الكتاب: الانتصار لأهل السنة والحديث في رد أباطيل حسن المالكي المؤلف: عبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمد العباد البدر الناشر: دار الفضيلة، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1424هـ/2003م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الانتصار لأهل السنة والحديث في رد أباطيل حسن المالكي عبد المحسن العباد الكتاب: الانتصار لأهل السنة والحديث في رد أباطيل حسن المالكي المؤلف: عبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمد العباد البدر الناشر: دار الفضيلة، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1424هـ/2003م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... الانتصار لأهل السنَّة والحديث في ردِّ أباطيل حسن المالكي تأليف: عبد المحسن بن حمد العباد البدر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله القائل في محكم التنزيل {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ، أحمدُه ولا أحصي ثناءً عليه، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده، لا شريك له في ربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته، ربُّ العالَمين، وإله الأوَّلين والآخرين، وقيُّوم السموات والأرضين، ليس كمثله شيءٌ وهو السَّميع البصير، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، الذي بلَّغ البلاغ المبين، فدلَّ أمَّته على كلِّ خير، وحذَّرها من كلِّ شرٍّ، وقال: "تركتكم على البيضاء، ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلاَّ هالك"، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى أزواجه وذريَّته وسائر أهل بيته المطهَّرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين أهل العلم والإيمان والصدق والإحسان، وعلى كلِّ مَن جاء بعدهم قائلاً: ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للَّذين آمنوا ربَّنا إنَّك رؤوف رحيم. أمَّا بعد، فقد نبت في هذا الزمان في أقصى جنوب هذه البلاد نابتةٌ تسلَّق أسوارَ العلم، وأتى بيوتَه من غير أبوابها، فقفى ما ليس له به علم، وخَبَط في العلم خَبْطَ عَشواء، وحَمَلَ على أهل السُّنَّة والحديث منذ عهد الصحابة وحتى زماننا حَمْلة شعواء، وهذا النابتةُ حسن بن فرحان المالكي، نسبة إلى بني مالك في أقصى جنوب المملكة، وإنَّما قلت: "نسبة إلى بني مالك"؛ لئلاَّ يظنَّ ظانٌّ نسبتَه إلى مذهب الإمام مالك، أحد أئمَّة أهل السُّنَّة، فإنَّه ليس من أهل السُّنَّة، بل هو من الموغلين في البدع، المحاربين لأهل السنَّة، وقلت: "في أقصى جنوب المملكة"؛ لئلاَّ يُتوهَّم نسبته إلى بني مالك الذين ذُكِر أنَّ نسبَهم يرجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 إلى بَجيلة، ومنازلهم قريبةٌ من الطائف؛ لأنَّ ظنَّ نسبته إليهم مع خبثه وسوء معتقده لا شكَّ أنَّه يسوؤهم، وأمَّا الذين في الجنوب فهو وإن كان منهم فإنَّ نسبتَه إليهم لا تضرُّهم؛ لأنَّه لا تزر وازرةٌ وزر أخرى، وقد ذكر هذا النابتة في آخر أحد كتبه السيِّئة أنَّ ولادَتَه سنة (1390هـ) ، وهذه السنة هي التي تلي سنة وفاة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، مفتي البلاد ورئيس قضاتها (قبل إنشاء وزارة العدل) ، ورئيس الكليَّات والمعاهد العلمية (التي أُطلق عليها فيما بعد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) ، ورئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة، وقد أرَّختُ سنة وفاته ـ رحمه الله ـ بكلمات على صيغة دعاء بحِساب الحروف، وذلك بقولي: "جُد جوادُ واغفر لي وله"، وذلك فيما كتبته عنه وعن الملك فيصل بعنوان: "عالِم جِهبذ ومَلِك فذ"، وكان ـ رحمه الله ـ سدًّا منيعاً في وجه أهل الباطل؛ وذلك لهيبته العظيمة وهمَّته العالية وقوَّته في الحقِّ وصرامته فيه وحراسته الدِّين في هذه البلاد، وهذا النابتة من الدجَّالين الذين ظهروا بعد زمانه. وهذا الرَّجل العظيم من أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وأسرةُ الشيخ الإمام من قبيلة بني تَميم، الذين أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّهم أشدُّ أمَّته على الدجَّال، أخرجه البخاري (2543) ، وكما كانت هذه القبيلة في آخر الزمان أشدَّ الناس على الدجَّال الأعظم، فإنَّ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأبناءَه وأحفادَه وتلاميذه وتلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم مِن أشدِّ الناس على الدجَّالين، الذين يأتون في أزمانهم، مثل هذا المالكي ومَن كان على شاكلته من أهل الزيغ والضلال. وقد كَرَع هذا النابتةُ في مستنقعات أهل البدع، وعبَّ منها ما شاء الله أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 يَعُب، واطَّلع على ما أمكنه الاطِّلاعُ عليه من كتب أهل السُّنَّة لالتقاط الأخطاء وتصيُّد المثالب، ثم تقيَّأ ذلك كلَّه في أوراق سَمَّاها بحوثاً. ومن أقبح ما تقيّ‍َأه بحثه المزعوم الذي سَمَّاه"قراءة في كتب العقائد ـ المذهب الحنبلي نموذجاً"، وقد شحنه بالهذيان والأباطيل في ذمِّ أهل السُّنَّة والثناء على المبتدعة، وسأشير هنا إلى جملة من تلك الأباطيل، ذاكراً بعدها رقم المبحث الذي وردت فيه من هذا الرد. فمِن ذلك زعمه أنَّ مصطلحَ العقيدة مبتدَع (6) ، وقدحه في كتب أهل السُّنَّة في العقيدة (7) ، وزعمه الاكتفاء بإسلام لا يُتعرَّض فيه لجزئيات العقيدة؛ لأنَّ ذلك بزعمه يُفرِّق المسلمين (8) ، وثناؤه على أهل البدع وقدحه في أهل السُّنَّة (9) ، وقدحه في أفضليَّة أبي بكر رضي الله عنه وأحقيَّته بالخلافة (11) ، وقدحه في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما (12) ، وقدحه في أحاديث صحيحة بعضها في الصحيحين (14) ، وزعمه أنَّ المعوَّل عليه في النصوص ما كان قطعيَّ الثبوت قطعيَّ الدلالة فقط (15) ، وزعمه أنَّ أهل السُّنَّة مجسِّمة ومشبِّهة (16) ، وثناؤه على المأمون الذي نصر المبتدعة وآذى أهلَ السُّنَّة وذمُّه للمتوكِّل الذي نصر السنَّة وأنهى المحنة (18) ، وتشكيكه في ثبوت السنَّة والإجماع، وزعمه أنَّ أهل السُّنَّة يُزَهِّدون في التحاكم إلى القرآن مع المبالغة في الأخذ بأقوال الرِّجال (24) ، وزعمه أنَّ أهل السُّنَّة يُزهِّدون في كبائر الذنوب والموبقات (25) ، وزعمه أنَّ أهل السُّنَّة يتساهلون مع اليهود والنصارى مع التشدُّد مع المسلمين (26) ، وزعمه أنَّ قاعدةَ (اتِّباع الكتاب والسنَّة بفهم سلف الأمَّة) باطلةٌ وأنَّها بدعة (27) ، وزعمه أنَّ تقسيم التوحيد إلى ربوبيَّة وألوهيَّة تقسيمٌ مبتدَع (28) ، وتشنيعه على الإمام أحمد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 مسألة التكفير (29) ، ورميه أهل السُّنَّة بالنَّصب وزعمه أنَّ ابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير نواصب (30) . والله يعلم أنِّي كارهٌ لإيراد كلامه في هذه الأباطيل، لكن دعت الضرورة إلى ذلك، وأقول فيها كما قال السيوطي في كتابه"مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنَّة" (ص: 5) : "اعلموا ـ يرحمكم الله ـ أنَّ من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تُذكر إلاَّ عند داعية الضرورة، وأنَّ مِمَّا فاح ريحُه في هذا الزمان، وكان دارساً بحمد الله تعالى منذ أزمان، وهو أنَّ قائلاً رافضيًّا زنديقاً أكثر في كلامه أنَّ السنَّةَ النبويَّة والأحاديث المرويَّة ـ زادها الله علوًّا وشرَفاً ـ لا يُحتجُّ بها، وأنَّ الحجَّةَ في القرآن خاصَّة ... فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ مَن أنكر كون حديث النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ـ قولاً كان أو فعلاً بشرطه المعروف في الأصول ـ حجَّةً كفرَ وخرج عن دائرة الإسلام، وحُشر مع اليهود والنصارى، أو مع مَن شاء الله من فرق الكفرَة ... وهذه آراء ما كنتُ أستحلُّ حكايتَها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد، الذي كان الناس في راحة منه من أعصار". وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فإنَّ التشابهَ بين المالكي وهذا الرافضي الذي ذكره السيوطي واضحٌ؛ لأنَّ المالكيَّ شكَّك في ثبوت السنَّة وزعم أنَّ ثبوتَها مختلفٌ فيه، وقال في (ص: 164) من قراءته المزعومة: "فقد اختلف المسلمون في ثبوت السنة وفي الإجماع وفي القياس وفي قول الصحابي وفي غير ذلك، لكن لم يختلفوا أنَّ القرآن هو المصدر الرئيس الشرعي في كلِّ أمر من الأمور الدينية"!! ويرى بعضُ الناس أنَّ في الردِّ على هذا المالكيِّ إشهاراً له، وأقول: نعم! هو إشهارٌ له، لكن بالخزي والفضيحة، واشتهارُه نظيرُ اشتهار صاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الحكاية الذي قال: سأعملُ عملاً أُذكَر به في التاريخ، فما كان منه في جمع حاشد إلاَّ أن خلَع ثيابَه وتعرَّى أمامهم، فتحقَّق له ذلك الذي أراده، وأيضاً فمِن المعلوم أنَّ الباطلَ إذا ظهر تعيَّن كشفُه وتزييفُه وإيضاحُ بطلانه. وإذا لَم يهتد المالكي قبل بلوغه أجلَه فسيموتُ بغيظه، وسيبقى إن شاء الله ذكرُه السيِّء كما بقي ذكرُ أسلافه، كالجعد بن درهم، وجهم بن صفوان، وغيرهما من المبتدعة أهل الزيغ والضلال، وستبقى إن شاء الله الردودُ عليه، كما بقيت الردودُ من علماء السلف، كالإمام أحمد والدارمي وابن منده الذين ردُّوا على الجهمية. وقد قلت في مقدِّمة كتابي"الانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي": "وسأُفرِدُ بحول الله الردَّ عليه فيه ـ أعني قراءته المزعومة في كتب العقائد ـ بكتاب بعنوان: الانتصار لأهل السُّنَّة والحديث في ردِّ أباطيل حسن المالكي"، وبإنجاز هذا الردّ أكون قد وفَّيتُ بهذا الوعد، والحمد لله ربِّ العالَمين. ولكون الجهاد المتيسِّر في هذا الزمان جهاد أهل النفاق والإلحاد والزيغ والضلال، ولأنَّني عند قراءتي بحثيْه المزعومين الذين رددتُ عليهما مع كتابه السيِّء عن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وجدتُه ذكرَ أسماءَ بحوث زعم أنَّه بصدد كتابتها، فإنِّي أعِدُ الآنَ بأنِّي على استعداد للردِّ عليه، إمَّا بنفسي، أو بالطلب من غيري، ولذا آملُ مِمَّن يقف على شيء من بحوثه المزعومة تزويدي بنسخة من ذلك. وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُريَنا الحقَّ حقًّا ويُوفِّقنا لاتِّباعه، والباطلَ باطلاً ويُوفِّقنا لاجتنابه، وأن ينصرَ دينَه ويُعلي كلمتَه، إنَّه سبحانه وتعالى جوادٌ كريم، وصلى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 1 ـ إهداؤه كتابه نموذج من هدايا الضلال والإضلال صدَّر المالكي قراءته في كتب العقائد بالإهداء إلى عموم المسلمين من علماء وباحثين ومفكِّرين وساسة، وقال: "وهو في الوقت نفسه إهداء إلى كلِّ المختلفين من أصحاب المذاهب، سواء كانوا سنَّةً أو شيعة أو إباضية ... سلفية أو أشاعرة ... وهو إهداء أيضاً إلى أصحاب التيارات الأخرى من المنتمين إلى علمانية أو اشتراكية أو حداثة فكرية أو ليبيرالية؛ لعلَّهم يجدون تصحيحاً لِمَا ألصقه المتمذهبون بدين الإسلام!! ". وتعليقاً على هذا الإهداء أقول: 1 ـ إهداءُ العلم النافع له أصل عند سلف هذه الأمَّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري (3370) ، ومسلم (406) ، واللفظ للبخاري بإسناده إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "لقينِي كعب بن عُجرة فقال: ألاَ أُهدي لك هديَّة سمعتُها من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: بلى! فأهدِهَا لي، فقال: سألْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإنَّ الله قد علَّمنا كيف نسلِّم؟ قال: قولوا: اللَّهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، اللَّهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركتَ إلى إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد". 2 ـ من الناس مَن تكون هديَّتُه دعوةً إلى الحقِّ والهُدى، ولا حدَّ لنفع هذه الهديَّة، ومنهم مَن تكون هديَّتُه دعوةً إلى الضلال، ولا حدَّ لضرر هذه الهديَّة؛ فقد روى مسلمٌ في صحيحه (2674) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ينقصُ ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً". ومن الناس من يُهدي السَّمنَ والعسل، ومنهم مَن يُهدي السُّمَّ والحنظلَ والحيَّات والعقارب، وهديَّة المالكي هذه من نوع هدايا الضلال والسُّمِّ والحنظل والحيَّات والعقارب، كما سيتَّضح ذلك في دحض أباطيله التي اشتمل عليها هذا الكتاب المُهدَى. 3 ـ هذا الكتاب المُهدَى مشتملٌ على الذمِّ والثَّلب لأهل السُّنة والجماعة، والتَّأييد لفرق الضلال المختلفة، وهو في الحقيقة هديَّة ثمينةٌ لفرق الضلال. 4 ـ من العجيب شموله في هديته للعلمانيِّين ومَن ذكر معهم لعلَّهم يَجدون تصحيحاً لِما ألصقه المتمذهبون بدين الإسلام، وهم لن يُحصِّلوا التصحيح المزعوم، وإنَّما سيجدون ما يَسرُّهم من الذَّمِّ والنَّيل لأهل السنَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 2 ـ كاتب هذا البحث المزعوم وناشره وصاحب الأَحَدية متعاونون على الإثم والعدوان قال في (ص: 9 ـ الحاشية) : "أصل هذا الكتاب محاضرة ألقيتُها في أَحَدية الدكتور راشد المبارك (6/8/1420هـ ـ 14/11/1999م") ، وذكر في مطلع كتابه المشين في الصحابة الذي سبق أن رددتُ عليه في كتابي: "الانتصار للصحابة الأخيار"، ذكر أنَّ أصلَ ذلك الكتاب محاضرةٌ ألقاها في أحدية الدكتور راشد المبارك يوم الأحد 26 ذي القعدة 1419هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 أقول معلِّقاً على ذلك: ما كان يليق بصاحب الأحدية المذكورة أن يُمكِّنَ من إلقاء هذا الباطل في أَحديَّته؛ لأنَّ مثلَ هذا التمكين من التعاون على الإثم والعدوان؛ فقد روى مسلمٌ في صحيحه (671) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أحبُّ البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها"، وإنَّما كانت الأسواقُ أبغضَ البلاد إلى الله لِمَا يكون فيها من الصَّخَب واللَّغو والكلام الذي لا ينبغي، ولا شكَّ أنَّ الأماكنَ التي يكون فيها منابرُ لإعلان الباطل ونشره أَسْوأُ من الأسواق، فقد قال الله عزَّ وجلَّ عن الأرض: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} ، قال ابن كثير في تفسيره: "أي تُحدِّث بما عمل العاملون على ظهرها"، ثم ذكر حديثاً في ذلك ضعيف الإسناد. وفي صحيح البخاري (986) عن جابر رضي الله عنه قال: "كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريقَ"، وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح في شرحه عدَّةَ أقوال في حكمة ذلك، أوَّلها: أنَّه فعل ذلك ليشهدَ له الطريقان. وأسوأُ حالاً من صاحب الأَحَدية مَن قام بطباعة هذا الكتاب ونشره؛ فإنَّ لكلِّ ساقطةٍ لاقطة، فهذه القراءة المزعومة في كتب العقائد تلقَّفها ونشرها مركز للدراسات التاريخية في دولة عربية، وهو عملٌ من أعظم التعاون على الإثم والعدوان؛ لِمَا فيه من تعميم نشر الباطل على نطاق واسع، وقد مرَّ قريباً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقصُ ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 قال المنذريُّ في الترغيب والترهيب (1/65) تعليقاً على حديث "إذا مات ابن آدم انقطع عملُه إلاَّ من إحدى ثلاث ... " الحديث، قال: "وناسخُ العلم النافعِ له أجره وأجر من قَرأَه أو نسخه أو عمل به من بعده، ما بقي خطُّه والعمل به؛ لهذا الحديث وأمثاله، وناسخ غير النافع مِمَّا يوجبُ الإثم، عليه وزرُه ووزرُ من قرأه أو نسخه أو عمل به من بعده، ما بقي خطُّه والعملُ به؛ لِمَا تقدَّم من الأحاديث (مَن سنَّ سُنَّة حسنة أو سيِّئة) ، والله أعلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 3 ـ زعمه أنَّه سلفيٌّ سُنِيٌّ، وذِكرُ نماذج من كلامه تُبطل دعواه وقال في (ص: 9) : "قد يكون من فضول القول التأكيد بأنَّني ـ والحمد لله ـ من طلبة الحق والعلم، ومن أهل السُّنَّة والجماعة، ولا أرفع من الشعارات إلاَّ قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، متحريًّا الحقَّ والصواب بحسب قُدراتي واجتهادي!! ". وقال في (ص: 17) : "وأخيراً فيجب أن أُؤكِّدَ أنَّنِي مسلمٌ سُنِيٌّ سلفيٌّ حنبليٌّ، ومَن زعم أنَّني أنتَمي لمذهب آخر باهَلتُه!! ". وقال في (ص: 196) : "بل لا أعتبر نفسي إلاَّ حنبليًّا بحكم النشأة والتعليم والبيت والتلقِّي والطريقة في الاستدلال". وأجيب عن هذه الدعاوى بما يلي: 1 ـ نعم! إنَّ قولَ المالكي إنَّه من أهل السُّنَّة والجماعة هو من فضول القول وليس من حقائقه! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 2 ـ أنَّ زعمَه أنَّه سُنِيٌّ سلفي حنبليٌّ مُجرَّدُ دعوى، تُبيِّنُ كلماتُه التي أنقلها من قراءته المزعومة من كتب العقائد بطلان هذه الدعوى. فليس سُنيًّا مَن يُشكِّك في أحقيَّة أبي بكر بالخلافة، ويقول في (ص: 48) : "لكن السبب في بيعتهم أبا بكر وتركهم عليًّا أنَّ عليًّا لم يكن موجوداً في السَّقيفة أثناء المجادلة والمناظرة مع الأنصار، وربَّما لو كان موجوداً لَتَمَّ له الأمر!! ". ويقول أيضاً في نفس الصفحة: "أمَّا أن يتمَّ الأمر في وسط النزاع المحتدم بين المهاجرين والأنصار، ثم بين الأوس والخزرج من الأنصار، فهذا يُضعف عندهم ـ يعني عليًّا ومن معه بزعمه ـ شرعيَّة البيعة، ويجعلها أشبه ما تكون بالقهر والغلبة، التي تتنافى مع الشورى المأمور بها شرعاً {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} !!! ". وليس سُنيًّا مَن يظنُّ بمعظم الأنصار ظنَّ السوء، فيزعم أنَّهم يرون أنَّ عليًّا أولَى بالخلافة من أبي بكر رضي الله عنهما، فيقول في (ص: 46) : "بل تبيَّن أنَّ معظمَ الأنصار كانوا يَميلون مع عليٍّ أكثر من ميلهم مع أبي بكر رضي الله عنهما!! ". وهذا الظنُّ السيِّء من المالكيِّ مبايِنٌ تَماماً لِمَا ثبت في صحيح البخاري (5666) وصحيح مسلم (2387) واللفظ لمسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادْعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتبَ كتاباً؛ فإنِّي أخاف أن يتَمنَّى مُتمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر". فلا يجوز أن يُظنَّ ببعض الأنصار ـ فضلاً عن معظمهم ـ أنَّهم يأبون إلاَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 غير أبي بكر، مخالفين لِمَا جاء في هذا الحديث، فالله يأبَى إلاَّ أبا بكر، والمؤمنون يأبون إلاَّ أبا بكر، ويأبى بعضُ الذين اتَّبعوا غير سبيل المؤمنين من أهل الأهواء والبدع إلاَّ غير أبي بكر، نعوذ بالله من الخذلان. وليس سُنيًّا مَن يزعم في (ص: 164) : أنَّ السُّنَّةَ مختلفٌ في ثبوتها، وليس سُنيًّا مَن يَقدحُ في ثبوت حديث: "تركت فيكم كتاب الله وسُنَّتي"، ويصف في (ص: 71) الذين أثبتوه زاعماً أنَّهم عارضوا به حديث العِترة بأنَّهم جهلةُ أهل السُّنَّة، وهو حديثٌ ثابتٌ كما سيأتي بيانُ ذلك. وليس سُنيًّا ولا حنبليًّا مَن يصف الخليفة المأمون بأنَّه من أعدل ملوك بني العباس وأعلمهم، وهو الذي نصر المعتزلة، وآذى أهلَ السنَّة، وفي مقدِّمتهم الإمام أحمد بن حنبل، الذي يزعم المالكي أنَّه حنبليٌّ نسبة إليه، ويَصف الخليفةَ المتوكِّل الذي نصر أهلَ السُّنَّة وأنهى المحنةَ بخلق القرآن بأنَّه مبتدعٌ ظالم (ص: 135) . وفي كتابه السيِّء في الصحابة كلماتٌ له تبيِّن بوضوح أنَّه ليس من أهل السُّنَّة والجماعة، وإنَّما هو من الموغلين في البدع، منها زعمه قَصْر الهجرة على المهاجرين قبل الحُديبية، وقصْر الصحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، فلا يُمكن بأيِّ حال من الأحوال أن يكون سُنيًّا مَن يزعم أنَّ المهاجرين هم مَن هاجر قبل الحُديبية فقط دون غيرهم مِمَّن هاجرَ بعدها، ولا أن يكون سُنيًّا مَن يزعم أنَّ الصحابةَ هم الذين صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الحُديبية من المهاجرين والأنصار دون غيرهم مِمَّن صحبه بعد الحُديبية، ويزعم أيضاً أنَّ صُحبةَ هؤلاء كصحبة المنافقين والكفار، ولا شكَّ أنَّ هذا القولَ من محدثات القرن الخامس عشر، ولا وجود له قبل إحداث هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 المبتدع إيَّاه في هذا القرن، وقد أوضحتُ الردَّ عليه في ذلك في كتابي: ((الانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي" في (ص: 9) وما بعدها، وهو مطبوع متداوَل. وليس سُنيًّا مَن يزعمُ بأنَّ العباسَ بنَ عبد المطلب ـ عمّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنه وابنَه عبد الله رضي الله عنه لَم يظفرَا بشرف صُحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا بلا شكٍّ من الجفاء في بعض أهل البيت، بل هو جفاءٌ في أقرب رجل من أهل البيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عمُّه العباس رضي الله عنه، الذي يستحقُّ ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان يُورَث عنه المال، وقد أوضحتُ بطلانَ كلامه هذا في كتاب ((الانتصار" (ص: 83) . وليس سُنيًّا مَن يزعمُ أنَّ خالد بنَ الوليد رضي الله عنه ليس بصحابيٍّ، وقد وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّه سيفٌ من سيوف الله، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري (3757) . وليس سُنيًّا مَن يزعمُ أنَّ المغيرةَ بنَ شعبة رضي الله عنه ليس بصحابيٍّ، وهو الذي كان واقفاً على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحُديبية وبيده السيف يَحرسُه، كما في صحيح البخاري (2731، 2732) . وقد ذكرتُ بطلانَ ما زعمه من عدم صحبة خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص رضي الله عنهم في كتابي: "الانتصار" (ص: 87 ـ 105) . وليس سُنيًّا مَن يزعمُ أنَّ أكثرَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذادون عن الحوض ويُؤمَر بهم إلى النار، وأنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل هَمَل النَّعم، وقد أوضحتُ بطلانَ كلامه هذا في"الانتصار" (ص: 128 ـ 130) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وليس سُنيًّا مَن يُنكرُ القولَ بعدالة الصحابة، وقد أجمع على ذلك أهل السُّنَّة والجماعة، وقد نقلتُ عن بعض العلماء حكاية الإجماع في ذلك، مع بيان بطلان ما زعمه المالكيُّ من عدم عدالتهم فِي"الانتصار" (ص: 124 ـ 126) . 3 ـ أمَّا ما زعمه من استعداده لِمُباهلة من يقول: إنَّه ليس من أهل السُّنَّة، فهذا من التهويل وإيهامه مَن لا بصيرة له بأنَّه على الحقِّ، مع أنَّه موغلٌ في الضلال، ولا أدري على أيِّ شيء سيُباهل؟ فهل سيُباهلُ على غلُوِّه في عليٍّ رضي الله عنه وبعض أولاده، وجفائه في العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله وغيرهما من أهل البيت؟! أم سيُباهل على زعمه بأنَّ أكثرَ أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يُذادون عن الحوض، وأنَّه يُؤمَر بهم إلى النَّار، ولا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل هَمَل النَّعم؟! أم سيُباهل على تشكيكه في خلافة أبي بكر، وأنَّها أشبهُ بالقهر والغلبة؟! أم سيُباهل على سوء ظنِّه في الصحابة وإنكاره القول بعدالتهم؟! أم سيُباهل على أباطيله الأخرى التي أوضحتُها في هذا الكتاب وفي كتابي"الانتصار للصحابة الأخيار"؟! وصدق الله عزَّ وجلَّ في قوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، وفي قوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} ، وفي قوله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ، ربَّنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهَب لنا من لدنك رحمةً إنَّك أنت الوهَّاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ولا شك أنَّ أيَّ إنسان يُباهل هذا المالكيَّ على بطلان أباطيله التي أشرتُ إلى جملة منها هو الرابح، وأنَّ صاحب هذه الأباطيل هو الخاسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 4 ـ زعمه أنَّه حنبليٌّ وأنَّ نقدَه للحنابلة في العقيدة من النَّقد الذاتي، والردُّ عليه قال في (ص: 10) : "ليس هناك أيّ خطأ أو تناقض أن يقوم مسلمٌ بنقد أخطاء المسلمين؛ لأنَّ الإسلامَ غيرُ المسلمين، ومن ذلك أن يقوم سُنِّيٌّ بنقد أخطاء أهل السُّنَّة؛ لأنَّ السنَّةَ غيرُ أهل السنَّة، ومن ذلك أيضاً أن يقوم حنبليُّ النَّشأة والتعليم والالتزام العام الواعي بنقد أخطاء الحنابلة؛ لأنَّ الحنابلةَ غيرُ أحمد بن حنبل، مع أنَّ أحمد بن حنبل نفسه بشرٌ يخطئُ ويُصيب!! ". وقال فيها أيضاً: "وعلى هذا الأساس ليسمح لي الإخوة الكرام أن أبيِّن أنَّ ما نفعله أنا وبعضُ الباحثين من نقد ذاتيٍّ لبعض جوانب الغلو أو المنكر داخل كتب أو فكر الحنابلة هو من هذا الباب!! ". ويُجاب عن ذلك بما يلي: 1 ـ ما زعمه من أنَّه سُنيٌّ حنبليٌّ ينتقد أهل السُّنَّة والحنابلة نقداً ذاتيًّا هو من قبيل المكر والتلبيس والإيهام بالإنصاف، وهو في الحقيقة من قبيل الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وتقويض البنيان وتهديد الحصون من الداخل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 2 ـ في الوقت الذي يكون نصيب أهل السُّنَّة والحنابلة منه النَّقد والثلب وتصيُّد الأخطاء للعيب فيها، يكون نصيبُ فرق الضلال منه السلامة، بل المدح والثناء، كما سيأتي بيانُ ذلك من كلامه، ولو كان صادقاً فيما يقول لبدأ بنقد فرق الضلال، فيُبيِّن ما عندهم من الباطل ويحذِّر منه، أمَّا أن يعمدَ إلى نقد أهل السُّنَّة الذين يزعم أنَّه منهم وهم بُرآء منه فذلك من أوضح الأدلَّة على حقده على أهل السُّنَّة وموافقته لغيرهم من فرق الضلال. 3 ـ ليس بغريب على المالكي أن ينالَ من أهل السُّنَّة ويشغلَ نفسه بعيبهم، وهو الذي حصل منه القدح في الصحابة والنَّيل منهم، وزعم أنَّ أكثرهم يُذادون عن حوض الرسول صلى الله عليه وسلم ويُؤخذون إلى النار، وأنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل همل النَّعم، كما مرَّت الإشارةُ إلى ذلك قريباً. 4 ـ ليس حنبليًّا مَن يغمز الإمامَ أحمد بأنَّه تسبَّب في تفريق المسلمين أحزاباً، حيث قال في (ص: 154) معلِّقاً على ما ذُكر من حزن اليهود والنصارى والمجوس عند موته، فقال: "ولن يحزن هؤلاء لموته إلاَّ إذا كان منهجه مفيداً لهم، كأن يفرحوا بتشنيعه على المخالفين له من المعتزلة والشيعة، حتَّى تسبَّب في تفريق المسلمين أحزاباً‍!! ". ومَن لَم يسلم منه الإمام أحمد فمِن باب أولَى ألاَّ يسلمَ منه الحنابلة، بل مَن لَم يسلم منه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمِن باب أولَى ألاَّ يسلمَ منه أهل السُّنَّة، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. 5 ـ أمَّا ما ذكره من أنَّه حنبليُّ النَّشأة والتعليم والالتزام العام الواعي، فإن كان الواقع أنَّه نُشِّئ على ذلك فإنَّه بكتاباته المختلفة يكون قد انحرف عمَّا نُشِّئَ عليه، ويصدق على انحرافه عمَّا تعلَّمه وعقوقه لِمَن علَّمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 قول الشاعر: فواعجباً مِمَّن ربَّيتُ طفلاً ... ألقمُه بأطراف البنان أعلِّمه الرمايةَ كلَّ يوم ... فلمَّا اشتدَّ ساعدُه رماني وكم علَّمته نظمَ القوافِي ... فلمَّا قال قافيةً هجانِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 5 ـ بخله بالصلاة على الصحابة الكرام بعد الصلاة على النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآله. قال في (ص: 20) : "الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وسلم". أقول: لم يذكر الصلاةَ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مِمَّا يوضِّح كونه ليس من أهل السُّنَّة؛ لأنَّ طريقةَ أهل السُّنَّة والجماعة في خُطبهم على المنابر وغيرها وفي افتتاح الكتب واختتامها أنَّهم بعد الصلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يُصلُّون على الآل والأصحاب؛ وذلك لمحبَّتهم للجميع، وسلامة قلوبهم وألسنتهم للصَّحب والآل، ولا يبعد أن يكون لزعمه الخاطئ أنَّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذادون عن الحوض ويُؤخَذون إلى النار، وأنَّه لا ينجُو منهم إلاَّ مثل هَمل النَّعم، لا يبعد أن يكون لذلك أثرٌ في تركه الصلاةَ عليهم، رضي الله عنهم وأرضاهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 6 ـ زعمه أنَّ مصطلحَ العقيدة مُبتَدعٌ، والردُّ عليه قال في (ص: 24) : "ولأبدَأ مساهماً في نقد ما أحجم عنه الآخرون طلباً للدنيا، وإمَّا حُبًّا للثناء بصلابة العقيدة وحسن السيرة، وإمَّا إيثاراً للسلامة، وإمَّا جهلاً بأهميَّة أصول وقواطع الإسلام، وستكون البداية ببيان مصطلح العقيدة، وكيف استحدَث المتخاصمون هذا المصطلح ليتَّسع لتكفير وتبديع المخالفين لهم من المسلمين!! ". وقال في (ص: 30) تحت عنوان: مصطلح العقيدة بين السُّنَّة والبدعة: "مع أنَّني أستخدم مصطلح العقيدة بشروط سيأتي ذكرُها، إلاَّ أنَّه عند تعريفي لعنوان المحاضرة (قراءة في كتب العقائد) لفت نظري عدم وجود كلمة (عقيدة) في النصوص المتقدِّمة، لا في القرآن ولا كتب السُّنَّة، ولا المؤلفات المشهورة في القرون الثلاثة الأولى، فكانت هذه أوَّل فائدة، وفي الوقت نفسه كانت أكبرَ مصيبة؛ إذ لا يَتمُّ التنبيه على ذلك، مع حرصنا ـ فيما نزعم ـ على هجران المصطلحات البدعية المستحدثة التي لا أصل لها في الكتاب والسنَّة!! ". وفي (ص: 34 ـ 35) قال تحت عنوان: الخلاصة في مصطلح العقيدة: "إذاً لَم ترِد العقيدة لا لفظاً ولا معنى في القرآن الكريم، ولا في الأحاديث النبوية، ولا الآثار السلفية المأثورة عن السَّلف من الصحابة وكبار التابعين، وأقصدُ باللَّفظ والمعنى هنا: أي أنَّها لَم ترِد بهذا اللفظ للمعنى الذي وُضع له هذا اللفظ في الأزمنة المتأخرة، مثل قولهم: (فلان حسن المعتقد، فلان كان صلباً في العقيدة، كان ضالاًّ في العقيدة، كان سيِّئ المعتقد ... ) ونحو هذا، فهذا المعنى لَم يرِد تحت لفظ العقيدة مع توفر الدواعي لوجود المنافقين وأهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الضلالة، سواء في عصر النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو عصر الصحابة أو عصر التابعين، فلفظة (العقيدة) في تلك العصور بين أن تأتي معانيها في ألفاظ أخرى شرعية كالإيمان مثلاً أو تأتي لفظة (عقد) في معان أخرى ليس من بينها الإيمانيات أو العلميات، فهي تشمل عقد اللواء، وعقد الأصابع لبيان العدد، وعقد الإزار، والتعاهد على الشيء، والعهد نفسه، وعقد القلب على أمر ما ديني أو دنيوي، ولعل من هذا المعنى الأخير أخذ بعضُهم لفظَ العقيدة، وخصَّها ببعض المعاني العلمية، وهذا تخصيص مبتدع أيضاً، فالألفاظ الشرعية الموجودة في القرآن الكريم أولَى بالاستعمال وأدقّ في الدلالة وأجمع للمسلمين، وفيها غنية عن هذا اللفظ غير المنضبط الذي استحدثه المتخاصمون في عصور لاحقة، وعلى هذا فليس لكلمة (العقيدة) أصل شرعي، لا في الكتاب، ولا في السنَّة، ولا عند السَّلف الصالح من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، ولا عند التابعين، بل ولا علماء الأمة الكبار في القرون الثلاثة الأولى!!! ". وقال في (ص: 33) : "والعقيدة عند غلاة السلفية أهمُّ شيء في حياة المسلم، فهل يُعقل أن يخلو القرآن الكريم الذي أنزله الله {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} من أخطر وأهمِّ شيء في حياة المسلم؟! أم أنَّنا هجرنا مسمّى ذلك الأهَم والأخطر، ألا وهو الإيمان أو الإسلام في عمومه، إلى هذه المصطلحات المستحدثة التي أصبحت في أيدي الغلاة كالسيوف في أيدي المجانين!! ". وقال في (ص: 33) : "أيضاً لَم تَرِد (العقيدة) في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف ولا موضوع!! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ويُجاب عن ذلك بما يلي: 1 ـ ما زعمه من أنَّ مصطلحَ (العقيدة) مُستحدَثٌ وأنَّه بدعةٌ هو من اكتشافات القرن الخامس عشر التي ظفر بها المالكي، ومن أوضحِ البدع ـ وهو لا يُسمِّيه بدعة ـ زعمُه أنَّ الصُّحبةَ الشرعية مقصورةٌ على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية، وأنَّ مَن صحب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الحُديبية فصحبتُه غير شرعية، بل هي شبيهةٌ بصُحبة المنافقين والكفَّار، فهذه البدعة التي أحدثها في القرن الخامس عشر ولَم يُسبَق إليها طيلة تلك القرون لا يُسمِّيها بدعة، ويُطلق على مصطلح (العقيدة) أنَّه بدعة، وهذا شبيهٌ بمعنى ما رواه البخاري في صحيحه (5994) عن ابن أبي نُعم قال: "كنتُ شاهداً لابن عمر، وسأله رجلٌ عن دم البعوض، فقال: مِمَّن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا يسألنِي عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وسمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: هما رَيْحانتاي من الدنيا". والمراد بالرَّيحانَتَين الحسن والحسين رضي الله عنهما. فإنَّ ما زعمه من بدعية مصطلح (العقيدة) شبيهٌ بدم البعوض، وما زعمه من قَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية ـ وهو عنده حقٌّ لا بدعة ـ شبيهٌ بقتل الحسين رضي الله عنه. 2 ـ ما زعمه من أنَّه"لَم ترِد (العقيدة) في حديث صحيح ولا حسن ولا موضوع" يُجاب عنه بورودها في حديث حسن رواه الدارمي في سننه (235) عن زيد بن ثابت، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "نضَّر الله امرءاً سمع منَّا حديثاً ... " إلى أن قال: "لا يعتقدُ قلبُ مسلم على ثلاث خصال إلاَّ دخل الجنَّة" الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وإسناده عند الدارمي قال: أخبرنا عصمة بن الفضل، ثنا حَرَمي بن عمارة، عن شعبة، عن عمرو بن سليمان، عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان، عن أبيه، وكلُّهم ثقات إلاَّ حرمي بن عمارة فهو صدوق، وقد خرَّج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. 3 ـ ما زعمه من عدم وجود أصل شرعيٍّ لكلمة (العقيدة) "لا في الكتاب، ولا في السُّنَّة، ولا عند السَّلف الصالح من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، ولا عند التابعين، بل ولا علماء الأمة الكبار في القرون الثلاثة الأولى"، يُجاب عنه بالنِّسبة للصحابة بما أورده ابنُ كثير في تفسيره لقول الله عزَّ وجلَّ في سورة البقرة: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن عروة، عن عائشة قالت: "هم القوم يتدارؤون في الأمر، فيقول هذا: لا والله! وبلى والله! وكلاَّ والله! يتدارؤون في الأمر، لا تعقد عليه قلوبهم". وبالنِّسبة للتَّابعين، فقد أورد ابن جرير في تفسيره للآية في سورة البقرة بإسناده إلى مجاهد: " {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ما عقدت عليه". وقال البخاري في صحيحه (9/388 ـ مع الفتح) في"باب الطلاق في الإغلاق والكره..": "وقال الزهري فيمَن قال: إن لَم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالقٌ ثلاثاً، يُسأل عمَّا قال وعقد عليه قلبَه حين حلف بتلك اليمين، فإن سمَّى أجلاً أراده وعقد عليه قلبه حين حلف جُعل ذلك في دَينِه وأمانته". 4 ـ وأمَّا ما زعمه من عدم وجود أصل شرعيٍّ لكلمة (العقيدة) في كلام العلماء الكبار في القرون الثلاثة الأولى، وقوله: "لفت نظري عدم وجود كلمة (عقيدة) في النصوص المتقدِّمة، لا في القرآن ولا كتب السُّنَّة، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 المؤلفات المشهورة في القرون الثلاثة الأولى"، فيُجاب عنه بوجود ذلك عن جماعة من العلماء في القرون الثلاثة، ومن ذلك ما هو في بعض المؤلفات المؤلَّفة في تلك القرون. ومن هؤلاء العلماء أبو عبيد القاسم بن سلاَّم المتوفى سنة (224هـ) ، قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب: "الإمام المشهور، ثقة فاضل مصنِّف"، قال في كتاب الإيمان له (ص: 76) : "فعمل القلب الاعتقاد". ومنهم إبراهيم بن خالد أبو ثور المتوفى سنة (240هـ) قال عنه الحافظ في التقريب: "الفقيه، صاحب الشافعي، ثقة"، فقد روى اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة (1590) بإسناده إليه أنَّه قال في جواب له عن سؤال في الإيمان: "اعلم ـ يرحمنا الله وإيَّاك ـ أنَّ الإيمانَ تصديقٌ بالقلب والقولُ باللسان وعملٌ بالجوارح، وذلك أنَّه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أنَّ الله عزَّ وجل واحد وأن ما جاءت به الرسل حق وأَقَرَّ بجميع الشرائع ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا ولا أصدق به أنه ليس بمسلم، ولو قال: المسيح هو الله وجحد أمر الإسلام قال: لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك أنَّه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن ... ". ومنهم الإمام محمد بن نصر المروزي المتوفى سنة (294هـ) قال عنه الحافظ في التقريب: "الفقيه أبو عبد الله، ثقة حافظ إمام جبل"، فقد ذكر (الاعتقاد) في مواضع من كتابه تعظيم قدر الصلاة، منها (2/733) : " ... إذا اعتقد أنَّ الله ليس بكريم ولا يستحق المدح الحسن فقد اعتقد الكفر ولم يعرف، وكذلك إن اعتقد أنَّه قد ظلمه وجار عليه فهو كافر لم يعرف الله ... ". ومنهم الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي المولود سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 (239هـ) ، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في لسان الميزان: "قال أبو سعيد ابن يونس: كان ثقة ثبتاً فقيهاً عاقلاً، لم يخلف مثله"، وهو صاحب العقيدة المشهورة بالعقيدة الطحاوية، قال في مطلعها: "هذا ذكر بيان عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة على مذهب فقهاء الملَّة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدِّين، ويَدينون به ربَّ العالَمين، نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إنَّ الله واحدٌ لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يُعجزه، ولا إله غيره"، ثم سرَد موضوعات العقيدة إلى آخرها. 5 ـ ثم إنَّ هذا المالكيَّ المكتشف لبدعية مصطلح (العقيدة) في (القرن الخامس عشر!) ذكر في (ص: 34) عدَّة معان في مادة (عَقَد) ، آخرها: "وعقد القلب على أمر ما ديني أو دنيوي"، ثم قال: "ولعلَّ من هذا المعنى الأخير أخذ بعضُهم لفظة العقيدة، وخصَّها ببعض المعاني العلمية الدينية، وهذا تخصيصٌ مبتَدَع أيضاً!! ". أقول: ما دام أنَّ لمصطلح لفظ (العقيدة) أصلاً كما ذكر هو، فلا وجه للتَّهويل والتبديع الذي ذكره لإطلاق اسم (العقيدة) على مباحث أصول الدِّين، وأيضاً فإنَّ لفظ (الإيمان) أو (الإيمانيات) الذي زعم أنَّه مهجور قد ألَّف كثير من علماء أهل السُّنَّة والجماعة مؤلَّفات باسم"الإيمان"، وهي مشتملة على ما اشتملت عليه الكتب المؤلَّفة باسم"العقيدة"، أو"السنة"، وهذا ما لا يُعجب المالكي؛ لأنَّه يريد كتباً في الإيمان لا يُتعرَّض فيها للبدع والمبتدعة، ولا ذكر لشيء مِمَّا فيه اختلاف بين أهل السُّنَّة والجماعة وفرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الضلال المختلفة، وقد تبيَّن قريباً وجود هذا اللَّفظ في السُّنَّة وأقوال الصحابة والتابعين وكبار العلماء في القرون الثلاثة الأولى، وأيضاً فإنَّه كما يُقال في الإنسان: عقيدته حسنة أو حسن المعتقد فيما يتعلَّق بلفظ (العقيدة) ، فكذلك يُقال في لفظ (الإيمان) : قويُّ الإيمان ضعيف الإيمان، ويُقال للعاصي والمبتدع بدعة غير مكفِّرة: مؤمن ناقص الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 7 ـ قدحه في كتب أهل السنَّة في العقيدة والردُّ عليه قال في (ص: 24) : "فقد كانت معظم العقائد المدوَّنة في كتب العقائد تعبِّر عن مراحل تاريخية من مراحل الصراع السياسي والمذهبي فحسب!! ". وقال في (ص: 25) : "ولو رجعنا لسبب هذا التبادل في التكفير والتبديع لوجدنا كتب العقائد في الانتظار؛ إذ كانت الكتب المؤلَّفة في العقائد هي ذاكرة هذا الفساد كلّه، ومحور شرعيته، ومحطات انطلاق لكلِّ خصومة بين المسلمين؛ إذ أصبح لكلِّ فرقة من المسلمين كُتبها التي يوصي بها أتباعها ويتدارسونها ويخطبون بمضامينها، مع ما فيها من تَجنٍّ ومظالم ضد بقية المسلمين مِمَّن لم يكونوا معهم في الرأي أو الجزئيات، فأصبحت الدعوة لمضامين هذه الكتب لا إلى الحقِّ، وظهر نبزُ الآخرين بالألقاب السيِّئة والتحلِّي بالألقاب الحسنة، وأصبح للإسلام أكثر من اسم، وأصبح الانتساب للإسلام غير كافٍ عند هذه الفرق". وقال في (ص: 28) : "وكُتب العقائد رغم ما فيها من حقٍّ قليل إلاَّ أنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فيها الكثير من الباطل، بل هو الغالب عليها؛ لِما فيها من الأحاديث المكذوبة على النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم والإسرائيليات المشككة للمسلم، والتكفير للمسلمين، وزرع بذور الشقاق والتباغض والتنازع بين المسلمين، وغير ذلك من الهوى والظلم والجهل، سواء كان ذلك في كتب العقائد عند الشيعة أو السنَّة أو الإباضية أو الصوفية أو غيرهم!!! ". وقال في (ص: 179) : "ومعظم ما كتبوه في العقائد كان خلاف فهم السَّلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان!!! ". وقال في (ص: 100 ـ 101) : "ثم لم تزل الطوائف في خصومات كلامية، وألَّفوا في ذلك الكتب والمصنفات التي صُبغت بصبغة الخصومة من الغضب والكراهية والحقد وإلغاء الطرف الآخر، سواء بتكفيره أو تبديعه مع التحريض على التصفية الجسدية للخصوم. ونظراً لضعفنا العلمي وتقديسنا لكلِّ ماضٍ، فلَم ننظر لتلك الكتب على أنَّها تعبر عن مرحلة تاريخية، وإنَّما اعتبرناها شرعاً مقدَّساً وعقيدة راسخة، لا تقبل النَّقد أو التشكيك، وهذا مِمَّا ألفينا عليه آباءنا، فلذلك لا غرابة إذا استمرَّ أثرُ هذه الكتب في تمزيق المسلمين، وتقرير شرعية تنازعهم إلى يومنا هذا. أعود فأقول: إنَّ الحنابلة فرقة من هذه الفرق المتخاصمة التي ظُلمت وظَلمت، والظلم جماع المساوئ، فأصبحنا نقرأ الخصومات على أنَّها حقٌّ مطلق وهنا تكمن الخطورة، وسيأتي ذكر أمثلة على ذلك. ولعل من أبرز الكتب التي عوَّل عليها الحنابلة ـ سواء كانت من تأليفهم أو من تأليف غيرهم ـ الكتب التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الحيدة للكناني (240هـ) ، والسنة لعبد الله بن أحمد (291هـ) ، كتاب النقض على بشر المريسي للدارمي عثمان بن سعيد (281هـ) ، والسنة للخلال (311هـ) ، وكتاب التوحيد لابن خزيمة (311هـ) ، وشرح السنة للبربهاري (329هـ) ، وكتاب الإيمان وكتاب التوحيد لابن منده (395هـ) ، وكتاب الشريعة للآجري (360هـ) ، والإبانة لابن بطة الحنبلي (387هـ) ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة لأبي القاسم اللالكائي (418هـ) ، ومجموعة من الرسائل المنسوبة لأحمد بن حنبل (241هـ) ، والعظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (369هـ) ، وكتب أبي يعلى الحنبلي (548هـ) ، وعدي بن مسافر المرواني (558هـ) ـ وكان هذا مِمَّن يغلو في مدح يزيد بن معاوية فتأمَّل التوافق!! ـ وكتب عبد الغني المقدسي (595هـ) (كذا، ووفاته سنة 600هـ كما في العبر للذهبي، والبداية والنهاية لابن كثير) ، ثم كتب ابن تيمية أحمد ابن عبد الحليم (728هـ) ، وابن القيم (751هـ) رحمهم الله وغفر لهم". وقال في (ص: 104) : "وقد احتوت كتب العقائد ـ ومن أبرزها كتب عقائد الحنابلة ـ على كثير من العيوب الكبيرة التي لا تزال تفتك بالأمة، ولعل من أبرزها: التكفير والظلم والغلو في المشايخ ... ". وقال في (ص: 90) : "والظلم من السمات التي لا تستغني عنها كتب العقائد، ولولا الظلم والغباء لما أصبح لكتب العقائد ـ مع ما فيها من جهل وظلم ـ قيمة تستحق الإشادة، فكلُّ قيمتها وجمهورها يدور مع الظلم والغباء وضعف التحليل السياسي، والله الموعد بين سائر المتخاصمين". وقال في (ص: 88) : "وقد استعان الأمويون ببعض علماء من أهل السنَّة الموالين لهم ضدَّ القدرية، فرووا ذمَّ القدرية على ألسنة الصحابة، بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 رووا أحاديث موضوعة في ذمِّ القدرية ... " إلى أن قال: "وللأسف أنَّ بعض هذه الأحاديث قد تسرب داخل كتب عقائد أهل السُّنَّة، بل صحَّحها بعضهم!! ". ويُجاب عن ذلك بما يلي: 1 ـ وكما أطلق المالكي لسانَه وسخَّر قلَمَه للنَّيل من أهل السنَّة، ابتداءاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مَن سار على نهجهم في مختلف العصور، حتى زماننا، كذلك أطلق لسانَه وسخَّر قلمَه للنَّيل من كتب العقائد عند أهل السُّنَّة، فوصفها بأنَّها تعبِّر عن مراحل تاريخية من مراحل الصراع السياسي والمذهبي فحسب، وذكر أنَّ ما يحصل من تكفير وتبديع أساسه كتب العقائد، فقال: "إذ كانت الكتب المؤلَّفة في العقائد هي ذاكرة هذا الفساد كلّه، ومحور شرعيته، ومحطات انطلاق لكلِّ خصومة بين المسلمين!! "، وقال: "فأصبحت الدعوة لمضامين هذه الكتب لا إلى الحقِّ"، وقال: "وكُتب العقائد رغم ما فيها من حقٍّ قليل إلاَّ أنَّ فيها الكثير من الباطل، بل هو الغالب عليها!! "، وقال: "ومعظم ما كتبوه في العقائد كان خلاف فهم السَّلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان!!! "، وقال: "ونظراً لضعفنا العلمي وتقديسنا لكلِّ ماضٍ، فلَم ننظر لتلك الكتب على أنَّها تعبر عن مرحلة تاريخية، وإنَّما اعتبرناها شرعاً مقدَّساً وعقيدة راسخة، لا تقبل النَّقد أو التشكيك، وهذا مِمَّا ألفينا عليه آباءنا، فلذلك لا غرابة إذا استمرَّ أثرُ هذه الكتب في تمزيق المسلمين، وتقرير شرعية تنازعهم إلى يومنا هذا!!! ". 2 ـ زعم أنَّ معظم العقائد المدوَّنة في كتب العقائد تعبر عن مراحل تاريخية من مراحل الصراع السياسي والمذهبي فحسب، وزعم أنَّه بسبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الضعف العلمي والتقديس لكلِّ ماضٍ، لم يحصل النظر إلى هذه الكتب على أنَّها تمثِّل مرحلة تاريخية، وإنَّما اعتُبرت شرعاً مقدَّساً وعقيدة راسخة لا تقبل النَّقد أو التشكيك، وأنَّ هذا مِمَّا أُلفي عليه الآباء، وأنَّه لذلك لا غرابة في استمرار أثر هذه الكتب في تمزيق المسلمين وتقرير شرعية تنازعهم حتى الوقت الحاضر! أقول: إنَّ تدوينَ كتب أهل السُّنَّة في العقائد لم يكن خاضعاً لصراع سياسي، ولم يكن يعبر عن مرحلة تاريخية، بل كان التأليف في العقائد كالتأليف في غيرها من الأمور الأخرى، الباعث عليه حفظ سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم إسناداً ومتناً؛ حتى تكون مرجعاً لأهل السنَّة في مختلف عصورهم، وكذلك رد علماء أهل السنَّة على أباطيل أهل البدع التي أحدثوها وعوَّلوا عليها، مُعرضين عن الأخذ بالسنن، ومن المعلوم أنَّ علماء أهل السُّنَّة في مختلف العصور مشتغلون بالعلم الشرعي، وأهل السياسة مشغولون بسياستهم، ومِمَّا يوضح ذلك في الواقع المشاهد أنَّ هذا المالكيَّ لَمَّا أظهر أباطيله تصدَّى المشتغلون بالعلم لكشفها وتزييفها؛ إظهاراً للحقِّ وإبطالاً للباطل وغيرة على السنَّة وأهلها، فردُّوا عبث هذا العابث ودحروا أباطيله، ولا دخل للسياسة في تصدِّي المشتغلين بالعلم لردِّ عدوان هذا المعتدي على السنَّة وأهلها. وأما ما زعمه من استمرار أثر كتب العقائد في تمزيق المسلمين وتقرير شرعية تنازعهم، فذلك من أوضح الباطل؛ لأنَّ هذا الاختلافَ الذي وقع في هذه الأمَّة قد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن حصُوله قبل تأليف تلك الكتب، وأرشد إلى اتِّباع السنَّة وترك البدع عند وجود ذلك الاختلاف، فقال صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: "فإنَّه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فعليكم بسُنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديين الراشدين، تَمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّّ بدعة ضلالة" رواه أبو داود (4607) ، والترمذي (2676) ، وغيرهما، وهذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أهل الكتابَين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملَّة، وإنَّ هذه الأمَّة ستفترق على ثلاث وسبعين ملَّة، يعني الأهواء، كلُّها في النار إلاَّ واحدة، وهي الجماعة ". رواه أحمد (16937) ، وأبو داود (4597) ، وغيرهما. والسبب الحقيقي لذلك الاختلاف اتِّباع الأهواء، والأخذ بعلم الكلام المذموم، والتعويل على العقول، واتِّهام النقول وعدم التعويل عليها في أمور العقيدة، وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك في حديث طويل أنَّه قال: "فمَن رغب عن سُنَّتي فليس منِّي" رواه البخاري (5063) ، ومسلم (1401) . 