الكتاب: الأدب الصغير والأدب الكبير المؤلف: عبد الله بن المقفع (المتوفى: 142هـ) الناشر: دار صادر - بيروت عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الأدب الصغير والأدب الكبير ابن المقفع الكتاب: الأدب الصغير والأدب الكبير المؤلف: عبد الله بن المقفع (المتوفى: 142هـ) الناشر: دار صادر - بيروت عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ابن المقفع: 106-142هـ، 724-759م. حياته, ومقتله هو عبد الله بن المقفع، فارسي الأصل، كان اسمه قبل إسلامه روزبه، وكنيته أبا عمرو، فلما أسلم سمي عبد الله، وكني بأبي محمد. ويعود لقبه بابن المقفع إلى أن أباه داذويه كان متوليًا خراج بلاد فارس من قبل الحجاج، فأخذ بعض أموال السلطان، فضربه الحجاج على يديه فتقفعتا، فلقب بالمقفع. نشأ ابن المقفع في ولاء بني الأهتم، وهم أهل فصاحة وبلاغة، فكان لهذه النشأة تأثير عظيم فيه، وفيما إليه من درجة رفيعة في الأدب. كتب لداود بن هبيرة، ثم لعم المنصور عيسى بن علي بن عبد الله زمن ولايته على كرمان، ثم لأخيه سليمان بن علي أيام ولايته على البصرة. وكان في أثناء ذلك أن خرج عبد الله بن علي والي الشام على ابن أخيه المنصور، فطارده المنصور، فلجأ إلى أخويه سليمان وعيسى في البصرة، فطلبه المنصور، فأبيا أن يسلماه إياه إلا بأمان يمليان شروطه، فرضي المنصور بذلك، وعهدا إلى ابن المقفع بكتابة الأمان، فشدد فيه على المنصور تشديدا أحفظه عليه، وجعله يضمر له الشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ثم عزل المنصور عمه سليمان عن البصرة، وولى مكانه سفيان بن معاوية، فطفق ابن المقفع يسخر منه, ومن أنفه الكبير، فنقم عليه، وذات يوم دخل ابن المقفع إلى دار سفيان, ولم يخرج منها، فقد قتله سفيان، ويقال: إنه كان للمنصور رأي في قتله. صفاته: كان ابن المقفع مشهورًا بذكائه، وسعة علمه, حتى قيل فيه: إنه لم يكن في العجم أذكى منه, وكان كريمًا جوادًا، وافر المروءة، وقد اشتهر بحبه للصديق, وحادثته مع عبد الحميد بن يحيى كاتب الخليفة الأموي مروان بن محمد شهيرة, وكان يقول: ابذل لصديقك دمك ومالك. وقد اتهمه حساده بالزندقة, ولكن لا شيء في كتبه يثبت هذه التهمة عليه. كتبه: آثار ابن المقفع الأدبية كثيرة, جمع فيها أدب الفرس إلى أدب العرب, ومن أشهر مؤلفاته: كليلة ودمنة، وقد نقله عن الفارسية، وهو كتاب يرمي إلى إصلاح الأخلاق, وتهذيب العقول،؛ ومنها الأدب الكبير, والصغير, وهما اللذان يجمعهما هذا المجلد. الأدب الكبير: يعترف ابن المقفع بأنه أخذ كتابه هذا من أقوال المتقدمين، وقد قدم له بتوطئة في: فضل الأقدمين على العلم, وشروط درسه, والغرض من هذا الكتاب, وقسمه إلى مبحثين: الأول في السلطان, ومصاحبه, وما يجمل بكل منهما من الخلال، وفي هذا المبحث بابان: الأول في آداب السلطان, والثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 في صحبة السلطان. أما المبحث الثاني فقد خصه بالأصدقاء، وحسن اختيار الصديق، وحسن معاملته، وكل ما له علاقة بالأصدقاء. الأدب الصغير: كان ابن المقفع في الأدب الصغير ناقلًا أيضًا، فقد قال: وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفًا, غير أنه تصرف فيما نقله, وهذا الكتاب كناية عن دروس أخلاقية اجتماعية, ترغب في العلم, وتدعو المرء إلى تأديب نفسه، ويوصي بالصديق، ويتكلم على سياسة الملوك والولاة. أسلوبه الإنشائي: لابن المقفع أسلوب خاص به، هو السهل الممتنع, وإننا نجد في هذا الأسلوب أفكارًا متسقة, وقوة منطق، وألفاظًا سهلة، فصيحة منتقاة، قوية المدلول على المعاني، ونجد فيه من البلاغة أرفع درجاتها، وقد كان يوصي بالابتعاد عن وحشي الألفاظ, ومبتذل المعنى، فيقول مخاطبًا أحد الكتاب: إياك والتتبع لوحشي الكلام؛ طمعًا في نيل البلاغة, فإن ذلك العي الأكبر. وقد ساد أسلوبه, واحتذاه بلغاء الكتاب، وظل سائدا حتى ظهر أسلوب الجاحظ. فضله على العربية: وابن المقفع على كونه في تفكيره أعجميًا يتعصب لآداب قومه وعلومهم، فلا يرى في كتبه من العربية إلا اللغة، وقلما استشهد بشعر أو مثل أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 حكمة، أو أشار إلى وقائع العرب, وآرائهم، فإن فضله عظيم على العربية، فهو أول من أدخل إليها الحكمة الفارسية, الهندية, والمنطق اليوناني, وعلم الأخلاق, وسياسة الاجتماع, وأول من عرَّب، وألَّف، ورفع في كتبه النثر العربي إلى أعلى درجات الفن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الأدب الصغير بسم الله الرحمن الرحيم قال ابن المقفع: أما بعد، فإن لكل مخلوق حاجة، ولكل حاجة غاية، ولكل غاية سبيلًا. والله وقَّت1 للأمور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سبلها، وسبب2 الحاجات ببلاغها. فغاية الناس وحاجاتهم صلاح المعاش والمعاد3، والسبيل إلى دركها4, العقل الصحيح, وأمارة5 صحة العقل اختيار الأمور البصر6، وتنفيذ البصر بالعزم.   1 وقَّت: حدد وقتًا. 2 سبب: أوجد. 3 المعاش, والمعاد: الحياة الدنيا، والآخرة. 4 دَركها: إدراكها. 5 أمارة: علامة. 6 البصر: أي البصر في الأمور، العلم بعواقبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الأدب ينمي العقول وللعقول سجيات وغرائز1، بها تقبل الأدب، وبالأدب تسمى العقول وتزكو. فكما أن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدر أن تخلع يبسها، وتظهر قوتها، وتطلع فوق الأرض بزعوتها وزيعها2، ونضرتها ونمائها، إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها، فيذهب عنها أذى اليبس والموت، ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة، فكذلك سليقة3 العقل مكنونة في مغرزها من القلب: لا قوة لها، ولا حياة بها، ولا منفعة عندها، حتى يعتملها4 الأدب، الذي هو ثمارها، وحياتها، ولقاحها. وجل الأدب بالمنطق، وجل المنطق بالتعلم، ليس منه حرف من حروف معجمه، ولا اسم من أنواع أسمائه، إلا وهو مروي، متعلم، مأخوذ عن إمام سابق، من كلام أو كتاب. وذلك دليل على أن الناس لم يبتدعوا أصولها، ولم يأتهم علمها إلا من قبل العليم الحكيم. فإذا خرج الناس من أن يكون لهم عمل أصيل، وأن يقولوا قولا   1 السجيات، الواحدة سجية: الطبيعة والخلق، الغرائز، الواحدة غريزة: الطبيعة. 2 ريعها: نموها. 3 السليقة: الطبيعة. 4 يعتملها: يعملها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 بديعًا، فليعلم الواصفون المخبئون أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائدا على أن يكون كصاحب فصوص1؛ وجد ياقوتا، وزبرجدا ومرجانا، فنظمه قلائد وسموطا2 وأكاليل، ووضع كل فص موضعه، وجمع إلى كل لون شبهه، وما يزيده بذلك حسنا، فسمي بذلك صانعا رفيقا، وكصاغة الذهب والفضة، صنعوا منها ما يعجب الناس من الحلي والآنية، وكالنحل؛ وجدت ثمرات أخرجها الله طيبة، وسلكت سبلا؛ جعلها الله ذللا3، فصار ذلك شفاء وطعاما، وشرابا منسوبا إليها، مذكورا بها أمرها وصنعتها. فمن جرى على لسانه كلام يستحسنه, أويستحسن منه، فلا يعجبن إعجاب المخترع المبتدع، فإنه إنما إجتباه كما وصفنا. الاقتداء بالصالحين: ومن أخذ كلامًا حسنًا عن غيره، فتكلم به في موضعه, وعلى وجهه، فلا ترين عليه في ذلك ضؤولة4، فإنه من أعين على حفظ كلام المصيبين، وهدي للاقتداء بالصالحين، ووفق للأخذ عن الحكماء، ولا عليه أن لا يزداد، فقد بلغ الغاية، وليس   1 الفصوص، الواحد فص: ما يركب في الخاتم من الحجارة الكريمة. 2 السموط، الواحد سمط: الخيط ما دام الخرز أو اللؤلؤ منتظمًا فيه. 3 ذللًا، الواحد ذلول: السهل. 4 ضؤولة: أراد حطة شأن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 بناقصه في رأيه, ولا غامطه1 من حقه أن لا يكون هو استحدث ذلك وسبق إليه. فإنما إحياء العقل الذي يتم به, ويستحكم: خصال سبع: الإيثار بالمحبة، والمبالغة في الطلب، والتثبت في الاختيار، والاعتياد للخير، وحسن الرعي، والتعهد لما اختير واعتقد، ووضع ذلك موضعه قولًا وعملًا. أما المحبة فإنها تبلغ المرء مبلغ الفضل في كل شيء من أمر الدنيا والآخرة حين يؤثر بمحبته, فلا يكون شيء أمرأ2, ولا أحلى عنده منه. وأما الطلب، فإن الناس لا يغنيهم حبهم ما يحبون, وهواهم ما يهوون عن طلبه وابتغائه, ولا تدرك لهم بغيتهم, ونفاستها في أنفسهم، دون الجد والعمل. وأما التثبت والتخير، فإن الطلب لا ينفع إلا معه وبه, فكم من طالب رشد, وجده والغي معًا، فاصطفى منهما الذي منه هرب، وألغى الذي إليه سعي، فإذا كان الطالب يحوي غير ما يريد، وهو لا يشك في الظفر، فما أحقه بشدة التبين وحسن الابتغاء! وأما اعتقاد الشيء بعد استبانته، فهو ما يطلب من إحراز الفضل بعد معرفته.   