الكتاب: الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بتوحيد الربوبية المؤلف: آمال بنت عبد العزيز العمرو الناشر: * عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بتوحيد الربوبية آمال بنت عبد العزيز العمرو الكتاب: الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بتوحيد الربوبية المؤلف: آمال بنت عبد العزيز العمرو الناشر: * عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ال مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الله قد امتن علينا، فأنطقنا بلغة القرآن، أفضل لغات الأمم، وأعظمها بياناً في اختصار، فقد خاطبنا فيه بلسان عربي مبين، وفصل لنا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ما أجمل في القرآن، وبين للناس ما تشابه عليهم فيه، حيث جاءت الشريعة بأحكام عقيدة لم تكن معهودة في الجاهلية، ووردت ألفاظ تحمل دلالة خاصة عما هو معروف في أصل اللغة، وهي الدلالة الشرعية، والدلالة العرفية، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمعنى اللفظ في اللغة، وقد بين رسول الله للأمة دينها، ثم حمل هذا الدين من كل خلف عدوله، ينفون عن كتاب الله وسنة رسوله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، فقد افترقت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى فرق شتى، كل طائفة تزعم أنها على الحق، لكن الحق ما وافق كتاب الله وسنة رسوله، وكان أسعد الناس بهذه الموافقة أهل السنة والجماعة. وقد تواضع كثير من هذه الطوائف على معان خاصة لألفاظ العقيدة الواردة في الكتاب والسنة، مغايرة لمعناها الشرعي، كما استحدث كثير منهم مصطلحات ضمنوها معاني تابعة لمنهجهم في الاعتقاد، لذا كان لزاما على كل طالب علم أن يعلم المعاني الشرعية، وأن يطلع على مصطلحات المخالفين، ويعرف مرادهم بها ليتمكن من رد باطلهم، وإيضاح الحق لهم. بل قد قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " وهذه الحدود معرفتها من الدين في كل لفظ هو في كتاب الله - تعالى -، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قد تكون معرفتها فرض عين، وقد تكون فرض كفاية، ولهذا ذم الله - تعالى - من لم يعرف هذه الحدود بقوله - تعالى -: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة - 97] .. وبالجملة فالحاجة إلى معرفة هذه الحدود ماسة لكل أمة، وفي كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 لغة، فإن معرفتها من ضرورة التخاطب، الذي هو النطق الذي لا بد منه لبني آدم"1. وعليه فإن دراسة ألفاظ العقيدة، ومصطلحاتها، وتحديد معانيها على مذهب أهل السنة والجماعة، وبيان مراد الطوائف بها، كل ذلك ضرورته ماسة، وأهميته لا تخفى، فمن جوانب تلك الأهمية ما يلي: 1 - أن الألفاظ هي جهة التخاطب، واللغة التي بها يتفاهم الناس بشتى طبقاتهم وأصنافهم؛ بدءاً بالعلماء وطلاب العلم، وانتهاءً بعامة الناس، فكلهم يستخدمون الألفاظ في تعاملهم اليومي. وهذه الألفاظ تختصر وراءها جملة من المعارف والمعلومات والمفاهيم، فهي مفتاح لكثير من المباحث، التي من أهمها مباحث العقيدة. فكان لابد من العناية ببحث تحديد معاني هذه الألفاظ العقدية، على وجهها الصحيح، عند أهل السنة والجماعة، إذ من خلالها تفهم العقيدة الصحيحة. 2 - "أن مَن تصور حقيقة أي شيء على ما هي عليه في الخارج، وعرف ماهيته بأوصافها الخاصة، عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده، وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين، ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما، لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر، وكم هلك بسبب قصور العلم، وعدم معرفة الحدود، والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة"2. 3 - أن كثيرا من ألفاظ العقيدة حرفت عن معناها الصحيح الذي جاء به الشرع، فكل فرقة وطائفة تفهم من اللفظ معنى يناسب عقيدتها، ومنهجها في التوحيد وسائر الاعتقاد، وتعرض هذا المعنى على أنه الحق، إضافة إلى إحداث ألفاظ في العقيدة لم يرد بها نص شرعي، وقد وقع فيها نزاع نفياً وإثباتاً، ومن هذه الألفاظ ما هو مجمل يحتاج إلى بيان، لذلك لزم دراسة هذه الألفاظ وبيان موقف أهل السنة منها، وما يصح فيها من معنى، وما تحويه من باطل، لإحقاق الحق وبيانه، وإبطال الباطل وإزهاقه.   1 - الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية ص49 - 51، وانظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 9/95. 2 - منهاج التأسيس والتقديس للشيخ عبد اللطيف آل الشيخ ص 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 4 - أن اشتراك الألفاظ وتداخل مفاهيمها سبب كبير للاختلاف بين العلماء، وفي ذلك من فساد العقل والدين مالا يعلمه إلا الله. 5 - أننا نجد معاجم لأهل كل فن تبين مرادهم باصطلاحاتهم والألفاظ التي يتداولونها؛ فأهل الطب، وأهل اللغة، وغيرها من العلوم لهم معاجم لاصطلاحاتهم، وفي علم العقيدة نجد أن أهل الفلسفة، والتصوف، والكلام، لهم معاجم خاصة بهم، وهناك معاجم أخرى عامة لألفاظ العقيدة وغيرها، ولكنها لا تفي ببيان معنى اللفظ عند أهل السنة والجماعة، إضافة إلى أنها لم تجمع ألفاظ العقيدة وتفصلها عن غيرها. فيبقى القصور واضحاً في الحاجة للكتابة حول معنى الألفاظ العقدية عند أهل السنة؛ سيما وأنه قد اشتهر بين الناس في كثير من البلاد الإسلامية أن مذهب الأشاعرة هو مذهب أهل السنة، فكان لابد من بيان مفهوم أهل السنة الصحيح لألفاظ العقيدة، وموقفهم من تعريف الطوائف لتلك الألفاظ والمصطلحات. وهناك دراسات معاصرة لبعض المصطلحات الكلامية، وبيان موقف أهل السنة منها؛ ودراسات أخرى لألفاظ العقيدة عند أهل السنة، ومن هذه الدراسات: 1 - أطروحة ماجستير، أجازتها جامعة أم القرى عام 1414هـ، بعنوان "المصطلحات الكلامية في أفعال الله - تعالى - عرض ونقد"، للباحث أحمد محمد طاهر. 2 - أطروحة ماجستير، أجازتها جامعة أم القرى عام 1415هـ، بعنوان "المصطلحات الكلامية في إثبات وجود الله - تعالى - وأسمائه وصفاته"، للباحث محمد سعيد إبراهيم سيد أحمد. ويلاحظ أن هاتين الدراستين قد اعتنيتا ببعض المصطلحات الكلامية فقط. 3 - أطروحة ماجستير، أجازتها الجامعة الإسلامية عام 1421هـ، بعنوان "المصطلحات المستعملة في توحيد الألوهية عند السلف" للباحث محمد عبد الله علي عبد القادر. 4 - كتاب التعريفات الاعتقادية، للشيخ سعد بن محمد آل عبد اللطيف، وطبعته الأولى عام 1422هـ. 5 - معجم ألفاظ العقيدة، لأبي عبد الله عامر عبد الله فالح، وطبعته الأولى عام 1417هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وهذه المؤلفات خطوة في هذا المجال، وهذا البحث مكمل لها، فهي وإن كانت مفيدة ونافعة، إلا أنها لم تشمل جميع مصطلحات العقيدة، كما ينقصها الدراسة التفصيلية لكل مصطلح، من حيث معناه في اللغة، وموقف أهل السنة من المعاني التي تذكرها الطوائف الأخرى. هذا وقد سجل معي في قسم العقيدة رسائل أخرى مكملة لهذا الموضوع ومنها: 1 - أطروحة دكتوراه بعنوان "الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بتوحيد الأسماء والصفات جمع ودراسة"، للمحاضرة أسماء بنت عبد العزيز السلمان. 2 - أطروحة دكتوراه بعنوان "الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بالنبوات جمع ودراسة"، للباحثة منيرة بنت فراج العقلا. 6 - أن الكتابة في موضوع ألفاظ العقيدة ودراستها مفيد للمتخصص في العقيدة وغير المتخصص، إذ الاطلاع على معاني الألفاظ العقدية، ومعرفة المعنى المراد بها، علم ضروري لكل مسلم مكلف، فإذا درست مجردة عن بحث طويل تكون مضمنة فيه؛ نكون قد سهلنا على الجميع معرفة معاني هذه الألفاظ والاستفادة منها. ولهذه الأهمية المذكورة، ولمشورة بعض أهل العلم - وفقهم الله - قدمت بحثي للدكتوراه عن الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بتوحيد الربوبية، وكان عنوان البحث: الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بتوحيد الربوبية، جمع ودراسة. وقد اشتملت خطة البحث على مقدمة وتمهيد وبابين وخاتمة. أما المقدمة: فقد بينت فيها أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وخطة البحث، ومنهجي فيه. ثم التمهيد: ويشتمل على: 1 - تعريف التوحيد وبيان أنواعه. 2 - تعريف الألفاظ وبيان أنواعها. 3 - تعريف المصطلحات وبيان أنواعها. 4 - الموسوعات العلمية أهميتها، وبيان أنواعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 أما الباب الأول فهو عن المصادر، والقواعد، في ألفاظ العقيدة، ومصطلحاتها، عند أهل السنة ومخالفيهم، وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: مصادر أهل السنة وقواعدهم في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها، وفيه مبحثان: المبحث الأول: مصادر أهل السنة في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها: المصدر الأول: القرآن الكريم. المصدر الثاني: السنة النبوية. المصدر الثالث: لغة العرب. المصدر الرابع: آثار السلف. المبحث الثاني: قواعد أهل السنة في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها: القاعدة الأولى: التزام ألفاظ الشرع. القاعدة الثانية: التزام معاني اللغة ودلالاتها. القاعدة الثالثة: تجنب الألفاظ البدعية. القاعدة الرابعة: تجنب الألفاظ المجملة. القاعدة الخامسة: تجنب التشبه بغير المسلمين في الألفاظ والمصطلحات. الفصل الثاني: مصادر المخالفين وقواعدهم في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها، وفيه مبحثان: المبحث الأول: مصادر المخالفين في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها: المصدر الأول: العقل. المصدر الثاني: الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي. المصدر الثالث: الملل والديانات الأخرى. المصدر الرابع: الكشف. المبحث الثاني: قواعد المخالفين في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها: القاعدة الأولى: عدم التزام ألفاظ الشرع، وإعمال المجاز والتأويل فيها. القاعدة الثانية: عدم التزام معاني اللغة ودلالاتها. القاعدة الثالثة: استعمال الألفاظ البدعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 القاعدة الرابعة: استعمال الألفاظ المجملة. القاعدة الخامسة: التشبه بغير المسلمين في الألفاظ والمصطلحات. الفصل الثالث: معنى الحد عند المنطقيين، ونقده عند أهل السنة. الفصل الرابع: أشهر المؤلفات في مصطلحات العقيدة؛ عرض وتقويم: 1 - كتاب المبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي. 2 - كتاب التعريفات للجرجاني. 3 - كتاب التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي. وأما الباب الثاني: فهو دراسة تطبيقية على ألفاظ توحيد الربوبية ومصطلحاته، وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بخصائص الربوبية. الربوبية - الإحياء - الإماتة - الأمر - الملك - الرزق - الخلق - الإبداع - التأثير - الإيجاد - الوجود - الموجود - الوجود المطلق - الماهية - القدم - الأبدية - الأزلية - الواحد بالعين - الواحد بالنوع - الوحدة في الأفعال. الفصل الثاني: ألفاظ أدلة توحيد الربوبية ومصطلحاتها. الدليل - العلم الضروري - العلم النظري - الشك - المعرفة - النظر - التسلسل - الدور - الجسم - الجوهر - العرض - المعدوم - الممتنع - المستحيل - الممكن - واجب الوجود - العالم - العالم حادث - الأفول - التغير - إمكان الذوات - إمكان الصفات - حدوث الذوات - حدوث الصفات - الإحكام والإتقان - دليل التمانع - الفطرة. الفصل الثالث: الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بالشرك في الربوبية. الشرك في الربوبية - التعطيل - الزندقة - الإلحاد: الشيوعية - الداروينية - الوجودية - المذهب العقلي - العلمانية. العلة: العلة التامة - العلة الناقصة - العلة الصورية - العلة الغائية - العلة الفاعلية - العلة المادية - علة الماهية - علة الوجود - العلة الأولى - المعلول. العقل - النفس - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الصدور والفيض - التولد - الموجب بالذات - قدم العالم - الهيولى - الدهر - الصدفة - الطبيعة - الاتحاد - الحلول - التثليث - الثنوية - السحر - التولة - التنجيم - الاستسقاء بالأنواء - الطلسم - الكهانة - الطيرة - العرافة - العيافة. الفصل الرابع: المصطلحات البدعية في توحيد الربوبية. الأبدال - الأوتاد - القطب - الغوث - النجباء - النقباء - العارف - رجال الغيب - الفناء: الجمع - المحو - الاصطلام - السكر - الصعق - المشاهدة - الكشف. أما الخاتمة: فقد ذكرت فيها أهم نتائج البحث. وقد ذيلت البحث بفهارس تفصيلية وهي على النحو التالي: أولاً: فهرس الآيات القرآنية. ثانياً: فهرس الأحاديث. ثالثاً: فهرس الأعلام المترجم لهم. رابعاً: فهرس الفرق والطوائف. خامساً: فهرس المصطلحات. سادساً: فهرس المراجع والمصادر. سابعاً: فهرس الموضوعات. منهجي في البحث: 1 - عند دراسة كل لفظ أورد معناه اللغوي، ثم معناه الشرعي - إن كان له معنى شرعي - مراعية التدرج التاريخي عند عرضي لتعريفات أهل السنة، فأبدأ بالمتقدمين زمنياً، ثم من بعدهم وهكذا، وقد أبدأ بمتأخر لأهمية كلامه، مرجحة بين تعريفاتهم إن اختلفت، مبينة الأقوى منها، وما لم أجد له تعريفا اجتهدت وسعي في وضع تعريف مناسب له، ملتزمة طريقة العلماء في ذلك، متقيدة بما لا يتنافى مع قواعد أهل السنة والجماعة. ثم أعرض المعاني الأخرى للفظ عند الفرق التي تحدثت عنه، مراعية التدرج التاريخي أيضاً، ثم أدرس تلك الأقوال، موضحة أحقية مفهوم أهل السنة بالاتباع ومطابقته لما جاء عن الله ورسوله ولغة العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 2 - ذكرت من الألفاظ الفلسفية، والكلامية، والصوفية، ونحوها، ما يتعلق بتوحيد الربوبية، مما ذكره أهل السنة وناقشوهم فيه، أو تعرضوا لذكره مجردا، وما اشتهر عنهم في هذا الباب من ألفاظ. أما الألفاظ التي لم يذكرها عنهم أهل السنة أو لم تكن مشهورة عنهم فلم أتعرض لها. 3 - ذكرت اسم السورة ورقم الآية بعدكل آية قرآنية. 4 - إذا كان الحديث في الصحيحين، أو أحدهما، اكتفيت بتخريجه منهما. أما إذا كان في غير الصحيحين فقد أتوسع في تخريجه، ثم أورد كلام أهل العلم - قديماً أو حديثاً - في الحكم عليه، وهذا في الغالب. 5 - عزو الحديث أو الأثر يكون بذكر الكتاب، والباب، والجزء، والصفحة، ورقم الحديث، وذلك في الكتب التي التزمت ذكر هذه المعلومات، وإلا ذكرت ما وقفت عليه. 6 - ترجمت لغير المشهورين من الأعلام، والشهرة مسألة نسبية. 7 - شرحت ما قد يحتاج إلى شرح من المصطلحات والألفاظ الغريبة. وفي الختام أحمد الله - تعالى - حمداً كثيراً على أن أعانني على إتمام هذا البحث، مع وجود العوائق الكثيرة، وفي صدارتها البعد عن الوطن، وعن المراجع. كما أتوجه بالشكر والعرفان للدكتور محمد بن إبراهيم العجلان، المشرف على هذا البحث، فقد كان لتوجيهاته أثر كبير في إنجاز هذا البحث، فجزاه الله عني خير الجزاء. كما أدعو الله أن يغفر للشيخ سالم الدخيل - رحمه الله -، وأن يرفع درجاته في جنات النعيم، فقد ساعدني بتوجيهاته خلال إشرافه علي في السنة الأولى من هذا البحث، أسأل الله - تعالى - أن يجعل ذلك في ميزان حسناته. كما أشكر عضوي مناقشة هذه الرسلة: فضيلة الشيخ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، وفضيلة الشيخ الدكتور محمد بن خليفة التميمي، فقد استفدت من توجيهاتهم القيمة، وملحوظاتهم المفيدة. كما أشكر كل من أعانني في هذا البحث بمشورة، أو فائدة، أو إعارة كتاب. وأخيراً فما كان في هذا البحث من صواب فمن الله، وما كان فيه من خطأ فمني وأستغفر الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ال تمهيد : 1 - تعريف التوحيد وبيان أنواعه. 2 - تعريف الألفاظ وبيان أنواعها. 3 - تعريف المصطلحات وبيان أنواعها. 4 - الموسوعات العلمية: أهميتها، وبيان أنواعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 1 - تعريف التوحيد وبيان أنواعه: أولاً: تعريف التوحيد في اللغة. ثانياً: تعريف التوحيد في الاصطلاح: 1 - تعريف التوحيد عند أهل السنة وبيان أنواعه. 2 - تعريف التوحيد عند الفلاسفة. 3 - تعريف التوحيد عند أهل الوحدة. 4 - تعريف التوحيد عند المتكلمين. 5 - تعريف التوحيد عند الصوفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أولاً: تعريف التوحيد في اللغة. كلمة التوحيد في اللغة ترجع إلى لفظة "وحد"، وفروع هذه الكلمة تدور على معنى الانفراد وانقطاع المثل والنظير، ففي معنى الانفراد يقول الخليل بن أحمد1: "الوَحَد المنفرد، رج   لٌ وَحَد، وثورٌ وَحَدٌ..والرجل الوحيد ذو الوحدة؛ وهو المنفرد لا أنيس معه، وقد وَحُدَ يَوْحدُ وحاَدَةً وَوَحْدةً ووَحَداً"2. وفي معنى الانفراد وعدم المثيل يقول ابن فارس3:"الواو والحاء والدال أصل واحد يدل على الانفراد، من ذلك الوحدة، وهو واحد قبيلته إذا لم يكن فيهم مثله"4. وفي الصحاح: "فلان واحد دهره أي لا نظير له، وفلان أوحد أهل زمانه"5، ومن كلام العرب "هو نسيج وحده" وهو الرجل المصيب في الرأي 6. وفي لسان العرب "ورجلٌ متقدم في بأس أو علم أو غير ذلك كأنه لا مثل له فهو وحده لذلك"7.   1 - الإمام صاحب العربية، ومنشىء علم العروض، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري أحد الأعلام، وكان رأساً في لسان العرب، ديناً ورعاً قانعاً متواضعاً كبير الشأن، يقال إنه دعا الله أن يرزقه علماً لا يسبق إليه ففتح له بالعروض، وله كتاب العين في اللغة، ولد سنة مئة، ومات سنة خمس وسبعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 7/429 - 430، كشف الظنون لحاجي خليفة 2/1441، 1467. 2 - كتاب العين للخليل بن أحمد 3/280 - 281، وانظر: تهذيب اللغة للأزهري 5/192 - 193، جمهرة اللغة لابن دريد 2/126 - 127، الصحاح للجوهري 2/548، معجم مقاييس اللغة لابن فارس 6/90 - 91، لسان العرب لابن منظور 3/448 - 449. 3 - الإمام العلامة اللغوي المحدث أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب القزويني، المعروف بالرازي، المالكي، اللغوي، صاحب كتاب المجمل ومعجم مقاييس اللغة، قال الذهبي: "وكان من رؤوس أهل السنة المجردين على مذهب أهل الحديث"، مات بالري سنة خمس وتسعين وثلاث مئة. انظر: سير أعلام النبلاء 17/103 - 105، بغية الوعاة للسيوطي 1/352. 4 - معجم مقاييس اللغة 6/90. 5 - الصحاح 2/548، وانظر: لسان العرب 3/447، 451 - 452، القاموس المحيط للفيروز آبادي ص414، تهذيب اللغة 5/195. 6 - انظر: العين 3/281، تهذيب اللغة 5/198، الصحاح 2/548، معجم مقاييس اللغة 6/90 - 91، لسان العرب 3/449. 7 - لسان العرب 3/447، وانظر: القاموس المحيط ص414. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والواحد أول العدد، يقول الخليل بن أحمد: "والواحد أول عدد من الحساب، والوُحدان جماعة الواحد"1. والرجل الوَحِد والوَحَد والوَحْد: الذي لا يعرف له أصل2. ووحده توحيداً: جعله واحداً3. وجاء في كلام العرب: الجلوس والقعود واحدٌ، وأصحابي وأصحابك واحد4. ومن المعاني الباطلة التي أضيفت للفظ الواحد قولهم:"الواحد هو الذي لا يتجزأ ولا يثنى ولا يقبل الانقسام"5. وجاء هذا المعنى في المفردات للراغب حيث يقول: "الواحد في الحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له ألبتة، ثم يطلق على كل موجود حتى إنه ما من عدد إلا ويصح أن يوصف به، فيقال عشرة واحدة، ومائة واحدة، وألف واحد، فالواحد لفظ مشترك يستعمل على ستة أوجه: الأول: ما كان واحداً في الجنس، أو في النوع كقولنا: الإنسان والفرس واحد في الجنس، وزيد وعمرو واحد في النوع. الثاني: ما كان واحداً بالاتصال؛ إما من حيث الخلقة كقولك: شخص واحد؛ وإما من حيث الصناعة؛ كقولك: حرفة واحدة. الثالث: ما كان واحداً لعدم نظيره؛ إما في الخلقة كقولك الشمس واحدة؛ وإما في دعوى الفضيلة كقولك: فلان واحد دهره، وكقولك: نسيج وحده. الرابع: ما كان واحداً لامتناع التجزي فيه؛ إما لصغره كالهباء؛ وإما لصلابته كالألماس.   1 - العين 3/281، وانظر: تهذيب اللغة 5/193، الصحاح 2/548، لسان العرب 3/446 - 447، القاموس المحيط ص 414. 2 - انظر: العين 3/280، لسان العرب 3/450، القاموس المحيط ص 414. 3 - انظر: القاموس المحيط ص 414. 4 - انظر: العين 3/281، تهذيب اللغة 5/193، لسان العرب 3/447. 5 - لسان العرب 3/451، وانظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص 857، وبصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي 5/170 - 171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الخامس: للمبدأ؛ إما لمبدأ العدد كقولك: واحد، اثنان؛ وإما لمبدأ الخط كقولك: النقطة الواحدة. والوحدة في كلها عارضة، وإذا وصف الله - تعالى - بالواحد فمعناه هو الذي لا يصح عليه التجزي ولا التكثر"1. وتعريف الواحد بأنه الشيء الذي لا يتجزأ ولا يقبل الانقسام ليس له أصل في لغة العرب، ولم يأت في كلام الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكره المتقدمون من أهل اللغة؛ كالخليل بن أحمد، والأزهري2، وابن دريد3، وغيرهم، ثم المثال الذي ذكره الراغب4 على أنه لا يقبل الانقسام هو مما يقبل الانقسام، مما يدل على بطلان هذا المعنى. وقد تأثر بعض أهل اللغة بشيء من علم الكلام فدخل كتبهم من ذلك ما ليس له أصل في لغة العرب5. وباستعراض المعاني السابقة للفظ الواحد نجد أكثرها يدل على معنى الانفراد وانقطاع المثيل والنظير.   1 - المفردات للراغب الأصفهاني ص 857، ونقله عنه الفيروز آبادي في بصائر ذوي التمييز 5/170 - 171. 2 - محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي أبو منصور، أحد الأئمة في اللغة والأدب، عني بالفقه فاشتهر به أولاً، ثم غلب عليه التبحر في العربية، فرحل في طلبها، وقصد القبائل وتوسع في أخبارهم، من كتبه "تهذيب اللغة" و"تفسير القرآن"،توفي سنة 370هـ. انظر: بغية الوعاة للسيوطي1/19، الأعلام للزركلي 5/311. 3 - ابن دريد العلامة، شيخ الأدب، أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية الأزدي، البصري، صاحب التصانيف، كان آية من الآيات في قوة الحفظ، توفي في شعبان سنة إحدى وعشرين وثلاث مئة، وله ثمان وتسعون سنة. انظر: سير أعلام النبلاء15/96 - 97. 4 - الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم الأصفهاني، المعروف بالراغب، أديب من أذكياء المتكلمين، من كتبه "الذريعة إلى مكارم الشريعة"، و"المفردات في غريب القرآن"، توفي سنة 502هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 18/120، بغية الوعاة للسيوطي2/297، الأعلام للزركلي2/255. 5 - انظر: بغية المرتاد لابن تيمية ص235 - 236، الصاحبي لابن فارس ص64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ثانياً: تعريف التوحيد في الاصطلاح. 1 - تعريف التوحيد عند أهل السنة: لقد تبين فيما تقدم أن كلمة التوحيد في اللغة تدل على الانفراد، وانقطاع النظير والمثيل، بل قد جاء في كتب أهل اللغة المتقدمين أن التوحيد يعني الإيمان بالله وحده لا شريك له، وهذا هو التوحيد الشرعي الذي جاء في كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعليه بنى أهل السنة تعريفهم للتوحيد، وبيانهم لأنواعه. أولاً - التوحيد في القرآن: لم تأت كلمة التوحيد بهذه اللفظة في كتاب الله، وإنما جاء فروع هذه الكلمة مثل: "واحد"، و"أحد"، و"وحده"، وهي تعني توحيد الله، الذي عليه مدار كتاب الله - عز وجل -. وإذا تأملت الآيات عن الله - عز وجل - في توحيده –سبحانه - تجدها تشمل إفراده بالعبادة، وإثبات الأسماء والصفات له، وإفراده بالربوبية والخلق والتصرف. ففي إفراده بالعبادة قال - تعالى -: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة –133] وقال - تعالى -: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة - 73] وقال - تعالى -: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل –51] . يقول الإمام الطبري1 - رحمه الله -: "إلهاً واحداً أي نخلص له العبادة، ونوحد له الربوبية، فلا نشرك به شيئاً، ولا نتخذ دونه رباً"2.   1 - محمد بن جرير بن يزيد الطبري، أبو جعفر، المؤرخ المفسر الإمام، ولد في آمل طبرستان، واستوطن بغداد، وتوفي بها سنة 310 للهجرة، من كتبه "أخبار الرسل والملوك"،وتفسيره "جامع البيان". انظر: شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي 2/260، الأعلام 6/69. 2 - جامع البيان في تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري 1/562، وانظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وفي إثبات الأسماء والصفات لله - تعالى -؛ يقول–سبحانه -: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة–163] وقوله–تعالى -: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص –1 - 4] . وفي إفراده بالخلق والربوبية والنفع والضر يقول - تعالى -: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد - 16] وقال - تعالى -: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات - 4 - 5] . وعلى هذه المعانيالثلاثة كانت آيات التوحيد في كتاب الله –تعالى -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ثانياً - التوحيد في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -: لقد كان مدلول كلمة التوحيد وفروعها في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وصحابته، هو شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتعني أيضا عبادة الله وحده. ومن الشواهد على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله - تعالى -" 1، ثم جاء تفسير التوحيد في روايات أخرى تعددت ألفاظها، ومنها قوله: "أدعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" 2، وفي رواية: "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله - عز وجل -" 3.وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله" 4، وفي رواية: "من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله.." 5، وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بني الإسلام على خمسة. على أن يوحد الله.." 6، وجاء في رواية أخرى: "على أن يعبد الله ويكفر بما دونه.." 7،وفي رواية: "على خمس شهادة أن لا إله إلا الله.." 8، فهذه الروايات يفسر بعضها بعضاً، وهي تدل على أن التوحيد يعني شهادة أن لاإله إلا الله، ويعني عبادة الله وحده.   1 - أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى 4/378، ح7372. 2 - أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب وجوب الزكاة 1/430، ح 1395، ومسلم في كتاب الإيمان باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام 1/50، ح 29. 3 - أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة 1/450 - 451، ح 1458، ومسلم في كتاب الإيمان باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام 1/51، ح 31. 4 - أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة - 5] 1/24، ح 25، ومسلم في كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.. 1/53، ح 37. 5 - أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله.. 1/53، ح 38. 6 - أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام 1/45، ح 19. 7 - أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام 1/45، ح 20. 8 - أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم1/20، ح 8، ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام 1/45، ح 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وهذا المعنى فهمه جابر - رضي الله عنه -، وعبر به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: "فأهل بالتوحيد، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" 1. وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث وفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.." 2، وعن عطاء - رحمه الله - في قوله –تعالى -: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ} [المائدة - 5] قال: "الإيمان التوحيد"3. وقال ابن عباس - رضي الله عنه - في معنى قوله –تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} [البقرة - 21] قال "وحدوا"4، وقال - رضي الله عنه -: "كل عبادة في القرآن فهو التوحيد"5، وفسر - رضي الله عنه - قوله - تعالى -: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال–39] بقوله: "يخلص له التوحيد"6، فالدين عنده هو التوحيد. ونخلص من هذا إلى أن معنى التوحيد في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته هو شهادة أن لا إله إلا الله، وإفراد الله بالعبادة، والإيمان به وحده دون شريك في العبادة أو الربوبية أو الأسماء والصفات.   1 - أخرجه مسلم في كتاب الحج باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - 2/886 - 887، ح 1218. 2 - أخرجه بهذا اللفظ البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله - تعالى -: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات - 96] 4/418، ح 7556. 3 - جامع البيان للطبري 6/109. 4 - الدر المنثور للسيوطي 1/85، وانظر: حقيقة التوحيد للدكتور العلياني ص 55. 5 - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/193، وانظر: زاد المسير لابن الجوزي 1/14، 4/75، البحر الرايق لابن نجيم 1/291. 6 - زاد المسير 1/200، وانظر: جامع البيان9/249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وقد بنى أهل السنة تعريفهم للتوحيد على المعاني السابقة، يقول الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - في بيان معنى أن الله واحد بأنه "لا شريك له"1. ويقول الإمام الدارمي2 - رحمه الله -: "وتفسير التوحيد عند الأمة، وصوابه، قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له"3. وإمام الشافعية أبو العباس بن سريج4 يقول: "توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"5. ويقول الإمام الطبري - رحمه الله - في تفسير قوله–تعالى -: {إِلَهاً وَاحِداً} [البقرة - 133] : "أي نخلص له العبادة، ونوحد له الربوبية، فلا نشرك به شيئاً، ولا نتخذ دونه رباً"6. ويقول الإمام الطحاوي7 - رحمه الله - في بيان التوحيد: "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له ولا شيء مثله ولاشيء يعجزه"8.   1 - شرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 22. 2 - هو الإمام عثمان بن سعيد بن خالد الدارمي السجستاني، أبو سعيد محدث هراة ولد سنة 200هـ، وتوفي سنة 280 هـ، وهو صاحب المسند الكبير والتصانيف الكثيرة، ومنها: "رد الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي"، انظر: سير أعلام النبلاء 13/319، الأعلام 4/205. 3 - رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي للإمام الدارمي ص6. 4 - هو الإمام شيخ الإسلام، فقيه العراقيين، أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي، القاضي الشافعي، صاحب المصنفات، وناشر مذهب الإمام الشافعي، قال الشيخ أبو إسحاق "كان ابن سريج يفضل على جميع أصحاب الشافعي حتى على المزني"، أخذ عنه الفقه خلق من الأئمة، ولي قضاء شيراز، وتوفي سنة 306هـ ببغداد. انظر: السير14/201 - 204، طبقات الشافعية للسبكي2/89 - 91. 5 - الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم التيمي 1/96 - 97، بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية 1/487، التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى لابن تيمية 5/206، إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 4/191. 6 - جامع البيان 1/562. 7 - هو الإمام العلامة الحافظ الكبير محدث الديار المصرية وفقيهها، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك، الأزدي، الحجري، المصري، الطحاوي، الحنفي، صاحب التصانيف، من أهل قرية طحا بمصر، إليه انتهت رياسة أصحاب أبي حنيفة بمصر، ولد سنة239هجرية، وتوفي سنة 321 هجرية، من مصنفاته معاني الآثار، وأحكام القرآن، انظر: السير 15/27 - 33، الجواهر المضية في طبقات الحنفية للقرشي 2/102 - 105، طبقات الفقهاء للشيرازي 2/148. 8 - متن العقيدة الطحاوية للإمام الطحاوي ص6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 كما يبين الإمام الآجري1 - رحمه الله - أن التوحيد هو قول لا إله إلا الله محمداً رسول الله موقناً من قلبه2. وعلى هذا المعنى كان كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن التوحيد، فقال عن التوحيد إنه: "شهادة أن لا إله إلا الله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له"3. ويقول عن توحيد الرسل إنه "يتضمن إثبات الإلهية لله وحده، بأن يشهد أن لا إله إلا هو، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله، وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات"4. ويقول رحمه الله: "حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده، فلا يدعى إلا هو ولا يخشى إلا هو، ولا يتقى إلا هو ولا يتوكل إلا عليه، ولا يكون الدين إلا له، لا لأحد من الخلق"5. ويعرف الإمام ابن القيم - رحمه الله - التوحيد بقوله: "توحيد الرسل إثبات صفات الكمال لله على وجه التفصيل، وعبادته وحده لا شريك له، فلا يجعل له نداً في قصد ولا حب ولا خوف ولا رجاء ولا لفظ ولا حلف ولا نذر، بل يرفع العبد الأنداد له من قلبه وقصده ولسانه وعبادته"6. ويلاحظ أن التعريفات السابقة تدور على محور واحد، هو تعريف التوحيد بأنه شهادة أن لا إله إلا الله، وإفراده - سبحانه - بالعبادة، وبعض التعريفات فيها تفصيل إثبات أسماء الله   1 - هو الإمام الحافظ محمد بن الحسين بن عبد الله، أبو بكر الآجري فقيه شافعي محدث، نسبته إلى آجر من قرى بغداد، له تصانيف كثيرة منها: التفرد والعزلة، والشريعة، توفي سنة 360هجرية، انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 4/292، الأعلام6/97. 2 - انظر: الشريعة للآجري ص101. 3 - التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى 5/208، وانظر: بيان تلبيس الجهمية 1/478، مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 3/364، مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية1/44. 4 - درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/224، وانظر: الصفدية لابن تيمية 2/228. 5 - منهاج السنة النبوية لابن تيمية 3/490. 6 - الروح لابن قيم الجوزية ص 386، وانظر: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية 3/933، مدارج السالكين إلى منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن قيم الجوزية 3/459. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وصفاته وربوبيته. وقد كان التركيز على توحيد الله بالعبادة والألوهية؛ لأنه يتضمن إثبات أسماء الله وصفاته وإثبات ربوبيته. ولأن العبادة هي الغاية من خلق الإنس والجن، فمن وحد الله بأسمائه وصفاته وربوبيته ولم يعبده لم يكن موحداً، ومن عبده ولكن ألحد في أسمائه وصفاته لم يكن موحداً. وعليه فيمكن تعريف التوحيد بأنه إفراد الله بالربوبية وماله من الأسماء والصفات، والإخلاص له في الألوهية والعبادة. وهذا التعريف يشمل التعريفات السابقة، ويتضمن أنواع التوحيد، وهو ما سنتحدث عنه في الصفحات التالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 2 - أنواع التوحيد: ذكرت فيما سبق أن آيات كتاب الله - عز وجل - في التوحيد تدور على ثلاثة معان هي: إفراده - سبحانه - بالعبادة، وإفراده بالربوبية والخلق والتصرف، وإثبات صفات الكمال له، وعلى هذا بنى أهل السنة تقسيمهم للتوحيد. فيشير الإمام الطبري إلى هذه المعاني بقوله: "إلهاً واحداً، أي نخلص له العبادة، ونوحد له الربوبية، فلا نشرك به شيئاً، ولا نتخذ دونه رباً"1. وألمح الإمام أبو يوسف2 - رحمه الله - إلى أنواع التوحيد في قوله: "وإنما دل الله - عز وجل - خلقه بخلقه؛ ليعرفوا أن لهم رباً يعبدوه ويطيعوه ويوحدوه، ليعلموا أنه مكونهم لا هم كانوا، ثم تسمى فقال: أنا الرحمن، وأنا الرحيم، وأنا الخالق، وأنا القادر، وأنا المالك، أي هذا الذي كونكم يسمى المالك، القادر، الله، الرحمن، الرحيم، بها يوصف"3. أولاً: تقسيم التوحيد إلى نوعين: وهذا هو الذي يكثر في كتب أهل السنة، فيقسمون التوحيد إلى نوعين، عبروا عنهما بأكثر من صيغة، فمن ذلك تقسيمه إلى التوحيد القولي العلمي، والتوحيد العملي الإرادي، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "التوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية، وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له، وهو متضمن لشيئين: أحدهما: القول العلمي، وهو إثبات صفات الكمال له، وتنزيهه عن النقائص، وتنزيهه عن أن يماثله أحد في شيء من صفاته، فلا يوصف بنقص بحال، ولا يماثله أحد في شيء من الكمال..والتوحيد العملي الإرادي أن لا يعبد إلا إياه، فلا يدعو إلا إياه ولا يتوكل إلا عليه،   1 - جامع البيان 1/562. 2 - هو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي الإمام المجتهد المحدث، كبير القضاة، صحب أبا حنيفة سبع عشرة سنة، وتفقه عليه، وهو أنبل تلامذته وأعلمهم توفي سنة 182 هجرية. انظر: سير أعلام النبلاء 8/535 - 539. 3 - كتاب التوحيد لابن مندة 3/305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ولا يخاف إلا إياه، ولا يرجو إلا إياه، ويكون الدين كله لله. وهذا التوحيد يتضمن أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، لا شريك له في الملك"1. وشيخ الإسلام هنا بيّن أن التوحيد يتضمن أمرين: 1 - التوحيد القولي العلمي. 2 - التوحيد العملي الإرادي. وهذا التقسيم ذكره الإمام ابن القيم - رحمه الله - حيث قال: "التوحيد نوعان: نوع في العلم والاعتقاد، ونوع في الإرادة والقصد، ويسمى الأول: التوحيد العلمي. والثاني: التوحيد القصدي الإرادي. لتعلق الأول بالأخبار والمعرفة، والثاني بالقصد والإرادة"2. وعرف هذين النوعين بقوله: "والتوحيد العلمي أساسه إثبات صفات الكمال للرب - تعالى -، ومباينته لخلقه، وتنزيهه عن العيوب والنقائص والتمثيل. والتوحيد العملي أساسه تجريد القصد، بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والاستعانة، والعبودية بالقلب، واللسان، والجوارح، لله وحده"3. والقسم الأول وهو التوحيد القولي العلمي، يعبر عنه أهل السنة أحياناً بتوحيد الصفات، وتوحيد الأسماء والصفات، والقسم الثاني وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، يعبرون عنه بتوحيد العبادة، وتوحيد الألوهية4. وتارة يعبرون عن هذين النوعين بتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "المقصود هنا بيان حال العبد المحض لله الذي يعبده ويستعينه، فيعمل له ويستعينه ويحقق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة - 5] توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية،   1 - الصفدية 2/228 - 229، وانظر: بيان تلبيس الجهمية 1/479. 2 - مدارج السالكين 1/24 - 25، وانظر: بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية 1/146. 3 - الصواعق المرسلة 2/402 - 403، وانظر: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية لابن قيم الجوزية ص85، مدارج السالكين 3/445 - 446، 449. 4 - انظر: الرسالة التدمرية لابن تيمية ص 4 - 5، شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن القيم ص273، الحق الواضح المبين لابن سعدي، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن بن سعدي 3/212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية والربوبية تستلزم الإلهية"1. ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - عند شرحه لقوله - تعالى -: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة - 5] :" وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد وهما: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية"2. وتارة يعبرون عنهما بتوحيد الإثبات والمعرفة، وتوحيد القصد والطلب، يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - في بيان أنواع التوحيد: "وهو نوعان: توحيد في المعرفة الإثبات، وتوحيد في المطلب والقصد"3. فتوحيد الإثبات والمعرفة يتضمن معرفة الله، بإثبات أسماء الله وصفاته، من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تكييف. وتوحيد القصد والطلب يعني إفراد الله - تعالى - بسائر أنواع العبادة، فلا يقصد ولا يطلب إلا هو - سبحانه -.   1 - مجموع الفتاوى 10/283 - 284، 331، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية 2/710، مجموعة الرسائل والمسائل 1/42 - 43، بيان تلبيس الجهمية 2/454. 2 - الصلاة وحكم تاركها لابن القيم ص 98، وانظر: التبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص 272، بدائع الفوائد 4/132، زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم 4/177، 203، شفاء العليل ص228، بصائر ذوي التمييز 5/172، تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي 9/276. 3 - مدارج السالكين 3/449، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 1/42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ثانياً: تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أنواع: وهذا التقسيم لا يختلف عن التقسيم السابق، وإنما هو اصطلاح آخر، حيث يذكر أهل السنة أنواعاً ثلاثة للتوحيد وهي: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا الأخير يسمونه أحياناً التوحيد العلمي الاعتقادي. يقول الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين: "فصل في اشتمال هذه السورة على أنواع التوحيد الثلاثة، التي اتفق عليها الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم -"1، ثم ذكر تقسيم التوحيد إلى نوعين؛ نوع في العلم والاعتقاد، ونوع في الإرادة والقصد، وبين اشتمال هذين النوعين على أنواع ثلاثة؛ هي: توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية2. وقال أيضا في بيان أنواع التوحيد: "الأول توحيد الربوبية، الثاني توحيد الإلهية، الثالث التوحيد العلمي الاعتقادي"3. ويقول شارح الطحاوية: "التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع: أحدها الكلام في الصفات، والثاني توحيد الربوبية، وبيان أن الله وحده خالق كل شيء، والثالث توحيد الإلهية وهو استحقاقه - سبحانه وتعالى - أن يعبد وحده لا شريك له"4.   1 - مدارج السالكين 1/24 - 25. 2 - انظر: المرجع السابق 1/24 - 25، 28. 3 - زاد المعاد 4/200. 4 - شرح العقيدة الطحاوية ص 76، وانظر: لوامع الأنوار البهية للسفاريني 1/128 - 129، لوائح الأنوار السنية للسفاريني 1/257، تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص32 - 36، فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم 1/80 - 83، معارج القبول للحكمي 1/57، الحق الواضح المبين للسعدي 3/212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 1 - تعريف توحيد الألوهية: لما كان الإله هو الذي يؤله ويعبد1، فإن توحيد الألوهية هو إفراد الله بجميع أنواع العبادة، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -:" إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا هو، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله"2. ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "وتوحيد الإلهية المتضمن أنه وحده الإله المعبود المحبوب، الذي لا تصلح العبادة والذل والخضوع والحب إلا له"3. وقيل في تعريفه أيضاً: "هو إفراده تعالى بالعبادة، والتأله له، والخضوع، والذل، والحب، والافتقار، والتوجه إليه - تعالى -"4. وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -:"وسمي توحيداً فعلياً لأنه متضمن لأفعال القلوب والجوارح، فهو توحيد الله بأفعال العبيد"5. ومن الممكن هنا ذكر تعريف التوحيد العملي، أو توحيد القصد والطلب، أو التوحيد الإرادي الطلبي، لأنها تسمية لهذا النوع من أنواع التوحيد، وقد سبق بيانها6.   1 - انظر: العين 4/90 - 91، معجم مقاييس اللغة 1/127، لسان العرب13/468 - 469، القاموس المحيط ص1603. 2 - درء التعارض 1/224. 3 - بدائع الفوائد 4/132. 4 - لوامع الأنوار البهية 1/129، وانظر: لوائح الأنوار السنية 1/257، شرح العقيدة الطحاوية 1/29، بصائر ذوي التمييز 5/172، تيسير العزيز الحميد ص36، فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم 1/80. 5 - الحق الواضح المبين ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ ابن سعدي 3/212. 6 - انظر: ص21 - 22 من البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 2 - تعريف توحيد الربوبية: تعريف توحيد الربوبية ينبني على معنى الرب، والرب هو السيد والمصلح والمالك والمربي1، ويعرّف شيخ الإسلام - رحمه الله - توحيد الربوبية بأنه يعني: "أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه "2. وفي موضع آخر يقول: "توحيد الربوبية وهو الإقرار بأن الله خالق كل شيء وربه"3. ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "توحيد الربوبية المتضمن أنه وحده الرب، الخالق، الفاطر"4. ويقول الإمام ابن أبي العز - رحمه الله -: "وأما الثاني وهو توحيد الربوبية، كالإقرار بأنه خالق كل شيء، وأنه ليس للعالم صانعان متكافئان في الصفات والأفعال" 5.وفي تعريفات المتأخرين من أهل العلم مزيد تفصيل، ومن ذلك تعريفهم توحيد الربوبية: بأنه الإقرار بأن الله - تعالى - رب كل شيء، ومالكه، وخالقه، ورازقه، وأنه المحيي المميت، النافع الضار، المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، القادر على ما يشاء، ليس له في ذلك شريك، ويدخل في ذلك الإيمان بالقدر6. ويقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في تعريف توحيد الربوبية: "وهو إفراد الله - سبحانه وتعالى - في أمور ثلاثة؛ في الخلق، والملك، والتدبير"7، فالخلق يدخل فيه الإبداع والإيجاد والإنشاء وفق تقدير سابق، والملك والتدبير يدخل فيها تصرفه - سبحانه - في خلقه، من إحياء، وإماتة، ورزق، إلى غير ذلك من تدبيره لمخلوقاته، كما يتضمن غناه - سبحانه - عنهم وفقرهم إليه، وهذه صفات الرب.   1 - انظر: معجم مقاييس اللغة 2/381 - 382، الصحاح 1/130 - 132، لسان العرب 1/401 - 403. 2 - الاستقامة لابن تيمية 1/179. 3 - منهاج السنة 3/289، وانظر: مجموع الفتاوى 11/50، 10/331، درء التعارض 1/225. 4 - بدائع الفوائد 4/132. 5 - شرح العقيدة الطحاوية 1/25. 6 - انظر: لوامع الأنوار البهية 1/128، لوائح الأنوار 1/257، تيسير العزيز الحميد ص33، فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم 1/80. 7 - شرح العقيدة الواسطية 1/21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 3 - تعريف توحيد الأسماء والصفات: يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - في تعريف توحيد الصفات: "فأما الأول وهو التوحيد في الصفات فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفى عنه ما نفاه عن نفسه، وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه - مع ما أثبته من الصفات – من غير إلحاد، لا في أسمائه ولا في آياته"1. وبهذا يتبين معنى التوحيد عند أهل السنة، ويتضح عنايتهم بشرحه وتفصيل أنواعه، وذلك لأهميته، إذ لأجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، ليعرف خلقه عليه - سبحانه -، ويأمرهم بتوحيده، ويحذرهم من الشرك في عبادته، أو أسمائه وصفاته.   1 - الرسالة التدمرية ص 6 - 7، وانظر: لوامع الأنوار 1/129، لوائح الأنوار1/257، تيسير العزيز الحميد ص 34 - 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 2 - تعريف التوحيد عند الفلاسفة 1: إن مما يبين معنى التوحيد عند الفلاسفة هو تعريفهم للواحد أو الوحدة، حيث يتضح من خلالها حقيقة التوحيد الذي بنوه على معنى الواحد عندهم. ولننظر في تعريف ابن سينا2للواحد فهو يقول:"فقد ظهر لنا أن للكل مبدأ واجب الوجود، غير داخل في جنس3، أو واقع تحت حد4، أو برهان5،بريئا عنالكم6، والكيف7، والماهية8، والأين9،والمتى10، والحركة11، لا ند له، ولا شريك، ولا ضد له، وأنه واحد من   1 - الفلسفة كلمة يونانية أصلها "فيلوسوفيا" وتفسيرها محبة الحكمة، وقيل معناها التشبه بأفعال الله حسب طاقة الإنسان، والفلاسفة - كما يقول ابن القيم رحمه الله - في عرف كثير من الناس صار مختصاً بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا لما يقتضيه العقل في زعمه، وهي في عرف المتأخرين: اسم لأتباع أرسطو وهم المشاؤون خاصة، الذين هذب ابن سينا طريقتهم وبسطها، ومن مقولاتهم القول بقدم العالم، وإنكار علم الرب وإنكار بعث الأجساد، والملائكة عندهم هي العقول، وقد ذكر الغزالي أصناف الفلاسفة وهم الدهرية والطبيعيون والإلهيون، وقال عنهم: وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم سمة الكفر والإلحاد، كما كفر أتباعهم من المنتسبين إلى الإسلام. انظر: الملل والنحل للشهرستاني 2/58، 158، وما بعدها، إغاثة اللهفان لابن القيم 2/256 - 261، المعجم الفلسفي لجميل صليبا 2/160 - 162، المنقذ من الضلال للغزالي ص19 - 20، رسالة الحدود والرسوم للكندي ضمن كتاب المصطلح الفلسفي عند العرب للدكتور عبد الأمير الأعسم ص197. 2 - هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا الملقب بالشيخ الرئيس، ألف في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات، من كتبه الشفا، والقانون، وأخبر ابن سينا عن نفسه أن أهل بيته كانوا من الإسماعيلية الملاحدة، وأنه إنما اشتغل بالفلسفة بسبب ذلك فإنه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس. وقد أخذ علومه عن الملاحدة المنتسبين للإسلام كالإسماعيلية، توفي سنة 428للهجرة. انظر: الرد على المنطقيين لابن تيمية ص 141 - 143، الأعلام2/261 - 262. 3 - الجنس هو كلي يحمل على أشياء مختلفة الذوات والحقائق في جواب ماهو. انظر: النجاة لابن سينا 1/15،معيار العلم للغزالي ص 77. 4 - الحد يعرفه ابن سينا بأنه القول الدال على ماهية الشيء، أي كمال وجوده الذاتي. انظر: الحدود لابن سينا ضمن المصطلح الفلسفي للأعسم ص 239، وسيأتي تفصيل معنى الحد ص114من البحث وما بعدها. 5 - البرهان عبارة عن قياس يقيني المادة. انظر: النجاة 1/83، المبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي ص 90. 6 - الكم: عبارة عما يفيد التقدير والتجزئة لذاته. انظر: معيار العلم ص307، المبين ص 110. 7 - الكيف: عبارة عن هيئة قارة للجوهر لا يوجب تعقلها تعقل أمر خارج عنها وعن حاملها، ولا يوجب قسمة ولا نسبة في أجزائها وأجزاء حاملها. انظر: معيار العلم ص309، المبين ص 111. 8 - الماهية: ماهية الشيء ما به يجاب عن السؤال بما هو؟ ويفسره بما به الشيء هو هو. انظر: شرح المقاصد للتفتازاني 1 /399، وسيأتي شرح هذا اللفظ ص196 من البحث وما بعدها. 9 - الأين: عبارة عن حالة تحصل للجسم بسبب نسبته إلى مكانه. انظر: معيار العلم ص312، المبين ص 112. 10 - المتى: عبارة عن حالة تحصل للجسم بسبب نسبته إلى زمانه، انظر: معيار العلم ص313، المبين ص 112. 11 - الحركة: عبارة عن كمال أول بالقوة، من جهة ماهو بالقوة، أو هو خروج من القوة إلى الفعل لا في آن واحد. انظر: معيار العلم ص293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 جميع الوجوه، لأنه غير منقسم، لا في الأجزاء بالفرض والوهم، كالمتصل، ولا في العقل بأن تكون ذاته مركبة من معان عقلية متغايرة يتحد بها جملته وأنه واحد من حيث هو غير مشارك ألبته في وجوده الذي له، فهو بهذه الوجوه فرد، وهو واحد لأنه تام الوجود، ما بقي له شيء ينتظر حتى يتم وقد كان هذا أحد وجوه الواحد، وليس الواحد فيه إلا على الوجه السلبي"1. ويقول عن وحدانية الله: "فهو واحد من جهة تمامية وجوده، وواحد من جهة أن حده له، وواحد من جهة أنه لا ينقسم لا بالكم، ولا بالمباديء المقومة له، وواحد من جهة أن لكل شيء وحدة تخصه، وبها كمال حقيقته الذاتية"2. ويقول ابن رشد3 عن الواحد: "هو الذي لا يتجزأ إما في الكمية، وإما في الصورة4 والكيفية"5.   1 - النجاة لابن سينا 2/108، وانظر: الفارابي في حدوده ورسومه للدكتور جعفر آل ياسين ص 639. 2 - النجاة لابن سينا 2/84. 3 - هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي، ولد سنة 520هجرية، واشتغل بالفلسفة، وكانت له عناية بكتب أرسطو فشرح الكثير منها، من ذلك "شرح مابعد الطبيعة" أو "تفسير ما بعد الطبيعة" لأرسطو، ومن كتبه "تهافت التهافت"، "فصل المقال في مابين الشريعة والحكمة من الاتصال" وهو الكتاب الذي حاول فيه أن يقرب بين الدين والفلسفة، توفي سنة 594هـ، وقيل 595هـ. انظر: الديباج المذهب لابن فرحون 2/257، السير21/307، شذرات الذهب 4/320. 4 - الصورة: عبارة عن أحد جزئي الجسم وهو حال في الجزء الآخر منه. انظر: المبين ص 109، وعند ابن سينا الصورة اسم مشترك يقال على معان: الأول: النوع وهو المقول على كثيرين في جواب ماهو. والثاني: أنها كل موجود في شيء لا كجزء منه ولا يصح قوامه دونه كيف كان. الثالث: أنه الموجود في الشيء لا كجزء منه ولا يصح قوامه دونه ولأجله وجد الشيء مثل العلوم والفضائل للإنسان. الرابع: أنه الموجود في شيء آخر لا كجزء منه ولا يصح وجوده مفارقا له ولكن وجود ما هو فيه بالفعل خاصا به، مثل صورة النار في هيولى النار. الخامس: أنه الموجود في شيء لا كجزء منه ولا يصح قوامه مفارقا له ويصح قوام ما فيه دونه إلا أن النوع الطبيعي يحصل به كصورة الإنسانية والحيوانية في الجسم الطبيعي الموضوع له. وربما قيل إنه صورة للكمال المفارق مثل النفس فحده أنه جزء غير جسماني مفارق يتم به وبجزء جسماني نوع طبيعي. انظر: الحدود لابن سينا ص 243 - 244، معيار العلم ص 286 - 287. 5 - تفسير ما بعد الطبيعة لابن رشد ص 547. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ويلاحظ على تعريفهم للواحد كثرة المصطلحات الغريبة، فكل كلمة في تعريفهم تحتاج إلى تعريف، ويلاحظ بعد معنى تلك الألفاظ عن ما هو معروف في لغة العرب، بل بعضها ليس من لغة العرب. فهذه العبارات المجملة، المشتبهة، حقيقتها كما يقول ابن القيم - رحمه الله -: "هو إنكار ماهية الرب الزائدة على وجوده، وإنكار صفات كماله، وأنه لا سمع له، ولا بصر، ولا قدرة ولا حياة، ولا إرادة ولا كلام ولا وجه، ولا يدين، وليس فيه معنيان متميز أحدهما عن الآخر البتة، قالوا: لأنه لو كان كذلك لكان مركباً، وكان جسماً مؤلفاً، ولم يكن واحداً من كل وجه، فجعلوه من جنس الجوهر الفرد1، الذي لا يحس، ولا يرى، ولا يتميز منه جانب عن جانب، بل الجوهر الفرد يمكن وجوده"2. فهم يريدون نفي صفات الله، بل تعطيل وجوده، ولذلك نجد أنهم يقولون إن الصفات ترجع إلى الذات، لا إلى معنى غيرها زائد عليها، وأن علمه هو إرادته، وهو بعينه أيضاً رضاه3. يقول الإمام ابن تيمية - رحمه الله - معلقاً على تعريف ابن سينا لوحدانية الله: "ومقصود هذه العبارات أنه ليس لله صفة ولا له قدرة"4. ويقول الغزالي5: "وما ذكروه يشتمل على نفي الصفات، ونفي الكثرة فيها، وذلك مما يخالفون فيه"6.   1 - الجوهر الفرد هو جوهر لا يقبل التجزي، وهو الذي يسمونه الجزء الذي لا يتجزأ. انظر: المبين ص109 - 110، وانظر البحث ص257. 2 - الصواعق المرسلة 3/929، وانظر: بيان تلبيس الجهمية 1 /464 - 465، مدارج السالكين 3/447، مجموع الفتاوى 6/516 - 517. 3 - انظر في ذلك: التعليقات للفارابي ص 37، الحدائق في المطالب الفلسفية العويصة للبطليوسي ص 102. 4 - بيان تلبيس الجهمية 1/465، وانظر: الرد على المنطقيين ص 214. 5 - هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، أبو حامد فيلسوف أصولي متصوف، له نحو مئتا مصنف منها إحياء علوم الدين، تهافت الفلاسفة، توفي سنة 505 هـ، وكتب الكثيرون في سيرته، انظر: وفيات الأعيان 4/216، شذرات الذهب 4/10، الأعلام 7/23. 6 - معيار العلم ص 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ويفصل الإمام ابن تيمية الكلام في موضع آخر فيقول: "فإن كان لفظ الأحد والواحد يمنع تعدد المعاني المفهومة الثبوتية بالكلية - كما يزعم ابن سينا وذويه1من مرتدة العرب المتبعين لمرتدة الصابئة، أنه إذا كان واحداً من كل وجه، فليس فيه تعدد من جهة الصفة، ولا من جهة القدر، ويعبر عن ذلك بأنه ليس فيه أجزاء حد، ولا أجزاء كم، - لزم أن يكون الوجوب والوجود والإبداع معنى واحد، وهو معلوم الفساد بالبديهة، وإن كان هو في نفسه مقسماً بالأحد والواحد، مع ثبوت هذه المعاني المتعددة، علم أن هذا الاسم لا يوجب نفي الصفات؛ بل هو - سبحانه - أحد واحد لا شبيه له ولا شريك، وليس كمثله شيء بوجه من الوجوه، وكذلك هو أيضا ذات، وهو قائم بنفسه باتفاق الخلائق كلهم، وسائر الذوات، وكل ماهو قائم بنفسه، يشاركه في هذا الاسم ومعناه، كما يشاركه في اسم الوجود ومعناه، وهو - سبحانه - يتميز عن سائر الذوات، وسائر ما هو قائم بنفسه، بما هو مختص به؛ من حقيقته التي تميز بها، وانفرد واختص عن غيره، كما تميز بوجوب وجوده، وخصوص تلك الحقيقة ليس هو المعنى العام المفهوم من القيام بالنفس، ومن الذوات، كما إن خصوص وجوب الوجود ليس هو المعنى العام المفهوم من الوجود، فسواء سمى المسمي هذا تعاداً، أو تركيباً، أولم يسمه، هو ثابت في نفس الأمر، لا يمكن دفعه، والحقائق الثابتة، لا تدفع بالعبارات المجملة، المبهمة، وإن شنع بها الجاهلون"2. كما رد على الفلاسفة الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة، وبين تهافت قولهم وتناقضه، وأن قولهم في معنى الواحد تحكم لا دليل عليه3.   1 - خطأ نحوي والصواب بالرفع "وذووه". 2 - بيان تلبيس الجهمية 1/500، 501، وانظر: الرد على المنطقيين ص221 - 225. 3 - انظر: تهافت الفلاسفة للغزالي ص87 - 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 3 - تعريف التوحيد عند أهل الوحدة 1: التوحيد عند أهل الوحدة - كما يقولون في تعريفه -: هو إسقاط الإضافات؛ أي لا تضيف شيئاً من الأشياء إلى غير الحق –سبحانه -، وقيل: هو تنزيه الله عن الحدث، وقيل: إسقاط الحدث وإثبات القدم. وحاصل مراتب التوحيد عندهم: أن يعلم يقيناً بالدليل القاطع، أن الموجود الحقيقي هو الله - سبحانه -، وكل ما سواه معدوم الأصل، وجوده ظل وجود الحق، فيعتقد أن ليس في الوجود فعل، وصفة، وذات، إلا لله حقيقة، وأن يجد ذلك ويشهده2. وهم يُعرفون علم التوحيد بأنه: "علم يعرف به أنه لا وجود لغير الله - تعالى -، وليست الأشياء إلا مظاهره تعالى ومجاليه، والموحدون طائفة لا يرون غير الحق عز شأنه وجل برهانه، ولا يعلمون وجودا لغير الحق - تعالى -، وإن حقيقة الوجود هو الله - سبحانه - "3. وحقيقة توحيدهم أنه ليس هناك وجودان قديم وحادث، وخالق ومخلوق، وواجب وممكن، بل الوجود عندهم واحد بالعين، والذي يقال له الخلق المشبه هو الحق المنزه، بل الكل من عين واحدة، بل هو العين الواحدة، فوجود الكائنات هو عين وجود الله - تعالى -، ليس وجودها غيره ولاشيء سواه ألبتة4. وتصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده، ولا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر، وإنما تقع الشبهة لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم، لما فيه من الألفاظ المجملة والمشتركة5. وقد رد عليهم شيخ الإسلام - رحمه الله - وبين حقيقة الاشتباه الذي وقعوا فيه، وأنه من أعظم الضلال الذي وقع فيه بنو آدم، قال - رحمه الله -: "فمن اشتبه عليهم وجود الخالق   1 - أهل الوحدة هم الذين يقولون بوحدة الوجود، أي أن الوجود واحد فالوجود الواجب للخالق هو الوجود الممكن للمخلوق، كما يقول ذلك ابن عربي، وابن سبعين، وغيرهما من أهل الوحدة، فهم يقولون إن الله لا يوجد مستقلاً عن الأشياء، وهو نفس العالم، والأشياء مظاهر لحقيقته الكلية أو مظاهر لذاته تصدر عنه بالتجلي. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 2/249، المعجم الفلسفي للحفني ص380. 2 - انظر: كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي 2/1469. وقد نقل هذا الكلام عن شارح القصيدة الفارضية. 3 - موسوعة مصطلحات جامع العلوم لأحمد نكري ص295، 972 - 973. 4 - انظر: الصواعق المرسلة 3/931 - 932، مجموعة الرسائل لابن تيمية 1/80، 4/6 - 7. 5 - انظر: مجموعة الرسائل لابن تيمية 4/5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 بوجود المخلوقات _حتى ظنوا وجودها وجوده –فهم أعظم الناس ضلالا من جهة الاشتباه، وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى "الوجود" فرأوا الوجود واحداً، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين، والواحد بالنوع "1وقال - رحمه الله - عنهم: "فإن هؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وأنه ليس وراء الأفلاك شيء، فلو عدمت السماوات والأرض، لم يكن ثم شيء موجود"2. فقول أهل الوحدة في التوحيد ظاهر الفساد، بل توحيدهم هو محض الشرك.   1 - التدمرية ص108. 2 - الصفدية 1/244، وانظر: بيان تلبيس الجهمية 1/212 - 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 4 - تعريف التوحيد عند المتكلمين 1: يعرف القاضي عبد الجبار2التوحيد في اصطلاح المتكلمين فيقول: "أما في اصطلاح المتكلمين فهو العلم بأن الله - تعالى - واحد لا يشاركه غيره فيما يستحق من الصفات نفياً وإثباتاً على الحد الذي يستحقه، والإقرار به"3. ويقول الرازي4 في تعريف التوحيد: "هو عبارة عن الحكم بأن الشيء واحد، وعن العلم بأن الشيء واحد، يقال: وحدته إذا وصفته بالوحدانية"5. وفي التعريفات للجرجاني6: "التوحيد ثلاثة أشياء: معرفة الله - تعالى - بالربوبية، والإقرار له بالوحدانية، ونفي الأنداد عنه جملة"7.   1 - المتكلمون نسبة إلى علم الكلام وهو - كما يعرفونه - "علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المنحرفين في الاعتقادات"، وفي سبب تسميته بهذا الاسم يذكر المتكلمون عدة أقوال منها: أنهم يعنونون للمسائل بقولهم الكلام في كذا، وقيل لأن أشهر مباحثه الكلامية صفة الكلام، وقيل لكثرة الكلام فيه مع المخالفين والرد عليهم. ويدخل تحت مصطلح المتكلمين كثير من الفرق التي اتخذت المنهج الكلامي طريقاَ لها في باب الاعتقاد؛ كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرها، وقد ذم السلف والأئمة أهل الكلام المحدث المخالف للكتاب والسنة إذ كان فيه من الباطل في الأدلة والأحكام ما أوجب تكذيب بعض ما أخبر به الرسول. انظر: شرح المقاصد للتفتازاني1/164، مقدمة ابن خلدون ص400، المدخل إلى دراسة علم الكلام للدكتور حسن الشافعي ص13 - 21، 27 - 28، العقيدة الأصفهانية لابن تيمية ص72، درء التعارض1/232، بيان تلبيس الجهمية1/101. 2 - هو أبو الحسن القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الأسدبادي، ولد سنة 325 هجرية، وعاش في بغداد إلى أن عينه الصاحب بن عباد قاضياً بالري سنة 367 هجرية، شافعي المذهب، ويعد بوجه عام آخر علماء المعتزلة النابهين، توفي بالري سنة 415 هجرية، من مؤلفاته تنزيه القرآن عن المطاعن، وشرح الأصول الخمسة. انظر: المنية والأمل لابن المرتضى ص 93، طبقات الشافعية للسبكي 5/97. 3 - شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 128. 4 - محمد بن عمر بن الحسين بن علي القرشي البكري المعروف بالفخر الرازي، من أئمة الأشاعرة المتأخرين، له مصنفات كثيرة منها: المطالب العالية، الأربعين، أساس التقديس، ويذكر عنه أنه ندم قبل وفاته على اشتغاله بعلم الكلام، ورجع إلى طريقة السلف، توفي سنة 606هجرية. انظر: شذرات الذهب 5/21، معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة 11/79. 5 - المطالب العالية للرازي 3/262، وانظر: شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص 315 - 316. 6 - هو علي بن محمد بن علي، المعروف بالشريف الجرجاني، فيلسوف من أئمة المتكلمين، ومن كبار العلماء بالعربية، من مؤلفاته: التعريفات، شرح مواقف الآيجي، توفي سنة 816 هجرية، انظر: الأعلام 5/7. 7 - التعريفات للجرجاني ص 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وفي شرح المقاصد للتفتازاني1: "حقيقة التوحيد اعتقاد عدم الشريك في الألوهية، وخواصها، ولا نزاع لأهل الإسلام في أن تدبير العالم، وخلق الأجسام، واستحقاق العبادة، وقدم ما يقوم بنفسه كلها من الخواص"2. والواحد والأحد عند المتكلمين صفة سلبية يريدون بها ثلاثة معان: 1 - أن الله واحد في ذاته لا قسيم له. 2 - واحد في صفاته لا شبيه له. 3 - واحد في أفعاله لا شريك له. يقول الرازي في المطالب العالية:"اعلم أنه - تعالى - واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله، أما أنه واحد في ذاته، فلأن ذاته منزهة عن جهات التركيبات، لا من التركيبات المقدارية الحسية كما في الجسم، ولا من التركيبات العقلية كما في النوع المركب من الجنس والفصل، وأما أنه واحد في صفاته فهو أنه ليس في الوجود موجود آخر يساويه في الوجود بالذات، وفي العلم بكل المعلومات، وفي القدرة على كل الممكنات، وفي الغنى عن كل ما سواه. وأما أنه واحد في أفعاله فهو أنه ليس في الوجود موجود يكون مبدئاً لجميع الممكنات إما بواسطة أو بغير واسطة إلا هو"3. ويلاحظ من خلال التعريفات السابقة أن توحيد المتكلمين يدور على العلم والإقرار، وأن الوحدانية عندهم صفة سلبية، فهي تنفي عن الله ولكن لا تثبت شيئاً من   1 - هو مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، سعد الدين، انتهت إليه معرفة علوم البلاغة والمعقول، وألف في أصول الدين على المذهب الأشعري، توفي سنة 791 هجرية، انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 4/350، بغية الوعاة 2/285. 2 - شرح المقاصد للتفتازاني 4/39، وانظر: الإنصاف للباقلاني ص 23، موسوعة مصطلحات دستور العلماء لأحمد نكري ص 33. 3 - المطالب العالية 3/257 _ 258، وانظر: التفسير الكبير للرازي 4/172، المباحث المشرقية للرازي1/174، شرح أسماء الله الحسنى للزجاج ص 57 - 58، التوحيد لأبي منصور الماتريدي ص20 - 23،119، الإنصاف للباقلاني ص 33 - 34، المغني للقاضي عبد الجبار 4/241 - 242، المختصر في أصول الدين للقاضي عبد الجبار ضمن رسائل العدل والتوحيد1/198، الاعتقاد للبيهقي ص 38 - 39، الأسماء والصفات للبيهقي ص 29 - 30، لمع الأدلة لأبي المعالي الجويني ص 98، الإرشاد لأبي المعالي الجويني ص 52 - 53، قواعد العقائد للغزالي ص172، المضنون به على غير أهله للغزالي ص 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الصفات، والمثبتة منهم يثبتون بعض الصفات لا كلها، فهو واحد لا قسيم له ولا شبيه له ولا شريك له - كما يقولون -، ولا يذكرون التوحيد العملي وهو توحيد الألوهية، فهم وإن ذكروا الألوهية أو الإله في تعريفاتهم، فإنما يريدون به القادر على الاختراع1. ويعرف الرازي لفظ الجلالة - الله - فيقول: "الله معناه أنه الذي يستحق العبادة، واستحقاق العبادة لا يكون إلا لمن يكون مستقلاً بالإيجاد والإبداع، وذلك لا يحصل إلا لمن كان موصوفاً بالقدرة التامة والحكمة التامة"2. وهم لا يريدون باستحقاق العبادة أن يكون معنى الله أو الإله هو المعبود، بل هذا المعنى معترض عليه عندهم ومردود. قال الرازي بعد أن ذكر جملة من الإشكالات التي اعترضوا بها على من جعل لفظ الإله مشتق من التأله وهو التعبد: "هذه الإشكالات إنما تلزم لقولنا الإله هو المعبود، أما إذا قلنا الإله هو الموصوف بصفات لأجلها يستحق أن يكون معبوداً للخلق، زالت الإشكالات..إذا عرفت هذا فنقول: إنه –تعالى - إنما استحق أن يكون معبوداً للخلق لأنه خالقهم ومالكهم، وللمالك أن يأمر وينهى"3. أما وحدانية الله التي يستدلون لها، ويثبتونها في مؤلفاتهم فهي الوحدانية في الفعل، والتي تعني أنه لا شريك له في أفعاله –سبحانه -، وأشهر أدلتهم في ذلك دليل التمانع4.   1 - انظر: أصول الدين للبغدادي ص123، شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص 124 - 125، الملل والنحل للشهرستاني 1/100. 2 - المطالب العالية 3/260، وانظر: شرح أسماء الله الحسنى ص314. 3 - شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص 125. 4 - انظر: الإنصاف للباقلاني ص 33 - 34، التمهيد للباقلاني ص 46، شرح الأصول الخمسة ص 285، محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ص 193، المطالب العالية 2/135، الصحايف الإلهية للسمرقندي ص 311 - 313، شرح المقاصد للتفتازاني 4/34 - 36، المواقف في علم الكلام للآيجي ص 279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وقد رد أئمة أهل السنة على المتكلمين، وبينوا ما في قولهم في التوحيد من باطل واشتباه وتلبيس، وما فيه من مخالفة للغة التي يزعمون أنهم يوافقونها، وما فيه من مخالفة للعقل والشرع. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "إن ما فسر به هؤلاء اسم الواحد من هذه التفاسير التي لا أصل لها في الكتاب، والسنة، وكلام السلف والأئمة، باطل بلا ريب شرعاً وعقلاً ولغة. أما في اللغة فإن أهل اللغة مطبقون على أن معنى الواحد في اللغة ليس هو الذي لا يتميز جانب منه عن جانب، ولا يرى منه شيء دون شيء، إذ القرآن ونحوه من الكلام العربي متطابق على ما هو معلوم بالاضطرار في لغة العرب وسائر اللغات، أنهم يصفون كثيراً من المخلوقات بأنه واحد ويكون ذلك جسماً..وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحداً، امتنع أن يكون في اللغة معنى الواحد: الذي لا ينقسم إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم وأنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء..بل لا يوجد في اللغة اسم واحد إلا على ذي صفة ومقدار"1. وقد سبق أن بينت معنى الواحد في اللغة وأن مداره على الانفراد وانقطاع النظير، وأنه لم يأت في اللغة ما يدل على أن الواحد هو الذي لا ينقسم ولا يتجزأ، أما ما دخل بعض كتب اللغة من هذه المعاني الباطلة فما ذلك إلا لتأثر أصحابها بهذه المذاهب الكلامية. "والأحد بمعنى الواحد"2، وقد ورد إطلاقه على ما هو جسم منقسم قال - تعالى -: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة - 6] وقال - تعالى -: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف - 49] ،وقال - تعالى -: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف - 36] . وعلى هذا يمتنع أن يكون معنى الواحد: الذي لا ينقسم. وأما مخالفة قولهم للعقل، فإن الواحد الذي وصفوه أمر لا يعقل، ولا له وجود في الخارج؛ وإنما هو أمر مقدر في الذهن ليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات، ولا   1 - بيان تلبيس الجهمية1/482 - 483، وانظر: درء تعارض العقل والنقل1/113 - 114، والتسعينية ضمن الفتاوىالكبرى5/203. 2 - لسان العرب 3/70، وانظر: القاموس المحيط ص338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 قدر، ولا يتميز منه شيء عن شيء؛ بحيث يمكن أن لا يرى ولا يدرك ولا يحاط به، وإن سماه المسمي جسما1. وأما مخالفة قولهم للشرع فإن معنى الواحد الذي يقولون، ليس هو المعنى الشرعي في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويدل على ذلك أن تفسير الصحابة لآيات التوحيدلم يرد فيها هذا المعنى الذي يشيرون إليه، ويشرحونه في كتبهم. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم الواحد في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات وسلب إدراكه بالحواس، ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدع نفيها الجهمية وأتباعهم، ولا يوجد نفيها في كتاب ولا سنة، ولاعن صاحب ولا أئمة المسلمين"2. كما خالفوا لغة العرب في تفسيرهم للفظ الإله، حيث نجد في لغة العرب أله إلاهة وألوهية: عبد عبادة، ومنه لفظ الجلالة، وإلاه فعال بمعنى مفعول لأنه مألوه أي: معبود، والتأله التنسك والتعبد، والإلاهة والألُوهة والألوهيّة: العبادة. وقيل: مأخوذ من ألِهَ يأله إلى كذا أي لجأ إليه، لأنه - سبحانه - المفزع الذي يلجأ إليه في كل أمر3. وهذا هو المعنى الشرعي الذي أراده الله - تعالى - في كتابه4، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وليس المراد بالإله هو القادر على الاختراع، كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الاختراع، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره، فقد شهد أن لا إله إلا هو، فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون..بل الإله الحق هو الذي يستحق أن   1 - انظر: بيان تلبيس الجهمية1/483. 2 - المرجع السابق 1/484، وانظر: درء تعارض العقل والنقل1/224 - 225. 3 - انظر: العين 4/90 - 91، معجم مقاييس اللغة 1/127، لسان العرب13/468 - 469، القاموس المحيط ص1603، بصائر ذوي التمييز 2/13 - 14. 4 - انظر: تفسير الطبري 1/54 - 55، تفسير ابن كثير1/21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 يعبد فهو إله بمعنى مألوه، لا إله بمعنى آلِه، والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إلها آخر"1. وقد ستروا تحت قولهم في التوحيد باطلاً كثيراً، أما قولهم: إن الله واحد في ذاته لا قسيم له؛ فليس مرادهم بأنه لا ينقسم ولا يتبعض أنه لا ينفصل بعضه عن بعض، وأنه لا يكون إلهين اثنين ونحو هذا، فإن هذا حق لا ريب فيه، وإنما مرادهم بذلك أنه لا يشهد، ولا يرى منه شيء دون شيء، ولا يدرك منه شيء دون شيء، ولا يعلم منه شيء دون شيء، ولا يمكن أن يشار منه إلى شيء دون شيء، بحيث أنه ليس له في نفسه حقيقة عندهم قائمة بنفسها، يمكنه هو أن يشير منها إلى شيء دون شيء، فهذا ونحوه هو المراد عندهم بكونه لا ينقسم، ويسمون ذلك نفي التجسيم2. وأما قولهم واحد في صفاته لا شبيه له: فهذه الكلمة –كما يقول شيخ الإسلام - أقرب إلى الإسلام، لكن أجملوها فجعلوا نفي الصفات أو بعضها داخلا في نفي التشبيه3. وأما قولهم واحد في أفعاله لا شريك له: فهذا معنى صحيح، وهو حق، وهو أجود ما اعتصموا به من الإسلام في أصولهم، حيث اعترفوا فيه بأن الله خالق كل شيء، ومربيه ومدبره –مع خلاف المعتزلة4 في خلق أفعال العباد - 5، ولكنهم جعلوا هذا النوع هو الغاية وأطالوا في تقريره وشرحه، مع أن المشركين كانوا يقرون به وهم مع ذلك مشركون، ومن   1 - التدمرية ص185 - 186، وانظر: درء التعارض 1/226، 9/377، اقتضاء الصراط المستقيم 2/855. 2 - انظر: التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى 5/203 - 204، بيان تلبيس الجهمية 1/474 - 475، التدمرية ص184 - 185، مجموع الفتاوى 17/449 - 450. 3 - انظر: التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى 5/204، التدمرية ص182 - 183، الصواعق المرسلة 3/1111. 4 - المعتزلة ويلقبون بالقدرية، ويسمون أنفسهم أصحاب العدل والتوحيد، ولعل الراجح في تسميتهم بالمعتزلة لاعتزال رئيسهم واصل ابن عطاء حلقة الحسن البصري، وهم يقولون بالأصول الخمسة وهي: "التوحيد" وستروا تحته نفي الصفات والقول بخلق القرآن، و"العدل" وستروا تحته القول بخلق الإنسان لأفعاله، و"المنزلة بين المنزلتين" وستروا تحتها تكفير مرتكب الكبيرة، و"إنفاذ الوعد والوعيد" وستروا تحته تخليد مرتكب الكبيرة في النار، و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وستروا تحته وجوب الخروج على الإمام الجائر. انظر عن المعتزلة: الملل والنحل للشهرستاني1/43 - 44، المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق. 5 - انظر: التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى 5/207، التدمرية ص180 - 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 هنا يتضح أن الحق الذي لديهم في التوحيد ليس هو الغاية التي جاء بها الرسول، بل التوحيد الذي أمَرَ به أمْرٌ يتضمن الحق الذي في كلامهم، وزيادة أخرى، فكلامهم فيه لبس الحق بالباطل وكتم للحق1. وبذلك نتبين حقيقة التوحيد عند المتكلمين، والمعاني الباطلة التي اشتمل عليها تفسيرهم للتوحيد.   1 - انظر: درء التعارض 1/226، مدارج السالكين1/74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 5 - تعريف التوحيد عند الصوفية 1: التوحيد عند الصوفية هو مشاهدة الوحدانية بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وأعلى من ذلك أن لا يرى في الوجود إلا واحداً فلا يرى نفسه2. وقالوا أيضا في تعريف التوحيد: "المراد بالتوحيد ظهور صفة الوحدانية للعبد حتى ينمحق كله فيها؛ ولا يبقى له أثر إلا مجرد التصديق القلبي بأن ذلك حق"3. وفي معجم ألفاظ الصوفية: "التوحيد عند الصوفية هو شهادة المؤمن يقيناً، أن الله - تعالى - هو الأول في كل شيء، وأقرب من كل شيء، وهو المعطي المانع لا معطي ولا مانع ولا ضار ولا نافع إلا هو"4. وقالوا أيضا في تعريف التوحيد أنه: "الفناء عن رسوم الصفات في الحضرة الواحدية، وشهود الحق بأسمائه وصفاته لا غير. وفي الحقائق: الفناء في الذات مع بقاء رسم الخفي المستور بنور الحق المشعر بالإثنينية المثبت للخلة"5. ومن خلال التعريفات السابقة يتبين لنا أن غاية توحيد الصوفية هو شهود توحيد الربوبية والفناء فيه، ومن المعلوم أن الإقرار بتوحيد الربوبية لم يخرج مشركي العرب عن شركهم، قال - تعالى -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَات وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان - 25] وذلك لأنهم لم يقوموا بلازمه وهو توحيد الألوهية وإفراد الله بالعبادة. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "فكذلك طوائف من أهل التصوف المنتسبين إلى   1 - الصوفية: نسبتهم أقرب ما تكون إلى الصوف وهو اللباس الذي كانوا يرتدونه لتزهدهم، وكان أول طريقهم هو الزهد في الحياة الدنيا، وانتهى بهم المطاف إلى طريق الفسق والوجد والفناء والاتحاد والحلول وغير ذلك، وهي بدعة دخيلة على الإسلام، وملاعب للوثنية يمارس فيها البدع والخرافات. وقد تشعبت إلى طرق عدة لكل طريقة منها شيخ له منهج مختلف في الأدعية والبدع يتبعه عليها مجموعة من المريدين. انظر عنهم: رسالة الصوفية الفقراء لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى 11/5 - 24، 25 - 26، التصوف لإحسان إلهي ظهير. 2 - انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 4/240. 3 - رسالة التوحيد للنابلسي النقشبندي ص 43. 4 - معجم ألفاظ الصوفية للدكتور الشرقاوي ص92. 5 - اصطلاحات الصوفية للقاشاني ص220، وانظر: معجم كلمات الصوفية لأحمد النقشبندي ص197، المعجم الصوفي للحفني ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 المعرفة والتحقيق والتوحيد غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد، وهو أن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، لاسيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية. فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها، ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد، ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلماً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله أو من سادات الأولياء"1. فالصوفية إذاً غايتهم في التوحيد هو إثبات الربوبية، والاستغراق في ذلك، وليس هذا ما بعث لأجله الرسل، وخلق لأجله الخلق. وبمقارنة معنى التوحيد عند أهل السنة المعتمد على كلام الله، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بتعريف الطوائف الأخرى من فلاسفة ومتكلمين واتحادية وصوفية، يتبين لنا بعد هذه الطوائف عن ما جاء في القرآن والسنة في معنى التوحيد، بل مخالفتهم له.   1 - التدمرية ص186 - 187، وانظر في بيان فساد توحيدهم: مجموع الفتاوى 10/219، 13/198 - 199، مدارج السالكين 1/152 - 153، 158 - 160، 169، 244، 327، 519، 3/397، طريق الهجرتين لابن القيم ص55،98، عدة الصابرين لابن القيم ص35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 2 - تعريف الألفاظ وبيان أنواعها. أولاً: تعريف اللفظ في اللغة: اللفظ في اللغة يأتي بمعنى الكلام، والرمي، قال الخليل: "اللّفْظُ: الكلام، ما يلُفَظُ بشيء إلا حفظ عليه، واللفظ أن ترمي بشيء كان في فيك، والفعل لَفَظ يلفِظ لفظاً، والأرض تلفظ الميت أي ترمي به، والبحر يلفظ الشيء يرمي به إلى الساحل، والدنيا لافظة ترمي بمن فيها إلى الآخرة"1. ولَفَظَ بالشيء يَلفِظ لفظاً: تكلم. وفي التنزيل العزيز: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق –18] ، ولفظت بالكلام وتلفظت به أي تكلمت به2. ولَفَظَ فلان: مات3. واللفظ: واحد الألفاظ، وهو في الأصل مصدر4. وجاء وقد لَفَظَ لجامه أي جاء وهو مجهود من العطش والإعياء5. فاللفظ في اللغة يأتي بمعنى رمي الشيء، كما يأتي بمعنى الكلام، وهو الذي يخص هذا المبحث.   1 - العين 8/161، وانظر: معجم مقاييس اللغة 5/259، أساس البلاغة للزمخشري ص411، لسان العرب 7/461، القاموس المحيط ص902،تاج العروس 20/274 - 275. 2 - انظر: لسان العرب 7/461 - 462، القاموس المحيط ص 902، تاج العروس 20/274 - 275. 3 - انظر: لسان العرب 7/461 - 462، القاموس المحيط ص902، تاج العروس 20/274، أساس البلاغة ص411. 4 - انظر: لسان العرب 7/461، تاج العروس 20/276. 5 - انظر: لسان العرب 7/461، القاموس المحيط ص902، تاج العروس 20/275، أساس البلاغة ص411. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ثانياً: تعريف اللفظ في الاصطلاح: اللفظ المراد هنا هو الذي معناه في اللغة الكلام، وهو ينقسم من حيث الإفراد والتركيب إلى لفظ مفرد ولفظ مركب، وسأتحدث هنا عن اللفظ المفرد، أما اللفظ المركب فهو معتمد على اللفظ المفرد وسيأتي بيانه عند ذكر أنواع اللفظ1. وأما تعريف اللفظ المفرد عند أهل المنطق والأصول، فيعرف ابن سينا اللفظ فيقول: "اللفظ المفرد هو الذي يدل على معنى، ولا جزء من أجزائه يدل بالذات على جزء من أجزاء ذلك المعنى"2. ويقول الغزالي عن اللفظ المفرد: "هو الذي لا يراد بالجزء منه دلالة على شيء أصلا، حين هو جزؤه"3. ويعرفه الآمدي4 بقوله: "ما دل بالوضع على معنى، ولا جزء له يدل على شيءأصلا"5. ويعرفه التفتازاني فيقول: "اللفظ ما يتألف من المقاطع"6. وقال الطوفي7 في تعريف اللفظ: "اللفظ صوت معتمد على بعض مخارج الحروف"8.   1 - انظر ص48 من البحث. 2 - النجاة لابن سينا 1/11. 3 - معيار العلم ص49. 4 - أبو الحسن علي بن أبي علي محمد بن سالم الثعلبي، وقيل التغلبي ثم الحموي ثم الدمشقي المعروف بالآمدي، له شهرة في الأصول والمنطق والجدل، من مؤلفاته الإحكام في أصول الأحكام، أبكار الأفكار، توفي سنة 631هجرية. انظر: وفيات الأعيان 3/293، البداية والنهاية لابن كثير 13/151، شذرات الذهب 5/144. 5 - الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/35. 6 - شرح المقاصد للتفتازاني 2/284. والمقطع عنده حرف مع حركة أو حرف متحرك مع ساكن بعده. 7 - هو نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي، فقيه أصولي، ولد سنة 657هجرية، من مؤلفاته شرح مختصر الروضة، الذريعة إلى معرفة أسرار الشريعة، الانتصارات الإسلامية في دفع شبه النصرانية، توفي سنة سبعمائة وعشر. انظر: الدرر الكامنة 2/366 - 370، كشف الظنون 1/919، 827، 174. 8 - شرح مختصر الروضة 1/540، وانظر: الكليات لأبي البقاء العكبري ص 795. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ويلاحظ تقارب التعريفات الثلاثة الأولى، ويختلف عنها تعريف التفتازاني والطوفي حيث يدخل في تعريفهما ما دل على معنى، وما لا يدل على معنى من الألفاظ. وتابعهما على ذلك جماعة من المتأخرين1، وهؤلاء قد بنوا ذلك على أن في اللغة ألفاظاً مهملة وألفاظاً مستعملة، والذي يترجح أن اللفظ هو ما دل على معنى، أما ما لا يدل على معنى فهو ليس من اللغة المخاطب بها، بل ذكره العرب في الأبنية المهملة2. أما النحاة وبعض أهل اللغة فيستعملون "الكلمة" بدل اللفظ، ويعبرون بهما عن بعض، وكلامهم يدور على الكلم والكلام، وانقسامه إلى حرف واسم وفعل، وهذا أحد التقسيمات التي ذكرها أهل الأصول والمنطق عند تقسيمهم للألفاظ. ويفهم من تعريفهم للاسم والحرف والفعل؛ وهي أقسام الكلمة، أن الكلم عند النحاة هو ما دل على معنى وضع له، إما أن يستقل بالدلالة بنفسه أو بغيره3. فمن تعريفهم للكلمة قولهم: "الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد"4. وقال بعض أهل اللغة: "الكلام حروف دالة على معنى"5. وقد رد ابن تيمية على النحاة ومن وافقهم في إطلاقهم الكلمة على المفرد، وبين بالأدلة الصحيحة أنها لم تأت في لغة العرب إلاّ مطلقة على جملة؛ اسميةً كانت أم فعلية6.   1 - انظر: التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص 623، الكليات لأبي البقاء العكبري ص 795، موسوعة مصطلحات دستور العلماء لأحمد نكري ص 771، كشاف اصطلاحات العلوم والفنون للتهانوي 2/1296 - 1297. 2 - انظر: الصاحبي لابن فارس ص 82. 3 - انظر: المرجع السابق ص81 - 83، الأشباه والنظائر للسيوطي2/6 - 7 بتصرف. 4 - شرح مختصر الروضة 1/540. 5 - الصاحبي ص 81. 6 - انظر: مجموعة الرسائل لابن تيمية 3/416 - 417. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ثالثاً: أنواع الألفاظ: اهتم أهل اللغة وأهل الأصول والمنطق بدراسة اللفظ وبيان أنواعه ودلالاته تفصيلاً؛ وذلك لأن اللفظ تتركب منه لغة التخاطب، ولا يتم فهم المراد إلاّ بعد معرفة اللفظ ونوعه وما قد يحتمله من معان، وأصل علم اللغة والمنطق والأصول قائم على الألفاظ؛ لذا كانت عنايتهم بها كبيرة، كما اهتم أهل سائر العلوم بمعرفة أنواع الألفاظ، ودلالاتها، لما يترتب على الجهل بذلك من حصول الاشتباه والغموض، وعدم معرفة مراد المتكلم بكلامه. وقد قسم أهل اللغة والأصول والمنطق الألفاظ عدة تقسيمات، ومنها: 1 - تقسيم الألفاظ من حيث دلالتها على المعاني: الألفاظ تدل على المعاني من ثلاثة أوجه متباينة: الوجه الأول: الدلالة من حيث المطابقة، كالاسم الموضوع بإزاء الشيء؛ وذلك كدلالة لفظ "الحائط" على "الحائط". الوجه الثاني: أن تكون بطريق التضمن، وذلك كدلالة لفظ "البيت" على "الحائط". الوجه الثالث: الدلالة بطريق الالتزام، والاستتباع، كدلالة لفظ "السقف"، على "الحائط"، فإنه مستتبع له، استتباع الرفيق اللازم الخارج عن ذاته1. والمعتبر في التعريفات دلالة "المطابقة" و"التضمن"2. 2 - تقسيم الألفاظ بالنظر إلى عموم المعنى وخصوصه: ينقسم اللفظ بالنظر إلى عموم المعنى وخصوصه إلى جزئي وكلي. الجزئي: هو ما يمنع نفس تصور معناه، عن وقوع الشركة في مفهومه كقولك: "زيد" و"هذه الشجرة" و"هذا الفرس"3.   1 - انظر: معيار العلم ص43 - 44، المبين ص69. 2 - انظر: معيار العلم ص44. 3 - انظر: معيار العلم ص44، النجاة 1/12، الإحكام للآمدي 1/40، المبين للآمدي ص72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الكلي: هو الذي لا يمنع مفهومه أن يشترك في معناه كثيرون، كقولك "الإنسان" و"الفرس" 1. 3 - تقسيم الألفاظ بالنظر إلى نسبتها إلى المعاني: أقسام الألفاظ بالنظر إلى نسبتها إلى المعاني هي: متباينة، ومشتركة، ومترادفة، ومشككة، ومتواطئة، ومتشابهة2. - الألفاظ المتباينة: ألفاظ مختلفة تدل على معان مختلفة بالحد والحقيقة، كالفرس والذهب3. - اللفظ المشترك: هو اللفظ الواحد الذي يطلق على موجودات مختلفة بالحد والحقيقة؛ إطلاقاً متساوياً، كالعين: تطلق على العين الباصرة وينبوع الماء وقرص الشمس4. - الألفاظ المترادفة: هي الألفاظ المختلفة في الصيغة، المتواردة على مسمى واحد، كالليث والأسد5. - اللفظ المشكك: هو الكلي الذي لم يتساو صدقه على أفراده، بل كان حصوله في بعضها أولى، أو أقدم، أو أشد من البعض الآخر، كالوجود فإنه في الواجب أولى وأقدم مما في الممكن6. - اللفظ المتواطىء: هو الكلي الذي يكون حصول معناه وصدقه على أفراده الذهنية والخارجية على السوية، كالإنسان على زيد وعمرو7.   1 - انظر: النجاة 1/12، معيار العلم ص45، الإحكام 1/39، المبين ص72، الألفاظ المستعملة في المنطق للفارابي ص58 - 59. 2 - انظر: معيار العلم ص 55، محك النظر للغزالي ص 18 - 19. 3 - انظر: معيار العلم ص53، محك النظر ص 18، الإحكام 1/41، روضة الناظر لابن قدامة 1/53، المبين ص72، التعريفات للجرجاني ص252، مجموع الفتاوى لابن تيمية 20/427. 4 - انظر: معيار العلم ص53، محك النظر ص 19، الإحكام 1/41، روضة الناظر 1/53، المبين ص71، التعريفات ص269، مجموع الفتاوى 20/427. 5 - انظر: محك النظر ص18، معيار العلم ص52 - 53، الإحكام 1/41، روضة الناظر 1/53، المبين ص71، التعريفات ص252، مجموع الفتاوى20/427. 6 - انظر: التعريفات ص270، معيار العلم ص53، الإحكام 1/39، المبين ص71، المعجم الفلسفي لجميل صليبا 2/378. 7 - انظر: التعريفات ص252، معيار العلم ص52، محك النظر ص18، المبين ص70 - 71، الإحكام 1/39، مجموع الفتاوى 20/427، روضة الناظر 1/53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 - الألفاظ المتشابهة: اللفظ يطلق على شيئين معناهما ليس واحداً، ولكن بينهما مشابهة في المعنى؛ كالإنسان على صورة متشكلة من الطين بصورة إنسان وعلى الإنسان الحقيقي1. 4 - تقسيم اللفظ من حيث إفراده وتركيبه: ينقسم اللفظ إلى مفرد ومركب، والمركب ينقسم إلى مركب تام ومركب ناقص. - اللفظ المفرد: هو الذي لا يراد بالجزء منه دلالة على شيء أصلاً، حين هو جزؤه، كقولك "عيسى" فإن جزأي "عيسى" وهما "عي" و"سى" لا يراد بشيء منهما الدلالة على شيء أصلاً حين هو جزؤه2. - المركب التام: هو الذي كل لفظة منه تدل على معنى، والمجموع يدل دلالة تامة بحيث يصح السكوت عليه، كقولك: زيد يمشي3. - المركب الناقص: هو الذي كل لفظة منه تدل على معنى، والمجموع لا يدل دلالة تامة، فلا يصح السكوت عليه، كقولك: في الدار4. 5 - تقسيم اللفظ بالنظر إلى معانيه: ينقسم اللفظ الذي له معان متعددة إلى ثلاثة أقسام: لفظ مستعار، ولفظ منقول، ولفظ مشترك5. - اللفظ المستعار: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له للمشابهة6. وقيل: هو أن يكون الاسم دالاً على ذات الشيء بالوضع، ولكن يلقب به في بعض الأحوال   1 - انظر: معيار العلم ص 53. 2 - انظر: المرجع السابق ص49، النجاة 1/11، الإحكام 1/35، التوقيف ص 668، المعجم الفلسفي لجميل صليبا 2/288. 3 - انظر: معيار العلم ص49، التعريفات ص264، النجاة 1/11، التوقيف ص650. 4 - انظر: معيار العلم ص50، التعريفات ص264. 5 - انظر: معيار العلم ص56، وسبق تعريف اللفظ المشترك في الصفحة السابقة. 6 - انظر: الكليات ص 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 – لا على الدوام - شيء آخر، لمناسبته للأول على وجه من وجوه المناسبات من غير أن يجعل ذاتياً للثاني وثابتاً عليه1، مثاله لفظ الأم فإنه موضوع للوالدة ويستعار للأرض يقال: إنها أم البشر2. - اللفظ المنقول: هو أن ينقل الاسم عن موضوعه، إلى معنى آخر، ويجعل اسماً له، ثابتاً دائماً، ويستعمل أيضاً في الأول فيصير مشتركاً بينهما كاسم الصلاة والحج3. 6 - تقسيم اللفظ المفرد في نفسه: اللفظ إما اسم أو فعل أو حرف. - الاسم: لفظ مفرد يدل على معنى من غير أن يدل على زمان وجود ذلك المعنى. ثم منه ماهو محصل كـ "زيد"، ومنه ماهو غير محصل، كما إذا اقترن به حرف سلب، فقيل "لا إنسان"4. - الفعل: لفظ مفرد يدل على معنى وعلى الزمان الذي ذلك المعنى موجود فيه لموضوع ما، غير معين كقولنا "قام" 5. - وأما الحرف: وهو الأداة، فهو ما لا يدل على معنى إلا باقترانه بغيره، مثل "من" و"على"6. 7 - تقسيم اللفظ من حيث مصدره: وتقسيم اللفظ هنا خاص بألفاظ العقيدة حيث يقسم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ألفاظ العقيدة إلى نوعين:   1 - انظر: معيار العلم ص56، التعريفات ص42. 2 - انظر: معيار العلم ص56. 3 - انظر: المرجع السابق ص56، الصاحبي ص77 - 81، التعريفات ص289، المزهر 1/294 - 300، الكليات ص866. 4 - انظر: النجاة 1/18 - 19، معيار العلم ص51 - 52. 5 - انظر: النجاة 1/18 - 19، معيار العلم ص51 - 52. 6 - انظر: النجاة 1/19، معيار العلم ص51 - 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 - نوع جاء به الكتاب والسنة فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك، فيثبت ما أثبته الله ورسوله، وينفي ما نفاه الله ورسوله1. - النوع الثاني هي الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة، ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها، فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده، فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به، وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره. ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها، أو بين مراده بها؛ بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي2. هذا هو مجمل التقسيمات للألفاظ التي ذكرها العلماء في مؤلفاتهم، والإلمام بها بين الأهمية لفهم مراد المتحدث.   1 - انظر: مجموعة الرسائل 3/424، الرسالة التدمرية ص 65، درء التعارض 1/241. 2 - انظر: مجموعة الرسائل 3/424، الرسالة التدمرية ص65 - 66، درء التعارض 1/241 - 242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 3 - تعريف المصطلحات وبيان أنواعها. أولاً: تعريف المصطلح: أورد الزبيدي1لفظ "اصطلاح" في مادة صلح من كتابه تاج العروس وبيّن أن معناه: "اتفاق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص"2. ومن الاشتقاق: صالحه مصالحةً وصِلاحاً واصطَلَحا واصّالَحا3. فالاصطلاح من اصطلح وترجع إلى معنى الاتفاق والمصالحة على أمر معين. وقد تحدثت كتب التعريفات عن المصطلح والاصطلاح ومما جاء في بيان معناه: يقول الجرجاني: "الاصطلاح: إخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما"4. وقال أيضاً: "الاصطلاح عبارة عن اتفاق قام على تسمية الشيء باسم ما ينقل عن موضعه الأول"5.وقيل: "الاصطلاح إخراج الشيء عن معنى لغوي إلى معنى آخر لبيان المراد"6. وهذه التعريفات متقاربة. وقيل: "الاصطلاح اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى"7. وقيل: "الاصطلاح لفظ معين بين قوم معينين"8. وقيل: "الاصطلاح اتفاق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص"9.   1 - هو محمد بن محمد بن محمد، أبو الفيض، الحسيني، الزبيدي، الملقب بمرتضى، لغوي، نحوي، محدث، أصولي، مؤرخ، أصله من واسط في العراق، ومولده في الهند، ومنشؤه في زبيد باليمن، من مؤلفاته تاج العروس في شرح القاموس، إتحاف السادة المتقين، توفي سنة 1205هجرية. انظر: هدية العارفين 2/347، معجم المؤلفين 11/282، الأعلام 7/297. 2 - تاج العروس 6/551. 3 - انظر: لسان العرب 2/517، القاموس ص293، تاج العروس 6/549. 4 - التعريفات ص 50، وانظر: كشاف اصطلاحات الفنون ص 822. 5 - التعريفات ص 50. 6 - المرجع السابق ص 50، وانظر: الكليات ص 129. 7 - التعريفات ص 50. 8 - المرجع السابق ص50. 9 - تاج العروس 6/551. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ويلاحظ أن التعريفات الثلاثة الأولى تجعل المصطلح ما أخرج من معناه اللغوي إلى معنى آخر. أما التعريفات الأخيرة فلا تذكر ذلك بل تجعل المصطلح اتفاق طائفة على وضع لفظ معين لمعنى، وهذا أعم من التعريفات الأولى، وهو أولى؛ لأن المصطلح ليس بالضرورة أن يكون مخرجاً من معنى لآخر، بل ربما يكون موضوعاً لهذا المعنى فقط، كما أن من خصائص المصطلح هو اتفاق جماعة من المختصين عليه، وهو ما أكدته التعريفات السابقة، وعلى هذا جاءت بعض تعريفات المعاصرين للمصطلح، ومنها قول أحد الباحثين المعاصرين: "المصطلح كلمة - مفردة أو مركبة –تدل على معان كثيرة، متجانسة ومتكاملة فيما بينها، إذا أطلقت دلت تلقائياً على مكوناتها المعرفية، أو الفنية، بحسب حقول العلم والأدب والفكر التي تنتسب إليها. ومن خصائص هذا الاطلاق: الاتفاق بين كل أو جل المختصين في حقل المصطلح المعني، فالمصطلح ذو طبيعة جماعية"1. ومما جاء في المعاجم المتأخرة أن "الاصطلاح لفظ، أو شيء، اتفقت طائفة مخصوصة على وضعه"2. ويعرف الدكتور بكر أبو زيد الاصطلاح بأنه: "اللفظ المختار للدلالة على شيء معلوم ليتميز به عما سواه"3. وينقص هذا التعريف الإشارة إلى اتفاق جماعة على اختيار ذلك اللفظ للمعنى. هذا بالنسبة للاصطلاحات اللفظية، أما المصطلح عموما فيمكن أن يقال في تعريفه: أنه لفظ أو رمز اختاره طائفة مخصوصة للدلالة على شيء معلوم ليتميز به عما سواه. وينبغي الإشارة إلى أن هذه الألفاظ الاصطلاحية منها" ما لا تثبت دلالته على وتيرة واحدة، بل يعتريها الاستبدال والسعة والضيق، بحيث تتسع مدلولاتها أو تضيق وتختص بمعنى ما، لكن هذا التغير في نطاق مقاييس اللغة والشرع، وهذا التطور أيضا في الألفاظ المتلقاة   1 - تطور مصطلح التخييل في نظرية النقد الأدبي عند السجلماسي للدكتور علال الغازي ص285، بحث ضمن مجلة كلية الآداب، فاس. 2 - المعجم العربي الأساسي ص 744. 3 - فقه النوازل للدكتور بكر أبو زيد 1/123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 بنص من الشارع غير وارد، ولهذا حصل التفريق في ألقابها فيقال فيما ورد به نص "حقيقته الشرعية" ولا يقال "حقيقته الاصطلاحية" والله أعلم1. ثانياً: الفرق بين المصطلح واللفظ: بعد تعريف المصطلح واللفظ يتضح الفرق بينهما، فإن بينهما عموم وخصوص، فكل مصطلح لفظي هو لفظ، وليس كل لفظ هو مصطلح، فاللفظ أعم والمصطلح أخص.   1 - فقه النوازل 1/124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ثالثاً: بيان أنواع المصطلحات: تتنوع المصطلحات بتنوع الفن الذي تندرج فيه تلك المصطلحات، فنجد أن هناك مصطلحات فقهية، ومصطلحات حديثية، ومصطلحات في التاريخ، ومصطلحات في الأدب، ومصطلحات في علم البلاغة، ومصطلحات فلسفية، ومصطلحات في الطب، ومصطلحات في الهندسة، ومصطلحات حربية، ومصطلحات في الكيمياء، والفيزياء، والقانون، وعلم الحيوان، وعلم النبات، وعلم الرياضيات، وهناك مصطلحات سياسية، ومصطلحات اقتصادية، وجغرافية، وجيولوجية، وغيرها من العلوم فلكل فن مصطلحات تعارف عليها أصحاب ذلك الفن. كما تتنوع المصطلحات بتنوع المذهب العقدي الذي تنتمي إليه تلك المصطلحات فهناك مصطلحات كلامية، ومصطلحات صوفية، ومصطلحات للشيعة الإمامية، ومصطلحات فلسفية. وهناك من قسم المصطلحات إلى: "أولاً: مصطلح الرمز بالحرف، كما هو لدى المحدثين في ألفاظ التصحيح والتضعيف، والعزو والتخريج، ومن قبلهم لدى علماء الجبر والكيمياء والهندسة ونحوها. ثانياً: مصطلح الأرقام لدى من ذكر في النوع قبله ولدى المؤرخين والأخباريين في حروف أبي جاد. ثالثاً: المواضعات اللفظية صناعة: مفردة كلفظ الصلاة والزكاة ونحوهما، أو مركبة مثل بسم الله الرحمن الرحيم، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم"1. ويضاف قسم رابع: وهو الرمز بالشكل والرسم كما هو لدى علماء الرياضيات. هذه أنواع المصطلحات بإيجاز، وأهمية الإلمام بها ظاهرة، لكي لا نحمل المصطلح على غير مراد واضعيه.   1 - فقه النوازل 1/142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 4 - الموسوعات العلمية: أهميتها وبيان أنواعها. أولاً: أهمية الموسوعات العلمية: تطلق الموسوعة، أو دائرة المعارف، أو المَعْلَمة، على المؤلف الشامل لجميع معلومات علم أو أكثر، معروضة من خلال عناوين متعارف عليها، بترتيب معين، لا يحتاج معه إلى خبرة وممارسة، مكتوبة بأسلوب مبسط1. وتتبين لنا أهمية الموسوعة العلمية من وجوه عدة منها: أولاً: أنها تحوي أطراف الفن الواحد المنثورة في مئات الكتب بين دفتي كتاب واحد، وإن تعددت أجزاؤه. ثانياً: تسهل الموسوعة على المختصين وغيرهم الرجوع لمعرفة ما يريدون من مصطلحات وألفاظ في أقل وقت. ثالثاً: الموسوعات تعتبر مفاتيح العلوم لأنها تحوي المصطلحات المهمة في كل فن. رابعاً: العمل الموسوعي مرآة فكر الأمة وهو "مرحلة لاحقة لنضج فكرها، واتساع معارفها، واكتمال لغتها"2.   1 - انظر: الموسوعة الفقهية إعداد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت، المقدمة 1/53. 2 - مقدمة الموسوعة العربية العالمية 1/15، بقلم د. راشد المبارك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ثانياً: أنواع الموسوعات: تنقسم الموسوعات العلمية إلى قسمين1: "1" موسوعات عامة تجمع المصطلحات المستخدمة في كافة العلوم أو في أكثر هذه العلوم دون تمييز. "2" موسوعات خاصة يفرد كل منها لمصطلحات علم واحد، أو مجموعة قليلة من علوم متقاربة. وتتنوع هذه الموسوعات بتنوع العلم الذي تفرد فيه. 1 - الموسوعات العامة: من أمثلة الموسوعات العامة في المصطلح العلمي ما يلي: 1 - مفاتيح العلوم: لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الكاتب الخوارزمي المتوفى عام 387هـ2، وقد جمع فيه مصطلحات الفقه وأصوله، والكلام، والنحو، والكتابة، والإدارة، والشعر، والعروض، والأخبار، والفلسفة، والمنطق، والطب، والعدد، والهندسة، والنجوم، والموسيقى، والحيل والكيمياء. 2 - التعريفات، لأبي الحسن علي بن محمد بن علي الحسيني الجرجاني الحنفي المتوفى عام 816هـ3، وهو كتاب شامل للمصطلحات الكلامية والفلسفية واللغوية والفقهية والأصولية، ومصطلحات علم الحديث ومصطلحات الصوفية مع التعريف ببعض الفرق والمذاهب، وهو مرتب على حروف الهجاء دون رد الكلمات إلى أصولها اللغوية. 3 - التوقيف على مهمات التعاريف، لعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بنزين العابدين، الحدادي، المناوي، القاهري، الشافعي، المتوفى عام 1031هـ4. وهو كتاب شامل لمصطلحات أصول الدين والتصوف والمنطق وعلوم اللغة وعلوم القرآن والحديث والطب وغيرها، وهو مرتب على حروف الهجاء دون رد الكلمات إلى أصولها اللغوية.   1 - انظر: مقدمة المبين للآمدي ص11، تقديم د. حسن محمود الشافعي. 2 - انظر: كشف الظنون 2/1756. 3 - سبق التعريف به ص34 من البحث. 4 - انظر: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر للمحبي 2/412 - 416. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ومثل هذه الكتب كتاب الكليات، لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي الحنفي، المتوفى عام 1094 هـ1، وكشاف اصطلاحات العلوم والفنون لمحمد بن علي بن القاضي محمد حامد بن محمد صابر الفاروقي الحنفي الهندي التهانوي المتوفى عام 1191هـ2، وجامع العلوم في اصطلاحات الفنون الملقب "دستور العلماء" للقاضي عبد النبي بن عبد الرسول بن أبي محمد الكجراتي الأحمد نكري الهندي المتوفى عام 1130هـ3. 2 - الموسوعات الخاصة: وهي التي تكون متخصصة في فن واحد ومن أمثلتها: - الحدود والرسوم لابن سينا. - المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني. - اصطلاحات الصوفية لكمال الدين عبد الرزاق القاشاني. - المبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي. - تعريفات ابن عرفة المالكي في الفقه وأصوله. - الموسوعة الفقهية التي اعتنت بها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت. - موسوعة المصطلحات الاقتصادية. - معجم العلوم الطبية تأليف محمد شرف4. ومن الموسوعات التي صدرت حديثا على سبيل المثال؛ موسوعة مصطلحات الفلسفة عند العرب للدكتور جيرار جهامي، وموسوعة مصطلحات علم الكلام الإسلامي، وموسوعة مصطلحات الإمام فخر الدين الرازي وكلاهما للدكتور سميح دغيم.   1 - انظر: معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة 3/31. 2 - انظر: الأعلام للزركلي 6/295. 3 - انظر: مقدمة موسوعة مصطلحات جامع العلوم، تقديم د. رفيق العجم. 4 - انظر للمزيد من الأمثلة من المعاجم المختلفة "دليل الباحث الناشيء في المصطلح" إعداد معهد الدراسات المصطلحية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، فاس، المغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الباب الأول: المصادر والقواعد في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها عند أهل السنة ومخالفيهم الفصل الأول: مصادر أهل السنة وقواعدهم في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها المبحث الأول: مصادر أهل السنة في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها المصدر الأول: القرآن الكريم ... الباب الأول: المصادر والقواعد في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها عند أهل السنة ومخالفيهم: وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: مصادر أهل السنة وقواعدهم في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها. الفصل الثاني: مصادر المخالفين وقواعدهم في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها. الفصل الثالث: معنى الحد عند المنطقيين، ونقده عند أهل السنة. الفصل الرابع: أشهر المؤلفات في مصطلحات العقيدة؛ عرض وتقويم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الفصل الأول: مصادر أهل السنة وقواعدهم في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها: وفيه مبحثان: المبحث الأول: مصادر أهل السنة في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها. المبحث الثاني: قواعد أهل السنة في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 المبحث الأول: مصادر أهل السنة في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها: المصدر الأول: القرآن الكريم. المصدر الثاني: السنة النبوية. المصدر الثالث: لغة العرب. المصدر الرابع: آثار السلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 المصدر الأول: القرآن الكريم. لقد أنزل الله - عز وجل - على نبي هذه الأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - القرآن الكريم، الذي نسخ به الكتب السابقة، وجعله تبياناً لكل شيء، فكان المصدر الأول للمسلمين في عقائدهم وشرائعهم، وكان الصحابة - رضوان الله عليهم - يأخذون العقيدة من القرآن بألفاظها، سيما وأنهم مخاطبون في القرآن بلغتهم العربية. وهكذا كان سلف الأمة ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة، يعتمدون القرآن الكريم مصدراً أولاً لألفاظ العقيدة، وبيان معانيها، وينصون على ذلك في كتبهم. يقول الأمام أحمد - رحمه الله -: "لست أتكلم إلا ما كان في كتاب الله، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو عن أصحابه، أو عن التابعين، وأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود"1. وهذا الإمام ابن خزيمة2يصنف كتاب التوحيد وما فيه إلا آيات وأحاديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يقول - رحمه الله -: "فاحتسبت في تصنيف كتاب يجمع هذين الجنسين من العلم بإثبات القول بالقضاء السابق، والمقادير النافذة قبل حدوث كسب العباد، والإيمان بجميع صفات الرحمن الخالق - جل وعلا -، مما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وبما صح وثبت عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالأسانيد الثابتة الصحيحة، بنقل أهل العدالة، موصولاً إليه - صلى الله عليه وسلم -"3. ومثل الإمام ابن خزيمة يوجد أيضاً عدد من أئمة السلف المتقدمين، الذين ألفوا في بيان عقيدة أهل السنة، لا يذكرون في كتبهم إلا آيات   1 - الإبانة لابن بطة 2/538 - 539، وانظر المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة جمع عبد الإله الأحمدي 2/398. 