3 ـ وأمَّا ما زعمه من أنَّ كتب العقائد مشتملة على حقٍّ قليل، وعلى الكثير من الباطل، بل هو الغالب عليها، فإنَّ هذا يصدق على كتب فرق الضلال المبنية على علم الكلام وآراء الرِّجال، وأمَّا كتب أهل السُّنَّة فهي مشتملة على الحقِّ؛ لأنَّها مستمدَّةٌ من نصوص الكتاب والسنَّة وما كان عليه سلف الأمَّة، والقول بأنَّها مشتملةٌ على الباطل من أبطل الباطل، وهو جناية على عقيدة الفرقة الناجية من بين فرق الضلال الكثيرة. وأمَّا زعمه اشتمال كتب العقائد على أحاديث مكذوبة فهو حقٌّ بالنسبة لكتب فرق الضلال، التي ديدنها الكذب والهوى، وأمَّا كتب أهل السُّنَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 المسندة فهي مشتملةٌ على الحقِّ، وإن وُجد فيها شيءٌ يسير لَم يصحَّ إسناده ولم يثبت متنه، فذلك يعرفه أهل العلم بالكتاب والسنَّة، ومرادُ مَن ذكَرَه بإسناده أن يُعلم ورودُه كذلك، وأنَّه لكذبه أو ضعف إسناده لا يُعوَّل عليه، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنَّة (4/15) أنَّ عادةَ المحدِّثين أنَّهم يروون جميعَ ما في الباب لأجل المعرفة بذلك، وإن كان لا يحتج من ذلك إلاَّ ببعضه، وذكر أيضاً أنَّ المحدِّث يروي ما سمعه كما سمعه والدَّرك على غيره لا عليه، وأهلُ العلم ينظرون في ذلك، وفي رجاله وإسناده، وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (3/75) : "أكثرُ المحدِّثين في الأعصار الماضية من سنة مائتين وهلمَّ جرّا إذا ساقوا الحديثَ بإسناده اعتقدوا أنَّهم برئوا من عهدته، والله أعلم". 4 ـ وأمَّا زَعْمه أنَّ معظمَ ما كتبوه في العقائد كان خلاف فهم السَّلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، فجوابه أنَّ منهجَ أهل السُّنَّة والجماعة في العقيدة اتِّباعُ الكتاب والسنَّة وفقاً لفهم السَّلف الصالح من الصحابة وتابعيهم بإحسان، كما سيأتي توضيحه عند الردِّ عليه في زعمه أنَّ قاعدة اتِّباع الكتاب والسنَّة بفهم سلف الأمَّة باطلة، بل إنَّ المالكيَّ نفسه يُنكر على أهل السُّنَّة تعويلهم على فهم السَّلف الصالح، ويزعم أنَّ ذلك بدعةٌ، وهذا من تناقضه! 5 ـ وقد سرد المالكي جملة من كتب أهل السنَّة التي زعم أنَّها سببٌ في تمزيق المسلمين، وهو زعم باطلٌ؛ لأنَّ أهل السُّنَّة يُعوِّلون على الكتاب وعلى ما صحَّ من السنَّة في هذه الكتب وغيرها، وأمَّّا انحراف أهل البدع والأهواء عن الكتاب والسنَّة، فهو السبب الحقيقي لتفرُّقهم وتمزُّقهم، كما قال الله عزَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وجلَّ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ومع حرص المالكي على النَّيل من أهل السنَّة وكتبهم كما هو واضحٌ من كلامه، نجده يُشيد بأهل البدع وكتبهم، كالمعتزلة، فيقول (ص: 26) : "وكان للمعتزلة قوَّة هائلة ثم أضعفتها السلطات، لكن لا زال لها وجود قويٌّ إلى يومنا هذا، خاصة بعد طباعة كتب المعتزلة والعثور على مخطوطاتها في اليمن ومصر وأوربا وغيرها". ويقول (ص: 201) : "أنا لا أرى معنى لمنع كتب الأشاعرة والشيعة والإباضية وغيرهم من المسلمين من دخول المملكة في ضوء هذا التفجُّر المعرفي!!! ". وهذا يبيِّن لنا مدى وفاق المالكي الضال مع أهل البدع والأهواء، وحقده على أهل السُّنَّة ومحاربته لهم. 6 ـ وأمَّا زعمه استعانة الأمويين ببعض علماء السنَّة الموالين لهم ضدَّ القدرية، فرووا ذمَّ القدرية على ألسنة الصحابة، ورووا أحاديث موضوعة، وأنَّ بعضَ هذه الأحاديث تسرَّب داخل كتب عقائد أهل السنَّة، بل صحَّحها بعضُهم، فهذا فيه اتِّهام علماء السنَّة برواية أحاديث وآثار إشباعاً لرغبة الحكَّام، وهو لا يصحُّ بالنسبة للراغب والمرغوب منه، والحامل على هذا الاتِّهام النَّيل من أهل السنَّة والانتصار بالباطل للمبتدعة، ولَم يُسمِّ هؤلاء الراغبين والمرغوب منهم، وما حقَّقوا به هذه الرغبة بزعمه، والمصدر الذي رأى فيه ذلك، وقد اشتملت كتب أهل السنَّة على أحاديث وآثار في ذمِّ القدرية، فمِن الآثار أثر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي ذكره عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الإمام مسلم في صحيحه، عند روايته لحديث جبريل، وهو أوَّلُ حديث عنده في كتاب الإيمان، فإنَّه قال لِمَن أخبره عن ظهور القدرية بالعراق: "فإذا لقيتَ أولئك فأخبرهم أنِّي بريء منهم، وأنَّهم بُرآءُ منِّي، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أنَّ لأحدهم مثل أُحُد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتَّى يؤمنَ بالقدر"، ثم ساق حديث جبريل الطويل بروايته عن أبيه؛ من أجل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: "وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه". وأمَّا الأحاديث في ذمِّ القدرية فقد رواها جماعةٌ من الصحابة، ولا تخلو أسانيد أكثرها من ضعف، ومن الأحاديث في ذمِّهم حديث أنس بن مالك مرفوعاً: "صنفان من أمَّتي لا يَردان عليَّ الحوض: القدرية والمرجئة"، أورده الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (2748) . ومن أعجب العجب أنَّ المالكيَّ شديد العطف على القدرية والتأييد لهم، ولا يُعجبه ما يُروى في ذمِّهم من أحاديث وآثار، وأمَّا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فيزعم بوقاحة أنَّهم يُذادون عن الحوض ويُؤخذون إلى النار، ولا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل همل النَّعم!! ولزعم المالكي الباطل أنَّ كتبَ العقائد تشتمل على قليل من الحقِّ، فإنِّي أورد نصَّ رسالة مختصرة في عقيدة أهل السنَّة، ومؤلِّفها من المالكية، وهو ابن أبي زيد القيرواني، ومن المعلوم أنَّ الأئمَّة الأربعة ومَن سار على نهجهم على عقيدة واحدة، وهي عقيدة السلف، وهذه العقيدة المختصرة، كلُّ ما فيها حقٌّ، وليس فيها شيء من الباطل، وقد أردتُ من إيرادها أن يقف مَن يطَّلع على هذا الردِّ على صفاء عقيدة السَّلف ووضوحها وسلامتها، وعلى سوء مَن يحيد عنها ويُبتلَى باعتقاد ما يُخالفها، كما حصل لهذا المالكي الضال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ((باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات: من ذلك الإيمانُ بالقلب والنُّطقُ باللِّسان أنَّ الله إلَهٌ واحدٌ لا إله غيرُه، ولا شبيهَ له، ولا نَظيرَ له، ولا وَلَدَ له، ولا وَالِدَ له، ولا صاحبة له، ولا شريكَ له. ليس لأَوَّلِيَّتِهِ ابتداءٌ، ولا لآخِرِيَّتِه انقضَاءٌ، لا يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ الواصفون، ولاَ يُحيطُ بأمرِه المُتَفَكِّرونَ، يَعتَبِرُ المتفَكِّرونَ بآياته، ولا يَتَفكَّرونَ في مَاهِيَةِ1 ذاتِه، ولا يُحيطون بشيءٍ من عِلمه إلاَّ بِما شاء وَسِعَ كرْسِيُّه السَّموات والأرض، ولا يِؤُودُه حفظُهما وهو العليُّ العَظيمُ. العالِمُ2 الخبيرُ، المُدَبِّرُ القَدِيرُ، السَّمِيعُ البصيرُ، العَلِيُّ الكَبيرُ، وَأنَّه فوقَ عَرشه المجيد بذاته، وهو في كلِّ مَكان بعِلمه. خَلَقَ الإنسانَ، ويَعلمُ ما تُوَسْوِسُ به نفسُه، وهو أَقرَبُ إليهِ مِن حَبْلِ الوَرِيدِ، وما تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاَّ يَعلَمُها، ولاَ حَبَّةٍ في ظُلُمَات الأرضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِس إلاَّ في كتاب مُبين. على العَرشِ اسْتَوى، وعَلى المُلْكِ احْتَوى، وله الأسماء الحُسنى والصِّفاتُ العُلَى، لَم يَزَل بِجَميعِ صفاتِه وأسمائِه، تَعالى أن تكونَ صفاتُه مَخلوقَةً، وأسماؤُه مُحْدَثَةً. كلَّم موسى بكلامِه الَّذي هو صفةُ ذاتِه، لا خَلْقٌ مِن خَلقِه، وَتَجَلَّى   1 في نسخة: (مائية) . 2 في نسخة: (العليم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 للجَبَل فصار دَكًّا مِن جلالِه، وأنَّ القرآنَ كلامُ الله، ليس بمخلُوقٍ فيَبِيدُ، ولا صفة لمخلوقٍ فَيَنْفَدُ. والإيمانُ بالقَدَرِ خَيْرِه وشَرِّه، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ، وكلُّ ذلك قَد قَدَّرَهُ اللهُ رَبُّنا، ومقاديرُ الأمورِ بيدِه، ومَصدَرُها عن قضائِه. عَلِمَ كلَّ شيْءٍ قَبل كَونِه، فجَرَى على قَدَرِه، لا يَكون مِن عبادِه قَولٌ ولا عَمَلٌ إلاَّ وقدْ قَضَاهُ وسبق عِلْمُه به، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . يُضِلُّ مَن يشاء، فيَخْذُلُه بعدْلِه، ويَهدي مَن يَشاء، فَيُوَفِّقُه بفضلِه، فكَلٌّ مُيَسَّرٌ بتَيْسيره إلى ما سَبَقَ مِن علمه وقَدَرِه، مِن شَقِيٍّ أو سعيدٍ. تعالَى أن يكونَ في مُلْكِهِ ما لا يُريد، أو يكونَ لأَحَد عنه غِنًى خالقاً لكلِّ شيءٍ، ألاَ هو1 رَبُّ العباد ورَبُّ أعمالِهم، والمُقَدِّرُ لِحَركاتِهم وآجالِهم. الباعثُ الرُّسُل إليهِم لإقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيهم. ثُمَّ خَتَمَ الرِّسالةَ والنَّذَارَةَ والنُّبُوَةَ بمحمَّد نَبيِّه صلى الله عليه وسلم2، فجَعَلَه آخرَ المرْسَلين، بَشِيراً ونَذِيراً، وداعياً إلى الله بإذنِه وسِرَاجاً منيراً، وأنزَلَ عَليه كتابَه الحَكِيمَ، وشَرَحَ به دينَه القَويمَ، وهَدَى به الصِّرَاطَ المستَقيمَ. وأنَّ السَّاعةَ آتيَةٌ لا رَيْبَ فيها، وأنَّ اللهَ يَبعَثُ مَن يَموتُ، كما بدأَهم يعودون. وأنَّ اللهَ سبحانه وتعالَى ضاعَفَ لعباده المؤمنين الحسَنات، وصَفَحَ لهم   1 في نسخة: (إلاَّ هو) . 2 في نسخة: (محمد صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 بالتَّوبَة عن كبائرِ السيِّئات، وغَفَرَ لهم الصَّغائِرَ باجْتناب الكبائِر، وجَعَلَ مَن لَم يَتُبْ مِنَ الكبائر صَائراً إلى مَشيئَتِه {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . ومَن عاقَبَه اللهُ بنارِه أخرجه مِنها بإيمانِه، فأدخَلَه به جَنَّتَه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} ، ويُخرِجُ منها بشفاعَة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَن شَفَعَ لَه مِن أهلِ الكبائِر مِن أمَّتِه. وأنَّ اللهَ سبحانه قد خَلَقَ الجَنَّةَ فأَعَدَّها دارَ خُلُود لأوليائِه، وأكرَمهم فيها بالنَّظر إلَى وَجْهِه الكريم، وهي الَّتِي أَهْبَطَ منها آدَمَ نبِيَّه وخلِيفَتَه إلى أَرضِه، بما1 سَبَقَ فِي سابِق عِلمِه. وخَلَق النَّارَ فأعَدَّها دَارَ خُلُود لِمَن كَفَرَ به وألْحَدَ في آياتِه وكتُبه ورُسُلِه، وجَعَلَهم مَحجُوبِين عن رُؤيَتِه. وأنَّ اللهَ تبارك وتعالى يَجيءُ يَومَ القيامَةِ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا؛ لِعَرْضِ الأُمَمِ وَحِسَابِهَا وعقُوبَتِها وثَوابِها، وتُوضَعُ الموازِينُ لَوَزْنِ أَعْمَالِ العِبَادِ، فمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأولئك هم المُفلِحون، ويُؤْتَوْنَ صَحائِفهم بأعمَالِهم، فمَن أُوتِي كتابَه بيمينه فسوف يُحاسَبُ حِساباً يَسيراً، ومَن أُوتِي كتابَه ورَاء ظَهْرِه فأولئِك يَصْلَوْنَ سَعيراً. وأنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ، يَجُوزُه العبادُ بِقَدْرِ أعمالِهم، فناجُون مُتفاوِتُون في سُرعَة النَّجاةِ عليه مِن نار جَهَنَّم، وقَوْمٌ أَوْبَقَتْهُمْ فيها أعمالُهم.   1 في نسخة: (لِما) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 والإيمانُ بِحَوْض رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، تَرِدُهُ أمَّتُهُ لاَ يَظْمَأُ مَن شَرب مِنه، ويُذَادُ عنه مَنْ بَدَّلَ وغَيَّرَ. وأنَّ الإيمانَ قَولٌ باللِّسانِ، وإخلاَصٌ بالقلب، وعَمَلٌ بالجوارِح، يَزيد بزيادَة الأعمالِ، ويَنقُصُ بنَقْصِها1، فيكون فيها النَّقصُ وبها الزِّيادَة، ولا يَكْمُلُ قَولُ الإيمانِ إلاَّ بالعمل، ولا قَولٌ وعَمَلٌ إلاَّ بنِيَّة2، ولا قولٌ وعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إلاَّ بمُوَافَقَة السُّنَّة. وأنَّه لا يكفرُ أَحدٌ بذَنب مِنْ أهْل القِبْلَة. وأنَّ الشُّهداءَ أحياءٌ عند ربِّهم يُرْزَقونَ، وأرْواحُ أهْل السَّعادَةِ باقِيةٌ ناعِمةٌ إلى يوم يُبْعَثون، وأرواحُ أهلِ الشَّقاوَةِ3 مُعَذَّبَةٌ إلى يَوم الدِّين. وأنَّ المؤمنِينَ يُفْتَنُونَ في قُبُورِهم ويُسْأَلُون، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} . وأنَّ على العباد حَفَظَةً يَكتُبون أعمالَهم، ولا يَسقُطُ شيْءٌ مِن ذلك عَن عِلمِ ربِّهِم، وأنَّ مَلَكَ الموتِ يَقْبِضُ الأرواحَ بإذن ربِّه. وأنَّ خيْرَ القرون القرنُ الَّذين رَأَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وآمَنوا به، ثمَّ الَّذين يَلُونَهم ثمَّ الَّذين يَلونَهم. وَأفْضَلُ الصحابة4 الخُلَفاءُ الرَّاشدون المَهْديُّون؛ أبو بكر ثمَّ عُمر ثمَّ   1 في نسخة: (بنقص الأعمال) . 2 في نسخة: (وأنَّه لا قول ولا عمل إلاَّ بنيَّة) . 3 في نسخة: (الشقاء) . 4 في نسخة: (أصحابه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 عُثمان ثمَّ عليٌّ رضي الله عنهم أجمعين. وأن لاَ يُذكَرَ أَحَدٌ مِن صحابَةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ بأحْسَن ذِكْرٍ، والإمساك عمَّا شَجَرَ بَينهم، وأنَّهم أحَقُّ النَّاس، أن يُلْتَمَسَ لَهم أَحَسَن المخارج، ويُظَنَّ بهم أحْسن المذاهب. والطَّاعَةُ لأئمَّة المسلمين مِن وُلاَة أمورِهم1 وعُلمائهم، واتِّباعُ السَّلَفِ الصَّالِح واقتفاءُ آثارِهم، والاستغفارُ لهم، وتَركُ المراءِ والجِدَالِ في الدِّين، وتَركُ ما أَحْدَثَهُ المُحْدِثُونَ. وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّدٍ [نبيِّه] 2 وعلى آله وأزواجِه وذريته، وسلَّم تَسليماً كثيراً". وقد شرحت هذه الرسالة المختصرة التي هي مقدِّمة لرسالة ابن أبي زيد القيرواني بكتاب بعنوان: "قطف الجنى الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني".   1 في نسخة: (أمرهم) . 2 ما بين المعقوفين زيادة من نسخة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 8 ـ زعمه الاكتفاء بإسلام لا يتعرَّض فيه لجزئيات العقيدة؛ لأنَّ ذلك بزعمه يُفرِّق المسلمين، والردُّ عليه قال في (ص: 27) : " ... وإنَّما بمبادرة منَّا نحن المسلمين، الذين رضينا أن نعيش في الصراعات المزمنة وننسى المهمَّة الكبرى التي يجب أن نقوم بها من الاعتصام بحبل الله والالتقاء على الأصول العامة الجامعة من الإيمان (الجملي) بالله واليوم الآخر والرسل والكتب والأنبياء والقضاء والقدر وفعل الواجبات الظاهرة من صلاة وصيام وحج وزكاة والأخلاق الواجبة من عدل وصدق وأمانة ووفاء وتعاون.. إلخ، وترك المحرمات المعروفة من ظلم وسرقة ونهب وغشٍّ وزنا وشرب للخمر وكذب وخيانة ... إلخ. فهذه الإيمانيات الكبرى والواجبات الكبرى والمنهيات الكبرى علامات بارزة لِمَن أراد الهداية والاستقامة، وكان له حظ من تدبُّر وتعقُّل، وهذه الإيمانيات والواجبات والمنهيات كلٌّ لا يتجزَّأ وهي التي يتفق عليها جميع المسلمين، فالاعتصام بهذه الأصول الكبرى مع الاتفاق بين المسلمين كانت خيراً للمسلمين من التركيز على الفرعيات والجزئيات التي لا يمكن الاتفاق فيها مع ما يسبِّبه هذا من التفرُّق والاختلاف بينهم، فما نكرهه في الاجتماع خير مِمَّا نحبه في الفرقة". وقال في (ص: 28) : "ولم ينجُ من كثير من ذلك إلاَّ بعض كتب المجتهدين في الماضي أو الحاضر، وهي قلَّة نسبة إلى هذه الكثرة"، وعلَّق على قوله"أو الحاضر"، فقال: "كالإمام ابن الوزير في كتابه (إيثار الحق على الخلق) ، والإمام المقبلي في كتابه (العلم الشامخ في تفضيل الحقِّ على الآباء والمشايخ) ، وابن الأمير الصنعاني في كتاب (إيقاظ الفكرة) ، وجمال الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 القاسمي في كتاب (تاريخ الجهمية والمعتزلة) و (الجرح والتعديل) ، وغيرهم من العلماء الذين حاولوا التخلُّص من المذهبية العقدية والفقهية، والعودة لأصول الإسلام الجامعة، والابتعاد عن الجزئيات المفرِّقة، مع إعذار مَن اجتهد فأخطأ من سائر الطوائف الإسلامية! ". وأجيب عن كلامه هذا بما يلي: 1 ـ يريد المالكيُّ الاكتفاءَ بإسلام جملي دون التعرُّض للتفاصيل والجزئيات في الأمور الاعتقادية؛ لأنَّها ـ بزعمه ـ تفرِّق ولا يمكن الاتفاقُ عليها، مع الإتيان بواجبات ظاهرة وترك منهيات ظاهرة، فهو بذلك يريد إسلاماً لا مجال فيه للحبِّ في الله والبغض في الله، ويُجعل فيه الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ويُجعل المتَّقون فيه كالفجَّار، يريد إسلاماً لا يُقال فيه: "وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة"، ولا يُقال فيه: "وشرُّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار"، ولا يُقال فيه: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ"، ولا يُقال فيه: "وستفترق هذه الأمَّة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلاَّ واحدة، وهي الجماعة". 2 ـ وأمَّا زعمه إعذار من اجتهد فأخطأ من سائر الطوائف الإسلامية، فهو نظير زعمه في كتابه السيِّء عن الصحابة (ص: 61) من أنَّ الإجماع لا بدَّ فيه من اتِّفاق أمَّة الإجابة بفِرَقها المختلفة الفقهية والعقدية والسياسية، ومُقتضى كلامه هذا أنَّه لا يُنكَرُ على أحد في مخالفته في مسائل الاعتقاد، ويُعذَر في خطئه مهما كان كبيراً، وعلى هذا فيُعذَر مَن قال بأنَّ كلامَ الله مخلوق، ومَن قال إنَّ الله لا يُرى في الدار الآخرة، ومَن قال إنَّ مرتكبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الكبيرة كافرٌ خالدٌ مخلَّدٌ في النار، ومَن قال لا يضرُّ مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ومن قال إنَّ العبادَ مجبورون على أفعالهم، ومَن قال بأنَّهم خالقون لها، وأيضاً فيُعذَر الكليني صاحب كتاب (الأصول من الكافي) فيما أورده فيه من أبواب، تحتها أحاديث من أحاديث الرافضة المشتملة على غلُوِّهم في الأئمَّة الاثني عشر، منها: "باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام خلفاء الله عزَّ وجلَّ في أرضه، وأبوابه التي منها يؤتى" (1/193) ، و ((باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عزَّ وجلَّ، وأنَّهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها" (1/227) ، و ((باب أنَّه لم يجمع القرآن كلَّه إلاَّ الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّهم يعلمون علمه كلَّه" (1/228) ، و ((باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل عليهم السلام" (1/255) ، و ((باب أنَّ الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون، وأنَّهم لا يموتون إلاَّ باختيار منهم" (1/258) ، و ((باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنَّه لا يخفى عليهم الشيء صلوات الله عليهم" (1/260) ، و ((باب أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يعلِّم نبيَّه علماً إلاَّ أمره أن يعلمه أمير المؤمنين عليه السلام، وأنَّه كان شريكه في العلم" (1/263) ، و ((باب أنَّه ليس شيءٌ من الحقِّ في يد الناس إلاَّ ما خرج من عند الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّ كلَّ شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل" (1/399) . وأيضاً يُعذر الخميني في قوله في كتابه (الحكومة الإسلامية) (ص: 52) : "فإنَّ للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرَّات هذا الكون، وإنَّ من ضروريات مذهبنا أنَّ لأئمَّتنا مقاماً لا يبلغه مَلَكٌ مقرَّب ولا نبيٌّ مرسَل!!! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 3 ـ وأمَّا ما ذكره عن بعض العلماء الذين زعم أنَّهم يقولون بمقالته الخاطئة من الاكتفاء بإسلام لا يُتعرَّض فيه لجزئيات العقيدة، فسيأتي الكلام على ذلك في آخر هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 9 ـ ثناؤه على أهل البدع وقدحه في أهل السُّنَّة، والرَّدُُ عليه قال في (ص: 26) : "وكان للمعتزلة قوَّة هائلة ثمَّ أضعفتها السلطات، لكن لا زال لها وجود قويٌّ إلى يومنا هذا، خاصة بعد طباعة كتب المعتزلة والعثور على مخطوطاتها في اليمن ومصر وأوربا وغيرها". وقال في (ص: 41) : "والخلاصةُ أنَّ الأصلَ في المجتمعات ألاَّ يخلو منها الاختلاف والتناقض، بل يصبح هذا الاختلاف صحياً إذا بقي في دائرة السلم والاجتهاد، أمَّا إذا كان الاختلاف طريقاً لتفرُّق المسلمين وتنازعهم وتكفير بعضهم بعضاً أو تبديع بعضهم بعضاً فإنَّه يُصبح مذموماً"، وقال تعليقاً على هذا: "وهذا لا يعني بالضرورة أنَّ الباطل عند حدوث القتال والتكفير موزَّع بالسويَّة على الطرفين جميعاً؛ فقد يكون الحق مع طرف ولكنَّه نادر خاصة في العقائد، والأصل أنَّ معظمَ الاختلافات بين المسلمين أن يكون كل طرف ممسكاً بطرف من الحقيقة!! ". وقال في (ص: 90) : "ولذلك كان أكثر بل كلُّ التيارات التي نصمُها بالبدعة كالجهمية والقدرية والمعتزلة والشيعة والزيدية وغيرهم، كلُّ هؤلاء كانوا من الدعاة إلى تحكيم كتاب الله وتحقيق العدالة، وكانوا من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر!!! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وقال في (ص: 91) : "وحرارة هذا القول منِّي كان أسفاً منِّي على سنوات أضعتُها في بغض ولعن الجهمية والقدرية، ولم أنتبه لبراءتهما من أكثر ما نُسب إليهما وظلمي لهما إلاَّ بعد بحثي في الموضوع في فترة متأخرة!! ". وفي الصفحات (89 ـ 91) تباكى على قتل الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وغيلان الدمشقي، وهم من رؤوس المبتدعة، وزعم أنَّ قتلهم سياسي ولم يكن لبدعهم!! وقال في (ص: 95) : "لكن المعتزلة ـ مثل غيرهم من الفرق ـ أصابوا في أشياء وأخطأوا في أشياء، لكنَّهم في الجملة لا يُستغنى عنهم ولا عن تراثهم وعلومهم، وهم مسلمون متديِّنون بدين الإسلام باطناً وظاهراً، وهذا يوجب لهم حق الإسلام كما لا يخفى على عاقل!! ". وقال في (ص: 86) : "وللقدرية نصوص شرعية يستشهدون بها مثلما للسنَّة والشيعة والمعتزلة نصوص شرعية يرون فيها الدليل الكافي على ما يذهبون إليه!! ". وأجيب على ذلك بما يلي: 1 ـ إنَّ كتابات المالكي التي زعمها بحوثاً، سواء ما اطَّلعتُ عليه منها أو وقفت على ذكر أسمائها، كلُّها تتعلَّق بذمِّ أهل السُّنَّة والنَّيل منهم، بدءاً بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى الموجودين منهم في هذا الزمان بالمملكة وغيرها، وكما لم يسلم أهل السنَّة من ذمِّه، فكذلك لم تسلم كتبهم من ذمِّه ونيله منها، وقد مرَّ ذلك قريباً، ولم أقف له على بحث أو اسم لبحث يتعلَّق بذمِّ أهل البدع على اختلافهم وتعدُّدهم والنَّيل منهم، وما أثبَتُّه من كلامه واضح في إشادته بأهل البدع، ومن ذلك ثناؤه على المأمون الذي نصر المعتزلة وآذى أهل السنَّة حيث قال في (ص: 135) : "وكان من أعدل ملوك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 بني العباس وأكثرهم علماً!! "، وفي المقابل ذمُّه للمتوكّل الذي أنهى فتنة خلق القرآن ونصر أهل السنَّة، حيث وصفه بأنَّه مبتدعٌ ظالم!! 2 ـ ما زعمه من أنَّ كلاًّ من المختلفين مُمسكٌ بطرف من الحقيقة، وأن كون الحقِّ في العقائد مع طرف واحد نادر هو من أبطل الباطل؛ لأنَّ فيه تسوية بين الحقِّ والباطل، وأنَّه لا يوجد فرقة ناجية تكون على الحقِّ، لا يضرُّها من خذلها ولا مَن خالفها، ويترتَّب عليه أنَّ مَن قال: (إنَّ القرآن مخلوق) على حقٍّ، ومَن قال: (إنَّ الله لا يُرى في الدار الآخرة) على حقٍّ، وأنَّ مَن قال بكفر مرتكب الكبيرة وتخليده في النار على حقٍّ، وأنَّ من قال: (وإنَّ من ضروريات مذهبنا أنَّ لأئمَّتنا مقاماً لا يبلغه مَلَكٌ مقرَّب ولا نبيٌّ مرسَل) على حقٍّ، وهكذا يكون سائر أنواع الباطل والزَّيغ والضلال يكون أهلها ـ بناء على زعمه ـ على حقٍّ. 3 ـ وأمَّا تباكيه على قتل رؤوس المبتدعة كالجعد والجهم وغيلان، وزعمُه أنَّ قتلَهم سياسيٌّ وليس لبدعهم، فإنَّ حالَهم في زمانهم كحال المالكي في هذا الزمان، وما أشبه الليلة بالبارحة، ولو رُفع أمرُ المالكي إلى محكمة شرعية من أجل أباطيله الكثيرة، فحكمت بقتله لتلك الأباطيل، ومن أبرزها ما يلي: أوَّلاً: إنكاره صحبة أكثر الصحابة، وهم كلُّ مَن أسلم بعد الحديبية هاجر أو لم يُهاجر، وفيهم العباس عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو أقرب الرِّجال إليه نسباً، وابنه عبد الله وخالد بن الوليد وغيرهم، زاعماً أنَّ صحبتَهم كصحبة المنافقين والكفار. ثانياً: زعمه أنَّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهم عنده المهاجرون والأنصار قبل الحديبية فقط ـ يُذادون عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُؤخذون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 إلى النار، ولا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل همل النعم، فهذا الزعم منه قدحٌ فيهم، وهم حملة الكتاب والسنَّة إلى الناس، والقدحُ فيهم قدحٌ في الكتاب والسنَة؛ لأنَّ القدحَ في النَّاقل قدحٌ في المنقول، وقد قال أبو زرعة الرازي: ((إذا رأيت الرجلَ ينتقصُ أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنَّه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حقٌّ والقرآن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليُبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى وهم زنادقةٌ". الكفاية للخطيب البغدادي (ص: 49) . ثالثاً: إنكارُه عدالة الصحابة. رابعاً: قدحه في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وزعمه أنَّ خلافةَ أبي بكر أشبهُ ما تكون بالقهر والغلبة، وأنَّ مبايعةَ مَن يرى أنَّ عليًّا أولَى منه إنَّما هو للرضى بالأمر الواقع. خامساً: تشكيكه في ثبوت السنَّة، وزعمه أنَّ المسلمين مختلفون في ثبوتها. والثلاثة الأولى موجودة في كتابه السيِّء عن الصحابة، والرابع موجود في هذا الكتاب ابتداءاً من (ص: 45 وما بعدها) ، والخامس فيه في (ص: 164) . أقول: لو حكمت محكمة شرعيةٌ بقتله لأباطيله الكثيرة التي أشرتُ إلى بعضها فقُتل، لم يكن قتلُه سياسيًّا، بل لحفظ الدِّين من إلحاد المُلحدين وعبث العابثين، وعدوان المعتدين الذين يُفسدون في الأرض بعد إصلاحها، ومن المعلوم أنَّ حفظَ الدِّين هو أهمُّ الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها ومنع الاعتداء عليها، وهي الدّين والنَّفس والعقل والمال والنَّسب. 4 ـ وأمَّا أسفه على ذمِّه الجهميَّة والقدرية الذي رجع عنه أخيراً، فهو رجوع من الحقِّ إلى الباطل، ونعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ربَّنا لا تزغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهَب لنا من لدنك رحمة إنَّك أنت الوهَّاب. وأمَّا زعمه أنَّ المعتزلةَ متديِّنون بدين الإسلام باطناً، فهو يبيِّن مدى احتفائه بأهل البدع، وتزكيته لهم، مع أنَّ الباطنَ من الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 10 ـ زعمه أنَّ أهل السنَّة وسَّعوا جانب العقيدة، فأدخلوا فيها مباحث الصحابة والدجَّال والمهدي وغير ذلك، والردُّ عليه قال في (ص: 28) : "ووسَّعوا جانبَ العقيدة مع تشدُّد على المخالفين، فأدخلوا مباحثَ الصحابة والدَّجَّال والمهديَّ المنتظَر والمسحَ على الخفَّين والجهر بالبسملة وغير ذلك من الأخبار أو المواعظ أو الأحكام، فضلاً عن التكفير والتبديع ونشر الأكاذيب، أدخلوا كلَّ هذا وزيادة في العقيدة، وأصبح المخالف في شيء من ذلك مبتدعاً عندهم!! ". وقد أورد المالكيُّ في آخر قراءته (ص: 219) مقالاً لِمَن سَمَّاه سعود الصالح بعنوان: "مسلسل الإضافات على العقيدة فرَّق المسلمين جماعات" دندن فيه حول هذا المعنى. ويُجاب عن ذلك بما يلي: 1 ـ غالب المباحث التي تُذكر في كتب العقيدة عند أهل السنَّة من الغيب الذي لا يُعلمُ إلاَّ عن طريق الكتاب والسنَّة، قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي، وكلُّ خبر يأتي في الكتاب والسنَّة عن أمور غائبة سواء كانت ماضية أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 مستقبَلة أو موجودة غير مشاهدة ولا معايَنة يجب الإيمان به والتصديق، وأصول الإيمان الستَّة المبيَّنة في حديث جبريل، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرِّه، هي من جملة الإيمان بالغيب الذي مدح الله أهلَه وأثنَى عليهم في قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} . وما جاء من أخبار عن المهديِّ والدجَّال يجب التصديق بها كغيرها من أشراط الساعة التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، وستقع طبقاً لِمَا أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الأقوال التي فُسِّر بها الغيب في قول الله عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ما ذكره القرطبي في تفسير هذه الآية، فقال: ((وقال آخرون: الغيب كلُّ ما أخبر به الرسول عليه السلام مِمَّا لا تهتدي إليه العقول؛ من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنَّشر والصراط والميزان والجنَّة والنار". 2 ـ قد يُذكر في بعض كتب العقيدة عند أهل السُّنَّة بعضُ الأحكام التي جاءت في القرآن أو ثبتت بها السنَّة؛ للتنبيه إلى مخالفة بعض فرق الضلال في تلك الأحكام، كغسل الرِّجلين المذكور في القرآن والمبيَّن في السنَّة من فعله صلى الله عليه وسلم وقوله، وكالمسح على الخُفَّين الذي تواترت به السنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإنَّ بعضَ فرق الضلال لا يغسلون أرجلَهم في الوضوء، بل يَمسحون على ظهورها، ولا يرون المسحَ على الخفَّين، وذِكرُ مثل هذا في بعض كتب العقيدة لا يسوِّغ التهويل والتشنيع على أهل السنَّة، من الحاقدين على أهل السنَّة، المؤيِّدين لفرق الضلال كالمالكي ومَن كان على شاكلته. 3 ـ وأمَّا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتب العقائد لبيان فضلهم وعلوِّ قدرهم؛ لأنَّهم خير القرون المفضَّلة، فليس بغريب على مباحث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 العقيدة؛ لأنَّ الكتاب والسنَّة هما الينبوع الصافي الذي تُستَمَدُّ منه العقيدة، ويُستمَدُّ منه كلُّ خير وهدى، ولم يعرف الناسُ الكتابَ والسنَّةَ ولَم يصلاَ إليهم إلاَّ عن طريق الصحابة، فهم الواسطةُ بين غيرهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يَستنكرُ ذكرَ الصحابة في كتب العقائد إلاَّ مَن امتلأ قلبُه بأمراض الشبهات، وشوى قلبَه الحقدُ على خير هذه الأمَّة التي هي خير الأمَم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 11 ـ قدحه في أفضليَّة أبي بكر وأحقيَّته بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والردُّ عليه جاء في قراءته (ص: 43) عنوان بلفظ: "الاختلاف يوم السقيفة وموقف المسلمين منها وآثارها الفكرية"، أورد تحته كلاماً ينتهي في (ص: 50) اشتمل على قدح وتشكيك في أحقيَّة أبي بكر وأولويته بالخلافة، وأنا أورد هنا جُملاً من كلامه مشتملة على ذلك: 1 ـ ففي (ص: 43 ـ 44) قال: "فعند علم الأنصار بوفاة النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم اجتمعوا في سقيفة بَنِي ساعدة يريدون تولية سعد بن عبادة رضي الله عنه على المسلمين؛ بحجَّة أنَّ الأنصارَ هم أهلُ المدينة عاصمة الإسلام، وأنَّ قريشاً أخرجت النَّبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة، وأنَّ الأنصارَ هم الذين حَموا النَّبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ودعوتَه، ولقوا في ذلك الشدائد، وأنَّ المهاجرين ليسوا إلاَّ ضيوفاً عليهم في المدينة، وعلى هذا فصاحب الدار أولَى بالتصرُّف في داره من الضيف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 2 ـ وقال في (ص: 45 ـ حاشية) : "بعضُهم يرى أنَّه ليس كلُّ من بايع أبا بكر الصديق يراه أَوْلَى مِن غيره! وإنَّما بايَعه لأنَّه يراه من الأكفاء للخلافة، ولخشيته من الفتنة ورضاه بالأمر الواقع!! ... ". 3 ـ وقال في (ص: 45 ـ 48) : "وكان هناك قسمٌ آخر من كبار المهاجرين لَم يُبايعوا أبا بكر، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عمِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء، وكان معه بنو هاشم قاطبة، وعمه العباس بن عبد المطلب وأبنائه (كذا) عبد الله بن العباس والفضل بن العباس، وكوكبة من كبار المهاجرين الأوَّلين كعمار بن ياسر وسَلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن عمرو وغيرهم، كما كان معهم بعضُ الأنصار كأُبَيِّ ابن كعب والبراء بن عازب وجابر بن عبد الله، وغيرهم من عموم الصحابة الذين كانوا يرون أنَّ عليَّ ابنَ أبي طالب كان أكفأَ الناس لتولِّي الأمر بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم! لكونه أوَّلَ مَن أسلم، ولكونه بمنزلة كبيرة من النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم (كمنزلة هارون من موسى باستثناء النبوة) ، وكان من علماء الصحابة وشجعانهم وزهادهم، ومن العشرة المبشَّرين بالجنة، مع نسبه الشريف وقربه من النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نسباً وصِهراً ونشأة وسكناً، فكان هذا القسم من المهاجرين ومعهم بعض الأنصار يرون أنَّ عليَّ بن أبي طالب هو أنسبُ الصحابة لتولِّي الخلافة بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم!! بل تبيَّن أنَّ معظمَ الأنصار كانوا يَميلون مع عليٍّ أكثرَ من ميلِهم مع (أبي بكر!!) رضي الله عنهما، لكن السبب في بيعتهم أبا بكر وتركهم عليًّا أنَّ عليًّا لَم يكن موجوداً في السقيفة أثناء المجادلة والمناظرة مع الأنصار، وربَّما لو كان موجوداً لَتَمَّ له الأمر!! لأنَّ بعضَ الأنصار لَمَّا رأوا أنَّ الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 سينصرفُ عن سعد بن عبادة هتفوا باسم عليٍّ في السقيفة!! والأنصار كانوا أغلبيةً في المدينة، لكن عليًّا كان مشغولاً بِجَهاز النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، من غسله وتكفينه والإقامة على إتمام ذلك، فهو إمَّا أنَّه لَم يعلم بهذا الاجتماع المفاجئ في السقيفة، أو أنَّه يرى أنَّه ليس من المناسب أن يترك الجسدَ الشريف ويذهب إلى السقيفة يتنازع مع الناس في أحقيته بخلافة النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم!! فآثر البقاءَ مع الجسد الشريف غسلاً وتكفيناً مع الصلاة عليه، ثمَّ دفنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا استغرق يومين من موته صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وكانت البيعة العامة لأبي بكر قد تَمَّت قبل دفن النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا كان له أثرٌ نفسي على علي بن أبي طالب ومن مَعه مِن أهل البيت، كفاطمة الزهراء، ومن معه من المهاجرين والأنصار، فقد كان هؤلاء يَرون أنَّ أصحابَ السقيفة لَم يُراعوا مكانتهم، وقطعوا الأمور دون مشورتِهم، وكانوا يفضِّلون أن يتأنَّى الناس حتى يتِمَّ دفنُ النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمَّ يتشاور الناسُ ويوَلُّون مَن يرونه أهلاً للخلافة، أمَّا أن يتِمَّ الأمر في وسط النزاع المحتدم بين المهاجرين والأنصار، ثمَّ بين الأوس والخزرج من الأنصار، فهذا يُضعف عندهم شرعيَّة البيعة!! ويجعلها أشبه ما تكون بالقهر والغلبة التي تتنافى مع الشورى المأمور بها شرعاً {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} !! ". 4 ـ وقال عن الاختلاف الذي جرى في السقيفة (ص: 43 ـ حاشية) : "ويرى البعضُ أنَّ هناك أسباباً قبليَّة وتعصباً لفئات وأشخاص، وليس اختلافهم لمصلحة الإسلام!! ورغم عدم تسليمنا بل وإنكارنا لهذا القول من ناحية بحثية بحتة، إذ لم يثبت هذا من حيث الرواية، إلاَّ أنَّه ليس هناك دليلٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 شرعي ولا عقلي يمنع من هذا!! فالصحابة يعتريهم ما يعتري سائرَ البشر! ". 5 ـ وقال في (ص: 46 ـ حاشية) : "سببُ ميل الأنصار لعليٍّ أكثر من ميلهم لأبي بكر وعمر أنَّ عليًّا كان أكثر فتكاً في مشركي قريش؛ إذ قتل من قريش في بدر وحدها نحو خمسة عشر رجلاً، وأوصلهم بعض المؤرِّخين ـ كالواقدي ـ إلى ثلاثة وعشرين رجلاً، فكان الأنصارُ يرون أنَّ عليًّا كان صارماً في موضوع قريش، وأنَّه سيكبحُ جِماحَ قريش (وخاصة الطُّلَقاء منهم، وكان الطُّلَقاء يُمثِّلون أغلب قريش) ، وأنَّه لن يصيب الأنصارَ من قريش أذى أو أثرة إذا كان علي هو الخليفة؛ لأنَّ قريشاً تُبغض عليًّا لكثرة نكايته في بيوتاتهم، بعكس أبي بكر وعمر وعثمان؛ إذ لَم يثبت أنَّهم قتلوا من قريش أحداً باستثناء رجل واحد قتله عمرُ بنُ الخطاب يوم بدر، أما علي فقتل منهم العشرات في بدر وأُحُد والخندق ويوم الفتح، وهي المعارك المشهورة مع قريش ... وقد كان بين علي والأنصار مَحبَّة عظيمة، وكان عليٌّ على علاقة كبيرة بهم، وولَّى جَمعاً من فضلائهم أيَّام خلافته"، فذكر سبعة منهم ثمَّ قال: "بينما لَم يجد الأنصارُ فرصتَهم في عهد أبي بكر وعمر وعثمان؛ إذ كانت الولايات في أيدي القرشيِّين في الغالب (وهذا أمرٌ يدعو للدراسة لمعرفة الأسباب!!) ... ومن الاتفاقات الجديرة بالذِّكر هنا أنَّه ورد في الأنصار حديثاً (كذا) : (لا يحب الأنصارَ إلاَّ مؤمن، ولا يُبغضهم إلاَّ منافق) ، وورد الحديث نفسه في علي: (لا يحب عليًّا إلاَّ مؤمن، ولا يُبغضه إلاَّ منافق) ، الحديثان في مسلم، وبوَّب مسلمٌ لهذا باباً بعنوان (باب حب علي والأنصار من الإيمان) ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 6 ـ وقال في (ص: 49 ـ حاشية) : "أسلم يوم مكة ألفان من قريش وسُمُّوا الطُّلَقاء، وكان المسلمون من قريش قبل فتح مكة نحو سبعمائة فقط، فأكثريَّة قريش من الطُّلقاء، فلعله لهذا السبب كان الأنصار يَخشون إذا ذهبت الخلافة لقريش أن تصل إلى هؤلاء الطُّلَقاء، وقد حصل هذا بعد ثلاثين سنة، إذ تولَّى الأمر معاوية بن أبي سفيان وهو من الطُّلَقاء، وقد وجد الأنصار في عهده الأثرة الشديدة التي أخبرهم بها النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم!!! ". وأجيب عن ذلك بما يلي: 1 ـ اشتمل كلامه هذا على قدح وتشكيك في أحقيَّة أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في الجمل التالية: ـ"ليس كلُّ من بايع أبا بكر الصديق يراه أَوْلَى مِن غيره! وإنَّما بايَعه لأنَّه يراه من الأكفاء للخلافة، ولخشيته من الفتنة ورضاه بالأمر الواقع!! ". ـ زعمه أنَّ قسماً من المهاجرين وبعض الأنصار"يرون أنَّ عليَّ بن أبي طالب هو أنسبُ الصحابة لتولِّي الخلافة بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم!! بل تبيَّن أنَّ معظمَ الأنصار كانوا يَميلون مع عليٍّ أكثرَ من ميلِهم مع (أبي بكر!!) رضي الله عنهما، لكن السبب في بيعتهم أبا بكر وتركهم عليًّا أنَّ عليًّا لَم يكن موجوداً في السقيفة أثناء المجادلة والمناظرة مع الأنصار، وربَّما لو كان موجوداً لَتَمَّ له الأمر!! ". ـ زعمه أنَّ عليًّا لم يذهب إلى السقيفة"إمَّا أنَّه لَم يعلم بهذا الاجتماع المفاجئ في السقيفة، أو أنَّه يرى أنَّه ليس من المناسب أن يترك الجسدَ الشريف ويذهب إلى السقيفة يتنازع مع الناس في أحقيته بخلافة النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم!! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ـ زعمه أنَّ عليًّا رضي الله عنه ومن معه من أهل البيت كانوا يفضِّلون أن يتأنَّى الناس حتى يتمَّ دفن النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم يتشاور الناس ويولُّون مَن يرونه أهلاً للخلافة، أمَّا أن يتمَّ الأمرُ في وسط النزاع المحتدم بين المهاجرين والأنصار، ثم بين الأوس والخزرج من الأنصار، فهذا يضعف عندهم شرعيَّة البيعة، ويجعلها أشبهَ ما تكون بالقهر والغلبة التي تتنافى مع الشورى المأمور بها شرعاً {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} !!! ـ"سبب ميل الأنصار لعليٍّ أكثر من ميلهم لأبي بكر وعمر أنَّ عليًّا كان أكثرَ فتكاً في مشركي قريش!! ". 2 ـ ما زعمه من كون الأنصار يرون أنَّ اختيار الخليفة إليهم لأنَّهم أصحاب الدار، وأنَّ المهاجرين ما هم إلاَّ ضيوف عليهم، هو من سوء ظنِّه في الأنصار رضي الله عنهم، وكذا ما زعمه من أنَّ البعضَ يرى أنَّ الاختلافَ الذي جرى يوم السقيفة يرجع إلى تعصُّب قبلي، وليس لمصلحة الإسلام هو من سوء ظنِّه في المهاجرين والأنصار، وما ذكره من استنكار هذا الرأي، ثم القول بأنَّه ليس هناك ما يمنع منه؛ لأنَّ الصحابةَ يعتريهم ما يعتري البشر هو من تناقضه في كلام قليل لا يتجاوز ثلاثة أسطر، مع أنَّه يصف أهل السنَّة بأنَّهم متناقضون. 3 ـ ما أشار إليه من أولوية علي رضي الله عنه بالخلافة؛ لكونه بمنزلة كبيرة من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى باستثناء النبوة، فيُجاب بأنَّ بعضَ أهل الأهواء والبدع يتشبَّثون بأوْلوية علي بن أبي طالب بالخلافة بالحديث الوارد في ذلك، وهو حديث ثابتٌ في الصحيحين عن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه، ولفظه عند البخاري (4416) : "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك، واستخلف عليًّا، فقال: أَتُخلِّفنِي في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه ليس نبيٌّ بعدي؟! ". وهو لا يدلُّ لهم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما قال ذلك تطييباً لنفس عليٍّ رضي الله عنه لَمَّا قال له: أَتُخلِّفنِي في الصبيان والنساء؟ وهذا الاستخلاف إنَّما هو مدَّة سفره إلى تبوك، كما أنَّ استخلاف موسى لهارون كان مدَّة ذهابه لمناجاة الله، فهذا هو المراد بالتشبيه، فالمشبَّه استخلاف النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ مدَّة غيبته، والمشبَّه به استخلاف موسى لهارون مدَّة غيبته، إلاَّ أنَّ المشبَّه به نبِيٌّ استخلف نبيًّا لوجود الأنبياء في زمن واحد، وأمَّا نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم فإنَّه لا نبِيَّ بعده، لا في زمانه ولا بعد زمانه. وليس فيه دلالة على أحقِّيَّة علي بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 ـ ما أشار إليه من أولوية علي رضي الله عنه بالخلافة لكونه قد أكثر القتلَ في كفار قريش، أقول: إنَّ كثرةَ القتل لا تعتبر دليلاً على الأولوية، ومن المعلوم أنَّ بعضَ من تأخَّر إسلامُهم كانت نكايتهم بالعدوِّ أشدَّ مِمَّن هو أفضل منهم مِمَّن تقدَّم إسلامُهم، وإنَّما التفضيل والتقديم في الخلافة يُعوَّل فيه على الأدلَّة. 5 ـ ما أشار إليه من ورود حديثين في صحيح مسلم، أحدهما في الأنصار، والثاني في عليٍّ، يدلاَّن على أنَّه لا يحبُّهم إلاَّ مؤمنٌ ولا يبغضهم إلاَّ منافقٌ، أقول: إنَّ الحديثَ في الأنصار جاء في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، ولفظه: "الأنصار لا يحبُّهم إلاَّ مؤمنٌ ولا يبغضهم إلاَّ منافقٌ، فمَن أحبَّهم أحبَّه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله" رواه البخاري (3783) ومسلم (129) ، وأيضاً من حديث أنس رضي الله عنه، ولفظه: "آيةُ الإيمان حبُّ الأنصار، وآيةُ النِّفاق بغضُ الأنصار" رواه البخاري (3784) ومسلم (128) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وفي صحيح مسلم (131) عن زرٍّ قال: قال عليّ: "والذي فَلَقَ الحَبَّة وَبَرَأَ النَّسَمَة إنَّه لعهدُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إليَّ: ألاَّ يُحبَّني إلاَّ مؤمن، ولا يبغضني إلاَّ منافقٌ". وبغضُ المنافقين للأنصار إنَّما هو لنُصرتهم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لإظهار دينه، وهذا المعنى لا يختصُّ به الأنصار؛ فإنَّ المهاجرين هم أيضاً أنصارٌ، وقد جَمعوا بين الهجرة والنُّصرة، ولهذا كانوا أفضلَ من الأنصار، وقد وصفهم الله بهذين الوصفين في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ، قال الحافظ في الفتح (1/63) في شرح حديث حبّ الأنصار: " ... فلهذا جاء التحذيرُ من بغضهم والترغيب في حبهم حتَّى جعل ذلك آيةَ الإيمان والنفاق؛ تنويهاً بعظيم فضلهم، وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان مَن شاركهم في معنى ذلك مشاركاً لهم في الفضل المذكور كلٌّ بقسطه، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عليّ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: (لا يُحبُّكَ إلاَّ مؤمن، ولا يبغضكَ إلاَّ منافقٌ) ، وهذا جارٍ باطّرادٍ في أعيان الصحابة؛ لتحقق مشترك الإكرام؛ لِمَا لهم مِن حسن الغناء في الدِّين، قال صاحب المفهم: وأمَّا الحروب الواقعة بينهم فإن وقع من بعضهم بغضٌ لبعضٍ فذاك من غير هذه الجهة (يعني النصرة) ، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة، ولذلك لَم يحكم بعضهم على بعضٍ بالنفاق، وإنَّما كان حالُهم في ذاك حالَ المجتهدين في الأحكام، للمصيب أجران، وللمخطئ أجرٌ واحد، والله أعلم". وكتاب المفهم هو شرحٌ لصحيح مسلم، وصاحبُه أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي، وهو شيخ لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي المفسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وأمّا ما ذكره المالكي مِن أنَّ مسلماً بوَّب لهذا باباً بعنوان"باب حبُّ عليٍّ والأنصار من الإيمان"، فإنَّ مسلماً ـ رحمه الله ـ لَم يضع في صحيحه أبواباً، وهو في حكم المبوَّب، وتراجم الأبواب إنَّما هي من عمل غيره، قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم (1/21) : "وقد ترجم جماعةٌ أبوابَه بتراجم بعضُها جيِّدٌ وبعضُها ليس بجيِّد، إمَّا لقصور في عبارة الترجمة، وإمَّا لركاكةِ لفظها، وإمَّا لغير ذلك، وأنا إن شاء الله أحرصُ على التعبير عنها بعبارات تليقُ بها في مواطنها، والله أعلم". وبعد إيراد جمل من كلام المالكي في التشكيك والقدح في أحقيَّة أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والردِّ عليه أُورِد هنا بعضَ ما وقفت عليه من الأحاديث والآثار وحكاية الإجماع في بيان أحقيَّة أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي منقولة من كتابي الانتصار للصحابة الأخيار في رد أباطيل حسن المالكي، من (ص: 72) إلى (ص: 82) . أوَّلاً: الأحاديث والآثار: 1 ـ روى البخاري (5666) ، ومسلم (2387) في صحيحيهما، واللفظ لمسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضِه: ادْعِي لي أبا بكر وأخاكِ حتى أكتب كتاباً، فإنِّي أخاف أن يتمنّى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى اللهُ والمؤمنون إلاَّ أبا بكر". 2 ـ روى البخاري (7220) ، ومسلم (2386) في صحيحيهما، واللفظ للبخاري عن جُبير بن مُطْعم قال: "أتت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ فكلَّمتْه في شيءٍ، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: يا رسول الله! أرأيتَ إن جئتُ ولَم أجدْك، كأنَّها تريد الموت؟ قال: إن لَم تجديني فأتِي أبا بكر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 3 ـ روى البخاري في صحيحه (678) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "مرض النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فاشتدَّ مرضُه، فقال: مُروا أبا بكرٍ فليصلِّ بالناس" الحديث، وقد أخرجه مسلم في صحيحه (420) . وجاء أمره صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليصلي بالناس من حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري (679) ومسلم (418) . وقد فهم الصحابةُ رضي الله عنهم من تقديم أبي بكر رضي الله عنه في الإمامة في الصلاة أنَّه الأحقُّ بالخلافة، فروى ابن سعد في الطبقات (3/178 ـ 179) قال: أخبرنا حُسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله (يعني ابن مسعود) رضي الله عنه قال: "لَمَّا قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: مِنَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ، قال: فأتاهم عمر، فقال: يا معشر الأنصار! ألستم تعلمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس؟ قالوا: بلى! قال: فأيُّكم تطيبُ نفسُه أن يتقدَّم أبا بكر؟ قالوا: نعوذ بالله أن نتقدَّم أبا بكر! ". وهذا إسنادٌ صحيحٌ، رجالُه رجالُ الجماعة، وعاصم هو ابن أبي النجود، وحديثُه في الصحيحين مقرونٌ، ورواه الحاكم في المستدرك (3/67) ، وقال: "هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وفي صحيح البخاري (3668) أنَّ عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر يوم السقيفة: "بل نبايعُك أنت؛ فأنت سيِّدنا وخيرُنا وأحبُّنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده، فبايعه وبايعه الناس". 4 ـ روى مسلم في صحيحه (532) عن جندب بن عبد الله البجلي أنَّه قال: "سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: إنِّي أبرأُ إلى الله أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 يكون لي منكم خليلٌ؛ فإنَّ اللهَ تعالى قد اتَّخذني خليلاً، كما اتَّخذ إبراهيمَ خليلاً، ولو كنتُ متَّخذاً من أُمَّتي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلاً" الحديث. وهذا التنويهُ بهذه الفضيلة العظيمة للصِّدِّيق في مرض موته صلى الله عليه وسلم وقبل وفاته بخمس ليالٍ، فيه إشارةٌ قويّةٌ إلى أنَّه الأحقُّ بالخلافة من غيره. 5 ـ روى البخاري (3664) ومسلم (2392) في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائمٌ رأيتُني على قليبٍ عليها دلوٌ، فنزعتُ منها ما شاء الله، ثمَّ أخذها ابنُ أبي قُحافة فنزع بها ذَنُوباً أو ذنوبين، وفي نزعه ضَعفٌ، والله يغفر له ضعفَه، ثمَّ استحالت غرباً فأخذها ابنُ الخطاب، فلَم أَرَ عَبْقرياًّ من الناس ينزع نزعَ عمر، حتى ضرب الناسُ بعَطَن". ورؤيا الأنبياء وحيٌ، وهذه الرؤيا فيها إشارةٌ إلى خلافة أبي بكر وقِصَرها، وإلى خلافة عمر مِن بعده، وطولها وكثرة نفعها. 6 ـ روى ابن أبي شيبة في مصنّفه (7/434 رقم: 7053) فقال: حدثنا ابن نُمير، عن عبد الملك بن سلع، عن عبد خير قال: سمعتُ علياًّ يقول: "قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على خير ما عليه نَبِيٌّ من الأنبياء، قال: ثمَّ استخلف أبو بكر فعمل بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسنته، ثمَّ قُبض أبو بكر على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمة بعد نبيِّها، ثمَّ استُخلف عمر فعمل بعملهما وسنتهما، ثمَّ قُبض على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمة بعد نبيِّها وبعد أبي بكر". ورجالُ هذا الإسناد محتجٌّ بهم، فعبد خير وعبد الله بن نمير ثقتان، وعبد الملك بن سلع صدوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ثانياً: حكايةُ الإجماع والاتّفاق على خلافة أبي بكر رضي الله عنه: لَم يأت نصٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحٌ على خلافة أبي بكر أو غيره، لكنَّه قد جاء أحاديث صحيحة تدلُّ دلالة قويَّة على أنَّه أولَى من غيره بالخلافة، وقد مرَّ جملةٌ منها، وقد حصل اتِّفاق الصحابة رضي الله عنهم على بيعته، وتحقَّق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله في الحديث المتقدِّم قريباً: "يأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر"، ويدلُّ على حصول اتِّفاقهم على بيعته ما يلي: 1 ـ روى الحاكم في المستدرك (3/78 ـ 79) قال: أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدَّثني أبي وأحمد بن منيع، قالا: ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا عاصم، عن زِر، عن عبد الله (يعنِي ابنَ مسعود) قال: "ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيِّئاً فهو عند الله سيِّء، وقد رأى الصحابةُ جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه". ورجاله مُحتجٌّ بهم، والقطيعي ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/210) ، وقال عنه: "الشيخ العالم المحدِّث مسند الوقت". 2 ـ روى البخاري في صحيحه (7219) بإسناده إلى الزهري أنَّه قال: ((أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فتشهَّد وأبو بكر صامت لا يتكلَّم، قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَدْبَرَنا، يريد بذلك أن يكون آخرَهم، فإن يكُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم قد مات، فإنَّ الله تعالى قد جعل بين أظهرِكم نوراً تهتدون به بما هدى اللهُ به محمداً صلى الله عليه وسلم، وإنَّ أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين، فإنَّه أولَى الناسِ بأمورِكم، فقوموا فبايِعوه، وكانت طائفةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بَنِي ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر، قال الزهري (أي بالإسناد المتقدِّم) عن أنس بن مالك: سمعتُ عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر، فبايعه الناسُ عامَّة". 3 ـ روى أبو داود في سننه (4630) قال: حدَّثنا محمد بن مسكين، حدَّثنا محمد ـ يعني الفريابي ـ قال: سمعتُ سفيان (يعني الثوري) يقول: "مَن زعم أنَّ عليًّا عليه السلام كان أحقَّ بالولاية منهما فقد خطَّأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار، وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء". إسناده صحيح، ومحمد بن يوسف الفريابي ثقة أخرج له الجماعة، ومحمد ابن مسكين ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. 4 ـ روى البيهقي في كتابه مناقب الشافعي (1/434) بإسناده إلى الشافعي قال: "أجمع الناسُ على خلافة أبي بكر، واستخلَف أبو بكر عمر، ثمَّ جعل عمرُ الشورى إلى ستة، على أن يُوَلُّوها واحداً، فوَلَوْها عثمان رضي الله عنهم أجمعين". 5 ـ قال الإمام أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل في كتابه الإبانة (ص: 185 ـ 186) : "وأثنى الله عزَّ وجلَّ على المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام، وعلى أهل بيعة الرضوان، ونطق الكتاب بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة، وأثنى على أهل بيعة الرضوان، فقال عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية. قد أجمع هؤلاء الذين أثنى عليهم ومدَحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وسَمَّوه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايعوه وانقادوا له، وأقَرُّوا له بالفضل، وكان أفضلَ الجماعة في جميع الخصال التي يستحقُّ بها الإمامةَ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 العلم والزهد وقوَّة الرأي وسياسة الأمَّة وغير ذلك". 6 ـ قال أبو محمد عبد الله بن محمد بن عثمان الحافظ المعروف بابن السَّقاء: "وأجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر، قالوا له: يا خليفة رسول الله! ولَم يُسَمَّ أحدٌ بعده خليفة، وقيل: إنَّه قُبض النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ثلاثين ألف مسلم، كلٌّ قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله! ورَضوا به مِن بعده، رضي الله عنهم، وإلى حيث انتهينا قيل لهم: أمير المؤمنين". من تاريخ بغداد للخطيب (10/131) . والمراد أنَّ أبا بكر كان يُقال له: يا خليفة رسول الله! وأمَّا غيره فيُقال له: يا أمير المؤمنين. 7 ـ قال أبو عثمان الصابوني إسماعيل بن عبد الرحمن في كتابه عقيدة السَّلف أصحاب الحديث (ص: 87) : "ويُثبت أصحابُ الحديث خلافةَ أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة واتِّفاقهم عليه وقولهم قاطبة: رَضِيَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لدِيننا فرضيناه لدُنيانا، يعني أنَّه استخلفه في إقامة الصلوات المفروضات بالناس أيَّام مرضه وهي الدِّين، فرضيناه خليفةً للرسول صلى الله عليه وسلم علينا في أمور دُنيانا. وقولهم: قدَّمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمَن ذا الذي يُؤَخِّرك؟ وأرادوا أنَّه صلى الله عليه وسلم قدَّمَك في الصلاة بنا أيَّام مرضه، فصلينا وراءك بأمره، فمَن ذا الذي يُؤخِّرك بعد تقديمه إيَّاك؟! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلَّم في شأن أبي بكر في حال حياته بِما يُبيِّن للصحابة أنَّه أحقُّ الناس بالخلافة بعده، فلذلك اتَّفقوا عليه واجتمعوا، فانتفعوا بمكانه ـ والله ـ وارتفعوا به وعَزُّوا وعَلَوْا بسببه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 8 ـ قال الإمام البيهقي في كتابه الاعتقاد (ص: 179 ـ 180) : "وقد صحَّ بما ذكرنا اجتماعُهم على مبايعته مع علي بن أبي طالب، فلا يجوز لقائل أن يقول: كان باطنُ عليٍّ أو غيرِه بخلاف ظاهرِه، فكان عليٌّ أكبرَ محلاًّ وأجلَّ قدراً من أن يقدم على هذا الأمر العظيم بغير حقٍّ أو يُظهِرَ للناس خلافَ ما في ضميره، ولو جاز هذا في اجتماعهم على خلافة أبي بكر لَم يصحَّ إجماعٌ قطُّ، والإجماعُ أَحَدُ حُجَج الشريعة، ولا يجوز تعطيلُه بالتوهُّم". 9 ـ قال ابن قدامة في لُمعة الاعتقاد (ص: 35) : "وهو (أي أبو بكر الصديق) أحقُّ خلق الله بالخلافة بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لفضله وسابقته وتقديم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة". 10 ـ قال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (1/264) : ((وأجمعت الصحابةُ على تقديم الصدِّيق بعد اختلافٍ وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بَنِي ساعدة في التعيين، حتى قالت الأنصار: منَّا أميرٌ ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك، وقالوا لهم: إنَّ العربَ لا تدين إلاَّ لِهذا الحيِّ من قريش، ورَوَوا لهم الخبرَ في ذلك، فرجعوا وأطاعوا لقريش". 11 ـ قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم (15/154 ـ 155) عند شرحه لأثر عائشة رضي الله عنها لَمَّا سُئلت: "مَن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها: ثمَّ مَن بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثمَّ قيل لها: مَن بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح، ثمَّ انتهت إلى هذا"، قال: "هذا دليلٌ لأهل السُّنَّة في تقديم أبي بكر ثمَّ عمر في الخلافة مع إجماع الصحابة، وفيه دلالة لأهل السُّنَّة أنَّ خلافةَ أبي بكر ليست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 بنصٍّ من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على خلافته صريحاً، بل أجمعت الصحابةُ على عقد الخلافة له وتقديمه لفضيلته، ولو كان هناك نصٌّ عليه أو على غيره لَم تقع المنازعةُ من الأنصار وغيرهم أولاً، ولَذَكر حافظ النصِّ ما معه، ولرجعوا إليه، لكن تنازعوا أوَّلاً، ولم يكن هناك نصٌّ، ثمَّ اتَّفقوا على أبي بكر واستقرَّ الأمر". 12 ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (6/455) : " ... فبايعه الذين بايعوا الرَّسولَ تحت الشجرة، والذين بايعوه ليلة العقبة، والذين بايعوه لَمَّا كانوا يُهاجرون إليه، والذين بايعوه لَمَّا كانوا يُسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرِهم، ولم يقل أحدٌ قطُّ: إنِّي أحقُّ بهذا مِن أبي بكر، ولا قاله أحدٌ في أحدٍ بعينه: إنَّ فلاناً أحقُّ بهذا الأمر من أبي بكر". 13 ـ عقد ابن القيم في كتابه"الفوائد" فصلاً في فضائل أبي بكر، ومِمَّا جاء فيه قوله في (ص: 95) : "نطقتْ بفضله الآياتُ والأخبارُ، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار". 14 ـ قال ابن كثير في كتابه البداية والنهاية (9/415 ـ 418) : "وقد اتَّفق الصحابةُ رضي الله عنهم على بيعة الصِّديق في ذلك الوقت، حتى عليّ ابن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما وأرضاهما، والدليل على ذلك ما رواه البيهقي حيث قال: أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن علي الحافظ الإسفراييني، ثنا أبو علي الحُسين بن علي الحافظ، ثنا أبو بكر بن خزيمة وإبراهيم بن أبي طالب، قالا: نا بُندار بن بشار، ثنا أبو هشام المخزومي، ثنا وُهيب، ثنا داود بن أبي هند، ثنا أبو نَضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: "قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتمع الناسُ في دار سعد بن عُبادة، وفيهم أبو بكر وعمر، قال: فقام خطيبُ الأنصار فقال: أتَعلمون أنَّ رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وخليفتَه من المهاجرين، ونحن كنَّا أنصارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فنحن أنصارُ خليفتِه كما كنَّا أنصارَه، قال: فقام عمرُ بنُ الخطاب، فقال: صدق قائلُكم، ولو قُلتُم غيرَ هذا لَم نُتابِعكم، فأخذ بيد أبي بكر، وقال: هذا صاحبُكم فبايِعوه، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصارُ، قال: فصعد أبو بكر المنبرَ، فنظر في وجوه القوم، فلَم يرَ الزبيرَ، فدعا بالزبير فجاء، قال: قلتَ: ابنُ عمَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريُّه، أردتَ أن تشُقَّ عصا المسلمين؟! قال: لا تثريبَ يا خليفة رسول الله! فقام فبايعه، ثمَّ نظر في وجوه القوم فلَم يرَ عليًّا، فدعا بعليِّ بن أبي طالب، فجاء فقال: قلتَ: ابنُ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختَنُه على ابنتِه، أردتَ أن تشُقَّ عصا المسلمين؟! قال: لا تثريبَ يا خليفة رسول الله! فبايعه) ، هذا أو معناه". وهذا إسنادٌ صحيح، رجاله رجال مسلم، وابن خزيمة هو إمام الأئمة صاحب الصحيح. وإبراهيم بن أبي طالب هو محمد بن نوح، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (13/457) وقال: "الإمام الحافظ المجوِّد الزاهد، شيخ نيسابور، وإمام المحدِّثين في زمانه"، ونقل عن الحاكم أنَّه قال فيه: "إمام عصره بنيسابور في معرفة الحديث والرِّجال، جمع الشيوخ والعلل". وأبو علي الحسين بن علي الحافظ، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/51) وقال: "الحافظ الإمام العلاَّمة الثبت أبو علي الحسين بن علي ابن يزيد بن داود النيسابوري، أحد النُّقَّاد". وشيخ البيهقي، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (17/305) وقال: "الإمام الحافظ النَّاقد القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن حسين ابن شاذان بن السَّقا الإسفراييني، من أولاد أئمَّة الحديث، سمع الكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الكبار وأملى وصنَّف". وقد أورد ابن كثير حديث البيهقي هذا في البداية (8/92) بإسناده ومتنه، وفيه أنَّ كنية شيخه أبو الحسن، ثمَّ قال: "وهذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة المنذر بن مالك بن قُطَعة، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سِنان الخدري"، وقد ساق البيهقي في السنن الكبرى (8/143) هذا الإسناد وأحال في متنه على متن إسناد قبله، وقال: "بنحوه"، وفيه أنَّ كنية شيخه: أبو الحسن. وقال ابن كثير أيضاً (9/417) : "وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم، حدَّثني أبي: (أنَّ أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأنَّ محمد بن مسلمة كسَر سيفَ الزبير، ثمَّ خطب أبو بكر، واعتذر إلى الناس، وقال: والله! ما كنتُ حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتُها اللهَ في سرٍّ ولا علانية، فقبِل المهاجرون مقالتَه، وقال عليٌّ والزبير: ما غضِبْنا، إلاَّ لأنَّنا أُخِّرنا عن المشورة، وإنَّا نرى أبا بكر أحقَّ الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إنَّه لصاحبُ الغار، وإنَّا لنعرِف شرَفَه وخَيْرَه، ولقد أمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي) . وهذا اللاَّئق بعليٍّ رضي الله عنه، والذي تدلُّ عليه الآثار من شهودِه معه الصلوات، وخروجه معه إلى ذي القَصَّة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سنورده، وبذلِه له النصيحةَ والمشورةَ بين يديه، وأمَّا ما يأتي من مبايعته إيَّاه بعد موت فاطمة، وقد ماتت بعد أبيها عليه الصلاة والسلام بستَّة أشهر، فذلك محمولٌ على أنَّها بيعةٌ ثانية أزالت ما كان قد وقع من وَحشةٍ بسبب الكلام في الميراث، ومنعه إيَّاهم ذلك بالنصِّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا نورَث ما تركنا فهو صدقة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وإسناد موسى بن عقبة صحيح؛ سعد بن إبراهيم وأبوه من رجال الصحيحين، وسعدٌ ثقة، وأبوه له رؤية. 15 ـ قال يحيى بن أبي بكر العامري في كتابه الرياض المستطابة (ص: 143) : "وقد كانت بيعتُه إجماعاً من الصحابة الذين هم أعرفُ بالحال، وأدرى بصحَّة الدليل في المقال، والإجماعُ حُجَّة قطعية من غيرهم، فما ظنُّك بهم؟! ". ومِمَّا تقدَّم من الأحاديث والآثار وحكاية الإجماع يتبيَّن أنَّ خلافةَ أبي بكر رضي الله عنه حقٌّ، وأنَّه أوْلَى بالخلافة من غيره، وأنَّ القولَ بخلاف ذلك ضلالٌ عن الحقِّ وخروجٌ عن الجادَّة واتِّباعٌ لغير سبيل المؤمنين التي بيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: "يأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر"، فالله يأبى إلاَّ أبا بكر، والمؤمنون يأبون إلاَّ أبا بكر، ويأبى بعضُ الذين اتَّبعوا غيرَ سبيل المؤمنين مِن أهل الأهواء والبدعِ إلاَّ غير أبي بكر، نعوذ بالله من الخذلان. ثمَّ أقول: إنَّ غُلوَّ المالكي في عليٍّ رضي الله عنه لا يُفيد عليًّا شيئاً، وإنَّ جفاءَه في حقِّ الكثيرين من الصحابة لا يضُرُّهم شيئاً، وإنَّما مضرَّة الغلوِّ والجفاء تعود على الغالي الجافي، نسأل الله السلامةَ والعافية. وكما اشتملت عباراته التي أشرتُ إليها على تشكيكه وقدحه في أحقيَّة أبي بكر بالخلافة، فإنَّها مشتملةٌ على تشكيكه في أفضليته على غيره من الصحابة، بل قد صرَّح بذلك في كتابه السيِّء في الصحابة؛ إذ أورد فيه أثر إبراهيم النخعي: "من فضلَّ عليًّا على أبي بكر وعمر فقد أزرى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار ... " مستدلاًّ به على رأيه الباطل، وهو قَصْر الصحبة الشرعية على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية، فقال: "مع التحفُّظ على تشنيعه على مَن فضَّل عليًّا عليهما؛ فإنَّ هذا قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 فعله بعضُ السابقين من المهاجرين والأنصار، كما ذكر ذلك ابنُ عبد البر في ترجمة الإمام عليٍّ في الاستيعاب، ودلَّت عليه بعضُ الروايات!!! ". وقد رددتُ عليه تحفظه الباطل في كتابي"الانتصار للصحابة الأخيار" (ص: 59 ـ 65) ، وأنا أسوقه هنا، فقد قلت فيه: وأمَّا تحفُّظه على ما جاء في الأثر من تفضيل الشيخين على عليٍّ رضي الله عن الجميع، فهو مخالِف لِما عليه سلفُ هذه الأمَّة، ودلَّت عليه الأحاديثُ الصحيحةُ والآثار عن بعض الصحابة وغيرِهم، ومنهم علي رضي الله عنه، وأذكر فيما يلي بعضَ الأدلَّة الدَّالَّة على ذلك مِمَّا وقفتُ عليه من الأحاديث المرفوعة والآثار عن الصحابة، وحكاية الإجماع عن عدد من العلماء: أوَّلاً: الأحاديث المرفوعة: 1 ـ ما رواه مسلم في صحيحه (532) عن جندب بن عبد الله البَجلي رضي الله عنه أنَّه قال: سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يَموت بخمس وهو يقول: "إنِّي أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإنَّ اللهَ تعالى قد اتَّخذني خليلاً كما اتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنتُ متَّخذاً مِن أمَّتِي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً" الحديث. فقد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أمرٍ لا يكون أن لو كان كيف يكون، وهو دالٌّ على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه على الصحابة جميعاً. 2 ـ ما رواه البخاري (3662) ومسلم (2384) في صحيحيهما عن عَمرو بن العاص رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيتُه، فقلت: أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرِّجال؟ قال: أبوها، قلتُ: ثمَّ مَن؟ قال: عمر بن الخطَّاب، فعدَّ رجالاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 3 ـ روى الترمذي في جامعه (3890) قال: حدَّثنا أحمد بن عَبْدة الضبِّي، حدَّثنا المعتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس قال: "قيل: يا رسول الله! مَن أحبُّ الناس إليك؟ قال: عائشة، قيل: مِن الرِّجال؟ قال: أبوها"، وهو حديث صحيح، رجاله رجال الشيخين إلاَّ أحمد بن عبدة الضبِّي فهو من رجال مسلم. ثانياً: الآثار الموقوفة على الصحابة، ومنهم علي رضي الله عنه: 1 ـ روى البخاري في صحيحه (3671) بإسناده عن محمد بن الحنفية ـ وهو محمد بن علي بن أبي طالب ـ قال: "قلتُ لأبي: أيُّ الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلتُ: ثمَّ مَن؟ قال: ثمَّ عمر، وخشيتُ أن يقول: عثمان، قلت: ثمَّ أنت؟ قال: ما أنا إلاَّ رجلٌ من المسلمين". 2 ـ روى الإمام أحمد في مسنده (835 ـ تحقيق شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد) قال: حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا منصور بن عبد الرحمن يعنِي الغُداني الأشل، عن الشعبي، حدَّثني أبو جُحيفة الذي كان عليٌّ يُسمِّيه: وهْب الخير، قال: قال لي عليٌّ: "يا أبا جُحيفة! ألا أُخبرك بأفضل هذه الأمة بعد نبيِّها؟ قال: قلت: بلى، قال: ولم أكن أرى أنَّ أحداً أفضل منه، قال: أفضلُ هذه الأمَّة بعد نبيِّها أبو بكر، وبعد أبي بكر عمر، وبعدهما آخر ثالث، ولم يُسمِّه"، وإسناده صحيح، رجاله رجال الشيخين إلاَّ منصور بن عبد الرحمن فهو من رجال مسلم، وأثر علي هذا عن أبي جُحيفة جاء في مسند الإمام أحمد وزوائده لابنه عبد الله من طرق صحيحة أو حسنة، وأرقامها من (833) إلى (837) و (871) . 3 ـ روى الإمام أحمد في فضائل الصحابة (484) : قَثَنَا الهيثم بن خارجة والحكم بن موسى قالا: نا شهاب بن خراش، قال: حدَّثني الحجاج ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 دينار، عن أبي مَعشر، عن إبراهيم النخعي، قال: "ضرب علقمة بنُ قيس هذا المنبر، فقال: خطبنا عليٌّ على هذا المنبر، فحمِد اللهَ وذكره ما شاء الله أن يذكرَه، ثمَّ قال: ألا إنَّه بلغنِي أنَّ أناساً يفضِّلونِي على أبي بكر وعمر، ولو كنتُ تقدَّمت في ذلك لعاقبتُ، ولكنِّي أكرَه العقوبةَ قبل التقدُّم، فمَن قال شيئاً من ذلك فهو مفْتَرٍ، عليه ما على المفتري، إنَّ خيرَ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثمَّ عمر ... ". وهذا إسنادٌ حسن، وأبو مَعشر هو زياد بن كُليب، وهو ثقة. وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (993) ، وقال الألباني: "إسناده حسن". في زوائد فضائل الصحابة (49) عن عبد الله بن أحمد بإسنادٍ فيه ضعف إلى الحَكَم بن جَحْل قال: سمعتُ عليًّا يقول: "لا يفضلني أحدٌ على أبي بكر وعمر إلاَّ جلدته حدَّ المفتري". وهو أيضاً كذلك في السنة لابن أبي عاصم (1219) ، وهو قريبٌ في المعنى من الذي قبله عن علقمة. وقد أشار إبراهيم النَّخعي إلى هذه العقوبة من عليٍّ لِمَن يفضِّله على الشيخين بقوله لرجلٍ قال له: "عليٌّ أحبُّ إليَّ من أبي بكرٍ وعمر، فقال له إبراهيم: أما إنَّ علياًّ لو سَمع كلامَك لأَوْجَع ظَهْرَك، إذا تجالسوننا بهذا فلا تجالسونا" رواه عنه ابن سعد في الطبقات (6/275) بإسناده إليه عن أحمد ابن يونس عن أبي الأحوص ومُفضَّل بن مُهَلْهَل عن مغيرة عنه، ورجالُه ثقاتٌ محتجٌّ بهم، وهم من رجال الصحيحين، إلاَّ المفضل بن مهلهل فهو من رجال مسلم، وفيه عنعنة المغيرة عن إبراهيم، وهو مدلِّس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 4 ـ روى ابن ماجه في سننه (106) قال: حدَّثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الله بن سلِمة قال: سمعتُ علياًّ يقول: "خيرُ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وخير الناس بعد أبي بكر عمر". ورجاله محتجٌّ بهم، ثلاثة منهم من رجال البخاري ومسلم، وصححه الألباني. 5 ـ روى البخاري في صحيحه (3655) بإسناده إلى عبد الله بن عمر أنَّه قال: "كنَّا نُخيِّر بين الناس في زمن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فنخيِّر أبا بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان بن عفّان، رضي الله عنهم". ثالثاً: حكايةُ الإجماع: قد جاء حكايةُ الإجماع أو ما يدلُّ عليه في تفضيل أبي بكر وعمر على غيرِهما من الصحابة عن جماعةٍ من العلماء، منهم: 1 ـ يحيى بن سعيد الأنصاري (144هـ) ذكره اللاّلكائي في شرح أصول الاعتقاد (2608 و2609) . 2 ـ سفيان بن سعيد الثوري (161هـ) ، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه أصول السنة (194) . 3 ـ شريك بن عبد الله النخعي الكوفي (177هـ) ، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه السابق (194) . 4 ـ عبد الله بن المبارك (181هـ) ، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه السابق (197) . 5 ـ محمد بن إدريس الشافعي (204هـ) ، ذكره البيهقي في الاعتقاد (ص: 192) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 6 ـ يوسف بن عدي (232هـ) ، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه السابق (196) . 7 و8 ـ أبوزرعة (264هـ) وأبو حاتم (277هـ) الرازيان، ذكره عنهما اللاّلكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (321) . 9 ـ النووي (676هـ) ، ذكره في شرحه على مسلم (15/148) . 10 ـ ابن تيمية (728هـ) ، ذكره في الوصية الكبرى (ص: 59 و60) ، وفي منهاج السنة (8/413) . 11 ـ الذهبي (748هـ) ، ذكره في كتاب الكبائر (ص: 236) . وأمَّا ما عزاه إلى كتاب الاستيعاب لابن عبد البر من تفضيل عددٍ من الصحابة عليًّا على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، فلَم أقف على أسانيد عنهم بذلك، ولو ثبت شيءٌ من هذا فهو محمولٌ على مثل ما حصل لأبي جُحيفة رضي الله عنه قبل أن يَسمع من عليٍّ تفضيل أبي بكر وعمر عليه، حيث قال: "ولم أكن أرى أنَّ أحداً أفضل منه"، وقد مرَّ قريباً. وأيضاً لو ثبت النقلُ عنهم فإنَّه لا يُقاوم ما ثبت في الأحاديث المرفوعة إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والآثار الموقوفة على الصحابة، ومنهم عليّ رضي الله عنه، وهو مخالِف لِما نُقل من الإجماع في تفضيل الشيخين على عليٍّ رضي الله عن الجميع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وأمَّا ما زعمه من دلالة بعض الروايات على تفضيل عليٍّ رضي الله عنه على غيره فلَم يُبيِّن شيئاً من هذه الروايات، ولعلَّه يعنِي حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعليٍّ رضي الله عنه: "أمَا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه لا نبيَّ بعدي"، وقد أشار إليه في كلامه الذي شكَّك فيه بأحقِّية أبي بكر بالخلافة، وقد مرَّ ذكرُه قريباً والجواب عنه، وهو يدلُّ على فضل عليٍّ رضي الله عنه، ولا يدلُّ على أفضليَّته على الخلفاء الثلاثة الذين قبله، رضي الله عن الجميع. ومِمَّا تقدَّم من الأحاديث والآثار وحكايات الإجماع اتَّضح أنَّ الحقَّ هو تفضيل أبي بكر رضي الله عنه على غيره من الصحابة، ومن العجب أن يُشكِّك المالكي في أفضليَّة أبي بكر على غيره، مع أنَّ تفضيلَه على سائر الصحابة دلَّت عليه الأحاديث الصحيحة وحكاية الإجماع من عددٍ من العلماء، بل قد ثبت عن عليٍّ رضي الله عنه من رواية أربعة من التابعين أنَّ عليًّا رضي الله عنه يُفضِّلُ أبا بكر عليه، وواحد منها في صحيح البخاري، وفي بعضها تفضيله ـ أي علي ـ عمرَ عليه، بل لقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الوصيَّة الكبرى (ص: 59 ـ 60) : "وقد اتَّفق أهلُ السنَّة والجماعة على ما تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّه قال: خير هذه الأمة بعد نبيِّها أبو بكر، ثمَّ عمر، رضي الله عنهما". وفي ترجمة عبد الرزاق بن همام في تهذيب الكمال للمزي قال أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري: سمعتُ عبد الرزاق يقول: "أفضِّل الشيخين بتفضيل عليٍّ إيَّاهما على نفسه، ولو لَم يُفضِّلهما ما فضَّلتُهما، كفى بي إزراءً أن أحبَّ عليًّا ثمَّ أخالف قولَه". وفي زوائد فضائل الصحابة (126) عن عبد الله بن أحمد: قثنا سلمة ابن شَبيب أبو عبد الرحمن النيسابوري، قال: سمعتُ عبد الرزاق يقول: "والله! ما انشرح صدري قطُّ أن أُفضِّل عليًّا على أبي بكر وعمر، ورحمة الله على أبي بكر وعمر، ورحمة الله على عثمان، ورحمة الله على عليٍّ، ومَن لَم يحبَّهم فما هو بمؤمن، وإنَّ أوثقَ أعمالِنا حبُّنا إيَّاهم أجمعين، رضي الله عنهم أجمعين، ولا جعل لأحد منهم في أعناقنا تَبِعة، وحَشَرنا في زُمْرَتهم ومعهم، آمين رب العالمين! "، وسلمة بن شبيب ثقة من رجال مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 12 ـ قدحه في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما، والردُّ عليه قد أورد المالكي في قراءته كلاماً كثيراً في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما من (ص: 50) إلى (ص: 61) ، اشتمل على تشكيكه وقدحه في خلافتهما رضي الله عنهما، ولن أشغل نفسي بتتبع ما فيه من قدح في خلافتهما رضي الله عنهما اكتفاء بما أوضحته من قدحه وتشكيكه في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ولا شكَّ أنَّ من سهُلَ عليه القدح والنيل من خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فإنَّ حصولَ القدح والتشكيك في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما يكون سهلاً عليه من باب أولى، ولكنِّي أشير إلى شيئين: أحدهما: قوله في خلافة عمر رضي الله عنه (ص: 50 ـ 51) : "وقبل وفاة أبي بكر الصديق كان قد أوصى بالخلافة لعمر رضي الله عنهما، فكانت هذه الوصيَّة أيضاً محلَّ اعتراض من بعض الصحابة الكبار، كعلي وطلحة وغيرهما؛ لغلظة عمر رضي الله عن الجميع، ولم يذكر لنا التاريخ شيئاً آخر غير الغلظة، لكن في ظنِّي أنَّ اعتراض من اعترض كان عنده توجس من مسألة الوصيَّة نفسها؛ إذ كيف يوصي الخليفة إلى أن يخلفه فلان دون مشورة من المسلمين!! ". أقول: إنَّ ظنَّه الذي ذكره ـ وهو لم يُسبَق إليه ـ هو من ظنِّ السوء. الثاني: قوله في خلافة عثمان رضي الله عنه (ص: 53 ـ 54) : "فأكثر عبد الرحمن ابن عوف استشارة الناس بعد تعادل كفَّتي علي وعثمان، وكان من حسن حظِّ عثمان وسوء حظِّ عليٍّ أنَّه كان بالمدينة يومها أمراء الأمصار وأجنادهم قدموا للحجِّ، وكان هؤلاء فيمن استشارهم عبد الرحمن بن عوف، ولا ريب أنَّ معظمَ هؤلاء يفضِّل سياسة عثمان المتسامحة على سياسة علي الصارمة، فكان أكثر الناس يومئذ على اختيار عثمان، ومع ذلك كأنَّ عبد الرحمن بن عوف أدرك هذا وخشي إن تولَّى عثمان أن يحمل بني أميَّة على رقاب الناس؛ لما يعرفه من لين عثمان وكرمه وحبِّه لقومه بني أمية، فذهب ابن عوف إلى اشتراط شرط آخر إضافة لشرط العلم بالكتاب والسنة، وهو العمل بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر، وكأنَّ عبد الرحمن بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 عوف يريد من هذا الشرط أن يتذكَّر الوالي الجديد سيرةَ أبي بكر وعمر اللَّذين لم يوليا أحداً من أقاربهما، فكأنًَّه يريد إبراء ذمَّته بأخذ هذا العهد، فكان من حسن حظ عثمان أيضاً أنَّ عليًّا لن يوافق على هذا الشرط؛ إذ كان يرى فيه تقييداً لسياسة الوالي الجديد، وإلزاماً له بأمر غير ملزم شرعاً، فلذلك عاهد علي عبد الرحمن بن عوف على العمل بالكتاب والسنَّة فقط، أمَّا اشتراط سنَّة الشيخين فلم ير له مستنداً شرعيًّا، وكان علي عالماً من علماء الصحابة معتزًّا بعلمه وفقهه لا يُقلِّد أحداً، وكان يخطِّئ عمر في كثير من القضايا والأحكام، ويناقشه ويردُّ عليه، فيرجع عمر إلى رأيه وفتاواه، ويقول: (لولا علي لهلك عمر) ، فكأنَّ عليًّا يقول: (كيف ألتزم سيرة من كنت أعلم منه، وكان يستفيد من مشورتي ويرجع لعلمي؟!) . إضافة لما في هذا الشرط من تقييد للاجتهاد، لكن عثمان بن عفان وافق على الشرط دون تردد، معاهداً عبد الرحمن بن عوف على العمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين، فلم يكن أمام عبد الرحمن بن عوف بُدٌّ من بيعته، وبايع علي لعثمان مع المبايعين، لكن لم يكن راضيا عن هذه الطريقة أيضاً لوجود شرط غير شرعي كان سبباً في رفضه البيعة لنفسه!!! ". وتعليقاً على كلامه هذا أقول: 1 ـ اشتمل هذا الكلام على ألوان من سوء الظنِّ في عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 2 ـ لا ينتهي عجب المتعجب من إطلاق المالكي جملة: "وكان من حسن حظِّ عثمان وسوء حظ علي"، فإنَّ كلاًّ من عثمان وعلي رضي الله عنهما ذو حظٍّ عظيم في الدنيا والآخرة، ولم أرَ مثل هذا التعبير ولم أسمع به قبل وقوفي على هذا الكلام للمالكي، ومن سوء ظنِّ المالكي بهما رضي الله عنهما تصوره أنَّ رغبةَ كلٍّ منهما بالولاية كان لحظِّ نفسه، ولم تكن رغبتهما ورغبة غيرهما من الصحابة في الولاية ـ إن وُجدت هذه الرغبة ـ إلاَّ للعمل للإسلام ورفع رايته وإقامة الشرع، ولهذا لَمَّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر: "لأعطينَّ الرايةَ غداً رجلاً يحبُّ الله ورسولَه ويُحبُّه اللهُ ورسولُه، يفتح الله على يديه" بات الناسُ يدوكون ليلتَهم أيّهم يُعطاها، وقال عمر رضي الله عنه: "ما أحببتُ الإمارةَ إلاَّ يومئذ". فلمَّا أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلُّهم يرجو أن يُعطاها، رواه البخاري (3701) ، ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. وفي صحيح مسلم (2405) عن أبي هريرة قال: قال عمر بن الخطاب: "ما أحببتُ الإمارةَ إلاَّ يومئذ، قال: فتساورت لها رجاء أن أُدعى لها". 3 ـ ما زعمه من اشتراط عبد الرحمن على عثمان وعلي رضي الله عنهم أن يلتزم الخليفة سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقبول عثمان الشرط بلا تردد، وامتناع علي من ذلك، هو من سوء ظنِّه، ولم تكن سيرة الشيخين ـ إن صحَّ الاشتراط ـ مخالفةً لسنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسُنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"، وقال صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللَّذيْن من بعدي أبي بكر وعمر"، انظر: السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني (1233) ، بل قد جاء عن علي رضي الله عنه أنَّه قال: "قُبض رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 صلى الله عليه وسلم على خير ما عليه نبيٌّ من الأنبياء، قال: ثم استُخلف أبو بكر فعمل بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسنَّته، ثم قُبض أبو بكر على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمَّة بعد نبيِّها، ثم استُخلف عمر فعمل بعملهما وسنَّتهما، ثم قُبض على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمَّة بعد نبيِّها وبعد أبي بكر" أخرجه ابن أبي شيبة (7/434) (رقم: 7053) عن ابن نمير، عن عبد الملك بن سلع، عن عبد خير، عن علي، ورجال هذا الإسناد محتجٌّ بهم، فعبد خير وعبد الله بن نمير ثقتان، وعبد الملك بن سلع صدوق. وفي صحيح البخاري (3685) عن ابن عباس قال: "وُضع عمر على سريره، فتكنَّفه الناس يدعون ويُصلون قبل أن يُرفع وأنا فيهم، فلَم يَرُعْنِي إلاَّ رجل آخذ منكبي، فإذا علي بن أبي طالب، فترحَّم على عمر، وقال: ما خلفت أحداً أحب إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله! إن كنتُ لأظنُّ أن يجعلك الله مع صاحبَيك، وحسبت أنِّي كثيراً أسمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 13 ـ اختياره المزعوم للمذهب الحنبلي لنقده في العقيدة والردُّ عليه ذكر عنواناً (ص: 102) "نقد المذهب الحنبلي في العقيدة"، وقال فيه: " وبما أنَّ كلَّ فرقة من الفرق تركز على نقد الطوائف الأخرى وتنسى نفسَها مع ما في هذا من تزكية للنفس وظلم للآخرين وجهل بالإنصاف، وبما أنَّني لم أجد إلى الآن داخل الفرق الإسلامية من يهتمُّ بالنَّقد الداخلي إلاَّ بعض الأفراد الذين يُخرجون بعض هذا النَّقد على استحياء وحذَر، وبما أنَّ تركيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وتوسع الناقدين والباحثين في نقد المذاهب العقدية والفقهية التي ينتمون إليها له جوانب إيجابية تتمثَّل في تخفيف التعصب وتصحيح الأخطاء ومد جسور من التفهم لكثير من الإشكالات والعمل على حلِّها، فإنَّني سأنقد بعضَ الأمور التي أدخلناها نحن الحنابلة في العقيدة السلفية وهي أبعدُ ما تكون عمَّا يجب أن يعتقدَه المسلم. إذن للأسباب السابقة سأحاول هنا أن أخالف القاعدة بالتركيز على النقد الذاتي لكثير من المسائل والتجاوزات الموجودة داخل المذهب الذي أنتمي إليه بل وينتمي إليه معظمنا في هذا الوطن وفي بعض بلدان العالم الإسلامي، والانتماء لا يعني التقليد، ألا وهو المذهب الحنبلي في العقيدة، وتركيزي على نقد عقائد الحنابلة له أكثر من فائدة: 1 ـ المشاركة في تصحيح أخطاء المذهب ونقد الغلو. 2 ـ عدم مجاراة الآخرين في التركيز على الفرق الأخرى. 3 ـ إحياء النقد الذاتي. 4 ـ تعلم وتعليم الإنصاف. فلذلك أقول: ما أضاع المسلمين إلاَّ نسيان كلِّ فرقة لنفسها وتركيزها على الفرق الأخرى، ولو نظرت كلُّ فرقة لعقائدها ومَحَّصتها لاتفق المسلمون في كثير من الأمور (ورحم الله من اشتغل بعيوب نفسه) . وقد احتوت كتب العقائد ـ ومن أبرزها كتب عقائد الحنابلة ـ على كثير من العيوب الكبيرة التي لا تزال تفتك بالأمَّة ولعلَّ من أبرزها: التكفير، والظلم، والغلو في المشايخ، والشتم، والكذب، والقسوة في المعاملة، والذم بالمحاسن، والأثر السيِّء في الجرح والتعديل، والتجسيم الصريح، أو التأويل الباطل، وإرهاب المتسائلين، وتفضيل الكفار على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 المسلمين، وتفضيل الفَسقة والظلمة على الصالحين، والمغالطة، والانتصار بالأساطير والأحلام، وتجويز قتل الخصوم، والإسرائيليات، والتناقض، والتقول على الخصوم، وزرع الكراهية الشديدة مع عدم معرفة حق المسلم، والأثر السيِّء على العلاقات الاجتماعية، واستثارة العامة والغوغاء، والتزهيد من العودة للقرآن الكريم، مع المبالغة في نشر أقوال العلماء الشاذة، مع انتشار عقائد ردود الأفعال (كالنَّصب وذم العقل) ، وجود القواعد المعلقة التي يطلقها بعضهم، والتركيز على الجزئيات وترك الأصول، وإطلاق دعاوى الإجماع، وإطلاق دعاوى الاتفاق مع الكتاب والسنة والصحابة، وتعميم معتقد البعض أو بعض الأفراد على جميع المسلمين، مع إرجاع أصول المخالفين كل فرقة أصول الفرقة الأخرى لأصول غير مسلمة يهودية أو نصرانية أو مجوسية، وغير ذلك من الأمراض التي نعلِّمها أبناءنا في المدارس والجامعات، فيخرجون فاقدين لأهليَّة التفكير الصحيح، وجاهلين أبرز أسس العدل والإنصاف، ثم نستغرب بعد هذا كلِّه لماذا هذا التوتر في المجتمع المسلم!! وهذا التباغض والتباعد بين المسلمين". ويُجاب عن ذلك بما يلي: 1 ـ اختار المذهب الحنبلي لنقده في العقيدة لكونه ـ بزعمه ـ حنبليًّا، وأنَّ نقدَه من قبيل النَّقد الذاتي، قال: "فإنَّني سأنقد بعضَ الأمور التي أدخلناها نحن الحنابلة في العقيدة وهي أبعدُ ما تكون عمَّا يجب أن يعتقدَه المسلم"، والواقع الذي لا شكَّ فيه أنَّ أهلَ السنة ـ ومنهم الحنابلة ـ بريئون منه، ودخوله المزعوم في الحنابلة هو من قبيل التمويه والتلبيس للوصول إلى الطعن في عقيدة أهل السنَّة والجماعة؛ بزعمه أنَّ الناقدَ واحدٌ منهم، وحقيقة حاله أنَّه مندسٌّ فيهم، وهو أجنبيٌّ منهم، وأوضحُ مثال لدخوله المزعوم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الحنابلة دخول ذئب في مجموعة من الغنم، لا يُتصوَّر من دخوله فيها إلاَّ قصد القضاء عليها وإتلافها. وواضحٌ أنَّ قدحَه في معتقد أهل السنةَّ والجماعة عموماً، وإنَّما خصَّ الحنابلةَ؛ لأنَّ الحنابلةَ لهم جهودٌ كبيرة في تقرير عقيدة السلف ومقاومة أهل البدع والردِّ عليهم في مختلف العصور، بل إنَّ الإمام أحمد نفسَه قد ردَّ على أهل البدع، ومِمَّا ألَّف في ذلك كتاب الرد على الجهمية والزنادقة، قال في أوله: "الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدْعونَ من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبَصرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍّ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلَّمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلِّين". وكذلك أهل السنَّة من غير الحنابلة لهم جهود كبيرة في تقرير العقيدة والردِّ على أهل البدع، كما لا يخفى على مَن له عناية واهتمام بكتب العقيدة عند أهل السُّنَّة والجماعة. 2 ـ اشتمل كلام المالكي على أنَّه لم يُسبق بجرأة ووقاحة إلى النقد الذاتي المزعوم، فقال: "وبما أنَّني لم أجد إلى الآن داخل الفرق الإسلامية من يهتمُّ بالنَّقد الداخلي إلاَّ بعض الأفراد الذين يُخرجون بعض هذا النَّقد على استحياء وحذَر!! "، وقال: "سأحاول هنا أن أخالف القاعدة بالتركيز على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 النقد الذاتي لكثير من المسائل والتجاوزات الموجودة داخل المذهب الذي أنتمي إليه وينتمي إليه معظمنا في هذا الوطن وفي بعض بلدان العالم الإسلامي، والانتماء لا يعني التقليد، ألا وهو المذهب الحنبلي في العقيدة، وتركيزي على نقد عقائد الحنابلة له أكثر من فائدة: 1 ـ المشاركة في تصحيح أخطاء المذهب ونقد الغلو. 2 ـ عدم مجاراة الآخرين في التركيز على الفرق الأخرى. 3 ـ إحياء النقد الذاتي. 4 ـ تعلم وتعليم الإنصاف". أقول: إنَّ سَبْقَه إلى النَّقد الذاتي المزعوم يدل على مدى حقده على أهل السُّنَّة والجماعة السائرين على نهج الصحابة وتابعيهم بإحسان، وأمَّا الفوائد التي ذكرها للنقد الذاتي المزعوم، فالثالثة منها وهي"إحياء النقد الذاتي! "، معناها أنَّه السابق إلى بعث هذا النَّقد من مرقده، وأمَّا الأولى وهي"المشاركة في تصحيح أخطاء المذهب ونقد الغلو"، فليس مشاركاً في ذلك، بل هو سابقٌ إليه، وأمَّا الثانية منها وهي"عدم مجاراة الآخرين في التركيز على الفرق الأخرى"، فإنَّها تدلُّ على أنَّه في الوقت الذي يُتعب نفسَه في العيب والثلب لأهل السنَّة وحدهم يكون حظُّ فرق الضلال منه السلامة والعافية، وأمَّا الرابعة وهي"تعلم وتعليم الإنصاف"، فما أبعدَه عن الإنصاف، وفاقد الشيء لا يُعطيه، والجاهل لا يعلِّم غيرَه، وكيف يكون منصفاً من يعطفُ على أهل البدع والضلال على كثرة فرقهم، ويخصُّ بحقده وأذاه أهل السُّنَّة والجماعة، ومن لم يظفر أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه بالإنصاف، فمن باب أولى أن لا يظفر به غيرُهم، والمالكي سليطُ اللسان سيال القلم في النَّيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلِّ مَن سار على طريقتهم إلى زماننا هذا، وكتابه السيِّء في الصحابة أوضح شاهد على حقده على الصحابة، وكتابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الذي نردُّ عليه وهو"قراءة في كتب العقائد" أوضحُ شاهد على حقده على أهل السُّنَّة والجماعة في مختلف العصور. 3 ـ قوله: "وقد احتوت كتب العقائد ـ ومن أبرزها كتب عقائد الحنابلة ـ على كثير من العيوب الكبيرة التي لا تزال تفتك بالأمَّة، ولعلَّ من أبرزها" ثم ذكر ثلاثين نقيصة، هي كلُّ الذي انقدح في ذهنه فرماهم بها، ولو انقدح في ذهنه أكثرُ من ذلك لَم يبخل به عليهم؛ لأنَّ الحقدَ على أهل السُّنَّة والجماعة قد شوى قلبَه، ومن يكون حالُه كذلك فلا سبيل له إلى الإنصاف، ولا سبيل للإنصاف إليه، وهذه النقائص المزعومة التي رمى بها أهل السُّنَّة سيُفرِد كثيراً منها بالكلام، وسأردُّ عليه فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 14 ـ قدحه في أحاديث صحيحة بعضها في الصحيحين والردُّ عليه المالكي من أهل الأهواء والبدع الذين يخوضون في السنن حسب أهوائهم، فتراه يقدح في أحاديث صحيحة ولو كانت في الصحيحين أو أحدهما تبعاً لهواه، وليس ذلك بغريب على مَن زعم أنَّ السنَّة مختلفٌ في ثبوتها، فمن سهُلَ عليه الطعن في ثبوت السنَّة من أصلها سهُل عليه الطعنُ في أحاديث صحيحة لا تتَّفق مع هواه، وسيأتي ذكر نص كلامه في التشكيك في ثبوت السنَّة، وهذه نماذج من الأحاديث الصحيحة التي طعن في ثبوتها: الأول: حديث أبي بكرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري (2704) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ ابني هذا سيِّد، ولعل الله أن يُصلح به بين فئتين عظيمتَين من المسلمين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 زعم المالكي أنَّه مختلفٌ فيه بين الوصل والإرسال، وزعم أنَّ المراد من الصلح الإبقاء على مُحبِّي أهل البيت لئلاَّ تفنيهم الحرب، قال في (ص: 72 ـ 73) : "فلا ريبَ أنَّ عليًّا هو الأصوب (يعني في قتاله لأهل الشام) ؛ لكثرة الأدلة الشرعية والعقلية التي معه، بعكس الحسن؛ إذ ليس معه إلاَّ حديث واحد مختلفٌ فيه بين الوصل والإرسال، وهو حديث (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين ... ") ، وقال في (ص: 74) : "أمَّا العثمانية ومنهم علماء الشام فهم يُثنون كثيراً على صلح الحسن، ليس حبًّا في الحسن، وإنَّما للطعن في حرب علي للبغاة، ويُردِّدون كثيراً حديث (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به ... ) ، ويُهملون حديث عمار (تقتله الفئة الباغية) ، مع أنَّ حديث صلح الحسن آحاد، ومختلف في وصله وإرساله، كما ذكر الدارقطني في العلل، بينما حديث عمار متواتر ومتفقٌ على صحَّته، ثم لا يُثنون على الصلح حبًّا لهذا الحديث، ولو كان الأمر حبًّا للأحاديث فحديث عمار أولَى بالمحبَّة؛ للاتفاق على صحَّته ولصراحة دلالته، بعكس حديث صلح الحسن، كما لا يُثنون على الصلح حبًّا في حقن الدماء ولا مراعاة لمصلحة الأمة كما يزعمون!! ". وأمَّا زعمه أنَّ الصلحَ إنَّما هو للإبقاء على مُحبِّي أهل البيت من التعرض للقتل، فقد قال في (ص: 71) : "فكان الحسن بن علي بين أمرين: إمَّا أن يستعين بهذه القلَّة من المخلصين ضد هذه الجموع الكبيرة، وإمَّا أن يلجأ لمصالحة معاوية، فكان هذا الاختيار الأخير هو الذي ترجَّح عند الحسن لحفظ البقيَّة الباقية من محبِّي الإمام علي وأهل البيت؛ لعلهم ينشرون علومهم وسيرتهم، وكان اللجوء للخيار الأول (محاربة معاوية) يعني ـ إلى حدٍّ كبير ـ القضاء على كلِّ من يذكر الإمام علي بخير من أهل العراق، وبهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 يضيع فضل وآثار (الثقل الثاني) بعد كتاب الله!! ". وأجيب عن ذلك بما يلي: 1 ـ حديث صلح الحسن حديثٌ ثابت أخرجه البخاري وغيره من الأئمة، ولو كان من الآحاد فهو معتبَر؛ لأنَّ أحاديث الآحاد عند أهل السنَّة حجَّة في العقائد وغيرها، وقد حكى ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة الحسن رضي الله عنه روايته عن جماعة من الصحابة، وأنَّه متواتر، فقال: "وتواترت الآثار الصحاح عن النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام أنَّه قال في الحسن بن علي: "إنَّ ابني هذا سيِّدٌ، وعسى الله أن يبقيه حتى يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" رواه جماعةٌ من الصحابة". وأمَّا ما زعمه بأنَّه مختلَفٌ فيه بين الوصل والإرسال، فإنَّ الحديث قد أخرجه البخاري (2704) ، و (7109) بإسناد متصل من رواية الحسن البصري، عن أبي بكرة، وفيه تصريحُ الحسن بسماعه من أبي بكرة رضي الله عنه، وفيه قول الحسن: "ولقد سمعتُ أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يُقبل على الناس مرة، وعليه أخرى، ويقول: إنَّ ابني هذا سيد ... " الحديث. وقال البخاري عقب سياق الحديث: "قال لي علي بن عبد الله (يعني ابن المديني) : إنَّما ثبت لنا سماعُ الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث". وما زعمه من ذكر الاختلاف بين وصل الحديث وإرساله في علل الدارقطني، فإنَّ الدارقطني قد أثبت الحديث ولم يُعلَّه، وإنَّما أعلَّ طريقاً واحدة مخالفة للطريق الثابتة، ففي العلل للدارقطني (7/161) : "وسُئل عن حديث الحسن عن أبي بكرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابني هذا سيد، وعسى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 أن يصلح به بين فئتين عظيميتن من المسلمين" الحديث، فقال: حدَّث به أحمد ابن عبد الصمد النهرواني، وهو مشهور لا بأس به، عن ابن عيينة، عن أيوب، عن الحسن، ووهم فيه، وإنَّما رواه ابن عيينة، عن أبي موسى إسرائيل، عن الحسن، عن أبي بكرة، وكذلك رواه يونس ومنصور وعمرو بن عبيد، عن الحسن، وهو الثابت". قال ابن حجر في لسان الميزان (1/214) : "وقد ذكر الدارقطني في العلل أنَّه (يعني أحمد بن عبد الصمد النهرواني) وهم في إسناد حديث مع أنَّه مشهور لا بأس به، والإسناد المذكور مِمَّا رواه عن ابن عيينة، عن أيوب، عن الحسن، عن أبي بكرة حديث (ابني سيد) ، والمحفوظ عن ابن عيينة، عن إسرائيل أبي موسى، عن الحسن، عن أبي بكرة، كذلك أخرجه البخاري". وبهذا يتبيَّن أنَّ الدارقطني لم يذكر اختلافاً بين وصل الحديث وإرساله، فهو متَّصل غير مرسل، وإنَّما ذكر طريقاً خالف فيها أحمد بن عبد الصمد غيرَه من الثقات، فذكر في الطريق المعلَّة أيوب بدلاً من إسرائيل الذي جاء في الطرق المحفوظة الثابتة، وهذا الذي وقع فيه المالكي من التخبط نتيجة حتمية لدخول الإنسان فيما لا يتقنه وليس من أهله. وقد ذكر المالكي تحت عنوان"صلح الحسن وآثاره" الحديثَ في موضعين، ولم يكمله إلى آخره، مع أنَّه مختصر، وقد وصف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فيه الطائفتين العظيمتين بأنَّهما من المسلمين، وهو وصفٌ يُعجبُ كلّ مسلم ناصح للمسلمين، وقد قال سفيان بن عيينة: "قوله (من المسلمين) يعجبنا جدًّا"، قال الحافظ في الفتح (13/66) : "وفي هذه القصة من الفوائد عَلمٌ من أعلام النبوة، ومنقبة للحسن بن علي؛ فإنَّه ترك المُلكَ لا لقلَّة، ولا لذِلَّة، ولا لعلَّة، بل لرغبته فيما عند الله، لِمَا رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أمر الدِّين ومصلحة الأمة، وفيها ردٌّ على الخوارج الذي كانوا يكفِّرون عليًّا ومن معه، ومعاوية ومن معه، بشهادة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنَّهم من المسلمين، ومن ثَمَّ كان سفيان بن عيينة يقول عقب هذا الحديث: قوله: (من المسلمين) يعجبنا جدًّا، أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه عن الحميدي وسعيد بن منصور عنه". 