1 غمطه حقه: نقصه إياه. 2 أمرأ، أفعل مرأ الطعام: ساغ من غير غصص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وأما الحفظ والتعهد، فهو تمام الدرك؛ لأن الإنسان موكل به النسيان والغفلة؛ فلا بد له إذا اجتبى1 صواب قول أو فعل من أن يحفظه عليه ذهنه لأوان حاجته. وأما البصر بالمواضع، فإنما تصير المنافع كلها إلى وضع الأشياء مواضعها، وبنا إلى أهل كله حاجة شديدة, فإنا لم نوضع في الدنيا موضع غنى وخفض2, ولكن بموضع فاقة وكد، ولسنا إلى ما يمسك أرماقنا3 من المأكل والمشرب بأحوج منا إلى ما يثبت عقولنا من الأدب الذي به تقاوت العقول, وليس غذاء الطعام بأسرع في نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل, ولسنا بالكدِّ في طلب المتاع الذي يلتمس به دفع الضرر, والغلبة, بأحق منا بالكد في طلب العلم الذي يلتمس به صلاح الدين والدنيا. ما وضع في هذا الكتاب: وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفًا فيها عون على عمارة القلوب, وصقالها, وتجلية أبصارها، وإحياء للتفكير وإقامة للتدبير، ودليل على محامد الأمور, ومكارم الأخلاق إن شاء الله!   1 اجتبى: اختار. 2 الخفض: سعة العيش. 3 الأرماق، الواحد رمق: بقية الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 انظر أين تضع نفسك الواصفون1 أكثر من العارفين، والعارفون أكثر من الفاعلين. فلينظرِ امرؤ أين يضع نفسه؛ فإن لكل امرئ لم تدخل عليه آفة نصيبًا من اللب يعيش به، لا يحب أن له به من الدنيا ثمنًا, وليس كل ذي نصيب من اللب بمستوجب أن يسمى في ذوي الألباب, ولا يوصف بصفاتهم, فمن رام أن يجعل نفسه لذلك الاسم والوصف أهلًا، فليأخذ له عتاده2, وليعد له طول أيامه، وليؤثره على أهوائه, فإنه قد رام أمرًا جسيمًا لا يصلح على الغفلة، ولا يدرك بالمعجزة، ولا يصير على الأثرة3, وليس كسائر أمور الدنيا وسلطانها ومالها وزينتها التي قد يدرك منها المتواني ما يفوت المثابر, ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم. جماع الصواب, وجماع الخطأ: وليعلم أن على العاقل أمورًا إذا ضيعها, حكم عليه عقله بمقارنة الجهال. فعلى العاقل أن يعلم أن الناس مشتركون, مستوون في الحب   1 أراد بالواصفين: المكثرين الكلام. 2 العتاد: ما أعدَّ لأمر ما. 3 الأثرة: أن يختار المرء لنفسه أحسن الأشياء دون أصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 لما يوافق, والبغض لما يؤذي، وأن هذه منزلة اتفق عليها الحمقى والأكياس1، ثم اختلفوا بعدها في ثلاث خصال هن جماع الصواب وجماع الخطأ، وعندهن تفرقت العلماء والجهال، والحزمة والعجزة. الباب الأول من ذلك2: أن العاقل ينظر فيما يؤذيه, وفيما يسره، فيعلم أن أحق ذلك بالطلب، إن كان مما يحب، وأحقه بالاتقاء، إن كان مما يكره، أطوله وأدومه وأبقاه، فإذا هو قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا، وفضل سرور المروءة على لذة الهوى، وفضل الرأي الجامع الذي تصلح به الأنفس والأعقاب على حاضر الرأي الذي يستمتع به قليلا, ثم يضمحل، وفضل الأكلات على الأكلة, والساعات على الساعة3. الباب الثاني من ذلك: أن ينظر فيما يؤثر من ذلك، فيضع الرجاء, والخوف فيه   1 الحمقى، الواحد أحمق: قليل العقل، فاسده. الأكياس، الواحد كيِّس: الحسن الفهم, والأدب, والفطنة. 2 أراد بالباب الأول: الخصلة الأولى، وهكذا أراد بالباب الثاني والباب الثالث: الخصلة الثانية, والخصلة الثالثة. 3 أراد عرف كيف يعزف عن ملذات الدنيا الزائلة إلى نعيم الآخرة الدائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 موضعه، فلا يجعل اتقاءه لغير المخوف, ولا رجاءه في غير المدرك. فسيتوقى عاجل الذات طلبًا لآجلها، ويحتمل قريب الأذى توقيًا لبعيده, فإذا صار إلى العاقبة، بدا له أن فراره كان تورطًا1 وأن طلبه كان تنكبًا2. الباب الثالث من ذلك: هو تنفيذ البصر بالعزم بعد المعرفة بفضل الذي هو أدوم، وبعد التثبت في مواضع الرجاء والخوف, فإن طالب الفضل بغير بصر تائه حيران، ومبصر الفضل بغير عزم ذو زمانة3 محروم. محاسبة النفس: وعلى العاقل مخاصمة نفسه, ومحاسبتها, والقضاء عليها, والإثابة والتنكيل بها4. أما المحاسبة، فيحاسبها بما لها، فإنه لا مال لها إلا أيامها المعدودة التي ما ذهبت منها لم يستخلف كما تستخلف النفقة، وما جعل منها في الباطل لم يرجع إلى الحق، فيتنبه لهذه المحاسبة   1 تورط: وقع أمر مشكل, يصعب عليه الخلاص منه. 2 التنكت: التجنب. 3 الزمانة: العاهة، تعطيل القوى. 4 أراد بالإثابة: مكافأة نفسه على ما عملته من عمل صالح, وبالتنكيل بها: معاقبتها على ما عملته من عمل فاسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 عند الحول1 إذا حال، والشهر إذا انقضى، واليوم إذا ولى، فينظر فيما أفنى من ذلك، وما كسب لنفسه، وما اكتسب عليها في أمر الدين وأمر الدنيا, فيجمع ذلك في كتاب فيه إحصاء، وجد، وتذكير للأمور، وتبكيت للنفس, وتذليل لها؛ حتى تعترف, وتذعن. وأما الخصومة، فإن من طباع النفس الآمرة بالسوء أن تدعي المعاذير فيما مضى، والأماني فيما بقي، فيرد عليها معاذيرها, وعللها, وشبهاتها. وأما القضاء، فإنه يحكم فيما أرادت من ذلك على السيئة بأنها فاضحة, مردية, موبقة2، وللحسنة بأنها زائنة, منجية, مربحة. وأما الإثابة, والتنكيل، فإنه يسر نفسه بتذكر تلك الحسنات, ورجاء عواقبها, وتأميل فضلها، ويعاقب نفسه بالتذكر للسيئات, والتبشع بها, والاقشعرار منها, والحزن لها. فأفضل ذوي الألباب أشدهم لنفسه بها أخذًا، وأقلهم عنها فيه فترة. ذكر الموت: وعلى العاقل أن يذكر الموت في كل يوم وليلة مرارًا، ذكرًا   1 الحول: السنة. 2 موبقة: مهلكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 يباشر به القلوب, ويقدع الطماع1، فإن في كثرة ذكر الموت عصمة من الأشر، وأمانًا، بإذن الله، من الهلع2 إحصاء المساوئ: وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين, وفي الأخلاق, وفي الآداب، فيجمع ذلك كله في صدره, أو في كتاب، ثم يكثر عرضه على نفسه، ويكلفها إصلاحه، ويوظف ذلك عليها توظيفًا من إصلاح الخلة3, والخلتين, والخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر. فكلما أصلح شيئًا محاه، وكلما نظر إلى محو استبشر، وكلما نظر إلى ثابت اكتأب. الخصال الصالحة: وعلى العاقل أن يتفقد محاسن الناس, ويحفظها على نفسه، ويتعهدها بذلك مثل الذي وصفنا في إصلاح المساوي. وعلى العاقل أن لا يخادن, ولا يصاحب, ولا يجاور من الناس ما استطاع، إلا ذا فضل في العلم والدين والأخلاق, فيأخذ عنه، أو موافقًا له على إصلاح ذلك, فيؤيد ما عنده، وإن لم يكن له عليه فضل.   1 يقدع: يكبح. الطماح: أراد جماح النفس، وركوبها هواها. 2 الهلع: الجزع. 3 الخلة: الخصلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فإن الخصال الصالحة من البر1 لا تحيا, ولا تنمى إلا بالموافقين والمؤيدين, وليس لذي الفضل قريب, ولا حميم أقرب إليه ممن وافقه على صالح الخصال, فزاده, وثبته. ولذلك زعم بعض الأولين أن صحبة بليد نشأ مع العلماء, أحب إليهم من صحبة لبيب نشأ مع الجهال. من نسي وتهاون خسر: وعلى العاقل أن لا يحزن على شيء فاته من الدنيا أو تولى، وينزل ما أصابه من ذلك, ثم انقطع عنه, منزلة ما لم يصب، وينزل ما طلب من ذلك, ثم لم يدركه, منزلة ما لم يطلب، ولا يدع حظه من السرور بما أقبل منها، ولا يبلغن ذلك سكرًا ولا طغيانًا، فإن مع السكر النسيان، ومع الطغيان التهاون، ومن نسي, وتهاون خسر. إيناس ذوي الألباب: وعلى العاقل أن يؤنس ذوي الألباب بنفسه, ويجرئهم عليها, حتى يصبروا حرسًا على سمعه وبصره ورأيه، فيستنيم إلى ذلك, ويريح له قلبه، ويعلم أنهم لا يغفلون عنه إذا هو غفل عن نفسه.   1 البر: الطاعة, الصلاح، الصدق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ساعة عون على الساعات: وعلى العاقل، ما لم يكن مغلوبًا على نفسه، أن لا يشغله شغل عن أربع ساعات: ساعة: يرفع فيها حاجته إلى ربه، وساعة: يحاسب فيها نفسه، وساعة: يفضي فيها إلى إخوانه, وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه, وينصحونه في أمره، وساعة: يخلي فيها بين نفسه, وبين لذتها مما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون على الساعات الأُخَر، وإن استجمام1 القلوب, وتوديعها2 زيادة قوة لها, وفضل بلغة3. الرغبات الثلاث: وعلى العاقل أن لا يكون راغبًا إلا في إحدى ثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم. الناس طبقتان متباينتان: وعلى العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين، ويلبس لهم لباسين مختلفين، فطبقة من العامة يلبس لهم لباس   1 الاستجمام: الراحة. توديعها: تركها وادعة مطمئنة. 