2 - محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي، أبو بكر إمام الأئمة، ولد سنة 223للهجرة في نيسابور وكان فقيهاً مجتهداً محدثاً بارعاً، طاف بالبلدان والأمصار وأكثر من الشيوخ، له مصنفات كثيرة منها التوحيد وصحيح ابن خزيمة. توفي سنة 311للهجرة. انظر: الأعلام 6/29، طبقات الشافعية للسبكي 2/130. 3 - التوحيد وإثبات صفات الرب لابن خزيمة 1/10 - 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وأحاديث وآثار عن السلف، مزينة بتوضيح يسير منهم، مثل كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للإمام اللالكائي1، وكتاب الشريعة للإمام الآجري، وخلق أفعال العباد للإمام البخاري، وغيرها كثير. وهم يشيرون إلى هذا المنهج في كتبهم التي ألفوها، يقول الإمام ابن عبد البر2: "ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه، إلا ما جاء منصوصاً في كتاب الله، أو صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أجمعت عليه الأمة"3. وهذا الإمام الإسماعيلي4يبين عقيدة أهل السنة والجماعة ويذكر منها: "قبول ما نطق به كتاب الله - تعالى -، وما صحت به الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا معدل عما وردا به، ولا سبيل إلى رده، إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة"5. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فيأخذ المسلمون جميع دينهم من الاعتقادات والعبادات وغير ذلك من كتاب الله، وسنة رسوله، وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وليس ذلك مخالفاً للعقل الصريح، فإن ما خالف العقل الصريح فهو باطل، وليس في الكتاب والسنة والإجماع باطل"6. ويقول - رحمه الله - في الرد على من اتهمه بإطلاق لفظ الجهة والتحيز على الله: "بل كلامي فيه ألفاظ القرآن والحديث، وألفاظ سلف الأمة ومن نقل مذاهبهم. أو التعبير   1 - هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الرازي أبو القاسم اللالكائي من حفاظ الحديث وفقهاء الشافعية، من أهل طبرستان، استوطن بغداد، من مؤلفاته أسماء رجال الصحيحين، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، توفي سنة 418 هجرية، انظر: سير أعلام النبلاء 17/419، شذرات الذهب 3/211، الأعلام 8/71. 2 - يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي، أبو عمر من كبار حفاظ الحديث، مؤرخ أديب بحاثة، من كتبه الدرر في اختصار المغازي والسير، والاستيعاب، توفي بشاطبة سنة 463هجرية، انظر: وفيات الأعيان 7/66، الأعلام 8/240. 3 - جامع بيان العلم وفضله ص417. 4 - أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل، أبو بكر الإسماعيلي حافظ ثبت إمام من أهل جرجان، ولد سنة 297 هجرية، وجمع بين الفقه والحديث، له مؤلفات منها المستخرج على صحيح البخاري، توفي سنة 371 هجرية. انظر: الوافي بالوفيات 6/213، الأعلام 1/86. 5 - كتاب اعتقاد أهل السنة للإسماعيلي ص31. 6 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام 11/490 - 491. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 عن ذلك تارة بالمعنى المطابق الذي يعلم المستمع أنه موافق لمعناهم"1، ويقول - رحمه الله - وهو يتحدث عن الصفات ومسائل العقيدة: "وأنا لا أقول إلا ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة"2. ويقول الإمام ابن أبي العز - رحمه الله -: "بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه، ويعقله، ويعرف برهانه، ودليله، إما العقلي وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد"3. وألفاظ كلام الله –تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لها خاصية ليست لغيرها من الألفاظ، فأهل السنة والجماعة يجزمون بأنه لابد من الإيمان بلفظ نصوص الكتاب والسنة، سواء علم معناها أو لم يعلم، وأنه لا يتوقف الإيمان بالنص وألفاظه إلى حين معرفة معناه، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "إن الناس عليهم أن يجعلوا كلام الله ورسوله هو الأصل المتبع، والإمام المقتدى به، سواء علموا معناه أو لم يعلموه، فيؤمنون بلفظ النصوص وإن لم يعرفوا حقيقة معناها، وأما ما سوى كلام الله ورسوله فلا يجوز أن يجعل أصلاً بحال، ولا يجب التصديق بلفظ له حتى يفهم معناه، فإن كان معناه موافقاً لما جاء به الرسول كان مقبولاً، وإن كان مخالفاً كان مردوداً، وإن كان مجملاً مشتملاً على حق وباطل لم يجز إثباته أيضاً، ولا يجوز نفي جميع معانيه بل يجب المنع من إطلاق نفيه وإثباته، والتفصيل، والاستفسار"4. ويجعل هذا قاعدة من قواعد أهل السنة في باب الأسماء والصفات فيقول: "القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه - عز وجل - فإنه يجب الإيمان به سواء عرفنا معناه أو   1 - التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى 5/26. 2 - المرجع السابق 5/3. 3 - شرح العقيدة الطحاوية 1/239 - 240. 4 - التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى 5/14، وانظر: درء التعارض 1/241 - 242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 لم نعرف، لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه. وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصاً في الكتاب والسنة، متفقاً عليه بين سلف الأمة، وما تنازع فيه المتأخرون، نفياً وإثباتاً، فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظ أونفيه، حتى يعرف مراده، فإن أراد حقاً قبل وإن أراد باطلاً رُدّ، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى"1. فأهل السنة يراعون المعنى الصحيح كما يراعون الألفاظ الشرعية، ويحاولون أن يكون التعبير عن المعنى الصحيح بلفظ شرعي، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه، ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة أيضاً، وقالوا إنما قابل بدعة ببدعة، ورد باطلاً بباطل"2. فهذا هو منهج أهل السنة في استمداد ألفاظ العقيدة، مصدرهم الأول لها كتاب الله - تعالى -.   1 - التدمرية ص 65 - 66، وانظر: درء التعارض 1/241 - 242. 2 - درء التعارض 1/254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 المصدر الثاني: السنة النبوية . تعتبر السنة النبوية المصدر الثاني من مصادر ألفاظ العقيدة عند أهل السنة والجماعة، وفي الصفحات السابقة ذكرت نصوص أهل السنة في اعتمادهم القرآن الكريم مصدراً للعقيدة وألفاظها، وكان فيها ذكر السنة واعتمادها مع القرآن الكريم في ذلك. وهنا سأذكر مزيداً من النصوص عن أهل السنة تبين مكانة السنة عندهم، واستقاءهم ألفاظ العقيدة منها، فهذا الإمام الدارمي - رحمه الله - يقول: "وقد علمتم - إن شاء الله -، أنه لا يستدرك سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأحكامهم، وقضاياهم، إلا هذه الآثار والأسانيد على ما فيها من الاختلاف، وهي السبب إلى ذلك، والنهج الذي درج عليه المسلمون، وكانت إمامهم في دينهم بعد كتاب الله –عز وجل -، منها يقتبسون العلم، وبها يقضون، وبها يفتون، وعليها يعتمدون، وبها يتزينون، يورثها الأول منهم الآخر، ويبلغها الشاهد منهم الغائب احتجاجاً بها، واحتساباً في أدائها إلى من لم يسمعها، يسمونها السنن والآثار، والفقه والعلم، ويضربون في طلبها شرق الأرض وغربها، يحلون بها حلال الله، ويحرمون بها حرامه، ويميزون بها بين الحق والباطل، والسنن والبدع، ويستدلون بها على تفسير القرآن ومعانيه وأحكامه، ويعرفون بها ضلالة من ضل عن الهدى"1. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فجادلوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله"2. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ومن الوجوه الصحيحة أن معرفة الله بأسمائه وصفاته على وجه التفصيل لا تعلم إلا من جهة الرسول - عليه الصلاة والسلام -، إما   1 - الرد على الجهمية للدارمي ص 106 - 107، وانظر: بيان تلبيس الجهمية 1/355. 2 - الإبانة لابن بطة 1/250، الشريعة للآجري ص 74، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي 1/123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 بخبره، وإما بخبره وتنبيهه ودلالته على الأدلة العقلية، ولهذا يقولون: لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -"1. فأهل السنة يلتزمون ألفاظ الكتاب والسنة في العقيدة ما أمكنهم ذلك، ويردون ما عارضها ويجعلونها الأصل، وقد سبق بيان ذلك، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - وهو يتحدث عن الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن الأدب معه أن لا يستشكل قوله، بل تستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس بل تهدر الأقيسة، وتلقى لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم هو مجهول وعن الصواب معزول، ولا يوقف قبول ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على موافقة أحد. فكل هذا من قلة الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - وهو عين الجرأة"2. فمصدر أهل السنة الثاني لألفاظ العقيدة هو كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.   1 - بيان تلبيس الجهمية 1/248. 2 - مدارج السالكين 2/390. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 المصدر الثالث: لغة العرب . لقد خاطب الله - عز وجل - الناس في القرآن الكريم بلغة العرب، وكان محمد - صلى الله عليه وسلم - أفصح الناس لساناً، وقد نشأ بين قريش أفصح العرب جميعاً، فكان لابد لبيان معاني كلام الله –تعالى -، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من معرفة بلغة العرب، وفهمٍ لدلالتها على المعاني. وعلى ضوء فهم لغة العرب وتشعب معانيها يمكن تفسير كلام الله، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -. يقول الإمام الشافعي - رحمه الله -: "وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره؛ لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها "1. ويقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: ".. الاستدلال بالقرآن إنما يكون على لغة العرب التي أنزل بها، بل قد نزل بلغة قريش، كما قال –تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم –4] وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء –195] ، فليس لأحد أن يحمل ألفاظ القرآن على غير ذلك من عرف عام أو اصطلاح خاص"2. وكذلك ألفاظ السنة لا طريق لبيانها إلا بمعرفة لغة العرب ودلالتها على المعاني، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "والطريق إلى معرفة ما جاء به الرسول أن تعرف ألفاظه الصحيحة، وما فسرها به الذين تلقوا عنه اللفظ والمعنى، ولغتهم التي كانوا يتخاطبون بها، وما حدث من العبارات وتغير من الاصطلاحات"3.   1 - الرسالة للإمام الشافعي ص50. 2 - بيان تلبيس الجهمية 1/492. 3 - المرجع السابق 1/159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فأهل السنة والجماعة يعبرون عن عقيدتهم بألفاظ الكتاب والسنة، وهي ألفاظ عربية، كما أنهم يعبرون عن المعنى الصحيح بألفاظ عربية، مطابقة لذلك المعنى. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "بل كلامي فيه ألفاظ القرآن، والحديث، وألفاظ سلف الأمة، ومن نقل مذاهبهم، أو التعبير عن ذلك تارة بالمعنى المطابق، الذي يعلم المستمع أنه موافق لمعناهم"1. ويقول - رحمه الله -: "ونحن إنما نخاطب الأمم بلغتنا العربية، فإذا نقلوا عن أسلافهم لفظ الهيولى والصورة والمادة والعقل والنفس.. ونحو ذلك، بُيّن ما تحتمل هذه الألفاظ من المعاني"2. وأهل السنة يردون على المتكلمين وأمثالهم عندما يستخدمون ألفاظاً لمعان غير واردة في لغة العرب، ثم يفسرون بها كلام الله ورسوله، ويجعلونها من الاعتقاد. وكتب أهل السنة مليئة بالردود على مثل هذا الضلال؛ ومن ذلك كتب الإمام الدارمي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم - رحمهم الله -. ومن الأمثلة على ذلك الرد على المتكلمين في زعمهم أن الواحد لا يكون جسماً، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "ومن المعلوم المتواتر في اللغة الشائع بين الخاص والعام أنهم يقولون: درهم واحد، ودينار واحد، ورجل واحد، وامرأة واحدة، وشجرة واحدة، وقرية واحدة، وثوب واحد، وشهرة هذا عند أهل اللغة شهرة سائر ألفاظ العدد، فيقولون رجل واحد ورجلان اثنان، وثلاثة رجال، وأربعة رجال، وهذا من أظهر اللغة وأشهرها وأعرفها؛ فكيف يجوز أن يقال إن الوحدة لا يوصف بها شيء من الأجسام، وعامة ما يوصف بالوحدة في لغة العرب إنما هو جسم من الأجسام؟! وتحريف هؤلاء للفظ الواحد كتحريفهم للفظ المثل"3.   1 - التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى 5/26. 2 - درء التعارض 1/299. 3 - بيان تلبيس الجهمية 1/493، وانظر: 1/487 - 488 من المرجع نفسه، درء التعارض 1/113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وقال - رحمه الله -: "أما في اللغة فإن أهل اللغة مطبقون على أن معنى الواحد في اللغة ليس هو الذي لا يتميز جانب منه عن جانب، ولا يرى منه شيء دون شيء، إذ القرآن ونحوه من الكلام العربي متطابق على ما هو معلوم بالاضطرار في لغة العرب، وسائر اللغات، أنهم يصفون كثيراً من المخلوقات بأنه واحد، ويكون ذلك جسماً"1. ويقول الإمام ابن القيم في الرد على من حرف معنى الاستواء: "هذا الذي قالوه باطل من اثنين وأربعين وجهاً: أحدها: إن لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله –تعالى - بلغتهم، وأنزل بها كلامه "نوعان" مطلق ومقيد، فالمطلق ما لم يوصل معناه بحرف مثل قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص - 14] وهذا معناه كمل وتم، يقال استوى النبات واستوى الطعام. أما المقيد فثلاثة أضرب: - أحدها: مقيد بإلى كقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة –29] … وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف. - الثاني: مقيد بعلى كقوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف–13] ..وهذا أيضاً معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة. - الثالث: المقرون بواو "مع" التي تعدي الفعل إلى المفعول معه؛ نحو استوى الماء والخشبة، بمعنى ساواها. وهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم، ليس فيها معنى استولى ألبته، ولا نقله أحد من أئمة اللغة الذين يعتمد قولهم، وإنما قاله متأخرو النحاة ممن سلك طريق المعتزلة والجهمية2.   1 - بيان تلبيس الجهمية 1/482، وانظر لأمثلة أخرى: رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد ص 39، 52، 59، 63، 65، 72، درء التعارض 1/116، 228، 314 - 315، 6/7، التوحيد لابن خزيمة 1/51 - 53. 2 - الجهمية هم المنتسبون إلى الجهم بن صفوان أبي محرز مولى بني راسب، وهو من أهل خراسان وتتلمذ على الجعد بن درهم، كما التقى بمقاتل بن سليمان، وقتل بمرو سنة128هجرية، والجهمية تطلق أحيانا بمعنى عام ويقصد بهم نفاة الصفاة عامة، وتطلق بمعنى خاص على أتباع الجهم بن صفوان في آرائه وأهمها: القول بنفي الصفات، والقول بالجبر، والقول بفناء الجنة والنار. انظر: مقالات الإسلامييين1/214، 338، الملل والنحل1/86 - 88، الفرق بين الفرق ص211 - 212، مجموعة فتاوى ابن تيمية الكبرى5/31 - 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الوجه الثالث: إن أهل اللغة لما سمعوا ذلك أنكروه غاية الإنكار، ولم يجعلوه من لغة العرب. قال ابن الأعرابي1وقد سئل: هل يصح أن يكون استوى بمعنى استولى؟ فقال: لا تعرف العرب ذلك، وهذا هو من أكابر أئمة اللغة"2. وهذه الأمثلة وغيرها كثير يبين منهج أهل السنة في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها، وأنهم يجعلون اللغة العربية معياراً لقبول أو رد ما يطرح من ألفاظ ومعانٍ ترتبط بالعقيدة.   1 - محمد بن زياد، أبو عبد الله المعروف بابن الأعرابي، راوية ناسب علامة باللغة، من أهل الكوفة، كان يسأل ويقرأ عليه فيجيب من غير كتاب، توفي سنة 231 هجرية، له تصانيف منها تاريخ القبائل والنوادر. انظر: وفيات الأعيان 4/306، بغية الوعاة 1/105 - 106. 2 - مختصر الصواعق المرسلة 2/320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 المصدر الرابع: آثار السلف يعتمد أهل السنة على الآثار المنقولة عن السلف؛ من الصحابة والتابعين، في بيان كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهم الأعلم بها من غيرهم، وهكذا فألفاظهم في العقيدة مأخوذة من كلام الله ورسوله، أو مبينة لها بعبارات صحيحة، بناءً على لغتهم العربية الفصيحة، وصحة فهمهم للألفاظ الشرعية. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "والطريق إلى معرفة ما جاء به الرسول أن تعرف ألفاظه الصحيحة، وما فسرها به الذين تلقوا عنه اللفظ والمعنى، ولغتهم التي كانوا يتخاطبون بها، وما حدث من العبارات وتغير من الاصطلاحات"1. ويقول أيضاً: "إن المرجع في ثبوت هذه الأسماء عن الشارع، وفي بيان معناها إلى من نقل عنه القرآن والحديث لفظه ومعناه، وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين تلقوا الإيمان والقرآن والحديث بعضهم عن بعض حتى يصل إليه، أو أخذ ذلك هو بلغته التي كان يخاطب بها"2. وهكذا كان السلف المتقدمون، يأخذون عن سلفهم من الصحابة والتابعين ألفاظهم في العقيدة، يقول الإمام أحمد - رحمه الله -: "لست أتكلم إلا ما كان في كتاب الله، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن الصحابة أو عن التابعين، وأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود"3. ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "فإذا كان الصحابة تلقوا عن نبيهم معاني القرآن كما تلقوا عنه ألفاظه، لم يحتاجوا بعد ذلك إلى لغة أحد، فنقل معاني القرآن عنهم كنقل   1 - بيان تلبيس الجهمية 1/159. 2 - المرجع السابق 1/190. 3 - الإبانة لابن بطة 2/538 - 539. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ألفاظه سواء، ولا يقدح في ذلك تنازع بعضهم في بعض معانيه، كما وقع من تنازعهم في بعض حروفه، وتنازعهم في بعض السنة لخفاء ذلك على بعضهم"1. ويقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "إن ما نطق به الكتاب وبينه، أو ثبت بالسنة الصحيحة، أو اتفق عليه السلف الصالح، فليس لأحد أن يعارضه معقولاً ونظراً أو كلاماً وبرهاناً وقياساً عقلياً أصلاً، بل كل ما يعارض ذلك فقد علم أنه باطل علماً كلياً عاماً"2. وهو يقول عن نفسه في التزامه ذلك: "وأنا لا أقول إلا ما جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة"3. والسلف الصالح يعلمون من مراد الله ورسوله مالا يعلمه غيرهم، وهم الذين نقلوا ألفاظ الرسول، ومعاني ألفاظه، فكانوا أحرى بالاتباع. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "إن أهل العلم والإيمان يعلمون من مراد الله ورسوله بكلامه، أعظم مما يعلمه الأطباء عن كلام جالينوس، والنحاة من كلام سيبويه.. وجماع هذا أن يعلم أن المنقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئان: ألفاظه وأفعاله، ومعاني ألفاظه ومقاصده بأفعاله، وكلاهما منه ما هو متواتر عند العامة والخاصة، ومنه ما هو متواتر عند الخاصة ومنه ما يختص بعلمه بعض الناس"4. فآثار السلف الصالح هي المصدر الرابع لألفاظ العقيدة عند أهل السنة، وانطلاقاً من هذه المصادر بنى أهل السنة قواعدهم في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها، وهي ما سأبينه في المبحث التالي - إن شاء الله -.   1 - مختصر الصواعق المرسلة 2/459. 2 - بيان تلبيس الجهمية 1/247. 3 - التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى 5/3، 26. 4 - درء التعارض 1/196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 المبحث الثاني: قواعد أهل السنة في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها . - القاعدة الأولى: التزام ألفاظ الشرع . - القاعدة الثانية: التزام معاني اللغة ودلالاتها . - القاعدة الثالثة: تجنب الألفاظ البدعية. - القاعدة الرابعة: تجنب الألفاظ المجملة، والتفصيل فيها. - القاعدة الخامسة: تجنب التشبه بغير المسلمين في الألفاظ والمصطلحات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 تمهيد: لما كانت مصادر أهل السنة والجماعة هي الكتاب والسنة ولغة العرب وآثار السلف، فإن المتأمل في كتب أهل السنة والجماعة وأقوالهم يتبين له قواعد عامة لألفاظ العقيدة ومصطلحاتها عندهم، معتمدين في ذلك على طريقة القرآن والسنة في انتقاء الألفاظ ومنهج التعبير عن المعاني وكانت قواعدهم العامة كالآتي: - القاعدة الأولى: التزام ألفاظ الشرع. - القاعدة الثانية: التزام معاني اللغة ودلالاتها. - القاعدة الثالثة: تجنب الألفاظ البدعية. - القاعدة الرابعة: تجنب الألفاظ المجملة، والتفصيل فيها. - القاعدة الخامسة: تجنب التشبه بغير المسلمين في الألفاظ والمصطلحات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 القاعدة الأولى: التزام ألفاظ الشرع. 1 - صورة القاعدة: النصوص الإلهية من الكتاب والسنة فرقان فرق الله به بين الحق والباطل، ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب اتباعه، فيثبتون ما أثبته الله ورسوله وينفون ما نفاه الله ورسوله1، وأن هذه النصوص حق يجب قبولها وإن لم يفهم معناها2. 2 - فقه القاعدة: لقد سبق وأن ذكرت أن أهل السنة يجعلون مصدرهم لألفاظ العقيدة كتاب الله وسنة رسوله، ثم آثار السلف، ويستعينون بفهمهم للغة العرب، وقد التزموا ذلك وصار قاعدة لهم في ألفاظ العقيدة بشكل عام، فأما باب الأسماء والصفات فهو توقيفي، وأما سائر المسائل العقدية فإن أهل السنة يستعملون الألفاظ الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، أو ما ورد عن سلف الأمة، ويفضلونها على ما وافق معناها من ألفاظ أخرى، وقد يعبرون عن بعض المعاني بألفاظ أخرى موافقة للمعنى الشرعي، ولدلالات لغة العرب. فهذا الإمام الأوزاعي3 - رحمه الله - عندما سئل عن الجبر قال: "ما أعرف للجبر أصلاً من القرآن ولا السنة فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر، والخلق والجبل، فهذا يعرف   1 - انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/76. 2 - انظر: المرجع السابق 1/76. 3 - عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، من قبيلة الأوزاع، أبو عمرو، إمام الديار الشامية في الفقه والزهد عرض عليه القضاء فامتنع، له كتاب "السنن" في الفقه، و"المسائل" ويقدر ما سئل عنه بسبعين ألف مسألة أجاب عليها كلها، توفي سنة 157هجرية، انظر: السير 7/107 - 134، الأعلام 3/320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 في القرآن والحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"1. وأنكر سفيان الثوري - رحمه الله - لفظ الجبر وقال: الله جبل العباد2. وقيل لأبي عبد الله: رجل يقول إن الله أجبر العباد، فقال هكذا لا نقول، وأنكر هذا وقال: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل –93] 3. وأهل السنة لا يرفضون الألفاظ غير الشرعية التي قد تحمل معنى صحيحاً، ولا يثبتونها، ويحاولون استبدال الألفاظ الشرعية بدلاً عنها، فالإمام الأوزاعي والإمام أحمد قالوا في لفظ الجبر؛ من قال إنه جبر فقد أخطأ، ومن قال لم يجبر فقد أخطأ بل يقال: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ونحو ذلك. وقالوا: ليس للجبر أصل في الكتاب والسنة وإنما الذي في السنة لفظ الجبل لا الجبر4. وكذلك لما سئل الأوزاعي - رحمه الله - عن حديث النزول قال: يفعل الله ما يشاء، وقال حماد بن زيد5: يدنو من خلقه كيف شاء6. ويقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "والأحسن في هذا الباب مراعاة ألفاظ النصوص: فيثبت ما أثبته الله ورسوله باللفظ الذي أثبته، وينفى ما نفاه الله ورسوله كما نفاه، وهو أن يثبت النزول والإتيان والمجيء، وينفي المثل والسمي والكفؤ والند"7. ولذلك يقسم أهل السنة الألفاظ إلى نوعين:   1 - درء التعارض 1/66. 2 - انظر: المرجع السابق 1/68. 3 - انظر: المرجع السابق 1/70. 4 - انظر: المرجع السابق 1/255. 5 - حماد بن زيد بن درهم العلامة الحافظ الثبت، محدث الوقت أبو إسماعيل الأزدي، مولى آل جرير بن حازم البصري الأزرق الضرير، أحد الأعلام، أصله من سجستان، سبي جده درهم منها، من أئمة السلف ومن أتقن الحفاظ وأعدلهم، مولده في سنة ثمان وتسعين، ووفاته سنة تسع وسبعين بعد المائة. انظر: سير أعلام النبلاء 7/456 - 461. 6 - انظر: الاستقامة 1/76 - 77. 7 - بيان تلبيس الجهمية 1/622. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 1 - نوع مذكور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام أهل الإجماع، فهذا يجب اعتبار معناه، وتعليق الحكم به، فإن كان المذكور به مدحاً استحق صاحبه المدح وإن كان ذماً استحق صاحبه الذم، وإن أثبت شيئاً وجب إثباته، وإن نفى شيئاً وجب نفيه. 2 - الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع، فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم، والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبين أنه يوافق الشرع1. فالقاعدة الأولى عند أهل السنة في ألفاظ العقيدة هي التزام ألفاظ الشرع.   1 - انظر: درء التعارض 1/240 - 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 القاعدة الثانية: التزام معاني اللغة ودلالاتها . 1 - صورة القاعدة: "إن الله عز وجل أنزل القرآن عربياً لا عجمة فيه، بمعنى أنه جار في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب"1، ولن يعلم تفسير كتاب الله من جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها2. لذا يهتم أهل السنة بمعرفة معاني اللغة، ودلالاتها، في ألفاظ العقيدة، ويلتزمونها. 2 - فقه القاعدة: يلتزم أهل السنة والجماعة معاني اللغة ودلالاتها؛ لأنهم يلتزمون ألفاظ الكتاب والسنة وقد جاءت تلك على لسان العرب. فهم عندما يريدون أن يبينوا معاني ألفاظ كتاب الله وسنة رسوله يعتمدون على معرفتهم بلغة العرب، وسعة معانيها، وتعدد ألفاظها، وجعلوا ذلك من شرائط الإمامة في الدين." قال علماء السلف: لا يكون الرجل إماماً في الدين حتى يكون جامعاً لهذه الخصال: يكون حافظاً للغات العرب، واختلافها، ومعاني أشعارها، حافظاً لاختلاف الفقهاء والعلماء، ويكون عالماً فقيهاً حافظاً للإعراب والاختلاف فيه.."3. ويقول الإمام الشاطبي4 - رحمه الله -: "..فعلى الناظر في الشريعة، والمتكلم فيها أصولاً وفروعاً، أمران: أحدهما: أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربياً، أو كالعربي، في كونه عارفاً بلسان العرب، بالغاً فيه مبالغ العرب، أو مبالغ الأئمة المتقدمين.. وليس المراد أن يكون حافظاً كحفظهم، وجامعاً كجمعهم، وإنما المراد أن يصير فهمه عربياً في الجملة..والأمر الثاني: أنه إذا أشكل عليه في الكتاب، أو في السنة، لفظ أو معنى فلا يقدم   1 الإعتصام للشاطبي 2/293. 2 - انظر: الرسالة ص 50. 3 - الحجة في بيان المحجة 1/306. 4 - هو الإمام إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشاطبي برع في علم أصول الفقه، من مؤلفاته الموافقات، الاعتصام، الإفادات، توفي سنة 790 هجرية. انظر: شجرة النور الزكية 1/231، نيل الابتهاج ص 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 على القول فيه دون أن يستظهر بغيره ممن له علم بالعربية، فقد يكون إماماً فيها ولكنه يخفى عليه الأمر في بعض الأوقات"1. ومن الأمثلة على التزام أهل السنة معاني اللغة، ودلالاتها، أثناء تقريرهم للعقيدة؛ قول الإمام ابن خزيمة - رحمه الله - في تقرير صفة اليد لله - تعالى - والرد على من حرف معناها: ".. فزعم أن اليد هي القوة، وهذا من التبديل أيضاً وهو جهل بلغة العرب، والقوة إنما تسمى الأيد في لغة العرب لا اليد، فمن لا يفرق بين اليد والأيد فهو إلى التعليم والتسليم إلى الكتاتيب أحوج منه إلى الترؤس والمناظرة"2. ويقول شيخ الإسلام - رحمه الله - في بيان معنى الأفول: "والأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير هو المغيب والاحتجاب؛ بل هذا معلوم بالاضطرار من لغة العرب التي نزل بها القرآن، وهو المراد باتفاق العلماء"1. وفي بيان معنى اليد في قوله - تعالى -: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص - 75] والرد على من تأولها بالنعمة يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "ولا ريب أن العرب تقول لفلان عندي يد، وقال عروة بن مسعود للصديق: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، ولكن وقوع اليد في هذا التركيب الذي أضاف - سبحانه - فيه الفعل إلى نفسه، ثم تعدى الفعل إلى اليد بالباء التي هي نظير كتبت بالقلم، وهي اليد، وجعل ذلك خاصة خص بها صفيه آدم دون البشر … فهذا مما يحيل تأويل اليد في النص بالنعمة، وإن كانت في تركيب آخر تصلح لذلك، فلا يلزم من صلاحية اللفظ لمعنى ما في تركيب، صلاحيته له في كل تركيب"2.   1 - الاعتصام 2/297 - 299. 2 - التوحيد لابن خزيمة 1/199. 1 - ببيان تلبيس الجهمية 1/529. 2 - الصواعق المرسلة 1/193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وأهل السنة والجماعة يجعلون التأويل قسمين: الأول: التأويل الصحيح، وهو حقيقة المعنى وما يؤول إليه في الخارج، أو تفسيره وبيان معناه، وبالجملة فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص، وجاءت به السنة، ويطابقها، هو التأويل الصحيح1. ولا يقبل التأويل الذي فيه صرف للفظ عن ظاهره إلا إذا توفرت فيه أمور2: 1 - بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي تأوله في ذلك التركيب الذي وقع فيه. 2 - تعيين ذلك المعنى إذا كان محتملاً لعدة معان. فلا بد من دليل على تعيينه. 3 - إقامة الدليل الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره. 4 - الجواب عن المعارض. الثاني: التأويل الفاسد هو الذي يخالف ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة، ومنه ما كان صرف للفظ عن ظاهره مع فقده للشروط السابقة أو بعضها3. كما ذكر أهل السنة أنواعاً للتأويل الباطل مما يكون فيه مخالفة للمعروف في لغة العرب، من حيث دلالة التركيب والسياق، فذكروا من التأويل الباطل4: 1 - مالم يحتمله اللفظ بوضعه، ومثاله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حتى يضع رجله فتقول قط قط قط" 5، بأن الرجل جماعة من الناس فإن هذا لا يعرف في لغة العرب. 2 - مالم يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع، وإن احتمله مفرداً كتأويل قوله - تعالى -: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص - 75] بالقدرة. 3 - مالم يحتمله سياقه وتركيبه، وإن احتمله في غير ذلك السياق، كتأويل قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام - 158] بأن إتيان الرب إتيان بعض آياته.   1 - انظر: الصواعق المرسلة 1/181 - 187. 2 - انظر: المرجع السابق 1/288 - 293. 3 - انظر: المرجع السابق 1/187، 288 وما بعدها. 4 - انظر هذه الضوابط في الصواعق المرسلة 1/187 - 201. 5 - رواه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير "تفسير سورة ق"، باب {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق - 30] 3/296، ح 4850، وفي لفظ "قدمه" ح 4848 4849، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء 4/2186 - 2187، ح 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 4 - التأويل الذي يوجب تعطيل المعنى الذي هو في غاية العلو والشرف، ويحطه إلى معنى دونه بمراتب كثيرة، مثل تأويل الجهمية قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام - 18] ونظائرها بأنها فوقية الشرف، كقولهم الدينار فوق الدرهم. والتأويلات التي هي من جنس الأمثلة السابقة واضحة الفساد والبطلان، وذلك لمخالفتها قواعد لغة العرب من حيث احتمال التركيب والسياق للمعنى. وتنبيه أهل السنة على أنواع التأويل الباطل يبين مدى التزامهم معاني اللغة ودلالاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 القاعدة الثالثة: تجنب الألفاظ البدعية . 1 - صورة القاعدة: طريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية، فلا يعبرون في أبواب العقيدة بألفاظ مجملة مبتدعة، ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة1. 2 - فقه القاعدة: إن من منهج أهل السنة والجماعة في ألفاظ أصول الاعتقاد الاتباع لا الابتداع، والابتداع المقصود هنا هو مخالفة الأدلة السمعية. وأصل كلمة البدعة من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق، ولا مثال احتذي، ولا ألف مثله، وهذا الاسم يدخل فيما تخترعه القلوب، وفيما تنطق به الألسنة، وفيما تفعله الجوارح2. ويقول الإمام الشاطبي في تعريف البدعة: "فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله - سبحانه -"3. وقيل في تعريف البدعة إنها: "ما أحدث على خلاف الحق المتلقى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من علم أو عمل أو حال، بنوع شبهة أو استحسان، وجعل ديناً قويماً وصراطاً مستقيماً"4. فأصول الدين قد جاءت موضحة في الكتاب والسنة وكلام السلف، فما كان فيه مخالفة لها فهو من الابتداع في أصول الاعتقاد. يقول شيخ الإسلام: "وكل قول لم يرد لفظه ولا معناه في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة فإنه لا يدخل في الأدلة السمعية، ولا تعلق للسنة والبدعة بموافقته ومخالفته..   1 - انظر: درء التعارض 1/254. 2 - انظر: الحوادث والبدع للطرطوشي ص34 - 35. 3 - الاعتصام 1/37. 4 - علم أصول البدع لعلي بن حسن عبد الحميد ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وإنما السنة موافقة الأدلة الشرعية، والبدعة مخالفتها. وقد يقال عما لم يعلم أنه موافق لها أو مخالف: إنه بدعة، إذ الأصل أنه ما لم يعلم أنه من الشرع فلا يتخذ شريعة ودينا، فمن عمل عملاً لم يعلم أنه مشروع فقد تذرع إلى البدعة، وإن كان ذلك العمل تبين له فيما بعد أنه مشروع، وكذلك من قال في الدين قولاً بلا دليل شرعي، فإنه تذرع إلى البدعة، وإن تبين له فيما بعد موافقته للسنة"1. ويذكر الإمام الإسماعيلي في عقيدة أهل السنة أنهم "يرون مجانبة البدعة والآثام"2. والإمام أحمد يقول: "كلما ابتدع رجل بدعة اتسع الناس في جوابها"3، وقال: "يستغفر ربه الذي رد عليهم بمحدثة"4، وأنكر على من رد بشيء من جنس الكلام إذ لم يكن له فيه إمام تقدم5. وعندما قيل لأبي حنيفة: "ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام والأعراض والأجسام؟ قال: مقالات الفلاسفة، عليك بالآية وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة"6. ويفصل ابن تيمية موقف أهل السنة من الألفاظ المحدثة في النفي والإثبات فيقول: "وأهل السنة وإن كانوا يعرفون بعقولهم من المعاني الصحيحة نقيض ما يقوله النفاة، فلا يعبرون عن صفات الله بعبارات مجملة مبتدعة، ولا يطلقون القول بأن الله جسم، وأنه تحله الحوادث، وأنه مركب، ولا نحو ذلك، ولا يطلقون من نفي ذلك ما يتناول نفي ما أثبته الرسول، ودلت العقول عليه. بل يفسرون المجملات، ويوضحون المشكلات، ويبينون المحتملات، ويتبعون الآيات البينات، ويعلمون موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح"7.   1 - درء التعارض 1/244. 2 - اعتقاد أهل السنة للإسماعيلي ص 53. 3 - درء التعارض 1/71. 4 - المرجع السابق 1/71. 5 - انظر: المرجع السابق 1/71. 6 - الحجة في بيان المحجة 1/105. 7 - درء التعارض 9/335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وقد يكون المحدث هو اللفظ ودلالته، كلفظ الهيولى، أو يكون المحدث هو استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى، كلفظ أصول الدين، حيث أدخل فيه كل قوم من المسائل والدلائل ما ظنوه هم من أصول دينهم، وإن لم يكن من أصول الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه1. وأما التعبير بعبارات صحيحة، وإن لم تكن في الكتاب والسنة، فلا يكره إذا احتيج إليه، فالإمام أحمد لا يكره إذا عرف معاني الكتاب والسنة أن يعبر عنها بعبارات أخرى، إذا احتيج إلى ذلك، بل هو قد فعل ذلك، بل يكره المعاني المبتدعة، مما خاض الناس فيه من الكلام في القرآن، والرؤية، والقدر، والصفات، إلا بما يوافق الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين2. أما الجواب على من يطلق ألفاظاً محدثة مجملة، تحتمل حقاً وباطلاً، فيختلف الموقف باختلاف الشخص الذي تناظره على ثلاثة أقسام: أولاً: إذا كان الشخص ممن يتقيد بالشريعة، فيقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وأما إذا كان الكلام مع من يتقيد بالشريعة، فإنه يقال له: إطلاق هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً بدعة، وفي كل منهما تلبيس وإيهام، فلا بد من الاستفسار والاستفصال، أو الامتناع عن إطلاق كلا الأمرين في النفي والإثبات"3. ثانياً: إذا كان المناظر في مقام دعوة الناس إلى قوله، وإلزامهم به، أمكن أن يقال له: لا يجب على أحد أن يجيب داعيا إلا إلى ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن على الناس إجابة من دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلى ذلك، ولو قدر أن ذلك المعنى حق. ومثال ذلك ما أجاب به الإمام أحمد - رحمه الله - مناظره أبا عيسى محمد بن عيسى برغوث4حين ألزم الإمام بالتجسيم، وأنه إذا أثبت لله كلاماً غير مخلوق لزم أن يكون   1 - انظر: درء التعارض 1/73. 2 - انظر: المرجع السابق7/155. 3 - المرجع السابق 1/232. 4 - برغوث وهو رأس البدعة أبو عبد الله محمد بن عيسى الجهمي، أحد من كان يناظر الإمام أحمد وقت المحنة، صنف كتاب الاستطاعة، وكتاب المقالات، وكتاب الاجتهاد، وكتاب الرد على جعفر بن حرب، وكتاب المضاهاة، قيل توفي سنة أربعين ومئتين وقيل سنة إحدى وأربعين. انظر: السير10/554. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 جسماً. فأجاب الإمام أحمد بأن هذا اللفظ لا يدرى مقصود المتكلم به، وليس له أصل في الكتاب والسنة والإجماع، فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به، ولا بمدلوله، بل هو أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد؛ فلا أقول هو جسم وليس بجسم، لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الإسلام، فليست هذه من الحجج الشرعية التي يجب على الناس إجابة من دعا إلى موجبها، فإن الناس إنما عليهم إجابة الرسول فيما دعاهم إليه، وإجابة من دعاهم إلى ما دعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليه، لا إجابة من دعاهم إلى قول مبتدع ومقصود المتكلم بها مجمل لا يعرف إلا بعد الاستفصال والاستفسار، فلا هي معروفة في الشرع، ولا معروفة بالعقل إن لم يستفسر المتكلم بها1. ثالثاً: إذا كان المناظر معارضاً للشرع بما يذكره، أو ممن لا يمكن أن يرد إلى الشريعة أو ممن يدعي أن الشرع خاطب الجمهور، وأن المعقول الصريح يدل على باطن يخالف الشرع، ونحو ذلك فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلى العبارة الشرعية كان حسناً، وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم فبيان ضلالهم، ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ. فيقع في محاورته إطلاق هذه الألفاظ لأجل اصطلاح ذلك النافي ولغته، وإن كان المطلق لها لا يستجيز إطلاقها في غير هذا المقام2. فهذا هو الجواب على من يطلق ألفاظاً، أو معان محدثة، حيث يختلف الرد باختلاف حال الشخص.   1 - انظر: درء التعارض 1/229 - 231. 2 - انظر: المرجع السابق 1/231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 القاعدة الرابعة: تجنب الألفاظ المجملة، والتفصيل فيها . 1 - صورة القاعدة: أن أهل السنة والجماعة يمنعون إطلاق العبارات المحدثة، المجملة، المتشابهة، نفياً وإثباتاً، فلا يثبتون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل، فإذا تبين المعنى أثبت حقه، ونفي باطله1. فيوقف اللفظ ويفسر المعنى2. 2 - فقه القاعدة: لما كان أهل السنة يحرصون على الألفاظ الشرعية في مسائل العقيدة، جاءت ألفاظهم خالية من الإيهام والإجمال، ولما بدأ المبتدعة يظهرون ألفاظاً مشتبهة يلتبس فيها الحق بالباطل بسبب ما فيها من الإجمال، كان موقف أهل السنة حازماً جداً، حيث امتنعوا عن إطلاق تلك الألفاظ نفياً وإثباتاً، إلا بعد الاستفسار والتفصيل، لكي يثبت المعنى الحق وينفى المعنى الباطل، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "ولهذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات، وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق، ولا قصور أو تقصير في بيان الحق، ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة، المتشابهة، المشتملة على حق وباطل، ففي إثباتها إثبات حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل، فيمنعمن كلا الإطلاقين"1. ويقول - رحمه الله -: "وما تنازع فيه الأمة من الألفاظ المجملة كلفظ المتحيز والجهة والجسم والجوهر والعرض وأمثال ذلك، فليس على أحد أن يقبل مسمى اسم من هذه الأسماء، لا في النفي ولا في الإثبات، حتى يتبين له معناه، فإن كان المتكلم بذلك أراد معنى صحيحاً، موافقاً لقول المعصوم كان ما أراده حقاً، وإن كان أراد به معنى مخالفاً لقول المعصوم كان ما أراده باطلاً.   1 - انظر: درء التعارض 1/76. 2 - انظر: التدمرية ص 65، 66. 1 - درء التعارض 1/76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ثم يبقى النظر في إطلاق ذلك اللفظ ونفيه، وهي مسألة فقهية، فقد يكون المعنى صحيحاً ويمتنع من إطلاق اللفظ لما فيه من مفسدة، وقد يكون اللفظ مشروعاً ولكن المعنى الذي أراده المتكلم باطل"1. وهذه قاعدة متبعة عند سلف الأمة، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "والمقصود هنا أن أئمة السنة كأحمد بن حنبل وغيره، كانوا إذا ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة كلفظ الجسم والجوهر والحيز ونحوها؛ لم يوافقوهم لا على إطلاق الإثبات، ولا على إطلاق النفي"1، ويقول عن نفسه: "وما يذكر من الألفاظ المجملة فإني أبينه وأفصله"2. وهذه الألفاظ المجملة التي تلبس على الناس في عقيدتهم، كانت سبب ذم السلف لعلم الكلام، إذ لم يذموه لمجرد الاصطلاحات المولدة فيه، بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه الألفاظ والعبارات فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه، فهي مشتملة على معانٍ مجملة في النفي والإثبات4. وهذا يؤدي إلى الالتباس وعدم بيان الحق، فأكثر اختلاف الناس سببه هذه الألفاظ المجملة، والمعاني المشتبهة.   1 - درء التعارض 1/296 - 297، وانظر: بيان تلبيس الجهمية 1/100. 1 - بيان تلبيس الجهمية 1/522 وانظر 1/22, 47, 54 من المرجع نفسه. 2 - التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى 5/26. 4 - انظر: درء التعارض 1/44، 232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 القاعدة الخامسة: تجنب التشبه بغير المسلمين في الألفاظ والمصطلحات . 1 - صورة القاعدة: يقول الإمام الشافعي - رحمه الله -: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس1"2. ومن منهج أهل السنة تجنب التشبه بغير المسلمين، ومن ذلك التشبه بهم في الألفاظ والمصطلحات العقدية. 2 - فقه القاعدة: إن الله - عز وجل - بين للناس في كتابه وسنة رسوله تفاصيل دينهم، وخاطبهم بما يفهمونه من الألفاظ العربية، فالعدول عنها إلى لغات الأمم يسبب الالتباس والاشتباه على الناس في أمور عقيدتهم، لاسيما إذا كانت تلك الألفاظ من الألفاظ المجملة المشتبهة، كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حذر أمته من التشبه بغير المسلمين فقال: "لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه". قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟! " 3. ولذا كان من منهج أهل السنة في ألفاظ العقيدة عدم التشبه بالأمم الأخرى في ألفاظها، ومصطلحاتها العقدية، وهو أمر تميزوا به عن سائر الطوائف. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وأرباب المقالات تلقوا عن أسلافهم مقالات بألفاظ لهم؛ منها ما كان أعجمياً فعربت، كما عربت ألفاظ اليونان والهند والفرس وغيرهم، وقد يكون المترجم عنهم صحيح الترجمة، وقد لا يكون صحيح الترجمة، ومنها ما هو عربي. ونحن إنما نخاطب الأمم بلغتنا العربية"1.   1 - أرسطاطاليس، ويقال أرسطوطاليس بن نيقوماخوس الطبيب، ولد سنة 384 ق. م، من متأخري فلاسفة اليونان، وهو مع ذلك المقدم المشهور، ولقب بالمعلم الأول لأنه واضع التعاليم المنطقية ومخرجها من القوة إلى الفعل، وتتلمذ على أفلاطون، وكان أرسطو يلقي دروسه على تلاميذه وهم يمشون، لذا لقب أتباعه بالمشائين. انظر: الملل والنحل 2/119، قصة الفلسفة لول ديورانت ص73، المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا 2/373، الموسوعة الفلسفية للدكتور الحفني ص36. 2 - صون المنطق ص15. 3 - أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب ما ذكر عن بني اسرائيل 3/1274ح 3269، ومسلم في كتاب العلم باب اتباع سنن اليهود والنصارى 4/2054ح 2669. 1 - درء التعارض 1/299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ثم يبين - رحمه الله - الموقف من هذه الألفاظ التي تنقل من اللغات الأخرى فيقول: "فإذا نقلوا عن أسلافهم لفظ الهيولى، والصورة، والمادة، والعقل، والنفس، والصفات الذاتية، والعرضية، والمجرد، والتركيب والتأليف، والجسم، والجوهر، والعرض، والماهية، والجزء، ونحو ذلك، بُيِّن ما تحتمل هذه الألفاظ من المعاني"1. فأهل السنة لا يقبلون الألفاظ المنقولة عن الأمم الأخرى، بل يتوقفون فيها حتى يتبين اللفظ وما يحتمله من معان، فهم يعاملونها معاملة الألفاظ المبتدعة. ومن خلال هذه المصادر والقواعد التي اعتمدها أهل السنة في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها، تميزوا عن سائر الفرق الأخرى، ومن خلالها حفظوا العقيدة التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن التحريف والابتداع.   1 - درء التعارض 1/299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الفصل الثاني: مصادر المخالفين وقواعدهم في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها المبحث الأول: مصادر المخالفين في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها المصدر الأول: العقل ... الفصل الثاني: مصادر المخالفين وقواعدهم في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها. وفيه مبحثان: المبحث الأول: مصادر المخالفين في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها. المبحث الثاني: قواعد المخالفين في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 المبحث الأول: مصادر المخالفين في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها: المصدر الأول: العقل. المصدر الثاني: الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي. المصدر الثالث: الملل والديانات الأخرى. المصدر الرابع: الكشف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 المصدر الأول: العقل. يعتمد المخالفون من المتكلمين والفلاسفة على العقل مصدراً رئيساً لمسائل العقيدة، بما في ذلك ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها، ويقدمونه على الأدلة السمعية؛ لأنها _في نظرهم _دلائل لفظية، والدلائل اللفظية لا تفيد اليقين، وهذه هي الشبهة الأولى، والشبهة الثانية هي قولهم: إن العقل أصل السمع فيجب تقديمه عليه1. ومن ذلك أنهم زعموا أن معرفة الله لا تنال إلا بالعقل، يقول القاضي عبد الجبار: "أما الثاني وهو الكلام في أن معرفة الله لا تنال إلا بحجة العقل، فلأن ما عداها فرع على معرفة الله - تعالى - بتوحيده وعدله، فلو استدللنا بشيء منها على الله والحال هذه، كنا مستدلين بفرع للشيء على أصله، وذلك لا يجوز"2. ويقول الغزالي: "كل ما دل العقل فيه على أحد الجانبين فليس للتعارض فيه مجال، إذ الأدلة العقلية يستحيل نسخها وتكاذبها، فإن ورد دليل سمعي على خلاف العقل، فإما أن لا يكون متواتراً فيعلم أنه غير صحيح، وإما أن يكون متواتراً، فيكون مؤولاً، ولا يكون متعارضاً، وأما نص متواتر لا يحتمل الخطأ والتأويل وهو على خلاف دليل العقل، فذلك محال، لأن دليل العقل لا يقبل الفسخ والبطلان"1. ثم وضع الرازي تقديم العقل على النقل في قانون كلي اعتمده المتكلمون، وهو قوله: "اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء، ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك، فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة: إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل، فيلزم تصديق النقيضينوهو محال. وإما أن نبطلهما، فيلزم تكذيب النقيضين وهو محال. وإما أن تكذب الظواهر النقلية وتصدق الظواهر العقلية.   1 - انظر: المطالب العالية 9/113 - 114، محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ص51، أساس التقديس للرازي ص 220 - 221، الأربعين في أصول الدين للرازي ص 424، معالم أصول الدين للرازي ص 22، المواقف للآيجي ص 40. 2 - شرح الأصول الخمسة ص 88. 1 - المستصفى للغزالي 2/137, 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وإما أن تصدق الظواهرالنقلية وتكذب الظواهر العقلية، وذلك باطل، لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية، إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية: إثبات الصانع، وصفاته، وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وظهور المعجزات على يد محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولو صار القدح في الدلائل العقلية القطعية، صار العقل متهماً، غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج عن أن يكون مقبول القول في هذه الأصول. وإذا لم تثبت هذه الأصول، خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة. فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل، يفضي إلى القدح في العقل والنقل معاً، وإنه باطل. ولما بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية، القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال إنها غير صحيحة، أو يقال: إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها، ثم إن جوزنا التأويل: اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم تجوز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله - تعالى -. فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات. وبالله التوفيق"1. وعلى هذا اعتمد المتكلمون في ألفاظهم ومصطلحاتهم في العقيدة، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - عن الطوائف المخالفة لأهل السنة في مسائل العقيدة ومصطلحاتها: "ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء، يضع كل فريق لأنفسهم قانوناً فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعاً له، فما وافق قانونهمقبلوه، وما خالفه لم يتبعوه"2. ويقول عن اعتمادهم العقل في إثبات الألفاظ ونفيها: "..فإنكم تدعون أن هذه الأمور معلومة بالعقل لا بالسمع، وإطلاق الألفاظ ونفيها لا تقفون أنتم فيه عند الشرع، فالواجب على أصولكم أن ما علم بالعقل ثبوته، أو انتفاؤه، اتبع من غير مراعاة للفظ"3. ويقول الإمام أبو القاسم التيمي4: "فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقلفإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعاً للمعقول، وأما أهل السنة؛   1 - أساس التقديس ص 220 - 221 وانظر: المطالب العالية 9/116 - 117. 2 - درء التعارض 1/6. 3 - المرجع السابق2/432. 4 - هو الإمام العلامة الحافظ إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي بن أحمد القرشي، التيمي، الطلحي، الأصبهاني، الملقب بقوام السنة، ولد سنة 457هجرية، وتوفي سنة 535 هجرية. انظر: السير 20/80، شذرات الذهب 4/105، الأعلام 1/323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 قالوا: الأصل في الدين الاتباع والمعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي، وعن الأنبياء، ولبطل الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء، ولو كان الدين بني على المعقول لجاز للمؤمنين أن لا يقبلوا شيئاً حتى يعقلوا"1. وقد انتقد أهل السنة قانون تقديم العقل، وألفوا المصنفات في إبطاله، ومن ذلك كتاب درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، والصواعق المرسلة للإمام ابن القيم - رحمه الله -، وغيرها، وبيّنوا أنه يستحيل تعارض النقل الصحيح مع العقل الصريح.   1 - الحجة في بيان المحجة 1/320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 المصدر الثاني: الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي . لقد أثرت الفلسفة اليونانية على كثير من المتكلمين فأدخلوا بعض المصطلحات التي عربوها من الألفاظ اليونانية في العقيدة، وأبقوها على مدلولها المخالف للعقيدة الصحيحة، وقد عاصروا حركة ترجمة الكتب اليونانية، حيث إنه لما عربت الكتب اليونانية في حدود المئة الثانية وقبل ذلك، أخذها أهل الكلام وأدخلوا فيها من أنواع الباطل في الأمور الإلهية ما ضل به كثير منهم1. فأبو الحسن الأشعري2 يقرر أن مذهب أبي الهذيل العلاف3 في الصفات أخذه عن أرسطاطاليس، والشهرستاني4 يصل مذهب العلاف بالفلسفة اليونانية، وأنه وافق الفلاسفة في أن الباري - تعالى - عالم بعلم وعلمه ذاته5. وأبو الهذيل أول من وضع مذهب الجزء الذي لا يتجزأ في الإسلام، وهو مذهب فلسفي اختلف في مصدره6. وأما النظام7 فيقول الشهرستاني عنه إنه "طالع كثيراً من كتب الفلاسفة، وخلط   1 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/323. 2 - هو الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم الأشعري، تنتهي نسبته إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري، ولد سنة 260هجرية، متكلم بصري، صاحب مصنفات عديدة، أقام مدة على الاعتزال ثم رجع عنه وسلك طريقةابن كلاب وأيدها بمناهج كلامية، وعليها سار المنتسبون إليه من الأشاعرة، ثم إنه ترك ذلك كله وانتسب إلى الإمام أحمد، وأعلن رجوعه إليه في مؤلفاته الأخيرة كالإبانة. توفي سنة 330 هجرية. انظر: تبيين كذب المفتري لابن عساكر ص 34، 146، شذرات الذهب 2/303، الملل والنحل1 /32، درء التعارض 2/16. 3 - رأس المعتزلة أبو الهذيل محمد بن الهذيل البصري العلاف، صاحب التصانيف، الذي زعم أن نعيم الجنة وعذاب النار ينتهي، أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل تلميذ واصل بن عطاء الغزال، توفي سنة سبع وعشرين ومئتين، ويقال بقي إلى سنة خمس وثلاثين. انظر: السير10/542 - 543. 4 - محمد بن عبد الكريم بن أحمد، أبو الفتح الشهرستاني، كان إماماً في علم الكلام وأديان الأمم ومذاهب الفلاسفة، ولد سنة 467 هجرية، في شهرستان، اتهم بالإلحاد والتشيع ودافع عنه السبكي، له من المؤلفات الملل والنحل، ونهاية الإقدام في علم الكلام وغيرها، توفي في بلده سنة 548 هجرية، انظر: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/323 - 324، سير أعلام النبلاء 20/286، الأعلام 6/215. 5 - انظر: مقالات الإسلاميين ص 484 - 485، الملل والنحل 1/30، نشأة الفكر الفلسفي للدكتور النشار 1/444 - 445. 6 - انظر: نشأة الفكر الفلسفي للدكتور علي سامي النشار 1/445. 7 - شيخ المعتزلة صاحب التصانيف أبو إسحاق إبراهيم بن سيار، مولى آل الحارث بن عباد الضبعي البصري المتكلم، تكلم في القدر وانفرد بمسائل وهو شيخ الجاحظ، له تصانيف جمة منها كتاب الطفرة وكتاب الجواهر والأعراض، توفي سنة بضع وعشرين ومئتين. انظر: السير10/541 - 542. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 كلامهم بكلام المعتزلة"1، ويقرر الشهرستاني أن النظاّم أخذ القول بالكمون والظهور2 عن أصحاب هذا المذهب من الفلاسفة وخاصة الطبيعيين لا الإلهيين3. كما وافق الفلاسفة في القول بنفي الجزء الذي لا يتجزأ4. وعموم نظار المسلمين المتقدمين من المعتزلة، والأشعرية، وغيرهم، لم يلتفتوا كثيراً إلى الفلسفة اليونانية، ومنطق أرسطو، إلى أن جاء أبو حامد الغزالي فخلط منطق اليونان بأصول المسلمين5، حيث ألف كتابه معيار العلم في المنطق، وقال في مقدمته: "رتبنا هذا الكتاب معياراً للنظر والاعتبار، وميزاناً للبحث والافتكار، وصيقلاً للذهن، ومشحذاً لقوة الفكر والعقل، فيكون بالنسبة إلى أدلة العقول، كالعروض بالنسبة إلى الشعر..فكل نظر لا يتزن بهذا الميزان، ولا يعاير بهذا المعيار، فاعلم أنه فاسد العيار، غير مأمون الغوائل والأغوار"6. وألف المستصفى في أصول الفقه، ووضع في أوله مقدمة منطقية، وزعم أن من لم يحط بها علماً فلا ثقة بعلومه7. كما صنف في ذلك محك النظر، والقسطاس المستقيم، وقد تأثر به من جاء بعده من المتكلمين، فتكلموا في الأصول بطريقة أهل المنطق اليوناني8. مع أن الغزالي قد رجع عن طريقة الفلاسفة ورد عليهم في الإلهيات كما في كتابه تهافت الفلاسفة.   1 - الملل والنحل 1/53 - 54. 2 - من مذهب النظام أن الله - تعالى - خلق الموجودات دفعة واحدة، على ما هى عليه الآن، معادن ونباتاً وحيواناً وإنساناً، ولم يتقدم خلق آدم - عليه السلام - خلق أولاده، غير أن الله - تعالى - أكمن بعضها فى بعض، فالتقدم والتأخر إنما يقع فى ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها. انظر: الملل والنحل 1/56. 3 - انظر: الملل والنحل 1/56، نشأة الفكر الفلسفي للدكتور علي سامي النشار 1/496، 485، المباحث المشرقية 2/322. والفلاسفة الطبيعيون هم قوم أكثر بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائب الحيوان والنبات، وقد قالوا إن النفس تموت ولا تعود فجحدوا الآخرة، وأنكروا الجنة والنار والقيامة والحساب، وقد كفروا بذلك. والفلاسفة الإلهيون وهم المتأخرون مثل سقراط وهو أستاذ أفلاطون، وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس، وأرسطاطاليس هو الذي وضع التعاليم التي يقرونها من المنطق، والطبيعي والإلهي. وأشهر مقولاتهم التي كفروا بها هي القول بقدم العالم. انظر: المنقذ من الضلال ص20 - 22، الصفدية 1/236 - 237. 4 - انظر: الملل والنحل 1/56، وانظر كلامه عن الجاحظ ونقله عن الفلاسفة 1/75، وانظر المرجع نفسه 1/60. 5 - انظر: الرد على المنطقيين ص 337، شرح الأصفهانية ص 132. 6 - معيار العلم ص 26 - 27. 7 - انظر: المستصفى 1/10. 8 - انظر: الرد على المنطقيين ص 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ومن المتكلمين الذين تأثروا بالفلسفة اليونانية الفخر الرازي، والآمدي، والإيجي1 وغيرهم، يقول مقدم كتاب المحصل: الدكتور حسين آتاي عن الرازي: "إنه استوعب فلسفة أرسطو التقليدية، ثم كان أول من أدخل هذه الفلسفة في علم الكلام. ونتيجة لما قام به الرازي أصبح علم الكلام فلسفة، ويمكن أن نقول بعبارة أخرى إنه جعل تلك الفلسفة كلاماً. وهكذا امتزج علم الكلام بالفلسفة"2. فالرازي يعرض أصول الاعتقاد ممزوجة بالفكر الفلسفي اليوناني، الذي روج له ابن سينا وأتباعه. وقال شيخ الإسلام - رحمه الله - عن الرازي: "أبو عبد الله الرازي فيه تجهم قوي، ولهذا يوجد ميله إلى الدهرية أكثر من ميله إلى السلفية، الذين يقولون إنه فوق العرش..يقرر ذلك أنه احتج في مقدمة هذا العلم الشريف بكلام أرسطو معلم المشائين من الدهرية. ولم يكن عنده من أثارة الأنبياء والمرسلين ما يقدمه على كلام الدهرية"3. ومع تأثر الرازي والآمدي بمصطلحات الفلاسفة، إلا أنهم كانوا يخالفونهم ويعترضون عليهم في كثير مما يذكرونه عنهم بحسب ما يسنح لهم4. أما الفلاسفة المنتسبون للإسلام أمثال الكندي5، والفارابي6، وابن سينا، فقد كان لهم السبق في نقل فلسفة أرسطو وأتباعه، وشرحها، وتأييدها. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -:"والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي وابن سينا إنما هي فلسفة المشائين، أتباع أرسطو صاحب التعاليم"7.   1 - هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار، أبو الفضل الإيجي، كان إماماً في المعقول، قائماً بالأصول والمعاني والعربية، مشاركاً في الفنون، من مؤلفاته: المواقف في علم الكلام، توفي سنة 756هجرية، انظر: الدرر الكامنة 2/322، الأعلام 3/295. 2 - نقلاً عن د. أحمد حجازي السقا في مقدمة المطالب العالية للرازي 1/8. 3 - بيان تلبيس الجهمية 1/122 - 123، وانظر: أساس التقديس للرازي ص 25، 16، والمطالب العالية 1/41، 57، 59، 229، 2/92، وقد أكثر في هذا الكتاب النقل عن الفلاسفة بما يوافقهم فيه تارة، ويعارضهم تارة أخرى. 4 - انظر: الرد على المنطقيين ص 336. 5 - هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الصباح، فيلسوف وأحد أبناء ملوك كندة، اشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى والهندسة، ضرب زمن المتوكل وأخذت كتبه لاتهامه في الدين، ثم ردت إليه، وأصاب عند المأمون منزلة عظيمة. من مؤلفاته: رسالة في الحدود، إلهيات أرسطو، توفي سنة 260هـ. انظر: لسان الميزان 6/305، الأعلام 9/255 - 256، المصطلح الفلسفي عند العرب ص37. 6 - هو محمد بن محمد بن طرخان، أبو نصر الفارابي، تركي الأصل، ولد في فاراب سنة 260 هجرية، وانتقل إلى بغداد فنشأ فيها، يلقب بالمعلم الثاني لشرحه مؤلفات المعلم الأول أرسطو، كان يقول بالمعاد الروحاني وخصه بالأرواح العالمة دون الجاهلة، ويزعم أن الفيلسوف أكمل من النبي؛ وبهذا وغيره كفره شيخ الإسلام، توفي سنة 339 هجرية. انظر: البداية والنهاية 11/224، مجموع الفتاوى 2 /67، 86، الأعلام 7 /242 - 243. 7 - درء التعارض 1/126، وانظر: الرد على المنطقيين ص335، تهافت الفلاسفة ص 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 كما كان إعجابهم بمنطق أرسطو كبيراً، ولهذا ألف كل واحد منهم رسالة في الحدود على قواعد منطق أرسطو ومصطلحاته، وبدءاً من جابر بن حيان المتوفى سنة160هجرية، يتبين لنا تدرج دخول المصطلحات الفلسفية إلى العرب، بما فيها من مصطلحات تخص العلم الإلهي - كما يسمونه -، ورسالته في الحدود تبين انتساب جابر إلى الفلاسفة، حيث يؤيد ذلك النصوص الفلسفية التي تألفت منها تلك الرسالة، وهي تدل دلالة أكيدة على أن معرفة جابر بالفلسفة اليونانية وثيقة وأكيدة1. ثم ننتقل إلى رسالة الحدود والرسوم للكندي المتوفى سنة260 هجرية، ونجد أن كثيراً من التعريفات التي ضمنها رسالته يرجع إلى الفلسفة اليونانية2. أما الفارابي المتوفى سنة 339 هجرية فقد امتلأت رسائله الصغيرة، وكتبه المطولة، على السواء بعدد ضخم من الحدود والرسوم للمصطلحات الفلسفية3. كما نجد الخوارزمي الكاتب المتوفى سنة 387 هجرية قد ألف كتاب مفاتيح العلوم، وأفرد فيه باباً للألفاظ الفلسفية، وباباً للمنطق. وابن سينا ألف رسالة في الحدود والرسوم على نسق رسالة الكندي في الحدود والرسوم، فهي مأخوذة من الفلسفة الأرسطية4، كما ألف الشفا والنجاة في المنطق والإلهيات وهي مليئة بالمصطلحات الفلسفية. يقول ابن سينا في مقدمة كتابه النجاة: "فبدأت بإيراد الكفاية من صناعة المنطق لأنه الآلة العاصمة للذهن عن الخطأ فيما نتصوره ونصدق به، والموصلة إلى الاعتقاد الحق بإعطاء أسبابه ونهج سبله"1. فهؤلاء الفلاسفة خلطوا علوم المسلمين بعلوم اليونان، وجعلوا فلسفة اليونان هي الأصل الذي تبنى عليه العلوم، فأفسدوا بذلك، وحرفوا كثيراً من الألفاظ والمصطلحات في أصول الدين وعلوم الشريعة.   1 - انظر: المصطلح الفلسفي عند العرب للدكتور الأعسم ص 17 - 18، 21، الفهرست لابن النديم ص498 - 499، كشف الظنون 2/1450، 1911، وانظر رسالة الحدود لجابر بن حيان، وهي مطبوعة ضمن كتاب المصطلح الفلسفي ص 164 - 185. 2 - انظر: المصطلح الفلسفي عند العرب ص37، رسالة الحدود والرسوم للكندي ضمن المصطلح الفلسفي ص 189 - 203. 3 - انظر: المصطلح الفلسفي عند العرب ص47، وانظر رسالة الألفاظ المستعملة في المنطق للفارابي وغيرها من مؤلفاته. 4 - انظر: المصطلح الفلسفي عند العرب ص 67. 1 - النحاة 1/6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 المصدر الثالث: الملل والديانات الأخرى . كما أخذ بعض المتكلمين عن الفلسفة اليونانية؛ فقد أخذوا أيضاً من فلسفات الأمم الأخرى. ويذكر البغدادي1أن النظّام كان يغشى في حداثته مجالس أصحاب التثنية2من الفرس، والسوفسطائية3 الذين كانوا يقولون بتكافؤ الأدلة، ثم تردد في شبابه على مجالس الفلاسفة الملحدين، وأخذ عن الثنوية قوله بأن فاعل العدل لا يقدر على الجور والكذب. ومن تأثرهم بالأديان الأخرى تأثر فرقة الخابطية والحدثية4من المعتزلة بالنصرانية؛ حيث أثبتوا بعض أحكام الألوهية للمسيح - عليه السلام -. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وأرباب المقالات تلقوا عن أسلافهم مقالات بألفاظ لهم؛ منها ما كان أعجمياً فعربت، كما عربت ألفاظ اليونان والهند والفرس،   1 - عبد القاهر بن طاهر بن محمد، الأستاذ أبو منصور التميمي البغدادي، من متكلمي الأشاعرة، له مؤلفات كثيرة منها: فضائح المعتزلة، والفرق بين الفرق، وفضائح الكرامية. توفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة. انظر: طبقات الشافعية 2/211 - 212، كشف الظنون1/254. 2 - الثنوية من المجوس وهم أشهر الناس قولا بإلهين، وهم متفقون على أن الإله الخير المحمود هو النور الفاعل للخيرات، وأما الظلمة التي هي فاعل الشرور، فلهم فيها قولان: أحدهما أنه محدث حدث عن فكرة رديئة من النور، والقول الآخر قولهم إن الظلمة قديمة كالنور. وهم قد أثبتوا قديمين لكن لم يجعلوهما متماثلين ولا مشتركين في الفعل، بل يمدحون أحدهما ويذمون الآخر، والثنوية أربع فرق: المانوية والمرقونية والديصانية والمزدكية. انظر: درء التعارض9/346، التمهيد ص78، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص104 - 107، تلبيس ابليس لابن الجوزي ص57، وسيأتي تفصيل الكلام عنهم في البحث ص 310وما بعدها. 3 - السوفسطائية مأخوذة من كلمة يونانية هي سوفسطيقا، ومعناها المغالطات التي قصد مستعملوها أن يظن بها علماً أو فلسفة من غير أن يكونوا كذلك، وسوفسطس معناها حكمة مموهة، وكل من اقتنى القدرة على استعمال ما يظن به بسبب ذلك أنه ذو حكمة، من غير أن يكون كذلك بالحقيقة فهو يسمى السوفسطائي. انظر: الألفاظ المستعملة في المنطق للفارابي ص105، بيان تلبيس الجهمية1/322 - 324. 4 - الخابطية أصحاب أحمد بن خابط، وكذلك الحدثية أصحاب الفضل الحدثي، كانا من أصحاب النظام، وطالعا كتب الفلاسفة أيضا، ومن بدعهم إثبات حكم من أحكام الإلهية في المسيح - عليه السلام - موافقة للنصارى على اعتقادهم أن المسيح الذي يحاسب الخلق في الآخرة، وزعم أحمد بن خابط أن المسيح تدرع بالجسد الجسماني، وهو الكلمة القديمة المتجسدة كما قالت النصارى. انظر: الملل والنحل 1/60، الفرق بين الفرق ص277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وغيرهم، وقد يكون المترجم عنهم صحيح الترجمة، وقد لا يكون صحيح الترجمة، ومنها ما هو عربي"1. وكان الفخر الرازي ينقل عن بعض أتباع الصابئة المشركين؛ أمثال أبي معشر البلخي المنجم2، وأكثر نقله عن الصابئة، والمجوس، ومشركي الهند، وبابل، عند كلامه عن السحر والكواكب3. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - عن تقليد هؤلاء المتكلمين للأمم السابقة: "وهؤلاء المحرفة المبدلة في هذه الأمة، من الجهمية، وغيرهم، اتبعوا سنن من كان قبلهم من اليهود والنصارى وفارس والروم، فغيروا فطرة الله - تعالى -، وبدلوا كتاب الله"4.   1 - درء التعارض 1/299. 2 - أبو معشر المنجم جعفر بن محمد البلخي صاحب التصانيف في النجوم والهندسة، قيل كان محدثاً فمكر به ودخل في النجوم وقد صار ابن نيف وأربعين ثم جاوز المئة، ومات في رمضان سنة اثنتين وسبعين ومئتين. انظر: السير13/161، الفهرست ص386. 3 - انظر: أساس التقديس ص 28، بيان تلبيس الجهمية 1/123، 450، المطالب العالية 8/149، 160، 164، 172، 173، 176، 191، 195، 1/250 - 252. 4 - بيان تلبيس الجهمية 1/373. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 المصدر الرابع: الكشف . يعد الكشف المصدر الرئيس للمعرفة عند الصوفية، ومن دخل في التصوف من فلاسفة ومتكلمين، وما وافق الكشف عندهم من الكتاب والسنة أقروه، وما خالف كشفهم تأولوه!!. والكشف عند الصوفية: هو الاطلاع على ما وراء الحجاب، من المعاني الغيبية والأمور الخفية الحقيقية وجوداً أو شهوداً1. وكما نصب المتكلمون العقل حاكماً على النقل، ينصب هؤلاء الصوفية الكشف حاكماً على النقل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض رده على من قدم العقل على النقل: "وهذا الذي ذكره هذا في العقل، ذكره طائفة أخرى في الكشف، كما ذكرهأبو حامد في كتابه الإحياء، في الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول، وذكر أنه لا يستدل بالسمع على شيء من العلم الخبري، وإنما الإنسان يعرف الحق بنور إلهي يقذف في قلبه، ثم يعرض الوارد في السمع عليه، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أولوه"2. قال أبو حامد في بيان الكشف الذي يحصل لبعض الخواص: "القلب مثل المرآة، واللوح المحفوظ مثل المرآة أيضاً، لأن فيه صورة كل موجود؛ وإذا قابلت المرآة بمرآة أخرى حلت صور ما في إحداهما في الأخرى، وكذلك تظهر صور ما في اللوح المحفوظ إلى القلب إذا كان فارغاً من شهوات الدنيا، فإن كان مشغولاً بها كان عالم الملكوت محجوباً عنه، وإن كان في حال النوم فارغاً من علائق الحواس طالع جواهر عالم الملكوت، فظهر فيه بعض الصور التي في اللوح المحفوظ، وإذا أغلق باب الحواس كان بعده الخيال، لذلك يكون الذي يبصره تحت ستر القشر، وليس كالحق الصريح مكشوفاً، فإذا مات أي   1 - انظر: التعريفات للجرجاني ص 235، التوقيف ص 604، المعجم الصوفي د. الحفني ص 208، 238، معجم الكلمات الصوفية لأحمد النقشبندي ص 184، وانظر البحث ص 461وما بعدها. 2 - درء التعارض 5/339 - 340، وانظر: بيان تلبيس الجهمية 1/212، الرد على المنطقيين ص 510. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 القلب بموت صاحبه، لم يبق خيال ولا حواس، وفي ذلك الوقت يبصر بغير وهم وغير خيال، ويقال له: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق - 22] "1. ويبين أنه عن طريق الرياضة والمجاهدة ينفتح له ذلك وأنه يبصر في اليقظة الذي يبصره في النوم فتظهر له أرواح الملائكة والأنبياء والصور الحسنة الجميلة الجليلة، وينكشف له ملكوت السموات والأرض، ويرى ما لا يمكن شرحه ولا وصفه - كما يقول -2. وهذا الذي يقع في قلوب الأولياء هنا يقع في قلوبهم بلا واسطة من حضرة الحق - تعالى - كما يقول الغزالي - فهم مثل علم الأنبياء3. وهو هنا يقترب من الفلاسفة في تعريفهم للنبوة؛ وهو مما أغلظ فيه كثير من العلماء على الغزالي4. وهذا الكشف هو الحاكم على السمع، فما وافق الكشف أخذوه، وما خالف الكشف أولوه، يقول الغزالي: "وحد الاقتصاد بين هذا الانحلال كله وبين جمود الحنابلة دقيق غامض، لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي، لا بالسماع، ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه، نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أولوه. فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد، فلا يستقر له فيها قدم، ولا يتعين له موقف"5. ويقول الرازي في بيان الطريق للكشف وأنه من الطرق الموصلة إلى المعارف المقدسة: "اعلم أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن الطريق إليه من وجهين: أحدهما: طريق أصحاب النظر والاستدلال. والثاني: طريق أصحاب الرياضة والمجاهدة"6. وقال في الطريق الثاني: "وأما الطريق الثاني، وهو طريق أصحاب الرياضة فهو طريق عجيب أكيد قاهر، فإن الإنسان إذا اشتغل بتصفية قلبه عن ذكر غير الله، وداوم بلسان جسده، ولسان روحه على ذكر الله، وقع في قلبه نور وضوء وحالة قاهرة وقوة عالية،   1 - كيمياء السعادة للغزالي ص 24، وانظر: إحياء علوم الدين 3/21. 2 - انظر: كيمياء السعادة ص 25. 3 - انظر: المرجع السابق ص25 - 27. 4 - انظر: الرد على المنطقيين ص 510. 5 - إحياء علوم الدين 1/104، وانظر تعليق ابن تيمية في الدرء 5/339 - 340. 6 - المطالب العالية 1/53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ويتجلى لجوهر النفس أنوار عالية علوية، وأسرار إلهية، وهي مقامات ما لم يصل الإنسان إليها، لا يمكنه الوقوف عليها على سبيل التفصيل"1. وقال أيضاً: "عند الرياضة الشديدة يحصل للنفس كمالات عظيمة، وتلوح لها الأنوار وتتكشف لها المغيبات"2. والنفس قد يحصل لها نوع من الكشف، بالزهد والعبادة والرياضة والتصفية والخلوة، وغير ذلك3، لكن ينبغي أن يربط بالكتاب والسنة، وأن يعلم أن المعارف التي تحصل بالكشف متى خالفت الكتاب والسنة، أو خالفت العقل الصريح، فهي باطلة. فالكشف إذاً من مصادر المعرفة عند الصوفية، وقد سلطوه على ألفاظ الشرع، فما خالف كشفهم تأولوه وحرفوه عن معناه الصحيح إلى ما يوافق كشفهم.   1 - المطالب العالية 1/54. 2 - معالم أصول الدين ص 85. 3 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/266 - 267، مجموع الفتاوى 11/313. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 المبحث الثاني: قواعد المخالفين في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها الأولى: عدم التزام ألفاظ الشرع، وإعمال المجاز والتأويل فيها ... المبحث الثاني: قواعد المخالفين في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها: 1 - عدم التزام ألفاظ الشرع، وإعمال المجاز والتأويل فيها. 2 - عدم التزام معاني اللغة ودلالاتها. 3 - استعمال الألفاظ البدعية. 4 - استعمال الألفاظ المجملة. 5 - التشبه بغير المسلمين في الألفاظ والمصطلحات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 1 - عدم التزام ألفاظ الشرع، وإعمال المجاز والتأويل فيها. يتخذ المتكلمون والفلاسفة العقل مصدراً رئيساً لمسائل العقيدة؛ بما في ذلك ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها، وهم يقصون السمع بعيداً في أمور العقيدة؛ لأنهم يزعمون أن الدلائل اللفظية - وهي السمع - لا تفيد اليقين، يقول الفخر الرازي في تقرير ذلك: "إن التمسك بالدلائل اللفظية، موقوف على أمور عشرة، وكل واحد منها ظني، والموقوف على الظني: ظني، ينتج أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد إلا الظن"1. ثم بين تلك الأمور العشرة وهي: نقل مفردات اللغة، ونقل النحو والتصريف، وعدم الاشتراك، وعدم إرادة المجاز، وعدم الإضمار والحذف، وعدم التقديم والتأخير، وعدم المخصص، وعدم المعارض النقلي، وعدم المعارض العقلي، وأن يكون الدليل النقلي قطعي الدلالة والمتن، وأن تكون دلالته مانعة من النقيض2. وبهذا طرحوا دلالة السمع لأنها في نظرهم ظنية. وإذا تعارض العقل والنقل - في نظرهم - قدموا العقل لأنه قطعي الدلالة، وأما النقل فإما أن يرفضوه لأنه غير صحيح - بزعمهم - أو يشتغلوا بتأويله لأن ظاهره غير مراد! 3. يقول الغزالي: "كل خبر مما يشير إلى إثبات صفة للباري - تعالى - يشعر ظاهره بمستحيل في العقل، نظر: إن تطرق إليه التأويل قبل وأول، وإن لم يندرج فيه احتمال تبين على القطع كذب الناقل"1.   2 - المطالب العالية 9/114 - 118، وانظر: المحصل ص 51، المواقف ص40. 3 - انظر: أساس التقديس ص 220 - 221، المستصفى 2/137 - 138. 1 - المنخول للغزالي ص 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ويقول أبو المعين النسفي1: "إن حمل الآيات على ظواهرها والامتناع عن صرفها إلى ما يحتمله من التأويل، يوجب تناقضاً فاحشاً في كتاب الله - تعالى -"2. ومن الأمثلة لذلك قول الرازي: "لما ثبت بالدليل أنه - سبحانه - منزه عن الجهة والجسمية، وجب علينا أن نضع لهذه الألفاظ الواردة في القرآن والأخبار محملاً صحيحاً، لئلا يصير ذلك سبباً للطعن فيها"3. وتأويلهم تحريف للفظ عن معناه الصحيح، وهم يستعينون على ذلك بغرائب المجازات، وبعيد اللغة، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وأما أهل التحريف والتأويل فهم الذين يقولون إن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال إلا ما هو الحق في نفس الأمر، وإن الحق في نفس الأمر هو ما علمناه بعقولنا، ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات، التي يحتاجون فيها إلى إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة، وإلى الاستعانة بغرائب المجازات والاستعارات"1. ومن مظاهر عدم التزامهم ألفاظ الشرع واستبدالهم غيرها من الألفاظ؛ أن كتب العقائد التي يؤلفونها مليئة بألفاظ لم تجيء في الشرع، ومع ذلك هي عمدة مسائلهم، كحديثهم عن الجوهر والعرض والجسم والواجب والتحيز والجهة والمركب والمنقسمونحوها، فمثل هذه المسائل ليست هي أصول الدين - كما زعموا -، لأن أصول الدين هي ما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - 5، أما هذه الألفاظ فلم يذكرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا صحابته من بعده في مسائل أصول الدين، مما يدل على أنها محدثة مبتدعة، وكل بدعة ضلالة. وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك وهم الذين يطرحون النصوص، ولا يرون حجيتها في العقائد، وهم الذين يرون أن الأنبياء قصدوا ظواهر النصوص لإفهام العامة، وإن كان هذا الظاهر باطلاً ولكن للمصلحة فقط، وهؤلاء يسميهم ابن تيمية - رحمه الله - أهل   1 - الشيخ أبو المعين ميمون بن محمد النسفي الحنفي، من أشهر علماء الماتريدية، له مؤلفات كثيرة منها تبصرة الأدلة، وبحر الكلام توفي سنة ثمان وخمسمائة. انظر: الجواهر المضية3/527، كشف الظنون1/225، 337، 484، 563، 569. 3 - أساس التقديس ص 109. 1 - درء التعارض 1/12 وانظر بيان تلبيس الجهمية 1/523. 5 - انظر: درء التعارض 1/24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الوهم والتخييل1، ومنهم ابن سينا فهو يقول: "أما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد، وهو أن الشرع والملل الآتية على لسان نبي من الأنبياء، يرام بها خطاب الجمهور كافة، ثم من المعلوم الواضح أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد؛ من الإقرار بالصانع موحداً، مقدساً عن الكم، والكيف، والأين، والمتى، والوضع، والتغير.. ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور"2. ويستبعد إرادة المجاز والاستعارة في آيات التوحيد لأنه لا يرى حجيتها مطلقاً، بل يرى أنها جاءت لإفهام الجمهور، وإن كان كذباً، فيقول: "ثم هب الكتاب العربي جائياً على لغة العرب، وعادة لسانهم من الاستعارة والمجاز، فما قولهم في الكتاب العبراني كله، وهو من أوله إلى آخره تشبيه صرف … فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة لخطاب الجمهور بما يفهمون، مقرباً ما لا يفهمون إلى أفهامهم بالتشبيه، والتمثيل..فكيف يكون ظاهر الشرع حجة في هذا الباب؟! "1، وهذا كفر بكتاب الله - تعالى -. وهؤلاء وأولئك جعلوا الألفاظ المبتدعة المجملة هي ألفاظ العقيدة التي لا يعرفها إلا الخواص، وأعرضوا عن ألفاظ الشرع، يقول شيخ الإسلام: "وهؤلاء جعلوا هذه الألفاظ المبتدعة المجملة أصلاً أمروا بها، وجعلوا ما جاء به الرسول من الآيات والأحاديث فرعاً يعرض عنها ولا يتكلم بها فكيف يكون تبديل الدين إلا هكذا! "4. فالمتكلمون والفلاسفة لا يلتفتون إلى ألفاظ الشرع، وإن استعملوها أعملوا فيها التأويل والمجاز.   1 - درء التعارض 1/8 - 9. 2 - الأضحوية في المعاد ص 97 - 98. 1 - المرجع السابق ص 102 - 103. 4 - التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى 5/14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الثانية: عدم التزام معاني اللغة ودلالاتها ... 2 - عدم التزام معاني اللغة ودلالاتها. لا يلتزم كثير من المتكلمين والفلاسفة معاني اللغة ودلالاتها في أبواب العقائد، وذلك لأن العقل عندهم إذا دل على شيء، وجب تأويل الألفاظ التي في النصوص، وتطويعها لتوافق عقولهم، وإن كان مخالفاً لدلالة اللغة. يقول ابن عقيل1في بيان مذهبه في قبول أخبار الآحاد: "يجب قبولها حيث تلقاها أصحاب الحديث بالقبول، ويجب تأويلنا لبعضها على ما يدفعها عن ظاهرها، وإن كان من بعيد اللغة ونادرها، وهذا هو اعتقادنا "1. فهم يفسرون اللفظ بمعنى بعيد جداً ولا يحتمله اللفظ في ذلك الموضع، بل هو كما قال من بعيد اللغة ونادرها. وبعض المتكلمين يحمل اللفظ معنى ليس هو من معانيه في لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وهم اصطلحوا بتلك العبارات على معان غير معانيها في لغة العرب، فتبقى إذا أطلقوا نفيها لم تدل في لغة العرب على باطل، ولكن تدل في اصطلاحهم الخاص على باطل"3. ومن الأمثلة على عدم التزامهم معاني اللغة في ألفاظ العقيدة، تفسيرهم الاستواء بالاستيلاء، وقد رد الإمام ابن القيم على هذا التحريف من اثنين وأربعين وجهاً، ومما قال في بيان مخالفتهم للغة: "إن أهل اللغة لما سمعوا ذلك أنكروه غاية الإنكار ولم يجعلوه من لغة العرب. قال ابن الأعرابي وقد سئل: هل يصح أن يكون استوى بمعنى استولى؟ فقال: لا تعرف العرب ذلك. وهذا هو من أكابر أئمة اللغة"2. ومن الأمثلة كذلك تعريفهم للواحد بأنه الذي لا ينقسم، أو أنه ما ليس بجسم، قال أبو المعالي: "الواحد في اصطلاح الأصوليين الشيء الذي لا ينقسم، ولو قيل الواحد هو   1 - الإمام العلامة البحر شيخ الحنابلة، أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله البغدادي الظفري الحنبلي، المتكلم صاحب التصانيف، أخذ علم العقليات عن شيخي الاعتزال أبي علي بن الوليد وأبي القاسم بن التبان، صاحبي أبي الحسين البصري فانحرف عن السنة، له كتاب الفنون، وهو كتاب ضخم يقع في مجلدات عديدة. توفي سنة 513هـ. انظر: السير19/443 - 447. 1 - المسودة في أصول الفقه لآل تيمية ص 248 - 249. 3 - درء التعارض 1/223. 2 مختصر الصواعق المرسلة 2/320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الشيء لوقع الاكتفاء بذلك، والرب - سبحانه وتعالى - موجود، فرد، متقدس عن قبول التبعيض والانقسام"1. وقد علق شيخ الإسلام - رحمه الله - على تعريفاتهم مبيناً مخالفتها للشرع والعقل واللغة، وقد سبق بيان ذلك، ونوضح هنا مخالفتهم للغة، قال - رحمه الله -: "أما في اللغة، فإن أهل اللغة مطبقون على أن معنى الواحد في اللغة ليس هو الذي لا يتميز جانب منه عن جانب، ولا يرى منه شيء دون شيء، إذ القرآن ونحوه من الكلام العربي، متطابق على ما هو معلوم بالاضطرار في لغة العرب، وسائر اللغات، أنهم يصفون كثيراً من المخلوقات بأنه واحد، ويكون ذلك جسماً، إذ المخلوقات إما أجسام، وإما أعراض عند من يجعلها غيرها وزائدة عليها. وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحداً، امتنع أن يكون في اللغة معنى الواحد الذي لا ينقسم، إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم، وأنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء..بل لا يوجد في اللغة اسم واحد إلا على ذي صفة ومقدار"2. وهكذا هم في أغلب اصطلاحاتهم التي اصطلحوا عليها في العقائد، فهم كما قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "عامة ألفاظهم الاصطلاحية لا يريدون بها ما هو المعروف في اللغة من معناها، بل معاني اختصوا هم بالكلام فيها نفياً وإثباتاً، ولهذا قال الإمام أحمد فيهم: يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم"2.   1 - الإرشاد ص 520 وانظر الإنصاف ص 33 - 34 لمع الأدلة ص 98. 2 - بيان تلبيس الجهمية 1/482 - 483، وانظر: 1/492 - 493 من المرجع نفسه. 2 - المرجع السابق 1/474 وانظر درء التعارض 1/222 - 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الثالثة: استعمال الألفاظ البدعية ... 3 - استعمال الألفاظ البدعية. لما استغنى المتكلمون والفلاسفة عن ألفاظ الشرع وقدحوا في إفادتها القطع في العقائد؛ استحدثوا ألفاظاً ومصطلحات في مسائل العقيدة، وذلك كتسميتهم الصفات أعراضاً، وكاستعمالهم لفظ الجسم، والجهة، والتحيز، والأحوال، والعقل، والنفس، والمادة، والتركيب، والجزء، والعلة، والمعلول، ونحوها، وإطلاقها نفيا أو إثباتا على الله - تعالى -. ومن ذلك أن المعتزلة جعلوا أصول الدين خمسة وهي التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأرادوا بها معان أخرى غير ما جاء في الشرع1، بل استحدثوا مسألة المنزلة بين المنزلتين، إذ لا وجود لها في كتاب الله ولا سنة رسوله. كما نجد أن أهم المسائل التي يتحدث عنها المتكلمون هي نفي الجسم عن الله، ونفي الأعراض عنه، وأنه ليس بجوهر، ولا متحيز ولا في جهة2. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وإثبات لفظ الجسم ونفيه بدعة لم يتكلم به أحد من السلف والأئمة، كما لم يثبتوا لفظ التحيز ولا نفوه، ولا لفظ الجهة ولا نفوه، ولكن أثبتوا الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة ونفوا مماثلة المخلوقات"1. ومن المصطلحات التي يهتمون بها ويُعنون بشرحها في كتبهم دليل الحدوث والأعراض4، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وكذلك الاستدلال على حدوث العالم بطريق الجسم والعرض، إنما ابتدعها في الإسلام هؤلاء، وهذا أصل علم الكلام الذي   1 - انظر: شرح الأصول الخمسة ص128 - 148، شرح الطحاوية 2/403. 2 - انظر: الإرشاد ص42 - 47، التمهيد ص41 - 43، الشامل لأبي المعالي 1/48، 59، 61، 68، أساس التقديس ص30 وما بعدها، المطالب العالية 2/25 - 57، 115. 1 - بيان تلبيس الجهمية 1/9. 4 - انظر على سبيل المثال: شرح الأصول الخمسة ص 92 - 95، المحيط بالتكليف للقاضي عبد الجبار ص 35 وما بعدها، الإنصاف للباقلاني ص 16 - 18، الإرشاد ص17 - 20، الشامل 1/34 - 112، المطالب العالية 1/200، 4/13 - 29، 241 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أطبق على ذمه أئمة الإسلام الأولين والآخرين، ولما ابتدع هؤلاء القول بأنه ليس بجسم ولا جوهر، عارضهم الطائفة الأخرى من الشيعة وغيرهم فقالوا: بل هو جسم"1. هذه أهم المسائل التي يبحثها المتكلمون في كتبهم، ويلاحظ أنها مسائل تبحث مصطلحات مبتدعة ليست هي من أصول الدين الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا غاية بحث المتكلمين، ولذا اعترف كثير منهم في لحظاته الأخيرة بعدم جدوى البحث الذي أضاع عمره فيه2.   1 - بيان تلبيس الجهمية 2/499. 2 - انظر: نهاية الإقدام للشهرستاني ص 3، درء التعارض 1/159 - 162، مجموع الفتاوى 4/72 - 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الرابعة: استعمال الألفاظ المجملة ... 4 - استعمال الألفاظ المجملة. استعمل المتكلمون والفلاسفة ألفاظاً مبتدعة، حيث وضعوا لها معنى لم يرد في الشرع، وكان من هذه الألفاظ المبتدعة ألفاظ فيها إجمال وإبهام فهي تحتمل معنى حقاً، وتحتمل أيضا معنى باطلاً، وهم يلبسون من خلالها على عوام الناس. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وهذا الكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس، هو الذي يتضمن الألفاظ المتشابهة المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة، وتلك الألفاظ تكون موجودة مستعملة في الكتاب والسنة وكلام الناس، لكن بمعان أخر غير المعاني التي قصدوها هم بها، فيقصدون هم بها معاني أخر فيحصل الاشتباه والإجمال"1. ثم بين - رحمه الله - بعض الأمثلة لهذه الألفاظ التي يستخدمون فقال: "كلفظ العقل، والعاقل، والمعقول، فإن لفظ العقل في لغة المسلمين إنما يدل على عرض إما مسمى مصدر عقل يعقل عقلاً، وإما قوة يكون بها العقل وهي الغريزة، وهم يريدون بذلك جوهراً مجرداً قائماً بنفسه. وكذلك لفظ المادة والصورة، بل وكذلك لفظ الجوهر والعرض، والجسم والتحيز، والجهة والتركيب والجزء، والافتقار والعلة والمعلول، والعاشق والعشق والمعشوق، بل ولفظ الواحد في التوحيد، بل ولفظ الحدوث والقدم، بل ولفظ الواجب والممكن، بل ولفظ الوجود والموجود والذات وغير ذلك من الألفاظ"2. فهذه الألفاظ بعضها قد ورد في الشرع، ولكنهم وضعوا له معنى يخالف ما ورد في الشرع، وبعضها ألفاظ مجملة مشتبهة، ومع ذلك جعلوها أصول الدين، واعتنوا بها، وتركوا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحرفوه عن معناه الصحيح، وهذه سمة ظاهرة لما يستعملونه من ألفاظ ومصطلحات في العقيدة.   1 - درء التعارض 1/222 وانظر النسعينية ضمن الفتاوى الكبرى 5/26. 2 - درء التعارض 1/222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الخامسة: التشبه بغير المسلمين في الألفاظ والمصطلحات ... 5 - التشبه بغير المسلمين في الألفاظ والمصطلحات. سبق أن ذكرت مصادر المتكلمين والفلاسفة في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها، وأن منها الفلسفة اليونانية، والملل والديانات الأخرى، وهكذا وقعوا في التشبه بغير المسلمين في الألفاظ والمصطلحات من وجوه: الأول: أنهم أخذوا بعض المناهج العامة للألفاظ من الأمم الأخرى كأخذهم التأويل عن اليهود والنصارى1. الوجه الثاني: أنهم أخذوا من ألفاظ الأمم الأخرى، ومصطلحاتهم، بحروفها مع تغيير يسير مثل لفظ الفلسفة والهيولى والأسطقس والسفسطة. الوجه الثالث: أنهم أخذوا ألفاظ الأمم الأخرى ثم ترجموها إلى ألفاظ عربية وجعلوها ترمز إلى معان باطلة ليست هي معانيها في لغة العرب، كتسمية الملائكة عقول، وتسمية الأفلاك بالنفوس، وكلفظ الجوهر والعرض ونحوها. هذه مصادر وقواعد المخالفين في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها، ويلاحظ تعارضها مع قواعد ومصادر أهل السنة، وبعدها عن الاعتماد على ألفاظ القرآن والسنة والمعاني الواردةفيها؛ لذلك ضلوا وأضلوا.   1 - انظر: دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية للدكتور عرفان عبد الحميد ص 216 - 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الفصل الثالث: معنى الحد عند المنطقيين ونقده عند أهل السنة المبحث الأول: معنى الحد في اللغة ... الفصل الثالث: معنى الحد عند المنطقيين ونقده عند أهل السنة. وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: معنى الحد في اللغة. المبحث الثاني: معنى الحد عند المنطقيين . المبحث الثالث: نقد أهل السنة لمعنى الحد عند المنطقيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 المبحث الأول: معنى الحد في اللغة. للحد في اللغة معان منها: 1- أنه المانع والحاجز بين الشيئين: يقول الخليل بن أحمد: "فصل ما بين كل شيئين حدٌّ بينهما"1، وهذا يعني المنع. ويقول ابن فارس: "فالحد الحاجز بين الشيئين، وفلان محدود إذا كان ممنوعاً، ويقال للبواب حداد؛ لمنعه الناس من الدخول، وسمي الحديد حديداً لامتناعه وصلابته وشدته، ويقال حدت المرأة على بعلها وأَحدّت، وذلك إذا منعت نفسها الزينة والخضاب"2. ويرتبط بهذا المعنى" تمييز الشيء عن الشيء"2، إذ أنه يحصل بالفصل بين الشيئين ووضع الحاجز بينهما. 2- والحد طرف الشيء ومنتهاه: يقول الخليل: "ومنتهى كل شيء حده..وحدُّ كل شيء طرف شباته كحد السنان والسيف ونحوه"4. 3- والحد بأس الرجل ونفاذه في نجدته5. 4- والحد الصرف عن الشيء من الخير والشر6. والمعنى الأول والثاني هما الأكثر استعمالاً للفظ الحد؛ ولذا جعلهما ابن فارس المعنيين اللذين تدور عليهما هذه الكلمة.   1 - العين 3/19 وانظر الصحاح 2/462 لسان العرب 3/40 القاموس المحيط ص 352. 2 - معجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/3 - 4، وانظر: الصحاح 2/462، لسان العرب 3/40، القاموس المحيط ص 352. 2 - القاموس المحيط 352. 4 - العين 3/19 - 20، وانظر: معجم مقاييس اللغة 2/3 - 4، الصحاح 2/462. 5 - انظر: العين 3/19 - 20، القاموس المحيط ص 352. 6 - انظر: العين 3/19 - 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 المبحث الثاني: معنى الحد عند المنطقيين . يعرف أهل المنطق الحد بأنه قولٌ دالٌ على ماهية الشيء1. ويوضح هذا التعريف ابن سينا بقوله عن الحد أنه: "القول الدال على ماهية الشيء؛ أي كمال وجوده الذاتي، وهو ما يتحصل له من جنسه القريب2وفصله3"1. ولذلك يعرف بعضهم الحد بأنه ما ألف من جنس وفصل5. ويقول ابن سينا:" فالحدود تفيد تصور ما لا يكون بين التصور من موضوعات الصناعة، ومن عوارض الصناعة"6. والتصور عندهم هو العلم بذوات الأشياء7. فالحد عند المنطقيين اسم جامع لكل ما يعرف التصور، وهو القول الشارح2. فلا بد أن يكون الحد مصوراً لِكُنْه الشيء، ومبيناً لحقيقته من خلال ذاتياته9، لذا كان من شروط الحد عندهم أن يأتي بالجنس القريب، وجميع الفصول الذاتية. يقول الغزالي: "والمخلصون إنما يطلبون من الحد تصور كنه الشيء، وتمثل حقيقته في نفوسهم، لا لمجرد التمييز"10. وقالوا إن الغرض من الحد "هو الإحاطة بجوهر المحدود على الحقيقة، حتى لا يخرج منه ما هو فيه، ولا يدخل فيه ما ليس منه"3.   1 - انظر: منطق أرسطو 2/449 - 450، الحدود والرسوم لابن سينا ضمن كتاب المصطلح الفلسفي عند العرب ص 232 - 233، معيار العلم ص 255، محك النظر للغزالي ص 104 - 105، الفارابي في حدوده ورسومه للدكتور جعفر آل ياسين ص 203 - 204، الرد على المنطقيين ص 8، درء التعارض 3/320، روضة الناظر لابن قدامة 2/10، التعريفات ص 116. 2 - الجنس سبق التعريف به ص28من البحث. 3 - الفصل كلي يحمل على الشيء في جواب أي شيء هو في جوهره. انظر: معيار العلم ص 77. 1 - الحدود والرسوم لابن سينا ص 239. 5 - الفارابي في حدوده ورسومه ص 204، وانظر: رسالة الحدود لجابر بن حيان ضمن المصطلح الفلسفي عند العرب ص 165، رسالة الحدود للخوارزمي ضمن المصطلح الفلسفي عند العرب ص 216، 170، المبين للآمدي ص 74. 6 - النجاة 1/90. 7 - انظر: معيار العلم ص253. 2 انظر الرد على المنطقيين ص 5. 9 - الذاتي هو الذي يقوم ماهية ما يقال عليه، فهو عبارة عما يقال على شيء وهو سابق في الفهم على فهم ذلك الشيء المقول عليه، من ضرورة فهمه؛ كالحيوان والناطق بالنسبة للإنسان. انظر: النجاة 1/12، المبين ص72. 10 - معيار العلم ص 254 - 255. 3 رسالة الحدود لجابر بن حيان ضمن المصطلح الفلسفي عند العرب ص 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 المبحث الثالث: نقد أهل السنة لمعنى الحد عند المنطقيين . قبل أن نبين نقد أهل السنة لمعنى الحد عند المنطقيين، يحسن أن نبين معنى الحد عند جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين. أولاً - معنى الحد عند جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين: جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين على خلاف أهل المنطق في تعريفهم للحد وفائدته، فالحد عندهم هو ما يحصل به التمييز للمحدود من غيره1. وقالوا: "إن حد الشيء وحقيقته خاصته التي تميزه"2. وقالوا: الحد تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال3. والحد: "ما أحاط بالمحدود بحيث لا يدخل فيه ما ليس منه ولا يخرج منه ما هو منه"4. وقيل: "هو الجامع المانع، ويقال: المطرد المنعكس"5، وهو يحصل بالخواص اللازمة التي لا تحتاج إلى ذكر الصفات المشتركة بينه وبين غيره6. والخلاصة أنهم يرون أن الحد يفيد تمييز المحدود لا تصوير حقيقته، وهذا التعريف واضح الارتباط بالمعنى اللغوي للحد والذي سبق بيانه.   1 - انظر: الرد على المنطقيين ص 14 - 15، الصفدية 2/295، التمهيد ص 34، شرح الأصول الخمسة ص 40، التعريفات ص 116، التوقيف ص 271. 2 - الرد على المنطقيين ص 15. 3 - انظر: الصفدية 2/295، الدرء 3/320. 4 - التمهيد ص 34، وانظر: الرد على المنطقيين ص 19. 5 - الحدود الأنيقة للأنصاري 2/65. 6 - انظر: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام للدكتور علي سامي النشار 1/39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ثانياً - نقد أهل السنة لمعنى الحد عند المنطقيين: لقد أخطأ المنطقيون في دعواهم أن الحدود تفيد تصوير الحقائق، ولم يكن قولهم في ذلك دقيقاً، ولا مطابقاً للواقع، بل غاية الحد أنه يفيد تمييز المحدود عن غيره، وشرح معناه، ومن وجوه الرد عليهم في ذلك ما يلي: الوجه الأول: أن الحد مجرد قول الحاد ودعواه، فإنه إذا قال: حد الإنسان مثلاً: إنه الحيوان الناطق أو الضاحك، فهذه قضية خبرية، ومجرد دعوى خلية عن حجة. فإما أن يكون المستمع لها عالماً بصدقها بدون هذا القول، وإما أن لا يكون. فإن كان عالماً بذلك ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد. وإن لم يكن عالماً، فمجرد قول المخبر الذي لا دليل معه، لا يفيده العلم. كيف وهو يعلم أنه ليس بمعصوم في قوله؟ فقد تبين أنه على التقديرين ليس الحد هو الذي يفيده معرفة المحدود. فإن قيل الحد مفرد، قيل التكلم بالمفرد لا يفيد، ولا يكون جواباً لسائل، ثم إذا قدر أن الحد هو المفرد فالمفردات أسماء، وغاية السائل أن يتصور مسماها، لكن من أين له إذا تصور مسماها أن هذا المسمى هو المسؤول عنه، وأن هذا المسمى هو حقيقة المحدود؟. فإن قيل يفيده مجرد تصور المسمى من غير أن يحكم أنه هو ذلك أو غير ذلك، قيل فحينئذ يكون هذا كمجرد دلالة اللفظ المفرد على معناه، وهو دلالة الاسم على مسماه، وهذا يحقق أن دلالة الحد كدلالة الاسم. وهذا قول أهل الصواب الذين يقولون: "الحد تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال "، وحينئذ فيقال: لا نزاع بين العقلاء أن مجرد الاسم لا يوجب تصوير المسمى لمن لم يتصوره بدون ذلك، وإنما الاسم يفيد الدلالة عليه والإشارة إليه1.   1 - انظر: الرد على المنطقيين ص 32 - 34، مجموع الفتاوى9/91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الوجه الثاني: أن يقال: لو كان الحد مفيداً لتصور المحدود، لم يحصل ذلك إلا بعد العلم بصحة الحد، فإنه دليل التصور وطريقه وكاشفه، فمن الممتنع أن نعلم صحة المعرَّف المحدود قبل العلم بصحة المعرِّف. والعلم بصحة الحد لا يحصل إلا بعد العلم بالمحدود، إذ الحد خبر عن مخبر هو المحدود، فمن الممتنع أن يعلم صحة الخبر وصدقه قبل تصور المخبَر عنه، من غير تقليد المخبِر وقبول قوله فيما يشترك في العلم به المخبَر1. الوجه الثالث: أن من المعلوم أن أغلب الحقائق والمعلومات، يستقبلها الناس عن طريق الحواس الخمس، وهي التي تساهم في تشكيل التصورات والخرائط المختلفة للأشياء، ويؤثر على هذا التصور مجموعة من العوامل، منها ثقافة الشخص، وخلفيته المعرفية، وقناعاته الخاصة، وبيئته التي نشأ فيها، كما أن لكل واحد منا حاسته الخاصة التي يعتمد عليها أكثر من غيرها. لذلك فكل شخص له صورته الخاصة لذلك الشيء المحدود، والتي قد تختلف عن الصور التي رسمها الآخرون، فالحد إذاً لا يفيد تصوير حقيقة المحدود كما هي عليه، بل تمييزها عن غيرها. الوجه الرابع: أنهم يحدون المحدود بالصفات التي يسمونها الذاتية، ويسمونها أجزاء الحد، وأجزاء الماهية، والمقوّمة لها، والداخلة فيها، ونحو ذلك من العبارات، فإن لم يعلم المستمع أن المحدود موصوف بتلك الصفات امتنع أن يتصوره، وإن علم أنه موصوف بها كان قد تصوره بدون الحد. فثبت أنه على تقدير النقيضين لا يكون قد تصوره بالحد وأما فائدة الحد فهي من جنس فائدة الاسم، وهو التمييز بين الشيء المحدود وغيره. وأئمة المصنفين   1 - انظر: الرد على المنطقيين ص 38 - 39، مجموع الفتاوى9/92 - 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 في صناعة الحدود على طريقة المنطقيين يعترفون بهذا عند التحقيق كأبي حامد الغزالي1، والفارابي2 وابن سينا3. الوجه الخامس: أن التصورات المفردة يمتنع أن تكون مطلوبة، فيمتنع أن تطلب بالحد، وذلك لأن الذهن إما أن يكون شاعراً بها، وإما أن لا يكون شاعراً بها، فإن كان شاعراً بها، امتنع طلب الشعور وحصوله، لأن تحصيل الحاصل ممتنع، وإنما قد يطلب دوام الشعور وتكراره أو قوته. وإن لم يكن شاعراً بها امتنع من النفس طلب ما لا تشعر به، فإن الطلب والقصد مسبوق بالشعور. وإذا لم تكن التصورات المفردة مطلوبة، فإما أن تكون حاصلة للإنسان، فلا تحصل بالحد، فلا يفيد الحد التصوير، وإما أن لا تكون حاصلة، فمجرد حصول الحد لا يوجب تصور المسميات لمن لا يعرفها، فالحاصل أن فائدة الحد من جنس فائدة الاسم4. الوجه السادس: أن يقال: المفيد لتصور الحقيقة عندهم هو الحد التام، وهو الحقيقي المؤلف من الجنس والفصل، ومن الذاتيات المشتركة والمميزة، دون العرضيات التي هي العرض العام5، والخاصة6. وهذا الكلام مبني على الفرق بين الذاتي والعرضي. وقد ذكروا فروقاً ثلاثة بينهما، وقد طعن محققوهم في كل واحد من هذه الفروق، وبينوا أنه لا يحصل بها الفرق بين الذاتي وغيره7.   1 - انظر: معيار العلم ص 270 - 272، الرد على المنطقيين ص 40 - 41. 2 - انظر: الألفاظ المستعملة في المنطق ص 88 - 90، 78، 81، الرد على المنطقيين ص 41 - 42. 3 - انظر: الرد على المنطقيين ص 39 - 40، مجموع الفتاوى 9/93. 4 - انظر: الرد على المنطقيين ص 61 - 62، مجموع الفتاوى9/96 - 97. 5 - العرض العام هو ما يقال على كثيرين مختلفين بالحقائق قولا غير ذاتي؛ كالأسود والأبيض بالنسبة للإنسان. انظر: المبين ص73. 6 - الخاصة عبارة عما يقال على كلي واحد قولاً عرضياً؛ كالكاتب بالنسبة إلى الإنسان. انظر: المبين ص73. 7 - انظر: الرد على المنطقيين ص 62 - 63، 64 - 73، مجموع الفتاوى 9/97 - 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الوجه السابع: أن يقال: قولهم "إن الحد التام يفيد تصوير الحقيقة"، واشتراطهم أن يكون مؤلفاً من الذاتي المميز والذاتي المشترك، إن أريد بالحد التام ما يصور الصفات الذاتية على التفصيل - مشتركها ومميزها -، فالجنس القريب مع الفصل لا يحصل ذلك، وإن أريد بما يدل على الذاتيات ولو بالتضمن أو الالتزام، فالفصل بل الخاصة يدل على ذلك. وإذا عارضهم من يوجب ذكر جميع الأجناس، أو يحذف جميع الأجناس لم يكن لهم عنه جواب إلا أن هذا وضعهم واصطلاحهم. ومعلوم أن العلوم الحقيقية لا تختلف باختلاف الأوضاع. فقد تبين أن ما ذكروه هو من باب الوضع والاصطلاح، الذي جعلوه من باب الحقائق الذاتية والمعارف. وهذا عين الضلال والإضلال1. الوجه الثامن: هو أن اشتراطهم ذكر الفصول التي هي الذاتيات المميزة مع تفريقهم بين الذاتي والعرضي اللازم للماهية غير ممكن. إذ ما من مميز هو من خواص المحدود المطابقة له في العموم والخصوص إلا ويمكن شخصاً أن يجعله ذاتياً مميزاً، ويمكن الآخر أن يجعله عرضياً لازماً2. الوجه التاسع: أن يقال: هذا التعليم دوري قبلي، فلا يصح. وذلك أنهم يقولون: إن المحدود لا يتصور أو لا يحد حداً حقيقياً إلا بذكر صفاته الذاتية. ثم يقولون: الذاتي هو ما لا يمكن تصور الماهية بدون تصوره. فيفرقون بين الذاتي وغير الذاتي أن الذاتي ما يتوقف عليه تصور الماهية، فلابد أن يتصور قبلها. ويقولون تارة: لابد أن يتصور معها. فلا يمكن عندهم أن يتأخر تصوره عن تصور الماهية، وبذلك يعرف أنه وصف ذاتي.   1 - انظر: الرد على المنطقيين ص 73 - 75، مجموع الفتاوى 9/100 - 101. 2 - انظر: الرد على المنطقيين ص 76 - 77، مجموع الفتاوى 9/101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فحقيقة قولهم أنه لا يعلم الذاتي من غير الذاتي حتى تعلم الماهية، ولا تعلم الماهية حتى تعلم الصفات الذاتية التي منها تؤلف الماهية وهذا دور. فإذا كان المتعلم لا يتصور المحدود حتى يتصور صفاته الذاتية، ولا يعرف أن الصفة ذاتية حتى يتصور الموصوف الذي هو المحدود، فيتوقف معرفتها على معرفتها، فلا يعرف هو ولا يعرف الذاتيات. وهذا كلام متين يجتاح أصل كلامهم، ويبين أنهم متحكمون فيما وضعوه، لم يبنوه على أصل علمي تابع للحقائق1. الوجه العاشر: أن الحدود إنما هي أقوال كلية، كقولنا حيوان ناطق، فتصور معناها لا يمنع من وقوع الشركة فيها، وإن كانت الشركة ممتنعة لسبب آخر، فهي إذن لا تدل على حقيقة معينة بخصوصها، وإنما تدل على معنى كلي. والمعاني الكلية وجودها في الذهن لا في الخارج، فما في الخارج لا يتعين، ولا يعرف بمجرد الحد، وما في الذهن ليس هو حقائق الأشياء، فالحد لا يفيد تصور الحقيقة أصلا2. الوجه الحادي عشر: أن الحد من باب الألفاظ، واللفظ لا يدل المستمع على معناه إن لم يكن قد تصور مفردات اللفظ بغير اللفظ. لأن اللفظ المفرد لا يدل المستمع على معناه إن لم يعلم أن اللفظ موضوع للمعنى، ولا يعرف ذلك حتى يعرف المعنى. فتصور المعاني المفردة يجب أن يكون سابقاً على فهم المراد بالألفاظ. فلو استفيد تصورها من الألفاظ لزم الدور، وهذا أمر محسوس، فإن المتكلم باللفظ المفرد إن لم يبين للمستمع معناه حتى يدركه بحسه أو بنظره، وإلا لم يتصور إدراكه له بقول مؤلف من جنس وفصل3.   1 - انظر: الرد على المنطقيين ص 77 - 78، مجموع الفتاوى 9/101 - 102. 2 - انظر: نقض المنطق ص 186 - 187. 3 - انظر: المرجع السابق ص 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الوجه الثاني عشر: أن العلم بوجود صفات مشتركة ومختصة حق، لكن التمييز بين تلك الصفات بجعل بعضها ذاتياً تتقوم منه حقيقة المحدود، وبعضها لازماً لحقيقة المحدود تفريق باطل، بل جميع الصفات الملازمة للمحدود طرداً وعكساً هي جنس واحد؛ فلا فرق بين الفصل والخاصة، ولا بين الجنس والعرض العام. وذلك أن الحقيقة المركبة من تلك الصفات إما أن يعني بها الخارجة، أو الذهنية، أو شيء ثالث. فإن عنى بها الخارجة فالنطق والضحك في الإنسان حقيقتان لازمتان يختصان به، وإن عنى الحقيقة التي في الذهن؛ فالذهن يعقل اختصاص هاتين الصفتين به دون غيره. وإن قيل: بل إحدى الصفتين يتوقف عقل الحقيقة عليها، فلا يعقل الإنسان في الذهن حتى يفهم النطق، وأما الضحك فهو تابع لفهم الإنسان. وهذا معنى قولهم: الذاتي ما لا يتصور فهم الحقيقة بدون فهمه، أو ما تقف الحقيقة في الذهن والخارج عليه. قيل: إدراك الذهن أمر نسبي إضافي. فإن كون الذهن لا يفهم هذا إلا بعد هذا؛ أمر يتعلق بنفس إدراك الذهن، ليس هو شيئاً ثابتاً للموصوف في نفسه. فلا بد أن يكون الفرق بين الذاتي والعرضي بوصف ثابت في نفس الأمر، سواء حصل الإدراك له أو لم يحصل، إن كان أحدهما جزءاً للحقيقة دون الآخر وإلا فلا1. الوجه الثالث عشر: أن الحد إذا كان له جزءان فلا بد لجزئيه من تصور كالحيوان والناطق، فإن احتاج كل جزء إلى حد لزم التسلسل أو الدور. فإن كانت الأجزاء متصورة بنفسها بلا حد - وهو تصور الحيوان، أو الحساس، أو المتحرك بالإرادة - فمن المعلوم أن هذه أعم. وإذا كانت أعم يكون إدراك الحس لأفرادها أكثر. فإن كان إدراك الحس لأفرادها كافياً في التصور فالحس قد أدرك أفراد النوع. وإن لم يكن كافياً في ذلك لم تكن الأجزاء معروفة، فيحتاج المعرِّف إلى معرِّف، وأجزاء الحد إلى حد2.   1 - انظر: نقض المنطق ص 189. 