2 ـ وأما زعمه أنَّ صلحَ الحسن إنَّما هو للإبقاء على محبِّي أهل البيت، فإنَّ الحديث واضحٌ في أنَّ الفائدةَ من الصلح تعود للفئتين العظيمتين من المسلمين، ولم يكن صلح الحسن لقلَّة من معه، بل لحقن الدماء من الجانبين وجمع كلمة المسلمين، وقد مرَّ قريباً في كلام الحافظ ابن حجر أنَّ ذلك لم يكن لقلَّة ولا لذلَّة ولا لعلَّة، بل لرغبته فيما عند الله، لِمَا رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى أمر الدِّين ومصلحة الأمَّة، ومِمَّا يدلُّ على كثرة الجيش الذي كان مع الحسن رضي الله عنه ما جاء في صحيح البخاري (2704) أنَّ الحسن البصري قال: "استقبل ـ والله! ـ الحسنُ بنُ علي معاويةَ بكتائب أمثال الجبال". وأهل السنَّة والجماعة يتولَّون أهلَ بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرفون لهم فضلَهم، ولا يغلون بأحد منهم، وقد حُفظت سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أيدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن تبعهم بإحسان، مشتملة على ما يتعلَّق بأهل البيت وغير أهل البيت، وكُتُبُ أهل السنَّة حافلةٌ ببيان منزلة أهل البيت، كل أهل البيت، دون اقتصار على بعضهم ومعاداة للآخرين منهم، كما هو شأن أهل البدع، أمَّا ما اشتملت عليه كتب الرافضة من غلوٍّ في بعض أهل البيت، فإنَّ حفظَ ذلك جنايةٌ على أهل البيت، وهم بُرآءُ من الغالين فيهم وغلُوِّهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الثاني: حديث: "تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلُّوا أبداً: كتاب الله وسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم"، قدح المالكيُّ في حديث الاعتصام بالكتاب والسنَّة، فقال في (ص: 71 ـ حاشية) : "الحديث (تركتُ فيكم ثقلين لن تضلُّوا ما تَمسَّكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بيتي) ، حديث صحيح، بل عدَّه بعضُ العلماء متواتراً، وأصله في صحيح مسلم، وقد عارضه بعض جهلة أهل السنَّة بحديث: ( ... كتاب الله وسنَّتي) ، وهو حديث ضعيفٌ عند محقِّقي أهل السنَّّة، مع أنَّه يُمكن الجمع بينهما!! ". ويُجاب عن ذلك: بأنَّ الحديث صحيحٌ ثابتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رواه الحاكم في مستدركه (1/93) عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناسَ في حجَّة الوداع، فقال: "قد يئس الشيطان بأن يُعبد بأرضكم، ولكنَّه رضي بأن يُطاع فيما سوى ذلك مِمَّا تحاقرون من أعمالكم، فاحذروا! يا أيُّها الناس! إنِّي قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلُّوا أبداً: كتاب الله وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم" الحديث، ثم قال الحاكم: "قد احتج البخاري بأحاديث عكرمة، واحتجَّ مسلم بأبي أويس، وسائر رواته متفق عليهم، وهذا الحديث لخطبة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم متفقٌ على إخراجه في الصحيح: "يا أيُّها الناس! إنِّي قد تركتُ فيكم ما لن تضلُّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وأنتم مسؤولون عنِّي فما أنتم قائلون؟ " وذِكرُ الاعتصام بالسنَّة في هذه الخطبة غريب ويحتاج إليه، وقد وجدتُ له شاهداً من حديث أبي هريرة"، ثم ساق بإسناده عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي قد تركتُ فيكم شيئين لن تضلُّوا بعدهما: كتاب الله وسُنَّتي، ولن يتفرَّقا حتى يرِدا عليَّ الحوض". وأصل الحديث في الصحيح الذي أشار إليه الحاكم هو ما جاء في حديث جابر الطويل في صفة حجَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (1218) ، وفيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 "وقد تركت فيكم ما لن تضلُّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عنِّي، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنَّك قد بلَّغت وأدَّيتَ ونصحتَ، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللَّهمَّ اشهد! اللَّهمَّ اشهد! ثلاث مرَّات". فالحديث صحيح، فكيف يزعم بأنَّه ضعيف، وكما أنَّه ثابتٌ من حيث الإسناد فأيُّ غرابة فيه من حيث المتن، والله عزَّ وجلَّ يقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ؟! وليس بأيدي المسلمين إلاَّ التمسك بكتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: "لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلاَّ هالك" حديث صحيح، رواه ابن أبي عاصم في السنة (48) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، ورواه أيضاً من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه (47) . والذي ترك الناسَ عليه كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأمَّا حديث ذِكر عترته أهل بيته صلى الله عليه وسلم مع الكتاب فلا يُنافي حديث ذكر الكتاب والسنَّة؛ لأنَّ أهلَ بيت الرسول صلى الله عليه وسلم عند أهل السنَّة والجماعة هم زوجاته وكلُّ مسلم ومسلمة من نسل عبد المطلب بن هاشم، وهم الذين لا تحلُّ لهم الصدقة، وإنَّما خصَّ أهل البيت لاطلاعهم على كثير من أموره صلى الله عليه وسلم، ولهذا فأمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها روت الكثيرَ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمور المتعلِّقة ببيته وغيرها، وكذا ابن عمِّه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قد روى الكثير من سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا غيرهم من أهل البيت وغير أهل البيت رووا سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل السنَّة يُعوِّلون على الكتاب وكلِّ ما صحَّت به السنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء جاءت عن أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 البيت أو غيرهم، وأمَّا بعض أهل الأهواء والبدع فهم يقصرون أهل البيت على علي وفاطمة رضي الله عنهما وأولادهما، ومِن هؤلاء المالكي الذي يغلو في علي وبعض أولاده، ويجفو في غيرهم من أهل البيت، ومن ذلك زعمه أنَّ العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله رضي الله عنهما ليسَا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ صحبتَهما كصحبة المنافقين والكفار، وهو قولٌ أحدثه في القرن الخامس عشر ولم يسبقه إليه أحد طيلة القرون الماضية، وقد ذكرتُ كلامه في ذلك ورددتُ عليه في كتاب الانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي. الثالث: الحديث الذي أخرجه البخاري في تحريق علي زنادقة، قال المالكي في (ص: 80 ـ حاشية) : "قصة تحريق علي لهؤلاء غير صحيحة، وإنَّما الذي في صحيح البخاري أنَّ عليًّا حرَّق مرتدِّين، وفي لفظ (زنادقة) ، وليس في ذلك تصريح أو دلالة على السبئية كما يزعم البعض، ومع هذا أيضاً نجد الروايات في البخاري في موضوع التحريق مدارها على عكرمة مولى ابن عباس، وهو متَّهمٌ برأي الخوارج المنحرفين عن علي، وقد اختلف فيه أهل الجرح والتعديل، ثم لم يُتابَع على رواية هذا الحدَث الكبير إلاَّ من طريق ضعيفة عند أبي طاهر المخلص مع الاختلاف الكبير في السياق!! ". وأجيب عن ذلك: بأنَّ قصةَ التحريق رواها البخاري في صحيحه في موضعين، الأول (3017) عن عكرمة: "أنَّ عليًّا رضي الله عنه حرَّق قوماً، فبلغ ابن عباس فقال: لو كنتُ أنا لم أحرِّقهم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: لا تُعذِّبوا بعذاب الله، ولَقَتَلتُهم كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: مَن بدَّل دينَه فاقتلوه". الثاني (6922) عن عكرمة قال: "أُتي عليٌّ رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرِّقهم؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 تعذِّبوا بعذاب الله، ولَقتَلتُهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن بدَّل دينه فاقتلوه". فالحديث صحيح ثابتٌ عند الإمام البخاري، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح الأحاديث التي انتقدها عليه بعضُ النُّقَّاد، وأجاب عن الانتقاد، وليس منها هذا الحديث الذي طعن فيه المالكيُّ من أجل عكرمة مولى ابن عباس، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في التقريب أنَّه لم يثبت عنه بدعة، وقال في مقدِّمة الفتح (ص: 425) : "فأمَّا البدعة، فإن ثبتت عليه فلا تضرُّ حديثَه؛ لأنَّه لم يكن داعيةً مع أنَّها لم تثبت عليه"، وذكر أيضاً أنَّ جماعةً من الأئمَّة صنَّفوا في الذَّبِّ عنه، منهم أبو جعفر بن جرير الطبري ومحمد بن نصر المروزي وأبو عبد الله بن منده وأبو حاتم بن حبان وأبو عمر بن عبد البر. وأمَّا طريق أبي طاهر المخلص التي زعم أنَّها ضعيفة فقد حسَّنها الحافظ في الفتح (12/270) ، فقال: "وزعم أبو المظفر الإسفراييني في الملل والنحل أنَّ الذين أحرقهم علي طائفةٌ من الروافض ادَّعوا فيه الإلهية، وهم السبائية، وكان كبيرُهم عبد الله بن سبأ يهوديًّا ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة، وهذا يمكن أن يكون أصله ما رويناه في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص من طريق عبد الله بن شريك العامري، عن أبيه قال: قيل لعلي: إنَّ هنا قوماً على باب المسجد يدَّعون أنَّك ربُّهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟! قالوا: أنت ربُّنا وخالقُنا ورازقنا! فقال: ويلكم! إنَّما أنا عبدٌ مثلُكم، آكلُ الطعامَ كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعتُ اللهَ أثابَنِي إن شاء، وإن عصيتُه خشيتُ أن يُعذِّبَني، فاتَّقوا الله وارجعوا، فأبَوا، فلمَّا كان الغد غدوا عليه، فجاء قنبر فقال: قد ـ والله! ـ رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال: أدخِلهم، فقالوا كذلك، فلمَّا كان الثالث قال: لئن قلتُم ذلك لأقتلنَّكم بأخبث قتلة، فأبوا إلاَّ ذلك، فقال: يا قنبر! ائتني بفعلة معهم مرورهم، فخدَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 لهم أخدوداً بين باب المسجد والقصر، وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود، وقال: إنِّي طارحُكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا، فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال: إنِّي إذا رأيت أمرا منكراً ... أوقدتُ ناري ودعوتُ قنبرا وهذا سند حسن". ويُحمل فعل علي رضي الله عنه على أنَّه أراد تغليظ العقوبة عليهم، ولم يبلغه النهيُ عن التحريق بالنار. الرابع: حديث: "إنَّ غلظَ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً بذراع الجبَّار"، قال المالكي (ص: 122) : "كثرة الأكاذيب من الأحاديث الموضوعة والآثار الباطلة، وخاصة تلك المشتملة على التجسيم وتشبيه الله بالإنسان، سواء ما كان منها مكذوباً على النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو ما كان مكذوباً على بعض الصحابة والتابعين، أو كان مِمَّا تسرَّب إلى الكتب من الإسرائيليات المأخوذة عن اليهود والنصارى، وسبب الإكثار من هذه الأكاذيب والأباطيل أنَّ كلَّ فرقة أرادت الاحتجاج لآرائها ومبادئها بأحاديث وآثار وأخبار، فتلجأ إلى أخذ هذه الأكاذيب والإسرائيليات فيوقعهم هذا في الكذب، وقد يزيٍِّن الشيطان للأتباع تصحيح بعض هذه المكذوبات، كلُّ هذا بحجة نصرة السنَّة ونصرة العقيدة، ونسوا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار"، وتناسوا النصوص الشرعية الناهية عن الكذب والمحذِّرة منه، ومن أمثلة هذه الأكاذيب المنتشرة في كتب عقائد الحنابلة ... " ثم ذكر جملة من الأحاديث والآثار نقلاً من كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، وعبد الله ابن الإمام أحمد قد أوردها بأسانيدها، منها ما هو ثابتٌ، ومنها ما ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 بثابت، وإيراده لها لا يعني ثبوت كلِّ ما أورده عنده، وقد مرَّ النقل عن ابن تيمية وابن حجر أنَّ المحدِّثين يوردون ما يتعلَّق بالباب ليُعلم، ولينظر من له أهلية النظر في الأسانيد لمعرفة ما يثبت وما لا يثبت. ومِمَّا ذكره المالكي وهو صحيح ثابت حديث"غِلَظ جلد الكافر"، فقال (ص: 125) : "ومن هذه الخزعبلات المرويَّة أنَّ جلدَ الكافر يوم القيامة أربعون ذراعاً بذراع الجبار‍‍"، وعزاه إلى السنَّة (2/492) ، وهو في هذا الموضع عن عبد الله بن مسعود بإسناد حسن موقوف عليه، وقد أورده عبد الله بن الإمام أحمد (2/509 ـ 510) من طريق هارون بن معروف وأبي معمر، عن جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن ابن مسعود، وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الشيخين، وله حكم الرفع، وأورده عقبَه عن أبي هريرة مرفوعاً، فقال: حدَّثنيه أبو خيثمة زهير بن حرب، حدَّثنا عبيد الله بن موسى، نا شيبان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ غلظَ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً بذراع الجبار، وضرسَه مثل أُحُد"، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ورواية الأعمش له بالعنعنة لا تؤثِّر، قال الذهبي في ترجمته في الميزان: "فمتى قال (حدَّثنا) فلا كلام، ومتى قال (عن) تطرَّق إليه احتمال التدليس، إلاَّ في شيوخ له أكثَرَ عنهم، كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمَّان، فإنَّ روايته عن هذا الصنف محمولةٌ على الاتِّصال"، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (1794) . وقد أخرجه الحاكم في المستدرك (4/595) فقال: "حدَّثنا الشيخ أبو بكر بن إسحاق، أنبأ محمد بن سليمان بن الحارث، ثنا عبيد الله بن موسى، أنبأ شيبان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ غلظَ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً بذراع الجبار، وضرسَه مثلُ أُحُد"، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، قال الشيخ أبو بكر رضي الله عنه: معنى قوله (بذراع الجبار) : أي جبَّار من جبابرة الآدميين، مِمَّن كان في القرون الأولى، مِمَّن كان أعظمَ خلقاً وأطولَ أعضاء وذراعاً من الناس". وبيان غلظ ضرس الكافر وأنَّه مثل أُحُد جاء في صحيح مسلم (2851) . وكما أنَّ الحديث ثابتٌ من حيث الإسناد، فقد بيَّن أهلُ العلم معناه، ومن ذلك كلام أبي بكر شيخ الحاكم المتقدِّم، وقد نقل البيهقي بعد إخراجه الحديث في الأسماء والصفات (ص: 431) عن بعض أهل النظر أنَّه قال: "إنَّ الجبار ههنا لم يُعن به القديم، وإنّما عُني به رجلاً جبَّاراً كان يوصَف بطول الذراع وعظم الجسم، ألا ترى إلى قوله: {كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} ، وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} ، وقوله (بذارع الجبار) أي: بذراع ذلك الجبار الموصوف بطول الذِّراع وعظم الجسد، ويحتمل أن يكون ذلك ذراعاً طويلاً يذرع به يُعرف بذراع الجبَّار، على معنى التعظيم والتهويل، لا أنَّ له ذراعاً كذراع الأيدي المخلوقة". وقال المناوي في فيض القدير (4/255) : "أراد به هنا مزيد الطول أو أنَّ الجبَّار اسم ملِك من اليمن أو العجم كان طويل الذراع، وقال الذهبي: ليس ذا من الصفات في شيء، وهو مثل قولك ذراع الخياط وذراع النجار". وفي قصَّة مرور إبراهيم عليه الصلاة والسلام وزوجه سارة بجبَّار من الجبابرة في صحيح مسلم (2371) قول إبراهيم لسارة: "إنَّ هذا الجبَّار إن يعلم أنَّك امرأتي يغلبُني عليك، فإن سألَك فأخبريه أنَّك أختي، فإنَّك أختي في الإسلام، فإنِّي لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك"، وفيه: "فلمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 دخل أرضَه رآها بعضُ أهل الجبَّار" الحديث. وبناء على ما تقدَّم من الكلام على هذا الحديث إسناداً ومتناً يتبيَّن أنَّ الخزعبلات في دماغ المالكي، وليست فيما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الخامس: حديث "خلق الله آدم على صورته"، قال المالكي في (ص: 125) : "ورووا خزعبلات أخرى ظاهرها التجسيم والتشبيه، مثل قولهم"، وذكر جملة منها، إلى أن قال: "وأنَّه خلق آدم على صورته هو"، وأشار إلى المصدر وهو السنة لعبد الله بن أحمد (2/472) ، وهذا سياقه في كتاب السنة، قال: حدَّثني أبو معمر، نا جرير، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقبِّحوا الوجه، فإنَّ الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن تبارك وتعالى"، ومنه يتبيَّن أنَّ عزو المالكي ليس مطابقاً لما في المصدر الذي عزا إليه، والحديث بهذا السياق ضعَّفه بعضُ أهل العلم. انظر: السلسلة الضعيفة للألباني (1176) ، وصحَّحه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه كما نقل ذلك في الفتح (5/183) ، وفي الإسناد الأعمش وحبيب بن أبي ثابت وهما مدلِّسان، وقد مرَّ قريباً في الحديث الرابع كلام الذهبي في تدليس الأعمش، وأمَّا عنعنة حبيب بن أبي ثابت، فقد قال الألباني في السلسلة الصحيحة (3413) عنها: "فمثله مِمَّا يغضُّ النظر عن عنعنته عند العلماء"، وقد ورد الحديث في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: "خلق الله آدم على صورته" رواه البخاري (6227) ، ومسلم (2612) ، وليس فيه كلمة (هو) التي ذكرها المالكي، واخْتُلف في مرجع الضمير في الحديث، والصحيح رجوعه إلى الله، ولا يلزم منه التشبيه كما زعم المالكي، ومعناه عند أهل السنَّة ما ذكره الحافظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 في الفتح، حيث قال (11/3) : "وقيل الضمير لله، وتَمسَّك قائل ذلك بما ورد في بعض طرقه (على صورة الرحمن) ، والمراد بالصورة الصفة، والمعنى أنَّ الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء". وبهذا يتبيَّن أنَّ ما صحَّ به الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من الخزعبلات، وإنَّما هو من علم الغيب الذي يجب الإيمان به والتصديق، من غير تشبيه بالخلق، وإنَّما الخزعبلات في أدمغة أهل البدع والأهواء، ومنهم المالكي. السادس: حديث: "ألاَ وإنَّ الإيمان حين تقع الفتنُ بالشام" وأحاديث أخرى في فضل الشام. أورد المالكي في (ص: 79) تحت عنوان"النواصب بالشام ووضع الأحاديث" كلاماً قال فيه: "ومن آثار الدولة الأموية أن قوي في الشام تيار النواصب الذي ركَّز على فضيلة الأرض؛ لأنَّه لَمَّا رأى هذا التيار أنَّ صاحبهم لا يوازي عليًّا ولا يكاد، نشرت النواصب فضل الوطن بدلاً من فضل الشخص!! فروت أنَّ الشام هي دار الهجرة عند حدوث الفتن!! وأنَّ الإيمان عند وقوع الفتن بالشام!! وأنَّ فيها الطائفة المنصورة التي ستبقى لا يضرها مَن خالفها إلى قيام الساعة!! وأنَّ في العراق تسعة أعشار الشر!! وأنَّ عثمان سيقتله (المنافقون) مظلوماً!! وأنَّهم سيدخلون النار!! وأنَّ عثمان سيحكم يوم القيامة في القاتل والخاذل!! وغير ذلك من الأحاديث ذات الصبغة السياسية وبعض تلك الأحاديث له أصل صحيح زادت فيه العثمانية والنواصب زيادات فجيرته لصالحها مثل حديث (لا تزال طائفة من أمَّتي منصورين على من خالفهم ... الحديث) زادت فيه النواصب زيادات توهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 أنَّ تلك الطائفة هي بالشام وهي (عسكر معاوية) !! وقد صحَّح بعض أهل الحديث تلك الأحاديث متناسين أنَّ هذه الأحاديث وُضعت للالتفاف على فضل علي ومن معه (من المهاجرين والأنصار وأهل بدر) والرفع من معاوية ومن معه من أعاريب لَخم وجذام وكلب إضافة للالتفاف على حديث عمار ابن ياسر وعلى وضوح حق الطرف الشرعي للخلافة وقد بقي الانحراف عن علي في أهل الشام إلى يومنا هذا، وهم يلجئون إلى التوفيق بين تيار العثمانية (النواصب) وتيار المحايدين من السنة كما فعل ابن تيمية في منهاج السنة مثلاً!! ". ويُجاب عن ذلك بما يلي: 1 ـ لم يقتصر المالكي على القدح في آحاد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تعدَّى ذلك إلى القدح فيها بالجملة، ومن ذلك ما زعمه هنا من أنَّ النواصب في الشام وضعوا الأحاديث في فضل الأرض، ومن الأحاديث التي مثَّل بها للأحاديث الموضوعة في فضل الشام، أحاديث صحيحة، لم يوصف رجالها بضعف، فضلاً عن وصفهم بالوضع، ومنها حديث: "ألا وإنَّ الإيمان حين تقع الفتنُ بالشام" فقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده (21733) ، فقال: حدَّثنا إسحاق بن عيسى، حدَّثنا يحيى بن حمزة، عن زيد بن واقد، حدَّثني بُسر بن عبيد الله، حدَّثني أبو إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم إذ رأيتُ عمود الكتاب احتُمل من تحت رأسي، فظننتُ أنَّه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعمد به إلى الشام، ألا وإنَّ الإيمان حين تقع الفتنُ بالشام"، وهذا حديث صحيح، رجاله كلُّهم ثقات، فأبو إدريس الخولاني وبُسر بن عبيد الله ويحيى بن حمزة من رجال الشيخين، بل هم من رجال أصحاب الكتب الستة، وزيد بن واقد من رجال البخاري، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وإسحاق بن عيسى من رجال مسلم، فليس فيهم ضعيف، فضلاً عن أن يكون وضَّاعاً، وقال الحافظ في الفتح (12/403) : "وسنده صحيح"، وللحديث شواهد عن عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن حوالة، وقد صحَّحها الشيخ الألباني في تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق للربعي (ص: 6، 11، 12) ، وذكر في مقدِّمة تخريجه أنَّ الأحاديث المرفوعة فيه بلغت واحداً وأربعين حديثاً بالمكرَّر، وقال: "وأكثرُها صحيح، وبعضها ضعيف، وبعضها موضوع". ومن أصحِّ ما جاء في فضل الشام حديث ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهمَّ بارك لنا في شامنا، اللَّهمَّ بارك لنا في يَمَننا، قالوا: يا رسول الله! وفي نجدنا؟ قال: اللَّهمَّ بارك لنا في شامنا، اللَّهمَّ بارك لنا في يَمَننا، قالوا: يا رسول الله! وفي نجدنا؟ فأظنُّه قال في الثالثة: هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان" أخرجه البخاري (7094) ، والحديث واضح الدلالة في فضل الشام واليمن، والمراد بنجد فيه ـ كما جاء في بعض الروايات وبيَّنه أهل العلم ـ العراق، قال الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في تعليقه على حديث ابن عمر من كتابه تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق للربعي (ص: 9 ـ 10) : قال: "وأمَّا حديث ابن عمر فأخرجه أبو نعيم (6/133) ، وابن عساكر إلى قوله (وفي العراق) ، وزاد: (فأعرض عنه، فقال: فيه الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وإسناده صحيح، ورواه الطبراني في الكبير من طريق أخرى عن ابن عمر، وسنده صحيح أيضاً، وقد أورده في المجمع (3/305) وقال: (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات) ، وأخرجه أحمد (2/143) مختصراً بلفظ: (قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشير بيده يؤم العراق: ها إنَّ الفتنة ههنا، ثلاث مرَّات، من حيث يطلع قرن الشيطان) ، وإسناده صحيح على شرط مسلم، وقد أخرج في صحيحه (8/181) نحوه، وفي رواية له من وجه آخر عن سالم بن عبد الله، قال: "يا أهل العراق! ما أسأَلَكُم عن الصغيرة، وأركبَكم للكبيرة؟! سمعتُ أبي عبد الله بن عمر يقول"، فذكره، وأخرجه البخاري ومسلم أيضاً من وجه آخر عن سالم به مرفوعاً، وأخرج البخاري (13/38 ـ بشرح العسقلاني) وأحمد (2/118) وابن عساكر من طريق نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: "اللَّهمَّ بارك لنا في شامنا، اللَّهمَّ بارك لنا في يَمننا، قالوا: وفي نجدنا؟ قال: هناك الزلازل" الحديث، وأخرجه الترمذي وصحَّحه، وعزاه المنذري في الترغيب (4/61) للترمذي وحده فوهم، وله عند أحمد (2/126) طريق أخرى عن ابن عمر، ولحديثه الأول عند أبي نعيم شاهد من حديث ابن عباس، ساق لفظَه الهيثمي، وقال: (رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات) ، وروى بعضَه الخطيب في تاريخه (1/24، 25) ، ومن طريقه ابن عساكر من حديث معاذ بن جبل. فيُستفادُ من مجموع طرق الحديث أنَّ المراد من (نجد) في رواية البخاري ليس هو الإقليم المعروف اليوم بهذا الاسم، وإنَّما هو العراق، وبذلك فسَّره الإمام الخطابي والحافظ ابن حجر العسقلاني، وتجد كلامَهما في ذلك في شرح كتاب الفتن من صحيح البخاري للحافظ، وقد تحقَّق ما أنبأ به عليه السلام؛ فإنَّ كثيراً من الفتن الكبرى كان مصدرها العراق ... ". قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/47) بعد أن نقل كلاماً للخطابي: "وقال غيره: كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ الفتنة تكون من تلك الناحية، فكان كما أخبر ... وأول الفتن كان من قبل المشرق، فكان ذلك سبباً للفرقة بين المسلمين، وذلك مِمَّا يُحبُّه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة، وقال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجدُه باديةَ العراق ونواحيها، وهي مشرق أهل المدينة، وأصلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 النجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور، فإنَّه ما انخفض منها، وتهامة كلُّها من الغور ومكة من تهامة". وقال قبل ذلك في الفتح (6/352) عند شرح حديث "رأس الكفر نحو المشرق": "وفي ذلك إشارة إلى شدَّة كفر المجوس؛ لأنَّ مملكة الفرس ومَن أطاعهم من العرب كانت من جهة المشرق بالنسبة إلى المدينة، وكانوا في غاية القسوة والتكبُّر والتجبُّر حتى مزَّق مَلِكُهم كتاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه، واستمرَّت الفتنُ من قِبَل المشرق كما سيأتي بيانه واضحاً في الفتن". وقال النووي في شرح صحيح مسلم (2/34) : "والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر، كما قال في الحديث الآخر: (رأس الكفر نحو المشرق) ، وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم حين قال ذلك، ويكون حين يخرج الدجَّال من المشرق، وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة ومثار الكفرة الترك الغاشمة العاتية الشديدة البأس". وقد مرَّ في كلام ابن حجر قريباً أنَّ ظهور البدع كان من تلك الجهة أي جهة المشرق، ومن أمثلة ذلك أنَّ الخوارجَ والشيعةَ والقدريةَ والجهميَّةَ كان خروجُهم من تلك الجهة، ومجيء التتارُ للقضاء على الخلافة العباسية وسقوط بغداد كان من المشرق، وفي آخر الزمان خروج الدجال من تلك الجهة، فإنَّه كما جاء في صحيح مسلم (2137) يخرج من خلة بين الشام والعراق، وفي صحيحه أيضاً (2944) : "يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة". وكما أنَّ تلك الجهة منشأ كثير من البدع، ومنها ظهور كثير من الشرور، فإنَّ فيها الكثيرين من أهل العلم الذين ردُّوا على المبتدعة، ومنها محدِّثون وفقهاء كبار، ومن هؤلاء أصحاب الكتب الستة: محمد بن إسماعيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، وأبو داود السجستاني، وأبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي، وابن ماجه القزويني، وقد ألَّف الشيخ محمد أشرف سندهو المتوفَّى سنة (1373هـ) رسالة أوضح فيها ما يتعلَّق بهذا الموضوع، سَمَّاها: "أكمل البيان في شرح حديث نجد قرن الشيطان". وإنَّما ذكرتُ هنا بيان المراد بـ"نجد" وأنَّه العراق وما وراءه، كما جاء مبيَّناً في بعض الروايات وأقوال بعض أهل العلم؛ لأنَّ بعضَ الحاقدين على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ يُلبِّسون على غيرهم بأنَّ المراد بـ"نجد" نجد اليمامة، ولم تشتهر اليمامةُ باسم"نجد" إلاَّ في أزمان متأخرة، ومن المعلوم أنَّ"نجداً" في اللغة تُطلق على ما ارتفع وعلا من الأرض، وهي ما يُقابل"الغور" و ((تهامة"، والمراد بـ"نجد" التي وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهلها"قرن المنازل" الأماكن المرتفعة التي يأتي أهلُها من الطائف وغيره، وقد ذكر الفيروزآبادي في القاموس المحيط عدداً من النجود، منها نجد الود ببلاد هذيل، ونجد برق باليمامة. السابع والثامن: قدحُه في ثبوت حديث افتراق الأمَّة إلى ثلاث وسبعين، وحديث العرباض بن سارية "عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين"، والردُّ عليه. عاب في (ص: 182) على أهل السنَّة تسميتهم أنفسهم بأهل السنَّة لحديث العرباض بن سارية: "عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين"، وقال: "علماً بأنَّ الحديث السابق وحديث افتراق الأمَّة محل تنازع في التضعيف والتصحيح داخل أهل السنَّة!! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 والجواب: أنَّ المالكيَّ هو من أهل الأهواء والبدع، ومن أجل ذلك يقدح في الأحاديث التي لا توافق هواه، كهذين الحديثين، كما أنَّه يحتفي بأهل البدع ويُدافع عنهم، ولا يعتبرهم على باطل، وقد قال في (ص: 41 ـ حاشية) : "فقد يكون الحقُّ مع طرف، ولكنَّه نادر خاصة في العقائد، والأصل أنَّ معظمَ الاختلافات بين المسلمين أن يكون كل طرف ممسكاً بطرف من الحقيقة!! ". فأمَّا حديث العرباض بن سارية، فرواه جماعةٌ كثيرون، ففي تعليق الشيخ شعيب الأرنؤوط وغيره على جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم لابن رجب (2/109) : "رواه أبو داود (4607) ، والترمذي (2676) ، ورواه أيضاً أحمد (4/126 ـ 127) ، والدارمي (1/44) ، وابن ماجه (43) و (44) ، وابن أبي عاصم في السنة (27) ، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (2/69) ، والبغوي (102) ، والآجري في الشريعة (ص: 46) ، والبيهقي (6/541) ، واللالكائي في أصول الاعتقاد (81) ، والمروزي في السنة (69) ـ (72) ، وأبو نعيم في الحلية (5/220) ، و (10/115) ، والحاكم (1/95 ـ 97) ، وصححه ابن حبان (5") . ولفظه عند أبي داود، قال العرباض: "صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأنَّ هذه موعظة مودِّع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإنْ عبداً حبشيًّا؛ فإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديين الراشدين، تَمسَّكموا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 والحديث صحيح عند أهل السنَّة، قال فيه الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان والحاكم، وقال: "هذا حديث صحيح ليس له علَّة"، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ أبو نعيم: "هو حديث جيِّد من صحيح حديث الشاميين"، كما في جامع العلوم والحكم (2/109) ، وحسَّنه البغوي في شرح السنة (102) ، وصححه الألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم (1/18 ـ 20) وغيره. والحديث مشتملٌ على الترغيب في اتِّباع السنَّة والتحذير من البدع، وبيان أنَّها كلَّها ضلالةٌ، ومثل ذلك حديث أنس رضي الله عنه في حديث طويل: "فمَن رغب عن سنَّتي فليس منِّي"، أخرجه البخاري (5063) ، ومسلم (1401) . وحديث العرباض رضي الله عنه من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم، وقد أدخله النووي في كتابه الأربعين، وهو الحديث الثامن والعشرون منه، والمعنى في هذا الحديث هو المعنى في قول الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . وأمَّا حديث افتراق الأمَّة إلى أكثر من سبعين فرقة، فقد جاء عن جماعة من الصحابة، منهم معاوية رضي الله عنه، أخرجه أحمد (16937) ، وأبو داود (4597) وغيرهما، ولفظه عندهما: "إنَّ أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملَّة، وإنَّ هذه الأمَّة ستفترق على ثلاث وسبعين ملَّة يعني الأهواء، كلُّها في النار إلاَّ واحدة، وهي الجماعة". وقد حسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (204) ، وهو صحيح لشواهده التي جاءت عن أنس وعبد الله بن عمرو بن العاص وعوف بن مالك وأبي أمامة رضي الله عنهم، وانظر تخريجها في التعليق على المسند لشعيب الأرنؤوط وغيره (16937) ، وقال الحاكم في المستدرك (1/6) عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 حديث افتراق الأمة "هذا حديث كبير في الأصول"، وقال أيضاً (1/128) : "هذه أسانيد تُقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث"، ووافقه الذهبي، ونقل الألباني في السلسلة الصحيحة تحت الرقم السابق تصحيح بعض العلماء للحديث، منهم ابن حجر وابن تيمية والشاطبي والعراقي، وذكر الشيخ الألباني في تعليقه على حديث أنس من كتاب السنة لابن أبي عاصم (64) أنَّ الحديث صحيح قطعاً لطرقه وشواهده. وفي بعض ألفاظ الحديث عن أنس وعبد الله بن عمرو في بيان الفرقة الناجية: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، قال الحافظ عن حديث أنس في لسان الميزان (6/56) : "والمحفوظ في المتن (تفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلاَّ واحدة، قالوا: وما تلك الفرقة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي") . وحديث عبد الله بن عمرو عند الترمذي والحاكم، وفي إسناده عبد الرحمن بن أنعم الإفريقي، وهو ضعيف، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسَّنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2641) ، وقال البغوي في شرح السنة (1/213) : "وثبت عن عبد الله بن عمرو"، فساق الحديث، وفي آخره: "ما أنا عليه وأصحابي"، ويتقوَّى بحديث أنس، وكذلك بالشواهد الأخرى التي فيها ذكر وصف الفرقة الناجية بالجماعة؛ لأنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّل الجماعة، وهم خير الجماعة. وهذه الفرق هم من المسلمين، ومستحقُّون لدخول النار لبدعهم، وهم تحت مشيئة الله، إلاَّ الفرقة الناجية التي كانت على ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 15 ـ زعمه أنَّ المعوَّل عليه في النصوص ما كان قطعيَّ الثبوت قطعيَّ الدلالة فقط، والردُّ عليه قال في (ص: 188) : "لا يظنَّن مغفَّل أنَّ المبالغةَ في صغائر المعتقدات المرتكزة على نصوص ظنيَّة الثبوت أو الدلالة كانت نتيجة لأهميَّة تلك العقائد المتنازَع فيها، وإنَّما كانت المبالغة في تلك المعتقدات نتيجة من نتائج الصراعات السياسية بالدرجة الأولى، ثم الصراعات المذهبية، أو حب العلو في الأرض والتفرد بالزعامة نتيجة التحاسد والتنافس بين العلماء، وبعض هذا نتيجة غفلة الصالحين، مع استغلال سلطوي حتى ينشغل الصالحون في خصومات ثانوية لا أهميَّة لها!! ". وقال أيضاً: "أصبحت العقائد في الأزمنة المتأخرة لا تعني إلاَّ الانتصار لما شذَّت به الطائفة عن سائر المسلمين، مع التقوقع على هذا وكأنَّه الإسلام ذاته، مع الضيق في ذلك، والتفصيل المبالَغ فيه، والولاء والبراء في ذلك، مع إقناع النفس ـ بجهل وتعصب بمساعدة من الشيطان ـ بأنَّ زمننا هذا زمن فتنة وبلاء، وأنَّنا نحن الغرباء، الذين أخبر النبيُّ (ص) (كذا) بأنَّهم يصلحون إذا فسد الناس، وأنَّ الله قد أمر بالصبر على الحقِّ، ولكننا في الوقت نفسه ننسى أنَّ الله أمر بالتواصي بالحقِّ، ونحن لا نتواصى بل نتآمر ونكيد ونمكر المكر السَّيِّء، وننسى أنَّ الواجب أن نعرف ـ قبل أن نعلن الاختلاف ـ أنَّ ما نفعله حق أو لا، ثم بعد ذلك نتواصى بالصبر، أمَّا أن نتواصى بالصبر على انتقاص علي بن أبي طالب وأهل بيته، وحب ظلمة بني أميَّة، وتكفير أبي حنيفة وسائر المسلمين إلاَّ نحن، ونتواصى بالصبر على الكذب على رسول الله، وتبرير هذا الكذب بأنَّه مندرجٌ تحت أصل، ونتواصى بالتشبيه الصريح لله جلَّ جلاله بخلقه بناء على الإسرائيليات والأساطير، فهذا كلُّه ليس من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الحقِّ الذي نُؤجَرُ على الصبر عليه، إنَّما نُؤجَر على الصبر على الحق الواضح المبني على قطعي الثبوت والدلالة من أدلَّة الكتاب والسنَّة، فالحقُّ الذي ذكره الله في كتابه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس بهذا الخفاء، بحيث لا يهتدي إليه إلاَّ الغلاة، لهذا علينا أن نصحح أوضاعنا العلمية والعملية وفق النصوص الشرعية، لا ما تسوله لنا أنفسنا وغفلتنا وقناعتنا الخادعة بأنَّنا أحسن الناس إيماناً؛ لأنَّ الإيمان ليس بالتحلِّي ولا بالتمنِّي، وإنَّما هو قولٌ وعمل ومنهج عدل وعلم وصدق وتثبت!! ". وقال (ص: 186) : "ضرورة العودة للقرآن الكريم والالتزام بما فيه من مجمل الإيمانيات التي يسمُّونها العقائد ومجمل الأوامر الظاهرة والمحرمات الظاهرة والأخلاق الواجبة، وعدم امتحان الناس بالمتشابه منه، ثم العودة لمتواتر السنَّة، ثم الصحيح المشهور، وترك التنازع في المختلف فيه من السنَّة، سواء من حيث الثبوت أو دلالة النصِّ، وفتح حرية الاجتهاد في ذلك ... !! ". وأجيب عن ذلك بما يلي: 1 ـ هذه الطريقة التي ذكرها المالكي وهي التعويل على ما كان قطعيَّ الثبوت والدلالة من النصوص هي طريقةُ المبتدعة وأهل الأهواء، وهو واحد منهم، ولهذا قرَّر هذه الطريقة، وأُعجب بها، وأمَّا أهل السنَّة والجماعة فهم يُعوِّلون على القرآن والمتواتر والآحاد من السنَّة، ومن أوضح الأدلة على التعويل على أحاديث الآحاد في العقائد وغيرها حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه في بعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليعلِّم الناس دينهم؛ فإنَّ الحجَّةَ قامت على أهل اليمن بما يُخبرهم به في الأصول والفروع، وهو شخصٌ واحد، وهذا بخلاف طريقة أهل الأهواء الذين لا يأخذون بأحاديث الآحاد؛ بزعمهم أنَّها ظنيَّةُ الثبوت، وأمَّا القرآن ومتواتر السنَّة الذي لا يتمكَّنون من ردِّه لكونه قطعيَّ الثبوت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 يقدحون في ثبوت معناه إذا لم يوافق أهواءَهم؛ زاعمين أنَّه ظنيُّ الدلالة، وليس قطعيًّا فيها. 2 ـ أمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يتواصون بانتقاص علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل بيته وحُبِّ ظلمة بني أميَّة فهو من الإفك المبين؛ فإنَّ أهل السنَّة هم الذين يُحبُّون عليًّا رضي الله عنه وأهل بيته، بل وسائر أهل بيت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهم زوجاته وكلٌُّ مسلم ومسلمة من نسل عبد المطلب بن هاشم، ويتولَّونهم جميعاً دون غلوٍّ أو جفاء، وهذا بخلاف المالكي وأسلافه من الرافضة، الذين يغلون في عليٍّ وفاطمة رضي الله عنهما، وفي بعض أولادهما، ويجفون في غيرهم من أهل البيت، وفي الصحابة، ومن أبرز أهل البيت الذين جفا فيهم المالكي عمُّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله وغيرهما مِمَّن كان إسلامُهم بعد الحديبية، الذين يزعم المالكي أنَّهم لم يظفروا بصحبة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الصحبة الشرعية، وأنَّ صحبَتهم كصحبة المنافقين والكفار. 3 ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يتواصون بتكفير أبي حنيفة وسائر المسلمين من غيرهم، فهو من الإفك المبين أيضاً، وقد مرَّ قريباً أنَّ الفِرَق الثنتين والسبعين هم من المسلمين، وهم مستحقُّون للنار لبدعهم، وهم تحت مشيئة الله، إن شاء عفى عنهم وإن شاء عذَّبهم، وأمَّا ما أشار إليه المالكي من قبل عن أحد كتب أهل السنَّة من آثار في تكفير أبي حنيفة في مسألة خلق القرآن، فهي إمَّا غير ثابتة الإسناد، أو أنَّه تاب مِمَّا نُسب إليه، وقد قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (13/377) : "وأمَّا القول بخلق القرآن، فقد قيل: إنَّ أبا حنيفة لم يكن يذهب إليه، والمشهور عنه أنَّه كان يقوله واستُتيب منه"، ثم ذكر نقولاً في هذا وفي هذا، ومنها (ص: 378) عن الإمام أحمد أنَّه قال: "لم يصحَّ عندنا أنَّ أبا حنيفة كان يقول: القرآن مخلوق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وروى اللالكائي في شرح السنة (2/270) بإسناده عن عبد الله بن المبارك أنَّه قال: "والله! ما مات أبو حنيفة وهو يقول بخلق القرآن، ولا يدينُ الله به". 4 ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يتواصون بالصبر على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُبرِّرون هذا الكذب بأنَّه مندرجٌ تحت أصل، وأنَّهم يتواصون بالتشبيه الصريح لله جلَّ جلاله بخلقه بناء على الإسرائيليات والأساطير، فهو من أفحش الكذب وأبطل الباطل؛ لأنَّ أهل السنَّة هم أبعدُ الناس عن هذه القبائح، وما وُجد في بعض كتب أهل السنَّة من أحاديث وآثار في أسانيدها وضَّاعون، فمراد مَن ذكَر ذلك منهم بإسناده أن يُعلم ورودُه كذلك، وأنَّه لكذبه أو ضعف إسناده لا يُعوَّل عليه، وقد مرَّ بيان ذلك في الردِّ على المالكي في قدحه في كتب أهل السنَّة في العقيدة، وفيه النقل عن ابن تيمية وابن حجر في ذلك. وسيأتي في المبحث بعد هذا أنَّ أهل السنَّة مثبتةٌ منزِّهةٌ، وليسوا بمشبِّهة ولا معطِّلة. 5 ـ وقوله بعد ذكر ضرورة العودة إلى القرآن: "ثم العودة لمتواتر السنة، ثم الصحيح المشهور، وترك التنازع في المختلف فيه من السنَّة، سواء من حيث الثبوت أو دلالة النصِّ، وفتح حريَّة الاجتهاد في ذلك ... !! ". أقول: يريد المالكي بالأخذ بالصحيح المشهور وترك المختلف فيه الأخذ بما يوافق أهواء أهل البدع، وترك الأخذ بما لا يوافق أهواءهم، وقد مرَّ قريباً قدح المالكي في أحاديثَ صحيحة في الصحيحين وغيرهما، منها حديث صلح الحسن؛ لأنَّها لا توافق هواه، ثم هو يعيب على أهل السنَّة أنَّهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 يُطلقون كلمات فضفاضة لا يفهمون معناها، وهنا يقول: إنَّ التعويل على الصحيح المشهور، وهذه الصحة والشهرة المزعومة لا تحديد لها ولا ضوابط، والتعويل فيها عند المالكي إنَّما هو على ما يوافق هواه فقط! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 16 ـ زعمه أنَّ أهل السنَّة مجسِّمة ومشبِّهة والردُّ عليه ذكر المالكي (ص: 129) عنواناً بلفظ: "التجسيم والتشبيه" زاعماً أنَّ أهلَ السنَّة ومنهم الحنابلة يقولون بالتشبيه والتجسيم، وأهل السنَّة لا يقولون بالتشبيه ولا التعطيل، وإنَّما مذهبُهم وعقيدتُهم الإثبات مع التنزيه، كما قال الله عزَّ وجلَّ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فهم مثبتةٌ غير معطِّلة، ومع إثباتهم ليسوا بمشبِّهة، وأمَّا التجسيمُ فإنَّه لفظٌ مُجملٌ لم يَرِد إثباته لله ولا نفيه عنه في الكتاب والسنة، فإن أريد به ذاتٌ متَّصفةٌ بصفات لا تشبه المخلوقات فهو حقٌّ، وإن أريد به ذاتٌ متَّصفة بصفات تشبه المخلوقات فهو باطل، وهذه طريقة أهل السنَّة في الألفاظ المجملة التي لَم ترِد في الكتاب والسنَّة، يُثبتون المعنى الحق ولا يعبِّرون باللفظ المجمل المحتمل للحقِّ والباطل، وينفون المعنى الباطل واللفظ الذي عُبِّر به عنه، والمعطِّلة يصفون المثبتة للصفات بأنَّهم مشبِّهة؛ لأنَّهم لا يتصوَّرون الإثبات إلاَّ مع التشبيه، قال ابن عبد البر في التمهيد (7/145) : "وأمَّا أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلُّها والخوارج، فكلُّهم يُنكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أنَّ مَن أقرَّ بها مشبِّه، وهم عند مَن أثبتها نافون للمعبود"، ونقله عنه الذهبي في العلو (2/1326) ، وعلَّق عليه قائلاً: "صدق والله! فإنَّ مَن تأوَّل سائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الصفات وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أدَّاه ذلك السَّلب إلى تعطيل الرَّبِّ وأن يشابه المعدوم، كما نُقل عن حماد بن زيد أنَّه قال: مَثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة، قيل: لها سَعَف؟ قالوا: لا، قيل: فلها كَرَب؟ قالوا: لا، قيل: لها رُطَب وقِنو؟ قالوا: لا، قيل: فلها ساق؟ قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة! ". والمعنى أنَّ من نفى عن الله الصفات، فإنَّ حقيقةَ أمره نفيُ المعبود؛ إذ لا يُتصوَّرُ وجود ذات مجرَّدة من جميع الصفات. وأذكر هنا نماذج مِمَّا أورده المالكي تحت هذا العنوان"التجسيم والتشبيه" مع الإجابة عنها. فمِن ذلك قوله (ص: 129) : "أما الأهوازي (الحسن بن علي بن إبراهيم وهو من غلاة أهل السنة، وغلاة أهل السنَّة حنابلة) الحنبلي، فقد ألَّف كتاباً طويلاً في الصفات أورد فيه أحاديث باطلة، ومنها حديث عرق الخيل الذي نصُّه: (إنَّ الله لَمَّا أراد أن يخلق نفسه خلق الخيلَ فأجراها حتى عرقت، ثم خلق نفسَه من ذلك العرق) تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً، والغريب أنَّنا نكفِّر مَن يقول بخلق القرآن أو يسبُّ أحد الصحابة، وفاعل هذا وإن كان مخطئاً، لكنَّه ليس كخطأ مَن يزعم أنَّ الله خلق نفسه من عرق الخيل، فعجباً لِمَن يُكفِّر مَن يقول أنَّ القرآن مخلوق، ولا يُكفِّر مَن يقول إنَّ نفس الله مخلوق!! ". وقال تعليقاً على كلامه هذا: "وقد اتَّهمه ابن عساكر بأنَّه من الفرقة السالمية المجسِّمة، لكن ابن تيمية عدَّه في أهل السنَّة في الجملة، فاحتمل أمثال هؤلاء داخل أهل السنَّة مع ما ترى من بشاعتهم، ولم يحتمل دخول المعتزلة والجهمية ومعتدلي الشيعة، وهذه مفارقةٌ عجيبة!! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وأجيب عن ذلك بما يلي: 1 ـ قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الأهوازي في لسان الميزان: "وقال ابن عساكر: جمع كتاباً سمَّاه: (شرح البيان في عقود أهل الإيمان) ، أودعه أحاديث منكرة، كحديث (إنَّ الله لَمَّا أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل فأجراها حتى عرقت، ثمَّ خلق نفسه من ذلك العرق) ، وغير ذلك مِمَّا لا يجوز أن يُروى ولا يحلُّ أن يُعتقد، وكان مذهبُه مذهبَ السالمية، يقول بالظاهر ويتمسَّك بالأحاديث الضعيفة لتقوية مذهبه، وحديث إجراء الخيل موضوع، وضعه بعضُ الزنادقة ليشنِّع به على أصحاب الحديث في روايتهم المستحيل، فحمله بعضُ مَن لا عقل له ورواه، هو مِمَّا يُقطع ببطلانه شرعاً وعقلاً". وفي هذا بيان أنَّ الأهوازي من السالميَّة وليس من أهل السنَّة، وأنَّ الحديث من وضع الزنادقة للتشنيع على أهل الحديث في رواية المستحيل، وقد أورده المالكيُّ للتَّشنيع على أهل السنَّة! 2 ـ وأمَّا زعم المالكي أنَّ ابن تيمية عدَّه من أهل السنَّة في الجملة، ولم يُبيِّن المصدر لكلام ابن تيمية، وابن تيمية في كتابه منهاج السنة (5/261) ذكر أنَّه من السالمية وأنَّه صنَّف كتاباً في مثالب الأشعري، وأنَّ ابن عساكر ألَّف في الردِّ عليه، وذكر مثالبَ السالميَّة، وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (16/23 ـ 24) : "وهذا يقوله (يعني عدم قبول توبة الداعي إلى البدعة) طائفةٌ مِمَّن ينتسب إلى السنَّة والحديث وليسوا من العلماء بذلك، كأبي علي الأهوازي وأمثاله، مِمَّن لا يُميِّزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وما يُحتجُّ به وما لا يُحتجُّ به، بل يروون كلَّ ما في الباب مُحتجِّين به". والخلاصة أنَّ ابن تيمية يرى أنَّه من السالمية وأنَّه ينتسب إلى أهل السنَّة والحديث، وما أشبهَ الليلة بالبارحة، فالمالكي نفسه هو على طريقة الرافضة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الذين يحقدون على الصحابة وأهل السنَّة، مع أنَّه ينتسب إلى أهل السنَّة، وهم بُرآءُ منه. 3 ـ أهل السنَّة والجماعة يُثبتون لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسولُه صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، وهم لا يصفون الله بالنفَس؛ لأنَّه لم يثبت وصفه بهذا الوصف في الكتاب والسنَّة، وأمَّا حديث: "إنِّي أجد نفَس الرحمن من ها هنا" وأشار إلى اليمن، وهو حديث صحيح أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (4/70) ، والطبراني في المعجم الكبير (6358) فليس من أحاديث الصفات، وإنَّما هو من النَّفَس، وهو اسم مصدر بمعنى التنفيس، كما في كتب اللغة والنهاية لابن الأثير، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (3367) ، والقواعد المثلى للشيخ ابن عثيمين (ص: 51) ، وقال ابن تيمية في المجموع (6/398) : "فقوله (من اليمن) يُبيِّن مقصود الحديث؛ فإنَّه ليس لليمن اختصاص بصفات الله تعالى حتى يُظنَّ ذلك، ولكن منها جاء الذين يُحبُّهم ويُحبُّونه، الذين قال فيهم {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} " إلى أن قال: "وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الرِّدَّة وفتحوا الأمصار، فبهم نفَّس الرحمن عن المؤمنين الكربات، ومن خصَّص ذلك بأويس فقد أبْعد". وفي صحيح مسلم (2542) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن" الحديث، قال النووي في شرحه (16/95) : "أمداد أهل اليمن هم الجماعة الغزاة الذين يمدُّون جيوش الإسلام في الغزو، واحدهم مَدد". 4 ـ وأمَّا زعم المالكي احتمال دخول الأهوازي وأمثاله في أهل السنَّة، وعدم دخول الجهمية والمعتزلة ومعتدلي الشيعة فيهم، وأنَّها مفارقةٌ عجيبة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فجوابه أنَّ أهلَ السنَّة يعتبرون السالمية والجهمية والمعتزلة والرافضة من فرق الضلال، ولا يدخل أحد من هؤلاء في أهل السنة، كما أنَّ المالكيَّ نفسه ليس من أهل السنَّة، وإنَّما هو من أعداء أهل السنَّة، وقد مرَّ قريباً ما جاء عن حماد بن زيد وابن عبد البر والذهبي من أنَّ الجهمية المعطلة نافون للمعبود؛ لأنَّه لا يُتصوَّر وجود ذات مجرَّدة من جميع الصفات، وفي (ص: 91) من قراءته في كتب العقائد أظهر أسفَه على سنوات أضاعها في بغض ولعن الجهمية والقدرية، وأنَّه لم ينتبه لبراءتهما من أكثر ما نُسب إليهما وظلمه لهما إلاَّ بعد بحثه في الموضوع في فترة متأخرة، فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى. ومن ذلك قول المالكيِّ (ص: 129 ـ 130) : "وألَّف الهروي الحنبلي كتاباً في الصفات، حشره بأحاديث باطلة من هذا الجنس، وروى عبد الله بن أحمد رواية مقطوعة فيها: (مكث موسى أربعين ليلة لا يراه أحد إلاَّ مات من نور ربِّ العالمين") . وأجيب عن ذلك: بأنَّ ما ذكره عن كتاب الهروي فهو من الكلام الذي يُطلقه المالكي جزافاً، وقد يكون فيما يعنيه أحاديث صحيحة لا تُناسبُ هواه، وليس فيها تجسيم ولا تشبيه، كما سبق أن مرَّ قريباً بيان قدحه في أحاديث صحيحة، بعضها في الصحيحين، وما كان في كتاب الهروي من أحاديث ضعيفة وهي مسندة، فأهل العلم يعرفون الحكم على الحديث بالوقوف على إسناده. وأمَّا الأثر المقطوع الذي ذكره عن عبد الله بن الإمام أحمد، فإسناده كما في طبقات الحنابلة (1/185 ـ 186) : "قال عبد الله بن أحمد: حدَّثني محمد ابن بكار، حدَّثنا أبو معشر، عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية"، وهو مع كونه مقطوعاً من كلام بعض الرواة، فإنَّ في إسناده أبا معشر وهو نجيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ابن عبد الرحمن السندي، قال فيه الحافظ في التقريب: "ضعيف، من السادسة، أسنَّ واختلط". ومِمَّا أورده في اتِّهام أهل السنَّة بالتشبيه والتجسيم، ما زعمه في (ص: 131) أنَّهم رووا أنَّ المقام المحمود للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم هو قعودُه صلى الله عليه وسلم مع ربِّه على العرش!! والجواب عن ذلك: أنَّه لم يثبت رفعُه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو موضوع، كما ذكر ذلك ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (5/237) ، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (865) : "باطل"، وقد جاء القول بذلك عن مجاهد وبعض السَّلف، والأصل في مثل ذلك أن يُعوَّل على ما جاء به الوحي، وليس المعنى فيه من قبيل التشبيه والتجسيم، كما زعم المالكي، بل هو نظير الكتاب الذي كتبه الله، وهو عنده فوق العرش، ففي صحيح البخاري (7553) وصحيح مسلم (2751) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَمَّا خلق الله الخلقَ كتب كتاباً عنده؛ غلبت ـ أو قال ـ سبقت رحمتي غضبي، فهو عنده فوق العرش". فلو صحَّ ما ذُكر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عنده فوق العرش، كما كان هذا الكتاب عنده فوق العرش. وأهل السنَّة يؤمنون بأنَّ الله عزَّ وجلَّ مُستوٍ على عرشه كما يليق به، كما جاء إثبات ذلك في سبع آيات من كتاب الله، واستواؤه على عرشه حقيقة لا مجاز، وهو سبحانه فوق خلقه مستو على عرشه، وله سبحانه وتعالى علوُّ القدر وعلوُّ القهر وعلوُّ الذات، والمبتدعة لا يُثبتون علوَّ الذات؛ لأنَّه بزعمهم تجسيم، والتجسيم إن أُريد به ذات متَّصفة بصفات مشابهة للمخلوقات فهو باطل، وإن أُريد به ذات متَّصفة بصفات لا تشبه المخلوقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فهو حقٌّ، لكن لا يُعبَّر عن ذلك بالتجسيم؛ لأنَّ لفظَ التجسيم محتملٌ للحقِّ والباطل، وقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتاب"الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"، كما في مختصره لابن الموصلي اثنين وأربعين وجهاً في إبطال قول مَن فسَّر الاستواءَ على العرش بالاستيلاء، وذكر أنَّ كثيراً من المالكية على منهج السلف في العقيدة، فقال في (2/132 ـ 136) : "الوجه الثاني عشر: أنَّ الإجماعَ منعقدٌ على أنَّ الله سبحانه استوى على عرشه حقيقة لا مجازاً، قال الإمام أبو عمر الطلمنكي - أحد أئمَّة المالكية وهو شيخ أبي عمر بن عبد البر - في كتابه الكبير الذي سَمَّاه الوصول إلى معرفة الأصول، فذكر فيه من أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم وأقوال مالك وأئمَّة أصحابه، ما إذا وقف عليه الواقفُ علمَ حقيقةَ مذهب السَّلف، وقال في هذا الكتاب: أجمع أهلُ السنَّة على أنَّ الله تعالى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز. الوجه الثالث عشر: قال الإمام أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد في شرح حديث النُزول: وفيه دليلٌ على أنَّ الله تعالى في السماء على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة وقرَّر ذلك، إلى أن قال: وأهل السُّنَّة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في القرآن والسُّنَّة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلاَّ أنَّهم لا يُكيِّفون شيئاً من ذلك، ولا يَحدُّون فيه صفة مخصوصة، وأمَّا أهل البدع الجهمية والمعتزلة والخوارج، فكلُّهم يُنكرُها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أنَّ مَن أقرَّ بها مشبِّهٌ، وهم عند مَن أقرَّ بها نافون للمعبود. وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره المشهور في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : هذه المسألة للفقهاء فيها كلام، ثم ذكر أقوال المتكلمين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ثم قال: وقد كان السلف الأول لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق به في كتابه، وأخبرت به رسلُه، ولم يُنكر أحدٌ من السلف الصالح أنَّه استوى على عرشه حقيقة، وإنَّما جهلوا كيفية الاستواء، كما قال مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول. الوجه الرابع عشر: أنَّ الجهمية لَمَّا قالوا إنَّ الاستواءَ مجازٌ صرَّح أهل السُّنَّة بأنَّه مستوٍ بذاته على عرشه، وأكثرُ مَن صرَّح بذلك أئمَّةُ المالكية، فصرَّح به الإمام أبو محمد بن أبي زيد في ثلاثة مواضع من كتبه، أشهرها الرسالة، وفي كتاب جامع النوادر، وفي كتاب الآداب، فمَن أراد الوقوف على ذلك فهذه كتبه، وصرَّح بذلك القاضي عبد الوهاب، وقال: إنَّه استوى بالذات على العرش، وصرَّح به القاضي أبو بكر الباقلاني وكان مالكيًّا، حكاه عنه القاضي عبد الوهاب نصًّا، وصرَّح به أبو عبد الله القرطبي في كتاب شرح أسماء الله الحسنى، فقال: ذكر أبو بكر الحضرمي من قول الطبري يعني محمد بن جرير وأبي محمد بن أبي زيد وجماعة من شيوخ الفقه والحديث، وهو ظاهر كتاب القاضي عبد الوهّاب عن القاضي أبي بكر وأبي الحسن الأشعري، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن القاضي أبي بكر نصًّا، وهو أنَّه سبحانه مُستوٍ على عرشِه بذاته، وأطلقوا في بعض الأماكن فوق خلقه. قال: وهذا قولُ القاضي أبي بكر في تمهيد الأوائل له، وهو قولُ أبي عمر ابن عبد البر، والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيّين، وقول الخطّابي في شعار الدِّين. وقال أبو بكر محمد بن موهب المالكي في شرح رسالة ابن أبي زيد: قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 إنَّه فوق عرشه المجيد بذاته، معنى (فوق) و (على) عند جميع العرب واحدٌ، وفي كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم تصديقُ ذلك، ثمَّ ذكر النصوصَ من الكتاب والسنة واحتجَّ بحديث الجارية وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لها: (أين الله؟) وقولها: (في السماء) ، وحكمه بإيمانها، وذَكَر حديثَ الإسراء، ثمَّ قال: وهذا قول مالك فيما فهمه عن جماعةٍ مِمَّن أدرك من التابعين، فيما فهموا من الصحابة فيما فهموا عن نبيِّهم صلى الله عليه وسلم: أنَّ اللهَ في السماء بمعنى فوقها وعليها، قال الشيخ أبو محمد: إنَّه بذاته فوق عرشه المجيد، فتبيَّن أنَّ علوَّه على عرشه وفوقه إنَّما هو بذاته، إلاَّ أنَّه بائنٌ من جميع خلقه بلا كيف، وهو في كلِّ مكان من الأمكنة المخلوقة بعلمه لا بذاته، لا تحويه الأماكن؛ لأنَّه أعظمُ منها، إلى أن قال: وقوله: على العرش استوى، إنَّما معناه عند أهل السنَّة على غير معنى الاستيلاء والقهر والغلبة والملك، الذي ظنَّت المعتزلةُ ومَن قال بقولهم أنَّه معنى الاستواء، وبعضُهم يقول إنَّه على المجاز لا على الحقيقة، قال: ويُبيِّن سوءَ تأويلهم في استوائه على عرشه على ما تأوَّلوه من الاستيلاء وغيره، ما قد علمه أهلُ المعقول أنَّه لَم يَزل مستولياً على جميع مخلوقاته بعد اختراعه لها، وكان العرشُ وغيرُه في ذلك سواءً، فلا معنى لتأويلهم بإفراد العرش بالاستواء الذي هو في تأويلهم الفاسد استيلاءٌ وملكٌ وقَهرٌ وغلبةٌ، قال: وذلك أيضاً يبيِّن أنَّه على الحقيقة بقوله {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} ، فلمَّا رأى المصنِّفون إفراد ذكره بالاستواء على العرش بعد خلق السموات وأرضه وتخصيصه بصفة الاستواء علموا أنَّ الاستواءَ غير الاستيلاء، فأقرُّوا بوصفه بالاستواء على عرشه وأنَّه على الحقيقة لا على المجاز؛ لأنَّه الصادقُ في قِيله، ووقفوا عن تكييف ذلك وتمثيله؛ إذ ليس كمثله شيء، هذا لفظه في شرحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الوجه الخامس عشر: أنَّ الأشعريَّ حكى إجماعَ أهل السنَّة على بُطلان تفسير الاستواء بالاستيلاء، ونحن نذكر لفظَه بعينه الذي حكاه عنه أبو القاسم بن عساكر في كتاب تبيين كذب المفتري، وحكاه قبله أبو بكر بن فَوْرك وهو موجودٌ في كتبه، قال في كتاب الإبانة وهي آخرُ كتبه قال: (باب ذكر الاستواء) إن قال قائلٌ: ما تقولون في الاستواء، قيل: نقول له: إنَّ اللهَ تعالى مستوٍ على عرشه، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وساق الأدلَّةَ على ذلك، ثمَّ قال: وقال قائلون من المعتزلة والجهميّة والحرورية: إنَّ معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أنَّه استولى ومَلَكَ وقَهَر، وجحدوا أن يكون اللهُ على عرشه كما قال أهلُ الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القُدرة، ولو كان هذا كما قالوا كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة السُّفلى؛ لأنَّ اللهَ تعالى قادرٌ على كلِّ شيء، والأرض والسموات وكلّ شيء في العالَم، فلو كان اللهُ مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء والقدرة لكان مستوياً على الأرض والحشوش والأنْتَان والأقْذار؛ لأنَّه قادرٌ على الأشياء كلِّها ولم نجد أحداً من المسلمين يقول إنَّ اللهَ مستوٍ على الحشوش والأخْلِيَة، فلا يجوزُ أن يكون معنى الاستواء على العرش على معنى هو عام في الأشياء كلِّها، ووَجَبَ أن يكون معنى الاستواء يَختصُّ بالعرش دون سائر الأشياء، وهكذا قال في كتابه الموجَز وغيره من كتبه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 17- ما ذكره من تأثير العقيدة على الجرح والتعديل والردُّ عليه أورد (ص: 132) عنواناً بلفظ: "تأثير العقيدة على الجرح والتعديل"، مِمَّا قال فيه: "والعقيدة لها تأثير سيِّء على الجرح والتعديل، ولو لم يكن من أثر إلاَّ التظالم الموجود بسببها لكفى، فتجد كلَّ طائفة من المسلمين تحاول توثيق الرِّجال الذين ينتمون إليها في العقيدة، ويضعفون رجال الطوائف الأخرى ولو كانوا من أوثق الناس وأصلحهم وأضبطهم للرواية، ولعلَّ أبرز آثار العقيدة على الجرح والتعديل عند الحنابلة تضعيف ثقات المخالفين وتوثيق ضعفاء الموافقين، ومن ذلك: تضعيف ثقات الشيعة، وخاصة فيما يروونه في فضائل علي. تضعيف سائر المخالفين من العلماء، كعلماء المرجئة والقدرية والمعتزلة. تضعيف القائلين بخلق القرآن أو المتوقفين. تضعيف مَن يتوهَّمون فيه أدنى مخالفة، حتى وصل تضعيفهم للبخاري ومسلم والكرابيسي وأبي حنيفة.. إلخ". وعلَّق على قوله: "ثقات الشيعة .... " فقال: "راجع رسالة (الجرح والتعديل) للقاسمي، وكتاب (العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل) للسيد محمد بن عمر بن عقيل العلوي". وأجيب عن ذلك بما يلي: 1 ـ روى أهل السنَّة في كتبهم الحديثية عمَّن وُصف ببدعة مفسِّقة، قال الحافظ في مقدمة الفتح (ص: 385) عن هؤلاء: "فقد اختلف أهل السنَّة في قبول حديث مَن هذا سبيله إذا كان معروفاً بالتحرُّز من الكذب، مشهوراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 بالسلامة من خوارم المروءة، موصوفاً بالديانة والعبادة، فقيل: يُقبل مطلقاً، وقيل: يُردُّ مطلقاً، والثالث التفصيل بين أن يكون داعيةً أو غيرَ داعية، فيُقبل غير الداعية ويُردُّ حديث الداعية، وهذا المذهب هو الأعدل، وصارت إليه طوائف من الأئمَّة، وادَّعى ابن حبان إجماع أهل النقل عليه، لكن في دعوى ذلك نظر"، وفي كتاب التقريب للحافظ ابن حجر وغيره من كتب الرجال الإشارة إلى ذلك في كثير من التراجم. 2 ـ ما زعمه المالكي من توهين أهل السنَّة ـ ومنهم الحنابلة ـ للبخاري ومسلم مردودٌ؛ فإنَّ أهلَ السنَّة هم الذين يعرفون قدر هذين الإمامَين ويُعوِّلون على ما جاء في الصحيحين لهما، ويَعتبرون صحيحيهما أصحَّ الكتب المصنَّفة في الحديث، بخلاف أهل البدع، كالرافضة فإنَّهم يُعوِّلون على كتب أخرى لهم، ولا يُقيمون وزناً للصحيحين، والمالكي نفسه هو من أهل الأهواء يَقبل منهما ما يوافق هواه، ويقدحُ في غير ذلك، وقد مرَّ قريباً قدحُه في حديث صُلح الحسن رضي الله عنه، وحديث تحريق علي رضي الله عنه الزنادقة، وهما في صحيح البخاري، وحديث"خلق الله آدم على صورته" وهو في الصحيحين! 3 ـ أمَّا ما أشار إليه من الرجوع إلى كتاب"العتب الجميل" لمحمد بن عمر بن عقيل، فإنَّ الطيورَ على أشكالها تقع، ويكفي أن أنقلَ من كتاب "العتب الجميل" المشار إليه ما يدلُّ على خبث صاحبه وغلوِّه في البدع، فقد قال في (ص: 31) : "لم أتعرَّض في كتابي هذا لذكر تحامل بعضهم على عالي مقام مولانا أمير المؤمنين علي والحسَنَيْن وأمِّهما البتول عليهم سلام الله، ولا لرد ما مدحوا به زوراً عدوَّهم معاوية وأباه كهف المنافقين وأمَّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 آكلة الأكباد وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وسمرة بن جندب وأبا الأعور السلمي والوليد بن عقبة وأضرابهم، مِمَّن لو مُزجت مياه البحار بذرَّة من كبائر فظائعهم لأنتنت، وذلك لظهور فساده للعاقل المنصف، ولأنِّي قد ذكرتُ شيئاً من ذلك في كتاب (النصائح الكافية) ، ثم في كتاب (تقوية الإيمان) ... ". ففي كلامه هذا جفاء في عدد من الصحابة، منهم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وهو مِِمَّن قال الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ، وقال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النارَ إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها" أخرجه مسلم (2496) من حديث أمِّ مبشِّر رضي الله عنها، بل هو من أبرز أهل بيعة الرضوان؛ فإنَّه كان واقفاً على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم يحرسه، وبيده السيف، وذلك عند مجيء المشركين لعقد الصلح مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقد نقل ابن عقيل هذا في كتابه العتب الجميل (ص: 60) أبياتاً عن أحد شيوخه، آخرها قوله: قُلامة من ظفر إبهامه ... تعدل من مثل البخاري مائة والضمير فيه يرجع إلى الإمام جعفر الصادق رحمه الله، وهو واضحٌ في غلوِّ ابن عقيل وشيخه فيه، وجفائهما في الإمام البخاري رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 18 ـ ثناؤه على المأمون الذي نصر المبتدعة وآذى أهل السنَّة وذمُّه للمتوكِّل الذي نصر السنَّة وأنهى المحنة ذكر في (ص: 134) عنواناً بلفظ: "التناقض" أودعه هذياناً كثيراً في تناقض أهل السنَّة بزعمه، وسأقتصر على مثال واحد من ذلك، وهو قوله في (ص: 134 ـ 135) : "وتراهم يذمُّون السلطان إذا آذى أحد أتباعهم، وأنَّ هذا سلطان سوء، وينسون كل فضائله، كما فعلوا بالمأمون، وكان من أعدل ملوك بني العباس وأكثرهم علماً، فإذا جاء سلطان آخر أظهر نصرتهم يمدحونه بمبالغة ولو كان مبتدعاً ظالماً كالمتوكِّل، بل ويبدِّعون ويضلِّلون من يخالفه، ويرددون قواعد طاعة ولاة الأمور، وأن من لم يَدْعُ للإمام فهو صاحب بدعة!! ". وهذا الكلام من المالكي فيه ثناء على المأمون الذي نصر المعتزلة وامتحن الناس بخلق القرآن، وآذى أئمَّة أهل السنَّة، وفي مقدِّمتهم الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ وفي مقابل ذلك يذمُّ المتوكِّل الذي أنهى المحنة ونصر أهل السنَّة، وقد قال الذهبي في ترجمة المأمون وهو عبد الله بن هارون الرشيد المتوفى سنة (218هـ) في سير أعلام النبلاء (10/273) : "ودعا إلى القول بخلق القرآن وبالغ، نسأل الله السلامة"، وقال (10/283) : "أمَّا مسألة القرآن، فما رجع عنها، وصمَّم على امتحان العلماء في سنة ثماني عشرة وشدَّد عليهم، فأخذه الله". وقال ابن كثير في البداية والنهاية (14/217 ـ 218) : "أمَّا كونه على مذهب الاعتزال، فإنَّه اجتمع بجماعة، منهم بشر بن غياث المريسي، فأخذ عنهم هذا المذهب الباطل، وكان يحب العلم ولم يكن له بصيرة نافذة فيه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فدخل عليه بسبب ذلك الداخل، وراج عنده الباطل، ودعا إليه وحمل الناس قهراً عليه، وذلك في آخر أيامه وانقضاء دولته". أقول: وصدق الشاعر في قوله: ومَن جعل الغراب له دليلاً ... يَمر به على جيَف الكلاب وذكر ابن كثير (14/222 ـ 223) أنَّ فيه تشيعاً، وأنَّه يفضِّل عليًّا على أبي بكر وعمر وعثمان دون سبٍّ لهم، ولتشيُّعه وقوله بخلق القرآن قال فيه الذهبي في العبر: "وكان شيعيًّا جهميًّا". وهذا هو الذي أعجب المالكي منه؛ لأنَّه يوالي فرق الضلال ويُعادي أهل السنَّة، وقد أفصح المالكي عن سبب إعجابه بالمأمون وهو تشيعه، فقال (ص: 159) : "ولَمَّا تحالف المأمون مع المعتزلة ـ وكان متشيِّعاً محبًّا لعليِّ بن أبي طالب وأهل البيت ـ قام الحنابلة خاصّة بالانحراف عن الإمام علي وأهل بيته والتعصب لبني أميًَّة!! ". وأهل السنَّة ـ ومنهم الحنابلة ـ يُحبُّون عليًّا رضي الله عنه وأهل البيت جميعاً، بخلاف بعض أهل البدع فإنَّهم يغلون في علي وبعض أولاده، ويَجفون في غيرهم، ومنهم المالكي الذي زعم أنَّ العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله ليسَا من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ صحبتَهما كصحبة المنافقين والكفار، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وأمَّا المتوكِّل وهو جعفر بن المعتصم، المتوفى سنة (247هـ) ، فقد قال الذهبي في ترجمته في السير (12/31) : "قال خليفة بن خياط: استُخلف المتوكِّل، فأظهر السنَّةَ، وتكلَّم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة وبسط السنَّة ونصر أهلها"، وقال (12/32) : "وكان قاضي البصرة إبراهيم بن محمد التيمي، يقول: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر يوم الرِّدَّة، وعمر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 عبد العزيز في ردِّ المظالم من بني أميَّة، والمتوكِّل في مَحو البدع وإظهار السنَّة"، وقال ابن كثير في البداية والنهاية (14/454) : "وقد كان المتوكِّل محبَّباً إلى رعيَّته، قائماً بالسنَّة فيهم، وقد شبَّهه بعضُهم بالصدِّيق في ردِّه على أهل الرِّدَّة حتى رجعوا إلى الدِّين، وبعمر بن عبد العزيز حين ردَّ مظالم بني أميَّة، وهو أظهر السُّنَّة بعد البدعة، وأخمد البدعة بعد انتشارها واشتهارها، فرحمه الله". ومع هذا النصر للسنَّة وردِّ المظالم، يصفُ المالكيُّ المتوكِّلَ بأنَّه مبتدعٌ ظالِمٌ، وفي المقابل يصف المأمون الذي نصر المبتدعة وامتحن أهل السنَّة وآذاهم بأنَّه من أعدل الملوك، فالسنَّة عند المالكي بدعة، والبدعة سنَّة، بعد هذا أقول: أيُّ تناقض عند أهل السنَّة إذا ذمُّوا مَن أظهر البدعةَ ونصر أهلَها، وآذى أهلَ السنَّة وعذّب علماءَهم، ومنهم الإمام أحمد الذي يزعم المالكي أنَّه حنبلي نسبة إليه، وهو بريء منه، وفي مقابل ذلك مدحوا مَن أظهر السنَّة ونصر أهلَها، وأنهى المحنة بخلق القرآن؟! هل يريد المالكي من أهل السنَّة أن يعكسوا القضية، فيمدحون مَن آذاهم ويَذّمون مَن نصرهم، أو ماذا يريد منهم؟!! ولا شكَّ أنَّ الحامل للمالكي على هذا الكلام الذي مدح فيه من آذى أهل السنَّة وذمَّ مَن نصرهم، لا شكَّ أنَّ الحاملَ له على ذلك هو الحقد الذي تأجَّج في قلبه على أهل السنَّة، والمحبَّة والمولاة لأهل البدع والأهواء، بل إنَّ التناقض على الحقيقة من سمات أهل البدع والأهواء، ومنهم المالكي؛ فإنَّه يحصل منه التناقض في الكلام القليل، فيناقض آخرُه أوَّلَه، مثال ذلك قوله عن الاختلاف الذي حصل يوم السقيفة (ص: 43 ـ حاشية) : "ويرى البعض أنَّ هناك أسباباَ قبليَّةً وتعصُّباً لفئات وأشخاص، وليس اختلافهم لمصلحة الإسلام، ورغم عدم تسليمنا بل وإنكارنا لهذا القول من ناحية بحثيَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 بحتة؛ إذ لم يثبت هذا من حيث الرواية، إلاَّ أنَّه ليس هناك دليلٌ شرعي ولا عقلي يمنع من هذا؛ فالصحابة يعتريهم ما يعتري سائر البشر!!! ". فهذا الكلام لا يتجاوز ثلاثة أسطر، وآخره يناقض أوَّلَه، وهو مع ذلك فيه سوء ظنٍّ واضح بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعوذ بالله من الخذلان! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 19 ـ قدحُه في أهل السنَّة بعدم فهم حجَّة الآخرين والردُّ عليه ذكر المالكي في (ص: 137) عنواناً لفظه: "عدم فهم حجَّة الآخر" قال فيه: "مثل شبهتهم (يعني أهل السنَّة ومنهم الحنابلة) في النهي عن علم الكلام والجدل، مع أنَّهم يتناقضون ويُجادلون إذا تمكَّنوا من ذلك، لكن لهم شبهاً ضعيفة يَمنعون بها العلماء من الخوض في علم الكلام، بينما يعلِّمون العوام مصطلحات مستحدثة من علم الكلام، ويحسن أن أسردَ هنا نموذجاً للحوار معهم في جدوى علم الكلام للإمام أبي الحسن الأشعري، وكان يردُّ على غلاة الحنابلة في عصره الذين يحرِّمون علم الكلام نتيجة عدم فهمهم لوظيفة علم الكلام نفسه أو عدم فهمهم لحُجج الآخرين من المعتزلة وأصحاب الأشعري والكلابية وغيرهم، يقول أبو الحسن الأشعري في رسالته في (استحسان الخوض في علم الكلام) يرد على الحنابلة!! ". ثم نقل كلاما كثيراً من هذه الرسالة لأبي الحسن الأشعري. وأجيب عن ذلك من وجهين: الوجه الأول: أنَّ أبا الحسن الأشعري كان على مذهب المعتزلة في تأويل الصفات كلِّها، ثم صار إلى القول بإثبات بعضها وتأويل أكثرها، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 المذهب الذي اشتهر بالنسبة إليه، ثم في آخر أمره كان على مذهب أهل السنَّة، يعوِّل على النصوص لا على علم الكلام، ومن ذلك ما جاء في كتابه الإبانة فيما يتعلَّق بصفة الاستواء على العرش حيث قال في (ص: 86) : ((وقد قال قائلون من المعتزلة والجهميّة والحرورية: إنَّ قول الله عزَّ وجلَّ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أنَّه استولى ومَلَكَ وقَهَر، وأنَّ الله عزَّ وجلَّ في كلِّ مكان، وجحدوا أن يكون اللهُ عزَّ وجلَّ على عرشه كما قال أهلُ الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القُدرة، ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ فالله سبحانه قادرٌ عليها وعلى الحشوش وعلى كلِّ ما في العالَم، فلو كان اللهُ مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء ـ وهو عزَّ وجلَّ مستوٍ على الأشياء كلِّها ـ لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقْذار؛ لأنَّه قادرٌ على الأشياء مستولٍ عليها، وإذا كان قادراً على الأشياء كلِّها ولَم يَجُزْ عند أحد من المسلمين أن يقول إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مستوٍ على الحشوش والأخْلِيَة، لم يَجُز أن يكون الاستواءُ على العرش الاستيلاء الذي هو عامٌّ في الأشياء كلِّها، ووَجَبَ أن يكون معناه استواء يَختصُّ العرش دون الأشياء كلِّها". وعلى هذا فإنَّ المنقول من رسالة استحسان الخوض في علم الكلام لأبي الحسن الأشعري ـ رحمه الله ـ محمولٌ على ما كان عليه قبل صيرورته في آخر أمره إلى ما كان عليه أهل الحقِّ أهل السنَّة والجماعة. الوجه الثاني: أنَّ المالكيَّ نفسه من المخالفين لأهل السنَّة والجماعة، وقد أنكر عدالة الصحابة، وأنكر أن يكون كلُّ مَن أسلم بعد الحُديبية من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم عمُّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم العباس وابنه عبد الله، وزعم أنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 صحبة هؤلاء كصحبة المنافقين والكفار، وقد عرفتُ حُجَجَه المزعومة التي هي شُبَهٌ واهية، ورددتُها في كتابي"الانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي"، كما اشتمل كتاب"الانتصار لأهل السنة والحديث" هذا على ذكر أباطيله وشبهه وردِّها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 20 ـ زعمه غلوَّ أهل السنَّة في مشايخهم وأئمَّتهم والردُّ عليه أورد المالكي في (ص: 151) عنواناً بلفظ: "الغلو في شيوخهم وأئمَّتهم"، يريد بذلك أهل السنَّة ومنهم الحنابلة، قال في بدايته: "الغلوُّ ننكرُه على الصوفية إذا مدحوا الأولياء، ونُنكرُه على الشيعة عندما يغلون في أئمَّتهم الذين يدَّعون فيهم العصمةَ، ونُنكره على الأشاعرة عندما يُبالغون في مدح أبي الحسن الأشعري". ثمَّ ذكر أنَّهم يقعون في الذي عابوا به غيرهم، وذلك بغلوِّهم في شيوخهم وأئمَّتهم، وقد كان المالكي أتعب نفسه في قراءة ما أمكنه قراءتَه من كتب أهل السنَّة، خاصَّة الحنابلة؛ للبحث عن مثالب ومعايب ينفِّس عن نفسه بإبرازها والتنويه بها، وكان من جملة ما اصطاده وظفر به في هذه الجولة حكايات نقلها من مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي، فيها غلوٌّ في الإمام أحمد رحمه الله، ولا أدري هل غاب عن ذهن المالكي أو لم يغب أنَّ هناك فرقاً كبيراً بين مثل هذه الحكايات التي نقلها من مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي وبين ما هو موجود في كتب الرافضة من الغلو في أئمَّتهم؛ فإنَّ كتابَ ابن الجوزي ليس مرجعاً من مراجع أهل السنَّة، ولا يعرفه كثيرٌ من أهل السنَّة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وإنَّما المراجع لأهل السنَّة في العقيدة وغيرها الكتاب العزيز وما صحَّ من السنَّة، وفي مقدِّمة ذلك صحيح البخاري الذي هو أهمُّ الكتب الحديثية الصحيحة عند أهل السنَّة، يُماثله عند الرافضة الذين هم قدوة المالكي كتاب أصول الكافي للكليني، الذي اشتمل على مبالغة في الغلوِّ في الأئمَّة الاثني عشر، حيث وَصَفوهم بصفات لا يُوصَف بها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ومن الأبواب التي اشتمل عليها كتاب الكافي: ـ باب أنَّ الأئمة عليهم السلام خلفاء الله عزَّ وجلَّ في أرضه، وأبوابه التي منها يُؤتى (1/193) . ـ باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام هم العلامات التي ذكرها عزَّ وجلَّ في كتابه (1/206) . ـ باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام نور الله عزَّ وجلَّ (1/194) . ـ باب أنَّ الآيات التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في كتابه هم الأئمَّة (1/207) . ـ باب أنَّ أهل الذِّكر الذين أمر الله الخلقَ بسؤالهم هم الأئمَّة عليهم السلام (1/210) . ـ باب أنَّ القرآن يهدي للإمام (1/216) . ـ باب أنَّ النعمة التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في كتابه الأئمة عليهم السلام (1/217) . ـ باب عرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام (1/219) . ـ باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عزَّ وجلَّ، وأنَّهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها (1/227) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ـ باب أنَّه لم يجمع القرآن كلَّه إلاَّ الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّهم يعلمون علمه كلَّه (1/228) . ـ باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل عليهم السلام (1/255) . ـ باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون متى يموتون وأنَّهم لا يموتون إلاَّ باختيار منهم (1/258) . ـ باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنَّه لا يخفى عليهم الشيء صلوات الله عليهم (1/260) . ـ باب أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يعلِّم نبيَّه علماً إلاَّ أمره أن يعلِّمه أمير المؤمنين عليه السلام، وأنَّه كان شريكَه في العلم (1/263) . ـ باب أنَّه ليس شيء من الحقِّ في يد الناس إلاَّ ما خرج من عند الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّ كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل (1/399) . ومع هذه الطوام الكبرى عند الرافضة في كتاب من أصولهم المعتمدة يكون نصيبُهم من المالكي السلامة، بينما يكون نصيبُ أهل السنَّة منه الحقد وسلاطة اللسان وتصيد المثالب من كتاب مغمور لا يعرفه الكثيرون من أهل السنَّة. والإمام ابن تيمية له نصيب كبير من حقد المالكي، وقد غاظه وأزعجه إطلاق لقب شيخ الإسلام عليه، واعتبر ذلك من غلوِّ أهل السنَّة ـ ومنهم الحنابلة ـ في مشايخهم وأئمَّتهم، وأقول: إنَّه اشتهر تلقيبه بهذا اللقب لفضله وسعة علمه وكثرة نفعه، ولم يكن مختصًّا بإطلاق هذا اللقب عليه، بل أطلقه بعضُ العلماء على أئمَّة هدى قبله، وفي مقدِّمتهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد وصف ثعلب ـ أحد أئمَّة اللغة المتوفى سنة (291هـ) ـ أبا بكر رضي الله عنه بشيخ الإسلام كما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 تاريخ دمشق لابن عساكر (29/10) ، ووصف ابن القيم أبا بكر وعمر بشيخي الإسلام في كتابه إعلام الموقعين (1/216) ، وكذلك وصفهما بهذا المناوي في كتابه فيض القدير شرح الجامع الصغير (5/460) ، (6/133) ، ووصف الإمام أحمدُ بهذا الوصف أحمد بنَ عبد الله بن يونس أحد رجال الكتب الستة المتوفى سنة (227هـ) ، كما في ترجمته من تهذيب الكمال للمزي. ومع اكتئابه وغيظه لوصف ابن تيمية بهذا الوصف، فإنَّه لا يحرِّك ساكناً لوصف بعض أئمَّة الضلال من الرافضة بالآيات العظمى وحُجج الإسلام والمسلمين، وقد قال الشاعر: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أنَّ عين السخط تبدي المساويا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 21 ـ زعمه أنَّ نقضَ أهل السنَّة كلام غيرهم ردودُ أفعال، والردُّ عليه ذكر في (ص: 159) عنواناً بلفظ: "ردود الأفعال"، قال فيه: "لَمَّا قام تيار جهم بن صفوان بنفي الصفات قام الحنابلة والسلفية فجسَّموا، كما رأيتم في الفقرة الخاصة بالإسرائيليات والتجسيم، ولَمَّا مدح المعتزلةُ العقلَ قام الحنابلة وذمُّوا العقل، ولَمَّا توسَّع الأحناف في الرأي والقياس جاء الحنابلة بأحاديث وآثار في ذمِّ الرأي والقياس، وكان أحمد بن حنبل يقول: القرآن كلام الله، لا يزيد على ذلك، فلمَّا قال المعتزلة بخلق القرآن، قال أحمد: القرآن كلام الله غير مخلوق، وقال الحنابلة: إذا قلنا: القرآن كلام الله، ثم لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، لم يكن بيننا وبين هؤلاء الجهمية خلاف، أقول: وكأنَّ الخلاف مطلب وفضيلة نبحث عنها! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ولَمَّا تحالف المأمون مع المعتزلة ـ وكان متشيِّعاً محبًّا لعلي بن أبي طالب وأهل البيت ـ قام الحنابلة خاصة بالانحراف عن الإمام علي وأهل بيته، والتعصب لبني أمية، حتى وصل بهم الأمر ـ كما يُقرِّر ابن الجوزي ـ بالتعصُّب ليزيد بن معاوية، مع ما اشتهر عنه من ظلم وفجور!! ". وأجيب عن ذلك بما يلي: 1 ـ أنَّ ما حصل من أهل السنَّة عند ظهور البدع من مقاومة لها ليس هو مجرَّد كلام في مقابلة كلام، وإنَّما هو من قبيل بيان الحقِّ عند ظهور الباطل، وهذا واجب على أهل السنَّة، قال ابن القيم في تهذيب السنن مع عون المعبود (12/298 ـ 299) : "والذي صحَّ عن النَّبيِّ رضي الله عنه ذمُّهم من طوائف أهل البدع هم الخوارج، فإنَّه قد ثبت فيهم الحديث من وجوه كلّها صحاح؛ لأنَّ مقالتَهم حدثت في زمن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وكلمة رئيسهم، وأمَّا الإرجاء والرفض والقدر والتجهم والحلول وغيرها من البدع، فإنَّها حدثت بعد انقراض عصر الصحابة، وبدعة القدر أدركت آخر عصر الصحابة، فأنكرها مَن كان منهم حيًّا، كعبد الله بن عمر وابن عباس وأمثالهما رضي الله عنهم، وأكثرُ ما يجيء من ذمِّهم فإنَّما هو موقوف على الصحابة، من قولهم فيه، ثم حدثت بدعة الإرجاء بعد انقراض عصر الصحابة، فتكلَّم فيها كبار التابعين الذين أدركوها كما حكيناه عنهم، ثم حدثت بدعة التجهم بعد انقراض عصر التابعين، واستفحل أمرُها واستطار شرُّها في زمن الأئمَّة كالإمام أحمد، ثم حدثت بعد ذلك بدعةُ الحلول، وظهر أمرُها في زمن الحسين الحلاج، وكلَّما أظهر الشيطانُ بدعةً من هذه البدع وغيرها أقام اللهُ له من حزبه وجنده مَن يردُّها ويُحذِّر المسلمين منها؛ نصيحةً لله ولكتابه ولرسوله ولأهل الإسلام، وجعله ميراثاً يعرف به حزب رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي سننه من حزب البدعة وناصرها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وهذه مقتطفات من كلام الخطيب البغدادي في أوصاف أهل السنَّة والحديث من كتاب شرف أصحاب الحديث، قال في (ص: 8 ـ 9) : "وقد جعل الله تعالى أهلَه (أي الحديث) أركان الشريعة، وهدم بهم كلَّ بدعة شنيعة، فهُم أمناءُ الله من خليقته، والواسطة بين النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأمَّته، والمجتهدون في حفظ ملَّته ... وكلُ فئة تتحيَّز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأياً تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإنَّ الكتابَ عُدَّتُهم، والسنَّةَ حجَّتُهم، والرسولَ فئتُهم، وإليه نسبتهم، لا يعرِّجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يُقبل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حفظة الدِّين وخزنته، وأوعية العلم وحملتُه". وقال في (ص: 10) : "وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها، والله تعالى يذُبُّ بأصحاب الحديث عنها، فهم الحفَّاظ لأركانها، والقوَّامون بأمرها وشأنها، إذا صدف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون، أولئك حزب الله، ألا إنَّ حزب الله هم المفلحون". وعلى هذا، فإنَّ ردودَ أهل السنَّة على أهل البدع عند ظهور البدع هو من قَبيل بيان الحقِّ عند ظهور الباطل، وليس مجرَّد ردود أفعال كما هو التعبير العصري. 2 ـ قوله: "لَمَّا قام تيار جهم بن صفوان بنفي الصفات قام الحنابلة والسلفية فجسَّموا". وتعليقاً على ذلك أقول: نفي الجهمية الصفات الذي هو التعطيل يقابله الإثبات، والإثبات ينقسم إلى قسمين: إثباتٌ مع التشبيه، وهو باطل لا شكَّ فيه، وأهل السنَّة برآء منه، وإثبات مع تنزيه، وهو الحقُّ الذي لا ريب فيه، وقد جمع الله بين الإثبات والتنزيه في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فأثبت الله لنفسه السمعَ والبصرَ في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، ونفى مشابهة غيره له في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وقد مرَّ قريباً الردُّ على المالكي في زعمه الباطل أنَّ أهل السنَّة مجسِّمة ومشبِّهة. 3 ـ قوله: "ولَمَّا مدح المعتزلةُ العقلَ، قام الحنابلة وذموا العقل". أقول: أهل السنَّة لا يَذمُّون العقلَ على الإطلاق، وإنَّما يذمُّون العقلَ الذي يعارَض به النقل، والعقل السليم عندهم لا يُعارض النقل الصحيح، ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب واسع في ذلك، هو درء تعارض العقل والنقل. 4 ـ قوله: "ولَمَّا توسَّع الأحناف في الرأي والقياس جاء الحنابلة بأحاديث وآثار في ذمِّ الرأي والقياس". أقول: أهل السنَّة ومنهم الحنابلة لا يذمُّون الرأي والقياس على الإطلاق، وإنَّما يذمُّون الرأي والقياس المعارِضَيْن للدليل من الكتاب والسنَّة؛ لأنَّه لا اجتهادَ ولا قياس مع وجود النصِّ، وقال علي رضي الله عنه: "لو كان الدِّين بالرأي لكان أسفل الخفِّ أولى بالمسح من أعلاه" رواه أبو داود (162) وإسناده صحيح. وفي صحيح البخاري (7308) ، ومسلم (1785) عن سَهل بن حُنيف رضي الله عنه قال: "يا أيُّها الناس! اتَّهموا رأيَكم على دينكم ... ". وقال الإمام الشافعي كما في الروح لابن القيم (2/769) : "أجمع الناسُ على أنَّ من استبانت له سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدَعها لقول أحد". 5 ـ قوله: "وكان أحمد بن حنبل يقول: القرآن كلام الله، لا يزيد على ذلك، فلمَّا قال المعتزلة بخلق القرآن، قال أحمد: القرآن كلام الله غير مخلوق". أقول: نعم! لَمَّا قال المعتزلة: إنَّ كلام الله مخلوق، وهي من البدع المحدثة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ردَّ أهل السنَّة ومنهم الإمام أحمد هذه البدعة ببيان أنَّ القرآنَ كلامُ الله وأنَّه غير مخلوق، فهو من قبيل ردِّ الباطل عند ظهوره ببيان الحقِّ. 6 ـ قوله: "ولَمَّا تحالف المأمون مع المعتزلة ـ وكان متشيِّعاً محبًّا لعليِّ بن أبي طالب وأهل البيت ـ قام الحنابلة خاصّة بالانحراف عن الإمام علي وأهل بيته والتعصب لبني أميًَّة!! ". وتعليقاً على هذا أقول: أهل السنَّة والجماعة ـ ومنهم الحنابلة ـ ليسوا منحرفين عن الإمام علي رضي الله عنه، بل يُحبُّونه ويتولَّونه، ويعتقدون أنَّه أفضل هذه الأمَّة بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عن الجميع، وكذلك يتولَّون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم زوجاته وذريَّته وكلُّ مسلم ومسلمة من نسل عبد المطلب بن هاشم، وقد أوضحتُ ذلك في كتابي"فضل أهل البيت وعلوُّ مكانتهم عند أهل السنَّة والجماعة". وأمَّا دولة بني أميَّة فهم لا يتعصَّّبون لها، وهي وإن كان حصل من بعض ولاتها أمورٌ منكرة، فقد انتشر في عهدها الإسلام، وفتحت الفتوحات، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية إلى المحيط الأطلسي غرباً، وامتدَّت إلى الصين شرقاً، وكانت قوَّة الإسلام ومنعته في زمن الخلفاء الراشدين، ثم في أكثر مدَّة دولة بني أميَّة، وقد ثبت في صحيح مسلم (1821) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال الإسلامُ عزيزاً إلى اثني عشر خليفة"، فهؤلاء الخلفاء هم الخلفاء الراشدون الأربعة، وثمانية من بني أميَّة، كما في شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (ص: 737) ، وفتح الباري لابن حجر (13/214) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 22 ـ زعمه أنَّ أهل السنَّة لا يُدركون معنى الكلام، والردُّ عليه قال في (ص: 160) : "من السمات الغالبة على مذهبنا العقدي السلفي الحنبلي أنَّنا لا ندرك معاني الألفاظ والمصطلحات التي نتحدَّث بها، فتجد ألفاظاً ضخمة، فإذا سألتَ قائلَها عن معانيها إذا به يبهت، وأذكر ذات مرَّة أنَّ بعضَ الإخوة ـ جزاه الله خيراً ـ نصحني قائلاً: إنَّ ما أثيره من مقالات في التاريخ قد يُخالف عقيدة أهل السنَّة والسَّلف الصالح في الإمساك عمَّا شجر بين الصحابة، ولَمَّا ناقشته في هذه الجملة خرجت بنتيجة مفادها أنَّه لا يعلم معنى عقيدة ولا معنى أهل السنَّة ولا معنى السلف ولا معنى الصلاح ولا معنى الإمساك ولا معنى الصحابة، وهكذا يفعل أكثرنا؛ إذ تجد أحدَهم قد يحتج عليك بصفحات قد لا يعرف المعاني الصحيحة للألفاظ التي يتحدَّث بها، وتتردَّد عندنا في العقائد ألفاظ كثيرة ومصطلحات فضفاضة لا نعرف معناها أو على الأقل يختلف الناس في تحديدها من شخص لآخر، فنطلقها بلا تحديد، مثل: (السلف الصالح ـ أهل السنَّة ـ أهل الأثر ـ أهل الحديث ـ الطائفة المنصورة ـ البدعة ـ الإجماع ـ الضلالة ـ الأمة ـ علماء الأمة ـ الرافضة ـ الجهمية ـ الخوارج ـ النواصب ـ الشيعة ـ الكتاب ـ السنة ... إلخ) . وكذلك قول بعضهم: (عليك بما كان عليه الصحابة) ، نصيحة مطاطة؛ فإن كان يعرف أنَّ الصحابة قد اختلفوا في أمور كثيرة عقدية وفقهية وسياسية، فأيهم نتَّبع؟! فإن كان القائل لا يعرف اختلافهم، فهذه مصيبة، وإن كان يريد إجماعهم فلم يجمعوا إلاَّ على شيء معروف فيه نص شرعي غالباً، لكن أكثر دعاوانا في إجماعهم أنَّهم أجمعوا على أنَّ القرآن غير مخلوق، أو على تقديم أبي بكر أو علي وغير ذلك، إنَّما هي مجرَّد دعاوى تدل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 جهلنا بمعنى الإجماع، وجهلنا بالتاريخ نفسه؛ إذ أنَّ أكثرَ هذا افتراء عليهم، فقد كان الأمر بين غائب عنهم لم يبتوا فيه أو مختلف فيه بينهم!! ". وأجيب على ذلك بما يلي: 1 ـ قوله: "من السمات الغالبة على مذهبنا العقدي السلفي الحنبلي أنَّنا لا ندرك معاني الألفاظ والمصطلحات التي نتحدَّث بها"، قال هذا الكلام متحدِّثاً عن أهل السنَّة بدعوى أنَّه واحد منهم وهو أجنبيٌّ عنهم، وقد أوضحت بطلان دعواه أنَّه من أهل السنَّة وبراءة أهل السنَّة منه، وذلك بإيراد جمل من كلامه توضح بُعدَه عن أهل السنَّة، وبُعدهم عنه. 2 ـ ما زعمه من التقائه بأحد الإخوة الذي نصحه، وأنَّه تبيَّن له أنَّه لم يفهم معنى الكلام الذي نصحه به، فإن كانت هذه القصةُ صحيحةً، فلماذا لم يشرح له هذه الكلمات؟! ولماذا بخل على قرَّاء قراءته المزعومة في كتب العقائد فلم يفسِّر لهم هذه الكلمات (العقيدة، وأهل السنَّة، والسلف، والصلاح، والإمساك، والصحابة) ؟! وهذا الكلام منه من قبيل التهريج والتلبيس والتشويش. 3 ـ قوله: "وتتردَّد عندنا في العقائد ألفاظ كثيرة ومصطلحات فضفاضة لا نعرف معناها أو على الأقل يختلف الناس في تحديدها من شخص لآخر، فنطلقها بلا تحديد، مثل: (السلف الصالح ـ أهل السنَّة ـ أهل الأثر ـ أهل الحديث ـ الطائفة المنصورة ـ البدعة ـ الإجماع ـ الضلالة ـ الأمة ـ علماء الأمة ـ الرافضة ـ الجهمية ـ الخوارج ـ النواصب ـ الشيعة ـ الكتاب ـ السنة ... إلخ) !! ". أقول: هذه سبع عشرة كلمة زعم أنَّ أهل السنَّة يُطلقونها دون فهم لمعانيها، وهو كلام لا يحتاج إلى تعليق، لكن مع ذلك أقول: إنَّ لكلِّ خلفٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 سلفاً، ولكلِّ قوم وارثاً، فأهل السنَّة سلفهم الصحابة ومَن سار على نهجهم، وهؤلاء السلف لأهل السنَّة هم عند المالكي يُذادون عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُؤمَر بهم إلى النار، ولا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل هَمَل النَّعم، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ومع هذا الجفاء في الصحابة والحقد عليهم يكون نصيبُ الجهمية وغيرهم من أهل البدع منه الثناء والمدح، كما سبقت الإشارة إلى ذلك أيضاً، وعلى هذا فالسلف عند أهل السنَّة الصحابة ومَن تبعهم، والسلف عند المالكي أهل البدع كالجهمية الذين تباكى على قتل زعمائهم، وقد مرَّت الإشارة إلى ذلك، ولا ينتهي عجب المتعجِّب من زعم المالكي جهل أهل السنَّة معاني تلك الكلمات، لا سيما (الكتاب والسنة) التي لا يجهل معناها أحد، وليس لها معان متعدِّدة حتى يُجتهد في اختيار واحد منها، لكن قائل هذا الكلام قد شوى قلبَه الحقدُ على أهل السنَّة فقال ما قال. 4 ـ الصحابةُ رضي الله عنهم لم يختلفوا في العقائد كما زعم المالكي، وما جاء عن بعضهم من مثل الاختلاف في رؤية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ربَّه ليلة المعراج لا يعدُّ اختلافاً في رؤية الله، فإنَّهم متَّفقون على رؤية الله في الدار الآخرة، وأمَّا مسألة خلق القرآن التي ابتدعها الجهمية، فالمنقول عمَّن أدركها من السلف ردّها وإنكارها والقول بأنَّ القرآن غير مخلوق، وأهل السنَّة في مختلف العصور يُنكرون مقالة خلق القرآن، ولا خلاف عندهم في ذلك، وكذلك أيضاً فإنَّ الإجماعَ منعقدٌ على خلافة أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سبق بيان ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 23 ـ ما ذكره عن أهل السنَّة من ذمِّ المناظرة والحوار، والجوابُ عن ذلك قال في (ص: 162) تحت عنوان"ذم المناظرة والحوار": "الحوارُ والمناظرة كانت سائدة عند المعتزلة، وبحوارهم ومجادلتهم جلبوا لجمهورهم كثيراً من الناس، ويبدو أنَّه لَمَّا رأى الحنابلة هذا الأمر قد تفاقم وأنَّهم لا يستطيعون مناظرة المعتزلة قالوا بتحريم ذلك من باب ردة الفعل فقط فقط!! ". والجواب: أنَّ أهل السنَّة والجماعة يُعوِّلون على النصوص الشرعية من الكتاب والسنَّة، وأهل الأهواء والبدع يُعوِّلون على العقول وعلم الكلام المذموم، وهم لا يرغبون مناظرة أهل البدع الذين يُجادلون بالباطل، معوِّلين على العقول مع اتِّهامهم للنقول؛ إمَّا لأنَّها آحاد، أو أنَّها قطعية الثبوت ظنيَّة الدلالة، ومع ذلك فإنَّهم تحصل منهم المناظرة أحياناً، ومن أمثلة ذلك مناظرة عبد العزيز بن يحيى الكناني بشراً المريسي في مسألة خلق القرآن بحضرة المأمون، وتلك المناظرة هي موضوع كتاب الحيدة للكناني، والمالكي نفسه يعلم هذا، وقد ذكَر اسمَ هذا الكتاب في أول الكتب التي أوردها قائلاً إنَّ الحنابلة يعوِّلون عليها، وقد مرَّ ذكر كلامه في الردِّ عليه في قدحه في كتب أهل السنَّة، وقد أبطل الكناني في هذه المناظرة مقالة خلق القرآن من المنقول وبالمعقول، وقد انقطع بشر المريسي وخذله الله بحضرة المأمون، كما هو واضح في كتاب الحيدة. ومن ذلك مناظرة أبي إسحاق الإسفرائيني مع عبد الجبار المعتزلي في مسألة خلق أفعال العباد، قال عبد الجبار: سبحان مَن تنزَّه عن الفحشاء، وقصدُه أنَّ المعاصي كالسرقة والزنا بمشيئة العبد دون مشيئة الله؛ لأنَّ الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 أعلى وأجَلُّ من أن يشاء القبائح في زعمهم، فقال أبو إسحاق: كلمة حقٍّ أُريد بها باطل، ثم قال: سبحان مَن لا يقع في ملكه إلاَّ ما يشاء، فقال عبد الجبار: أتراه يخلقه ويُعاقبني عليه؟ فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبراً عليه؟ أأنتَ الرّبُّ وهو العبد؟ ‍ فقال عبد الجبار: أرأيتَ إن دعاني إلى الهدى وقضى عليَّ بالرَّّدَى، أتراه أحسن إليَّ أم أساء؟ فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه مُلكاً لك فقد أساء، وإن كان له: فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل، فبُهت عبد الجبار، وقال الحاضرون: والله، ما لهذا جواب! " (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، لشيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عند سورة الشمس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 24 ـ تشكيكه في ثبوت السنَّة والإجماع، وزعمه أنَّ أهل السنَّة يُزهِّدون في التحاكم إلى القرآن مع المبالغة في الأخذ بأقوال الرِّجال، والردُّ عليه قال في (164) تحت عنوان: "التزهيد في التحاكم إلى القرآن الكريم مع المبالغة في الأخذ بأقوال الرجال": "القرآن الكريم أعلى مصدر تشريعي عند المسلمين، فقد اختلف المسلمون في ثبوت السنة وفي الإجماع وفي القياس وفي قول الصحابي وفي غير ذلك، لكن لم يختلفوا أنَّ القرآن هو المصدر الرئيس الشرعي في كلِّ أمر من الأمور الدينية، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ، ففي الآية تحذير للمسلم بأنَّ من لم يرضَ بالتحاكم إلى الله والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فإنَّه يقدح في إيمانه بالله واليوم الآخر، وكان المخالفون للحنابلة أكثر تعظيماً للقرآن واستدلالاً به منهم، فلمَّا رأى الحنابلة ذلك وأنَّ القرآن الكريم تستدلُّ به الطوائف (المبتدعة!!) لجأوا إلى التزهيد من التحاكم إلى القرآن الكريم مع تضخيم الآثار والأقوال المنسوبة لبعض التابعين أو العلماء، بل وبدَّعوا من يعود إلى القرآن الكريم وقدَّموا عليه أقوال الرجال: يقول البربهاري: "إذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن فلا شكَّ أنَّه رجلٌ قد احتوى على الزندقة، فقُم من عنده ودَعْه". وقال: "وأنَّ القرآن أحوجُ إلى السنَّة من السنَّة إلى القرآن". أقول: السنَّة عظيمة المنزلة، لكن ليست أهمَّ من القرآن، وهي أحوجُ إلى القرآن، فالسنَّة تحاكم إلى القرآن، فيُعرفُ ما ثبت عن رسول الله وما لم يثبت؛ إذ أنَّ من منهج المحدِّثين في معرفة ضعف بعض متون السنة مخالفتها للقرآن الكريم. وقال (ص: 86) : "التكبير على الجنائز أربع، وهو قول مالك بن أنس وسفيان الثوري والحسن بن صالح وأحمد بن حنبل والفقهاء، وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم". أقول: انظروا كيف جعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم آخرَ هؤلاء!! وقال البربهاري أيضاً (ص: 115) : "وإذا سمعتَ الرجل يطعن على الآثار أو يردُّ الآثار أو يريد غير الآثار فاتَّهمه على الإسلام، ولا تشك أنَّه صاحب هوى مبتدع". أقول: وهل الذي يطعن على القرآن الكريم، أو لا يريد القرآن الكريم ويريد أقوال الرجال، هل هذا مبتدع أم لا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ثم على منهج البربهاري نفسه يُمكن لمعارضه أن يُبدِّعه؛ لأنَّه يترك الأحاديث الصحيحة ويلجأ للضعيفة والموضوعة وأقوال الرجال، ويُعارض بها كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصحيحة!! ". وأجيب عن ذلك بما يلي: 1 ـ إنَّ كتاب المالكي الذي أردُّ عليه وهو"قراءة في كتب العقائد" مملوءٌ بالحقد والغيظ على أهل السنَّة من أوَّله إلى آخره، ولكنَّه في هذا الموضع أظهر منتهى الحقد عليهم، مع الافتراء والكذب وقلب الحقائق. 2 ـ يصف المالكي أهل السنَّة بالتناقض كما مرَّ ذلك قريباً، وهنا يتناقض فيقول: "السنَّة عظيمة المنزلة" ومع هذا يشكِّك في ثبوتها فيقول: "فقد اختلف المسلمون في ثبوت السنَّة!! ". 3 ـ طعن في ثبوت السنَّة وزعم أنَّ المسلمين اختلفوا في ثبوتها، فقال: ((فقد اختلف المسلمون في ثبوت السنَّة"، ولَم يُبيِّن هذا الاختلاف، ومن المعلوم المقطوع به أنَّ أهل السنَّة والحديث يُؤمنون بالسنَّة كما يؤمنون بالقرآن، ويعملون بما فيهما، والعمل بالسنَّة قد أمر الله به في القرآن، فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} ، والسنَّةُ هي المتلقاة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اشتملت عليها دواوين السنَّة، وأبرزها الصحيحان للإمامَين البخاري ومسلم رحمهما الله، وقد اشتمل كتاب صحيح البخاري على سبعة وتسعين كتاباً، منها كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ولعلَّ المالكي يريد بالاختلاف في ثبوت السنة خلاف الرافضة لأهل السنَّة؛ فإنَّ السنَّة عندهم سنَّةُ الأئمَّة المعصومين، وهي غير السنة عند أهل السنَّة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ويُماثل صحيح البخاري عندهم"الأصول من الكافي"، ومن ضمن أبوابه (1/399) : "باب أنَّه ليس شيء من الحقِّ في يد الناس إلاَّ ما خرج من عند الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّ كلِّ شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل!!! ". وقول المالكي بعد زعمه اختلاف المسلمين في ثبوت السنَّة: "لكن لم يختلفوا أنَّ القرآن الكريم هو المصدر الرئيس الشرعي في كلِّ أمر من الأمور الدينية، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ، ففي الآية تحذير للمسلم بأنَّ من لم يرضَ بالتحاكم إلى الله والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنَّه يقدح في إيمانه بالله واليوم الآخر". وأقول: إنَّ هذه الآيةَ التي استدلَّ بها تدلُّ على الردِّ إلى القرآن والسنَّة، فالردُّ إلى الله ردٌّ إلى الكتاب، والردُّ إلى الرسول ردٌّ إلى السنَّة، وهي المتلقاة عن أصحابه الكرام الذين هم خيرُ القرون. 4 ـ زعم أنَّ الإجماع مختلف في ثبوته، ويقصد بذلك اختلاف جميع فرق الضلال مع أهل السنَّة؛ كما أوضح ذلك في كتابه السيِّء عن الصحابة، حيث قال في (ص: 61 ـ الحاشية) : "لأنَّ أقوى دليل للذين يرون الإجماع هو الحديث المشهور:"لا تجتمع أمَّتي على ضلالة"، والحديث وإن كان فيه كلام من حيث الثبوت، لكن الأمَّة فيه لا تعني بعض الأمًَّة، وإنَّما كلّ أمَّة الإجابة، كلّ المسلمين باختلاف مذاهبهم الفقهية والعقدية والسياسية، ومن زعم بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أراد من (أمَّتي) أنَّها تعني المحدِّثين وأصحاب المذاهب الأربعة فقد جازف .... !! ". 5 ـ افترى على أهل السنَّة كذباً وزوراً أنَّهم يُزهِّدون في التحاكم إلى القرآن الكريم مع المبالغة في الأخذ بأقوال الرجال، كما عنون بذلك، وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 "وكان المخالفون للحنابلة أكثر تعظيماً للقرآن واستدلالاً به منهم، فلمَّا رأى الحنابلة ذلك وأنَّ القرآن الكريم تستدلُّ به الطوائف (المبتدعة!!) لجأوا إلى التزهيد من التحاكم إلى القرآن الكريم مع تضخيم الآثار والأقوال المنسوبة لبعض التابعين أو العلماء، بل وبدَّعوا من يعود إلى القرآن الكريم وقدَّموا عليه أقوال الرجال". وهذا بهتان بيِّنٌ وإفكٌ مبين، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِينا} ً، وهو أيضاً قلبٌ للحقائق، ووضعٌ لِمَن رفعه الله ورفعٌ لِمَن وضعه، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ، وما أشبه صنيعه في قلب الحقائق بقول الشاعر كما في معجم الأدباء لياقوت الحموي (17/198) : قد قُدِّم العَجْبُ على الرُّوَيس ... وشارف الوهد أبا قُبيسِ وطاول البقل فروعَ المَيْس ... وهبت العنز لقرع التيس وادَّّعت الروم أباً في قيس ... واختلط الناس اختلاط الحيس إذ قرا القاضي حليف الكيس ... معاني الشعر على العبيسي والمعنى في البيت الأول تقديم عَجْب الذنب على الرأس، وأنَّ المكان المنخفض يُطاوِلُ المكان المرتفع، وأبو قُبيس: جبل عال بمكة. 6 ـ قوله: "بل وبدَّعوا من يعود إلى القرآن الكريم وقدَّموا عليه أقوال الرجال: يقول البربهاري: (إذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن فلا شكَّ أنَّه رجلٌ قد احتوى على الزندقة، فقُم من عنده ودَعْه) ، وقال: (وأنَّ القرآن أحوجُ إلى السنَّة من السنَّة إلى القرآن") . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وأقول: أهل السنَّة لَم يُبدِّعوا من يعود إلى القرآن الكريم، وإنَّما بدَّعوا مَن يأخذ به ولا يأخذ بالسنَّة، ومِمَّا يدلُّ على ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، وقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث المقدام بن معد يكرب: "ألا إنِّي أوتيتُ الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن؛ فما وجدتم فيه من حلال فأحلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه، ألا لا يَحلُّ لكم لَحمُ الحمار الأهلي، ولا كلُّ ذي ناب من السَّبُع، ولا لقطةُ مُعاهد إلاَّ أن يستغني عنها صاحبُها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يَقْرُوه، فإن لَم يَقرُوه فله أن يُعْقِبَهم بمثل قِراه"، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي رافع: "لا أُلفيَنَّ أحدَكم متَّكئاً على أريكتِه، يأتيه الأمرُ من أمري مِمَّا أمرتُ به أو نهيتُ عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتَّبعناه"، وهما حديثان صحيحان، أخرجهما أبو داود في سننه في"بابٌ في لزوم السنَّة" (4604) ، (4605) ، وأخرجهما أيضاً الترمذي وابن ماجه. وأمَّا قول البربهاري في حاجة القرآن إلى السنَّة فعبارته هكذا: "وأنَّ القرآنَ إلى السنَّة أحوج من السنَّة إلى القرآن"، وليس فيها تزهيدٌ في القرآن، بل المعنى فيها واضح، وهو أنَّ السنَّة هي التي تبيِّن القرآن وتوضحه وتدلُّ عليه، وليس القرآن هو الذي يوضحها ويُبيِّنها، ومن ذلك أنَّ القرآن الكريم جاء فيه الأمر بإقامة الصلاة، ثم جاءت السنَّة مبيِّنة عدد الصلوات وأنَّها خمس، وبيان عدد الركعات في كلِّ صلاة منها، وبيان ما فيها من قيام وركوع وسجود وجلوس، وما يُشرع قراءته وقوله فيها، وقد أرشد إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي"، وقال مثل ذلك في الحجِّ: "خذوا عنِّي مناسككم"، ومن ذلك الزكاة، فقد جاء القرآن بالأمر بإيتائها، وجاء في السنَّة بيان الأموال التي تُزكَّى ومقدار الأنصباء ومقدار ما يُخرج من الزكاة، وهكذا في العبادات والمعاملات وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 7 ـ قوله: وقال (أي البربهاري) (ص: 86) : "التكبير على الجنائز أربع، وهو قول مالك بن أنس وسفيان الثوري والحسن بن صالح وأحمد بن حنبل والفقهاء، وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم". أقول: انظروا كيف جعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم آخرَ هؤلاء!! ". وأقول: انظروا إلى نار الحقد المشتعلة في قلب هذا المالكي على أهل السنَّة، حتى كاد يتميَّز من الغيظ؛ فليس في كلام البربهاري ذكر أسماء جُعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في آخرها، وإنّما فيه ذكر مسألة التكبير على الجنائز، وبعضُ من قال بأنَّ التكبيرات عليها أربع، ثم ذكر الدليل على ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك حديث صلاته على النجاشي في المصلى، وتكبيره أربع تكبيرات، أخرجه البخاري (1333) ، ومسلم (951) ، وهذه هي الطريقة التي سلكها العلماء في الاستدلال، فيُذكر القول ومن قال به، ثم الدليل على ذلك، والمالكي لا يخفى عليه ذلك، لكن الحقد على أهل السنَّة دفعه إلى ما قاله، وسبق أنَّه ذكر عند زعمه نقد المذهب الحنبلي في العقيدة أنَّ من أسباب ذلك تعلُّم الإنصاف وتعليمه، وهذا مثال واحد من أمثلة بُعده عن الإنصاف، وأنَّه في وادٍ والإنصافُ في واد آخر، بل هو في الثرى والإنصاف في الثريَّا. 8 ـ قوله: "وقال البربهاري أيضاً (ص: 115) : "وإذا سمعتَ الرجل يطعن على الآثار أو يردُّ الآثار أو يريد غير الآثار فاتَّهمه على الإسلام، ولا تشك أنَّه صاحب هوى مبتدع". أقول: وهل الذي يطعن على القرآن الكريم، أو لا يريد القرآن الكريم ويريد أقوال الرجال، هل هذا مبتدع أم لا؟! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وأقول: هذا اتِّهامٌ واضح لأهل السنَّة بأنَّهم يطعنون في القرآن، وأنَّهم لا يُريدونه ويريدون أقوال الرجال، وهو مثل العنوان الذي ذكره في أوَّل هذا الموضع، وهو"التزهيد في التحاكم إلى القرآن الكريم مع المبالغة في الأخذ بأقوال الرجال"، وإذا كان أهل السنَّة هم الذين يطعنون في القرآن ولا يريدونه، فمَن الذي يأخذ بالقرآن ومن الذي يريده سواهم، لا شكَّ أنَّ هذا من الإفك المبين والظلم الواضح وقلب الحقائق، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 25 ـ زعمه أنَّ أهل السنَّة يُزهِّدون في كبائر الذنوب والموبقات، والردُّ عليه قال في (ص: 166) : "التزهيد والتساهل في كبائر الذنوب والموبقات مع التشدُّد في أمور مختلف فيها، وهذا خلاف نصوص القرآن الكريم فضلاً عن السنَّة: قال البربهاري: "إذا رأيتَ الرجل من أهل السنَّة رديء المذهب والطريق، فاسقاً فاجراً صاحب معاصي ضالاًّ وهو على السنَّة فاصحبه واجلس معه؛ فإنَّه ليس يضرُّك معصيته، وإذا رأيتَ الرَّجلَ مجتهداً في العبادة متقشِّفاً محترقاً بالعبادة صاحب هوى فلا تجالسه ولا تمشي معه في طريق". وقال أيضاً: "لأن تلقى اللهَ زانياً فاسقاً خائناً أحبّ إليَّ من أن تلقاه بقول فلان وفلان". أقول: ويقصد بفلان وفلان علماء الحنفية أو المعتزلة أو المختلفين مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الحنابلة، لكن البربهاري يلقانا بقوله وقول الأوزاعي وحماد بن زيد، وهم ـ على فضلهم ـ بشر يصحُّ أن يُقال فيهم فلان وفلان، وهذا تناقض، ولا بدَّ من منهج يحمي من التناقض!!! ". والجواب: أنَّ أهل السنَّة لا يُزهِّدون في كبائر الذنوب، وإنَّما الذين يُزهِّدون فيها هم المرجئة، الذين يقولون: لا يضرُّ مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فيأخذون بنصوص الوعد، ويُهملون نصوص الوعيد، وأمَّا أهل السنَّة فيأخذون بنصوص الوعد والوعيد جميعاً، فلا يأخذون بنصوص الوعد فقط، كما فعلت المرجئة، ولا بنصوص الوعيد فقط كما فعلت الخوارج والمعتزلة، ويقولون عن مرتكب الكبيرة: مؤمن ناقص الإيمان، وليس كاملَ الإيمان كما قالت المرجئة، ولا خارجاً من الإيمان كما قالت الخوارج والمعتزلة. وأمَّا ما جاء عن بعض السلف من التحذير من البدع، وبيان أنَّها أسوأُ من المعاصي، فليس ذلك تزهيداً في المعاصي، بل لبيان التفاوت الكبير بين البدع والمعاصي، وإنَّما كانت البدعُ أشدَّ خطراً من المعاصي؛ لأنَّ المعاصي من أمراض الشهوات، والبدعَ من أمراض الشبهات، ولأنَّ العاصي يَشعُر بأنَّه مذنبٌ فيتوب من معصيته، وأمَّا المبتدع فقد يستمرُّ على بدعته حتى يموت عليها؛ لأنَّه يرى أنَّه على حقٍّ وهو على باطل، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، وقد جاء في السنَّة وأقوال الصحابة ما يوضح ذلك، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله حَجَبَ التوبةَ عن كلِّ صاحب بدعة حتى يَدَع بدعتَه"، قال المنذري في الترغيب والترهيب (1/45) : "رواه الطبراني وإسناده حسن"، وقد أورده الألباني في السلسلة الصحيحة (1620) ، وعزاه إلى الطبراني في الأوسط وغيره، وذكر أنَّ رجالَه رجال الشيخين إلاَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 هارون بن موسى، وقد قال فيه النسائي وتبعه الحافظ في التقريب: "لا بأس به"، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "ثقة". وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لأن أحلفَ بالله كاذباً أحبُّ إليَّ من أن أحلف بغيره صادقاً"، وهو أثرٌ صحيح، أخرجه الطبراني في الكبير، وأورده الألباني في الإرواء (2562) ، وقال في إسناده: "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 26 ـ زعمه أنَّ أهل السنَّة يتساهلون مع اليهود والنصارى مع التشدُّد مع المسلمين، والردُّ عليه قال في (ص: 167) : "من سمات كتب العقائد عند غلاة الحنابلة أنَّهم يتساهلون مع اليهود والنصارى، ويُفضِّلون مخالطتهم ومآكلتهم على إخوانهم المسلمين، نقل البربهاري أثراً (ص: 139) يقول: (آكلُ مع يهودي ونصراني ولا آكل مع مبتدع) !! ". والجواب: أنَّ أهل السنَّة يُحذِّرون من الكفَّار، ويُحذِّرون من المنافقين الذين يكونون بين المسلمين مِمَّن يُظهر الإيمانَ ويُبطن الكفرَ، ويُحذِّرون من أصحاب البدع والأهواء، ولا شكَّ أنَّ أهلَ البدع والأهواء الذين لا تصل بدعتهم إلى الكفر ليسوا مثل اليهود والنصارى؛ لأنَّهم إن دخلوا النارَ لبدعهم يَخرجون منها ويدخلون الجنَّة، بخلاف الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، فهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبداً، لكن المنافقين الذين يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر شرٌّ من اليهود والنصارى؛ لأنَّهم في الدَّرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الأسفل من النار، ويُمكن أن يكون في بعض المنتسبين إلى الإسلام مَن هو شرٌّ من اليهود والنصارى في بعض الخصال، ومن أمثلة ذلك أنَّ المالكيَّ نفسَه يزعم أنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذادون عن حوضه ويُؤخذون إلى النار، ولا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل هَمَل النَّعم، كما ذكر ذلك في كتابه السيِّء في الصحابة، وهو في ذلك أسوأ من اليهود والنصارى؛ لأنَّهم لا يقولون في أصحاب موسى وعيسى مثلَ مقالته القبيحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم وأرضاهم، وقد قال شارح الطحاوية (ص: 469) : "فمَن أضلُّ مِمَّن يكون في قلبه غِلٌّ على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيِّين، بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة؛ قيل لليهود: مَن خيرُ أهل مِلَّتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل للنصارى: مَن خير أهل مِلَّتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى، وقيل للرافضة: مَن شرُّ أهل ملَّتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد!! ولم يستثنوا منهم إلاَّ القليل، وفيمَن سبُّوهم مَن هو خيرٌ مِمَّن استثنوهم بأضعاف مضاعفة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 27 ـ زعمه أنَّ قاعدة (اتِّباع الكتاب والسنة بفهم سلف الأمَّة) باطلة، وأنَّها بدعةٌ، والردُّ عليه قال في (ص: 178 ـ 181) تحت عنوان: "الاستدراك على الشرع (أو بدعة اشتراط فهم السلف) : "ترى أصحاب العقائد وأخصُّ هنا أصحابنا السلفية يشترطون شروطاً ليس (كذا) في كتاب الله ولا سنَّة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليقطعوا به كلَّ آمال الاتفاق، فالله عزَّ وجلَّ أرشدنا عند اختلافنا مع المسلمين أن نرجع للكتاب والسنَّة، لقوله تعالى: {فَإِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، فلمَّا رأى أصحاب العقائد ومنهم السلفية الحنابلة أنَّ العودةَ للكتاب والسنَّة سيلغي أكثرَ الشتائم والتكفيرات والتبديعات والمخالفات الموجودة في كتب العقائد لجأوا إلى الزيادة على ما ذكره الله عزَّ وجلَّ بقولهم: "إنَّ الكتاب والسنَّة لا تكفي فلا خير في كتاب بلا سنَّة، ولا خير في سنَّة بلا فهم السلف الصالح"!! وهكذا نفوا الخيرية عن الكتاب والسنَّة بهذا الشرط البدعي الذي اشترطوه، وانتقصوا به من كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أقول: ولا أدري هنا ماذا يقصدون بـ (فهم السلف) إن كانوا يقصدون الصحابة فقد اختلف الصحابة في فهم كثير من العقائد والأحكام فبأيِّ فهم نلتزم؟! وإن كانوا يقصدون اتباع ما فهمه الصحابة كلهم فهذا لا يخالف فيه أحد لكن حصول هذا الإجماع في الفهم صعب بل مستحيل إلاَّ في أمر دليله واضح. وإن قصدوا اتِّباع فهم آحاد السلف فيما لم يختلفوا فيه (كذا) ، قيل لهم اختلافهم في الفهم دليل على أنَّ فهمهم يخطئ ويصيب؟! فإذا كان كذلك فمن يضمن لنا أنَّ فهم الآحاد منهم ليس من القسم الذي أساءوا فهمه؟! وقد فهم عدي بن حاتم من الآية الكريمة: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فهماً خاطئاً ردَّه عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وفهمت زوجات النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أوَّلكنَّ لحوقاً بي أطولكنَّ يداً" على الحقيقة، بينما هذا كان مجازاً فهو كناية عن الإنفاق والصدقة، ففهمت ذلك زينب بنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 جحش فقط، أمَّا بقيَّة أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يفهمن هذا الفهم. وهكذا قصص كثيرة في اختلاف الصحابة ـ فضلاً عن غيرهم ـ في فهم بعض النصوص القرآنية والحديثية. ثم إنَّ هذا الفهمَ لم يقل به أحد من الصحابة، فلم يقل أحد منهم للتابعين: إذا فهمتم من آية كريمة فهماً فلا تأخذوا به حتى تنظروا ماذا نفهم منها؟! فالقاعدة المشهورة (الكتاب والسنة وبفهم سلف الأمَّة) باطلةٌ بإجماع سلف الأمَّة من المهاجرين والأنصار الذين لم يشترطوها واكتفوا بما ذكره الله عزَّ وجلَّ من التحاكم للقرآن والسنَّة، أمَّا زيادة اشتراط الفهم فهو استدراك قبيح على الآية الكريمة. أمَّا آلية الفهم فلا تتمُّ بتقليد صحابي ولا تابعي، وإنَّما بالنظر في الآيات والأحاديث الصحيحة التي تتحدَّث عن الموضوع نفسه، والعودة بعد ذلك للآثار ولغة العرب وكل ما يساعد في تجلية المعنى وما إلى ذلك. فتحصيل الفهم يتمُّ عبر سبل كثيرة قد يجوز إدخال (فهم آحاد السلف) في هذه السبل للترجيح فقط، لكن لا يجوز الاقتصار عليه، كيف والقرآن الكريم يأمرنا بالتدبُّر والتفكُّر؟ ثم هؤلاء القائلون بفهم السلف هم أوَّل من يُخالف السلف إذا فهموا شيئاً خلاف ما هم عليه!! ومعظم ما كتبوه في العقائد كان خلاف فهم السلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان. راجع المسائل السابقة التي في هذا الكتاب ثم فتِّش في سير الصحابة والتابعين وانظر مَن منهم فضَّل الآثار وأقوال الرجال على القرآن الكريم؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ومن منهم جعل المسلمَ شرًّا من اليهودي والنصراني؟! ومن منهم كفَّر المسلمين؟! ومن منهم تسمَّى بغير الإسلام؟! ومن منهم زهَّد في كبائر الذنوب؟! ومن منهم غلا في علمائهم وكبارهم؟! ومن منهم أفتى باغتيال المخالفين له في الرأي؟! ومن منهم شبَّه الله بخلقه؟! ومن منهم ركَّز على الجزئيات وترك الأصول؟! ومن ومن ... إلخ. فنحن لا مع القرآن ولا مع السنَّة ولا مع فهم السلف الصالح!! وكلُّ ما عندنا من الأمور دعاوى نقنع بها العوام لا دليل عليها من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل ولا السلف الصالح (وهم عندي المهاجرون والأنصار ومن كان على نهجهم فقط) . فالقرآن أوَّلاً والسنَّة الصحيحة ثانياً، هما المقياسان الرئيسان وتأتي بعد ذلك مقاييس أخرى من أقوال جمهرة المهاجرين والأنصار أو قول جمهور الصحابة واختيارات علمائهم الكبار، أمَّا الإجماع فلن يمكن إلاَّ حصوله (كذا) ومعه نص شرعي فيما يظهر، فهذه المقاييس نقيس بها كلَّ الرجال كأحمد بن حنبل وأبا حنيفة (كذا) والشافعي ومالك والبربهاري وغيرهم، كلُّ هؤلاء الرِّجال يجب أن يخضعوا لمعيار القرآن وما صحَّ من السنَّة، كلُّ هؤلاء تحت القرآن والسنَّة لا فوقها، وهذا هو طريق وفهم السلف من الصحابة الكبار، فلم يكن عندهم أحد فوق القرآن وما صحَّ من السنَّة، فمَن لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 على هذا المنهج فليس على منهج الصحابة ولا (السلف الصالح) ولا يجوز أن يدَّعي كذباً وزوراً الانتساب لمنهج المهاجرين والأنصار، ولا يجوز له أن يتشدَّق بمنهج لا يعرفه ولا يضبط معاييره وملامحه ... فالكلام سهل وبسبب الكلام اختلفت فرق الأمَّة وتفاخرت بالألقاب والمناهج!! ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه!! وهذا التخبط عندنا ـ كما أسلفت ـ له علافة بالألفاظ التي نردِّدها ولا نعرف معناها فـ (الفهم) لا نفهمه ولا نعرف معناه ولا معاييره ولا آليات تحصيله، وكذلك السلف الصالح نذهب إلى البربهاري وعبد الله بن أحمد وابن تيمية وننسى الصحابة من المهاجرين والأنصار، فالبربهاري وابن بطة عندنا من السلف بينما الصحابة ليسوا من السلف، ولو كانوا عندنا من السلف الصالح لما خالفناهم في فهم الإسلام وفي الأمور التي سبق شرحها". وأجيب بما يلي: 1 ـ ساق هذا الكلام الكثير المتناقض لبيان عدم اعتبار فهم السلف الصالح لنصوص الكتاب والسنَّة؛ لأنَّ التقيُّدَ بهذا الفهم يمنع من الانفلات في الفهوم الخاطئة، ويُمكِّن من التمرُّد على ما كان عليه سلف هذه الأمَّة من الصحابة ومَن سار على نهجهم، وعلى هذا فالأخذ بالكتاب والسنَّة على فهم السلف يعتبره المالكي بدعةً، ويعتبره أهل السنَّة حقًّا واضحاً جليًّا، فالسنَّة عند المالكي بدعة، والبدعة عنده سنَّة. 2 ـ ليس فهم نصوص الكتاب والسنَّة وفقاً لفهم السلف استدراكاً على الشرع، وإنَّما هو أخذٌ بالحقِّ واتِّباع لسبيل المؤمنين، وأهل السنَّة لا يقولون بعدم كفاية الكتاب والسنَّة كما زعم، بل هم الذين يقولون بالتعويل عليهما، لكن على فهم السَّلف وليس على فهم غيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 3 ـ لم يختلف الصحابةُ في فهم العقيدة، بل هم فيها على صراط مستقيم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ، ويتَّضح ذلك من كلام المقريزي الذي سيأتي ذكرُه بعد قليل. 4 ـ قاعدة التعويل على فهم سلف الأمَّة لنصوص الكتاب والسنَّة لا يؤثِّر فيها ما زعمه المالكي من وجود أخطاء حصلت من بعض الصحابة في فهم النصوص، وهي في الحقيقة ليست بأخطاء، فالذي ذكره عن عديِّ بن حاتم رضي الله عنه من الفهم للخيط الأسود والأبيض كان قبل نزول قوله {مِنَ الْفَجْرِ} ، ففي صحيح البخاري (4511) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "أنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ} ، وكان رجالٌ إذا أرادوا الصومَ ربط أحدُهم في رجليه الخيطَ الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبيَّن له رؤيتهما، فأنزل الله بعده: {مِنَ الْفَجْرِ} ، فعلموا أنَّما يعني الليل من النهار". وعلى هذا فعديٌّ رضي الله عنه لم يفهم الآيةَ فهماً خاطئاً كما زعم المالكي، وأوهم أنَّ الآيةَ نزلت كاملة؛ فإنَّ فهمَ عديٍّ رضي الله عنه كان قبل نزول قوله {مِنَ الْفَجْرِ} ، كما اتَّضح من سياق الحديث. وأمَّا ما ذكره من فهم أكثر أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "أوَّلكُنَّ لحوقاً بي أطولكنَّ يداً" أنَّ المرادَ اليد الحقيقية، وأنَّ زينبَ بنت جحش رضي الله عنها فهمت طولَ اليد بالصدقة، فليس الأمر كما زعم من أنَّ زينبَ فهمت ذلك، بل قد فهم أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم لَمَّا ماتت زينب بعده صلى الله عليه وسلم أنَّ المراد طول اليد بالصدقة، ففي صحيح مسلم (2452) عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسرعكُنَّ لحاقاً بي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 أطولكنَّ يداً، قالت: فكنَّ يتطاولنَّ أيَّتهنَّ أطول يداً، قالت: فكانت أطولنا يداً زينب؛ لأنَّها كانت تعمل بيدها وتصدَّق". وأمَّا ما جاء في صحيح البخاري (1420) عن عائشة رضي الله عنها: "أنَّ بعضَ أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قلن للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أيُّنا أسرع بك لحوقاً؟ قال: أطولكنَّ يداً، فأخذوا قصبة يذرعونها، فكانت سودةُ أطولَهنَّ يداً، فعلمنا بعدُ أنَّما كانت طول يدها الصدقة، وكانت أسرعنا لحوقاً به وكانت تحبُّ الصدقة"، فيُفهم منه أنَّ سودةَ رضي الله عنها أطولهنَّ يداً حقيقة، ثمَّ لَمَّا ماتت زينب قبل غيرها من أمَّهات المؤمنين عُلم أنَّ المراد بطول اليد طولها بالصدقة، فكانت رواية مسلم مفسِّرةً لرواية البخاري. وقد قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث عند البخاري: " (فعَلِمْنا بعدُ) أي: لَمَّا ماتت أولُ نسائه به لحوقاً"، وقال أيضاً: "ويؤيِّده أيضاً ما روى الحاكم في المناقب من مستدركه من طريق يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: "أسرعكنَّ لحوقاً بي أطولكنَّ يداً، قالت عائشة: فكنَّا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نَمدُّ أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، وكانت امرأةً قصيرةً ولَم تكن أطولَنا، فعرفنا حينئذ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما أراد بطول اليد الصدقة، وكانت زينبُ امرأةً صنَّاعة باليد، وكانت تدبغ وتخرز وتصدَّق في سبيل الله) ، قال الحاكم: على شرط مسلم، انتهى، وهي رواية مفسِّرة مبيِّنة مرجِّحة لرواية عائشة بنت طلحة في أمر زينب". وقوله صلى الله عليه وسلم: "أسرعكنَّ لحوقاً بي أطولكنَّ يداً" هو لفظ محتمل لمعنيين، وهو في أحدهما أظهر من الآخر، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أراد أحدَهما، وفهم أزواجُه صلى الله عليه وسلم المعنى الآخر، ولا يُقال عن فهم أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّه خطأ؛ لأنَّه المتبادَر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 من اللفظ، وإنَّما يُقال: تبيَّن فيما بعد عند وفاة زينب رضي الله عنها أنَّ ما فهمنه لم يكن مطابقاً لما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا يتبيَّن أنَّ ما ذكره المالكي من الخطأ في الفهم في المثالَين المذكورين أنَّه ليس بخطأ كما زعم. 5 ـ نعم! لم يقل الصحابةُ للتابعين: لا تفهموا النصوصَ إلاَّ وفقاً لفهمنا، وإنَّما يُبيِّنون لهم الخطأ في الفهم، ومن أمثلة ذلك ما روى البخاري في صحيحه (4495) بإسناده إلى هشام بن عروة، عن أبيه أنَّه قال: "قلت لعائشة زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ حديث السنِّ: أرأيتِ قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، فما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوَّف بهما، فقالت عائشة: كلاَّ! لو كانت كما تقول كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوَّف بهما، إنَّما أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهلُّون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرَّجون أن يطوَّفوا بين الصفا والمروة، فلمَّا جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ". وتأمَّل قول عروة ـ رحمه الله ـ فيما مهَّد له من العذر لخطئه في الفهم بقوله: "وأنا يومئذ حديث السنِّ"، يتبيَّن لك أنَّ حداثةَ السنِّ مظنَّةُ الخطأ في الفهم، والمالكي ومعه الأربعة الذين شاركوه في الضلال الذين أوردهم في آخر كتابه حُدثاء الأسنان، ولم يكن المالكي مخطئاً في أباطيله التي اشتمل عليها كتابُه هذا وغيره مِمَّا زعمه بحوثاً، ليس مخطئاً فحسب، بل هو من الخاطئين. وأيضاً فإنَّ الصحابة يُرشدون التابعين وغيرَهم إلى الائتساء والاقتداء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي جامع بيان العلم وفضله (2/97) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "مَن كان منكم متأسِّياً فليتأسَّ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فإنَّهم كانوا أبرَّ هذه الأمَّة قلوباً، وأعمقَها علماً، وأقلَّها تكلُّفاً، وأقومَها هدياً، وأحسنَها حالاً، قوماً اختارهم الله تعالى لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، فاعرفوا لهم فضلَهم، واتَّبعوهم في آثارهم؛ فإنَّهم كانوا على الهدي المستقيم". وفي سنن الدارمي (211) عنه رضي الله عنه أنَّه قال: "اتَّبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفيتم". وفي سنن الدارمي أيضاً (141) عن عثمان بن حاضر، قال: "دخلتُ على ابن عباس، فقلت: أَوْصني، فقال: نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتَّبع ولا تبتدع! ". وفي السنَّة لمحمد بن نصر المروزي (80) أنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إنَّكم اليوم على الفطرة، وإنَّكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدَثةً فعليكم بالهدي الأول". وكذلك العلماء يوصون باتِّباع ما جاء عن الصحابة والسير على منهاجهم، ففي السنة من كتاب السنن لأبي داود (4612) عن عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ في أثر طويل قوله: "فارضَ لنفسك ما رضي به القومُ لأنفسهم؛ فإنَّهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كَفُّوا، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى"، وفي السنَّة للالكائي (1/156) عن الإمام أحمد أنَّه قال: "أصول السنَّة عندنا التمسُّك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، وترك البدع، وكلُّ بدعة فهي ضلالة ... ". وقال ابن أبي حاتِم في الجرح والتعديل (1/87) : "فأمَّا أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم الذين شهدوا الوحيَ والتنزيلَ، وعرفوا التفسيرَ والتأويلَ، وهم الذين اختارهم اللهُ عزَّ وجلَّ لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ونصرتِه وإقامةِ دينه وإظهارِ حقِّه، فرضيهم له صحابةً، وجعلهم لنا أعلاماً وقدوةً، فحفظوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 عنه صلى الله عليه وسلم ما بلَّغهم عن الله عزَّ وجلَّ، وما سنَّ وشرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر وأدّب، ووعَوْه وأتقنوه، ففقهوا في الدين، وعلموا أمرَ الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم منه تفسيرَ الكتاب وتأويله، وتلقّفهم منه واستنباطهم عنه، فشرَّفهم اللهُ عزَّ وجلَّ بما مَنَّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إيَّاهم موضع القدوة"، إلى أن قال: "فكانوا عدولَ الأمَّة وأئمَّةَ الهدى وحججَ الدِّين ونقلةَ الكتاب والسنة، وندب الله عزَّ وجلَّ إلى التمسُّك بهديهم والجري على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم، فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية". 6 ـ قوله (ص: 179) : "فالقاعدة المشهورة (الكتاب والسنَّة وبفهم سلف الأمة) باطلة بإجماع سلف الأمة من المهاجرين والأنصار الذين لم يشترطوها، واكتفوا بما ذكره الله عزَّ وجلَّ من (التحاكم للقرآن والسنَّة) ، أمَّا زيادة اشتراط الفهم فهو استدراك قبيح على الآية الكريمة!!! ". أقول: ما ذكره من دعوى بطلان القاعدة المذكورة بإجماع سلف الأمة قولٌ باطلٌ ودعوى لا أساس لها من الصحَّة، كما تبيَّن من آثار عن السلف في الفقرة السابقة، واعتبار فهم الصحابة لنصوص الكتاب والسنَّة لا يُنافي الأخذ بالآية الكريمة في الردِّ إلى الكتاب والسنَّة، وليس استدراكاً عليهما كما زعم؛ فإنَّ في ذلك التنفيذ والتطبيق لما جاء في الكتاب والسنَّة على فهم صحيح، ومِمَّا يوضِّح ذلك أنَّ ما جاء عن السلف في فهم معنى قول الله عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أنَّه بمعنى علا وارتفع هو الحقُّ، وأنَّ ما جاء عن المتكلِّمين من تفسيره بمعنى استولى باطل واتِّباع لغير سبيل المؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ومِمَّا يوضح بطلان قول المالكي هذا أنَّ الخوارجَ لَمَّا ركبوا رؤوسَهم وخالفوا الصحابة في فهم الكتاب والسنَّة انحرفوا عن الحقِّ، وقصَّة مناظرة ابن عباس رضي الله عنهما لهم في مستدرك الحاكم (2/150 ـ 152) ، وهي بإسناد صحيح على شرط مسلم، وفيها قول ابن عباس: "أتيتُكم من عند صحابة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، لأبلِّغكم ما يقولون، المخبرون بما يقولون، فعليهم نزل القرآن، وهم أعلمُ بالوحي منكم، وفيهم أنزل، وليس فيكم منهم أحد، فقال بعضُهم: لا تخاصموا قريشاً، فإنَّ الله يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ، قال ابن عباس: وأتيتُ قوماً لم أرَ قوماً قطُّ أشدَّ اجتهاداً منهم، مسهمة وجوههم من السَّهر، كأنَّ أيديهم وركبهم تثنى عليهم، فمضى من حضر، فقال بعضُهم: لنكلِّمنَّه ولننظرنَّ ما يقول، قلت: أخبروني ماذا نقمتم على ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره والمهاجرين والأنصار؟ قالوا: ثلاثاً، قلت: ما هنَّ؟ قالوا: أمَّا إحداهنَّ فإنَّه حكم الرِّجالَ في أمر الله، وقال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} ، وما للرِّجال وما للحكم، فقلت: هذه واحدة، قالوا: وأمَّا الأخرى فإنَّه قاتَلَ ولَم يسْب ولَم يغنَم، فلئن كان الذي قاتل كفَّاراً لقد حلَّ سبيُهم وغنيمتهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حلَّ قتالُهم، قلت: هذه ثنتان، فما الثالثة؟ قال: إنَّه مَحا نفسَه من أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين، قلت: أعندكم سوى هذا؟ قالوا: حسبنا هذا، فقلت لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ما يُردُّ به قولُكم أتَرضَون؟ قالوا: نعم! فقلت: أمَّا قولكم: حكَّم الرِّجال في أمر الله، فأنا أقرأ عليكم ما قد رُدَّ حكمُه إلى الرِّجال في ثمن ربع درهم، في أرنب ونحوها من الصيد، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إلى قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، فنشدتكم الله: أحُكم الرِّجال في أرنب ونحوها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الصيد أفضل أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم؟! وأن تعلموا أنَّ الله لو شاء لَحَكم ولَم يُصيِّر ذلك إلى الرِّجال، وفي المرأة وزوجها قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ، فجعل الله حكم الرِّجال سنة مأمونة، أخَرَجتُ من هذه؟ قالوا: نعم! قال: وأمَّا قولكم: قاتَل ولم يسْب ولم يغنم، أَتَسبُون أمَّكم عائشة، ثمَّ تستحلُّون منها ما يُستحلُّ من غيرها؟! فلئن فعلتم لقد كفرتُم، وهي أمُّكم، ولئن قلتُم: ليست أمَّنا لقد كفرتُم؛ فإنَّ الله يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، فأنتم تدورون بين ضلالَتين، أيّهما صرتُم إليها صرتُم إلى ضلالة، فنظر بعضُهم إلى بعض، قلت: أخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم! وأمَّا قولكم: مَحا اسمَه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمَن ترضَون وأريكم، قد سمعتُم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم الحُديبية كاتَبَ سُهيل بن عمرو وأبا سفيان بن حرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين: اكتب يا علي: هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله، فقال المشركون: لا والله! ما نعلم أنَّك رسول الله، لو نعلم أنَّك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهم إنَّك تعلمُ أنِّي رسول الله، اكتب يا علي: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله، فوالله لرسول الله خيرٌ من علي، وما أخرجه من النبوة حين محا نفسَه، قال عبد الله بن عباس: فرجع من القوم ألفان وقُتل سائرُهم على ضلالة". 7 ـ قوله في (ص: 179) : "ثم هؤلاء القائلون بفهم السلف هم أوَّل من يُخالف السلف إذا فهموا شيئاً خلاف ما هم عليه!! ومعظم ما كتبوه في العقائد كان خلاف فهم السلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان!! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أقول: أهل السنَّة الذين يحقد عليهم المالكي ويُطلق لسانَه في ثلبهم والنَّيل منهم هم المتَّبعون لسلف هذه الأمَّة من الصحابة ومَن تبعهم بإحسان؛ لأنَّهم يُعوِّلون على النصوص الشرعيَّة بفهم السَّلف الصالح، بخلاف غيرهم من المتكلِّمين الذين نصيبُهم من المالكي السلامة، فإنَّهم يُعوِّلون على العقول لا على النقول، وما دوَّنه أهلُ السنَّة في كتب العقائد مِمَّا عوَّلوا فيه على النصوص لا يُعجبُ المالكي؛ لأنَّه لا يريد ذكر أيِّ مسألة في العقيدة فيها مخالفة أهل السنَّة لأيِّ فرقة من فرق الضلال، بل يريد عقيدة تقتصر على الأخذ بأصول الإسلام الجامعة والابتعاد عن الجزئيات المفرِّقة، مع إعذار مَن اجتهد فأخطأ من سائر الطوائف الإسلامية، كما هو نصُّ كلامه من قراءته (ص: 28 ـ حاشية) . 8 ـ قوله: "فنحن لا مع القرآن ولا مع السنَّة ولا مع فهم السلف الصالح!! وكلُّ ما عندنا من الأمور دعاوى نقنع بها العوام لا دليل عليها من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل ولا السلف الصالح وهم عندي المهاجرون والأنصار ومن كان على نهجهم فقط". أقول: نعم! أنت ومعك الأربعة الذين ذكرتهم في آخر كتابك لستُم مع الكتاب والسنَّة، ولا مع فهم السَّلف الصالح، بل أنتم مع أهل البدع والأهواء، وكيف يكون مع الكتاب والسنَّة وفهم السلف الصالح مَن يقدح بالسَّلف الصالح؟! وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيزعم أنَّهم يُذادون عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُؤخذون إلى النار، ولا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل هَمَل النَّعم، كما جاء ذلك في كتاب المالكي السيِّء عن الصحابة، والقدحُ في الصحابة قدحٌ في الكتاب والسنَّة؛ لأنَّ القدحَ في الناقل قدحٌ في المنقول، وقد قال أبو زرعة الرازي ـ رحمه الله ـ كما في الكفاية للخطيب البغدادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 (ص: 49) : "إذا رأيت الرجلَ ينتقصُ أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنَّه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حقٌّ والقرآن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليُبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى، وهم زنادقةٌ". وأمَّا أهل السنَّة الذين يتحدَّث عنهم المالكي وكأنَّه واحد منهم، فهم بريئون منه براءة الشمس من اللمس. 9 ـ قوله: "وهم ـ يعني السلف الصالح ـ عندي المهاجرون والأنصار، ومن كان على نهجهم فقط". أقول: هذا من المالكي قصرٌ للصحابة على المهاجرين والأنصار ومَن كان على نهجهم فقط، ومن المعلوم أنَّ الهجرةَ انتهت بفتح مكة، فمَن أسلَم بعد الفتح وصحب الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من الصحابة عند المالكي، بل إنَّه أخرج من الصحبة الشرعيَّة كلَّ مَن أسلَم وصحب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الحُديبية، وهذا هو الذي قرَّره في كتابه السيِّء في الصحابة، ورددتُ عليه فيه بكتابي "الانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي"، وذكرتُ فيه أنَّ ما زعمه من قصْر الصُّحبة الشرعية على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية هو من محدثات القرن الخامس عشر، وتأمَّل قوله هنا: "عندي"؛ فإنَّ ذلك يزيد في بيان اختصاصه بهذه البدعة، وأنَّه لَم يُسبق إليها طيلة القرون الماضية، ومن أجل أن يَسْلَم له مثل هذا الفهم الخاطئ الذي انفرد به، زعم أنَّ الأخذ بالكتاب والسنَّة بفهم السلف الصالح، زعم أنَّ ذلك بدعةٌ، نعوذ بالله من الخذلان. 10 ـ ما ذكره (ص: 180) عن أحمد بن حنبل وأبي حنيفة والشافعي ومالك والبربهاري من وجوب أن يخضعوا لمعيار القرآن وما صحَّ من السنَّة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وأنَّهم تحت القرآن والسنَّة لا فوقها، وأنَّ هذا طريقُ وفهم السلف من الصحابة الكبار؛ إذ لم يكن عندهم أحدٌ فوق القرآن وما صحَّ من السنَّة. أقول: هو كلام حقٍّ أُريد به باطل، وهو التشنيع والتهويل على أهل السنَّة بأنَّهم يجعلون الرِّجال فوق الكتاب والسنَّة، وهذا من أقبح الكذب وأشدِّ الإفك، فمَن من أهل السنَّة فهم هذا الفهم الخاطئ وقال هذه المقالةَ القبيحة، بل إنَّ أهل السنَّة هم المتمسِّكون بالكتاب والسنَّة، المقدِّمون لهما على قول كلِّ أحد، قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ كما في كتاب الروح لابن القيم (ص: 396) : "أجمع الناسُ على أنَّ مَن استبانت له سنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له أن يَدَعها لقول أحد". وأمَّا غير أهل السنَّة من أهل البدع أسلاف المالكي فهم الذين يُعوِّلون على العقول ويتَّهمون النقول، فإن كان النقلُ آحاداً فهو عندهم ظنيُّ الثبوت فلا يُعوَّل عليه في أصول الدِّين، وإن كان قرآناً أو سنَّةً متواترةً ـ وهو لا يتفق مع أهوائهم الفاسدة ـ قالوا: قطعي الثبوت ظنيُّ الدلالة، فلا يُعوَّلُ عليه!! 11 ـ وقال في (ص: 179 ـ 180) : "راجع المسائل السابقة التي في هذا الكتاب ثم فتِّش في سير الصحابة والتابعين وانظر مَن منهم فضَّل الآثار وأقوال الرجال على القرآن الكريم؟! ومن منهم جعل المسلمَ شرًّا من اليهودي والنصراني؟! ومن منهم كفَّر المسلمين؟! ومن منهم تسمَّى بغير الإسلام؟! ومن منهم زهَّد في كبائر الذنوب؟! ومن منهم غلا في علمائهم وكبارهم؟! ومن منهم أفتى باغتيال المخالفين له في الرأي؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ومن منهم شبَّه الله بخلقه؟! ومن منهم ركَّز على الجزئيات وترك الأصول؟! ومن ومن ... إلخ". والجواب: أنَّ هذا من المالكي اتِّهام لأهل السنَّة بهذه العظائم، وسبق له أن اتَّهمهم بأكثر من ذلك، ومرَّت الإجابة على بعض هذه الأمور التي ذكرها هنا، وبعضها لم تسبق الإجابة عليه، وفيما يلي الإجابة باختصار عنها: ـ أمَّا زعم المالكي أنَّ الحنابلةَ وغيرَهم من أهل السنَّة يُفضِّلون الآثار وأقوال الرِّجال على القرآن الكريم، فهو قولٌ في غاية البطلان؛ لأنَّ أهل السنَّة وحدَهم هم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم الذين يُعظِّمون النصوصَ الشرعية ويُعوِّلون عليها، ويذكرون الآثار التي توافقها أو تبيِّنها، ولا يقولون بتقديم الآراء على النصوص؛ لأنَّ تقديمَ الآراء على النصوص شأنُ أهل البدع، الذين تعويلُهم على علم الكلام وأقوال الرِّجال، وليس على النصوص الشرعيّة. ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يجعلون المسلمَ شرًّا من اليهودي والنصراني، فقد مرَّت الإجابة عن ذلك قريباً. ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يُكفِّرون المسلمين، فهو زعمٌ في غاية البطلان؛ لأنَّ أهل السنَّة لا يُكفِّرون إلاَّ مَن كفَّره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل إنَّ أهل السنَّة يعتبرون الفرقَ الثنتين والسبعين التي جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّها في النار، يعتبرونهم مسلمين من أمَّة الإجابة، فكيف يزعم هذا الحاقدُ على أهل السنَّة أنَّهم يُكفِّرون المسلمين، وهذه عقيدتُهم في فرق الضلال المختلفة؟! ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة تسمَّوا بغير الإسلام، حيث قالوا: إنَّهم أهل سنَّة، وإنَّهم على منهج السلف، وهذا من إفكه وتلبيسه، فهم متسمُّون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 بالإسلام كما تسمَّى به غيرهم من المبتدعة، ولكنَّهم يتميَّزون عنهم بانتسابهم إلى السنَّة واتِّباع سلف الأمَّة، والإسلامُ يشمل أهل السنَّة وغيرهم من فرق الضلال التي لم تصل بدعُهم إلى الكفر، لكنَّهم يمتازون عنهم بنسبتهم إلى السنَّة واتِّباع سلف الأمَّة من الصحابة ومَن تبعهم بإحسان، فيُقال: مسلم سنِيٌّ، ومسلم بدعيٌّ. ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يُزهِّدون في كبائر الذنوب، فهذا كذبٌ عليهم؛ لأنَّهم يُحذِّرون منها، ويعتبرون مَن وقع فيها مؤمناً ناقصَ الإيمان، فلا يصفونه بالإيمان المطلق كما هو شأن المرجئة، الذين يقولون: لا يضرُّ مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة؛ وذلك لتغليبهم جانبَ الوعد، ولا يَسلبون عنه مطلقَ الإيمان كما هو شأن الخوارج والمعتزلة؛ وذلك لتغليبهم جانبَ الوعيد، فأهل السنَّة يعملون بنصوص الوعد والوعيد معاً، ولا يهملون شيئاً منها، ويقولون عن مرتكب الكبيرة: مؤمن بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وأمَّا في الآخرة فأمرُه إلى الله، إن شاء عذَّبه وإن شاء عفى عنه، وإن حصل له العذاب فإنَّه يخرج من النار، ولا يخلد في النار إلاَّ الكفَّار الذين لا سبيل لهم إلى الخروج منها. ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يغلون في علمائهم وكبارهم، فهذا من تهويله وحقده على أهل السنَّة، والغلوُّ في العلماء والكبار هو ديدنُ أهل البدع، وخاصَّة الرافضة منهم، وأمَّا أهل السنَّة فإن وُجد من فرد أو أفراد مبالغة في أحد من علمائهم فلا يُسوِّغ ذلك نسبة الغلوِّ إلى أهل السنَّة عموماً. ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يُفتون باغتيال المخالفين لهم في الرأي، فهذا من الكذب على أهل السنَّة؛ فإنَّ علماءهم لا يُفتون بقتل إلاَّ مَن كان مستحقًّا للقتل، ولعلَّ مرادَه في ذلك ما يتباكى عليه من قتل أئمَّة الضلال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 كالجعد بن درهم والجهم بن صفوان وغيلان الدمشقي وغيرهم، وقد زعم أنَّ قتلَهم كان سياسيًّا، ولم يكن من أجل بدعهم. ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يُشبِّهون اللهَ بخلقه، فهذا من أقبح ما افتراه على أهل السنَّة، فأهل السنَّة أثبتوا لله الصفات ولم يُشبِّهوه بالمخلوقات، فجمعوا بين الإثبات والتنزيه، كما جمع الله بينهما في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، بخلاف المشبِّهة الذين أثبتوا وشبَّهوا، وبخلاف النفاة، فإنَّهم أرادوا التنزيه لكنَّهم عطَّلوا ولم يُنزِّهوا. ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة ركَّزوا على الجزئيات وتركوا الأصول، فهذا كذبٌ عليهم؛ فهم يُركِّزون على الكليَّات والجزئيات، ومستندهم في ذلك ما جاءت به نصوص الكتاب والسنَّة، وذلك بخلاف أهل البدع الذين يُعوِّلون على العقول وعلم الكلام في الكليَّات والجزئيات. 12 ـ قوله (ص: 180) : "فالبربهاري وابن بطة عندنا من السلف بينما الصحابة ليسوا من السلف، ولو كانوا عندنا من السلف الصالح لما خالفناهم في فهم الإسلام وفي الأمور التي سبق شرحها". أقول: السلفُ الصالح عند أهل السنَّة والجماعة هم الصحابة رضي الله عنهم ومَن سلك سبيلَهم، ومنهجُهم في العقيدة اتِّباعُ الكتاب والسنَّة بفهم السلف الصالح، والتقييد بفهمهم يُسمِّيه المالكي بدعة، وأهل السنَّة هم الذين يأخذون بنصوص الوحي وفقاً لفهم السلف من الصحابة ومَن تبعهم بإحسان، ولا يُخالفون الصحابة، بل الذين يخالفونهم هم أهل البدع الذين يُعوِّلون على علم الكلام، ولا يُعوِّلون على النصوص. وقد ذكرتُ بين يدي شرحي مقدِّمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني عشر فوائد في العقيدة، الفائدة الأولى: منهج أهل السنَّة والجماعة في العقيدة: اتِّباع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الكتاب والسنَّة على فهم السلف الصالح، وهذا يُسمِّيه المالكي بدعة، وأنا أوردُ هنا ما أثبتُّه هناك: عقيدةُ أهل السُّنَّة والجماعة مبنيَّةٌ على الدليل من كتاب الله عزَّ وجلَّ وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، قال الله عزَّ وجلَّ: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ، وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وقال: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وقال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} ، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} ، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية: " ... فإنَّه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء المهديين الراشدين، تَمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة" رواه أبو داود (4607) ، والترمذي (2676) وغيرهما، وهذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وفي صحيح البخاري (7280) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّ أمَّتِي يدخلون الجنَّة إلاَّ مَن أبى، قالوا: يا رسول الله! ومَن يأبَى؟ قال: مَن أطاعنِي دخل الجنَّة، ومَن عصانِي فقد أبَى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وفي صحيح مسلم (767) عن جابر بن عبد الله: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: "أمَّا بعد، فإنَّ خيرَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ بدعة ضلالة". وروى البخاري في صحيحه (1597) ، ومسلم في صحيحه (1270) عن عابس بن ربيعة، عن عمر رضي الله عنه: "أنَّه جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله، فقال: إنِّي لأعلمُ أنَّك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أنِّي رأيتُ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقبِّلُك ما قبَّلتُك". وروى البخاري في صحيحه (2697) ، ومسلم في صحيحه (1718) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"، وفي لفظ لمسلم: "مَن عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ". وما جاء في هذه الرواية أعمُّ من الأُولى؛ لأنَّها تشتمل على مَن كان مُحْدِثاً أو تابعاً لمحدث. وروى الإمام أحمد (16937) ، وأبو داود (4597) وغيرُهما - واللفظ لأحمد – عن معاوية رضي الله عنه قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أهلَ الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملَّة، وإنَّ هذه الأمَّةَ ستفترق على ثلاث وسبعين ملَّة يعني الأهواء، كلُّها في النار إلاَّ واحدة، وهي الجماعة". وانظر تخريجه وشواهدَه في تعليق الشيخ شعيب الأرنؤوط وغيره على هذا الحديث في حاشية المسند. وروى البخاري في صحيحه (5063) ، ومسلم في صحيحه (1401) عن أنس في حديث طويل، آخره: "فمَن رغب عن سُنَّتِي فليس منِّي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وإنَّما كانت عقيدةُ أهل السنَّة والجماعة مبنيَّةً على الكتاب والسنَّة؛ لأنَّ ما يُعتقد هو من علم الغيب، ولا يُمكن معرفة ذلك إلاَّ بالوحي كتاباً وسنَّة. وما جاء في الكتاب العزيز وثبت في السُنَّة فإنَّ العقلَ السليم يُوافقه ولا يُعارضه، ولشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – كتاب واسع اسمه: درء تعارض العقل والنقل. والمعوَّل عليه في فهم النصوص ما كان عليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء عنهم من الفهم الصائب والعلم النافع، وقد فهموا معاني ما خوطبوا به من صفات الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الكتاب والسُّنَّة بلغتهم، مع تفويضهم علم كيفياتها إلى الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ ذلك من الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ هو سبحانه، كما جاء عن الإمام مالك بن أنس في بيان هذا المنهج الصحيح، حيث قال عندما سُئل عن كيفية الاستواء: "الاستواءُ معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". وقد أوضح ما كان عليه الصحابةُ في صفات الله عزَّ وجلَّ الشيخ أبو العباس أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة (845 هـ) في كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (2/356) ، فقال: "ذِكْرُ الحال في عقائد أهل الإسلام منذ ابتداء الملَّة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعرية: اعلم أنَّ الله تعالى لَمَّا بعث من العرب نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى الناس جميعاً وصف لهم ربَّهم سبحانه وتعالى بما وصف به نفسَه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه صلى الله عليه وسلم الروحُ الأمين، وبما أوحى إليه ربُّه تعالى، فلم يسأله صلى الله عليه وسلم أحدٌ من العرب بأسرهم قرَويُّهم وبَدويُّهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحجِّ وغير ذلك مِمَّا لله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فيه سبحانه أمرٌ ونهيٌ، وكما سألوه صلى الله عليه وسلم عن أحوال القيامة والجنَّة والنار؛ إذ لو سأله إنسانٌ منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنُقل كما نُقلت الأحاديث الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في أحكام الحلال والحرام، وفي الترغيب والترهيب وأحوال القيامة والملاحم والفتن ونحو ذلك مِمَّا تضمَّنته كتبُ الحديث، معاجمها ومسانيدها وجوامعها، ومَن أمعن النَّظر في دواوين الحديث النَّبوي ووقف على الآثار السلفية، عَلِم أنَّه لَم يَرد قطُّ من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ـ على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم ـ أنَّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى شيء مِمَّا وصف الربُّ سبحانه به نفسَه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، بل كلُّهم فهموا معنى ذلك، وسكتوا عن الكلام في الصفات، نعم! ولا فرَّق أحدٌ منهم بين كونها صفةَ ذات أو صفةَ فعل، وإنَّما أثبتوا له تعالى صفات أزليَّة: من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقاً واحداً، وهكذا أثبتوا – رضي الله عنهم – ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة: من الوجه واليد ونحو ذلك، مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا ـ رضي الله عنهم ـ بلا تشبيه، ونزَّهوا من غير تعطيل، ولم يتعرَّض مع ذلك أحدٌ منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدلُّ به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم سوى كتاب الله، ولا عرف أحدٌ منهم شيئاً من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة، فمضى عصرُ الصحابة رضي الله عنهم على هذا، إلى أن حدث في زمنهم القولُ بالقدر، وأنَّ الأمرَ أنفة، أي: أنَّ الله تعالى لم يُقدِّر على خلقه شيئاً مِمَّا هم عليه ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وهذا الذي أوضحه المقريزي هو ما كان عليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ظهور الفرق المختلفة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية الذي مرَّ ذكرُه قريباً: "فإنَّه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء المهديِّين الراشدين، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". وليس من المعقول أن يُقال في شيء من مذاهب هذه الفرق المختلفة في العقيدة التي حدثت في أواخر عهد الصحابة وبعده، كالقدرية والمرجئة والأشاعرة وغيرها، ليس من المعقول أن يُقال في شيء من ذلك: إنَّه الحقُّ والصواب، بل الحقّ الذي لا شكَّ فيه هو ما كان عليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان شيء من هذه المذاهب حقًّا لسبقوا إليه رضي الله عنهم وأرضاهم، فلا يُعقل أن يُحجب حقٌّ عن الصحابة ويُدَّخر لأناس يجيئون بعدهم، قال إبراهيم النخعي كما في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/97) : "لَم يُدخَّر لكم شيءٌ خُبِّئَ من القوم لفضل عندكم". وقد نقل الحافظ ابن حجر في الفتح عند شرحه باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} كلاماً نفيساً لأبي المظفر السمعاني، فقال (13/507) : "واستدلَّ أبو المظفر بن السمعاني بآيات الباب وأحاديثه على فساد طريقة المتكلِّمين في تقسيم الأشياء إلى جسم وجَوهر وعرض، قالوا فالجسمُ ما اجتمع من الافتراق والجوهر ما حمل العرض، والعرض ما لا يَقوم بنفسه، وجعلوا الرُّوح من الأعراض، وردُّوا الأخبارَ في خَلق الرُّوح قبل الجسد والعقل قبل الخلق، واعتمدوا على حَدْسهم وما يؤدِّي إليه نظرُهم، ثم يَعرضون عليه النصوصَ فما وافقه قبلوه وما خالفه ردُّوه، ثمَّ ساق هذه الآيات ونظائرَها من الأمر بالتبليغ، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وكان مِمَّا أمر بتبليغه التوحيد، بل هو أصلُ ما أمرَ به فلم يترك شيئاً من أمور الدِّين أصولَه وقواعدَه وشرائعَه إلاَّ بلَّغه، ثمَّ لَم يَدْعُ إلى الاستدلال بما تَمسَّكوا به من الجوهر والعرض، ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرفٌ واحدٌ فما فوقه، فعُرف بذلك أنَّهم ذهبوا خلافَ مذهبهم وسلكوا غيرَ سبيلهم بطريق مُحدَث مُخترَع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابُه رضي الله عنهم، ويلزم من سلوكه العودُ على السلف بالطعن والقَدْح، ونسبتهم إلى قلَّة المعرفة واشتباه الطرق، فالحذر من الاشتغال بكلامهم والاكتراث بمقالاتهم؛ فإنَّها سريعةُ التهافت كثيرةُ التناقض، وما من كلام تَسمعه لفرقة منهم إلاَّ وتَجدُ لخصومهم عليه كلاماً يوازنه أو يقاربه، فكلٌّ بكلٍّ مقابل، وبعضٌ ببعضٍ مُعارَض، وحسبُك من قبيح ما يلزم من طريقتهم أنَّا إذا جَرينا على ما قالوه وألزمنا الناسَ بما ذكروه لزِم مِن ذلك تكفيرُ العوَام جميعاً؛ لأنَّهم لا يعرفون إلاَّ الاتِّباعَ المجرَّد، ولو عُرض عليهم هذا الطريق ما فهمه أكثرُهم فضلاً عن أن يصير منهم صاحب نظر، وإنَّما غاية توحيدهم التزامُ ما وجدوا عليه أئمَّتَهم في عقائد الدِّين والعضُّ عليها بالنواجذ، والمواظبة على وظائف العبادات وملازمة الأذكار بقلوبٍ سليمة طاهرة عن الشُّبَه والشكوك، فتراهم لا يَحيدون عما اعتقدوه ولو قُطِّعوا إرَباً إرَباً، فهنيئاً لهم هذا اليقين، وطوبى لهم هذه السلامة، فإذا كُفِّر هؤلاء وهم السواد الأعظم وجمهور الأمَّة، فما هذا إلاَّ طَيُّ بِساط الإسلام وهدمُ مَنَار الدِّين، والله المستعان". وما جاء في كلام أبي المظفر من ذِكر خلق العقل فيه نظر؛ قال ابن القيم في كتابه المنار المنيف (ص: 50) : "ونحن ننبِّه على أمور كليَّة يُعرف بها كون الحديث موضوعاً" إلى أن قال (ص: 66) : "ومنها أحاديث العقل، كلُّها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 كذب ... وقال أبو الفتح الأزدي: لا يصحُّ في العقل حديث، قاله أبو جعفر العقيلي وأبو حاتم ابن حبان، والله أعلم". وقد نقل الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري نقولاً عن جماعة من السلف في إثبات الصفات من غير تشبيه أو تحريف أو تعطيل، وختم ذلك بكلام نفيس له، ومِمَّا قاله (13/407 – 408) : "وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال: كان سفيان الثوري وشعبةُ وحماد بنُ زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدِّدون ولا يشبِّهون، ويروُون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف، قال أبو داود: وهو قولنا، قال البيهقي: وعلى هذا مضى أكابرُنا. وأسند اللاَّلكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفق الفقهاء كلُّهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقاتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرَّبِّ من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسَّر شيئاً منها وقال بقول جهم فقد خرج عمَّا كان عليه النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه وفارق الجماعةَ؛ لأنه وَصفَ الرَّبَّ بصفَة لا شيء. ومن طريق الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعيَّ ومالكاً والثوريَّ والليث ابنَ سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة؟ فقالوا: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف. وأخرج ابنُ أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى: سمعتُ الشافعيَّ يقول: لله أسماء وصفاتٌ، لا يَسَع أحداً رَدُّها، ومَن خالف بعد ثبوت الحجَّة عليه فقد كفر، وأمَّا قبل قيام الحجة فإنَّه يُعذر بالجهل؛ لأنَّ عِلمَ ذلك لا يُدرَك بالعقل ولا الرؤية والفكر، فنثبتُ هذه الصفات، ونَنفي عنه التشبيهَ، كما نفَى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وأسند البيهقيُّ بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري، عن سفيان بن عيينة قال: كلُّ ما وَصف الله به نفسَه في كتابه فتفسيرُه تلاوتُه والسكوتُ عنه. ومن طريق أبي بكر الضُّبَعي قال: مذهبُ أهل السنة في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: بلا كيف، والآثارُ فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل. وقال الترمذي في الجامع عَقب حديث أبي هريرة في النُزول: وهو على العرش كما وصفَ به نفسه في كتابه، كذا قال غيرُ واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات. وقال في باب فضل الصدقة: قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها ولا نتَوهَّم، ولا يُقال كيف، كذا جاء عن مالك وابن عُيينة وابن المبارك أنَّهم أَمَرُّوها بلا كيف، وهذا قولُ أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأمَّا الجهميَّةُ فأنكروها، وقالوا هذا تشبيهٌ. وقال إسحاق بن راهويه: إنَّما يكون التشبيهُ لو قيل يدٌ كيَدٍ، وسَمعٌ كسمعٍ. وقال في تفسير المائدة: قال الأئمةُ: نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير، منهم: الثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك. وقال ابن عبد البر: أهلُ السُّنَّة مُجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسُّنَّة، ولم يُكَيِّفوا شيئاً منها، وأمَّا الجهميَّةُ والمعتزلةُ والخوارجُ فقالوا: مَن أقرَّ بها فهو مشبِّهٌ، فسمَّاهم مَن أقَرَّ بها مُعَطِّلةً. وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: اختلفت مسالكُ العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضُهم تأويلَها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يَصحُّ من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويضِ معانيها إلى الله تعالى، والذي نرتضيه رأياً ونَدين الله به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 عقيدةً اتِّباع سلف الأمَّة؛ للدَّليل القاطع على أنَّ إجماعَ الأمَّة حُجةٌ، فلو كان تأويلُ هذه الظواهر حتماً لأوشكَ أن يكون اهتمامُهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرُ الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتَّبَع. انتهى. وقد تقدَّم النقلُ عن أهل العصر الثالث وهم فقهاءُ الأمصار، كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومَن عاصرهم، وكذا مَن أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يُوثَق بما اتَّفق عليه أهلُ القرون الثلاثة، وهم خيرُ القرون بشهادة صاحبِ الشريعة". وما جاء في كلام الجوينِي من أنَّ السَّلف يُفوِّضون معاني الصفات إلى الله عزَّ وجلَّ غير صحيح؛ فإنَّهم يُفوِّضون في الكيف، ولا يُفوِّضون في المعنى، كما جاء عن مالك رحمه الله، فقد سُئل عن كيفية الاستواء؟ فقال: "الاستواء معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 28 ـ زعمه أنَّ تقسيم التوحيد إلى ربوبية وألوهية تقسيمٌ مبتدَع، والردُّ عليه أورد المالكي في (ص: 116) عنواناً بلفظ: "التكفير عند ابن تيمية"، قال فيه: "إنَّ التأصيل للتكفير موجود في كلامه عندما بالغ في التفريق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فهوَّن من شأن الأول، وبالغ في شأن الثاني، والتفريق نفسه تفريق مبتَدَع، ليس في كتاب الله ولا سنَّة رسوله، ولم يَقُل بهذا التفريق أحدٌ من الصحابة ولا التابعين؛ فالتوحيد شأنه واحد، وهذا التفريق هو الذي جعل مقلِّدي ابن تيمية يزعمون أنَّ الله لم يبعث الرسل إلاَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 من أجل توحيد الألوهية، أمَّا توحيد الربوبية فقد أقرَّ به الكفار، ونسوا أنَّ فرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} ، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، وأنَّ صاحب إبراهيم قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} ، فضلاً عن سائر الملحدين في الماضي والحاضر، وغير ذلك مِمَّا يؤكِّد أنَّ الرسلَ بُعثوا للإقرار بوجود الإله وربوبيَّته واستحقاقه للعبادة، وبُعثوا بسائر أنواع العبادة والأخلاق وتحريم المحرَّمات وغير ذلك. أقول: وهذا التفريق والاستنتاجات السابقة جرَّأت مقلِّدي ابن تيمية ـ رحمه الله وسامحه ـ على تكفير المسلمين الذين حصل لهم خطأ في الاعتقاد، وكان الأولى أن يُخطَّؤوا أو يُبدَّعوا إن ثبت عليهم ذلك، لا أن يُتَّهموا بالشرك وهم قائمون بأركان الإسلام وأركان الإيمان، بل جرَّت الخصومةُ ابنَ تيمية لإطلاق عبارات فهم منها تكفيره لسائر المتكلِّمين من المسلمين وسائر المخالفين له في الرأي من الفرق الإسلامية، والغريب أنَّ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يدعو لهجر الكلام والفلسفة وعرض الدِّين من النصوص الشرعية، بينما هو هنا يأتي بشيء لم يُؤثر في كتاب الله ولا سنَّة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو الناس إلى الشهادَتين ونبذ عبادة الأوثان وتأدية أركان الإسلام كما في حديث معاذ بن جبل في بعثه إلى اليمن، وغير ذلك من الأدلة الكثيرة الوفيرة التي لم نجد فيها هذا التقسيم المبتدَع!!! ". وأجيب على ذلك بما يلي: 1 ـ لم يورد المالكي تحت هذا العنوان"التكفير عند ابن تيمية" نقولاً عن ابن تيمية في التكفير، بل أطلق اتِّهامه في ذلك، ودندن على التشنيع بتقسيم التوحيد عند أهل السنَّة إلى توحيد ربوبية وألوهية، وزعم أنَّ هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 التقسيم جرَّأ مقلِّدي ابن تيمية على تكفير المسلمين، وكلُّ ما أورده يدلُّ على الحقد الشديد على أهل السنَّة في كلِّ شيء تميَّزوا به عن أهل البدع والضلال. 2 ـ تقسيم التوحيد إلى ربوبيَّة وألوهية جاء في القرآن الكريم في آيات كثيرة، فيها بيان أنَّ الكفَّار الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُقرُّون بتوحيد الربوبية، ومنكرون لتوحيد الألوهيَّة، ويُقرِّر الله في هذه الآيات توحيد الربوبيَّة الذي أقرَّ به الكفار؛ لإلزامهم بتوحيد الألوهية الذي جحدوه، ومن هذه الآيات قول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، فبدأها بالأمر بعبادة الله، وختمها بالنهي عن الشرك، وقرَّر فيما بين ذلك توحيد الربوبية؛ لبيان أنَّ مَن تفرَّد بالخلق والإيجاد وإنزال المطر وإخراج الرزق من الأرض هو المستحقُّ لأَنْ يُعبد وحده لا شريك له، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} ، وقال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3 ـ قوله: "وهذا التفريق هو الذي جعل مقلِّدي ابن تيمية يزعمون أنَّ الله لم يبعث الرسل إلاَّ من أجل توحيد الألوهية، أمَّا توحيد الربوبية فقد أقرَّ به الكفار!! ". أقول: إنَّ بَعْثَ الله الرسل وإنزاله الكتب جاء في القرآن أنَّ ذلك لعبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، وقد جاءت الآيات في ذلك على سبيل الإجمال والتفصيل، أمَّا الإجمال ففي مثل قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} . ومن الآيات التي فيها التفصيل قوله تعالى في الأعراف عن نوح: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقوله عن هود: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقوله عن صالح: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقوله عن شعيب: {وَإِلَى مَدْيَنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقال تعالى في سورة هود: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، وقال عن كلٍّ من هود وصالح وشعيب أنَّه قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقال في سورة الشعراء عن كلٍّ من نوح وهود وصالح ولوط وشعيب أنَّهم قالوا لأقوامهم: {أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} ، وقال تعالى في سورة العنكبوت: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . فهذه الآيات كلُّها تدلُّ على أنَّ الرسلَ إنَّما بُعثوا لأمر أقوامهم بعبادة الله وحده دون مَن سواه، وعلى هذا فأهل السنة جعلوا عنايتهم واهتمامهم بما اعتنى به الرسل وبلَّغوه لأقوامهم، وهذا بخلاف غيرهم من أهل البدع، الذين جعلوا عنايتهم بتقرير توحيد الربوبية والاشتغال بالاستدلال على وجود الله وإهمال بيان توحيد الألوهيَّة والتحذير من الشِّرك، مِمَّا ترتَّب على ذلك افتتان كثير من المسلمين بالاستغاثة بغير الله ودعائه والذبح له، وغير ذلك من أنواع العبادة التي لا يجوز صرفُها لغير الله سبحانه، ومَن حصل منه ذلك وبلغته الحجَّة ولم يَتُب منه فهو مشركٌ بالله، وهذا هو الشركُ الذي بعث اللهُ الرسلَ لدعوة أقوامهم إلى تركه، أمَّا توحيد الربوبية فإنَّ الآيات الكريمة التي مرَّ ذكرُها تدلُّ على اعترافهم به، ولم يَقُل أحدٌ منهم: إنَّه مشاركٌ لله عزَّ وجلَّ في الخلق والإيجاد. 4 ـ قوله: "ونسوا أنَّ فرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، وأنَّ صاحب إبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} ، فضلاً عن سائر الملحدين في الماضي والحاضر، وغير ذلك مِمَّا يؤكِّد أنَّ الرسلَ بُعثوا للإقرار بوجود الإله وربوبيَّته واستحقاقه للعبادة، وبُعثوا بسائر أنواع العبادة والأخلاق وتحريم المحرَّمات وغير ذلك!! ". أقول: لَم ينسَ أهلُ السنَّة ما ذكره الله عن فرعون ومَن حاجَّ إبراهيم في ربِّه؛ لأنَّهما مثالان من شواذ الخلق، ولم يذكر الله عن رسله أنَّهم أمروا أقوامَهم بأن يُقرُّوا بوجود الله وربوبيَّته للعالَمين، بل إنَّما أمروهم بعبادة الله وحده، كما هو واضح من الآيات المتقدِّمة؛ وذلك لأنَّ الكفَّار الذين بُعثوا فيهم إمَّا مقرُّون بربوبية الله، وإمَّا منكرون لها علوًّا واستكباراً، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} ، وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينََ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} ، وعدم إقرار فرعون بربوبية الله هو من قبيل تجاهل العارف، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} ، وقال عزَّ وجلَّ: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} . 5 ـ أقسام التوحيد عند أهل السنَّة ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. فتوحيد الألوهية: توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء والاستغاثة والاستعاذة والذبح والنذر وغيرها من أنواع العبادة، كلُّها يجب على العباد أن يخصُّوا الله تعالى بها، وأن لا يجعلوا له فيها شريكاً. وتوحيد الربوبية: هو توحيد الله بأفعاله، كالخلق والرَّزق والإحياء والإماتة والتصرف في الكون، وغير ذلك من أفعال الله التي هو مختصٌّ بها، لا شريك له فيها. وتوحيد الأسماء والصفات: هو إثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه يليق بكمال الله وجلاله، من غير تمثيل أو تكييف، ومن غير تحريف أو تعطيل. وهذا التقسيم لأنواع التوحيد عُرف بالاستقراء من نصوص الكتاب والسنَّة، ويتَّضح ذلك بأوَّل سورة في القرآن وآخر سورة؛ فإنَّ كلاًّ منهما مشتملةٌ على أنواع التوحيد الثلاثة. فأمَّا سورة الفاتحة، فإنَّ الآيةَ الأولى منها، وهي {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} مشتملةٌ على هذه الأنواع، فإنَّ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فيها توحيد الألوهية؛ لأنَّ إضافةَ الحمد إليه من العباد عبادةٌ، وفي {رَبِّ الْعَالَمِينَ} إثباتُ توحيد الربوبيَّة، والعالَمون هم كلُّ مَن سوى الله؛ فإنَّه ليس في الوجود إلاَّ خالق ومخلوق، والله الخالق وكلُّ مَن سواه مخلوق، و (الله) و (الربُّ) اسمان لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مشتملٌ على توحيد الأسماء والصفات، و {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان من أسماء الله يدلاَّن على صفة من صفات الله، وهي الرحمة، وأسماءُ الله كلُّها مشتقَّةٌ، وليس فيها اسمٌ جامد، وكلُّ اسم من الأسماء يدلُّ على صفة من صفاته. وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه إثبات توحيد الربوبية. وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه إثبات توحيد الألوهية. وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فيه إثبات توحيد الألوهية. وأمَّا سورة الناس فقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثبات أنواع التوحيد الثلاثة؛ فإنَّ الاستعاذة بالله من توحيد الألوهية. و {بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثبات توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وهو مثل قول الله عزَّ وجلَّ في أول سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقوله: {مَلِكِ النَّاسِ} فيه إثبات الربوبية والأسماء والصفات. و {إِلَهِ النَّاسِ} فيه إثبات الألوهية والأسماء والصفات. وللابن عبد الرزاق ـ حفظه الله ووفقه لكلِّ خير ـ في ذلك رسالة مفيدة بعنوان: "القول السديد في الردِّ على من أنكر تقسيم التوحيد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 29 ـ تشنيعه على الإمام أحمد في مسألة التكفير، والردُّ عليه سوَّد المالكي عدَّة صفحات في التشنيع على الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ فيما نُقل عنه من تكفير مَن قال بخلق القرآن، وقال في (ص: 109 ـ حاشية) معلِّلاً هذا التكفير: "خروج أحمد منتصراً من السجن بعد أن ظُلم من المعتزلة وسلطتهم، وكان لنشوة الانتصار والغضب على الخصوم أثر على حدَّة الإمام في التكفير والتبديع ... وللأسف أنَّ أغلب المنتصرين لا يتحكمون في عواطفهم، خصوصاً إذا كانت الدولة والعامة معهم، فالقلائل من عقلاء الناس يتحكمون في خصوماتهم حتى لا تخرج عن الشرع!! ". وهذا منه اتِّهام للإمام أحمد بأنَّ المنقولَ عنه في تكفير مَن قال بخلق القرآن ناتجٌ عن الحدَّة والغضب والعاطفة دون مراعاة لحدود الشرع، ومع هذا الاتِّهام يزعم زوراً أنَّه حنبليٌّ نسبة للإمام أحمد، وهو لَم يَأْلُ جهداً في التشنيع عليه وعلى الحنابلة من بعده، وكأنَّه لَم ير أحداً من العلماء نُقل عنه تكفير من قال بخلق القرآن إلاَّ الإمام أحمد، وقد اطَّلع المالكي ـ وهو ينقِّب عن مثالب لأهل السنة ليشنِّع بها عليهم ـ على كتاب شرح السنة للاَّلكائي، وهو مشتملٌ على ذكر المئات من أهل العلم، نَقل عنهم القولَ بأنَّ القرآن كلامُ الله غير مخلوق، وأكثرهم نقل عنه القول بتكفير من قال بخلق القرآن، وذلك فيما يقرب من مائة صفحة من (2/227 إلى 312) ، ومنهم الأئمَّة مالك والشافعي والبخاري وسفيان الثوري ووكيع بن الجراح والأوزاعي والليث بن سعد ويحيى بن يحيى النيسابوري وعبد الله بن المبارك وأبو عبيد القاسم بن سلام، وقال في (ص: 312) : "فهؤلاء خمس مائة وخمسون نفساً أو أكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمَّة المرضيِّين، سوى الصحابة الخيِّرين، على اختلاف الأعصار ومضيِّ السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام، مِمَّن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 أخذ الناسُ بقولهم وتديَّنوا بمذاهبهم، ولو اشتغلت بنقل قول المحدِّثين لبلغت أسماؤهم ألوفاً كثيرة، لكنِّي اختصرتُ وحذفتُ الأسانيد للاختصار، ونقلتُ عن هؤلاء عصراً بعد عصر، لا يُنكر عليهم منكر، ومَن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه". أقول: هذا العدد الكبير من العلماء الذين سمَّاهم اللالكائي وهم بالمئات، والذين أشار إليهم ولم يذكر أسماءَهم وهم بالألوف هم أهل العلم بالكتاب والسنَّة، وهم أهل الحقِّ والهدى، فمَن العلماء غيرهم؟ وماذا بعد الحقِّ إلاَّ الضلال؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 30 ـ رميه أهل السنَّة بالنَّصب وزعمه أنَّ ابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير نواصب، والردُّ عليه سوَّد عدَّةَ أوراق في رمي أهل السنَّة بالنَّصب، وتسمية جماعات منهم، ثم قال (ص: 64 ـ 65) : "ثم جاء بعد هؤلاء آل تيمية بحرَّان، ثم دمشق، وابن كثير ـ رحمه الله ـ كان فيه نصب إلى حدٍّ كبير، والذهبي إلى حدٍّ ما، أما ابن تيمية إلى حدٍّ لا يُنكره باحث منصف، فاشتهر عنه النصب، وكُتبه تشهد بذلك، ولذلك حاكمه علماء عصره على جملة أمور، منها بغض علي، ولم يُحاكموا غيره من الحنابلة، مع أنَّ فيهم نصباً ورثوه عن ابن بطة وابن حامد والبربهاري وابن أبي يعلى وغيرهم. والتيار الشامي العثماني له أثر بالغ على الحياة العلمية عندنا في الخليج، وهذا من أسرار حساسيتنا من الثناء على الإمام علي أو الحسين، وميلنا الشديد لبني أميَّة، فتنبَّه!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 والنواصب لهم أقوال عجيبة كعجائب غلاة الشيعة، فمنهم من كان ينشد الأشعار التي قيلت في هجاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يلعن عليًّا وهم الأكثر، ومنهم من يتَّهم عليًّا بمحاولة اغتيال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يحرِّف الأحاديث في فضله إلى ذمٍّ، وغير ذلك مِمَّا لا أستحل ذكره هنا، والغريب في أمرنا سكوتنا عن هذه الطائفة التي كان منها مَن يذمُّ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفسه!! ". وقال في (ص: 176) : "ثم تتابع علماء الشام كابن تيمية وابن كثير وابن القيم ـ وأشدُّهم ابن تيمية ـ على التوجس من فضائل علي وأهل بيته، وتضعيف الأحاديث الصحيحة في فضلهم، مع المبالغة في مدح غيرهم!! وعلماء الشام ـ مع فضلهم ـ بشرٌُ لا ينجون من تأثير البيئة الشامية التي كانت أقوى من محاولات الإنصاف، خاصة مع استئناس هؤلاء بالتراث الحنبلي الذي خلفه لهم ابن حامد وابن بطة والبربهاري وعبد الله بن أحمد والخلال وأبو بكر ابن أبي داود!! ". وأجيب على ذلك بما يلي: 1 ـ النواصب عند أهل السنَّة هم الذين ينالون من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ويُؤذونهم، والنواصب عند المالكي وأسلافه من الرافضة هم الذين لا يغلون في عليٍّ وزوجه فاطمة وبعض أولاده، وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية عقيدة أهل السنَّة في أهل البيت وبراءتهم من طريقة الروافض والنواصب، فقال في العقيدة الواسطية: "ويُحبُّون (يعني أهل السنَّة والجماعة) أهلَ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولَّونهم، ويحفظون فيهم وصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال يوم غدير خم: "أذكركم الله في أهل بيتي" ... " إلى أن قال: "ويتبرَّؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ويَسبُّونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل"، وقد أوردتُ نقولاً كثيرة عن الصحابة ومَن سار على نهجهم في بيان فضل أهل البيت وتوقيرهم، وذلك في كتابي: "فضل أهل البيت وعلوِّ مكانتهم عند أهل السنَّة والجماعة". 2 ـ أمَّا شيخ الإسلام ابن تيمية الذي له نصيب كبير من حقد المالكي، والذي زعم زوراً أنَّه يُبغض عليًّا رضي الله عنه، فله كتاب"فضل أهل البيت وحقوقهم"، وهو مطبوع، وقد أثنى على عليٍّ وأهلِ البيت في كُتبه، ومن ذلك قوله في منهاج السنة (6/178) : "وعلي رضي الله عنه ما زالا ـ أي أبو بكر وعمر ـ مُكرِمَيْن له غاية الإكرام بكلِّ طريق، مقدِّمين له بل ولسائر بني هاشم على غيرهم في العطاء، مُقدِّمَين له في المرتبة والحرمة والمحبَّة والموالاة والثناء والتعظيم، كما يفعلان بنظرائه، ويفضِّلانه بما فضَّله الله عزَّ وجلَّ به على من ليس مثله، ولم يُعرف عنهما كلمة سوء في عليٍّ قطُّ، بل ولا في أحد من بني هاشم" إلى أن قال: "وكذلك عليٌّ رضي الله عنه، قد تواتر عنه من محبَّتهما وموالاتهما وتعظيمهما على سائر الأمَّة ما يُعلم به حاله في ذلك، ولم يُعرف عنه قطُّ كلمة سوء في حقِّهما، ولا أنَّه كان أحقَّ بالأمر منهما، وهذا معروف عند مَن عرف الأخبار الثابتة المتواترة عند الخاصّة والعامة، والمنقولة بأخبار الثقات". وقال أيضاً (6/18) : "وأمَّا علي رضي الله عنه، فأهل السنَّة يُحبُّونه ويتولَّونه، ويشهدون بأنَّه من الخلفاء الراشدين والأئمَّة المهديين". وقال أيضاً في الوصية الكبرى كما في مجموع فتاواه (3/407 ـ 408) : ((وكذلك آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها؛ فإنَّ الله جعل لهم حقًّا في الخُمس والفيء، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لنا: (قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد) ، وآل محمد هم الذين حرُمت عليهم الصدقة، هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما من العلماء رحمهم الله؛ فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الصدقة لا تحلُّ لمحمد ولا لآل محمد"، وقد قال الله تعالى في كتابه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ، وحرَّم الله عليهم الصدقة؛ لأنَّها أوساخ الناس"، وقال أيضاً كما في مجموع فتاواه (28/491) : "وكذلك أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تجب محبَّتُهم وموالاتهم ورعاية حقِّهم". 3 ـ وأمَّا الإمام الذهبي فقد أثنى على عليٍّ رضي الله عنه ثناءً عظيماً، وألَّف في مناقبه كتاباً خاصًّا، قال في كتابه تذكرة الحفاظ (1/9) : "علي بن أبي طالب أبو الحسن الهاشمي، قاضي الأئمَّة وفارس الإسلام وختن المصطفى صلى الله عليه وسلم، كان مِمَّن سبق إلى الإسلام ولم يتلعثم، وجاهد في الله حقَّ جهاده، ونهض بأعباء العلم والعمل، وشهد له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالجنَّة، وقال: "من كنت مولاه فعليٌّ مولاه"، وقال له: "أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه لا نبيَّ بعدي"، وقال: "لا يحبُّك إلاَّ مؤمن ولا يبغضك إلاَّ منافق"، ومناقب هذا الإمام جَمَّة أفردتُها في مجلد، وسمَّيته بـ (فتح المطالب في مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه) ، وكان إماماً عالماً متحريًّا في الأخذ، بحيث إنَّه يستحلف مَن يحدِّثه بالحديث". 4 ـ وأمَّا الإمام ابن القيم فقد قال في بيان منزلة أهل البيت في كتابه الصواعق المرسلة كما في مختصره لابن الموصلي (1/90) في بيان أسباب قبول التأويل الفاسد: "السبب الثالث: أن يَعْزُو المتأوِّلُ تأويلَه إلى جليلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 القَدْر، نبيلِ الذِّكر، مِن العقلاء، أو مِن آل بيت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو مَن حصل له في الأمَّة ثناءٌ جميل ولسانُ صِدق؛ ليُحلِّيه بذلك في قلوب الجُهَّال، فإنَّه من شأن الناسِ تعظيمُ كلامِ مَن يَعظُمُ قدْرُه في نفوسهم، حتى إنَّهم لَيُقدِّمون كلامَه على كلام الله ورسوله، ويقولون: هو أعلمُ بالله منَّا! وبهذا الطريق توصَّل الرافضةُ والباطنيَّةُ والإسماعليَّةُ والنُّصيريَّة إلى تنفيقِ باطلهم وتأويلاتِهم حين أضافوها إلى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لِمَا علموا أنَّ المسلمين متَّفقون على مَحبَّتِهم وتعظيمِهم، فانتمَوا إليهم وأظهروا مِن مَحبَّتِهم وإجلالهم وذِكر مناقبهم ما خُيِّل إلى السَّامع أنَّهم أولياؤهم، ثم نفقوا باطلَهم بنسبتِه إليهم. فلا إله إلاَّ الله! كم مِن زندقَةٍ وإلحادٍ وبدعةٍ قد نفقت في الوجود بسبب ذلك، وهم بُرآءُ منها. وإذا تأمَّلتَ هذا السَّببَ رأيتَه هو الغالب على أكثر النفوس، فليس معهم سوى إحسان الظنِّ بالقائل، بلا بُرهان من الله قادَهم إلى ذلك، وهذا ميراثٌ بالتعصيب من الذين عارضوا دين الرُّسل بما كان عليه الآباء والأسلاف، وهذا شأنُ كلِّ مقلِّدٍ لِمَن يعظمه فيما خالف فيه الحقَّ إلى يوم القيامة". 5 ـ وأمَّا الإمام ابن كثير، فقد قال في تفسيره لآية الشورى بعد أن بيَّن أنَّ الصحيح تفسيرها بأنَّ المرادَ بـ {الْقُرْبَى} بطون قريش، كما جاء ذلك في تفسير ابن عباس للآية في صحيح البخاري، قال رحمه الله: "ولا نُنكرُ الوُصاةَ بأهل البيت والأمرَ بالإحسان إليهم واحترامِهم وإكرامِهم؛ فإنَّهم من ذريَّةٍ طاهرَةٍ، مِن أشرف بيتٍ وُجِد على وجه الأرض، فخراً وحسَباً ونَسَباً، ولا سيما إذا كانوا متَّبعين للسُّنَّة النَّبويَّة الصحيحة الواضحة الجليَّة، كما كان سلفُهم، كالعباس وبنيه، وعليٍّ وأهل بيته وذريَّتِه، رضي الله عنهم أجمعين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وبعد أن أورد أثرَين عن أبي بكر رضي الله عنه، وأثراً عن عمر رضي الله عنه في توقير أهل البيت وبيان علوِّ مكانتِهم، قال: "فحالُ الشيخين رضي الله عنهما هو الواجبُ على كلِّ أحدٍ أن يكون كذلك، ولهذا كانا أفضلَ المؤمنين بعد النَّبيِّين والمرسَلين، رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين". 6 ـ قوله: "والغريب في أمرنا سكوتنا عن هذه الطائفة التي كان منها مَن يذمُّ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفسه!! ". أقول: أهل السنَّة لم يسكتوا عن المالكي الذي ذمَّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنَّهم يُذادون عن الحوض ويُؤمر بهم إلى النار، ولا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل همَل النعم، فكيف يسكتون عمَّن يذمُّ الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب"الصارم المسلول على شاتم الرسول" صلى الله عليه وسلم. وأمَّا ما زعمه أنَّ من النواصب مَن يتَّهم عليًّا بمحاولة اغتيال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ منهم من ينشد الأشعار في هجاء الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو من أسوأ هذيان المالكي، والعجيب أنَّه لم يحمله الحياء على ترك التفوه بهذا الإفك المبين. وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة في الخليج في هذا العصر عندهم حساسية من الثناء على عليٍّ والحسين رضي الله عنهما، فهو من أقبح الكذب وأبطل الباطل؛ فإنَّ أهل السنَّة في هذه البلاد يُعظِّمون عليًّا رضي الله عنه وغيرَه من أهل البيت ويتوَلَّونهم جميعاً، فلا يغلون في أحد منهم ولا يجفون في أحد. وأهل السنَّة في هذه البلاد بخير، ولا يسوؤهم ويكدر صفوهم إلاَّ وجود المالكي وأمثاله من أهل الزيغ والضلال بينهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 31 ـ استشهاده لباطله بكلام لعَمرو بن مُرَّة ومحمد بن إبراهيم الوزير والمقبلي والصنعاني والقاسمي، والردُّ عليه أورد في نهاية قراءته المزعومة في كتب العقائد ملحقاً بعنوان: "ملحق بأقوال بعض العلماء والباحثين قديماً وحديثاً"، قال فيه: "هذا الملحق خاصٌّ ببعض الأقوال لبعض العلماء والمهتمين في الماضي والحاضر، أحببت إيرادها هنا لتعلقها بالموضوع، ولم أشأ أن أتوسَّع في ذكر النماذج، وإلاَّ فهي كثيرة والحمد لله، لكن سأختار ما يتفق مع المنهج الذي طرحته في هذا الكتاب أو كان قريباً من ذلك، وقد اكتشفت بأنَّ هذا المنهج ـ الذي يرجع للكتاب والسنَّة ولا يتعصَّب للطوائف الأخرى أو على الأقل يحاول الإنصاف ـ كثير طرقه عند علماء المسلمين وباحثيهم، سنذكر منهم على سبيل المثال بعض النماذج!! ". ثم ذكر خمسة من العلماء مضوا، وهم عمرو بن مرَّة المتوفى سنة (118هـ) ، ومحمد بن إبراهيم الوزير المتوفى سنة (840هـ) ، وصالح بن مهدي المقبلي المتوفى سنة (1108هـ) ، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني المتوفى سنة (1182هـ) ، ومحمد جمال الدين القاسمي المتوفى سنة (1332هـ) ، أراد بذكرهم الاستشهاد على ما زعمه من الاكتفاء بإسلام لا مجال فيه للحبِّ في الله والبغض في الله، ولا يُتعرَّض فيه لأمور العقيدة، ولا للتحذير من البدع، ويُكتفى فيه بإسلام جملي، مع الواجبات الظاهرة والمحرَّمات الظاهرة، وقد زعم أنَّ العلماء على هذه الطريقة كثيرون، ولكنَّه اختار منهم هؤلاء، ولا شكَّ أنَّه متكثِّر بهذا العدد القليل من قلَّة، وأنَّ إشارتَه إلى كثرتهم هي من قَبيل التهويل والتلبيس، وإلاَّ فكيف لم يظفر خلال الثمانية القرون الأولى إلاَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 بشخص واحد، وهو عمرو بن مرة، مع أنَّ الأثر الذي أضافه إليه لم يثبت، كما سأبيِّنه قريباً. وكذلك الأربعة الباقون، سأذكر من كلامهم ما يوضِّح أنَّهم في واد وهو في واد آخر، وأنَّهم يبيِّنون الحقَّ في العقيدة، ولا يكتفون بالإيمان الجملي المزعوم، الذي لا يُتعرَّضُ معه لمباحث العقيدة. فأمَّا عمرو بن مرَّة، فقد أورد عنه أثراً من كتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، لمحمد بن أحمد بن أبي بكر البناء البشاري المتوفى سنة (375هـ) ، وهو بإسناده إلى مسعر بن كدام، قال: "ما أدركت من الناس من له عقلٌ كعقل ابن مرة، جاءه رجلٌ، فقال: عافاك الله، جئتُ مسترشداً، إنَّني رجلٌ دخلت في جميع هذه الأهواء، فما أدخل في هوى منها إلاَّ القرآن أدخلني فيه، ولم أخرج من هوى إلاَّ القرآن أخرجني منه، حتى بقيتُ ليس في يدي شيء؟ قال: فقال له عمرو بن مرة: الله الذي لا إله إلاَّ هو! جئتَ مسترشداً؟ فقال: والله الذي لا إله إلاَّ هو! لقد جئتُ مسترشداً. قال: نعم! أرأيتَ هل اختلفوا في أنَّ محمداً رسول الله، وأنَّ ما أتى به من الله حقٌّ؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في القرآن أنَّه كتاب الله؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في دين الله أنَّه الإسلام؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الكعبة أنَّها القبلة؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الصلوات أنَّها خمس؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في رمضان أنَّه شهرهم الذي يصومونه؟ قال: لا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 قال: فهل اختلفوا في الحج أنَّه بيت الله الذي يحجُّونه؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الزكاة أنَّها من مائتي درهم خمسة؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الغسل من الجنابة أنَّه واجب؟ قال: لا. قال مسعر: فذكر هذا وأشباهه، ثم قرأ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} ، فهل تدري ما المحكم؟ قال: لا. قال: فالمحكم ما اجتمعوا عليه، والمتشابه ما اختلفوا فيه، شد نيَّتك في المحكم، وإيَّاك والخوض في المتشابه، قال: فقال الرجل: الحمد لله الذي أرشدني على يديك، فوالله! لقد قمت من عندك وإنِّي لَحَسن الحال، قال: فدعا له وأثنى عليه". وهذا الأثر في إسناده مَن لم أقف على تراجمهم، وفيه بشر بن عمارة الذي يروي عن مسعر، قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: "ضعيف"، فهو غير ثابت عن عمرو بن مرة. وقوله في متنه: "أرأيتَ هل اختلفوا في أنَّ محمداً رسول الله، وأنَّ ما أتى به من الله حقٌّ؟ "، أقول: ما جاء به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حقٌّ يجب الإيمان به جملة وتفصيلاً، ويدخل في ذلك كلُّ ما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمالكي لا يقبل من الأحاديث الصحيحة إلاَّ ما يوافق هواه، وهو يزعم أيضاً أنَّه لا يعوِّل إلاَّ على ما كان من النصوص قطعيَّ الثبوت قطعيَّ الدلالة، وهذه طريقة أهل البدع، الذين لا يأخذون بأحاديث الآحاد في العقيدة؛ لأنَّها ليست قطعيةَ الثبوت بزعمهم، ثم أيضاً فأهل السنَّة لم يختلفوا في أنَّ القرآنَ كلامُ الله وأنَّه غير مخلوق، وأن الله يُرى في الدار الآخرة، وأنَّ عذاب القبر حقٌّ، وهذه المسائل الثلاث وغيرها مِمَّا خالف فيها بعض المبتدعة، والمالكي لا يريد ذكر شيء فيه اختلاف بين أهل السنَّة وغيرهم من فرق الضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وأمَّا محمد بن إبراهيم الوزير، فلَم ينقل عنه كلاماً، بل اكتفى بقوله (ص: 208) : "كل كتاب إيثار الحق على الخلق"، ولم يتحقَّق له ما أراده من الاستشهاد لكون الحقِّ لا يكون مع فرقة معيَّنة إلاَّ نادراً، وأنَّ كلًَّ فرقة ممسكة بطرف من الحقِّ كما زعم ذلك؛ فإنَّ باقي عنوان الكتاب يدلُّ على ردِّ الخلاف إلى القول الحقِّ؛ إذ إنَّ عنوانَ كتابه: "إيثار الحقِّ على الخلق في ردِّ الخلافات إلى المذهب الحقِّ من أصول التوحيد"، وقد قال في (ص: 45) : ((والطرق إلى الله تعالى كثيرة جدًّا، ولكنَّا نقتصر منها على أصحِّها وأجلاها وأوضحها وأشفاها؛ حتى نأمن بالسلوك فيها من الضلال في الطرق التي تُبعُدُ السائرَ فيها عن مقصوده والعياذ بالله، وإلى تلك الطرق الإشارة بقوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ، وقد يكون فيها ما يستلزم رد كثير من الشرائع". وأمَّا المقبلي، فإنَّه نقل عنه من أول كتابه: "العلم الشامخ في تفضيل الحقِّ على الآباء والمشايخ" كلاماً في اعتماده على الدليل وعدم تقليده لأحد، وهو لا يدلُّ على ما زعمه المالكي من الاكتفاء بإسلام لا يُتعرَّض فيه لمسائل العقيدة، ولا يُحذَّر فيه من بدعة؛ فإنَّ كتابَه المذكور مشتمل على تقرير حسن لبعض المسائل في العقيدة، ومن ذلك قوله في (ص: 57) : "وما أحسن جواب بعض المحدِّثين وقد سُئل عن أحاديث الصفات، فقال: رواها لنا الذين رووا لنا الصلاة والزكاة وسائر الشريعة، انتهى. فالواجب تسليم ما صحَّ، وما اشتبه معناه رددناه إلى الله سبحانه، ولا يغرَّنك قولهم: آحاديٌّ فلا نقبله في مقابلة العقل؛ لأنَّ ما رواه الثقات مقبول، وإلاَّ اطَّرحنا أكثرَ الشريعة، والدليل على قبول الآحاد شامل لكلِّ الدين، والتفرقة جاءت من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 قِبَلهم لا من قِبَل الله ورسوله، والعقل قد فرضنا أنَّه لم يدرك حقيقة ذلك، فكيف يُقال: إنَّه مصادمٌ له؟! ". وهذا الكلام من المقبلي ـ رحمه الله ـ مناقضٌ لما زعمه المالكي متابعاً المتكلِّمين أنَّه لا يُعوَّل من النصوص إلاَّ على ما كان قطعيَّ الثبوت والدلالة، فإنَّ المقبليَّ قرَّر بكلامه أنَّ أحاديث الآحاد حجَّةٌ في العقائد وغيرها، وأنَّ التفريقَ بينها إنَّما جاء من قبَل المتكلمين، وقوله في (ص: 161) : "كما أنَّ المتكلِّمين خاطروا في النظر في ماهية الصفات في حقِّ الله تعالى، وتكلَّفوا ما لا يعنيهم من عدم الاقتصار على المدلول اللغوي العربي الذي يُحمل عليه كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنَّهم قد اقتحموا أطمَّ من ذلك، وسلكوا أصعبَ المسالك، واقتصروا على إثبات قليل من الصفات، كقادر وعالم ونحوهما، ونفوا سائر الصفات وجعلوها مجازات كصفة الرِّضا والغضب والمحبَّة والرحمة والحلم، وغير ذلك مِمَّا وصف به تعالى نفسه، وكرَّر التمدُّح به، ومِمَّا صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم". ثم إنَّ المالكيَّ ومعه أحد الضُّلاَّل الذين ذكرهم في آخر كتابه يعيبون على أهل السنَّة ذكرهم الدجَّال والمهدي في كتب العقائد، وقد تقدَّم ذلك، والمقبلي قد ذكر الدجَّال والمهدي وغير ذلك من أشراط الساعة في كتابه هذا (ص: 69 ـ 70) . وأمَّا الصنعاني، فقد نقل عنه كلاماً عاماًّ لا يدلُّ على ما أراده من الاكتفاء بإسلام لا يُتعرَّض فيه للبدع، فإنَّه ـ رحمه الله ـ قد ألَّف كتاب ((تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد"، أوضح فيه توحيد الألوهية، وأنَّه الذي بعث الله من أجله الرسلَ، وبيَّن خطورة الشرك، وبطلان ما وقع فيه كثيرٌ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 المسلمين من الافتتان بالقبور والاستغاثة بأهلها، وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأنَّ هذا من الشرك بالله، وهذا ما لا يريده المالكي الذي شنَّع على الإمام ابن تيمية في عنايته واهتمامه بتوحيد الألوهية، وقد مرَّ الردُّ عليه في ذلك قريباً. وبراعة الصنعاني ـ رحمه الله ـ في استهلال كتابه واضحة جليَّة في الدلالة على المقصود؛ حيث قال في مطلع كتابه: "الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيَّته من العباد حتى يُفردوه بتوحيد العبادة كلَّّ الإفراد، ومن اتِّخاذ الأنداد، فلا يتَّخذون له ندًّا، ولا يدعون معه أحداً، ولا يتَّكلون إلاَّ عليه، ولا يفزعون في كلِّ حال إلاَّ إليه، ولا يدعونه بغير أسمائه الحسنى، ولا يتوصَّلون إليه بالشفعاء {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ". وأنا أنقل من هذا الكتاب جُملاً تُبيِّن أنَّ الصنعانيَّ في واد والمالكي في واد آخر، فمن ذلك قوله (ص: 17 ـ 18) : "فهذا تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، وجب عليَّ تأليفُه، وتعيَّن عليَّ ترصيفُه، لِمَا رأيته وعلمته من اتِّخاذ العباد الأنداد، في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن إلى الشام ومصر ونجد وتهامة وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء مِمَّن يدَّعي العلم بالمغيَّبات والمكشفات وهو من أهل الفجور، لا يحضر للمسلمين مسجداً، ولا يُرى لله راكعاً ولا ساجداً، ولا يعرف السنَّة ولا الكتاب، ولا يهاب البعثَ ولا الحساب، فواجبٌ عليَّ أن أُنكرَ ما أوجب اللهُ إنكارَه، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب اللهُ إظهارَه". وقوله (ص: 24) : "ثمَّ إنَّ رأسَ العبادة وأساسَها التوحيدُ لله، الذي تفيده كلمته التي إليها دعت جميع الرسل، وهي قول لا إله إلاَّ الله، والمراد اعتقاد معناها والعمل بمقتضاها، لا مجرَّد قولها باللسان، ومعناها إفراد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 بالعبادة والإلهية، والنفي والبراءة من كلِّ معبود دونه، وقد علم الكفار هذا المعنى؛ لأنَّهم أهلُ اللسان العربي، فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ". وقوله (ص: 25) : "وإذا تقرَّرت هذه الأمور، فاعلم أنَّ الله تعالى بعث الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام من أوَّلهم إلى آخرهم يدعون العبادَ إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنَّه خلقهم ونحوه؛ إذ هم مُقرُّون بذلك كما قررناه وكرَّرناه، ولذا قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} ، أي: لنفردَه بالعبادة ونخصَّه بها من دون آلهتنا؟ فلم يُنكروا إلاَّ طلب الرُّسل منهم إفراد العبادة لله، ولم يُنكروا الله تعالى، ولا قالوا: إنَّه لا يُعبد، بل أقرُّوا بأنَّه يُعبد، وأنكروا كونه يُفرَدُ بالعبادة، فعبدوا مع الله غيرَه، وأشركوا معه سواه، واتَّخذوا معه أنداداً، كما قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، أي: وأنتم تعلمون أنَّه لا ندَّ له، وكانوا يقولون في تلبيتهم للحجِّ: (لبَّيك لا شريك لك إلاَّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك") . وقوله (ص: 39 ـ 40) : "فهؤلاء القبوريُّون والمعتقدون في جُهَّال الأحياء وضلالهم سلكوا مسالك المشركين حذو القُذَّة بالقُذَّة، فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يعتقد إلاَّ في الله، وجعلوا لهم جزءاً من المال، وقصدوا قبورَهم من ديارهم البعيدة للزيارة، وطافوا حول قبورهم، وقاموا خاضعين عند قبورهم، وهتفوا بهم عند الشدائد، وتحروا تقرُّباً إليهم، وهذه هي أنواع العبادات التي عرفناك، ولا أدري هل فيهم مَن يسجد لهم؟ لا أستبعد أنَّ فيهم من يفعل ذلك، بل أخبرني مَن أثق به أنَّه رأى مَن يسجد لهم على عتبة باب مشهد الوليِّ الذي يقصده، تعظيماً له وعبادة، ويُقسمون بأسمائهم، بل إذا حلف مَن عليه حقٌّ باسم الله تعالى لم يقبلوا منه، فإذا حلف باسم وليٍّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 من أوليائهم قبلوه وصدَّقوه، وهكذا كان عبَّادُ الأصنام إذا ذكِر الله وحده اشمأزَّت قلوبُ الذين لا يؤمنون بالآخرة، وإذا ذكِر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ... فإن قلتَ: لا سواء؛ لأنَّ هؤلاء قد قالوا: لا إله إلاَّ الله، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أُمرتُ أن أقاتل الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله، فإذا قالوها عصموا منِّي دماءَهم وأموالَهم إلاَّ بحقِّها"، وقال لأسامة بن زيد: "قتلتَه بعد ما قال: لا إله إلاَّ الله؟! " وهؤلاء يُصلُّون ويصومون ويُزكُّون ويَحجُّون، بخلاف المشركين. قلتُ: قد قال صلى الله عليه وسلم: (إلاَّ بحقِّها) ، وحقُّها إفراد الإلهية والعبودية لله تعالى، والقبوريُّون لًم يُفردوا الإلهية والعبادة، فلَم تنفعهم كلمة الشهادة؛ فإنَّها لا تنفع إلاَّ مع التزام معناها، كما لم ينفع اليهود قولها لإنكارهم بعض الأنبياء، وكذلك من جعل غير مَن أرسله الله نبيًّا لم تنفعه كلمة الشهادة، ألا ترى أنَّ بني حنيفة كانوا يشهدون أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله ويُصلُّون، ولكنَّهم قالوا: إنَّ مسيلمةَ نبيٌّ، فقاتلهم الصحابة وسَبَوْهم، فكيف بمَن يجعل للوليِّ خاصَّة الإلهية ويُناديه للمهمَّات؟! وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حرَّق أصحابَ عبد الله بن سبأ، وكانوا يقولون: نشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، ولكن غلوا في عليٍّ رضي الله عنه، واعتقدوا فيه ما يعتقد القبوريُّون وأشباههم، فعاقبهم عقوبةً لم يُعاقب بها أحداً من العُصاة؛ فإنَّه حفر لهم الحفائر، وأجَّج لهم ناراً وألقاهم فيها، وقال: إنِّي إذا رأيتُ الأمرَ أمراً منكراً ... أججتُ ناري ودعوتُ قُنبرا وقوله (ص: 45 ـ 46) : "فإن قلتَ: هذا أمرٌ عمَّ البلاد، واجتمعت عليه سكان الأغوار والأنجاد، وطبق الأرض شرقاً وغرباً ويَمَناً وجنوباً وعَدَناً؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 بحيث لا تجد بلدة من بلاد الإسلام إلاَّ وفيها قبور ومشاهد، وأحياء يعتقدون فيها ويُعظِّمونها، ويَنذرون لها ويهتفون بأسمائها ويحلفون بها، ويطوفون بفناء القبور، ويُسرجونها، ويلقون عليها الأوراد والرياحين، ويُلبسونها الثياب، ويصنعون كلَّ أمر يقدرون عليه من العبادة لها، وما في معناها من التعظيم والخضوع والخشوع والتذلُّل والافتقار إليها، بل هذه مساجد المسلمين غالبها لا يخلو عن قبر أو قريب منه، أو مشهد يقصده المصلُّون في أوقات الصلاة، يصنعون فيه ما ذُكر أو بعض ما ذُكر، ولا يسع عقل عاقل أنَّ هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة، ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع جهات الدنيا. قلت: إن أردتَ الإنصافَ، وتركتَ متابعةَ الأسلاف، وعرفتَ أنَّ الحقَ ما قام عليه الدليل، لا ما اتَّفق عليه العوالم جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل، فاعلم أنَّ هذه الأمور التي نُدندن حول إنكارها، ونسعى في هدم منارها صادرة عن العامة الذين إسلامُهم تقليد الآباء بلا دليل، ومتابعتهم لهم من غير فرق بين دنيٍّ ومثيل، ينشأ الواحدُ فيهم فيجدُ أهلَ قريته وأصحابَ بلدته يُلقِّنونه في الطفولية أن يهتف باسم مَن يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون عليه ويُعظِّمونه، ويرحلون به إلى محلِّ قبره، ويلطخونه بترابه، ويجعلونه طائفاً بقبره، فينشأ وقد قرَّ في قلبه ما يعظِّمونه، وقد صار أعظم الأشياء عنده مَن يعتقدونه، فنشأ على هذا الصغير، وشاخ عليه الكبير، ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير، بل ترى مَن يتَّسم بالعلم، ويدَّعي الفضلَ وينتصب للقضاء والفتيا والتدريس، أو الولاية أو المعرفة، أو الإمارة والحكومة، معظِّماً لِمَا يُعظِّمونه، مُكرماً لِمَا يُكرمونه، قابضاً للنذور، آكلاً ما يُنحَرُ على القبور، فيظنُّ العامَّةُ أنَّ هذا دينُ الإسلام، وأنَّه رأسُ الدين والسَّنام، ولا يخفى على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 أحد يتأهَّل للنظر، ويعرف بارقة من علم الكتاب والسنَّة والأثر، أنَّ سكوتَ العالِم أو العالَم على وقوع منكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر". ثمَّ ضرب لذلك أمثلةً، بيَّن فيها أنَّ الإنكارَ على ثلاث درجات، وأنَّ الإنكارَ بالقلب أقلُّها، وأقلُّ أحوال العالِم إذا لَم يُمكنه الإنكار بيده ولسانه أن يُنكرَ بقلبه. وهذه النقول عن الإمام الصنعاني هي بمنزلة الصواعق على هذا المالكي الذي أراد أن يستشهدَ بشيء من كلامه على تأييد باطله، فلَم تقرَّ عينه بذلك. وهذا الذي قرَّره الإمام الصنعاني في كتابه"تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد" هو الذي شنَّع به هذا الحاقد الضال على الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في كتابه السيِّء الذي كتبه عنه، مع أنَّ الشيخ محمداً ـ رحمه الله ـ نصَّ على إقامة الحجَّة على المفتونين بعبادة أصحاب القبور، وقد ردَّ عليه الشيخ ربيع بن هادي المدخلي في كتابه"دحر افتراءات أهل الزيغ والارتياب عن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ أباطيل حسن المالكي". وأمَّا القاسمي، فإنَّه وإن وُجد له كلامٌ فيه تساهل مع بعض أهل البدع، فإنَّه لا صلة البتَّة للمالكي به؛ لأنَّ المالكيَّ موغلٌ في البدع، ويحتفي بالمبتدعة على مختلف أصنافهم، ولا يُعادي إلاَّ أهل السنَّة والجماعة بدءاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن سارَ على نهجهم حتى عصرنا، وهذا بخلاف القاسمي تماماً؛ فإنَّه قد ألَّف كتاباً نفيساً بعنوان"إصلاح المساجد من البدع والعوائد"، ذمَّ فيه البدع وحذَّر منها، قال في مقدِّمته (ص: 7) : "أمَّا بعد، فلمَّا كان الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، والمهمُّ الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ابتعث الله له النبيِّين، وجب على كلِّ مستطيع له أن يقتحمَ لوجه الله سُبلَه، خشيةَ أن تعمَّ البدعةُ وتفشو الضلالة، ويتَّسع الخرقُ وتشيع الجهالةُ، فتموت السنَّةُ ويندرس الهدي النبوي، ويُمحى من الوجود معالم الصِّراط السويِّ، ولَمَّا أضحت البدع الفواشي، كالسحب الغواشي، يتعذَّر على البصير حصرُها، وضبطُ أفرادها وسبرُها، رأيت أن أدلَّ بجزئيٍّ منها على كليَّاتها، وبنبذة منها على بقيَّاتها، وذلك في البدع والعوائد، الفاشية في كثير من المساجد؛ لأنِّي ابتُليتُ كآبائي بإمامة بعض الجوامع في دمشق الشام، وبالقيام بالتدريس العام، فكنتُ أرى من أهمِّ الواجبات إعلام الناس بما ألَمَّ بها من البدع والمنكرات؛ فإنَّ القيِّمَ مسئول عن إصلاح مَن في معيَّته، وفي الحديث (كلُّكم راع وكلُّكم مسئولٌ عن رعيَّته) ، فاستعنتُ بالله تعالى في الشروع، وتوكَّلتُ عليه في إتمام هذا الموضوع، ونقَّبت لأجله عن شوارد الأسفار، وضممتُ إليه ما يُروي البصائر والأبصار، وعزوتُ غالبَ فروعه لأصلها، ردًّا للأمانات إلى أهلها، تطميناً للمرتابين، وتثبيتاً للمؤمنين، فجاء فريداً في بابه، أمنية لطلابه، ولم أجد مَن سبقني إليه، فأعرج بالاحتذاء عليه، بل كان ترتيبه مخترعاً، وتقسيمه مبتدَعاً، وذلك من فضل الله عليَّ، ومننه التي لا أحصي ثناءها لديَّ، وبه المستعان، وعليه التكلان في كلِّ آن". ثم ذكر مقدِّمات في البدع عموماً، من عناوينها: ـ بيان الميزان الذي يُعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه. ـ الترهيب من الابتداع. ـ معنى البدعة. ـ ردُّ البدعة في الدِّين. ـ بغض المبتدع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ـ وعيد مَن سنَّ سنَّة سيِّئة. ـ مفاسد الإقرار على البدع. ـ ما يجب على العالِم فيما يرد عليه مِمَّا لا يُؤمَن فيه من البدع. ـ اجتناب العالم ما يتورَّط بسببه العامة. ـ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ـ بيان من هو المستطيع لإزالة البدع في المساجد. ـ نقم المتعصِّبين على منكر البدع بغياً وجهلاً. ـ عدوى البدع من شؤم المخالطة. ـ السعي بإزالة البدع من المساجد. وفي ثنايا الكتاب ذكر في (ص: 164) من بدع المساجد دفن الميت في المسجد أو بناء مسجد عليه، وذكر من البدع (ص: 209) إسراج الضرائح، وذكر غير ذلك من البدع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 32 ـ تكثُّره بأربعة نوابت حُدثاء الأسنان شاركوه في الضلال، وذِكره شيئاً من أباطيلهم، والردُّ عليه وعليهم وكما أسَّس المالكي قراءته المزعومة في كتب العقائد على سوء، وبناها على سوء، فقد ختمها بخاتمة سيِّئة، وذلك بذِكر مقالات لأربعة نوابت ضُلاَّل تكثَّر بهم، ووصفهم بأنَّهم باحثون، وهو بذلك استسمن ذا وَرم، والطيورُ على أشكالها تقع، وسأوردُ بعضَ هذيان هؤلاء النوابت مع الردِّ عليهم، وذلك فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ـ فأوَّلُ هؤلاء النوابت الأربعة، مَن سمَّاه المالكي (سعود الصالح) ، وقد ذكر له مقالاً بعنوان: "مسلسل الإضافات على العقيدة فرَّق المسلمين جماعات) ، وقد سبق للمالكيِّ أنَّه عاب على أهل السُّنَّة أنَّهم وسَّعوا جانب العقيدة مع تشدُّد على المخالفين، وأشار إلى مقال هذا النابتة، وقد مرَّ في المبحث (10) الردُّ عليهما في بعض هذيانهما، فنكتفي بذلك. ـ وثاني هؤلاء النَّوابت مَن سمَّاه المالكي (سعود بن عبد الرحمن النَّجدي) ، فقد ذكر له مقالاً بعنوان: "عقيدة الله أم عقيدة المذهب؟! "، وذكر أنَّه نُشر في الانترنت، وإنَّ مَن يقرأ كتاب قراءة المالكي المزعومة في كتب العقائد، ثم يقرأ هذا المقالَ يجد أنَّ المقالَ تلخيصٌ للقراءة المزعومة، مِمَّا يغلب معه على الظنِّ أنَّ مصدرَهما واحدٌ، وقد تباكى هنا على قتل رؤوس المبتدعة كغيلان الدمشقي والجعد والجهم (ص: 227) ، كما تباكى المالكي في القراءة المزعومة، ومرَّ الردُّ عليه في ذلك. وكما أنَّني لَم أردَّّ على كلِّ ما في الأصل من هذيان، فسأقتصرُ هنا على الردِّ على بعض هذا الهذيان، فمِن ذلك قوله في (ص: 228) : "وللتقليد في العقائد حديثٌ عجيب؛ فإنَّه لا يخلو منه مذهب من المذاهب، بل لَم ينج منه إلاَّ أفراد قلائل، مثل ابن حزم وابن الوزير والمقبلي!! ". وقوله (ص: 229 ـ 230) : " (أهل السُّنَّة والحديث) : وعندهم يظهر التقليد جليًّا، لا سيما وهم لا يرضون أن يفهم أحدٌ الكتابَ والسُّنَّة إلاَّ على ضوء فهم (السلف) ، وطرُقهم في ترسيخ التقليد كثيرة، فمن ذلك تقديس علماء مذهبهم، وأنَّه بهم تُعرف السنَّة ويُوصل إلى الحقِّ، فمَن طعن في حماد ابن سلمة أو الأوزاعي أو الأعمش أو أبي مسهر فهو مبتدع ... وفَهْمُ هؤلاء السلف مقدَّمٌ على فهمنا، ومَن خالفهم فليَتَّهم نفسَه، ومن أوضح النصوص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 على هذا، النصُّ المنسوب إلى عمر بن عبد العزيز "وهو في ذمِّ القول بالقدر فتنبَّه! "، وفي هذا النصِّ يقول عمر: "فارضَ لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، وقِف حيث وقفوا؛ فإنَّهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولَهُم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل فيه لو كان أحرى، فإنَّهم هم السابقون، ولئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه (أي وهذا مستحيل!) ، ولئن قلت حدَث بعدهم حدَثٌ، فما أحدثه إلاَّ من تبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم، ولقد تكلموا فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسر، لقد قصر دونهم قوم فجفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، وإنَّهم مع ذلك لعلى صراط مستقيم، فلئن قلت: فأين آية كذا؟ ولِمَ قال الله كذا وكذا؟ لقد قرؤوا منه ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم" انتهى. ومن شعارات مذهب أهل السُّنَّة والحديث: (اتَّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم) . هذه حال السَّلف عندهم، أمَّا مخالفو هؤلاء السلف فهم مبتدعة أهل سوء، تكتب الكتب والأبواب في ذمِّهم، وزيادة في التنفير من مذاهبهم!!! ". وأجيب على ذلك بما يلي: 1 ـ أهل السُّنَّة والجماعة عقيدتُهم واحدة، وهي مبنيَّةٌ على علم بالكتاب والسُّنَّة، وهم متَّفقون فيها، وما زعمه هذا الزاعم من أنَّه لم ينجُ من التقليد في العقيدة إلاَّ أفراد قلائل، مثل ابن حزم وابن الوزير والمقبلي، فيه اتِّهامٌ لعلماء أهل السُّنَّة بأنَّ اعتقادَهم ليس عن علم، بل عن تقليد، وقد مرَّ قريباً النقل عن ابن الوزير والمقبلي ما يوافق عقيدة أهل السُّنَّة، وأمَّا ابن حزم فهو ظاهريٌّ في الفروع مؤوِّلٌ في الأصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 2 ـ أهل السُّنَّة والجماعة بعد الصحابة على عقيدة الصحابة، وهي منهم مبنيَّةٌ على علم، وليس مجرَّد تقليد؛ لأنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم هم الذين شهدوا التنزيل وأعلم بالتأويل، وقد وصف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الفرقةَ الناجية بأنَّهم الجماعة، وأنَّهم مَن كان على ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والطعنُ في حَمَلة الآثار الثقات طعنٌ في الآثار التي يروونها؛ لأنَّ القدحَ في الناقل قدحٌ في المنقول، وقد سبق الإيضاحُ والبيانُ لكون منهج أهل السُّنَّة والجماعة في العقيدة اتِّباع الكتاب والسنَّة بفهم السلف، وأنَّ المالكيَّ زعم أنَّ ذلك بدعةٌ، وأنَّ السُّنَّة عند المالكي بدعةٌ والبدعةَ سنَّةٌ. وأمَّا أثر عمر بن عبد العزيز المشار إليه فهو ثابتٌ عنه، أخرجه أبو داود (4612) . وأمَّا قوله: "ومن شعارات مذهب أهل السُّنَّة والحديث: (اتَّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم) ، هذه حال السَّلف عندهم، أمَّا مخالفو هؤلاء السلف فهم مبتدعة أهل سوء!! ". فنعم! هذا من شعار مذهب أهل السُّنَّة، وهذه هي حالُهم، وما أحسن هذا الشعار وهذه الحال المبنيَّة على اتِّباع الكتاب والسنَّة ونبذ البدع، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ، وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ، وقال صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديِّين الراشدين من بعدي، تَمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"، وفي لفظ آخر: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ"، وهذا الذي قال إنَّه شعارُ مذهب أهل السُّنَّة، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 "اتَّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتُم" هو قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه الدارمي في سننه (211) . ـ وأمَّا الثالث من هؤلاء النوابت، وهو منصور بن إبراهيم النقيدان، فذكر له مقالاً بعنوان: "ظاهرة التكفير والاتِّهام بالزندقة في الفكر الإسلامي"، وأنا أشير إلى بعض ما في هذا المقال مع التعقيب على ذلك، فمن ذلك قوله في (ص: 234 ـ 235) : "لقد كان اتهام الناس بالزندقة كاتِّهام الآخرين اليوم بالعلمانية والتبشير بالحداثة والدعوة إلى تحرير المرأة، فسهل اضطهاد أيِّ مفكِّر وعالم بمجرَّد أن يوجَّه إليه الاتِّهام بالزندقة والإلحاد، وزاد الأمر بلاء ما ذهب إليه بعض الفقهاء من قتل الداعي إلى البدعة، فأصبح كلَّما نبغ عالم وبرز مفكِّر يخالف المذاهب المتَّبعة والسياسات المستقرة كان مآله التضليل والتكفير، ثم التضييق والسجن أو القتل!! ". وأقول: إنَّ من ثبتت عليه الزندقة أو غيرها من الأمور التي ذُكرَت معها وُصف بما ثبت عليه وحُذِرَ وحُذِّرَ منه، ومَن لم يثبت عليه شيءٌ فالأصل السلامة حتى يثبت ما يخالفها، ومَن خالف ما عليه أهل السُّنَّة والجماعة وهو اتِّباع الكتاب والسنَّة، وانحرف عن ذلك وُصف بما يليق به بحسب تلك المخالفة. ومن ذلك زعمه في (ص: 235) أنَّ قتلَ الحلاَّج كان سياسيًّا، ولكنَّه أُظهر أنَّه للزندقة، وهذا نظير ما تقدَّم عن المالكي من زعمه أنَّ قتل الجعد والجهم وغيلان الدمشقي كان سياسيًّا وليس لبدعهم. ومن ذلك قوله في (ص: 235 ـ 236) : "ورَاقَ لبعضهم أن يتألَّى على الله ويحجر رحمتَه؛ فقال بعدم قبول توبة الزنديق، وبأنَّ المبتدعَ لا يتوب، ولو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 أراد التوبةَ لَم يُوفَّق إليها، فإذاً لا مناص من القتل صيانة للدِّين وذبًّا عن حُرماته!! ". أقول: أمَّا الزنديق، فقد قال في القاموس المحيط: "الزِّنديق بالكسر، من الثنوية، أو القائل بالنور والظلمة، أو مَن لا يؤمن بالآخرة وبالربوبيَّة، أو من يُبطن الكفرَ ويُظهر الإيمان". وفي قبول توبة الزنديق بعد القدرة عليه خلاف، فمنهم مَن قال بقبولِها وترك قتله، ومنهم مَن قال: يُقتَل ولا تُقبَل توبتُه، وليس ذلك من قبيل التألِّي على الله كما زعم هذا الزاعم؛ لأنَّه إن كان صادقاً في توبته فيما بينه وبين الله نفعه ذلك، وإن قُتل لدفع ضرره وإفساده، وقد أوضح ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه إعلام الموقعين (3/141 ـ 145) قوَّة القول بعدم قبول توبته مع الاستدلال لذلك. وأمَّا القول بأنَّ المبتدعَ لا يتوب، ولو أراد التوبة لم يُوفَّق إليها؛ فلأنَّ المبتدعَ يعتقد أنَّه على حقٍّ مع أنَّه على باطل، فلا يتوب، وهذا بخلاف صاحب المعصية، فإنَّه يعلم خطأَه ومعصيتَه، فيتوب من ذلك، وقد سبق الردُّ على المالكي في ذلك في المبحث (25) . وأمَّا ما ذكره في (ص: 236) من ذمِّ أهل السُّنَّة لمناظرة أهل البدع، فقد سبق ذلك في الردِّ على المالكي في المبحث (23) . ومن ذلك قوله في (ص: 237) : "وقال بعض كبار أهل الحديث بأنَّ الله خلق آدم على صورة الرحمن، لحديث يروى في ذلك، فاعتبر هذا أحد القولين عند أهل السُّنَّة، وبالغ عبد الوهاب الوراق، فقال: من لم يقل (إنَّ الله خلق آدم على صورة الرحمن) فهو جهميٌّ، مع أنَّ هذا الحديث مناقض لقوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، أغلوطة تنبو عن الأفهام!!! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 أقول: سبق ذكر هذا الحديث في الردِّ على المالكي، وذلك في مبحث "قدحه في أحاديث صحيحة بعضها في الصحيحين"، وأنَّ الحافظ ابن حجر في الفتح نقل تصحيحه عن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وليس في ثبوته مخالفة للآية، وليس أغلوطة تنبو عن الأفهام كما زعم، وقد تقدَّم إيضاحُ ذلك. ـ وآخر النوابت الأربعة عبد الرحمن بن محمد الحكمي، وهو أسوؤهم حالاً وأسلطُهم لساناً وأكثرُهم هذياناً، وقد نبت مع المالكيِّ في تربة واحدة، ورضَعَا ألبان أهل البدع، فانحرفَا عن الصراط المستقيم، واتَّبعَا غيرَ سبيل المؤمنين، وهذا الحكمي هو الذي سبق المالكيَّ إلى بدعة قصر الصُّحبة الشرعيَّة للرسول صلى الله عليه وسلم على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية فقط، مع الزعم الباطل بأنَّ صُحبةَ غيرِهم كصحبةِ المنافقين والكفار، كما ذكر ذلك المالكي في كتابه السيِّء عن الصحابة، وأوضحتُ الردَّ عليه في ذلك في آخر كتابي "لانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي"، وقد أوردَ له هنا مقالاً طويلاً مليئاً بالتَّهكُّم والسخرية بأهل السنَّة والجماعة المتَّبعين لنصوص الكتاب والسنَّة، السائرين على نهج الصحابة رضي الله عنهم، وعنوانه: "أصحاب العقائد وسياقات النصوص"، قال في أوَّله (ص: 241) : "مشكلة كتب العقيدة أنَّها جردت شواهدها من سياقاتها، تلكم السياقات التي وردت في الآيات الكريمة ضمن نسق خاص ونظم متناسق، فجاءت كتب العقيدة وانتزعتها من بين تلك السياقات وجردتها منها، ثم ألقت منها عقيدة (الوجه، اليد، النزول ... ) ، لذا أصبحت عندنا عقيدة مجموعة من عدَّة ألفاظ، ولا شكَّ أنَّ هذا الاقتطاع لها من سياقاتها التي جاءت ضمن موضوع مترابط أو معان متراكبة، لا شكَّ أنَّ هذا جعلها تشكل جسداً واحداً، حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 أخرجها من الفاعلية التي تخاطب العواطف والمشاعر إلى نظام مركب لا يخاطب إلاَّ العقول المحضة التي تذهب في تفسيرها كلَّ مذهب. وأكثر ما نجد هذا عند أصحاب العقيدة السلفية، فإنَّهم يقتطعون الشواهد من السياقات، ويُبطلون مفعول السياق، ولا يحترمون ذلك الأسلوب وذلك الموضوع التي وردت ضمنه، ويجعلونها مشبعة لاتِّجاهاتهم في تفسيرها!! ". ثمَّ ضرب لذلك أمثلة تخبَّط فيها حسب فهمه الخاطئ ورأيه الباطل المبنيِّ على متابعة أهل الكلام. وكما أنَّني لم أرُد على المالكي في كلِّ هذيانه، فكذلك سأقتصرُ على الردِّ على هذا النابتة في بعض هذيانه. ومن ذلك قوله (ص: 248) : "ومن المشاكل التي واجهت قرَّاء كتب العقيدة السلفية أنَّ الاقتطاع للنصوص من سياقها أصبح سِمة عامَّة لها، وذلك أدَّى إلى إبطال مفعولها النفسي وأثرها الروحي على المتلقين، فأصبح المتلقي حين يتلقَّاها ـ وقد اجتثت من سياقها الذي ورد في الترغيب أو الترهيب ضمن معان سامية ـ لا يمكن أن تتوطد في النفس، ولا أن تؤثر في القلب إلاَّ بورود هذه الألفاظ فيها، فعمد السلفيُّون إليها واستخرجوها من ذلك الإطار الكلامي الرائع حتى أصبحت عندهم لا تؤدِّي معنى إلاَّ معنى واحداً فقط، وهو أنَّ لله يداً أو وجهاً، ويكون السياق الذي وردت فيه قد بطل من أوَّله إلى آخره!! ... اقرأ مثلاً قوله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} الآية، انظر إلى لفظة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} في هذا الكلام المفعم بهذا البيان وهذا الإعجاز في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 بسطه يديه وقدرته التامَّة في إعطائه مَن يشاء، وهذا الغضب الإلهي الذي انصبَّ في اليهود فصاروا أبخل مَن في العالم، انظر كيف تملأ الآية نفسك رغبة في كرم الله عزَّ وجلَّ وطمعاً فيما عنده، وما يتحلَّل فيك من الأريحية والسرور في طلب ما عند الله، إلى آخر هذه المعاني، ثم خذها مجرَّدة في كتب أهل العقيدة تجدهم يقولون: وفي إثبات اليدين قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، بل يبخلون في إكمال قوله تعالى: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} ، ألا ترى أنَّك تشعر بقشعريرة تناقض تلك المعاني التي شعرت بها وأنت تقرؤها في ضمن سياقها في القرآن الكريم؟ فكيف بك إذا رزقك الله مطالعة في القرآن الكريم فقط دون هذه الكتب؟! وفوق هذا تأمَّل: ألا ترى أنَّ قولَ اليهود: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} لا يقصدون أنَّها مغلولة إلى عنقه، وإنَّما يقصدون البخلَ بالاتفاق؟ فهم أرادوا المجاز، وبالتالي فينبغي أن يكون الردُّ عليهم مشاكلاً لشبهتهم، فتكون اليد المغلولة واليدان اللَّتان ردَّ بهما عليهم كذلك لا حقيقة لهما. فقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} مقابل لـ {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، والأول مجاز بالاتفاق، وكذلك ينبغي أن يكون الآخر مجازاً ... وعلى هذا، فيكون {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} مبنيًّا أو مؤكِّداً أو بدلاً لقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، وعلى هذا فلا يتأتَّى وجود حقيقة اليدين، وإنَّما معنى بسط يديه أي الإنفاق والكرم، وهذا يعارض قولهم وفهمهم، ولذلك اضطروا إلى اقتطاعهم من سياقها ظلماً وعدواناً، وأسروها في كتبهم مع قريناتها ليتأتَّى لهم تكفير المسلمين!!! ... ألا ترى فيه ما يشعر به الإنسان وهو يقرؤها في سياقها، وسوء ما يشعر به وهو يقرؤها حبيسة في أقفاصهم التي يقولون أنَّها عقيدة سلفية؟!! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وقوله في (ص: 247) : "وعندما أتوا إلى قوله عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ، قيل لهم: فهذه آية من آيات الصفات فأجروها على ظاهرها كما تدَّعون وكما تقتضيه أصولكم، فكاعوا وتزعزعوا عن مواقفهم، وقالوا: إنَّ {يَدَيْ} هنا بمعنى (أمام) ، وقد ورد بلغة العرب، وكذلك في قوله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} ، قالوا: {يَدَيْهِ} هنا بمعنى أمام!! ". وأجيب عن ذلك بما يلي: 1 ـ هذا الكلام من هذا النابتة كلُّه في تقرير أنَّه ليس لله يدان حقيقة، وأنَّ اليدَ المضافة إلى الله عزَّ وجلَّ مجاز عن القدرة والنعمة، وهذه طريقة المتكلِّمين المخالفة لطريقة السلف، وأهل السنَّة يُثبتون صفةَ اليدين لله كما أثبتهما لنفسه، ويُثبتون كرمَه وإحسانَه وإنفاقه كيف يشاء، وآيةُ المائدة تدلُّ على هذا وهذا، ولا تنافي بين ذلك. 2 ـ أهل السُّنَّة يستدلُّون بآية المائدة على إثبات صفة اليدين لله عزَّ وجل، وكذلك يستدلُّون بقوله تعالى في سورة ص: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، فهم يُعوِّلون على النصوص، وإذا كان هذا الزاعم قال عن أهل السُّنَّة إنَّهم انتزعوا {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} عمَّا قبلها وما بعدها، فأيُّ شيء يُنتزَع وأيُّ شيء يُترَك في آية سورة (ص) ؟! لا شكَّ أنَّ مَن اتَّبع النصوصَ وجمع بينها سلِم، ومَن اتَّبع هواه وفرَّق بين النصوص تخبَّط وظلم، والآيتان واضحتان جليَّتان في إثبات صفة اليدين لله، لا سيما آية (ص) ؛ فإنَّه تعالى ذكر فيها خَلْقَه لآدمَ، وذكر ما كان به الخلق، وهو اليدان، ولهذا عُدَّ ذلك من خصائص آدم، كما جاء في حديث الشفاعة أنَّ أهل الموقف يطلبون منه الشفاعة ويقولون: "يا آدم! أنتَ أبو البشر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنَّة" الحديث، أخرجه البخاري (3340) ، ومسلم (327) عن أبي هريرة. 3 ـ بل إنَّ أبا الحسن الأشعري الذي ينتسب إليه الأشاعرة، فيؤوِّلون أكثرَ الصفات، قد أثبت في كتابه الإبانة (ص: 97) صفة اليدين لله، واستدلَّ لذلك بآيات وأحاديث، منها آيتا المائدة و (ص) ، ثمَّ قال في (ص: 98) : "وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: عملت كذا بيدي، ويعني به النعمة، وإذا كان الله عزَّ وجلَّ إنَّما خاطب العربَ بلغتها وما يجري مفهوماً في كلامها ومعقولاً في خطابها، وكان لا يجوز في لسان أهل البيان أن يقول القائل: فعلتُ بيدي، ويعني النعمة، فبطل أن يكون معنى قوله عزَّ وجلَّ: {بِيَدَيَّ} ، النعمة". 4 ـ أمَّا اعتراضه على أهل السُّنَّة بتفسيرهم قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ، وقوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} بأنَّ ذلك بمعنى أمام، يريد من ذلك الإلزام بأنَّ كلَّ ما في هذه الآيات الأربع هو من قبيل المجاز، فهو اعتراضٌ باطل؛ لأنَّ الكلَّ حقيقةٌ لا مجاز، فإنَّ معنى"بين يدي الشيء" في اللغة معناه أمامه، وهو حقيقة وليس بمجاز، قال في القاموس المحيط: "وبين يدي الساعة: قدَّامها"، فمعنى"بين يدي الساعة"، و"قدَّامها"، و"أمامها" واحدٌ في اللغة، وإن اختلفت ألفاظها، وإطلاق اليدين صفة لموصوف، وكذا"بين يدي الشيء" بمعنى أمامه، كلُّ ذلك حقيقة لا مجاز، وهو من قبيل المشترك اللفظي، الذي يكون فيه اللفظ واحداً والمعنى متعدِّد، وهو مثل لفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 "قرء" للحيض والطهر، ولفظ"عسعس" لأقبل وأدبَر، ولفظ"العين" للعين الجارية والعين الباصرة والنقد. ومن ذلك تهكُّمُه بأهل السنَّة بتعبيرهم عن الصفات التي يُثبتونها لله عزَّ وجلَّ بأدلَّة الكتاب والسنَّة، بأنَّها كما يليق بجلاله، فيقول في (ص: 245 ـ حاشية) : " ... إلى آخر هذه المزاعم التي ينصبونها على مشجب (كما يليق بجلالته وعظمته) !! وما بقي إلاَّ أن ينسبوا لله كلَّ نقيصة ثم يُتبعونها بقاعدة (كما يليق بجلالته وعظمته) !! ". ويُجاب هذا الحاقد الضال بأنَّ أهل السُّنَّة لا يُثبتون لله عزَّ وجلَّ إلاَّ ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسولُه صلى الله عليه وسلم، وهذا الإثباتُ مبنيٌّ على التنزيه الذي يُعبِّرون عنه بقولهم: "على ما يليق بجلاله"؛ وذلك أنَّ الإثباتَ يكون مع تشبيه وهو باطل، ويكون مع تنزيه وهو الحقُّ، فأهل السنَّة مثبتَةٌ منَزِّهة، ليسوا بمشبِّهة، ولا بمعطِّلة، وهذا الكلام الباطل من هذا الحاقد فيه قلبٌ للحقائق؛ إذ اعتبر هذا التعبير من أهل السُّنَّة مذمَّةً لهم، وهو في الحقيقة مَحمدَة. ومن ذلك قوله في (ص: 246) : "فهم إن أرادوا التأويل أوَّلوا، كما فعلوا في القرآن الكريم أنَّه صفةٌ من صفات الله عزَّ وجلَّ، صفة ذاتية كاليد والسمع والبصر، ثم قرؤوا قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنَّ القرآن يأتي في صورة شاب شاحب"، فقالوا: يُمرُّ على ظاهره، فيا لله!! كيف تتشكَّل صفة لله ذاتية في صورة شاب؟! وكيف يُقال: ألَّف الرجل كتاباً أنَّه من صفاته؟ فالله عزَّ وجلَّ خالق وخلق المخلوق، ولا يُقال: أنَّ المخلوق من صفة الخالق، كذلك يقال: أنَّ الله تكلَّم بكلام، ولا يُقال: إنَّ مجموع تلك الكلمات التي تكلَّم بها صفة من صفاته!!! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وقوله في (ص: 247 ـ 248) : "وعندما أتوا إلى قوله عزَّ وجلَّ: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} ، و {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} و ... إلخ من الآيات، قالوا: هذا نزول لأشياء مخلوقة، أي أنَّها نزلت مع الرحمة وبالامتنان بالنعمة. ولَمَّا أتوا إلى أنَّ القرآن غير مخلوق، ما كان حجتهم التي يحاجُّون بها خصومَهم إلاَّ أن قالوا: إنَّ الله قد قال في القرآن: إنَّه منَزَّلٌ ولم يقل أنَّه مخلوق، وكأنَّ كلمة (أنزل) أصبحت مضادَّة لكلمة (خلق) في قاموسهم، وسبق أن قلنا: أنَّه يجب بناء قاموس لغوي جديد، نجمع فيه شوارد وكلمات هؤلاء القوم لينشأ لنا معجم لغوي، ونستطيع به التخاطب معهم، أوَلَم يقولوا قبل قليل: أنَّ الإنزال يكون للمخلوق كالماء والحديد والأنعام، ثم أصبحت الآن ـ في مسألة القرآن ـ صار معناها عدم الخلق؟! وهذا يدلُّ على أنَّ التركيب المعرفي في العقيدة السلفية مهلهل!!! ". وأجيب على ذلك بما يلي: 1 ـ هذا الكلام القبيح من هذا المبتدع الضال فيه تقرير لمذهب الجهمية في قولهم بخلق القرآن، وتهكُّم بأهل السنَّة القائلين بأنَّ القرآن منَزَّلٌ غير مخلوق، والعجب أنَّ مِن الناس في هذا الزمان مَن يعيبُ على أهل السُّنَّة تكلُّمَهم في فرق الضلال كالجهميَّة؛ زاعماً أنَّ الكلامَ فيهم محاربةٌ لأناس قد ماتوا، وأنَّ ذلك بمثابة مَن يكون بيده سكِّين يضرب بها على قبر، ومن المعلوم أنَّ الجهميَّة وغيرَهم من أهل البدع لهم وارثون وإن ماتوا، فهذا فرخٌ من فروخ الجهميَّة حيٌّ يَمشي على الأرض، يُقرِّر الباطلَ ويَذُمُّ الحقَّ وأهلَه، وقد مرَّ النقل عن الإمام اللالكائي أنَّ علماء أهل السُّنَّة القائلين إنَّ القرآنَ كلامُ الله غير مخلوق لا يُعدُّون بالمئين فحسب، بل بالألوف، وعلقتُ عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بقولي: فمَن العلماء غيرهم، وماذا بعد الحقِّ إلاَّ الضلال؟! وذلك عند الردِّ على المالكي في تشنيعه على الإمام أحمد في مسألة التكفير. 2 ـ صفةُ الكلام لله عزَّ وجلَّ عند أهل السُّنَّة ذاتيَّةٌ فعليَّة، ذاتيَّةٌ باعتبار أنَّ الله متكلِّمٌ بلا ابتداء، ويتكلَّم بلا انتهاء، فلَم يكن غيرَ متكلِّم ثم تكلَّم، بل لا بداية لكلامه ولا نهاية لكلامه، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} ، وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، والقرآن من كلامه، والتوراة والإنجيل والزبور المنزَّلة من كلامه، وكلُّ كتاب أُنزل على رسول من رسله هو من كلامه. وهي صفةٌ فعليَّةٌ لتعلُّقها بالمشيئة والإرادة، وهو سبحانه يتكلَّم إذا شاء كيف شاء، قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} الآية، وغيرها من الآيات الدالة على أنَّ كلامَه متعلِّقٌ بمشيئته. 3 ـ وأمَّا الحديث المشار إليه، فإنَّما ذكره هذا الضال، ونسبه إلى أهل السُّنَّة، هو من ضلاله وفهمه الخاطئ، والحديث في إسناده مقال، وعلى ثبوته فلا إشكالَ فيه عند أهل السُّنَّة؛ فإنَّ (القرآن) فيه عندهم بمعنى القراءة، وليس بمعنى المقروء، ومن المعلوم أنَّ القراءة عملُ القارئ، وهو يُثاب عليه، والأعمالُ وإن كانت أعراضاً فإنَّها تُقلَب بمشيئة الله أجساماً، كما جاء في العمل الصالح أنَّه يأتي صاحبَه في قبره في أحسن صورة، والعملُ السيِّء يأتيه في أقبح صورة، وكما تُجعل الأعمال أجساماً توضَع في الميزان، وقد أوضح ذلك ابن أبي العز الحنفي شارحُ الطحاوية، فقال في (ص: 191 ـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 193) : "والقرآن في الأصل: مصدر، فتارة يُذكر ويُراد به القراءة، قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} ، وقال صلى الله عليه وسلم: (زيِّنوا القرآن بأصواتكم) ، وتارة يُذكَرُ ويُراد به المقروء، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ، وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هذا القرآنَ أُنزل على سبعة أحرف) ، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدَّالَّة على كلٍّ من المعنيين المذكورَين". وقال في (ص: 93 ـ 95) : "الموتُ صفةٌ وجوديَّة، خلافاً للفلاسفة ومَن وافقهم، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ، والعدمُ لا يُوصَف بكونه مخلوقاً، وفي الحديث: "إنَّه يُؤتَى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح، فيُذبَح بين الجنَّة والنار"، وهو وإن كان عرَضاً فالله تعالى يقلبُه عيناً، كما ورد في العمل الصالح: أنَّه يأتي صاحبَه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح على أقبح صورة، وورد في القرآن: "أنَّه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون" الحديث، أي قراءة القارئ، وورد في الأعمال: "أنَّها توضَع في الميزان"، والأعيانُ هي التي تقبل الوزن دون الأعراض، وورد في سورة البقرة وآل عمران أنَّهما يوم القيامة (يُظلاَّن صاحبهما كأنَّهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف) ، وفي الصحيح "أنَّ أعمالَ العباد تصعد إلى السماء". 4 ـ قوله: "وكيف يُقال: ألَّف الرجل كتاباً أنَّه من صفاته؟ فالله عزَّ وجلَّ خالق وخلق المخلوق، ولا يُقال: أنَّ المخلوق من صفة الخالق، كذلك يقال: أنَّ الله تكلَّم بكلام، ولا يُقال: إنَّ مجموع تلك الكلمات التي تكلَّم بها صفة من صفاته!! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أقول: هذا مِمَّا قرَّر به هذا الضال أنَّ كلامَ الله مخلوق، وعند أهل السُّنَّة أنَّ القرآنَ من كلام الله، وكلامُ الله لا حصر له ولا نهاية له، كما دلَّت على ذلك آيتا الكهف ولقمان، وكلُّ كلام لله فهو من صفته، وكلُّ كلام لمخلوق فهو من صفته، فيُحمَد المخلوق على حسَنه ويُذمُّ على سيِّئه، ومن صفات القرآن الذي هو من كلامه أنَّه في غاية الإعجاز، ومن صفات هذا الكلام القبيح للحكمي أنَّه من أسوأ الكلام وأبطل الباطل. 5 ـ لا تنافي ولا تناقض بين قول أهل السُّنَّة: إنَّ القرآنَ منَزَّلٌ غيرُ مخلوق، وبين قولهم: إنَّ إنزالَ المطر والحديد وأولاد الأنعام منَزَّلةٌ مِمَّا هو مخلوق؛ فإنَّ إنزالَ المطر جاء مقيَّداً بأنَّه من المُزن وهو السحاب، وإنزال أولاد الأنعام جاء مقيَّداً بأنَّه إنزالٌ من الأنعام، وإنزال الحديد يكون من الجبال، وكلُّ ذلك إنزال مخلوق من مخلوق، أمَّا القرآن فقد جاء مقيَّداً بأنَّه منَزَّلٌ من الله، كما قال عزَّ وجلَّ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ، {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، وغير ذلك من الآيات، وهذا يدلُّ على الفرق بين إنزال القرآن، وأنَّه من الله وأنَّه غير مخلوق، وبين تلك المخلوقات التي جاءت مقيَّدَة بإنزال مخلوق من مخلوق، وقد أوضح هذه الفروق شارح الطحاوية في (ص: 196 ـ 197) ، وعلى هذا فيكون الكلام المهلهل كلام هذا الضال، حيث قال مشنِّعاً على أهل السُّنَّة: "أوَلَم يقولوا قبل قليل: أنَّ الإنزال يكون للمخلوق كالماء والحديد والأنعام، ثم أصبحت الآن ـ في مسألة القرآن ـ صار معناها عدم الخلق؟! وهذا يدلُّ على أنَّ التركيب المعرفي في العقيدة السلفية مهلهل!!! ". ومن ذلك قوله (ص: 244 ـ 245) : "أثبتوا لله ظلاًّ؛ لأنَّه ورد نصٌّ (يظلُّهم الله في ظلِّه) ، مع أنَّه قد ورد في بعض الروايات أنَّه ظلُّ العرش، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وورد في روايات أنَّه ظل من خلقه، كبيت الله وناقة الله، ومع ذلك غلَّبوا ذلك المحمل الضعيف، فأثبت بعضُهم أنَّ لله ظلاًّ وهم يقرؤون قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، والظلُّ لا بدَّ أن يشبه صاحبَه، أو أنَّ هذا ـ بزعمهم ـ ظلٌّ على وجه الكمال خاصٌّ به على ما يليق بجلاله!! والذي يظهر أنَّ التفاهمَ مع هذه الطائفة صعب المنال؛ لأنَّه يقتضي بناء قاموس لغوي آخر واختراع لغة جديدة، ثم نتعلَّمها سنوات طويلة، ثم نتفاهم معهم! والعجيب أنَّ بعضهم يرى أنَّ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس له ظلٌّ؛ لأنَّه مُنَزَّه عن ذلك، وفي المقابل يرى أنَّ لله ظلاًّ!! فيا لله العجب! كيف أصبحت العقيدة لا تملأ العقل إلاَّ شكًّا، ولا القلب إلاَّ ظنًّا!! ". وأجيب عن ذلك بما يلي: 1 ـ حديث"سبعة يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه" أخرجه البخاري (660) ومسلم (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعند البخاري أيضاً (6806) بلفظ: "سبعة يظلُّهم الله يوم القيامة في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه"، وجاء في حديث سلمان عند سعيد بن منصور بلفظ: "سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظلِّ عرشه"، ذكره الحافظ في الفتح (2/144) ، وقال: "بإسناد حسن"، ولم أقف على رواية بلفظ"ظل من خلقه" التي أشار إليها الحكمي، وإضافة الظلِّ إلى الله إضافة تشريف، وهو من قبيل إضافة المخلوق إلى الخالق، كبيت الله وناقة الله ونحو ذلك، ولم أقف لأحد من أهل السُّنَّة على قول بأنَّه من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف. 2 ـ وأمَّا قوله: "والعجيب أنَّ بعضهم يرى أنَّ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس له ظلٌّ؛ لأنَّه مُنَزَّه عن ذلك، وفي المقابل يرى أنَّ لله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ظلاًّ!! فيا لله العجب! كيف أصبحت العقيدة لا تملأ العقل إلاَّ شكًّا، ولا القلب إلاَّ ظنًّا!! ". فهو من الكذب البيِّن والإفك المبين؛ فإنَّ أهلَ السُّنَّة أبعدُ الناس عن القول بأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا ظلَّ له، والذي يقول مثلَ هذا الكلام بعضُ الصوفية، الذين يقولون: إنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم نورٌ فلا يكون له ظلٌّ، وهو قول باطل؛ لأنَّ نورَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نورُ هداية، نظيرُ النور الذي وصف الله به القرآن بقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} ، ولو كان نورُ الرسول صلى الله عليه وسلم حسيًّا كما يزعمون يعكس نورَ الشمس فلا يكون له ظلّ، لَم يحتج إلى الجلوس في ظلِّ الكعبة، والذي جاء في البخاري (3852) عن خبَّاب رضي الله عنه، وفي مسلم (990) عن أبي ذر رضي الله عنه، ومثل ذلك ما جاء في حديث جابر في صحيح مسلم (843) ، وفيه قال: "كنَّا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقد قالت أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها: "كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزَني فقبضتُ رجليَّ، فإذا قام بسطتُهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح" رواه البخاري (382) ، ومسلم (512) ، فلو كان نورُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حسيًّا لا يكون معه ظلام الليل لم تحتج عائشة إلى أن تقول"والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح"، وعلى هذا فالقول بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لا ظلَّ له قول بعض الصوفية، وهو من الغلوِّ والإطراء للرسول صلى الله عليه وسلم، وأهل السنَّة والجماعة هم أبعدُ الناس من هذا القول، لكن هذا الحكمي الضال لا يُميِّز بين مبتدع ومُهتد، فيُضيف هذا القولَ للصوفية إلى أهل السُّنَّة وهم بُرآءُ منه، والنور الذي يُثبتونه للرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن معناه الهداية، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وإلى هنا انتهى هذا الردُّ وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن ينفعَ به المردودَ عليهم وغيرَهم وأن يفقِّهَ المسلمين بدينهم وأن يسلِّمَهم من البدع وأن يوفقهم لما تُحمد عاقبته في الدنيا والآخرة، إنَّه سميع مُجيب. وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وكان الفراغ من كتابة هذا الردِّ في اليوم الخامس عشر من شهر الله المحرم سنة (1424هـ) ، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219