3 البلغة: ما يكفي من العيش, ولا يفضل منه. 4 مرمة لمعاش: أي الاكتفاء بما هو ضروري للحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 انقباض وانحجاز وتحفظ في كل كلمة وخطوة، وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدد, ويلبس لباس الأنسة واللطفة والبذلة1 والمفاوضة, ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحدًا من الألف, وكلهم ذو فضل في الرأي، وثقة في المودة، وأمانة في السر، ووفاء بالإخاء. الصغير يصير كبيرًا: وعلى العاقل أن لا يستصغر شيئا من الخطأ في الرأي، والزلل في العلم، والإغفال في الأمور؛ فإنه من استصغر الصغير أوشك أن يجمع إليه صغيرًا وصغيرًا، فإذا الصغير كبير, وإنما هي ثلم2 يثلمها العجز والتضييع, فإذا لم تسدَّ أوشكت أن تتفجر بما لا يطاق, ولم نر شيئًا قط إلا قد أتى من قبل الصغير المتهاون به، قد رأينا الملك يؤتى من العدو المحتقر به، ورأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يحفل به، ورأينا الأنهار تنبثق من الجدول الذي يستخف به. وأقل الأمور احتمالًا للضياع الملك؛ لأنه ليس شيء يضيع، وإن كان صغيرًا، إلا اتصل بآخر, يكون عظيمًا.   1 أراد بالبذلة: إطلاع من يثق به على أسراره, وما تكنه نفسه. 2 الثلم، الواحدة ثلمة: الخلل في الجدار, وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الرأي والهوى عدوان: وعلى العاقل أن يجبن عن المضي على الرأي الذي لا يجد عليه موافقًا, وإن ظن أنه على اليقين. وعلى العاقل أن يعرف أن الرأي والهوى متعاديان، وأن من شأن الناس تسويف الرأي, وإسعاف الهوى، فيخالف ذلك, ويلتمس أن لا يزال هواه مُسَوَفًّا ورأيه مسعفًا. وعلى العاقل إذا اشتبه عليه أمران فلم يدر في أيهما الصواب, أن ينظر أهواهما عنده، فيحذره. علم نفسك قبل تعليم غيرك: ومن نصب نفسه للناس إمامًا في الدين، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمة والرأي واللفظ والأخدان؛ فيكون تعليمه بسيرته أبلغ من تعليمه بلسانه, فإنه كما أن كلام الحكمة يونق2 الأسماع، فكذلك عمل الحكمة يروق العيون والقلوب, ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم.   1 الطعمة: المكسب. 2 يونق: يعجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أعمدة السلطان: ولاية الناس بلاء عظيم, وعلى الوالي أربع خصال هي أعمدة السلطان1, وأركانه التي بها يقوم, وعليها يثبت: الاجتهاد في التخير، والمبالغة في التقدم، والتعهد2 الشديد، والجزاء العتيد3. فأما التخير للعمال والوزراء, فإنه نظام الأمر, ووضع مؤونة البعيد المنتشر, فإنه عسى أن يكون يتخيره رجلًا واحدًا قد اختار ألفا؛ لأنه من كان من العمال خيارًا فسيختار كما اختير, ولعل عمال العامل, وعمال عماله يبلغون عددًا كثيرًا، فمن تبين التخيُّر فقد أخذ بسبب وثيق، ومن أسس أمره على غير ذلك لم يجد لبنائه قوامًا. وأما التقديم والتوكيد، فإنه ليس كل ذي لب أو ذي أمانة يعرف وجوه الأمور والأعمال، ولو كان بذلك عارفًا، لم يكن صاحبه حقيقًا أن يكل ذلك إلى علمه, دون توقيفه عليه, وتبيينه له, والاحتجاج عليه به. وأما التعهد، فإن الوالي إذا فعل ذلك كا سميعًا بصيرًا، وإن العامل إذا فعل ذلك به كان متحصنًا حريزًا. وأما الجزاء فإنه تثبيت المحسن, والراحة من المسيء.   1 السلطان: التسلط, والقدرة. 2 التعهد: التفقد للشيء, والتحفظ به. 3 العتيد: الحاضر، المهيأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 بماذا يستطاع السلطان: لا يستطاع السلطان إلا بالوزراء والأعوان، ولا ينفع الوزراء إلا بالمودة والنصيحة، ولا المودة إلا مع الرأي والعفاف1. وأعمال السلطان كثيرة, وقليل ما تستجمع الخصال المحمودة عند أحد، وإنما الوجه في ذلك, والسبيل الذي به يستقيم العمل, أن يكون صاحب السلطان عالِمًا بأمور من يريد الاستعانة به, وما عند كل رجل من الرأي والغناء، وما فيه من العيوب. فإذا استقر ذلك عنده عن علمه وعلم من يأتمن, وجَّه لكل عمل من قد عرف أن عنده من الرأي والنجدة2 والأمانة ما يحتاج إليه فيه، وأن ما فيه من العيوب لا يضر بذلك، ويتحفظ من أن يوجه أحدًا وجهًا لا يحتاج فيه إلى مروءة، إن كانت عنده، ولا يأمن عيوبه, وما يكره منه. ثم على الملوك، بعد ذلك، تعاهد عمالهم, وتفقد أمورهم، حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن, ولا إساءة مسيء. ثم عليهم، بعد ذلك، أن لا يتركوا محسنًا بغير جزاء, ولا يقروا مسيئًا ولا عاجزًا على الإساءة والعجز؛ فإنهم إن تركوا ذلك، تهاون المحسن، واجترأ المسيء، وفسد الأمر، وضاع العمل.   1 أراد العفاف عن أموال الرعية، وأعراضها. 2 النجدة: الشجاعة، الشدة والبأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الدنيا دول: اقتصار السعي إبقاء للجمام1، وفي بعد الهمة يكون النَصَبُ2، ومن سأل فوق قدرته استحق الحرمان، وسوء حمل الغنى أن يكون عند الفرح مرحًا، وسوء حمل الفاقة أن يكون عند الطلب شرهًا، وعار الفقر أهون من عار الغنى، والحاجة مع المحبة خير من الغنى مع البغضة. الدنيا دول، فما كان لك منها أتاك على ضفعك، وما كان عليك لم تدفعه بقوتك. المثل أوضح للمنطق: إذا جعل الكلام مثلًا، كان ذلك أوضح للمنطق, وأبين في المعنى, وآنق للسمع, وأوسع لشعوب الحديث3. لا مال أفضل من العقل: أشد الفاقة عدم العقل، وأشد الوحدة وحدة اللجوج4، ولا مال أفضل من العقل، ولا أنيس آنس من الاستشارة.   1 الجمام: الراحة. 2 النصب: التعب. 3 شعوب الحديث: أي متفرقة, ومتنوعة. 4 اللجوج: الشديد الخصومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 كن مستورًا: مما يعتبر به صلاح الصالحين, وحسن نظره للناس أن يكون إذا استعتب1 المذنب ستورًا لا يشيع, ولا يذيع، وإذا استشير سمحًا بالنصيحة مجتهدًا للرأي، وإذا استشار مطرحًا للحياء منفذًا للحزم معترفًا للحق. الحارس والمحروس: القسم2 الذي يقسم للناس, ويمتعون به, نحوان: فمنه حارس, ومنه محروس، فالحارس العقل، والمحروس المال، والعقل، بإذن الله، هو الذي يحرز الحظ، ويؤنس الغربة، وينفي الفاقة، ويعرف النكرة، ويثمر المكسبة3، ويطيب الثمرة، ويوجه السوقة عند السلطان4، ويستنزل للسلطان نصيحة السوقة، ويكسب الصديق، ويكفي العدو. الأدب العظيم: كلام اللبيب، وإن كان نزرًا، أدب عظيم، ومقارفة   1 استعتبه: استرضاه، طلب عفوه. 2 القسم: ما يقسمه الله من الرزق للناس. 3 المكسبة: ما يكسب. 4 وجَّهَهَم: جعلهم وجهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 المأثم1، وإن كان محتقرًا، مصيبة جليلة، ولقاء الإخوان, وإن كان يسيرًا2، غنم حسن. أجناس الناس: قد يسعى إلى أبواب السلطان أجناس من الناس كثير، أما الصالح فمدعوٌّ، وأما الطالح فمقتحمٌ3، وأما ذو الأدب فطالب، وأما من لا أدب له فمختلس4، وأما القوي فمدافع، وأما الضعيف فمدفوع، وأم المحسن فمستثيب، وأما المسيء فمستجير6. فهو مجمع البر والفاجر، والعالم والجاهل، والشريف والوضيع. الناس، إلا قليلا ممن عصم الله، مدخولون في أمورهم7: فقائلهم باغٍ، وسامعهم عياب، وسائلهم متعنت، ومجيبهم متكلف، وواعظهم غير محقق لقوله بالفعل، وموعوظهم غير سليم من الاستخفاف، والأمين منهم غير متحفظ من   1 مقارفة: مقاربة. المأثم: الإثم، الذنب. 2 غنم: غنيمة. 3 الطالح: عكس الصالح. المقتحم: الهاجم على المنزل دون تروٍ. 4 المختلس، السالب عاجلًا بمخاتلة، أراد أنه يختلس مكانًا ليس هو أهلًا له. 5 المستثيب: طالب الثواب والمكافأة. 6 المستجير: المستغيث، الطالب ملجأ له. 7 مدخولون في أمورهم: أي فسد داخلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 إتيان الخيانة، والصدوق غير محترس من حديث الكذبة، وذو الدين غير متورع عن تفريط الفجرة1، والحازم منهم غير تارك لتوقع الدوائر. يتناقضون البناء2، ويتراقبون الدول، ويتعايبون بالهمز3، مولعون في الرخاء بالتحاسد، وفي الشدة بالتخاذل. لا تغتر بالدنيا: كم قد انتزعت الدنيا ممن استمكن منها, واعتكفت له, فأصبحت الأعمال أعمالهم, والدنيا دنيا غيرهم، وأخذ متاعهم من لم يحمدهم، وخرجوا إلى من لا يعذرهم. فأصبحنا خلفًا من بعدهم، نتوقع مثل الذي نزل بهم، فنحن إذا تدبرنا أمورهم، أحقَّاء أن ننظر ما نغبطهم بهو فنتَّبعه, وما نخاف عليهم منه فتجتنبه. كيف تطلع الشيطان على عورتك؟: كان يقال: إن الله تعالى قد يأمر بالشيء ويبتلي بثقله وينهى   1 التفريط: الهجاء حتى مجاوزة الحد. الفجرة، الواحد فاجر: العادلون عن الحق، والكذبة وراكبوا المعاصي. 2 يتناقضون البناء: ينقضونه، يهدمونه. 3 الهمز، من همزه: رماه بالباطل. 4 أحقاء، الواحد حقيق: الجدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 عن الشيء, ويبتلي بشهوته. فإذا كنت لا تعمل من الخير إلا ما اشتهيته، ولا تترك من الشر إلا ما كرهته، فقد أطلعت الشيطان على عورتك، وأمكنته من رمتك1، فأوشك أن يقتحم عليك فيما تحب من الخير, فيكرهه إليك, وفيما تكره من الشر, فيحببه إليك. ولكن ينبغي لك في حب ما تحب من الخير التحامل على ما يستثقل منه، وينبغي لك في كراهة ما تكره من الشر التجنب لما يحب منه. زخرف الدنيا: الدنيا زخرف, يغلب الجوارح، مالم تغلبه الألباب, والحكيم من يغضي عنه, ولم يشغل به قلبه: اطلع من أدناه فيما وراءه، وذكر لواحق شره, فأكل مره, وشرب كدره؛ ليحلولي له, ويصفو في طول من إقامة العيش الذي يبقى ويدوم، غير عائف للرشد إن لم يلقه برضاه، ولم يأتِهِ من طريق هواه. القيام على الثقة: لا تألف المستوخم2، ولا تقمْ على غير الثقة.   1 الرمة: الحبلو أراد أمكنته من أن يقودك بحبلك. 