف السلف من المتكلمين في تصورهم لحقيقة الإيمان: أما آراؤهم في حقيقة الإيمان من الاقتصار على شيئ واحد هو التصديق وحده، أو المعرفة وحدها، أو الإقرار، أو أنه إقرار وتصديق فقط فهذا خطأ أيضاً والسلف رحمهم الله جمعوا هذه الآراء بأن قالوا الإيمان تصديق وإقرار وعمل وكل رأي غير هذا فهو باطل ينتج عنه إهمال جوانب أخرى دلَّ الوحي عليها. إذ ورد في كتاب الله تعالى ما يدل على أن تصديق القلب إيمان كقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1 وغيرها مما تقدم ذكره، فهذه الآية وأمثالها دالة على وجوب الإيمان بالقلب تصديقاً واعتقاداً وهي ما ركن إليه أصحاب القول بالتصديق فقط. إلا أنهم أهملوا ما سواها من النصوص الآتية التي تدل على الإقرار وما تقدم ذكره مما يدل على العمل. فمما يدل على وجوب الإيمان باللسان نطقاً قوله تعالى في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} 2. وقال عليه السلام: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله … " وغير ذلك مما تقدم ذكره. قالوا: هذه أدلة على وجوب   1 النحل: 106. 2 البقرة: 136-137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الإيمان باللسان نطقاً. أما الأعمال فقد تقدم بعض النصوص التي تدل أيضاً على أنها إيمان. وكلها أدلة شرعية يؤمن بها الجميع، فلا مجال لإنكارها أو تأويلها بغير ما تحتمل من معنى. أما أدلة المتكلمين على مذاهبهم فإن أكثر ما فيها أنها تدل على ذلك الجانب الذي أخذوا به، ولكنها لا تدل على إبعاد الجوانب الأخرى. أما ما ادعوه من الحصر، وظنوا أن أدلتهم ترشد إليه، فإن ذلك غير صحيح، ونبدأ أولاً بنقاش من قال بأن الإيمان هو التصديق فقط. وقد سبق بسط أدلتهم في مواضعها فلا داعي لإعادتها 1 وقد ذكر أدلتهم شيخ الإسلام ابن تيمية وقال بعدها: وللجمهور من أهل السنة وغيرهم عن هذا أجوبة. ثم ذكر أجوبة السلف التي نوجزها فيما يأتي: 1 ـ دعوى إجماع أهل اللغة على أن الإيمان قبل نزول القرآن هو التصديق، يقال: من نقل هذا الإجماع؟ ومن أين هذا الإجماع؟ وفي أي كتاب ذكر هذا الإجماع؟. 2 ـ أن يقال: أتعني بأهل اللغة نقلتها كأبي عمرو، والأصمعي، والخليل ونحوهم، أو المتكلمين بها؟ فإن عنيت الأول، فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام بإسناد وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم، وما سمعوه في دواوين الشعر وكلام العرب وغير ذلك بالإسناد، ولا نعلم فيما نقلوه لفظ الإيمان، فضلاً عن أن يكونوا أجمعوا عليه. وإن عنيت المتكلمين بهذا اللفظ قبل إلاسلام فهؤلاء لم نشهدهم ولا نقل لنا أحد عنهم ذلك. 3 ـ أنه لا يعرف عن هؤلاء جميعهم أنهم قالوا: الإيمان في اللغة هو التصديق بل ولا عن بعضهم، وإن قُدِّر أنه قاله واحد أو اثنان، فليس هذا إجماعاً. 4 ـ أن يقال: هؤلاء لا ينقلون عن العرب أنهم قالوا: معنى هذا اللفظ كذا وكذا، وحينئذٍ فلو قدّر أنهم نقلوا كلاماً عن العرب يفهم منه أن   1 انظر ما ساقه الباقلاني في ذلك عند بيان مذهب الأشاعرة، ص155،156 من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الإيمان هو التصديق لم يكن ذلك أبلغ من نقل المسلمين كافة للقرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان مع ذلك قد يظن بعضهم أنه أريد به معنى ولم يرده، فظن هؤلاء ذلك فيما ينقلونه عن العرب أولى. 5 ـ أنه لو قدر أنهم قالوا هذا، فهم آحاد لا يثبت بنقلهم التواتر، والتواتر من شرطه استواء الطرفين والواسطة، وأين التواتر الموجود عن العرب قاطبة قبل نزول القرآن؟ إنهم كانوا لا يعرفون للإيمان معنى غير التصديق، فإن قيل: هذا يقدح في العلم باللغة قبل نزول القرآن، قيل فليكن، ونحن لا حاجة بنا مع بيان الرسول لما بعثه الله به من القرآن أن نعرف اللغة قبل نزول القرآن. والقرآن نزل بلغة قريش، والذين خوطبوا به كانوا عرباً، وقد فهموا ما أريد به وهم الصحابة ثم الصحابة بلَّغوا لفظ القرآن ومعناه إلى التابعين حتى انتهى إلينا، فلم يبق بنا حاجة إلى أن تتواتر عندنا تلك اللغة من غير طريق تواتر القرآن، لكن لما تواتر القرآن لفظاً ومعنى، وعرفنا أنه نزل بلغتهم، عرفنا أنه كان في لغتهم لفظ السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر. ونحو ذلك على ما هو معناها في القرآن. وإلا فلو كلفنا نقلاً متواتراً لآحاد هذه الألفاظ من غير القرآن لتعذر علينا ذلك في جميع الألفاظ، لا سيما إذا كان المطلوب أن جميع العرب كانت تريد باللفظ هذا المعنى، فإن هذا يتعذر العلم به. والعلم بمعاني القرآن ليس موقوفاً على شيئ من ذلك، بل الصحابة بلَّغوا معاني القرآن كما بلَّغوا لفظه. 6 ـ أنه لم يذكر شاهداً من كلام العرب على ما ادعاه عليهم، وإنما استدل من غير القرآن بقول الناس: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان يؤمن بالجنة والنار، وفلان يؤمن بعذاب القبر، وفلان لا يؤمن بذلك، ومعلوم أن هذا ليس من ألفاظ العرب قبل نزول القرآن، بل هو مما تكلم الناس به بعد عصر الصحابة، لما صار من الناس أهل البدع يكذبون بالشفاعة وعذاب القبر. ومرادهم بذلك هو مرادهم بقوله: فلان مؤمن يؤمن بالجنة والنار، وفلان لا يؤمن بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 القائل لذلك وإن كان تصديق القلب داخلاً في مراده، فليس مراده ذلك وحده بل مراده التصديق بالقلب واللسان، فإن مجرد تصديق القلب بدون اللسان لا يعلم حتى يخبر به عنه. 7 ـ أن يقال: من قال ذلك، فليس مراده التصديق بما يرجى ويخاف، بدون خوف ولا رجاء، بل يصدق بعذاب القبر ويخافه، ويصدق بالشفاعة ويرجوها، وإلا فلو صدق بأنه يعذب في قبره، ولم يكن في قلبه خوف من ذلك أصلاً لم يسموه مؤمناً به. كما أنهم لا يسمون مؤمناً بالجنة والنار إلا من رجا الجنة وخاف النار، دون المعرض عن ذلك بالكلية مع علمه بأنه حق. كما لا يسمون إبليس مؤمناً بالله، وإن كان مصدقاً بوجوده وربوبيته ولا يسمون فرعون مؤمناً، وإن كان عالماً بأن الله بعث موسى، وأنه هو الذي أنزل الآيات، وقد استيقنت بها أنفسهم مع جحدهم لها بألسنتهم ولا يسمون اليهود مؤمنين بالقرآن والرسول، وإن كانوا يعرفون أنه حق، كما يعرفون أبناءهم. فلا يوجد قط في كلام العرب أن من علم وجود شيئ مما يخاف ويرجى، ويجب حبه وتعظيمه، وهو مع ذلك لا يحبه ولا يعظمه ولا يخافه ولا يرجوه بل يجحد به ويكذب بلسانه، أنهم يقولون: هو مؤمن به، بل ولو عرفه بقلبه، وكذب به بلسانه، لم يقولوا: هو مصدق به. ولو صدق به مع العمل بخلاف مقتضاه، لم يقولوا: هو مؤمن به. فلا يوجد في كلام العرب شاهد واحد يدل على ما ادعوه. وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} فإن هذا استدلال بالقرآن، وليس في الآية ما يدل على أن المصدق مرادف للمؤمن، فإن صحة المعنى بأحد اللفظين لا يدل على أنه مرادف للآخر. 8 ـ قوله: لا يعرفون في اللغة إيماناً غير ذلك. من أين له هذا النفي الذي لا تمكن الإحاطة به؟ بل هو قول بلا علم. 9 ـ أنه لو فرض أن الإيمان في اللغة التصديق، فمعلوم أن الإيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الشرعي ليس هو التصديق بكل شيئ، بل بشيئ مخصوص، وهو ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وحينئذٍ فيكون الإيمان في كلام الشارع أخص من الإيمان في اللغة ومعلوم أن الخاص ينضم إليه قيود لا توجد في جميع العام، كالحيوان إذا أخذ بعض أنواعه وهو الإنسان كان فيه المعنى العام، ومعنى اختص به، وذلك المجموع ليس هو المعنى العام فالتصديق الذي هو الإيمان أدنى أحواله أن يكون نوعاً من التصديق العام، فلا يكون مطابقاً له في العموم والخصوص من غير تغيير اللسان ولا قلبه، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان، وأنه ناطق. 10 ـ أن القرآن ليس فيه ذكر إيمان مطلق غير مفسر، بل لفظ الإيمان فيه إما مقيد وإما مطلق مفسر. فالمقيد كقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 1 وقوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} 2. والمطلق المفسر كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ … } 3 وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 4 ونحو ذلك. وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 5 وأمثال هذه الآيات وكل إيمان مطلق في القرآن فقد يبين فيه أنه لا يكون الرجل مؤمناً إلا بالعمل مع التصديق، فقد بين في القرآن أن الإيمان لا بد فيه من عمل مع التصديق. كما ذكر مثل ذلك في اسم الصلاة والزكاة والصيام والحج …   1 البقرة: 3. 