2 - انظر: المرجع السابق ص 192 - 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الوجه الرابع عشر: أنه لو كان الحد يفيد تصوير حقيقة الشيء، ويدل على كنهه وماهيته، لاتفق الناس في تصورهم للأشياء قبل رؤيتها، ولكن الواقع يثبت خلاف ذلك، فلكل شخص تصوره الخاص عما يُحد له، ويتدخل في ذلك الخلفية المعرفية لكل شخص، ومستوى الفهم، والقدرة على التصور والتخيل. فثبت أن الحد لا يصور المحدود. هذه بعض الردود التي يمكن الرد بها على المنطقيين في تعريفهم للحد، وتضخيمهم لشأنه، ومن خلال هذه الردود يتبين لنا فساد معنى الحد عند المنطقيين، وبطلانه، وأنه غير ممكن، وقد تعسر عليهم تحصيله وفق شروطهم، مع أنهم واضعوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الفصل الرابع: أشهر المؤلفات في مصطلحات العقيدة عرض وتقويم المبحث الأول: كتاب: المبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين التعريف بالمؤلف والكتاب ... الفصل الرابع: أشهر المؤلفات في مصطلحات العقيدةعرض وتقويم. وفيه مباحث: المبحث الأول: كتاب: المبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين. المبحث الثاني: كتاب: التعريفات. المبحث الثالث: كتاب: التوقيف على مهمات التعاريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 المبحث الأول: كتاب: المبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين. 1 - التعريف بالمؤلف والكتاب: كتاب المبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين لسيف الدين، أبي الحسن علي ابن أبي علي محمد بن سالم الثعلبي، وقيل التغلبي، ثم الحموي، ثم الدمشقي، المعروف بالآمدي، ولد في آمد1سنة 551هـ، وانتقل منها بعد ذلك إلى بغداد، ثم مصر، ثم حماة ودمشق، وكانت تنقلاته تلك بسبب ما يتعرض له من مضايقات فقهاء عصره؛ لغلوه في الفلسفة. ألف الآمدي في الأصول والمنطق والجدل، ومن مؤلفاته الإحكام في أصول الأحكام، واختصره في كتابه منتهى السول، وله كتاب أبكار الأفكار ولا يزال مخطوطاً، وقد اختصره في كتابه غاية المرام في علم الكلام، وقد توفي الآمدي سنة 631 هجرية2. ظهر كتاب المبين لأول مرة مطبوعاً عام 1954م في مجلة المشرق البيروتية الكاثوليكية، في العدد الثاني من المجلد الثامن والأربعين، بعناية ولهلم كوتش وأغناطيوس عبده خليفة. ولكنه لم يظهر كاملاً، إذ النسخة الخطية المعتمدة ينقصها قرابة نصف الكتاب3. ثم طبع ضمن كتاب بعنوان "الفيلسوف الآمدي، مع تحقيق كتاب المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين" للدكتور عبد الأمير الأعسم، وكانت طبعته الأولى عام 1407هـ - 1987م. كما طبع بتحقيق الدكتور حسن محمود الشافعي، وكانت طبعته الثانية عام 1413هـ - 1993م. وطبع مع مجموعة رسائل في الحدود، بتحقيق الدكتور عبد الأمير الأعسم، في كتابه المصطلح الفلسفي عند العرب، وكانت طبعته الثانية عام1997م.   1 - آمد أعظم مدن ديار بكر في العراق، وهو بلد قديم حصين ركين، مبني بالحجارة السود على نشز دجلة، محيطة بأكثره مستديرة به كالهلال. انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي 1/56. 2 - انظر: وفيات الأعيان 3/293، البداية والنهاية لابن كثير 13/151، شذرات الذهب 5/144، سير أعلام النبلاء 22/364. 3 - انظر: مقدمة كتاب المبين للدكتور حسن محمود الشافعي ص48، المصطلح الفلسفي عند العرب للدكتور عبد الأمير الأعسم ص110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 2 - عرض محتوى الكتاب : ألف الآمدي كتاب المبين بناء على طلب من وسمه بأنه رئيس العلماء، وسيد الفضلاء، حيث ذكر الآمدي أنه أشار عليه بوضع مختصر جامع لشرح الألفاظ المتداولة في اصطلاح الحكماء والمتكلمين. فألف الآمدي كتاب المبين لهذا الغرض1. وقد عرّف الآمدي في كتابه المبين بكثير من ألفاظ ومصطلحات الفلاسفة والمتكلمين، وغلب على الكتاب مصطلحات الفلاسفة، وهي التي استعملها كثير من المتكلمين المتأخرين حيث امتزجت الفلسفة بعلم الكلام في القرن الذي عاش فيه الآمدي، لذلك نجد أن الألفاظ الفلسفية تغلب على كتابه، بل نجد أن الآمدي في بعض المواضع يعرض المعنى الذي يستخدمه الفلاسفة، ولا يذكر المعنى الذي يستخدمه المتكلمون لذلك اللفظ2. وقد سرد المؤلف في بداية كتابه الألفاظ التي عرف بها في كتابه، والتي تصل إلى مايزيد على المئتي مصطلح وجعل ذلك الفصل الأول من كتابه. وفي الفصل الثاني قام بشرح تلك الألفاظ بإيجاز غير مخل، حيث ركز على الألفاظ الفلسفية والكلامية، وذكر معناها الاصطلاحي، ولم يتعرض لذكر المعنى اللغوي للألفاظ، لذلك استطاع أن يشرح عدداً كبيراً من المصطلحات في مجلد صغير. وبتصفح كتاب المبين نجد أن الآمدي قد بدأ بشرح المصطلحات المنطقية، ثم انتقل إلى المصطلحات التي يستخدمها الفلاسفة والمتكلمون في العلم الطبيعي، ثم ما يستخدمونه في العلم الإلهي. ويلاحظ قلة المصطلحات المتعلقة بالعلم الإلهي - كما يسمونه - وهو العلم الناظر في ذات الإله - تعالى - وصفاته. ولم يلتزم الآمدي بترتيب المصطلحات على حروف الهجاء. بل رتبها حسب الترابط الموضوعي. وكتاب المبين أوسع من الكتب التي تقدمته في الحدود، كالحدود لجابر بن حيان ومثله للكندي وابن سينا والغزالي، من حيث عدد الألفاظ المشروحة. وإن كانت بعض هذه الرسائل أكثر توسعاً من المبين في شرح اللفظ الواحد.   1 - انظر: المبين ص61 - 62. 2 - انظر على سبيل المثال: المبين للآمدي ص 74، وانظر مقدمة المحقق الدكتور حسن الشافعي ص 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وقد تميزت شخصية الآمدي في هذا الكتاب، حيث نجد أنه عند شرحه للألفاظ التي تكررت عند من سبقه، لم ينقل تعريفاتهم؛ بل غيّر كثيراً منها واختصر بعضها ونقحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 3 - المآخذ على الكتاب : 1 - مما يؤخذ على الكتاب أن مؤلفه سرد التعريفات دون تعليق على المعاني التي تحويها بعض تلك التعريفات، مثل تعريف القديم، والنبوات، والحادث1، وذلك لأنه لايرى بطلانها فهي تمثل مذهبه الكلامي الفلسفي. 2 - أن مؤلف الكتاب متكلم أشعري2؛ لذا جاءت بعض التعريفات على المذهب الأشعري مثل تعريف الكلام، القدرة، الإرادة، الجوهر الفرد3، كما أن الكتاب عموما جاء لعرض معاني ألفاظ الفلاسفة والمتكلمين، لذا أغفل معنى تلك المصطلحات عند أهل السنة. 3 - عدم شمول الكتاب لألفاظ المتكلمين، وغلبة الألفاظ المنطقية عليه، بل إنه عرف بعض الألفاظ بمعناها عند الفلاسفة، ولم يذكر المعنى الذي عند المتكلمين كما في لفظ الاسم، الحد4. كما أنه لم يتطرق لألفاظ مهمة في العقيدة عند المتكلمين كلفظ الأحد والتوحيد، والخلق، والإيجاد، والرب، والإله، وأبواب العقيدة الأخرى كالقدر والحكمة والتعليل، وألفاظ الأدلة كدليل التمانع ودليل الحدوث ونحوها. وبالجملة فكتاب المبين يشرح المصطلحات الفلسفية والكلامية، من منظور اختلطت فيه الفلسفة بعلم الكلام، ولا يخدم مذهب أهل السنة. وإن كان قد خدم الباحثين بتقديم تلك المصطلحات لهم.   1 - انظر: المبين ص 118 - 119، 121. 2 - الأشاعرة نسبتهم إلى أبي الحسن الأشعري المتوفى سنة 324هـ، والمتقدمون منهم يثبتون صفات الله تعالى دون تفريق بين الخبرية والعقلية، وينفون الصفات الاختيارية، أما المتأخرون منهم فلا يثبتون من صفات الله إلا سبعاً وهي: السمع والبصر والعلم والكلام والقدرة والإرادة والحياة، ويؤولون الصفات الخبرية أو يفوضونها، وينفون الصفات الاختيارية، ويقولون بالكلام الأزلي، ويتمسكون بدليل الحدوث، وتقديم العقل على النقل، ونفي حجية خبر الآحاد، والتوحيد عندهم هو توحيد الربوبية، ويقولون بالكسب وإنكار التعليل، والتحسين والتقبيح الشرعي فقط، وهم مرجئة في باب الإيمان. وقد كان أبو الحسن في أول أمره على مذهب الاعتزال، ثم خرج منه إلى مذهب وسط بين أهل الحديث والمعتزلة تابع فيه ابن كلاب، وهذا هو الذي عليه جمهور الأشاعرة، ثم رجع أبو الحسن إلى معتقد السلف وأصحاب الحديث وأعلن انتسابه إلى الإمام أحمد - رحمه الله -، وذلك في كتبه المتأخرة كالإبانة، ومقالات الإسلاميين. انظر: الملل والنحل1/94وما بعدها، مجموع الفتاوى 3/228، و4/167، رسالة في الرد على الرافضة لأبي حامد المقدسي ص166 - 167، موقف ابن تيمية من الأشاعرة للدكتور عبد الرحمن المحمود. 3 - انظر: المبين ص 120، 110. 4 - انظر: المرجع السابق ص 70، 74، ومقدمة المبين ص 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 المبحث الثاني: كتاب: التعريفات . 1 - التعريف بالمؤلف والكتاب : مؤلف كتاب التعريفات هو علي بن محمد بن علي الحسيني الجرجاني الحنفي، المعروف بالسيد الشريف، ولد بجرجان سنة740هـ، وهو متكلم مشارك في أنواع من العلوم، ذو فصاحة وطلاقة، ومعرفة بطرق المناظرة، والاحتجاج. من مؤلفاته شرح المواقف في علم الكلام، وحاشية على أنوار التنزيل، وغيرها، توفي بشيراز سنة816هـ1. وكتابه التعريفات كتاب مشهور، اعتمد عليه كثير من طلاب العلم، وقد ألفه الجرجاني بطريقة تسهل الرجوع إليه، حيث رتبه على حروف الهجاء. وقد طبع كتاب التعريفات طبعات كثيرة، فقد طبع في استانبول سنة 1837م2، وطبع في القاهرة سنة1306هـ - 1888م، كما طبع عام1308هـ - 1890م، وأعيد طبعه بعد ذلك مرات عديدة، وبتحقيقات مختلفة منها طبعة بتحقيق إبراهيم الأبياري عام 1405هـ. وطبعة بتحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة عام 1407هـ، وغيرها.   1 - انظر: الضوء اللامع للسخاوي5/328 - 330، الأعلام للزركلي5/7، معجم المؤلفين لعمر كحالة 7/216. 2 - انظر: مقدمة التعريفات للدكتور عبد الرحمن عميرة ص18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 2 - عرض محتوى الكتاب : كتاب التعريفات للجرجاني من الكتب الشاملة لمصطلحات كثير من العلوم، فلم يقتصر على مصطلحات فن بعينه، بل تناول مصطلحات اللغة بفنونها من بلاغة ونحو وعروض، ومصطلحات العقيدة والفقه وأصوله، والفلسفة، والكلام، ومصطلحات الصوفية، ومصطلحات الحديث، وعلوم القرآن، كما تعرض لشيء من مصطلحات الحساب والهندسة والفلك، وعرف بكثير من الفرق. وقد نقل جل تعريفاته من كتب متفرقة، وزاد عليها، وقد جمعها ورتبها ليسهل على طلاب العلم الوصول إلى معاني تلك المصطلحات، فهو يقول: "وبعد فهذه تعريفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 جمعتها، واصطلاحات أخذتها من كتب القوم، ورتبتها على حروف الهجاء، من الألف والباء إلى الياء، تسهيلاً تناولها للطالبين، وتيسيراً تعاطيها للراغبين"1. وقد أوجز في تعريفاته للمصطلحات، وفصّل في الألفاظ التي تحتاج إلى تفصيل، وكان يذكر المعنى اللغوي ثم المعنى الاصطلاحي لبعض الألفاظ. كما أن الجرجاني قد رتب الألفاظ في كتابه على ترتيب حروف الهجاء، دون إرجاع الكلمة إلى أصلها، مما يسهل عملية البحث عن لفظ معين فيه، حيث قسم الكتاب إلى أبواب مرتبة على حروف الهجاء، كل باب خاص بالألفاظ التي تبدأ بحرف واحد، ثم قسم كل باب إلى فصول مراعياً في الفصول الحرف الثاني من الكلمة ثم رتب هذه الفصول على حروف الهجاء، فصار الكتاب مرتباً الألفاظ على حروف الهجاء مراعياً الحرف الأول والثاني فقط. ويلاحظ استشهاد الجرجاني في كتابه بكثير من الآيات والأحاديث مفرقة في كتابه.   1 - التعريفات ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 3 - المآخذ على الكتاب : 1 - مما يؤخذ على كتاب التعريفات أن مؤلفه قد أكثر فيه من مصطلحات الصوفية الباطلة، والتي تحوي معاني فاسدة دون تعليق عليها وبيان ما فيها من باطل1، بل في بعضها التصريح بالوحدة2، كما نقل عن ابن عربي ولم يرد على ما في كلامه من القول بوحدة الوجود3. 2 - أن الجرجاني من متكلمي الأشاعرة، لذا فقد عرف كثيراً من المصطلحات وفق تعريف المتكلمين لها، ومن ذلك - على سبيل المثال - تعريفه للسحر4، وتعريفه للتوحيد5، والإيمان6.   1 - انظر على سبيل المثال: التعريفات ص34، 53، 57، 60، 62، 68، 70، 78، 81، 99، 209، 213، 217، 227، 255، 262، 291، 294، 301، 304، 312، 314، 315. 2 - انظر: التعريفات ص 143 - 144، 158. 3 - انظر: المرجع السابق ص 143. 4 - انظر: المرجع السابق ص 156. 5 - انظر: المرجع السابق ص99. 6 - انظر: المرجع السابق ص 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 3 - جعل آيات الصفات من قبيل المتشابهات وأن فيها إيهام1!. 4 - كما يؤخذ على الكتاب أن مؤلفه استشهد بأحاديث ضعيفة وموضوعة2. 5 - أتى المؤلف بكلمات ليست من قبيل المصطلح، وليست تحمل مدلولاً له خصوصية معينة - حسب تعريفه الذي ذكره -، بحيث يؤتى بها في كتاب مصطلحي؛ كلفظ التبشير والتبذير والفخر والكرم ونحوها3، حيث ذكر دلالتها اللغوية. وبرغم هذه السلبيات إلا أنه قد أفاد الباحثين كثيراً، لاسيما في المصطلحات التي لا تتقيد بمذهب معين.   1 - انظر: التعريفات ص 64. 2 - انظر: المرجع السابق ص 53، 88، 105، 180، 216، 217. 3 - انظر: المرجع السابق ص 77، 212، 234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 المبحث الثالث: كتاب: التوقيف على مهمات التعاريف . 1 - التعريف بالمؤلف والكتاب : مؤلف كتاب التوقيف على مهمات التعاريف هو زين الدين، محمد عبد الرؤوف، بن تاج العارفين، بن علي بن زين العابدين، الحدادي، المناوي، القاهري، الشافعي. الصوفي ولد سنة 952هـ، وتوفي سنة 1031هـ، له مشاركات في عدة علوم، اشتهر بلقب المحقق، ومن مؤلفاته "كنوز الحقائق" في الحديث، و"التيسير" في شرح الجامع الصغير، وشرح قصيدة النفس "العينية" لابن سينا1. وكتاب التوقيف معجم لغوي مصطلحي، طبع بتحقيق الدكتور محمد رضوان الداية، وكانت طبعته الأولى عام 1410هـ - 1990م.   1 - انظر: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، للمحبي 2/416، المنجد في اللغة والأعلام ص547. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 2 - عرض محتوى الكتاب : كتاب التوقيف من كتب المصطلحات الشاملة لأكثر من فن، ويغلب عليه التعريف بمصطلحات الصوفية. كما عرف بكثير من مصطلحات الفقه، واللغة، والحديث، وعلوم القرآن، والعقيدة، والمنطق، وببعض الفرق، وبعض ألفاظ الطب. وقد رتب المصطلحات في كتابه على حروف الهجاء مراعياً الحرف الأول والثاني، وفي بعض المواضع قد يراعي الحرف الثالث والرابع، حيث قسم كتابه إلى أبواب بالنظر إلى الحرف الأول من الكلمة، ثم داخل كل باب رتب الألفاظ على فصول مراعياً الحرف الثاني كترتيب الألفاظ في كتاب التعريفات للجرجاني. وقد جمع المصنف في كتابه - كما يقول في مقدمته - زُبَدَ ثلاثة كتب: الذريعة إلى معرفة ما أصلت عليه الشريعة ولم يسم مؤلفه، ولم أقف على كتاب بهذا العنوان1،   1 - حسب اطلاعي، وانظر مقدمة التوقيف للمحقق الدكتور محمد رضوان الداية ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وتعريفات ابن الكمال1، والمفردات للراغب الأصفهاني. ومن الذين أكثر المناوي النقل عنهم الحرالّي2. وقد رجع المؤلف إلى كتب أخرى، نجد الإحالة عليها في ثنايا كتاب التوقيف، كشرح العقائد للتفتازاني، وشرح العقائد العضدية للسيد الشريف الجرجاني، وغيرها.   1 - جاء في كشف الظنون 1/422، بعد ذكر التعريفات للجرجاني: "وللمولى الفاضل أحمد بن سليمان بن كمال باشا المتوفى سنة أربعين وتسعمائة زاد فيه بعض زيادات مفيدة". فهو يشير إلى أن في تعريفات ابن الكمال زيادات لطيفة على ما في تعريفات الجرجاني، ولم يتيسر لي الحصول على هذا الكتاب. 2 - قال الذهبي في السير 23/47: "الحرالي هو العلامة المتفنن، أبو الحسن علي بن أحمد بن حسن التجيبي، الأندلسي، وحرالة قرية من عمل مرسية، ولد بمراكش، وأخذ النحو عن ابن خروف، ولقي العلماء، وجال في البلاد ولهج بالعقليات، وسكن حماة، وعمل تفسيراً عجيباً ملأه باحتمالات لا يحتملها الخطاب العربي أصلا، وتكلم في علم الحروف والأعداد، وزعم أنه استخرج منه وقت خروج الدجال، ووقت طلوع الشمس من مغربها..وصنف في المنطق وفي شرح الأسماء الحسنىمات سنة سبع وثلاثين وست مئة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 3 - المآخذ على الكتاب : 1 - مما يؤخذ على الكتاب إكثاره من مصطلحات الصوفية، التي تحمل معاني باطلة، دون تعليق عليها بما يشعر بفساد المعنى الذي تحويه، ومخالفته للعقيدة1، فهو يعرض المعاني عرضاً مجرداً عن النقد، ومثل ذلك عرضه لألفاظ أهل الوحدة2. 2 - كما نجد المؤلف يثني على الصوفية في هذا الكتاب، ويسميهم أهل الحق وأهل الحقيقة، وهذا لا يستغرب من المؤلف لكونه صوفياً. 3 - يذكر المؤلف بعض التأويلات الباطلة ولا يرد عليها3، وعند تعريفه لصفة الكلام ذكر مذهب المعتزلة والأشاعرة ولم يذكر مذهب أهل السنة4. 4 - منهج العرض المجرد عن النقد وهو منهج الجرجاني والآمدي - كما سبق -، ومنهج غيرهم من المؤلفين في المصطلح؛ وهو منهج سلبياته كثيرة: منها أنه يلبس على القارئ قليل العلم فيعتقد أن هذا المعنى الباطل حق، كما أنه يوهم أن هذا المؤلف يتبنى هذا المصطلح والفكر الذي يحمله ذلك المصطلح؟!.   1 - انظر على سبيل المثال: التوقيف ص 29، 102، 152، 252، 283، 359، 378، 644، 648، 672، 692، 723، 744، 748. 2 - انظر على سبيل المثال: المرجع السابق ص 290، 543، 549، 554، 555، 569، 570. 3 - انظر على سبيل المثال: المرجع السابق ص 48، 138، 198، 360، 400، 517، 525. 4 - انظر: المرجع السابق ص 607. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 5 - ومما يؤخذ على كتاب التوقيف إطالته في عرض المعنى اللغوي للكلمة، مع أن الغاية من هذا الكتاب هو التعريف الاصطلاحي أو الشرعي للكلمة. 6 - أتى المؤلف بكلمات كثيرة ليست من قبيل المصطلح، وليست تحمل مدلولاً له خصوصية معينة بحيث يؤتى بها في كتاب مصطلحي؛ وذلك مثل كلمة الإخبات، الإدام، الأذى، الأرج، الإزاء، الاستبرق، الجذع، الجذوة، السير، ونحوها. وهذه الكتب التي عرضتها من أهم كتب المصطلحات المتأخرة، وقد خدمت الباحثين كثيراً، ولكن يلاحظ قصورها عن بيان معاني ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها عند أهل السنة، وعدم نقد التعريفات التي تحوي معاني باطلة، مما يؤكد ضرورة العمل في هذا المجال، وإيجاد موسوعة مصطلحات لأهل السنة تبين معاني ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها عندهم، وموقفهم من تحريف المتكلمين لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الباب الثاني: دراسة تطبيقية على ألفاظ توحيد الرب وبية ومصطلحاته الفصل الأول: الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بخصائص الربوبية تمهيد ... الباب الثاني: دراسة تطبيقية على ألفاظ توحيد الربوبية ومصطلحاته. وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بخصائص الربوبية. الفصل الثاني: ألفاظ أدلة توحيد الربوبية ومصطلحاتها. الفصل الثالث: الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بالشرك في الربوبية. الفصل الرابع: المصطلحات البدعية المتعلقة بتوحيد الربوبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 تمهيد: هذا الباب دراسة تطبيقية على ألفاظ ومصطلحات توحيد الربوبية، وقد قسمته إلى أربعة فصول، معتمدة على الوحدة الموضوعية لكل مجموعة من المصطلحات، وفي كل فصل رتبت المصطلحات وفق التناسب والعلاقة المعنوية بينها، فمثلا لفظ الإحياء يليه لفظ الإماتة، ولفظ الخلق يليه الإبداع ثم التأثير ثم الإيجاد وهكذا، وبدأت كل فصل بأقرب الألفاظ لعنوان الفصل، ففصل خصائص الربوبية بدأته بلفظ الرب، وفصل أدلة الربوبية بدأته بلفظ الدليل، وفصل الشرك في الربوبية بدأته بلفظ الشرك في الربوبية، وهكذا. وقد حاولت عند وضعي لخطة البحث المبدئية ترتيب المصطلحات وفق حروف الهجاء، لكن هذا الترتيب أخر المهم، وقدم ما دونه، وأبعد المصطلحات المترابطة في المعنى عن بعضها، مع أن بعضها يكمل بعضاً؛ لذا عدلت عنه ورأيت أن الفهارس تغني عن الترتيب وفق حروف الهجاء. وجمعت في هذه الفصول ما رأيت أهميته من المصطلحات، وما يكثر الحديث عنه في كتب العقائد، وتركت بعض الألفاظ التي يكفي عنها غيرها في المعنى، كلفظ التصرف فهو داخل في معنى الملك، والأمر. وبدأت كل مصطلح ولفظ ببيان معناه في اللغة، ليتضح أصله اللغوي وما طرأ عليه من التغير في الاصطلاح، وليستخدم كدليل لبيان صحة أو ضعف الاستعمال الاصطلاحي لذلك اللفظ. ثم بينت إن كان اللفظ قد ورد في الكتاب والسنة، وعقبت ذلك ببيان تعريف أهل السنة له، وذلك غالباً إذا كان اللفظ شرعياً، أما إذا كان المصطلح ليس شرعياً فقد أبدأ بمعناه عند أهل السنة، وتارة بأول من استعمل ذلك اللفظ من الطوائف، مبينة معناه عندهم، ثم عند من أخذه عنهم، ثم أبين موقف أهل السنة من ذلك اللفظ، وما يحويه من باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الرّب 1 - معنى الرّب في اللغة: الرب في اللغة يراد به المالك، والخالق، والسيد، والمدبر، والمربي، والمصلح، والقيم، والمنعم. يقول ابن فارس: "الراء والباء يدل على أصول. فالأول إصلاح الشيء والقيام عليه. فالرّب: المالك، والخالق، والصاحب. والرّب: المصلح للشيء. يقال ربَّ فلانٌ ضَيعَته؛ إذا قام على إصلاحها.. والله - جل ثناؤه - الرب لأنه مصلح أحوالِ خلقه"1. وقال الجوهري2: "ربُّ كل شيء مالكه، والرّب اسم من أسماء الله - عز وجل -، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة..ورَببت القوم سستهم، أي كنت فوقهم..ورَبَّ الضيعة أي أصلحها وأتمها. ورَبَّ فلان ولده يربه ربا، ورببه، وترببه، بمعنىً أي رباه"3. وقال ابن الأثير4: "الرّب يطلق في اللغة على المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والقيم والمنعم "5. 2 - معنى الرب في الشرع: ورد لفظ الرب كثيراً في كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكان المعنى فيها هو معنى الرب الذي ورد في اللغة. ومن تلك الآيات قوله - تعالى -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة - 2] ، وقوله - تعالى -: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون - 86] وغيرها. يقول الطبري - رحمه الله -: "فربنا - جل ثناؤه - السيد الذي لاشبه له ولا مثل في سؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر"6.   1 - معجم مقاييس اللغة 2/381 - 382، وانظر: الصحاح 1/130 - 132، لسان العرب 1/401 - 403. 2 - الجوهري إمام اللغة، أبو نصر إسماعيل بن حماد التركي، مصنف كتاب الصحاح وأحد من يضرب به المثل في ضبط اللغة، وللجوهري نظم حسن ومقدمة في النحو، وقد مات الجوهري متردياً من سطح داره بنيسابور في سنة ثلاث وتسعين وثلاث مئة، وقيل مات في حدود سنة أربع مئة. انظر: سير أعلام النبلاء17/80 - 82. 3 - الصحاح 1/130 - 132، وانظر: العين 8/257. 4 - المبارك بن محمد بن محمد الشيباني الجزري، أبو السعادات، مجد الدين المحدث اللغوي الأصولي، من مؤلفاته "النهاية في غريب الحديث والأثر"، و"جامع الأصول في أحاديث الرسول". توفي سنة 606 هجرية. انظر: السير21/488، معجم المؤلفين 8/174. 5 - النهاية في غريب الحديث 2/179، وانظر: اللسان 1/401. 6 - جامع البيان 1/62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً" 1. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "والرب هو الذى يربى عبده، فيعطيه خلقه، ثم يهديه إلى جميع أحواله، من العبادة وغيرها"2. وقال أيضا: "فإن الرب - سبحانه - هو المالك، المدبر، المعطي، المانع، الضار، النافع، الخافض، الرافع، المعز، المذل"3. ويقول ابن القيم - رحمه الله -: "والرب هو السيد، والمالك، والمنعم، والمربي، والمصلح، والله - تعالى - هو الرب بهذه الاعتبارات كلها"4. وقال ابن كثير - رحمه الله -: "والرب هو المالك المتصرف"5. وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -: "الرب هو المربي جميع عباده بالتدبير وأصناف النعم، وأخص من هذا تربيته لأصفيائه؛ بإصلاح قلوبهم، وأرواحهم، وأخلاقهم"6. وتعريف المتكلمين للرب مماثل لتعريف أهل السنة، فيقول البغدادي: "والرب بمعنى المالك للمملوكات كلها، وقد يكون بمعنى المصلح للشيء"7، وقال الرازي: "والرب هو المتصرف بالشيء"8. فالرب إذاً صفة ذاتية لله - تعالى -، وهي بمعنى السيد والمالك والمتصرف والمنعم والمربي والمصلح.   1 - أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا فهو مؤمن وإن ارتكب المعاصي 1/62، ح 56. 2 - مجموع الفتاوى 1/22، وانظر: 10/284من المصدر نفسه. 3 - المرجع السابق 1/92. 4 - بدائع الفوائد 4/132، وانظر: المدارج 1/34 - 35. 5 - تفسير القرآن العظيم 1/25. 6 - تيسير الكريم الرحمن للسعدي 1/21. 7 - أصول الدين ص125، وانظر: الأسماء والصفات للبيهقي ص95. 8 - المطالب العالية 9/291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الإحياء 1 - معنى الإحياء في اللغة: لفظ إحياء يرجع إلى الكلمة الثلاثية حيى، والحياة في لغة العرب ضد الموت، والإحياء ضد الإماتة ، يقول ابن فارس: "الحاء والياء والحرف المعتل أصلان: أحدهما خلاف الموت، والآخر الاستحياء الذي هو ضد الوقاحة. فأما الأول فالحياة والحيوان، وهو ضد الموت والمَوَتان، ويسمى المطر حياً لأن به حياة الأرض، ويقال ناقة مُحْي ومُحْيِيَة لا يكاد يموت لها ولد"1. ويقول الخليل: "حيي يحْيا فهو حيٌّ، ويقال للجميع حَيُّوا..والحيوان كل ذي روح.. والحيا مقصور حيا الربيع، وهو ما تحيا به الأرض من الغيث"2. والإحياء البعث بعد الموت، والإحياء الإنشار، أنشر الموتى فنشروا إذا حيوا، وأنشرهم الله أي أحياهم3. وأحيا الله الأرض أخرج فيها النبات. وإحياء الأرض مباشرتها بتأثير شيء فيها من إحاطة أو زرع أو عمارة ونحو ذلك4. وإحياء الليل: السهر فيه بالعبادة وترك النوم5. هذه خلاصة أقوال أهل اللغة في معنى كلمة الإحياء. وفي كتب المتأخرين جاء معنى الإحياء في كشاف اصطلاحات الفنون بأنه: "لغة جعل الشيء حياً أي ذا قوة احساسية أو نامئة"6.   1 - معجم مقاييس اللغة 2/122، وانظر: الصحاح 6/2323، لسان العرب 14/211. 2 - العين 3/317. 3 - انظر: لسان العرب 5/207، المُغَرِّب في ترتيب المعرب لأبي الفتح المطرزي ص452. 4 - انظر: لسان العرب 14 /214، 216. 5 - انظر: المرجع السابق 14/214. 6 - كشاف اصطلاحات الفنون 1/401. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وبتأمل معنى الإحياء في اللغة نجد أنه مصدر للفعل أحيا، وأنه يدور على معنيين: الأول هو إحياء الميت بمعنى بعثه بعد الموت وإرجاع الحياة إليه. الثاني إحياء معنوي كإحياء الأرض بمعنى إخراج النبات فيها، وإحياء الإنسان للأرض بمعنى التأثير فيها بوضع حائط أو زرع ونحو ذلك، وإحياء الليل بمعنى السهر فيه للعبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 2 - معنى الإحياء في الشرع: لقد ورد في الكتاب والسنة فعل الإحياء مثل: أحيا ونحيي ويحيي، وجاء اسم الفاعل من ذلك وهو المحيي، ولوضوح معنى الإحياءلم يعرفه أهل السنة في مؤلفاتهم وإنما تحدثوا عن هذا اللفظ بكلام عام يبين معناه عندهم. وقد ورد الإحياء في الشرع بمعنى نفخ الروح في الجسد، وإيجاد الحياة فيه، يقول الإمام الطبري عند تفسير قوله - تعالى -: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة - 28] ، وقوله: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر - 11] : "..كانوا نطفاً لا أرواح فيها فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها، وإحياؤه إياها - تعالى ذكره - نفخه الأرواح فيها، وإماتته إياهم بعد ذلك قبضه أرواحهم، وإحياؤه إياهم بعد ذلك نفخ الأرواح في أجسامهم يوم ينفخ في الصور، ويبعث الخلق للموعود"1. ويقول الإمام ابن القيم في معنى الإحياء أنه:" إحياء الميت وإيجاد الحياة فيه"2.ويقول ابن كثير في معنى قوله - تعالى -: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ} [الحجر - 23] : "إخبار عن قدرته - تعالى - على بدء الخلق وإعادته، وأنه هو الذي أحيا الخلق من العدم، ثم يميتهم ثم يبعثهم كلهم ليوم الجمع"2. كما جاء الإحياء في بعض الآيات بمعنى إحياء الأرض بإنبات النبات فيها نحو قوله - تعالى -: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم _50] ، قال الإمام الطبري: " {وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم - 19] فينبتها، ويخرج زرعها بعد خرابها وجدوبها"3. وأما الإحياء في قوله - تعالى -: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال _ 24] فالمراد ما يحييكم من الحق، وقيل الإسلام، وقيل الإيمان5. والإحياء المضاف إلى الله - تعالى - في الآيات السابقة صفة فعلية من صفات الرب - سبحانه -، يقول ابن تيمية - رحمه الله -:" معلوم بالسمع اتصاف الله - تعالى - بالأفعال   1 - تفسير الطبري 1/188، وانظر: تفسير ابن كثير 1/68، تفسير القرطبي 12/93، زاد المسير 5/448. 2 - مفتاح دار السعادة 3/209. 2 - تفسير ابن كثير 2/209. 3 - تفسير الطبري 21/30 وانظر تفسير ابن كثير 4/333. 5 - انظر: تفسير الطبري 9/213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الاختيارية القائمة به، كالاستواء إلى السماء، والاستواء على العرش، والقبض والطي والإتيان والمجيء والنزول ونحو ذلك، بل والخلق والإحياء والإماتة"1، وقد ذكر - رحمه الله - الآيات والأحاديث التي تدل على اتصاف الله بذلك، ثم دلل من طريق العقل فقال: "وأما من جهة العقل فمن جوز أن يقوم بذات الله - تعالى - فعل لازم له كالمجيء والاستواء، ونحو ذلك لم يمكنه أن يمنع قيام فعل يتعلق بالمخلوق كالخلق والبعث والإماتة والإحياء"2. كما بين - رحمه الله - اختصاص الرب - تعالى - بهذه الصفة فقال: "وكذلك المسيح لما خلق من الطين كهيئة الطير إنما مقدوره تصوير الطين، وإنما حصول الحياة فيه فبإذن الله، فإن الله يحيي ويميت، وهذا من خصائصه، ولهذا قال الخليل: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} "3. ويقول الطبري - رحمه الله -: "وكان إحياء عيسى الموتى بدعاء الله، يدعو لهم فيستجيب له"4. كما أطلق الإحياء على إبقاء النفس المعصومة، وعدم قتلها، كما في قوله - تعالى -: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة - 32] فقد قال المفسرون إن المراد بذلك أي: "من حرم قتل من حرم الله - عز ذكره - قتله على نفسه، فلم يتقدم على قتله فقد حيي الناس منه بسلامتهم منه وذلك إحياؤه إياها"5. وكذلك جاء في السنة أحيا ويحيي والمحيي، وكان معنى الإحياء في بعض الأحاديث يعني إحياء الموتى نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وإن الله أحيا أباك فكلمه كفاحاً 6"7، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال   1 - درء تعارض العقل والنقل 2/3، وانظر: مفتاح دار السعادة 2 /205. 2 - درء تعارض العقل والنقل 2 /5. 3 - النبوات ص 438. 4 - تفسير الطبري 3/278. 5 - المرجع السابق 6/204، وانظر: تفسير ابن كثير 2/75. 6 - كفاحاً: أي مواجهة من دون حجاب، قال الخليل في كتاب العين 3/65: "المكافحة مصادفة الوجه بالوجه عن مفاجأة،.. وكافحها قبلها عن غفلة وجاها، والمكافحة في الحرب المضاربة تلقاء الوجوه"، وانظر: الصحاح 1/399. 7 - أخرجه الترمذي في كتاب القراءات عن رسول الله، باب ومن سورة آل عمران 5/230ح 3010، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه 15/490، ح 7022، وهو في نوادر الأصول 1/475. قال المنذري في الترغيب والترهيب 2/314: "رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه بإسناد حسن أيضا، والحاكم وقال صحيح الإسناد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت.." 1. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل" 2. وجاء إحياء الأرض بمعنى التأثير فيها بزرع أو حائط ونحوه3، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له" 4. وجاء الإحياء بمعنى إعادة اليقظة بعد النوم، ورد القوة والحركة بعدما أزالهما منا بالنوم5؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" 6، ونحوها من الأحاديث الواردة في دعاء الاستيقاظ من النوم. كما جاء الإحياء بمعنى إعادة إقامة الدين، والشرع، كما في قوله: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" 7. وجاء بمعنى إحياء الليل بالعبادة والصلاة، قالت عائشة رضي الله عنها: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلت العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله"8، قال ابن حجر: "وأحيا ليله: أي سهره فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه بسهره فيه "9. ومن خلال الآيات، والأحاديث السابقة، وشرح أهل السنة لها، يمكن تعريف الإحياء بأنه: صفة فعلية قائمة بذات الرب، ومتعلقة بقدرته ومشيئته، اختص بها، وهي تعني إعادة الحياة إلى الميت، أو إيجادها ابتداء ً فيه.   1 - أخرجه الترمذي كتاب الدعوات، باب ماجاء في فضل التسبيح والتكبيروالتهليل والتحميد 5 /512، ح 3468 وقال حديث حسن صحيح. 2 - أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب الجهاد من الإيمان 1/28، ح 36، وفي كتاب الجهاد والسير، باب تمني الشهادة2/305، ح 2797، كما أخرجه في كتاب التمني، باب ما جاء في التمني ومن تمنى4/349، ح 7226. 3 - انظر: التمهيد 22/286. 4 - أخرجه الترمذي في كتاب الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما ذكر في إحياء أرض الموات 3/662، ح 1378 وقال: "هذا حديث حسن غريب وقد رواه بعضهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا والعمل على هذا الحديث"، وأخرجه أبو داود في السنن كتاب الخراج والإمارة والفيء باب في إحياء الموات 3/178 ح 3073، والنسائي في السنن الكبرى كتاب إحياء الموات باب الحث على إحياء الموات 3/404ح 5756. 5 - انظر: شرح النووي على مسلم 17/35، عون المعبود 13/266، تحفة الأحوذي للمباركفوري 9/256، سبل السلام للصنعاني 4/222. 6 - أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا نام4/155، ح 6312، كما أخرجه برقم 6314، 6324، 7394، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع 4/2083، ح 2711. 7 - أخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب رجم اليهود، أهل الذمة، في الزنى 3/1327 ح 1700. 8 - أخرجه البخاري في كتاب فضل ليلة القدر، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان 2/64، ح 2024. 9 - فتح الباري 4 /316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 3 - معنى الإحياء عند المتكلمين: يتبين معنى الإحياء عند الأشاعرة من خلال تعريفهم للمحيي، يقول البيهقي1: "المحيي ويختص بخلق الحياة"2، ويعرف المحيي مرة أخرى فيقول: "المحيي جاعل الخلق حياً بإحداث الحياة فيه"3، كما يعرف الإحياء بقوله: "الإحياء إنما هو إعادة الحياة إلى من كان حياً فأميت"4. وقال الرازي في تعريف المحيي: "واعلم أنه - تعالى - يحيي النطفة والعلقة بخلق الحياة فيهما، ويحيي الأرض بإنزال الغيث.. يحيي الأجسام بالأرواح، ويحيي الأرواح بالمعارف والواردات الغيبية"5. ويلاحظ على التعريفات السابقة أنها تجعل الإحياء بمعنى الخلق، والخلق عندهم هو المخلوق، فهو صفة بائنة عن ذات الرب، كما أن "الإحياء عندهم هو وجود الحياة في الحي من غير فعل يقوم بالرب، فقد جعلوه محيياً بوجود الحياة في غيره، وكذلك جعلوه مميتاً، وهذا مما عارضهم به المعتزلة، ولم يجيبوا عنه بجواب صحيح"6. يقول عبد القاهر البغدادي وهو يتحدث عن أسماء الله - تعالى -: "أسماء الله - تعالى - على ثلاثة أقسام: قسم منها يستحق لذاته كوصفه بأنه شيء وموجود وذات وغني ونحو ذلك. وقسم منها يستحق لمعنى قام به كالحي والعالم والقادر والمريد والمتكلم والسميع والبصير. وقسم منها يستحقه لفعل من أفعاله كالخالق والغافر ونحو ذلك، وأما ما اشتق منها عن فعله فليس من أسمائه الأزلية"7. ويقول البيهقي مبيناً أنواع صفات الله: "ثم صفات الله - عز اسمه - قسمان: أحدهما: صفات ذاته، وهي ما استحقه فيما لم يزل ولا يزال. والآخر: صفات فعله وهي ما استحقه فيما لا يزال دون الأزل..ثم منه ما اقترنت به دلالة العقل كالحياة والقدرة   1 - البيهقي هو الحافظ العلامة الثبت الفقيه، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخسروجردي الخراساني، له مؤلفات كثيرة منها كتاب السنن، وكتاب الأسماء والصفات، توفي سنة 458هـ. انظر: السير 18/163 - 168، كشف الظنون1/9، 20، 175. 2 - شعب الإيمان للبيهقي 1/66. 3 - الأسماء والصفات للبيهقي ص 95. 4 - شعب الإيمان 1 /168. 5 - شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص 305 - 306. 6 - مجموع الفتاوى 6/317. 7 - أصول الدين 121 - 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام ونحو ذلك من صفات ذاته، وكالخلق والرزق والإحياء والإماتة والعفو والعقوبة، ونحو ذلك من صفات فعله، ومنه ما طريق إثباته ورود خبر الصادق به فقط كالوجه واليدين والعين في صفات ذاته، وكالاستواء على العرش والإتيان والمجيء والنزول ونحو ذلك من صفات فعله..ونعتقد في صفات ذاته أنها لم تزل موجودة بذاته، ولا تزال موجودة به، ولا نقول فيها أنها هو ولا غيره، ولا هي هي ولا غيرها.. ونعتقد في صفات فعله أنها بائنة عنه - سبحانه -، ولا يحتاج في فعله إلى مباشرة {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس - 82] "1. ويقول الجويني2: "من أسمائه ما نقول إنه هو هو؛ وهو كل ما دلت التسمية به على وجوده، ومن أسمائه ما نقول إنه غيره؛ وهو كل ما دلت التسمية به على فعل كالخالق والرازق، ومن أسمائه ما لا يقال إنه هو ولا يقال إنه غيره؛ وهو كل ما دلت التسمية به على صفة قديمة كالعالم والقادر"3. وقال أيضا: "والمرتضى عندنا طريقة شيخنا - رضي الله عنه -، فإن الأسماء تتنزل منزلة الصفات، فإذا أطلقت ولم تقتض نفيا حملت على ثبوت متحقق، فإذا قلنا الله الخالق؛ وجب صرف ذلك إلى ثبوت وهو الخلق، وكان معنى الخالق من له الخلق، ولا ترجع من الخلق صفة متحققة إلى الذات، فلا يدل الخالق إلا على إثبات الخلق، ولذلك قال أئمتنا: لا يتصف الباري - تعالى - في أزله بكونه خالقاً، إذ لا خلق في الأزل، ولو وصف بذلك على معنى أنه قادر كان تجوزاً"4. وقالوا: "وصفات الأفعال كالإحياء والإماتة فإنها غير أيضاً، بمعنى أنها منفكة، لأنها هي تعلقات القدرة التنجيزية الحادثة"5. فالأشاعرة لا يثبتون صفات الأفعال لله - تعالى - ومنها الإحياء، وقد فسروه في التعريفات السابقة بالخلق، والخلق عندهم هو المخلوق، وليس صفة قائمة بذات الله -   1 - الأسماء والصفات ص 137 - 138. 2 - هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، الفقيه الشافعي، ولد في جوين من نواحي نيسابور، خرج إلى مكة فجاورفيها أربع سنين، وبالمدينة فلهذا قيل له إمام الحرمين توفي سنة 478 هجرية، من مؤلفاته البرهان في الفقه، والإرشاد. انظر: وفيات الأعيان 3/167، البداية والنهاية 12/136، الأعلام4/160. 3 - الإرشاد ص 143 - 144. 4 - المرجع السابق ص 143. 5 - شرح جوهرة التوحيد ص80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 تعالى - بل هو من متعلقات القدرة عندهم، فالخلق والإحياء والإماتة، بل وجميع صفات الأفعال يقولون إنها بائنة عنه - سبحانه -، وأنها لا تحقق وصفاً في ذاته. فالخلاصة إذاً هي أن الأشاعرة لا يثبتون صفة الإحياء، وإن كانوا قد عرفوا الإحياء والمحيي بما يوهم أنهم يثبتون هذه الصفة لله. أما الماتريدية1 فإنهم يرجعون صفة الإحياء، بل وجميع صفات الأفعال، إلى صفة التكوين، والتكوين هو إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود2. ويقولون في تعريف التكوين أنه: "صفة معنى قديمة قائمة بالذات العلية تسمى التكوين، زيادة على السبع، فإن تعلقت بالحياة سميت إحياء، وبالموت سميت إماتة وغير ذلك"3. ويقول ملا علي قاري4: "فالصفات الأزلية عندنا ثمانية، لا كما زعم الأشعري من أن الصفات الفعلية إضافات، ولا كما تفرد به بعض علماء ما وراء النهر بكون كل من الصفات الفعلية صفة حقيقية أزلية، فإن فيه تكثير القدماء جداً، وإن لم تكن متغايرة فالأولى أن يقال: إن مرجع الكل إلى التكوين، فإنه إن تعلق بالحياة يسمى إحياءً، وبالموت إماتةً، وبالصورة تصويراً إلى غير ذلك، فالكل تكوين، وإنما الخصوص بخصوصيات المتعلقات"5. وفي دستور العلماء: "والتكوين عند بعض المتكلمين صفة أزلية لله - تعالى -، وهو المعنى الذي يعبر عنه بالفعل، والتخليق، والإيجاد، والإحداث، والاختراع، ونحو ذلك. ويفسر بإخراج المعدوم من العدم إلى الوجود، والمحققون منهم على أنه من الإضافات والاعتبارات العقلية، وعلى أن الحاصل في الأزلي هو مبدأ التخليق، والترزيق، والإماتة، والإحياء، وغير ذلك، وليس ذلك المبدأ سوى القدرة والإرادة"6.   1 - أتباع أبي منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي، وهي فرقة قريبة في أصولها الكلامية من مذهب الأشاعرة، وأهم ما تميزت به هو القول بأزلية التكوين، وهي الصفة الثامنة التي تضيفها الماتريدية على الصفات السبع عند الأشاعرة. انظر: الماتريدية دراسة وتقويماً للشيخ أحمد الحربي. 2 - انظر: التمهيد لأبي المعين النسفي ص 28، شرح الفقه الأكبر ص 35، موسوعة مصطلحات جامع العلوم ص 34. 3 - حاشية العدوي على كفاية الطالب 1 /54. 4 - نور الدين علي بن سلطان محمد الهروي القاري، نزيل مكة المكرمة المتوفى بها سنة أربعة عشر وألف، من علماء الماتريدية، له عدة مؤلفات منها: المرقاة شرح المشكاة، شرح الفقه الأكبر. انظر: البدر الطالع 1/445 - 446، كشف الظنون 1/445، 671، 731. 5 - شرح الفقه الأكبر ص 35. 6 - موسوعة مصطلحات جامع العلوم المسمى دستور العلماء لأحمد نكري ص34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ويتضح من خلال النقول السابقة أن الماتريدية لا تثبت صفات الأفعال على أنها أوصاف حقيقية لذات الرب، وتجعلها صفة واحدة أزلية هي التكوين، وهذه الصفة لا تتعلق بمشيئة الرب. وأما المعتزلة فإنهم ينفون جميع صفات الله - تعالى -، وقد تأولوا الإحياء والإماتة على أنها مخلوق منفصل عن الله - تعالى -، يقول معمر1: " {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك - 2] إنما معناه خلق الإماتة والإحياء "2، وعلق ابن حزم3 عليه بقوله: ".. الموت والحياة هما الإحياء والإماتة بلا شك، لأن الإحياء والحياة هو جمع النفس مع الجسد المركب الأرضي، والموت والإماتة شيء واحد وهو التفريق بين الجسد والنفس المذكورة فقط، وإذا كان جمع الجسد والنفس، وتفريقهما، مخلوقين لله - عز وجل -، فقد صح أن الموت والحياة مخلوقان له - عز وجل - يقينا"4. ويتفق المعتزلة، مع الأشاعرة، وطائفة من الفلاسفة المتأخرين، على أن فعل الله هو عين المفعول، وأن التكوين عين المُكَون، وأن الرب - تعالى - لا يقوم به شيء من الأفعال الاختيارية المتعلقة بقدرته ومشيئته. وقد بين شيخ الإسلام - رحمه الله - أصل النزاع في الأفعال اللازمة والمتعدية، وأن ذلك ناشىء عن نزاع الناس في أصلين5: الأصل الأول: هل يقوم بالرب - تعالى - فعل من الأفعال، فيكون خلقه للسموات والأرض فعلاً فعله غير المخلوق، أو أن فعله هو المفعول والخلق هو المخلوق؟ على قولين، والأول هو المأثور عن السلف قاطبة، وهو قول جمهور أصحاب أحمد، متقدميهم كلهم وأكثر المتأخرين منهم، وهو قول أئمة المالكية والشافعية وأهل الحديث، وهو مذهب   1 - معمر بن عباد السلمي، رأس فرقة المعمرية من المعتزلة. انظر مقالاته في: الفرق بين الفرق ص151 - 155، الملل والنحل1/65 - 70. 2 - الفصل لابن حزم2/92. 3 - أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، عالم الأندلس في عصره، قيل إنه تفقه أولا للشافعي، ثم أداه اجتهاده إلى القول بنفي القياس كله جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النص وعموم الكتاب والحديث، له مصنفات كثيرة منها: الفصل في الملل والنحل، و"المحلى"في الفقه، توفي سنة456هجرية. انظر: السير18/184 - 186، الأعلام4/254. 4 - الفصل2/92. 5 - انظر: مجموع الفتاوى 5 /528 - 536، الدرء 2/18 - 20، 147 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الصوفية والحنفية والكرامية1وكثير من الهشامية2وبعض المعتزلة، وكثير من أساطين الفلاسفة متقدميهم ومتأخريهم. وذهب آخرون من أهل الكلام كالجهمية وأكثر المعتزلة والأشعرية إلى أن الخلق هو نفس المخلوق، وليس لله عند هؤلاء صنع ولا فعل ولا خلق ولا إبداع إلا المخلوقات أنفسها، وهو قول طائفة من الفلاسفة المتأخرين كابن سينا وأمثاله. والأصل الثاني: وهو أن الله - سبحانه - هل تقوم به الأمور الاختيارية المتعلقة بقدرته ومشيئته أم لا؟ فمذهب السلف وأئمة الحديث، وكثير من طوائف الكلام، والفلسفة، جواز ذلك. وذهب نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة، والكلابية3 من مثبتة الصفات إلى امتناع قيام ذلك به. وهو قول الأشاعرة والماتريدية كما سبق ذكر ذلك. وقد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - شبهتهم في هذين الأصلين ورد عليها. كما ذكر الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على اتصاف الله - تعالى - بالأفعال الاختيارية وبين أنها متعلقة بقدرته ومشيئته، وأن الفعل غير المفعول4. ومن وجوه الرد على من نفى قيام الأفعال الاختيارية بذات الرب - سبحانه - ما يلي: أولاً: أن كتاب الله - تعالى - مليء بالآيات التي تدل على أن الله - يفعل متى شاء - سبحانه -، وعلى اتصافه - سبحانه - بالأفعال الاختيارية، ومن ذلك قوله - تعالى -: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}   1 - الكرامية أتباع أبي عبد الله محمد بن كرام السجستاني المتوفى سنة255هـ، وهم يوافقون السلف في إثبات الصفات، ولكنهم يبالغون في ذلك إلى حد التشبيه والتجسيم، وكذلك يوافقون السلف في إثبات القدر، وكذلك يوافقون المعتزلة في وجوب معرفة الله بالعقل، وفي التحسين والتقبيح العقليين، وهم يعدون من المرجئة لقولهم بأن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب. انظر: الملل والنحل1/108 - 113، الفرق بين الفرق ص215 - 225، لسان الميزان لابن حجر 5/353 - 356. 2 - الهشامية نسبة إلى هشام بن الحكم الكوفي الرافضي المشبه، من كبار متكلمي الرافضة، وله نظر وجدل وتواليف كثيرة في الرد على المعتزلة وفي التوحيد وغير ذلك، وتنسب الهشامية أيضا إلى هشام بن سالم الجواليقي، والفريقان جميعاً يدينون بالتشبيه والتجسيم. انظر: التبصير في الدين للإسفراييني ص23 - 24، الملل والنحل 1/184، السير10/543 - 544. 3 - أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان، المتوفى سنة240 هـ، من آرائه: القول بأزلية الصفات، وأن صفات الباري لا تتغاير، وأن العلم لا هو القدرة ولا غيرها، وكذلك سائر الصفات، والكلابية هم مشايخ الأشعرية فإن أبا الحسن الأشعري إنما اقتدى بطريقة أبي محمد بن كلاب، وابن كلاب كان أقرب إلى السلف زمناً وطريقةً. انظر: مقالات الإسلاميين 1/249 - 250، 2/225، الاستقامة لابن تيمية 1/105. 4 - انظر: مجموع الفتاوى 5/529 - 538، 6 /233 وما بعدها 6 /317 - 319، الدرء 2/3 - 146، 2/149 وما بعدها، شرح العقيدة الطحاوية 1/97، خلق أفعال العباد للبخاري ص 186 - 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 [الإسراء - 16] ، وقوله - سبحانه -: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل - 40] ، وقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن - 29] ، وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة - 1] ، إلى غير ذلك من الآيات. كما دلت الأحاديث الصحيحة على ذلك أيضاً، ومنها ما رواه زيد بن خالد قال: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" 1. وقوله - صلى اله عليه وسلم - في حديث الشفاعة: "إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله" 2، ونحوها من الأحاديث. ثانياً: "أن يقال إذا عرض على العقل الصريح ذات يمكنها أن تتكلم بقدرتها، وتفعل ما تشاء بنفسها، وذات لا يمكنها أن تتكلم بمشيئتها، ولا تتصرف بنفسها البتة، بل هي بمنزلة الزَّمِن، الذي لا يمكنه فعل يقوم به باختياره، قضى العقل الصريح بأن هذه الذات أكمل، وحينئذ فأنتم الذين وصفتم الرب بصفة النقص، والكمال في اتصافه بهذه الصفات لا في نفى اتصافه بها"3. ثالثاً: أنهم يبنون نفي قيام الأفعال الاختيارية بالرب - تعالى - على مسألة نفي حلول الحوادث به - سبحانه -، وهو لفظ فيه إجمال، فان أريد بالنفي أنه - سبحانه - لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن، فهذا نفي صحيح، وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية؛ من أنه لا يفعل ما يريد، ولا يتكلم بما   1 - أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب قول الله - تعالى -: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ..} [الواقعة - 82] 1/326، ح 1038، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء 1/83، ح 71. 2 - أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} 3/250 - 251، ح 4712، كما أخرجه برقم 3340، 3361، ومسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها 1/184 ح 194. 3 - مجموع الفتاوى 6/242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 شاء إذا شاء، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان، كما يليق بجلاله وعظمته، فهذا نفي باطل1. وقد رد عليهم في مسألة نفي حلول الحوادث فحول النظار من الفلاسفة والمتكلمين؛ أمثال ابن رشد، والفخر الرازي، وسيف الدين أبي الحسن الآمدي، فضلاً عن ردود أهل السنة عليهم في ذلك2. لكن الرازي والآمدي بعد إبطالهما لحجج نفاة حلول الحوادث، لم يقولا بقيام الأفعال الاختيارية في ذات الله، بل احتجا على نفيها بحجة الكمال والنقصان، وهي قولهم: أن ما يقوم به إن كان صفة كمال كان عدمه قبل حدوثه نقصاً، وإن كان نقصاً لزم اتصافه بالنقص، والله منزه عن ذلك3، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:" وهذه الحجة ضعيفة، ولعلها أضعف مما ضعفوه، فإن لقائل أن يبطلها من وجوه كثيرة: أحدها: أن يقال: القول في أفعاله القائمة به، الحادثة بمشيئته وقدرته، كالقول في أفعاله التي هي المفعولات المنفصلة، التي يحدثها بمشيئته وقدرته، فإن القائلين بقدم العالم أوردوا عليهم هذا السؤال، فقالوا: الفعل إن كان صفة كمال، لزم عدم الكمال له في الأزل، وإن كان صفة نقص، لزم اتصافه بالنقائص، فأجابوهم بأنه ليس صفة نقص ولا كمال"4. وبهذا يتبين أنه ليس لهم دليل عقلي على نفيهم للصفات الاختيارية، التي يسمونها حلول الحوادث، وأما الكتاب والسنة فيدلان على نقيض قولهم، كما دل العقل على ذلك. أما قول المعتزلة والأشاعرة ومن وافقهم إن الفعل عين المفعول، والخلق عين المخلوق فباطل أيضاً، ومما يرد عليهم في ذلك:   1 - انظر: شرح الطحاوية 1/97. 2 - انظر ردود بعض الفلاسفة والمتكلمين على حجج نفاة حلول الحوادث في: مناهج الأدلة ص 141 - 144، الأربعين ص 118 - 120، غاية المرام ص 187 - 193، وقد ذكرها شيخ الإسلام في الدرء 4/27 - 40، 62، 71، مجموع الفتاوى 6/231 - 232، وانظر موقف ابن تيمية من الأشاعرة للدكتور عبد الرحمن المحمود 3/1209 - 1213. 3 - انظر: درء التعارض 4/3، مجموع الفتاوى6/240. 4 - درء التعارض 4/3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أولاً: يقول أبو المعين النسفي: "وقول أكثر المعتزلة، وجميع النجارية، والأشعرية، أن التكوين والمكون واحد قول محال، وهذا لأن القول باتحاد التكوين والمكون كالقول بأن الضرب عين المضروب، والكسر عين المكسور، والأكل عين المأكول، وفساد هذا ظاهر يعرف بالبديهة، فكذا هذا، ولأن التكوين لو كان هو المكون، وحصول المكون بالتكوين، لكان حصول المكون بنفسه لا بالله - تعالى -، فلم يكن الله - تعالى - خالقاً للعالم، بل كان العالم وكل جزء من أجزائه خالقاً لنفسه، إذ حصوله بالخلق، وخلقه نفسه، وكذا يكون عينه خالقاً وعينه مخلوقاً، فهو الخالق وهو الخلق وهو المخلوق، وهذا مع ما فيه من تعطيل الصانع وإثبات الغنية عنه، وإبطال تعلق المخلوقات به، مع هذا كله هو محال"1. ثانياً: أن من المعقول أن المفعول المنفصل الذي يفعله الفاعل، لا يكون إلا بفعل يقوم بذاته، وأما نفس فعله القائم بذاته، فلا يفتقر إلى فعل آخر، بل يحصل بقدرته ومشيئته2، وهذا ظاهر، ومخالفه مغالط. هذه بإيجاز بعض وجوه الرد على المخالفين في الصفات الاختيارية، ومنها الإحياء والإماتة، والخلق، والرزق وغيرها.   1 - التمهيد لأبي المعين النسفي ص 29. 2 - انظر: مجموع الفتاوى 5/531 - 532. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الإماتة 1 - معنى الإماتة في اللغة: الموت في اللغة ذهاب القوة من الشيء، قال ابن فارس: "الميم والواو والتاء أصل صحيح يدل على ذهاب القوة من الشيء، منه الموت خلاف الحياة.. والموتان: الأرض لم تحي بعد بزرع، ولا إصلاح "1. والموت ضد الحياة2. وأماته الله وموّته شدد للمبالغة3. وأمَاتت الناقة إذا مات ولدها، فهي مُميت ومُميتة، وأمات فلان إذا مات له ابن أو بنون4. وقبضه الله: أماته5. وتوفاه الله: أماته6. والموات بالفتح مالا روح فيه7. وقول العرب ما أموته إنما يراد به ما أموت قلبه8. ورجل موتان الفؤاد، وامرأة موتانة الفؤاد9. والعرب تقول: اشتر الموتان ولا تشتر الحيوان، أي اشتر الأرض والدور، ولا تشتر الرقيق والدواب10. وعلى هذا فالموت في اللغة ضد الحياة، وهو ما لاروح فيه، كما يعني ذهاب القوة من الشيء فتكون الإماتة إذهاب قوة الشيء.   1 - معجم مقاييس اللغة 5/283، وانظر: العين 8/141. 2 - انظر: الصحاح 1/266. 3 - انظر: المرجع السابق 1/267، لسان العرب 2/93. 4 - انظر: الصحاح 1/267، العين 8/141، معجم مقاييس اللغة 5/283. 5 - انظر: المصباح المنير 2 /802 - 803. 6 - انظر: المرجع السابق 2/667. 7 - انظر: الصحاح 1 /267. 8 - انظر: المرجع السابق 1 /267. 9 - انظر: المرجع السابق 1 /267، العين 8/141، معجم مقاييس اللغة 5/283. 10 - انظر: الصحاح 1/267، معجم مقاييس اللغة 5/283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 2 - معنى الإماتة في الشرع: ورد فعل الإماتة في القرآن الكريم "أمات" بتصريفاته، كما جاء لفظ الموت والموتى والميت ونحوها من تفريعات هذه المادة، والذي يهم هنا هو ما كان قريباً من المصدر "الإماتة" وهو فعل الإماتة. وقد جاءت الإماتة بمعنى إخراج الروح من الجسد، أو قبض الأرواح كما في قوله - تعالى -: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة - 259] وقوله - تعالى -: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس - 21] ، يقول الطبري - رحمه الله - عند شرح قوله - تعالى -: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة - 28] الإماتة: "هي خروج الروح من الجسد"1، وقال: "ثم يميتكم بقبض أرواحكم، وإعادتكم كالذي كنتم قبل أن يحييكم؛ من دروس ذكركم، وتعفي آثاركم، وخمول أموركم"1. ويقول ابن القيم - رحمه الله -: "موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها، وخروجها منها"3. وقوله - تعالى -: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر - 11] وقوله - تعالى -: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة - 28] ، والإماتة هنا تعني جعلهم أمواتاً في أصلاب آبائهم، لم يكونوا شيئاً، يقول ابن القيم - رحمه الله -: "فكانوا أمواتاً وهم نطف في أصلاب آبائهم، وفي أرحام أمهاتهم، ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم، ثم يحييهم يوم النشور"4. ويذكر الشوكاني - رحمه الله - قولين في معنى قوله - تعالى -: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر - 11] فيقول: "والمراد بالإماتتين أنهم كانوا نطفاً لا حياة لهم في أصلاب آبائهم، ثم أماتهم بعد أن صاروا أحياء في الدنيا..وقيل: معنى الآية أنهم أميتوا في الدنيا عند انقضاء آجالهم، ثم أحياهم الله في قبورهم للسؤال، ثم أميتوا ثم أحياهم الله في الآخرة،   1 - تفسير الطبري 1/188، وانظر: تفسير القرطبي 3/291. 1 - تفسير الطبري 1/188. 3 - الروح ص 49. 4 - المرجع السابق ص50، وانظر: تفسير ابن كثير 1/58، تفسير الطبري 1/186، تفسير القرطبي 1/249، مجموع الفتاوى 4/274 - 275، شرح الطحاوية 2/571. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ووجه هذا القول أن الموت سلب الحياة، ولا حياة للنطفة، ووجه القول الأول أن الموت قد يطلق على عادم الحياة من الأصل، وقد ذهب إلى تفسير الأول جمهور السلف"1. وما ذهب إليه جمهور السلف هو الصحيح، فقد ورد في القرآن إطلاق لفظ الموت على الجماد، كالأصنام التي كان يعبدها المشركون، قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل20 - 21] قال المفسرون: "وهي هذه الأوثان التي تعبد من دون الله، أموات لا أرواح فيها "2.كما وصف الله الأرض بالميتة، قال - تعالى -: {وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ} [يس - 33] . وقد اختلف في الموت هل هو وجودي أو عدمي، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وكثير من النزاع في ذلك يكون لفظياً، فإنه قد يكون عدم الشيء مستلزماً لأمر وجودي، مثل الحياة مثلاً فإن عدم حياة البدن مثلاً مستلزم لأعراض وجودية، والناس تنازعوا في الموت هل هو عدمي أو وجودي، ومن قال إنه وجودي احتج بقوله - تعالى - {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك - 2] ، فأخبر أنه خلق الموت، كما خلق الحياة. ومنازعه يقول العدم الطارئ يخلق كما يخلق الوجود، أو يقول الموت المخلوق هو الأمور الوجودية اللازمة لعدم الحياة وحينئذ فالنزاع لفظي"3. وفي السنة ورد لفظ أمات ويميت ونحوها، فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" 4، "والمراد بأماتنا: النوم "5. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت.." 6، والإماتة هنا تعني قبض الأرواح. وفي الحديث أيضاً قوله: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" 7، ومعنى الإماتة هنا إبطال العمل بشرع الله.   1 - فتح القدير 4/484، وانظر: تفسير الطبري 1/186 - 188. 2 - تفسير الطبري 14/93، وانظر: تفسير القرطبي 10/94، زاد المسير لابن الجوزي 4/438. 3 - درء التعارض 2/383. 4 - سبق تخريجه ص144من البحث. 5 - شرح النووي على صحيح مسلم 17/35. 6 - سبق تخريجه ص144من البحث. 7 - سبق تخريجه ص144 من البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ومن خلال النقول السابقة يمكن أن نتبين تعريف أهل السنة للإماتة وهو: أن الإماتة صفة فعلية قائمة بذات الرب - تعالى -، متعلقة بقدرته ومشيئته، اختص بها، وتعني إخراج الروح من الجسد، وسلب الحياة منه. 3 - معنى الإماتة عند المتكلمين: عرف بعض الأشاعرة المميت بأنه: "جاعل الخلق ميتاً بسلب الحياة، وإحداث الموت فيه "1 وهو قول البيهقي، وقال في شعب الإيمان: "المميت ويختص بخلق الموت"2، وقال أبو السعود3 في تفسيره: "الإماتة جعل الشيء عادم الحياة"4. وقد سبق أن ذكرت موقف الأشاعرة من صفات الأفعال للرب - تعالى -، وأنهم لا يقولون بقيامها في ذاته - سبحانه - بل يجعلونها هي المخلوق المنفصل. وكذلك الماتريدية لا يجعلون صفات الأفعال تقوم بمشيئة الرب واختياره، بل يجعلونها أزلية، ويجمعونها كلها في صفة واحدة هي التكوين. وأما المعتزلة فمن يرى الموت عرضاً؛ كالقاضي عبد الجبار، وغيره، عرف الإماتة بأنها: "إبطال الحياة، وإزالتها، وتفريق البنية التي تحتاج هي في الوجود إليها"5. ومن يرى الموت جسماً قال: "الإماتة هي إدخال الله - عز وجل - الجسم المضاد للحياة عليها وحسها قائم"6. والمعتزلة لا يثبتون صفة الإماتة كصفة فعلية لله - تعالى -، بل يجعلونها مخلوقاً منفصلاً عن الله - تعالى -، كما ينفون غيرها من الصفات. وقد سبق الرد عليهم جميعاً في ذلك7.   1 - الأسماء والصفات ص 95. 2 - شعب الإيمان 1/66، وانظر: فيض القدير 2/486، 492. 3 - أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى العمادي، له عدة مؤلفات أشهرها تفسيره الذي سماه "إرشاد العقل السليم". توفي سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة. انظر: طبقات المفسرين لأحمد الأدنروي ص 398 - 399، كشف الظنون1/65، 247. 4 - تفسير أبو السعود 7/269. 5 - شرح الأصول الخمسة ص 731. 6 - مقالات الإسلاميين 2/109. 7 - انظر الرد ص149 - 152من البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الأمر 1 - معنى الأمر في اللغة: قال الخليل: "الأمر نقيض النهي، والأمر واحد من أمور الناس"1.وقال الجوهري: "وأمرته بكذا أمراً، والجمع الأوامر "2. والأمر الحادثة، والأمر بمعنى الحال، والجمع أمور3. "والأمر بمعنى الطلب جمعه أوامر"4. وأمَّر أَمارة، إذا صَيَّر علماً، وأُمِّر فلان إذا صُيِّر أميراً، وآمرت فلاناً ووامرته، إذا شاورته5. وقال الراغب: "الأمر الشأن وجمعه أمور، ومصدر أمرته إذا كلفته أن يفعل شيئاً"6. وفي الكليات: "الأمر هو في اللغة استعمال صيغة دالة على طلب من المخاطب على طريق الاستعلاء"7. فالأمر في اللغة نقيض النهي، كما يأتي بمعنى الشأن، والحادثة، والحال، ويأتي بمعنى الطلب.   1 - العين 8/297، وانظر: تهذيب اللغة 15/289، معجم مقاييس اللغة 1/137، لسان العرب 4/26 - 27، القاموس المحيط ص 439. 2 - الصحاح 2/581. 3 - انظر: لسان العرب 4/27. 4 - المصباح المنير 1/29. 5 - انظر: تهذيب اللغة 15/292. 6 - المفردات ص 88. 7 - الكليات ص 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 2 - معنى الأمر في الشرع: ورد لفظ الأمر في كتاب الله في مواضع كثيرة؛ وكان له أكثر من معنى حسب السياق الذي ورد فيه، ومن تلك الآيات قوله - تعالى -: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف - 54] ، والأمر في الآية الكلام، وهو صفة من صفاته - سبحانه -، قال الإمام أحمد: "فأخبر - تبارك وتعالى - بالخلق، ثم قال والأمر، فأخبر أن الأمر غير الخلق"1. وعن سفيان بن عيينة قال: "قد بين الله الخلق من الأمر بقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف - 54] فالخلق بأمره، كقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم - 4] وكقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس - 82] "2، وفي رواية عنه: "فقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف - 54] فالخلق هو المخلوقات والأمر هو الكلام"2. قال الحافظ في الفتح: "وسبق ابن عيينة إلى ذلك محمد بن كعب القرظي، وتبعه الإمام أحمد بن حنبل، وعبد السلام بن عاصم وطائفة، أخرج كل ذلك ابن أبي حاتم عنهم"3. كما استدل الإمام البخاري - رحمه الله - بهذه الآية على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومثله الإمام ابن خزيمة - رحمه الله - 5. ويقول شيخ الإسلام وهو يبين أنواع المضاف إلى الله: "وأما ما كان صفة لا تقوم بنفسها، ولم يذكر لها محل غير الله، كان صفة له؛ فكالقول والعلم والأمر إذا أريد به المصدر كان المصدر من هذا الباب كقوله - تعالى -: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف - 54] ، وإن أريد به المخلوق المكون بالأمر كان من الأول كقوله - تعالى -: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل - 1] "4.   1 - السنة لعبد الله بن الإمام أحمد 1/139 وانظر السنة للخلال 5/138. 2 - خلق أفعال العباد ص 38، وانظر: السنة لعبد الله بن أحمد 1/169، الشريعة للآجري ص 80. 2 - فتح لباري 13/542. 3 المرجع السابق 13/542. 5 - انظر: خلق أفعال العباد ص37 - 38، التوحيد لابن خزيمة 1/391، الإبانة للأشعري ص31، رسالة إلى أهل الثغر للأشعري ص 221 - 223، مجموع الفتاوى 6/17. 4 - شرح العقيدة الأصفهاني ص 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 كما بين - رحمه الله - أن الأمر والنهي والخبر والاستخبار من أنواع الكلام، والجنس ينقسم إلى أنواعه، واسمه صادق على كل نوع من الأنواع، فيجب أن يكون حد الكلام واسمه صادقا على أنواعه ومنها الأمر1. كما فُسر الأمر بأنه القول، يقول ابن القيم - رحمه الله - في قوله - تعالى -: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف - 54] : "فالخلق فعله والأمر قوله"2. وفُسر الأمر بأنه التصرف، والتدبير، يقول ابن كثير في معنى هذه الآية: "أي له الملك والتصرف"3. وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: "والأمر هو التدبير"4. وقد يراد بالأمر المخلوق المكون بالأمر كما في قوله - تعالى -: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل - 1] 5. وقوله - تعالى -: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [النساء - 47] قال الطبري: "يعني به: ما أمر الله به، وهو المأمور الذي كان عن أمر الله - عز وجل -"6. وقوله - تعالى -: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} [يونس - 3] ، الأمر الشأن وهو أحوال ملكوت السموات والأرض والعرش وسائر الخلق7، "وقال مجاهد: يقضيه ويقدره وحده، وقال ابن عباس: لا يشركه في تدبير خلقه أحد"8. وورد لفظ الأمر في السنة كثيراً بالمعاني السابقة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان" 9.   1 - انظر: الاستقامة 1/212. 2 - شفاء العليل ص156. 3 - تفسير القرآن العظيم 2/230. 4 - شرح العقيدة الواسطية 1/21. 5 - انظر: شرح العقيدة الأصفهانية ص66. 6 - تفسير الطبري 3/269، وانظر: تفسير القرطبي 5/245، فتح القدير 1/475. 7 - انظر: فتح القدير 2/423. 8 - تفسير القرطبي 8/308. 9 - أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب مناقب قريش 2/504، ح 3051، ومسلم في كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش 3/1452ح 1820. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ومما سبق يتبين أن الأمر في الشرع نوع من أنواع الكلام، وهو صفة من صفات الله الفعلية الذاتية، متعلق بقدرته ومشيئته، ويعني كلامه - سبحانه - في تدبيره لشؤون خلقه وتصرفه - سبحانه - فيهم، ومنه قوله - تعالى -: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف - 54] ، وقد يكون بمعنى المخلوق المكون بالأمر، كقوله - تعالى -: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [النساء - 47] . 3 - معنى الأمر عند المتكلمين: بما أن الأمر هو الكلام - كما ذكرت قبل قليل - سأبين هنا أقوال الطوائف في صفة الكلام ومنه الأمر، وإذا نظرنا إلى الأشاعرة ومن وافقهم نجد أنهم يقولون إن كلام الله معنى واحد قائم بالنفس، وذلك المعنى هو الأمر بكل مأمور والخبر عن كل مخبر عنه والنهي عن كل منهي عنه، والأصوات والحروف مخلوقة، وهي عبارة عن الكلام، أو حكاية عنه - كما يقول ابن كلاب - فيكون الأمر عندهم معنى قائم بالنفس، وهوعين النهي والخبر1، قال أبو حامد الإسفراييني2: "وذهب الأشعري ومن تابعه إلى أن الأمر هو معنى قائم بنفس الآمر، لا يفارق الذات ولا يزايلها، وكذلك عنده سائر أقسام الكلام من النهي والخبر والاستخبار وغير ذلك.. وسواء في هذا أمر الله - تعالى - أو أمر الآدميين، إلا أن أمر الله - تعالى - يختص بكونه قديماً وأمر الآدمي محدث، وهذه الألفاظ والأصوات ليست عندهم أمراً ولا نهياً، وإنما هي عبارة عنه..وكان ابن كلاب عبد الله بن سعيد القطان يقول هي حكاية عن الأمر"3. ويقرر الرازي أن الأمر مغاير للعبارات والحروف والأصوات، وأن حقيقة الأمر والنهي هي الإخبار! ثم يقول: "فثبت بما ذكرنا أن أمر الله - تعالى - صفة حقيقية قائمة بذاته، وتلك الصفة مدلولة لهذه الحروف والأصوات والعبارات والإطلاقات"4. وابن كلاب هو أول من ابتدع القول في أن كلام الله معنى قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت؛ محاولة منه في الرد على المعتزلة، وتبعه على ذلك الأشعري وغيره5.   1 - انظر: الإرشاد ص104، 120. 2 - الأستاذ العلامة شيخ الإسلام أبو حامد أحمد بن أبي طاهر محمد بن أحمد الإسفراييني شيخ الشافعية ببغداد. ولد سنة أربع وأربعين وثلاث. وتوفي سنة ست وأربع مائة. انظر: سير أعلام النبلاء 17/193 - 196. 3 - درء تعارض العقل والنقل 2/107، وكلام أبي حامد في كتابه التعليق في أصول الفقه. 4 - المسائل الخمسون ص54 - 55، وانظر: الأربعين في أصول الدين ص178. 5 - انظر: درء التعارض 2/84، 111، الاستقامة 1/212، مجموع الفتاوى 5/533، 552. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وأما المعتزلة فإنهم يقولون بخلق صفة الكلام ومنه الأمر فهو مخلوق، قال القاضي عبد الجبار:" وأما مذهبنا في ذلك فهو أن القرآن كلام الله - تعالى - ووحيه، وهو مخلوق محدث "1. ويستدلون بقوله - تعالى -: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [النساء - 47] على أن الأمر الذي هو كلام الله مخلوق2. وقد رد علماء أهل السنة على المخالفين في صفة الكلام وبينوا مخالفة أقوالهم للكتاب والسنة، وأصول لغة العرب. والذي يهم هنا هو الإشارة إلى ردهم على مخالفتهم في معنى الأمر، فمن ردهم على مذهب الأشاعرة ومن وافقهم: أولاً: أن مجرد تصور هذا القول يوجب العلم الضروري بفساده، كما اتفق على ذلك سائر العقلاء، فإن أظهر المعارف للمخلوق أن الأمر ليس هو الخبر، وأن الأمر بالسبت لليهود ليس هو الأمر بالحج، وأن الخبر عن الله ليس هو الخبر عن الشيطان الرجيم3. ثانياً: أن من جعل كلام الله بأوامره ونواهيه وأخباره حقيقة واحدة، وجعل الأمر والنهي إنما هي صفات عارضة لتلك الحقيقة العينية، لم يجعل ذلك أقساماً للكلام الكلي، الذي لا يوجد في الخارج كلياً، إذ ليس في الخارج كلام هو أمر بالحج، وهو بعينه خبر عن جهنم، كما ليس في الخارج إنسان هو بعينه فيل، وإن شملهما اسم الحيوان. ومن جعل الحقائق المتنوعة شيئاً واحدا، فهو يشبه من جعل المكانين مكاناً واحداً، حتى يجعل الجسم الواحد يكون في مكانين، ويقول إنما هما مكان واحد، أو لا يجعل الواحد نصف الاثنين، أو يقول الاثنان هما واحد، وهذا كله نمط واحد وهو رفع التعدد في الأشياء المتعددة، وجعلها شيئاً واحداً في الوجود الخارجي بالعين، لا بالنوع4. ثالثاً: أن يقال إذا جاز لكم أن تجعلوا هذه الحقائق المختلفة حقيقة واحدة، وأن كونها أمراً ونهياً وخبراً إنما هي أمور نسبية لها، فيقال لكم هذا بعينه يلزمكم في الصفات؛ من العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر، فهلا جعلتم هذه الصفات حقيقة واحدة، وهذه   1 - شرح الأصول الخمسة ص528، وانظر: المغني 1/284، شرح الأصول الخمسة ص544. 2 - انظر: شرح الأصول الخمسة ص544. 3 - انظر: التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى 5/175. 4 - انظر: المرجع السابق 5/175 - 176 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الخصائص عوارض نسبية لها، وهم ينفون مثل هذا ويردون عليه، فيلزمهم طرد ذلك في صفة الكلام1. رابعاً: أن جمهور الناس من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم أنكروا ذلك، وقالوا: إن فساد هذا معلوم بصريح العقل، فإن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن، ولا معنى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص - 1] هو معنى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد - 1] 2. أما المعتزلة فيقال لهم: أولاً: أن الله فرق بين الخلق والأمر بقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف - 54] فالخلق هو المخلوقات والأمر هو الكلام3. ثانياً: يقال لهم إن الله فرق بين الخلق والأمر، فالخلق يكون بأمره كما قال - تعالى -: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس - 82] ، ولو كان الأمر مخلوقاً للزم أن يكون مخلوقاً بأمر آخر، والآخر بآخر إلى مالا نهاية له، فيلزم التسلسل وهو باطل4. ثالثاً: أن طرد باطلهم هو أن تكون جميع صفات الله مخلوقة، كالعلم والقدرة وغيرهما، وذلك صريح الكفر، حيث يستدلون بقوله - تعالى -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر - 62] ، فإن علم الله شيء وقدرته شيء وحياته شيء، فيدخل ذلك في عموم كل فيكون مخلوقاً بعد أن لم يكن، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً5.   1 - انظر: التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى 5/176 - 177 بتصرف. 2 - انظر: درء التعارض 1/267. 3 - انظر: فتح الباري 13/532 - 533. 4 - انظر: خلق أفعال العباد ص 38، شرح العقيدة الطحاوية 1/179. 5 - انظر: شرح العقيدة الطحاوية 1/179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 المُلْك 1 - معنى الملك في اللغة: قال ابن فارس: "الميم واللام والكاف، أصل صحيح، يدل على قوة في الشيء وصحة، يقال: أملَكَ عجينه: قوى عجنه وشدَّه، وملكت الشيء: قويته..والأصل هذا، ثم قيل مَلَكَ الإنسان الشيء يملكه ملْكاً، والاسم الملْك، لأن يده فيه قوية صحيحة. فالمِلْك: ما ملك من مال"1. وفي العين: "المُلْكُ لله المالك المليك، والملكوت: ملك الله، وملكوت الله سلطانه. والمَلْك: ما ملكت اليد من مال وخول"2. والمَلْك والمُلْك والمِلْك احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به3. فالملك في اللغة احتواء الشيء والقدرة عليه، وكونه تحت تصرفك. 2 - معنى الملك في الشرع: ورد لفظ المُلْك والمَلِك والمالك ومالك الملك في آيات كثيرة من كتاب الله، منها قوله - تعالى -: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة - 107] ، وقوله - تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ} [يوسف - 101] ، وقوله - تعالى -: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طه - 114] وغيرها. قال الطبري - رحمه الله - في تفسير قوله - تعالى -: {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس - 2] : "وهو ملك جميع الخلق إنسهم، وجنهم، وغير ذلك، إعلاماً منه بذلك من كان يعظم الناس، تعظيم المؤمنين ربهم؛ أنه ملك من يعظمه، وأن ذلك في ملكه وسلطانه، تجري عليه قدرته، وأنه أولى بالتعظيم، وأحق بالتعبد له ممن يعظمه، ويتعبد له، من غيره من الناس"3.كما ورد لفظ الملك في السنة ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا المَلِك أين ملوك الأرض" 5، ومعنى الملك في الكتاب والسنة، هو المعنى الوارد في اللغة، يقول شيخ   1 - معجم مقاييس اللغة 5/351 - 352 وانظر الصحاح 4/1609 - 1611 لسان العرب 10/495. 2 - العين 5/89 وانظر اللسان 10/493. 3 - انظر: لسان العرب 10/492. 3 - تفسير الطبري 30/354. 5 - أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله - تعالى -: {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس - 2] 4/380، ح 7382. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الإسلام - رحمه الله -:" والمُلك قد يراد به القدرة على التصرف، والتدبير، ويراد به نفسه التدبير، والتصرف، ويراد به المملوك نفسه، الذي هو محل التدبير، ويراد به ذلك كله"1، فالملك يعني التصرف والتدبير، والقدرة على ذلك. وقال - رحمه الله - في معنى المَلك: "المَلك هو الذي يتصرف بأمر فيطاع"2، وقال - رحمه الله -: "الملَك هو الآمرالناهي المطاع"3. وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله -:" والمَلك هو المتصرف بفعله وأمره"4. وقال ابن كثير في معنى المَلِك: "أي المالك لجميع الأشياء، المتصرف فيها بلا ممانعة، ولا مدافعة "5. وقال في معنى قوله - تعالى -: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران - 26] : "أي أنت المتصرف في خلقك الفعال لما تريد"6. فالمُلك هو صفة ذاتية للرب - تعالى -، وتعني ملكه لجميع الأشياء، وتصرفه وتدبيره في ملكه بلا مدافعة ولا ممانعة، وقدرته على ذلك. والمَلِك من أسماء الله - تعالى -.   1 - مجموع الفتاوى 18/195. 2 - المرجع السابق 6/262، وانظر: تفسير ابن كثير 4/367. 3 - مجموع الفتاوى 6/262. 4 - بدائع الفوائد 4/165. 5 - تفسير ابن كثير 4/367. 6 - المرجع السابق 1/357. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 3 - معنى الملك عند المتكلمين: يتأول كثير من متكلمي الأشاعرة، والمعتزلة، الملك بالقدرة، وبعضهم يتأوله بالخلق وبعضهم يقول إنه التصرف. يقول الجويني: "ثم اختلفوا في الملك، فمنهم من فسره بالخلق، فالمَلِك الخالق، وهو من أسماء الأفعال، وقال بعضهم: الملك القدرة على الاختراع"1. وقال الرازي: "اختلفوا في حقيقة الملك فقال بعضهم: إنه عبارة عن التصرف، وعلى هذا يكون الملك من صفات الأفعال. والقول الثاني أنه القدرة على التصرف لولا المانع، وعلى هذا القول يكون الملك من صفات الذات "2، ثم ذكر الإشكالات على القولين واختار الثاني3. وقال القاضي عبد الجبار: "المِلْك هو القدرة، وأن المَلِك هو القادر"4. وتأويلهم صفة الملك بالقدرة على الاختراع، أو الخلق، إنما هو في الحقيقة نفي لصفة الملك، وكذلك قصر بعضهم للملك على القدرة على التصرف، إنقاص لمعنى الملك، فالملك يعني ملكه لجميع الأشياء، وتصرفه وتدبيره في ملكه بلا مدافعة ولا ممانعة، وقدرته على ذلك. فالملك صفة ذاتية تستلزم، وتتضمن، صفات ذاتية وفعلية، مثل علمه، وقدرته، وأنواع تصرفه وتدبيره لملكه - سبحانه -. والأشاعرة لا يثبتون صفات الأفعال قائمة بذات الله، والمعتزلة ينفون معها صفات الذات أيضاً، وقد سبق الرد عليهم في ذلك5. 4 - معنى الملك عند الفلاسفة: قال ابن سينا: "الملك الحق هو الغني الحق مطلقاً، ولا يستغني عنه شيء في شيء، وله ذات كل شيء، لأن كل شيء منه أو مما منه ذاته، فكل شيء غيره فهو له مملوك، وليس له إلى شيء فقر"6.   1 - الإرشاد ص145. 2 - شرح أسماء الله الحسنى ص183، وانظر فتح الباري 13/379. 3 - انظر: شرح أسماء الله الحسنى ص186. 4 - المغني 11/28. 5 - انظر الرد في البحث ص149 - 152. 6 - الإشارات والتنبيهات3/124، وانظر: بيان تلبيس الجهمية 1/184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وهذا الكلام الذي ذكره ابن سينا في معنى الملك، متفق عليه بين المسلمين، وغيرهم من أهل الملل، بل حتى المشركون يقرون بذلك، قال - تعالى -: {قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84 - 89] . ولكن هذا جزء يسير من معنى الملك، فلفظ الملك يتضمن غناه عن كل شيء، وفقر كل شيء إليه، - وهو ما ذكروه - ولكنه يتضمن أكمل من ذلك، من العلم، والقدرة، والتدبير، على وفق المشيئة، والإرادة، وغير ذلك من المعاني التي تبين أن هؤلاء الفلاسفة لا يجعلونه ملكاً حقاً، وكيف يكون ملكاً عندهم من لا يقدر على إحداث شيء، ولا دفع شيء، ولا له تصرف بنفسه، ولا في غيره بوجه من الوجوه. بل ما يصفونه من غناه، وافتقار ما سواه إليه، يتناقضون فيه، فإنهم يصفونه بما يمتنع معه أن يكون غنياً، وأن يكون شيء ما إليه فقير1.   1 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الرَّزق 1 - معنى الرَّزق في اللغة: قال ابن فارس: "الراء والزاء والقاف، أصيل واحد، يدل على عطاء لوقت، ثم يحمل عليه غير الموقوت، ف الرزق عطاء الله - جل ثناؤه -، ويقال رزقه الله رَزْقاً، والاسم الرِّزْق، والرِّزْق بلغة أزد شنوءة الشكر، من قوله - جل ثناؤه -: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} [الواقعة - 82] "1. والرِّزق: ما ينتفع به، والجمع الأرزاق، والرَّزق العطاء2. قال الخليل: "رَزَق الله يرزق العباد، رِزْقاً اعتمدوا عليه، وهو الاسم أخرج على المصدر، وقيل: رَزْق"3. فالرَّزق بفتح الراء هو المصدر الحقيقي، والرِّزق الاسم، ويجوز أن يوضع موضع المصدر4. فالرَّزق هو المصدر الذي يقع موقع الصفة، والرِّزق هو اسم المفعول ويجوز أن يوضع موضع المصدر، ومدار لفظ الرزق في اللغة على العطاء أو ماينتفع به.   1 - معجم مقاييس اللغة 2/388. 2 - انظر: لسان العرب 10/115، القاموس المحيط 1144. 3 - العين 5/89. 4 - انظر: لسان العرب 10/115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 2 - معنى الرزق في الشرع: ورد لفظ الرزق كثيراً في كتاب الله، كما ورد الفعل منه بتصريفاته، ومنها قوله - تعالى -: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} [البقرة - 60] ، وقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر - 3] . كما ورد لفظ الرزق في السنة المطهرة، وورد الفعل منه، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله - عز وجل -، إنه يشرك به، ويجعل له الولد، ثم هو يعافيهم، ويرزقهم" 1. ومعنى الرزق في الكتاب والسنة هو بمعناه الوارد في اللغة، يقول الحافظ أبو بكر الإسماعيلي - رحمه الله - في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة: "وإن الله يرزق كل حي مخلوق، رزق الغذاء الذي به قوام الحياة، وهو ما يضمن الله لمن أبقاه من خلقه، وهو الذي رزقه من حلال أو حرام"2. ويقول الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - في بيانه لصفات الله: "وأما الفعلية؛ فالتخليق، والترزيق، والإنشاء.."3. وقال الإمام ابن تيمية - رحمه الله -: "وكذلك كونه خالقاً، ورازقاً، ومحسناً، وعادلاً، فإن هذه أفعال فعلها بمشيئته وقدرته"4. وقال ابن القيم - رحمه الله - في النونية: وكذلك الرزاق من أسمائه ... والرزق من أفعاله نوعان رزق على يد عبده ورسوله ... نوعان أيضا ذان معروفان رزق القلوب العلم والإيمان ... والرزق المعد لهذه الأبدان هذا هو الرزق الحلال وربنا ... رزاقه والفضل للمنان والثاني سوق القوت للأعضاء فـ ... ـي تلك المجاري سوقه بوزان   1 - أخرجه مسلم في كتاب القيامة وصفة الجنة والنار، باب لا أحد أصبر على أذى من الله عز وجل 4/2160، ح 2804. وبنحوه البخاري في الأدب، باب الصبر على الأذى 4/109 - 110، ح 6099، وفي كتاب التوحيد باب قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات - 58] 4/379، ح 7378. 2 - كتاب اعتقاد أهل السنة ص 52. 3 - شرح الفقه الأكبر ص35. 4 - مجموع الفتاوى 6/229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 هذا يكون من الحلال كما ... يكون من الحرام كلاهما رزقان والله رازقه بهذا الاعتبار ... وليس بالإطلاق دون بيان1 ولفظ الرزق يقع على الصفة التي هي المصدر، كما يقع على متعلقها الذي هو مسمى المفعول، وهو الشيء المرزوق، كلفظ الخلق يقع تارة على الفعل، وعلى المخلوق أخرى2. والرزق من حيث اسم المفعول فيه إجمال: فقد يراد بلفظ الرزق ماينتفع به الحيوان، وإن لم يكن هناك إباحة، ولا تمليك، فيدخل فيه الحرام، كما في قوله - تعالى -: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود - 6] . وقد يراد بالرزق ما أباحه الله أو ملكه، فلا يدخل الحرام في مسمى هذا الرزق، كما في قوله - تعالى -: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً} [النحل - 75] وأمثال ذلك. والعبد قد يأكل الحلال والحرام فهو رزق بالاعتبار الأول، لا بالاعتبار الثاني، وما اكتسبه ولم ينتفع به، هو رزق بالاعتبار الثاني دون الأول. ولأجل هذا الإجمال في لفظ الرزق، منع الأئمة من إطلاق ذلك نفياً وإثباتاً3. فالرزق الذي هو المصدر صفة فعلية من صفات الرب - سبحانه -، قائمة بذاته، متعلقة بقدرته ومشيئته، وهي إعطاء الله - تعالى - خلقه ما ينتفعون به.   1 - الكافية الشافية 2/234. 2 - انظر: مجموعة الرسائل 5/322. 3 - انظر: المرجع السابق 5/326، مجموع الفتاوى 8/541، وانظر أيضا: لوائح الأنوار 1/335 - 336، الحجة في بيان المحجة 1/137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 3 - معنى الرزق عند المتكلمين: قال الجويني في بيان معنى الرازق: "خالق الرزق، ومبدع الإمتاع به "1، وفي الأسماء والصفات للبيهقي: "ومعناه - أي الرازق - المفيض على عباده ما لم يجعل لأبدانهم قواما إلا به، والمنعم عليهم بإيصال حاجاتهم من ذلك إليهم "2. وقال الراغب:" والرزاق يقال لخالق الرزق ومعطيه، والمسبب له، وهو الله - تعالى -"3، وهو من الصفات الفعلية عند المتكلمين، يقول ابن بطال4: "فالرزق فعل من أفعاله - تعالى - فهو من صفات فعله، لأن رازقاً يقتضي مرزوقاً، والله - سبحانه وتعالى - كان ولا مرزوق، وكل مالم يكن ثم كان فهو محدث، والله - سبحانه - موصوف بأنه الرازق، ووصف نفسه بذلك قبل خلق الخلق؛ بمعنى أنه سيرزق إذا خلق المرزوقين"5. فالأشاعرة يجعلون الرزق مخلوقاً منفصلاً غير قائم بذات الرب. ويقول ملا علي قاري: "وأما الترزيق فهو إحداث رزق الشيء، وجعله قوتاً له"6. والماتريدية كما سبق يحيلون جميع الأفعال إلى صفة التكوين. وما سبق أن ذكرته من مواقف المتكلمين في لفظ الإحياء، والإماتة، ينطبق على لفظ الرزق أيضاً، لأنه من الصفات الفعلية، وقد سبق أن بينت موقف المتكلمين من صفات الفعل، وذكرت الرد عليهم7. وأما لفظ الرزق من حيث هو مفعول، فقد خالف في ذلك المعتزلة حيث قالوا: إن الحرام ليس برزق8. ومما يرد به هذا القول أن لفظ الرزق، من حيث اسم المفعول فيه إجمال، فقد يراد بلفظ الرزق ما أباحه الله أو ملكه، فلا يدخل الحرام في مسمى هذا   1 - الإرشاد ص149. 2 - الأسماء والصفات ص87. 3 - المفردات للراغب ص351، وانظر: بصائر ذوي التمييز 3/67، الكليات ص473. 4 - ابن بطال شارح صحيح البخاري، العلامة أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري، القرطبي، ثم البلنسي، ويعرف بابن اللجام، كان من أهل العلم والمعرفة عني بالحديث العناية التامة شرح الصحيح في عدة أسفار، توفي سنة تسع وأربعين وأربع مئة. انظر: سير أعلام النبلاء 18/47، تذكرة الحفاظ 3/112. 5 - فتح الباري 13/373. 6 - شرح الفقه الأكبر ص35. 7 - انظر الرد ص149 - 152 من البحث. 8 - انظر: شرح الأصول الخمسة ص784، المغني 11/27، لوائح الأنوار 1/335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الرزق كما في قوله - تعالى -: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً} [النحل - 75] وأمثال ذلك، وقد يراد بالرزق ما ينتفع به الحيوان، وإن لم يكن هناك إباحة ولا تمليك فيدخل فيه الحرام، كما في قوله - تعالى -: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود - 6] 1.   1 - انظر: مجموعة الرسائل 5/326، مجموع الفتاوى 8/541، لوائح الأنوار 1/335 - 336. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الخلق 1 - معنى الخلق في اللغة: يقول ابن فارس: "الخاء واللام والقاف أصلان: أحدهما تقدير الشيء، والآخر ملاسة الشيء. فأما الأول فقولهم: خلقت الأديم للسقاء، إذا قدرته.. وقال زهير1: ولأنت تفري ماخلقت وبعـ ... ـض القوم يخلق ثم لا يفري2 .. والخَلْق خلق الكذب، وهو اختلاقه واختراعه وتقديره في النفس.. وأما الأصل الثاني: فصخرة خلقاء أي ملساء"3. والخليقة الخَلْق، والجمع الخلائق، والخِلقة الفطرة4. "والخالق الصانع"5، و"خلقه الله خلقاً أوجده"6. والخَلْق في كلام العرب على وجهين: أحدهما الإنشاء على مثال أبدعه، والآخر التقدير. وخلق الله الشيء يخلقه خلقا أحدثه بعد أن لم يكن، والخلق يكون المصدر ويكون المخلوق7. "والخلق في كلام العرب ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه"8. فالخلق في اللغة يعني التقدير، والإنشاء، والإيجاد، و الإبداع ، وقد يراد به المخلوق.   1 - هو زهير بن أبي سلمى، ذكره محمد بن سلام الجمحي في طبقات فحول الشعراء ضمن الطبقة الأولى من فحول شعراء الجاهلية. انظر: طبقات فحول الشعراء 1/63. 2 - ديوان زهير ص56، بلفظ "فلأنت تفري.."وانظر: ديوان الأدب للفارابي 2/123. والفري الشق، خلقت الأديم ثم فريته، إذا أعلمت عليه علامات المقاطع ثم قطعته. انظر: العين 8/280. 3 - معجم مقاييس اللغة 2/213 - 214، وانظر: الصحاح 4/1470 - 1471، العين 4/151، لسان العرب 10/85 - 89. 4 - انظر: الصحاح 4/1471، العين 4/151، لسان العرب 10/86. 5 - العين 4/151. 6 - المُغَرِّب في ترتيب المعرب لأبي الفتح المطرزي ص153. 7 - انظر: لسان العرب 10/85. 8 - المرجع السابق 10/85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 2 - معنى الخلق في الشرع: الخلق في الشرع هو صفة فعلية قائمة بذات الله - تعالى - متعلقة بقدرته ومشيئته، وتعني إبداع الكائنات وإنشاءها من العدم، وفق تقدير الله - تعالى - لها. كما قد يطلق الخلق على المخلوق كما في قوله - تعالى -: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان - 11] . وقد ورد لفظ الخلق في آيات كثيرة من كتاب الله - تعالى -، فورد بمعنى الإبداع والتقدير1 نحو قوله - تعالى -: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف - 54] ، وقوله - تعالى -: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف - 51] ، وقوله - تعالى -: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان - 28] ، كما ورد لفظ خلق في السنة بمعنى قضى وقدر، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لما خلق الله الخلق كتب في كتابه - وهو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش - إن رحمتي تغلب غضبي" 2، وفي رواية "لما قضى الله الخلق" 3، ومعنى خلق في الرواية الأولى، وقضى في الرواية الثانية، هو: "قدّر"، أي لما فرغ من تقدير الخلق، لأنه قال في رواية أخرى: "إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق" 4. يقول البخاري - رحمه الله -: "باب ماجاء في تخليق السموات والأرض وغيرهما من الخلائق، وهو فعل الرب - تبارك وتعالى - وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره وهو الخالق المكون غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون"5.وعلق على هذا الكلام ابن القيم - رحمه الله - بقوله: "فصرح إمام السنة أن صفة التخليق هي فعل الرب وأمره، وأنه خالق بفعله وكلامه"6.   1 - انظر: الصفدية 1/240، بغية المرتاد ص42، الصواعق المرسلة4/136. 2 - أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله - تعالى - {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران - 28، 30] 4/384، ح 7404، وبنحوه مسلم في كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه 4/2107، ح 2751. 3 - جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات - 171] 4/395، ح 7453، ومسلم في كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه 4/2108ح 2751. 4 - جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ*فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج - 21 - 22] 4/417، ح 7554، وانظر: شرح كتاب التوحيد للشيخ الدكتور عبد الله الغنيمان 2/210. 5 - صحيح البخاري مع الفتح 13/447. 6 - شفاء العليل ص 155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وقال ابن حجر - رحمه الله - معلقاً أيضا على كلام البخاري - رحمه الله -: "وسياق المصنف يقتضي التفرقة بين الفعل، وما ينشأ عن الفعل، فالأول من صفة الفاعل، والباري غير مخلوق فصفاته غير مخلوقة، وأما مفعوله وهو ما ينشأ عن فعله فهو مخلوق، ومن ثم عقبه بقوله: وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه، فهو مفعول مخلوق مكون"1. وقال البخاري - رحمه الله - في كتابه خلق أفعال العباد: "واختلف الناس في الفاعل والمفعول والفعل، فقالت القدرية: الأفاعيل كلها من البشر، ليست من الله، وقالت الجبرية: الأفاعيل كلها من الله، وقالت الجهمية: الفعل والمفعول واحد، ولذلك قالوا لـ "كن" مخلوق، وقال أهل العلم: التخليق فعل الله وأفاعيلنا مخلوقة..ففعل الله، صفة الله، والمفعول غيره من الخلق"2. وقال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - وهو يبين صفات الله الفعلية: "..وخالقاً بتخليقه والتخليق صفة في الأزل"3. ويُعرف الإمام ابن مندة - رحمه الله - الخالق بقوله: "والخالق هو المقدر الفاعل الصانع، وهو الباري المصور فهذه صفة قدرته. والخلق منه على ضروب: منه خلق بيده ويخلق إذا شاء فقال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص - 75] ، ومنه ما خلق بمشيئته وكلامه، ويخلق إذا شاء، ولم يزل موصوفاً بالخالق الباري المصور قبل الخلق، بمعنى أنه يخلق ويصور"4. وقد بين شيخ الإسلام - رحمه الله - اللفظ المقصود بهذا المبحث فقال: "لفظ الخلق المراد به الفعل الذي يسمى المصدر، كما يقال خلق يخلق خلقاً كقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان - 28] ، وقوله: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر - 6] ، وقوله: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف - 51] وليس الكلام في لفظ خلق المراد به المخلوق ومنه قوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ}   1 - فتح الباري 13 /448. 2 - خلق أفعال العباد ص188. 3 - شرح الفقه الأكبر ص38. 4 - كتاب التوحيد لابن مندة 2/76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 [لقمان - 11] "1. وعرف - رحمه الله - لفظ الخلق بقوله: "الخلق هو إبداع الكائنات من العدم "2، وقال: "والخلق يجمع معنى الإبداع ومعنى التقدير"3. وقال - رحمه الله -: "ولفظ الخلق المذكور في القرآن يتضمن معنيين، كلاهما يناقض قولهم4؛ يتضمن الإبداع والإنشاء المعروف، ويتضمن التقدير"5. وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:"إن الخلق هو الإيجاد"6. وقال الإمام ابن تيمية مبيناً قيام صفات الفعل في ذات الله: "وإذا كان الخلق فعله والمخلوق مفعوله، وقد خلق الخلق بمشيئته، دل على أن الخلق فعل يحصل بمشيئته، ويمتنع قيامه بغيره، فدل على أن أفعاله قائمة بذاته، مع كونها حاصلة بمشيئته وقدرته"7. وشرح الإمام ابن القيم قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة - 21] بقوله: "ثم قال: الذي خلقكم، فنبه بهذا أيضاً على وجوب عبادته وحده، وهو كونه أخرجهم من العدم إلى الوجود، وأنشأهم، واخترعهم وحده بلا شريك"8. ويتبين مما سبق أن الخلق - كما ذكرت سابقاً - صفة فعلية، قائمة بذات الله - تعالى -، متعلقة بقدرته ومشيئته، وتعني إبداع الكائنات وإنشاءها من العدم، وفق تقدير الله - تعالى - لها.   1 - بيان تلبيس الجهمية 1/546. 2 - مجموع الفتاوى 6/357. 3 - الصفدية 1/240. 4 - أي يناقض قول الفلاسفة. 5 - بغية المرتاد ص42، وانظر: الصواعق المرسلة4/1361، شرح الطحاوية 1/124. 6 - شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد العثيمين 1/22. 7 - مجموع الفتاوى 6/230. 8 - بدائع الفوائد 4/132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 3 - معنى الخلق عند المتكلمين: يقول الباقلاني1: "حقيقة الخلق والإحداث، هو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود"2، ويقول أبو المعالي: "والخلق قد يراد به الاختراع، وهو أظهر معانيه، وقد يراد به التقدير"3. وقال الرازي: "الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين، والإخراج من العدم إلى الوجود"4. وقال القاضي عبد الجبار: "الخلق هو إحداث الشيء مقدراً "5، وقال أيضاً: "الخلق هو الإنشاء والإبداع "6. وقيل: "الخلق إيجاد الشيء على تقدير واستواء "7. ويلاحظ أن هذه التعريفات موافقة للغة، ولمعنى الخلق عند أهل السنة. ولكن هل هذا الخلق الذي عرفوه سابقاً هو صفة قائمة بذات الله - تعالى -؟ أو أن الخلق هو المخلوق؟. يرى كثير من طوائف المتكلمين أن الخلق هو المخلوق، وبعضهم يرى أنه معنى آخر غير المخلوق كالإرادة مثلاً، وليس الخلق - بزعمهم - صفة قائمة بذات الرب، يقول البيهقي: "ونعتقد في صفات فعله أنها بائنة عنه - سبحانه - "8. ويقول الجويني: "..ولا ترجع من الخلق صفة متحققة إلى الذات، فلا يدل الخالق إلا على إثبات الخلق، ولذلك قال أئمتنا: لا يتصف الباري - تعالى - في أزله بكونه خالقاً، إذ لا خلق في الأزل، ولو وصف بذلك على معنى أنه قادر كان تجوزاً"9. والماتريدية كما سبق بيان مذهبهم في الإحياء والإماتة، وسائر صفات الفعل، فإنهم يجعلون الخلق من متعلقات التكوين، وليس صفة حقيقية تعود على الذات بمعنى10.   1 - هو أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر الباقلاني الأشعري، الأصولي المتكلم، صاحب التصانيف الواسعة في الرد على الفرق الضالة، من مؤلفاته الإنصاف، والتمهيد، توفي سنة403هـ. انظر: شذرات الذهب 3/168، معجم المؤلفين10/109 - 110، الأعلام6/176. 2 - الإنصاف ص148 - 149. 3 - الإرشاد ص148. 4 - مفاتيح الغيب 19/32، وانظر: المطالب العالية 9/137، شرح أسماء الله الحسنى ص211. 5 - المغني 8/257. 6 - المرجع السابق 7/221. 7 - الكشاف 1/91. 8 - الأسماء والصفات ص138. 9 - الإرشاد ص143. 10 - انظر: شرح الفقه الأكبر ص35، والبحث ص147 - 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 أما المعتزلة فمذهبهم نفي الصفات ومنها الخلق، وقد اختلفوا في معنى الخلق، وهل هو المخلوق أم لا؟ يقول الأشعري: "واختلف الناس في خلق الشيء، هل هو الشيء أم غيره؟ فقال أبو الهذيل: خلق الشيء، الذي هو تكوينه بعد أن لم يكن، هو غيره، وهو إرادته له وقوله له كن..وقال بشر بن المعتمر: خلق الشيء غيره، والخلق قبل المخلوق، وهو الإرادة من الله للشيء، وقال إبراهيم النظام: الخلق من الله - سبحانه -، الذي هو تكوين، هو المكوَّن، وهو الشيء المخلوق"1. وقال القاضي عبد الجبار: "الخلق إنما هو التقدير، والمخلوق هو الفعل المقدر بالغرض والداعي، المطابق له على وجه لايزيد عليه ولاينقص عنه"2. وقد بين شيخ الإسلام - رحمه الله - نزاع الطوائف في الخلق هل هو من صفات الله أو لا؟ فقال: "والناس تنازعوا في نفس الخلق، والإحداث، والتكوين، هل هو من صفات الله أم لا؟ وهذا المؤسس3، وأصحابه، مع المعتزلة، يقولون إن الخلق هو المخلوق، ليس ذلك صفة لله بحال، وأما جمهور الفقهاء، وأهل الحديث، والصوفية، وطوائف من أهل الكلام، فيقولون إن الفعل نفسه، والخلق من صفاته، ولكن المخلوق ليس من صفاته"4. وقد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - شبهتهم في ذلك، ورد عليهم، مبيناً فساد قولهم، كما ذكر ابن القيم - رحمه الله - شبهاتهم في ذلك، ورد عليها، وقد سبق شيء من هذه الردود عند شرح صفة الإحياء5. وعلى هذا فينبغي أن ينتبه إلى حقيقة قول المتكلمين في الخلق، وإن عرفوه بما يوهم أنهم موافقون لأهل السنة في حقيقة الصفة وقيامها بالله - تعالى -.   1 - مقالات الإسلاميين 2/51 - 52. 2 - شرح الأصول الخمسة ص 546 - 548. 3 - هو الفخر الرازي صاحب أساس التقديس الذي رد عليه شيخ الإسلام في كتابه بيان تلبيس الجهمية. 4 - بيان تلبيس الجهمية 1/546، وانظر: الاستقامة 1/183. 5 - انظر: مجموع الفتاوى 5/528 - 536، مجموعة الرسائل 5/322، شفاء العليل ص153، والبحث ص149 - 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 4 - معنى الخلق عند الفلاسفة: يقول ابن سينا: "حد الخلق: هو اسم مشترك، فيقال: خلق لإفادة وجود كيف كان، ويقال خلق لإفادة وجود حاصل عن مادة وصورة كيف كان، ويقال خلق لهذا المعنى الثاني، بعد أن يكون لم يتقدمه وجود بالقوة، كتلازم المادة والصورة في الوجود"1. وذكر هذه المعاني الغزالي، إلا أنه قال في المعنى الثالث: "وقد يقال خلق لهذا المعنى الثاني، لكن بطريق الاختراع، من غير سبق مادة فيها قوة وجوده، وإمكانه"2. وبتأمل معاني الخلق التي ذكرها ابن سينا، وذكرها الغزالي على أنها حد للخلق عند الفلاسفة، نجد أنها مبهمة، ليس فيها توضيح لمعنى الخلق، بل فيها أن الخلق يعني إفادة الوجود، دون سبق بالعدم، أو ذكر للخالق، وهذا ظاهر البطلان. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - عن تعريف الفلاسفة للخلق: "وقد فسروا لفظ الخلق بثلاثة معان، ليس فيها واحد هو المراد في كلام الله - تعالى -، ورسوله، والمؤمنين، فإن ما يذكرونه من إفادة وجود الملائكة بالمعنى الأول، وما يذكرونه في اختراع الأفلاك والعناصر بالمعنى "الثالث"3، لم يُرد واحداً منها الأنبياءُ، والمؤمنون، وذلك معلوم بالاضطرار والتواتر والإجماع، أما المعنى "الثاني"4 فكذلك، فليس في كلام الرسل ما يثبت أن الخلق حاصل في أجسام هي مادة وصورة، بل كلامهم ينفي ذلك، وهذا بين"5. فهم يريدون بخلق الملائكة وهي التي يسمونها العقول والنفوس، أنها صادرة عن الله ومعلولة له، والمعلول ملازم للعلة غير متأخر عنها، فهي ليست مخلوقة ومسبوقة بالعدم، وهذا مناقض لما ورد عن خلق الملائكة في الكتاب والسنة. ومن وجوه الرد على الفلاسفة في تحريفهم لمعنى لفظ الخلق ما يلي:   1 - الحدود لابن سينا ضمن كتاب المصطلح الفلسفي عند العرب ص262، وانظر: معيار العلم ص284. 2 - معيار العلم ص284. 3 - هذه اللفظة ساقطة من أصول النسخ الخطية وأضاف المحقق لفظة "الثاني" هنا، والذي يظهر أنه المعنى الثالث كما أثيته. 4 - هذه اللفظة موجودة في أصول النسخ الخطية للكتاب، وهي صحيحة كما يظهر، وقد عدلها المحقق لتكون الثالث، انظر: بغية المرتاد ص238، تحقيق الدكتور موسى الدويش. 5 - بغية المرتاد ص237 - 238 تحقيق الدكتور موسى الدويش، وانظر تفصيل الرد في المصدر نفسه ص238 - 243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 أولاً: أن القرآن والتوراة قد نصا أنه - تعالى - خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وتواترت بذلك الأحاديث، ثم اتفق عليه أهل الملل، فكيف يجوز أن يفسر بالاختراع اللازم لذاته من غير سبق مادة؟ كما ذكروه في المعنى الثالث1. ثانياً: أن لفظ الخلق المذكور في القرآن، يتضمن معنيين، كلاهما يناقض قولهم، يتضمن الإبداع والإنشاء المعروف، ويتضمن التقدير، وعندهم العقول والنفوس ليس لها مقدار، ولا هي أيضاً مبدعة الإبداع المعروف، والسماوات ليست مبدعة الإبداع المعروف، وقد قال - تعالى -: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان - 2] ، فذكر لفظ الخلق لكل شيء، وذكر أنه قدر كل شيء تقديراً، والملائكة عندهم لم تقدر، بل ولم تخلق الخلق المعروف عند المسلمين، وهذا يدل على مناقضتهم للرسل أيضاً، مع كثرة أدلة ذلك باللغة التي خوطبوا بها2. ثالثاً: أن المعنى الثاني وهو قولهم: "يقال خلق لإفادة وجود حاصل عن مادة وصورة كيف كان"؛ يشير إلى قولهم بقدم المادة وهو قول باطل، وينفي صفة الخلق عن الله، وهذا تضليل بين، وتحريف ظاهر، يريدون به ستر قولهم بأن العالم قديم، يعني غير مخلوق الخلق المعروف. فهذا مما يرد به على الفلاسفة في المعاني الفاسدة التي ضمنوها للفظ الخلق، حيث إنه بفهم معنى الخلق في الشرع، يتبين أنه لفظ لا اشتراك فيه، فخلق الملائكة هو نفس معنى خلق الإنسان، وغيره من المخلوقات، وهو إنشاؤها من العدم وفق تقدير الله السابق لها.   1 - انظر: بغية المرتاد ص239. 2 - انظر: المرجع السابق ص 240 - 241، الصفدية 1/240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الإبداع 1 - الإبداع في اللغة: قال الخليل: "البَدْع إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق، ولا ذكر، ولا معرفة. والله بديع السموات، والأرض، ابتدعهما، ولم يكونا قبل ذلك شيئاً يتوهمهما متوهم، وبدع الخلق. والبِدْع الشيء الذي يكون أولاً في كل أمر، كما قال الله - عز وجل -: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف - 9] أي لست بأول مرسل.. والبدعة اسم ما ابتدع من الدين وغيره، ونقول لقد جئت بأمر بديع، أي مبتدع عجيب، وابتدعت جئت بأمر مختلف لم يعرف"1. وقال الجوهري: "أبدعت الشيء، اخترعته لا على مثال"2. فالإبداع إحداث الشيء بعد أن لم يكن له خلق ولا ذكر، وعلى نحو غير مسبوق. 2 - معنى الإبداع عند أهل السنة: ورد في كتاب الله - تعالى - قوله - سبحانه -: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة - 117، الأنعام - 101] ، والبديع هو المبدع أي المنشيء، والمحدث، مالم يسبقه إلى إنشاء مثله، وإحداثه، أحد. يقول الطبري - رحمه الله -:"يعني جل ثناؤه بقوله: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} ، مبدعها، وإنما هو مفعل صرف إلى فعيل، كما صرف المؤلم إلى أليم، والمسمع إلى سميع، ومعنى المبدع المنشيء، والمحدث، مالم يسبقه إلى إنشاء مثله، وإحداثه، أحد. ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعاً لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره، وكذلك كل محدث فعلاً أو قولاً لم يتقدمه فيه متقدم فإن العرب تسميه مبتدعا "3. ويقول شيخ الإسلام - رحمه الله - مبيناً معنى الإبداع أنه: "خلق الشيء على غير مثال"4،   1 - العين 2/54، وانظر: الصحاح 3/1183 - 1184، لسان العرب 8/6، المصباح المنير 1/38. 2 - الصحاح 3/1183، وانظر: معجم مقاييس اللغة 1/209. 3 - تفسير الطبري 1/508. 4 - درء التعارض 7/369. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وقال - رحمه الله -: "والإبداع خلق الشيء بمشيئة الخالق وقدرته، مع استقلال الخالق به، وعدم شريك له"1. وقال ابن القيم - رحمه الله -:"الإبداع إيجاد المبدع على غير مثال سبق"2. وقد سبق أن ذكرت أن الخلق هو الإبداع بتقدير3. فالإبداع يفسر بالخلق والخلق يفسر بالإبداع، أي أنه - سبحانه - يخلق بإبداع. وقال ابن القيم - رحمه الله -:"وكذلك مبدع الشيء، وبديعه، لا يصح إطلاقه إلا على الرب كقوله: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة - 117، الأنعام - 101] "4. فالإبداع من خصائص الربوبية5، وهو صفة فعلية للرب - تعالى - قائمة بذاته، متعلقة بقدرته ومشيئته، وتعني إنشاء الشيء وإحداثه على مثال غير مسبوق. 3 - معنى الإبداع عند الفلاسفة: يقول الكندي: "الإبداع هو إظهار الشيء عن ليس"6. ويقول ابن سينا: "حد الإبداع هو اسم مشترك لمفهومين؛ أحدهما تأسيس الشيء لا عن شيء ولا بواسطة شيء. والمفهوم الثاني أن يكون للشيء وجود مطلق عن سبب بلا متوسط وله في ذاته أن لا يكون موجوداً وقد أفقد الذي له من ذاته إفقاداً تاماً"7. قال الغزالي بعد أن ذكر التعريف السابق:" وبهذا المفهوم العقل الأول مبدع في كل حال، لأنه ليس وجوده من ذاته، فله من ذاته العدم، وقد أفقد ذلك إفقاداً تاماً"8. ويقول ابن سينا أيضا في تعريف الإبداع: "الإبداع هو أن يكون من الشيء وجود لغيره، متعلق به فقط، دون متوسط من مادة، أو آلة، أو زمان. وما يتقدمه عدم زماني لم يستغن عن متوسط. والإبداع أعلى مرتبة من التكوين والإحداث"9.   1 - درء التعارض 7/369. 2 - شفاء العليل ص132. 3 - انظر: مجموع الفتاوى 2/211، والبحث ص168. 4 - شفاء العليل ص132. 5 - انظر: مجموع الفتاوى 6/67. 6 - الحدود للكندي ضمن المصطلح الفلسفي للدكتور الأعسم ص190. 7 - الحدود لابن سينا ضمن المصطلح الفلسفي للدكتور الأعسم ص 262. 8 - معيار العلم ص289. 9 - الإشارات لابن سينا 3 /95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فالإبداع عند الفلاسفة - باختصار - هو إيجاد شيء غير مسبوق بالعدم، وغير مسبوق بمادة أو زمان1. 4 - نقد تعريف الفلاسفة: أما تعريف الفلاسفة للإبداع فهو باطل من وجوه: الوجه الأول: أنه مخالف لمعنى الإبداع في اللغة والقرآن، إذ معنى الإبداع فيهما الإنشاء من العدم. الوجه الثاني: أن حاصل تعريفهم أن ما يطلقون عليه أنه مبدَع؛ كالعقول، والنفوس، ليس مخلوقاً الخلق المعروف، بل هي عندهم موجودة منذ الأزل، ولم تسبق بعدم فكيف تكون مبدعه؟. وما المدح الذي يرجع إلى مبدِعها، وهي مساوقة له في الوجود - كما يقولون -؟. الوجه الثالث: أن الإبداع من خصائص الربوبية، والفلاسفة يصفونه - تعالى - بأنه مبدع، ولكنهم أيضاً يصفون العقول بأنها مبدعة، فهم يقولون إن كل عقل أبدع ما دونه، والعقل العاشر أبدع ما تحت فلك القمر2، فالعقول إذاً مشاركة لله في صفة الإبداع - تعالى الله عن قولهم -.   1 - انظر: كشاف اصطلاحات الفنون 1/134. 