2 المستوخم: غير المستمرئ، ولعلها بفتح الخاء، فيكون المعنى غير المستمرأ، الوخيم، أي الرديء المضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 شكر الله على نعمه والعمل بطاعته: قد بلغ فضل الله على الناس من السعة, وبلغت نعمته عليهم من السبوغ1 ما لو أن أخسهم حظًا, وأقلهم منه نصيبًا, وأضعفهم علمًا, وأعجزهم عملًا, وأعياهم لسانًا, بلغ من الشكر له, والثناء عليه بما خلص إليه من فضله، ووصل إليه من نعمته، ما بلغ له منه أعظمهم حظًا, وأوفرهم نصيبًا, وأفضلهم علمًا, وأقواهم عملًا, وأبسطهم لسانًا، لكان عما استوجب2 الله عليه مقصرًا, وعن بلوغ غاية الشكر بعيدًا. ومن أخذ بحظه من شكر الله, وحمده, ومعرفة نعمه, والثناء عليه والتحميد له، فقد استوجب بذلك من أدائه إلى الله القربة عنده والوسيلة إليه, والمزيد فيما شكره عليه من خير الدنيا، وحسن ثواب الآخرة. أفضل ما يعلم به علم ذي العلم, وصلاح ذي الصلاح أن يستصلح بما أوتي من ذلك ما استطاع من الناس, ويرغبهم فيما رغب فيه لنفسه من حب الله، وحب حكمته، والعمل بطاعته، والرجاء لحسن ثوابه في المعاد إليه، وأن يبين الذي لهم من الأخذ بذلك, والذي عليهم في تركه، وأن يورث ذلك أهله ومعارفه؛ ليلحقه أجره من بعد الموت.   1 السبوغ، من سبغ الثوب: اتسع وطال، والمراد هنا شمول النعمة. 2 استوجب: استحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الدين أفضل المواهب: الدين أفضل المواهب التي وصلت من الله إلى خلقه، وأعظمها منفعة، وأحمدها في كل حكمة، فقد بلغ فضل الدين والحكمة أن مدحا على السنة الجهال, على جهالتهم بهما وعماهم عنهما. أحقُّ الناس: أحقُّ الناس بالسلطان أهل المعرفة1، وأحقهم بالتدبير العلماء، وأحقهم بالفضل أعودهم2 على الناس بفضله، وأحقهم بالعلم أحسنهم تأديبًا، وأحقهم بالغنى أهل الجود، وأقربهم إلى الله أنفذهم في الحق علمًا, وأكملهم به عملًا، وأحكمهم أبعدهم من الشك في الله، وأصوبهم رجاءًا أوثقهم بالله، وأشدهم انتفاعًا بعلمه أبعدهم من الأذى، وأرضاهم في الناس أفشاهم معروفًا، وأقولهم أحسنهم معونة، وأشجعهم أشدهم على الشيطان، وأفلحهم بحجةٍ أغلبهم للشهوة والحرص، وآخذهم بالرأي أتركُهُم للهوى، وأحقهم بالمودة أشدهم لنفسه حبًا، وأجودهم أصوبهم بالعطية موضعًا، وأطولهم راحة أحسنهم للأمور احتمالًا، وأقلهم   1 أراد المعرفة بسياسة الملك. 2 أعودهم بفضله: أي صنعه الفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 دهشًا أرحبهم ذراعًا، وأوسعهم غنى أقنعهم بما أوتي، وأخفضهم عيشًا أبعدهم من الإفراط، وأظهرهم جمالًا أظهرهم حصافة1، وآمنهم في الناس أكلُّهم نابًا ومخلبًا، وأثبتهم شهادة عليهم أنطَقَهُم عنهم، وأعدلهم فيهم أدومهم مسالمة لهم، وأحقهم بالنعم أشكرهم لما أوتي منها. العجب آفة العقل: أفضل ما يورث الآباء الأبناء، الثناء الحسن, والأدب النافع, والإخوان الصالحون. فصل ما بين الدين والرأي، أن الدين يسلم بالإيمان، وأن الرأي يثبت بالخصومة2، فمن جعل الدين خصومة، فقد جعل الدين رأيًا، ومن جعل الرأي دينًا فقد صار شارعًا3، ومن كان هو يشرع لنفسه الدين, فلا دين له. قد يشتبه الدين والرأي في أماكن، لولا تشابههما لم يحتاجا إلى الفصل. العجب آفة العقل، واللجاجة قعود الهوى، والبخل لقاح   1 الحصافة: جودة الرأي، وإحكام العقل. 2 الخصومة: المنازعة والمجادلة. 3 الشارع: من يسن شريعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الحرص، والمراء فساد اللسان، والحمية سبب الجهل، والأنف توأم السفه1، والمنافسة أخت العداوة. حكمتان: إذا هممت بخير, فبادر هواك، لا يغلبك؛ فإن ما مضى من الأيام والساعات على ذلك هو الغنم. لا يمنعنَّك صغر شأن امرئ من اجتناء ما رأيت من رأيه صوابًا, والاصطفاء ما رأيت من أخلاقه كريمًا، فإن اللؤلؤة القائمة لا تهان لهوان غائصها الذي استخرجها. العلم زين لصاحبه: من أبواب التوفق, والتوفيق في التعلم أن يكون وجه الرجل الذي يتوجه فيه من العلم والأدب فيما يوافق طاعة, ويكون له عنده محمل وقبول, فلا يذهب عناؤه في غير غناء، ولا تفنى أيامه في غير درك، ولا يستفرغ نصيبه فيما لا ينجع فيه، ولا يكون كرجل أراد أن يعمر أرضا تهمة2, فغرسها جوزًا ولوزًا، وأرضًا جلسًا3, فغرسها نخلًا وموزًا.   1 السفه: الجهل، رداءة الخلق. 2 التهمة: الأرض المتصوبة إلى البحر، لا يصلح فيها الغرس. 3 الجلس: الغليظ من الأرض، لا يصلح للنخل, والموز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 العلم زين لصاحبه في الرخاء، ومنجاة له في الشدة: بالأدب تعمر القلوب، وبالعلم تستحكم الأحلام1. العقل الذاتي: العقل الذاتي غير الصنيع، كالأرض الطيبة غير الخراب. الدليل على معرفة الله: مما يدل على معرفة الله, وسبب الإيمان, أن يوكل بالغيب لكل ظاهر من الدنيا، صغير أو كبير، عينًا، فهو يصرفه, ويحركه, فمن كان معتبرًا بالجليل من ذلك, فلينظر إلى السماء, فسيعلم أن لها ربًا يُجري فَلَكَهَا، ويدبر أمرها، ومن اعتبر بالصغير، فلينظر إلى حبة الخردل فسيعرف أن لها مدبرًا بنبتها, ويزكيها, ويقدر لها أقواتها من الأرض والماء، يوقت لها زمان نباتها, وزمان تهشمها2، وأمر النبوة والأحلام, وما يحدث في أنفس الناس من حيث لا يعلمون، ثم يظهر منهم بالقول والفعل، ثم اجتماع العلماء والجهال والمهتدين والضلال على ذكر الله, وتعظيمه، واجتماع من شك في الله, وكذب به على الإقرار بأنهم أنشئوا حديثًا، ومعرفتهم أنهم   1 الأحلام، الواحد حِلْم: العقل 2 تهشما: تكسرها من يبسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 لم يحدثوا أنفسهم. فكل ذلك يهدي إلى الله, ويدل على الذي كانت منه هذه الأمور، مع ما يزيد ذلك يقينًا عند المؤمنين, بأن الله حق كبير, ولا يقدر أحد على يوقن أنه بالباطل. حق السلطان المقسط: إن للسلطان المقسط1 حقًا لا يصلح بخاصة, ولا عامة أمر إلا بإرادته، فذو اللب حقيق أن يخلص لهم النصيحة، ويبذل لهم الطاعة، ويكتم سرَّهم، ويزين سيرتهم، ويذب بلسانه ويده عنهم، ويتوخى مرضاتهم, ويكون من أمره المؤاتاة2 لهم, والإيثار لأهوائهم, ورأيهم على هواه ورأيه، ويقدر الأمور على موافقتهم, وإن كان ذلك له مخالفًا3، وأن يكون منه الجد في المخالفة لمن جانبهم وجهل حقهم، ولا يواصل من الناس إلا من لا تباعد مواصلته إياه منهم، ولا تحمله عداوة أحد له, ولا إضرار به على الاضطغان عليهم، ولا مؤاتاة أحد على الاستخفاف بشيء من أمورهم, والانتقاص لشيء من حقهم، ولا يكتمهم شيئًا من نصيحتهم، ولا يتثاقل عن شيء من طاعتهم، ولا يبطر إذا أكرموه، ولا يجترئ عليهم إذا قربوه،   1 المقسط: العادل. 2 المؤتاة: الموافقة. 3 مخالفًا: أي مخالفًا لرأيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ولا يطغى إذا سلطوه، ولا يُلْحِف1 إذا سألهم، ولا يدخل عليهم المؤونة، ولا يستثقل ما حمَّلوه، ولا يعتز عليهم إذا رضوا عنه، ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه، وأن يحمدهم على ما أصاب من خير منهم, أو من غيرهم, فإنه لا يقدر أحد على أن يصيبه بخير إلا بدفاع الله عنه بهم. الدليل على علم العالم: مما يدل على علم العالم معرفته ما يدرك من الأمور, وإمساكه عما لا يدرك, وتزيينه نفسه بالمكارم، وظهور علمه للناس من غير أن يظهر منه فخر ولا عجب، ومعرفته زمانه الذي هو فيه، وبصره بالناس، وأخذه بالقسط, وإرشاده المسترشد، وحسن مخالفته خلطاءه، وتسويته بين قلبه ولسانه، وتحريه العدل في كل أمر، ورحب ذرعه فيما نابه، واحتجاجه بالحجج فيما عمل، وحسن تبصيره. علم الآخرة: من أراد أن يبصر شيئًا من علم الآخرة، فالعلم الذي يعرف به ذلك، ومن أراد أن يبصر شيئًا من أمر الدنيا فبالأشياء التي هي تدل عليه.   1 يُلحف: يُلِحُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ماذا يجب على المرء؟: ليكن المرء سؤولًا1، وليكن فصولًا بين الحق والباطل، وليكن صدوقًا؛ ليؤمن على ما قال، وليكن ذا عهد؛ ليوفى له بعهده، وليكن شكورًا؛ ليستوجب الزيادة، وليكن جوادًا؛ ليكون للخير أهلًا، وليكن رحيمًا بالمضرورين؛ لئلا يبتلى بالضر، وليكن ودودًا؛ لئلا يكون معدنًا لأخلاق الشيطان، وليكن حافظًا للسانه، مقبلًا على شأنه؛ لئلا يؤخذ بما لم يجترم، وليكن متواضعًا؛ ليفرح له بالخير, ولا يحسد عليه، وليكن قنعًا؛ لتقر عينه بما أوتي، وليسر للناس بالخير؛ لئلا يؤذيه الحسد؛ وليكن حذرًا؛ لئلا تطول مخافته، ولا يكونن حقودًا؛ لئلا يضر بنفسه إضرارًا باقيًا، وليكن ذا حياء؛ لئلا يستذم إلى العلماء, فإن مخافة العالم مذمة العلماء أشد من مخافته عقوبة السلطان. نصائح سنية: حياة الشيطان ترك العلم، وروحه, وجسده الجهل، ومعدنه في أهل الحقد والقساوة، ومثواه في أهل الغضب، وعيشة في المصارمة، ورجاؤه في الإصرار على الذنوب.   1 سؤولًا: أي يسأل عما لا يعلمه؛ ليعرفه، فليس في ذلك غضاضة له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وقال: لا ينبغي للمرء أن يعتدَّ بعلمه ورأيه ما لم يذاكره ذوو الألباب, ولم يجامعوه عليه1؛ فإنه لا يستكمل علم الأشياء بالعقل الفرد. أعدل السير أن تقيس الناس بنفسك، فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك. وأنفع العقل أن تحسن المعيشة فيما أوتيت من خير، وأن لا تكترث من الشر بما لم يصبْك. ومن العلم أن تعلم أنك لا تعلم بما لا تعلم. ومن أحسن ذوي العقول عقلًا من أحسن تقدير أمر معاشه ومعاده تقديرًا لا يفسد عليه واحدًا منهما نفاد الآخر، فإن أعياه ذلك رفض الأدنى, وآثر عليه الأعظم. وقال: المؤمن بشيء من الأشياء, وإن كان سحرًا, خير ممن لا يؤمن بشيء, ولا يرجو معادًا. لا تؤدي التوبة أحدًا إلى النار، ولا الإصرار على الذنوب أحدًا إلى الجنة. من أفضل البر2 ثلاث خصال: الصدق في الغضب، والجود في العسرة، والعفو عند القدرة.   