2 يونس: 83. 3 الأنفال: 2. 4 الحجرات: 15. 5 النساء:65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 11 ـ أنه إذا قيل: إن الشارع خاطب الناس بلغة العرب، فإنما خاطبهم بلغتهم المعروفة وقد جرى عرفهم أن الاسم يكون مطلقاً وعاماً، ثم يدخل فيه قيد أخص من معناه كما يقولون: ذهب إلى القاضي والوالي والأمير، يريدون شخصاً معيناً يعرفونه دلت عليه اللام مع معرفتهم به. وهذا الاسم في اللغة اسم جنس لا يدل على خصوص شخص، وأمثال ذلك. فكذلك الإيمان والصلاة والزكاة، إنما خاطبهم بهذه الأسماء بلام التعريف، وقد عرفهم قبل ذلك أن المراد الإيمان الذي صفته كذا وكذا، أو الدعاء الذي صفته كذا وكذا. فبتقدير أن يكون بلغتهم التصديق فإنه قد يبين أني لا أكتفي بتصديق القلب واللسان، فضلاً عن تصديق القلب وحده، بل لا بد أن يعمل بموجب ذلك التصديق، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 1، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 2 … ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة كقوله عليه السلام: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه " وأمثال ذلك. فقد بين لهم أن التصديق الذي لا يكون الرجل مؤمناً إلا به، هو أن يكون تصديقاً على هذا الوجه. وهذا بيِّنٌ في القرآن والسنة من غير تغيير للغة ولا نقل لها. 12 ـ أن يقال: بل نقل وغير. قوله: لو نقل لتواتر، قيل: نعلم. وقد تواتر أنه أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج معانيها المعروفة. وأراد بالإيمان ما بينه بكتابه وسنة رسوله من أن العبد لا يكون مؤمناً إلا به، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ … } وهذا متواتر في القرآن والسنة، ومتواتر أيضاً أنه لم يكن يحكم لأحد بحكم الإيمان إلا أن يؤدي الفرائض.   1 الحجرات: 15. 2 الأنفال: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 13ـ قوله: ولا وجه للعدول بالأيات التي تدل على أنه عربي عن ظاهرها، فيقال له: الآيات التي فسرت المؤمن، وسلبت الإيمان عمن لم يعمل، أَصْرَحُ وأكثر من هذه الآيات. ثم إذا دلت على أنه عربي، فما ذكر لا يخرجه عن كونه عربياً. ولهذا لما خاطبهم بلفظ الصلاة والحج وغير ذلك، لم يقولوا: هذا ليس بعربي. بل خاطبهم باسم المنافق، وقد ذكر أهل اللغة أن هذا الاسم لم يكن يعرف في الجاهلية، ولم يقولوا: إنه ليس بعربي، لأن المنافق مشتق من نفق إذا خرج فإذا كان اللفظ من لغتهم، وقد تصرف فيه المتكلم به كما جرت عادتهم في لغتهم لم يخرج ذلك عن كونه عربياً 1 … فهذه المناقشات من جانب السلف تؤدي إلى أن الصحيح هو أن الإيمان تصديق وعمل وليس تصديقاً فقط. أما ما ذهب إليه الجهمية من أن الإيمان هو المعرفة المجردة. فهذا أيضاً رأي فاسد إلى أبعد الحدود، وقد وقف السلف منه موقف الرفض والإنكار، ورأوا فيه خطراً يهدد الإسلام، وهو وإن كان يشارك المرجئة الرأي في مذهبهم، فإنه أشد خطراً وأكثر فساداً، إذاً المعرفة أمر فطري في جميع البشر، فلا أحد ينكر أن الله هو الرب الخالف لكل شيئ، سوى الدهريين والملاحدة. وبناءاً على هذا فقد قال جهم بتساوي الناس في هذه المعرفة، وذلك بدوره يؤدي إلى تساويهم في الإيمان إذ المعرفة لا تتبعض، وإنما هي شيئ واحد لا تعدد فيه. وهذا مذهب واضح البطلان عقلاً وشرعاً. ووجه بطلان هذا المذهب أنه يدخل في الإيمان ماليس منه ويقتصر على المعرفة وحدها، ويجعل الناس في الإيمان سواسي سواء في ذلك النبي والولي والمجرم والمشرك واليهودي، وكل كافر بأي نوع من أنواع الكفر، ولا يوجد ثمة عقل سليم يسوي بين هذه العناصر وبين أنبياء الله وأوليائه وفي إيضاح فساد هذا   1 انظر هذه المناقشات في كتاب الإيمان لابن تيمية، ص102ـ109، ط المكتب الإسلامي، دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 المذهب يقول شارح ((العقيدة الطحاوية)) : " … لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} 1 وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 2 وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً فإنه قال: ولقد علمت بأن دين محمد ... لولا الملامة أو حذار مسبَّة من خير أديان البرية دينا ... لوجدتني سمحاً بذاك أمينا بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 3،: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} 4،: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 5، والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى ولا أحد أجهل منه بربه فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه " 6. فهذه إلزامات أوردها شارح ((العقيدة الطحاوية)) على مذهب الجهم، وهي إلزامات تؤدي إلى فساد مذهبه بوضوح لأن القول الذي يؤدي إليها وهي فسادة لا يسعه إلا الالتزام بها فيكون كافراً لا ريب، أو ينكرها، ولا يمكن انفصال مذهبه عنها فيكون مذهبه فاسداً بالضرورة.   1 الإسراء:102. 2 النمل:14. 3 الحجر: 36. 4 الحجر: 39. 5 ص: 82. 6 شرح العقيدة الطحاوية، ص373-374، ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وإذا اتضح فساد مذهب الجهم هذا الذي يجعل الإيمان مجرد المعرفة، ننتقل إلى بيان موقف السلف من مذهب الكرامية القائل بأن الإيمان هو شيئ واحد فقط وهو الإقرار باللسان حذراً من تبعضه، وهذا رأي يراه السلف فاسداً أيضاً، لأنه يؤدي إلى القول بإيمان المنافقين وهذا مالا يقول به مسلم، وليس هذا إلزاماً لهم بل قالوا به حقيقة لكن تقدم أن ابن تيمية يرى أن خلافهم للسلف إنما هو في الاسم فقط. أما الحكم فيرون أنهم في الآخرة يلقون ما أوعدهم الله به من النار، وإيمانهم بألسنتهم غير نافع لهم في الآخرة، لأن الحكم الآخروي يستلزم مطابقة الباطن للظاهر، ولكن الكرامية أخطؤوا في تسمية المنافق مؤمناً وإن كانت تجري عليه أحكام الدنيا لكونه اتقى بادعاء الإيمان بلسانه فليس لنا إلا الظاهر. ولكننا إذا عرفنا المنافق فليس له منا إلا ما سماه الله به. ورأي الكرامية هذا وإن كان فاسداً أيضاً، غير أن رأي الجهمية أفسد وأكثر خطورة منه. أما مذهبهم في العصاة فهو عين مذهب المرجئة إذ أن من أقرَّ بلسانه فهو مؤمن مهما عمل بشرط أن يطابق ظاهره باطنه. وسيأتي النقاش في مسألة العصاة إن شاء الله. ومذهب الكرامية هذا وما استدلوا به عليه إنما يؤدي إلى القول بأن الإقرار أحد أركان الإيمان التي قال بها السلف. أما الحصر فيه فلا دليل عليه أبداً مثله كمثل غيره من المذاهب المفردة في الإيمان فالتصديق والعمل تقدمت الأدلة على ضرورته وكذلك الإقرار باللسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الفصل الثاني: موقف السلف من آراء المتكلمين في زيادة الإيمان ونقصه ... الفصل الثاني موقف السلف من مذهب المتكلمين في زيادة الإيمان ونقصه تقدم لنا أن أغلب المتكلمين ذهبوا إلى القول بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص سواء منهم من جعله شيئاً واحداً أو جعله مركباً من شيئين فأكثر، ما عدا المعتزلة كما مر بيان ذلك في موضعه، إذ أنهم ذهبوا إلى أن الإيمان يزيد وينقص من جهة التكاليف فقط، أما الزيادة والنقصان التي قصدها السلف فلم يذهب إليها المعتزلة. لذلك فإنهم يدخلون في جملة المتكلمين الذين قالوا بعدم زيادة الإيمان ونقصه، وكذلك من الأشاعرة كما تقدم من قال إن الإيمان هو التصديق فقط، ومع ذلك قال بزيادة الإيمان ولم يقولوا كما قال السلف أنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية لأن الاعمال عندهم ليست إيماناً وهؤلاء يكفي