2 - انظر: الدرء 5/82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 التأثير 1 - معنى التأثير في اللغة: قال الخليل: "الأثر بقية ما ترى من كل شيء.. وأثر السيف ضربته، وذهبت في إثر فلان أي استقفيته"1. وفي الصحاح: "والتأثير إبقاء الأثر في الشيء"2. وقال في لسان العرب:" والأثر بالتحريك ما بقي من رسم الشيء، والتأثير إبقاء الأثر في الشيء، وأثر في الشيء ترك فيه أثراً، والآثار الأعلام"3. فالتأثير في اللغة إبقاء الأثر في الشيء. 2 - معنى التأثير في الاصطلاح: لم يرد لفظ التأثير في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وورد لفظ الآثار نحو قوله - تعالى -: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم - 50] قال الراغب: "أثر الشيء حصول ما يدل على وجوده"4. والتأثير اسم مشترك، قد يراد به الانفراد بالابتداع، والتوحد بالاختراع5، وهو التأثير الذي يطلق على الرب - سبحانه - من باب الإخبار، وهو كما قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:"هو إبداع الشيء، وخلقه، وجعله موجوداً"6. وهو بهذا المعنى يخبر به عن الله - تعالى - ولكن لا يشتق منه اسم ولا صفة، حيث لم يرد في الكتاب أو السنة.   1 - العين 8/236 - 237، وانظر: معجم مقاييس اللغة 1/54، الصحاح 2/575. 2 - الصحاح 2/576. 3 - لسان العرب 4/5. 4 - المفردات ص62. 5 - انظر: مجموع الفتاوى 8/389. 6 - منهاج السنة النبوية 1/275، وانظر: الدرء 1/348، الصفدية1/53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وتسمية تأثير الرب في مخلوقاته فعلاً، وصنعاً، وإبداعاً، وإبداءً، وخلقاً، وبرءاً، وأمثال ذلك من العبارات، هو مما تواتر عن الأنبياء، بل ومما اتفق عليه جماهير العقلاء1. ولا يصح إطلاقه بهذا المعنى على قدرة العبد، وقد قالت المعتزلة بأن العبد يخلق فعل نفسه، فأثبتوا التأثير بهذا المعنى لقدرة العبد2، وهذا باطل. وقد يراد بالتأثير نوع معاونة، إما في صفة من صفات الفعل، أو في وجه من وجوهه - كما قاله كثير من متكلمي أهل الإثبات -، وهذا باطل بما به بطل التأثير في ذات الفعل، إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله - سبحانه - في شيء صغير أو كبير، وهل هو إلا شرك دون شرك. وقد يراد بالتأثير، أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود، كان بتوسط القدرة المحدثة، بمعنى أن القدرة المخلوقة، هي سبب، وواسطة، في خلق الله - سبحانه وتعالى - الفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء، وكما خلق جميع المسببات، والمخلوقات، بوسائط وأسباب وهذا حق3. وبهذا يتضح أن التأثير بمعنى الخلق والإبداع ينفرد به الله - تعالى -، وأن لفظ التأثير لفظ مجمل ينبغي الاستفصال عن معناه.   1 - انظر: منهاج السنة النبوية 1/275. 2 - انظر: المحيط بالتكليف للقاضي عبد الجبار ص340 - 347. 3 - انظر: مجموع الفتاوى 8/389. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 3 - التأثير التام: مما يستدل به الفلاسفة على قولهم بقدم العالم، هو أن الله مؤثر تام في الأزل1. والتأثير التام لفظ مجمل، وحينما يقول الفلاسفة عن الله إنه مؤثر تام في الأزل، فلا بد من الاستفصال عن معنى ذلك: فيقال لهم: قولكم إنه مؤثر تام في الأزل، لفظ مجمل يراد به التأثير العام في كل شيء في الأزل، ويراد به التأثير المطلق في شيء بعد شيء، ويراد به التأثير في شيء معين دون غيره. فإن أردتم الأول، لزم أن لا يحدث في العالم حادث، وهذا خلاف المشاهدة، فهو ممتنع بضرورة الحس، والعقل، لأن الحوادث مشهودة، وأيضاً فكون الشيء مبدَعاً أزلياً ممتنع. وإن أردتم الثاني، لزم أن يكون كل ما سوى الله مخلوقاً، حادثاً، كائناً بعد أن لم يكن، وكان الرب لم يزل متكلماً بمشيئته، فعالاً لما يشاء. وهذا يناقض قولكم، ويستلزم أن كل ما سواه مخلوق، ويوافق ما أخبرت به الرسل، وعلى هذا يدل العقل الصريح. فتبين أن العقل الصريح يوافق ما أخبرت به الأنبياء. وإن أردتم الثالث، فسد قولكم، لأنه يستلزم أنه يشاء حدوثها بعد أن لم يكن فاعلاً لها، من غير تجدد سبب يوجب الإحداث، وهذا يناقض قولكم. فإن صح هذا جاز أن يحدث كل شيء بعد أن لم يكن محدثاً لشيء، وإن لم يصح هذا بطل، فقولكم باطل على التقديرين. وحقيقة قولكم أن المؤثر التام لا يكون إلا مع أثره، ولا يكون الأثر إلا مع المؤثر التام في الزمن، وحينئذ فيلزمكم أن لا يحدث شيء، ويلزمكم أن كل ما حدث، حدث بدون مؤثر، ويلزمكم بطلان الفرق بين أثر وأثر، وليس لكم أن تقولوا بعض الآثار يقارن المؤثر التام، وبعضها يتراخى عنه2. والناس لهم في استلزام المؤثر أثره قولان: فمن قال إن الحادث يحدث في الفاعل بدون سبب حادث، فإنه يقول المؤثر التام لا يجب أن يكون أثره معه بل يجوز تراخيه، ويقول إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه   1 - انظر: الصفدية 1/39. 2 - انظر: مجموع الفتاوى 12/47، الصفدية 1/53، 2/136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 بمجرد قدرته التي لم تزل، أو بمجرد مشيئته التي لم تزل، وإن لم يحدث عند وجود الحادث سبب. والقول الثاني أن المؤثر التام يستلزم أثره، وفي معنى هذا الاستلزام قولان: أحدهما: أن يكون معه بحيث يكون زمان الأثر المعين زمان المؤثر فهذا هو الذي تقوله المتفلسفة وهو معلوم الفساد بصريح العقل عند جمهور العقلاء. والثاني: أن يكون الأثر عقب تمام المؤثر، وهذا يقر به جمهور العقلاء وهو يستلزم أن لا يكون في العالم شيء قديم بل كل ما فعله القديم الواجب بنفسه فهو محدث1. فالمؤثر التام هو الذي يستلزم أثره، بحيث يكون الأثر عقب تمام المؤثر، لا معه.   1 - انظر: درء التعارض 1/366 - 367، 4/291، 8/272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الإيجاد - الموجود - الوجود 1 - معنى الإيجاد في اللغة: يقول ابن فارس: "الواو والجيم والدال يدل على أصل واحد، وهو الشيء يُلفيه، ووجدت الضالة وجداناً"1. ووَجَدَ مطلوبه يجِده وُجُوداً، وأوجده الله مطلوبه أي أظفره به، وأوجده الله أي أغناه. وُوجِد الشيء عن عدم فهو موجود وأوجده الله2. و"خلقه الله خلقاً أوجده"3. و"كوّن الله الشيء فكان أي أوجده"4. و" الوجود خلاف العدم، وأوجَد الله الشيء من العدم فهو موجود، من النوادر"5. و"وجَدْتُ الشيء أي أصبته"6. والمعاني السابقة تدل على أن الإيجاد في اللغة يعني خلق الشيء بعد أن كان عدماً، وتكوينه، وأن الموجود خلاف المعدوم، والوجود خلاف العدم، وهو الكون.   1 معجم مقاييس اللغة 6/86. 2 - انظر: الصحاح 2/547، لسان العرب 3/445 - 446، القاموس المحيط ص413 - 414، المصباح المنير 2/891. 3 - المغرب ص153. 4 - المصباح المنير 2/748. 5 - المرجع السابق 2/891. 6 - العين 6/169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 2 - معنى الإيجاد في الاصطلاح: أ - معنى الإيجاد في اصطلاح أهل السنة: لم يرد لفظ الإيجاد أو الوجود أو الموجود في كتاب الله، وقد ورد الفعل وجدوما تصرف منه في آيات كثيرة، والمعنى فيها قريب من بعض. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "من المعلوم أن لفظ الوجود هو في أصل اللغة مصدر وجدت الشيء أجده وجوداً، ومنه قوله - تعالى -: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء - 43، المائدة - 6] وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور - 39] وقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى - 6 - 7] وأمثال ذلك، فالموجود هو الذي يجده الواجد كنسبة المعلوم إلى العلم، والمذكور إلى الذكر.."1. ولا يوجد في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنقول إلينا لفظ الإيجاد ولا الموجود ولا الوجود2. ولم يتحدث أهل السنة كثيراً عن لفظ الإيجاد لأن له مرادفاً شرعياً وارداً في الكتاب والسنة وهو لفظ الخلق، ومما ذكره أهل السنة عن لفظ الإيجاد؛ قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ولفظ الوجود قد يعنى به المصدر، إما مصدر وَجَد يَجِد وجوداً، أو مصدر أوجده الله، أو مصدر وجدته أجده وجوداً. لكن ليس المراد في هذا المقام مسمى المصادر فإن إيجاد الله للخلق هو خلقه لهم، وهذا عند الأكثرين هو فعل غير المخلوقين، وعند كثير من النظار الخلق هو المخلوق"3. فالإيجاد هو خلق المخلوقات. وقال ابن القيم - رحمه الله -: "فالخلق الإيجاد"4،   1 - بيان تلبيس الجهمية 1/328، وانظر: مفردات الراغب ص 854 - 855. 2 - وذلك حسب اطلاعي. 3 - الصفدية 2/190. 4 - شفاء العليل ص65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وقال: "وأما الجعل فقد أطلق على الله - سبحانه - بمعنيين أحدهما: الإيجاد والخلق، والثاني التصيير "1. وقد فسر ابن كثير - رحمه الله - قوله - تعالى -: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك - 2] فقال: "ومعنى الآية أنه أوجد الخلائق من العدم"2. ومن خلال النقول السابقة يمكن القول أن معنى الإيجاد هو الخلق، وأنه من الألفاظ التي يخبر بها عن الله - تعالى - ولكن لا يوصف به، لأن الله - تعالى - لم يصف نفسه به ولم يصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "وأما لفظ الموجد فلم يقع في أسمائه - سبحانه -، وإن كان هو الموجد على الحقيقة، ووقع في أسمائه الواجد وهو بمعنى الغني الذي له الوجد، وأما الموجد فهو مفعل من أوجد وله معنيان: أحدهما أن يجعل الشيء موجوداً وهو تعدية وجده وأوجده.. والمعنى الثاني: أوجده جعل له جدة وغنى"3.   1 - شفاء العليل ص133. 2 - تفسير القرآن العظيم 4/422. 3 - شفاء العليل ص132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ب - معنى الإيجاد عند المتكلمين والفلاسفة: يفسر كثير من المتكلمين الإيجاد بالخلق، والتكوين، والاختراع، وما في معناه، يقول الرازي: "الإيجاد عبارة عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود"1.ويقول أيضاً: "أما الخلق بمعنى الإحداث والإيجاد فعندنا أنه - سبحانه - منفرد به"2. ويقول ابن حزم: "إن الإيجاد هو الخلق نفسه"3. ومما قالوا في معنى الإيجاد: "التكوين والاختراع والإيجاد والخلق، ألفاظ تشترك في معنى وتتباين بمعان، والمشترك فيه كون الشيء موجداً من العدم ما لم يكن موجوداً"4. وتفسير الإيجاد بالخلق يتفق أهل السنة فيه مع المتكلمين؛ ولكن يعود النقد إلى معنى الخلق عند المتكلمين وموقفهم من صفات الفعل، وقد سبق بيان رد أهل السنة على المتكلمين في قولهم إن الخلق هو المخلوق5. وأما الماتريدية فيقول البزدوي6: "إن التكوين والإيجاد صفة لله - تعالى - غير حادث بل هو أزلي"7. وذلك لأن الماتريدية ترجع جميع صفات الفعل إلى التكوين، وقد سبق الرد على الماتريدية في قولهم بأزلية صفات الفعل، وعدم تعددها، وعدم تعلقها بمشيئة الرب8. أما الفلاسفة فيقول ابن رشد في كتاب تفسير ما بعد الطبيعة: "الإيجاد هو إخراج ما بالقوة إلى الفعل، فإن الكائن بالفعل هو فاسد بالقوة، وكل قوة فإنما تصير إلى الفعل من قِبَل مخرج لها هو بالفعل، فلو لم تكن القوة موجودة لما كان هاهنا فاعل أصلا، ولو لم يكن الفاعل موجوداً لما كان هاهنا شيء هو بالفعل أصلاً"9، وقال في كتاب تهافت   1 - المسائل الخمسون ص 22. 2 - المطالب العالية 9/137. 3 - الفصل 5/55. 4 - تلخيص المحصل للطوسي ص 312، وانظر الكليات ص29. 5 - انظر البحث ص 149 - 152. 6 - هو العلامة شيخ الحنفية بعد أخيه الكبير أبو اليسر محمد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم بن موسى بن مجاهد البزدوي، من مؤلفاته: كتاب المبسوط في الفقه، وكتاب أصول الدين، توفي في بخارى في تاسع رجب سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. انظر: السير19/49، كشف الظنون2/1581. 7 - أصول الدين ص 69 - 70. 8 - انظر: البحث ص149 - 152. 9 - تفسير ما بعد الطبيعة لابن رشد ص1504، وانظر: موسوعة مصطلحات الفلسفة عند العرب للدكتور جيرار جهامي ص142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 التهافت: "ليس الإيجاد شيئا إلا قلب عدم الشيء إلى الوجود"1، وهذا يشبه قول من قال إن المعدوم شيء، حيث يرون أن الشيء قبل أن يوجد فيه قوة للوجود، فإن العدم عندهم ذات ما2، فهم يفرقون بين الوجود والثبوت، وهذا باطل، فالمعدوم ليس بشيء، فضلا عن أن يكون فيه قوة للوجود، بل وجود الشيء هو ثبوته. وفي كتاب دستور العلماء: "الإيجاد إعطاء الوجود، وفي الإشارات إشارة إلى أنه يرادف الإبداع"3. وتعريف الإبداع عند ابن سينا - كما سبق -: "هو اسم مشترك لمفهومين؛ أحدهما تأسيس الشيء لا عن شيء، ولا بواسطة شيء، والمفهوم الثاني أن يكون للشيء وجود مطلق عن سبب بلا متوسط، وله في ذاته أن لا يكون موجودا وقد أفقد الذي له من ذاته إفقادا تاما "4. والإبداع بهذا المعنى أعلى رتبة عند الفلاسفة من الإحداث والتكوين5.فالإبداع عند الفلاسفة - باختصار - هو إيجاد شيء غير مسبوق بالعدم، وغير مسبوق بمادة أو زمان، وهذا المعنى الذي ذكره ابن سينا للإبداع باطل، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - معلقا عليه: "ومعلوم أن هذا المعنى ليس هو المعروف من لفظ الإبداع في اللغة التي نزل بها القرآن، كما في قوله - تعالى -: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة - 117، الأنعام - 101] ونحو ذلك، ولفظ الخلق أبعد عن هذا المعنى، فإن هذا المعنى يعلم بالاضطرار أنه ليس هو المراد بلفظ الخلق في القرآن والسنة"6. كما يفسر الفلاسفة الإحداث بالإيجاد، وهو أقل رتبة من الإبداع، ويتبين أنواع الإيجاد عندهم إذا نظرنا إلى معنى الإحداث الذي ذكروه، فالإحداث عندهم نوعان7: 1 - الإحداث الزماني: وهو إيجاد شيء بعد أن لم يكن له وجود في زمان سابق.   1 - تهافت التهافت ص91. 2 - انظر: المرجع السابق ص77. 3 - موسوعة مصطلحات دستور العلماء ص191. 4 - الحدود ضمن كتاب المصطلح الفلسفي ص262، وانظر: معيار العلم ص284. 5 - انظر: الإشارات لابن سينا 3/95. 6 - بغية المرتاد ص237. 7 - انظر: الحدود لابن سينا ضمن كتاب المصطلح الفلسفي ص262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 2 - الإحداث غير الزماني: وهو إفادة الشيء وجوداً، وليس له في ذاته ذلك الوجود لا بحسب زمان دون زمان، بل في كل زمان. والإحداث بالمعنى الأول هو إيجاد المخلوقات المشاهد حدوثها. ويقصدون بالنوع الثاني العقول فإنها مبدعة عندهم، كما أن العالم مبدع عندهم، وهو يعني قدم العالم، وقدم العقول، وهذا المعنى ظاهر البطلان، فقدم العالم يناقض كون الله أوجده؛ لأن الإيجاد للشيء لابد أن يكون مسبوقا بالعدم. 3 - معنى الموجود والوجود: الموجود يطلقه أهل العلم والنظر على ما هو كائن ثابت؛ لكونه يجده الواجد. وتارة يطلقونه من غير أن يستشعر فيه وجود واجد له لا بالفعل ولا بالاستحقاق. والوجود عندهم يراد به الكون والثبوت والحصول، وتارة يراد به الموجود1. يقول الباقلاني: "والموجود هو الشيء الكائن الثابت "2. أما الوجود فيعرفه الرازي بأنه: "حصول الشيء وتحققه وثبوته"3. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:" والوجود هو الثبوت"4. ويبين شيخ الإسلام - رحمه الله - المراد بهذا اللفظ فيقول: "من المعلوم أن لفظ الوجود هو في أصل اللغة مصدر وجدت الشيء أجده وجودا، ومنه قوله - تعالى -: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء - 43، المائدة - 6] ..فالموجود هو الذي يجده الواجد، كنسبة المعلوم إلى العلم، والمذكور إلى الذكر..وهذا الاسم إنما يستحقه من يكون موجودا لواجد يجده؛ لكن هم في مثل هذا قد يقولون مشهود ومرئي وموجود، ونحو ذلك: لما يكون بحيث يشهده الشاهد، ويراه الرائي، ويجده الواجد؛ وإن تكلموا بذلك في الوقت الذي لا يكون فيه يشهده، ويراه، ويجده غيره. وقد لا يقولون هذا إلا في الوقت الذي يشهده الشاهد ويراه الرائي، ويجده الواجد، وكثيراً ما يقصدون به المعنى الأول، فيطلقون الموجود على ما هو كائن ثابت لكونه بحيث يجده الواجد.   1 - انظر: بيان تلبيس الجهميه 1/329، الصفدية 1/119. 2 - الإنصاف ص15، وانظر: شرح الأصول الخمسه ص175، الصحايف الإلهية ص96. 3 - المباحث المشرقية 1/133، وانظر: شرح المقاصد 1/295. 4 - الجواب الصحيح 4/300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وكذلك لفظ الوجود يريدون بها تارة المصدر الذي هو الأصل فيها، ويريدون بها تارة المفعول: أي الموجود، كما في لفظ الخلق ونحوه، وكذلك لفظ الفعل؛ فإنهم يقولون وجد هذا، وهذا صيغة فعل مبني للمفعول، فقد يريدون بذلك أنه وجده واجد، وقد يريدون بذلك أنه كان وحصل حتى صار بحيث يجده الواجد، ثم لما صار هذا المعنى هو الغالب في قصدهم، صار لفظ الموجود عندهم، والوجود، يراد به الثبوت، والكون، والحصول، من غير أن يستشعر فيه وجود واجد له لا بالفعل ولا بالاستحقاق، فهذه ثلاثة معان، لكن غروب هذا المعنى عن الذهن إنما كان لما لم يقصد الناطق إلا نفس الكون والثبوت، وإن كان المعنى الآخر لازم له"1. فلا يجوز أن يسمى بالموجود ما يكون حيث لا يجده الواجد، ولا يستعمل لفظ موجود ووجدته فيما لا يحس ولا يمكن الإحساس به ألبتة2.   1 - بيان تلبيس الجهمية 1/328 - 329. وانظر: الصفدية 1/119. 2 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/329 - 330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 4 - الوجود المطلق: الوجود المطلق الذي قال به الفلاسفة المتأخرون، وملاحدة الصوفية أنواع: الأول: الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وهو الذي لا يتعين، ولا يتخصص بحقيقة يمتاز بها عن سائر الموجودات، بل حقيقته وجود محض مطلق، بشرط نفي جميع القيود والمعينات والمخصصات1. وذلك كإنسان مطلق بشرط الإطلاق، وحيوان مطلق بشرط الإطلاق، وهذا لا يكون إلا في الأذهان دون الأعيان2. الثاني: الوجود المطلق بشرط سلب الأمور الثبوتية، كما هو قول ابن سينا وأتباعه، ويعبرون عن هذا بأن وجوده ليس عارضاً لشيء من الماهيات والحقائق3. الثالث: الوجود المطلق لا بشرط الإطلاق، وهو قول ملاحدة الصوفية، حيث جعلوا الله هو الوجود من حيث هو هو، مع قطع النظر عن كونه واجباً وممكناً، وواحداً وكثيراً4. 5 - الرد على القائلين بأن الوجود الواجب هو الوجود المطلق: عندما قسم ابن سينا الوجود إلى واجب وممكن، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، فلم يمكنه أن يجعل هذا الوجود المنقسم إلى واجب وممكن، هو الوجود الواجب، فجعل الوجود الواجب، هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، أو بشرط سلب الأمور الثبوتية، وقوله هذا يعني نفي وجود الله، وبيان ذلك من وجوه: أولاً: أن يقال الوجود المطلق بشرط الإطلاق، أو بشرط سلب الأمور الثبوتية، أو لا بشرط، مما يعلم بصريح العقل انتفاؤه في الخارج، وإنما يوجد في الذهن. وهذا مما قرروه في منطقهم اليوناني، وبينوا أن المطلق بشرط الإطلاق؛ كإنسان مطلق بشرط الإطلاق، وحيوان مطلق بشرط الإطلاق، لا يكون إلا في الأذهان دون الأعيان. ولما أثبت قدماؤهم الكليات المجردة عن الأعيان، التي يسمونها المثل الأفلاطونية، أنكر ذلك حذاقهم، وقالوا هذه لا تكون إلا في الذهن5.   1 - انظر: شرح العقيدة الأصفهانية ص 52، درء التعارض 3/439. 2 - انظر: درء التعارض 1/286. 3 - انظر: المرجع السابق 1/287. 4 - انظر: المرجع السابق 1/290. 5 - انظر: المرجع السابق 1/286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ثانياً: أن الذين ادعوا ثبوت هذه الكليات في الخارج مجردة، قالوا إنها مجردة عن الأعيان المحسوسة، ويمتنع عندهم أن تكون هذه هي المبدعة للأعيان، بل يمتنع أن تكون شرطاً في وجود الأعيان، فإنها إما أن تكون صفة للأعيان، أو جزءاً منها، وصفة الشيء لا تكون خالقة للموصوف، وجزء الشيء لا يكون خالقاً للجملة1. ثالثاً: أنه إذا جعل وجود الرب مطلقاً بشرط الإطلاق، لم يجز أن ينعت بنعت يوجب امتيازه، فلا يقال هو واجب بنفسه، ولا ليس بواجب بنفسه، فلا يوصف بنفي، ولا إثبات، لأن هذا نوع من التمييز والتقييد، وهذا حقيقة قول القرامطة الباطنية الذين يمتنعون عن وصفه بالنفي والإثبات. ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع، كما أن الجمع بين النقيضين ممتنع، وأما إذا قيد بسلب الأمور الثبوتية، دون العدمية، فهو أسوأ حالاً من المقيد بسلب الأمور الثبوتية والعدمية، فإنه يشارك غيره في مسمى الوجود، ويمتاز عنه بأمور وجودية، وهو يمتاز عنها بأمور عدمية، فيكون كل من الموجودات أكمل منه. فلزمهم أن يكون الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم، هو الممتنع الذي لا يتصور وجوده في الخارج، وإنما يقدره الذهن تقديراً، كما يقدر كون الشيء موجوداً معدوماً، أو لا موجوداً ولا معدوماً. فلزمهم الجمع بين النقيضين والخلو عن النقيضين، وهذا من أعظم الممتنعات باتفاق العقلاء2. رابعاً: أن المطلق لا بشرط، كالإنسان المطلق لا بشرط، يصدق على هذا الإنسان، وهذا الإنسان، وعلى الذهني والخارجي، فالوجود المطلق لا بشرط يصدق على الواجب والممكن، والواحد والكثير، وحينئذ فهذا الوجود المطلق ليس موجوداً في الخارج مطلقاً بلا ريب3. فمن وصف الله بأنه وجود مطلق، فقد جعل الله ممتنع الوجود - تعالى الله عن قولهم -.   1 - انظر: درء التعارض 1/286 - 287. 2 - انظر: المرجع السابق 1/288 - 289. 3 - انظر: المرجع السابق 1/290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الماهية 1 - معنى الماهية في اللغة: الماهية في تحليلها اللغوي، مأخوذة عن ما هو، بإلحاق ياء النسبة، وحذف إحدى اليائين للتخفيف، ثم التعليل، وإلحاق التاء للنقل من الوصفية إلى الإسمية. وقيل: ألحق ياء النسبة بما هو، وحذف الواو، وألحق تاء التأنيث1. والماهية من الأسماء المولدة، وهي المقول في جواب ما هو؟ بما يصور الشيء في نفس السائل2. وفي المعجم الوسيط: "ماهية الشيء كنهه وحقيقته، أخذت من النسبة إلى ما هو أو ما هي "3. فالماهية هي ما يصور الشيء في نفس السائل، وهي كنه الشيء وحقيقته.   1 - انظر: كشاف اصطلاحات الفنون 2/1313، موسوعة مصطلحات جامع العلوم ص789. 2 - انظر: الرد على المنطقيين ص65. 3 - المعجم الوسيط 2/892. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 2 - معنى الماهية في الاصطلاح: أ - معنى الماهية عند أهل السنة، وسائر أهل الإثبات: لم يرد لفظ الماهية في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقل عن أحد من الصحابة، والتابعين، استخدامهم هذا اللفظ. والماهية - كما يقول شيخ الإسلام - هي: "المقول في جواب ما هو، بما يصور الشئ في نفس السائل، وهو الثبوت الذهني"1، أو "هي ما يرتسم في النفس من الشيء"2، وهذا هو الغالب على لفظ الماهية، سواء كان ذلك المقول موجوداً في الخارج، أو لم يكن، فصار بحكم الاصطلاح أكثر ما يطلق الماهية على ما في الذهن، ويطلق الوجود على ما في الخارج، وهذا أمر لفظي اصطلاحي. وقد يراد بالماهية ما هو موجود في الخارج3، فتكون بمعنى ذات الشيء، ووجوده في الخارج، وحقيقته الثابتة في نفس الأمر4. وإذا قيد وقيل الوجود الذهني، كان هو الماهية التي في الذهن. وإذا قيل ماهية الشيء في الخارج، كان هو عين وجوده الذي في الخارج. فوجود الشيء في الخارج، عين ماهيته في الخارج، كما اتفق على ذلك أئمة النظار المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة، وسائر أهل الإثبات، من المتكلمة الصفاتية، وغيرهم، كأبي محمد بن كلاب، وأبي الحسن الأشعري، وأبي عبد الله بن كرام، وأتباعهم5. فلفظ الماهية يراد به ما في النفس والموجود في الخارج، ولفظ الوجود يراد به بيان ما في النفس والموجود في الخارج. فمتى أريد بهما ما في النفس، فالماهية هي الوجود. وإن أريد بهما ما في الخارج، فالماهية هي الوجود أيضا. وأما إذا أريد بأحدهما ما في النفس، وبالآخر ما في الوجود الخارج، فالماهية غير الوجود6.   1 - الرد على المنطقيين ص 65. 2 - المرجع السابق ص67. 3 - انظر: المرجع السابق ص67. 4 - انظر: درء التعارض 1/293. 5 - انظر: الرد على المنطقيين ص65بتصرف، مجموعة الرسائل 4/19، التدمرية ص129، درء التعارض 5/102 - 103. 6 - انظر: الرد على المنطقيين ص67بتصرف، التدمرية ص129، مجموع الفتاوى 9/98 - 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فالماهية إذاً بحكم الاصطلاح الغالب هي الثبوت الذهني، أو ما يرتسم في النفس من الشيء، وقد يراد بها ماهية الشيء في الخارج فتكون عين وجوده، وحقيقته الثابتة في نفس الأمر. وبناء على ذلك لا يوجد ماهية قائمة بنفسها في الخارج، زائدة على وجود الشيء. ب - معنى الماهية عند الفلاسفة: الماهية عند الفلاسفة مابه يجاب عن السؤال بما هو، وربما تفسر بما به الشيء هو هو1، وهذا التعريف يتفق جزؤه الأول مع تعريف أهل السنة السابق. قال الغزالي: "والماهية إنما تتحقق بمجموع الذاتيات المقومة للشيء"2. والماهية عندهم هي الحقيقة المعراة عن الأوصاف في اعتبار العقل3. حيث يرى الفلاسفة أن الماهية لها حقيقة ثابتة في الخارج غير وجودها4. يقول ابن سينا في الإشارات: "قد يجوز أن تكون ماهية الشيء سبباً لصفة من صفاته، وأن تكون صفة له سبباً لصفة أخرى، مثل الفصل للخاصة، ولكن لا يجوز أن تكون الصفة التي هي الوجود للشيء، إنما هي بسبب ماهيته التي ليست هي الوجود، أو بسبب صفة أخرى، لأن السبب متقدم في الوجود، ولا متقدم بالوجود قبل الوجود "5. وكلامه هذا مبني على أصل فاسد، وهو الفرق بين الماهية ووجودها. وقولهم إن الماهية لها حقيقة ثابتة في الخارج غير وجودها، شبيه بقول من يقول المعدوم شيء، وهو من أفسد ما يكون، وأصل ضلالهم أنهم رأوا الشيء قبل وجوده يعلم ويراد، ويميز بين المقدور عليه والمعجوز عنه، ونحو ذلك، فقالوا لو لم يكن ثابتاًً لما كان كذلك. والتحقيق أن ذلك كله أمر ثابت في الذهن، والمقدر في الأذهان أوسع من الموجود في الأعيان، فالتفريق بين الوجود والثبوت، وكذلك التفريق بين الوجود والماهية، مع دعوى أن كليهما في الخارج غلط عظيم6.   1 - انظر: موسوعة مصطلحات جامع العلوم ص789، كشاف اصطلاحات الفنون 2/1313. 2 - معيار العلم ص73. 3 - انظر: موسوعة مصطلحات جامع العلوم ص790. 4 - انظر: الرد على المنطقيين ص64. 5 - الإشارات 3/30 - 34، وانظر: الدرء 5/101 - 102. 6 - انظر: مجموع الفتاوى 9/97 - 98، المواقف ص50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ومن هنا فرقوا في منطقهم بين الماهية والوجود، وهم لو فسروا الماهية بما يكون في الأذهان، والوجود بما يكون في الأعيان، لكان هذا صحيحاً لا ينازع فيه عاقل، وهذا هو الذي تخيلوه في الأصل، لكن توهموا أن تلك الماهية التي في الذهن، هي بعينها الموجود الذي في الخارج، فظنوا أن في هذا الإنسان المعين، جواهر عقلية قائمة بأنفسها، مغايرة لهذا المعين، مثل كونه حيواناً، وناطقاً، وحساساً، ومتحركاً بالإرادة، ونحو ذلك. والصواب أن هذه كلها أسماء لهذا المعين، كل اسم يتضمن صفة، ليست هي الصفة التي يتضمنها الاسم الآخر، فالعين واحدة، والأسماء والصفات متعددة. وأما إثباتهم أعياناً قائمة بنفسها، في هذه العين المعينة، فمكابرة للحس والعقل والشرع. فهذا الموجود المعين في الخارج هو هو، ليس هناك جوهران اثنان، حتى يكون أحدهما عارضا للآخر، أو معروضاً، بل هناك ذات وصفات1. فحقيقة قول الفلاسفة في الماهية هو إثبات حقيقة في الخارج، معراة عن الأوصاف، وهذا ممتنع، إذ أقل ما يوصف به الشيء ليتحقق في الخارج، هو صفة الوجود، وهم يفرقون بين الماهية والوجود مطلقاً، وهذا باطل. ج - معنى الماهية عند المتكلمين: يعرف كثير من متأخري المتكلمين ماهية الشيء بأنها "مابه يجاب عن السؤال بما هو، ويفسره بما به الشيء هو هو"2، وهذا موافق لتعريف الفلاسفة السابق، ويتضح هذا التعريف بقول الرازي عن الماهية: "إعلم أن لكل شيء حقيقة هو بها هو، وتلك الحقيقة مغايرة لجميع صفاتها، لازمة كانت، أو مفارقة..وهي في نفسها لا واحدة ولا كثيرة، ولا موجودة ولا معدومة"3. وفي التعريفات: "الماهية تطلق غالبا على الأمر المتعقل، مثل المتعقل من الإنسان، وهو الحيوان الناطق، مع قطع النظر عن الوجود الخارجي"4.   1 - انظر: الدرء1/288. 2 - شرح المقاصد1/399، وانظر: الكليات ص752، 863، كشاف اصطلاحات الفنون 2/1313، التعريفات ص247. 3 - المباحث المشرقية 1/139 - 140، وانظر: المواقف ص59، شرح المقاصد 1/400 - 401. 4 - التعريفات ص247، وانظر: المعجم الفلسفي للدكتور صليبا 2/315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ويخص المتكلمون الماهية بحقيقة الشيء الكلي، وأما حقيقة الجزئي فتسمى هوية1. والماهية وفقا لهذه التعريفات زائدة على الوجود، ومغايرة له وهو مذهب الفلاسفة. في حين يرى أبو الحسن الأشعري وأبو الحسين البصري2 أن الوجود نفس الماهية3. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - معلقاً على هذه الأقوال: "فمن قال إن وجود كل شيء عين ماهيته كما يقوله متكلمو أهل الأثبات، فقد أصاب، إذا أراد أن الوجود الثابت في الخارج، هو الماهية الثابتة في الخارج، ومن قال إن وجود كل شيء غير ماهيته، كما يقوله أبو هاشم بن الجبائي وأمثاله، فقد أصابوا إن أرادوا أن الوجود الثابت في الخارج، مغاير للماهية الثابتة في الذهن، وأما إن أرادوا ما هو المعروف من مذهبهم، أن في الخارج ماهيات ثابتة، وهو المعدوم الثابت في حال عدمه، وأن الوجود صفة لتلك الماهية، فهذا خطأ "4. 3 - ثبوت الماهية لله: إن لكل موجود حقيقة تخصه يتميز بها عما سواه، ويباين بها غيره، وهذه الحقيقة هي حقيقة الربوبية، وبنفيها ضل الجهمية من المعتزلة، والفلاسفة، وأمثالهم، وهي الماهية التي أثبتها ضرار، وأبو حنيفة، وغيرهما من الكوفيين، وخالفهم في ذلك معتزلة البصرة، وعلى إثباتها أئمة السنة والجماعة، من السلف والخلف، ولهذا ينفون العلم بماهيه الله وكيفيته فيقولون لا تجري ماهيته في مقال، ولا تخطر كيفيته ببال. ومن نفاها من المنتسبين إلى السنة وغيرهم قال ليس له ماهية فتجري في مقال، ولا له كيفيه فتخطر ببال. والأول هو المأثور عن السلف والأئمة، ويدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول5.   1 - انظر: شرح المقاصد 1/400، الصحايف الإلهية ص97. 2 - أبو الحسين محمد بن علي الطيب البصري، من متأخري المعتزلة ومن أئمتهم، توفي سنة 436هـ، انظر ترجمته في: وفيات الأعيان 3/401 - 402، شذرات الذهب 3/259. 3 - انظر: المواقف ص48. 4 - الصفدية 1/120، وانظر: الدرء 5/102 - 103. 5 - انظر: جامع الرسائل تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم ص172 - 173، بيان تلبيس الجهمية 1/347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وإذا كان المخلوق المعين، وجوده الذي في الخارج، هو نفس ذاته، وحقيقته، وماهيته، التي في الخارج، ليس في الخارج شيئان، فالخالق - تعالى - أولى أن تكون حقيقته، هي وجوده الثابت، الذي لا يشركه فيه أحد، وهو نفس ماهيته، التي هي حقيقته الثابتة في نفس الأمر1. وقد ذهب جمهور المتكلمين إلى امتناع إطلاق الماهية على الله - تعالى - لإشعاره بالجنسية2. كما نفى الفلاسفة الماهية عن الله - تعالى - لاستلزامها التركيب - بزعمهم - 3، وشبهة الفريقين باطلة، لأن الماهية هي الحقيقة والوجود، فنفيها يستلزم نفي وجود الشيء. وعلى أصل الفلاسفة، وجمهور المتكلمين، فإن إثبات الصفات عموماً، يستلزم التركيب، ولهذا قالوا بنفي الصفات، وهو قول ظاهر الفساد.   1 - انظر: الدرء1/293. 2 - انظر: شرح المقاصد 4/53، الكليات ص864. 3 - انظر: النجاة 2/108، موسوعة مصطلحات جامع العلوم ص790. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 القِدَم 1 - معنى القِدَمُ في اللغة: جاء في العين: "القَدَم ما يطأ عليه الإنسان، من لدن الرسغ فما فوقه، والقُدْمة والقَدَم أيضا السابقة في الأمر.. والقِِدَم مصدر القديم من كل شيء، وتقول قَدُمَ يَقْدُم، وقَدَم فلان قومه، أي يكون أمامهم..والقُدُم المضي أمام أمام، وتقول يمضي قدما أي لا ينثني، والقُدوم الرجوع من السفر "1. وقال ابن فارس: "القاف والدال والميم، أصل صحيح، يدل على سبق ورعف2، ثم يفرع منه ما يقاربه، يقولون: القِدم خلاف الحدوث، ويقال: شيء قديم، إذا كان زمانه سالفاً"3.والمُقَدَّم نقيض المؤخر، وقُدَّام: نقيض وراء4. فالقِِدَم، مصدر القديم، وهو يعني السبق، والتقدم على الغير، كما يأتي في مقابل الحدوث. 2 - معنى القدم في الشرع: ورد لفظ القديم في القرآن الكريم، والقَدَم، والفعل منه بتصريفات عدة، ومن ذلك قوله - تعالى -: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس - 39] ، وقوله - تعالى -: {وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس - 2] ، ونحوها. قال الراغب: "وأكثر ما يستعمل القديم باعتبار الزمان نحو {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس - 39] ، وقوله {قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس - 2] أي سابقة فضيلة "5. ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن النذر لا يقدم شيئاً، ولا يؤخر، وإنما يستخرج بالنذر من البخيل" 6.   1 - العين 5/122، وانظر: الصحاح 5/2006، لسان العرب 12/467. 2 - الرعف يعني السبق والتقدم، انظر: معجم مقاييس اللغة 2/405. 3 - معجم مقاييس اللغة 5/65، وانظر: الصحاح 5/2007، لسان العرب 12/465. 4 - انظر: الصحاح 5/2008، لسان العرب 12/466، 469. 5 - المفردات ص661. 6 - أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر 4/227، ح 6692، ومسلم في كتاب النذر باب النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئاً 3/1261، ح 1639. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فالقديم في الكتاب والسنة، يدل على السبق، والتقدم في الزمان، قال شيخ الإسلام عن لفظ القديم: "وأما لفظ القديم فهو في اللغة المشهورة، التي خاطبنا بها الأنبياء، يراد به ما كان متقدماً على غيره تقدماً زمانياً، سواء سبقه عدم، أو لم يسبقه"1. والأول الذي لم يزل موجوداً هو أحق بلفظ القدم من المسبوق بالعدم2. وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "ولفظ القديم والأزلي فيه إجمال؛ فقد يراد بالقديم الشيء المعين، الذي ما زال موجوداً ليس لوجوده أول، ويراد بالقديم الشيء الذي يكون شيئاً بعد شيء، فنوعه المتوالي قديم وليس شيء منه بعينه قديماً، ولا مجموعه قديم، ولكن هو في نفسه قديم بهذا الاعتبار "3. فالقديم إذاً لفظ مجمل، قد يراد به الذي مازال موجوداً ليس لوجوده أول، المتقدم على غيره مطلقاً دون أن يسبقه عدم، وقد يراد به المتقدم على غيره، وإن غيراً آخر متقدم عليه، وهذا يكون مسبوقاً بالعدم. وهو بالمعنى الأول يخبر به عن الله - عز وجل -، ولكن لا يعتبر من أسمائه وصفاته التي يدعى بها، لأن الله لم يسم نفسه به، ولم يصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم   1 - الجواب الصحيح 4/483، وانظر: الدرء 1/374، شرح الطحاوية 1/77 - 78. 2 - انظر: الصفدية2/84. 3 - المرجع السابق 2/47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 3 - معنى القدم في اصطلاح المتكلمين: القديم في اصطلاح المتكلمين هو الذي لا أول لوجوده، أو الشيء الذي لم يسبق بعدم، وتنازعوا في المتقدم على غيره هل يسمى قديم حقيقةً، أم مجازاً؟ على قولين1. يقول الباقلاني: "فالقديم هو المتقدم في الوجود على غيره، وقد يكون لم يزل، وقد يكون مستفتح الوجود"2. وقال الجويني: "ذهب بعض الأئمة إلى أن القديم هو الذي لا أول لوجوده، وقال شيخنا - رحمة الله عليه - كل موجود استمر وجوده وتقادم زمناً متطاولاً، فإنه يسمى قديماً في إطلاق اللسان، قال الله - تعالى -: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس - 39] "3. وقال القاضي في معنى القديم: "وأما في اصطلاح المتكلمين: فهو ما لا أول لوجوده "4. وقال الرازي: "واعلم أن القديم هو الذي لا أول لوجوده، وقد يراد به: الذي طالت مدة وجوده"5. ويرى كثير من المعتزلة أن القديم هو أخص وصف للإله6.كما أن كثيراً من المتكلمين أدخلوا لفظ القديم في أسماء الله7. أما المتأخرون من المتكلمين أمثال الرازي والآمدي، فقد وافقوا الفلاسفة في تعريف القديم، وسيأتي شرح ذلك عند لفظ قدم العالم. 4 - نقد تعريف المتكلمين، وموقفهم من لفظ القديم: يرى بعض المتكلمين أن القديم هو المتقدم الذي لم يسبقه عدم، كما جعله عموم المتكلمين من أسماء الله - تعالى، ويرى المعتزلة أن لفظ القديم أخص صفات الإله، وبنوا   1 - انظر: الصفدية 2/84، الشامل لأبي المعالي ص137، الجواب الصحيح لابن تيمية 3/269، مجموع الفتاوى 1/245. 2 - التمهيد ص41. 3 - الإرشاد ص32، وانظر: الأسماء والصفات للبيهقي ص23. 4 - شرح الأصول الخمسة ص181، وانظر: المغني 4/250. 5 - المطالب العالية 3/247. 6 - انظر: شرح الأصول الخمسة ص181، مجموع الفتاوى 3/70، درء التعارض 5/49 - 50، شرح المقاصد 2/9. 7 - انظر: شرح أسماء الله الحسنى ص358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 على ذلك شبهتهم في نفي الصفات، حيث قالوا إن إثبات الصفات يستلزم تعدد القدماء، وهذا باطل. وقد رد عليهم أهل السنة في ذلك، ومن الوجوه التي ردوا بها عليهم: أولاً: لقد أخطأ بعض المتكلمين عندما حصروا معنى القدم في الذي لم يسبقه عدم، أو الشيء الذي لا أول له. إذ لفظ القديم في اللغة يراد به المتقدم على غيره، وإن كان مسبوقا بالعدم. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "والواجب على من أراد أن يعرف مراد المتكلم أن يرجع إلى لغته، وعادته التي يخاطب بها، لا يفسر مراده بما اعتاده هو من الخطاب، فما أكثر ما دخل من الغلط في ذلك على من لا يكون خبيرا بمقصود المتكلم ولغته، كما أصاب كثيرا من الناس في قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء - 2] فإنهم ظنوا أن المحدث والقديم في لغة العرب، التي نزل بها القرآن، هو المحدث والقديم في اصطلاح المتكلمين، هو ما لا أول لوجوده وما لم يسبقه عدم، فكل ما كان بعد العدم فهو عندهم محدث، وكل ما كان لوجوده ابتداء فهو عندهم محدث، ثم تنازعوا فيما تقدم على غيره، هل يسمى قديماً حقيقةً، أو مجازاً، على قولين لهم. وأما اللغة التي نزل بها القرآن، فالقديم فيها خلاف المحدث، وهما من الأمور النسبية، فالشيء المتقدم على غيره قديم بالنسبة إلى ذلك المحدث، والمتأخر محدث بالنسبة إلى ذلك القديم، وإن كانا كلاهما محدثين بالنسبة إلى من تقدمهما، وقديمين بالنسبة إلى من تقدماه، ولم يوجد في لغة القرآن لفظ القديم مستعملاً إلا فيما يقدم على غيره، وإن كان موجوداً بعد عدمه، لكن ما لم يزل موجوداً هو أحق بالقدم"1. فإطلاق القديم على الأول الذي لم يسبق بعدم إطلاق صحيح، لكن لا يحصر لفظ القديم على هذا المعنى وحده. ثانياً: يصف كثير من المتكلمين الله بأنه قديم2، كما أدخل المتكلمون في أسماء الله - تعالى - القديم، وليس هو من الأسماء الحسنى، فإن القديم في لغة العرب، التي نزل بها القرآن، هو المتقدم على غيره، فيقال هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم. وقد أنكر ذلك على أهل الكلام كثير من السلف والخلف منهم ابن حزم. ولا ريب أنه إذا كان لفظ القديم مستعملاً في نفس التقدم، فإن ما تقدم على الحوادث كلها، فهو أحق بالتقدم من غيره،   1 - الصفدية 2/84 وانظر مجموع الفتاوى 12/105. 2 - انظر: الأسماء والصفات للبيهقي ص23، المفردات للراغب ص661. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 لكن أسماء الله - تعالى - هي الأسماء الحسنى، التي تدل على خصوص ما يمدح به، والتقدم في اللغة مطلق، لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى، وجاء الشرع باسمه الأول، وهو أحسن من القديم، لأنه يشعر بأن ما بعده آيل إليه وتابع له، بخلاف القديم، والله - تعالى - له الأسماء الحسنى، لا الحسنة1. ثالثاً: أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات، يقولون كل من أثبت لله صفة قديمة، فهو مشبه ممثل، فمن قال إن لله علماً قديماً، أو قدرةً قديمةً، كان عندهم مشبهاً ممثلاً، لأن القديم عند جمهورهم هو أخص وصف الإله، ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون أخص وصفه، ما لا يتصف به غيره، مثل كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إله واحد، ونحو ذلك، والصفة لا توصف بشيء من ذلك، ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات أنها قديمة، بل يقول الرب بصفاته قديم، ومنهم من يقول هو قديم، وصفته قديمة، ولا يقول هو وصفاته قديمان، ومنهم من يقول هو وصفاته قديمان، ولكن يقول: ذلك لا يقتضى مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه، فإن القدم ليس من خصائص الذات المجردة، بل من خصائص الذات الموصوفة بصفات، وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم، فضلا عن أن تختص بالقدم، وقد يقولون الذات متصفة بالقدم، والصفات متصفة بالقدم، وليست الصفات إلهاً ولا رباً، كما أن النبي محدث، وصفاته محدثة، وليست صفاته نبياً2. وبهذا يتبين ما لدى المتكلمين من أخطاء حول مفهومهم للفظ القديم.   1 - انظر: شرح الطحاوية 1/77 - 78، الصفدية 2/85. 2 - انظر: مجموع الفتاوى 3/70، الدرء 5/49 - 50، الصواعق المرسلة 3/938. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الأبدية 1 - معنى الأبدية في اللغة: يقول ابن فارس: "الهمزة والباء والدال يدل بناؤها على طول المدة وعلى التوحش، قالوا: الأبد الدهر، وجمعه آباد..والأبْدة الفَعلة تبقى على الأبد"1. والأبد الدائم، والتأبيد التخليد، وأََبَد بالمكان يأْبِد أي أقام به، وجاء فلان بآبدة، أي بداهية يبقى ذكرها على الأبد 2. وقال الخليل: "وآباد الدهر طوال الدهر، والأبيد مثل الآباد"3. فالأبد في اللغة هو الدائم، وهو يدل على طول المدة والدوام في المستقبل. 2 - معنى الأبدية في الشرع: لقد ورد لفظ الأبد في القرآن الكريم في آيات كثيرة تذكر التخليد في الجنة، والتخليد في النار، ومنها قوله - تعالى -: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء - 57] وآيات أخرى تذكر معنى التأبيد في أمور مختلفة نحو قوله - تعالى -: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة - 95] . يقول الإمام الطبري في معنى الآية الأولى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} : يقول: باقين في الجنات التي أعطاهموها أبداً دائماً، لهم فيها نعيم لا ينتقل عنهم ولا يزول"4. وجميع الآيات التي ورد فيها لفظ "أبداً" كانت تدل على معنى الدوام في المستقبل وطول المدة، وبهذا المعنى جاءت بعض الأحاديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الحوض: "ومن شرب لم يظمأ أبداً" 5.   1 - معجم مقاييس اللغة 1/34 وانظر لسان العرب 3/68 المصباح المنير 1/1. 2 - انظر: الصحاح 2/439، لسان العرب 3/68 - 69. 4 - تفسير الطبري 7/142. 5 - قطعة من حديث أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب في الحوض 5/2406، ح 6212، ومسلم في كتاب الفضائل باب إثبات حوض رآه صلى الله عليه وسلم وصفاته 4/1793ح 2290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 3 - معنى الأبدية في الاصطلاح: تعريف الأبد في الاصطلاح موافق لمعناه في اللغة والشرع، فيعرف شيخ الإسلام الأبد بقوله: "الأبد هو الدوام في المستقبل..والأبدي هو الذي لا يزال كائناً"1، وقال أيضاً: " الأبد عبارة عن عدم الآخرية"2. ويعرفه الجرجاني بتعريف موافق له في المعنى حيث يقول: "الأبد هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب المستقبل"3. كما يعرفه أيضاً بقوله: "الأبد هو الشيء الذي لا نهاية له"4. ويذكر الرازي لفظ الأبدي على أنه من أسماء الله ويقول: "ومعناه أنه لا آخر له، ولا يصير معدوماً بعد وجوده ألبتة"5. وفي معجم ألفاظ الصوفية: "الأبد هو ما لا نهاية له ولا آخر"6، ويجعله الصوفية اسماً من أسماء الله - تعالى - 7؛ وهذا ليس بصحيح لأنه لم يرد نص بتسمية الله - تعالى - بهذا الاسم، ولكن يخبر به عن الله، فباب الإخبار أوسع من باب الأسماء والصفات8، ولفظ الأبد يحمل معنى الآخر الذي ليس بعده شيء.   1 - درء التعارض 2/225. 2 - الصفدية 1/65. 3 - التعريفات ص 27 وانظر المطالب العالية 5/105. 4 - التعريفات ص 27 وانظر: الكليات ص 80. 5 - المطالب العالية 3/284. 6 - معجم ألفاظ الصوفية للدكتور الشرقاوي ص 21 وانظر المعجم الصوفي للدكتور الحفني ص 10. 7 - معجم ألفاظ الصوفية ص21. 8 - انظر: بدائع الفوائد 1/161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الأزلية 1 - معنى الأزلية في اللغة: "الأزَل بالتحريك: القدم، يقال أزلي. ذكر بعض أهل العلم أن أصل هذه الكلمة قولهم للقديم: لم يزل، ثم نسب إلى هذا فلم يستقم إلا باختصار فقالوا: يزلي، ثم أبدلت الياء ألفاً لأنها أخف فقالوا: أزلي، كما قالوا في الرمح المنسوب إلى ذي يزن أزني"1. فالأزل في اللغة يعني القدم، ولم يرد لفظ الأزل في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. 2 - معنى الأزلية في الاصطلاح: أ - معناه في اصطلاح أهل السنة: الأزل كما يعرفه شيخ الإسلام - رحمه الله - هو: "الدوام في الماضي الذي لا ابتداء له، الذي لم يسبق بعدم، الذي ما زال"1، وقال عن الأزلي: هو" الذي لم يزل كائناً"2. وهو بمعنى القدم، قال شيخ الإسلام: "بل معنى الأزل هو معنى القدم، ومعناه ما لا ابتداء لوجوده"3. ويطلق أهل السنة لفظ الأزلي على الله - تعالى - من باب الإخبار5، لأنه يحمل معنى حسن، وهو معنى اسمه الأول، ولا يجعلونه من أسماء الله - تعالى - أو صفاته، لأنه لم يرد بذلك نص عن الله، أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -.   1 - الصحاح 4/1622، وانظر: معجم مقاييس اللغة 1/97، لسان العرب 11/14، القاموس المحيط ص1241. 1 - الصفدية 1/283 وانظر الدرء 2/225 مجموعة الرسائل 5/371 مدارج السالكين 2/72. 2 - درء التعارض 2/225. 3 - المرجع السابق 3/58. 5 - انظر: المرجع السابق 1/122، 125، 311، 8/133، الصفدية 2/295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ب - معنى الأزلية عند الفلاسفة والمتكلمين: يعرف الفلاسفة والمتكلمون مصطلح الأزل بنفس المعنى الذي عرفه به أهل السنة، مع اختلاف في العبارة، إذ يعرف الكندي الأزلي بقوله: "الأزلي هو الذي لم يكن ليس، وليس بمحتاج في قوامه إلى غيره؛ والذي لا يحتاج في قوامه إلى غيره فلا علة له، وما لا علة له فدائم أبداً"1. ويقول ابن رشد: "ما ليس له مبدأ أول فهو أزلي ضرورة"2. إلا أن الفلاسفة يرون أن العالم أزلي لا بداية لوجوده، وأبدي لا نهاية لآخره، ولا يتصور فساده ولا فناؤه3، وهذا من أصول الضلال الذي ضلت به الفلاسفة، وهو مما كفروا به4. أما المتكلمون فيقول الرازي مبيناً معنى الأزل: "هو عبارة عن نفي الأولية"3، وقال في معنى الأزلي: "إن الأزلي هو الذي لا يكون مسبوقاً بالعدم"4. ويقول التفتازاني:"معنى الأزلية الاستمرار في الأزمنة المقررة الماضية غير المتناهية"5. ويجعل الرازي لفظ الأزلي من أسماء الله، ويدخله ضمن أسماء الذات8، كما يجعله الصوفية من أسماء الله، ويعرفونه بمثل تعريف أهل السنة والمتكلمين، إذ يقولون في معنى الأزل: "ما لا بداية له ولا أول"6، وأنه بمعنى القدم أيضاً10. وجَعْلُ لفظ الأزل من أسماء الله ليس بصحيح، إذ لم يرد تسمية الله بالأزلي في شيء من الكتاب أو السنة، ولكن يخبر به عن الله، لأن معناه حسن إذ هو بمعنى الأول الذي ليس قبله شيء.   1 - الحدود للكندي ص 194 ضمن المصطلح الفلسفي عند العرب للدكتور الأعسم وانظر تعريفات الجرجاني ص 38 موسوعة مصطلحات الفلسفية عند العرب ص 40 - 41. 2 - تفسير ما بعد الطبيعة لابن رشد ص 30 وانظر موسوعة مصطلحات الفلسفية عند العرب ص 40. 3 - انظر: التهافت ص53، فصل المقال ص40 - 41، موسوعة الفلسفة 622 - 623. 4 - سيأتي توضيح ذلك عند مصطلح قدم العالم ص 373وما بعدها. 3 - المباحث المشرقية 1/781 - 782. 4 - المطالب العالية 4/269 - 270. 5 - شرح المقاصد 3/110 وانظر التعريفات ص 38. 8 - انظر: شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص357 - 359. 6 - معجم ألفاظ الصوفية للدكتور الشرقاوي ص 21. 10 - انظر: المعجم الصوفي للدكتور الحفني ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الواحد بالعين "الواحد بالعدد" 1 - معنى الواحد بالعين في اللغة: سبق تعريف الواحد في اللغة1، أما العين فهي في اللغة حاسة الرؤية، والعين عين الماء، وعين الشمس، والعين الدينار، والعين المال الناض، والعين الجاسوس2. وعين الشيء خياره، وعين الشيء نفسه، يقال هو هو عيناً، وهو هو بعينه، ولا آخذ إلا درهمي بعينه، والعين حرف من حروف المعجم3. وعين القبلة حقيقتها، والعين عند العرب حقيقة الشيء، وعين الشيء نفسه وشخصه4. ومن خلال العرض السابق لمعاني العين يتبين أن العين من الألفاظ المجملة، التي تحتمل معان كثيرة متغايرة، وأقرب هذه المعاني للمعنى الاصطلاحي هو المعنى الأخير، وهو أن العين هي حقيقة الشيء، ونفسه، وشخصه. 2 - معنى العدد في اللغة: قال الجوهري:" عددت الشيء إذا أحصيته، والاسم العدد والعديد"5، والعدُّ إحصاء الشيء، والعدد مقدار ما يعد، والعديد الكثرة6.   1 - انظر البحث ص11 - 13. 2 - انظر: العين 2/254 - 255، الصحاح 6/2170، معجم مقاييس اللغة 4/199 - 203. 3 - انظر: العين 2/254 - 255، الصحاح 6/2170، معجم مقاييس اللغة 4/199 - 203، المغرب ص334، المصباح المنير 2/440، لسان العرب 13/301 - 305. 4 - انظر: لسان العرب 13/304 - 305، 309. 5 - الصحاح 2/505، وانظر: معجم مقاييس اللغة 4/29. 6 - انظر: معجم مقاييس اللغة 4/29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 3 - الواحد بالعدد في الاصطلاح: مصطلح الواحد بالعدد، أو الواحد بالعين، مصطلح مركب، وهو بهذا التركيب لم يرد في الكتاب، أو السنة، أو كلام الصحابة، وهو مصطلح حادث من قِبَل الفلاسفة، وذلك عند حديثهم عن الكثرة والوحدة، ثم استخدمه بعدهم المتكلمون، ونجد لفظ الواحد بالعدد هو المستعمل كثيراً عند الفلاسفة والمتكلمين، بينما يعبر عنه شيخ الإسلام - رحمه الله - بلفظ أكثر دقة وهو الواحد بالعين. يعرف ابن سينا الواحد بالعدد بأنه الذي لا ينقسم إلى أعداد لها معانيه1. أما ابن رشد فيقول: "وبالجملة فإنما يقال الواحد بالعدد على كل ما انحاز بذاته، وانفرد عن غيره، إما بالحس، وإما بالوهم، وإما بذاته"1. ويقول الآمدي: "فأما الواحد بالعدد مطلقاً، ويسمى الواحد بالذات، فعبارة عما لايقبل الانقسام والتجزئة في نفسه"2. كما يعرف هذا المصطلح بالواحد بالشخص؛ وعرفوه بأنه الذي يكون تصوره مانعاً من وقوع الشركة فيه كزيد4.   1 - انظر: النجاة 2/76، معيار العلم ص 329، شرح المقاصد2/32. 1 - رسالة النحاة 2/76 معيار العلم ص 329 شرح المقاصد 2/32. 2 - المبين ص 114 وانظر موسوعة مصطلحات الفلسفية عند العرب ص 982. 4 - انظر: كشاف اصطلاحات الفنون 2/1465، المعجم الفلسفي للدكتور الحفني ص374، موسوعة مصطلحات جامع العلوم ص966. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الواحد بالنوع 1 - معنى النوع في اللغة: يقول الخليل بن أحمد: "النوع والأنواع جماعة كل ضرب، وصنف، من الثياب، والثمار، والأشياء، حتى الكلام"1. والنوع كلمة تدل على طائفة من الشيء، مماثلة له، والنوع من الشيء، الضرب منه2. والنوع أخص من الجنس، وقد تنوع الشيء أنواعاً 3. أما الجنس فيقول الخليل: "الجنس كل ضرب من الشيء، والناس، والطير، وحدود النحو، والعروض، والأشياء، ويجمع على أجناس"2. فالنوع كلمة تدل على طائفة من الشيء مماثلة له، والنوع أخص من الجنس.   1 - العين 2/257 وانظر المصباح المنير 2/631 لسان العرب 8/364 القاموس المحيط 993. 2 - انظر: معجم مقاييس اللغة 5/370 - 371. 3 - انظر: الصحاح 3/1294، لسان العرب 8/364. 2 - العين 6/55 وانظر المغرب ص 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 2 - تعريف الواحد بالنوع في الاصطلاح: مصطلح الواحد بالنوع لم يرد في الكتاب أو السنة، وأول من استخدمه الفلاسفة، عند شرحهم لمعنى الوحدة والكثرة، واستخدمه المتكلمون من بعدهم، كما استخدمه أهل السنة للرد عليهم فيما وقعوا فيه من شبهات. ويعرف ابن سينا الواحد بالنوع: بأنه الذي لا ينقسم في النوع1. ويقول ابن رشد: "إن ما هو واحد بالنوع فليس هو واحد بالعدد أصلا، لأن الواحد بالنوع مما يصدق أقل ذلك على اثنين بالعدد"1. وقال الآمدي: "وأما الواحد بالنوع، فقد يقال على ما كان تحت كلي هو نوع له؛ كما يقال على زيد وعمرو هما واحد بالنوع"2. ويسمى الواحد لا بالشخص، ويعرف بأنه من حيث مفهومه واحد، ولكنه كثير من جهة الانطباق على الأفراد؛ كإنسان4. وقد اضطرب مفهوم الواحد بالنوع، والواحد بالعدد، على بعض الطوائف، مما أدى إلى أقوال فاسدة في توحيد الربوبية، وقد رد أهل السنة من خلال التفريق بين الواحد بالعين والواحد بالنوع على هؤلاء، ومن هذه الطوائف: 1 - أصحاب القول بوحدة الوجود، حيث اشتبه عليهم وجود الخالق بوجود المخلوق حتى ظنوا وجودها وجوده، وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود، فرأوا الوجود واحداً بالعين، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع 5. 2 - الأشاعرة والكلابية ومن وافقهم في قولهم إن الأمر هو عين الخبر والنهي، حيث اشتبه عليهم الكلام فظنوه واحداً لا أنواع له، وأن الأمر والنهي والخبر صفات له. واعتقدوا أن الكلام واحد بالعين لا بالنوع، مما أفضى بهم إلى هذا القول الفاسد6.   1 - انظر: النجاة 2/76، معيار العلم ص328. 1 - تفسير ما بعد الطبيعة لابن رشد ص 550 وانظر موسوعة مصطلحات الفلسفية عند العرب 985. 2 - المبين ص 114 وانظر: المفردات ص 857 بصائر ذوي التمييز 5/171. 4 - انظر: كشاف اصطلاحات الفنون 2/1465، المعجم الفلسفي للدكتور الحفني ص374. 5 - انظر: التدمرية ص107، الدرء 3/446، مجموع الفتاوى 12/596 - 597، 13/197. 6 - انظر: الدرء 7/125، مجموع الفتاوى 12/268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الوحدة في الأفعال 1 - معنى الأفعال في اللغة: الفَعْلُ بالفتح مصدر فعل يفعل، والفِعْل بالكسر الاسم، والجمع الفِعَال1. ويقول ابن فارس: "الفاء والعين واللام، أصل صحيح، يدل على إحداث شيء من عمل وغيره؛ من ذلك فعلت كذا أفعله فَعْلا "2. وقال الأزهري: "والفَعَال فعل الواحد خاصة في الخير والشر..فإذا كان من فاعلين فهو فِعَال"3. فالفعل إحداث الشيء من عمل ونحوه. 2 - معنى توحيد الأفعال عند المتكلمين: لم يرد مصطلح توحيد الأفعال في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر، يذكرون هذا المصطلح كنوع من أنواع التوحيد، فهم يقولون إن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وهذا الأخير هو توحيد الأفعال وهو أشهر الأنواع عندهم، وهو الذي يطيلون في تقريره، وقد تابعهم في ذلك طوائف من المتصوفة وأهل الوحدة. ويشرح الرازي معنى "أنه واحد في أفعاله" فيقول: "وأما أنه واحد في أفعاله، فهو أنه ليس في الوجود موجود، يكون مبدءاً لجميع الممكنات، إما بغير واسطة، وإما بواسطة، إلا هو"4. وفي موضع آخر يقول الرازي: "وأما أنه - سبحانه وتعالى - واحد في أفعاله، فالأمر ظاهر، لأن الموجود إما واجب وإما ممكن، فالواجب هو هو، والممكن ما عداه، وكل ما   1 - انظر: الصحاح 5/1792، العين 2/145. 2 - معجم مقاييس اللغة 4 /511. 3 - تهذيب اللغة 2/404 - 405. 4 - المطالب العالية 3/258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 كان ممكناًًًً فإنه يجوز ألا يوجد، ما لم يتصل بالواجب، ولا يختلف هذا الحكم باختلاف أقسام الممكنات..فثبت أن كل ما عداه فهو مُلْكه ومَلكه، وتحت تصرفه، وقهره، وقدرته، واستيلائه"1. ويبين هذا المعنى الثاني أبو البقاء في كلياته، حيث يقول: "ومرتبة توحيد الأفعال، وهو أن يتحقق ويعلم بعلم اليقين، أو بعين اليقين، أو بحق اليقين، أن لا مؤثر في الوجود إلا الله، وقد انكشف ذلك على الأشعري، وتحقيق مذهب الحكماء أيضا هو هذا، فالسالك بهذه المرتبة يكل أموره كلها إلى الفاعل الحقيقي"2. وينتقد أهل السنة منهج المتكلمين في توحيد الأفعال من جانبين: الأول: إطالتهم في تقرير هذا التوحيد، والاستدلال له، مع أن الخلق مفطورون على الإقرار بوحدانية الله وربوبيته؛ مؤمنهم وكافرهم. بل ويظن المتكلمون" أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا لا إله إلا الله، حتى قد يجعلون معنى الإلهية القدرة على الاختراع، ومعلوم أن المشركين من العرب، الذين بعث إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - أولاً، لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا مقرين بالقدر أيضا، وهم مع هذا مشركون"3. ومع اهتمام المتكلمين بتوحيد الأفعال، أهملوا تماماً توحيد الألوهية، والعبادة، مع أنه المقصود الأعظم للرسالة. الثاني: اعتقاد متكلمي الأشاعرة والصوفية، أن تحقيق توحيد الأفعال يكون بنفي الأسباب، والقول بالجبر، "وأصل هذه البدعة من قول جهم، فإنه كان غالياً في نفي الصفات، وفي الجبر، فجعل من تمام توحيد الذات نفي الصفات، ومن تمام توحيد الأفعال نفي الأسباب، حتى أنكر تأثير قدرة العبد، بل نفى كونه قادراً، وأنكر الحكمة والرحمة"4.   1 - مفاتيح الغيب 4/172. وانظر: موسوعة مصطلحات الفخر الرازي ص857. 2 - الكليات ص 932. 3 - التدمرية ص 179 - 180، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/854 - 855. 4 - رسالة في تحقيق التوكل لابن تيمية، ضمن جامع الرسائل جمع محمد رشاد سالم ص 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الفصل الثاني: ألفاظ أدلة توحيد الربوبية ومصطلحاتها مقدمة : لما كانت طرق معرفة الله، والإقرار به، كثيرة متنوعة، صار كل طائفة من النظار تسلك طريقاً إلى إثبات معرفة الله، وقد تنوعت هذه الطرق؛ تارة بتنوع أصل الدليل ، وتارة بزيادة مقدمات فيه يستغني عنها آخرون. فهذا يستدل بالإمكان، وهذا بالحدوث، وهذا بالآيات، وهذا يستدل بحدوث الذوات، وهذا بحدوث الصفات، وهذا بحدوث المعين كالإنسان، إلى غير ذلك من الطرق1. وبعض تلك الطرق موافق لطريقة القرآن. وبعضها محدث، مبتدع، أحدثها الفلاسفة، والمعتزلة، والجهمية، وتبعهم عليها من وافقهم من الأشعرية، وغيرهم، وقد طعن فيها جمهور العقلاء2، وبينوا فسادها، وعدم إيصالها للمطلوب، وأن الأدلة الواردة في القرآن العزيز فيها غنية عن تلك الطرق. وفي هذا الفصل سأتناول الألفاظ، والمصطلحات التي ترد في هذه الأدلة والطرق.   1 - انظر: درء التعارض 3 /333. 2 - انظر: المرجع السابق 7 /242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الدليل 1 - معنى الدليل في اللغة: قال ابن فارس: "الدال واللام أصلان: أحدهما إبانة الشيء بأمارة تتعلمها، والآخر اضطراب في الشيء، فالأول قولهم: دللت فلاناً على الطريق، والدليل: الأمارة في الشيء"1. وقال الجوهري: "الدليل ما يستدل به، والدليل: الدال. وقد دله على الطريق، يدله، دَلالة، ودِلالة، ودُلولة، والفتح أعلى"1. فالدليل في اللغة بمعنى المرشد، والموضح، والمبين. 2 - معنى الدليل في الشرع: لقد ورد لفظ الدليل في القرآن الكريم، كما ورد الفعل منه، ومن ذلك قوله - تعالى -: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ} [سبأ - 14] ، وقوله - تعالى -: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} [الفرقان - 45] ، قال الطبري - رحمه الله -: "ثم دللناكم أيها الناس، بنسخ الشمس إياه عند طلوعها عليه، أنه خلق من خلق ربكم، يوجده إذا شاء، ويفنيه إذا أراد"3. وقال القرطبي: "فالشمس دليل، أي حجة وبرهان، وهو الذي يكشف المشكل ويوضحه"4. وهذا يبين أن الدليل في القرآن، بمعنى الدليل في اللغة. وورد الفعل منه في السنة كثيراً، ومن ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم" 5.   1 - معجم مقايس اللغة 2/259. 1 - الصحاح 4/1698 وانظر لسان العرب 11/248 - 249. 3 - تفسير الطبري 19/19. 4 - تفسير القرطبي 13/37. 5 - أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإيمان، وأن إفشاء السلام سبب لحصولها 1/74، ح 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 3 - معنى الدليل في الاصطلاح: يعرف المتكلمون الدليل بعدة تعريفات، لكنها تدور بمجملها على أن الدليل هو ما أمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة المطلوب، أو أنه ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. يقول الباقلاني في تعريف الدليل أنه: "المرشد إلى معرفة الغائب عن الحواس، وما لا يعرف باضطرار، وهو الذي ينصب من الأمارات، ويورد من الإيماء والإشارات، مما يمكن التوصل به إلى معرفة ما غاب عن الضرورة والحس"1. وقال في الإنصاف: "الدليل هو ما أمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لا يعلم باضطراره"2. وبعض المتكلمين يخص لفظ الدليل بما يوصل إلى العلم، ويسمى ما يوصل إلى الظن أمارة، وهذا اصطلاح بعض المعتزلة ومن تلقاه عنهم3. يقول الرازي: "الدليل هو الذي يلزم من العلم به العلم بوجود المدلول، والأمارة هو الذي يلزم من العلم بها ظن وجود المدلول"3. ويقول القاضي عبد الجبار: "الدليل هو ما إذا نظر الناظر فيه أوصله إلى العلم بالغير"5. أما عند الفلاسفة والمنطقيين فيطلق الدليل مرادفاً للبرهان، فهو القياس المركب من مقدمتين يقينيتين، فالبرهان قياس يقيني المادة. وقد يطلق مرادفاً للقياس، فهو حجة مؤلفة من قضيتين، يلزم عنها لذاتها مطلوب نظري. وقد يطلق الدليل مرادفاً للحجة فهو معلوم تصديقي موصل إلى مجهول تصديقي6؛ والحجة تنقسم إلى قياس واستقراء وتمثيل، يقول الغزالي في تعريف الحجة: "والحجة هي التي يؤتى بها في إثبات ما تمس الحاجة إلى إثباته، من العلوم التصديقية؛ وهي ثلاثة أقسام: قياس واستقراء وتمثيل"4.   1 - التمهيد ص 39. 2 - الإنصاف ص 15 وانظر: المواقف ص 34 التوقيف ص 340 الكليات ص 439. 3 - انظر: الرد على المنطقيين ص250. 3 - المحصل ص 50 - 51 وانظر: المواقف ص 35. 5 - شرح الأصول الخمسة ص88، وانظر: التعريفات ص139، الحدود الأنيقة ص80، التوقيف ص340، الكليات ص439. 6 - انظر: موسوعة مصطلحات دستور العلماء ص427، المبين ص89 - 90. 4 - معيار العلم ص 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وعرف القياس فقال: "وحد القياس أنه قول مؤلف، إذا سلم ما أورد فيه من القضايا لزم عنه لذاته قول آخر اضطراراً"1، أما الاستقراء فيعرفه بقوله: "هو أن تتصفح جزئيات كثيرة، داخلة تحت معنى كلي، حتى إذا وجدت حكماً في تلك الجزئيات، حكم على ذلك الكلي به"2، وأما التمثيل فهو: "أن يوجد حكم في جزئي معين واحد، فينقل حكمه إلى جزئي آخر يشابهه بوجه ما"3. ويعرف ابن سينا الدليل بأنه: "قياس إضماري، حده الأوسط شيء واحد، إذا وجد للأصغر، تبعه وجود شيء آخر للأصغر دائماً كيف كان ذلك التبع"4، ثم مثل له فقال: "ومثاله قولك: هذه المرأة ذات لبن، وكل ذات لبن قد ولدت، فهي إذاً قد ولدت"5. ويقول الآمدي وهو يشرح مصطلحات الحكماء والمتكلمين: "وأما الدليل فعبارة عن قياس كبراه مقدمة محمودة، يميل إليها السامعون كقولنا: فلان منعم، وكل منعم محبوب"6. والخلاصة أن الفلاسفة يحصرون الدليل في القياس والاستقراء والتمثيل. يقول شيخ الإسلام عن أقوال المنطقيين في الدليل، والقياس: "وأيضا فإنهم قسموا جنس الدليل إلى القياس، والاستقراء، والتمثيل"7، وقالوا: إن الاستدلال لابد فيه من مقدمتين، بلا زيادة ولا نقصان8. ويتفق أهل السنة مع المتكلمين في تعريف الدليل، حيث يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "الدليل هو المرشد إلى المطلوب؛ وهو الموصل إلى المقصود؛ وهو ما يكون العلم به مستلزماً للعلم بالمطلوب، أو ما يكون النظر الصحيح فيه موصلاً إلى المطلوب؛ وهو ما يكون النظر الصحيح فيه موصلاً إلى علم، أو إلى اعتقاد راجح"9.   1 - معيار العلم ص111. 2 - المرجع السابق ص148. 3 - المرجع السابق ص154. 4 - النجاة 1/75. 5 - المرجع السابق1/75، وقد وجد ذات لبن لم تلد، بسبب اضطراب في هرمون الحليب، في حالات متعددة. مما يضعف هذا المثال. 6 - المبين ص89، وانظر: التعريفات ص139. 7 - الرد على المنطقيين ص 9 5. 8 - انظر: المرجع السابق ص167. 9 - المرجع السابق ص165، وانظر: النبوات ص307، الجواب الصحيح 6/503. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 - وكما سبق - فهناك نزاع اصطلاحي بين النظار، فيما يوصل النظر فيه إلى الاعتقاد الراجح، هل يسمى دليلاً؟ أو يخص باسم الأمارة؟. والجمهور يسمون الجميع دليلاً، ومن أهل الكلام من لا يسمي بالدليل إلا ما أوصل إلى العلم بوجود المدلول1. 4 - الرد على الفلاسفة: يحصر الفلاسفة الدليل في القياس، والاستقراء، والتمثيل. كما يقول بعضهم إن العلم المطلوب لا يحصل إلا بمقدمتين، لا يزيد ولا ينقص. وقد رد شيخ الإسلام على الفلاسفة في معنى الدليل عندهم، مبيناً بطلانه، ومن وجوه الرد عليهم: أولاً: أن هذا الذي قالوه إما أن يكون باطلاً، وإما أن يكون تطويلاً يبعد الطريق على الطالب المستدل، فلا يخلو عن خطأ يصد عن الحق، أو طريق طويل يتعب صاحبه، حتى يصل إلى الحق، مع إمكان وصوله بطريق قريب2. ثانياً: بطلان حصر الأدلة في القياس، والاستقراء، والتمثيل، وبيان ذلك أن ما ذكروه من حصر الدليل في القياس، والاستقراء، والتمثيل، حصر لا دليل عليه، بل هو باطل. واستدلالهم على الحصر بقولهم إما أن يستدل بالكلي على الجزئي، أو بالجزئي على الكلي، أو بأحد الجزأين على الآخر؛ والأول هو القياس، والثاني هو الاستقراء، والثالث هو التمثيل، يقال لم تقيموا دليلاً على انحصار الاستدلال في هذه الثلاثة، فإنكم إذا عنيتم بالاستدلال بجزئي على جزئي قياس التمثيل، لم يكن ما ذكرتموه حاصراً. وقد بقي الاستدلال بالكلي على الكلي الملازم له، وهو المطابق له في العموم والخصوص، وكذلك الاستدلال بالجزئي على الجزئي الملازم له، بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر، ومن عدمه عدمه، فإن هذا ليس مما سميتموه قياساً، ولا استقراءً، ولا تمثيلاً، وهذه هي الآيات3. ثالثاً: قولهم إن الاستدلال لا بد فيه من مقدمتين، لا يزيد ولا ينقص، قول لا دليل عليه، بل هو باطل، فإن كان الدليل مقدمة واحدة، قالوا الأخرى محذوفة، وسموه قياس الضمير. وإن كان مقدمات، قالوا هي أقيسة مركبة، ليس هو قياساً واحداً، فهذا قول   1 - انظر: الرد على المنطقيين ص165. 2 - انظر: المرجع السابق ص161 - 162. 3 - انظر: المرجع السابق ص162 - 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 باطل طرداً وعكساً. وذلك أن احتياج المستدل إلى المقدمات مما يختلف فيه حال الناس، فمن الناس من لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة، لعلمه بما سوى ذلك، كما أن منهم من لا يحتاج في علمه بذلك إلى الاستدلال، بل قد يعلمه بالضرورة، ومنهم من يحتاج إلى مقدمتين، ومنهم من يحتاج إلى ثلاث، ومنهم من يحتاج إلى أربع وأكثر1. رابعاً: أن الضابط في الدليل أن يكون مستلزماً للمدلول، فكل ما كان مستلزماً لغيره، أمكن أن يستدل به عليه، فإن كان التلازم من الطرفين، أمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر، فيستدل المستدل مما علمه منهما على الآخر الذي لم يعلمه. ثم إن كان اللزوم قطعياً، كان الدليل قطعياً، وإن كان ظاهراً وقد يتخلف، كان الدليل ظنياً2. خامساً: أن لفظ البرهان لفظ شرعي، ورد في آيات كثيرة، منها قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [انساء - 174] ، وقوله - تعالى - في أكثر من آية: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة - 111] وهو الدليل القطعي، ولكن تخصيصه - كما يقول الفلاسفة - بمقدمتين غير صحيح كما سبق. كما قد يطلق البرهان على ما يفيد العلم اليقيني، وإن لم يكن قياساً، حيث إن" لفظالبرهان في اللغة أعم من ذلك، كما سمى الله آيتي موسى برهانين {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [القصص - 32] "3.   1 - انظر: الرد على المنطقيين ص167 - 168. 2 - انظر: المرجع السابق ص165، مجموع الفتاوى 9/156. 3 - درء التعارض 1/29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 العلم الضروري 1 - معنى العلم في اللغة: قال الخليل: "علم يعلم علماً نقيض جهل، ورجل علامة وعلام وعليم..وما علمت بخبرك، أي ما شعرت به، وأعلمته بكذا، أي أشعرته، وعلمته تعليماً "1. وقال الجوهري: "وعلمت الشيء أعلمه علماً: عرفته "2. وفي اللسان: "وعلم بالشيء شعر، يقال: ما علمت بخبر قدومه، أي ما شعرت..وعلم الأمر وتعلمه أتقنه،.. ويجوز أن تقول علمت الشيء بمعنى عرفته وخبرته"3. فالعلم هو نقيض الجهل، والعلم بالشيء الشعور به، ومعرفته. 2 - معنى الضروري في اللغة: قال الخليل: "الضرورة اسم لمصدر الاضطرار، تقول حملتني الضرورة على كذا، وقد اضطر فلان إلى كذا وكذا "4. والاضطرار الاحتياج إلى الشيء، وقد اضطره إليه أمر، والاسم الضرة، والضرورة كالضرة5. والضرورة اسم من الاضطرار6. فالضرورة تعني الاحتياج والاضطرار. ولم يرد مصطلح العلم الضروري بهذا التركيب في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. 3 - معنى العلم الضروري في الاصطلاح: ينقسم علم الخلق إلى قسمين: علم ضروري، وعلم نظري، أما تعريف العلم الضروري فيقول الباقلاني في تعريفه: "فالضروري ما لزم أنفس الخلق، لزوماً لا يمكنهم دفعه، والشك في معلومه"7.   1 - العين 2/152، وانظر: معجم مقاييس اللغة 4/110، لسان العرب 12/420. 2 - الصحاح 5/1990. 3 - لسان العرب 12/418. 4 - العين 7/7، وانظر: لسان العرب 4/484. 5 - انظر: لسان العرب 4/483، الصحاح 2/20، معجم مقاييس اللغة 3/360. 6 - انظر: المصباح المنير 2/360. 7 - الإنصاف ص14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ويذكر القاضي عبد الجبار بعض تعريفات المعتزلة للعلم الضروري، ومنها حده بأنه: "العلم الذي يحصل فينا، لا من قبلنا، ولا يمكننا نفيه عن النفس بوجه من الوجوه"1، وقال أيضا: "وقد حد العلم الضروري بأنه العلم الذي لا يمكن العالم نفيه عن نفسه بشك، ولا شبهة، وإن انفرد"2. ويقول شيخ الإسلام: "حد العلم الضروري، وهو الذي يلزم نفس العبد لزوماً لا يمكنه معه دفعه عن نفسه"3. ويذكر التفتازاني أن العلوم الضرورية تنحصر في ست: بديهيات يحكم العقل بها بمجرد تصور الطرفين وتسمى الأوليات، ومشاهدات يحكم بها بواسطة حس ظاهر، وتسمى الحسيات، أو باطن وتسمى الوجدانيات، وفطريات ويحكم بها بواسطة لا تغرب عن الذهن، ومجربات يحكم بها بواسطة تكرر المشاهدة، ومتواترات يحكم بها بمجرد خبر جماعة يمتنع تواطؤها على الكذب، وحدسيات يحكم بها بواسطة حدس من النفس4. ويرجع بعض المتكلمين هذه الأنواع إلى قسمين: البديهيات والحسيات5. وقال شيخ الإسلام: "البديهي هو ما إذا تصور طرفاه جزم العقل به"6. والقضايا البديهية قد تتفاوت فالبديهي هو ما إذا تصور طرفاه جزم العقل به، والمتصوران قد يكونان خفيين، فالقضايا تتفاوت في الجلاء، والخفاء، لتفاوت تصورها، كما تتفاوت لتفاوت الأذهان، وذلك لا يقدح في كونها ضرورية7.   1 - شرح الأصول الخمسة ص48. 2 - المرجع السابق ص48. 3 - درء التعارض 6/106، وانظر: الدرء 7/430، بيان تلبيس الجهمية 1/266. 4 - انظر: شرح المقاصد 1/210، وانظر اختلاف الناس حول بعض هذه الأنواع في الدرء 7/429 - 431. 5 - انظر: شرح المقاصد 1/213 - 214، أصول الدين ص8، المواقف ص14. 6 - درء التعارض 1/31. 7 - انظر: المرجع السابق 1/31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 العلم النظري 1 - معنى العلم والنظر في اللغة: سبق التعريف بلفظ العلم، فهو في اللغة نقيض الجهل، وهو المعرفة1، أما النظر فيقول ابن فارس: "النون والظاء والراء أصل صحيح، يرجع فروعه إلى معنى واحد، وهو تأمل الشيء، ومعاينته"2. وقال الخليل بن أحمد: "نظر إليه ينظر نظراً..وتقول نظرت إلى كذا، وكذا، من نظر العين، ونظر القلب"3. والنظر حس العين4. وقال الجوهري: "النظر تأمل الشيء بالعين، وكذلك النظران بالتحريك، وقد نظرت إلى الشيء. والنظر الانتظار"5. والنظر الفكر في الشيء تقدره وتقيسه6. فالنظر في اللغة، هو تأمل الشيء بالعين، ومعاينته، وقد يكون بالقلب، بمعنى التفكر في الشيء، كما يعني الانتظار. ولم يرد مصطلح العلم النظري بهذا التركيب في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. 2 - معنى العلم النظري في الاصطلاح: يقول الباقلاني في تعريف العلم النظري أنه: "ما احتيج في حصوله إلى الفكر والروية، وكان طريقه النظر والحجة، ومن حكمه جواز الرجوع عنه و الشك في متعلقه"7. وقال   1 - انظر ص224من البحث. 2 - معجم مقاييس اللغة 5/444. 3 - العين 8/154. 4 - انظر: لسان العرب 5/215. 5 - الصحاح 2/830، وانظر: لسان العرب 5/215 - 216. 6 - انظر: لسان العرب5/217. 7 - الإنصاف ص14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 شيخ الإسلام: "العلم النظري الكسبي هو ما يحصل بالنظر في مقدمات معلومة بدون النظر"1. والعلم النظري يعتمد على العلم الضروري، فالبرهان الذي ينال بالنظر فيه العلم، لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضروية فطرية، فإن كل علم ليس بضروري لا بد أن ينتهي إلى علم ضروري، إذ المقدمات النظرية لو أثبتت بمقدمات نظرية دائماً، لزم الدور القبلي، أو التسلسل في المؤثرات في محل له ابتداء، وكلاهما باطل بالضرورة واتفاق العقلاء. فإن العلم النظري الكسبي، هو ما يحصل بالنظر في مقدمات معلومة، بدون النظر، إذ لو كانت تلك المقدمات أيضاً نظرية؛ لتوقف على غيرها، فيلزم تسلسل العلوم النظرية في الإنسان، والإنسان حادث كائن بعد أن لم يكن، والعلم الحاصل في قلبه حادث، فلو لم يحصل في قلبه علم إلا بعد علم قبله؛ للزم أن لا يحصل في قلبه علم ابتداء، فلا بد من علوم بديهية أولية يبتدؤها الله في قلبه وغاية البرهان أن ينتهي إليها2.   1 - درء التعارض 3/309. 2 - انظر: المرجع السابق نفس الجزء والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الشك 1 - معنى الشك في اللغة: قال الخليل بن أحمد: "الشك نقيض اليقين"1. والشك: اللزوم واللصوق2. والشك الارتياب. وقول أئمة اللغة: الشك خلاف اليقين، هو التردد بين شيئين، سواء استوى طرفاه، أو رجح أحدهما على الآخر3. "ويقال: أصل الشك اضطراب القلب والنفس "4. فالشك في لغة العرب هو نقيض اليقين، وهو الارتياب، كما يعني اللزوم واللصوق. 2 - معنى الشك في الشرع: لقد ورد لفظ الشك في كتاب الله، في خمس عشرة آية، منها قوله - تعالى -: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} [النساء - 157] وقوله - تعالى -: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [هود - 110] ، والآيات توضح المعنى المقصود بالشك، فهو يعني كما في اللغة؛ الارتياب، وعدم اليقين، والاضطراب، والبعد عن العلم. قال الراغب: "الشك اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما..والشك ضرب من الجهل "5. وورد لفظ الشك في السنة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أولم تؤمن.، قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي.." 6.   1 - العين 5/270، وانظر: الصحاح 4/1594، معجم مقاييس اللغة 3/173، لسان العرب10/451، القاموس المحيط ص1220، المصباح المنير 1/436. 2 - انظر: الصحاح 4/1594، لسان العرب10/451، معجم مقاييس اللغة 3/173. 3 - انظر: المصباح المنير 1/436. 4 - المرجع السابق نفس الجزء والصفحة. 5 - المفردات ص461. 6 - أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب قوله عز وجل: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الحجر - 51] وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة - 260] 2/467، ح 3372، ومسلم في كتاب الإيمان باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة 1/133، ح 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وقد اختلفوا في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - "نحن أحق بالشك" فقيل: معناه إذا لم نشك نحن فإبراهيم أولى أن لا يشك، أي لو كان الشك متطرقاً إلى الأنبياء، لكنت أنا أحق به منهم، وقد علمتم أني لم أشك، فاعلموا أنه لم يشك. وإنما قال ذلك تواضعاً منه، أو من قبل أن يعلمه الله بأنه أفضل من إبراهيم1. وقال بعض أهل العلم: إن المراد بالشك في الحديث السابق الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك المصطلح، وهو التوقف بين الأمرين، لا مزية لأحدهما على الآخر، فهو منفي عن الخليل قطعاً؛ لأنه يبعد وقوعه ممن رسخ الإيمان في قلبه، فكيف بمن بلغ رتبة النبوة2. وقال القاضي عياض3: لم يشك إبراهيم بأن الله يحيى الموتى، ولكن أراد طمأنينة القلب، وترك المنازعة لمشاهدة الإحياء، فحصل له العلم الأول بوقوعه، وأراد العلم الثاني بكيفيته ومشاهدته. ويحتمل أنه سأل زيادة اليقين، وإن لم يكن في الأول شك، لأن العلوم قد تتفاوت في قوتها، فأراد الترقي من علم اليقين، إلى عين اليقين، والله أعلم4. وقال شيخ الإسلام: "لفظ الشك يراد به تارة ما ليس بيقين، وإن كان هناك دلائل وشواهد عليه، حتى قد قيل في قوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" أنه جعل ما دون طمأنينة القلب التي طلبها إبراهيم شكاً، وإن كان إبراهيم موقناً ليس عنده شك يقدح في يقينه، ولهذا لما قال له ربه: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} "5. فالشك المراد في الحديث هو ما دون طمأنينة القلب، فإن ذلك قد يسمى شكاً. وقيل الحديث مبني على نفي الشك، فيكون الشك هو الخواطر التي لا تثبت.   1 - انظر: فتح الباري 6/475، شرح السنة للبغوي 1/116. 2 - انظر: تفسير القرطبي 3/298، فتح الباري 6/475. 3 - الإمام العلامة الحافظ الأوحد، شيخ الإسلام، القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض اليحصبي، الأندلسي، ثم السبتي، المالكي، ولد في سنة ست وسبعين وأربع مئة، أكثر من التأليف، من مؤلفاته كتاب الشفا، وكتاب ترتيب المدارك وتقريب المسالك، توفي في سنة أربع وأربعين وخمس مئة. انظر: سير أعلام النبلاء 20/212 - 217. 4 - انظر: فتح الباري 6/475. 5 - انظر: مجموع الفتاوى 23/11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 3 - معنى الشك في الاصطلاح: تعريف الشك في الاصطلاح موافق لمعناه في اللغة، والقرآن، وإن اختلفت العبارات مابين زيادة ونقص. ومن هذه التعريفات قول أبي المعالي: "الشك وهو الاسترابة في معتقدين فصاعداً، من غير ترجيح أحدهما على الثاني"1. وقال الكندي: "الشك هو الوقوف على حد الطرفين من الظن، مع تهمة ذلك الظن"2. وقال الجرجاني: "الشك هو التردد بين النقيضين، بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك، وقيل الشك ما استوى طرفاه، وهو الوقوف بين الشيئين، لا يميل القلب إلى أحدهما"3، هذا هو الشك في الاصطلاح وقد يطلق على ما دون ذلك، يقول شيخ الإسلام: "لفظ الشك يراد به تارة ما ليس بيقين وإن كان هناك دلائل وشواهد عليه"4، فقد يطلق الشك إذا على التردد بين أمرين وإن كان لأحدهما دلائل وشواهد تؤيده، فالشك يطلق على "مطلق التردد"5.كما قد يطلق الشك على ما دون طمأنينة القلب6. وقد يطلق على الخواطر التي لا تثبت7. فالشك إذاً درجات مختلفة. ويرد لفظ الشك في كتب أهل الكلام عند الحديث عن أول واجب على المكلف، وهم متنازعون في أن أول الواجبات معرفة الله، أو النظر المفضي إلى العلم بحدوث العالم، أو القصد إلى النظر، أو الشك السابق على القصد8. وباستثناء القول بالشك، فإن النزاع هنا لفظي، فإن النظر واجب وجوب الوسيلة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به، والمعرفة واجبة وجوب المقاصد. فأول واجب وجوب الوسائل هو النظر، وأول   1 - الإرشاد ص14 - 15. 2 - الحدود ضمن كتاب المصطلح الفلسفي عند العرب ص199. 3 - التعريفات ص168، وانظر: ضوابط المعرفة للميداني ص125. 4 - مجموع الفتاوى 23/11. 5 - كشاف اصطلاحات الفنون 1/780. 6 - انظر: مجموع الفتاوى 23/11. 7 - انظر: تفسير القرطبي 3/298، فتح الباري 6/475. 8 - انظر: درء التعارض 5/292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 واجب وجوب المقاصد هو المعرفة. ومن هؤلاء من يقول أول واجب هو القصد إلى النظر، وهو أيضا نزاع لفظي، فإن العمل الاختياري مطلقاً مشروط بالإرادة1. أما القول بأن أول الواجبات هو الشك، وهو منسوب إلى أبي هاشم2، فهو قول باطل لفظاً ومعنى؛ قال أبو المعالي بعد ذكره لقول أبي هاشم: "وهذا خروج منه من قول الأمة وتوصل منه إلى هدم أصله، وذلك أن كل واجب مأمور به، وتقدير الأمر بالشك متناقض إذ يثبت العلم بالأمر، واعتقاد ثبوته والعلم به مع التشكك فيه متناقضان"3. ومن لم يوجب الشك من المعتزلة قال إنه لا بد من حصوله وإن لم يؤمر به4. والقول بالشك قبل الاعتقاد باطل، ومن وجوه بطلانه أن هذا القول مبني على أصلين: أحدهما: أن أول الواجبات النظر المفضي إلى العلم. والثاني: أن النظر يضاد العلم، فإن الناظر طالب للعلم، فلا يكون في حال النظر عالماً. وكلا الأصلين باطل5. فمن فرق بين النظر في الدليل، وبين النظر الذي هو طلب الدليل، تبين له الفرق. والنظر في الدليل لا يستلزم الشك في المدلول، بل قد يكون القلب ذاهلاً عن الشيء ثم يعلم دليله، فيعلم المدلول، وإن لم يتقدم ذلك شك وطلب، وقد يكون عالماً به، ومع هذا ينظر في دليل آخر لتعلقه بذلك الدليل، فتوارد الأدلة على المدلول الواحد كثير، لكن هؤلاء لزمهم المحذور، لأنهم إنما أوجبوا النظر لكون المعرفة لا تحصل إلا به، فلو كان الناظر عالماً بالمدلول، لم يوجبوا عليه النظر، فإذا أوجبوه لزم انتفاء العلم بالمدلول، فيكون الناظر طالباً للعلم، فيلزم أن يكون شاكاً، فصاروا يوجبون على كل مسلم أنه لا يتم إيمانه حتى يحصل له الشك في الله، ورسوله، بعد بلوغه، سواء أوجبوه، أو قالوا هو من لوازم الواجب6. فالقول بوجوب الشك قبل الاعتقاد قول ظاهر الفساد.   1 - انظر: درء التعارض7/373. 2 - انظر: الشامل 1/32، الدرء 7/353، المواقف 32، شرح المقاصد 1/272. وأبو هاشم عبد السلام بن الأستاذ أبي علي محمد ابن عبد الوهاب بن سلام الجبائي المعتزلي من كبار الأذكياء، أخذ عن والده الاعتزال، له كتاب الجامع الكبير وكتاب العرض، توفي سنة إحدى وعشرين وثلاث مئة، وله عدة تلامذة. انظر: سير أعلام النبلاء 15/63 - 64. 3 - الشامل 1/32. 4 - انظر: درء التعارض 7/419. 5 - انظر: المرجع السابق 7/419. 6 - انظر: المرجع السابق 7/420 - 421. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 المعرفة 1 - معنى المعرفة في اللغة: قال الخليل: "عرفت الشيء معرفة وعرفاناً، وأمر عارف، معروف، عريف.. والتعريف أن تصيب شيئاً فتعرفه، إذا ناديت من يعرف هذا، والاعتراف الإقرار بالذنب والذل والمهانة والرضى به"1. وقال ابن فارس: "العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تتابع الشيء، متصلاً بعضه ببعض، والآخر على السكون والطمأنينة، فالأول العرف: عرف الفرس، وسمي بذلك لتتابع الشعر عليه، ويقال جاءت القطا عُرْفا عُرْفا، أي بعضها خلف بعض..والأصل الآخر المعرفة والعرفان، تقول عرف فلان فلاناً، عِرفاناً، ومعرفة، وهذا أمر معروف، وهذا يدل على ما قلناه من سكونه إليه، لأن من أنكر شيئاً، توحش منه، ونبا عنه"2. "والعرف والعارفة والمعروف واحد؛ وهو كل ما تعرفه النفس من الخير وتَبْسأ به3 وتطمئن إليه"4. وقال الجوهري: "والتعريف الإعلام، والتعريف أيضا إنشاد الضالة. والتعريف: التطييب من العرف..واعترفت القوم، إذا سألتهم عن خبر لتعرفه"5. وفي القاموس: "عرفه يعرفه معرفة وعرفاناً وعِرفة بالكسر، وعِرِفّاناً بكسرتين مشددة الفاء: علمه"6. فالمعرفة في اللغة تدل على السكون إلى الشيء، والطمأنينة إليه.   1 - العين2/121، وانظر: الصحاح4/1400 - 1402. 2 - معجم مقاييس اللغة4/281. 3 - بسأ بهذا الأمر مرن عليه، واستمر فلم يكترث لقبحه، وما قيل له فيه، وبَسَأ به يَبْسأُ بَسْأ وبُسُوءاً، وبَسِىء يَبْسَأ بَسَأً إذا أنس به. انظر: العين 7/316. 4 - تهذيب اللغة 2/344. 5 - الصحاح4/1402، وانظر: القاموس المحيط ص1082. 6 - القاموس المحيط ص1080. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 2 - معنى المعرفة في الشرع: لم يرد مصطلح المعرفة بهذا اللفظ في كتاب الله، وورد الفعل عرف بتصريفاته وبعض اشتقاقاته، نحو قوله - تعالى -: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد - 30] ، وقوله - تعالى -: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة - 146] ، وورد الفعل عرف بتصريفاته في السنة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام، على من عرفت، وعلى من لم تعرف" 1. أما في حقه - سبحانه - فقد وصف نفسه بالعلم، ولم يصف نفسه بالمعرفة، وأمر عباده أن يعلموا أنه إله واحد، كما أمرهم بالعلم في صفاته، وليس مجرد المعرفة. قال ابن القيم - رحمه الله -: "واختار - سبحانه - لنفسه اسم العلم، وما تصرف منه، فوصف نفسه بأنه عالم، وعليم، وعلام، وعَلِمَ، ويعلم. وأخبر أن له علماً، دون لفظ المعرفة في القرآن. ومعلوم أن الاسم الذي اختاره الله لنفسه، أكمل نوعه المشارك له في معناه. وإنما جاء لفظ المعرفة في القرآن، في مؤمني أهل الكتاب خاصة، كقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} إلى قوله: {مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ} [المائدة:82 - 83] ، وقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة - 146] "2. وأما الفرق المعنوي بين لفظ المعرفة والعلم فمن وجوه3: أحدها: أن المعرفة تتعلق بذات الشيء، والعلم يتعلق بأحواله، فتقول عرفت أباك، وعلمته صالحاً عالماً، ولذلك جاء الأمر في القرآن بالعلم دون المعرفة، كقوله - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد - 19] وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة - 98] ، فالمعرفة حضور صورة الشيء، ومثاله العلمي في النفس، والعلم حضور أحواله، وصفاته، ونسبتها إليه. فالمعرفة تشبه التصور، والعلم يشبه التصديق. الثاني: أن المعرفة في الغالب تكون لما غاب عن القلب بعد إدراكه، فإذا أدركه قيل عرفه، أو تكون لما وصف له بصفات قامت في نفسه، فإذا رآه وعلم أنه الموصوف بها   1 - أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب السلام للمعرفة وغير المعرفة 4/137، ح 6236. 2 - مدارج السالكين 3/334 - 335. 3 - انظر: المرجع السابق 3/336 - 337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 قيل عرفه. قال الله - تعالى -: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس - 45] ، وقال - تعالى -: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف - 58] فالمعرفة تشبه الذكر للشيء، وهو حضور ما كان غائباً عن الذكر. الفرق الثالث: أن المعرفة تفيد تمييز المعروف عن غيره، والعلم يفيد تمييز ما يوصف به عن غيره. فإذا قلت علمت زيداً، لم يفد المخاطب شيئاً، لأنه ينتظر بعد أن تخبره على أي حال علمته، فإذا قلت كريماً أو شجاعاً، حصلت له الفائدة، وإذا قلت عرفت زيداً، استفاد المخاطب أنك أثبته، وميزته عن غيره، ولم يبق منتظراً لشيء آخر. وهذا الوجه قريب من الفرق الأول. الفرق الرابع: قيل: إن المعرفة علم بعين الشيء مفصلاً عما سواه، بخلاف العلم فإنه قد يتعلق بالشيء مجملاً. وعلى هذا الحد فلا يتصور أن يعرف الله ألبتة. بل حقيقة هذا الحد انتفاء تعلق المعرفة بأكبر المخلوقات، حتى بأظهرها وهو الشمس، والقمر، بل لا يصح أن يعرف أحد نفسه، وذاته، ألبتة. أما الصوفية فعندهم أن المعرفة أرفع من العلم، فلا تجدهم يتحدثون عن العلم بل عن المعرفة والعارف. يقول الإمام ابن القيم عنهم: "وهذه الطائفة ترجح المعرفة على العلم جداً، وكثير منهم لا يرفع بالعلم رأساً. ويعده قاطعاً وحجاباً دون المعرفة. وأهل الاستقامة منهم أشد الناس وصية للمريدين بالعلم"1. فالمعرفة تتعلق بصورة الشيء وشكله، بينما العلم أعمق من ذلك فهو معرفة الصفات والأحوال. فالعالم عارف لكن العارف قد لا يكون عالماً. 3 - معنى المعرفة عند المتكلمين: يذكر كثير من المتكلمين المعرفة كمرادف للعلم، فالباقلاني يعرف العلم ويقول: "..حده أنه معرفة المعلوم على ما هو به، فكل علم معرفة، وكل معرفة علم"2، وقال: "وقد ثبت أن كل علم تعلق بمعلوم، فإنه معرفة له؛ وكل معرفة لمعلوم فإنها علم به"3.   1 - مدارج السالكين3/335. 2 - الإنصاف ص13، وانظر: التمهيد ص34، الإرشاد12. 3 - التمهيد ص34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وقال القاضي عبد الجبار: "..المعرفة والدراية والعلم نظائر، ومعناها: ما يقتضي سكون النفس، وثلج الصدر، وطمأنينة القلب"1، وقال في تعريف المعرفة أنها: "الاعتقاد الذي تسكن به النفس، إلى أن معتقده على ما اعتقده عليه"2. ويرى الراغب أن المعرفة أخص من العلم فيقول: "المعرفة والعرفان: إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره، وهو أخص من العلم، ويضاده الإنكار "3. وقال الجرجاني: "والمعرفة أيضاً إدراك الشيء على ما هو عليه، وهي مسبوقة بجهل، بخلاف العلم "4. وقد اختلف أهل الكلام في أول واجب على المكلف، هل هو المعرفة، أو النظر، أو الشك؟ فقال بعضهم: إن أول واجب هو المعرفة5، وقال بعضهم المعرفة لا تحصل إلا بالنظر فيكون النظر أول واجب. فقد أعطوا المعرفة هذه المكانة، رغم أنها بهذا اللفظ لم ترد في الكتاب أو السنة. ومن وجوه ضعف قولهم: أولاً: أنه لم يرد مصطلح المعرفة، بهذا اللفظ، في الكتاب أو السنة، ولم يرد الأمر بها. ثانياً: أن مجرد المعرفة بالصانع لا يصير به الرجل مؤمناً، بل ولا يصير مؤمناً بأن يعلم أنه رب كل شيء، حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله6. ثالثاً: أن القول بأن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر في طريقة الأعراض، والتركيب، ونحو ذلك من الطرق المبتدعة قول باطل، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أحداً بهذه الطرق، ولا علق إيمانه، ومعرفته بالله، بهذه الطرق، بل القرآن وصف بالعلم، والإيمان، من لم يسلك هذه الطرق، ولما ابتدع بعض هذه الطرق من ابتدعها، أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها، ووسموا هؤلاء بالبدعة والضلالة7. فالمعرفة إذاً ليست أول واجب على المكلف، بل أول واجب هو الشهادتان.   1 - شرح الأصول الخمسة ص46. 2 - المرجع السابق ص46، وانظر مناقشة هذه التعريفات في أصول الدين ص5 - 6، المواقف ص10. 3 - المفردات ص560. 4 - التعريفات ص275 5 - انظر: درء التعارض 8/3 - 5. 6 - انظر: المرجع السابق 8/11 - 12. 7 - انظر: المرجع السابق 8/12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 النظر 1 - معنى النظر في اللغة: سبق تعريف النظر في اللغة وأنه تأمل الشيء بالعين، ومعاينته، وقد يكون بالقلب، بمعنى التفكر في الشيء، كما يعني الانتظار1. 2 - معنى النظر في الشرع: لقد جاء الفعل نظر بتصريفاته في القرآن الكريم، وكان على عدة معان، فمن ذلك نظر العين، قال - تعالى -: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف - 143] وهو صريح في نظر العين، حيث قال - تعالى - بعد ذلك: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف - 143] ، وقوله - تعالى -: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف - 185] ، قال الطبري - رحمه الله -: "يقول - تعالى ذكره - أولم ينظر هؤلاء المكذبون بآيات الله في ملك الله، وسلطانه، في السماوات، وفي الأرض، وفيما خلق - جل ثناؤه - من شيء فيهما، فيتدبروا ذلك ويعتبروا به، ويعلموا أن ذلك ممن لا نظير له ولا شبيه "2. وجاء النظر بمعنى الانتظار، قال - تعالى -: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد - 13] قال الطبري: "واختلفت القراء في قراءة قوله: {انْظُرُونَا} ، فقرأت ذلك عامة قراء المدينة، والبصرة، وبعض أهل الكوفة {انْظُرُونَا} ، موصولة بمعنى انتظرونا"3. وهذه المعاني التي وردت في القرآن الكريم قد وردت في اللغة. كما ورد لفظ النظر، والفعل منه، في السنة كثيراً، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا   1 - انظر ص226، من البحث. 2 - تفسير الطبري 9/136. 3 - المرجع السابق 27/224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه" 1. فالنظر في الشرع جاء بمعاني النظر في اللغة. 3 - معنى النظر في الاصطلاح: يقول الجويني: "النظر في اصطلاح الموحدين، هو الفكر الذي يطلب به من قام به، علماً، أو غلبة ظن، ثم ينقسم النظر قسمين؛ إلى الصحيح، وإلى الفاسد، والصحيح منه كل ما يؤدي إلى العثور على الوجه الذي منه يدل الدليل، والفاسد ما عداه"2. ويقول الرازي: "النظر والفكر عبارة عن ترتيب مقدمات علمية، أو ظنية، ليتوصل بها إلى تحصيل علم، أو ظن"3، وقال: "النظر ترتيب تصديقات، ليتوصل بها إلى تصديقات أخر"4. ويقسم القاضي عبد الجبار النظر في أمور الدين إلى قسمين: "أحدها النظر في الشبه لتحل، والثاني النظر في الأدلة ليتوصل بها إلى المعرفة"5. فالنظر إذاً عند المتكلمين هو التفكر، والانتقال من المقدمات العلمية، أو الظنية، إلى ما يترتب عليها من نتيجة علمية أو ظنية. ويرى كثير من المتكلمين أن النظر في طريق معرفة الله أول واجب على العبد. يقول الباقلاني: "وأن يعلم أن أول ما فرض الله - عز وجل - على جميع العباد، النظر في آياته، والاعتبار بمقدوراته، والاستدلال عليه بآثار قدرته، وشواهد ربوبيته"6. ويقول الجويني: "أول ما يجب على العاقل البالغ باستكمال سن البلوغ، أو الحلم، شرعاً، القصد إلى النظر الصحيح، المفضي إلى العلم بحدث العالم"7، فهم يقيدون النظر بدليل حدوث العالم كما هو ظاهر من كلام الجويني.   1 - أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان باب زنا الجوارح دون الفرج 4/139، ح 6243، وبنحوه مسلم في كتاب القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره 4/2046، ح 2657. 2 - الإرشاد ص3. 3 - معالم أصول الدين ص20. 4 - محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ص40. 5 - شرح الأصول الخمسة ص45. 6 - الإنصاف ص22، وانظر: شرح الأصول الخمسة ص45، المحصل ص47. 7 - الإرشاد ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وقد خالف أهل السنة المتكلمين في إيجابهم النظر، وجعله أول واجب، ودللوا على بطلان مذهب المتكلمين من وجوه عدة منها: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدع أحداً من الخلق إلى النظر ابتداء، ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه، كما قال في الحديث المتفق على صحته لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه -، لما بعثه إلى اليمن: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم" 1. والقرآن ليس فيه أن النظر أول الواجبات، ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد، وإنما فيه الأمر بالنظر لبعض الناس. وهذا موافق لقول من يقول إنه واجب على من لم يحصل له الإيمان إلا به، بل هو واجب على كل من لا يؤدي واجباً إلا به وهذا أصح الأقوال2. كما أن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ، لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ. والشهادة تتضمن الإقرار بالصانع - تعالى - وبرسوله3. ثانياً: أن هؤلاء المتكلمين بنوا دينهم على النظر، وهو لفظ مجمل، يدخل فيه الحق والباطل، فالحق هو النظر الشرعي، والنظر الشرعي هو النظر فيما بعث به الرسول من الآيات، والهدى كما قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة - 185] ، ولكن لما ظهرت البدع والتبس الحق بالباطل، صار اسم النظر يطلق على ثلاثة أمور: النظر البدعي؛ فيريدون بالدليل ما ابتدعوه من الأدلة الفاسدة والنظر فيها. ومنهم من يريد مطلق الدليل والنظر من غير تقييدها، لا بشرعي، ولا ببدعي، وهؤلاء أوسطهم، وهم أحسن حالاً من الذين قيدوا ذلك بالبدعي. وأما القسم الثالث فهم صفوة الأمة، وخيارها، المتبعون للرسول علماً وعملاً،   1 - سبق تخريج الحديث ص 16من البحث. 2 - انظر: درء التعارض 8/6 - 8. 3 - انظر: المرجع السابق 8/8 - 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 يدعون إلى النظر، والاستدلال، والاعتبار بالآيات، والأدلة، والبراهين التي بعث الله بها رسوله، وتدبر القرآن، وما فيه من البيان1. ثالثاً: أنه قد تنازع النظار في مسألة وجوب النظر، المفضي إلى معرفة الله - تعالى - على ثلاثة أقوال؛ فقالت طائفة من الناس إنه يجب على كل أحد، وقالت طائفة لا يجب على أحد، وقال الجمهور إنه يجب على بعض الناس دون بعض، فمن حصلت له المعرفة أو الإيمان - عند من يقول إنه يحصل بدون المعرفة - بغير النظر، لم يجب عليه، ومن لم تحصل له المعرفة، ولا الإيمان، إلا به وجب عليه2. رابعاً: أنه لما كان في لفظ النظر إجمال كثر اضطراب الناس في هذا المقام، وتناقض من تناقض منهم، فيوجبون النظر لأنه يتضمن العلم، ثم يقولون النظر يضاد العلم؛ فكيف يكون ما يتضمن العلم مضاداً له لا يجتمعان؟ فمن فرق بين النظر في الدليل، وبين النظر الذي هو طلب الدليل، تبين له الفرق. والنظر في الدليل لا يستلزم الشك في المدلول، بل قد يكون القلب ذاهلاً عن الشيء، ثم يعلم دليله، فيعلم المدلول، وإن لم يتقدم ذلك شك وطلب. وقد يكون عالماً به، ومع هذا ينظر في دليل آخر لتعلقه بذلك الدليل، فتوارد الأدلة على المدلول الواحد كثير، لكن هؤلاء لزمهم المحذور؛ لأنهم إنما أوجبوا النظر لكون المعرفة لا تحصل إلا به، فلو كان الناظر عالماً بالمدلول لم يوجبوا عليه النظر، فإذا أوجبوه لزم انتفاء العلم بالمدلول، فيكون الناظر طالباً للعلم، فيلزم أن يكون شاكاً، فصاروا يوجبون على كل مسلم، أنه لا يتم إيمانه حتى يحصل له الشك في الله، ورسوله بعد بلوغه، سواء أوجبوه، أو قالوا هو من لوازم الواجب3. خامساً: أن إيجاب النظر مطلقاً، غير إيجاب النظر في الطريق المعين؛ كطريقة حدوث الأعراض ولزومها للأجسام، فإن هذه لا يقول بوجوبها على المسلمين أحد من الأئمة الذين يعرفون ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويتبعونه، إذ كان معلوماً بالاضطرار لكل من عرف ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يوجب النظر في   1 - انظر: النبوات 89 - 91. 2 - انظر: درء التعارض 7/405، 352 - 357. 3 - انظر: المرجع السابق 7/420 - 421. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 هذه الطريقة، بل ولا دل على صحتها، بل ما أخبر به يناقض موجبها1. فقول هؤلاء مخالف لما أجمع عليه أئمة الدين، ولما تواتر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. سادساً: أن كثيراً من المتكلمين قد تراجعوا في نهاية الأمر عن إيجاب النظر2، وهذا من أدلة بطلانه أيضاً، إذ تراجعهم عن إيجابه، يدل على أنه لم يحصل المقصود. فما أوجبوه من النظر على الجميع غير صحيح، وكذلك حصرهم النظر في طريق معين غير صحيح أيضاً.   1 - انظر: درء التعارض 8/358. 2 - انظر: المرجع السابق7/440 - 441. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 التسلسل 1 - معنى التسلسل في اللغة: التسلسل مصدر من الفعل تسلسل، يقول الجوهري: "وتسلسل الماء في الحلق جرى، وسَلْسَلتُه أنا صببته فيه، وماء سَلْسَلٌ وسَلْسال: سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه.. ويقال معنى يتسَلْسل أنه إذا جرى، أو ضربته الريح، يصير كالسلسلة"1. وقال ابن فارس: "قال بعض أهل اللغة: السَّلسلة اتصال الشيء بالشيء، وبذلك سميت سلسلة الحديد"2. فالسلسلة سميت بذلك لأنها ممتدة في اتصال3. وفي العين: "وبرق ذو سلاسل، ورمل مثله، وهو تسلسله الذي يرى في التوائه"4. ويظهر مما سبق أن معنى التسلسل في اللغة يعني التتابع والاتصال والامتداد.   1 - الصحاح 5/1731 - 1732، وانظر: العين 7/193، معجم مقاييس اللغة 3/60، لسان العرب 11/343 - 344. 2 - معجم مقاييس اللغة 3/60، وانظر: الصحاح 5/1732، لسان العرب 11/343 - 344. 3 - انظر: معجم مقاييس اللغة 3/60، لسان العرب11/345. 4 - العين 7/194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 2 - معنى التسلسل في الاصطلاح: لفظ التسلسل من الألفاظ الاصطلاحية التي لم ترد في القرآن الكريم أو السنة النبوية، إذ ورد فيهما لفظ السلسلة والسلاسل فقط، قال - تعالى -: {إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر - 71] ، وقال - سبحانه -: {سَلاسِلاْ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} [الإنسان - 4] وقال - تعالى -: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة - 32] .ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل" 1، والسلاسل جمع سلسلة، والسلسة سبق بيان معناها في اللغة، وهو المراد في القرآن والسنة. ولفظ التسلسل من الألفاظ المجملة، التي أحدثها المتكلمون ويراد به عند الإطلاق: "ترتيب أمور غير متناهية"2، مع أن معناه اللغوي لا يدل على عدم الانتهاء، بل ما ورد من الأمثلة في اللغة هو مما ينتهي. ويختلف أهل السنة، والمتكلمون، والفلاسفة، في نظرتهم إلى أنواع التسلسل وما يجوز منه وما يمتنع، فعند التقييد ينقسم لفظ التسلسل إلى ثلاثة أنواع: واجب وممتنع وممكن، وتفصيلها كما يلي: النوع الأول: التسلسل الممتنع، وهو التسلسل في المؤثرات، والفاعلين، والعلل، "بأن يكون للفاعل فاعل، وللفاعل فاعل إلى ما لا نهاية له"3، وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، ومنه التسلسل في تمام كون المؤثر مؤثراً؛ كأن يقال الحادث لابد له من سبب حادث، وذلك السبب لابد له من سبب حادث4. النوع الثاني: التسلسل الممكن وهو التسلسل في المفعولات، والآثار المتعاقبة، "بأن يكون الحادث الثاني موقوفاً على حادث قبله، وذلك الحادث موقوف على حادث قبل   1 - أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الأسارى في السلاسل 2/361، ح 3010. 2 - التعريفات للجرجاني ص84، وانظر: العين والأثر لعبد الباقي الحنبلي ص51، توضيح المقاصد لابن عيسى1/370. 3 - درء التعارض 1/321. 4 - انظر: المرجع السابق 2/282 - 283، 1/321 - 322، 9/228، الصفدية 1/49 - 53، مجموعة الرسائل 5/341 - 342، بدائع الفوائد 4/127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ذلك وهلم جرا"1. وهو التسلسل في الحوادث، وقد وقع فيه خلاف، والناس فيه على ثلاثة أقوال: الأول: قيل يجوز مطلقاً، وهذا قول أئمة السنة والحديث، وأساطين الفلاسفة، لكن المسلمين، وسائر أهل الملل، وجمهور العقلاء من جميع الطوائف يقولون أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن، بينما قالت الفلاسفة بقدم العالم. الثاني: أنه لا يجوز لا في الماضي ولا في المستقبل. وهو قول الجهم بن صفوان، وأبي الهذيل العلاف. الثالث: أنه يجوز في المستقبل دون الماضي، وهو قول أكثر أتباع جهم، وأبي الهذيل، من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم2. وقد منع المتكلمون التسلسل في المفعولات من طرف الأزل، وقالوا باستحالته، وقد اعتقدوا أن القول بجوازه يفضي إلى القول بقدم العالم. وقد اعتُرض عليهم في قولهم بجواز دوام الحوادث في المستقبل دون الماضي، بأنه لا دليل لهم على التفريق بينهما3. وأما الفلاسفة فقالوا بجواز تسلسل المفعولات، بل قال بعضهم إن ذلك واجب؛ وأخذوا من ذلك دليلاً للقول بقدم العالم، ولم يفرقوا بين الآحاد والنوع. وكلا القولين باطل، وقد رد عليهم أهل السنة وبينوا أن ذلك لا يعني القول بقدم العالم، فكل ما سوى الله - تعالى - مخلوق حادث بعد أن لم يكن، وإن تسلسل في الأزل والأبد. ومن هذه الردود: أولاً: أن هؤلاء المتكلمين، والدهرية من الفلاسفة، اشتركوا في أصل فاسد تفرعت عنه مقالاتهم؛ وهو أن تسلسل الحوادث، ودوامها، يستلزم قدم العالم، بل قدم السماوات والأفلاك، والفلاسفة الدهرية أعظم إقراراً ببطلانه من المعتزلة، فإن تسلسل الحوادث ودوامها لا يقتضي قدم أعيان شيء منها، ولا قدم السماوات، والأفلاك، ولا شيء من العالم، والفلاسفة يسلمون أن تسلسل الحوادث لا يقتضي قدم شيء من أعيانها4. فليس   1 - درء التعارض1/321. 2 - انظر: الصفدية1/10 - 11، منهاج السنة 1/437 - 438، 2/393، درء التعارض 1/321 - 322، شرح الطحاوية 1/105. 3 - انظر: درء التعارض 2/358 - 395، 9/186. 4 - انظر: درء التعارض 9/147 - 148، 9/149ومابعدها، مجموعة الرسائل 5/357 - 361، شفاء العليل ص 156، شرح الطحاوية 1/103 - 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 مع الله شيء من مفعولاته قديم معه، بل هو خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن. ثانياً: يقال للفلاسفة: هب أن الحوادث لم تزل تحدث شيئاً بعد شيء، فمن أين لكم أن الأفلاك قديمة؟ وهلا جاز أن تكون حادثة بعد حوادث قبلها؟ بل يقال هذا يبطل قولكم، فإنها إذا كانت متسلسلة، امتنع أن تكون صادرة عن علة تامة موجبة، فإن العلة التامة لا يتأخر عنها شيء من معلولها، والحوادث متأخرة، فيمتنع صدورها عن علة تامة بوسط أو بغير وسط1. النوع الثالث: التسلسل الواجب وهو "ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب - تعالى - في الأبد، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له، وكذلك التسلسل في أفعاله - سبحانه - من طرف الأزل، وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر"2، ولم يكن ربنا - تعالى - قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله، من الكلام والإرادة، والفعل3. وجمهور أهل السنة يقولون لم يزل الله خالقاً فاعلاً، كما قال الإمام أحمد لم يزل الله عالماً متكلماً غفوراً، بل يقولون لم يزل يفعل إما بناء على أن الفعل قديم، وإن كان المفعول محدثاً، أو بناء على قيام الأفعال المتعاقبة بالفاعل، وإذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الأفعال المتعاقبة الدائمة، ويفعلها دائمة متعاقبة، ومن لا يقدر على الدائمة المتعاقبة، كان الأول أكمل4. والمتكلمون من المعتزلة والأشاعرة ينفون أن تقوم صفات الأفعال بالله؛ لتعلقها بقدرته ومشيئته، وهي التي يطلقون عليها نفي حلول الحوادث، كما ينفون تسلسلها، وهذا باطل، فقولهم إن الرب في الأزل لم يكن قادراً ثم صار قادراً، ونحوه، ليس بصحيح، بل هذا فيه سلب للرب صفة الكمال، وإثبات التغير بلا سبب يقتضيه، وذلك مخالفة لصريح المعقول والمنقول5.   1 - انظر: درء التعارض 9/148. 2 - شفاء العليل ص156، وانظر: شرح الطحاوية 1/107. 3 - انظر: شرح الطحاوية 1/107. 4 - انظر: درء التعارض 2/268، 220. 5 - انظر: المرجع السابق 9/185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 والذي دفع المتكلمين إلى هذا القول؛ هو خشيتهم أن يفسد عليهم دليل حدوث العالم. فيقال لهم: إن قدم أفعال الرب لا تستلزم قدم شيء من مفعولاته، "فليس مع الله شيء من مفعولاته قديم معه، لا بل هو خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، وإن قدر أنه لم يزل خالقاً فعالاً، وإذا قيل إن الخلق صفة كمال لقوله - تعالى -: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل - 17] أفلا أمكن أن تكون خالقيته دائمة، وكل مخلوق له محدث مسبوق بالعدم، وليس مع الله شيء قديم، وهذا أبلغ في الكمال من أن يكون معطلاً غير قادر على الفعل، ثم يصير قادراً والفعل ممكناً له بلا سبب، وأما جعل المفعول المعين مقارناً له أزلاً وأبداً، فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله، فإن كون الفاعل مقارناً لمفعوله أزلاً وأبداً، مخالف لصريح المعقول"1. وأما الفلاسفة فكما سبق في بيان توحيدهم أنهم ينفون عن الله كل صفة، ويثبتونه وجوداً مطلقاً، لا صفة له ولا فعل، وقد أضافوا إلى ذلك قولهم بقدم العالم، وهؤلاء هم أتباع أرسطو من المتقدمين والمتأخرين، وأما أساطين الفلاسفة قبل أرسطو فلم يحفظ عنهم القول بقدم العالم، والمنقول عنهم هو حدوث الأفلاك، ونقل أصحاب المقالات عن غير واحد من أئمتهم القول بإثبات الصفات لله، وبإثبات الأمور الاختيارية القائمة بذاته، وهذا قول من يقرب إلى صريح المعقول، وصحيح المنقول من الأوائل والأواخر منهم2.   