1 يجامعوه: يوافقوه. 2 البر: الصلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 رأس الذنوب: رأس الذنوب الكذب: هو يؤسسها, وهو يتفقدها, ويثبتها, ويتلوَّن ثلاثة ألوان: بالأمنية، والجحود، والجدل، يبدو لصاحبه بالأمنية الكاذبة فيما يزين له من الشهوات, فيشجعه عليها بأن ذلك سيخفى, فإذا ظهر عليه قابله بالجحود والمكابرة، فإن أعياه ذلك ختم بالجدل، فخاصم عن الباطل, ووضع له الحجج، والتمس به التثبت, وكابر به الحق حتى يكون مسارعًا للضلالة, ومكابرًا بالفواحش. دين المرء: لا يثبت دين المرء على حالة واحدة أبدًا، ولكنه لا يزال إما زائدًا وإما ناقصًا. علامات اللئيم: من علامات اللئيم المخادع أن يكون حسن القول، سيِّء الفعل، بعيد الغضب، قريب الحسد، حمولًا للفحش، محازيًا بالحقد، متكلفًا للجود، صغير الخطر، متوسعًا فيما ليس له، ضيقًا فيما يملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 اشتغل بالأعظم: وكان يقال: إذا تخالجتك الأمور1، فاشتغل بأعظمها خطرًا، فإن لم تستبن ذلك، فأرجاها دركًا2، فإن اشتبه ذلك، فأجدرها أن لا يكون له مرجوع، حتى تولي فرصته3. الرجال أربعة: وكان يقال: الرجال أربعة: اثنان تختبر ما عندهما بالتجربة، واثنان قد كفيت تجربتهما. فأما اللذان تحتاج إلى تجربتهما؛ فإن أحدهما بر كان مع أبرار، والآخر فاجر كان مع فجار، فإنك لا تدري لعل البر منهما، إذا خالط الفجار أن يتبدل، فيصير فاجرا، ولعل الفاجر منهما، إذا خالط الأبرار أن يتبدل برًّا، فيتبدل البر فاجرًا، والفاجر برًّا. وأما اللذان قد كفيت تجربتهما، وتبين لك ضوء أمرهما، فإن أحدهما فاجرٌ كان في أبرار، والآخر برٌّ كان في فجار.   1 تخالجتك: تجاذبتك. 2 أرجاها دركًا: أقربها منالا. 3 المعنى في هذه الجملة الأخيرة غامض، وقد يكون فيها تحريف، أو لعله أراد أن يقول: إن الفرصة إذا فاتت لا تعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 حكم متفرقة: حق على العاقل أن يتخذ مرآتين؛ فينظر من إحداهما في مساوئ نفسه، فيتصاغر بها، ويصلح ما استطاع منها، وينظر في الأخرى في محاسن الناس، فيحليهم بها1، ويأخذ ما استطاع منها. احذر خصومة الأهل، والولد، والصديق، والضعيف، واحتج عليهم بالحجج. لا يوقعنك بلاءٌ، خلصت منه في آخر، لعلك لا تخلص منه. الوَرِعُ لا يَخْدَعُ، والأريب2 لا يُخْدَعُ. ومن ورع الرجل أن لا يقول ما لا يعلم، ومن الإرب3 أن يتثبت فيما يعلم. وكان يقال: عمل الرجل فيما يعلم أنه خطأ هوى، والهوى آفة العفاف، وتركه العمل بما يعلم أنه صواب تهاون، والتهاون آفة الدين، وإقدامه على ما لا يدري، أصواب هو أم خطأ جماح4، والجماح آفة العقل. وكان يقال: وقر من فوقك، وَلِنْ لمن دونك، وأحسن مؤاتاة أكفائك، وليكن آثر ذلك عندك مؤاتاة الإخوان، فإن   1 يحليهم: يزينهم، أو يصفهم بالتحلي بها. 2 الأريب: العاقل. 3 الإرب: الدهاء. 4 الجماح: أراد به الغواية والضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ذلك هو الذي يشهد لك بأن إجلالك من فوقك ليس بخضوع منك لهم، وأن لينك لمن دونك ليس لالتماس خدمتهم. غير المغتبطين: خمسة غير مغتبطين في خمسة أشياء، يتندمون عليها، الواهن المفرط إذا فاته العمل، والمنقطع من إخوانه، وصديقه إذا نابته النوائب، والمستمكن منه عدوه؛ لسوء رأيه إذا تذكر عجزه، والمفارق للزوجة الصالحة إذا ابتلي بالطالحة، والجريء على الذنوب إذا حضره الموت. ماذا ينفع؟ لا ينفع العقل بغير ورع، ولا الحفظ بغير عقل، ولا شدة البطش بغير شدة القلب، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير جود، ولا المروءة بغير تواضع، ولا الخفض1 بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق. أمور هن تبع لأمور: فالمروءات كلها تبع للعقل، والرأي تبع للتجربة، والغبطة   1 خفض العيش: لينه وسعته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 تبع لحسن الثناء، والسرور تبع للأمن، والقرابة تبع للمودة، والعمل تبع للقدر، والجدة1 تبع للإنفاق. أصول وثمرات: أصل العقل التثبت، وثمرته السلامة، وأصل الورع القناعة، وثمرته الظفر، وأصل التوفيق العمل، وثمرته النُّجْحُ. الذكر السيء: لا يذكر الفاجر في العقلاء، ولا الكذوب في الأعفاء، ولا الحذول في الكرماء، ولا الكفور2 بشيء من الخير. من تؤاخي؟ لا تؤاخين خبًّا3، ولا تستنصرن عاجزًا، ولا تستعينن كسلًا.   1 الجدة: الغنى. الخذول: الذي يخذل صيدقه، فلا ينصره ولا يعينه، الكفور: الذي يكفر النعمة، أي يححدها وينساها. 3 الخب: الخداع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 بم يروح المرء عن نفسه؟: ومن أعظم ما يروح به المرء نفسه، أن لا يجري لما يهوى وليس كائنًا، ولا لما لا يهوى، وهو لا محالة كائن. لا تفرح بالبطالة: اغتنم من الخير ما تعجلت، ومن الأهواء ما سوفت، ومن النصب ما عاد عليك، ولا تفرح بالبطالة، ولا تجبن عن العمل. ضياع العقل: من استعظم من الدنيا شيئًا فبطر، واستصغر من الدنيا شيئًا فتهاون، واحتقر من الإثم شيئًا فاجترأ عليه، واغتر بعدوٍّ، وإن قل، فلم يحذره، فذلك من ضياع العقل. ذو العقل لا يَسْتَخِفُّ بأحد: لا يستخف ذو العقل بأحد. وأحق من لم يُستخف به ثلاثة: الأتقياء, والولاة, والإخوان، فإنه من استخف بالأتقياء أهلك دينه، ومن استخف بالولاة أهلك دنياه، ومن استخف بالإخوان أفسد مروءته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أزواج: من حاول الأمور احتاج فيها إلى ست: العلم، والتوفيق، والفرصة، والأعوان، والأدب، والاجتهاد. وهن أزواج: فالرأي والأدب زوج: لا يكمل الرأي بغير الأدب، ولا يكمل الأدب إلا بالرأي. والأعوان والفرصة زوج: لا ينفع الأعوان إلا عند الفرصة، ولا تتم الفرصة إلا بحضور الأعوان. والتوفيق والاجتهاد زوج: فالاجتهاد سبب التوفيق، وبالتوفيق ينجح الاجتهاد. سلامة العاقل: يسلم العاقل من عظام الذنوب والعيوب بالقناعة ومحاسبة النفس. لا تجد العاقل يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يعد بما لا يجد إنجازه، ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يقدم على من يخاف العجز عنه. وهو يُسخي بنفسه عما يغبط به القوالون1 خروجًا من عيب   1 يسخي بنفسه: يربأ بها. القوالون: المدعون بما ليس فيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 لتكذيب، ويسخي بنفسه عما ينال السائلون؛ سلامة من مذلة لمسألة، ويسخي بنفسه عن محمدة المواعيد؛ براءة من مذمة لحلف، ويسخي بنفسه عن فرح الرجاء؛ خوف الإكداء1، ويسخيه عن مراتب المقدمين ما يرى من فضائح المقصرين. ذو العقل: لا عقل لمن أغفله عن آخرته ما يجد من لذة دنياه، وليس من العقل أن يحرمه حظه من الدنيا بصره بزوالها. سعيد, ومرجوٌّ: حاز الخير رجلان: سيعد, ومرجوٌّ. فالسعيد: الفالج، المرجو: من لم يخصم3. والفالج: الصالح ما دام في قيد الحياة, وتعرض الفتن في مخاصمة الخصماء من الأهواء والأعداء. السعيد يرغبه الله, والشقي يرغبه الشيطان: السعيد يرغبه الله في الآخرة حتى يقول: لا شيء غيرها، فإذا هضم دنياه, وزهد فيها لآخرته، لم يحرمه الله بذلك نصيبه   1 الإكداء: عدم الظفر بالحاجة. الفالج: من فلج سهمه: فاز، أي الفائز. لم يخصم: أي لم يخاصم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 من الدنيا, ولم ينقصه من سروره فيها. والشقي يرغبه الشيطان في الدنيا حتى يقول: لا شيئ غيرها, فيجعل الله له النغيص1 في الدنيا التي آثر, مع الحزي الذي يلقى بعدها. الرجال أربعة: الرجال أربعة: جواد، وبخيل، ومسرف، ومقتصد, فالجواد الذي يوجه نصيب آخرته, ونصيب دنياه جميعًا في أمر آخرته. والبخيل الذي يخطئ واحدة منهما نصيبها. والمسرف الذي يجمعهما لدنياه. والمقتصد الذي يلحق بكل واحدة منهما نصيبها. أغنى الناس, وخير ما يؤتى المرء: أغنى الناس أكثرهم إحسانًا. قال رجل لحكيم: ما خير ما يؤتى المرء؟ قال: غريزة عقل, قال: فإن لم يكن؟ قال: فتعلم علم, قال: فإن حرمه؟ , قال: صدق اللسان, قال: فإن حرمه؟ قال: سكوت طويل, قال: فإن حرمه؟ قال: ميتة عاجلة.   1 النغيص: التنغيص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أشد العيوب: من أشد عيوب الإنسان خفاء عيوبه عليه, فإنَّ من خفي عليه عيبه خفيت عليه محاسن غيره، ومن خفي عليه عيب نفسه, ومحاسن غيره, فلن يقلع عن عيبه الذي لا يعرف, ولن ينال محاسن غيره التي لا يبصر أبدًا. الخصال المذمومة: خمول الذكر أجمل من الذكر الذميم. لا يوجد الفخور محمودًا، ولا الغضوب مسرورًا، ولا الحر حريصًا، ولا الكريم حسودًا، ولا الشره غنيًا، ولا الملول ذا إخوان. خصال يسر بها الجاهل، كلها كائن عليه وبالا: منها: أن يفخر من العلم والمروءة بما ليس عنده, ومنها: أن يرى بالأخيار من الاستهانة والجفوة ما يشمته بهم, ومنها: أن يناقل1 عالمًا وديعًا منصفًا له في القول, فيشتد صوت ذلك الجاهل عليه, ثم يفلجه2 نظراؤه من الجهال حوله بشدة الصوت. ومنها: أن تفرط منه الكلمة, أو الفعلة المعجبة للقوم, فيذكر بها.   1 يناقل: يجادل. 