في نقاشهم ما تقدم من أدلة على دخول العمل في الإيمان فيكون الإيمان يزيد وينقص من جهة العمل، وتأتي زيادة التصديق انعكاساً للمحافظة على الأعمال، ونقصانه نتيجة للتقصير فيها. وعلى كل حال فجميع من قال من المتكلمين بعدم زيادة الإيمان ونقصه، فإن السلف رحمهم الله تعالى، وقفوا موقف المنكر لهذا المذهب، والمشنع عليه، لأن فيه مخالفة صريحة وواضحة لنصوص الكتاب والسنة. وإذ قد ثبت فيما تقدم فساد رأيهم في إخراج العمل عن الإيمان، فإن ذلك أيضاً يلزم منه فساد رأيهم في قولهم بعدم زيادة الإيمان ونقصه، لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الإيمان إذا كان عبارة عن التصديق والأعمال، والأعمال يتفاوت الناس في الإتيان بها، فيلزم من ذلك تفاضلهم في الإيمان وعدم تساويهم فيه. كما أن النصوص المصرحة بالزيادة في الإيمان، لا يسع أحداً إنكارها أو تأويلها بما لا يتفق مع مقاصد التشريع. فقد استهلَّ الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ كتاب الإيمان من صحيحه بإيراد النصوص القرآنية المصحرة بلفظ الزيادة في الإيمان، حيث قال ـ رحمه الله ـ: وهو قول وفعل ويزيد وينقص، قال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} ثم ذكر ثماني آيات تنطق صراحة بزيادة الإيمان، فأي دليل بعد هذا الدليل وهل من اللائق أن نسلك طريقاً غير طريق القرآن، وأن نؤول هذه النصوص بما لا تحتمل، كما فعل أصحاب أبي حنيفة، إذ أوَّلوها بزيادة المؤمن به، وأن ذلك انتهى بانتهاء نزول الوحي. وأنه إنما كان في حق الصحابة، فأي دليل على هذا التخصيص، ثم إن النقصان لازم لما يقبل الزيادة دون جدال. وقد تقدم ذكر الأوجه التي بها يزيد الإيمان، والنص هو المآل أولاً وآخراً فما دام القرآن نطق بزيادة الإيمان فليس مع القرآن رأي، وما دام العقل لا يستسيغ التسوية بين المجرم والولي، فضلاً عن أن الشرع لا يقر ذلك، فكيف لنا أن نحكم بالتسوية بينهما. وعلى كل حال، فقد ثبت أن الأعمال من الإيمان والأعمال مما يتفاوت الناس في الإتيان به على الوجه المطلوب، فذلك يؤدي بدوره إلى تفاوتهم في الإيمان. ثم إن التصديق نفسه الذي اعتبره المرجئة، والأشاعرة هو الإيمان: يزيد وينقص. ومنهم من ذهب إلى زيادة الإيمان الذي هو التصديق ونقصانه، كما عرفنا ذلك عند بيان مذهب الأشاعرة فقد قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فالتصديق موجود، لدى إبراهيم عليه السلام، ولكن طلب زيادة فيه باطمئنان القلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وقد عرفنا من مذهب السلف أن الإيمان بشقيه التصديق والعمل كلاهما يزيد وينقص، يزيد إلى درجة الكمال، وينقص حتى أضعف درجاته. وقد تقدم قول مالك بن دينار: " إن الإيمان يبدو في القلب ضعيفاً ضئيلاً كالبقلة، فإن صاحبه تعاهده فساقاه بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة وأماط عنه الدغل، وما يضعفه ويوهنه، أوشك أن ينمو ويزداد ويصير له أصل، وفرع، وثمرة وظل ما لا يتناهى حتى يصير أمثال الجبال. وإن صاحبه أهمله ولم يتعاهده، جاءه عنز فنتفتها أو صبي فذهب بها أو كثر عليها الدغل فأضعفها، أو أهلكها، أو أيبسها كذلك الإيمان " 1. وبهذا كله يبطل قول المتكلمين أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن أهله فيه سواء. فما دام النص يصرح بزيادة الإيمان، تصريحاً لا يقبل التأويل، أو العدول عن الظاهر وما دمنا متبعين لا مبتدعين فليس أمامنا إلا طريق واحد هو مسايرة النصوص فيما تدل عليه ودلالة النصوص، لا سيما في أمور العقيدة واضحة لا تعقيد فيها. وإنه لمن الخطأ الشنيع، أن نتكلف تأويلات وفلسفات، ما أنزل الله بها من سلطان، حتى نعدل بالنص عن ظاهر دلالته، إلى معانٍ بعيدةٍ عن روحه، تؤدي إلى الانحراف بالنصوص عن خط سيرها الذي رُسم لها وهدفها الذي وردت من أجله. وزيادة الإيمان وردت بصراحة في نصوص كثبرة، والإنسان إذا عرف أن إيمانه يزيد بزيادة العلم الذي هو جزء منه وينقص بنقصانه، فإن يتحرى الزيادة دائماً، ويتجنب ما يؤدي به إلى النقصان، فيكون دائم الحذر من العواقب الوخيمة التي تؤثر في إيمانه بمخالفة أوامر الله ورسوله. وبالعكس إذا عرف أن إيمانه تام لا يعتوره نقصان بحال، فإنه قد يتجرأ على انتهاك الحرمات بحجة أنها غير مؤثرة في إيمانه، وغير مطلوبة من أجل تقوية الإيمان، وهذا هو موضع الخطر في ذلك المذهب الذي يخالف النص مخالفة ظاهرة. فإذاً هنا موقفان متشابهان للمتكلمين في زيادة الإيمان ونقصه:   1 انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية، ص188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أحدهما: القول بأن الإيمان إذا ذهب بعضه، ذهب كله. وقد منع السلف صحة هذا الرأي، وقالوا بأن هذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإن أصحابه ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله ولم يبق منه شيئ. وهذا هو ما ذهب إليه المعتزلة والخوارج القائلون بأن الإيمان هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق كما قاله أهل الحديث، قالوا: فإذا ذهب شيئ منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيئ فيخلد في النار. ثانيهما: قول المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تُذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة منه شيئ، إذ لو ذهب شيئ منه لم يبق منه شيئ، فيكون شيئاً واحداً يستوي فيه البر والفاجر. وقد ذكر هذين الموقفين شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ1 ثم ذكر بعد ذلك أن النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه، كقوله صلى الله عليه وسلم: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " ولهذا كان أهل السنة والحديث على أنه يتفاضل 2. وقد ثبت لفظ الزيادة والنقصان منه عن الصحابة، ولم يعرف فيه مخالف منهم، فروى الناس من وجوه كثيرة مشهورة عن حماد بن سلمة عن أبي جعفر، عن جده عمير بن حبيب الخطمي، وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الإيمان يزيد وينقص، قيل له: وما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحانه، فتلك زيادته وإذا غفلنا ونسينا فتلك نقصانه 3. وغير ذلك من الآثار الواردة عن الصحابة فإذا كان هذا هو فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يوجد بينهم مخالف في ذلك إذ لو وجد لَوصلنا وعرفناه، وما داموا عاصروا نزول الوحي، فهم ولا شك أعرف منا   1 انظر: كتاب الإيمان، ص186. 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 بدلائله، لا سيما والنص ماثل أمامنا. ونحن نلاحظ مطابقة فهمهم واستنتاجهم لما نجد من النصوص وقصارى القول: إن المسلك الوحيد الذي لا يسعنا إلا نهجه هو طريق الوحي الإلهي وفهمه على غرار ما فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون تكلف معانٍ جديدة بعيدة عن روح النص ودلائله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الفصل الثالث موقف السلف من المتكلمين في حكم مرتكب الكبيرة عرفنا فيما تقدم أن الخلاف فيما يتعلق بالعصاة، إنما حدث بين السلف وبين ثلاث طوائف: 1 ـ الطائفة التي لا تؤاخذ بالذنب مع الإيمان، إذ لا يضر عندهم مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم غلاة المرجئة، بما فيهم الجهمية والكرامية كما تقدم. 2 ـ الطائفة التي سلبت العصاة اسم الإيمان فيما يتعلق بأحكام الدنيا وجعلتهم في منزلة بين المنزلتين، وأجازت معاملتهم في الأحكام الدنيوية كما يُعامَل بقية المسلمين، أما في الآخرة فيخلدون في النار، وهم المعتزلة. 