1 - مجموعة الرسائل 5/362 وانظر: شفاء العليل ص 156. 2 - انظر: درء التعارض 8/286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الدور 1 - معنى الدور في اللغة: قال ابن فارس: "الدال والواو والراء أصل واحد، يدل على إحداق الشيء بالشيء من حواليه"1. وقال الخليل: "والدائرة: الحلقة، والشيء المستدير"2. دار الشيء يدور دوراً ودوراناً، وتدوير الشيء جعله مدوراً3. ويقال: دار يدور، واستدار يستدير، بمعنى إذا طاف حول الشيء، وإذا عاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه، والدائرة، والدارة، كلاهما: ما أحاط بالشيء4. "ومنه قولهم دارت المسألة، أي كلما تعلقت بمحل توقف ثبوت الحكم على غيره، فينقل إليه، ثم يتوقف على الأول وهكذا"5. والدور قد يكون مصدراً في الشعر، ويكون دوراً واحداً من دور العمامة ودور الخيل وغيره6. وعلى هذا فيغلب على لفظ الدور أنه يحمل معنى الإحداق بالشيء، والاستدارة، والرجوع إلى الموضع الذي ابتدأ منه.   1 - معجم مقاييس اللغة 2/310. 2 - العين 8/57. 3 - انظر: الصحاح 2/660، معجم مقاييس اللغة 2/310، لسان العرب 4/296. 4 - انظر: لسان العرب 4/296، المصباح المنير 1/202. 5 - المصباح المنير 1/286. 6 - انظر: العين 8/56، لسان العرب 4/295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 2 - معنى الدور في الاصطلاح: لم يرد لفظ الدور في القرآن الكريم، وإنما ورد لفظ الدار، والدائرة، والدوائر، ونحوها، ومن ذلك قوله - تعالى -: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ} [الأحزاب - 19] وقال - تعالى -: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام - 127] وقال - تعالى -: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة - 98] . ولم يرد لفظ الدَوْر بهذا الضبط في السنة، وإنما ورد لفظ الدُور، واستدار ونحوها، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بخبر دُور الأنصار" 1. قال الراغب: "الدار: المنزل اعتباراً بدورانها الذي لها بالحائط، وقيل: دارة، وجمعها ديار، ثم تسمى البلدة داراً، والصقع داراً، والدنيا كما هي داراً، والدار الدنيا، والدار الآخرة..قال - تعالى -: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام - 127] أي الجنة، و {دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم - 28] أي الجحيم،..والدائرة: عبارة عن الخط المحيط، يقال: دار يدور دوراناً..والدورة والدائرة في المكروه، كما يقال دولة في المحبوب، وقوله - تعالى -: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة - 52] "2. أما الدَوْر في الاصطلاح فيعرفه الرازي بقوله: "الدور هو أن يحتاج الأول إلى الثاني، والثاني إلى الأول، إما بواسطة أو بغير واسطة "3. ويقول الجرجاني: "الدور هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه، ويسمى الدور المصرح. كما يتوقف أعلى ب، وبالعكس، أو بمراتب ويسمى الدور المضمر كما يتوقف أعلى ب، وب على ج، وج على أ"4. وفي الكليات: "الدور هو توقف كل واحد من الشيئين على الآخر"5. ويقسم شيخ الإسلام الدور إلى نوعين، فيقول: "والدور نوعان: أحدهما الدور القبلي السبقي، فهذا ممتنع باتفاق العقلاء، مثل أن يقال لا يكون هذا إلا بعد ذاك، ولا يكون   1 - جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب خرص التمر1/459، ح 1481، وبنحوه مسلم في كتاب الفضائل باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم 4/1785، ح 1392. 2 - المفردات ص321. 3 - المباحث المشرقية 1/596، وانظر: المواقف ص89. 4 - التعريفات ص140 - 141، وانظر: الصحايف الإلهية ص141. 5 - الكليات ص 447. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ذاك إلا بعد هذا، فهذا ممتنع باتفاق العقلاء، ونفس تصوره يكفي في العلم بامتناعه؛ فإن الشيء لا يكون قبل كونه، ولا يتأخر كونه عن كونه.. وأما الدور المعي الاقتراني مثل أن يقال لا يكون هذا إلا مع ذاك، لا قبله ولا بعده، فهذا جائز، كما إذا قيل لا تكون الأبوة إلا مع البنوة "1. فالمحال هو دور التقدم؛ لاستلزام تقدم الشيء على نفسه، وأما دور المعية فليس بمحال، بل جائز واقع، لأنه لا يقتضي إلا حصولهما معا في الخارج، أو الذهن2. فالدور الممتنع إذاً هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه.   1 - الصفدية 1/12، وانظر: درء التعارض 3/143، منهاج السنة 1/438. 2 - انظر: موسوعة مصطلحات دستور العلماء ص433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الجسم 1 - معنى الجسم في اللغة: قال الخليل: "الجسم يجمع البدن، وأعضاءه، من الناس، والإبل، والدواب، ونحوه مما عظم من الخلق الجسيم، والفعل جسم جسامة"1. وفي الصحاح: "الجسم الجسد، وكذلك الجسمان والجثمان..والجثمان: الشخص، قال: وجماعة جسم الإنسان أيضاً يقال له الجسمان"2. والجسم كل شخص مُدْرَك3. وعلى هذا فالجسم في اللغة هو البدن والجسد والجثمان والشخص. 2 - معنى الجسم في الشرع: ورد لفظ الجسم في آيتين من كتاب الله، هما: قوله - تعالى -: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة - 247] ، وقوله - تعالى -: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون - 4] وهو بمعنى الجسم في اللغة، أي بمعنى الجسد والبدن. وورد لفظ جسيم في السنة، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأما موسى، فآدم، جسيم، سبط" 4. وقوله - صلى الله عله وسلم - يصف الدجال: "فإذا رجل أحمر، جسيم، جعد الرأس، أعور" 5، والجسيم هو الضخم العظيم الجسم، قال في اللسان: "وقد جسم الشيء أي عظم، فهو جسيم، وجُسام بالضم"6.   1 - العين 6/60، وانظر: معجم مقاييس اللغة 1/457، لسان العرب 12/99، المصباح المنير 1/101. 2 - الصحاح 5/1887، وانظر: لسان العرب 12/99، المصباح المنير 1/101. 3 - انظر: الجمهرة 2/94، معجم مقاييس اللغة 1/457، المصباح المنير 1/101. 4 - جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ..} [مريم - 16] 2/488، ح 3438. 5 - أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ..} [مريم - 16] 2/489، ح 3441، ومسلم في كتاب الإيمان باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال 1/156، ح 171. 6 - لسان العرب 12/99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 3 - معنى الجسم في اصطلاح الفلاسفة والمتكلمين: من المصطلحات التي يكثر ذكرها في كتب الفلاسفة والمتكلمين لفظ الجسم، يقول الخوارزمي في بيان معناه عندهم: "فالجسم مؤلف من الهيولى والصورة"1. ويقول ابن سينا: "الجسم اسم مشترك، يقال على معان: فيقال جسم لكل كم، متصل، محدود، ممسوح، فيه أبعاد ثلاثة بالقوة. ويقال جسم لصورة ما يمكن أن يفرض فيه أبعاد كيف شئت طولاً، وعرضاً، وعمقاً، ذات حدود متعينة. ويقال جسم لجوهر مؤلف من هيولى، وصورة"2. ويذكر شيخ الإسلام قول الفلاسفة فيقول: "والقول بأن الجسم مركب من المادة والصورة، قول الفلاسفة المشائين"3. وقد تأثر المتكلمون بالفلاسفة، فأخذوا عنهم مصطلح الجسم، وتأثروا بتعريفهم له، فعند المعتزلة الجسم هو الطويل، العريض، العميق، قال النظام: "الجسم هو الطويل، العريض، العميق"4، ويقول القاضي عبد الجبار: "الجسم هو ما يكون طويلاً، عريضاً، عميقاً، ولا يحصل فيه الطول، والعرض، والعمق، إلا إذا تركب من ثمانية أجزاء"5، وهذا أحد التعريفات التي يذكرها الفلاسفة. أما الجسم عند الأشاعرة فيدور تعريفه على أنه المؤلف المركب، فيكون هو الذي يقبل الانقسام، وهذا تأثر منهم بتعريف الفلاسفة. قال الباقلاني: "الجسم هو المؤلف المركب"4. ويقول التفتازاني في شرح المقاصد: "الجسم عندنا القابل للانقسام، فيتناول المؤلف من الجزئين فصاعداً"5.   1 – الحدود للخوارزمي ضمن المصطلح الفلسفي عند العرب للدكتور الأعسم ص210، وانظر: الصحايف الإلهية ص255. 2 – الحدود لابن سينا ضمن المصطلح الفلسفي عند العرب للدكتور الأعسم ص 248، وانظر: معيار العلم ص 290، الكليات ص345. 3 – بغية المرتاد ص412. 4 - مقالات الإسلاميين 2/6. 5 - شرح الأصول الخمسة ص217، وانظر: مقالات الإسلاميين 2/6، المطالب العالية 6/9، شرح المقاصد 3/12، الصحايف الإلهية ص253، التوقيف على مهمات التعاريف ص245. 4 – الإنصاف ص16، وانظر: المبين ص110، التعريفات للجرجاني ص108. 5 – شرح المقاصد 3/10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ويقول الرازي: "الجسم ما يكون مؤلفاً من جزئين فصاعداً"1. وفي الصحايف الإلهية: "وقالت الأشاعرة أنه "أي الجسم" متحيز قابل للقسمة، فعلى هذا يكون المركب من جوهرين فردين جسماً عندهم"2. وبمثل قول الأشاعرة قالت الماتريدية، حيث يقول النسفي في تعريف الجسم أنه: "اسم للمتركب، يقال هذا أجسم من هذا، أي أكثر تركيباً منه"3. وقال بعض المتكلمين: الجسم ما احتمل الأعراض4. وانقسم الروافض5 إلى أقسام: فبعضهم عرف الجسم بتعريف المعتزلة، وبعضهم عرفه بتعريف الأشاعرة6. وأما الكرامية فقد قال المقاربون منهم: نعني بكونه جسماً أنه قائم بنفسه7. والنظار كلهم متفقون على أن الجسم يشار إليه، وإن اختلفوا في كونه مركباً من الأجزاء المنفردة، أو من المادة والصورة، أو لا من هذا ولا من هذا8. وقد قال المتكلمون من الأشاعرة، والمعتزلة، والكلابية، والماتريدية، وبعض الرافضة، والفلاسفة أيضاً، بنفي الجسم عن الله، من باب التنزيه بزعمهم، حتى جعلوا انتفاء الجسمية عن الله، ذريعة لانتفاء الصفات عنه؛ لأنه لو قامت به الصفات لكان جسماً، وهو منزه عن الجسم؛ لأنه يعني المركب، والمؤلف من الجواهر المفردة. كما أن الأجسام   1 - الأربعون في أصول الدين ص4، وانظر: موسوعة مصطلحات الرازي ص214، المسائل الخمسون ص33. 2 - الصحايف الإلهية ص253. 3 - التمهيد ص138، وانظر: تبصرة الأدلة 56. 4 - انظر: مقالات الإسلاميين 2/4، 7. 5 - الرافضة تطلق على بعض فرق الشيعة، وقد اختلف كتاب المقالات، في مسمى الفرق التي يطلق عليها اسم الرفض، فالأشعري خص الرافضة بالإمامية الإثني عشرية، وجعل الشيعة ثلاث طوائف؛ 1 - الغلاة، 2 - الروافض الإمامية، 3 - الزيدية. والملطي جعل الرافضة مصطلح يعم الإمامية والغلاة والزيدية، وأما البغدادي والإسفراييني فقد جعلوا الرافضة مصطلح يشمل الزيدية، والكيسانية والإمامية، وأخرجوا الغلاة من فرق الإسلام. ولعل الأقرب ما ذهب إليه الأشعري أن لقب الرافضة يطلق على الإمامية، ويدخل في هذا الإسماعيلية. وقد ظهر هذا المصطلح لما كان الشيعة في عسكر زيد ضد جيوش الخلافة، فسألوه عن رأيه في الشيخين، فأثنى عليهما، فرفضوه ونقضوا بيعته، فقال رفضتموني، فسموا الرافضة، وانقسمت الشيعة إلى رافضة إمامية، وإلى زيدية. انظر: مقالات الإسلاميين1/66، 88، 136، التنبيه والرد ص 18، الفرق بين الفرق ص23، التبصير في الدين ص17، مجموع الفتاوى 13/35 - 36. 6 - انظر: مقالات الإسلاميين 1/131. 7 - انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/109. 8 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/505 - 506، الدرء 4/134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 متماثلة، ولو كان جسماً لكان مماثلاً لغيره من الأجسام، وهذا باطل، لذلك فالصفات ممتنعة عليه، لأنها لاتقوم إلا بجسم، وهذا قول المعتزلة والفلاسفة. أما الأشاعرة، والماتريدية، والكلابية، فقد جعلوا هذه الشبهة ذريعة لنفي الصفات باستثناء الصفات السبع، أو الثمان، التي يقولون بإثباتها1. في حين قال بعض الرافضة الأوائل كالهشامية بأن الله جسم 2، وكذلك قالت الكرامية3. وخلاصة أقوال الفلاسفة والمتكلمين أن الجسم هو المؤلف المركب، إما من المادة والصورة، أو من الجواهر المفردة. وقال بعضهم الجسم هو الطويل العريض العميق، وقيل الجسم ما احتمل الأعراض. بينما قالت الكرامية الجسم هو القائم بنفسه. 4 - نقد معنى الجسم عند الفلاسفة والمتكلمين: يعرف أهل السنة والجماعة لفظ الجسم بمعناه الذي جاء في اللغة، والقرآن الكريم، وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو أن الجسم هو الجسد والبدن، وقد تبين في الصفحات السابقة، أن لفظ الجسم في اصطلاح المتكلمين والفلاسفة يحمل عدة معان، تختلف عن معناه في اللغة. وقد اختلف النظار في الأجسام - كما سبق - هل هي مركبة من الجواهر المفردة، أم من المادة والصورة، أم ليست مركبة منهما، على ثلاثة أقوال أصحها الثالث، أنها ليست مركبة لا من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة، وهذا قول كثير من طوائف أهل الكلام؛ كالهشامية، والضرارية، والنجارية، والكلابية، وكثير من الكرامية، وهو قول جمهور الفقهاء، وأهل الحديث، والصوفية، وغيرهم، بل هو قول أكثر العقلاء4. وتعريفات المتكلمين، والفلاسفة، للفظ الجسم، باطلة من الوجوه التالية: أولاً: أن تعريفهم الجسم بالمعاني التي ذكروها، غير وارد في كتب اللغة، وليس هو معناه الذي قد ورد في كتاب الله5. فهم إذا قالوا إن الجسم هو المؤلف، والمركب، لا   1 - انظر: شرح الأصول الخمسة ص218 - 221، المسائل الخمسون ص33، التدمرية ص119 - 123. 2 - انظر: التبصير في الدين للإسفراييني ص23 - 24، الملل والنحل 1/184. 3 - انظر: الملل والنحل 1/109. 4 - انظر: مجموع الفتاوى 9/299. 5 - انظر: الدرء 1/118 - 119، 10/292، الجواب الصحيح 4/429، مجموع الفتاوى 12/316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 يعنون به ما كان مفترقاً فاجتمع، ولا ما يقبل التفريق، بل يعنون به ما تميز منه جانب عن جانب، كالشمس، والقمر، وغيرهما من الأجسام. وأما المتفلسفة فالمؤلف والمركب عندهم أعم من هذا، فهم يدخلون في ذلك تأليفاً عقلياً، لا يوجد في الأعيان، ويدعون أن النوع مؤلف من الجنس، والفصل، فإذا قلت الإنسان حيوان ناطق، قالوا إن الإنسان مؤلف من هذين، وإنما هو موصوف بهما. وأما لفظ الجسم، فإن الجسم عند أهل اللغة كما ذكره الأصمعي، وأبو عبيد، وغيرهما، هو الجسد والبدن، قال - تعالى -: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون - 4] ، وقال - تعالى -: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة - 247] ، فهو يدل في اللغة على معنى الكثافة، والغلظ، كغلظ الجسد، ثم يراد به نفس الغليظ، وقد يراد به غلظه، فيقال لهذا الثوب جسم، أي غلظ وكثافة، ويقال هذا أجسم من هذا، أي أغلظ وأكثف. ثم صار لفظ الجسم في اصطلاح أهل الكلام، أعم من ذلك، فيسمون الهواء، وغيره، من الأمور اللطيفة جسماً، وإن كانت العرب لا تسمى هذا جسماً1. وكذلك الذين قالوا إن الجسم هو الموجود، أو القائم بنفسه، أو ما يمكن الإشارة إليه، فإن هذا المعنى غير صحيح، فليس كل شيء موجود، أو قائم بنفسه، أو يمكن الإشارة إليه، يصح أن يسمى جسماً في لغة العرب، فالهواء والنار ليست جسماً، وهي في اصطلاحهم جسم2. ثانياً: أن قولهم محدث مبتدع لم يرد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من صحابته، أو من التابعين لهم. ثالثاً: إذا قيل هو جسم بمعنى أنه مركب من الجواهر المنفردة، أو المادة والصورة، فهذا باطل، بل هو أيضاً باطل في المخلوقات، فكيف في الخالق - سبحانه وتعالى -3. رابعاً: أن أهل الكلام الذين تنازعوا في إثبات الجسم ونفيه، كالهشامية، والكرامية، ونحوهم ممن أثبته، وكالجهمية، والمعتزلة، ونحوهم ممن نفاه، قد يدخل كل منهم في ذلك   1 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/505 - 506. 2 - انظر: الدرء 7/112، 10/258 - 259. 3 - انظر: مجموع الفتاوى 5/428 - 429. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ما يخالف النصوص، فمن المثبتة من يدخل في ذلك ما يجب تنزيه الله عنه من صفات النقص، ومن مماثلته بالمخلوقات، والنفاة يدخلون في ذلك ما أثبته الله لنفسه من صفات الكمال1، وهذا باطل. خامساً: أن القائلين بأن الأجسام مركبة من الجواهر، يقولون: إن الله لا يحدث شيئاً قائماً بنفسه، وإنما يحدث الأعراض، التي هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون، وغير ذلك من الأعراض. ثم من قال منهم بأن الجواهر محدثة، قال إن الله أحدثها ابتداء، ثم جميع ما يحدثه إنما هو إحداث أعراض فيها، لا يحدث الله بعد ذلك جواهر، وهذا قول أكثر المعتزلة، والجهمية، والأشعرية، ونحوهم. ومن أكابر هؤلاء من يظن أن هذا مذهب المسلمين، ويذكر إجماع المسلمين عليه، وهو قول لم يقل به أحد من سلف الأمة. بل جمهور الأمة حتى من طوائف أهل الكلام ينكرون الجوهر الفرد2.   1 - انظر: درء التعارض 10/258. 2 - انظر: مجموع الفتاوى 17/244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 5 - حكم إطلاق لفظ الجسم على الله: لما كان لفظ الجسم في اصطلاح المتكلمين، والفلاسفة، فيه إجمال، وإبهام، امتنع طوائف من أهل الإثبات، عن إطلاق القول بنفيه، أو إثباته، على الله، ولم ينقل عن أحد من السلف، والأئمة، لا إثباته، ولا نفيه، كما لا يوجد مثل ذلك في لفظ المتحيز، والجوهر، ونحوهما، وذلك لأنها ألفاظ مجملة، يراد بها حق وباطل، وعامة من أطلقها في النفي أو الإثبات، أراد بها ما هو باطل لاسيما النفاة؛ فإن نفاة الصفات كلهم، ينفون الجسم والجوهر والمتحيز، ونحو ذلك، ويدخلون في نفي ذلك نفي صفات الله، وحقائق أسمائه، ومباينته لمخلوقاته. بل إذا حقق الأمر عليهم، وجد نفيهم متضمناً لحقيقة نفي ذاته، إذ يعود الأمر إلى وجود مطلق، لا حقيقة له إلا في الذهن والخيال، أو ذات مجردة، لا توجد إلا في الذهن والخيال، أو إلى الجمع بين المتناقضين، بإثبات صفات ونفي لوازمها1. يقول أبو العباس بن سريج - رحمه الله -: "توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتوحيد أهل الباطل، الخوض في الأعراض والأجسام، وإنما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك"2. والخوض في الأعراض والأجسام كما خاض فيه المتكلمون، كقولهم ليس بجسم ولا عرض ونحو ذلك، أول من ابتدعه في الإسلام الجهمية، وأتباعهم من المعتزلة3، وكذلك بعض قدماء الشيعة4. والجواب على إطلاق هذه الألفاظ المجملة على الله، يكون بأن يستفصل السائل، ويقول له: ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة؟ فإن أراد بها حقاً، وباطلاً، قبل الحق، ورد الباطل. فلفظ الجسم فيه إجمال؛ قد يراد به المركب الذي كانت أجزاؤه مفرقة فجمعت، أو ما يقبل التفريق والانفصال، أو المركب من مادة وصورة، أو المركب من الأجزاء المفردة، التي تسمى الجواهر الفردة، والله - تعالى - منزه عن ذلك كله. وقد يراد بالجسم ما يشار   1 - انظر: الدرء 5/57. 2 - الحجة في بيان المحجة 1/96 - 97، وانظر: بيان تلبيس الجهمية 1/487. 3 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 2/298، الدرء 6/288 - 289، 7/185. 4 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/9، 54، 100، الصفدية 2/33، منهاج السنة النبوية 2/135، مجموع الفتاوى 5/298، 424، مقالات الإسلاميين 106 - 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 إليه، أو ما يرى، أو ما تقوم به الصفات، والله يرى في الآخرة، وتقوم به الصفات، ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم، وقلوبهم، ووجوههم، وأعينهم، فإن أراد بقوله ليس بجسم هذا المعنى، قيل له هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ، معنى ثابت بصحيح المنقول، وصريح المعقول، وأنت لم تقم دليلاً على نفيه. وأما اللفظ، فبدعة نفياً، وإثباتاً، فليس في الكتاب، ولا السنة، ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها، إطلاق لفظ الجسم في صفات الله - تعالى -، لا نفياً، ولا إثباتاً1.   1 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/496، 503 - 523، 550، منهاج السنة النبوية 2/134، شرح الأصفهانية ص37، الدرء 1/238، 6/131، 10/258 - 259، 307 - 311، مجموع الفتاوى 5/215، 421. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الجوهر 1 - معنى الجوهر في اللغة: جاء في الصحاح: "والجوهر معرب، الواحدة جوهرة"1. و"الخرز فصوص من جيد الجوهر، ورديئه، من الحجارة ونحوها"2. وفي لسان العرب: "الجوهر معروف، الواحدة جوهرة، والجوهر كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به"3. فالجوهر لفظ معرب، ومعناه هو كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به، وقد يكون حجراً ثميناً، وقد يكون رديئاً. ولم يرد لفظ الجوهر في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.   1 - الصحاح 2/216.وانظر: لسان العرب 4/153. 2 - العين 4/207. 3 - لسان العرب 4/152، وانظر: المصباح المنير1/113، القاموس المحيط ص468. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 2 - معنى الجوهر في الاصطلاح: الجوهر من المصطلحات التي يكثر استعمالها في كتب الفلسفة والكلام، ومعناه عند الفلاسفة - كما يقول الكندي -: "الجوهر هو القائم بنفسه، وهو حامل للأعراض لا تتغير ذاتيته؛ موصوف لا واصف، ويقال هو غير قابل للتكوين والفساد"1. ويقول ابن سينا في حد الجوهر: "هو اسم مشترك؛ يقال جوهر لذات كل شيء كان كالإنسان، أو كالبياض. ويقال جوهر لكل موجود لذاته، لا يحتاج في الوجود إلى ذات أخرى يقارنها، حتى يقوم بالفعل؛ وهذا معنى قولنا الجوهر قائم بذاته. ويقال جوهر لما كان بهذه الصفة، وكان من شأنه أن يقبل الأضداد، بتعاقبها عليه. ويقال جوهر لكل ذات وجوده ليس في محل. ويقال جوهر لكل ذات وجوده ليس في موضوع2، وعليه اصطلح الفلاسفة القدماء منذ عهد أرسطوطاليس، في استعمالهم اسم الجوهر"3. ويقول الآمدي: "وأما الجوهر فعلى أصول الحكماء ما وجوده لا في موضوع. والمراد بالموضوع: المحل المتقوم بذاته المقوم لما يحل فيه"4. ويوافق الرازي الفلاسفة في تعريف الجوهر حيث قال في المباحث المشرقية: "الجوهر هو الموجود لا في موضوع"5. وأما عند المتكلمين فيقول الباقلاني: "والجوهر الذي له حيز، والحيز هو المكان، أو ما يقدر تقدير المكان، عن أنه يوجد فيه غيره"6. ويقول أبو المعالي: "الجوهر قد ذكرت له حدود شتى، غير أنا نقتصر على ثلاثة منها، فنقول: الجوهر، المتحيز، وقيل: الجوهر ماله حجم، وقيل: الجوهر ما يقبل العرض"7. ويقول الآمدي: "وأما على أصول المتكلمين، فالجوهر عبارة عن المتحيز، وهو ينقسم إلى   1 - الحدود للكندي ضمن كتاب المصطلح الفلسفي ص191، وانظر: مفاتيح العلوم ص167. 2 - الموضوع هو المحل المتقوم بذاته، المقوم لما يحل فيه، وينقسم إلى بسيط ومركب، أما البسيط فهو العقل والنفس والمادة والصورة، وأما المركب فهو الجسم. انظر: المبين ص109. 3 - الحدود لابن سينا ضمن كتاب المصطلح الفلسفي ص249، وانظر: معيار العلم ص291. 4 - المبين ص109. 5 - المباحث المشرقية 1/240 6 - الإنصاف ص16. 7 - لمع الأدلة ص87، وانظر: الشامل 1/48 - 49، المطالب العالية 2/35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 بسيط، ويعبر عنه بالجوهر الفرد، وإلى مركب وهو الجسم"1.وقال الغزالي: "والجوهر على اصطلاح المتكلمين عبارة عما ليس في محل"2. ويذكر الأشعري عن بعض المعتزلة، تعريفهم الجوهر بأنه ما احتمل الأعراض3. وقال الجويني: "وقال المعتزلة الجوهر ما تحيز في الوجود"4. ويعرف النصارى الجوهر بأنه القائم بذاته5. ويطلق الفلاسفة المتقدمون؛ كأرسطو، وأمثاله، لفظ الجوهر على الله - تعالى -، وعنهم أخذت النصارى هذه التسمية، فإن أرسطو كان قبل المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة، كما أن بعض النصارى يحتج على هذا الإطلاق بأنه موجود في كتب الفلسفة6. وأما المتأخرون من الفلاسفة؛ كابن سينا، فقد منع من إطلاق لفظ الجوهر على الله؛ لأنه يقول الجوهر ما إذا وجد كان وجوده لا في موضوع، وهذا إنما يكون فيما وجوده زائد على ذاته، وواجب الوجود وجوده عين ذاته، فلا يكون جوهرا، ونفى الجوهر عن الله نفاة الصفات، الذين يقولون إن الجوهر ما شغل الحيز، وحمل الأعراض، قالوا: والله - سبحانه وتعالى - ليس كذلك7. 3 - موقف أهل السنة من لفظ الجوهر: لا يختلف موقف أهل السنة من لفظ الجوهر، عن موقفهم من لفظ الجسم، إذ كلها ألفاظ محدثة، مجملة، مغايرة لمعناها في لغة العرب، وعامة من أطلقها في النفي أو الإثبات أراد بها ما هو باطل، فنفاة الصفات كلهم ينفون الجسم، والجوهر، والمركب، ونحوها، ويدخلون في نفي ذلك، نفي صفات الله - تعالى -. ولذلك ينبغي الاستفسار عن المعنى المراد بلفظ الجوهر، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً فليس على أحد، بل ولا له أن يوافق أحداً   1 - المبين ص109. 2 - معيار العلم ص305. 3 - انظر: مقالات الإسلاميين 2/8. 4 - الشامل 1/49. 5 - انظر: مقالات الإسلاميين 2/8، الشامل 1/49. 6 - انظر: الجواب الصحيح 5/8 - 9، الدرء 4/142، هداية الحيارى ص144. 7 - انظر: الجواب الصحيح 5/9، الإرشاد لأبي المعالي ص46 - 47، التمهيد ص78 - 79، المطالب العالية 2/35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 على إثبات لفظه أو نفيه، حتى يعرف مراده، فإن أراد حقاً قبل، وإن أراد باطلاً رد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل، لم يقبل مطلقاً، ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى"1. وقول المتكلمين والفلاسفة في معنى الجوهر باطل من عدة وجوه: الأول: أن لفظ الجوهر لفظ محدث، لم يرد في كلام الله، ولا كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينطق به الصحابة - رضي الله عنهم - لا نفياً ولا إثباتاً، ومثل هذا اللفظ يستحيل أن تبنى عليه المسائل المهمة في أصول الدين. يقول شيخ الإسلام عن لفظ الجوهر: "والشريعة لم تتعرض لهذا الاسم، وأمثاله، لا بنفي ولا بإثبات، فليس له في الشريعة ذكر، حتى يحتاج أن ينظر في معناه، والنظر العقلي إنما يكون في المعاني، لا في مجرد الاصطلاحات، فلم يبق فيه بحث علمي؛ لا شرعي ولا عقلي"2. الثاني: أن لفظ الجوهر بمعناه الذي يريده الفلاسفة والمتكلمون، غير وارد في اللغة، فليس في اللغة أن معنى الجوهر؛ المتحيز، أو الموجود لا في موضوع، أو ما يقبل العرض. ولفظ الجوهر من العربية المعربة، لا من العربية العرباء، فهو كلفظ سجيل، واستبرق، وأمثال ذلك من الألفاظ المعربة. ولما عرب كان معناه في اللغة هو الجوهر المعروف، وتسمية القائم بنفسه، أو الشاغل للحيز جوهراً، أمر اصطلاحي، ليس هو من الأسماء اللغوية، ولا العرفية العامة، ولا من الأسماء الشرعية3. الثالث: أن نفاة الصفات من المتكلمين والفلاسفة كلهم ينفون الجوهر، والجسم، ونحو ذلك. ويدخلون في نفيها نفي صفات الله، وحقائق أسمائه، ومباينته لمخلوقاته، بل قد يتضمن ذلك نفي حقيقة ذاته - سبحانه - كما سبق ذكر ذلك عند لفظ الجسم، وهذا باطل شرعاً وعقلاً. الرابع: أن في بعض تعريفات الفلاسفة للجوهر ما يدل على قولهم بقدمه، وأبديته، وهذا يشبه قول بعض المتأخرين عن المادة إنها لا تفنى ولا تستحدث من العدم. وهو من تفريعات قول الفلاسفة بقدم العالم.   1 - التدمرية ص 65 - 66، وانظر: درء التعارض 4/146. 2 - درء التعارض 10/239. 3 - انظر: الجواب الصحيح 5/11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 4 - معنى الجوهر الفرد: يخصص المتكلمون اسم الجوهر، بالجوهر الفرد المتحيز، الذي لا ينقسم، ويسمون المنقسم جسماً لا جوهراً1، فالجوهر عند المتكلمين هو الجزء الذي لا يتجزأ. وقد قال بإثبات الجوهر الفرد، وهو الجزء الذي لا يتجزأ كثير من المتكلمين. وزعم أبو المعالي أن المسلمين متفقون على ذلك، حيث قال: "اتفق الإسلاميون على أن الأجسام تتناهى في تجزيها حتى تصير أفراداً، وكل جزء لا يتجزأ، فليس له طرف واحد شائع لا يتميز "2. وظنوا أن القول بإثبات الصانع، وبأنه خلق السماوات والأرض، وبأنه يقيم القيامة، ويبعث الناس من القبور، لا يتم إلا بإثبات الجوهر الفرد، فجعلوه أصلاً للإيمان بالله واليوم الآخر3. 5 - الرد على مثبتي الجوهر الفرد: إن مصطلح الجوهر الفرد لم يقل به أحد من سلف الأمة، بل جمهور الأمة حتى من طوائف أهل الكلام، ينكرون الجوهر الفرد، وينفون تركب الأجسام منه، وابن كلاب إمام أتباعه هو ممن ينكره4. ونفى الجوهر الفرد كثير من طوائف أهل الكلام، وأهل الفلسفة، كالهشامية5 والنجارية6، والضرارية7، وكثير من الكرامية8.   1 - انظر: معيار العلم ص291. 2 - الشامل 1/49. 3 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/280، مجموع الفتاوى 9/299. 4 - انظر: مجموع الفتاوى 17/244 5 - سبق التعريف بالهشامية ص149 من البحث. 6 - النجارية أصحاب الحسين بن محمد النجار، أحد كبار المتكلمين، له مناظرة مع النظام أغضب النظام فيها فرفسه فيقال مات منها بعد تعلل، وأكثر معتزلة الري وما حواليها على مذهبه وافقوا المعتزلة في مسائل الصفات، والقرآن، والرؤية، ووافقوا الصفاتية في خلق الأعمال، وهم فرق كثيرة منها البرغوثية والزعفرانية والمستدركة، انظر: الملل والنحل 1/88 - 89، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص70، سير أعلام النبلاء10/554. 7 - الضرارية أتباع ضرار بن عمرو الكوفي، وكان في أول أمره تلميذاً لواصل بن عطاء، ثم خالفه في خلق الأعمال وإنكار عذاب القبر، وله تصانيف كثيرة تؤذن بذكائه وكثرة إطلاعه على الملل والنحل، وبعض القصص عنه تدل على موته في زمن الرشيد. انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص72، الملل والنحل1/90 - 91، سير أعلام النبلاء10/544. 8 - انظر: درء التعارض1/303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وقال النظام، والفلاسفة، بأن الأجزاء تتجزأ إلى ما لا نهاية1. والذين نفوا الجوهر الفرد من الكلابية، والكرامية، وغيرهم، لا يقولون بقول النظّام والفلاسفة2. والتحقيق كما يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "أن كلا المذهبين باطل، والصواب ما قاله من قاله من الطائفة الثالثة، المخالفة للطائفتين، أن الأجسام إذا تصغرت أجزاؤها، فإنها تستحيل، كما هو موجود في أجزاء الماء، إذا تصغر فإنه يستحيل هواءاً أو تراباً، فلا يبقى موجود ممتنع عن القسمة - كما يقوله المثبتون له - فإن هذا باطل، بما ذكره النفاة من أنه لا بد أن يتميز جانب له عن جانب، ولا يكون قابلاً للقسمة إلى غير نهاية، فإن هذا أبطل من الأول، بل يقبل القسمة إلى حد، ثم يستحيل إذا كان صغيراً، وليس استحالة الأجسام في صغرها محدوداً بحد واحد، بل قد يستحيل الصغير وله قدر يقبل نوعاً من القسمة، وغيره لا يستحيل حتى يكون أصغر منه، وبالجملة فليس في شيء منها قبول القسمة إلى غير نهاية، بل هذا إنما يكون في المقدرات الذهنية، فأما وجود مالا يتناهى بين حدين متناهيين فمكابرة، وسواء كان بالفعل أو بالقوة، ووجود موجود لا يتميز جانب له عن جانب مكابرة، بل الأجسام تستحيل مع قبول الانقسام، فلا يقبل شيء منها انقساماً لا يتناهى، كما أنها إذا كثرت وعظمت تنتهي إلى حد تقف عنده، ولا تذهب إلى أبعاد لا تتناهى"3. وهذا ما أثبته العلم الحديث، حيث إن الذرة في العلم الحديث تقابل الجوهر الفرد عند المتكلمين، وقد أثبت أن لهذه الذرة نواة أصغر منها بآلاف المرات، وأن هذه النواة تنقسم، ويولد انقسامها طاقة هائلة4. ومثبتو الجوهر الفرد قولهم باطل من وجوه: الأول: أنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أن الرسول، والصحابة، والتابعين، وأئمة المسلمين، لم يبنوا شيئاً من أمر الدين على ثبوت الجوهر الفرد، ولا انتفائه، وليس المراد   1 - انظر: الشامل 1/49. 2 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/284 - 285. 3 - المرجع السابق 1/285. 4 - انظر: المعجم الفلسفي للدكتور الحفني ص 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 بذلك أنهم لم ينطقوا بهذا اللفظ، فإنه قد تجدد بعدهم ألفاظ اصطلاحية، يعبر بها عما دل عليه كلامهم في الجملة، وذلك بمنزلة تنوع اللغات، وتركيب الألفاظ المفردات، وإنما المقصود أن المعنى الذي يقصده المثبتة، والنفاة، بلفظ الجوهر الفرد، لم يبن عليها أحد من سلف الأمة، وأئمتها، مسألة واحدة من مسائل الدين، ولا ربطوا بذلك حكماً علمياً ولا عملياً. وقد أطبق أئمة الإسلام على ذم من بنى دينه على الكلام في الجواهر والأعراض1. الوجه الثاني: أن "هؤلاء الذين ادعوا توقف الإيمان بالله، واليوم الآخر، على ثبوته، قد شكوا فيه، وقد نفوه في آخر عمرهم؛ كإمام المتأخرين من المعتزلة أبي الحسين البصري، وإمام المتأخرين من الأشعرية أبي المعالي الجويني، وإمام المتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين أبي عبد الله الرازي، فإنه في كتابه2بعد أن بين توقف المعاد على ثبوته، وذكر ذلك غير مرة في أثناء مناظرته للفلاسفة، قال في المسألة لما أورد حجج نفاة الجوهر الفرد:..واعلم أنا نميل إلى التوقف في هذه المسألة، بسبب تعارض الأدلة، فإن إمام الحرمين صرح في كتاب التلخيص في أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات العقول، وأبو الحسين البصري هو أحذق المعتزلة توقف فيها، فنحن أيضا نختار التوقف"3. الوجه الثالث: دعواهم أن هذا قول جمهور متكلمي المسلمين غير صحيح، بل هو قول أبي الهذيل العلاف، ومن اتبعه من متكلمي المعتزلة، والذين أخذوا ذلك عنهم. وقد نفى الجوهر الفرد من أئمة المتكلمين من ليسوا دون من أثبته، بل الأئمة فيهم أكثر من الأئمة في أولئك، فنفاه حسين النجار4وأصحابه، وضرار بن عمرو5 وأصحابه،   1 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/283. 2 - لم أتمكن من معرفة هذا الكتاب. 3 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/283. 4 - رأس فرقة النجارية، سبق التعريف به عند التعريف بفرقة النجارية ص 261من البحث. 5 - رأس فرقة الضرارية، سبق التعريف به عند التعريف بفرقة الضرارية ص261من البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ونفاه أيضا هشام بن الحكم1 وأتباعه، وهو المقابل لأبي الهذيل، فإنهما متقابلان في النفي والإثبات، ونفته الكلابية، ونفاه أيضا طائفة من الكرامية ونفاه ابن الراوندي2. فهذا يدل بجلاء على بطلان القول بالجوهر الفرد، وبطلان ما بنوا عليه من مسائل في العقيدة.   1 - سبق التعريف به عند التعريف بفرقة الهشامية ص 149من البحث. 2 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/284، أما ابن الراوندي فقد قال الذهبي في ترجمته: "الملحد عدو الدين أبو الحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الريوندي صاحب التصانيف في الحط على الملة، وكان يلازم الرافضة والملاحدة فإذا عوتب قال إنما أريد أن أعرف أقوالهم، ثم إنه كاشف وناظر وأبرز الشبه والشكوك.. مات سنة ثمان وتسعين ومئتين": السير14/59 - 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 العرض 1 - معنى العَرَض في اللغة: قال الجوهري: "عَرَض له أمر كذا يعرض؛ أي ظهر، وعرضت عليه أمر كذا، وعرضت له الشيء، أي أظهرته له وأبرزته إليه"1. وعَرَض الدنيا ماكان من مال، قل أو كثر2. وعرضت الجند عرض العين: أي أمررتهم، لأنظر ما حالهم، ومن غاب منهم، وعرض الفرس في عدوه، إذا مر عارضاً على جنب واحد يعرض عرضاً، وعرض له خير أو شر بدا 3.والعرض من أحداث الدهر؛ كالمرض ونحوه، سمي عرضاً لأنه يعترض، أي يأخذه فيما عرض من جسده، ورأيت فلاناً عرض العين أي لمحة4. ويلاحظ أن الفعل "عَرَض" يكون بمعنى ظهر أو بدا أو مر. وأما الاسم "عَرَض" فقد جاء بمعنى المال، أو المرض، ونحوه. 2 - معنى العرض في الشرع: لقد ورد لفظ العرض في كتاب الله، وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أما وروده في كتاب الله؛ فمثل قوله - تعالى -: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء - 94] وقوله - تعالى -: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف - 169] . وأما في السنة فمنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس" 5، والعَرَض في هذا الحديث، وفي الآيات السابقة، متاع الدنيا وحطامها6.   1 - الصحاح 3/1082، وانظر: العين1/271. 2 - انظر: معجم مقاييس اللغة 4/270 - 276، الصحاح 3/1082 - 1083، لسان العرب 7/169 - 170. 3 - انظر: العين 1/271 - 276، معجم مقاييس اللغة 4/270، لسان العرب 7 /167. 4 - انظر: معجم مقاييس اللغة 4/276، 280، لسان العرب 7/169 - 170، المصباح المنير 2/402. 5 - أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب الغنى غنى النفس 4م182، ح 6446، ومسلم في كتاب الزكاة باب ليس الغنى عن كثرة العرض 2/726، ح 1051. 6 - انظر: شرح النووي على صحيح مسلم7/140، فتح الباري11/272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 3 - معنى العرض في اصطلاح الفلاسفة والمتكلمين: إن تقسيم الموجودات إلى عرض، وجوهر، كان من ابتداع أرسطو، وأتباعه من الفلاسفة1، وقد جعلوا للفظ العرض معنى زائداً عما هو معروف في لغة العرب، وعما جاء في الكتاب والسنة، يبين ذلك قول ابن سينا في معنى العرض: "العرض اسم مشترك، يقال عرض لكل موجود في محل، ويقال عرض لكل موجود في موضوع، ويقال عرض للمعنى المفرد الكلي المحمول على كثيرين، حملاً غير مقوم، وهو العرضي، ويقال عرض لكل معنى موجود للشيء، خارج عن طبعه، ويقال عرض لكل معنى يحمل على الشيء، لأجل وجوده في آخر يقارنه. ويقال عرض لكل معنى وجوده في أول الأمر لا يكون"2. ويقول الفارابي: "والعرض معناه هو الذي في موضوع"3. ويبين سبب تسميته عرضاً فيقول: "وليس يسمى عرضاً لدوام وجوده، ولا لسرعة زواله، بل معنى أنه عرض هو أنه لا يكون داخلاً في ماهية موضوعه"4. ويشرح البغدادي، صاحب المعتبر، التعريف المختار عند الفلاسفة، فيقول: "والعرض هو الموجود في موضوع، وفسروا الموجود في موضوع؛ بالموجود في شيء ليس هو جزء منه، أعني من الشيء الذي هو فيه، ولا يصح وجوده دون ماهو فيه، أعني لا يصح وجود الشيء الواحد المعين منه، إلا في الشيء المعين الذي هو موجود فيه"5. فالعرض عند الفلاسفة هو الذي لا يقوم بنفسه بل يحتاج إلى موضوع يحل فيه. وقد أخذ المتكلمون لفظ العرض عن الفلاسفة، كما أخذوا معناه عنهم، وجعلوا تقسيم الأشياء إلى جوهر وعرض - كما يقول الإمام أبو المظفر السمعاني -، أصل قاعدة علومهم6.   1 - انظر: الصفدية 1/125، الجواب الصحيح 5/44، الحروف للفارابي ص 93، 95، المعتبر في الحكمة 1/73. 2 - الحدود لابن سينا ص250، وانظر: معيار العلم ص292. 3 - الحروف ص 93، وانظر: تفسير ما بعد الطبيعة لابن رشد ص 559، 819. 4 - الحروف ص96. 5 - المعتبر 1/73. 6 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 يقول عبد القاهر البغدادي: "الأعراض هي الصفات القائمة بالجواهر؛ من الحركة والسكون والطعم والرايحة "1. ويقول الباقلاني: "العرض هو الذي يعرض في الجوهر، ولا يصح بقاؤه وقتين"2. ويقول القاضي عبد الجبار، مبيناً معنى العرض في الاصطلاح: "وأما في الاصطلاح فهو ما يعرض في الوجود، ولا يجب لبثه كلبث الجواهر والأجسام"3. ويقول الرازي: "العرض هو الموجود في موضوع"4. وفي التعريفات للجرجاني: "العرض الموجود، الذي يحتاج في وجوده إلى موضع، أي محل يقوم به، كاللون المحتاج في وجوده إلى جسم يحله، ويقوم به"5. وتقسيم الموجودات إلى جواهر وأعراض قال به النصارى أيضاً، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "ولفظ العرض في اصطلاح النظار يراد به ما قام بغيره، سواء كان صفة لازمة، أو عارضة، وهذا موجب تقسيم النصارى، كما هو قول الفلاسفة"6. فمدار لفظ العرض عند الفلاسفة والمتكلمين، هو ما قام بغيره، وقد يكون صفة لازمة أو قد يكون صفة عارضة.   1 - أصول الدين ص 33، وانظر: لمع الأدلة ص87. 2 - الإنصاف ص 16، وانظر: لمع الأدلة ص87. 3 - شرح الأصول الخمسة ص 230. 4 - المباحث المشرقية 1/236، وانظر: المبين للآمدي ص110. 5 - التعريفات ص193، وانظر: التوقيف على مهمات التعاريف ص510، الكليات ص 625. 6 - الجواب الصحيح 5/44، وانظر: الإنصاف للباقلاني ص78 - 79، الإرشاد لأبي المعالي ص 46 - 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 4 - إطلاق العرض على صفات الله: لقد تبين في الصفحات السابقة المعنى الوارد في الكتاب والسنة للفظ العرض، وتبين مغايرة المعنى الشرعي له عن المعنى الذي يريده الفلاسفة والمتكلمون بهذا اللفظ. كما اتضح بعد المخالفين عن دلائل اللغة، وتحريفهم لمعاني الألفاظ وتقليد بعضهم بعضاً في ذلك. والسلف والأئمة لم يطلقوا لفظ العرض في حق الله، لا بنفي، ولا بإثبات، بل بدّعوا أهل الكلام بذلك، وذموهم غاية الذم1. بينما يطلق نفاة الصفات لفظ الأعراض على صفات الله، قالوا: والأعراض لا تقوم إلا بجسم، مركب، والمركب ممكن محتاج، وذلك عين النقص، ولذلك قالوا بنفي الصفات عن الله، اعتماداً على هذه الشبهة، وغيرها من شبهاتهم الباطلة. وللمثبتة للصفات ثلاث طرق في إطلاق لفظ العرض على صفات الله - تعالى -: منهم من يمنع أن تكون أعراضاً، ويقول بل هي صفات، وليست أعراضاً، كما يقول ذلك الأشعري، وكثير من الفقهاء، من أصحاب الإمام أحمد وغيره. ومنهم من يطلق عليها لفظ الأعراض، كهشام، وابن كرام وغيرهما. ومنهم من يمتنع من الإثبات والنفي، كما قالوا في لفظ الغير، وكما امتنعوا عن مثل ذلك في لفظ الجسم ونحوه، فإن قول القائل العلم عرض بدعة، وقوله ليس بعرض بدعة، كما أن قوله الرب جسم بدعة، وقوله ليس بجسم بدعة2. والجواب لمن يطلق هذا اللفظ، أن يقال: أتعني بقولك أنها أعراض، أنها قائمة بالذات، أو صفة للذات، ونحو ذلك، من المعاني الصحيحة، أم تعني بها أنها آفات ونقائص، أم تعني بها أنها تعرض، وتزول، ولا تبقى زمانين. فإن عنيت الأول فهو صحيح، وإن عنيت الثاني فهو ممنوع، وإن عنيت الثالث فهذا مبني على قول من يقول العرض لا يبقى زمانين، فمن قال ذلك وقال: هي باقية، قال: لا أسميها أعراضاً، ومن قال: بل العرض يبقى زمانين، لم يكن هذا مانعا من تسميتها أعراضاً3.   1 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/100. 2 - انظر: مجموع الفتاوى 6/102. 3 - انظر: المرجع السابق 6/103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ويقال له: ما تعني بقولك هذه الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم؟ أتعني بالجسم المركب، الذي كان مفترقاً فاجتمع، أو ما ركبه مركب، فجمع أجزاءه، أو ما أمكن تفريقه، وتبعيضه، وانفصال بعضه عن بعض، ونحو ذلك، أم تعني به ما هو مركب من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، أو تعني به ما يمكن الإشارة إليه، أو ما كان قائماً بنفسه، أو ما هو موجود، فإن عنيت الأول لم نسلم أن هذه الصفات التي سميتها أعراضاً، لا تقوم إلا بجسم، بهذا التفسير، وإن عنيت به الثاني لم نسلم امتناع التلازم فإن الرب - تعالى - موجود، قائم بنفسه، مشار إليه عندنا، فلا نسلم انتفاء التلازم على هذا التقدير1. فالعرض إذاً من الألفاظ المجملة عند أهل الكلام والفلسفة، وهم يريدون من خلاله نفي صفات الله، لذا يجب الاستفصال عن مراد المتكلم بهذا اللفظ نفياً وإثباتاً.   1 - انظر: مجموع الفتاوى 6/103 - 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 المعدوم 1 - معنى المعدوم في اللغة: قال الخليل: "العَدم فقدان الشيء، وذهابه، والعُدم لغة، إذا أرادوا التثقيل فتحوا العين، وإذا أرادوا التخفيف ضموها. عدمت فلانا أعدمه عدماً أي فقدته، أفقده، فقداً، وفقداناً؛ أي غاب عنك بموت، أو فقد، لا يقدر عليه، وأعدمه الله مني كذا، أي أفاته، ورجل عديم لا مال له، وقد عدم ماله، وفقده، وذهب عنه، والعديم الفقير"1. فالعدم إذاً يدل على الفقدان والانتفاء. ولم يرد لفظ المعدوم في كتاب الله، وورد في كتب السنة قول خديجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"2. قيل: أرادت تكسب الناس الشيء المعدوم الذي لا يجدونه مما يحتاجون إليه، وقيل: أرادت بالمعدوم الفقير الذي صار من شدة حاجته كالمعدوم نفسه3. 2 - معنى المعدوم في الاصطلاح: يعرف أهل السنة، وكثير من المتكلمين، المعدوم بتعريفات متقاربة، فيقول شيخ الإسلام: "المعدوم الذي لا وجود له"2. ويقول الباقلاني في تعريف المعدوم: "هو المنتفي الذي ليس بشيء" 5. ويقول الرازي عن المعدوم أنه: "نفي محض"3.   1 – العين 2/56، وانظر: الصحاح 5/1982، لسان العرب 12/392، القاموس المحيط ص1467. 2 - جزء من حديث أخرجه البخاري في مواضع كثيرة منها في كتاب بدء الوحي، الباب الثالث 1/14، ح 3، وبنحوه مسلم في كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/139 - 141، ح 160. 3 - انظر: لسان العرب 12/393. 2 - درء التعارض 6/119، 3/409. 5 - الإنصاف ص15. 3 - محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ص55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ويذكر الباقلاني أنواع المعدوم فيقول: "والمعدوم منتف ليس بشيء، فمنه معلوم معدوم لم يوجد قط، ولا يصح أن يوجد، وهو المحال الممتنع الذي ليس بشيء، وهو القول المتناقض، نحو اجتماع الضدين، وكون الجسم في مكانين، وما جرى مجرى ذلك مما لم يوجد قط ولا يوجد أبداً. ومنه معدوم لم يوجد قط ولا يوجد أبداً، وهو مما يصح ويمكن أن يوجد، نحو ما علم الله أنه لا يكون من مقدوراته..ومعلوم معدوم في وقتنا هذا وسيوجد فيما بعد نحو الحشر والنشر"1. ويرى كثير من المعتزلة، والرافضة، أن المعدوم شيء، يقول ابن رشد: "وهذا المعدوم الممكن، ليس هو ممكناً من جهة ما هو معدوم، ولا من جهة ما هو موجود بالفعل، وإنما هو ممكن من جهة ماهو بالقوة. ولهذا قالت المعتزلة إن المعدوم هو ذات ما؛ أعني المعدوم في نفسه، من جهة ما هو بالقوة، أعني أنه من جهة القوة، والإمكان، الذي له، يلزم أن يكون ذاتاً ما في نفسه، فإن العدم ذات ما"2. ويقول الرازي: "المعدوم إما أن يكون ممتنع الثبوت، ولا نزاع في أنه نفي محض، وإما أن يكون ممكن الثبوت، وهو عندنا، وعند أبي الهذيل، وأبي الحسين البصري من المعتزلة، نفي محض، خلافاً للباقين من المعتزلة"3. والقول بأن المعدوم شيء ثابت في العدم، هو مذهب باطل بالعقل الموافق للكتاب والسنة والإجماع. فالعدم يضاد الوجود والثبوت، فكيف يكون المعدوم شيء ثابت في العدم؟ فهذا قول ظاهر التناقض. وإنما غلط هؤلاء من حيث لم يفرقوا بين علم الله بالأشياء قبل كونها، وأنها مثبتة عنده في أم الكتاب، في اللوح المحفوظ، وبين ثبوتها في الخارج عن علم الله - تعالى -، ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله - سبحانه وتعالى - كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق، قبل أن يخلقها، فيفرقون بين الوجود العلمي، وبين الوجود العيني4. وبفهم ذلك يتضح حقيقة المعدوم، وأنه يعني المنتفي الذي لا وجود له.   1 - التمهيد ص40. 2 - تهافت التهافت ص77. 3 - المحصل ص55، وانظر: الكليات ص655، درء التعارض 5/102. 4 - انظر: مجموع الفتاوى 2/469 - 470، الجواب الصحيح 4/300، الدرء 2/289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الممتنع 1 - معنى الممتنع في اللغة: يقول الخليل بن أحمد: "مَنَعْتُه أَمْنَعُه مَنْعَاً فامتنع، أي حُلتُ بينه وبين إرادته، ورجل منيع لا يخلص إليه، وهو في عز ومَنعَةٍ، ومنعة يخفف ويثقل، وامرأة منيعة، متمنّعة، لا تؤاتى على فاحشة، قد مَنُعَت مناعة، وكذلك الحصن ونحوه، ومَنُعَ مَناعةً إذا لم يُرَمْ"1. وقال ابن فارس: "الميم والنون والعين أصل واحد، هو خلاف الإعطاء"2. فمادة منع تدل على عدم حصول الشيء، وعدم وقوعه، فمنعت الرجل فلم تحصل إرادته، والمرأة المتمنعة لاتقع منها فاحشة، ولا يحصل منها ذلك، والرجل المتمنع لا يمكن أن يخلص إليه، والحصن المنيع لا يمكن الحصول على من بداخله، والرجل المناع هو الذي لا يحصل منه العطاء. 2 - معنى الممتنع في الشرع: لم يرد لفظ الممتنع في الكتاب أو السنة، وورد الفعل منع وبعض اشتقاقاته، قال - تعالى -: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة - 114] ، وقال - تعالى -: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة - 32 - 33] ، ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" 3، وهو على معناه في اللغة.   1 - العين 2/163، وانظر: لسان العرب8/343. 2 - معجم مقاييس اللغة 5/278، وانظر: الصحاح 3/1287، لسان العرب8/343. 3 - أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب رقم 13، 1/286 ح 900، ومسلم في كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة 1/327، ح 442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 3 - معنى الممتنع في الاصطلاح: يتفق أهل السنة، مع الفلاسفة، والمتكلمين، في تعريف الممتنع مع اختلاف في العبارة، فيقول شيخ الإسلام في تعريف الممتنع: "الممتنع الذي لا يتصور وجوده في الخارج، وإنما يقدره الذهن تقديراً"1. وقال: "الممتنع هو ما لا يمكن وجوده في الخارج"2. ويعرف ابن سينا الممتنع بأنه ضروري العدم 3. ويقول الرازي: "..ولا استحقاق الوجود يصدق على أمرين أحدهما: الممتنع وهو واجب العدم"3. يقول الآمدي: "وأما الممتنع فما لو فرض موجوداً، لزم عنه المحال"4. وفي الصحايف: "والممتنع بالذات ما يقتضي لذاته عدمه"5. والممتنع نوعان: الأول الممتنع لنفسه مثل كون الشيء موجوداً معدوماً، والثاني: الممتنع لغيره مثل ما علم الله - تعالى - أنه لا يكون وأخبر أنه لا يكون، وكتب أنه لا يكون، فهذا لا يكون، وقد يقال إنه يمتنع أن يكون، لأنه لو كان للزم أن يكون علم الله بخلاف معلومه، وخبره بخلاف مخبره، لكن هذا هو ممكن في نفسه، والله قادر عليه كما قال: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة - 4] 7. وعليه فتعريف الممتنع لنفسه هو: ما لا يمكن وجوده في الخارج، لأن ذاته تقتضي العدم.   1 – درء التعارض 1/289. 2 – منهاج السنة 2/289. 3 - انظر: النجاة 1/30، معيار العلم ص331. 3 – المباحث المشرقية 1/208. 4 – المبين ص79. 5 – الصحايف الإلهية ص124. 7 - انظر: منهاج السنة النبوية 2/289، معيار العلم ص333، موسوعة مصطلحات دستور العلماء ص890. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 المستحيل 1 - معنى المستحيل في اللغة: ورد لفظ المستحيل في كتب اللغة ضمن مادة حول، قال في العين: "وكل شيء استحال عن الاستواء إلى العوج يقال له مستحيل"1. وفي الصحاح: "وحال الشيء بيني وبينك أي حجز، وحال إلى مكان آخر أي تحول"2. ورجل محوال كثير محال الكلام، والمحال من الكلام ما حول عن وجهه، وكلام مستحيل محال3. فلفظ المستحيل يدل على التغير من الاستواء إلى العوج، والكلام المستحيل هو الذي قد غير عن وجهه. ومن المادة نفسها حال أي حجز ومنع، وهنا تقارب لغوي بين لفظ حال ومنع. 2 - معنى المستحيل في الشرع: لم يرد لفظ المستحيل في كتاب الله، وقد ورد الفعل حال وبعض تصريفاته، قال - تعالى -: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} [هود - 43] ، وقال - تعالى -: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ - 54] . ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار" 4. وهو على معناه في اللغة. 3 - معنى المستحيل في الاصطلاح: مصطلح المستحيل مرادف للممتنع5، فيمكن تعريفه بتعريف الممتنع، حيث يقول الشهرستاني في تعريفه: "المستحيل هو ضروري العدم، بحيث لو قدر وجوده لزم منه محال"6.وقال الغزالي: "فكل ما قدر العقل وجوده فلم يمتنع عليه تقديره سميناه ممكنا، وإن امتنع سميناه مستحيلا "7. وهذه التعريفات تطابق تعريف الممتنع كما سبق.   1 - العين 3/298، وانظر: الصحاح 4/1681، لسان العرب 11/185. 2 - الصحاح 4/1679، وانظر: العين 3/298. 3 - انظر: العين 3/298، الصحاح 4/1680 - 1681، لسان العرب 11/186. 4 - أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود 1/320، ح 427. 5 - انظر: المعجم الفلسفي للدكتور صليبا 2/423. 6 - نهاية الإقدام ص15. 7 - تهافت الفلاسفة ص49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الممكن 1 - معنى الممكن في اللغة: قال الخليل: "..المكان في أصل تقدير الفعل مفعل، لأنه موضع للكينونة، غير أنه لما كثر أجروه في التصريف، مجرى الفعال، فقالوا مكنا له، وقد تمكن"1. وقال الجوهري: "مكنه الله من الشيء، وأمكنه منه، بمعنى. واستمكن الرجل من الشيء، وتمكن منه، بمعنى. وفلان لا يمكنه النهوض، أي لا يقدر عليه"2. وتمكّن من الشيء، واستمكن، ظفر، والاسم من كل ذلك المكانة، ويقال أمكنني الأمر يمكنني فهو ممكن، ولا يقال أنا أمكنه بمعنى أستطيعه3. و" مكّنه من الشيء، وأمكنه منه، أقدره عليه"4. ومكن فلان عند السلطان مكانة، عظم عنده وارتفع فهو مكين، ومكّنته من الشيء تمكيناً، جعلت له عليه سلطاناً، وقدرة، فتمكّن منه، واستمكن قدر عليه، وله مكنة أي قوة وشدة5. ويتبين مما سبق أن معنى الممكن في اللغة المقدور عليه، والإمكان القدرة على الشيء. والمكان موضع الكينونة. 2 - معنى الممكن في الشرع: لم يرد لفظ الممكن في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وورد الفعل مكّن وأمكن ونحوها، قال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف - 21] وقال - تعالى -: {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال - 71] .   1 - العين 5/387. 2 - الصحاح6/2205. 3 - انظر: لسان العرب 13/41. 4 - المغرب ص432. 5 - انظر: المصباح المنير 2/794. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 قال القرطبي: "مكنا له في الأرض أي أقدرناه على ما يريد"1. وورد في السنة لفظ أمكن، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن عفريتاً من الجن جعل يفتك علي البارحة، ليقطع علي الصلاة، وإن الله أمكنني منه" 2، أي أقدرني عليه. 2 - معنى الممكن في اصطلاح الفلاسفة: إن تقسيم الموجودات إلى ممكن وواجب هو مستحدث من ابن سينا، ومن جاء بعده من الفلاسفة المتأخرين3. ويقول ابن سينا في تعريف الممكن: "الممكن هو الذي ليس يمتنع أن يكون، أو لا يكون، أو الذي ليس بواجب أن يكون، وأن لا يكون"4. وقال أيضاً: "الممكن الوجود هو الذي متى فرض غير موجود، أو موجوداً، لم يعرض منه محال..والممكن الوجود هو الذي لا ضرورة فيه بوجه"5، ثم تناقض في قوله حيث جعل ممكن الوجود بذاته، واجب الوجود بغيره، مع تناقض معنييهما، حيث قال: "وكل ما هو واجب الوجود بغيره، فإنه ممكن الوجود بذاته"6، ومثله الفارابي7. ويقول ابن باجه: "الممكن وجوده صنفان: أحدهما الضروري، وهو ما لا يمكن عدمه، والآخر الموجود المطلق، وهو ما هو موجود وقتاً ما"8. وقال الغزالي مبيناً ما يعنيه الفلاسفة بممكن الوجود، وواجب الوجود: "لفظ الممكن والواجب لفظ مبهم، إلا أن يراد بالواجب ما لا علة له، ويراد بالممكن ما لوجوده علة زائدة على ذاته"9. وقال: "لا يفهم لفظ واجب الوجود، وممكن الوجود، فكل تلبيساتهم مخبأة في هاتين اللفظتين، فلنعدل إلى المفهوم، وهو نفي العلة وإثباتها"10.   1 - تفسير القرطبي 9/217. 2 - جزء من حديث أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة 1/384، ح 541. 3 - انظر: الصفدية 2/180، منهاج السنة النبوية 2/132. 4 - الشفا قسم الإلهيات 1/36. 5 - النجاة 2/77. 6 - المرجع السابق 2/78. 7 - انظر: معجم المصطلحات الفلسفية لوهبة ص667. 8 - كتاب النفس ص43، نقلا عن موسوعة مصطلحات الفلسفة عند العرب ص849. 9 - التهافت ص81. 10 - المرجع السابق ص117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 3 - الممكن في اصطلاح المتكلمين، وأهل السنة: يقول الغزالي: "الممكن هو الذات الذي لا يلزم ضرورة وجوده، ولا عدمه"1. وقال الرازي: "الممكن لذاته هو الذي لا يلزم من فرض وجوده، ولا من فرض عدمه، من حيث هو محال"2. وقال "الممكن هو الذي يقبل الوجود، ويقبل العدم"3. وقال الشهرستاني: "والممكن معناه أنه جايز الوجود، وجايز العدم"4. وقال الآمدي: "وأما الممكن فعبارة عن ما لو فرض موجوداً أو معدوماً، لم يلزم عنه لذاته محال، ولا يتم ترجيح أحد الأمرين له إلا بمرجح من خارج. وفي المصطلح العامي عبارة عن ما ليس بممتنع الوجود"5. وتعريف أهل السنة للممكن موافق للتعريفات السابقة، فيعرف شيخ الإسلام الممكن بقوله: "الممكن هو الذي يقبل الوجود والعدم"6. وقال: "فإن الممكن هو الذي لا يوجد إلا بموجد يوجده" 7. وقال أيضاً: "فإن حقيقة الممكن هو الذي لا يوجد إلا بغيره لا بنفسه"8. فالتعريف المختار للممكن هو أنه الذي يقبل الوجود والعدم، ولا يوجد إلا بموجد يوجده. إلا أن متأخري المتكلمين كالرازي، والآمدي، وافقوا الفلاسفة في إطلاق الواجب على الممكن، وأن الممكن يتناول ما يكون قديماً أزلياً، وأن الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح، وفي طريقتهم في الاستدلال بتقسيم الوجود إلى ممكن وواجب، لإثبات وجود الله، مع أنه لا يوصل إلى المطلوب9.   1 - مقاصد الفلاسفة ص204. 2 - المحصل ص71، وانظر: المطالب العالية 1/81. 3 - المطالب العالية 1/81، 72. 4 - نهاية الإقدام ص18. 5 - المبين ص79 - 80. 6 - الاصفهانية ص34. 7 - درء التعارض 4/226، وانظر: بيان تلبيس الجهمية 1/541. 8 - درء التعارض 9/146 9 - انظر: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ص69 - 81، المطالب العالية 1/72 - 130، المبين ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 4 - الرد على الفلاسفة: لقد اضطرب الفلاسفة في تعريفهم للمكن، حيث جعلوه ممكناً ثم أطلقوا لفظ الواجب عليه، وقالوا إن الممكن ما لوجوده علة، وجعلوه ملازماً لهذه العلة فكان الممكن أزلياً كعلته، وهذا ظاهر البطلان، ويتضح بطلانه من خلال الوجوه الآتية: أولاً: أن الفلاسفة تناقضوا حيث جعلوا العالم ممكن الوجود، مع قولهم بأنه قديم لم يزل، فقول القائل إن الممكن هو الذي يقبل الوجود والعدم، مع قوله بأنه لم يزل موجوداً، جمع بين قولين متناقضين، وإذا قيل هو ممكن باعتبار ذاته كان قوله أيضاً متناقضاً، سواء عنى بذاته الوجود في الخارج، أو شيئاً آخر يقبل الوجود في الخارج، فإن تلك الذات إذا لم تزل موجودة ووجودها واجب، لم تكن قابلة للعدم أصلاً، ولم يكن عدمها ممكن أصلاً1. ثانياً: أن القائلين بأن العالم ممكن وهو قديم كابن سينا، وأمثاله، من متأخري الفلاسفة، قد خالفوا معلمهم أرسطو، كما خالفوا سائر العقلاء، فلم يقل أرسطو أن الفلك قديم، وهو ممكن بذاته، بل كان عندهم ما عند سائر العقلاء، أن الممكن هو الذي يمكن وجوده وعدمه، ولا يكون كذلك إلا ما كان محدثاً، والفلك عندهم ليس بممكن، بل هو قديم لم يزل، وحقيقة قولهم أنه واجب لم يزل، ولا يزال2. فالممكن هو المحدث عند عامة العقلاء من الفلاسفة وغيرهم، والمحدث لا بد له من فاعل وهذا أيضاً معلوم، بين، مسلّم عند عامة العقلاء3. ثالثاً: أن حقيقة قولهم أنهم قدروا أموراً متسلسلة كل منها واجب الوجود، ضروري يمتنع عدمه، وكل منها معلول وسموه باعتبار ذلك ممكناً، وقالوا إنه يقبل الوجود والعدم، وحينئذ فلا يمكنهم إثبات افتقار واحد منها إلى علة، فضلاً عن افتقارها كلها، ويعود الأمر إلى الممكن الذي أثبتوه، وهو الضروري الواجب الوجود القديم الأزلي، هل يفتقر إلى فاعل ومرجح يرجح وجوده على عدمه، وقد عرف أنه ليس لهم على ذلك دليل، بل جميع العقلاء يقولون إن هذا لا يفتقر إلى فاعل، ولهذا لما بنوا إثبات واجب الوجود على   1 - انظر: منهاج السنة 1/377. 2 - انظر: مجموع الفتاوى 5/540. 3 - انظر: الدرء 8/172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 إثبات هذا الممكن، كما فعله ابن سينا، والرازي، والآمدي، وغيرهم، لم يمكنهم إقامة دليل على أن هذا الممكن بهذا التفسير يفتقر إلى فاعل، وورد على هذا الممكن من الأسئلة ما لم يمكنهم الجواب عنه1. وبهذا يتضح فساد قول الفلاسفة في الممكن، وما ستروه تحت هذا اللفظ من معان باطلة. وخلاصة القول أن تعريف الفلاسفة المتأخرين للممكن متناقض، وغير مقبول عقلاً. بينما يتفق أهل السنة مع المتكلمين في تعريفهم للممكن بأنه الذي يقبل الوجود والعدم، ولا يوجد إلا بموجد يوجده.   1 - انظر: درء التعارض 8/178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 واجب الوجود 1 - معنى واجب الوجود في اللغة: سبق بيان معنى الوجود في اللغة1، وأما لفظ واجب فيقول الجوهري: "وجب الشيء أي لزم، يجب وجوباً، وأوجبه الله..ووجب الميت إذا سقط ومات، ويقال للقتيل واجب"2. وقال ابن فارس: "الواو والجيم والباء أصل واحد، يدل على سقوط الشيء ووقوعه، ثم يتفرع"3، وفي اللسان: "وجب الشيء يجب وجوباً أي لزم، وأوجبه هو، أو استوجبه أي استحقه"4. فالوجوب في اللغة هو اللزوم، كما يأتي بمعنى السقوط. ولم يرد لفظ واجب الوجود في القرآن الكريم، ولم يرد في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وورد لفظ وجب في القرآن في قوله - تعالى -: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج - 36] . وورد لفظ الواجب في السنة نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" 5، أي لازم وثابت6.   1 - انظر: البحث ص187. 2 - الصحاح 1/232، وانظر: العين 6/193. 3 - معجم مقاييس اللغة 6/89. 4 - لسان العرب1/793. 5 - أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان 1/285، ح 895، ومسلم في كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة 2/580، ح 846. 6 - النهاية في غريب الحديث 5/152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 2 - معنى واجب الوجود في اصطلاح الفلاسفة والمتكلمين: قد بينت فيما سبق أن تقسيم الموجودات إلى واجب وممكن مستحدث من ابن سينا ومن جاء بعده، وفي تعريف الواجب يقول ابن سينا: "إن الواجب الوجود، هو الموجود الذي متى فرض غير موجود، عرض منه محال..والواجب الوجود هو الضروري الوجود"1. ويقسم واجب الوجود إلى قسمين فيقول: "ثم إن الواجب الوجود قد يكون واجباً بذاته، وقد لا يكون بذاته، أما الذي هو واجب الوجود بذاته فهو الذي بذاته، لا لشيء آخر، أي شيء كان يلزم محال من فرض عدمه. وأما الواجب الوجود لا بذاته، فهو الذي لو وضع الشيء مما ليس هو، صار واجب الوجود"2. وتابعه على هذا التقسيم بعض متأخري المتكلمين كالرازي3. ويقول الرازي: "..فسرنا واجب الوجود بذاته، بأنه الموجود الذي تكون حقيقته غير قابلة للعدم البتة"4. وعرفه الرازي أيضاً بأنه الذي يكون غنياً في وجوده عن السبب5. وقال التفتازاني: "الوجوب ضرورة الوجود أو اقتضاؤه أو استحالته العدم"6. وفي الصحايف: "الواجب بالذات ما يقتضي لذاته وجوده في الخارج"7. 3 - موقف أهل السنة من لفظ واجب الوجود: لفظ واجب الوجود غير وارد في كلام الله - تعالى -، ولا في كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما أسلفت، وقد استحدثه الفلاسفة المتأخرون، يقول شيخ الإسلام: "وأما الكلام بلفظ الواجب الوجود، وممكن الوجود، فهذا من كلام ابن سينا وأمثاله، الذين اشتقوه من كلام المتكلمين المعتزلة ونحوهم، وإلا فكلام سلفهم، إنما يوجد فيه لفظ العلة والمعلول"8.   1 - النجاة 2/77، وانظر: معيار العلم ص331، المبين ص79. 2 - النجاة 2/77، وانظر: معيار العلم ص331 - 332، المبين ص79، التعريفات ص304. 3 - انظر: المباحث المشرقية1/214. 4 - المطالب العالية 1/134. 5 - انظر: المرجع السابق 1/134. 6 - شرح المقاصد 1/458. 7 - الصحايف الإلهية ص124. 8 - الصفدية 2/180، وانظر: منهاج السنة النبوية 2/132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فالفلاسفة المتأخرون غالب ما يسمون الرب - تعالى - بواجب الوجود1، وقلدهم في ذلك متأخرو الأشاعرة2، وهذا غير صحيح؛ لعدم ورود هذا اللفظ، فضلاً عن أن يكون من الأسماء الحسنى. وأهل السنة قد يطلقون واجب الوجود على الله، من باب الإخبار عن الله، وذلك في المناظرات، والمناقشات، مع من يستخدم هذا اللفظ. كما أنهم يرون أن الوجوب الذي دل عليه الدليل هو وجوده - سبحانه - بنفسه، واستغناؤه عن موجد. بينما يضيف الفلاسفة إلى هذا اللفظ معاني أخرى غير صحيحة. يقول شيخ الإسلام عن ابن سينا: "فسلك طريق تقسيم الوجود إلى الواجب والممكن، كما يقسمونه هم إلى القديم والمحدث3. وتكلم على خصائص واجب الوجود بكلام بعضه حق وبعضه باطل، لأن الوجوب الذي دل عليه الدليل، إنما هو وجوده بنفسه، واستغناؤه عن موجد، فحمل هو هذا اللفظ ما لا دليل عليه، مثل عدم الصفات، وأشياء غير هذه. وهذا اشتقه من كلام المعتزلة في القديم، فلما أثبتوا قديماً، وأخذوا يجعلون القدم مستلزماً لما يدعونه من نفي الصفات، جعلوا الوجود4 الذي ادعاه، كالقدم الذي ادعوه، وليس في واحد منهما ما يدل على مقصود الطائفتين"5. ولفظ واجب الوجود فيه إجمال؛ فقد يراد به الموجود بنفسه، الذي لا فاعل له، ولا علة فاعلة له، وذات الرب - عز وجل - وصفاته واجبة الوجود بهذا الاعتبار. ويراد به مع ذلك المستغني عن محل يقوم به، والذات بهذا المعنى واجبة دون الصفات. ويراد به ما لا تعلق له بغيره، أو ما لا يلازم غيره لينفوا بذلك صفاته اللازمة له وهذا باطل6. ولذلك لابد من الاستفصال عن المراد بهذا اللفظ.   1 - انظر: درء التعارض 2/391. 2 - انظر: شرح أسماء الله الحسنى ص359. 3 - أي كما يقسمه المتكلمون من المعتزلة وأمثالهم. 4 - لعلها الوجوب. 5 - الصفدية 2/181، وانظر: منهاج السنة النبوية 2/131 - 132. 6 - انظر: الجواب الصحيح 3/289 - 290، منهاج السنة 2/131 - 132، درء التعارض8/123 - 12، الصفدية2/28 - 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 العالَم 1 - معنى العالم في اللغة: جاء التعريف بلفظ العالم في اللغة تحت مادة علم، وفي معنى العالم يقول الخليل: "والعالَم الطّمْش، أي الأنام، يعني الخلق كله، والجمع عالمون "1. والطّمْش الناس2، والأنام ما على ظهر الأرض من جميع الخلق3. وقال الجوهري: "العالَم: الخلق، والجمع العوالم، والعالمون: أصناف الخلق"4. ويقول ابن فارس:"وقال قوم: العالم سمِّي لاجتماعه، قال الله - تعالى -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة - 2] قالوا الخلائق أجمعون"5. وقيل: العالم هو ما احتواه بطن الفلك، ولا واحد للعالم من لفظه لأن عالماً جمع أشياء مختلفة6. وفي المصباح المنير: "العالَم بفتح اللام، الخلق، وقيل مختص بمن يعقل"7. وعلى هذا فمعنى العالم في اللغة هو الخلق كله، وقيل إنه مختص بمن يعقل.   1 - العين 2/153. 2 - انظر: العين 6/241، لسان العرب 6/312. 3 - انظر: العين8/388. 4 - الصحاح 5/1991، وانظر: لسان العرب 12/420. 5 - معجم مقاييس اللغة 4/110. 6 - انظر: لسان العرب 12/420، القاموس المحيط ص 1472. 7 - المصباح المنير 2/584، وانظر: لسان العرب12/421. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 2 - معنى العالم في الاصطلاح: أ - معنى العالم عند أهل السنة: لفظ العالم لا يوجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في كلام الصحابة - رضي الله عنهم -، والموجود هو لفظ العالمين، قال - تعالى -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة - 2] ، وقال - سبحانه -: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران - 42] وغيرها من الآيات. وورد لفظ العالمين في السنة ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حتى يضع فيها رب العالمين قدمه" 1. ويذكر أهل السنة في معنى العالمين روايتين: الأولى قول ابن عباس - رضي الله عنه -: "رب العالمين: الجن والإنس "2، وهذا منقول عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وجماعة من المفسرين3. والرواية الثانية: عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الحمد لله الذي له الخلق كله، السماوات، والأرض، ومن فيهن، وما بينهن، مما يعلم ولا يعلم"4. ويرجح الأزهري الرواية الأولى فيقول: "والدليل على صحة قول ابن عباس قول الله - جل وعز -: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان - 1] وليس النبي - صلى الله عليه وسلم - نذيراً للبهائم، ولا للملائكة، وهم كلهم خلق الله، وإنما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - نذيراً للجن والإنس"5. ويقول الطبري - رحمه الله -: "والعالمون جمع عالم، والعالم جمع لا واحد له من لفظه؛ كالأنام والرهط والجيش، ونحو ذلك من الأسماء التي هي موضوعات على جمع لا واحد له من لفظه، والعالم اسم لأصناف الأمم، وكل صنف منها عالم، وأهل كل قرن من كل صنف منها عالم ذلك القرن، وذلك الزمان "6. وقال ابن كثير - رحمه الله -: "والعالمين جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله - عز وجل -، والعالم جمع لا واحد له من لفظه،   1 - جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى "وهو العزيز الحكيم"4/380 - 381، ح 7384. 2 - تفسير الطبري 1/63. 3 - انظر: تفسير الطبري 1/63، تفسير ابن كثير 1/25، تفسير القرطبي 1/138. 4 - تفسير الطبري 1/63، وانظر: تفسير ابن كثير 1/25. 5 - تهذيب اللغة للأزهري 2/416. 6 - تفسير الطبري 1/62 - 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 والعوالم أصناف المخلوقات في السماوات وفي البر والبحر، وكل قرن منها وجيل يسمى عالماً"1. وقال الفراء2وأبو عبيدة3: "العالم عبارة عمن يعقل، وهم أربعة أمم: الإنس، والجن، والملائكة، والشياطين، ولا يقال للبهائم عالم "4. وقد جمع شيخ الإسلام - رحمه الله - بين الأقوال السابقة، حيث قال: "ولفظ العالم ليس في القرآن، ولا يوجد في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا كلام أحد من الصحابة، والتابعين، وإنما الموجود لفظ العالمين، وفيه عموم كقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة - 2] وقد يقال فيه خصوص كقوله: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية - 16] وقوله: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران - 4] ..عند من يجعل ذلك المراد به الآدميون، أو أهل عصرهم"5. لكن عند الإطلاق فإن لفظ العالم عام، قال شيخ الإسلام: "والمراد بالعالم في الاصطلاح هو كل ما سوى الله"6. فالعالم إذاً هو كل ما سوى الله - تعالى -، وقد يأتي خاصاً فيخص الآدميون، أو من يعقل، أو أهل عصر معين.   1 - تفسير ابن كثير 1/25. 2 - العلامة صاحب التصانيف أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسدي، مولاهم الكوفي النحوي، قال بعضهم الفراء أمير المؤمنين في النحو، له عدة مؤلفات منها معاني القرآن، توفي سنة سبع ومائتين وله ثلاث وستون سنة. انظر: سير أعلام النبلاء 10/118 - 120، كشف الظنون 2/1730، 1703، 1447، 1457، 1461، 1577. 3 - معمر بن المثنى التيمي بالولاء، البصري، أبو عبيدة النحوي، من أئمة العلم بالأدب واللغة، وكان شعوبيا، وقيل: كان يرى رأي الخوارج الإباضية، من مؤلفاته مجاز القرآن، توفي سنة 210 هجرية، انظر: سير أعلام النبلاء9/445، بغية الوعاة 2/294، شذرات الذهب 2/24. 4 - تفسير القرطبي 1/138، وانظر: تفسير ابن كثير 1/25. 5 - بيان تلبيس الجهمية 1/159. 6 - درء التعارض 1/125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ب - معنى العالم عند المتكلمين: يعرف كثير من المتكلمين لفظ العالم، بتعريف موافق لتعريف أهل السنة، فيقول البغدادي: "العالم عند أصحابنا، كل شيء هو غير الله - عز وجل - "1، ويقول الرازي: "العالم كل موجود سوى الله"2، وفي الصحايف الإلهية: "العالم عند المتكلمين كل ما يوجد سوى الله - تعالى - "3، ويقول الآمدي: "وأما العالم فعبارة عما عدا الباري - سبحانه وتعالى - من الموجودات"4، وقال الراغب: "والعالم اسم للفلك وما يحويه من الجواهر والأعراض"5. إلا أن الجويني قد زاد في تعريفه للعالم حيث قال: "العالم وهو كل موجود سوى الله - تعالى - وصفة ذاته"6، وفي هذا إشارة إلى أن صفات الفعل ليست قائمة في ذات الله، وأنها مخلوقة، وهو مذهب كثير من المتكلمين، وقد سبق بيان رد أهل السنة عليهم في ذلك، ويتبين هنا مغايرة تعريف بعض المتكلمين، لتعريف أهل السنة في جزء من معناه، حيث يجعلون الصفات الفعلية للرب - تعالى -، جزءاً من هذا العالم المحدث المخلوق. جـ - معنى العالم عند الفلاسفة: يعرف ابن سينا العالم فيقول: "حد العالم مجموع الأجسام الطبيعية البسيطة كلها، ويقال عالم لكل جملة موجودات متجانسة كقولنا عالم الطبيعة"7. ويذكر التهانوي أن العالم في عرف الحكماء: "اسم لكل ما وجوده ليس من ذاته من حيث هو كل، وينقسم إلى روحاني وجسماني، وقد يقال العالم اسم لجملة الموجودات الجسمانية من حيث هي جملة، وهي ما حواه السطح الظاهر من الفلك الأعلى"8.   1 – أصول الدين ص35. 2 – المطالب العالية 9/291. 3 – الصحايف الإلهية ص399، والصحايف الإلهية لشمس الدين محمد بن أشرف السمرقندي، ويرجح محقق الصحايف الدكتور أحمد الشريف أن السمرقندي عاش حتى سنة690 هجرية. انظر: الصحايف ص30. 4 – المبين ص99، وانظر: التعريفات للجرجاني ص189. 5 – المفردات للراغب الأصفهاني ص581، وانظر: الكليات ص637، بصائر ذوي التمييز 4/95. 6 – الإرشاد ص17. 7 – كتاب الحدود لابن سينا ضمن المصطلح الفلسفي عند العرب ص252، وانظر: معيار العلم ص293، المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا 2/45-47، معجم المصطلحات الفلسفية لمراد وهبة ص439، المعجم الفلسفي للدكتور الحفني ص198. 8 – كشاف اصطلاحات الفنون2/1053. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 فالعالم عند الفلاسفة يراد به مجموع الأجسام الطبيعية البسيطة، فتخرج العقول والنفوس عن مسمى العالم عندهم، فلا يكون العالم هو كل ما سوى الله. وإذا خصص وقيل عالم الطبيعة أو عالم العقل أو عالم النفس، فإنه يراد به جملة موجودات متجانسة. فتعريفهم مغاير لتعريف أهل السنة وطوائف المتكلمين. بل ومغاير لمعنى العالم في اللغة. د - معنى العالم عند أهل الوحدة: يرى أهل الوحدة أن العالم هو عين وجود الرب - تعالى عن قولهم -، لذا يقولون في تعريف العالم: "العالم هو الظل الثاني، وليس إلا وجود الحق الظاهر بصور الممكنات كلها، فلظهوره بتعيناتها سُمّي باسم السوى، والغير، باعتبار إضافته إلى الممكنات، إذ لا وجود للممكن إلا بمجرد هذه النسبة، وإلا فالوجود عين الحق..فالعالم صورة الحق، والحق هوية العالم وروحه"1. ويذكر هذا المعنى صاحب دستور العلماء فيقول عن العالم عند أهل الوحدة: "هو الحق المتجلي بصفاته، لأنه اسم لما سوى الله - تعالى - وسواه منتف عندهم، فبالضرورة هو الحق المتجلي بصفاته"2. وقولهم ظاهر الفساد، وحقيقته تعطيل الصانع، وأنه ليس وراء الأفلاك شيء فلو عدمت السماوات والأرض، لم يكن ثم شيء موجود، وقد صرح بهذا كبار محققيهم، وعارفيهم، كما بين ذلك شيخ الإسلام في ردوده عليهم3.   1 - معجم كلمات الصوفية لأحمد النقشبندي ص55. 2 - موسوعة مصطلحات جامع العلوم ص572. 3 - انظر: الصفدية 2/244، بيان تلبيس الجهمية1/212 - 213، التدمرية ص108، مجموعة الرسائل 1/80، 4/6 - 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 العالم حادث "حدوث العالم" 1 - معنى الحدوث في اللغة: يقول الخليل:"والحديث الجديد من الأشياء، ورجل حدث كثير الحديث، والحَدَث الإبْداء"1. وقال ابن فارس: "الحاء والدال والثاء أصل واحد؛ وهو كون الشيء لم يكن، يقال حدث أمر بعد أن لم يكن "2. وفي الصحاح: "والحدوث كون الشيء لم يكن، وأحدثه الله فحدث، وحدث أمر أي وقع"3. وحدث الشيء حدوثاً تجدد وجوده فهو حادث وحديث، ومنه يقال حدث به عيب إذا تجدد وكان معدوماً4. والحديث نقيض القديم، والحديث الخبر، واستحدثت خبراً أي وجدت خبراً جديداً5. ويتضح مما سبق أن لفظ الحدوث يعني كون الشيء لم يكن، كما يعني تجدد وجود الشيء، والحديث نقيض القديم، والحديث الجديد. 2 - معنى الحدوث عند أهل السنة: لم يرد لفظ الحدوث أو الحادث في كتاب الله، وإنما ورد لفظ أُحْدِث ويحدث ومحدث وحديث ونحوها، قال - تعالى -: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق - 1] وقال - تعالى -: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء - 2] ومعنى محدث هنا: "أي جديد إنزاله"6، وأما معنى قوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق - 1]   1 - العين 3/177. 2 - معجم مقاييس اللغة 2/36. 3 - الصحاح 1/278، وانظر: لسان العرب 2/131. 4 - انظر: المصباح المنير 1/124. 5 - انظر: الصحاح 1/278. 6 – تفسير ابن كثير 3/181، وانظر: تفسير الطبري 28/135، مجموع الفتاوى 12/522. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 فيقول الطبري: "يقول - جل ثناؤه - لا تدري ما الذي يحدث، لعل الله يحدث بعد طلاقكم إياهن رجعة"1. ولم يرد لفظ الحدوث أو الحادث في السنة2، ولكن ورد الفعل منه وبعض مشتقاته كمحدث وحديث ونحوها، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة" 3. وهذا الحديث موافق لقوله - تعالى -: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء - 2] ، قال شيخ الإسلامابن تيمية - رحمه الله -: "لما قال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ} [الأنبياء - 2] علم أن الذكر منه محدث، ومنه ما ليس بمحدث، لأن النكرة إذا وصفت ميز بها بين الموصوف وغيره، كما لو قال: ما يأتينى من رجل مسلم إلا أكرمته، وما آكل إلا طعاماً حلالاً، ونحو ذلك، ويعلم أن المحدث في الآية ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمي، ولكنه الذي أنزل جديداً، فإن الله كان ينزل القرآن شيئاً بعد شيء، فالمنزل أولاً هو قديم بالنسبة إلى المنزل آخراً، وكل ما تقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب، كما قال: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس - 39] ، وقال: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف - 95] ، وقال: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف - 11] "4. فالمحدث في الشرع جاء بمعنى جديد الإنزال. كما قد يراد بالمحدث المخلوق المسبوق بالعدم.   1 - تفسير الطبري 28/135، وانظر: تفسير ابن كثير 4/403. 2 - وذلك حسب إطلاعي. 3 - أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب "كل يوم هو في شأن" 4/410. 4 - مجموع الفتاوى 12/522. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 3 - معنى حدوث العالم في الاصطلاح: أ - معنى "حدوث العالم" عند أهل السنة: ذكرت فيما سبق أن لفظ العالم لا يوجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في كلام الصحابة، والمعنى الصحيح المفهوم من هذه العبارة "العالم حادث" أن كل ما سوى الله مخلوق، حادث كائن بعد أن لم يكن، وأن الله وحده القديم الأزلي، وهذا المعنى هو المعروف عن الأنبياء، وأتباع الأنبياء، من المسلمين، واليهود، والنصارى، وهو مذهب كثير من الفلاسفة وغيرهم1، يقول ابن تيمية - رحمه الله -: "والمشهور من مقالة أساطين الفلاسفة، قبل أرسطو، هو القول بحدوث العالم، وإنما اشتهر القول بقدمه عنه، وعن متبعيه كالفارابي، وابن سينا، والحفيد، وأمثالهم"2. ب - معنى "حدوث العالم" عند المتكلمين: معنى الحدوث عند المتكلمين هو الخروج من العدم إلى الوجود، أو هو حصول الشيء بعد أن لم يكن3، وفي التعريفات للجرجاني:"الحدوث عبارة عن وجود الشيء بعد عدمه"4. وعندما يقال: العالم حادث، يُضَمّن المتكلمون معنى غير صحيح لهذا المصطلح؛ فالمعتزلة يرون أن صفات الله مخلوقة، بائنة عنه، وكثير من المتكلمين من الأشاعرة يجعل صفات الله الفعلية، بائنة عن ذات الله، وأنها مخلوقة داخلة في مسمى العالم5، ومن ضمن ما يعنونه بقولهم "العالم حادث": أن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وأن الله لم يزل لا يفعل شيئاً، ولا يتكلم بمشيئته، ثم حدثت الحوادث من غير سبب يقتضي ذلك، وأنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها. فهذا المعنى هو الذي يعنيه أهل الكلام من الجهمية، والمعتزلة، ومن اتبعهم من الأشاعرة، بحدوث العالم. وهذا المعنى الذي أضافوه معنى باطل لا يوجد في كتاب الله، ولم يعرف عن الأنبياء، ولا يوجد في حديث عن النبي   1 - انظر: درء التعارض 1/125. 2 - انظر: الصفدية 1/130. 3 - انظر: الكليات ص400، موسوعة مصطلحات دستور العلماء ص345. 4 - التعريفات ص116. 5 - انظر: الإرشاد ص17، الأسماء والصفات ص138، شرح الأصول الخمسة ص151، 183، 528. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 - صلى الله عليه وسلم -، ولا أثر عن صحابته - رضي الله عنهم -1. وقد جعلوا حدوث العالم الدليل الأكبر على وجود الله، لكن طريقة تقريرهم لهذا الدليل لم تكن صحيحة، ولذلك رد عليها كثير من النظار من أهل السنة، ومن المتكلمين أنفسهم، ومن الفلاسفة2. ج - معنى "حدوث العالم" عند الفلاسفة المتأخرين: لقد أحدث الفلاسفة المتأخرون؛ كابن سينا، وأمثاله، لهذه العبارة معنى مبتدعاً باطلاً، حيث قالوا: العالم محدث: أي معلول لعلة قديمة، أزلية، أوجبته فلم يزل معها، وأن العالم معلول، ممكن بنفسه، واجب بغيره، وأن وجوده من غيره، لا من نفسه3. يقول الآمدي مبيناً معنى حدوث العالم عند الفلاسفة: "وأما الحادث فقد يطلق ويراد به ما يفتقر إلى العلة، وإن كان غير مسبوق بالعدم كالعالم، وعلى ما لوجوده أول وهو مسبوق بالعدم. فعلى هذا العالم إن سمي عندهم قديماً فباعتبار أنه غير مسبوق بالعدم، وإن سمي حادثاً فباعتبار أنه مفتقر إلى العلة في وجوده"4. وقسموا الحدوث إلى نوعين: 1 - حدوث ذاتي: وهو كون الشيء مفتقراً في وجوده إلى الغير، وهي العلة عندهم5. 2 - حدوث زماني: وهو كون الشيء مسبوقاً بالعدم سبقاً زمانياً6. فحقيقة قولهم هي أن العالم قديم غير مخلوق، وكونه محدثاً يعني افتقاره إلى العلة وإن لم يسبق بالعدم.   1 - انظر: درء التعارض 1/125 - 126. 2 - انظر في الرد على براهينهم في حدوث العالم: درء التعارض 2/344وما بعدها، 3/3 - 23، 448 - 449، 4/19، 267 - 268 نقض التأسيس 1/117، التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى 5/254 - 255، شرح الأصفهانية ص70 - 73، مناهج الأدلة ص47 - 48. 3 - انظر: درء التعارض 1/125 - 126، الصفدية 1/240. 4 - المبين ص119، وانظر: موسوعة مصطلحات دستور العلماء ص345. 5 - انظر: الحدود لابن سينا ضمن المصطلح الفلسفي للدكتور الأعسم ص262، النجاة لابن سينا 2/75، تعريفات الجرجاني ص116، موسوعة مصطلحات دستور العلماء ص 345. 6 - انظر: الحدود لابن سينا ضمن المصطلح الفلسفي للدكتور الأعسم ص262، النجاة لابن سينا 2/70 - 71، تعريفات الجرجاني ص116، موسوعة مصطلحات دستور العلماء ص345. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - مبيناً حقيقة مذهبهم: "وحقيقة الخلق منتفية عندهم عن العقل الأول، بل عن العالم وإنما هو عندهم معلول ومبدع، لكنهم يحرفون الكلم عن مواضعه فيقولون العالم محدث ومخلوق، ويعنون بقولهم محدث أنه معلول ممكن بنفسه واجب بغيره، وأن وجوده من غيره لا من نفسه، وكذلك يعنون بقولهم مخلوق، لكن من المعلوم بالاضطرار أن أهل اللغة لا يريدون بقولهم هو محدث، ومخلوق، هذا المعنى المتضمن أنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال، بل الحدوث عندهم يناقض القدم، وكذلك الخلق، ولا تحتمل اللغة بوجه من الوجوه أن القديم الذي لم يزل ولا يزال يقال له محدث ومخلوق. والمخلوق عندهم أبلغ من المحدث والحادث؛ فكل مخلوق فهو محدث وحادث باتفاق أهل اللغة وأهل الكلام، وأما أن كل حادث ومحدث فهو مخلوق فهذا مما تنازع فيه أهل الكلام، والنظر، واللغة، لا يوجب أن كل ما كان حادثاً يسمى مخلوقاً؛ لأن المخلوق هو الذي خلقه غيره، والخلق يجمع معنى الإبداع ومعنى التقدير، وأما لفظ حادث فلا يقتضي أنه مفعول، ولو قيل محدث فمعنى الخلق أخص من معنى الحدوث"1. وقولهم في معنى الحدوث باطل لأمور: أولاً: لمخالفته للغة العرب، فمن المعلوم بالاضطرار أن أهل اللغة لا يريدون بقولهم هو محدث، ومخلوق، هذا المعنى، المتضمن أنه قديم أزلي، لم يزل ولا يزال، بل الحدوث عندهم يناقض القدم، وكذلك الخلق، ولا تحتمل اللغة بوجه من الوجوه أن القديم الذي لم يزل ولا يزال يقال له محدث ومخلوق2. ثانياً: القول بأن العالم محدث بالمعنى الذي ذكروه، ليس قول أحد من الأنبياء، ولا أتباعهم، ولا أمة من الأمم العظيمة، ولا طائفة من الطوائف المشهورة، التي اشتهرت مقالاتها في عموم الناس، بحيث كان أهل مدينة على هذا القول، وإنما يقول هذا طوائف قليلة مغمورة في الناس، وهذا القول إنما هو معروف عن طائفة من المتفلسفة المليينكابن سينا، وأمثاله، وقد يحكون هذا القول عن أرسطو، وقوله الذي في كتبه أن العالم قديم، وجمهور الفلاسفة قبله يخالفونه ويقولون إنه محدث3.   1 - الصفدية 1/240. 2 - انظر: المرجع السابق نفس الجزء والصفحة، درء التعارض 1/126. 3 - انظر: درء التعارض 1/126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ثالثاً: أنهم جعلوا العالم معلول لعلة تامة أزلية، والعلة التامة الأزلية، يلزم مقارنة معلولها لها، وكل ما سواه معلول له، فيلزم أن لا يكون في الوجود حادث، أو أن لا يكون للحوادث محدث، وكلاهما معلوم الفساد بالضرورة1. هذا مجمل ما يمكن أن يرد به قولهم هذا إذ المقام لا يقتضي تفصيل الرد والمناقشة.   1 - انظر: الصفدية 1/280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الأفول 1 - معنى الأفول في اللغة: قال الخليل بن أحمد: "أفلت الشمس، تأفل، أفولاً، وكل شيء غاب فقد أفل، وهو آفل، وإذا استقر اللقاح في قرار الرحم قيل قد أفل، والآفل في هذا المعنى هي التي حملت، ويقولون لبوءة آفل، وآفلة، إذا حملت"1. ويقول الأزهري: "وكذلك القمر يأفُِل إذا غاب، قال الله - تعالى -: {فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 76] ، أي غاب وغرب..وفي النوادر: أفِل الرجل، إذا نشط، فهو أَفِل"2. وفي المصباح المنير: "أَفَل الشيء أَفْلاً وأُفُولاً من بابي ضرب، وقعد، غاب. ومنه قيلأفل فلان عن البلد، إذا غاب عنها"3. وقد أجمعت كتب اللغة على أن معنى الأفول: الغياب.   1 - العين 8/337، وانظر: معجم مقاييس اللغة 1/119، الصحاح 4/1623، لسان العرب 11/18 - 19، المصباح المنير 1/17، القاموس المحيط ص 1242. 2 - تهذيب اللغة للأزهري 15/378. 3 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، المتوفى سنة770هـ. 1/17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 2 - معنى الأفول في الشرع: لقد ورد لفظ أفل، وأفلت، والآفلين، في سورة الأنعام، في ثلاث آيات متتالية، وهي قوله - تعالى -: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 76 - 78] . قال ابن جرير الطبري: "قال ابن اسحاق: الأفول الذهاب، يقال منه أَفَل النجم، يأفُل، ويأفِل، أفُولاً، وأفْلاً، إذا غاب..ويقال أين أفلت عنا؟ بمعنى أين غبت عنا"1.وفي المفردات للراغب: "الأفول: غيبوبة النيرات، كالقمر، والنجوم"2. وقد أطبقت جميع التفاسير على أن معنى أفل: أي غاب، ويذكرون أن هذا هو معناه في لغة العرب3، إلا أن بعض المفسرين ممن تأثر بعلم الكلام، يزيد على هذا المعنى تعقيباً من عنده؛ هو أن الغياب يعني التغير والانتقال، وهذه إضافة منهم، ليس لها دليل من لغة العرب، ولا من تفسير الصحابة. فالأفول في الشرع، هو بمعناه الذي ورد في اللغة، وهو المغيب والاحتجاب، وهذا بإجماع أهل اللغة والتفسير4.   1 - تفسير الطبري 7/250 - 251، وانظر: تفسير ابن كثير 2/192، تفسير الواحدي 1/362، زاد المسير 3/75، تفسير البغوي 2/109. 2 - المفردات ص 80، وانظر: التوقيف على مهمات التعاريف ص 81. 3 - انظر: تفسير الطبري 1/248 - 251، معاني القرآن للنحاس 2/536، تفسير الواحدي 1/362، زاد المسير 3/75، تفسير البغوي 2/109، تفسير ابن كثير 2/242، تفسير البيضاوي 2/423، تفسير الثعالبي 1/536، الدر المنثور 3/304 - 305، فتح القدير 2/134. 4 - انظر: درء التعارض 1/109، 313، مجموع الفتاوى 5/547، 6/254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 3 - معنى الأفول في اصطلاح المتكلمين والفلاسفة: ذهبت الجهمية، والمعتزلة، ومن اتبعهم من الأشاعرة، والماتريدية، إلى تفسير الأفول بالحركة والانتقال والتغير، وجعلوا ذلك دليلاً على الحدوث، ونفوا صفات الأفعال عن الله بناء على هذه الشبهة، واعتمدوا في بدعتهم هذه، على قول الخليل - عليه السلام -: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام - 76] 1، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "ومن عجائب الأمور، أن كثيراً من الجهمية، نفاة الصفات والأفعال، ومن اتبعهم على نفي الأفعال، يستدلون على ذلك بقصة الخليل - صلى الله عليه وسلم -، كما ذكر ذلك بشراً المريسي، وكثير من المعتزلة، ومن أخذ ذلك عنهم، أو عمن أخذ ذلك عنهم؛ كأبي الوفاء بن عقيل، وأبي حامد، والرازي، وغيرهم، وذكروا في كتبهم أن هذه الطريقة هي طريقة إبراهيم الخليل عليه - صلوات الله وسلامه -، وهو قوله {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام - 76] قالوا فاستدل بالأفول، الذي هو الحركة والانتقال، على حدوث ما قام به ذلك كالكوكب، والقمر، والشمس "2. قال الرازي في استدلاله على نفي صفات الأفعال: "الثالث قول الخليل: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام - 76] يدل على أن المتغير لا يكون إلهاً "3. ويقول النسفي في تفسيره لقوله - تعالى -: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام - 76] : " {فَلَمَّا أَفَلَ} غاب، {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} أي لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين عن حال إلى حال، لأن ذلك من صفات الأجسام "4. وقال القرطبي: "فلما أفل النجم، قرر الحجة، وقال ما تغير لا يجوز أن يكون رباً، وكانوا يعظمون النجوم، ويعبدونها، ويحكمون بها"5. وقال أبو السعود: " {فَلَمَّا أَفَلَ} أي غرب، {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} أي الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان، المتغيرين من حال إلى حال، المحتجبين بالأستار، فإنهم بمعزل من استحقاق الربوبية"6.   1 - انظر: رد الدارمي على بشر المريسي ص 55، درء التعارض 1/310، بيان تلبيس الجهمية 1/528 - 529. 2 - درء التعارض 1/310. 3 - المرجع السابق 2/216، وقد نقله شيخ الإسلام عن الرازي في لباب العقول. 4 - تفسير النسفي2/20. 5 - تفسير القرطبي 7/26. 6 - تفسير أبي السعود 3/153، وانظر: روح المعاني 7/200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ويلاحظ أن هؤلاء المفسرين، من متكلمة الصفاتية، يذكرون أن معنى الأفول هو المغيب، ثم يضيفون إليه معنى زائداً، وهو التغير والحركة والانتقال، وهو ما قرره أهل الكلام في كتبهم. أما ابن سينا فإنه يجعل الأفول بمعنى الإمكان، كما قال في إشاراته: "قال قوم إن هذا الشي المحسوس، موجود لذاته، واجب لنفسه، لكنك إذا تذكرت ما قيل لك في شرط واجب الوجود، لم تجد هذا المحسوس واجباً، وتلوت قوله - تعالى -: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [سورة الأنعام - 76] فإن الهُوِىَّ في حظيرة الإمكان، أفول ما "1. 4 - نقد معنى الأفول عند المتكلمين والفلاسفة: لقد رد أئمة أهل السنة على من حرف معنى الأفول؛ من المعتزلة، والجهمية، وأتباعهم. حيث زعموا أن معنى الأفول هو الحركة، والانتقال، وأنه يعني التغير، وهو تحريف ظاهر لمعنى الأفول، مخالف لدليل السمع واللغة، ومن وجوه الرد عليهم في ذلك ما يلي: الوجه الأول: أنه من المعلوم باتفاق أهل اللغة والمفسرين، أن الأفول ليس هو الحركة، ولا هو التغير، فلا يسمى في اللغة كل متحرك، أو متغير، آفلاً، ولا أنه أفل، فلا يقال للمصلي، أو الماشي، إنه آفل. ولا يقال للتغير الذي هو استحالة؛ كالمرض، واصفرار الشمس، إنه أفول. ولا يقال للشمس إذا اصفرت إنها أفلت. وإنما يقال أفلت إذا غابت واحتجبت. وهذا من المتواتر المعلوم بالاضطرار من لغة العرب، أن آفلاً بمعنى غائب، وقد أفلت الشمس، تأفل، أفولاً، أي غابت2. الوجه الثاني: أنه لو كان احتجاجه بالحركة، والانتقال، لم ينتظر إلى أن يغيب، بل كان نفس الحركة التي يشاهدها، من حين تطلع، إلى أن تغيب الأفول. وأيضا فحركتها بعد المغيب، والاحتجاب، غير مشهودة، ولا معلومة3.   1 - الإشارات 3 /102 - 103، وانظر: درء التعارض 1/314. 2 - انظر: درء التعارض 1/109، 2/216، 8/355 - 356 بغية المرتاد 359، مجموع الفتاوى 5/547 - 548، 6/254، 284 - 286، الصواعق المرسلة 1/190. 3 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/528 - 529، درء التعارض 4/77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الوجه الثالث: أنه قد ظن طائفة من الجهمية، والمعتزلة، وغيرهم، أن مراد إبراهيم - عليه السلام - بقوله: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام - 76] أن هذا خالق العالم، وأنه استدل بالأفول، وهو الحركة والانتقال، على عدم ربوبيته، وزعموا أن هذه الحجة هي الدالة على حدوث الأجسام، وحدوث العالم، وهذا غلط من وجوه: أحدها: أن هذا القول لم يقله أحد من العقلاء، لا من قوم إبراهيم ولا غيرهم، ولا توهم أحدهم أن كوكباً، أو القمر، أو الشمس، خلق هذا العالم، وإنما كان قوم إبراهيم مشركين، يعبدون هذه الكواكب، زاعمين أن في ذلك جلب منفعة، أو دفع مضرة، ولهذا قال الخليل: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام - 78] ، وقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء - 75 - 77] ، وأمثال ذلك1. الثاني: أنه لو كان قوله: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام - 76] ، هذا رب العالمين، لكانت قصة إبراهيم - عليه السلام - حجة عليهم؛ لأنه حينئذ لم تكن الحركة عنده مانعة من كونه رب العالمين، وإنما المانع هو الأفول، وقد أخبر الله في كتابه، أنه من حين بزغ الكواكب والقمر والشمس، وإلى حين أفولها، لم يقل الخليل لا أحب البازغين، ولا المتحركين، ولا المتحولين، ولا أحب من تقوم به الحركات، ولا الحوادث. والأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير هو المغيب والاحتجاب، بل هذا معلوم بالاضطرار من لغة العرب التي نزل بها القرآن، وهو المراد باتفاق العلماء، فلم يقل إبراهيم لا أحب الآفلين، إلا حين أفل وغاب عن الأبصار، فلم يبق مرئياً ولا مشهوداً، فحينئذ قال لا أحب الآفلين، وهذا يقتضي أن كونه متحركاً منتقلاً تقوم به الحوادث، بل كونه جسماً متحيزاً تقوم به الحوادث، لم يكن دليلاً عند إبراهيم على نفي محبته2. أما من فسر الأفول بالإمكان من الفلاسفة، فإن قولهم أبعد بكثير عن الصحة، ممن فسر الأفول بالحركة، وأفسد منه، ووجوه الرد عليه كثيرة منها:   1 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/528. 2 - انظر: المرجع السابق 1/529. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 أولاً: أنه من المعلوم بالضرورة من لغة العرب، أنهم لا يسمون كل مخلوق، موجود، آفلاً، ولا كل موجود بغيره، آفلاً، ولا كل موجود يجب وجوده بغيره، لا بنفسه، آفلاً، ولا ما كان من هذه المعاني، التي يعنيها هؤلاء بلفظ الإمكان، بل هذا أعظم افتراء على القرآن، واللغة، من تسمية كل متحرك آفلاً1. ثانياً: لو كان الخليل - عليه الصلاة والسلام - أراد بقوله: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام - 76] هذا المعنى، لم ينتظر مغيب الكوكب، والشمس، والقمر، ففساد قول هؤلاء المتفلسفة في الاستدلال بالآية، أظهر من فساد قول المتكلمين2. ثالثاً: أن هؤلاء من أعظم الناس تحريفا للفظ الأفول، ولفظ الإمكان، فإنهم وسائر العقلاء يسلمون أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم، لا يكون إلا ما كان معدوماً. فأما القديم الأزلي الذي لم يزل، فيمتنع عندهم، وعند سائر العقلاء، أن يكون ممكناً، يقبل الوجود والعدم. ولكنهم يتناقضون تناقضاً بيناً، فقالوا الفلك ممكن، يقبل الوجود والعدم، وهو مع ذلك قديم أزلي3. رابعاً: لو كان معنى الأفول هو الإمكان، لما قال الله - عز وجل -: {فَلَمَّا أَفَلَتْ} [الأنعام - 78] ، لأنها آفلة منذ وجودها، بمعنى ممكنة، لكن لما قال - تعالى -: {فَلَمَّا أَفَلَتْ} [الأنعام - 78] ، دل على أن هذا شيء يطرأ عليها في وقت دون وقت، وهو المغيب والاحتجاب، فيمتنع كون الأفول بمعنى الإمكان. ومما سبق من الردود - على إيجازها - يتبين مدى تحريف المتكلمين والفلاسفة لمصطلح الأفول، وبعدهم عن معاني اللغة والقرآن.   1 - انظر: درء التعارض 1/315، 111، 4/76 - 77. 2 - انظر: المرجع السابق 1/314 - 315، 4/76، بيان تلبيس الجهمية 1/531، مجموع الفتاوى 5/550، منهاج السنة 1/201 - 202، 2/197. 3 - انظر: درء التعارض 4/76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 دليل التغير 1 - معنى التغير في اللغة: يقول ابن فارس: "قولنا هذا غير ذاك، أي هو سواه وخلافه. ومن الباب الاستثناء بغير، تقول: عشرة غير واحد، ليس هو من العشرة"1. وقال الجوهري: "والغير أيضا الاسم من قولك غيرت الشيء فتغير..وتغايرت الأشياء، اختلفت، والغيار البدال"2. وفي اللسان: "وتغير الشيء عن حاله تحول. وغَيَّره: حوله وبدله، كأنه جعله غير ما كان، وفي التنزيل العزيز: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال - 53] ، قال ثعلب: معناه حتى يبدلوا ما أمرهم الله. والغير: الاسم منالتغير"3.فالتغير في اللغة هو التحول من شيء إلى آخر. 2 - معنى التغير في الشرع: ولم يرد دليل التغير في الكتاب أو السنة، وقد ورد في كتاب الله لفظ يغير ومغير ويتغير، قال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد - 11] ، قال الطبري: "يقول - تعالى ذكره - إن الله لا يغير ما بقوم من عافية، ونعمة، فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم، حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك، بظلم بعضهم بعضاً، واعتداء بعضهم على بعض، فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره"4. وقال - تعالى -: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد - 15] ، ويبين الراغب معنى التغيير فيقول: "والتغيير يقال على وجهين: أحدهما: لتغيير صورة الشيء دون ذاته. يقال غيرت   1 - معجم مقاييس اللغة 4/404، وانظر: العين 8/441. 2 - الصحاح 2/776. 3 - لسان العرب 5/40. 4 - تفسير الطبري 13/121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 داري: إذا بنيتها بناء غير الذي كان. والثاني: لتبديله بغيره. نحو: غيرت غلامي ودابتي، إذا أبدلتهما بغيرهما. نحو: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد - 11] "1. 3 - معنى دليل التغير في اصطلاح المتكلمين والفلاسفة: يقول الرازي: "وأما الخليل - صلى الله عليه وسلم -، فقد حكى الله - تعالى - عنه في كتابه، أنه استدل بحصول التغير في أحوال الكواكب، على حدوثها"2. ويستدل كثير من المتكلمين بقصة إبراهيم، ويقولون إن إبراهيم استدل بالأفول على الحدوث. كما أن ابن سينا استدل بالأفول على الإمكان، ويقولون: الحادث والممكن ليس بواجب. يقول شيخ الإسلام مبيناً كلامهم: "ثم إنه لما قال هؤلاء إن الأفول هو الحدوث، والأفول هو التغير، فبنى ابن سينا وأتباعه من الدهرية على هذا، وقالوا: ما سوى الله ممكن، وكل ممكن فهو آفل، فالآفل لا يكون واجب الوجود.. فيستدلون بالتغير على الإمكان، كما استدل الأكثرون من هؤلاء بالتغير على الحدوث، وكل من هؤلاء يقول: هذه طريقة الخليل"3. 4 - مناقشة الدليل: أولاً: أن استدلالهم بقصة إبراهيم الخليل - عليه السلام - باطل، فقد علم باتفاق أهل اللغة والمفسرين أن الأفول ليس هو الحركة، سواء كانت حركة مكانية وهي الانتقال، أو حركة في الكم كالنمو، أو في الكيف كالتسود والتبيض، ولا هو التغير، فلا يسمى في اللغة كل متحرك أو متغير آفلاً، ولا أنه أفل، لا يقال للمصلي أو الماشي إنه آفل، ولا يقال للتغير الذي هو استحالة؛ كالمرض، واصفرار الشمس، إنه أفول، وإنما يقال للشمس أفلت إذا غابت   1 - المفردات ص619. 2 - أساس التقديس ص1/527، وانظر: الإنصاف ص30. 3 - درء التعارض 1/102 - 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 واحتجبت، وهذا من المتواتر المعلوم بالاضطرار من لغة العرب، أن آفلاً بمعنى غائب، وقد أفلت الشمس، تأفِلُ، وتأفُلُ، أفولاً، أي غابت1. ثانياً: أن قول القائل: "كل متحرك محدث، أو كل متحرك ممكن يقبل الوجود والعدم"، فهذه المقدمة ليست ضرورية فطرية باتفاق العقلاء، بل من يدعي صحة ذلك يقول إنها لا تعلم إلا بالنظر الخفي، ومن ينازع في ذلك يقول إنها باطلة عقلاً وسمعاً، ويمثل من مثل بها في أوائل العلوم الكلية لقصوره وعجزه، وأما قوله: "كل متغير محدث أو ممكن" فإن أراد بالتغير ما يعرف من ذلك في اللغة، مثل استحالة الصحيح إلى المرض، والعادل إلى الظلم، والصديق إلى العداوة، فإنه يحتاج في إثبات هذه الكلية إلى دليل، وإن أراد بالتغير معنى الحركة، أو قيام الحوادث مطلقاً، حتى تسمى الكواكب حين بزوغها متغيرة، ويسمى كل متكلم ومتحرك متغيراً، فهذا مما يتعذر عليه إقامة الدليل فيه على دعواه2. فدليل التغير الذي زعموه دليلاً، فاسد، لأنهم بنوه على أن معنى الأفول هو التغير، وهذا ليس بصحيح، كما بنوه على أن التغير هو التحرك، والتكلم، ونحو ذلك، وهذا ظاهر الفساد؛ بل ويتعذر عليهم إقامة الدليل عليه. ومن لوازمه الفاسدة نفي الصفات الفعلية المتعلقة بالقدرة والمشيئة.   1 - انظر: درء التعارض 1/109. 2 - انظر: المرجع السابق 1/112 - 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 دليل إمكان الذوات "إمكان الأجسام" 1 - معنى إمكان الذوات والأجسام في اللغة: سبق تعريف الممكن في اللغة، وقد بينت أن الإمكان في اللغة القدرة على الشيء1، كما سبق تعريف الجسم2. أما الذوات في اللغة فهي جمع ذات، وهي تأنيث ذو الذي بمعنى صاحب، قال الجوهري: "وأما ذو الذي بمعنى صاحب فلا يكون إلا مضافاً، فإن وصفت به نكرة، أضفته إلى نكرة، وإن وصفت به معرفة، أضفته إلى الألف واللام"3. وقال الراغب: "ذو على وجهين: أحدهما: يتوصل به إلى الوصف بأسماء الأجناس والأنواع، ويضاف إلى الظاهر دون المضمر، ويثنى ويجمع، ويقال في المؤنث ذات، وفي التثنية ذواتا، وفي الجمع ذوات، ولا يستعمل شيء منها إلا مضافاً، قال - تعالى -: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة - 251] ، وقال: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم - 6] " 4. وقد اختلف بعض العلماء في لفظ ذات هل هو من العربية أم هو لفظ مولد، ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما أنه لفظ مولد، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وفصل الخطاب أنها ليست من العربية العرباء، بل من المولدة، كلفظ الموجود، ولفظ الماهية، والكيفية، ونحو ذلك، فهذا اللفظ يقتضي وجود صفات، تضاف الذات إليها، فيقال ذات علم، وذات قدرة، وذات كلام، والمعنى كذلك، فإنه لا يمكن وجود شيء قائم بنفسه في   1 - انظر: البحث ص275. 2 - انظر: البحث ص249. 3 - الصحاح 6/2551. 4 - المفردات ص333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 الخارج، لا يتصف بصفة ثبوتية أصلاً، بل فرض هذا في الخارج، كفرض عرض يقوم بنفسه لا بغيره"1. وقد ورد في السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله - عز وجل -؛ قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات - 89] ، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء - 63] .."2، ومعنى في ذات الله أي "في جهة الله وناحيته، أي لأجل الله ولابتغاء وجهه، ليس المراد بذلك النفس، ونحوه في القرآن {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال - 1] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران - 119] أي الخصلة والجهة التي هي صاحبة بينكم، وعليم بالخواطر، ونحوها، التي هي صاحبة الصدور، فاسم الذات في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة، والعربية المحضة بهذا المعنى، ثم أطلقه المتكلمون وغيرهم على النفس بالاعتبار الذي تقدم، فإنها صاحبة الصفات، فإذا قالوا الذات فقد قالوا التي لها الصفات"3. وقال الراغب: "وقد استعار أصحاب المعاني الذات، فجعلوها عبارة عن عين الشيء، جوهراً كان أو عرضاً، واستعملوها مفردة، ومضافة إلى المضمر بالألف واللام، وأجروها مجرى النفس، والخاصة، فقالوا ذاته، ونفسه، وخاصته، وليس ذلك من كلام العرب"4. فالذوات جمع ذات، وهي تأنيث ذو، فتكون بمعنى صاحبة. ولم يرد دليل إمكان الذوات في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.   1 - مجموع الفتاوى6/99، وانظر: المصدر نفسه 5/283، درء التعارض10/157، الصواعق المرسلة4/1381 - 1385، بدائع الفوائد 2/6 - 8. 2 - أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء - 125] 2/461، ح 3358، ومسلم في كتاب الفضائل باب من فضائل إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام 4/1840، ح 2371. 3 - مجموع الفتاوى 6/342. 4 - المفردات ص333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 2 - معنى إمكان الذوات في اصطلاح الفلاسفة والمتكلمين: هذا الدليل هو عمدة الفلاسفة أمثال ابن سينا وأتباعه، وهو من الأدلة التي استدل بها متأخرو المتكلمين في إثبات وجود الله، وقد أخذوا هذا الدليل عن الفلاسفة، وهي طريقة لم يسلكها أرسطو، بل ولا سلكها جماهير الفلاسفة قبل ابن سينا1. يقول الرازي: "الناس قد توصلوا إلى إثبات واجب الوجود بطرق. فمن الناس من توصل بطريقة الإمكان، وهي معتمد الحكماء"1. وقوله الحكماء هنا يحتاج إلى تعقيب، إذ كما أسلفت لم يسلك هذه الطريقة غير ابن سينا ومن جاء بعده. أما تعريف الإمكان فيقول الرازي: "إن مرادنا من لفظ الإمكان، هو كون الشيء بحيث يجوز أن يستمر على ما كان عليه قبل ذلك، ويجوز أن لا يبقى على ما كان عليه قبل ذلك"3. وهذا الدليل يعتمد على تقسيم الموجودات إلى واجب وممكن، وفي شرح هذا الدليل يقول الرازي: "نقول لا شك في وجود موجود، وكل موجود فإما أن تكون حقيقته مانعة من قبول العدم، وإما أن لا تكون. فالأول هو الواجب لذاته، والثاني هو الممكن لذاته. فثبت أنه لابد من الاعتراف بوجود موجود، وثبت أن كل موجود، فهو إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته، ينتج أن في الوجود إما موجود واجب الوجود لذاته، وإما موجود لذاته ممكن لذاته، إن كان الأول فهو المطلوب، وإن كان الثاني فنقول الممكن لذاته لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، وذلك المرجح إن كان واجبا لذاته فهو المطلوب. وإن كان ممكناً لذاته عاد التقسيم الأول فيه، فإما أن يتسلسل، أو يدور، وهما محالان، وإما أن ينتهي إلى أن ينتهي إلى موجود، واجب الوجود لذاته، وهو المطلوب"2. ويعلق شيخ الإسلام - رحمه الله - على هذا الدليل فيقول: "وأما القول بإمكان الأجسام فهو مبني على أن الموصوف ممكن، بناء على أن المركب ممكن، وعلى نفي الصفات، وهي   1 - انظر: درء التعارض 5/292، 3/334 - 335، الصفدية 2/180 - 181. 1 - المباحث المشرقية 2/467 - 468. 3 - المطالب العالية 1/205. 