2 يفلجه: يغلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ومنها: أن يكون مجلسه في المحفل, وعند السلطان فوق مجالس أهل الفضل عليه. سخافة المتكلم: من الدليل على سخافة المتكلم أن يكون ما يُرَى من ضحكه ليس على حسب ما عنده من القول، أو الرجل يكلِّم صاحبه, فيجاذبه الكلام؛ ليكون هو المتكلم، أو يتمنى أن يكون صاحبه قد فرغ, وأنصت له فإذا نصت له لم يحسن الكلام. القائد إلى النار, وخازن الشيطان: فضل العلم في غير الدين ملهكة، وكثرة الأدب في غير رضوان الله, ومنفعة الأخيار قائد إلى النار. والحفظ الذاكي الواعي لغير العلم النافع مضرٌّ بالعمل الصالح، والعقل غير الوازع1 عن الذنوب خازن الشيطان. أخوف ما يكون: لا يؤمننك شر الجاهل قرابة, ولا جوار, ولا إلف. فإن أخوف ما يكون الإنسان لحريق النار أقرب ما يكون منها، وكذلك الجاهل إن جاورك أنصبك، وإن ناسبك جنى عليك،   1 الوازع، مِن وزعه: رده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وإن ألفك حمل عليك ما لا تطيق، وإن عاشرك آذاك وأخافك، مع أنه عند الجوع سبع ضارٍ، وعند الشبع ملك فظٌّ، وعند الموافقة في الدين قائد إلى جهنم. فأنت بالهرب منه أحقُّ منك بالهرب من سم الأساود1 والحريق المتخوَّف, والدين الفادح, والداء العياء2. ماذا يعمل الحازم؟: وكان يقال: قارب عدوك بعض المقاربة، تنلْ حاجتك، ولا تقاربه كل المقاربة، فجترئ عليك عدوك, وتذل نفسك, ويرغب عنك ناصرك. ومثل ذلك مثل العود المنصوب في الشمس، إن أملته قليلًا زاد ظله، وإن جاوزته الحدَّ في إمالته، نقص الظل. الحازم لا يأمن عدوه على حال: إن كان بعيدًا لم يأمن مغاورته3، وإن كان قريبًا لم يأمن مواثبته، وإن كان منكشفًا لم يأمن استطراده4 وكمينه، وإن رأه وحيدًا لم يأمن مكرَهُ. الملك الحازم يزداد برأي الوزراء الحزمة, كما يزداد البحر بمواده من الأنهار.   1 الأساود، الواحد أسود: الثعبان. 2 الفادح: الثقيل، المرهق، الداء العياء: الذي لا يبرأ منه. 3 مغاورته: غارته عليه. 4 استطراده، من استطرد له: أظهر له الانهزام مكيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الظفر بالحزم، والحزم بإجالة الرأي، والرأي يتحصين الأسرار. فائدة المشورة: إن المستشير, وإن كان أفضل من المستشار رأيًا، فهو يزداد برأيه رأيًا، كما تزداد النار بالودك1 ضوءًا. على المستشار موافقة المستشير على صواب ما يَرَى، والرفق به في تبصير خطأٍ إن أتى به، وتقليب الرأي فيما شكَّا فيه، حتى تستقيم لهما مشاورتهما. الطمع: لا يطمعن ذو الكبر في حسن الثناء، ولا الخب في كثرة الصديق، ولا السيِّء الأدب في الشرف، ولا الشحيح في المحمدة، ولا الحريص في الإخوان، ولا الملك المعجب بثبات الملك. صرعة اللين: صرعة اللين أشد استئصالًا من صرعة المكابرة2.   1 الودك: الدسم من اللحم, والشحم, والدهن. 2 المكابرة: المعاندة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أربعة أشياء: أربعة أشياء لا يستقل منها قليل: النار، والمرض، والعدو، والدَّيْن. أحقُّ الناس بالتوقير: أحق الناس بالتوقير الملك الحليم، العالم بالأمور, وفرص الأعمال, ومواضع الشدة واللين والغضب والرضا والمعاجلة والأناة، الناظر في أمر يومه وغده, وعواقب أعماله. العاجز والحازم: السبب الذي يُدرك به العاجز حاجته, هو الذي يحول بين الحازم وبين طلبته. أهل العقل والكرم: إن أهل العقل والكرم يبتغون إلى كل معروف وصلة وسبيلًا. والمودة بين الأخيار سريع اتصالها, بطيء انقطاعها، ومثل ذلك مثل كوب الذهب الذي هو بطيء الانكسار, هين الإصلاح. والمودة بين الأشرار سريع انقطاعها, بطيء اتصالها، كالكوز من الفخار يكسره أدنى عبث, ثم لا وصل له أبدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 والكريم يمنح الرجل مودته عن لقية واحدة, أو معرفة يوم, واللئيم لا يصل أحدًا إلا عن رغبة أو رهبة. فإن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم أمرين, ويتوطأون عليهما: ذات النفس، وذات اليد1. فأما المتبادلون ذات اليد, فهم المتعاونون المستمتعون, الذين يلتمس بعضهم الانتفاع ببعض مناجزة ومكايلة. المال كل شيء: ما التبع, والأعوان, والصديق, والحشم, إلا للمال, ولا يظهر المروءة إلا المال, ولا الرأي, ولا القوة إلا بالمال. ومن لا إخوان له فلا أهل له، ومن لا أولاد له, فلا ذكر له، ومن لا عقل له, فلا دنيا له, ولا آخرة، ومن لا مال له, فلا شيء له. الفقر مجمعة للبلايا: والفقر داعية إلى صاحبه مقت الناس، وهو مسلبة للعقل والمروءة، ومذهبة للعلم والأدب، ومعدن للتهمة، ومجمعة للبلايا. ومن نزل به الفقر والفاقة لم يجد بدًا من ترك الحياء، ومن ذهب حياؤه ذهب سروره. ومن ذهب سروره مُقِتَ، ومن   1 ذات النفس: آراؤهم ونصحهم, وما تكنه نفوسهم. ذات اليد: ما ملكت أيديهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 مقت أوذي، ومن أوذي حزن، ومن حزن فقد ذهب عقله, واستنكر حفظه, وفهمه. ومن أصيب في عقله وفهمه وحفظه, كان أكثر قوله وعمله فيما يكون عليه, لا له. فإذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمنًا، وأساء به الظن من كان يظن به حسنًا، فإذا أذنب غيره ظنوه, وكان للتهمة وسوء الظن موضعًا. وليس من خلة هي للغني مدح إلا هي للفقير عيب، فإن كان شجاعًا سمي أهوج، وإن كان جوادًا سمي مفسدًا، وإن كان حليمًا سمي ضعيفًا، وإن كان وقورًا سمي بليدًا، وإن كان لسنًا سمي مهذرًا، وإن كان صموتًا سمي عييًّا. الموت راحة: وكان القول: من ابتلي بمرض في جسده لا يفارقه، أو بفراق الأحبة والإخوان، أو بالغربة, حيث لا يعرف مبيتًا ولا مقيلًا ولا يرجو إيابًا، أو بفاقة تضطره إلى المسألة: فالحياة له موت، والموت له راحة. البلايا في الحرص والشره: وجدنا البلايا في الدنيا إنما يسوقها إلى أهلها الحرص والشره, ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 يزال صاحب الدنيا يتقلب في بلية وتعب؛ لأنه لا يزال بخلَّةِ الحرص والشره. ماذا قال العلماء؟: وسمعت العلماء قالوا: لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكفِّ، ولا حسب كحسن الخلق، ولا غنى كالرضى. وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى تغييره, وأفضل البرِّ الرحمة، ورأس المودة الاسترسال، ورأس العقل المعرفة بما يكون ومالا يكون، وطيب النفس حسن الانصراف عما لا سبيل عليه, وليس من الدنيا سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا فيها غم يعدل غمَّ فقدهم. تمام حسن الكلام: لايتم حسن الكلام إلا بجسن العمل، كالمريض الذي قد علم دواء نفسه، فإذا هو لم يتداوَ به لم يغنه علمه. صاحب المروءة: الرجل ذو المروءة قد يكرم على غير مال، كالأسد الذي يهاب, وإن كان عقيرًا1.   1 أراد بالعقير: المقتول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 والرجل الذي لا مروءة له يهان, وإن كثر ماله، كالكلب الذي يهون على الناس, وإن هو طوق وخلخل. تعاهد نفسك: ليحسن تعاهدك نفسك بما تكون به للخير أهلًا, فإنك إذا فعلت ذلك، أتاك الخير يطلبك، كما يطلب الماء السيل إلى الحدورة. أشياء غير ثابتة: وقيل في أشياء ليس لها ثبات, ولا بقاء: ظل الغمام، وخلة1 الأشرار، وعشق النساء، والنبأ الكاذب، والمال الكثير. وليس يفرح العاقل بالمال الكثير، ولا يحزنه قلته, ولكن ماله عقله, وما قدم من صالح عمله. أولى الناس: إن أولى الناس بفضل السرور, وكرم العيش, وحسن الثناء, من لا يبرح رحله2 من إخوانه, وأصدقائه من الصالحين موطوءًا, ولا يزال عنده منهم زحام، ويسرهم, ويسرونه, ويكون من وراء حاجاتهم   1 خلة: صداقة. 2 رحله: منزله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وأمورهم، فإن الكريم إذا عثر لم يستقبل إلا بالكرام، كالفيل إذا وحل لم يستخرجه إلا الفيلة. شراء العظيم بالصغير: لا يرى العاقل معروفًا صنعه، وإن كان كثيرًا, ولو خاطر بنفسه, وعرضها في وجوه المعروف، لم ير ذلك عيبًا, بل يعلم أنما أخطر الفاني بالباقي، واشترى العظيم بالصغير. وأغبط الناس عند ذوي العقل أكثرهم سائلًا منجحًا، ومستجيرًا آمنًا. المشاركة في المال: لا تعد غنيًا من لم يشارَك في ماله، ولا تعد نعيمًا ما كان فيه تننغيص وسوء ثناء، ولا تعد الغنم غنمًا إذا ساق غرمًا, ولا الغرم غرمًا إذا ساق غنمًا، ولا تعتد من الحياة ما كان في فراق الأحبة. المعونة على تسلية الهموم: ومن المعونة على تسلية الهموم, وسكون النفس, لقاء الأخ أخاه، وإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه ببثه. وإذا فرق بين الأليف وأليفه, فقد سلب قراره, وحرم سروره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 من بلاء إلى بلاء: وقل ما ترانا نخلف عقبة من البلاء, إلا صرنا في أخرى. تقلب الأحوال وتعاقبها: لقد صدق القائل الذي يقول: لا يزال الرجل مستمرًا ما لم يعثر، فإذا عثر مرة واحدة في أرض الخبار لجَّ به العثار، وإن مشي في جدد؛ لأن هذا الإنسان موكل به البلاء، فلا يزال في تصرف, وفي تقلب لا يدوم له شيء, ولا يثبت معه، كما لا يدوم لطالع النجوم طلوعه, ولا لآفلها أفوله, ولكنها في تقلب وتعاقب, فلا يزال الطالع يكون آفلًا، والآفل طالعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الأدب الكبير بسم الله الرحمن الرحيم قال عبد الله بن المقفع: إنا وجدنا الناس قبلنا كانوا أعظم أجسامًا، وأوفر مع أجسامهم أحلامًا1، وأشد قوة، وأحسن بقوتهم للأمور إتقانًا, وأطول أعمارًا, وأفضل بأعمارهم للأشياء اختبارًا. فكان صاحب الدين منهم أبلغ في أمر الدين علمًا وعملًا من صاحب الدين منا, وكان صاحب الدنيا على مثل ذلك من البلاغة والفضل, ووجدناهم لم يرضوا بما فازوا به من الفضل الذي قسم لأنفسهم حتى أشركونا معهم في ما أدركوا من علم الأولى والآخرة, فكتبوا به الكتب الباقية، وضربوا الأمثال الشافية، وكفونا به مؤونة2   1 الأحلام، جمع حلم بالكسر: العقل. 