3 ـ وطائفة ثالثة حكمت بكفرهم ابتداءً، فمن عصى فهو عندهم كافر في الدنيا وفي الآخرة خالد مخلد في النار. وهذه الطوائف الثلاث اتفقت على أمور ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فقال: " وطوائف أهل الأهواء، من الخوارج، والمعتزلة، والجهمية، والمرجئة، كراميهم، وغير كراميهم، يقولون إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، ومنهم من يدَّعي الإجماع على ذلك، وخالفوا فيه الكتاب والسنة، وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول، بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد، وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب، ومعصية يستحق بها العقاب، ولا يكون الشخص الواحد محموداً من وحه، مذموماً من وجه، ولا محبوباً مدعواً له من وجه مسخوطاً ملعوناً من وجه. ولا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعاً عندهم، بل من دخل إحداهما لم يدخل الآخرى، ولهذا أنكروا خروج أحد من النار أو الشفاعة في أحد من أهل النار، وحُكي عن غالية المرجئة أنهم وافقوهم على هذا الأصل، لكن هؤلاء قالوا: إن أهل الكبائر يدخلون الجنة، ولا يدخلون النار، مقابلة أولئك " 1. فإذاً هذه الطوائف الثلاث اتفقت على عدم اجتماع الإيمان والنفاق من الشخص الواحد وعلى عدم دخوله النار والخروج منها إلى الجنة، بل إذا دخل واحدة منها فإنه لا يخرج منها أبداً، والمرجئة تقول: إنه يدخل الجنة ابتداءً ولا يدخل النار، لأنه عندهم مؤمن كامل الإيمان. وقد تقدم تفصيل موقف كل طائفة عند بيان مذهبها. والآن لنبدأ ببيان موقف السلف من مذهب المرجئة. موقف السلف من المرجئة: المرجئة ـ كما عرفنا ـ ترى أن المؤمن العاصي كامل الإيمان فلا يؤثر عصيانه في إيمانه بالنقصان، وهو من أهل الجنة ابتداءً. وقد أنكر السلف هذا المذهب، وشنَّعوا على أهله تشنيعاً بليغاً، لأنه يخالف كتاب الله وسنة رسوله. حيث قالوا بأن العاصي ناقص الإيمان، ولولا ذلك ما عُذب، كما أنه ناقص البر والتقوى باتفاق المسلمين، وهل يُطلق عليه اسم المؤمن؟ هذا فيه القولان والصحيح التفصيل، فإذا سئل عن أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة، قيل: هو مؤمن، وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين.   1 انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية، ص301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وأما إذا سئل عن حكمه في الآخرة، قيل: ليس هذا النوع من المؤمنين الموعودين بالجنة، بل معه إيمان يمنعه من الخلود في النار، ويدخل به الجنة بعد أن يعذَّب في النار، إن لم يغفر الله له ذنوبه. وبهذا قال من قال: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان 1. ثم إن آيات الوعيد التي وردت بحق العصاة مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 2 مع قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً} 3 مع حديث عبادة بن الصامت: " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً … " إلى أن قال: " فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه " فبايعناه 4. وأمثال ذلك تدل على فساد مذهب المرجئة سواء القائل بكمال إيمان العاصي، وعدم مؤاخذته، والقائل بتساوي الناس في الإيمان، وقد قسم الله تبارك وتعالى المؤمنين في القرآن بقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} 5. وقد زعم جولد تسيهر، المستشرق المعروف أن المرجئة قد أتت بمذهب متسامح حين نادت بأن الإيمان إذا كان قائماً لم يضر العمل، وإذا كان المرء غير مؤمن لم ينفعه العمل، لأنهم بذلك ـ في نظره ـ قد حسموا الخلاف الواقع بين الأتقياء من العلماء، وبين حكام بني أمية الذين مالوا إلى الفسق والفجور، وأن رأياً غير رأيهم لا يستند إلى أساس متين 6. ولا عجب من هذا المستشرق   1 المصدر نفسه ص302. 2 النساء: 10. 3 السجدة: 18. 4 رواه البخاري. انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، ج1 ص64. 5 فاطر: 32. 6 انظر: العقيدة والشريعة لأجناس جولد تسيهر، تعريب محمد يوسف موسى وآخرون، ص75، ط1 سنة1946م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 حين يبرز مثل هذا الرأي، ويعتبره أصح وأسلم، لأن ما يثلج صدره هو وأمثاله، أن يجدوا بين المسلمين من يدعو إلى القعود عن تطبيق تعاليم الإسلام، ويغري بارتكاب المحرمات، لأن مثل هذا هو الذي يحقق لهم الغرض المنشود،وهو القضاء على الإسلام، مستخدمين المنتسبين إليه من فرق الضلال، ومن المنحرفين، كجنود لهم لإنفاذ هذا الغرض الخبيث وأنى لهم ذلك. وعلى كل حال، فالمرجئة ممقوتة من جانب السلف جميعاً، ومذاهبهم في الإيمان واضحة البطلان. الخوارج والمعتزلة: هاتان الفرقتان اتفقتا بشأن مرتكب الكبيرة على أمر واختلفتا في آخر. فالأمر الذي هو وضع الخلاف بينهما، هو الحكم الدنيوي لمرتكب الكبيرة فعند المعتزلة أنه يسلب منه اسم الإيمان كلية، ويكون في منزلة بين المنزلتين، ويُعامل كما يعامل بقية المسلمين في الدنيا. أما الخوارج فحكموا بكفره ابتداء وخرجه من ملة الإسلام. أما الأمر الذي هو موضع الاتفاق، فهو الحكم الأخروي له، وهو الحكم بتخليده في النار مع الكفار. وقد وقف السلف من هذا المذهب موقف الإنكار أيضاً، فهو مذهب فيه جرأة على إصدار الأحكام وتعسف في الدليل. أما من ناحية الحكم الدنيوي فقد أخطأ الفريقان بسلب المذنب اسم الإيمان، سواء من عامله في الدنيا معاملة المسلمين ومن حكم بكفره وخروجه من ملة الإسلام ابتداءً. والنصوص الشرعية مصرحة بضد هذا المذهب، ومعارضة له معارضة جازمة. فكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مليئان بالنصوص التي تخاطب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 المذنب باسم الإيمان، كقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} وقوله سبحانه في شأن حاطب بن أبي بلتعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ … } فسمى الطائفتين مؤمنين مع اقتتالهم وخاطب حاطباً باسم الإيمان مع ارتكابه لتلك الفعلة الشنيعة بمحاولة إخبار قريش بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم. وقال عليه السلام: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار … " إلى غير ذلك من النصوص التي تخاطب العصاة باسم الإيمان، فهل لنا أن نخالف هذه النصوص الصريحة فنحكم بخلافها، فهي تدل على أن العاصي مؤمن وأنه يشتمل على وجهين أحدهما مذموم والآخر ممدوح. فالمذموم العصيان الذي وقع منه، والممدوح ما فيه من إيمان، فيُعطى ما له، ويُدان بما عليه، فله اسم الإيمان، والمعصية لا تطغى على إيمانه، فتذهبه كلية، بل تؤثر فيه بالنقصان، فيبقى مؤمناً بإيمانه، فاسقاً بمعصيته ومسألة المنزلة بين المنزلتين التي قال بها المعتزلة لا أصل لها، ولا دليل عليها والذي حملهم على تبنيها، ما يعرفونه ويقرُّون به من أن العاصي معه أوجه من الخير لا يستطيعون أن يكفروه مع وجودها فيه، وعز عليهم إبقاء إيمانه، مع أن النصوص السالفة الذكر وغيرها واضحة الدلالة على وجوب تسميته مؤمناً. أما مذهب الخوارج في القول بكفر مرتكب الذنب وخروجه من ملة الإسلام ابتداءً فهو قول شنيع، وفيه جرأة لا نظير لها ـ وبطلانه أوضح من أن يُدلَّل عليه بدليل. ومع شناعته، وفظاعته، فإن قولهم بتكفير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أشنع وأفظع وهؤلاء قوم عصمنا الله سبحانه وتعالى من الاشتراك في سفك دمائهم، وإثارة الفتن بينهم، فيجب علينا الذب عنهم بكل ما أوتينا من حجة، لأنهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أيديهم أظهر الله هذا الدين، وعم بقاع الأرض وساد العدل والوئام ـ وقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وقصة التحكيم التي تذرع بها الخوراج لتكفير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منكرين على عليّ بذلك تحكيم الرجال في كتاب الله، ولا حكم إلا لله، فإن هذه مغالطة منهم، وكلمة حق أريد بها باطل، فإن الحكم وإن كان لله، فإن تنفيذه لا يكون إلا بالرجال وكيف ينفذ حكم الله بدون تحكيم، وقد حكم الله تبارك وتعالى الناس في غير موضع من كتابه، فقال سبحانه في جزاء الصيد: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1 وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا} 2 وقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} 3 يعني الزوج الزوجة. وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 4 وأيضاً: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 5 وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} 6. فهذا محكم القرآن قد جعل أحكاماً كثيرة إلى العلماء، وإلى الأمراء من الناس ينظرون فيه مما لم ينزل بيانه من عند الله، فكيف قلتم لا حكم إلا لله؟ فإن أبوا هذا الشرح ظهر جهلهم، وإن قالوا به تركوا قولهم ورجعوا إلى الحق. ثم إن الاختلاف الذي وقع بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن عن سوء نية وقصد أبداً، ولا يجوز لنا أن نشكَّ في إخلاص كلا الفريقين للحق، فالكل مجتهد فمن اجتهد وأخطأ فله أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور، ومن اجتهد فأصاب فله أجران. وقد اجتهد معاوية فأخطأ، واجتهد عليَّ فأصاب، والكل ينشد الحق دون ريب. يقول القاضي أبوبكر بن العربي في هذا الشأن: والذي تثلج به صدوركم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في   1 المائدة: 95. 2 النساء: 128. 3 النساء: 35. 4 الشورى: 10. 5 النساء: 59. 6 النساء: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الفتن، وأشار وبين، وأنذر بالخوارج وقال: " تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق " فبين أن كل طائفة منهما تتعلق بالحق، ولكن طائفة علىٍّ أدنى إليه. وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 1 فلم يخرجهم عن الإيمان بالبغي بالتأويل ولا سلبهم اسم الأخوة بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 2. وقال صلى الله عليه وسلم في عمَّار: " تقتله الفئة الباغية ". وقال في الحسن: " ابني هذا سيِّد، ولعل الله أن يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " فحسن له خلع نفسه وإصلاحه، … فهذه كلها أمور جرت على رسم النزاع، ولم تخرج عن طرق الفقه، ولا عدت سبيل الاجتهاد الذي يؤجر فيه المصيب عشرة، والمخطئ أجراً واحداً 3. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ((منهاج السنة)) ما معناه: إن معاوية لم يكن ممن يختار الحرب ابتداءً، بل كان من أشد الناس حرصاً على أن لا يكون قتال، وكان غيره أحرص على القتال منه، وقتال صفِّين للناس فيه أقوال: فمنهم من يقول: كلاهما كان مجتهداً مصيباً، كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام والفقه والحديث ممن يقول كل مجتهد مصيب، ويقول: كانا مجتهدين. وهذا قول كثير من الأشعرية والكرامية والفقهاء وغيرهم، وهو قول كثير من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. وتقول الكرامية كلاهما إمام مصيب، ويجوز نصب إمامين للحاجة ومنهم من يقول: بل المصيب أحدهما لا بعينه، وهذا قول طائفة منهم. ومنهم من يقول: عليٌّ هو المصيب وحده، ومعاوية مجتهد مخطئ، كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفقهاء أهل المذاهب الأربعة.   1 الحجرات: 9. 2 الحجرات: 10. 3 انظر: كتاب العواصم من القواصم للقاضي أبي بكر بن العربي تحقيق الشيخ محب الدين الخطيب، ص168-171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وقد حكى هذه الأقوال الثلاثة أبو عبد الله الحسن بن حامد البغدادي من أصحاب الإمام أحمد وغيره، ومنهم من يقول: كان الصواب أن لا يكون قتال، وكان ترك القتال خيراً للطائفتين، فليس في الاقتتال صواب، ولكن عليّ كان أقرب إلى الحق من معاوية. والقتال قتال فتنة، ليس بواجب ولا مستحب، وكان ترك القتال خيراً للطائفتين مع أن عليّاً كان أولى بالحق ـ وهذا قول أحمد، وأكثر أهل الحديث، وأكثر أئمة الفقهاء، وهو قول أكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان. وهو قول عمران بن حصين رضي الله عنه وكان ينهى عن بيع السلاح في ذلك القتال، ويقول: هو بيع السلاح في الفتنة. وهو قول أسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وأكثر من بقي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم. ولهذا كان مذهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم 1. ويقول الشيخ محب الدين الخطيب في هذا الشأن: " أهل السنة المحمدية يدينون لله على أن عليّاً ومعاوية ومن معهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا جميعاً من أهل الحق، وكانوا مخلصين في ذلك، والذي اختلفوا فيه، إنما اختلفوا فيه عن اجتهاد كما يختلف المجتهدون في كل ما يختلفون فيه. وهم ـ لإخلاصهم في اجتهادهم ـ مثابون عليه في حالتي الإصابة والخطأ وثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ، وليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر معصوم عن أن يخطئ. وقد يخطئ بعضهم في أمور ويصيب في أخرى وكذلك الآخرون أما من مرق عن الحق في إثارة الفتنة الأولى على عثمان فلا يعد من أحدى الطائفتين اللتين على الحق، وإن قاتل معها والتحق بها، لأن الذين تلوثت أيديهم ونيَّتهم وقلوبهم بالبغي الظالم على أمير المؤمنين عثمان ـ كائناً من كانوا ـ استحقوا إقامة الحد الشرعي عليهم، سواء استطاع ولي الأمر أن يقيم عليهم هذا الحد أو لم يستطع. وفي حال عدم استطاعته فإن مواصلتهم تسعير القتال بين صالحي المسلمين   1 انظر: منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ج2 ص264. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 كلما أحسوا منهم بالعزم على الإصلاح والتآخي: كما فعلوا في وقعة الجمل وبعدها ـ يُعدُّ إصراراً منهم على الاستمرار في الإجرام ما داموا على ذلك. فإذا قلنا إن الطائفتين كانتا من أهل الحق فإنما نريد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا في الطائفتين، ومن سار معهم على سنته صلى الله عليه وسلم من التابعين. ونرى أن عليّاً المبشر بالجنة أعلى مقاماً عند الله من معاوية خال المؤمنين، وصاحب رسول رب العالمين، وكلاهما من أهل الخير. وإذا اندسَّ فيهم طوائف من أهل الشر، فإن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره 1. ثم ذكر بعد ذلك ما رواه ابن كثير في تاريخه عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم أنه قال ـ وقد ذكر أهل صفين: " كانوا عرباً، يعرف بعضهم بعضاً في الجاهلية، فالتقوا في الإسلام معهم على الحمية وسنة الإسلام، فتصابروا، واستحيوا من الفرار. وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء، فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم " 2. وقال الشعبي: " هم أهل الجنة، لقي بعضهم بعضاً فلم يفرّ أحد من أحد " 3. فهذا هو موقف أهل السنة ـ وموقف كل منصف ـ قديماً وحديثاً ـ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أما تلك المواقف التي وقفها الخوارج من الجميع والشيعة من أصحاب معاوية مع الغلو في شأن أهل البيت فإنها ظاهرة الفساد والبطلان بما تقدم تقريره من كلام عن العلماء الأعلام، الذي لم يتكلموا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء، بل قالوا بشأنهم ما يجب أن يقال، مستندين إلى الدليل القاطع، فلم يحكموا بهواهم ولم يتبعوا أغراضهم ـ بل قالوا بالعدل، وتكلموا بفصل الخطاب. أما ما استدل به الخوارج من نصوص لتكفير مرتكب الذنب فإن للسلف عنها جوابين: أحدهما أن المراد بقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا   1 محب الدين الخطيب في تعليقه على كتاب العواصم من القواصم، ص168-169. 