2 - المرجع السابق 1/72، وانظر: معالم أصول الدين ص33، النجاة ص 64، 77 - 78، الإشارات 3/482 - 483، الدرء 3/166- 167، الفتاوى 1/49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 طريقة أحدثها ابن سينا وأمثاله، وركبها من مذهب سلفهم، ومذهب الجهمية "1. فالمعتزلة قسموا الوجود إلى محدث وقديم، وبينوا ثبوت القديم، فأخذ ابن سينا يقسمه إلى واجب وممكن، وغرضه إثبات وجود الواجب، بدون إثبات حدوث العالم، وجعل وجود العالم ممكناً، وخالف بذلك طريقة سلفه الفلاسفة، فإن الممكن عندهم لا يكون موجوداً2. 3 - مناقشة هذا الدليل: دليل إمكان الذوات الذي يعتمده ابن سينا وأتباعه، باطل من وجوه: الوجه الأول: أنه قد علم بالاضطرار من دين الرسول، والنقل المتواتر، أنه دعا الخلق إلى الإيمان بالله ورسوله، ولم يدع الناس بهذه الطريق، ولم يدع بها أحد من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، الذين هم خير هذه الأمة، وأفضلها علما وإيمانا. فهي طريق مبتدعة، فكيف يجوز أن يقال: إن تصديق الرسول موقوف عليها3. الوجه الثاني: أن هذا الدليل مبني على نفي الصفات، ومعلوم أن أكثر العقلاء ينازعونهم في هذا، ويقولون هذا قول باطل، فيمتنع أن يكون العلم بالصانع موقوفا على طريق فاسد4. الوجه الثالث: أن جماهير العقلاء من المسلمين واليهود والنصارى، والفلاسفة القدماء والمتأخرين، يقدحون في موجب هذا الدليل، وليس هو طريقة أرسطو وقدماء الفلاسفة، ولا طريقة ابن رشد وأمثاله من المتأخرين، بل هذا المسلك عند جمهور العالم من أعظم الأقوال فسادا في الشرع والعقل5، يقول الغزالي: "وأما الفلاسفة فقد رأوا أن العالم قديم، ثم أثبتوا له صانعا مع ذلك، وهذا المذهب بوضعه متناقض، لا يحتاج فيه إلى إبطال"6. فابن سينا في هذا الدليل، قد قسم الوجود إلى واجب وممكن، وأثبت الواجب بهذا الطريق، ولكن هذا بناء على   1 - درء التعارض 1/98 - 99. 2 - انظر: الصفدية 2/19. 3 - انظر: درء التعارض1/97 - 98. 4 - انظر: المرجع السابق1/98 - 99. 5 - انظر: المرجع السابق 5/293. 6 - تهافت الفلاسفة ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 أن القديم ممكن، وله ماهية تقبل الوجود والعدم، وهذا مما خالفه فيه جمهور العقلاء من الفلاسفة، والمتكلمين وغيرهم، حتى أنه هو تناقض في ذلك فوافق سلفه وجميع العقلاء، وصرح بأن الممكن لا يكون إلا ما يقبل الوجود والعدم، ثم تناقض بقوله أن ذات الممكن قد تكون قديمة أزلية واجبة بغيرها1. والقدم ووجوب الوجود متلازمان عند عامة العقلاء، الأولين والآخرين، ولم يعرف عن طائفة منهم نزاع في ذلك إلا ما أحدثه هؤلاء، فإنا نشهد موجودات كثيرة، حدثت بعد أن لم تكن، ونشهد عدمها بعد أن كانت، وما كان معدوما أو سيكون معدوما لا يكون واجب الوجود، ولا قديما أزليا2. الوجه الرابع: أن هؤلاء إذا قدر أنهم أثبتوا واجب الوجود، فليس في دليلهم أنه مغاير للسماوات والأفلاك، وهذا مما بين تهافتهم فيه الغزالي وغيره، لكن عمدتهم أن الجسم لا يكون واجبا، لأنه مركب، والواجب لا يكون مركبا، هذا عمدتهم وهو قول باطل، وما زال النظار يبينون فساد هذا القول، كل بحسبه، كما بين الغزالي فساده بحسبه3. فهذا الدليل الذي اعتمده الفلاسفة في إثبات وجود الله باطل عقلا وشرعا، وهو غير محصل للمقصود، كما أنهم قد تناقضوا في أهم مصطلحات هذا الدليل وهو لفظ الإمكان، إذ قد جعلوا الممكن قديما أزليا، وهذا يدل بجلاء على تخبط وفساد مذهب الفلاسفة في الإلهيات.   1 - انظر: درء التعارض 3/335 - 337. 2 - انظر: مجموع الفتاوى 1/49. 3 - انظر رد الغزالي في تهافت الفلاسفة ص79 - 82. وانظر: مجموع الفتاوى 1/49 - 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 إمكان الصفات "إمكان الأعراض" 1 - معنى إمكان الصفات في اللغة: سبق التعريف بلفظ الإمكان، والعرض1، أما الصفات في اللغة فهي جمع صفة، والصفة الحلية والنعت، قال الخليل: "الوصف وصفك الشيء بحليته، ونعته"2. وفي الصحاح: "وصفت الشيء وصفاً، وصفةً، والهاء عوض من الواو..والصفة كالعلم والسواد،"3. وقال ابن فارس: "الواو والصاد والفاء أصل واحد، هو تحلية الشيء، ووصفته أصفه وصفاً. والصفة الأمارة اللازمة للشيء"4، وقال ابن منظور: "والصفة الحلية"5. فالصفة هي الحلية والنعت. ولم يرد مصطلح إمكان الصفات في كتاب الله - تعالى -، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -   1 - انظر: البحث ص275، 265. 2 - العين 7/162. 3 - الصحاح 4/1439، وانظر: لسان العرب 9/356 - 357. 4 - معجم مقاييس اللغة 6/115. 5 - لسان العرب 9/356. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 2 - دليل إمكان الصفات في اصطلاح المتكلمين: دليل إمكان الصفات عند المتكلمين مبني على أن الأجسام متماثلة في الماهية، التي يرون أنها مغايرة لصفات الجسم، وأما صفات الأجسام فمختلفة، وهي ممكنة، وقد استنتج المتكلمون من تخصيص كل جسم بصفته، وجوب المخصص وأنه ليس بجسم. يقول الرازي: "الطريق الثالث الاستدلال بإمكان الصفات، فنقول: قد دللنا على أن الأجسام بأسرها متساوية في تمام الماهية، وإذا كانت كذلك، كان اختصاص جسم الفلك بما به صار فلكاً، واختصاص جسم الأرض بما به صار أرضاً، أمراً جائزاً، فلا بد له من مخصص، وذلك المخصص؛ إن كان جسماً افتقر في تركبه، وتألفه، إلى نفسه، وهو محال، وإن لم يكن جسماً، فهو المطلوب"1. وقال في تتمة شرح هذا الدليل: "ثم قال المتكلمون في هذا المقام: ذلك المؤثر، إما أن يكون موجباً بالذات، أو فاعلاً بالاختيار، والأول باطل، لأن ذلك الموجود لما لم يكن جسماً، ولا جسمانياً، كانت نسبة حقيقته إلى جميع الأجسام نسبة واحدة، ولما كانت الأجسام بأسرها متساوية في تمام الماهية، كانت بأسرها متساوية في قبول الأثر عن ذلك المباين، وإذا كان الأمر كذلك، كان قبول كل واحد من تلك الأجسام، لأثر خاص من ذلك المباين، المفارق، رجحاناً لأحد طرفي الممكن، على الآخر، لا لمرجح، وهو محال، ولما بطلت هذه الأقسام، ثبت أن إله العالم موجود، ليس بجسم ولا بجسماني، وأنه فاعل مختار، وليس موجباً بالذات، فهذا تمام تقرير هذه الحجة"2. 3 - مناقشة الدليل: أولاً: أن هذا الدليل غير وارد في الكتاب والسنة - كما أسلفت_، والمتكلمون يقولون عنه إنه مقدمة شريفة، يفرع عنها القول في الإله، والقول بالنبوة، والقول بأحوال الآخرة،   1 - معالم أصول الدين ص34، وانظر: المطالب العالية 1/184. 2 - المطالب العالية 1/186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 والقيامة1، فكيف لا يذكر الرسول شيئاً في غاية الأهمية - كما يزعمون -، بل يكون الرسول لم يبلغ البلاغ الكامل، وهذا أمر بين البطلان. ثانياً: هذا الدليل مبني على القول بتماثل الأجسام، ولا ريب أن قولهم بتماثل الاجسام قول باطل سواء فسروا الجسم بما يشار إليه، أو بالقائم بنفسه، أو بالموجود، أو بالمركب من الهيولى والصورة، ونحو ذلك، فأما إذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة، وعلى أنها متماثلة، فهذا يبنى على صحة ذلك، وعلى إثبات الجوهر الفرد، وعلى أنه متماثل، وجمهور العقلاء يخالفونهم فى ذلك2. وقد أثبت العلم الحديث اختلاف ذرات الأجسام، وأنها غير متماثلة فذرات الماء ليست مماثلة لذرات الحديد، وذرات الحديد لا تماثل ذرات النحاس ولا الذهب وغيرها. فكل جسم له ذراته الخاصة به. ثالثاً: أن هذا الدليل مبني على مقدمتين، إحداهما: أن اختصاص كل جسم بما له من الصفات، لا يكون إلا لسبب منفصل. والثانية: أن ذلك السبب لا يكون إلا مخصصاً، ليس بجسم، وهاتان المقدمتان قد عرف نزاع العقلاء فيهما، وما يرد عليهما من النقض والفساد ومخالفة أكثر الناس لموجبهما3. وهم لم يقيموا على ذلك دليلاً صحيحاً يؤيد ما ذهبوا إليه. فهذا الدليل فاسد وباطل، ولا أدل على بطلانه من اضطراب منظريه في كثير مما يبنى عليه هذا الدليل كالقول بتماثل الأجسام، وتعريف الممكن، والجسم، كما لم يمكنهم إقامة دليل صحيح على ما ادعوه.   1 - انظر: المطالب العالية 1/186. 2 - انظر: التدمرية ص121 - 122. 3 - انظر: المرجع السابق 5/293، وتفصيل نقض هاتين المقدمتين في الدرء3/78 - 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 حدوث الذوات "حدوث الأجسام" 1 - معناه في اللغة: سبق بيان معنى الحدوث والذوات والجسم في اللغة1. ولم يرد هذا الدليل في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. 2 - معنى هذا الدليل في اصطلاح المتكلمين: هذا الطريق في الاستدلال هو طريق أكثر المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية2، حيث إن"جمهور المتكلمين لا يعولون إلا على هذا الطريق، وذلك لأنهم يقيمون الدلالة على كون الأجسام محدثة. وحينئذ يقولون: كل جسم محدث، وكل محدث فله علة وصانع، ينتج أن كل جسم فله فاعل وصانع. ثم هذا الدليل إنما يتم إذا قلنا: وذلك الفاعل إن كان محدثاً لزم التسلسل أو الدور، وإن كان قديماً فهو واجب الوجود لذاته، وهو المطلوب.. وأما الكلام في قولنا: كل محدث فلابد له من فاعل، وصانع، فموضعه ههنا وهو أن يقال: كل محَدث فهو ممكن الوجود لذاته، وكل ما كان ممكن الوجود لذاته، فله فاعل وصانع، ينتج أن كل محدث فله فاعل. وفي هذا الطريق يستدل بحدوث الأجسام على كونها ممكنة الوجود، ثم يستدل بإمكانها هذا، على افتقارهما إلى الفاعل"3. وقد استدلوا على حدوث الأجسام بحدوث الأعراض4. يقول الباقلاني في شرح ذلك: "جميع العالم العلوي، والسفلي، لا يخرج عن هذين الجنسين، أعني الجواهر والأعراض، وهو محدث بأسره؛ والدليل على حدثه ما قدمناه من إثبات الأعراض. والأعراض حوادث؛   1 - انظر: البحث288، 303، 249. 2 - انظر: درء التعارض5/292. 3 - المطالب العالية 1/200، وانظر: معالم أصول الدين ص34، شرح الأصول الخمسة ص94 - 95. 4 - انظر: التمهيد ص44، الإنصاف ص17، درء التعارض3/72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 والدليل على حدوثها بطلان الحركة عند مجيء السكون؛ لأنها لولم تبطل عند مجيء السكون، لكانا موجودين في الجسم معاً، ولوجب لذلك أن يكون متحركاً ساكناً معاً؛ وذلك مما يعلم فساده ضرورة. والدليل على حدوث الأجسام أنها لم تسبق الحوادث، ولم توجد قبلها؛ وما لم يسبق المحدث محدث كهو؛ إذ كان لا يخلو أن يكون موجوداً معه أو بعده؛ وكلا الأمرين يوجب حدوثه. والدليل على أن الجسم لا يجوز أن يسبق الحوادث أنا نعلم باضطرار أنه متى كان موجوداً فلا يخلو أن يكون متماس الأبعاض مجتمعاً، أو متبايناً مفترقاً؛ لأنه ليس بين أن تكون أجزاؤه متماسة، أو متباينة منزلة ثالثة؛ فوجب ألا يصح أن يسبق الحوادث؛ وما لم يسبق الحوادث، فواجب كونه محدثاً؛ إذ كان لا بد أن يكون إنما وجد مع وجودها، أو بعدها؛ فأي الأمرين ثبت، وجب به القضاء على حدوث الأجسام"1. 3 - مناقشة الدليل: هذا الدليل باطل من عدة أوجه: أولاً: أنهم يقولون إن الإيمان بالرب موقوف على هذا الدليل، مع أنه لم يستدل به أحد من الصحابة والتابعين، ولا من أئمة المسلمين، فلو كانت معرفة الرب - عز وجل - والإيمان به موقوفة عليه، للزم أنهم كانوا غير عارفين بالله، ولا مؤمنين به، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين2. كما أن الأنبياء والمرسلين لم يأمروا أحدا بسلوك هذا السبيل، فلو كانت المعرفة موقوفة عليه، وهي واجبة، لكان واجباً، وإن كانت مستحبة، كان مستحباً، ولو كان واجباً، أو مستحباً، لشرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان مشروعاً لنقلته الصحابة3. ثانياً: أن الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات، المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها؛ على وجود الخالق - سبحانه وتعالى -، فحدوث الإنسان   1 - التمهيد ص44. 2 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/619. 3 - انظر: المرجع السابق نفس الجزء والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 يستدل به على المحدث، لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث له، والفرق بين الاستدلال بحدوثه، والاستدلال على حدوثه بين، والذي في القرآن هو الأول لا الثاني؛ كما قال - تعالى -: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور - 35] ، فنفس حدوث الحيوان، والنبات، والمعدن، والمطر، والسحاب، ونحو ذلك معلوم بالضرورة، بل مشهود لا يحتاج إلى دليل، وإنما يعلم بالدليل ما لم يعلم بالحس وبالضرورة1. ثالثاً: أنهم بنوا دليلهم على أن أجسام العالم محدثة، وكل محدث فله محدث، أما المقدمة الأولى فقد تبين تناقضهم فيها، وأنهم التزموا لأجلها أما جحد صفات الله، وأفعاله القائمة به، وإما جحد بعض ذلك، وأنهم اشترطوا في خلق الله - تعالى - للعالم، ما ينافي خلق العالم، فسلطوا عليهم أهل الملل، والفلاسفة جميعا2. فقد سبق خلافهم في تعريف الجسم، وفيما يتركب منه الجسم، وأنهم رتبوا عليه نفي الصفات أو بعضها عن الله - تعالى -. رابعاً: أن المقدمة الثانية في دليلهم "وكل محدث فله محدث" أظهر وأعرف وأبْده في العقول من أن تحتاج إلى بيان، فبنوها على أن كل محدث، فهو ممكن الوجود، وأن الممكن يحتاج في وجوده إلى مؤثر موجود، وكل من هاتين المقدمتين صحيحة في نفسها، مع أن القول بافتقار المحَدث، إلى المحِدث أبين وأظهر في العقل، من القول بافتقار الممكن، إلى المؤثر الموجود، فبتقدير بيانهم للمقدمتين، يكونون قد طولوا، وداروا بالعقول، دورة تبعد على العقول معرفة الله - تعالى -، والإقرار بثبوته، وقد يحصل لها في تلك الدورة من الآفات ما يقطعها عن المقصود3. خامساً: أن بعض الفلاسفة قد بينوا فساد هذا الدليل، ومنهم ابن رشد، يقول في نقد هذا الدليل: "وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ - وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد -، طريقة معتاصة، تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل، فضلا   1 - انظر: درء التعارض 7/219. 2 - انظر: المرجع السابق 3/73. 3 - انظر: المرجع السابق 3/73، 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 عن الجمهور. ومع ذلك فهي طريقة غير برهانية، ولا مفضية بيقين، إلى وجود الباري - سبحانه -"1. وبهذا يتبين أن دليل حدوث الأجسام، الذي يعول عليه جمهور المتكلمين في إثبات وجود الله، دليل غير صحيح، وذلك بالنظر في مقدماته، فالمقدمة الأولى قد حوت مصطلحات مجملة لا يمكن تمييز الخالق فيها عن المخلوق، كما تناقضوا فيها، وقد أفضت بهم إلى لوازم فاسدة كنفي الصفات. والثانية مقدمة بديهية لا تحتاج إلى هذا التعقيد، والإطالة، كما فعلوا. وخلاصة دليلهم وهو أن المُحدَث يحتاج إلى مُحدِث أمر معروف بالضرورة، لا يحتاج إلى نظر. وقد سلكوا في إثبات ذلك طريقة لم تأت في الشرع، ومع ذلك جعلوا معرفة الرب والإيمان به موقوفة عليه!.   1 - مناهج الأدلة ص 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 حدوث الصفات "حدوث الأعراض" 1 - معناه في اللغة: سبق بيان معنى الحدوث، ومعنى الصفات، والأعراض، في اللغة1. 2 - معنى هذا الدليل في اصطلاح المتكلمين: يقول الرازي في بيان هذا الدليل: "الاستدلال بحدوث الصفات، والأعراض، على وجود الصانع - تعالى -، مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء إنساناً، فإذا كانت تلك التركيبات أعراضاً حادثة، والعبد غير قادر عليها، فلا بد من فاعل آخر، ثم من ادعى العلم بأن حاجة المحدث إلى الفاعل ضروري، ادعى الضرورة هنا، ومن استدل على ذلك بالإمكان، أو بالقياس على حدوث الذوات، فكذلك يقول أيضاً في حدوث الصفات"2. فاستدلالهم بهذا الدليل من ثلاثة طرق: 1 - بعضهم يقول الصفات حادثة، والحادث لابد له من محدث ضرورة. 2 - وبعضهم يقول الصفات حادثة، والحادث ممكن، والممكن لابد له من واجب. 3 - وبعضهم يقول الصفات حادثة، فلابد لها من محدث قياساً على حدوث الذوات. 3 - مناقشة الدليل: أولاً: هذه الطريقة جزء من الطريقة المذكورة في القرآن، وهي التي جاءت بها الرسل، وكان عليها سلف الأمة، وأئمتها، وجماهير العقلاء من الآدميين. فإن الله - سبحانه - يذكر في آياته ما يحدثه في العالم؛ من السحاب والمطر والنبات والحيوان، وغير ذلك من الحوادث، ويذكر في آياته خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ونحو ذلك، لكن القائلين بإثبات الجوهر الفرد من المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية، وغيرهم، يسمون هذا استدلالاً   1 - انظر: البحث ص 288، 308، 265. 2 - الدرء 3/82، وانظر: معالم أصول الدين ص34، المطالب العالية 1/215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 بحدوث الصفات؛ بناء على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها، بل الجواهر، والأجسام، التي كانت موجودة قبل ذلك؛ لم تزل من حين حدوثها، بتقدير حدوثها، ولا تزال موجودة، وإنما تغيرت صفاتها، بتقدير حدوثها، كما تتغير صفات الجسم إذا تحرك بعد السكون، وكما تتغير ألوانه، وكما تتغير أشكاله، وهذا مما ينكره عليهم جماهير العقلاء من المسلمين، وغيرهم1. ثانياً: أن الاستدلال بحدوث الصفات على طريقتهم، أخفى من الاستدلال بحدوث الأجسام، إذ حدوث الأجسام ظاهر، كما أن الصفة تبع للجسم، فإذا ثبت حدوث الجسم، ثبت حدوث الصفة. ثالثاً: أن حقيقة قول الجهمية، والمعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية، وغيرهم، أن الرب لم يزل معطلاً فلا يفعل شيئاً، ولا يتكلم بمشيته وقدرته، ثم إنه أبدع جواهر من غير فعل يقوم به، وبعد ذلك ما بقي يخلق شيئاً، بل إنما تحدث صفات تقوم بها، ويدعون أن هذا قول أهل الملل الأنبياء وأتباعهم2، وهذا باطل. رابعاً: أن من اعتمد في حدوث الصفات، على أن هذا يدل على الإمكان، والممكن لابد له من واجب، فقد أطال الدليل بدون حاجة، واستدل على الأظهر بالأخفى، وهذا بلاشك يبعد عن المقصود. فالصواب إذاً هو الاستدلال بحدوث المخلوقات على الخالق العظيم، وليس الاقتصار على حدوث صفاتها، كما ينبغي أن يكون الدليل خالياً من الألفاظ المجملة؛ لأنها سبب الاضطراب والاختلاف.   1 - انظر: درء التعارض 3/83، مجموع الفتاوى17/246. 2 - انظر: درء التعارض 3/84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الإحكام والإتقان 1 - معنى الإحكام والإتقان في اللغة: قال الخليل: "الحكمة مرجعها إلى العدل والعلم والحلم، ويقال أحكمته التجارب، إذا كان حكيماً، وأحكم فلان عني كذا، أي منعه.. وكل شيء منعته من الفساد فقد حكَمته، وحكَّمته وأحكمته"1. وقال ابن فارس: "الحاء والكاف والميم أصل واحد، وهو المنع. وأول ذلك الحكم، وهو المنع من الظلم. وسميت حكمة الدابة لأنها تمنعها، يقال حكمت الدابة وأحكمتها. ويقال حكمت السفيه، وأحكمته، إذا أخذت على يديه"2. وقال الجوهري: "والحكم أيضا الحكمة من العلم. والحكيم العالم، وصاحب الحكمة، والحكيم المتقن للأمور..وأحكمت الشيء فاستحكم، أي صار محكماً"3، والإتقان في اللغة - كما قال الخليل - الإحكام4، وفي اللسان: "وأتقن الشيء أحكمه، وإتقانه إحكامه، والإتقان الإحكام للأشياء" 5. 2 - معنى الإحكام والإتقان في الشرع: فالإحكام والإتقان معناهما واحد، وهو ضبط الشيء ومنع وقوع الفساد والخلل فيه. وقد ورد الفعل من لفظ الإحكام، والإتقان، في كتاب الله - تعالى - ومن ذلك قوله - تعالى -: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود - 1] وقوله - سبحانه -: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل - 88] . وهو بمعناها في اللغة.   1 - العين 3/67. 2 - معجم مقاييس اللغة 2/91. 3 - الصحاح 5/1901. 4 - انظر: العين 5/129. 5 - لسان العرب 13/73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 3 - معنى هذا الدليل في الاصطلاح: من الآيات الواضحة التي جعلها الله - عز وجل - دليلاً لعباده على معرفة وحدانيته، انتظام صنعته، وبدائع حكمته في خلق السماوات والأرض، وما أحكم فيها، وخلق الإنسان، والأرواح، وما ركب فيها، قال - تعالى -: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور} [الملك - 3] 1. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "أفعاله المحكمة المتقنة دلت على علمه، وهذا مما وقع الاتفاق عليه من هؤلاء، فإنهم يسلمون أن الإحكام والإتقان يدل على علم الفاعل، وهذا أمر ضروري عندهم وعند غيرهم، وهو من أعظم الأدلة العقلية التي يجب ثبوت مدلولها، والإحكام والإتقان إنما هو أن يضع كل شيء في محله المناسب، لتحصل به الحكمة المقصودة منه..وحكمة الرب في جميع المخلوقات باهرة، قد بهرت العقلاء، واعترف بها جميع الطوائف، والفلاسفة من أعظم الناس إثباتاً لها، وهم يثبتون العناية والحكمة الغائية، وإن كان فيهم من قصر في أمر الإرادة والعلم، وكذلك المتكلمون كلهم متفقون على إثبات الحكمة في مخلوقاته، وإن كانوا في الإرادة وفعله لغاية متنازعين"2. ويقول الرازي في شرح هذا الدليل: "وهي الاستدلال بما في العالم من الإحكام والإتقان على علم الفاعل، والذي يدل على علم الفاعل هو بالدلالة على ذاته أولى"3. فإتقان الخلق وإحكامه من أعظم الأدلة على وجود الله، يتفق في هذا الدليل أهل السنة والفلاسفة والمتكلمون، وهو يدل على علم الفاعل وحكمته، والفلاسفة والمتكلمون يلزمهم الإقرار بثبوت ذلك لله من غير تقصير في مدلول العلم والحكمة، لأنه من لوازم هذا الدليل.   1 - انظر: كتاب التوحيد لابن منده 1/97. 2 - النبوات ص376 - 377، وانظر: الصواعق المرسلة 4/1567 - 1574، شفاء العليل ص233. 3 - نقله ابن تيمية في درء التعارض 3/87، وانظر: المطالب العالية 1/233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 دليل التمانع 1 - معنى التمانع في اللغة: سبق التعريف بلفظ الممتنع في اللغة، وقد بينت أن مادة منع تدل على عدم حصول الشيء وعدم وقوعه1. ولم يرد مصطلح دليل التمانع في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وورد معناه في قوله - تعالى -: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون - 91] . كما سيأتي بيانه. 2 - معنى دليل التمانع في الاصطلاح: يستدل المتكلمون بدليل التمانع على وحدانية الله، يقول الرازي: "اعلم أنهم ذكروا أنواعاً من الدلائل، أقواها دليل التمانع "2. ويقول الباقلاني شارحاً دليل التمانع: "وليس يجوز أن يكون صانع العالم اثنين، ولا أكثر من ذلك، والدليل على ذلك أن الاثنين يصح أن يختلفا، ويوجِد أحدهما ضد مراد الآخر؛ فلو اختلفا، وأراد أحدهما إحياء جسم، وأراد الآخر إماتته، لوجب أن يلحقهما العجز، أو واحداً منهما؛ لأنه محال أن يتم ما يريدان جميعاً لتضاد مراديهما. فوجب أن لا يتما، أو يتم مراد أحدهما، فيلحق من لم يتم مراده العجز. أو لا يتم مرادهما، فيلحقهما العجز. والعجز من سمات الحدث، والقديم الإله لا يجوز أن يكون عاجزاً"3.   1 - انظر: البحث ص272. 2 - المطالب العالية 2/135. 3 - التمهيد ص46، وانظر: الإنصاف ص34، أصول الدين ص85 - 86، الإرشاد ص53 - 54، شرح الأصول الخمسة ص277، منهاج السنة 3/304 - 305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وقد ورد معنى هذا الدليل في كتاب الله قال - تعالى -: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون - 91] . قال ابن القيم - رحمه الله -: "فتأمل هذا البرهان الباهر، بهذا اللفظ الوجيز البين، فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً، يوصل إلى عابده النفع، ويدفع عنه الضر، فلو كان معه - سبحانه - إله، لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى بشركة الإله الآخر معه، بل إن قدر على قهره، وتفرده بالإلهية دونه فعل. وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه، وذهب به، كما ينفرد ملوك الدنيا عن بعضهم بعضاً بممالكهم. وإذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر، والعلو عليه فلا بد من أحد أمور ثلاثة: إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه، وإما أن يعلو بعضهم على بعض، وإما أن يكون كلهم تحت قهر إله واحد، وملك واحد، يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه، ويمتنع من حكمهم عليه، ولا يمتنعون من حكمه عليهم، فيكون وحده هو الإله الحق وهم العبيد المربوبون المقهورون"1. ودليل التمانع برهان تام على مقصود المتكلمين، وهو امتناع صدور العالم عن اثنين، وهذا هو توحيد الربوبية، وقد اعترض بعض النظار على هذا الدليل2، وليس الأمر كما ظنه هؤلاء بل هو برهان صحيح عقلي، كما قدره فحول النظار3. ولكن من وجوه غلط المتكلمين في ذلك أنهم يدللون على التمانع بقوله - تعالى -: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء - 22] ، بينما الآية التي تدل على التمانع هي قوله - تعالى -: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون - 91] كما سبق بيان ذلك.   1 - الصواعق المرسلة 2/463 - 464، وانظر: شرح الطحاوية 1/38 - 39، درء التعارض9/355 - 359. 2 - انظر بعض الاعتراضات في المطالب العالية 2/135 - 144. 3 - انظر: درء التعارض 9/354. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 الفطرة 1 - معنى الفطرة في اللغة: قال الخليل:" وفطر الله الخلق، أي خلقهم، وابتدأ صنعة الأشياء، وهو فاطر السماوات والأرض، والفطرة التي طبعت عليها الخليقة من الدين، فطرهم الله على معرفته بربوبيته..وانفطر الثوب وتفطر أيانشق، وتفطرت الجبال والأرضانصدعت"1. وقال الجوهري: "والفِطْرة بالكسر الخلقة، وقد فطره يفْطُرُه بالضم فطراً، أي خلقه. والفَطْر أيضا الشق، يقال فطرته فانفطر.. وتفَطَّر الشيء تشقق..والفَطْر الابتداء والاختراع، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: كنت لا أدري ما فاطر السماوات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي أنا ابتدأتها"2. وعلى هذا فلفظ فطر يدور معناه على الشق والابتداء والخلق. 2 - معنى الفطرة في الشرع: لقد ورد لفظ الفطرة في كتاب الله، في آية واحدة، هي قوله - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم - 30] ، كما ورد الفعل منه وهو فطر، ولفظ فاطر، وفطور، ومنفطر، في آيات كثيرة يدور معنى الفطر فيها على الخلق، والابتداء، والانشقاق. وفي سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورد لفظ الفطرة في أحاديث كثيرة، يهمنا منها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة   1 - العين 7/418. 2 - الصحاح 2/781، وانظر: العين 7/417 - 418، لسان العرب 5/55 - 58، المغرب ص362، المصباح المنير 2/476 - 477. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"، ثم يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية [الروم - 30] "1. وقد اختلف العلماء في معنى الفطرة في حديث أبي هريرة، وهي المذكورة في الآية السابقة على عدة أقوال منها: القول الأول: أن الفطرة هي الإقرار بمعرفة الله - تعالى -، وهي العهد الذي أخذه عليهم في أصلاب آبائهم، حين مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، قالوا بلى، فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعاً ومدبراً وإن سماه بغير اسمه، قال - تعالى -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف - 87] فكل مولود يولد على ذلك الإقرار2. القول الثاني: أن معنى كل مولود يولد على الفطرة، أي أن الله فطرهم على الإنكار والمعرفة، وعلى الكفر والإيمان3. القول الثالث: أن الفطرة هي الإسلام لكنها خاصة بالمؤمنين؛ لأنه لو فطر الناس جميعاً على الإسلام لما كفر أحد منهم، وهذا خلاف ما دلت عليه النصوص من أنه - تعالى - خلق أقواماً للنار، وأن غلام الخضر طبع كافراً4. القول الرابع: أن الفطرة هي الخلقة التي خلق عليها المولود، من المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه، إذا بلغ مبلغ المعرفة، يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم، التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك، ومثل هذا القول من قال: المراد بالفطرة، أن كل مولود يولد على السلامة خلقة، وطبعا، وبنية، ليس معها كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ5.   1 - أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ وهل يعرض على الصبي الإسلام 1/416، ح 1358، وبنحوه مسلم في كتاب القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة 4/2047، ح 2658. 2 - انظر: تأويل مختلف الحديث ص73 - 95، التمهيد لابن عبد البر 18/90 - 91، الدرء 8/359 - 360، شفاء العليل ص283. 3 - انظر: التمهيد لابن عبد البر 18/88، شفاء العليل ص293، أحكام أهل الذمة 2/575 - 576. 4 - انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/26. 5 - انظر: التمهيد 18/68 - 70، درء التعارض 8/442، شفاء العليل ص289 - 299، أحكام أهل الذمة 2/568 - 569. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 القول الخامس: الفطرة يعني البدأة التي ابتدأهم عليها، يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقه، من أنه ابتدأهم للحياة والموت، والسعادة والشقاء، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم اعتقادهم. قالوا والفطرة في كلام العرب البداءة، والفاطر المبدئ والمبتدىء1. القول السادس: أن الفطرة ها هنا الإسلام، قالوا وهو المعروف عند عامة السلف أهل التأويل، وقد أجمعوا في تأويل قوله - عز وجل -: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم - 30] على أن قالوا فطرة الله، دين الله الإسلام2. واستدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة منها3: 1 - قول أبي هريرة في هذا الحديث: "اقرأوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم - 30] "، وذكروا عن عكرمة، ومجاهد، والحسن، وإبراهيم، والضحاك، وقتادة، في قول الله - عز وجل -: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم - 30] ، قالوا: فطرة الله، دين الله الإسلام. 2 - ومما احتج به من ذهب إلى أن الفطرة في هذا الحديث الإسلام، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خمس من الفطرة" 4، يعني فطرة الإسلام. 3 - والدلائل الدالة على أنه أراد على فطرة الإسلام كثيرة، كألفاظ الحديث التي في الصحيح مثل قوله "على الملة"، و "على هذه الملة" 5. 4 - ومثل قوله في حديث عياض بن حمار: "خلقت عبادي حنفاء كلهم" 6، ومثل تفسيرأبي هريرة، وغيره، من رواة الحديث، ذلك، وهم أعلم بما سمعوا.   1 - انظر: التمهيد 18/78، درء التعارض 8/386، شفاء العليل ص284، أحكام أهل الذمة 2/569. 2 - انظر: التمهيد 18/72، الدرء 8/373، شفاء العليل ص285، أحكام أهل الذمة 2/535، فتح الباري 3/248. 3 - انظر: درء التعارض8/367 - 371. 4 - أخرجه البخاري في كتاب اللباس باب قص الشارب 4/72، ح 5889، ومسلم في كتاب الطهارة باب خصال الفطرة 1/221؛ ح 257. 5 - الروايتان أخرجهما مسلم في كتاب القدر، باب معنى "كل مولود يولد على الفطرة" 4/2048، ح 2658. 6 - جزء من حديث أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الخصال التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار 4/2197، ح 2865. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وأيضا فإنه لو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام؛ لما سألوا عقب ذلك: أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير؟ لأنه لو لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لما سألوا، والعلم القديم وما يجري مجراه لا يتغير. وهذا القول هو الراجح في تفسير معنى الفطرة والله - تعالى - أعلم، وذلك لصراحة الأدلة التي استدلوا بها. والفطرة بهذا المعنى هي دليل من أدلة الربوبية التي غرسها الله - عز وجل - في بني آدم وخلقهم عليها، وهي توحيده - سبحانه - وعدم الشرك به، ثم تتغير هذه الفطرة بما يجتالها من شياطين الجن، والأهواء والشهوات. وفي نهاية هذا الفصل أرجو أن أكون قد رسمت صورة واضحة عن أدلة توحيد الربوبية، من خلال شرح المصطلحات المتعلقة بها، والتي بفهمها يمكن فهم تلك الأدلة والحكم عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 الفصل الثالث: الألفاظ والمصطلحات المتعلقة ب الشرك في الربوبية الشرك في الربوبية ... الفصل الثالث: الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بالشرك في الربوبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الشرك في الربوبية 1 - معنى الشرك في اللغة: يقول ابن فارس: "الشين والراء والكاف أصلان، أحدهما يدل على مقارنة وخلاف انفراد، والآخر يدل على امتداد واستقامة. فالأول الشركة، وهو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما."1 وفي الصحاح: "..وشركته في البيع والميراث أشركه شركة، والاسم الشرك..والشرك أيضاً الكفر. وقد أشرك فلان بالله فهو مشرك ومشركي"2. فالشرك لفظ يدل على اقتسام الشيء بين اثنين فأكثر، دون أن ينفرد به واحد. وقد سبق بيان معنى الرب في اللغة وهو المالك والمصلح والمربي3. 2 - معنى الشرك في الشرع: ورد لفظ الشرك في كتاب الله، وفي كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - في مواضع كثيرة، ومن ذلك قوله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان - 13] وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [الجن - 20] ، وغيرها كثير، ومن السنة مارواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر، أو سئل عن الكبائر، فقال: "الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين.." 4، إلى غير ذلك من الأحاديث.   1 - معجم مقاييس اللغة 3/265. 2 - الصحاح 4/1593 - 1594. 3 - انظر البحث ص138. 4 - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر 4/88، ح 5977، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها 1/92، ح 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وأصل الشرك أن تعدل بالله - تعالى - مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده"1. وهذا التعريف شامل لأنواع الشرك، فمن عدل بالله غيره في بعض ما يستحقه وحده بأن اعتقد شريكاً لله في التصرف، أو الخلق، أو نحوه من صفات الربوبية، فهو مشرك، ومن عدل بالله غيره في بعض أنواع العبادة فهو مشرك، ومن عدل بالله غيره في بعض ما يستحقه وحده من الصفات فهو مشرك. فالشرك نوعان شرك في الربوبية وشرك في الألوهية. ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - معرفا الشرك بتعريف جامع: "بأن يجعل لله عدلاً بغيره في اللفظ أو القصد أو الاعتقاد"2. وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "الشرك وهو اتخاذ إله مع الله"3، سواء في الاعتقاد أو الفعل. وقال: "الشرك عبادة غير الله"4. وهذا نوع من أنواع الشرك وهو الشرك في الألوهية، كما ذكر الشرك في بعض أضرب العبادة في موضع آخر، حيث يقول: "الشرك بالله وهو أن يدعو مع الله إلها آخر إما الشمس، وإما القمر، أو الكواكب..أو غير ذلك مما يدعى من دون الله - تعالى -، أو يستغاث به، أو يسجد له"5. فالشرك ينقسم إلى قسمين: الأول: شرك بتعلق بذات المعبود، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله. وهذا هو الشرك في الربوبية. الثاني: شرك في عبادته، ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه - سبحانه - لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله6.وهذا هو الشرك في العبادة والألوهية.   1 - الاستقامة 1/344. 2 - إعلام الموقعين 1/334. 3 - مجموع الفتاوى 4/74، وانظر: الجواب الكافي ص90. 4 - مجموع الفتاوى 11/682. 5 - المرجع السابق 3/424. 6 - انظر: الجواب الكافي ص114، مدارج السالكين 1/62 - 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 3 - معنى الشرك في الربوبية في الشرع: يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - أن معنى الشرك في الربوبية هو:" إثبات فاعل مستقل غير الله"1، ويمثل لذلك بقوله: "كمن يجعل الحيوان مستقلاً بإحداث فعله، ويجعل الكواكب، أو الأجسام الطبيعية، أو العقول، أو النفوس، أو الملائكة، أو غير ذلك مستقلاً بشيء من الإحداث، فهؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الحوادث عن الفاعل"2. كما عرف الشرك في الربوبية بقوله: "بأن يجعل لغيره معه تدبيراً ما"3. والشرك في الربوبية نوعان4: الأول: شرك التعطيل. الثاني: شرك من جعل مع الله إلهاً آخر، ولم يعطل أسماءه، وربوبيته، وصفاته. ومثال النوع الأول شرك أهل وحدة الوجود، وشرك القائلين بقدم العالم، وشرك المعطلة من الجهمية وأمثالهم. ومثال النوع الثاني شرك النصارى القائلين بالتثليث، وشرك المجوس الثنوية، وشرك الصابئة5، وعباد الشمس والنار ونحوها. فالشرك في الربوبية هو أن تجعل لغير الله قدرة على الخلق، أو التصرف، والتدبير في الكون مع الله.   1 - درء التعارض 7/390. 2 - المرجع السابق 7/390. 3 - اقتضاء الصراط المستقيم 2/710. 4 - انظر: الجواب الكافي 114 - 115. 5 - الصابئة نوعان: صابئة مشركون، وصابئة حنفاء. والصابئة المشركون هم الذين يشركون بالكواكب العلويات ويجعلونها أربابا مدبرة لأمر هذا العالم. انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/90 - 94، إغاثة اللهفان2/252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 التعطيل 1 - معنى التعطيل في اللغة: قال الخليل: "العطل فقدان القلادة، عطلت تعطل عطلاً وعطولاً، فهي عاطل وهن عواطل"1. وجاء في الصحاح:" والعطل أيضاً، مصدر عطلت المرأة، وتعطلت، إذا خلا جيدها من القلائد..وقد يستعمل العطل في الخلو من الشيء، وإن كان أصله في الحلي"2. وقال ابن فارس: "العين والطاء واللام أصل صحيح واحد، يدل على خلو وفراغ. تقول: عطلت الدار، ودار معطلة. ومتى تركت الإبل بلا راع، فقد عطلت"3. وجاء في القرآن الكريم قوله - تعالى -: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج - 45] . فالتعطيل يدل على خلو الشيء وفراغه مما ينبغي له. 2 - معنى التعطيل في الشرع: أصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل، وهو ثلاثة أقسام - كما يقول الإمام ابن القيم -: "تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه، وتعطيل الصانع - سبحانه - عن كماله المقدس، بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله، وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد"4. والنوع الأول والثاني من أنواع التعطيل هي من الشرك في الربوبية، ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود، ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم، ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب - تعالى - وأوصافه، وأفعاله، من غلاة الجهمية والقرامطة.   1 - العين 2/9. 2 - الصحاح 5/1767. 3 - معجم مقاييس اللغة4/351. 4 - الجواب الكافي ص90، وانظر: نهاية الإقدام ص123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "فمن نفى ما لا بد منه كان معطلاً"1. وقيل: "المعطلة الذين يزعمون أن الأشياء كائنة من غير تكوين، وأنه ليس لها مكون ولا مدبر"2. وفي مفاتيح العلوم: "المعطلة: الذين لا يثبتون الباري - عز وجل -"3. فالتعطيل هو نفي وإنكار الخالق، أو نفي شيء من صفات الربوبية، أو عدم القيام بما يجب له من العبادة.   1 - الصفدية 1/101. 2 - التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع للملطي ص91 - 92. 3 - مفاتيح العلوم للخوارزمي ص 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الزندقة 1 - معنى الزندقة في اللغة: قال الخليل: "الزنديق ألاّ يؤمن بالآخرة وبالربوبية"1. وقال الجوهري:" الزنديق من الثنوية، وهو معرب، والجمع الزنادقة، والهاء عوض من الياء المحذوفة، وأصله الزناديق، وقد تزندق والاسم الزندقة"2. وفي لسان العرب: "الزنديق القائل ببقاء الدهر، فارسي معرب، وهو بالفارسية زند كراي، يقول بدوام بقاء الدهر، والزندقة الضيق وقيل الزنديق منه لأنه ضيق على نفسه"3. فلفظ الزندقة إذاً فارسي معرب، وهو يعني إنكار الربوبية، والقول ببقاء الدهر. 2 - معنى الزندقة في الاصطلاح: لفظ الزندقة لا يوجد في القرآن، كما لا يوجد في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو لفظ أعجمي معرب أخذ من كلام الفرس بعد ظهور الإسلام، وعرب، وقد تكلم به السلف والأئمة في توبة الزنديق ونحو ذلك، فأما الزنديق الذي تكلم الفقهاء في قبول توبته في الظاهر، فالمراد به عندهم المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر4، وإن كان مع ذلك يصلي ويصوم ويحج ويقرأ القرآن، وسواء كان في باطنه يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً أو وثنياً، وسواء كان معطلاً للصانع وللنبوة أو للنبوة فقط أو لنبوة نبينا فقط، فهذا زنديق وهو منافق5.   1 - العين 5/255. 2 - الصحاح 4/1489. 3 - لسان العرب10/147. 4 - انظر: المغني لابن قدامة 2/266، الكافي لابن قدامة 4/159، المبدع لابن مفلح 6/235، الإنصاف للمرداوي 7/352، كشاف القناع للبهوتي 6/177. 5 - انظر: بغية المرتاد - 339 - 338، الاستغاثة 2/688. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وسئل مالك - رحمه الله - عن الزندقة فقال: ما كان عليه المنافقون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إظهار الإيمان وكتمان الكفر هو الزندقة عندنا اليوم1. وذكر الخوارزمي في مفاتيح العلوم أن الزنادقة هم المانوية، وكانت المزدكية يسمون بذلك، ومزدك هو الذي ظهر في أيام قباذ، وكان قاضي قضاة المجوس، وزعم أن الأموال والحرم مشتركة، وأظهر كتاباً سماه زند، وهو كتاب المجوس الذي جاء به زرادشت، الذي يزعمون أنه نبيهم، فنسب أصحاب مزدك إلى زند، فقيل زندي، وأعربت الكلمة فقيل للواحد زنديق، وللجماعة زنادقة2. وقيل: "الزنديق هو الذي لا يتمسك بشريعة، ويقول بدوام الدهر"3. ويقسم الغزالي الزندقة إلى قسمين: زندقة مطلقة: وهو أن ينكر أصل المعاد عقلياً وحسياً وينكر الصانع للعالم أصلاً. زندقة مقيدة: وهي إثبات المعاد بنوع عقلي مع نفي الآلام واللذات الحسية، وإثبات الصانع مع نفي علمه بتفاصيل الأمور. فهي زندقة مقيدة بنوع اعتراف بصدق الأنبياء. واستدل على هذا التقسيم بحديث موضوع وهو "ستفترق أمتي نيفاً وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا الزنادقة"4.وجعل الزندقة المقيدة هي معنى زنادقة هذه الأمة5. قال شيخ الإسلام: "أما هذا الحديث فلا أصل له، بل هو موضوع كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ولم يروه أحد من أهل الحديث المعروفين بهذا اللفظ"6. وتقسيمه المذكور غير صحيح، والتحقيق أن أصل الزنادقة هم من الفرس الثنوية، وظهر الإسلام والزنديق يطلق على من يعتقد ذلك، وأظهر جماعة منهم الإسلام خشية القتل،   1 - انظر: التمهيد لابن عبد البر 10/154، الموطأ 2/736. 2 - انظر: مفاتيح العلوم ص56. 3 - المصباح المنير1/256. 4 - ذكره ابن الجوزي في كتابه الموضوعات1/267 - 268.وقال هذا الحديث لا يصح عن رسول الله. أما الحديث الصحيح فهو في سنن أبي داود كتاب السنة باب شرح السنة4/197، ح 4596، والترمذي في الإيمان باب ما جاء في افتراق هذه الأمة 5/25، ح 2640وابن ماجة في باب افتراق الأمم 2/1321، ح 3991. 5 - انظر: بغية المرتاد ص336. 6 - المرجع السابق ص337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ومن ثم أطلق الاسم على كل من أسر الكفر وأظهر الإسلام، حتى قال مالك: الزندقة ما كان عليه المنافقون، وكذا أطلق جماعة من الفقهاء الشافعية وغيرهم أن الزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر1. فلفظ الزنديق في الاصطلاح يعني المنافق الذي يبطن الكفر، ويظهر الإسلام.   1 - انظر: فتح الباري 12/270 - 271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الإلحاد 1 - معنى الإلحاد في اللغة: قال الخليل: "..والرجل يلتحد إلى الشيء: يلجأ إليه ويميل، يقال: ألحد إليه ولحد إليه بلسانه أي مال، ويُقرأ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ} [النحل - 103] و {يَلْحَدون} . وألحد في الحرم، ولا يقال لحد إذا ترك القصد ومال إلى الظلم"1. وقال الجوهري: "ألحد في دين الله، أي حاد عنه وعدل، ولحد لغة فيه. وقريء {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل - 103] ، والتحد مثله. وألحد الرجل أي ظلم في الحرم، وأصله من قوله - تعالى -: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج - 25] "2. وقال ابن فارس: "اللام والحاء والدال أصل يدل على ميل عن استقامة، يقال: ألحد الرجل، إذا مال عن طريقة الحق والإيمان"3، واللحد الشق الذي يكون في جانب القبر موضع الميت، لأنه قد أميل عن وسط إلى جانبه4. وعلى هذا فلفظ الإلحاد في اللغة يعني الميل، والظلم، والعدول عن الاستقامة أو الدين أو الحق، وهو معناه في كتاب الله - تعالى -.   1 - العين 3/182 - 183. 2 - الصحاح 2/534، وانظر: العين3/182 - 183، لسان العرب3/388 - 389. 3 - معجم مقايس اللغة 5/236. 4 - لسان العرب 3/388 - 389. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 2 - معنى الإلحاد في الشرع: ورد لفظ الإلحاد في كتاب الله - تعالى -، قال - عز وجل -: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج - 25] كما ورد الفعل منه في قوله - تعالى -: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل - 103] . ومعنىالإلحاد هو الشرك والميل والتكذيب، يقول الطبري - رحمه الله -: "عن ابن عباس في قوله: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف - 180] قال: الإلحاد التكذيب، وقال آخرون: معنى ذلك يشركون"1. ويذكر الطبري - رحمه الله - معنى الإلحاد فيقول: "الإلحاد في الدين وهو المعاندة بالعدول عنه والترك له"2. وقال الراغب: "وألحد فلان مال عن الحق، والإلحاد ضربان: إلحاد إلى الشرك بالله، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب، فالأول ينافي الإيمان ويبطله، والثاني: يوهن عراه ولا يبطله"3. فلفظ الإلحاد يقتضى ميلاً عن شيء إلى شيء بباطل4. ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - في تعريف الإلحاد في أسماء الله: "والإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها"5، وقال أيضاً في بيان معنى هذا اللفظ: "الإلحاد في أسماء الله تارة يكون بجحد معانيها وحقائقها، وتارة يكون بإنكار المسمى بها، وتارة يكون بالتشريك بينه وبين غيره فيها"6. وشرح هذا التعريف يكون ببيان أنواع الإلحاد في أسماء الله، فالإلحاد في أسمائه - تعالى - أنواع: أحدها: أن تسمى الأصنام بها، كتسميتهم اللات من الإلهية، والعزى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلهاً، وهذا إلحاد حقيقة، فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم، وآلهتهم الباطلة.   1 - تفسير الطبري 9/134. 2 - المرجع السابق 15/233. 3 - المفردات ص737. 4 - انظر: مجموع الفتاوى12/124. 5 - بدائع الفوائد1/169. 6 - الصواعق المرسلة1/217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية الفلاسفة له موجباً بذاته، أو علة فاعلة بالطبع، ونحو ذلك. وثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص؛ كقول أخبث اليهود إنه فقير، وقولهم إنه استراح بعد أن خلق خلقه. ورابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني. وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه - تعالى الله عما يقول المشبهون علواً كبيراً - 1.فهذا كله من الإلحاد في أسمائه - سبحانه -. 3 - الإلحاد المعاصر: الإلحاد المصطلح عليه في هذا العصر يعني إنكار وجود الله، والقول بأن الكون وجد بلا خالق، وأن المادة أزلية أبدية، واعتبار تغيرات الكون قد تمت بالمصادفة، أو بمقتضى طبيعة المادة وقوانينها، واعتبار ظاهرة الحياة، وما تستتبع من شعور وفكر عند الإنسان، من أثر التطور الذاتي في المادة2. ولم يكن الإلحاد في التاريخ الإنساني ظاهرة بارزة، ذات تجمع بشري، أو مذهباً مدعماً بمنظمات ودول، وإنما كان ظاهرة فردية شاذة، وربما اجتمع عليه فئات قليلة، وانتشر الإلحاد منذ القرن التاسع عشر، حيث صيغت العلوم الإنسانية، وجذور العلوم البحتة، على أسس الإلحاد بالله، والتفسيرات المادية3، وانتشر انتشاراً لا سابق له في الجاهليات القديمة. إلا أنه في أواخر القرن العشرين، وبداية الحادي والعشرين، عمت موجة من التدين في الأوساط الغربية الملحدة، وشهد العالم سقوط الشيوعية، ثم بدأنا نشاهد عودة مايسمى باليمين المسيحي المتطرف، كل ذلك بعد أن ذاقوا ويلات البعد عن الدين، والعيش في ظلمة   1 - انظر: بدائع الفوائد1/169 - 170، مدارج السالكين1/29 - 30، المفردات ص737. 2 - كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة للأستاذ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ص 409، وانظر: مذاهب فكرية معاصرة للأستاذ محمد قطب ص605، الموسوعة الفلسفية ص426. 3 - انظر: كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة ص411. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 الإلحاد. إلا أن هذا لم يعني نهاية الإلحاد، بل قد بقي الإلحاد متغلغلاً في تلك الأوساط، مرتدياً عباءة العلم، والحضارة. 4 - أئمة ومذاهب فكرية إلحادية: أئمة الإلحاد من الفلاسفة كثيرون، منذ عهد الإغريق، حتى عصرنا الحاضر، وهم الذين كانت لهم آراء ظاهرة، حاولوا فيها تفسير الوجود، والكون، وظاهراته، والتغيرات التي تجري فيه، تفسيرات تستبعد استبعاداً كلياً فكرة وجود خالق، ومن هؤلاء: 1 - ديموقريطس، وهو فيلسوف إغريقي "470 - 361ق. م". 2 - أبيقور، وهو فيلسوف إغريقي "341 - 270ق. م". 3 - توماس هوبز، فيلسوف إنجليزي، وهو أول الماديين المحدثين "1588 - 1679م". 4 - دافيد هيوم، فيلسوف اسكتلندي "1711 - 1776م". 5 - شوبنهور، فيلسوف ألماني "1788 - 1860م". 6 - كارل ماركس، يهودي ألماني مؤسس الشيوعية "1818 - 1883م". 7 - بخنر، فيلسوف ألماني "1824 - 1899م". 8 - نيتشة، فيلسوف ألماني "1844 - 1900م". 9 - سبنسر، فيلسوف إنجليزي "1820 - 1903م". 10 - برتراند رسل، فيلسوف إنجليزي "1873 - 1970م"1. أما المذاهب التي بنيت على الإلحاد فمنها: أولاً: الشيوعية: الشيوعية مذهب اقتصادي اجتماعي، وضع له أساس اعتقادي فكري، قائم على إنكار وجود رب خالق لهذا الكون، وأن المادة هي كل الوجود، وأن أحداثها، وتغيراتها، مع أحداث التاريخ الإنساني، تخضع لقانون جبري مزعوم في المادة، على أنها صفة من صفاته الذاتية، أساسه فكرة فلسفية عنوانها "المادية الجدلية". والمذهب الاقتصادي وهو الاشتراكية   1 - انظر: كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة ص419 - 420، قصة الفلسفة تأليف ول ديورانت ص388 وما بعدها، قضية العناية والمصادفة في الفكر الغربي للدكتورة سارة بنت عبد المحسن ص37وما بعدها، ص173وما بعدها، ص763وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 العلمية، أو الشيوعية، يقوم على إلغاء الملكية الفردية إلغاءً كاملاً، وتطبيق القاعدة "من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته"10 - المادية الجدلية: الجدلية، أو "الديالكتيك"، مأخوذة من الكلمة اليونانية "دياليغو"، ومعناها المجادلة والمناظرة. ثم صارت مصطلحاً علمياً عند فلاسفة الإغريق، يدل على حركة التغير والتطور الملاحظة في أشياء هذا الكون، وكأن عناصر الكون تتجادل فيما بينها في حركة دائمة2. ويضيف الفيلسوف الألماني هيجل على ذلك تصوراً خاصاً لهذه الحركة الدائمة في الكون، حتى ظن هذا التصور قانوناً ثابتاً، تخضع له العمليات المنطقية الفكرية، وعمليات الكون، وحركة التاريخ الإنساني، لكنه اعتبر هذا القانون نظاماً للقوة الغيبية، المهيمنة على الكون والمتصرفة فيه. أما التصور الذي رآه هيجل فهو أن الحركة الجدلية تكون في المطلق تصوره، وهو الذات الكلية التي تنتظم كل شيء، وكل الأشياء إنما هي تطور ونمو جدلي لهذه الذات الكلية، وأن حركة التغير تكون وفق دورات لولبية صاعدة، كل دورة على ثلاث مراحل، هي الوضع الأول، ثم انقلابه إلى نقيضه، ثم مركب الوضع ونقيضه بعد توحدهما بسقوط التناقض بينهما، وارتفاعهما بهذا التوحد إلى ما هو أسمى من الوضع ونقيضه. وهكذا دواليك تتكرر حركة الجدلية، فيكون في الأشياء كلها تطور. وهيجل من فئة المثاليين الذين يؤمنون بالغيبي المجرد من الحسيات، لا من فئة الماديين، إلا أن كارل ماركس حذف من جدلية هيجل نظرتها المثالية المرتبطة بالله، وأضاف إليها نظرته المادية ليصبح مذهبه الفلسفي "المادية الجدلية"3.   1 - انظر: كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة ص439 - 440، مذاهب فكرية معاصرة ص260، المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا ص1/715، الموسوعة الفلسفية للدكتور عبد المنعم الحفني ص269، المعجم الفلسفي إعداد مجمع اللغة العربية ص104. 2 - انظر: كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة ص540 - 541، الموسوعة الفلسفية للدكتور عبد المنعم الحفني ص153 - 154. 3 - انظر: كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة ص540 - 545، بتصرف، الموسوعة الفلسفية للدكتور عبد المنعم الحفني ص153 - 154، المعجم الفلسفي، مجمع اللغة ص164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ثانياً: الداروينية: الداروينية نسبة إلى تشارلز داروين "1808 - 1882م" الباحث الإنجليزي، مؤلف كتاب أصل الأنواع. وهو مذهب التحول أو التبدل، ويتلخص في أن الكائنات الحية في تطور دائم على أساس من الانتخاب الطبيعي، وبقاء الأصلح، فتنشأ الأنواع بعضها من بعض، ولاسيما النوع الإنساني الذي انحدر عن أنواع حيوانية1. وهو ينفي يد الله من عملية الخلق كله، ويقرر أن الحياة وجدت على الأرض بالصدفة، في ظروف معينة. ومن مقولات داروين:"إن الطبيعة تخلق كل شيء، ولا حد لقدرتها على الخلق"، كما قال: "إن الطبيعة تخبط خبط عشواء"2. ثالثاً: الوجودية: مذهب يقوم على إبراز قيمة الوجود الفردي، وخصائصه وجعله سابقاً على الماهية، فهو ينظر إلى الإنسان على أنه وجود لا ماهية، وأن الإنسان مطلق الحرية في الاختيار، يصنع نفسه بنفسه، ويملأ الوجود على النحو الذي يلائمه3. ويرى سارتر - وهو من رواد الوجودية الإلحادية - أن قوله: "الإنسان حر" مرادف لقوله: "إن الله غير موجود"، لأن وجود الإنسان لا يخضع لماهية، أو طبيعة محددة، بل هو إمكان مستمر على الإنسان أن يحققه، فليس هناك طبيعة بشرية فرضت من الأزل، وليس الإنسان إلا ما يختاره لنفسه4. رابعاً - المذهب العقلي: العقلانية أو المذهب العقلي هو القول إن المعرفة تنشأ عن المباديء العقلية القبلية والضرورية، لا عن التجارب الحسية، لأن هذه التجارب لا تفيد علماً كلياً.   1 - انظر: كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة ص317 - 318، المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية ص83، المعجم الفلسفي للدكتور صليبا 1/556، الموسوعة الفلسفية للدكتور الحفني ص177 - 178، مذاهب فكرية معاصرة ص93 - 94، العلمانية للدكتور سفر الحوالي ص177 - 206. 2 - انظر: مذاهب فكرية معاصرة ص 94، 95. 3 - انظر: المعجم الفلسفي للدكتور صليبا 2/565، المعجم الفلسفي لمجمع اللغة ص211، كواشف زيوف ص361 - 364. 4 - انظر: كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة ص 364، الموسوعة الفلسفية للدكتور الحفني ص525. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 كما يطلق على الإيمان بالعقل وبقدرته على إدراك الحقيقة، وذلك لأن قوانين العقل مطابقة لقوانين الأشياء الخارجية، وأن كل موجود معقول، وكل معقول موجود، والعقل قادر على الإحاطة بكل شيء دون عون خارجي يأتيه من القلب أو الغريزة أو الدين1. فهو منهج فكري يعتمد أحكام العقل، من غير الاستناد إلى الدين أو التجربة، فكل ما يحيط بنا مردود إلى مبادىء عقلية. خامساً - العلمانية: بعد تيار العقلانية، جاءت النهضة العلمية الغربية المعاصرة، حيث ساد المذهب الحسي التجريبي، وكشفت التجارب التطبيقية كثيراً من الأغاليط التي كانت في المرحلة السابقة من ثمرات المذهب العقلي. فكانت العلمانية هي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل، ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين2. ولفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة Secularism في الإنجليزية، وهي كلمة لاصلة لها بلفظ العلم ومشتقاته على الإطلاق، والترجمة الصحيحة للكلمة هي اللادينية، أو الدنيوية، وهو ما لا صلة له بالدين، أو ماكانت علاقته بالدين علاقة تضاد3. ويبين معجم أكسفورد معنى كلمة " Secularism " فيقول: " Secularism الاعتقاد بأن القوانين، والتعليم، وغيرها من الأنظمة، يجب أن تبنى على الحقائق والعلم بدلاً عن الدين. Secular 1 - ليس مهتماً بالشؤون لا الروحية ولا الدينية لهذا العالم، التعليم اللاديني، الفن والموسيقى اللاديني، القوى اللادينية للدولة. 2 - لا ينتمي إلى مجتمع العُباَّد."4. فالعلمانية منهج للحياة لا يعترف بالدين، ولا يؤمن بما وراء الحياة الدنيا.   1 - انظر: المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا 2/90 - 91، المعجم الفلسفي لمجمع اللغة ص178. 2 - انظر: كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة ص161، بتصرف. الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب المعاصرة 2/679، مذاهب فكرية معاصرة ص 445. 3 - انظر: العلمانية للدكتور سفر الحوالي ص21. 4 - Oxford Advanced Learner’s Dic. Of current English: p.1062 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 العلة 1 - معنى العلة في اللغة: قال الخليل:"العَلَلُ الشربة الثانية.. والعِلَّة المرض، وصاحبها معتل، والعلة حدثٌ يشغل صاحبه عن وجهه"1. وقال ابن فارس: "العين واللام أصول ثلاثة صحيحة، أحدها تكرر أو تكرير، والآخر عائق يعوق، والثالث ضعف في الشيء"2. وهذا علة لهذا، أي سبب3. فالعلة في اللغة هي المرض، والحدث الذي يشغل صاحبه عن حاجته، وذكر ابن منظور اطلاق العلة على السبب. 2 - معنى العلة في الشرع: لم يرد لفظ العلة في كتاب الله، وورد لفظ العلة بمعنى المرض في السنة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزماً من حطب، ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم، ليست بهم علة، فأحرقها عليهم" 4. وقد استخدم الأصوليون لفظ العلة وهي عندهم: ما يجب به الحكم5. ويقول شيخ الإسلام - رحمه الله -:"لفظ العلة يعبر به عن العلة التامة، وهو مجموع ما يستلزم الحكم.. ويعبر به عن المقتضي للحكم، الذى يتوقف اقتضاؤه على ثبوت الشروط وانتفاء   1 - العين 1/88، وانظر: الصحاح 5/1773، معجم مقاييس اللغة 4/13 - 14، لسان العرب 11/471. 2 - معجم مقاييس اللغة 4/12. 3 - انظر: لسان العرب 11/471. 4 - أخرجه البيهقي في الكبرى في جماع أبواب فضل الجماعة، باب ما جاء من التشديد في ترك الجماعة 3/56، ح 4715، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة 1/150، ح 549، والحديث بنحوه مخرج في الصحيحين من غير لفظ علة. 5 - انظر: المعجم الفلسفي للدكتور صليبا 2/95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 الموانع"1. فالعلة التامة يجب ثبوت الحكم بها، أما العلة بالمعنى الثاني فيتوقف ثبوت الحكم على وجود الشروط وانتفاء الموانع. وهذا المعنى الثاني قد يعبر عنه بلفظ السبب2. فالعلة قد ترادف السبب، إلا أنها قد تغايره، فيراد بالعلة المؤثر، وبالسبب ما يفضي إلى الشيء في الجملة، أو ما يكون باعثاً عليه، وقيل السبب ما يتوصل به إلى الحكم من غير أن يثبت به، أما العلة فهي ما يثبت به الحكم3. 3 - معنى العلة في اصطلاح الفلاسفة: العلة مصطلح فلسفي، ذكره الفلاسفة المتقدمون أمثال أرسطو، وقد تلقف هذا المصطلح الفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام، كابن سينا، والفارابي، وغيرهم، وتناولوه بالشرح والإضافة. يقول ابن سينا: "حد العلة هي كل ذات وجود ذات آخر بالفعل، من وجود هذا بالفعل، ووجود هذا بالفعل، ليس من وجود ذلك بالفعل"4. ودخلت تعريفات أهل الفلسفة للعلة إلى كتب المتأخرين من المتكلمين، فنجد الرازي يحد العلة بحد يجمع أنواعها فيقول: "العلة ما يحتاج إليه الشيء في حقيقته، أو وجوده"5. وينتقد الرازي تعريف ابن سينا بأنه لا يتناول إلا العلة الفاعلية، قال: "فإن تكلفنا حتى أدخلنا العلة الغائية والصورية، فالعلة المادية على كل حال خارجة عنه"6. ويقول التفتازاني: "العلة ما يحتاج إليه الشيء، وإن كان إطلاقها ينصرف إلى ما يصدر عنه الشيء"7. ومعظم الفلاسفة المنتسبين للإسلام كالكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد يفضلون استعمال لفظ العلة على لفظ السبب، أما الغزالي وعلماء الكلام فإنهم يستعملون لفظ السبب   1 - مجموع الفتاوى 18/273، وانظر:21/356من المرجع نفسه. 2 - المرجع السابق 21/356. 3 - انظر: المعجم الفلسفي للدكتور صليبا 2/96، التعريفات ص155. 4 - الحدود لابن سينا ضمن كتاب المصطلح الفلسفي ص260، وانظر: معيار العلم ص283. 5 - المباحث المشرقية 1/586. 6 - المرجع السابق 1/586. 7 - شرح المقاصد 2/77، وانظر: الصحايف الإلهية ص 131، التعريفات ص199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 للدلالة على العلة1. بينما نجد المتأخرين من المتكلمين كالرازي، والتفتازاني، ونحوهم قد تابعوا الفلاسفة في استخدام لفظ العلة. 4 - أقسام العلة: العلة عند أرسطو أربعة أقسام: العلة المادية، والعلة الصورية، والعلة الفاعلة، والعلة الغائية2. وهناك من قسم العلة إلى تامة، وناقصة. والعلة الناقصة إلى علة الماهية وعلة الوجود. والعلة الماهية تنقسم إلى العلة المادية، والعلة الصورية. وعلة الوجود تنقسم إلى العلة الفاعلية والعلة الغائية3. وفيما يلي التعريف بهذه الأنواع: "1" - العلة التامة: العلة التامة جميع ما يحتاج إليه الشيء، سواء كان هو الفاعل وحده، أو مع الغاية، أو مع غيرها4. "2" - العلة الناقصة: العلة غير التامة أو الناقصة هي بعض ما يحتاج إليه الشيء5، وهي تنقسم إلى قسمين: 1 - علة الماهية: وهي جزء لذلك الشيء، وهي ما يكون بها الشيء بالقوة أو الفعل، وتنقسم إلى العلة المادية، والعلة الصورية6. أ - العلة المادية: العلة المادية هي ما به الشيء بالقوة كالخشب للسرير7. وقال الرازي: "وعلة مادية وهي الجزء الذي لا يجب عند حصوله الشيء، بل إمكان حصوله"8. وقد يسمى العلة القابلية9.   1 - انظر: المعجم الفلسفي للدكتور صليبا 2/96. 2 - انظر: المرجع السابق 2/96. 3 - انظر هذه التقسيمات في النجاة 2/62، الصحايف الإلهية ص139. 4 - انظر: شرح المقاصد 2/80 - 81، التعريفات ص199. 5 - انظر: شرح المقاصد 2/81، التعريفات للجرجاني ص199 - 200. 6 - انظر: النجاة 2/62، معيار العلم ص319 - 320، الصحايف الإلهية ص131 - 132، شرح المقاصد 2/78. 7 - انظر: النجاة 2/62، الصحايف الإلهية ص139. 8 - المباحث المشرقية 1/586. 9 - انظر: معيار العلم ص319 - 320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 ب - العلة الصورية: العلة الصورية هي جزء يصير الكل به بالفعل؛ كالصورة السريرية للسرير1. وقال الرازي: "علة صورية وهي جزء الشيء الذي يجب عند حصوله الشيء"2. 2 - علة الوجود: وهي ليست جزءاً من الشيء، بل خارجة عنه، وتنقسم إلى العلة الفاعلية، والعلة الغائية3. أ - العلة الفاعلية: العلة الفاعلية هي ما به وجود الشيء4. وقال الرازي:"وعلة فاعلية وهي التي تكون سببا لحصول شيء آخر"5. وقال الآمدي: "فأما العلة الفاعلية فعبارة عما وجود غيره مستفاد من وجوده، ووجوده غير مستفاد من وجود ذلك الغير؛ كالنجار بالنسبة إلى السرير"6. ب - العلة الغائية: العلة الغائية هي ما لأجله الإيجاد، وهي علة بماهيتها إذ تقدمها إنما يكون في العقل، ومعلولة بوجودها؛ إذ وجودها يتوقف على تحقق المعلول7. "3" - العلة الأولى: العلة الأولى هي العلة التي لا علة لها، أو علة العلل، أو العلة النهائية، أو علة لكل وجود، ولعلة حقيقة كل وجود في الوجود8. وهي المبدأ الأول عندهم، وهو الله - سبحانه -، والعلة الأولى عند ابن سينا وأتباعه هي علة فاعلية، أما أرسطو فقد أثبت العلة الأولى كعلة غائية يتحرك الفلك للتشبه بها، فلم يثبت علة فاعلية9.   1 - انظر: النجاة 2/62، الصحايف الإلهية ص140. 2 - المباحث المشرقية 1/586. 3 - انظر: النجاة 2/62، معيار العلم ص319 - 320، الصحايف الإلهية ص131 - 132، شرح المقاصد 2/78. 4 - انظر: النجاة 2/62، الصحايف الإلهية ص133. 5 - المباحث المشرقية 1/586. 6 - المبين ص117. 7 - انظر: النجاة 2/62، الصحايف الإلهية ص141، المباحث المشرقية 1/586. 8 - انظر: الإشارات والتنبيهات 2/18، المعجم الفلسفي للدكتور صليبا 2/97. 9 - انظر على سبيل المثال: الصفدية 1/85، 2/159، مجموع الفتاوى 9/135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وحيث يذكر لفظ العلة مطلقاً يراد به الفاعلية، ويذكر البواقي بأوصافها1. 5 - معنى المعلول عند الفلاسفة والمتكلمين: المعلول هو كل ذات وجوده بالفعل من وجود غيره، ووجود ذلك الغير ليس من وجوده2. وقيل: المعلول ما يحتاج إلى الشيء3. 6 - نقد أهل السنة لعقيدة الفلاسفة في العلة: يتركز موقف أهل السنة في الإنكار على الفلاسفة في معنى العلة عندهم، وقولهم بأن الله هو العلة الأولى، وأن العالم معلول لعلة أزلية تامة، ومن الوجوه التي رد بها أهل السنة على الفلاسفة ما يلي: أولاً: أن قولهم بالعلة التامة القديمة باطل، لأن العلة التامة القديمة يمتنع أن يحدث عنها شيء، فإنه يجب مقارنة معلولها لها في الأزل، والحادث ليس بمقارن لها في الأزل، وإذا قيل حدث عنها بحدوث الاستعداد والشرائط، قيل الكلام في كل ما يقدر حدوثه عن علة تامة مستلزمة لمعلولها، فإن حدوث حادث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها محال، وهذا الإلزام صحيح لا محيد للفلاسفة عنه. وإذا قالوا حدث عنها أمور متسلسلة، واحد بعد واحد، قيل لهم الأمور المتسلسلة يمتنع أن تكون صادرة عن علة تامة؛ لأن العلة التامة القديمة، تستلزم معلولها، فيكون معها في الأزل، والحوادث المتسلسلة ليست معها في الأزل4. ثانياً: أن العلة الأولى التي يثبتها أرسطو لهذا العالم، إنما هي علة غائية، يتحرك الفلك للتشبه بها، وتحريكها للفلك من جنس تحريك الإمام المقتدى به للمؤتم المقتدي، ولفظ الإله في لغتهم يراد به المتبوع، والإمام الذي يتشبه به، فالفلك عندهم يتحرك للتشبه بالإله، ولهذا جعلوا الفلسفة العليا، والحكمة الأولى، إنما هي التشبه بالإله على قدر الطاقة. وهذا القول من أعظم   1 - انظر: الصحايف الإلهية ص132، شرح المقاصد 2/78. 2 - انظر: الحدود لابن سينا ص260 - 261، معيار العلم ص283. 3 - انظر: شرح المقاصد 2/78. 4 - انظر: درء التعارض 1/335، الصفدية 1/85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الأقوال كفراً، وضلالاً، ومخالفةً لما عليه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين، ولهذا عدل متأخرو الفلاسفة عنه، وادعوا موجِباً، وموجَباً، كما زعمه ابن سينا وأمثاله1. ثالثاً: إذا كان الصانع قديماً، وعلة تامة أزلية، لزم ألا يتأخر عنه شيء من معلوله، كما ذكروا، لأن المتأخر إن كان قد وجدت علته التامة في الأزل؛ لزم أن يكون أزلياً لا يتأخر، وإن لم يوجد فقد وجدت علته التامة بعد أن لم تكن. ثم القول في علة تلك العلة، كالقول في العلة التي هي معلول هذه، فيلزم ألا يكون لشيء من الحوادث علة تامة في الأزل، وهذا لازم لقولهم لا محيد عنه، فلا يكون لشيء من الحوادث فاعل، ولا محدث، وهذا غاية الجهل، والتعطيل، والسفسطة، وهم يعترفون بفساده. وإن كان المبدع، العلة التامة الأزلية، قد صدرت عنه الحوادث المتعاقبة، فهذا جمع بين النقيضين، إذ العلة التامة يقارنها معلولها ولا يتأخر عنها2. رابعاً: قول الفلاسفة أن النفوس والعقول معلولة له، ومتولدة عنه، أعظم كفراً من قول من قال من مشركي العرب أن الملائكة بنات الله، قال الله - تعالى -: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام - 100] وهؤلاء المتفلسفة يقولون العقل بمنزلة الذكر، والنفس بمنزلة الأنثى، وكلاهما متولد عن الله - تعالى -، وأولئك كانوا يقولون إنه خلق الملائكة بمشيئته وقدرته، وأنه هو رب السماوات والأرض، وأما هؤلاء فيقولون إن العقول التي يسميها من يتظاهر بالإسلام منهم ملائكة، يقولون إنها معلولة متولدة عن الله، لم يخلقها بمشيئته وقدرته، ويقولون إنها هي رب العالم، فالعقل الأول أبدع كل ما سوى الله عندهم، والثاني أبدع ما سوى الله وسوى العقل الأول، حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر الفعال، المتعلق بفلك القمر، فيقولون إنه أبدع ما تحت الفلك، فهو عندهم المبدع لما تحت السماء، من هواء وسحاب وجبال وحيوان ونبات ومعدن، ومنه يفيض الوحي والعلم على الأنبياء وغيرهم3.   1 - انظر: مجموع الفتاوى 12/329، منهاج السنة1/236. 2 - انظر: الصفدية 1/18 - 20بتصرف، منهاج السنة النبوية 1/148. 3 - انظر: الصفدية 1/8 - 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 خامساً: أن الذي أخبرت به الرسل، ودلت عليه العقول، واتفق عليه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين، أن الله خالق كل شيء، وأن كل ما سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث مسبوق بالعدم، وأما تغيير هولاء للفظ المحدث، وقولهم إنا نقول إنه محدث حدوثاً ذاتياً، بمعنى أنه معلول، فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، فإن المحدث معلوم أنه قد كان بعد أن لم يكن، وأنه مفعول أحدثه محدث إحداثاً. وما لم يزل ولا يزال فلا يسميه أحد من العقلاء في لغة من اللغات محدثاً1. سادساً: أن ما يذكرونه من اقتران المعلول بعلته، فإذا أريد بالعلة ما يكون مبدعاً للمعلول، فهذا باطل بصريح العقل، وبهذا تقر جميع الفطر السليمة، فالإقرار بأنه خالق كل شيء يوجب أن يكون كل ما سواه محدثاً مسبوقاً بالعدم. وإن قدر دوام الخالقية لمخلوق بعد مخلوق، فهذا لا ينافي أن يكون خالقاً لكل شيء، وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم. وأما إذا أريد بالعلة ما ليس كذلك كما يمثلون به من حركة الخاتم بحركة اليد، وحصول الشعاع عن الشمس، فليس هذا من باب الفاعل في شيء، بل هو من باب المشروط، والشرط قد يقارن المشروط، وأما الفاعل فيمتنع أن يقارنه مفعوله المعين، وإن لم يمتنع أن يكون فاعلاً لشيء بعد شيء2. سابعاً: أن العلة أصلها التغيير كالمرض الذي يحيل البدن عن صحته، والعليل ضد الصحيح، وقد قيل إنه لا يقال معلول إلا في الشرب، يقال شرب الماء علاً بعد نهل، وعللته إذا سقيته مرة ثانية، ولم يرد في لغة العرب المعنى الذي يذكره الفلاسفة للعلة والمعلول3. وبهذا يتبين ما يعنيه الفلاسفة بلفظ العلة والمعلول، ومقارنة المعلول لعلته، وأنهم يريدون بذلك أن العالم قديم أزلي، وهذا ينفي الخالق، والردود السابقة تبين شيئاً من ضلالهم، وباطلهم.   1 - انظر: الرد على المنطقيين 381. 2 - انظر: المرجع السابق ص147 - 149. 3 - انظر: مجموع الفتاوى 4/133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 العقل 1 - معنى العقل في اللغة: يقول الخليل في معنى العقل: "العقل نقيض الجهل، عقل يعقل عقلاً فهو عاقل، والمعقول ما تعقله في فؤادك.. وعقل بطن المريض بعدما استطلق، استمسك، وعقل المعتوه ونحوه، والصبي، إذا أدرك وزكا، وعقلت البعير عقلاً، شددت يده بالعقال أي الرباط.. وعقلت القتيل عقلاً، أي وديت ديته من القرابة لا من القاتل..والعقل في الرجل اصطكاك الركبتين، وقيل التواء في الرجل، والعقل ثوب تتخذه نساء الأعراب.. ويقال هي ضربان من البرود.. والعقل الحصن وجمعه العقول"1. وقال ابن فارس عن العقل:" وهو الحابس عن ذميم القول والفعل"2. وقال الجوهري: "العقل الحجر والنهى ضد الحمق..رجل عاقل وهو الجامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه، وقيل العاقل الذي يحبس نفسه، ويردها عن هواها، أخذ من قولهم قد اعتقل لسانه، إذا حبس ومنع الكلام..والعقل التثبت في الأمور، والعقل القلب..وعقل الشيء يعقله عقلاً فهمه..والعقل ضرب من المشط، يقال عقلت المرأة شعرها عقلاً"3. فالعقل إذاً يدل على الحبس والمنع والإمساك.   1 - العين1/159 - 160، وانظر: معجم مقاييس اللغة 4/69 - 70، الصحاح5/1769 - 1771. 2 - معجم مقاييس اللغة 4/69. 3 - الصحاح5/1769 - 1771، وانظر: لسان العرب11/458 - 465، المصباح المنير 2/422 - 423. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 2 - معنى العقل في الشرع: لم يرد لفظ العقل في القرآن، وإنما ورد الفعل منه نحو يعقلون، وتعقلون، قال - تعالى -: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت - 43] ، وفي القرآن الأسماء المتضمنة له كاسم الحجر والنهى والألباب ونحو ذلك. وكذلك في الحديث لا يكاد يوجد لفظ المصدر في كلام النبي، في حديث صحيح، إلا الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: "خرج رسول الله في أضحى، أو فطر، إلى المصلى فمر على النساء فقال: "يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار"، فقلن: وبم يا رسول الله؟ فقال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل، ودين، أذهب للب الرجل الحازم، من إحداكن" 1. وورد العقل في السنة بمعنى الدية، وبمعنى الإمساك، والربط، وهذا ليس هو محل البحث، بل محل البحث هو لفظ العقل الوارد في الحديث السابق. وقد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - بعض التعريفات للعقل ثم بين القول الصواب حيث يقول: "من الناس من يقول العقل هو علوم ضرورية، ومنهم من يقول العقل هو العمل بموجب تلك العلوم، والصحيح أن اسم العقل يتناول هذا وهذا، وقد يراد بالعقل نفس الغريزة التي في الإنسان، التي بها يعلم، ويميز، ويقصد المنافع دون المضار"2. وعلى هذا فتعريف لفظ العقل هو أنه لفظ يراد به الغريزة التي بها يعلم، ويراد به أنواع من العلم، ويراد به العمل بموجب ذلك العلم.   1 - انظر: بغية المرتاد ص 248 - 249. والحديث أخرجه البخاري في كتاب الحيض باب ترك الحائض الصوم 1/114، ح 304، وبنحوه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات 1/86، ح 79. 2 - مجموع الفتاوى 9/287، وانظر: بغية المرتاد ص251، الصفدية2/257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 3 - معنى العقل في اصطلاح المتكلمين: يقتصر المتكلمون في تعريفهم للعقل على أحد معانيه، فيقول الجويني: "العقل علوم ضرورية"1، وقال القاضي عبد الجبار: "العقل هو عبارة عن علوم مخصوصة"2، وقال الرازي عن العقل أنه: "عبارة عن علوم كلية بديهية"3. وقال أيضا: "العقل هو التصورات والتصديقات الحاصلة للنفس بالفطرة"4، وهذا بمعنى التعريف السابق إلا أنه بألفاظ الفلاسفة. وقد وافق الرازي الفلاسفة في شرحه لأنواع العقول وتعدادها بل ورد على من يخالف ذلك، مخالفاً بذلك أئمة المتكلمين قبله. وهو كما قال شيخ الإسلام: "وكثير من الناس تجده تارة مع أهل الكلام، وتارة مع أهل الفلسفة؛ كالرازي، والآمدي، وغيرهما"5. وتعريف المتكلمين للعقل فيه نقص، فهو يقتصر على تعريف العقل بأنه علوم ضرورية، والعقل كما سبق غريزة بها يعلم، كما أنه العمل بالعلم، بالإضافة إلى كونه علوم ضرورية. 4 - العقل في اصطلاح الفلاسفة: اسم العقل عند الفلاسفة يطلق على ثمانية معان مختلفة: أحدها: العقل الذي هو التصورات، والتصديقات، الحاصلة للنفس بالفطرة. وهذا المعنى هو الذي حد المتكلمون العقل به. الثاني: العقل النظري، وهو قوة للنفس تقبل ماهيات الأمور الكلية، من جهة ما هي كلية. الثالث: العقل العملي، وهو قوة للنفس هي مبدأ لتحريك القوة الشوقية، إلى ما يختار من الجزئيات، من أجل غاية معلومة، أو مظنونة. وهذه قوة محركة، وليست من جنس العلوم، وإنما سميت عقلية لأنها مؤتمرة للعقل، مطيعة لإشاراته بالطبع.   1 - الإرشادص15، وانظر: المواقف ص146. 2 - المغني 11/375. 3 - المحصل ص104. 4 - المباحث المشرقية1/366. 5 - الصفدية 1/238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ثم يقال لقوى كثيرة من العقل النظري عقل؛ فمن ذلك العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد، والعقول الفعالة. الرابع: العقل الهيولاني، وهو قوة للنفس، مستعدة لقبول ماهيات الأشياء، مجردة عن المواد، وبها يفارق الصبي الفرس وسائر الحيوانات، لا بعلم حاصر، ولا بقوة قريبة من العلم. وهي المرتبة الأولى للنفس الإنسانية، التي يسمونها الناطقة. الخامس: العقل بالملكة، وهو استكمال العقل الهيولاني، حتى يصير بالقوة القريبة من الفعل، كما في الصبي عندما ينتهي إلى حد التمييز. وهي المرتبة الثانية للنفس الناطقة. السادس: العقل بالفعل، وهو استكمال للنفس بصورة ما، أي صورة معقولة، حتى متى شاء عقلها، أو أحضرها بالفعل. وهي المرتبة الثالثة للنفس الناطقة. السابع: العقل المستفاد، وهو ماهية مجردة عن المادة، مرتسمة في النفس على سبيل الحصول من خارج. وذلك بأن تكون المعلومات حاضرة في ذهنه، وهو يطالعها ويلابس التأمل فيها، وهو العلم الموجود بالفعل، الحاضر، وهي المرتبة الرابعة للنفس الناطقة1. فالعقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد، هي مراحل العقل للنفس الإنسانية التي يسمونها الناطقة، وهي عبارة عن قوة للنفس وقدرة على تصور الأشياء تبدأ من مجرد مفارقة الإنسان للحيوان، ثم تترقى إلى أن تصل إلى وجود المعلومات في الذهن والقدرة على تأملها ومطالعتها. وأما العقل العملي فهو القوة التي تحرك نحو الاختيار والعمل بأمر العقل النظري. الثامن: العقل الفعال، وهو نمط آخر، وهو كل ماهية مجردة عن المادة أصلاً. وحده من جهة ما هو عقل أنه جوهر صوري، ذاته ماهية مجردة في ذاتها - لا بتجريد غيرها لها - عن المادة، وعن علائق المادة، بل هي ماهية كلية موجودة.   1 - انظر: الحدود لابن سينا ضمن المصطلح الفلسفي للدكتور الأعسم ص240 - 241، معيار العلم 277 - 279، موسوعة مصطلحات جامع العلوم ص600 - 601. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وحده من جهة ما هو فعال أنه جوهر بالصفة المذكورة، من شأنه أن يخرج العقل الهيولاني من القوة إلى الفعل، بإشرافه عليه1. والعقول الفعالة هي العقول المفارقة. والموجودات عند الفلاسفة ثلاثة أقسام: أجسام وهي أخسها، وعقول فعالة وهي أشرفها؛ لبراءتها عن المادة وعلاقة المادة، حتى إنها لا تحرك المواد أيضاً إلا بالشوق، وأوسطها النفوس وهي تنفعل من العقل، وتفعل في الأجسام، وهي واسطة، ويعنون بالملائكة السماوية نفوس الأفلاك؛ فإنها حية عندهم، وبالملائكة المقربين، العقول الفعالة2، وهي العقول المجردة التي هي جواهر قائمة بأنفسها، لا تتحيز ولا تتصرف في الأجسام، والصور الجزئية تفيض على النفوس السماوية منها3. العقل الكلي: هو المعنى المعقول، المقول على كثيرين مختلفين بالعدد، من العقول التي لأشخاص الناس، فلا وجود له في القوام، بل في التصور. عقل الكل: يقال لمعنيين، لأجل أن الكل يقال لمعنيين: أحدهما: جملة العالم، والثاني: الجرم الأقصى، أي الفلك التاسع الذي يدور في اليوم والليلة، فيتحرك كل ما هو حشوه من السماوات كلها، فيقال لجرمه جرم الكل، ولحركته حركة الكل، وهو المراد بالعرش عندهم. فعقل الكل باعتبار المعنى الأول، هو جملة الذوات المجردة عن المادة من جميع الجهات، التي لا تتحرك لا بالذات، ولا بالعرض، ولا تحرك إلا بالشوق. وآخر رتبة هذه الجملة، هو العقل الفعال، المخرج للنفس الإنسانية، في العلوم العقلية، من القوة إلى الفعل4. وهم يقولون إن المبدأ لجميع الحوادث في هذا العالم إنما هو العقل الفعال5.   1 - انظر: الحدود لابن سينا ضمن المصطلح الفلسفي للدكتور الأعسم ص240 - 241، معيار العلم 277 - 279، موسوعة مصطلحات جامع العلوم ص600 - 601. 2 - انظر: معيار العلم ص 281 - 282. 3 - انظر: تهافت الفلاسفة ص142. 4 - انظر: الحدود لابن سينا ضمن المصطلح الفلسفي للدكتور الأعسم ص242 - 243، معيار العلم ص282 - 283. 5 - انظر: شرح الإشارات للرازي 1/186، نقلا عن موسوعة مصطلحات الرازي ص461. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وعقل الكل باعتبار المعنى الثاني، فهو العقل الذي هو جوهر، مجرد عن المادة من كل الجهات، وهو المحرك بحركة الكل على سبيل التشويق لنفسه، ووجوده أول وجود مستفاد عن الموجود الأول1. وهم يقولون عن الله بأنه عقل وعاقل ومعقول، فهو عقل لأنه واجب الوجود، مجرد عن المادة، وعوارض المادة. وبما يعتبر له من أن هويته المجردة لذاته، فهو معقول لذاته، وبما يعتبر له من أن ذاته لها هوية مجردة، هو عاقل ذاته2. فالله - عند الفلاسفة - عقل، صدر عنه عقل الكل وهو العقل الأول، وهو جوهر مجرد عن المادة، وهو المحرك بالحركة الشوقية. وهناك عقول أخرى تسمى عقل الكل، وهي العقول الفعالة، وهي الملائكة المقربون، وهي جواهر مجردة عن المادة، وهي تتحرك بالشوق. وعدد العقول بعد المبدأ الأول عشرة، وهو المشهور، وقيل أحد عشر، وذهب المعلم الأول إلى أنها خمسون3. 5 - الرد على الفلاسفة: تقسيم الفلاسفة للعقول بهذه الطريقة هو اصطلاح لهم بعباراتهم وهو غير ملزم، وإنما نناقشهم فيما اخطأوا فيه، أما تعريف العقل بأنه التصورات والتصديقات، فكما سلف هذا تعريف ناقص، فالعقل غريزة بها يعلم، وهي كذلك العلوم الضرورية، كما أنه العمل بالعلم. وأما قول الفلاسفة في العقول الفعالة المفارقة، وإطلاقهم لفظ العقل على الله - تعالى -، وتسمية النفس البشرية عقلاً، فباطل من وجوه: الأول: أن العقل في الكتاب، والسنة، وكلام الصحابة، والأئمة، ليس ملكاً من الملائكة، ولا جوهراً قائماً بنفسه بل هو العقل الذي في الإنسان. ولم يسم أحد من المسلمين قط   1 - انظر: الحدود لابن سينا ضمن المصطلح الفلسفي للدكتور الأعسم ص242 - 243، معيار العلم ص282 - 283. 2 - انظر: النجاة 2/99. 3 - انظر: تهافت الفلاسفة ص89، المطالب العالية 7/383، موسوعة مصطلحات جامع العلوم ص599. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 أحداً من الملائكة عقلاً، ولا نفس الإنسان الناطقة عقلاً بل هذه من لغة اليونان، ومن المعلوم أن حمل كلام رسول الله، أو كلام الله - تعالى - على ما لا يوجد في لغته التي خاطب بها أمته، ولا في لغة أمته، وإنما يوجد في لغة أمة لم يخاطبهم بلغتهم1، أمر باطل. الثاني: أن هؤلاء المتفلسفة يقولون إن العقول، التي يسميها من يتظاهر بالإسلام منهم ملائكة، يقولون إنها معلولة، متولدة، عن الله، لم يخلقها بمشيئته وقدرته، ويقولون إنها هي رب العالم، فالعقل الأول أبدع كل ما سوى الله عندهم، والثاني أبدع ما سوى الله وسوى العقل الأول، حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر الفعال، المتعلق بفلك القمر، فيقولون إنه أبدع ما تحت الفلك، فهو عندهم المبدع لما تحت السماء من هواء، وسحاب، وجبال، وحيوان، ونبات، ومعدن، ومنه يفيض الوحي، والعلم، على الأنبياء وغيرهم، وهذا من أعظم الأقوال منافاة لأقوال الرسل، وهو من أعظم الكفر في دين الله2. الثالث: أن ما يدعونه من المجردات، والمفارقات؛ كالعقول، والنفوس، إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان3. فما تدعي الفلاسفة إثباته من الجواهر العقلية، لا حقيقة لها في الخارج، وإنما هي أمور معقولة في الذهن، يجردها العقل من الأمور المعينة، كما يجرد العقل الكليات المشتركة بين الأصناف، كالحيوانية الكلية، والإنسانية الكلية، والكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان4. وهذا يفضي إلى إنكار وجود الملائكة. الرابع: أن إطلاقهم على الله لفظ العقل، إطلاق مبتدع، وهو يحمل معنى باطل، لأنه يتضمن نفي صفات الله - تعالى -، بل نفي وجوده.   1 - انظر: بغية المرتاد ص251 - 261، مجموع الفتاوى9/271. 2 - انظر: الصفدية 1/8 - 9، 2/251 - 252، بغية المرتاد ص357، منهاج السنة1/342. 3 - انظر: الرد على المنطقيين ص278، الصفدية1/243. 4 - انظر: مجموع الفتاوى17/328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 النفس 1 - معنى النفس في اللغة: قال الخليل: "النَّفْس وجمعها النفوس لها معان: النفس الروح الذي به حياة الجسد، وكل إنسان نفس، حتى آدم - عليه السلام -، الذكر والأنثى سواء. وكل شيء بعينه نفس، ورجل له نفْس أي خلق وجلادة وسخاء، والنَّفَس التنفس أي خروج النسيم من الجوف، وشربت الماء بنفس وثلاثة أنفاس، وكل مستراح منه نفَس، وشيء نفيس متنافس فيه، ونفست به علي نفساً، ونفاسة، ضننت، ونَفُس الشيء نفاسة أي صار نفيساً"1. فالنفس في اللغة الروح، والنفس الدم، والجسد، والعين، ونفس الشيء عينه، وذاته، يؤكد به، يقال رأيت فلاناً نفسه، وجاءني بنفسه2. 2 - معنى النفس في الشرع: ورد لفظ النفس في كتاب الله - تعالى - في عدة مواضع، فورد بمعنى الروح كما في قوله - تعالى -: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ} [الأنعام - 93] ، فالنفس هنا بمعنى الروح3، كما جاءت النفس بمعنى الذات، قال - تعالى -: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة - 235] ، وقال - تعالى -: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة - 116] ، وقال: {وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران - 28] ، فالنفس هنا بمعنى الذات4، قال شيخ الإسلام: "ومعلوم أن نفس الله، التي هي ذاته المقدسة، الموصوفة بصفات الكمال، ليست مثل نفس أحد من المخلوقين، وقد ذهب طائفة من المنتسبين إلى السنة، من أهل الحديث، وغيرهم، وفيهم طائفة من أصحاب الشافعي،   1 - العين 7/270 - 271. 2 - انظر: الصحاح 3/984، لسان العرب 6/233 - 234. 3 - انظر: المفردات ص818. 4 - انظر: المرجع السابق نفس الصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وأحمد، وغيرهما، إلى أن النفس صفة من الصفات، والصواب أنها ليست صفة، بل نفس الله هي ذاته - سبحانه -، الموصوفة بصفاته - سبحانه -"1. وفي السنة ورد لفظ النفس كثيراً بمعنى الذات، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين الإسلام كاذباً فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر في شيء لا يملكه" 2. كما ورد لفظ النفس بمعنى الروح3، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره؟ " قالوا: بلى، قال: "فذلك حين يتبع بصره نفسه" 4. كما جاءت النفس بمعنى العين، ففي الحديث أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا محمد اشتكيت فقال: "نعم"، قال: "باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك" 5، قال النووي - رحمه الله -: "وقوله: "من شر كل نفس"، قيل يحتمل أن المراد بالنفس نفس الآدمي، وقيل يحتمل أن المراد بها العين، فإن النفس تطلق على العين، ويقال رجل نفوس إذا كان يصيب الناس بعينه، كما قال في الرواية الأخرى "من شر كل ذي عين" 6، ويكون قوله "أو عين حاسد" من باب التوكيد بلفظ مختلف، أو شك من الراوي في لفظه والله أعلم"7. فالنفس في الشرع جاءت بمعانيها في اللغة.   1 - درء التعارض 10/308. 2 - أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه 1/104، ح 110، وبنحوه البخاري في كتاب الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن4/99، ح 6047. 3 - انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 6/224. 4 - أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب في شخوص بصر الميت يتبع نفسه 2/635، ح 921. 5 - أخرجه مسلم في كتاب السلام باب الطب والمرض والرقى4/1718، ح 2186. 6 - أخرجه مسلم في كتاب السلام باب الطب والمرض والرقى4/1718، ح 2185. 7 - شرح النووي على صحيح مسلم 14/170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 3 - معنى النفس في اصطلاح الفلاسفة: يقول ابن سينا: "النفس اسم مشترك، يقع على معنى يشترك فيه الإنسان، والحيوان، والنبات، وعلى معنى يشترك فيه الإنسان، والملائكة. فحد المعنى الأول أنه كمال جسم طبيعي، آلي، ذي حياة بالقوة. وحد النفس بالمعنى الآخر أنه جوهر غير جسم هو كمال محرك له بالاختيار، عن مبدأ نطقي - أي عقلي - بالفعل، أو بالقوة، والذي بالقوة هو فصل النفس الإنسانية، والذي بالفعل هو فصل، أو خاصة، للنفس الملاكية"1. ومن خلال هذا التعريف يتضح أن النفس عند الفلاسفة تطلق على أمرين: "الجوهر المفارق عن المادة في ذاته دون فعله، وهو على قسمين: نفس فلكية، ونفس إنسانية. وعلى ما ليس بمجرد بل قوة مادية، وهو على قسمين أيضاً: نفس نباتية، ونفس حيوانية"2. والنفس الكلية هي المعنى المقول على كثيرين مختلفين بالعدد في جواب ما هو، التي كل واحد منها نفس خاصة لشخص. ونفس الكل هي جملة الجواهر غير الجسمانية، التي هي كمالات مدبرة للأجسام السماوية، المحركة لها على سبيل الاختيار العقلي. ونفس الكل هو مبدأ قريب لوجود الأجسام الطبيعية، ومرتبته في نيل الوجود بعد مرتبة عقل الكل، ووجوده فائض عنه3، وهي الملائكة السماوية4. ويوضح ذلك أن النفس الإنسانية، وهي التي يسمونها النفس الناطقة، مقارنة للمادة في أفعالها، يعني لا تفعل إلا إذا كانت في المادة، ولكنها مجردة عنها في ذاتها - كما يرون -5. وكذلك النفس الفلكية عندهم أنها مجردة عن المادة في ذاتها، ولكن لا تفعل إلا بواسطة   1 - الحدود ضمن كتاب المصطلح الفلسفي ص241 - 242، وانظر: معيار العلم ص280. 2 - كشاف اصطلاحات الفنون 2/1397. 3 - انظر: الحدود لابن سينا ضمن كتاب المصطلح الفلسفي ص243، معيار العلم ص283. 4 - انظر: معيار العلم ص 282. 5 - انظر: موسوعة مصطلحات جامع العلوم ص943. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 أجسامها من الأفلاك، قالوا: كل نفس فإنما جعلت خاصة بجسم، بسبب أن فعلها بذلك الجسم وفيه1. فالنفوس عند من يثبتها من المتفلسفة لا تفارق الأجسام، بل النفس عندهملا بد أن تكون متعلقة بالجسم، تعلق التدبير والتصريف، وما دامت نفس الإنسان مدبرة لبدنه، سموها نفساً، فإذا فارقت سموها عقلاً؛ لأن العقل عندهم هو المجرد عن المادة، وعن علائق المادة، وأما النفس فهي المتعلقة بالبدن، تعلق التدبير والتصريف، وقد تنازعوا في النفس الفلكية، هل هي جوهر، أو عرض؟ على قولين أحدهما: أنها أعراض قائمة بالفلك، كالقوة الشهوية، والغضبية، وهذا قول أكثر أتباع أرسطو، والثاني: أنها جواهر قائمة بأنفسها كالنفس الناطقة، وإليه يميل ابن سينا وغيره2. والمشهور عندهم أن النفوس الفلكية بعدد الأفلاك، فهي تسعة3. 4 - الرد على الفلاسفة: الحق أن تلك الآراء التي قال بها الفلاسفة، في العقول، والنفوس، ما هي إلا امتداد للوثنية القديمة عند اليونان، والتي ترى أن الكواكب أجسام سماوية، وأن لها نفوساً تحركها، وأن لحركاتها تأثيراً في نفوسنا، وأجسامنا، وكل كوكب يعتبر إلهاً عندهم4. ففلاسفة اليونان شرحوا تلك الوثنيات بطريقة فلسفية، تلقفها من بعدهم بعض المنتسبين للإسلام كابن سينا والفارابي وأمثالهم. وقول الفلاسفة في النفوس باطل من وجوه عدة منها: أولاً: أن هذا التفسير للفظ النفس لم يرد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في كلام الصحابة والتابعين، بل جاء لفظ النفس في الشرع بمعنى الروح، وبمعنى العين، والذات، ولم يرد إطلاق النفس على الملائكة فضلاً عن المعنى الذي ذكروه.   1 - انظر: النجاة 2/138، 119، شرح المقاصد 3/316. 2 - انظر: الصفدية 1/34، 2/252 - 253، درء التعارض 1/35، مجموع الفتاوى 9/273. 3 - انظر: تهافت الفلاسفة ص70. 4 - انظر: مقدمة بغية المرتاد للدكتور موسى بن سليمان الدويش ص103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ثانياً: قولهم بأن النفوس الفلكية هي التي تدبر الأجسام السماوية، وأنها مبدأ قريب للأجسام الطبيعية، قول فاسد، وهو من الشرك في الربوبية، إذ المتفرد بتدبير الخلق، وإيجادهم هو الله وحده. ثالثاً: أنهم يقولون إن جميع الحوادث مستندة إلى حركة النفس الفلكية، ويقولون إنالنفس الفلكية تعلم جزئيات حركات الفلك، بل ادعى ابن سينا ومن اتبعه أنها تعلم جميع الحوادث؛ لعلمها بأسبابها؛ لأن سببها هو الحركة الفلكية1. واعتقادهم أن النفوس الفلكية عالمة بما يجري من حوادث قول باطل، فالنفوس الفلكية عندهم هي الملائكة، ولا تفعل إلا من خلال حلولها في الأفلاك السماوية، ومعلوم أن الملائكة خلق مسخر من خلق الله، وكل منهم موكل بعمل من الأعمال، وهي لا تعلم جميع ما يقع من حوادث بل لا تعلم إلا ما وكلت به. رابعاً: قولهم في النفس الإنسانية أنها جوهر، غير جسم، وأنها مفارقة للمادة في ذاتها، وأن النفس إذا فارقت البدن لا يتجدد لها حال من الأحوال، لا علوم ولا تصورات ولا سمع ولا بصر ولا إرادات ولا فرح وسرور، ولا غير ذلك مما قد يتجدد، ويحدث، بل تبقى عندهم على حال واحدة أزلاً وأبداً، غير صحيح2، وهو قول بغير علم، بل قد دلت الأدلة على أن النفس، وهي الروح، جسم حي خفيف متحرك يصعد وينزل ويُرى ويشار إليه، وأنها بعد مفارقتها البدن تكون إما معذبة، وإما منعمة، فهي تحس وتشعر بما يحدث لها بعد مفارقتها البدن. خامساً: أن قولهم بتولد النفوس عن الله شبيه بقول المشركين إن الملائكة بنات الله3. فقول الفلاسفة في النفوس مكمل لقولهم في العقول، وهو ظاهر البطلان، ومصدره وثني بعيد عن الإسلام.   1 - انظر: الدرء10/189. 2 - انظر في هذا المعنى مجموع الفتاوى 9/272. 3 - انظر: المرجع السابق 3/301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 الصدور والفيض 1 - معنى الصدور في اللغة: إذا رجعنا إلى مادة صدر نجد أن الصَّدْرَ أعلى مُقَدَّمِ كل شيء وأوله، حتى إنهم ليقولون صدر النهار، والليل، وصدر الشتاء، والصيف1. وقال الخليل: "والصَّدْرُ: الانصراف عن الورد، وعن كل أمر، ويقال صَدروا، وأصدرناهم..والمصدر أصل الكلمة الذي تصدر عنه الأفعال، وتفسيره أن المصادر كانت أول الكلام كقولك الذهاب والسمع والحفظ، وإنما صدرت الأفعال عنه، فيقال ذهب ذهاباً، وسمع سمعاً"2. والصَّدَرُ رجوع المسافر من مقصده والشاربة من الورد، يقال صدر يصدر صُدُوراً وصَدَراً3. فالصدور يعني الانصراف والرجوع. 2 - معنى الصدور في الشرع: لقد ورد الفعل يَصْدُرُ، والفعل يُصْدِرَ ولفظ الصدر، مفرداً وجمعاً، بإضافات متنوعة في كتاب الله - تعالى -؛ ومن ذلك قوله - تعالى -: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} [الزلزلة - 6] وقوله - تعالى -: {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص - 23] ، قال الراغب: "وإذا عدي صدر بعن اقتضى الانصراف، تقول صدرت الإبل عن الماء صدرا، وقيل الصَّدْرُ، قال: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} [الزلزلة - 6] "4. وورد في السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أمارات الساعة: "والرجل يَلِطُ 5 في حوضه فما يصدر حتى تقوم" 6. والصدر هنا يعني الانصراف والرجوع، فهو على معناه في اللغة.   1 - انظر: العين 7/94، الصحاح 2/709، لسان العرب 4/445. 2 - العين 7/95 - 96، وانظر: لسان العرب 4/448، المصباح المنير 1/335، معجم مقاييس اللغة 3/337. 3 - انظر: لسان العرب 4/448، الصحاح 2/710. 4 - المفردات ص477. 5 - يلط في حوضه أي يطينه ويصلحه. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 18/91. 6 - أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة باب قرب الساعة 4/2270، ح 2954. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 3 - معنى الفيض في اللغة: قال الخليل: "فاض الماء والدمع والمطر والخير، يفيض فيضاً، أي كثر، وفاضت عينه، تفيض فيضاً أي سالت..وفاض صدر فلان بسره، إذا امتلأ فأظهره، والحوض فائض، أي ممتلىء فيضاً، وفيضوضة..وأفاض القوم من عرفات، أي رجعوا ودفعوا، وكل دفعة إفاضة"1. وقال ابن فارس: "الفاء والياء والضاد أصل صحيح واحد، يدل على جريان الشيء بسهولة، ثم يقاس عليه، من ذلك فاض الماء يفيض"1. فالفيض لفظ يدل على كثرة الشيء، وجريانه بسهولة. 4 - معنى الفيض في الشرع: لم يرد مصطلح الفيض في كتاب الله، وورد الفعل منه، نحو قوله - تعالى -: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ} [المائدة - 83] أي تسيل، وقوله - تعالى -: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة - 198] قال الراغب: "أي دفعتم منها بكثرة، تشبيهاً بفيض الماء"3. ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث نزول عيسى ابن مريم: "فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الحرب، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد" 4، يفيض أي يكثر. فمعنى الفيض في كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، هو المعنى الوارد في اللغة.   1 - العين 7/65، وانظر: الصحاح 3/1099، لسان العرب 7/210، القاموس المحيط ص839. 1 – معجم مقاييس اللغة 4/465. 3 - المفردات ص648. 4 - جزء من حديث أخرجه البخاري في مواضع منها كتاب الأنبياء، باب نزول عيسى بن مريم 2/490، ح 3448، ومسلم في كتاب الإيمان باب نزول عيسى بن مريم حاكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم 1/135، ح 155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 5 - معنى الصدور والفيض في اصطلاح الفلاسفة: الصدور من مصطلحات الفلاسفة، وهو مرادف للفيض. ويعرف الصدور بأنه" فيض الكائنات على مراتب متدرجة من مبدأ واحد، ومنها يتألف العالم جميعه"1. ويطلق الفيض في اصطلاح الفلاسفة على فعل فاعل يفعل دائماً لا لعوض، ولا لغرض، وذلك الفاعل لا يكون إلا دائم الوجود، لأن دوام صدور الفعل عنه، تابع لدوام وجوده، وهو المبدأ الفياض، والواجب الوجود، الذي يفيض عنه كل شيء، فيضاً ضرورياً معقولاً2. يقول ابن سينا: "وهو عقل محض يعقل ذاته، فيجب أن يعقل أنه يلزم وجود الكل عنه، لأنه لا يعقل ذاته إلا عقلاً محضاً، ومبدأً أولَ، وإنما يعقل وجود الكل عنه على أنه مبدؤه. وليس في ذاته مانع، أو كاره، لصدور الكل عنه، وذاته عالمة بأن كماله، وعلوه، بحيث يفيض عنه الخير"3، وقال: "وهو فاعل الكل، بمعنى أنه الموجود الذي يفيض عنه كل وجود، فيضاً تاماً مبايناًلذاته"4. فنظرية الصدور والفيض تقابل الخلق، فهم يفسرون وجود العالم والكون عن طريق الصدور والفيض لا عن طريق الخلق. 6 - الرد على الفلاسفة: إن مصطلح الصدور والفيض، الذي يستعمله الفلاسفة، ينطوي على عدة عقائد فاسدة، وقد تحدثوا عنه في مقام كلامهم عن صدور الكثير من الواحد، حيث إن الفلاسفة قالوا: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وهذا بناء على المعنى الذي يريدونه بلفظ الواحد، المطلق على الله - عز وجل -، وهم يريدون بلفظ الصدور نفي الخلق، وجعل العالم لازم لذات الرب   1 - المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية ص105 - 106. 2 - انظر: المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا 2/172، المعجم الفلسفي لمراد وهبة ص516. 3 - النجاة 2/133. 4 - المرجع السابق 2/134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 أزلاً وأبداً، لذا رد عليهم أهل السنة، وبينوا الباطل الذي يعنونه بهذا المصطلح، ومن وجوه الرد عليهم: أولاً: أن معنى الصدور والفيض عند الفلاسفة، معنى مبتدع، ليس وارداً في لغة العرب، ولا في كتاب الله، ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو اصطلاح اصطلحوا عليه. ثانياً: معنى الواحد عندهم قد سبق بيانه1؛ وهو أن الله وجود مطلق لا صفة له، وقولهم إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، إنما يتم إذا أثبت موجوداً مجرداً لا صفة له، ولا نعت، وإلا فإذا كان الخالق موصوفاً بصفات متنوعة كالعلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، والرحمة، وبأفعال متنوعة كالخلق، والاستواء، ونحو ذلك، لم يكن واحداً عندهم بل كان مركباً وجسماً، وحينئذ فيقال لهم هذا الذي تسمونه واحداً لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو أمر يقدر في الأذهان، لا يوجد في الأعيان، وهو نظير الواحد البسيط الذي يقولون بتركب الأنواع منه، فإن هذا الواحد الذي يثبتونه في الكليات، ويقولون إنه منه تتركب الأنواع الموجودة، هو نظير الواحد الذي يثبتونه في الإلهيات ويقولون هو مبدأ الوجود، وكلاهما لا حقيقة له في الخارج وإنما هو يقدره الذهن، كما يقدر الكليات المجردة، ومتى بطل واحدهم هذا، بطل توحيدهم، فبطل نفيهم للصفات، وبطل قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد2. ثالثاً: إذا تبين أن هذا الواحد ليس له حقيقة في الخارج، قيل لمن قال الواحد لا يصدر عنه إلا واحد؛ ما معنى الصدور؟ أنت لا تعني به حدوثه عنه، ولا فعله له بمشيئته وقدرته، فعلاً يسبق به الفاعل مفعوله، وإنما تعني به لزومه له ووجوبه به، ونحن لا نتصور في الموجودات شيئاً صدر عنه وحده شيء منفصل عنه، كان لازماً له قبل هذا الوجه، بل ما لزمه وحده كان صفة له، فإذا لم يتصور هذا الصدور، ولا يعلم صدق هذا السلب في صورة معينة من صور هذه القضية الكلية، فمن أين تعلم هذه القضية الكلية؟ وإذا استدلوا على ذلك بالنار التي لا يصدر عنها إلا الإحراق، وبسائر الأجسام البسيطة كالماء، أو بالشمس التي يصدر   1 - انظر: البحث ص28 - 31. 2 - انظر: درء التعارض 8/247 - 248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 عنها الشعاع، لم يكن شيء من هذه المعينات داخلاً في قضيتهم الكلية، فإن الإحراق لا يصدر عن النار وحدها، بل لا بد من محل قابل للإحراق، ثم إن الإحراق له موانع تمنعه فهو موقوف على ثبوت شروط وانتفاء موانع، غير النار، فلم يصر صادراً عن النار بالمعنى الذي أرادوه بالحجة، وهو لزومه لذات النار بحيث لا ينفك عنها، وإنما يعقل هذا اللزوم في صفات الملزوم كاستدارة الشمس والضوء القائم بها ونحو ذلك، فإن هذا لازم لا يفارق ذاتها، بخلاف الضوء القائم بما يقابلها من الأجسام، وهو الشعاع المنعكس على الأجسام المسطحة كالأرض، والقائمة كأشخاص الجبال، والحيوان، فإن هذا ليس لازماً لذات الشمس، بل هو موقوف على وجود هذه الحال التي يقوم بها هذا العرض، وهو أيضاً ممنوع عنها بالحجب كالسحاب الكثيف، والكسوف وغير ذلك، فهذا بيان أن ما قدروه من الواحد ومن الصدور عنه أمر لا يعقل في الخارج أصلاً، فضلاً عن أن يكون قضية كلية عامة1. رابعاً: أن صدور المختلفات عن ما لا يصدر عنه إلا واحد، بلا واسطة، جمع بين النقيضين، وقول متناقض. وأما الصدور بواسطة، فتلك الواسطة يجب أن لا تكون إلا واحداً عن واحد، إذا قدر أن الأول واحد بسيط، لا يصدر عنه إلا واحد، وإلا كان قولاً متناقضاً، فإنه إذا صدر عنه ما فيه كثرة، فقد صدر عنه أكثر من واحد. وإن لم يكن في الصادر كثرة، وجب أن لا يصدر عن الصادر الأول إلا واحد، وهلم جرا وهذا خلاف المشهود2. خامساً: أن هذا الصدور، والتولد، والمعلولية، التي يدعونها في العقول، والنفوس، والأفلاك، حيث يقولون إنها جواهر قائمة بأنفسها، صدرت عن جوهر واحد بسيط، فهذا أبطل قول قيل في الصدور والتولد، لأن فيه صدور جواهر، عن جوهر واحد، وهذا لا يعقل. وفيه صدوره عنه من غير جزء منفصل من الأصل، وهذا لا يعقل. وهم غاية ما عندهم أن يشبهوا هذا بحدوث بعض الأعراض، كالشعاع عن الشمس، وحركة الخاتم عن حركة اليد، وهذا تمثيل باطل، لأن تلك ليست علة فاعلة، وإنما هي شرط فقط، والصادر هناك لم يكن   1 - انظر: شرح العقيدة الأصفهانية ص52 - 53، منهاج السنة 1/402 - 403. 2 - انظر: درء التعارض 8/267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 عن أصل واحد، بل عن أصلين، والصادر عرض لا جوهر قائم بنفسه، فتبين أن ما ذكره هؤلاء من الصدور والتولد العقلي باطل1. سادساً: أن قولهم مبني على أصول فاسدة كثيرة: الأول: إنه لا سبب للحوادث إلا الحركة الفلكية وهذا من أبطل الأصول. الثاني: إثبات العقول والنفوس التي يقولون بها وهو باطل. الثالث: إثبات كون الفيض يحصل من النفس الفلكية. فإنهم لو سلم لهم ما يذكرونه من أصولهم، فعندهم أن ما يفيض على النفوس، إنما هو من العقل الفعال، المدبر لكل ما تحت فلك القمر، ومنه تفيض العلوم عندهم على نفوس البشر الأنبياء وغيرهم، والعقل الفعال لا يتمثل فيه شيء من الجزئيات المتغيرة، بل إنما فيه أمر كلي، لكنه بزعمهم دائم الفيض، فإذا استعدت النفس لأن يفيض عليها منه شيء فاض، وذلك الفيض لا يكون بجزئي، فإنه لا جزئي فيه، فكيف يقولون هنا إن الفيض على النفوس هو من النفس الفلكية؟ 2. فتبين أن قولهم بالصدور والفيض يعني القول بقدم العقول والنفوس وقدم العالم، ونفي أن يكون الله خالقاً مبدعاً لما سواه.   1 - انظر: مجموع الفتاوى 17/289 - 290. 2 - انظر: الرد على المنطقيين ص476. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 التولد 1 - معنى التولد في اللغة: قال الخليل: "الولد اسم يجمع الواحد، والكثير، والذكر، والأنثى سواء، والوليد الصبي، والوليدة الأمة..ويقال ماله وولده أي ورهطه..والولادة وضع الوالدة ولدها، وجارية مولدة: ولدت بين العرب، ونشأت مع أولادهم، ويغذونها غذاء الولد، ويعلمونها من الأدب مثل ما يعلمون أولادهم، وكذلك المولد من العبيد، وكلام مولد مستحدث لم يكن من كلام العرب"1. وقال الجوهري: "وتوالدوا أي كثروا، وولد بعضهم بعضاً..ويقال ولَّد الرجل غنمه توليداً، كما يقال نتج إبله نتجاً"2. ويقول ابن فارس: "وتولَّد الشيء عن الشيء: حصل عنه"3. فالتوالد والتوليد هو التكاثر والإنتاج، وحصول الشيء عن الشيء. 2 - معنى التولد في الاصطلاح: التولد بمعناه اللغوي موجود عند الفلاسفة في حق الله - تعالى -، وإن لم يعبروا عنه بلفظ التولد. فالفلاسفة يرون بأن العقول والنفوس متولدة عن الله، تولداً أزلياً لازماً لذاته، والعالم متولد عن ذلك، فالعالم كله متولد عندهم عن الله تولداً أزلياً لازماً لذاته، وإن كانوا قد لا يعبرون بلفظ الولد، فهم يعبرون بلفظ المعلول والعلة، وهو أخص أنواع التولد، ويعبرون بلفظ الموجِب والموجَب4.   1 - العين 8/71. 2 - الصحاح 2/554، وانظر: لسان العرب 3/467. 3 - معجم مقاييس اللغة 6/143. 4 - انظر: الصفدية1/216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 كما يعبرون عنه بلفظ الصدور. كما يرد لفظ التولد والتوليد عند المعتزلة، فالمتولد عندهم هو الفعل الذي يكون بسبب مني ويحل في غيري. وقيل: هو الفعل الذي أوجبت سببه فخرج من أن يمكنني تركه، وقد أفعله في نفسي وأفعله في غيري. وقال بعضهم: كل فعل يتهيأ وقوعه على الخطأ، دون القصد إليه، أو الإرادة له فهو متولد1. وقال الجرجاني: "التوليد هو أن يحصل الفعل عن فاعله بتوسط فعل آخر، كحركة المفتاح بحركة اليد"2. وقد اختلف المتكلمون في الأفعال المتولدة عن الإنسان؛ فمنهم من قال ليست مفعولة له بحال، بل هي مفعولة لله - تعالى -، كما يقول ذلك كثير من متكلمي المثبتين للقدر، ومنهم من يقول بل هو مفعول له على طريق التولد كما هو قول بعض المعتزلة، ويحكى عن بعضهم أنه قال لا فاعل لها بحال3. فالمتكلمون على طرفي نقيض في الأفعال المتولدة عن الإنسان حيث يجعلها الأشاعرة والماتريدية مخلوقة لله وليس للإنسان دور فيها وأبطلوا بذلك ربط الأسباب بمسبباتها. بينما يجعلها المعتزلة مخلوقة للإنسان وناتجة عن فعله وحده، دون تدخل لأسباب أخرى. 3 - معنى التولد في الشرع، والرد على المخالفين: لم يرد لفظ التولد أو التوليد في القرآن والسنة، ولكن ورد لفظ الولد في القرآن الكريم بتصريفات عدة، كما ورد في السنة، حيث نفى الله - تعالى - عن نفسه الولد في أكثر من آية، قال - تعالى -: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام - 101] ، وقال - سبحانه -: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون - 91] ، ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أحد أصبر على أذى   1 - انظر: مقالات الإسلاميين 2/92 - 93. 2 - التعريفات ص98. 3 - انظر: درء التعارض 9/340، مقالات الإسلاميين 2/86 - 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 يسمعه من الله - عز وجل -، إنه يشرك به، ويجعل له الولد، ثم هو يعافيهم، ويرزقهم" 1. وما ذكره الله في كتابه من إبطال التولد، وهو حصول الولد، يبطل قول الفلاسفة عقلاً وسمعاً، قال - تعالى -: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام - 101] ، وذلك أن التولد لا يكون إلا عن أصلين، فيمتنع أن يكون له ولد من غير صاحبة، وهو - سبحانه - لم يكن له كفواً أحد، والفلاسفة جعلوه واحداً، وجعلوا العالم معلولاً عنه، وقالوا: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وهذا باطل، فإن الواحد البسيط لا يصدر عنه وحده شيء، بل الواحد الذي قدروه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان، ولا يصدر في العالم العلوي والسفلي أثر إلا عن سببين فأكثر، فالنار إذا أحرقت إنما تحرق بشرط قبول المحل لإحراقها، وكذلك جميع الأمور، قال الله - تعالى -: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات - 49] ، فلو كان العالم معلولاً متولداً عن الله، لكان له مقارناً، يصدر التولد عنهما جميعاً، فإن التولد لا يكون إلا عن أصلين، فإثبات التعليل والتولد، يقتضي إثبات شريك في إبداع العالم، وهذا لازم لهم لا محيد عنه2. وفي قوله - تعالى -: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام - 101] ، ثلاث أدلة على نفي الولد والتولد عنه: أحدها: كونه ليس له صاحبة فهذا نفي الولادة المعهودة. وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} نفي للولادة العقلية وهي التولد، لأن خلق كل شيء ينافي تولدها عنه. وقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يشبه - والله أعلم - أن يكون لما ادعت النصارى أن المتحد به هو الكلمة، التي يفسرونها بالعلم، والصابئة القائلون بالتولد، والعلة، لا يجعلونه عالماً بكل شيء، ذكر أنه بكل شيء عليم لإثبات هذه الصفة له رداً على الصابئة، ونفيها عن غيره ردا على النصارى3.   1 - سبق تخريجه ص168 من البحث. 2 - انظر: الصفدية1/216، 217، الدرء7/369، الجواب الصحيح 4/475. 3 - انظر: مجموع الفتاوى 2/445، بدائع الفوائد 4/961 - 962. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وبهذا يعلم أن الفلاسفة الذين يقولون بتولد العقول والنفوس عنه بواسطة أو بغير واسطة، شر من النصارى، وأن من زعم أن العالم قديم فقد أخرجه عن كونه مخلوقاً لله1. وأما التولد عند المتكلمين، وهو الأمور المنفصلة عن الإنسان، التي يقال إنها متولدة عن فعله، فحقيقة الأمر أن تلك قد اشترك فيها الإنسان والسبب المنفصل عنه، فإنه إذا ضرب بحجر فقد فعل الحذف، ووصول الحجر إلى منتهاه حصل بهذا السبب، وبسبب آخر من الحجر والهواء2، وهي من خلق الله، فلا يكون الإنسان مستقلاً بإحداث هذه الأفعال المتولدة.   1 - انظر: مجموع الفتاوى 2/445، بدائع الفوائد 4/962. 2 - انظر: درء التعارض 9/341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 الموجب بالذات 1 - الموجب بالذات في اللغة: سبق تعريف الوجوب والذات في اللغة1. 2 - الموجب بالذات في الاصطلاح: الموجب بالذات من مصطلحات الفلاسفة، والموجب هو اسم الفاعل من الإيجاب، ضد المختار الذي إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل، فهو الذي يجب أن يصدر عنه الفعل من غير قصد وإرادة2. ويعرف الجرجاني الموجب بالذات بقوله: "الموجب بالذات هو الذي يجب أن يصدر عنه الفعل، إن كان علة تامة له، من غير قصد وإرادة، كوجوب صدور الإشراق عن الشمس والإحراق عن النار"3. ويجري الحديث عن الموجب بالذات في كتب المتكلمين عند بحثهم صفة القدرة والاختيار4، حيث يردون على الفلاسفة لقولهم بأن الله موجب بالذات، فالذي يراه الفلاسفة هو أن وجود العالم عن الله - تعالى - إنما هو على سبيل اللزوم لذاته، من غير قصد واختيار، كما شرحوا ذلك من خلال نظرية الفيض والصدور، فيكون - تعالى - موجباً بالذات؛ لأنه يصدر عنه الفعل من غير قصد وإرادة، لأنه لو كان هناك قصد وإرادة؛ لأحدث ذلك تكثر في ذاته، وهو منزه عن ذلك - كما يقولون -5.   1 - انظر: البحث ص280، 303. 2 - انظر: موسوعة مصطلحات جامع العلوم ص915. 3 - التعريفات ص257. 4 - انظر: المطالب العالية3/77وما بعدها، شرح المقاصد 4/89 وما بعدها، شرح المواقف للجرجاني الموقف الخامس في الإلهيات ص84. 5 - انظر في هذا المعنى النجاة 2/133 - 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 3 - موقف أهل السنة: رد أهل السنة على قول الفلاسفة بأن الله موجب بالذات من وجوه: الوجه الأول: مناقشة لفظ الموجب بالذات؛ لأنه لفظ مجمل، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "لفظ الموجب بالذات فيه إجمال؛ فإن أريد به أنه يوجب ما يحدثه بمشيئته وقدرته، فلا منافاة بين كونه فاعلاً بالقدرة والاختيار، وبين كونه موجباً بالذات بهذا التفسير. وإن أريد بالموجب بالذات أنه يوجب شيئاً من الأشياء، بذات مجردة عن القدرة والاختيار، فهذا باطل ممتنع. وإن أريد أنه علة تامة أزلية، تستلزم معلولها الأزلي، بحيث يكون من العالم ما هو قديم بقدمه، لازم لذاته أزلاً، وأبداً..فهذا أيضا باطل. فالموجب بالذات إذا فسر بما يقتضى قدم شيء من العالم مع الله، أو فسر بما يقتضى سلب صفات الكمال عن الله فهو باطل، وإن فسر بما يقتضى أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو حق، فإن ما شاء وجوده فقد وجب وجوده، بقدرته ومشيئته"1. الوجه الثاني: أن يقال إن أردتم بالموجب بالذات ما يستلزم معلوله؛ فالتغيرات التي في العالم تبطل كونه موجباً بهذا الإعتبار. وإن أردتم بالموجب بالذات ما قد تكون مفعولاته أمراً لا يلزمه، بل يحدث شيئاً بعد شيء، فحينئذ إذا وافقكم المنازعون على تسميته موجباً بالذات، لم يكن في ذلك ما ينافي أن تكون مفعولاته تحدث شيئاً بعد شيء، ولا يمتنع أن تكون هذه الأفلاك من جملة الحوادث المتأخرة، فبطل قولكم2. الوجه الثالث: مما يبين فساد قول الفلاسفة، القائلين بقدم العالم عن الموجب بالذات، أن يقال إما أن يكون مجرد ذاته هي الموجب للعالم، أو هي متوقفة على أمر آخر، فإن كان الأول لزم قدم كل شيء في العالم، ودوامه، بقدم الموجب، ودوامه، فإنه إذا لم يكن هنا إلا مؤثر تام قديم مستلزم لأثره، لزم أن يكون أثره قديماً معه بقدمه، وهو مكابرة للحس. وإن كان تأثيره موقوفاً على غيره، كان هذا مع بطلانه بالاتفاق، مبطلاً لقولهم بقدم العالم. وأن يقال ذلك الغير إن كان قديماً واجباً معه، ومجموعهما هو العلة التامة، لزم قدم الآثار   1 - منهاج السنة1/164 - 165، وانظر: منهاج السنة 3/274 - 275، الصفدية2/103. 2 - انظر: درء التعارض 1/394. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 بقدمهما، فسواء فرض المؤثر القديم الموجب واحداً، أو عدداً، متى قيل إنه موجب بذاته في الأزل، لزم حصول جميع موجبه في الأزل، فيلزم ألا يحدث شيء وهو مخالف للعيان. وإن قيل إن تأثيره موقوف على حادث غيره، كان القول في حدوث ذلك الحادث، كالقول في غيره، فيمتنع صدوره عنه، فتبين أنه يلزمهم كون الحوادث لا محدث لها كيفما داروا، ويلزمهم أيضا ألا يكون واجباً بذاته؛ لأن الواجب بذاته لا بد أن يكون غنياً عن غيره من كل وجه1. وبهذا يتبين بطلان قول الفلاسفة بأن الله - تعالى - موجب بالذات، كما يتبين اللوازم الفاسدة لهذا القول.   1 - انظر: الصفدية 1/57 - 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 قدم العالم 1 - معنى قدم العالم في اللغة: سبق التعريف بلفظ القدم، ولفظ العالم، حيث ذكرت أن القِِدَم، مصدر القديم، وهو يعني السبق، والتقدم على الغير، كما يأتي في مقابل الحدوث1. وأما معنى العالم في اللغة فهو الخلق كله، وقيل إنه مختص بمن يعقل2. وقد سبق بيان معنى القديم في الشرع، ومعناه عند المتكلمين، وهنا نبين قول الفلاسفة في قدم العالم. 2 - معنى قدم العالم في اصطلاح الفلاسفة: يفصل الفلاسفة في معنى القدم، حيث يقول ابن سينا: "حد القدم هو أن يقال على وجوه: فيقال قديم بالقياس، وقديم مطلقاً. والقديم بالقياس هو شيء زمانه في الماضي، أكثر من زمان شيء آخر، هو قديم بالقياس إليه. وأما القديم المطلق فهو أيضاً يقال على وجهين: بحسب الزمان وبحسب الذات، أما الذي بحسب الزمان، فهو الشيء الذي وجد في زمان ماض غير متناه. وأما القديم بحسب الذات، فهو الشيء الذي ليس له مبدأ لوجود ذاته مبدأ أوجبه. فالقديم بحسب الزمان هو الذي له مبدأ زماني، والقديم بحسب الذات هو الذي ليس له مبدأ يتعلق به، وهو الواحد الحق، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً"3.   1 - انظر: البحث ص202. 2 - انظر: البحث ص283. 3 - الحدود لابن سينا ضمن المصطلح الفلسفي للدكتور الأعسم ص262 - 263، وانظر: النجاة 2/69، معيار العلم ص323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 فالقديم بالذات هو الله، وأما القديم بحسب الزمان فهو وجود الملائكة، والسماوات، وجملة أصول العالم عندهم1. والقديم بالذات والقديم بالزمان يتفقان في القدم المطلق، وعدم السبق بالعدم. ويدل على ذلك معنى الحادث عندهم، فالحادث يطلق ويراد به ما يفتقر إلى العلة، وإن كان غير مسبوق بالعدم كالعالم، وعلى ما لوجوده أول وهو مسبوق بالعدم. فعلى هذا العالم إن سمي عندهم قديماً فباعتبار أنه غير مسبوق بالعدم، وإن سمي حادثاً فباعتبار أنه مفتقر إلى العلة في وجوده2. وبعض المتكلمين المتأخرين أمثال الرازي، والتفتازاني، والآمدي، والجرجاني، يعرفون القديم بمثل تعريف ابن سينا؛ حيث يقسمونه إلى القديم بالذات، والقديم بالزمان3. يقول الجرجاني: "القديم يطلق على الموجود الذي لا يكون وجوده من غيره، وهو القديم بالذات، ويطلق القديم على الموجود الذي ليس وجوده مسبوقاً بالعدم، وهو القديم بالزمان.. وقيل القديم ما لا ابتداء لوجوده الحادث، والمحدث مالم يكن كذلك، فكأن الموجود هو الكائن الثابت والمعدوم ضده، وقيل القديم هو الذي لا أول ولا آخر له"4. وقال التفتازاني: "لا قديم بالذات سوى الله - تعالى -، وأما بالزمان فزادت الفلاسفة كثيرا من الممكنات، والمتكلمون صفات الله - تعالى -"5. وقال الآمدي: "وأما القديم فقد يطلق على مالا علة لوجوده، كالباري - تعالى -، وعلى مالا أول لوجوده، وإن كان مفتقرا إلى علة، كالعالم على أصل الحكيم"6. 3 - نقد قول الفلاسفة بقدم العالم: اختلف الفلاسفة في قدم العالم، فالذي استقر عليه رأي جماهيرهم المتقدمين والمتأخرين القول بقدمه، وأنه لم يزل موجوداً مع الله - تعالى -، ومعلولاً له، ومساوقاً له، غير متأخر عنه   1 - انظر: معيار العلم ص285. 2 - المبين ص119، وانظر موسوعة مصطلحات دستور العلماء ص345. 3 - انظر: المباحث المشرقية 1/228 - 229، شرح المقاصد2/8، التعريفات ص220 - 221 4 - التعريفات ص220 - 221. 5 - شرح المقاصد 2/8. 6 - المبين ص118 - 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 بالزمان، مساوقة المعلول للعلة، ومساوقة النور للشمس، وأن تقدم الباري - تعالى - عليه كتقدم العلة على المعلول، وهو تقدم بالذات والرتبة لا بالزمان1. ويقول ابن تيمية إن المشهور من مقالة أساطين الفلاسفة، قبل أرسطو، هو القول بحدوث العالم، وإنما اشتهر القول بقدمه عنه، وعن متبعيه كالفارابي، وابن سينا، والحفيد، وأمثالهم2. وهذا جلي من خلال تعريفهم للفظ القديم، وقولهم بأن الله علة العالم، وأن العالم معلول له. وقد رد على الفلاسفة في قولهم بقدم العالم كثير من نظار أهل السنة والمتكلمين؛ وتتركز وجوه الرد على بيان فساد تعريفهم للقدم، وعلى بطلان القول بقدم العالم وفق المعنى الذي يريدون، ومن وجوه الرد عليهم: أولاً: أن لفظ القديم في اللغة المشهورة التي خاطبنا بها الأنبياء، يراد به ما كان متقدماً على غيره تقدماً زمانياً، سواء سبقه عدم أولم يسبقه، كما قال - تعالى -: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس - 39] ، وقال - تعالى -: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف - 95] ، فلهذا كان القديم الأزلي، الذي لم يزل موجوداً، ولم يسبقه عدم أحق باسم القديم من غيره، وليس لأحد أن يجعل القديم، والمتقدم، اسماً لما قارن غيره في الزمان، لزعمه أنه متقدم عليه بالعلة، ويقول إنه متقدم على غيره، وسابق له بهذا الاعتبار، وإن ذلك المعلول متأخر عنه بهذا الاعتبار، ثم يحمل ماجاء من كلام الأنبياء، وأتباع الأنبياء، وعموم الخلق على هذا الاصطلاح لو كان حقاً، فكيف إذا كان باطلاً! 3. ثانياً: أن ابن سينا وأتباعه قد ناقضوا أنفسهم حين زعموا أن القديم الموجود بغيره يوصف بالإمكان؛ وإن كان قديماً أزلياً لم يزل واجباً بغيره. فالممكن لا يكون واجباً أزلياً، وقد صرح هو وأصحابه في غير موضع بنقيض ذلك، وأصحابه الفلاسفة المتبعون لأرسطو أنكروا ذلك   1 - انظر: تهافت الفلاسفة ص22. 2 - انظر: الصفدية 1/130. 3 - انظر: الجواب الصحيح 4/483، الدرء 1/374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 عليه، وقالوا إنه خالف به سلفهم، كما خالف به جمهور النظار، وخالف به ما ذكره هو مصرحاً به في غير موضع1. ثالثاً: أن قولهم بقدم العالم يستلزم امتناع حدوث حادث، فإن القديم إما واجب بنفسه، أو لازم للواجب بنفسه، ولوازم الواجب لا تكون محدثة، ولا مستلزمة لمحدث، فالحوادث ليست من لوازمه، وما لا يكون من لوازمه يتوقف وجوده على حدوث سبب حادث، فإذا كان القديم الواجب بنفسه، أو اللازم للواجب لا يصدر عنه حادث؛ امتنع حدوث الحوادث2. رابعاً: أن لفظ القديم والأزلي فيه إجمال، فقد يراد بالقديم الشيء المعين الذي ما زال موجوداً ليس لوجوده أول، ويراد بالقديم الشيء الذي يكون شيئاً بعد شيء، فنوعه المتوالي قديم وليس شيء منه بعينه قديماً، ولا مجموعه قديم، فإذا كان المفعول مستلزماً للحوادث، لم يفعل إلا والحوادث مفعولة معه، وهي وإن كانت مفعولة فيه شيئاً بعد شيء، فالمحدث لها شيئاً بعد شيء إن أحدث مقارنها في وقت بعينه، لزم أن يكون محدثاً من جملتها، وهو المطلوب، وإن قيل هو مقارن له، قديم معه، بحيث يوجد معه كل وقت. قيل: فهذا لا يمكن إلا إذا كان علة موجبة له، لا محدثاً له، ولا بد أن يكون علة تامة، فيكون في الأزل مؤثراً تام التأثير، مستجمعاً لشروط التأثير لشيء معين، وإذا كان مؤثراً قديماً دائماً لشيء معين، كانت لوازم ذلك المعين معه، لا يمكن تأخر شيء منها عنه، لامتناع وجود الملزوم، بدون اللازم فيلزم وجود الحوادث كلها في الأزل3، وهذا باطل. خامساً: أن هؤلاء الفلاسفة يقولون العالم قديم أزلي، ومحدث، مخلوق. فيقال لهم: لم يستعمل أحد من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، بل ولا أحد من سائر الأمم، لفظ الخلق إلا فيما كان بعد عدمه، وهو ما كان مسبوقاً بعدمه ووجود غيره، ومعنى هذا اللفظ معلوم بالاضطرار في جميع لغات الأمم. وأيضاً فاللفظ المستعمل في لغة العامة، والخاصة، لا يجوز أن يكون معناه ما لا يعرفه إلا بعض الناس. وهذا المعنى الذي يدعونه لو كان حقاً لم   1 - انظر: درء التعارض 3/247. 2 - انظر: المرجع السابق 2/151. 3 - انظر: الصفدية 2/47 - 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 يتصوره إلا بعض الناس، فلا يجوز أن يكون اللفظ العام الذي تداوله العامة والخاصة موضوعاً له، إذا كان هذا يبطل مقصود اللغات، ويبطل تعريف الأنبياء للناس، فكيف وهو باطل في صريح المعقول، كما هو باطل في صحيح المنقول، فإنه لم يعرف أن أحدا ًقط عبر عن القديم الأزلي، الذي لم يزل موجوداً، ولا يزال، بأنه محدث، أو مخلوق، أو مصنوع، أو مفعول. والكتب الإلهية كالتوراة والقرآن مصرحة بأن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والقديم الأزلي لا يكون مخلوقاً في ستة أيام1. هذه بعض الردود على القائلين بقدم العالم من الفلاسفة، وبهذا يتضح حقيقة قولهم، وكيف حاولوا إخفاء المعنى الذي يريدون بإطلاقهم لفظ الحدوث عليه، فالعالم عندهم غير مسبوق بالعدم، وهذا يعني أنه غير مخلوق، وهذا مما كُفِّر به الفلاسفة المنتسبون للإسلام.   1 - انظر: الجواب الصحيح 4/147 - 148. وانظر في الرد على أدلة الفلاسفة على قدم العالم التهافت للغزالي ص23 - 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 الهيولى 1 - الهيولى في اللغة: في القاموس المحيط:" والهَيُولى وتشدد الياء مضمومة، عن ابن القطاع: القطن، وشبهالأوائل طينة العالم به"1. ويقول الجرجاني: "الهيولى لفظ يوناني، بمعنى الأصل والمادة "2. وقال شيخ الإسلام: "والهيولى في لغتهم3 بمعنى المحل، يقال الفضة هيولى الخاتم، والدرهم والخشب هيولى الكرسي، أي هذا المحل الذي تصنع فيه هذه الصورة"4. وفي المعتبر للبغدادي: "إن الهيولى ليست من الألفاظ العربية..لكن معناها فيما قالوا يقارب معنى المحل، والموضوع، والمادة. وقد عرّفتُ المحل أنه شبيه في العبارة بالمكان الذي يتمكن فيه المتمكن، ويحل فيه الحال في ظاهر العرف"5. وفي المعجم الوسيط: "الهيولى بضم الياء مخففة أو مشددة: مادة الشيء التي يصنع منها، كالخشب للكرسي، والحديد للمسمار، والقطن للملابس القطنية، والهيولى عند القدماء: مادة ليس لها شكل ولا صورة معينة، قابلة للتشكيل والتصوير في شتى الصور، وهي التي صنع الله - تعالى - منها أجزاء العالم المادية. والهيولى التخطيط المبدئي للصورة أو التمثال. والهيولى القطن "6، هذا معنى الهيولى عند قدماء فلاسفة اليونان. فالهيولى لفظ يوناني معرب بمعنى المحل، والمادة، والأصل.   1 - القاموس المحيط ص1386. 2 - التعريفات ص 314، وانظر: التوقيف ص745، المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا 2/536. 3 - أي الفلاسفة. 4 - مجموع الفتاوى17/328. 5 - المعتبر 2/96. 6 - المعجم الوسيط 2/1004. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 2 - الهيولى في اصطلاح الفلاسفة: تعتبر الهيولى والصورة المقولتين الرئيسيتين في فلسفة أرسطو، وبهما يفسر الكون بأكمله1. وعنه أخذ الفلاسفة المنتسبون للإسلام مصطلح الهيولى. يقول الكندي: "الهيولى هي قوة موضوعة لحمل الصور، منفعلة"2. ويقول الخوارزمي: "هيولى كل جسم هي الحامل لصورته؛ فإذا أطلقت فإنها تعني طينة العالم؛ أعني جسم الفلك الأعلى وما يحويه من الأفلاك والكواكب، ثم العناصر الأربعة وما يتركب منها"3. ويقول ابن سينا: "الهيولى المطلقة هي جوهر، وجوده بالفعل إنما يحصل بقبوله الصورة الجسمية، لقوة فيه قابلة للصور، وليس له في ذاته صورة تخصه إلا معنى القوة"4. ويشرح هذا الكلام فيقول: "ومعنى قولي لها جوهر، هو أن وجودها حاصل لها بالفعل لذاتها. ويقال هيولى لكل شيء من شأنه أن يقبل كمالاً ما، وأمراً ليس فيه، فيكون بالقياس إلى ما ليس فيه هيولى، وبالقياس إلى ما فيه موضوعاً"5. ويقول الجرجاني: "الهيولى لفظ يوناني بمعنى الأصل والمادة، وفي الاصطلاح هي جوهر في الجسم، قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال، محل للصورتين الجسمية والنوعية"6. وفي الكليات: "الهيولى هو جوهر بسيط، لا يتم وجوده بالفعل، دون وجود ما حل فيه"7. والهيولى عند قدماء الفلاسفة على أربعة أقسام هي:   1 - انظر: تاريخ الفلسفة اليونانية لوولتر ستيس ص227. 2 - الحدود للكندي ضمن كتاب المصطلح الفلسفي ص191. 3 - الحدود للخوارزمي ضمن كتاب المصطلح الفلسفي ص210. 4 - الحدود لابن سينا ضمن كتاب المصطلح الفلسفي ص244 - 245. 5 - المرجع السابق ص245. 6 - التعريفات ص314. 7 - الكليات ص955. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 1 - الهيولى الأولى: وهي جوهر غير جسم، قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال، محل للصورة الجسمية. 2 - الهيولى الثانية: وهي جسم قام به صورة، كالأجسام بالنسبة إلى صورها النوعية. 3 - الهيولى الثالثة: وهي الأجسام مع الصورة النوعية التي صارت محلاً لصور أخرى، كالخشب لصورة السرير. 4 - الهيولى الرابعة: وهي أن يكون الجسم مع الصورتين محلاً للصورة؛ كالأعضاء لصورة البدن1. والهيولى عند الإطلاق هي الهيولى الأولى، وهي التي دارت عليها التعريفات السابقة، والتي تتفق على أنها جوهر، وجوده بالفعل إنما يحصل بقبوله الصورة الجسمية، لقوة فيه قابلة للصور، وإطلاقها على باقي الأقسام بالتقييد بالثانية والثالثة والرابعة. 3 - موقف أهل السنة: لقد أدخل الفلاسفة تحت لفظ الهيولى معان باطلة، ومن ذلك: أولاً: أنهم أثبتوا مادة أزلية، مجردة عن الصور، ثابتة في الخارج، وهي الهيولى الأولية، التي بنوا عليها قدم العالم وغلطهم فيها جمهور العقلاء2. حيث ادعوا أن بين أجسام العالم جوهراً قائماً بنفسه تشترك فيه الأجسام، ومن تصور الأمور، وعرف ما يقول، علم أنه ليس بين هذا الجسم المعين، وهذا الجسم المعين، قدر مشترك موجود في الخارج أصلاً، بل كل منهما متميز عن الآخر بنفسه، المتناولة لذاته وصفاته، ولكن يشتركان في المقدارية وغيرها من الأحكام اللازمة للأجسام3. ثانياً: أن ما أثبته هؤلاء المتفلسفة من موجودات ممكنة، ليست أجساماً، ولا أعراضاً قائمة بالأجسام، كالهيولى والصورة والعقل والنفس، التي يدعون أنها جواهر عقلية، موجودة   1 - انظر: المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا 2/536، كشاف اصطلاحات الفنون 2/1534 - 1535. 2 - انظر: مجموع الفتاوى 9/98 بتصرف يسير. 3 - انظر: الدرء 3/86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 خارج الذهن، ليست أجساماً، ولا أعرضاً لأجسام، فإن أئمة أهل النظر يقولون إن فساد هذا معلوم بالضرورة، كما ذكر ذلك أبو المعالي الجويني، وأمثاله من أئمة النظر والكلام1. ثالثاً: أن الهيولى الثالثة، وهي الصناعية، كالدرهم الذي له مادة وهي الفضة، وصورة وهي الشكل المعين، وكذلك الدينار والخاتم والسرير والكرسي ونحو ذلك، وهذا القسم لا نزاع فيه بين العقلاء، ولكن هذه الصورة عرض من أعراض هذا الجسم، وصفة له، ليست جوهراً قائماً بنفسه، وهذا أمر معلوم بالضرورة حساً وعقلاً. وأما الهيولى الطباعية - وهي الثانية - فكصور الحيوان والنبات والمعدن، فإنه أيضاً مخلوق من مادة؛ كالهواء والماء والتراب، وهذا لا نزاع فيه، لكن هذه الصورة جوهر قائم بنفسه، مستحيل عن تلك المواد، ليست هي صفة له كالأول2. وبهذا يتبين أن قول الفلاسفة بالهيولى يتضمن معان فاسدة، وهي مرتبطة في قولهم بقدم العالم.   1 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/8، مجموع الفتاوى 5/294، وانظر الشامل لأبي المعالي 1/118 - 119. 2 - انظر: بغية المرتاد ص413 - 414. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 الدهر 1 - تعريف الدهر في اللغة: قال الخليل بن أحمد: "الدهر الأبد الممدود، ورجل دهري قديم، والدهري الذي يقول ببقاء الدهر ولا يؤمن بالآخرة.. والدهر النازلة، دهرهم أمر أي نزل بهم مكروه"1. وقال الجوهري: "الدهر الزمان..ويجمع على دهور. ويقال: الدهر: الأبد"2. وفي اللسان:"الدهر الأمد الممدود..قال الأزهري: الدهر عند العرب يقع على بعض الدهر الأطول، ويقع على مدة الدنيا كلها، وقد سمعت غير واحد من العرب يقول أقمنا على ماء كذا وكذا دهراً، ودارنا التي حللنا بها تحملنا دهراً، وإذا كان هذا هكذا جاز أن يقال الزمان والدهر واحد في معنى دون معنى"3. فالدهر في اللغة يقع على الزمان، ومدة الدنيا كلها، أو على الأبد. 2 - معنى الدهر في الشرع: ورد لفظ الدهر في آيتين من كتاب الله - تعالى - وهي قوله - تعالى -: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} [الجاثية - 24] ، وقوله - تعالى -: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان - 1] . وورد في السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله - عز وجل - يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار" 4، أي لا تسبوا الذي يفعل بكم هذه   1 - العين4/23 - 24، وانظر: معجم مقاييس اللغة 2/306، لسان العرب 4/292. 2 - الصحاح 2/661. 3 - لسان العرب 4/292 - 294. 4 - أخرجه البخاري في كتاب التفسير، سورة الجاثية 3/291، ح 4826، وبنحوه مسلم في كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر 4/1762، ح 2246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الأشياء ويصيبكم بهذه المصائب فإنكم إذا سببتم فاعلها فإنما يقع السب على الله - تعالى - لأنه - عز وجل - هو الفاعل لها لا الدهر، فهذا وجه الحديث1. وقال ابن الأثير: "والدهر اسم للزمان الطويل، ومدة الحياة الدنيا"2. وقال الراغب: "الدهر في الأصل اسم لمدة العالم، من مبدأ وجوده إلى انقضائه..ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة"3. وذكر شيخ الإسلام في معنى الدهر أنه "هو الزمان أو ما يجرى مجرى الزمان"4. والزمان وما يجري مجراه، هو تقدير الحركة، أو مقارنة حادث لحادث، أو مرور الليل والنهار5. والزمان المطلق مقدار الحركة المطلقة6. وجنس الزمان باق عند المسلمين بعد قيام القيامة، ولأهل الجنة أزمنة هي مقادير حركات هناك غير حركة الفلك7. فالدهر إذاً لا ينحصر في مدة الحياة الدنيا، بل هو اسم للزمان. وهو عرض مخلوق. 3 - معنى الدهر عند الفلاسفة: يقول ابن سينا: "حد الدهر يضاهي الصانع، هو المعنى المعقول من إضافة الثبات إلى النفس في الزمان كله"8. وفي دستور العلماء: "وقيل: الدهر منشأ الأزل والأبد، لا ابتداء له ولا انتهاء له، كل ذي ابتداء، وذي انتهاء فيه، وليس هو في غيره. وهذا هو ما ذهب إليه الحكماء "9. وقال ابن سينا عن الزمان:" الزمان يضاهي المصنوع، هو مقدار الحركة من جهة المتقدم   1 - انظر: غريب الحديث لابن سلام 2/145، غريب الحديث للخطابي 1/490، النهاية 2/144، مجموع الفتاوى2/493. 2 - النهاية 2/144. 3 - المفردات ص319، وانظر: التوقيف ص343، بصائر ذوي التمييز 2/609، الكليات ص444. 4 - مجموع الفتاوى 2/494، وانظر: بصائر ذوي التمييز 2/609. 5 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/562، 296، 298، مجموع الفتاوى 2/494. 6 - انظر: منهاج السنة 1/172. 7 - انظر: الصفدية 2/167. 8 - الحدود لابن سينا ضمن المصطلح الفلسفي للدكتور الأعسم ص253. 9 - موسوعة مصطلحات جامع العلوم للنكري ص 430. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 والمتأخر"1. فالزمان عندهم يخص مقدار حركة الفلك فقط، ويستخدم في حق المخلوق، المتحرك - في نظرهم -، فهم يفرقون بين الدهر والزمان. "فالموجود الذي لا يكون حركة ولا في الحركة، فهو لا يكون في الزمان، بل إن اعتبر ثباته مع المتغيرات فتلك المعية هي الدهر، وإن اعتبر ثباته مع الأمور الثابتة، فتلك المعية هي السرمد"2. أما نسبة المتغير إلى المتغير فهو الزمان3. فالزمان عند الفلاسفة ممتد مع السفليات، والدهر ممتد مع العلويات4. 4 - الرد على الفلاسفة: أولاً: إن تفريق الفلاسفة بين الدهر والزمان لا دليل عليه. ثانياً: أن أرسطو ومن تبعه من الفلاسفة، قد ظن أن جنس الزمان مقدار حركة الفلك، وهذا غلط عظيم، فإن جنس الزمان، إذا قيل الزمان مقدار الحركة، فهو مقدار جنس للحركة، لا حركة معينة، بل الزمان المعين مقدار الحركة المعينة، ولهذا كان جنس الزمانباقيا عند المسلمين بعد قيام القيامة، وانشقاق السماء، وتكوير الشمس، ولأهل الجنة أزمنة هي مقادير حركات هناك غير حركة الفلك5. فليس الزمان محصوراً بحركة الفلك. ثالثاً: أنهم يقولون الحركة موجودة منذ الأزل، وقدرها وهو الزمان، وفاعلها هو الذي يسمونه الجسم، لكن هذا لا يقتضي قدم شيء بعينه، فإذا قيل إن رب العالمين لم يزل متكلماً بمشيئته، فاعلاً لما يشاء، كان نوع الفعل لم يزل موجوداً، وقدره وهو الزمان موجوداً، لكن أرسطو وأتباعه غلطوا حيث ظنوا أنه لا زمان إلا قدر حركة الفلك، وأنه لا حركة فوق الفلك، ولا قبله فتعين أن تكون حركته أزلية، وهذا ضلال منهم عقلاً وشرعاً، فلا دليل يدل على امتناع حركة فوق الفلك وقبل الفلك6.   1 - الحدود لابن سينا ضمن المصطلح الفلسفي ص 253. 2 - المباحث المشرقية 1/790. 3 - انظر: المحصل للرازي ص90. 4 - انظر: موسوعة مصطلحات الفلسفة ص311. 5 - انظر: الصفدية 2/167، منهاج السنة النبوية 1/172. 6 - انظر: مجموع الفتاوى 6/301 - 302. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 5 - معنى الدهرية: الدهرية هم الذين يقولون بقدم العالم وإنكار الصانع1. وهم الفلاسفة الذين تابعوا أرسطو في القول بقدم العالم، وقدم حركة الأفلاك، ودوامها، ويطلق عليهم الفلاسفة الدهرية. ويقول ابن القيم عن الدهرية أنهم: "قوم عطلوا المصنوعات عن صانعها"2. وقيل الدهري من يقول بقدم الدهر، واستناد الحوادث إليه، ولكنه يقول بوجود الباري - تعالى -3. والدهرية فرقتان: فرقة قالت: إن الخالق - سبحانه - لما خلق الأفلاك متحركة أعظم حركة، دارت عليه فأحرقته، ولم يقدر على ضبطها، وإمساك حركاتها. وفرقة قالت: إن الأشياء ليس لها أول ألبتة، وإنما تخرج من القوة إلى الفعل، فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل، تكونت الأشياء مركباتها، وبسائطها، من ذاتها لا من شيء آخر. وقالوا إن العالم دائم، لم يزل ولا يزال، لا يتغير، ولا يضمحل، ولا يجوز أن يكون المبدع يفعل فعلاً يبطل ويضمحل، إلا وهو يبطل ويضمحل مع فعله، وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التي هي فيه4. فبعض الدهرية يقرون بخالق للأفلاك لكنهم يقولون بفنائه، وأن العالم بقي يسير نفسه. وبعضهم يجحد وجود خالق للعالم، ويقول بأن الشيء أوجد نفسه بخروجه من القوة إلى الفعل. فقولهم ظاهر الكفر، وهو خارج عن الفطرة التي خلق البشر عليها.   1 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/139 - 140، درء التعارض 8/106، التبصير في الدين ص89، تهافت الفلاسفة ص79. 2 - إغاثة اللهفان 2/255. 3 - انظر: موسوعة مصطلحات جامع العلوم للنكري ص432. 4 - انظر: إغاثة اللهفان 2/255 - 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 6 - حكم تسمية الله بالدهر: سبب الحديث عن تسمية الله بالدهر، ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قال الله - عز وجل - يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" 1، وللناس في هذا الحديث قولان معروفان، لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم، أحدهما وهو قول أبى عبيد وأكثر العلماء أن هذا الحديث خرج الكلام فيه لرد ما يقوله أهل الجاهلية ومن أشبههم، فإنهم إذا أصابتهم مصيبة، أو منعوا أغراضهم، أخذوا يسبون الدهر والزمان، وهم يقصدون سب من فعل تلك الأمور، ويضيفونها إلى الدهر، فيقع السب على الله - تعالى - لأنه هو الذي فعل تلك الأمور. والقول الثاني قول نعيم بن حماد، وطائفة معه من أهل الحديث، والصوفية، أن الدهر من أسماء الله - تعالى - ومعناه القديم الأزلي، وهذا المعنى صحيح لأن الله - سبحانه - هو الأول ليس قبله شيء، وهو الآخر ليس بعده شيء، فهذا المعنى صحيح إنما النزاع في كونه يسمى دهراً بكل حال، فقد أجمع المسلمون، وهو مما علم بالعقل الصريح، أن الله - سبحانه وتعالى - ليس هو الدهر، الذي هو الزمان، أو ما يجرى مجرى الزمان2. 7 - هل الدهر قائم بنفسه؟ هل الدهر جوهر قائم بنفسه؟ هذا مما تنازع فيه الناس، فأثبته طائفة من المتفلسفة من أصحاب أفلاطون، كما أثبتوا الكليات المجردة في الخارج، التي تسمى المثل الأفلاطونية، والمثل المطلقة، وأثبتوا الهيولى التي هي مادة مجردة عن الصور، وأثبتوا الخلاء جوهراً قائماً بنفسه، وتابعه على هذا الرازي3. وأما جماهير العقلاء من الفلاسفة وغيرهم فيعلمون أن هذا كله لا حقيقة له في الخارج، وإنما هي أمور يقدرها الذهن، ويفرضها، فيظن الغالطون أن هذا الثابت في الأذهان، هو بعينه ثابت في الخارج عن الأذهان4.   1 - انظر تخريجه ص 382من البحث. 2 - انظر: الفتاوى 2/493 - 494، بيان تلبيس الجهمية 1/124 - 126. 3 - انظر: المطالب العالية 5/91. 4 - انظر: مجموع الفتاوى 2/495، الكليات ص444. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فالدهر لفظ كلي، ليس له جوهر قائم بنفسه، إنما له معنى يقدره الذهن. 8 - حكم سب الدهر: إن الحديث السابق صريح في النهي عن سب الدهر مطلقاً، سواء اعتقد أنه فاعل، أو لم يعتقد ذلك، كما يقع كثيراً ممن يعتقد الإسلام1. وفي سب الدهر ثلاث مفاسد عظيمة؛ إحداها: سبه من ليس بأهل أن يسب، فإن الدهر خلق مسخر من خلق الله، منقاد لأمره مذلل لتسخيره، فسابه أولى بالذم والسب منه. الثانية: أن سبه متضمن للشرك، فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع وأنه مع ذلك ظالم. الثالثة: أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال، وفي حقيقة الأمر فرب الدهر - تعالى - هو المعطي المانع الخافض الرافع المعز المذل، والدهر ليس له من الأمر شيء، فمسبتهم للدهر مسبة لله - عز وجل - ولهذا كانت مؤذية للرب - تعالى -. فساب الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما؛ إما سبه لله، أو الشرك به. فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك، وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك، وهو يسب من فعله فقد سب الله2.   1 - انظر: تيسير العزيز الحميد ص 544 - 545. 2 - انظر: زاد المعاد 2/354 - 355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الصدفة 1 - معنى الصدفة في اللغة: صادفت فلاناً أي لقيته1، ووجدته2، والمصادفة الموافقة3. وصادف فلاناً لقيه ووجده من غير موعد ولا توقع4. وصادفه مصادفة وجده ولقيه على غير قصد5. فالمصادفة في اللغة تدل على وقوع الشيء اتفاقاً، من غير قصد وترتيب مسبق. 2 - معنى الصدفة في الاصطلاح: ورد في المعجم الفلسفي أن "الصدفة اتفاق مجهول العلة، أو تزامن لسلسلتين عليتين مستقلتين، أو هي سلب الضرورة"6. والمصادفة عند أرسطو هي اللقاء العرضي الشبيه باللقاء القصدي، أو هي العلة العرضية المتبوعة بنتائج غير متوقعة، تحمل طابع الغائية7. وقيل إن المصادفة هي الأمر الذي لا يمكن تفسيره بالعلل الفاعلة، ولا بالعلل الغائية8. وقيل المصادفة هي "خلو النظام الكوني من الإله"9، وهو قول بعض الملاحدة أن هذا العالم بكل ما فيه من إتقان وإبداع باهر وجد بطريق الصدفة، وليس له موجد أوجده، ولا يمكن تفسيره بأنه له علة فاعلة، ولا علة غائية.   1 - انظر: العين 7/102. 2 - انظر: الصحاح 4/1384، لسان العرب 9/188. 3 - انظر: لسان العرب9/188. 4 - انظر: المعجم الوسيط 1/510. 5 - انظر: محيط المحيط ص502. 6 - المعجم الفلسفي للدكتور الحفني ص166. 7 - انظر: المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا 2/383. 8 - انظر: المرجع السابق 2/383. 9 - العناية والمصادفة في الفكر الغربي المعاصرد. سارة بنت عبد المحسن ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 3 - الرد على القائلين بالصدفة: إن القول بأن هذا العالم بما فيه من بديع الصنع، وعجيب الخلق، قد وجد صدفة من تلقاء نفسه، وليس له موجد أوجده، قول مخالف للعقل والفطرة التي فطر الناس عليها؛ فإنها تشهد بضرورة وجود خالق عظيم أبدع هذا الكون، يقول الشهرستاني: "أما تعطيل العالم عن الصانع العليم، القادر الحكيم، فلست أراها مقالة، ولا عرفت عليها صاحب مقالة، إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية، أنهم قالوا: كان العالم في الأزل أجزاء مبثوثة، تتحرك على غير استقامة، فاصطكت اتفاقاً، فحصل منها العالم بشكله الذي تراه عليه، ودارت الأكوار، وكرت الأدوار، وحدثت المركبات، ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع، بل هو معترف بالصانع، لكنه يحيل سبب وجود العالم على البخت والاتفاق، احترازاً عن التعطيل، فما عدت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها برهان، فإن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت - بضرورة فطرتها، وبديهة فكرتها - على صانع حكيم، قادر عليم، {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم - 10] "1. ومن الأدلة العقلية التي تبطل القول بالصدفة ما يحكى عن أبى حنيفة - رحمه الله - "أن قوما من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية، فقال لهم: أخبروني - قبل أن نتكلم في هذه المسألة - عن سفينة في دجلة، تذهب فتمتلىء من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها، فترسي بنفسها، وتتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟ فقالوا: هذا محال، لا يمكن أبداً! فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟ "2. ومثل ذلك ما ذكره الإمام ابن القيم - رحمه الله - في الرد على القائلين بالصدفة، حيث قال: "فسل المعطل الجاحد ما تقول في دولاب دائر على نهر، قد أحكمت آلاته وأحكم تركيبه، وقدرت أدواته أحسن تقدير وأبلغه، بحيث لا يرى الناظر فيه خللاً في مادته ولا في صورته، وقد جعل على حديقة عظيمة، فيها من كل أنواع الثمار والزروع، يسقيها   1 - نهاية الإقدام ص123 - 124. 2 - شرح العقيدة الطحاوية 1/35 - 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 حاجتها، وفي تلك الحديقة من يلم شعثها، ويحسن مراعاتها وتعهدها، والقيام بجميع مصالحها، فلا يختل منها شيء، ولا تتلف ثمارها، ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على سائر المخارج، بحسب حاجاتهم وضروراتهم، فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به، ويقسمه هكذا على الدوام، أترى هذا اتفاقاً بلا صانع ولا مختار ولا مدبر؟ بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقاً من غير فاعل ولا قيم ولا مدبر، أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان؟ وما الذي يفتيك به؟ وما الذي يرشدك إليه؟ "1. ويقول عالم الوراثة والبيئة الدكتور جون وليام كلوتس: "إن هذا العالم الذي نعيش فيه قد بلغ من الإتقان، والتعقيد، درجة تجعل من المحال أن يكون نشأ بمحض المصادفة، إنه مليء بالروائع، والأمور المعقدة، التي تحتاج إلى مدبر، والتي لا يمكن نسبتها إلى قدر أعمى. ولا شك أن العلوم قد ساعدتنا على زيادة فهم، وتقدير، ظواهر هذا الكون المعقدة، وهي بذلك تزيد من معرفتنا بالله، ومن إيماننا بوجوده"2. ويقول الفلكي كريسي موريسون: "ومثل هذه المجموعة من المعجزات لا يوجد، ولا يمكن أن يحدث بأي حال في غيبة الحياة، وكل ذلك يتم في نظام كامل، والنظام مضاد إطلاقاً للمصادفة، أليس ذلك كله من صنع الخالق؟ "3. ويقال للقائلين بالصدفة:" لو أن هزة أرضية قلبت صناديق الحروف في مطبعة، بها نصف مليون حرف فخلطتها ببعضها، فأخبرنا صاحب المطبعة أنه تكون من اختلاط الحروف صدفة عشر كلمات متفرقة، فالمسألة تحتمل التصديق وتحتمل النفي، لكنه لو أخبرنا بأن الكلمات العشر كونت جملة مفيدة لازدادت درجة النفي، والاستبعاد، لكننا قد لا نجزم بالاستحالة، ولو أخبرنا بأن الحروف المبعثرة كونت كتاباً من مائة صفحة، وبه قصيدة كاملة منسجمة بألفاظها، وأوزانها، فالاستحالة في هذه الحالة بحكم البديهية. والمسألة في الكون وأجزائه، وما فيها من إتقان وإحكام وعناية، أعقد بكثير من مثال حروف المطبعة،   1 - مفتاح دار السعادة 2/69. 2 - الله يتجلى في عصر العلم ص54. 3 - العلم يدعو للإيمان تأليف أ. كريسي موريسون ص 156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 لأن الحروف هنا جاهزة معبأة في صناديقها. إن الصدفة في مجال الكون مستحيلة في ذاتها فضلاً عن أن ينبثق عنها هذا الإحكام والنظام، ولو سلمنا جدلاً بصدفة واحدة في البداية، فهل يقبل عقلنا بسلسلة طويلة متتابعة من المصادفات؟ "1. فالقول بالصدفة إذاً ليس مذهبا أقيم عليه شيء من البرهان، بل هو محض افتراض، مرفوض بالعقل والفطرة والحس.   1 - عقيدة التوحيد للدكتور محمد ملكاوي ص149 - 150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 الطبيعة 1 - معنى الطبيعة في اللغة: قال الخليل: "الطَّبَع الوسخ الشديد على السيف، والرجل إذا لم يكن له نفاذ في مكارم الأمور..وفلان مطبوع على خلق سيء، وعلى خلق كريم..وما جعل في الإنسان من طباع المأكل، والمشرب، وغيره من الأطبعة التي طبع عليها، والطبيعة الاسم، بمنزلة السجية والخليقة ونحوه، والطَّبْع الختم علي الشيء..وطَبَع الله الخلق: خلقهم"1. وقال ابن منظور: "طبعه الله على الأمر يطبعه طبعاً فطره، وطبع الله الخلق على الطبائع التي خلقها، فأنشأهم عليها..والطباع ما ركب في الإنسان من جميع الأخلاق، التي لا يكاد يزاولها من الخير والشر، والطبع ابتداء صنعة الشيء، تقول طبعت اللبن طبعاً، وطبع الدرهم والسيف وغيرهما يطبعه طبعاً صاغه"2. فالطبيعة في اللغة السجية والخليقة، وما ركب في الإنسان من جميع الأخلاق. 2 - معنى الطبيعة في الاصطلاح: ورد لفظ طبع ويطبع ونحوها في كتاب الله، قال - تعالى -: {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون - 3] ، وقال - سبحانه -: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف - 101] ، ومن السنة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً" 3. قال الراغب: "الطبع أن تصور الشيء بصورة ما، كطبع السكة، وطبع الدراهم، وهو أعم من الختم، وأخص من النقش..وبه   1 - العين 2/22 - 23، وانظر: الصحاح 3/1252 - 1253، معجم مقاييس اللغة 3/438. 2 - لسان العرب 8/232 - 234، وانظر: المصباح 2/268 - 269، المغرب ص287. 3 - أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين 4/2050، ح 2661. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 اعتبر الطبع، والطبيعة، التي هي السجية؛ فإن ذلك هو نقش النفس بصورة ما؛ إما من حيث الخلقة؛ وإما من حيث العادة، وهو فيما ينقش به من حيث الخلقة أغلب"1. ويقول الإمام ابن القيم: "الطبيعة التي هي بمعنى الجبلة، والخليقة"2.وقال - رحمه الله -: "الطبيعة قوة وصفة، فقيرة إلى محلها، محتاجة إلى حامل لها"3. ويقول الجرجاني: "الطبيعة عبارة عن القوة السارية في الأجسام، بها يصل الجسم إلى كماله الطبيعي"4. والطبيعة عند جمهور المسلمين صفة قائمة بالأجسام، وهي القوى التي خلقها الله في الأجسام5، وتجري بها كيفيات الأجسام على ما خلقها الله عليه، مؤثرة وفق تدبير الله لها. فجمهور المسلمين يقولون بالحق الذي دل عليه المنقول والمعقول، فيثبتون ما لله في خلقه وأمره من الأسباب والحِكَم، وما جعله الله في الأجسام من القوى، والطبائع، في الحيوان، وفي الجماد، لكنهم مع إثباتهم للأسباب، والحِكَم، لا يقولون بقول الطبائعية من الفلاسفة وغيرهم، بل يقولون إن الله خالق كل شي وربه ومليكه، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ويعلمون أن الأسباب هي مخلوقة لله، بمشيئته وقدرته، ولا تزال مفتقرة إلى الله، لا يقولون أنها معلولة له، أو متولدة عنه، كما يقوله الفلاسفة، ولا أنها مستغنية عنه بعد الإحداث، كما يقوله من يقوله من أهل الكلام، بل كل ما سوى الله - تعالى - دائم الفقر والاحتياج إليه6.   1 - المفردات ص515. 2 - أحكام أهل الذمة 2/1043. 3 - طريق الهجرتين ص204. 4 - التعريفات ص 182، وانظر: التوقيف ص478. 5 - انظر: الصفدية 1/154بتصرف. 6 - انظر: الصفدية 1/154، إعلام الموقعين 2/298 - 299، طريق الهجرتين ص204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 3 - معنى الطبيعة عند الفلاسفة: يقول جابر بن حيان في تعريف الطبيعة: "وأما حد الطبيعة، فإنها من حيث الفعل مبدأ حركة وسكون عن حركة "1. ويقول الخوارزمي: "الطبيعة هي القوة المدبرة لكل شيء مما هو في العالم الطبيعي، والعالم الطبيعي هو كل ما تحت فلك القمر إلى مركز الأرض"2. وقال ابن سينا: "الطبيعة مبدأ أول بالذات لحركة ما هي فيه بالذات، وسكونه بالذات، وبالجملة لكل تغير وثبات ذاتي"3. ويوضح هذه الأقوال قول ابن رشد: "أكثر ما تطلق الحكماء اسم الطبيعة، على كل قوة تفعل فعلاً عقلياً، أي جارياً مجرى الترتيب والنظام الذي في الأشياء العقلية، لكن نزهوا السماء عن مثل هذه القوة؛ لكونها عندهم هي التي تعطي هذه القوة المدبرة، في جميع الموجودات"4. ويقول: "إن الطبيعة إذا كانت تفعل فعلاً في غاية النظام، من غير أن تكون عاقلة، إنها ملهمة من قوى فاعلة هي أشرف منها وهي المسمى عقلاً"5. فالطبيعة عند الفلاسفة قوة تفعل فعلاً عقلياً، تدبر فيه كل ما تحت فلك القمر إلى الأرض، وهي مبدأ أول لذلك. فهي قوة مستقلة بالتأثير عما فوقها، وإن كانت متولدة عنها. ومن الطبيعيين من يقول بأن الطبيعة هي التي أوجدت نفسها، وهي التي تخلق بنظام، وبدون نظام، يقول دارون: "إن الطبيعة تخلق كل شيء، ولا حد لقدرتها على الخلق"، وقال: "إن الطبيعة تخبط خبط عشواء"6. وأهل الطبايع هم الذين قالوا بقدم الأرض والماء والنار والهواء7.   1 - الحدود لجابر بن حيان ضمن المصطلح الفلسفي للأعسم ص 184. 2 - الحدود للخوارزمي ضمن المصطلح الفلسفي للأعسم ص210. 3 - الحدود لابن سينا ضمن المصطلح الفلسفي للأعسم ص247. 4 - تهافت التهافت ص266. 5 - تفسير ما بعد الطبيعة ص1502. 6 - مذاهب فكرية معاصرة ص94. 7 - انظر: أصول الدين للبغدادي ص59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 4 - الرد على الفلاسفة والطبائعيين: قول الفلاسفة، والطبائعيين، في أن الطبيعة هي المدبرة لما في العالم، قول في غاية الفساد، ولم يقدم الطبائعيون دليلاً على ما صاروا إليه من القول بقدرة الطبيعة على الخلق، بل العلم الحديث يبطل ما قالوه، ومن وجوه بطلان قولهم: أولاً: أن الفعل المنسق المنتظم لا يكون إلا من عالم حكيم، فكيف يفعل من ليس عالماً، وليس قادراً؟ فإن قالوا: ولو كان الفاعل حكيماً لم يقع في بنائه خلل، ولا وجدت هذه الحيوانات المضرة، فعلم أنه بالطبع. قلنا: ينقلب هذا عليكم بما صدر منه من الأمور المنتظمة المحكمة، التي لا يجوز أن يصدر مثلها عن طبع، فأما الخلل المشار إليه فيمكن أن يكون للابتلاء، والردع، والعقوبة، أو في طيه منافع لا نعلمها1. ثانياً: أن يقال للطبائعيين: ماذا تعنون بكلمة الطبيعة؟ هل تعنون بها ذات الأشياء، أو صفاتها؟ فإن عنوا بالطبيعة ذات الأشياء فيكون على قولهم كل شيء خلق نفسه، فالسماء خلقت السماء، والأرض خلقت الأرض، فيصبح كل شيء هو الخالق والمخلوق، وبما أن المخلوق مفتقر إلى الخالق، فيكون هذا الشيء مفتقراً لنفسه، وهو موجود، فيجتمع فيه النقيضان، لاستحالة أن يكون موجوداً معدوماً بنفس الوقت، كما يستحيل أن يكون خالقاً ومخلوقاً، وبهذا يظهر بطلان هذا الادعاء وتهافته. وإن عنوا بكلمة الطبيعة صفات الأشياء وقابلياتها من حرارة وبرودة وملاسة وخشونة، فقولهم هذا أكثر تهافتاً من سابقه، لأن من البديهيات أن الصفات والقابليات لا تقوم إلا بذات الأشياء، فهي مفتقرة للأشياء، فالصفة دائماً مفتقرة إلى الموصوف لأنها لا تظهر إلا به، وإذا كانت الأشياء الموصوفة ذاتها عاجزة عن إيجاد نفسها، فعجز الصفة والقابلية عن إيجاد موصوفاتها من باب أولى، بل إن الصفة نفسها بحاجة إلى موجد يوجدها في موصوفها، لأن الموصوف كما هو عاجز عن إيجاد نفسه، فهو عاجز عن إيجاد صفته2.   1 - انظر: تلبيس إبليس ص58. 2 - انظر: عقيدة التوحيد في القرآن الكريم للدكتور محمد ملكاوي ص144 - 145، مفتاح دار السعادة1/261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ثالثاً: أن الطبع لا يكون مبدءاً لحركة الجسم، وانتقال أصله، إلا إذا أخرج عن طبعه بغير طبعه، كما يجمع بين الأجسام بالمزج والخلط، فتنتقل عن مراكزها ومحالها، المخالف لمقتضي طبعها، وعند التحقيق يعود الطبع إلى أنه ليس فيها سبب للحركة عن حالها وسكونها، فيكون الطبع بمنزلة السكون وعدم الحركة، أو أمراً وجودياً منافياً للحركة، فالحركة الواردة عليها مخالفة له، والطبع جمود، وهي تنتقل عن إرادة وحركة فعلم بطلان إصابة شيء من الحوادث العرضية عن مجرد الطبع الذي في الموات، فكيف بالحوادث الجوهرية. والإرادة والاختيار مستلزمة للحياة والعلم، كما أن الحياة أيضاً مستلزمة للعلم وللإرادة بل وللإرادة والحركة كما قرر ذلك عثمان بن سعيد وغيره من أئمة السنة1. رابعاً: أن يقال: "من أين للطبيعة هذا الاختلاف، والفرق الحاصل في النوع الإنساني بين صورهم؟ فقلّ أن يرى اثنان متشابهان من كل وجه، وذلك من أندر ما في العالم، بخلاف أصناف الحيوان كالنعم والوحوش والطير وسائر الدواب..والحكمة البالغة في ذلك أن الناس يحتاجون إلى أن يتعارفوا بأعينهم، وحلاهم، لما يجرى بينهم من المعاملات، فلولا الفرق والاختلاف في الصور، لفسدت أحوالهم، وتشتت نظامهم، ولم يعرف الشاهد من المشهود عليه، ولا المدين من رب الدين، ولا البائع من المشتري..وفي ذلك أعظم الفساد والخلل، فمن الذي ميز بين حلاهم، وصورهم، وأصواتهم، وفرق بينها بفروق لا تنالها العبارة، ولا يدركها الوصف؟ فسل المعطل: أهذا فعل الطبيعة؟ وهل في الطبيعة اقتضاء هذا الاختلاف والافتراق في النوع؟ وأين قول الطبائعيين أن فعلها متشابه لأنها واحدة في نفسها، لا تفعل بإرادة ولا مشيئة فلا يمكن اختلاف أفعالها! فكيف يجمع المعطل بين هذا وهذا؟ {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج - 46] "2. ويقول أحد العلماء الغربيين:"..مما لا يتفق مع العقل والمنطق، أن يكون ذلك التصميم البديع للعالم من حولنا، إلا من إبداع إله أعظم، لا نهاية لتدبيره وإبداعه..حقيقة إن هذه طريقة قديمة من طرق الاستدلال على وجود الله، ولكن العلوم الحديثة قد جعلتها أشد   1 - انظر: قاعدة في المحبة ص195 - 196. 2 - مفتاح دار السعادة 2/213 - 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 بياناً، وأقوى حجة منها في أي وقت مضى..إن الطبيعة لا تستطيع أن تصمم أو تبدع نفسها، لأن كل تحول طبيعي، لابد أن يؤدي إلى نوع من أنواع ضياع النظام، أو تصدع البناء العام"1. ويقول جورج إيل دافز، عالم الطبيعة: "فالمنطق الذي نستطيع أن نأخذ به، والذي لا يمكن أن يتطرق إليه الشك، هو أنه ليس هناك شيء مادي يستطيع أن يخلق نفسه"2. وبهذا يتبين أن قول الطبائعيين ظاهر الفساد، ومناقض للفطرة والعلم والعقل.   1 - الله يتجلى في عصر العلم ص97 - 99. 2 - المرجع السابق ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 الاتحاد 1 - معنى الاتحاد في اللغة: جاء في الصحاح "واستأحد الرجل انفرد"1. واستأحد واتحد انفرد2. وفي المعجم الوسيط: "اتحد انفرد، واتحد الشيئان، أو الأشياء صارت شيئاً واحداً"3. ولم يرد كلام عن لفظ الاتحاد في كتب اللغة المتقدمة4، والمفهوم مما سبق أن الاتحاد يعني الانفراد، كما يعني كون الأشياء شيئاً واحداً. كما لم يرد لفظ الاتحاد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 2 - معنى الاتحاد في الاصطلاح: يقول القاضي عبد الجبار في بيان معنى الاتحاد: "أما الكلام في الاتحاد فالأصل فيه أن نبين حقيقته أولاً. اعلم أن الاتحاد في اللغة افتعال من الوحدة، لأنهم متى اعتقدوا في الشيئين أنهما صارا شيئاً واحداً يقولون إنهما اتحدا، والشيئان وإن استحال أن يصيرا شيئاً واحداً، إلا أنهم إذا اعتقدوا صحته لم يكونوا مخطئين في التسمية، وإنما خطؤهم في المعنى"5. ويعرف الغزالي لفظ الاتحاد بشكل عام فيقول: "الاتحاد اسم مشترك، فيقال اتحاد لاشتراك أشياء في محمول واحد ذاتي أو عرضي، مثل اتحاد الكافور والثلج في البياض، والإنسان والثور في الحيوانية. ويقال اتحاد لاشتراك محمولات في موضوع واحد، مثل اتحاد الطعم والرائحة في التفاح. ويقال اتحاد لاجتماع الموضوع والمحمول في ذات واحدة، كجزئي الإنسان من البدن   1 - الصحاح 2/440، وانظر: معجم مقاييس اللغة 1/67. 2 - انظر: القاموس المحيط ص338. 3 - المعجم الوسيط 2/1016. 4 - حسب اطلاعي. 5 - شرح الأصول الخمسة ص295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 والنفس. ويقال اتحاد لاجتماع أجسام كثيرة إما بالتتالي كالمائدة، وإما بالجنس كالكرسي والسرير، وإما باتصال أعضاء الحيوان. وأحق هذا الباب باسم الاتحاد هو حصول جسم واحد بالعدد، من اجتماع أجسام كثيرة، لبطلان خصوصيتها؛ لأجل ارتفاع حدودها المنفردة، وبطلان استقلالاتها بالاتصال"1. ويقول الجرجاني: "الاتحاد هو تصيير الذاتين واحدة، ولا يكون إلا في العدد من الاثنين فصاعداً "2. هذه تعريفات الاتحاد بشكل عام، فالاتحاد هو حصول شيء واحد بالعدد، من اجتماع اثنين أو أجسام كثيرة. والاتحاد هو حقيقة قول أهل وحدة الوجود، كما أن القول بالاتحاد هو من أسس النصرانية المحرفة. أ - الاتحاد عند أهل وحدة الوجود: مذهب وحدة الوجود مذهب الذين يوحدون الله والعالم، ويزعمون أن كل شيء هو الله، وأن الله هو الموجود المطلق، والعالم مظهر من مظاهر الذات الإلهية. وهو مذهب قديم أخذت به الرواقية3، والأفلاطونية الحديثة4، والصوفية5. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - مبيناً حقيقة مذهب أهل وحدة الوجود، وسبب تسميتهم اتحادية: "حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله - تعالى -، ليس وجودها غيره، ولا شيء سواه ألبتة..وأما وجه تسميتهم اتحادية، ففيه طريقان، أحدهما لا يرضونه، لأن الاتحاد على وزن الاقتران، والاقتران يقتضى شيئين، اتحد أحدهما بالآخر، وهم لا يقرون بوجودين أبداً، والطريق الثاني صحة ذلك، بناء على أن الكثرة صارت وحدة"6.   1 - معيار العلم ص298. 2 - التعريفات ص29، وانظر: التوقيف على مهمات التعاريف ص31. 3 - الرواقية نسبة إلى الرواق المصور بأثينا، الذي اتخذه زينون مقراً له يجتمع فيه، فدعي أصحابه بالرواقيين، والرواقية فلسفة أخلاقية، بها تأثر الصوفية. انظر: الموسوعة الفلسفية للدكتور الحفني ص213 - 214. 4 - الأفلاطونية الحديثة نسبة إلى أفلوطين ومن شايعه من الأفلاطونيين، وهي فلسفة دينية، دمج فيها الفكر القديم بما في ذلك فلسفة أرسطو، والمشائين، والرواقيين، والفيثاغوريين، والأفلاطونيين. انظر: الموسوعة الفلسفية للدكتور الحفني ص56 - 57. 5 - انظر: المعجم الفلسفي للدكتور صليبا 2/569. 6 - مجموع الفتاوى 2/140 - 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فهم ينفون لفظ الاتحاد لأنه يعني أن الإثنينية، أو التعددية، هي الأصل في الوجود، وهم يرون خلاف ذلك. فالاتحادية هم القائلون إن الوجود بأسره هو الحق، وأن الكثرة وهم، بل جميع الأضداد المتقابلة، والأشياء المتعارضة، الكل شيء واحد، هو معبودهم في زعمهم1. ويظهر القول بوحدة الوجود، وبصورة جديدة، عند بعض فلاسفة الغرب، فهذا سبينوزا، الفيلسوف اليهودي الأصل، تظهر في فلسفته ملامح وحدة الوجود، حيث يتصور الطبيعة، أو الكون، ذات مظهرين، فهي فعالة حيوية خالقة من جهة، وهي منفعلة مخلوقة من جهة أخرى. وأن هذا الجانب المنفعل، هو المادة، وما تشتمل عليه الطبيعة من غابات وهواء وماء وغير ذلك، وهذه الطبيعة كلها من إنتاج الجانب الفعال وخلقه، وعندئذ يكون في الكون قوة خالقة تخلق الأشياء، وهي التي يسميها جوهر وهي الله - تعالى الله -، وفيه أشياء مخلوقة وهي الأعراض أو العالم، وهو يقول: "إن كل شيء كامن في الله، وكل شيء يحيا ويتحرك في الله". ويقول: "إن أعظم الخير هو معرفة الاتحاد بين العقل والطبيعة".فهو يرى أن الحقيقة هي أن انفصالنا الفردي مجرد وهم، وأننا أجزاء من مجرى القانون والسبب العظيم2.كما يظهر في فلسفة كل من هيجل "1770 - 1831م"، وشيلنج "1775 - 1854م"، وغيرهما من المثاليين الألمان، القول بوحدة الوجود، وأن المطلق هو الوجود الحقيقي، وأن الكثرة في حقيقتها واحدة3. فمذهب وحدة الوجود هو اعتقادهم بأن الكائنات المشهودة على كثرتها، هي عين وجود الله، وما هي إلا مظاهر لذاته المنبثة في الكون.   1 - انظر: معارج القبول 1/370. 2 - انظر: قصة الفلسفة لول ديورانت ص216 - 217، 234. 3 - انظر: المرجع السابق ص 246، الموسوعة الفلسفية للدكتور الحفني ص511 - 512، 265، المعجم الفلسفي للدكتور صليبا 2/569. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 ب - معنى الاتحاد عند النصارى: اختلف النصارى في معنى الاتحاد على عدة أقوال: منهم من فسر الاتحاد بالاختلاط والامتزاج وهذا مذهب طوائف من اليعقوبية1 والنسطورية2 والملكانية 3، قالوا: إن الكلمة خالطت جسد المسيح ومازجته كما مازج الخمر الماء أو اللبن، فصارت شيئاً واحداً وصارت الكثرة قلة. وقال بعض النصارى المراد بالاتحاد ظهور اللاهوت على الناسوت، كظهور الصورة في المرآة، والنقش في الخاتم. وذهب كثير من هذه الطوائف إلى أن المراد بالاتحاد الحلول4. وعندهم أن الاتحاد لفظة مشتقة من الواحد5. وعلى هذا فالمراد بلفظ الاتحاد عند النصارى هو القول باختلاط وممازجة الكلمة لجسد المسيح، أو اقتران الذات الإلهية بالمسيح، أو حلول الذات الإلهية في المسيح. 4 - الرد على الاتحادية: اتفقت طوائف الأمة في الرد على الاتحادية؛ من أهل الوحدة، أو النصارى، وبيان باطلهم. وأدلة إبطال قولهم كثيرة، ومن وجوه الرد عليهم: أولاً: أن كل آية في القرآن تبين أن لله ما في السماوات والأرض وما بينهما ونحو ذلك؛ فإنها تبطل هذا القول، فإن السماوات والأرض، وما بينهما، وما فيهما، إذا كان الجميع له   1 - اليعقوبية أصحاب يعقوب قالوا بالأقانيم الثلاثة إلا أنهم قالوا انقلبت الكلمة لحما ودما فصار الإله هو المسيح وهو الظاهر بجسده بل هو هو. انظر: الملل والنحل 1/225. 2 - النسطورية أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه، قال إن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاثة الوجود والعلم والحياة، وهذه الأقانيم ليست زائدة على الذات، ولا هي هو، واتحدت الكلمة بجسد عيسى عليه السلام لا على طريق الامتزاج كما قالت الملكانية، ولا على طريق الظهور به كما قالت اليعقوبية، ولكن كإشراق الشمس في كوة على بلورة، وكظهور النقش في الشمع إذا طبع بالخاتم. انظر: الملل والنحل 1/224. 3 - الملكانية أصحاب ملكا الذي ظهر بأرض الروم، واستولى عليها، ومعظم الروم ملكانية، قالوا إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته. انظر: الملل والنحل 1/222. 4 - انظر: الجواب الصحيح 4/79، التمهيد للباقلاني ص86 - 87، المغني للقاضي عبد الجبار5/82 - 83. 5 - انظر: مفاتيح العلوم ص52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وملكه ومخلوقه، امتنع أن يكون شيء من ذلك ذاته، فإن المملوك ليس هو المالك، والمربوب ليس هو الرب، والمخلوق ليس هو الخالق، ولهذا كان حقيقة قول الاتحادية أن المخلوق هو الخالق، والمصنوع هو الصانع، حتى إنه يمتنع عندهم أنه يكون الله رب العالمين، كما يمتنع أن يكون رب نفسه، إذ ليس العالمون شيئاً خارجاً عن نفسه عندهم، ومن كلام السلف والأئمة في الرد على هؤلاء، الأثر المشهور عن ابن المبارك أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، لا نقول كما تقول الجهمية أنه ها هنا في الأرض. وقول الإمام أحمد هكذا هو عندنا1. ثانياً: يقول الرازي: "وأما القول بالاتحاد فهو أيضاً باطل، لأن الشيئين إذا اتحدا فهما حال الاتحاد إن كانا باقيين فهما اثنان لا واحد. وإن عدما معا كان الحاصل ثالثاً مغايراً لهما، وإن بقي أحدهما وفني الآخر امتنع الاتحاد أيضاً لأن الموجود لا يكون عين المعدوم، فثبت بما ذكرنا أن القول بالحلول والاتحاد باطل"2. ثالثاً: أن الاتحادية يجمعون بين النفي العام والإثبات العام، فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال، وليس لها اسم ولا صفة ولا نعت، إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين، وهو من هذه الجهة لا يرى، ولا اسم له. ويقولون إنه يظهر في الصور كلها، وهذا عندهم هو الوجود الاسمي لا الذاتي، ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء، ويتجلى في كل موجود، لكنه لا يمكن أن ترى نفسه، بل تارة يقولون ترى الأشياء فيه. وهم مضطربون لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض، إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقاً بلا ريب، فلم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي، فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها، وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود3. رابعاً: مما يرد به على النصارى في الألفاظ التي يحتجون بها على الحلول؛ مثل كون الرب ظهر فيه أو حل أو سكن، فإن هذه الألفاظ موجودة عندهم في حق غير المسيح، بخلاف لفظ   1 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 2/525. 2 - الأربعين في أصول الدين1/1667، وانظر: المطالب العالية 2/105، الكليات ص37. 3 - انظر: بغية المرتادص473. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الاتحاد فإنه لا يوجد عندهم عن الأنبياء لا في حق المسيح ولا غيره، كما لا يوجد عندهم عن الأنبياء لفظ الأقانيم1، ولا لفظ التثليث، ولا اللاهوت، والناسوت، فهم ابتدعوا ألفاظاً لم ينطق بها الأنبياء أثبتوا لها معاني، وابتدعوا استعمال ألفاظ الأنبياء في غير مرادهم، وحملوا مرادهم عليها، والألفاظ المتشابهة التي يحتجون بها على اتحاد اللاهوت بالناسوت موجودة عندهم في حق غير المسيح، فليس للمسيح خاصة في كلام الأنبياء توجب أن يكون هو الله، أو ابن الله، وتلك الألفاظ قد عرف باتفاقهم واتفاق المسلمين أن المراد بها حلول الإيمان بالله، ومعرفته وهداه، ونوره، ومثاله العلمي، في قلوب عباده الصالحين2. خامساً: أن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده، ولا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر، وإنما تقع الشبهة لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم، لما فيه من الألفاظ المجملة والمشتركة3. فالاتحادية بجميع طوائفها عقيدة فاسدة، تبطل توحيد الربوبية، فضلاً عن توحيد الألوهية.   1 - الأقنوم لفظ قيل إنه رومي ومعناه الأصل، واختلف النصارى في معنى الأقانيم فبعضهم يقول الأقانيم خواص وبعضهم يقول صفاتوبعضهم يقول أشخاص. انظر: الجواب الصحيح 3/427، مفاتيح العلوم ص52، تلبيس إبليس ص98. 2 - انظر: الجواب الصحيح 4/495 - 496، وانظر ردودا أخرى في مجموع الفتاوى 2/171 - 172. 3 - انظر: مجموعة الرسائل لابن تيمية 4/5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الحلول 1 - معنى الحلول في اللغة: قال الخليل: "والحل والحلال والحلول والحلل جماعة الحال النازل"1. وقال الجوهري: "وحل العذاب يحِل بالكسر، أي وجب، ويحُل بالضم أي نزل"2. وحلَّ بالمكان يحُل حلُولاً ومحَلاً وحَلاً، وذلك نزول القوم بمحلة، وهو نقيض الارتحال3. فالحلول من يحُل بمعنى النزول نقيض الارتحال، والحلول من يحِل بمعنى الوجوب. 2 - معنى الحلول في الشرع: ورد في كتاب الله - تعالى - الفعل يَحِل، وبعض تصريفاته، ومنها قوله - تعالى -: {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه - 81] قال الراغب: "وحللت نزلت، أصله من حل الأحمال عند النزول، ثم جرد استعماله للنزول، فقيل: حل حلولاً، وأحله غيره"4. وورد في السنة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة" 5. قال النووي في معنى حلت له الشفاعة: "أي وجبت، وقيل نالته"6.   1 - العين 3/26، وانظر: الصحاح 4/1672. 2 - الصحاح 4/1674. 3 - انظر: لسان العرب 11/163، المصباح المنير 1/147. 4 - المفردات ص251. 5 - أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب الدعاء عند النداء 1/208، ح 614. 6 - شرح النووي على صحيح مسلم 4/87، وانظر: الفتح2/95 - 96، تحفة الأحوذي10/60 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 3 - معنى الحلول في الاصطلاح: يقول الجرجاني في تعريف الحلول: "الحلول السرياني عبارة عن اتحاد الجسمين، بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر، كحلول ماء الورد في الورد، فيسمى الساري حالاً والمسري فيه محلاً، الحلول الجواري عبارة عن كون أحد الجسمين ظرفاً للآخر، كحلول الماء في الكوز"1. ويبين شيخ الإسلام أنواع الحلولية فيقول: "الحلولية على وجهين، أحدهما: أهل الحلول الخاص، كالنصارى والغالية من هذه الأمة الذين يقولون بالحلول إما في علي، وإما في غيره، والثاني: القائلون بالحلول العام، الذين يقولون في جميع المخلوقات نحوا مما قالته النصارى في المسيح - عليه السلام -، أو ما هو شر منه"2. والقائلون بالحلول العام هم الحلولية الذين يزعمون أن معبودهم في كل مكان بذاته، وينزهونه عن استوائه على عرشه، وعلوه على خلقه، ولم يصونوه عن أقبح الأماكن، وأقذرها وهؤلاء هم قدماء الجهمية، الذين تصدى للرد عليهم أئمة الحديث كأحمد بن حنبل وغيره3. فالحلول يقارب معنى الاتحاد من صيرورة الشيئين، شيئاً واحداً، لذا يطلق على الاتحادية أهل الوحدة، بأنهم حلولية، كما يطلق على النصارى بأنهم حلولية؛ لأن بعضهم يفسر الاتحاد بالحلول، ولقرب معناهما من بعض. 4 - الرد على الحلولية: قول الحلولية باطل من عدة وجوه منها: أولاً: أن لفظ الحلول لفظ مجمل يراد به معنى باطل، ويراد به معنى حق، وقد جاء في كلام الأنبياء لفظ الحلول بالمعنى الصحيح، فتأوله من في قلبه زيغ كالنصارى، وأشباههم على المعنى الباطل، وقابلهم آخرون أنكروا هذا الاسم بجميع معانيه، وكلا الأمرين باطل،   1 - التعريفات ص12، وانظر: الأربعين ص4، الكليات ص 390، موسوعة النكري ص381 - 382. 2 - الدرء 6/151، وانظر: مجموع الفتاوى 10/59، 12/293، الفرق بين الفرق ص241وما بعدها. 3 - انظر: معارج القبول 1/370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 فالناس يقولون أنت في قلبي، أو ساكن في قلبي، وأنت حال في قلبي، ونحو ذلك، وهم لا يريدون أن ذاته حلت فيه ولكن يريدون أن تصوره وتمثله وحبه وذكره حل في قلبه1. ثانياً: أن الحلولية من الصوفية والنصارى جعلوا توحيدهم هو القول بالحلول، وقد كان أئمة القوم يحذرون عن مثل هذا، سئل الجنيد عن التوحيد فقال: هو إفراد الحدوث عن القدم، فبين أنه لابد للموحد من التمييز بين القديم الخالق، والمحدث المخلوق، فلا يخلط أحدهما بالآخر. وكثير من الحلولية والإباحية ينكر على الجنيد، وأمثاله، من شيوخ أهل المعرفة، المتبعين للكتاب والسنة، ما قالوه من نفي الحلول، وما قالوه في إثبات الأمر والنهي، ويرى أنهم لم يكملوا معرفة الحقيقة كما كملها هو وأمثاله من الحلولية والإباحية2. ثالثاً: أن سلف الأمة وأئمتها، أئمة أهل العلم والدين، أثبتوا وآمنوا بجميع ما جاء به الكتاب والسنة، من غير تحريف للكلم عن مواضعه، أثبتوا أن الله فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، وهم بائنون منه، وهو أيضاً مع العباد عموماً بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية، وهو أيضاً قريب مجيب3. وهذا لايستلزم حلوله في خلقه. وما سبق به الرد على الاتحادية يرد به على الحلولية، لأن فحوى القولين واحد.   1 - انظر: الجواب الصحيح 4/371، 3/345. 2 - انظر: مجموع الفتاوى 5/126. 3 - انظر: المرجع السابق 5/126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 التثليث 1 - معنى التثليث في اللغة: قال الجوهري: "الثلاثة في عدد المذكر، والثلاث في عدد المؤنث..وأثلث القوم صاروا ثلاثة "1. وثلث الاثنين، يثلثهما، ثلثاً، صار لهما ثالثاً، وثلثت القوم، أثلثهم، إذا كنت ثالثهم، وكملتهم ثلاثة بنفسك2. والتثليث أن تسقي الزرع سقية أخرى بعد الثنيا3. فالتثليث إذاً كون الشيء ثلاثة في العدد. 2 - معنى التثليث في الشرع: ورد في كتاب الله وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لفظ ثالث وثلاثة ونحوها، قال - تعالى -: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة - 73] ، وقال - تعالى -: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} [النساء - 171] ، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "فذكر - سبحانه - في هذه الآية التثليث، والاتحاد، ونهاهم عنهما، وبين أن المسيح إنما هو رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} ، ثم قال: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} ولم يذكر هنا أمه "4. ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى" 5.   1 - الصحاح 1/274 - 276، وانظر: معجم مقاييس اللغة 1/385. 2 - انظر: لسان العرب 2/121. 3 - انظر: المرجع السابق 2/124. 4 - الجواب الصحيح 2/15. 5 - أخرجه مسلم في كتاب باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد2/1014، ح 1397، وبنحوه البخاري في كتاب فضل الصلاة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة 1/367، ح 1189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 والتثليث هو اعتقاد النصارى أن الله ثالث ثلاثة، أب وابن وزوجة، أو الأب والابن والروح القدس، يقول ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير قوله - تعالى -: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} [النساء - 171] " يريد بالتثليث الله - تعالى - وصاحبته وابنه"1. ويقول الطبري إن النصارى قبل افتراقهم: "يقولون الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم، أباً والداً غير مولود، وابناً مولوداً غير والد، وزوجة متتبعة بينهما"2. كما يذكر القاضي عبد الجبار إن معنى التثليث عند النصارى هو: "إنه - تعالى - جوهر واحد، وثلاثة أقانيم: أقنوم الأب، يعنون به ذات الباري عز اسمه؛ وأقنوم الابن، أي الكلمة، وأقنوم روح القدس، أي الحياة"3. وقال القرطبي: "والنصارى مع فرقهم مجمعون على التثليث، ويقولون إن الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيم، فيجعلون كل أقنوم إلهاً، ويعنون بالأقانيم الوجود والحياة والعلم، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب الوجود، وبالروح الحياة، وبالابن المسيح..ومحصول كلامهم يؤول إلى التمسك بأن عيسى إله بما كان يجريه الله - سبحانه وتعالى - على يديه من خوارق العادات"4. ويقول الدكتور يوسف بوست، في قاموس الكتاب المقدس: "طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية: الله الأب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن الفداء وإلى الروح القدس التطهير، غير أن الثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال الإلهية على السواء"5. وهذا يبين مدى الشرك الذي عليه النصارى، إذ أثبتوا ثلاثة أرباب فاعلين.   1 - تفسير القرطبي 6/23. 2 - تفسير الطبري 6/313. 3 - شرح الأصول الخمسة ص291، وانظر: المغني للقاضي عبد الجبار 5/81، تلبيس إبليس ص98. 4 - تفسير القرطبي 6/23. 5 - قاموس الكتاب المقدس ص 13، نقلا عن مقارنة الأديان للدكتور أحمد شلبي 2/134 - 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 3 - الرد على النصارى: لقد رد كثير من الأئمة على قول النصارى بالتثليث، وبينوا مدى مخالفته للعقل ولشرائع الأنبياء، ومن وجوه الرد عليهم: أولاً: أنه لا يوجد في كلام الأنبياء ما يدل على ما ذكروه من التثليث، بل إثبات ما ادعوه من التثليث والتعبير عنه بهذه الألفاظ هو مما ابتدعوه لم يدل عليه لا شرع ولا عقل1، بل التوراة التي يؤمنون بها ليس فيها أي ذكر للتثليث. ثانياً: يقال لهم: أخالق العالم عندكم خالق واحد، وهو إله واحد، أم للعالم ثلاثة آلهة خالقون؟ فإن قالوا إن الخالق واحد، وهم ثلاثة آلهة خالقون، كما أنهم في كثير من كلامهم يصرحون بثلاثة آلهة، وثلاثة خالقين، ثم يقولون إله واحد، وخالق واحد، فيقال هذا تناقض ظاهر، فإما هذا وإما هذا، وإذا قلتم الخالق واحد له ثلاث صفات، لم ننازعكم في أن الخالق له صفات لكن لا يختص بثلاثة، فإن قالوا بثلاثة آلهة خالقين، كما قد كثر منهم في كثير من كلامهم، بان أن شركهم أعظم من كل شرك في العالم، فغاية المجوس الثنوية إثبات اثنين نور وظلمة، وهؤلاء يثبتون ثلاثة، ثم الأدلة السمعية في التوراة، والإنجيل والزبور وسائر كلام الأنبياء، مع الأدلة العقلية المبينة لكون الخالق واحداً، كثيرة جداً لا يمكن حصرها2. ثالثاً: أنهم اضطربوا واختلفوا في معنى أقنوم الابن، تارة يقولون هو علم الله، وتارة يقولون هو حكمة الله، وتارة يقولون هو كلمة الله، وتارة يقولون هو نطق الله. وروح القدس تارة يقولون هو حياة الله، وتارة يقولون هو قدرة الله. والكتب المنقولة عن الأنبياء عندهم، ليس فيها تسمية شيء من صفات الله، لا باسم ابن، ولا باسم روح القدس، فلا يوجد أن أحداً من الأنبياء سمى علم الله، وحكمته، وكلامه، ابناً، ولا سمى حياة الله، أو قدرته، روح القدس3. فشرك النصارى وكفرهم ظاهر في قولهم بالتثليث، وهو مما حرفوا به دين عيسى - عليه السلام -.   1 - انظر: الجواب الصحيح 3/184. 2 - انظر: المرجع السابق 4/271. 3 - انظر: المرجع السابق 3/427 - 428، هداية الحيارى ص148 - 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 الثنوية 1 - معنى الثنوية في اللغة: قال الخليل: "ثنَّيْتُ الشيء تثنية جعلته اثنين، وثَنَى رجله عن دابته ضم ساقه إلى فخذه فنزل عن دابته، وثنيّت الرجل فأنا ثانيه، وأنت أحد الرجلين لا يتكلم به إلا كذلك.. لا يقال ثنيت فلاناً أي صرت ثانيه كراهية الالتباس، وتقول صرت له ثانياً، أو معه ثانياً"1. والثني ضم واحد إلى واحد، وكذا التثنية2. فالتثنية هي ضم واحد لآخر ليكونا اثنين. وقد ورد في كتاب الله لفظ اثنين واثنتين واثنان ونحوها قال - تعالى -: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة - 40] . وورد في السنة مثل ذلك ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان" 3. 2 - معنى الثنوية في الاصطلاح: الثنوية من المجوس قالوا بإلهين اثنين هما النور والظلمة، وقالوا بأزلية النور واختلفوا في أزلية الظلمة، يقول شيخ الإسلام في تعريف هذه الفرقة: "الثنوية من المجوس ونحوهم يقولون إن العالم صادر عن أصلين؛ النور والظلمة، والنور عندهم هو إله الخير المحمود، والظلمة هي الإله الشرير المذموم"4. وقال في تفصيل قولهم: "وأما المجوس الثنوية فهم أشهر الناس قولاً بإلهين، لكن القوم متفقون على أن الإله الخير المحمود هو النور الفاعل للخيرات، وأما الظلمة التي هي فاعل الشرور فلهم   1 - العين 8/242، وانظر: الصحاح 6/2295، لسان العرب14/115. 2 - انظر: المغرب ص70. 3 - أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان 3/1342؛ 1717وبنحوه البخاري في كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان 6/2616، ح 6739. 4 - الجواب الصحيح 1/351، وانظر: مجموع الفتاوى 3/97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 فيها قولان: أحدهما: أنه محدث حدث عن فكرة رديئة من النور، وعلى هذا فتكون الظلمة مفعولاً للنور. لكنهم جهال أرادوا تنزيه الرب عن فعل شر معين فجعلوه فاعلاً لأصل الشر، ووصفوه بالفكرة الرديئة التي هي من أعظم النقائص، وجعلوها سبباً لحدوث أصل الشر. والقول الآخر قولهم إن الظلمة قديمة كالنور، فهؤلاء أثبتوا قديمين، لكن لم يجعلوهما متماثلين ولا مشتركين في الفعل، بل يمدحون أحدهما ويذمون الآخر"1. ويرى جماعة من النظار كالباقلاني، والجويني، والقاضي عبد الجبار، والشهرستاني، وابن الجوزي؛ أن الثنوية تختلف عن المجوس، لقول الثنوية بقدم الأصلين النور والظلمة، وقول المجوس بقدم النور وحدوث الظلمة. يقول الشهرستاني: "الثنوية هؤلاء هم أصحاب الاثنين الأزليين، يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان، بخلاف المجوس فإنهم قالوا بحدوث الظلام، وذكروا سبب حدوثه"2. ويقول ابن الجوزي: "الثنوية وهم قوم قالوا صانع العالم اثنان؛ ففاعل الخير نور، وفاعل الشر ظلمة، وهما قديمان لم يزالا ولن يزالا قويين، حساسين، سميعين، بصيرين، وهما مختلفان في النفس والصورة، متضادان في الفعل والتدبير"3. وقد افترقت الثنوية إلى عدة فرق ذكر بعضها الرازي حيث يقول: "الثنوية وهم أربع فرق الفرقة الأولى: المانوية أتباع ماني..قال إن للعالم أصلين نور وظلمة وكلاهما قديمان. الثانية: الديصانية وهم يقولون بالنور والظلمة أيضاً، والفرق بينهم وبين المانوية أنهم يقولون: إن النور والظلمة حيان والديصانية يقولون إن النور حي والظلمة ميتة. الثالثة: المرقونية وهم يثبتون متوسطاً بين النور والظلمة، ويسمون ذلك المتوسط المعدل. الرابعة: المزدكية أتباع مزدك بن نامدان ادعى النبوة وأظهر دين الإباحة"4.   1 - درء التعارض 9/346. 2 - الملل والنحل 1/244، وانظر: التمهيد ص68، الشامل للجويني ص118، المغني للقاضي عبد الجبار 5/10، تلبيس إبليس ص59. 3 - تلبيس إبليس ص59. 4 - اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص104 - 107، وانظر: الملل والنحل 1/244 - 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 واعتقاد الثنوية بوجود إلهين للعالم مذهب ظاهر الفساد، ترفضه الفطرة والعقل الصحيح، ولا يستحق صرف الوقت في نقضه. يقول القاضي عبد الجبار: "اعلم أن كثيراً من المذاهب يستغنى بذكر تفصيله عن التشاغل بذكر نقضه وإفساده؛ لتناقضه في نفسه وكونه غير مبني على الأدلة والحجاج وعلى أصول مقررة، ولكون كثير منه غير معقول، ومذاهب الثنوية من هذا القبيل "1.   1 - المغني للقاضي عبد الجبار 5/9، وانظر في الرد على الثنوية التمهيد للباقلاني ص68 - 75، الشامل ص129 - 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 السحر 1 - معنى السحر في اللغة: قال الخليل بن أحمد: "السحر كل ما كان من الشيطان فيه معونة، والسحر الأخذة التي تأخذ العين، والسحر البيان في الفطنة، والسَّحْر فعل السِّحْر.. والسَّحْر الغذو كقول امرئ القيس: ونسحر بالطعام وبالشراب1"2. وقال الجوهري: "السحر الأخذة وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر"3. وأصل السحر صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأن الساحر لما أرى الباطل في صورة الحق، وخيل الشيء على غير حقيقته، قد سحر الشيء عن وجهه أي صرفه، والسحر الخديعة، والسحر الغذاء، وغيث ذو سِحْر إذا كان ماؤه أكثر مما ينبغي4. هذه معاني السحر في اللغة، فهو كل ما لطف مأخذه ودق، والعمل الذي فيه معونة من الشيطان، وهو الأخذة، وهو صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، وهو الخديعة، والبيان في فطنة، والسحر أيضاً الغذاء.   1 - ديوان امرئ القيس ص72، وأوله: أرانا موضعين لأمر غيب. 2 - العين 3/135 - 136، وانظر: تهذيب اللغة 4/290. 3 - الصحاح 2/679. 4 - انظر: تهذيب اللغة 4/290 - 293، لسان العرب 4/348 - 350. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 2 - معنى السحر في الشرع: ورد لفظ السحر في آيات كثيرة، ومنها قوله - تعالى -: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة - 102] وقوله - سبحانه -: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} [يونس - 81] . كما ورد لفظ السحر في السنة، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر" 1، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من البيان لسحرا" 2. والسحر في الشرع يطلق على عدة معان مختلفة كما هو في اللغة، ولذلك يقول الشافعي - رحمه الله -: "والسحر اسم جامع لمعان مختلفة"3. وقال الشنقيطي - رحمه الله -: "اعلم أن السحر في الاصطلاح، لا يمكن حده بحد جامع، مانع، لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك بينها، يكون جامعاً لها مانعاً لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافاً متبايناً"4. وفيما يلي بعض التعريفات للسحر، وهي تعريفات متباينة - كما قال الشنقيطي - رحمه الله -، وذلك لأن كل تعريف منها قد تضمن نوعاً من أنواع السحر. يقول الطبري - رحمه الله -: "معنى السحر تخييل الشيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته"5. ويعرف الجصاص6 - رحمه الله - السحر بأنه: "كل أمر خفي سببه، وتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع"7، وهذا بمعنى تعريف الطبري.   1 - أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الشرك والسحر من الموبقات 4/48، ح 5764. 2 - أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب إن من البيان سحراً 4/49، ح 5767. 3 - الأم للشافعي1/256. 4 - أضواء البيان للشنقيطي 4/444. 5 - تفسير الطبري 1 /463. 6 - أحمد بن علي الرازي، أبو بكر الجصاص، فاضل من أهل الري، سكن بغداد ومات فيها، انتهت إليه رئاسة الحنفية، ألف كتاب أحكام القرآن، وكتاباً في أصول الفقه، توفي سنة 370هجرية. انظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية للقرشي 1/220، شذرات الذهب 3/71. 7 - أحكام القرآن للجصاص 1/51، وانظر: الكليات ص510، التوقيف ص399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 ويقول ابن قدامة1 - رحمه الله -: "السحر عزائم ورقى وعقد، تؤثر في الأبدان، والقلوب، فيمرض، ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه"2. وهذا الذي عرفه ابن قدامه نوع من السحر يختلف عن النوع الذي قبله. كما عُرف السحر بأنه: "مزاولة النفوس الخبيثة، لأفعال وأقوال، يترتب عليها أمور خارقة للعادة"3، وهذا نوع آخر. وقيل إن المراد بالسحر أمر غريب يشبه الخارق، إذ يجري فيه التعلم، ويستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان بارتكاب القبائح قولاً كالرقى التي فيها ألفاظ الشرك، ومدح الشيطان، وتسخيره، وعملاً كعبادة الكواكب، والتزام الجنابة، وسائر الفسوق، واعتقاداً كاستحسان ما يوجب التقرب إليه، ومحبته إياه4. وقد عد بعض العلماء أنواعاً كثيرة للسحر5، منها ما هو مذكور في التعريفات السابقة. 3 - معنى السحر عند الفلاسفة والمتكلمين: السحر عند ابن سينا ومن تابعه، قوى نفسانية، تؤدي إلى أمور غريبة، تنبعث في عالم الطبيعة، مرادها الشر، حيث قال في إشاراته: "الأمور الغريبة تنبعث في عالم الطبيعة من مبادىء ثلاثة: أحدها: الهيئة النفسانية المذكورة، وثانيها: خواص الأجسام العنصرية، مثل جذب المغناطيس الحديد بقوة تخصه، وثالثها: قوى سماوية، بينها وبين أمزجة أجسام أرضية مخصوصة، بهيئات وضعية، أو بينها وبين قوى نفوس أرضية، مخصوصة بأحوال فلكية فعلية، أو انفعالية، تستتبع حدوث آثار غريبة. والسحر من قبيل القسم الأول، بل المعجزات، والكرامات. والنيرنجيات6 من قبيل القسم الثاني.   1 - عبد الله بن أحمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي، ثم الدمشقي، الحنبلي، أبو محمد، موفق الدين، تفقه حتى فاق أقرانه، وانتهى إليه معرفة مذهب الإمام أحمد وأصوله، له تصانيف منها: المغني، وروضة الناظر، توفي سنة 620هجرية، انظر: سير أعلام النبلاء 22/165 - 173، شذرات الذهب5/88، الأعلام 4/67. 2 - الكافي لابن قدامة 5 /331، وانظر: المبدع لابن مفلح 9/188. 3 - مغني المحتاج للشربيني 4/120، وانظر: بجيرمي على الخطيب 4/100. 4 - انظر: روح المعاني للآلوسي 1/338. 5 - انظر: المطالب العالية 8/143 - 146، المفردات ص400 - 401، فتح الباري10/232. 6 - النيرنجيات هي خواص الأجسام، وهي قوى طبيعية كالقوى التي في حجر المغناطيس، انظر: الصفدية 1/142، 218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 والطلمسات1 من قبيل القسم الثالث"2. وأما الرازي فمضطرب في تعريف السحر، ففي كتابه المحصل يخالف تعريف ابن سينا، بينما يوافقه في المباحث المشرقية، وفي المطالب العالية يجعل تعريف ابن سينا نوعاً من أنواع السحر3. وقول ابن سينا إن السحر، بل المعجزات، والكرامات، من قبيل القوى النفسانية قول باطل، ومن وجوه بطلانه: الأول: أن كثيراً من السحر يكون بالشياطين، كما قال - تعالى -: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة - 102] ، وكتب السحر مملوءة من الأقسام والعزائم على الجن بساداتهم الذين يعظمونهم4، فدل هذا على أن السحر يكون من الاستعانة بالشياطين، وليس لقوة النفس. ثانياً: أنهم حصروا الوجود وأسبابه، فيما علموه، ولا علم عندهم بانتفاء ما لم يعلموه، وغاية أحدهم أن ينفي الشيء، لانتفاء دليل معين، وهذا غاية الجهل5. ثالثاً: أن قولهم هذا مبني على زعمهم أن النبوة مكتسبة، ولا فرق في حقيقة المعجزة عن السحر والكرامة وهذا باطل، إذ النبوة محض اصطفاء من الله، يخرق العادة للنبي ليعجز الناس عن أن يأتوا بمثله، ولذلك آمن السحرة بموسى لأنه جاء بما لم يستطيعوا من خرق العادة. فالقول بأن السحر والمعجزة والكرامة قوة نفسانية قول غير صحيح ولا دليل عليه. أما المتكلمون؛ فمختلفون إذ معظم المعتزلة ينكرون وجود الجن، وبنوا على ذلك أن السحر يكون بالتخييل والوهم، وليس بخارق للعادة. فقد أثبتوا نوعاً من أنواع السحر وهو التخييل، ونفوا ما عداه6.   1 - الطلسمات ضرب من السحر والتنجيم، سيأتي تفصيله ص 426 من البحث. 2 - الإشارات والتنبيهات 4/900 - 901. 3 - انظر: المباحث المشرقية2/436 - 437، المحصل ص 207، المطالب العالية 8/143 - 146. 4 - انظر: الصفدية 1/168 - 170. 5 - انظر: المرجع السابق 1/170. 6 - انظر في ذلك: متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار1/101، مجموع الفتاوى 13/90، الإرشاد للجويني ص323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 وكثير من متكلمي الأشاعرة ومن وافقهم لم يعرفوا الفرق بين المعجزة والسحر والكرامة، فجعلوا الخوارق جنساً واحداً، وقالوا كلها يمكن أن تكون معجزة إذا اقترنت بدعوى النبوة، والاستدلال بها والتحدي بمثلها، وإذا ادعى النبوة من ليس بنبي من الكفار والسحرة فلابد أن يسلبه الله ما كان معه من ذلك، وأن يقيض له من يعارضه، ولو عارض واحد من هؤلاء النبي لأعجزه الله1. وقابلهم الفلاسفة فجعلوا الجميع قوة نفسانية، وكلا القولين باطل، وإن كان قول الفلاسفة أكثر بطلاناً لأنه مبني على أن النبوة مكتسبة. وأما حصر كثير من المعتزلة للسحر في التخييل والوهم ففاسد، مخالف للواقع من حال السحرة وما يحصل منهم، وأبطل منه إنكارهم للجن وهو مخالف لصريح القرآن. أما الأشاعرة ومن وافقهم فقد وضعوا شروطاً للمعجزة من غير دليل يدل على صحة ما ذهبوا إليه، فهو تحكم ممنوع، بل من الممكن أن يبتلي الله الناس بمدع للنبوة مؤيد بخارق من السحر، ولا يعارضه أحد. لكن المدعي يظهر أن سمته ليس هو سمت الأنبياء، حيث يظهر على المدعي من الفجور واستحواذ الشياطين عليه ما يفضح حاله. 4 - حكم السحر: السحر حرام بلا خلاف بين أهل العلم2، وهل يكفر الساحر أم لا؟ فيه تفصيل، يقول الإمام الشافعي: "والسحر اسم جامع لمعان مختلفة، فيقال للساحر صف السحر الذي تسحر به، فإن كان ما يسحر به كلام كفر صريح استتيب منه، فإن تاب وإلا قتل وأخذ ماله فيئا، وإن كان ما يسحر به كلاماً لا يكون كفراً، وكان غير معروف، ولم يضر به أحداً نهى عنه، فإن عاد عزر، وإن كان يعلم أنه يضر به أحداً من غير قتل فعمد أن يعمله عزر، وإن كان يعمل عملاً إذا عمله قتل المعمول به، وقال عمدت قتله، قتل به قوداً، إلا أن يشاء أولياؤه أن يأخذوا ديته.."3.   1 - انظر: الإرشاد للجويني ص 309 - 315، أصول الدين ص170 - 175، مجموع الفتاوى 13/90. 2 - انظر: مجموع الفتاوى 35/171، حاشية ابن عابدين 4/240، المبدع لإبراهيم ابن مفلح 9/188. 3 - الأم1/256، وانظر: الفروع لمحمد بن مفلح المقدسي 6/168، الإنصاف للمرداوي10/349 - 351، شرح الطحاوية 2/764. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 التولة 1 - معنى التولة في اللغة: قال الخليل: "التِّوَلَة ويقال التُّوَلَة التعاويذ "1. والتُوَلة هي بضم التاء وفتح الواو الداهية، والتِِولة ضرب من الخرز يوضع للسحر فتحبب بها المرأة إلى زوجها، وقيل: هي معاذة تعلق على الإنسان. وقال ابن الأعرابي: تال يتول إذا عالج التولة، وهي السحر2. فالتولة في اللغة نوع من السحر، يحبب المرأة إلى زوجها، وهي ضرب من الخرز والتعاويذ. 2 - معنى التولة في الشرع: ورد لفظ التولة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" 3، قال ابن الأثير: "التولة بكسر التاء وفتح الواو ما يحبب المرأة إلى زوجها، من السحر وغيره"4. وقال ابن حجر - رحمه الله -: "التولة بكسر المثناة، وفتح الواو واللام مخففاً، شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر"5. والرقى والتمائم المذكورة في الحديث المراد بها الرقى والتمائم الشركية، والتولة حكمها حكم السحر لأنها منه، وهي شرك بنص كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -.   1 - العين 8/135. 2 - انظر: الصحاح 4/1645، معجم مقاييس اللغة 1/359، اللسان11/81، القاموس المحيط ص 1255، المغرب ص62. 3 - أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في تعليق التمائم 4/9، ح 3883، والإمام أحمد في المسند 1/381، ح 3615، والبيهقي في الكبرى 9/350، وابن حبان في صحيحه ح 6090، وأخرجه الحاكم في مستدركه 4/463، ح 8290، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه". 4 - النهاية 1/200. 5 - فتح الباري10/206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 التنجيم 1 - معنى التنجيم في اللغة: يقول الخليل: "النجم اسم يقع على الثريا، وكل منزل من منازل القمر سمي نجماً، وكل كوكب من أعلام الكواكب يسمى نجماً، والنجوم تجمع الكواكب كلها، ويقال لمن تفكر في أمره لينظر كيف يدبره نظر النجوم..والمنجم الذي ينظر في النجوم، والنجوم وظائف الأشياء، وكل وظيفة نجم..والنجم من النبات مالم يقم على ساق، كساق الشجر..ونجم الناب إذا طلع، وأنجمت السماء، بدت نجومها "1. وفي لسان العرب:" والمنجم والمتنجم الذي ينظر في النجوم، يحسب مواقيتها وسيرها "2. فالمنجم هو الذي ينظر في النجوم، يحسب مواقيتها وسيرها، والتنجيم فعل ذلك. 2 - معنى التنجيم في الشرع: ورد في كتاب الله لفظ النجوم ومنه قوله - تعالى -: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} [الصافات - 88] ، وورد لفظ النجم، ومنه قوله - تعالى -: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل - 16] . ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء"3، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من اقتبس علماً من النجوم، اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد" 4.   1 - العين6/154 - 155، وانظر: اللسان 12/568 - 569، القاموس ص 1499، الصحاح 5/2039. 2 - لسان العرب 12/570. 3 - أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب في الحوض4/205، ح 6580، ومسلم في كتاب الفضائل باب إثبات حوض رآه صلى الله عليه وسلم 4/1800، ح 2303. 4 - أخرجه أحمد 1/311، ح 2841، وأبو داود في كتاب الطب باب في النجوم 4/15، ح 3905، وابن ماجه باب تعلم النجوم 2/1228، ح 3726، والبيهقي في الكبرى باب ما جاء في كراهية اقتباس علم النجوم 8/138، وصححه النووي في رياض الصالحينص 536، ح 1680، والعراقي في تخريج أحاديث الإحياء 4/112، وشيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 35/193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وعلم النجوم المذكور في هذا الحديث هو التنجيم، وهو الاستدلال بأحوال الفلك على الحوادث الأرضية، وهو كما ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضرب من السحر. قال الخطابي1 - رحمه الله - شارحاً معنى التنجيم: "علم النجوم المنهي عنه، هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن، والحوادث التي لم تقع، وستقع في مستقبل الزمان، كإخبارهم بأوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار، وما كان في معانيها من الأمور، يزعمون أنهم يدركون معرفتها بسير الكواكب في مجاريها وباجتماعها واقترانها، ويدعون لها تأثيراً في السفليات، وأنها تتصرف على أحكامها، وتجري على قضايا موجباتها"2. ويعرف شيخ الإسلام التنجيم باختصار فيقول: "والتنجيم كالاستدلال بأحوال الفلك على الحوادث الأرضية"3. وقال - رحمه الله - مبيناً معنى التنجيم: "وصناعة التنجيم التي مضمونها الأحكام والتأثير، وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية، بالأحوال الفلكية، والتمزيج بين القوى الفلكية، والقوابل الأرضية"4. أما الأحكام هنا فيراد به الأحوال الغيبية، المستنتجة من مقدمات معلومة، هي الكواكب من جهة حركاتها، ومكانها، وزمانها، وهو الاستدلال بالتشكيلات الفلكية من أوضاعها، وأوضاع الكواكب؛ من المقابلة، والمقارنة وغيرها، على الحوادث الواقعة في عالم الكون، وفي أحوال الجو، والمعادن، والنبات، والحيوان5. وهذا هو التنجيم.   1 - حَمْد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب، أبو سليمان، فقيه محدث، من مؤلفاته: معالم السنن، وإصلاح غلط المحدثين، توفي سنة388هجرية. انظر: شذرات الذهب 3/128، الأعلام 2/273. 2 - معالم السنن للخطابي 4/212 - 213. 3 - الفتاوى الكبرى 4/607. 4 - مجموع الفتاوى 35/192. 5 - انظر: كشف الظنون 1/22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 3 - حكم التنجيم: التنجيم وفق التعريف السابق محرم، فإن اعتقد أن الكواكب فاعلة مختارة فهو كفر. قال شيخ الإسلام: "وصناعة التنجيم التي مضمونها الأحكام والتأثير، وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية، والتمزيج بين القوى الفلكية، والقوابل الأرضية، صناعة محرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين في جميع الملل"1. والتنجيم أنواع: أحدها: ما هو كفر بإجماع المسلمين، وهو القول بأن الموجودات في العالم السفلي مركبة على تأثير الكواكب والروحانيات، وأن الكواكب فاعلة مختارة، وهذا كفر بالإجماع، وهذا قول مشركي الصابئة2. الثاني: الاستدلال على الحوادث الأرضية بمسير الكواكب، واجتماعها، وافتراقها، ونحو ذلك، ويقول إن ذلك بتقدير الله ومشيئته، وهذا محرم، ومنه الاستسقاء بالأنواء3، وسيأتي تفصيله. الثالث:" ما يفعله من يكتب حروف أبي جاد، ويجعل لكل حرف منها قدراً من العدد معلوما، ويجري على ذلك أسماء الآدميين، والأزمة، والأمكنة، وغيرها، ويجمع جمعاً معروفاً عنده، ويطرح منها طرحاً خاصاً، ويثبت إثباتاً خاصاً، وينسبه إلى الأبراج الاثني عشر المعروفة عند أهل الحساب، ثم يحكم على تلك القواعد بالسعود والنحوس، وغيرها مما يوحيه إليه الشيطان"4، وهذا محرم، لما فيه من ادعاء علم الغيب.   1 - مجموع الفتاوى 35/192 - 193، وانظر: شرح الطحاوية 2/762، الفروع 6/169، الإنصاف10/351، كشاف القناع 6/187. 2 - انظر: مجموع الفتاوى 35/177، تيسير العزيز الحميد ص447، معارج القبول 2/560. 3 - انظر: معالم السنن للخطابي 4/212 - 213، مجموع الفتاوى 35/171، شرح العقيدة الطحاوية 2/762، تيسير العزيز الحميد ص448، معارج القبول 2/559. 4 - معارج القبول 2/559، وانظر: شرح الطحاوية 2/760، أبجد العلوم 2/236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 أما استخدام أهل الحساب والهندسة والمنطق لحروف المعجم، ولفظها أبجد هوز حطي، كعلامات على مراتب العدد، أو علامات على الخطوط المكتوبة، أو على ألفاظ الأقيسة المؤلفة، فهذا ليس داخل في المنهي عنه1. الرابع: هو تعلم منازل الشمس والقمر، للاستدلال بذلك على القبلة، وأوقات الصلوات، والفصول، وقد اختلف السلف فيه؛ مابين الجواز والكراهية2. ولعل الأولى جوازه لعدم وجود المحظور فيه، إضافة إلى فائدته في معرفة أوقات الصلاة، والقبلة، ونحوها من الأمور الضرورية شرعاً.   1 - انظر: مجموع الفتاوى12/62. 2 - انظر: تيسير العزيز الحميد ص448، 453، معالم السنن 4/213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 الاستسقاء بالأنواء 1 - معنى الاستسقاء بالأنواء في اللغة: أ - معنى الاستسقاء في اللغة: قال الخليل بن أحمد: "السقيا اسم السقي، والسقاء القربة للماء واللبن، والسقاية الموضع يتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها.. والاستقاء الأخذ من النهر والبئر"1. وقال الجوهري: "وسقاه الله الغيث وأسقاه..السقي على فعيل السحابة العظيمة القطر، الشديدة الوقع"2. فالاستسقاء في اللغة طلب السقيا. ب - معنى الأنواء في اللغة: قال الخليل بن أحمد: "النوء مهموز من أنواء النجوم، وذلك إذا سقط نجم بالغداة فغاب مع طلوع الفجر، وطلع في حياله نجم في تلك الساعة، على رأس أربعة عشر منزلاً من منازل القمر، سمي بذلك السقوط والطلوع نوءاً من أنواء المطر والحر والبرد، وذلك من قولك ناء ينوء.. والشيء إذا مال إلى السقوط، تقول ناء ينوء نوءاً، بوزن ناع، وإذا نهض في تثاقل يقال ناء ينوء به نوءاً إذا أطاقه"3. وقال الجوهري: "قال أبو عبيد: ولم نسمع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقال الأصمعي: إلى الطالع منها في سلطانه، فتقول: مطرنا بنوء كذا. والجمع أنواء ونوآن أيضاً"4. فالنوء يطلق على النجم وعلى السقوط والنهوض في تثاقل. والاستسقاء بالأنواء في اللغة يعني طلب أو نسبة السقيا إلى النجوم بسقوطها وطلوعها.   1 - العين 5/189 - 190، وانظر: معجم مقاييس اللغة 3/84 - 85. 2 - الصحاح 6/2379، وانظر: معجم مقاييس اللغة 3/84 - 85. 3 - العين 8/391، وانظر: الصحاح 1/78 - 79، لسان العرب1/175 - 176. 4 - الصحاح 1/79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 2 - معنى الاستسقاء بالأنواء في الشرع: لفظ الاستسقاء بالأنواء بهذا التركيب لم يرد في كتاب الله، ولكن ورد في السنة لفظ الاستسقاء بالنجوم، والاستسقاء بالأنواء، فعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن، الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة" 1، كما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: "خلال من خلال الجاهلية الطعن في الأنساب والنياحة - ونسي الثالثة - قال سفيان: ويقولون إنها الاستسقاء بالأنواء"2. قال في تيسير العزيز الحميد في معنى الاستسقاء بالأنواء: "والمراد نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء جمع نوء وهي منازل القمر"3. فالاستسقاء بالأنواء هو نسبة السقيا ومجيء المطر إلى أنواء النجوم، وذلك إذا سقط نجم بالغداة فغاب مع طلوع الفجر، وطلع في حياله نجم في تلك الساعة، على رأس أربعة عشر منزلاً من منازل القمر4. 3 - حكم الاستسقاء بالأنواء: الاستسقاء بالأنواء، وهو الاستسقاء بالنجوم، نوعان: أحدهما: أن يعتقد أن المنزل للمطر هو النجم، فهذا كفر ظاهر، إذ لا خالق إلا الله، وما كان المشركون هكذا، بل كانوا يعلمون أن الله هو المنزل للمطر، كما قال - تعالى -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت - 63] ، وليس هذا معنى الحديث فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن هذا لا يزال في أمته، ومن اعتقد أن النجم ينزل المطر فهو كافر.   1 - أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب التشديد في النياحة 2/644، ح 934. 2 - أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب القسامة في الجاهلية 3/54، ح 3850. 3 - تيسير العزيز الحميد ص457، 459 - 460. 4 - انظر: العين 8/391، الصحاح 1/79، اللسان 1/175 - 176، التمهيد 16/287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 الثاني: أن ينسب إنزال المطر إلى النجم مع اعتقاده أن الله - تعالى - هو الفاعل لذلك المنزل له، إلا أنه - سبحانه وتعالى - أجرى العادة بوجود المطر عند ظهور ذلك النجم، وفيه خلاف في مذهب الإمام أحمد في تحريمه وكراهته، وصرح أصحاب الشافعي بجوازه، والصحيح أنه محرم لأنه من الشرك الخفي، وهو الذي أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أنه من أمر الجاهلية، ونفاه، وأبطله، وهو الذي كان يزعم المشركون، ولم يزل موجوداً في هذه الأمة إلى اليوم1. ويدل على ذلك ما ورد في الصحيحين عن زيد بن خالد قال: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" 2. وعن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الله الغيث فيقولون: الكوكب كذا وكذا", وفي رواية: "بكوكب كذا وكذا" 3.   1 - انظر: التمهيد لابن عبد البر 16/286، تيسير العزيز الحميد ص460، شرح النووي على صحيح مسلم 2/60 - 62. 2 - سبق تخريجه ص150. 3 - أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء 1/84، ح 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الطِّلسم 1 - معنى الطلسم في اللغة: قال الجوهري: "طرسم الرجل: أطرق. وطَلْسم مثله"1. وفي لسان العرب: "طَلْسَم الرجل كره وجهه وقطبه"2. فقد ذكروا معنى طَلسم في اللغة، وهو الإطراق وتقطيب الوجه، ولم يذكروا الطِّلسم بكسر الطاء وتشديدها، وهو المطلوب. وفي كشف الظنون:"ومعنى الطِّلسم عقد لا ينحل، وقيل مقلوب اسمه أي المسلط، لأنه من القهر والتسلط"3. ونقض هذا الكلام شهاب الدين الخفاجي4 في شفاء الغليل حيث قال:"طلسم لفظ يوناني، لم يعربه من يوثق به، وكونه مقلوباً من مسلط وهم لا يعتد به"5. والطلسم لفظ يوناني لكل ما هو غامض مبهم، كالألغاز والأحاجي6. 2 - معنى الطلسم في الاصطلاح: يعرف ابن سينا الطلسمات بأنها: "تمزيج القوى الفعالة السماوية، بالقوى المنفعلة الأرضية"7. وقال الرازي: "الطلسم عبارة عن تمزيج القوى الفعالة السماوية، بالقوى المنفعلة الأرضية، لإحداث ما يخالف العادة، أو للمنع مما يوافق العادة"8.   1 - الصحاح 5/1974. 2 - لسان العرب 12/396. 3 - كشف الظنون 2/1114، وانظر: أبجد العلوم 2/367، مفتاح السعادة ومصباح السيادة لطاش كبري زادة1/316. 4 - شهاب الدين أحمد الخفاجي المصري المتوفى سنة 1069هجرية. انظر: كشف الظنون 1/699. 5 - نقلا عن تعليق الدكتور رشاد سالم على الصفدية 1/66 حاشية رقم 3. 6 - انظر: المعجم الوسيط 2/562. 7 - الإشارات والتنبيهات 4/900، وانظر: الصفدية 1/142. 8 - المطالب العالية 8/149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وعرف الطلسم في كشف الظنون بأنه: "علم باحث عن كيفية تركيب القوى السماوية الفعالة، مع القوى الأرضية المنفعلة، في الأزمنة المناسبة للفعل والتأثير المقصود، مع بخورات مقوية، جالبة لروحانية الطلسم، ليظهر من تلك الأمور في عالم الكون والفساد أفعال غريبة، وهو قريب المأخذ بالنسبة إلى السحر"1. فالطلسمات داخلة في علم النجوم والسحر، وذلك أن النجوم التي من السحر نوعان: أحدهما: علمي وهو الاستدلال بحركات النجوم، على الحوادث. والثاني: عملي، وهو الذي يقولون إنه تمزيج القوى السماوية، بالقوى المنفعلة الأرضية كالطلاسم ونحوها، وهذا من أرفع أنواع السحر2. فالطلاسم ضرب من السحر والتنجيم، تتشكل فيه الشياطين على هيئة روحانيات الكواكب، لتؤثر في الحوادث الأرضية. والطلاسم تحوي تعظيماً وعبادة للجن به يستجلبون معاونته، ويعتقدون مع ذلك أن الفاعل والمؤثر هو الكوكب، إذ إن ما يظهر لهم من الجن ويخاطبهم، يعتقدون أنها أرواح الكواكب تخاطبهم، وهم بهذا جهال ومشركون، والشرك فيها ظاهر.   1 - كشف الظنون 2/1114، وانظر: أبجد العلوم 2/367. 2 - انظر: مجموع الفتاوى 35/171، الفتاوى الكبرى 1/389. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 الكهانة 1 - معنى الكهانة في اللغة: الكاهن معروف كَهَنَ له يَكْهُنُ كِهَانة1، وتَكَهن تَكُهنا، قضى له بالغيب، والكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار. والكاهن أيضاً في كلام العرب الذي يقوم بأمر الرجل، ويسعى في حاجته، والقيام بأسبابه وأمر حُزانته. والعرب تسمي كل من يتعاطى علماً دقيقاً كاهناً، ومنهم من كان يسمي المنجم، والطبيب، كاهناً2. 2 - معنى الكهانة في الشرع: ورد في القرآن الكريم قوله - تعالى -: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور - 29] ، وورد في السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى عرافاً، أو كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد" 3. وفي معنى الكاهن يقول إبراهيم الحربي4 - رحمه الله -: "الكاهن الذي يخبر بما يكون برأيه وظنه"5. وقال الخطابي - رحمه الله -: "الكاهِنُ هو الذي يدعي مطالعة علم الغيب، ويخبر الناس عن الكوائن"6.   1 - انظر: العين 3/379، الصحاح 6/2191. 2 - انظر: لسان العرب13/262 - 263، القاموس ص1585. 3 - أخرجه أحمد 2/429، والبيهقي 8/135، والحاكم 1/8 وقال: صحيح على شرطهما جميعا، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/1031، ح 5939. 4 - هو الشيخ الإمام الحافظ العلامة شيخ الإسلام أبو إسحاق، إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشير البغدادي الحربي صاحب التصانيف، توفي سنة خمس وثمانين ومئتين وكانت جنازته مشهودة. انظر: سير أعلام النبلاء 13/356 - 370. 5 - غريب الحديث للحربي 2/594. 6 - معالم السنن للخطابي 4/211، وانظر: المفردات للراغب ص728. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وقال ابن الأثير: "الكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار"1. وقال ابن قدامة: "الكاهن الذي له رئي من الجن تأتيه بالأخبار"2. وقال شيخ الإسلام - رحمه الله - في معنى الكهانة أنها: "الإخبار ببعض الغائبات عن الجن"3. وقال ابن حجر - رحمه الله -: "والكهانة بفتح الكاف ويجوز كسرها، ادعاء علم الغيب، كالإخبار بما سيقع في الأرض، مع الاستناد إلى سبب، والأصل فيه استراق الجن السمع من كلام الملائكة، فيلقيه في أذن الكاهن. والكاهن لفظ يطلق على العراف، والذي يضرب بالحصى، والمنجم، ويطلق على من يقوم بأمر آخر، ويسعى في قضاء حوائجه"4. ويقول القاضي عياض - رحمه الله - مبيناً أنواع الكهانة: "كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب أحدها: يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السماء، وهذا القسم باطل من حين بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: أن يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض، وما خفي عنه مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده.. الثالث: المنجمون، وهذا الضرب يخلق الله - تعالى - فيه لبعض الناس قوة ما، لكن الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفته بها، وقد يعتضد بعض هذا الفن ببعض في ذلك بالزجر، والطرق، والنجوم، وأسباب معتادة، وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة، وقد أكذبهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم والله أعلم "5. والطرق الذي هو من أضرب الكهانة هو الضرب بالحصا، وقيل هو الخط في الرمل6.   1 - النهاية4/214. 2 - المغني 12/305، وانظر: الكافي 4/166، الإنصاف للمرداوي 10/351. 3 - النبوات ص 13، المطبعة السلفية. 4 - فتح الباري10/227. 5 - شرح النووي على صحيح مسلم 14/223، وانظر: نيل الأوطار للشوكاني 7/368. 6 - انظر: النهاية لابن الأثير 3/121، سنن أبي داود 4/16، العين 5/98، لسان العرب 10/215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 فالكاهن إذاً لفظ عام، يدخل فيه كل من يدعي علم الغيب، ويخبر الناس عن الكوائن في مستقبل الزمان، من طريق الجن أو غيرهم، ويدخل في ذلك العراف، والمنجم، والذي يضرب بالحصى أو يخط في الأرض، وقد يختص العراف بمن يدعي معرفة الأمور الماضية، والكاهن من يدعي علم الغيب من حيث معرفة الكوائن في مستقبل الزمان. 3 - حكم الكهانة: سبق ذكر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى عرافاً أو كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد" 1، وهذا الحديث يبين بجلاء حكم الكهانة وأنها محرمة، فإذا كان قد أطلق الكفر على من يأتي الكاهن ويصدقه، فالكاهن نفسه أولى بذلك الحكم. وقد اختلف الفقهاء في الكاهن، والعراف، هل يلحقون بالسحرة الذين يقتلون أم يعزرون فقط، على قولين: أحدهما أنه لا يكفر بذلك، ولا يقتل بل يعزر، وهو الصحيح من المذهب - كما يقول ابن قدامة -، والوجه الثاني أن حكمهم حكم السحرة الذين يقتلون2.   