2 المؤونة: الثقل, والشدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 التجارب والفطن. وبلغ من اهتمامهم بذلك أن الرجل منهم كان يفتح له الباب من العلم, أو الكلمة من الصواب, وهو في البلد غير المأهول, فيكتبه على الصخور؛ مبادرة للأجل, وكراهية منه أن يسقط ذلك عمن بعده. فكان صنيعهم في ذلك صنيع الوالد الشفيق على ولده3، الرحيم البرِّ بهم، الذي يجمع لهم الأموال, والعقد4؛ إرادة ألا تكون عليهم مؤونة في الطلب، وخشية عجزهم، إن هم طلبوا. فمنتهى علم عالمنا في هذا الزمان أن يأخذ من علمهم، وغاية إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم. وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم, فيكون كأنه إياهم يحاور، ومنهم يستمع، وآثارهم يتبع, غير أن الذي نجد في كتبهم هو المنتخل6 من آرائهم, والمنتقى من أحاديثهم.   1 الأجل: غاية الوقت في الموت والعمر, يريد أنهم يبادرون بتدوين ما يفتح لهم؛ مخالفة أن يوافيهم الأجل. 2 يسقط: يفوته, ويضيع عليه. 3 الولد: كل ما ولده شيء, يطلق على الذكر والأنثى, والمفرد والمثنى والجمع. 4 العقد، جمع عقدة: العقار الذي اعتقده صاحبه ملكًا. 5 يحاور: يناقش. 6 المنتخل: المختار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ولم نجدهم غادروا شيئًا يجد واصف بليغ في صفة له مقالًا لم يسبقوه إليه: لا في تعظيم لله، عز وجل، وترغيب فيما عنده، ولا في تصغير للدنيا, وتزهيد فيها، ولا في تحرير صنوف العلم, وتقسيم أقسامها, وتجزئة أجزائها, وتوضيح سبلها, وتبين مآخذها، ولا في وجه من وجوه الأدب, وضروب1 الأخلاق. فلم يبقَ في جليل الأمر, ولا صغيره لقائل بعدهم مقال. وقد بقيت أشياء من لطائف الأمور فيها مواضع لصغار الفطن، مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم، فمن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس. يا طالب الأدب: يا طالب الأدب إن كنت نوع العلم تريد, فاعرف الأصول والفصول2, فإن كثيرًا من الناس يطلبون الفصول مع إضاعة الأصول, فلا يكون دركهم3 دركًا, ومن أحرز الأصول اكتفى بها عن الفصول, وإن أصاب الفصل بعد إحراز الأصل, فهو أفضل. فأصل الأمر في الدين أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنب الكبائر، وتؤدي الفريضة, فالزم ذلك لزوم من لا غنى له عنه,   1 الضروب: الأنواع. 2 الأصول: القوانين والقواعد التي يبنى عليها العلم, الفصول: الفروع. 3 الدرك: اللحاق والوصول إلى الشيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 طرفة عين، ومن يعلم أنه إن حرمه هلك, ثم إن قدرت على أن تجاوز ذلك إلى التفقه1 في الدين والعبادة, فهو أفضل, وأكمل. وأصل الأمر في صلاح الجسد ألا تحمل عليه من المآكل والمشارب والباه إلا خفافًا2، ثم إن قدرت على أن تعلم جميع منافع الجسد, ومضاره, والانتفاع بذلك كله, فهو أفضل. وأصل الأمر في البأس والشجاعة ألا تحدث نفسك بالإدبار3، وأصحابك مقبلون على عدوهم, ثم إن قدرت على أن تكون أول حامل وآخر منصرف، من غير تضييع للحذر4، فهو أفضل. وأصل الأمر في الجود ألا تضن بالحقوق على أهلها, ثم إن قدرات أن تزيد ذا الحق على حقه, وتطول5 على من لا حق له, فافعل, فهو أفضل. وأصل الأمر في الكلام أن تسلم من السقط6 بالتحفظ, ثم إن قدرت على بارع الصواب, فهو أفضل. وأصل الأمر في المعيشة ألا تَنِيَ7 عن طلب الحلال، وأن   1 تفقه في الدين: صار عالمًا به. 2 الباه: النكاح، الخفاف: الخفيف. 3 الإدبار: الفرار. 4 الحذر: الاحتراز من الشيء. 5 تطول: من طال على فلان: امتن عليه, وأنعم. 6 السقط: الخطأ. 7 تني، من: ونى الرجل في الأمر: فتر وضعف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 تحسن التقدير لما تفيد1, وما تنفق, ولا يغرنك من ذلك سعة تكون فيها, فإن أعظم الناس في الدنيا خطرًا2 أحوجهم إلى التقدير، والملوك أحوج إليه من السوقة3؛ لأن السوقة قد تعيش بغير مال، والملوك لا قوام4 لهم إلا بالمال, ثم إن قدرت على الرفق واللطف في الطلب, والعلم بوجوه المطالب, فهو أفضل. وأنا واعظك في أشياء من الأخلاق اللطيفة, والأمور الغامضة التي لو حنكتك5 سن كنت خليقًا أن تعلمها، وإن لم تخبر عنها. ولكنني قد أحببت أن أقدم إليك فيها قولًا؛ لتروض6 نفسك على محاسنها, قبل أن تجري على عادة مساوئها, فإن الإنسان قد تبتدر إليه7 في شبيته المساوئ، وقد يغلب عليه ما بدر إليه منها للعادة. وإن لترك العادة مؤونة شديدة, ورياضة صعبة.   1 تفيد: تستفيد. 2 الخطر: الشرف, وارتفاع القدر. 3 السوقة: الرعية التي يسوسها الولاة. 4 قوام الأمر: نظامه وعماده الذي يقوم به. 5 حنكتك: راضتك, وهذبتك. 6 راضه: ذلَّلَهُ, وجعله مطيعًا. 7 تبتدر إليه: تسبق إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 في السلطان: إذا ابتليت بالسلطان تعوذ بالعلماء: إن ابتليت بالسلطان فتعوذ بالعلماء1. وأعلم أن من العجب أن يبتلى الرجل بالسلطان, فيريد أن ينتقص من ساعات نصبه2, وعمله, فيزيدها في ساعات دعته3, وفراغه, وشهوته, وعبثه, ونومه. وإنما الرأي له والحق عليه أن يأخذ لعمله من جميع شغله، فيأخذ له من طعامه, وشرابه, ونومه, وحديثه, ولهوه, ونسائه. وإنما تكون الدعة بعد الفراغ. فإذا تقلدت شيئًا من أمر السلطان, فكن فيه أحد رجلين: إما رجلًا مغتبطًا به4، محافظًا عليه؛ مخافة أن يزول عنه، وإما رجلًا كارهًا له مكرهًا عليه, فالكاره عامل في سخرة: إما للملوك، إن كانوا هم سلطوه، وإما لله تعالى، إن كان ليس فوقه غيره.   1 السلطان: الولاية والإمارة والوالي والملك. تعوذ: اعتصم بهم, وألجأ إليهم. 2 النَصَب: التعب. 3 الدعة: الراحة, وخفض العيش. 4 مغتبطًا: مسرورًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وقد علمت أنه من فرَّط في سخرة الملوك أهلكوه, فلا تجعل للهلاك على نفسك سلطانًا, ولا سبيلًا. إياك, وحب المدح: وإياك إذا كنت واليًا، أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية1, وأن يعرف الناس ذلك منك، فتكون ثلمة2 من الثلم, يتقحمون عليك منها، وبابًا, يفتتحونك منه، وغيبة3, يغتابونك بها, ويضحكون منك لها. واعلم أن قابل المدح كمادح نفسه, والمرء جدير أن يكون حبه المدحَ هو الذي يحمله على رده, فإن الرادَّ له محمود، والقابل له معيب. لتكن حاجتك في الولاية إلى ثلاث خصال: رضى ربك, ورضى سلطان، إن كان فوقك، ورضى صالح من تلى عليه. ولا عليك4 أن تلهو عن المال والذكر، فسيأتيك منها ما يحسن, ويطيب, ويكتفى به. واجعل الخصال الثلاث منك بمكان ما لا بد لك منه, واجعل المال والذكر بمكان ما أنت واجد منه بدًا.   1 التزكية: من زكى نفسه: مدحها. 2 الثلمة: فرجة المكسور, والمهدوم. 3 الغيبة: ذكر المرء بما يسوؤه أثناء غيابه. 4 لا عليك: لا بأس عليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 اعرف الفضل في أهل الدين والمروءة في كل كورة1, وقرية, وقبيلة, فيكونوا هم إخوانك وأعوانك وأخدانك وأصفياءك وبطانتك2 وثقاتك وخلطاءك, ولا تقذفن في روعك3 أنك إن استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك، فإنك لست تريد الرأي للافتخار به، ولكنما تريده للانتفاع به, ولو أنك مع ذلك أردت الذكر، كان أحسن الذكرين, وأفضلهما عند أهل الفضل, والعقل, أن يقال: لا يتفرد برأيه دون استشارة ذوي الرأي, إنك إن تلتمس رضى جميع الناس, تلتمس ما لا يدرك. وكيف يتفق لك رأي المختلفين، وما حاجتك إلى رضى من رضاه الجور، وإلى موافقة من موافقته الضلالة والجهالة؟ , فعليك بالتماس رضى الأخيار منهم وذوي العقل, فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مؤونة ما سواه. ما ينبغي للسلطان نحو رعيته: لا تمكن أهل البلاء الحسن عندك, من التدلل4 عليك، ولا تمكنن من سواهم من الاجتراء عليهم, والعيب لهم. لتعرف رعيتك أبوابك التي لا ينال ما عندك من الخير إلا   1 الكورة: البقعة التي تجتمع فيها المساكن والقرى. 2 بطانة الرجل: أهله, وخاصته, والذين يشاورهم في أموره. 3 الروع: القلب, والذهن. 