2 انظر: البداية والنهاية لابن كثير، ج7 ص278، ط1 سنة 1966م. 3 المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وأمثالها كفر لا ينقل عن الملة، بل كفر دون كفر، وفسق دون فسق وظلم دون ظلم. وهذا رأي جماعة من المفسرين كعطاء، وطاووس وغيرهما. والرأي الثاني أنهم يكفرون باستحلالهم لذلك، فيحمل على من فعل الذنب مستحلاً له جاحداً لتحريمه أو وجوبه وهذا رأي ابن عباس وأصحابه 1. فجميع النصوص التي يفهم منه كفر مرتكب الذنب، فإنما المراد بذلك فاعل الذنب مستحلاً له. وكذلك النصوص التي تنفي عنه الإيمان فإنما المراد بها نفي كماله. وهكذا فإن الخوارج قد تمسكوا بخيط العنكبوت، إذ أن النصوص الأخرى المستفيضة التي تدل على بقاء إيمان المذنب ـ تدل على ذلك المعنى للنصوص المقابلة، وهو توفيق بحمد الله لا مدخل عليه. أما الحكم الأخروي لمرتكب الكبيرة: فهو موضع اتفاق بين طائفتي الخوارج والمعتزلة، وهذا أيضاً فيه مكابرة للنصوص، وتضبيق لرحمة الله الواسعة، وتيئيس من رجائه. والسلف ـ رحمهم الله ـ ومن وافقهم ينظرون إلى هذا الرأي نظرة ناقدة، ومفنِّدة لباطله فالمذنب مؤمن، مهما بلغ ذنبه، ودخوله النار أمر وارد، لأنه يستحقه ولكن الأمر الذي لا يمكن أن يحصل فهو تخليد المذنب في النار، إذ أن النصوص المستفيضة تدل على خروج المذنب من النار وعدم تخليده فيها، كقوله صلى الله عليه وسلم: " يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تبارك وتعالى: أخرجوا من كان في قلبه حبة خردل من إيمان، فيخرجون منها … " 2. وقوله صلى الله عليه وسلم: " ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن بُرَّة   1 انظر هذين الرأيين في جامع البيان للطبري ن ج6 ص256-257. 2 رواه البخاري، انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، ج1 ص64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير " وفي رواية " من إيمان " مكان " من خير " 1. ومن الأحاديث الدالة على خروج العصاة من النار وعدم خلودهم فيها حديث الشفاعة المشهور، وفي بيان هذه المسألة يقول شارح ((الطحاوية)) : النوع الثامن: شفاعته في أهل الكبائر من أمته، ممن دخل النار، فيخرجون منها، وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث. وقد خفي علم ذلك على الخوارج والمعتزلة، فخالفوا في ذلك جهلاً منهم بصحة الأحاديث، وعناداً ممن علم ذلك واستمر على بدعته. وهذه الشفاعة تشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضاً. وهذه الشفاعة تتكرر منه صلى الله عليه وسلم أربع مرات. ومن أحاديث هذا النوع حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " رواه الإمام أحمد رحمه الله. وروى البخاري ـ رحمه الله ـ في كتاب ((التوحيد)) : … عن أنس بن مالك … قال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا كان يوم القيامة، ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربك. فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم … " ـ إلى أن قال عليه السلام ـ: " فيأتوني فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها، لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخرُّ له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك وقل يسمع لك، واشفع تشفع وسل تعط، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة، أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان   1 المصدر نفسه السابق ص103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل ". فهذه أدلة قاطعة على خروج المذنبين من النار وأن مصيرهم إلى الجنة مهما عذبوا، وأما الخلود فلا يكون إلا بالكفر، والذنب ليس كفراً. وأما الأدلة التي استدلوا بها على الخلود فهي محمولة أيضاً على الاستحلال ممن فعل الذنب مستحلاً له فهو كافر كما قال ابن عباس في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} . فقد ذكر ابن جرير عنه في تأويل هذه الآية مع ما قبلها بشأن قسمة الميراث، وهي قوله سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} . فقد ذكر أن أناساً استنكروا هذا الحكم وقالوا أيورث من لا يركب الفرس، ولا يقاتل العدو، ولا يجوز الغنيمة نصف المال، أو جميع المال، استنكاراً منهم قسمة الله، ما قسم لصغار ولد الميت ونسائه، وإناث ولده، وخالفوا قسمة الله، وخالفوا حكمه في ذلك وحكم رسوله، استنكاراً منهم لحكمهما وهم المنافقون، ففيهم وفي أمثالهم نزلت هذه الآية فهم من أهل الخلود في النار، لأنهم باستنكارهم حكم الله يصيرون كفاراً، ومن ملة الإسلام خارجين. وكذلك يقال في كل نص ظاهره التخليد في النار، فالنصوص المقابلة ترشد إلى المراد، والله أعلم. انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، ج13 ص473-474.، حديث رقم 7510، وصحيح مسلم مع شرح النووي، ج3 ص53-58. وهذا لفظ البخاري. النساء: 14.   انظر: جامع البيان، لأبي جعفر محمد بن جرير الطري، ج4 ص291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الفصل الرابع موقف السلف من المتكلمين في مسألة الاستثناء تقدم لنا أن المتكلمين في الاستثناء على رأيين، فرأي يحرم الاستثناء كلية وهم المرجئة والأحناف. ورأي آخر يحرمه باعتبار، ويجيزه باعتبار آخر، وهم الأشاعرة. فيحرمونه باعتبار الحال، ويجيزونه باعتبار المآل. أما المرجئة فإن السلف أنكروا صحة مذهبهم، لأنهم بنوا تحريم الاستثناء على أساس أن الإيمان هو التصديق القلبي فقط، والاستثناء فيه لا يكون إلا عن شك فلا يجوز. وقد أثبتوا أنه تصديق وعمل، والاستثناء إذا كان عن شك، وأحس الإنسان ذلك من نفسه فإن السلف يوافقونهم على تحريمه، أما أن يحرم كلية بالاستناد إلى دعوى لم تصح وهي أن الإيمان عبارة عن التصديق القلبي فحسب فإن ذلك غير صحيح. والإيمان وإن كان مقطوعاً به فإن السلف يرون جواز الاستثناء فيما هو مقطوع به لورود الاستثناء في أمور مقطوع بها كما تقدم بيانه عند مذهب السلف من مثل قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} . أما عن الأشاعرة فقد حرموا الاستثناء في الحال لأنه أمر مقطوع به، والسلف أجابوهم بجواز الاستثناء في ما هو مقطوع به كما تقدم. أما جواز الاستثناء باعتبار الموافاة، فإن السلف في تجويزهم الاستثاء لم يجوزوه بهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الاعتبار، بل جوزوه باعتبار أن الأعمال جزء منه كما تقدم أيضاً، والأعمال لا يستطيع الإنسان أن يجزم باستكمالها فيعلق الإيمان بهذا الاعتبار. وفي بيان مخالفة مأخذ الأشاعرة في جواز الاستثناء في الإيمان لما عليه السلف يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ثم أكثر المتأخرين الذين نصروا قول جهم يقولون بالاستثناء في الإيمان، ويقولون: الإيمان في الشرع: ما يوافي به العبد ربه وإن كان في اللغة أعم من ذلك، فجعلوا في مسألة الاستثناء مسمى الإيمان ما ادعوا أنه مسماه في الشرع وعدلوا عن اللغة، فهلا فعلوا هذا في الأعمال، ودلالة الشرع على أن الأعمال الواجبة من تمام الإيمان لا تحصى كثرة، بخلاف دلالته على أنه لا يسمى إيماناً، إلا ما مات الرجل عليه، فإنه ليس في الشرع ما يدل على هذا، وهو قول محدث، لم يقله أحد من السلف، لكن هؤلاء ظنوا أن الذين استثنوا في الإيمان من السلف كان هذا مأخذهم. وعلى كل حال، فالسلف لا يجوزون الاستثناء في الإيمان عن شك فيه، فالإنسان يستثني في إيمانه إذا سئل عنه قاصداً تجنب تزكية نفسه بادعاء استكمال الإيمان، لأنه عبارة عن تصديق قلبي وأعمال، والأعمال لا يستطيع الإنسان ادعاء استكماله لها، وإلا فإن الإنسان قاطع بتصديقه القلبي. غير أن الاستثناء ورد في النصوص فيما هو مقطوع به أيضاً، وتحريم الاستثناء كلية بدعوى أنه شك لا يصح، لأن ذلك إذا صح فإن معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شاكاً حين قال في تسليمه على الموتى: " … إنا إن شاء الله بكم لاحقون "، وهذا ما لا يقوله مسلم. فالاستثناء جائز باعتبار الأعمال، لا في الاعتقاد القلبي، ولا في القول اللساني. وكما تقدم فإن السلف يكرهون الجواب عن سؤال أمؤمن أنت بالإطلاق لأن فيه ادعاء استكمال الإيمان وتزكية للنفس، وهذا ادعاء غير لائق وتزكية لا تجوز لقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} كما أن السلف كرهوا إيراد مثل هذا السؤال أصلاً.   