1 - انظر تخريجه ص428من البحث. 2 - انظر في حكم الكاهن: المغني 9/35 - 37، الفروع 6/168، الإنصاف10/351 - 352، حاشية ابن عابدين 4/240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الطِّيَرة 1 - معنى الطيرة في اللغة: قال الخليل بن أحمد: "الطِّيَرة مصدر قولك اطَّيَّرْتُ أي تَطَيَّرْتُ، والطِّيرة لغة، ولم أسمع في مصادر افتعل على فعلة غير الطِّيرة، والخِيرة، كقولك اخْتَرْتُه خِيرةً نادرتان..وطائر الإنسان، عمله الذي قلده في قوله - تعالى -: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء - 13] ، والطائر من الزجر في التشؤم، والتسعد، وزجر فلان الطير فقال كذا وكذا، أو صنع كذا وكذا، جامع لكل ما يسنح لك من الطير وغيره"1. وقال الجوهري: "وتطيرت من الشيء وبالشيء، والاسم منه الطِيَرة، مثال العِنبَة، وهو مايتشاءم به من الفأل الرديء"2. وقال ابن منظور: "والطائر ما تيمنت به أو تشاءمت، وأصله في ذي الجناح..وقالأبو عبيد: الطائر عند لعرب الحظ، وهو الذي تسميه العرب البخت..وقيل للشؤم طائر وطير وطيرة؛ لأن العرب كان من شأنها عيافة الطير وزجرها، والتطير ببارحها، ونعيق غرابها، وأخذها ذات اليسار إذا أثاروها، فسموا الشؤم طيراً وطائراً وطيرة؛ لتشاؤمهم بها"3. فأصل الطِّيرة التشاؤم أو التيمن بحركات الطير وأصواتها، ثم صار لفظ عام لكل ما تشاءمت به من طائر أو إنسان أو غير ذلك.   1 - العين 7/447، وانظر: الصحاح 2/728. 2 - الصحاح 2/728. 3 - لسان العرب 4/511 - 512. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 2 - معنى الطيرة في الشرع: ورد في كتاب الله لفظ الطير، والطائر، وفعل التطير، بتصريفاته، ومن ذلك قوله - تعالى -: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف - 131] . وورد لفظ الطيرة في السنة، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد" 1. قال ابن الأثير: "الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن، هي التشاؤم بالشيء"2. وقال النووي: "والتطير التشاؤم، وأصله الشيء المكروه من قول، أو فعل، أو مرئي، وكانوا يتطيرون بالسوانح، والبوارح، فينفرون الظباء والطيور، فإن أخذت ذات اليمين تبركوا به، ومضوا في سفرهم وحوائجهم، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم، وتشاءموا بها، فكانت تصدهم في كثير من الأوقات عن مصالحهم، فنفى الشرع ذلك وأبطله ونهى عنه"3. وقال شيخ الإسلام: "الطيرة بأن يكون قد فعل أمراً متوكلاً على الله، أو يعزم عليه، فيسمع كلمة مكروهة مثل ما يتم، أو ما يفلح، ونحو ذلك فيتطير، ويترك الأمر فهذا منهي عنه"4. وقيل: الطيرة "ترك الإنسان حاجته واعتقاده عدم نجاحها، تشاؤماً بسماع بعض الكليمات القبيحة، كيا هالك أو يا ممحوق ونحوها، وكذا التشاؤم ببعض الطيور كالبومة وما شاكلها، إذا صاحت قالوا إنها ناعبة أو مخبرة بشر، وكذا التشاؤم بملاقاة الأعور أو الأعرج.."5. فالطيرة في الشرع هي التشاؤم بما يُكره من قول أو فعل أو هيئة، وترك ما توجهت إليه لأجل ذلك، واعتقاد عدم نجاحه.   1 - أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الجذام 4/37، ح 5707، وبنحوه مسلم في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة 4/1743، ح 2220. 2 - النهاية في غريب الحديث 3/152، وانظر: غريب الحديث لابن الجوزي 2/48، فتح الباري10/212. 3 - شرح النووي على صحيح مسلم 14/218 - 219. 4 - مجموع الفتاوى 23/67. 5 - معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي 2/392. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 3 - حكم الطيرة: لما كانت الطيرة باباً من الشرك، منافياً للتوحيد، أو لكماله، لأنها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته، نها عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأرشد إلى كمال التوحيد بالتوكل على الله، وإنما جعل التطير شركاً؛ لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعاً، أو يدفع ضراً، فكأنهم أشركوه مع الله - تعالى - 1. فقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الطيرة شرك" 2. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الفأل الحسن، ويكره الطيرة"3. لأن الفأل تقوية لما فعله بإذن الله والتوكل عليه، والطيرة معارضة لذلك. واختلف في حكم الطيرة هل هو التحريم أم الكراهة؟ وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الطيرة شرك" دليل على التحريم، ولعل مراد من قال بالكراهة كراهة التحريم4.   1 - انظر: مجموع الفتاوى 4/81، مفتاح دار السعادة 2/234، فتح الباري 10/213 تيسير العزيز الحميد ص427. 2 - أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة 4/17، ح 3910، والترمذي في السير باب ما جاء في الطيرة 4/160، ح 1614 وقال حسن صحيح، وأحمد 1/389، وابن ماجه في الطب 2/1170، ح 3538. 3 - أخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب الطب، باب من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة 2/1170، ح 3536. 4 - انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح 4/8، تيسير العزيز الحميد ص443. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 العرافة 1 - معنى العرافة في اللغة: قال الجوهري: "والعراف الكاهن والطبيب"1. وقال الخليل: "والعريف القيم بأمر قوم عرف عليهم، سمي به لأنه عرف بذلك الاسم"2. والتعريفُ الإِعْلامُ، والتَّعريف أَيضاً إِنشاد الضالة. واعترَفَ القومَ، سأَلهم وعَرِيفُ القوم سيّدهم. والعَرِيفُ القيّم والسيد لمعرفته بسياسة القوم، وقد عَرُفَ عليهم يَعْرُف عِرافة، والعَرِيفُ النَّقِيب وهو دون الرئيس، ويقال للحازي عراف، وللطبيب عراف لمعرفة كل منهم بعلمه، والعراف الكاهن3. فالعراف في اللغة اسم للحازي والكاهن، كما يطلق على الطبيب. 2 - معنى العرافة في الشرع: ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" 4. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى عرافاً، أو كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد" 5. وقد عرف الخطابي - رحمه الله - العراف بأنه: "الذي يزعم أنه يعرف الأمور، بمقدمات أسباب، يستدل بها على مواقعها، كالشيء يسرق فيعرف المظنون به السرقة"6.   1 - الصحاح 4/1402، وانظر: تهذيب اللغة 2/347. 2 - العين 2/121 وانظر: معجم مقاييس اللغة 4/282. 3 - انظر: لسان العرب 9/237 - 238، القاموس ص 1081. 4 - أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان 4/1751، ح 2230. 5 - سبق تخريجه ص428 من البحث. 6 - معالم السنن 4/212، وانظر: النهاية 4/215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وقال القاضي عياض: "والعراف هو الحازر، والمنجم، الذي يدعى علم الغيب، وهي من العرافة، وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب، ومقدمات، يدعي معرفتها، وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك، بالزجر، والطرق، والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك، وهذا الفن هو العيافة بالياء. وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة"1. وقال شيخ الإسلام: "العراف قد قيل إنه اسم عام للكاهن، والمنجم، والرمال، ونحوهم، ممن يتكلم في تقدم المعرفة بهذه الطرق، ولو قيل إنه في اللغة اسم لبعض هذه الأنواع، فسائرها يدخل فيه بطريق العموم المعنوي، كما قيل في اسم الخمر والميسر ونحوهما"2. وقال - رحمه الله -: "والمنجم يدخل في اسم العراف عند بعض العلماء، وعند بعضهم هو في معناه"3. وقال النووي: "والفرق بين العراف والكاهن، أن الكاهن إنما يتعاطى الأخبار عن الكوائن في المستقبل، ويدعى معرفة الأسرار، والعراف يتعاطى معرفة الشيء المسروق، ومكان الضالة ونحوهما"4. وقال ابن قدامة: "والعراف الذي يحدس ويتخرص"5. وقيل: "والكاهن من يخبر بواسطة النجم عن المغيبات في المستقبل، بخلاف العراف فإنه الذي يخبر عن المغيبات الواقعة، كعين السارق، ومكان المسروق، والضالة"6. فالعراف إذاً اسم عام لمن يدعي علم الغيب، ويحدس ويتخرص، كالكاهن، والمنجم، والرمال، ونحوهم. وفرق بعض العلماء بينهما بأن الكاهن هو الذي يدعي معرفة الغيب في المستقبل، أما العراف فهو الذي يدعي معرفة الأمور الماضية، كمعرفة مكان الضالة والشيء المسروق، وكلاهما يشمله أنه يدعي معرفة الغيب، ويحدس ويتخرص.   1 - تفسير القرطبي 7/3. 2 - مجموع الفتاوى 35/173. 3 - المرجع السابق 35 /193، وانظر: الفتح 10/216. 4 - شرح النووي على صحيح مسلم 5/22. 5 - المغني 12/305. 6 - مغني المحتاج 4/120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 3 - حكم العراف: سبق أن العراف اسم عام للكاهن، والمنجم، عند بعض العلماء، وعند بعضهم أنه الذي يتعاطى المغيبات في الماضي، ففيه ادعاء علم الغيب، فيكون حكمه إذاً حكم الكاهن والمنجم1. وإذا كان الوعيد الشديد لمن أتى عرافاً، أنه لم تقبل صلاته أربعين ليلة، وقد أطلق الكفر على من أتى عرافاً فصدقه، فالوعيد أشد للعراف نفسه.   1 - انظر في تفصيل ذلك: الكافي 4/166، المغني 12/302 - 303، الفروع 6/168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 العيافة 1 - معنى العيافة في اللغة: قال الخليل: "عاف الشيء يعافه عيافة، إذا كرهه من طعام، أو شراب..والعيافة زجر الطير، وهو أن ترى طيراً أو غراباً فتتطير، تقول ينبغي أن يكون كذا، فإن لم تر شيئاً قلت بالحدس فهو عيافة، ورجل عائف يتكهن"1. وقال الجوهري: "وعفت الطير أعيفها عيافة، أي زجرتها، وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها وأصواتها "2. فالعيافة في اللغة تعني كراهية الشيء، والتطير، والقول بالحدس والظن، فهو لفظ أعم من الطيرة. 2 - معنى العيافة في الشرع: روى أبو داود في سننه، بإسناد حسن، عن قبيصة بن مخارق، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "العيافة، والطرق، والطيرة، من الجبت 3"4، قال عوف راوي الحديث: "العيافة زجر الطير، والطرق الخط يخط في الأرض"، وقيل بالعكس5. وقال ابن الأثير: "العيافة زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، وهو من عادة العرب كثيراً، وهو كثير في أشعارهم، يقال عاف يعيف عيفاً، إذا زجر وحدس وظن"6.   1 - العين 2/260، وانظر: معجم مقاييس اللغة 4/197، الصحاح 4/1408. 2 - الصحاح 4/1408، وانظر: لسان العرب 9/260 - 261. 3 - الجبت كلمة تقع على الصنم، والكاهن، والساحر، ونحو ذلك. انظر: العين 6/93، لسان العرب 2/21. 4 - أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/477، وأبو داود في كتاب الطب، باب في الخط وزجر الطير 4/16، ح 3907، وابن حبان 13/502، ح 6131، وحسنه النووي في رياض الصالحين ح 1679 ص 535، وشيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 35/192. 5 - انظر: سنن أبي داود 4/16، المسند 3/477، مجموع الفتاوى 35/192 - 193. 6 - النهاية 3/330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 وقيل: "العيافة بكسر العين وهي زجر الطير، والتفاؤل، والاعتبار في ذلك بأسمائها كما يتفاءل بالعقاب على العقاب، وبالغراب على الغربة، وبالهدهد على الهدى، والفرق بينها وبين الطيرة، أن الطيرة هي التشاؤم بها، وقد تستعمل في التشاؤم بغير الطير، من حيوان، وغيره"1. وقد سبق قول القاضي عياض بعد أن عرف العرافة: "وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك، بالزجر، والطرق، والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك، وهذا الفن هو العيافة بالياء. وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة"2. فالعيافة إذاً تعني زجر الطير، والتشاؤم أو التفاؤل بأسمائها، وأصواتها، وممرها، كما تعني الحدس والتخرص، فتكون بمعنى العراف والكاهن في المعنى العام، وحكمها يدور على المعنى، فتأخذ حكم الطيرة، إذا كانت بمعنى الطيرة، وتأخذ حكم الكاهن والعراف إذا كانت بمعناهما.   1 - عون المعبود 10/403، وانظر: فيض القدير للمناوي 9/395. 2 - تفسير القرطبي 7/3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 الفصل الرابع: المصطلحات البدعية في توحيد الربوبية الأبدال ... الفصل الرابع: المصطلحات البدعية في توحيد الربوبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 الأبدال 1 - معنى الأبدال في اللغة: قال الخليل: "البَدَلُ خَلَفٌ من الشيء، والتبديل التغيير، واستبدلت ثوباً مكان ثوب، وأخاً مكان أخ، ونحو ذلك المبادلة، والأبدال قوم يقيم الله بهم الدين، وينزل الرزق، أربعون بالشام، وثلاثون في سائر البلدان، إذا مات واحد منهم يقوم مقامه مثله، ولا يؤبه لهم"1. وتحديد لفظ الأبدال بهذا العدد، وتقسيمه على البلدان، قد اعتمدوا فيه على حديث ضعيف، سيأتي بيانه. وبَدَلُ الشيء غَيْرُه، وبِدْل الشيء وبَدَله وبَدِيله، الخَلَف منه، والجمع أبدال2. فالبدل في اللغة الذي يخلف الشيء، ويتغير مكانه. 2 - معنى الأبدال في اصطلاح الصوفية: جاء في اصطلاحات الصوفية: "البدلاء هم سبعة رجال، يسافر أحدهم عن موضع ويترك جسداً على صورته فيه، بحيث لا يعرف أحد أنه فقد، وذلك معنى البدل لا غير"3. وقال المناوي: "الأبدال جمع بدل وهم طائفة من الأولياء، قال أبو البقاء: كأنهم أرادوا أنهم أبدال الأنبياء وخلفاؤهم، وهم عند القوم سبعة لا يزيدون ولا ينقصون، يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، لكل بلد إقليم فيه ولايته منهم واحد على قدم الخليل، وله الإقليم الأول، والثاني على قدم الكليم، والثالث على قدم هارون، والرابع على قدم إدريس، والخامس على قدم يوسف، والسادس على قدم عيسى، والسابع على قدم آدم، على ترتيب الأقاليم. وهم عارفون بما أودع الله في الكواكب السيارة من الأسرار، والحركات، والمنازل وغيرها،   1 - العين 8/45، وانظر: لسان العرب 11/48 - 49. 2 - انظر: لسان العرب 11/48، القاموس المحيط ص1247. 3 - اصطلاحات الصوفية للقاشاني ص 18، وانظر: اصطلاحات الشيخ محيي الدين العربي ص 286، التعريفات ص62، معجم الكلمات الصوفيةص18، المعجم الصوفي للدكتور الحفني ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 ولهم من الأسماء أسماء الصفات، وكل واحد بحسب ما يعطيه حقيقة ذلك الاسم الإلهي من الشمول والإحاطة"1. وفي معجم ألفاظ الصوفية: "الأبدال جمع بدل، إحدى المراتب في الترتيب الطبقي للأولياء عند الصوفية، لا يعرفهم عامة الناس - أهل الغيب -، وهم يشاركون بما لهم من اقتدار، له أثره في حفظ نظام الكون"2. 3 - الأبدال عند أهل السنة: لم يرد لفظ الأبدال في كتاب الله - تعالى -، ولم يرد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح، ولكن ورد هذا اللفظ في حديث منقطع الإسناد عن علي بن أبى طالب - رضي الله عنه - مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الأبدال يكونون بالشام، وهم أربعون رجلاً، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً، يُسقى بهم الغيث، ويُنتصر بهم على الأعداء، ويُصرف عن أهل الشام بهم العذاب" 3. والأبدال كما سبق إحدى المراتب في الترتيب الطبقي للأولياء عند الصوفية، حيث أعطوا الأبدال قدرة على التصرف، وحفظ نظام الكون، مما هو ليس في مقدور البشر، وهذا من الشرك في الربوبية، وهو لفظ بدعي مرفوض بهذا المعنى. ولكن يكثر في كتب رجال الحديث قولهم فلان من الأبدال، فما مرادهم بهذا اللفظ؟. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "كذلك لفظ البدل جاء في كلام كثير منهم، فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه ليس من كلام النبي..والذين تكلموا باسم البدل فسروه بمعان منها: أنهم أبدال الأنبياء، ومنها أنه كلما مات منهم رجل أبدل الله - تعالى - مكانه رجلاً،   1 - التوقيف ص29 - 30. 2 - معجم ألفاظ الصوفية للدكتور الشرقاوي ص22. 3 - أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/112، ح 896، وبنحوه الطبراني في المعجم الكبير10/181، ح 10390. وهو حديث منقطع الإسناد، انظر: مجموع الفتاوى11/433 - 434، الأحاديث المختارة لأبي عبد الله المقدسي 2/110، ح 484. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 ومنها أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بحسنات، وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ولا بأقل ولا بأكثر ولا تحصر بأهل بقعة من الأرض"1. وقال - رحمه الله -: "وأما أهل العلم فكانوا يقولون هم2 الأبدال؛ لأنهم أبدال الأنبياء، وقائمون مقامهم حقيقة، ليسوا من المعدمين الذين لا يعرف لهم حقيقة، كل منهم يقوم مقام الأنبياء في القدر الذي ناب عنهم فيه، هذا في العلم والمقال، وهذا في العبادة والحال، وهذا في الأمرين جميعا"3. فهذه المعاني صحيحة وهي لا تختص بعدد معين، وهي التي يريدها بعض المترجمين لرجال الحديث. أما من فسر الأربعين الأبدال بأن الناس إنما ينصرون ويرزقون بهم، فذلك باطل، بل النصر والرزق يحصل بأسباب من آكدها دعاء المؤمنين، وصلاتهم، وإخلاصهم، ولا يتقيد ذلك لا بأربعين ولا بأقل ولا بأكثر4. وكذا من قال بالأبدال السبعة وقدرتهم على حفظ نظام الكون فهذا - كما سبق - من الشرك في الربوبية. فالأبدال لفظ مجمل قد يحوي معنى صحيحاً وقد يحوي معنى باطلاً.   1 - مجموع الفتاوى11/441 - 442. 2 - يعني أهل الحديث. 3 - مجموع الفتاوى 4/97. 4 - انظر: المرجع السابق 11/442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 الأوتاد 1 - معنى الأوتاد في اللغة: الوتِدُ بالكسر، والوَتْد والوَدُّ، ما رز في الحائط، أو الأرض، من الخشب، والجمعأوتاد، قال الله - تعالى -: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} [النبأ - 7] ، وقوله - عز وجل -: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} [الفجر - 10] ، وَتَد الوَتِد وَتْداً وَتِدَة وَتَّد كلاهما ثبت1. فالأوتاد جمع وتد، وهو الشيء المثبت، الذي به يثبت شيء آخر. 2 - معنى الأوتاد في اصطلاح الصوفية: جاء في اصطلاحات الصوفية: "الأوتاد هم الرجال الأربعة، الذين على منازل الجهات الأربع من العالم أي الشرق والغرب والشمال والجنوب، بهم يحفظ الله - تعالى - تلك الجهات، لكونهم محل نظره - تعالى -"2. فالأوتاد إحدى المراتب في الترتيب الطبقي للأولياء عند الصوفية."والأوتاد قد بلغوا ووصلوا، وثبتت أقدامهم، وأركانهم، أما الأبدال فإنهم يتقلبون من حال إلى حال"3. 3 - معنى الأوتاد عند أهل السنة: ورد لفظ الأوتاد في القرآن الكريم، حيث أطلقه الله على الجبال التي تثبت الأرض، قال - تعالى -: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} [النبأ - 7] .   1 - انظر: لسان العرب 3/444. 2 - اصطلاحات الصوفية للقاشاني ص 17، وانظر: اصطلاحات ابن عربي ص 286، معجم الكلمات الصوفية لأحمد النقشبندي الخالدي ص16، التعريفات ص58، التوقيف على مهمات التعاريف ص102. 3 - معجم ألفاظ الصوفية للدكتور الشرقاوي ص63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 ولم يرد عن السلف إطلاق هذا اللفظ على بعضهم. وتحديده - كما يقول الصوفية - بأربعة أشخاص لا يزيدون، ولا ينقصون، وبهم يحفظ الله جهات العالم الأربع، هو أمر مبتدع وباطل، إذ لم يرد بهذا المعنى شيء في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه شرك بالربوبية؛ إذ أسندوا لبعض الخلق التكفل بحفظ العالم. وأما قول فلان من الأوتاد "يعنى بذلك أن الله - تعالى - يثبت به الإيمان، والدين، في قلوب من يهديهم الله به، كما يثبت الأرض بأوتادها، وهذا المعنى ثابت لكل من كان بهذه الصفة من العلماء، فكل من حصل به تثبيت العلم والإيمان في جمهور الناس، كان بمنزلة الأوتاد العظيمة والجبال الكبيرة، ومن كان بدونه كان بحسبه، وليس ذلك محصوراً في أربعة ولا أقل ولا أكثر، بل جعل هؤلاء أربعة مضاهاة لقول المنجمين في أوتاد الأرض"1. إذاً فلفظ الأوتاد فيه إجمال، قد يحمل معنى باطلاً، وهو المعنى الذي يخصصه الصوفية، وغيرهم، بأربعة أشخاص يحفظ الله بهم العالم. وقد يحمل معنى صحيحاً، بأن يعني أن العلماء كالأوتاد بهم يثبت الله العلم، والإيمان في جمهور الناس.   1 - انظر: مجموع الفتاوى11/440. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 القطب والغوث 1 - معنى القطب في اللغة: قال الخليل: "القُطْبُ نباتٌ.. والقُطْبُ كوكب بين الجدي والفرقدين، صغير أبيض، لا يبرح موضعه، شبه بقطب الرحى، وقطب الرحى، الحديدة التي في الطبق الأسفل من الرحيين، يدور عليها الطبق الأعلى، وتدور الكواكب على هذا الكوكب"1. وقال ابن فارس: "القاف والطاء والباء أصل صحيح يدل على الجمع، يقال جاءت العرب قاطبة، إذا جاءت بأجمعها"2. وقطب القوم سيدهم، وفلان قطب بني فلان، أي سيدهم الذي يدور عليه أمرهم3. فالقطب في اللغة هو الذي يدور عليه الأمر، لأهميته، وقطب القوم سيدهم. 2 - معنى القطب في اصطلاح الصوفية: القطب عند الصوفية عبارة عن "الواحد الذي هو موضع نظر الله من العالم في كل زمان، وهو على قلب إسرافيل - عليه السلام - "4. وقال الجرجاني: "القطب، وقد يسمى غوثاً باعتبار التجاء الملهوف إليه، وهو عبارة عن الواحد الذي هو موضوع نظر الله في كل زمان، أعطاه الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة، والظاهرة، سريان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض الأعم، وزنه يتبع علمه، وعلمه يتبع علم الحق، وعلم الحق يتبع الماهيات غير المجعولة فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل.."5.   1 - العين 5/106 - 107، وانظر: لسان العرب 1/682. 2 - معجم مقاييس اللغة 5/104. 3 - انظر: لسان العرب 1/682، القاموس المحيط ص161. 4 - اصطلاحات الشيخ محيي الدين العربي ص 286، وانظر: اصطلاحات الصوفية ص80 - 81. 5 - التعريفات ص227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 ويقول المناوي: "الأقطاب هم الجامعون للأحوال، والمقامات، وقد يتوسع فيسمى كل من دار عليه مقام من المقامات، وانفرد به في زمانه، قطباً، لكن حيث أطلق القطب لا يكون في الزمان إلا واحداً وهو الغوث، وهو سيد أهل زمنه وإمامهم، وقد يحوز الخلافة الظاهرة كما حاز الباطنة"1. 3 - معنى الغوث في اللغة: الغوث الإعانة والنصرة عند الشدة، يقول ابن فارس: "الغين والواو والثاء كلمة واحدة، وهي الغوث من الإغاثة، وهي الإعانة والنصرة عند الشدة. وغَوْثٌ: قبيلة "2. ويقول الخليل: "ضُرب فلانٌ فغَوَّث تغويثاً أي قال: واغَوْثاه، أي من يغيثني. والغَوْث الاسم من ذلك" 3. 4 - معنى الغوث في اصطلاح الصوفية: جاء في اصطلاحات الصوفية: "الغوث هو القطب حين يلتجأ إليه، ولا يسمى في غير ذلك الوقت غوثاً"4. فالغوث إذاً هو القطب في حالة الالتجاء إليه. 5 - معنى القطب والغوث عند أهل السنة: لفظ القطب ولفظ الغوث لم يردا في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينطق بها السلف - رحمهم الله -، فهي ألفاظ محدثة، ومع ذلك يجعلها الصوفية من أعلى الرتب الدينية، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "أما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة، مثل الغوث الذي بمكة والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة، والأبدال الأربعين، والنجباء الثلاثمائة، فهذه أسماء ليست موجودة في كتاب الله - تعالى - ولا هي أيضا مأثورة عن النبي، بإسناد صحيح، ولا ضعيف يحمل عليه"5.   1 - التوقيف ص83. 2 - معجم مقاييس اللغة 4/400. 3 - العين 8/440. 4 - اصطلاحات الصوفية ص74، وانظر: اصطلاحات ابن عربي ص293، التعريفات ص209، معجم الكلمات الصوفية ص60، موسوعة مصطلحات جامع العلوم ص648، المعجم الصوفي ص185. 5 - مجموع الفتاوى11/433 - 434. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وأما من حيث معناها فهي ألفاظ مجملة قد يراد بها معنى صحيح وقد يراد بها معنى باطل، وقد سئل شيخ الإسلام - رحمه الله - عن لفظ القطب الغوث فأجاب بقوله: "وأما سؤال السائل عن القطب الغوث الفرد الجامع؛ فهذا قد يقوله طوائف من الناس ويفسرونه بأمور باطلة في دين الإسلام، مثل تفسير بعضهم أن الغوث هو الذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم، حتى يقول إن مدد الملائكة وحيتان البحر بواسطته، فهذا من جنس قول النصارى في المسيح - عليه السلام -، والغالية في علي - رضي الله عنه -، وهذا كفر صريح يستتاب منه صاحبه فإن تاب وإلا قتل..وأما إن قصد القائل بقوله القطب الغوث الفرد الجامع، أنه رجل يكون أفضل أهل زمانه، فهذا ممكن، لكن من الممكن أيضاً أن يكون في الزمان اثنان متساويان في الفضل، وثلاثة، وأربعة، ولا يجزم بأن لا يكون في كل زمان أفضل الناس إلا واحداً، وقد تكون جماعة بعضهم أفضل من بعض من وجه دون وجه، وتلك الوجوه إما متقاربة وإما متساوية، ثم إذا كان في الزمان رجل هو أفضل أهل الزمان، فتسميته بالقطب الغوث الجامع، بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تكلم بهذا أحد من سلف الأمة وأئمتها"1. ومن المحاذير في لفظ القطب أنهم يدخلون في هذه الأسماء ما هو من خصائص الربوبية مثل كونه يعطي الولاية من يشاء، ويصرفها عن من يشاء، والله يقول لسيد ولد آدم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص - 56] وقال: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران - 128] 2. وبعضهم يطلق لفظ القطب على كل من دار عليه أمر من أمور الدين، أو الدنيا باطناً أو ظاهراً، فهو قطب ذلك الأمر ومداره، سواء كان الدائر عليه أمر داره أو دربه أو قريته أو مدينته أمر دينها أو دنياها، باطناً أو ظاهراً ولا اختصاص لهذا المعنى بسبعة، ولا أقل، ولا أكثر، لكن الممدوح من ذلك من كان مداراً لصلاح الدنيا والدين، دون مجرد صلاح الدنيا، فقد يتفق في بعض الأعصار أن يكون شخص أفضل أهل عصره، وقد يتفق في عصر   1 - مجموع الفتاوى 27/96 - 102، وانظر: منهاج السنة 1/95. 2 - انظر: بغية المرتاد ص393 - 394. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 آخر أن يتكافأ اثنان أو ثلاثة في الفضل عند الله سواء، ولا يجب أن يكون في كل زمان شخص واحد هو أفضل الخلق عند الله مطلقاً1. وأما لفظ الغوث فيقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "فأما لفظ الغوث والغياث فلا يستحقه إلا الله، فهو غياث المستغيثين، فلا يجوز لأحد الاستغاثة بغيره، لا بملك مقرب، ولا نبي مرسل"2. فإطلاق لفظ الغوث على غير الله باطل مطلقاً3. وأما لفظ القطب فقد يراد به معنى صحيح، وقد يراد به معنى باطل كما سبق.   1 - انظر: مجموع الفتاوى11/440. 2 - المرجع السابق11/437. 3 - انظر: المرجع السابق 11/444. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 النجباء والنقباء 1 - معنى النجباء في اللغة: قال الخليل: "انتجبته أي استخلصته، واصطفيته، اختياراً على غيره"1. "ورجل نجيب، أي كريم بيّن النجابة"2. وفي النهاية: "النجيب الفاضل من كل حيوان، وقد نجب ينجب نجابة إذا كان فاضلاً نفيساً في نوعه"3. فالنجباء جمع نجيب، وهو الفاضل النفيس. 2 - معنى النجباء في الاصطلاح: "النجباء هم الأربعون القائمون بإصلاح أمور الناس، وحمل أثقالهم، المتصرفون في حقوق الخلق لا غير"4. والعدد المذكور هنا تختلف الكتب في تحديده. 3 - معنى النقباء في اللغة: قال الخليل: "النَّقْب في الحائط ونحوه يخلص فيه إلى ما وراءه، وفي الجسد يخلص فيه إلى ما تحته من قلب أو كبد..والنقيب شاهد القوم يكون مع عريفهم، أو قبيلهم يسمع قوله ويصَدِّق عليه وعليهم..والنُّقَباء الذين ينقبون الأخبار والأمور للقوم فيصدقون بها.. والنَّقْاب الحبر العالم"5. فالنقباء جمع نقيب، والنقيب الباحث عن القوم، وعن أحوالهم.   1 - العين 6/152. 2 - الصحاح 1/222. 3 - النهاية لابن الأثير 5/17. 4 - اصطلاحات الصوفية للقاشاني ص103، وانظر: اصطلاحات ابن عربي ص286، معجم الكلمات الصوفية ص88، التعريفات ص 308، التوقيف ص692. 5 - العين 5/179 - 180، وانظر: الصحاح 1/227، اللسان 1/769. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 4 - معنى النقباء في الاصطلاح: جاء في معجم اصطلاحات الصوفية: "النقباء هم الذين تحققوا باسم الباطن، فأشرفوا على بواطن الناس، واستخرجوا خفايا الضمائر، لانكشاف الستائر لهم عن وجوه السرائر، وهم ثلاثمائة"1. وهذا العدد المذكور للنقباء تختلف الكتب في تحديده. 5 - موقف أهل السنة من لفظي النقباء والنجباء: سبق بيان المعنى اللغوي لهذين اللفظين، فالنقباء جمع نقيب، والنقيب الباحث عن القوم، وعن أحوالهم2، أما النجباء فجمع نجيب والنجيب في اللغة الفاضل. ولم يرد هذان اللفظان في كتاب الله ولا في سنة رسوله، وورد لفظ النقيب قال - تعالى -: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} [المائدة - 12] ، وهو على معناه في اللغة. فإطلاق لفظ النقباء أو النجباء على المعاني اللغوية السابقة صحيح، وهذه الصفات كلها لا تختص بعدد معين. أما المعنى الذي يذكره الصوفية للنقباء فهو معنى باطل، وظاهر الفساد، إذ لا يعلم بواطن النفوس إلا الله، وقد تمدح - سبحانه - بذلك فقال: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر - 19] ، وكذلك المعنى الذي ذكروه للنجباء هو باطل أيضاً، إذ فيه إشراك بعض الخلق مع الله في التصرف.   1 - اصطلاحات الصوفية للقاشاني ص104 - 105، وانظر: اصطلاحات ابن عربي ص 286، معجم الكلمات الصوفية ص90، التعريفات ص314، التوقيف ص708. 2 - انظر: المفردات ص820. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 العارف 1 - معنى العارف في اللغة: قال الأزهري: "عرف يعرف عرفاناً ومعرفة، وأمر عارف معروف عريف. قلت: لم أسمع أمر عارف أي معروف لغير الليث، والذي حصلناه للأئمة: رجل عارف أي صبور، قال أبو عبيد وغيره: يقال نزلت به مصيبة فوجد صبوراً عارفاً..ونفس عروف صبور إذا حُمِلت على أمر احتملته..والعرف والعارفة والمعروف واحد، وهو كل ما تعرفه النفس من الخير، وتَبْسأ به، وتطمئن إليه"1. ورجل عروفة بالأمور أي عارف بها، والهاء للمبالغة2. والعرفان العلم3. 2 - معنى العارف في اصطلاح الصوفية: جاء في معجم الكلمات الصوفية: "العارف هو من أشهده الله ذاته، وصفاته، وأسماءه، وأفعاله، فالمعرفة حال تحدث من شهوده"4. وفي الكليات: "والعارف هو المستغرق في معرفة الله، ومحبته"5. ومنهم من يفرق بين المعرفة والعلم فيقول:" المعرفة ما شاهدته حساً، والعلم ما شاهدته خبراً، أي بخبر الأنبياء - عليهم السلام -"6. وبناء على قول الصوفية وأهل الوحدة بالفناء، صار العارف عندهم "الفاني عن حظوظه   1 - تهذيب اللغة 2/344. 2 - انظر: الصحاح 4/1402، معجم مقاييس اللغة 4/282. 3 - انظر: لسان العرب 9/236، وانظر البحث ص227. 4 - معجم الكلمات الصوفية ص55، وانظر: المعجم الصوفي ص167. 5 - الكليات ص490. 6 - كشاف اصطلاحات الفنون 2/996. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 في شهود قيوميته، لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة"1. وقد آل بهم استغراقهم في توحيد الربوبية، والوقوف عند المشيئة العامة الشاملة إلى اطراح الأسباب، حتى قال قائلهم: العارف لايعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً؛ لاستبصاره بسر الله في القدر2. 3 - موقف أهل السنة من لفظ العارف: لم يرد العارف بهذا اللفظ في كتاب الله، وورد الفعل عرف بتصريفاته وبعض اشتقاقاته، نحو قوله - تعالى -: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد - 30] ، وقوله - تعالى -: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة - 146] ، وورد الفعل عرف بتصريفاته في السنة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام، على من عرفت، وعلى من لم تعرف" 3. واختار الله لنفسه لفظ العلم، ولم يصف نفسه بالمعرفة. وليس للفظ العارف مكانة دينية، أو أهمية خاصة، بل الذي يتردد عند أهل السنة هو لفظ العلم والعالم. والصوفية يرجحون لفظ العارف على العالم، وكثير منهم - كما يقول ابن القيم4 - لا يرفع بالعلم رأساً، ويعده قاطعاً وحجاباً دون المعرفة. وهذا باطل، فالله - عز وجل - امتدح أهل العلم، في أكثر من آية، ومنه قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر - 9] ، والآيات والأحاديث في فضل العلم والعلماء كثيرة، ليس هذا محل التفصيل فيها. وأما العارف في اصطلاح الصوفية فهو في الحقيقة ضلال وانحراف، إذ ليس بعارف من آل به الأمر إلى ترك الأسباب، وعدم التمييز بين المعروف والمنكر، والحق والباطل، بل هو خروج عن العلم والدين.   1 - الاستغاثة 1/355. 2 - انظر: طريق الهجرتين ص495. 3 - أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان باب السلام للمعرفة وغير المعرفة 5/2302، ح 5882. 4 - انظر: المدارج 3/335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 رجال الغيب 1 - معنى رجال الغيب في اللغة: قال الخليل: "هذا رَجُل أي ليس بأنثى، وهذا رجل أي كامل"1. وقال الجوهري: "والرَجُل خلاف المرأة، والجمع رِجَال ورِجَالات، مثل جمال وجمالات، وأَرَاجِل"2. فالرجال في اللغة جمع رجل وهو خلاف المرأة، أي ليس بأنثى. وأما الغيب، فيقول ابن فارس: "الغين والياء والباء أصل صحيح يدل على تستر الشيء عن العيون، ثم يقاس. من ذلك الغيب ما غاب، مما لايعلمه إلا الله. ويقال غابت الشمس تغيب غيبة وغيوباً وغيباً"3. فرجال الغيب في اللغة هم الرجال المستترون عن العيون. 2 - معنى رجال الغيب في الاصطلاح: يعتقد بعض العوام والصوفية أن رجال الغيب أولياء الله من الإنس، وهم غائبون عن أبصار الناس، وكلهم الله بتصريف الأمر4. والحقيقة أن ما يسمونه رجال الغيب هم جن تمثلت بصور الإنس، أو رؤيت في غير صور الإنس، والجن يسمون رجالاً، قال - تعالى -: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن - 6] 5. والجن تفعل ذلك كي تلبس على الإنس، ليعظموهم. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "ورجال الغيب هم الجن، وهو يحسب أنه أنسي، وقد يقول له أنا الخضر، أو إلياس، بل أنا   1 - العين 6/101. 2 - الصحاح 4/1705. 3 - معجم مقايس اللغة 4/403، وانظر: العين 8/454 - 456، الصحاح 1/196. 4 - انظر: مجموع الفتاوى 1/362، 13/217. 5 - انظر: المرجع السابق 11/443، منهاج السنة 3/380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 محمد، أو إبراهيم الخليل، أو المسيح، أو أبو بكر، أو عمر، أو أنا الشيخ فلان، أو الشيخ فلان، ممن يحسن بهم الظن. وقد يطير به في الهواء، أو يأتيه بطعام أو شراب أو نفقة، فيظن هذا كرامة، بل آية ومعجزة، تدل على أن هذا من رجال الغيب، أو من الملائكة، ويكون ذلك شيطاناً لبس عليه"1. وليس في أولياء الله المتقين، ولا عباد الله المخلصين الصالحين، ولا أنبيائه المرسلين، من كان غائب الجسد دائماً عن أبصار الناس2. والناس في رجال الغيب أحزاب مختلفة3: حزب يكذبون بوجود رجال الغيب، ولكن قد عاينهم الناس، وثبت عمن عاينهم، أو حدثه الثقات بما رأوه، وهؤلاء إذا رأوهم وتيقنوا وجودهم قد يخضعون لهم. وحزب عرفوهم، ورجعوا إلى القدر، واعتقدوا أن ثم في الباطن طريقاً إلى الله غير طريقة الأنبياء. وهؤلاء ضُلال. وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا ولياً خارجاً عن دائرة الرسول، فقالوا يكون الرسول هو ممداً للطائفتين. فهؤلاء معظمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه. والحق أن هؤلاء من أتباع الشياطين وأن رجال الغيب هم الجن، وإلا فالإنس يؤنسون أي يشهدون، ويرون، ومن ظنهم أنهم من الإنس فمن غلطه وجهله، وسبب الضلال فيهم وافتراق هذه الأحزاب الثلاثة، عدم الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن. فرجال الغيب إذاً ليسوا من الأنس بل هم جن يلبسون على الجهال والعوام، فيحسبونهم من أولياء الله وليسوا كذلك.   1 - مجموع الفتاوى 13/71. 2 - انظر: المرجع السابق 11/443. 3 - انظر: شرح العقيدة الطحاوية 2/766 - 767. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 الفناء 1 - معنى الفناء في اللغة: قال الخليل: "الفَناء نقيض البقاء، والفعل فني يفنى فناء فهو فان، والفِناء سعة أمام الدار"1. " وتفانى القوم قتلاً، أفنى بعضهم بعضاً، وتفانوا أي أفنى بعضهم بعضاً في الحرب، وفني يفنى فناء هرم وأشرف على الموت هرماً"2. فالفناء هو الاضمحلال والتلاشي والعدم، وقد يطلق على ما تلاشت قواه وأوصافه مع بقاء عينه كما يقال شيخ فان3. 2 - معنى الفناء في اصطلاح الصوفية: جاء في اصطلاحات الصوفية: "الفناء بزوال الرسوم جميعاً بالكلية، في عين الذات الأحدية، مع ارتفاع الإثنينية، وهو مقام المحبوبية"4. وفي المعجم الصوفي: "وقيل الفناء هو الغيبة عن الأشياء..وقيل الفناء أن لا ترى شيئاً إلا الله، ولا تعلم إلا الله، وتكون ناسياً لنفسك ولكل الأشياء سوى الله"5. ويقول شيخ الإسلام - رحمه الله - مبيناً المعنى العام للفناء عند الصوفية: "ما يسميه بعض الصوفية الفناء، وهو استغراق القلب في الحق حتى لا يشعر بغيره"6.   1 - العين 8/376، وانظر: تهذيب اللغة 15/478، لسان العرب 15/164. 2 - لسان العرب 15/164، وانظر: تهذيب اللغة 15/478. 3 - انظر: مدارج السالكين 1/154. 4 - اصطلاحات الصوفية للقاشاني ص212، وانظر: معجم الكلمات الصوفية ص191. 5 - المعجم الصوفي ص196. 6 - بغية المرتاد ص226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "ولكن القوم اصطلحوا على وضع هذه اللفظة لتجريد شهود الحقيقة الكونية والغيبة عن شهود الكائنات"1. وسيأتي تفصيل أقسامه عند بيان موقف أهل السنة منه. 3 - موقف أهل السنة من مصطلح الفناء: لم يرد مصطلح الفناء في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ورد الفعل فنى في قوله - تعالى -: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن - 26] أي هالك وذاهب2. والفناء المذكور في الآية، ليس هو الفناء الذي تشير إليه الصوفية، فإن الفناء في الآية الهلاك والعدم، حيث أخبر - سبحانه - أن كل من على الأرض يعدم ويموت، ويبقى وجهه - سبحانه - 3. كما لم يرد في كلام الصحابة والتابعين، مدح لفظ الفناء، ولا ذمه، ولا استعملوا لفظه في المعنى الذي يشير إليه الصوفية البتة، ولا ذكره مشايخ الطريق المتقدمون، ولا جعلوه غاية. فهذا اللفظ لا ينكر مطلقاً، ولا يقبل مطلقاً، بل لا بد فيه من التفصيل، وبيان صحيحه من معلوله، ووسيلته من غايته4. والفناء مصطلح يحتمل عدة معان؛ منها ما هو صحيح، ومنها ما هو نقص، ومنها ما هو كفر. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "والمعنى الذي يسمونه الفناء ينقسم ثلاثة أقسام: فناء عن عبادة السوى، وفناء عن شهود السوى، وفناء عن وجود السوى. فالأول: أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه. وهذا هو حقيقة التوحيد والإخلاص الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو تحقيق   1 - مدارج السالكين 1/154 - 155. 2 - انظر: تفسير الطبري 27/134، تفسير ابن كثير 4/273. 3 - انظر: مدارج السالكين 3/368. 4 - انظر: المرجع السابق 3/377 - 378، بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 لا إله إلا الله. فإنه يفنى من قلبه كل تأله لغير الله، ولا يبقى في قلبه تأله لغير الله، وكل من كان أكمل في هذا التوحيد كان أفضل عند الله. والثاني أن يفنى عن شهود ما سوى الله، وهذا الذي يسميه كثير من الصوفية حال الاصطلام والفناء والجمع ونحو ذلك، وهذا فيه فضيلة من جهة إقبال القلب على الله، وفيه نقص من جهة عدم شهوده للأمر على ما هو عليه، فإنه إذا شهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه المعبود لا إله إلا هو، الذي أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأمر بطاعته، وطاعة رسله، ونهى عن معصيته، ومعصية رسله، فشهد حقائق أسمائه وصفاته وأحكامه خلقاً وأمراً، كان أتم معرفة وشهوداً وإيماناً وتحقيقاً، من أن يفنى بشهود معنى عن شهود معنى آخر، وشهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، وهو الشهود الصحيح المطابق، لكن إذا كان قد ورد على الإنسان ما يعجز معه عن شهود هذا وهذا كان معذوراً للعجز، لا محموداً على النقص والجهل. والثالث الفناء عن وجود السوى، وهو قول الملاحدة أهل الوحدة، كصاحب الفصوص وأتباعه الذين يقولون وجود الخالق هو وجود المخلوق، وما ثم غير ولا سوى في نفس الأمر، فهؤلاء قولهم أعظم كفراً من قول اليهود والنصارى وعباد الأصنام"1. والمعنى الأول للفناء مطلوب. أما الفناء بالمعنى الثاني فهو الذي يظنه الصوفية غاية السالكين، مع أنه ليس غاية محمودة بل هو فناء الناقصين2، وهو الفناء في شهود الربوبية، وهؤلاء"ليس مرادهم فناء وجود ما سوى الله في الخارج، بل فناؤه عن شهودهم وحسهم، فحقيقته غيبة أحدهم عن سوى مشهوده، بل غيبته أيضا عن شهوده ونفسه، لأنه يغيب بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبموجوده عن وجوده، وبمحبوبه عن حبه،   1 - مجموع الفتاوى2/268 - 270، وانظر: مدارج السالكين1/154 - 155، 3/378 - 380. 2 - انظر: مدارج السالكين1/149، 155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وبمشهوده عن شهوده، وقد يسمى حال مثل هذا سكراً واصطلاماً ومحواً وجمعاً1، وقد يفرقون بين معاني هذا الأسماء"2. أما الفناء بالمعنى الثالث فهو فناء أهل الوحدة، وقولهم فيه كفر محض. ويعرض للسالك على درب الفناء معاطب، ومهالك؛ منها أنه إذا اقتحم عقبة الفناء ظن أن صاحبها قد سقط عنه الأمر، لتشويشه على الفناء، ونقضه له، والفناء عنده غاية العارفين، ونهاية التوحيد، فيرى ترك كل ما أبطله وأزاله من أمر ونهي أو غيرهما، ويصرح بعضهم بأنه إنما يسقط الأمر والنهي عمن شهد الإرادة. ولم يعلم هذا المغرور أن غاية ما معه الفناء في توحيد أهل الشرك الذي أقروا به ولم يكونوا به مسلمين ألبتة، كما قال - تعالى -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان - 25] ، ومن كان هذا التوحيد والفناء غاية توحيده، انسلخ من دين الله، ومن جميع رسله وكتبه3. 4 - المصطلحات التي تدخل تحت لفظ الفناء: يستخدم الصوفية مصطلحات أخرى للتعبير عن معنى الفناء، كلفظ المحو والجمع والاصطلام والسكر، وهذه المصطلحات تشترك معاً في غيبة المتصف بها عن شهود ما سوى الله، وقد يفرق بعض الصوفية بينها من حيث السبب الباعث لغيبة الشخص عن ما سوى الله، ومن حيث درجة هذه الغيبة، وحال المتصف بها. يقول شيخ الإسلام مبيناً تقارب هذه الألفاظ: ".. أن يفنى عن شهود ما سوى الله وهذا الذي يسميه كثير من الصوفية حال الاصطلام والفناء والجمع ونحو ذلك"4. وقال عن السكر: "وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفناء، ونحو ذلك من الأمور   1 - سيأتي التعريف بهذه المصطلحات في الفقرة التالية. 2 - مدارج السالكين 1/155. 3 - انظر: المرجع السابق 1/160. 4 - مجموع الفتاوى 2/370، وانظر المرجع نفسه10/594. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها، فإنه إذا لم يكن السبب محظوراً لم يكن السكران مذموماً بل معذوراً"1، وفيما يلي بيان هذه المصطلحات عند الصوفية باختصار: 1 - الجمع: وأما الجمع فهو "شهود الأشياء بالله والتبري من الحول والقوة إلا بالله، وجمع الجمعالاستهلاك بالكلية والفناء عما سوى الله وهو المرتبة الأحدية "2. 2 - المحو: والمحو هو "فناء وجود العبد في ذات الحق"3. و"محو الجمع والمحو الحقيقي فناء الكثرة في الوحدة"4. والمحو "رفع أوصاف العادة بحيث يغيب العبد عندها عن عقله، وتحصل منه أفعال وأقوال لا مدخل لعقله فيها؛ كالسكر من الخمر"5. 3 - الاصطلام: والاصطلام هو "نعت وله يرد على القلب تحت سلطانه "6. وقيل هو" الوله الغالب على القلب، وهو غلبات الحق الذي يجعل كلية العبد مغلوبة له بامتحان اللطف في نفي إرادته"7. 4 - السكر: أما تعريف السكر: فهو "غيبة بوارد قوي"8. وهو يعطي الطرب والإلتذاذ9. وفي اصطلاحات الصوفية قال عن السكر: "ودرجته في النهايات الاصطلام بين سطوة الفناء واستقراره، وبداية البقاء بعده واستهلاكه"10.   1 - مجموع الفتاوى 11/10. 2 - التعريفات ص105، وانظر: اصطلاحات ابن عربي ص287. 3 - التوقيف ص 641. 4 - اصطلاحات الصوفية ص90، وانظر: التعريفات ص258. 5 - التعريفات ص258. 6 - اصطلاحات ابن عربي ص 292، وانظر: اصطلاحات الصوفية ص15، التوقيف ص68. 7 - المعجم الصوفي 24. 8 - اصطلاحات ابن عربي ص288. 9 - انظر: التعريفات ص159. 10 - اصطلاحات الصوفية ص207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 5 - الصعق: والصعق هو"الفناء في الحق بالتجلي الذاتي"1. وقالوا: "الصعق الغشية أو الذهاب أو الفناء، وذلك من مطالعة أنوار الحقائق، فالصعق دهشة، وسكر ناتج من تجلي أسرار الله على قلب العبد الصادق، وذلك في حال المشاهدة"2. 6 - المشاهدة: والمشاهدة "شهود الذات، بارتفاع الحجاب مطلقاً..ودرجتها شهود الحق ذاته بذاته، لفناء العبد بكليته في عين الجمع"3. ومن خلال التعريف بهذه المصطلحات يتضح التقارب والاشتراك بينها في المعنى، والحكم على المتصف بها كما سبق في لفظ الفناء بمعناه عند الصوفية، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "فالأحوال التي يعبر عنها بالاصطلام والفناء والسكر ونحو ذلك، إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي مع نقص صاحبها - لضعف تمييزه - لا تنتهي إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقاً، ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقاً، وعظم هذا المقام، فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية قدراً وشرعاً، وغلط في خلق الله وفي أمره، حيث ظن أن وجود هذا؛ لا وجود له، وحيث ظن أنه ممدوح، ولا مدح في عدم التمييز: العقل والمعرفة"4.   1 - معجم الكلمات الصوفية ص49. 2 - معجم ألفاظ الصوفية للدكتور الشرقاوي ص190. 3 - معجم الكلمات الصوفية ص184 - 185. 4 - مجموع الفتاوى 3/117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 الكشف 1 - معنى الكشف في اللغة: قال الخليل: "الكشف رفعك شيئاً عما يواريه ويغطيه، كرفع الغطاء على الشيء"1. وفي الصحاح: "وكاشفه بالعداوة، أي بادأه بها"2. وقال ابن دريد: "كشفت الشيء أكشفه كشفاً إذا أظهرته، وأبديته"3. "وكشف الأمر يكشف كشفاً أظهره"4. والأكشف الذي لا ترس معه في الحرب5. فالكشف إذاً يعني الإظهار، ورفع الغطاء والحجاب. 2 - معنى الكشف في اصطلاح الصوفية: جاء تعريف المكاشفة في اصطلاحات الصوفية بأنها: "شهود الأعيان وما فيها من الأحوال في عين الحق، فهو التحقيق الصحيح بمطالعة تجليات الأسماء الإلهية"6. وقال الجرجاني: "الكشف في اللغة رفع الحجاب، وفي الاصطلاح هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية، والأمور الحقيقية وجوداً وشهوداً "7. والكشف طريق المعرفة عند الصوفية، وهو حاكم على الوحي عندهم، بل قال الغزالي إنه لا يستدل بالسمع على شيء من العلم الخبري، وإنما الإنسان يعرف الحق بنور إلهي، يقذف في قلبه، ثم يعرض الوارد في السمع عليه، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أولوه8، بل زادت طائفة أخرى على ذلك فادعوا أنهم يعلمون إما بالكشف وإما   1 - العين 5/297، وانظر: تهذيب اللغة 10/26، لسان العرب 9/300 2 - الصحاح 4/1421. 3 - جمهرة اللغةلابن دريد 3/65. 4 - لسان العرب 9/300. 5 - تهذيب اللغة للأزهري 10/27. 6 - اصطلاحات الصوفية ص 201. 7 - التعريفات ص235، وانظر: التوقيف ص604. 8 - انظر: إحياء علوم الدين 1/180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 بالعقل الحقائق التي أخبر بها الرسول أكمل من علمه بها1، وهو ما يصرح به مشايخ الاتحادية. وكثير منهم يدعي الكشف والشهود لما يخبرون عنه، وأن تحققهم لا يوجد بالنظر والقياس والبحث، وإنما هو شهود الحقائق وكشفها، ويقولون: ثبت عندنا بالكشف ما يناقض صريح العقل2. والكشف يقابله الإشراق عند السهروردي3، والإشراق عنده هو ظهور الأنوار العقلية، ولمعانها وفيضانها على الأنفس الكاملة، عند التجرد عن المواد الجسمية4. وعرفه أيضاً بأنه" شروق الأنوار على النفس بحيث تنقطع عن منازعة الوهم"5. ومما يدخل في معنى الكشف عند الصوفية، وهو من أنواعه وحالاته ووسائله: "1" - الوارد: وهو كل ما يرد على القلب من المعاني الغيبية من غير تعمد من العبد6. "2" - الخاطر: وهو ما يرد على القلب والضمير من الخطاب، ربانياً كان أو ملكياً، أو نفسياً، أو شيطانياً، من غير إقامة. وقد يكون كل وارد لا تعمّل لك فيه7. "3" - التجلي: وهو ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب8. "4" - المحادثة: وهي خطاب الحق للعارفين من عالم الملك والشهادة9. "5" - المسامرة: وهي خطاب الحق للعارفين، ومحادثته لهم في عالم الأسرار والغيوب10.   1 - انظر: درء التعارض 5/339 - 340. 2 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 2/538. 3 - الفيلسوف المنطقي، شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي، كان يتوقد ذكاء إلا أنه قليل الدين، وقال ابن أبي أصيبعة اسمه عمر، له كتاب التلويحات اللوحية والعرشية، وكتاب المعارج والمطارحات، وكتاب حكمة الإشراق، وسائرها ليست من علوم الإسلام، وكان يتهم بالانحلال والتعطيل، ويعتقد مذهب الأوائل، اشتهر ذلك عنه وأفتى علماء حلب بقتله، وقتل في أوائل سنة سبع وثمانين وخمس مئة. انظر: سير أعلام النبلاء 21/207 - 211، كشف الظنون 1/684. 4 - انظر: حكمة الإشراق للسهروردي ص298، نقلا عن المعجم الفلسفي للأستاذ مراد وهبة ص68. 5 - رسالة كلمات الصوفية للسهروردي، مجلة معهد المخطوطات العربية رقم 28، ص 183، نقلا عن المعجم الفلسفي للأستاذ مراد وهبة ص68. 6 - انظر: المعجم الصوفي للدكتور الحفني ص255. 7 - انظر: معجم الكلمات الصوفية للنقشبندي ص30، المعجم الصوفي ص85. 8 - انظر: معجم الكلمات الصوفية ص21، المعجم الصوفي ص48. 9 - انظر: معجم الكلمات الصوفية ص78، المعجم الصوفي ص221. 10 - انظر: معجم الكلمات الصوفية ص79، المعجم الصوفي ص230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 "6" - الذوق: وهو نور عرفاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه، يفرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره1. "7" - البصيرة: وهي قوة للقلب منورة بنور القدس، منكشف حجابها بهداية الحق، تُرى بها حقائق الأشياء وبواطنها، وتسمى القوة القدسية2. وكأن الذوق والبصيرة وسائل وأدوات للكشف، وأما الوارد والخاطر والتجلي والمحادثة والمسامرة فهي أضرب وأنواع للكشف. 3 - موقف أهل السنة من الكشف: لقد ورد لفظ الكشف في القرآن، ومنه قوله - تعالى -: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [ق - 22] ، وقال - سبحانه -: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء - 56] ، وورد في السنة الفعل "كشف"، ومن ذلك ما رواه أنس قال: "بينما المسلمون في صلاة الفجر، لم يفجأهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم وهم صفوف، فتبسم يضحك.."3، وهو على معناه في اللغة. والكشف في الاصطلاح عند أهل السنة نوع من الخوارق، وذلك بأن يسمع الشخص مالا يسمعه غيره، أو يرى ما لا يراه غيره، أو أن يعلم ما لا يعلمه غيره، إما من طريق الوحي والإلهام وهذا للمؤمن، وقد يكون كرامة من الله لعبده، وقد يحصل للنفس نوع من الكشف، إما يقظة وإما مناماً بسبب قلة علاقتها مع البدن، إما برياضة أو بغيرها، وهذا هو الكشف النفساني، وهو مشترك بين المؤمن والكافر4.   1 - انظر: المعجم الصوفي ص100، معجم ألفاظ الصوفية للدكتور الشرقاوي ص145 - 146. 2 - انظر: المعجم الصوفي ص44. 3 - أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب هل يلتفت لأمر ينزل به أو يرى شيئا أو بصاقا قي القبلة 1/245، ح 754، ومسلم في كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس 1/315، ح 419. 4 - انظر: الصفدية 1/187، شرح الطحاوية 2/753 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 يقول شيخ الإسلام موضحاً معنى الكشف وأنواعه: "فما كان من الخوارق من باب العلم، فتارة بأن يسمع العبد مالا يسمعه غيره. وتارة بأن يرى مالا يراه غيره يقظة ومناماً. وتارة بأن يعلم مالا يعلم غيره وحياً وإلهاماً، أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويسمى كشفاً ومشاهدات، ومكاشفات ومخاطبات، فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة، ويسمى ذلك كله كشفاً ومكاشفة أي كشف له عنه"1. والكشف الصحيح أن يعرف الحق الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، معاينة لقلبه2، فينكشف له من غوامض علوم الدين ما لا ينكشف لغيره، ويكون مع علمه عاملاً، فهذا من كشف الأولياء، وهو كشف ظاهر المنفعة. ومن الكشف مالا فائدة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، كالاطلاع على سيئات العباد3. ولابد أن يقترن الدين بالكشف، وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فلعدم الدين الذي هو أداء الواجبات وترك المحرمات، وأما في الدنيا فإن الخوارق هي من الأمور الخطرة، التي لا تنالها النفوس إلا بمخاطرات في القلب والجسم والأهل والمال4. وأما قول بعض الصوفية والاتحادية، أنه ثبت عندهم بالكشف ما يخالف الكتاب والسنة، فإن مشايخ الصوفية العارفين، متفقون على أن ما يحصل بالزهد والعبادة والرياضة والتصفية والخلوة، وغير ذلك، من المعارف، متى خالف الكتاب والسنة، أو خالف العقل الصريح، فهو باطل، ومن زعم من المنتسبين إليهم أنهم يجدون في الكشف ما يناقض صريح العقل، أو أن أحدهم يرد عليه أمر يخالف الكتاب والسنة بحيث يكون خارجاً عن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمره، أو أنه يحصل له علم مفصل بجميع ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمر به، فهو عندهم ضال مبطل، بل زنديق منافق، لا يجوزون قط طريقاً   1 - مجموع الفتاوى11/313. 2 - انظر: المدارج 3/226. 3 - انظر: مجموع الفتاوى11/328. 4 - انظر: المرجع السابق 11/330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 يستغنى به عن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يخبر به الرسول، ويأمر به، فضلاً عن أن يسوغ له مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أمره وخبره1. وما يُعلم بالكشف قد يكون صحيحاً وقد يكون خاطئاً، فأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة، ويخطئون أخرى، كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد، ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يزنوا كشفهم، ومشاهدتهم، وآرائهم، ومعقولاتهم، بكتاب الله، وسنة رسوله، ولا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن سيد المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب، وقد كانت تقع له وقائع، فيردها عليه رسول الله، أو صديقه أبو بكر، ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم - 2. كما أن ما يدعيه كثير من الصوفية، من الكشف والمشاهدة، عامته خيالات في أنفسهم، ويسمونها حقيقة، وقد تنزل عليهم الشياطين، وتخبرهم بأشياء، وتأمرهم بأشياء3، وهذا غاية كشفهم الذي يحكمون به على الكتاب والسنة. لذا يجب ربط ما يحصل بالكشف بالكتاب والسنة، فنجعلهما حاكمين على الكشف، وَنرَدُّ ما خالفهما.   1 - انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/266 - 267 2 - انظر: مجموع الفتاوى 11/65، بتصرف. 3 - انظر: الرد على المنطقيين ص489. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 الخاتمة الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً، كما يحب ربنا ويرضى، وبعد وفي نهاية هذا البحث، وبعد أن انتهيت من رحلتي بين أبوابه وفصوله، خلصت إلى نتائج أجملها فيما يلي: 1 - أن لدراسة ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها أهمية بالغة، إذ لا يمكن فهم مراد الآخرين، دون أن نعلم ما يريدونه بألفاظهم واصطلاحاتهم. 2 - أن أهل السنة والجماعة قد اعتمدوا في مصادرهم لألفاظ العقيدة، ومصطلحاتها، نبعاً أصيلاً هو كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما اعتمدوا على لغة العرب، والآثار الواردة عن السلف. 3 - يلتزم أهل السنة في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها بألفاظ الشرع، ومعاني اللغة ودلالاتها، كما يتجنبون الألفاظ البدعية، والمجملة، ويستفصلون السائل عن مراده بها، كما يتجنبون التشبه بغير المسلمين في ألفاظهم ومصطلحاتهم. 4 - أن المخالفين لأهل السنة من فلاسفة ومتكلمين، يعتمدون على العقل في مصطلحاتهم العقدية، كما يأخذون من الفلسفة اليونانية، والمنطق الأرسطي، ويأخذون من الديانات والملل الأخرى، بعض مصطلحاتهم، كما يأخذون من الكشف أيضاً. 5 - أن المخالفين لأهل السنة في ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها لا يلتزمون بألفاظ الشرع، ولا بمعاني اللغة ودلالاتها، ويعملون المجاز والتأويل فيها، ويستعملون ألفاظاً مبتدعة، ومجملة، لا يدرى ما مرادهم بها، إلا بعد السؤال والاستفصال، كما يتشبهون بغير المسلمين في ألفاظهم واصطلاحاتهم. 6 - أن الاصطلاحات لا مشاحة فيها إذا لم تتضمن مفسدة، فلم تخالف اللغة والشرع. 7 - أن الحد يفيد تمييز المحدود عن غيره، لا تصوير حقيقته، وهذا خلاف قول الفلاسفة. 8 - أنه لا يوجد لأهل السنة معجم مصطلحي شامل لألفاظ العقيدة ومصطلحاتها، يُعنى ببيان معانيها، ويبين مستندها الشرعي، ويوضح وجه غلط الآخرين فيها، فكثير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 المؤلفات في مصطلحات العقيدة كانت وفق معايير الفلاسفة، والمتكلمين، والصوفية، باستثناء الألفاظ التي يتفقون فيها. 9 - أن أهل الكلام والفلاسفة أدخلوا في أسماء الله ما ليس منها؛ كلفظ القديم، والموجود، والواجب، ونحوها، وهذه الألفاظ قد يخبر بها عن الله، كما سموه بما لا يصح إطلاقه عليه - سبحانه - كالموجب بالذات، والعلة، ونحوها. 10 - أن بعض صفات الربوبية الفعلية؛ كلفظ الخلق، والرزق، والإحياء والإماتة، ونحوها، عرفها المتكلمون بما هو قريب في اللفظ من تعريف أهل السنة، وإن كانوا يجعلونها بائنة عن ذات الرب غير قائمة فيه، ولا تحقق معنى يعود على الذات. 11 - أن الفلاسفة والمتكلمين أطالوا في الاستدلال لتوحيد الربوبية، وكثير من أدلتهم لم يكن موصلاً للمطلوب، بل وبعضها باطل الدلالة، وكانت بعض مصطلحاتهم في هذه الأدلة محدثة، تحمل معاني باطلة، وما صح من أدلتهم كان فيه إطالة لا داعي لها. 12 - أن هناك مصطلحات كثيرة، يستعملها الفلاسفة في توحيد الربوبية، تحمل معنى شركياً، كمصطلح القدم، والحدوث، والعلة، والعقل، والنفس، والفيض، والصدور، ونحوها. 13 - أن هناك مصطلحات بدعية يستعملها الصوفية للدلالة على المرتبة في الولاية، أو على المنازل التي يمر بها الولي، وهي تقدح في توحيد الربوبية، بل تدل على الشرك فيه، كلفظ القطب والغوث والفناء ونحوها. 14 - أن هناك كتباً كثيرة للمتقدمين من أهل العلم، اعتنت بالمصطلحات العقدية، وقد خدمت الباحثين كثيراً، ولكن يلاحظ قصورها عن بيان معاني ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها عند أهل السنة، وعدم نقد التعريفات التي تحوي معاني باطلة، مما يؤكد ضرورة العمل في هذا المجال، وإيجاد موسوعة مصطلحات لأهل السنة تبين معاني ألفاظ العقيدة ومصطلحاتها عندهم، وموقفهم من تحريف المتكلمين لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 ولذلك علينا جميعاً الإسهام في التشجيع على الدراسات المصطلحية، وتقديم المقترحات التي تنهض بهذا العلم وفق منهج أهل السنة والجماعة، ونشر هذه الدراسات لأن الطرف الآخر مغيب عنها. هذه خلاصة نتائج هذا البحث، وقد بذلت فيه ما بوسعي، والنقص من طبيعة البشر، وآمل أن أكون قد وضعت من خلال هذا البحث لبنة في علم المصطلحات العقدية، وهو بحاجة إلى لبنات أخرى ليكتمل هذا العلم وفق منهج أهل السنة والجماعة. والله - تعالى - أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 مصادر ومراجع ... فهرس المصادر والمراجع - الآداب الشرعية والمنح المرعية، لابن مفلح المقدسي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، عمر القيام. طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، 1418هـ. - الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري، تحقيق الدكتور صالح الفوزان، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. - الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، لابن بطة العكبري، تحقيق رضا بن نعسان معطي، دار الراية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1415هـ. - أبجد العلوم، لصديق بن حسن القنوجي، دار الكتب العلمية، بيروت. - اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن قيم الجوزية، تحقيق أحمد فواز زمرلي، طبعة دار الكتاب العربي. - الأحاديث المختارة، لأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي، تحقيق الشيخ عبد الملك ابن دهيش، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1410هـ - 1990م. - أحكام أهل الذمة، لابن قيم الجوزية، تحقيق الدكتور صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، 1983م. - أحكام القرآن، لأبي بكر الجصاص، تحقيق محمد الصادق قمحاوي، الناشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405 هـ. - الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، تحقيق الدكتور سيد الجميلي، الناشر دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1404هـ. - إحياء علوم الدين، للغزالي، طبعة مصطفى البابي الحلبي، 1358هـ. - إحياء علوم الدين، للغزالي، وبذيله كتاب المغني عن حمل الأسفار في الأسفار لزين الدين العراقي، تصحيح الشيخ عبد العزيز السيروان، دار القلم، بيروت، الطبعة الثالثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 - الأربعين في أصول الدين، للفخر الرازي، تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الأولى 1406هـ. - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، لأبي المعالي الجويني، تحقيق محمد يوسف موسى، وعلي عبد المنعم، مكتبة الخانجي، مطبعة السعادة، مصر، 1396هـ. - إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، لأبي السعود محمد بن محمد العمادي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. - أساس البلاغة، للزمخشري، تحقيق عبد الرحيم محمود، دار المعرفة، بيروت - لبنان. - أساس التقديس، للفخر الرازي، تحقيق أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1406هـ. - الاستقامة، لابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، الناشر مكتبة ابن تيمية، القاهرة. - الأسماء والصفات، للبيهقي، الناشر دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان. - الإشارات والتنبيهات، لابن سينا، مع شرح نصير الدين الطوسي، تحقيق الدكتور سليمان دنيا، الطبعة الثالثة، دار المعارف، القاهرة. - الأشباه والنظائر، لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ، الطبعة الأولى. - اصطلاحات الصوفية، لكمال الدين القاشاني، ضبطه موفق فوزي الجبر، الطبعة الأولى،1415هـ،1995م، دار الحكمة، دمشق، سوريا. - اصطلاحات الصوفية، لمحيي الدين ابن عربي، مكتبة لبنان، بيروت، 1985م. - أصول الدين، لعبد القاهر البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، 1401هـ. - الأضحوية في المعاد، لابن سينا، تحقيق الدكتورحسن عاصي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1407هـ. - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشنقيطي، طبعة على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن عبد العزيز، 1403هـ، 1983م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 - الاعتصام، للشاطبي، تعريف محمد رشيد رضا، المكتبة التجارية الكبرى، مكتبة مصر. - الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، للبيهقي، تحقيق كمال يوسف الحوت، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ. - اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، للفخر الرازي، تحقيق الدكتور محمد زينهم العزب، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1413هـ. - الأعلام، لخير الدين الزركلي، طبعة دار العلم للملايين، 1986م. - إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973م. - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن قيم الجوزية، تحقيق محمد حامد الفقي، مكتبة الرياض الحديثة. - اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية، تحقيق الدكتور ناصر العقل، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الثالثة، 1411هـ. - الألفاظ المستعملة في المنطق، للفارابي، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية. - الله يتجلى في عصر العلم، تأليف مجموعة من العلماء، إشراف جون كلوفر مونما، ترجمة الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان، مراجعة الدكتور محمد جمال الدين الفندي. - الأم، لمحمد بن إدريس الشافعي، إشراف محمد زهري النجار، دار المعرفة، بيروت. - الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، للباقلاني، تحقيق محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، 1413هـ. - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد، للمرداوي، تحقيق محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. "ب" - بجيرمي على الخطيب، المسماة بتحفة الحبيب على شرح الخطيب، للشيخ سليمان البجيرمي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1398هـ - 1978م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لزين الدين بن إبراهيم بن محمد ابن نجيم، دار المعرفة، بيروت. - بدائع الفوائد، لابن قيم الجوزية، مكتبة الرياض الحديثة. - البداية والنهاية، لابن كثير، طبعة دار الريان للتراث، 1498هـ. - البدر الطالع، للشوكاني، الناشر دار الكتاب الإسلامي، القاهرة. - بصائر ذوي التمييز إلى لطائف الكتاب العزيز، للفيروز آبادي، تحقيق محمد علي النجار، الطبعة الثانية، 1406هـ، وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لجنة إحياء التراث، مصر. - بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد، من القائلين بالحلول والاتحاد، لابن تيمية، تحقيق الدكتور موسى الدويش، مكتبة العلوم والحكم، الطبعة الأولى، 1408هـ. - بغية الوعاة، لجلال الدين السيوطي، طبعة المكتبة العصرية. "ت" - تاج العروس من جواهر القاموس، للزبيدي، تحقيق عبد الكريم العزباوي، وعبد العليم الطحاوي والترزي وحجازي، مطبعة حكومة الكويت، 1386هـ. - تاريخ الفلسفة اليونانية، لوولتر ستيس، ترجمة مجاهد عبد المنعم، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1984 م. - تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1408هـ. - تبصرة الأدلة في أصول الدين، لأبي المعين النسفي، تحقيق كلود سلامة، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، الجفان والجابي للطباعة والنشر، ليماسول، قبرص، الطبعة الأولى1990م. - التبصير في الدين، للإسفراييني، تحقيق محمد زاهد الكوثري، مكتب نشر الثقافة الإسلامية، الطبعة الأولى، 1359 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 - التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم، تصحيح طه شاهين، دار الكتاب العربي. - تبيين كذب المفتري، لابن عساكر، تعليق محمد زاهد الكوثري، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثانية1399هـ. - تحفة الأحوذي، لمحمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري أبو العلا، دار الكتب العلمية، بيروت. - تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد، لإبراهيم البيجوري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ. - التدمرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد بن عودة السعوي، الطبعة الأولى، 1405هـ. - الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري، تحقيق مصطفى محمد عمارة، دار الريان للتراث، دار الحديث، القاهرة، 1407هـ - 1987م. - التصوف، المنشأ والمصادر، لإحسان إلهي ظهير، الناشر إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان، الطبعة الأولى، 1406هـ. - التعريفات، للجرجاني، تحقيق عبد الرحمن عميرة، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1407هـ. - التعريفات الاعتقادية، لسعد آل عبد اللطيف، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1422 هـ،2002م. - التعليقات، للفارابي، تحقيق الدكتور جعفر آل ياسين، دار المناهل، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1408هـ. - تفسير أسماء الله الحسنى، للزجاج، تحقيق أحمد يوسف الدقاق، دار المأمون للتراث، دمشق، بيروت، الطبعة الخامسة، 1406هـ. - تفسير البغوي، "معالم التنزيل"، للحسين بن مسعود الفراء البغوي أبي محمد، تحقيق خالد العك - مروان سوار، دار المعرفة، بيروت، 1407 هـ - 1987م، الطبعة الثانية. - تفسير البيضاوي"أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، للبيضاوي، تحقيق عبد القادر عرفات العشا حسونة، دار الفكر، بيروت، 1416 هـ - 1996م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 - تفسير الثعالبي "الجواهر الحسان في تفسير القرآن"، لعبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت. - تفسير السيوطي، "الدر المنثور"، لعبد الرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي، دار الفكر، بيروت، 1993م. - تفسير الطبري "جامع البيان في تأويل آي القرآن"، لابن جرير الطبري، دار الفكر، بيروت، 1408هـ - 1988م. - تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تقديم الدكتور يوسف المرعشلي، دار المعرفة، بيروت - لبنان، الطبعة التاسعة، 1417هـ. - تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق حسين إبراهيم زهران، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى،1406هـ. - تفسير القرطبي، "الجامع لأحكام القرآن"، للقرطبي، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1387هـ. - التفسير الكبير، للفخر الرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة. - تفسير ما بعد الطبيعة، لابن رشد، تحقيق موريس بويج، بيروت، دار المشرق، 1973م. - تفسير النسفي، لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1402هـ. - تفسير الواحدي، "الوجيز في تفسير الكتاب العزيز"، لعلي بن أحمد الواحدي أبي الحسن، تحقيق صفوان عدنان داوودي، دار القلم، الدار الشامية، دمشق، بيروت،1415هـ، الطبعة الأولى. - تلبيس إبليس، لابن الجوزي، الناشر مكتبة المدني، جدة، المملكة العربية السعودية. - تلخيص كتاب الاستغاثة، المعروف بالرد على البكري، لابن تيمية، تحقيق محمد بن علي عجال، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة، الطبعة الأولى،1417هـ. - التمهيد في أصول الدين، لأبي المعين النسفي، تحقيق عبد الحي قابيل، دار الثقافة، القاهرة، 1407هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 - التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة، للباقلاني، تحقيق محمود الخضيري، ومحمد أبو ريدة، الناشر دار الفكر العربي. - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر، تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1387هـ. - التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، للملطي، تعليق محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية، 1413هـ. - تهافت التهافت، لابن رشد، تقديم د. محمد العريبي، دار الفكر اللبناني، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1993م. - تهافت الفلاسفة، للغزالي، تعليق محمود بيجو، دار الألباب، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 1419هـ، 1998م. - تهذيب اللغة، لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، تحقيق الدكتور عبد الله درويش، وعبد الكريم العزباوي، مراجعة محمد علي النجار، الدار المصرية، مطابع سجل العرب، القاهرة. - كتاب التوحيد، للحافظ ابن مندة، تحقيق الدكتور علي فقيهي، مطابع الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة. - كتاب التوحيد، لأبي منصور الماتريدي، تحقيق الدكتور فتح الله خليف، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية. - كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب، لابن خزيمة، تحقيق الدكتور عبد العزيز الشهوان، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الثانية، 1411هـ. - توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة ابن القيم، لأحمد بن عيسى، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1406هـ. تحقيق زهير الشاويش. - التوقيف على مهمات التعاريف، للمناوي، تحقيق الدكتور محمد رضوان الداية، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى1410هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الدار البيضاء للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة،1412 هـ. - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن بن سعدي، تحقيق محمد زهري النجار، دار المؤيد، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م. "ج" - جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، تقديم الأستاذ عبد الكريم الخطيب، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثانية، 1402هـ. - جامع البيان في تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري. انظر: تفسير الطبري. - جامع الرسائل، لابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، الناشر دار المدني، جدة، الطبعة الثانية، 1405هـ. - الجامع الصحيح المسند من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه، للبخاري، تحقيق د. مصطفى ديب البغا. دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، 1407 هـ، الطبعة الثالثة. - الجامع لشعب الإيمان، للبيهقي، تصحيح عزيز بيك القادري، المطبعة العزيزية، شاه علي بندر، حيدر آباد، الهند، الطبعة الثانية، 1406هـ. - جمهرة اللغة، لابن دريد، مكتبة الثقافة الدينية. - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية، تحقيق د. علي حسن ناصر، د. عبد العزيز إبراهيم العسكر، د. حمدان محمد، دار العاصمة، الرياض، 1414هـ، الطبعة الأولى. - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، الناشر مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. - الجواهر المضية في طبقات الحنفية، للقرشي، تحقيق عبد الفتاح الحلو، طبعة عيسى البابي الحلبي، 1399هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 "ح" - حاشية ابن عابدين، "حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار"، محمد أمين المعروف بابن عابدين، دار الفكر، بيروت، 1386 هـ، الطبعة الثانية. - حاشية العدوي على شرح أبي الحسن المسمى كفاية الطالب الرباني، للشيخ علي الصعيدي العدوي، دار الفكر. - الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة، لأبي القاسم التيمي، الجزء الأول تحقيق محمد بن ربيع مدخلي، والجزء الثاني تحقيق محمد بن محمود أبو رحيم، دار الراية، الرياض، الطبعة الأولى، 1411هـ. - الحدائق في المطالب العالية الفلسفية العويصة، لابن السيد البطليوسي، تقديم الدكتور عبد الكريم اليافي، تحقيق الدكتور محمد رضوان الداية، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى 1408هـ. - الحدود الأنيقة، لزكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري أبو يحيى، تحقيق د. مازن المبارك. دار الفكر المعاصر، بيروت، 1411، الطبعة الأولى. - الحروف، لأبي نصر الفارابي، تحقيق محسن مهدي، طبعة دار المشرق، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1990م، توزيع المكتبة المشرقية. - الحق الواضح المبين، لابن سعدي، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ ابن سعدي، مركز صالح بن صالح الثقافي، عنيزة، المملكة العربية السعودية، 1411هـ. - حقيقة التوحيد والفروق بين الربوبية والألوهية، للدكتور علي بن نفيع العلياني، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى 1419هـ. - الحوادث والبدع للإمام الطرطوشي، تحقيق محمد الطالبي، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، 1959م. "خ" - خلاصة الأثر، لمحمد المحبي، طبعة دار صادر بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 - خلق أفعال العباد، للإمام البخاري، تحقيق بدر البدر، الدار السلفية، الكويت، الطبعة الأولى1405هـ. "د" - درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، مكتبة ابن تيمية. - دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية، للدكتور عرفان عبد الحميد، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1404هـ. - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. - دقائق التفسير، لابن تيمية، تحقيق د. محمد السيد الجليند، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، 1404هـ. الطبعة الثانية. - دليل الباحث الناشيء في المصطلح، معهد الدراسات المصطلحية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، فاس، المملكة المغربية، 1414هـ. - الديباج المذهب، لابن فرحون المالكي، تحقيق محمد الأحمدي، دار التراث، مصر. - ديوان امرئ القيس، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1406هـ،1986م. - ديوان الأدب، لأبي إبراهيم، إسحاق بن إبراهيم الفارابي، تحقيق الدكتور أحمد مختار عمر، مراجعة الدكتور إبراهيم أنيس، الهيئة العامة لشؤون الطبع الأميرية، القاهرة1395هـ. - ديوان زهير، شرح وضبط وتقديم علي فاعور، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1988م. "ر" - رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد، للإمام الدارمي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1358هـ. - الرد على الجهمية للإمام الدارمي تقديم بدر البدر الدار السلفية الصفاة الكويت الطبعة الأولى 1405هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 - الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد بن حنبل تحقيق الرحمن عميرة دار اللواء الرياض الطبعة الثانية 1402هـ. - الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية إدارة ترجمان السنة الطبعة الثانية 1396هـ. - الرسالة للإمام الشافعي تحقيق أحمد شاكر دار التراث القاهرة الطبعة الثانية 1399هـ. - رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري تحقيق عبد الله شاكر الجنيدي مؤسسة علوم القرآن بيروت مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة الطبعة الأولى 1409هـ. - رسالة التوحيد لعبد الغنى النابلسي تحقيق الدكتور محمد شيخاني دار قتيبة دمشق بيروت الطبعة الأولى 1419هـ. - رسالة في الرد على الرافضة لأبي حامد المقدسي تحقيق الدكتور عبد الوهاب خليل الرحمن الدار السلفية بومناي الهند. - رسالة ما بعد الطبيعة لابن رشد د. رفيق العجيم د. جيرار جهامي دار الفكر اللبناني بيروت لبنان الطبعة الأولى 1994م. - الروح لابن قيم تحقيق محمد اسكندر يلدا دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الأولى 1402هـ. - روح المعاني للآلوسي دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان إدارة الطباعة المنيرية توزيع دار الباز مكة المكرمة. - روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة المقدسي ومعها شرحها نزهة الخاطر العاطر لابن بدران مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة. - رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، للإمام النووي، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة، 1406هـ - 1986م، المكتب الإسلامي، بيروت - دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 "ز" - زاد المسير في علم التفسير، لعبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1404هـ، الطبعة الثالثة. - زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، تحقيق شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة الخامسة والعشرون، 1412هـ. "س" - سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام، لمحمد بن إسماعيل الصنعاني الأمير، تحقيق محمد عبد العزيز الخولي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1379هـ، الطبعة الرابعة. - سنن أبي داود، للحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة. - سنن ابن ماجة، للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت. - سنن الترمذي، لأبي عيسى الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر، وآخرون، دار إحياء التراث العربي، بيروت. - السنن الكبرى، للبيهقي، تحقيق محمد عبد القادر عطا، مكتبة دار الباز، مكة المكرمة، 1414هـ - 1994 م. - سنن النسائي، تحقيق الدكتور عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1406 هـ - 1986م، الطبعة الثانية. - السنة، لعبد الله بن الإمام أحمد، تحقيق الدكتور محمد القحطاني، دار ابن القيم، الدمام، الطبعة الأولى، 1406هـ. - السنة، لأبي بكر الخلال، تحقيق الدكتور عطية الزهراني، دار الراية، الرياض، الطبعة الأولى، 1410هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 - سير أعلام النبلاء، للحافظ الذهبي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، الطبعة التاسعة، 1413هـ. بيروت. "ش" - الشامل في أصول الدين، لأبي المعالي الجويني، الكتاب الأول كتاب الاستدلال، تحقيق هلموت كلوبفر، دار العرب للبستاني، القاهرة، مصر. - شجرة النور الزكية، لمحمد بن محمد مخلوف، دار الفكر. - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. - شرح أسماء الله الحسنى، للرازي، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1410هـ. - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للإمام اللالكائي، تحقيق الدكتور أحمد حمدان، شركة العبيكان للطباعة والنشر، الناشر دار طيبة، الرياض. - شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار، تعليق أحمد بن الحسين، تحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان، الناشر مكتبة وهبة، الطبعة الثانية، 1408هـ، أم القرى للطباعة والنشر. - شرح السنة، للإمام البغوي، تحقيق زهير الشاويش، وشعيب الأرنؤوط، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1390هـ، توزيع رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، بالمملكة العربية السعودية. - شرح العقيدة الأصفهانية، لابن تيمية، تقديم حسنين مخلوف، دار الكتب الإسلامية. - شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، تحقيق الدكتور عبد الله التركي، وشعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1408هـ. - شرح العقيدة الواسطية، للشيخ ابن عثيمين، تخريج وعناية، سعد الصميل، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1415هـ. - شرح الفقه الأكبر، لملا علي قاري، دار الكتب العلمية، 1404هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 - شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، للدكتور عبد الله الغنيمان، مكتبة المدني، جدة، توزيع مكتبة الدار، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1405هـ. - شرح مختصر الروضة، للطوفي، تحقيق الدكتور عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى،1410هـ. - شرح المقاصد، للتفتازاني، تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، 1409هـ. - شرح المواقف في علم الكلام، للجرجاني، تحقيق الدكتور أحمد المهدي، الناشر مكتبة الأزهر، دار الحمامي للطباعة. - الشريعة، للإمام الآجري، تحقيق محمد حامد الفقي، طبعة أنصار السنة المحمدية. - الشفا، قسم الإلهيات، لابن سينا، مراجعة وتقديم الدكتور إبراهيم مدكور، تحقيق الأب قنواتي، وسعيد زايد. - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، للإمام ابن قيم الجوزية، تصحيح محمد بدر الدين النعساني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، الطبعة الأولى، 1323هـ. "ص" - الصاحبي، لابن فارس، تحقيق الطباع، مكتبة المعارف، بيروت، 1414هـ. - الصحاح، لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثالثة، 1404هـ. - الصحايف الإلهية، لشمس الدين السمرقندي، تحقيق الدكتور أحمد الشريف، مكتبة الفلاح، الكويت، الطبعة الأولى 1405هـ. - صحيح ابن حبان، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1414 هـ - 1993 م، الطبعة الثانية، تحقيق شعيب الأرنؤوط. - صحيح البخاري، انظر: الجامع الصحيح المسند. - صحيح الجامع الصغير وزيادته، لمحمد ناصر الدين الألباني، أشرف على الطبع زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1406هـ - 1986م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 - صحيح مسلم، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. - صحيح مسلم بشرح النووي، للإمام النووي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1407هـ. - الصفدية، لابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، الناشر مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1406هـ. - الصلاة وحكم تاركها، لابن القيم، تحقيق بسام عبد الوهاب الجابي، الجفان والجابي، قبرص، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى 1416هـ. - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، للإمام ابن القيم، تحقيق الدكتور علي الدخيل الله، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1408هـ. "ض" - ضوابط المعرفة، للدكتور عبد الرحمن حسن حبنكة، دار القلم، دمشق، توزيع دار البشير، جدة، الطبعة الخامسة، 1419هـ. "ط" - طبقات الشافعية، للسبكي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية. - طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة، تحقيق د. الحافظ عبد العليم خان، عالم الكتب، بيروت، 1407هـ، الطبعة الأولى. - طبقات الفقهاء، للشيرازي، تحقيق خليل الميس، دار القلم، بيروت. - طبقات المفسرين، أحمد بن محمد الأدنروي، تحقيق سليمان بن صالح الخزي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1997م. - طريق الهجرتين، للإمام ابن القيم، تحقيق عمر بن محمود أبو عمر، دار ابن القيم، الدمام، الطبعة الأولى، 1409هـ. "ع" - عدة الصابرين، لابن القيم، تحقيق زكريا علي يوسف، دار الكتب العلمية، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 - عقيدة التوحيد في القرآن الكريم، للدكتور محمد ملكاوي، منشورات دار ابن تيمية، الرياض، الطبعة الأولى، 1405هـ. - علم أصول البدع، لعلي بن حسن عبد الحميد، دار الراية، الرياض، الطبعة الأولى، 1413هـ،1992م. - العلمانية، نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، للدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي، مطابع جامعة أم القرى، الطبعة الأولى1402هـ،1982م. - العلم يدعو للإيمان، تأليف كريسي موريسون، ترجمة محمود صالح الفلكي، تصدير أحمد الباقوري، والدكتور أحمد زكي. - عون المعبود شرح سنن أبي داود، لشمس الحق العظيم آبادي، مع شرح الحافظ ابن القيم، تحقيق عبد الرحمن عثمان، الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، الطبعة الثانية1388هـ. - العين، للخليل بن أحمد، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي، والدكتور إبراهيم السامرائي، دار مكتبة الهلال. - العين والأثر في عقائد أهل الأثر، لعبد الباقي الحنبلي، تحقيق عصام قلعجي، مراجعة عبد العزيز رباح، دار المأمون للتراث، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ. "غ" - غاية المرام في علم الكلام، لعلي بن أبي علي بن محمد بن سالم الآمدي، تحقيق حسن محمود عبد اللطيف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1391هـ. - غريب الحديث، للقاسم بن سلام الهروي أبو عبيد، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد - الدكن - الهند، الطبعة الأولى، 1384هـ. - غريب الحديث، لإبراهيم بن إسحاق الحربي أبو إسحاق، تحقيق د. سليمان إبراهيم محمد العايد، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، دار المدني للنشر والتوزيع، 1405 هـ، الطبعة الأولى. - غريب الحديث، لحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي أبو سليمان، تحقيق عبد الكريم إبراهيم العزباوي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1402 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 - غريب الحديث، لابن الجوزي، تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985 م، الطبعة الأولى. "ف" - الفارابي في حدوده ورسومه، للدكتور جعفر آل ياسين، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ. - فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، تحقيق الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، الطبعة الأولى، مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، 1399هـ. - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر، تحقيق محب الدين الخطيب، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، مراجعة قصي محب الدين الخطيب، دار الريان للتراث، القاهرة، الطبعة الأولى1407هـ. - فتح القدير لمحمد بن علي الشوكاني، طبعة دار الفكر. - الفرق بين الفرق، لعبد القاهر البغدادي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة دار التراث. - الفروع، لمحمد بن مفلح المقدسي أبو عبد الله، تحقيق أبو الزهراء حازم القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418هـ، الطبعة الأولى. - الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم، تحقيق أحمد شمس الدين، الناشر دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1420هـ - 1999م. - فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، لابن رشد، تحقيق الدكتور البير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، الطبعة السادسة. - فقه النوازل، للدكتور بكر أبو زيد، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1416هـ. - الفهرست، لابن النديم، دار المعرفة، بيروت، سنة النشر 1398 هـ - 1978م. - فيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرؤوف المناوي، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، 1356هـ، الطبعة الأولى. "ق" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 - قاعدة في المحبة، لابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة. - القاموس المحيط، للفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1407هـ. - قصة الفلسفة، تأليف ول ديورانت، ترجمة الدكتور فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة السادسة1408هـ - 1988م، - قضية العناية والمصادفة في الفكر الغربي، للدكتورة سارة بنت عبد المحسن بن جلوي، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى 1415هـ. - قواعد العقائد، للغزالي، تحقيق موسى بن نصر، عالم الكتب، بيروت، 1985م، الطبعة الثانية. "ك" - الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل، لابن قدامة، المكتب الإسلامي، تحقيق زهير الشاويش، الطبعة الرابعة، 1405هـ. - الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل، لابن قدامة، تحقيق الدكتور عبد الله التركي، هجر للطباعة، الطبعة الأولى 1418هـ - 1997م. - كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، الناشر سهيل كيدمي، لاهور، باكستان، الطبعة الأولى، 1413هـ. - الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري، تحقيق مصطفى حسين أحمد، الناشر دار الكتاب العربي، لبنان، الطبعة الثالثة، 1407هـ. - كشاف القناع عن متن الإقناع، لمنصور بن يونس بن إدريس البهوتي، تحقيق هلال مصيلحي مصطفى هلال، دار الفكر، بيروت، 1402هـ. - كشف الظنون، لمصطفى بن عبد الله القسطنطيني الرومي الحنفي، المعروف بحاجي خليفة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413 هـ - 1992م. - الكليات، لأبي البقاء الكفوي، تحقيق الدكتور عدنان درويش، ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 - كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة، للدكتور عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى 1405هـ. - كيمياء السعادة، للغزالي، دار المعارف، سوسة، تونس، 1988م. "ل" - لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى. - لسان الميزان، لابن حجر، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، دائرة المعرف النظامية - الهند، الطبعة الثالثة، 1406 هـ - 1986م. - لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة، لأبي المعالي الجويني، تحقيق الدكتورة فوقية حسين، مراجعة الدكتور محمود الخضيري، علم الكتب، الطبعة الثانية، 1407هـ. - لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية في عقيدة أهل الآثار السلفية، لمحمد السفاريني، تحقيق عبد الله البصيري، مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1415هـ. - لوامع الأنوار البهية، وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية، لمحمد السفاريني، المكتب الإسلامي، بيروت، دار الخاني الرياض، الطبعة الثالثة، 1411هـ. "م" - الماتريدية دراسة وتقويما، للشيخ أحمد الحربي، دار العاصمة، الرياض، 1413هـ. - المباحث المشرقية، للفخر الرازي، تحقيق محمد المعتصم بالله، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ. - المبدع في شرح المقنع، لإبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح الحنبلي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1400هـ. - المبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين، للآمدي، تحقيق حسن محمود الشافعي، الناشر مكتبة وهبة، مصر، الطبعة الثانية، 1413هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 - متن العقيدة الطحاوية، للإمام الطحاوي، دار الصميعي، الرياض، الطبعة الأولى 1419هـ. - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مكتبة النهضة الحديثة، مكة، تم الطبع بإدارة المساحة العسكرية بالقاهرة، 1404هـ. - مجموعة الرسائل والمسائل، لابن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى1403هـ. - مجموعة فتاوى ابن تيمية الكبرى، طبعة دار المنار، 1408هـ. - محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، للفخر الرازي، مراجعة طه عبد الرؤوف سعد الناشر مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة. - محك النظر في المنطق للغزالي تحقيق محمد بدر الدبن النعساني دار النهضة الحديثة بيروت 1966م. - المحيط بالتكليف للقاضي عبد الجبار جمع الحسن بن أحمد بن متوية تحقيق عمر السيد عزمي مراجعة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، المؤسسة المصرية، الدار المصرية. - مختصر الصواعق المرسلة، اختصار الشيخ محمد بن الموصلي، دار الندوة الجديدة، بيروت، لبنان، 1405هـ. - المختصر في أصول الدين، للقاضي عبد الجبار، ضمن كتاب رسائل العدل والتوحيد، تحقيق الدكتور محمد عمارة، دار الشروق. - مدارج السالكين إلى منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم، تحقيق، محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1392هـ. - المدخل إلى دراسة علم الكلام، للدكتور حسن الشافعي، المطبعة الفنية، الناشر مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1411هـ. - مذاهب فكرية معاصرة، للدكتور محمد قطب، دار الشروق، بيروت، القاهرة، الطبعة الثانية، 1407هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 - المزهر في علوم اللغة وأنواعها، لجلال الدين السيوطي، تحقيق محمد أحمد جاد المولى، علي البجاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الجيل، دار الفكر، بيروت. - المسائل الخمسون في أصول الدين، للفخر الرازي، تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقا، دار الجيل، بيروت، المكتب الثقافي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1410هـ. - المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة، جمع عبد الإله الأحمدي، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1412هـ. - المستدرك على الصحيحين، لمحمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1990م. - المستصفى، للغزالي، وبذيله فواتح الرحموت، دار العلوم الحديثة، بيروت، لبنان. - المسند، للإمام أحمد، مؤسسة قرطبة، مصر. - المسودة، لآل تيمية، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني، القاهرة. - المصباح المنير، للفيومي، دار القلم، بيروت، لبنان. - المصطلح الفلسفي عند العرب، للدكتور عبد الأمير الأعسم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1997م. - المضنون به على غير أهله، للغزالي، تقديم رياض العبد الله، مطابع الحكمة، دمشق، الطبعة الأولى، 1417هـ. - المطالب العالية من العلم الإلهي، للفخر الرازي، تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقا، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ. - معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، للشيخ حافظ الحكمي، مطبوعات الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية. - معالم أصول الدين، للرازي، تعليق الدكتور سميح دغيم، دار الفكر اللبناني، بيروت، مطابع يوسف بيضون، بيروت، الطبعة الأولى1992م. - معالم السنن، شرح سنن أبي داود لأبي سليمان محمد بن محمد الخطابي، تخريج وترقيم عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1411هـ - 1991م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 - معاني القرآن الكريم، للنحاس، تحقيق محمد علي الصابوني، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1409 هـ. - المعتبر في الحكمة، لابن ملكا البغدادي، حيدر آباد، جمعية دائرة المعارف العثمانية، 1357هـ. - المعتزلة وأصولهم الخمسة، لعواد المعتق، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1409هـ. - معجم ألفاظ الصوفية، للدكتور حسن الشرقاوي، مؤسسة مختار للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 1987م. - معجم البلدان، لياقوت الحموي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1399هـ - 1979م. - المعجم الصوفي، للدكتور عبد المنعم الحفني، الناشر دار الرشاد، القاهرة، الطبعة الأولى، 1417هـ. - المعجم العربي الأساسي للناطقين بالعربية ومتعلميها، تأليف مجموعة من العلماء، الناشر المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، لاروس. - المعجم الفلسفي، للدكتور جميل صليبا، الشركة العالمية للكتاب، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982م. - المعجم الفلسفي، لمجمع اللغة العربية، القاهرة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية 1399هـ. - المعجم الفلسفي، للدكتور عبد المنعم الحفني، الدار الشرقية، مصر، الطبعة الأولى، 1410هـ. - المعجم الكبير، لسليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، الطبعة الثانية، 1404 - 1983. - معجم الكلمات الصوفية، لأحمد النقشبندي الخالدي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1997م. - معجم المصطلحات الفلسفية، تأليف مراد وهبة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 - معجم مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ. - معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، دار إحياء التراث العربي. - المعجم الوسيط، إخراج إبراهيم مصطفى، حامد عبد القادر، أحمد الزيات، محمد النجار، مجمع اللغة العربية، المكتبة الإسلامية، استانبول، تركيا، الطبعة الثانية، تصدير الدكتور إبراهيم مدكور. - معيار العلم في المنطق، للغزالي، تحقيق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ. - المُغَرِّب في ترتيب المعرِّب، لأبي الفتح ناصر الدين بن عبد السيد بن علي المطرزي، الناشر دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. - المغني، لابن قدامة، تحقيق الدكتور عبد الله التركي، والدكتور عبد الفتاح الحلو، الناشر هجر للطباعة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1413هـ - 1992م. - المغني في أبواب التوحيد والعدل، للقاضي عبد الجبار، تحقيق محمود الخضيري، مراجعة الدكتور إبراهيم مدكور، إشراف الدكتور طه حسين، الدار المصرية للتأليف والترجمة. - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، لمحمد الخطيب الشربيني، دار الفكر، بيروت. - مفاتيح العلوم، للخوارزمي الكاتب، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1409هـ. - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، لابن القيم، تحقيق علي بن حسن عبد الحميد، مراجعة الدكتور بكر أبو زيد، الناشر دار ابن عفان، الخبر، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1416هـ. - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، لابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت. - مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، تحقيق صفوان داوودي، دار القلم دمشق، الدار الشامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 - مقارنة الأديان، الجزء الثاني، المسيحية، للدكتور أحمد شلبي، الناشر مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة الثامنة،1990م. - مقاصد الفلاسفة، للغزالي، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، 1960م. - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، لأبي الحسن الأشعري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثانية، 1389هـ. - مقدمة ابن خلدون، لعبد الرحمن ابن خلدون، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة. - الملل والنحل، للشهرستاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، طبعة دار المعرفة، بيروت، لبنان. - مناهج الأدلة في عقائد الملة، لابن رشد، تقديم د. محمود قاسم، طبعة مكتبة الإنجلو المصرية، الطبعة الثانية، 1964م. - المنجد في اللغة والأعلام، إعداد مجموعة من المؤلفين، منشورات دار المشرق، بيروت، توزيع المكتبة الشرقية، بيروت، الطبعة الثالثة والثلاثون،1992م. - المنخول، للغزالي، تحقيق محمد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثانية، 1400هـ. - منطق أرسطو، تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي، الناشر وكالة المطبوعات، الكويت، دار القلم، بيروت. - المنقذ من الضلال، للغزالي، دار المعارف، سوسة، تونس، 1988م. - منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس، لعبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، دار الهداية، الرياض، الطبعة الثانية، 1407هـ. - منهاج السنة النبوية، لابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة، الطبعة الأولى، 1406هـ. - المنية والأمل، لابن المرتضى، تحقيق عصام الدين محمد، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 1985م. - المواقف في علم الكلام، لعبد الرحمن الإيجي، عالم الكتب، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 - الموسوعة العربية العالمية، لمجموعة من العلماء، تقديم الدكتور راشد المبارك، الناشر مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1416هـ. - الموسوعة الفقهية، إعداد مجموعة من العلماء، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، طبعة ذات السلاسل، الطبعة الثانية 1404هـ. - موسوعة مصطلحات الإمام فخر الدين الرازي، إعداد الدكتور سميح دغيم، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى 2001م. - موسوعة مصطلحات جامع العلوم، تقديم د. رفيق العجم، تحقيق د. علي دحروج، نقل النص الفارسي إلى العربية د. عبد الله الخالدي، الترجمة الأجنبية د. محمد العجم. مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى 1997م. - موسوعة مصطلحات علم الكلام الإسلامي، إعداد الدكتور سميح دغيم، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى 1998م. - موسوعة مصطلحات الفلسفة عند العرب، إعداد الدكتور جيرار جهامي، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى 1998م. - الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إشراف الدكتور مانع الجهني، الناشر دار الندوة العالمية، الرياض، الطبعة الرابعة 1420هـ. "ن" - النبوات، لابن تيمية، تحقيق محمد عبد الرحمن عوض، الناشر دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1405هـ، 1985م. - النجاة في المنطق والإلهيات، لابن سينا، تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ. - نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، للدكتور علي النشار، الناشر دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثامنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 - نقض المنطق، لابن تيمية، تحقيق الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، والشيخ سليمان الصنيع، تصحيح محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت. - نهاية الإقدام في علم الكلام، لعبد الكريم الشهرستاني، تصحيح الفرد جيوم، مكتبة الثقافة الدينية. - النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، تحقيق محمود الطناحي، وطاهر الزاوي، الناشر المكتبة الإسلامية. - نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول، لأبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن الحكيم الترمذي، تحقيق د. أحمد السايح، د. السيد الجميلي، دار الريان للتراث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1408هـ - 1988م. - نيل الأوطار، للشوكاني، دار الجيل، بيروت، 1973م. "هـ" - هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، لابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. "و" - الوافي بالوفيات، للصفدي، الطبعة الثانية، بعناية س. ديد رينغ 1394هـ. - وفيات الأعيان، لابن خلكان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت. مراجع باللغة الانجليزية: - Oxford Advanced Learner’s Dictionary. Oxford University Press. Fifth Edition with correction 1998 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520