ابن تيمية، كتاب الإيمان، ص120-121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 خاتمة البحث: أما بعد، فقد تبين لنا من خلال دراستنا لمذهب السلف ومذاهب المتكلمين أن منهج السلف في إثبات العقيدة هو المنهج السليم، الذي يجب أن يتبع، لذلك فإن آراءهم في الإيمان هي التي تتماشى مع واقع هذا الدين، وغرضه الذي أتى من أجله، من تحقيق للعبودية الكاملة لله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . فآراؤهم التي عرضناها في مواضعها، بمقارنتها مع آراء المتكلمين تقريراً واستدلالاً، مطابقة لما قرره الوحي الإلهي، وأرشد إليه. فالصحيح الذي يجب أن يقال هو أن الإيمان تصديق بالقلب،وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، فحقيقة الإيمان مركبة من هذه الأمور الثلاثة، والوحي الإلهي الذي نزل ببيان العقيدة الصافية دل على ذلك. ثم أن هذا القول هو الذي يحقق الهدف المنشود من وراء التشريعات العملية والعقدية، التي حث الله تبارك وتعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على التمسك بها وتطبيقها في حياة هذه الأمة، لتكون بحق خير أمة أخرجت للناس والدين الإسلامي الحنيف كما سبق أن قلت دين عمل وجد ومثابرة وطموح، يطلب من أتباعه أن يكونوا رهباناً بالليل وأسوداً بالنهار لتتحقق بذلك العزة والرفعة والغلبة لهذا الدين وأهله. هذا الدين الذي كان خاتمة الأديان، فكان خير دين ارتضاه الله تبارك وتعالى لخير أمة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} . وكيف نكون جديرين بهذه المكانة السامقة بين الأمم إذا نحن تقاعسنا عن الأخذ بالأسباب التي تصل بنا إليها، واكتفينا من صفة الإيمان بما احتواه القلب فقط، جاعلين العمل أمراً ثانوياُ خارجاً عن نطاق الإيمان. أما عن الصلة بين الإيمان والإسلام فقد توصلنا إلى أنهما يفترقان من حيث الحقيقة الشرعية لكل منهما متلازمان في الوجود، لدلالة حديث جبريل، وحديث وفد عبد القيس على هذا المعنى، وأن القول بالتلازم في الوجود حتى لكأنهما شيئ واحد هو الذي تجتمع عليه النصوص الدالة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الافتراق والاتحاد، مع ملاحظة أن كليهما مراد من أجل كمال الإيمان لأن الإنسان المسلم إذا قصر في الأعمال التي هي الإسلام فإن هذا التقصير يؤدي إلى نقصان إيمانه لأن الأعمال من الإيمان، فلا يخلو المسلم من إيمان به يصبح إسلامه، ولا إسلام به يصبح إيمانه، فهما متلازمان كتلازم الروح والجسد. وتوصلنا أيضاً إلى أن المذهب الحق الذي لا يدل الوحي إلا عليه دون سواه هو أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. وهذا المذهب أيضاً كما عرفنا هو الذي يجب أن يعتقد لانسجامه مع النصوص القرآنية والحديثية الواردة في هذا الشأن. ثم إن الغرض المنشود من هذا الدين لا يتحقق إلا بهذا الرأي، لأن فيه مجالاً للتسابق من أجل الوصول إلى الكمال الذي يحقق للمسلم درجة أسمى في الدنيا والآخرة، فإذا عرف الإنسان المسلم أن إيمانه فيه نقص مالم يعمل بجميع ما طلب منه العمل به، ويكف عن جميع ما طلب منه الكف عنه، فإنه يتحرك بالعمل الجاد ويتحرى الابتعاد عن المعاصي، ليحقق بذلك أكبر قدر ممكن من الكمال الديني الذي يكون سبباً في نجاته من النار، ودخوله الجنة. وتوصلنا أيضاً إلى أن الحق الذي يجب أن يتبع هو القول بأن مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، وهو يوم القيامة تحت المشيئة بين الخوف والرجاء، فإن شاء الله عذبه، وإن شاء عفا عنه ابتداءً، ثم إن عُذب فإن لا يخلد في النار، بل يخرج منها بعد أن يجازى فيها بقدر ذنوبه، ويدخل الجنة. وهذا الرأي أيضاً هو الذي يتماشى مع الوحي الإلهي، أما ما سواه فإن فيه إجحافاً وتطرفاً ما أنزل الله به من سلطان، وفيه من المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة. أما عن مسألة الاستثناء فقد توصلنا إلى جواز الاستثناء وجواز تركه والاستثناء أولى، لأن فيه بعداً عن ادعاء ما لا نستطيع الجزم بتحققه وهو كمال الإيمان، وفيه موافقة للنصوص الواردة بالاستثناء في الأمور المقطوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 بها. كما توصلنا أيضاً إلى تحريمه في حال الاستثناء عن شك في الإيمان القلبي. وجميع هذه النتائج التي توصلت إليها في بحثي تمثل مذهب السلف الصالح، وقد كان اختياري لها، واقتناعي بصحتها ناتجاً عن إيماني بوجاهة الأدلة التي استندوا إليها، وصراحتها في الدلالة على ما ذهبوا إليه. ثم إنني لما تفحصت ما خالفها من آراء المتكلمين، وجدت فيها بعداً واضحاً عن دلائل الوحي، وتعسفاً شديداً في توجيه الاستدلال، فوجدت نفسي تنفر منها وتميل إلى تلك العقيدة الصافية النقية، التي تتسم بموافقة تامة للوحي الإلهي وحرصي شديد على تقرير معتقداته التي يرشد إليها، ويحث على التمسك بها. وقد زاد مذهب السلف قوة إلى قوته، ووضوحاً إلى وضوحه، تلكم الأجوبة التي أجابوا بها على أدلة المتكلمين، والتي تبين في وضوح تام انسجام مذهبهم مع جميع ما ورد من قرآن وسنة حول هذا الموضوع. وختاماً: أوجِّه دعوتي إلى الأمة الأسلامية قاطبة أن تحكم كتاب الله وسنة رسوله فيما شجر بينها، لأنهما الفيصل بين الحق والباطل، وأن يتجردوا عن أهوائهم، ويتبعوا السبيل الذي أرشد الله تبارك وتعالى إليه، وأن يتأملوا في كتاب الله فسيجدون فيه العقيدة الصافية عن الشوائب، التي تعكر صفو هذه الأمة وتبث الفرقة بين أبنائها، وأن يتجنبوا كل قول يخالفه، بل وربما يؤدي إلى الكفر بهما في كثير من الأحيان، وأن يتمسكوا في إيمانهم بتلك الأقوال التي قررت صحتها دون سواها لصراحة الدليل، ووضوح الحجة، وأن يُعرِضوا عن كل رأي فيه مخالفة للدليل الشرعي، وأن يتطلعوا دائماً إلى الكمال في الدين، والتسابق في أفعال الخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 مصادر ومراجع ... مراجع البحث 1ـ القرآن الكريم. 2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، طبع المطبعة السلفية، بدون تاريخ. 3ـ صحيح مسلم مع شرحه للنووي، طبع المطبعة المصرية ومكتبتها، بدون تاريخ. 4ـ الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتوفي سنة 324، طبع إدارة الطباعة المنيرية بالأزهر، بدون تاريخ. 5ـ اتحاف المريد بجوهرة التوحيد، تأليف الشيخ عبد السلام بن إبراهيم المالكي اللقاني، وتعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ، الناشر مكتبة القاهرة، سنة 1379هـ ـ 1960م. 6ـ الإرشاد، لإمام الحرمين الجويني، تحقيق الدكتور محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم، طبع مطبعة السعادة بمصر، سنة 1369هـ ـ 1950م. 7ـ أصول الدين، تأليف أبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي المتوفي سنة 429هـ، الطبعة الأولى بمطبعة الدولة باستانبول، سنة 1346هـ ـ 1928م. 8ـ الاقتصاد في الاعتقاد، لأبي حامد الغزالي، تحقيق الدكتور عادل العوا، الطبعة الأولى، الناشر دار الأمانة ببيروت، سنة 1388هـ ـ 1969م. 9ـ أمالي القاضي عبد الجبار المعتزلي، تأليف جعفر بن أحمد بن عبد السلام، مخطوط ضمن مجموعة رسائل بمكتبة جامع الروضة بصنعاء. 10ـ كتاب الإيمان، لأبي عبيد القاسم بن سلام المتوفي سنة 224هـ، ضمن رسائل من كنوز السنة تحقق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، طبع المطبعة العمومية بدمشق، بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 1ـ كتاب الإيمان، لابن أبي شيبة، أبو بكر عبد الله بن محمد المتوفي سنة 235هـ، ضمن مجموعة الرسائل السابقة. 2ـ كتاب الإيمان، لابن منده، محمد بن إسحاق بن محمد، مصور بالمكتبة المركزية بجامعة الملك عبد العزيز، رقم 996. 3ـ كتاب الإيمان، لابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم الحراني، الناشر المكتب الإسلامي بدمشق، بدون تاريخ. 4ـ بحر الكلام، لأبي المعين النسفي، مخطوط بمكتبة ((علي باشا)) ضمن المكتبة السليمانية باستانبول، رقم 1571. 5ـ البداية والنهاية، للحافظ، أبو الفداء بن كثير الدمشقي المتوفي سنة، الطبعة الأولى سنة 1966م. 6ـ تأنيب الخطيب، لمحمد زاهد الكوثري، طبع مطبعة الأنوار بمصر، سنة 1361هـ ـ 1942م. 7ـ تأويل مختلف الحديث، تأليف أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفي سنة 276هـ، الناشر دار الجيل ببيروت، سنة 1393هـ ـ 1973م. 8ـ تبصرة الأدلة، لأبي المعين النسفي، مخطوط بمكتبة الأزهر تحت رقم 4406. 9ـ التبصير في الدين، لأبي المظفر الإسفرائيني المتوفي سنة، تحقيق محمد زاهد الكوثري، طبع مطبعة الأنوار سنة 1359هـ ـ 1940م. 10ـ التمهيد، للباقلاني، أبوبكر محمد بن الطيب، الناشر المكتبة الشرقية ببيروت، سنة 1957م. 11ـ التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، لأبي الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي، المتوفي سنة 377هـ، تحقيق محمد زاهد الكوثري، ط سنة 1388هـ ـ 1968م. 12ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، الطبعة الثانية بمطبعة الحلبي بمصر، سنة 1373هـ ـ 1954م. 13ـ الجوهرة المنيفة، شرح وصية أبي حنيفة، لحسين السكندري، مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 288. 14ـ رسالة في العقائد على مذهب أبي منصور الماتريدي، مجهولة المؤلف، مخطوطة بمكتبة ((لاله لي)) ضمن المكتبة السليمانية باستانبول رقم 2240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 1ـ الرفع والتكميل، للكنوي أبو الحسنات محمد عبد الحي الهندي، بتحقيق عبد الفتاح أبو غدة، طبع مطبعة الأصيل، بدون تاريخ. 2ـ كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية، تأليف الشيخ أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي، تحقيق الدكتور عبد الله سلوم السامرائي، طبع مطبعة الحكومة ببغداد، سنة 1392هـ ـ 1972م. 3ـ كتاب السنة للإمام أحمد بن حنبل، طبع المطبعة السلفية، سنة 1349هـ. 4ـ شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي المتوفي سنة 1089هـ، الناشر المكتب الإسلامي ببيروت، بدون تاريخ. 5ـ شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المتوفي سنة 415هـ، تعليق أحمد بن الحسين بن أبي هاشم، وتحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان، الطبعة الأولى بمطبعة الاستقلال الكبرى، القاهرة، سنة 1384هـ ـ 1965م. 6ـ شرح السنن، للالكائي، هبة الله بن الحسين بن منصور الطبري، مخطوط مصور بالمكتبة المركزية بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة تحت رقم 446. 7ـ شرح السنة، لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، وزهير الشاويش، الناشر المكتب الإسلامي بدمشق، بدون تاريخ. 8ـ شرح صحيح مسلم، للإمام محي الدين يحيى بن شرف النووي، طبع المطبعة المصرية، بدون تاريخ. 9ـ شرح عقائد الطحاوي، لأكمل الدين البابارتي، مخطوط بمكتبة أسعد أفندي باستانبول. 10ـ شرح العقيدة الطحاوية، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة، الناشر المكتب الإسلامي بدمشق، بدون تاريخ. 11ـ شرح الفة الأكبر، تأليف ملا علي القاري، طبع مطبعة الحلبي بمصر، سنة 1375هـ. 12ـ شرح المقاصد، تأليف سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، طبع مطبعة الحاج محرم أفندي، سنة 1305هـ. 13ـ كتاب الشريعة، للآجري، محمد بن الحسين المتوفي سنة 360هـ، تحقيق محمد حامد الفقي، الطبعة الأولى بمطبعة السنة المحمدية، سنة 1369هـ ـ 1950م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 1ـ طبقات الشافعية الكبرى، تأليف تاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، المتوفي سنة 771هـ، تحقيق محمود محمد الطناحي، وعبد الفتاح محمد الحلو، الطبعة الأولى بمطبعة عيسى الحلبي، سنة 1383هـ. 2ـ طبقات المعتزلة، تأليف أحمد بن يحيى بن المرتضي، وتحقيق سوسنة ديفلد، طبع المطبعة الكاثوليكية ببيروت، سنة 1380هـ ـ 1961م. 3ـ العالم والمتعلم، للإمام أبي حنيفة، تحقيق محمد رواس، وعبد الوهاب الندوي، طبع مطبعة البلاغة بحلب، سنة 1392هـ. 4ـ العقائد العضدية، لعضد الدين الإيجي، طبع المطبعة العثمانية، سنة 1316هـ. 5ـ كتاب العدل والتوحيد، ونفي التشبيه عن الله الواحد الحميد، للقاسم الرسي، ضمن مجموعة رسائل العدل والتوحيد، تحقيق محمد عمارة، الناشر مؤسسة الهلال، سنة 1971م. 6ـ العقد الثمين في معرفة رب العالمين، للأمير الحسين بن بدر الدين المتوفي سنة 662هـ، الناشر دار مكتبة الحياة ببيروت، سنة 1392هـ ـ 1972م. 7ـ عقيدة السلف وأصحاب الحديث، لأبي عثمان إسماعيل الصابوني، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، الناشر محمد أمين دمج ببيروت، سنة 1970م. 8ـ العقيدة النظامية، لإمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني، تحقيق محمد زاهد الكوثري، طبع مطبعة الأنوار، سنة 1367هـ ـ 1948م. 9ـ العقيدة والشريعة في الإسلام، تأليف: أجناس جولد تسيهر وتعريب الدكتور محمد يوسف موسى وآخرون، الطبعة الثانية بمطابع دار الكتاب العربي بمصر، بدون تاريخ. 10ـ غاية المرام في علم الكلام، لسيد الدين الآمدي المتوفي سنة 631هـ، تحقيق حسن محمود عبد اللطيف، طبع سنة 1391هـ. 11ـ فتح الباري، تأليف أحمد بن علي بن حجر العسقلاني وتحقيق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، طبع المطبعة السلفية بالقاهرة، سنة 1380هـ. 12ـ الفرق بين الفرق للبغدادي، عبد القاهر بن طاهر التميمي المتوفي سنة 429هـ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، طبع مطبعة المدني بالقاهرة، بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 1ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل، تأليف أبي محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهري المتوفي سنة 456هـ. 2ـ الفقه الأكبر مع شرحه لعلي القاري، تأليف الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، طبع مطبعة الحلبي بمصر، سنة 1375هـ. 3ـ القاموس المحيط، للفيروز أبادي، طبع مطبعة السعادة بمصر، بدون تاريخ. 4ـ لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية، تأليف الشيخ محمد بن أحمد السفاريني الأثري الحنبلي، الناشر الشيخ علي آل ثاني حاكم قطر، بدون تاريخ. 5ـ متشابه القرآن، للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني، تحقيق الدكتور عدنان محمد زرزور، طبع دار النصر للطباعة بالقاهرة، بدون تاريخ. 6ـ المختصر في أصول الدين، للقاضي عبد الجبار، ضمن مجموعة رسائل العدل والتوحيد تحقيق محمد عمارة، الناشر دار الهلال، سنة 1971م. 7ـ مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تأليف الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف بابن قيم الجوزية، طبع مطبعة السنة والمحمدية، سنة 1375هـ. 8ـ المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، تأليف عبد القادر بن أحمد بن مصطفى المعروف بابن بدران الدمشقي، الناشر إدارة الطباعة المنيرية بمصر، بدون تاريخ. 9ـ المسامرة بشرح المسايرة، تأليف كمال الدين محمد بن محمد المعروف بابن أبي شريف القدسي، المتوفي سنة 906هـ، طبع مطبعة السعادة بمصر، بدون تاريخ. 10ـ مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، للإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، الطبعة الثانية، سنة 1389هـ ـ 1969م. 11ـ الملل والنحل، تأليف محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، وتحقيق محمد سيد كيلاني، طبع مطبعة الحلبي بمصر، سنة 1387هـ ـ 1967م. 12ـ منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، لشيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الشهير بابن تيمية الحراني، الطبعة بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 1ـ المواقف، لعضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الأيجي، الطبعة الأولى بمطبعة السعادة، سنة 1325هـ ـ 1907م. 2ـ نظرية التكليف، للدكتور عبد الكريم عثمان، الناشر مؤسسة الرسالة ببيروت، سنة 1391هـ ـ 1971م. 3ـ نهاية الأقدام في علم الكلام، تأليف محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، تحقيق ألفرد جيوم، الطبعة بدون تاريخ. 4ـ وصية الإمام أبي حنيفة، تأليف أبي حنيفة النعمان بن ثابت، مخطوطة بمكتبة أسعد أفندي، ضمن المكتبة السليانية باستانبول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224