4 البلاء: الاختبار. تدلل عليه: أظهر الجرأة إيهاما بالمخالفة, وليس في نفسه خلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 بها، والأبواب التي لا يخافك خائف إلا من قِبَلِها. احرص الحرص كله على أن تكون خابرًا أمور عمالك، فإن المسيء يفرق1 من خبرتك, قبل أن تصيبه عقوبتك، وإن المحسن يستبشر بعلمك, قبل أن يأتيه معروفك. ليعرف الناس، في ما يعرفون من أخلاقك، أنك لا تعاجل بالثواب, ولا بالعقاب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف, ورجاء الراجي. عَوِّدْ نفسك الصبر على من خالفك من ذوي النصيحة، والتجرع لمرارة قولهم, وعذلهم، ولا تسهلن سبيل ذلك إلا لأهل العقل والسن والمروءة؛ لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيه, أو يستخف به شَانِئٌ2. مباشرة الصغير تضيع الكبير: لا تتركن مباشرة جسيم أمرك, فيعود شأنك صغيرًا، ولا تلزمن نفسك مباشرة الصغير، فيصير الكبير ضائعًا. واعلم أن مالك لا يغني الناس كلهم, فاخصص به أهل الحق، وأن كرامتك لا تطيق العامة كلها, فَتَوَخَّ3 بها أهل الفضل، وأن قلبك لا يتسع لكل شيء, ففرغه للمهم، وأن ليلك ونهارك   1 يفرق: يخاف. الشانئ: المبغض. 3 توخَّي الأمر: تحراه في الطلب, وتعمده دون سواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 لا يستوعبان حاجاتك، وإن دأبت1 فيهما، وأن ليس لك إلى إدامة الدأب فيهما سبيل, مع حاجة جسدك إلى نصيبه منهما, فأحسن قسمتهما بين عملك, ودعتك. وأعلم أن ما شغلت من رأيك بغير المهم, أزرى بك في المهم، وما صرفت من مالك في الباطل, فقدته حين تريده للحق، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص, أضر بك في العجز عن أهل الفضل، وما شغلت من ليلك ونهارك في غير الحاجة, أزرى بك عند الحاجة منك إليه. إياك والإفراط في الغضب: اعلم أن من الناس ناسًا كثيرًا يبلغ من أحدهم الغضب، إذا غضب، أن يحمله ذلك على الكلوح2 والقطوب3 في وجه غير من أغضبه، وسوء اللفظ لمن لا ذنب له، والعقوبة لمن لم يكن يهم بمعاقبته، وشدة المعاقبة باللسان واليد لمن لم يكن يريد به إلا دون ذلك, ثم يبلغ به الرضى، إذا رضي، أن يتبرع بالأمر ذي الخطر4 لمن ليس بمنزلة ذلك عنده، ويعطي من لم يكن يريد إعطاءه، ويكرم من لم يرد إكرامه, ولا حق له, ولا مودة عنده   1 دأب الرجل في عمله: جدَّ, وتعب, واستمر عليه. 2 الكلوح: التكشر في عبوس. 3 القطوب: أن يزوي المرء ما بين عينيه. 4 يتبرع: يعطي من غير سؤال. الأمر ذو الخطر: العظيم الرفيع الشأن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فاحذر هذا الباب الحذر كله! , فإنه ليس أحد أسوأ فيه حالًا من أهل السلطان الذين يفرطون باقتدارهم في غضبهم، وبتسرعهم في رضاهم, فإنه لو وصف بهذه الصفة من يلتبس بعقله, أو يتخبطه المسُّ1 أن يعاقب عند غضبه غير من أغضبه, ويحبو2 عند رضاه غير من أرضاه, لكان جائزًا ذلك في صفته. الملك ثلاثة: أعلم أن الملك ثلاثة: ملك دين، وملك حزم، وملك هوىً. فأما ملك الدين, فإنه إذا أقام للرعية دينهم، وكان دينهم هو الذي يعطيهم الذي لهم, ويلحق بهم الذي عليهم، أرضاهم ذلك، وأنزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم. وأما ملك الحزم, فإنه يقوم به الأمر, ولا يسلم من الطعن والتسخط3, ولن يضر طعن الضعيف مع حزم القوي. وأما ملك الهوى, فلعب ساعة, ودمار4 دهر.   1 المسُّ: الجنون. 2 يحبو: يعطي. 3 التسخط، من تسخطه: لم يرضه, فتغضب عليه, وتكرهه. 4 دمار: هلاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الاعتدال في الكلام, والسلام: إذا كان سلطانك عند جِدَّةِ1 دولة، فرأيت أمرًا استقام بغير رأي، وأعوانًا أجزوا2 بغير نيل، وعملًا أنجح3 بغير حزم، فلا يغرنك ذلك, ولا تستنيمن إليه, فإن الأمر الجديد ربما يكون له مهابة في أنفس أقوام, وحلاوة في قلوب آخرين، فيعين قوم على أنفسهم, ويعين قوم بما قبلهم, ويستتبَّ4 ذلك الأمر غير طويل, ثم تصير الشؤون إلى حقائقها, وأصولها. فما كان من الأمور بُنِيَ على غير أركان وثيقة, ولا دعائم محكمة, أوشك أن يتداعى, ويتصدع. لا تكونن نزر6 الكلام والسلام، ولا تبلغن بهما إفراط الهشاشة والبشاشة7؛ فإن إحداهما من الكبْر, والأخرى من السخف8.   1 الجدة: ضد القِدَم. 2 الإجزاء: الكفاية. 3 أنجح الأمر: تيسر. 4 يستتب: يستوي, ويستقيم. 5 يتداعى: يؤذن بالسقوط. ويتصدع: يتشقق. 6 نزر: قليل. 7 الهشاشة، من هش له: تبسم له. البشاشة، من بش له: أقبل عليه, وفرح به. 8 الكبر: التجبر: السخف: رقة العقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 بأي شيء تكون الثقة؟: إذا كنت إنما تضبط أمورك, وتصول على عدوك بقوم لست منهم على ثقة من دين, ولا رأي, ولا حفاظ1 من نية, فلا تنفعنك نافعة حتى تحولهم، إن استطعت، إلى الرأي, والأدب الذي يمثله تكون الثقة، أو تستبدل بهم، إن لم تستطع نقلهم إلى ما تريد. ولا تغرنك قوتك بهم على غيرهم، فإنما أنت في ذلك كراكب الأسد الذي يهابه من نظر إليه، وهو لمركبه أهيب. تجنب الغضب, والكذب: ليس للملك أن يغضب؛ لأن القدرة من وراء حاجته. وليس له أن يكذب؛ لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد. وليس له أن يبخل؛ لأنه أقل الناس عذرًا في تخوف الفقر, وليس له أن يكون حقودا؛ لأن خطره قد عظم عن مجاراة كل الناس2. وليس له أن يكون خلافًا؛ لأن أحق الناس باتقاء الإيمان الملوك، فإنما يحمل الرجل على الحلف إحدى هذه الخصال:   1 الحفاظ: الدفاع عن المحارم. 2 أي أن رفعة شأنه تأبى عليه أن يجاري الناس في كل أعمالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 إما مهانة1 يجدها في نفسه، وضرع2, وحاجة إلى تصديق الناس إياه. وإما عيٌّ3 بالكلام، فيجعل الأيمان له حشوًا ووصلًا. وإما تهمة قد عرفها من الناس لحديثه، فهو ينزل نفسه منزلة من لا يقبل قوله إلا بعد جهد اليمين. وإما عبث4 بالقول, وإرسال للسان على غير روية, ولا حسن تقدير، ولا تعويد له قول السداد, والتثبت5. التفويض إلى الكفاة: لا عيب على الملك في تعيشه, وتنعمه, ولعبه, ولهوه، إذا تعهد6 الجسيم من أمره بنفسه، وأحكم المهم، وفوَّض ما دون ذلك إلى الكفاة. ما يزين الجور, ويحمل على الباطل: كل أحد حقيق، حين ينظر في أمور الناس، أن يتهم نظره   1 المهانة: المذلة. 2 الضرع: التذلل. 3 العيُّ: العجز. 4 العبث: اللغو. 5 السداد: الصواب. التثبت، من تثبت في الأمر: تأنى فيه، وفحص عنه. 6 تعهد: تفقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بعين الريبة1، وقلبه بعين المقت2، فإنهما يزينان الجور3, ويحملان على الباطل, ويقبِّحان الحسن, ويحسِّنَان القبيح. وأحق الناس باتهام نظره بعين الريبة, وعين المقت, السلطان الذي ما وقع في قلبه ربا4 مع ما يقيض5 له من تزيين القرناء والوزراء. وأحق الناس بإجبار نفسه على العدل في النظر والقول والفعل الوالي الذي ما قال أو فعل كان أمرًا نافذًا غير مردود. ليعلم الوالي أن الناس يصفون الولاة بسوء العهد, ونسيان الودِّ، فليكابد نقض6 قولهم، وليبطل عن نفسه, وعن الولاة صفات السوء التي يصفون بها. تفقد الوالي لرعيته, وتجنبه الحسد: حق الوالي أن يتفقد لطيف أمور رعيته، فضلًا عن جسيمها، فإن للَّطيف موضعًا ينتفع به، وللجسيم موضعًا لا يستغنى عنه, ليتفقَّدِ الوالي، في ما يتفقد من أمور رعيته، فاقة7 الأخيار   1 الريبة: الشك. 2 المقت: البغض. 3 الجور: الظلم, وتجاوز الحد. 4 ربا: نشأ, وزاد. 5 يقيض: يُهيَّأ. 6 كابد الشيء: قاساه, وتحمل المشاق فيه. نقض قولهم: إبطاله. 7 الفاقة: الفقر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الأحرار منهم، فيلعملْ في سدها، وطغيان السفلة منهم, فليقمعه1، وليستوحش2 من الكريم الجائع, واللئيم الشبعان، فإنما يصول3 الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع. لا ينبغي للوالي أن يحسد الولاة إلا على حسن التدبير. ولا يحسدن الوالي من دونه, فإنه أقل في ذلك عذرًا من السوقة التي إنما تحسد من فوقها، وكلٌّ لا عذر له. لا يلومن الوالي على الزلة من ليس بمتهم عنده في الحرص على رضاه, إلا لوم أدب وتقويم، ولا يعدلن بالمجتهد في رضاه البصير بما يأتي أحدًا. فإنهما إذا اجتمعا في الوزير والصاحب نام الوالي واستراح، وجلبت إليه حاجاته، وإن هدأ عنها، وعمل له فيما يهمه, وإن غفل. لا يولعن الوالي بسوء الظن لقول الناس، وليجعل لحسن الظن من نفسه نصيبًا موفورًا يروح به4 عن قلبه, ويصدر عنه5 في أعماله. لا يضيعن الوالي التثبت عندما يقول، وعندما يعطي، وعندما يعمل.   1 يقمعه: يردعه. 2 استوحش منه: لم يأنس به. 3 يصول: يسطو. 4 يروح به: يخفف به عن نفسه. 6 يصدر عنه: أي يبني عليه أعماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فإن الرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، وإن العطية بعد المنع أجمل من المنع بعد الإعطاء، وإن الإقدام على العمل بعد التأني فيه أحسن من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه. وكل الناس محتاج إلى التثبُّت. وأحوجهم إليه ملوكهم الذي ليس لقولهم وفعلهم دافع، وليس عليهم مستحث1. كيف يكسد الفجور والدناءة؟: ليعلم الوالي أن الناس على رأيه إلا من لا بال له2, فيكن للدين والبر والمروءة عنده نفاق3, فيكسد بذلك الفجور والدناءة في آفاق الأرض. ما يحتاج إليه الوالي من أمر الدنيا: جماع4 ما يحتاج إليه الوالي من أمر الدنيا رأيان: رأي يقوِّي به سلطانه، ورأي يزينه في الناس.   1 المستحث: الحاض, والمنشط. 2 لا بال له: لا شأن له. 3 النفاق: الرواج. 4 جماع الشيء: جمعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ورأي القوة أحقهما بالبداءة, وأولاهما بالأثرة1. ورأي التزيين أحضرهما حلاوة, وأكثرهما أعوانًا. مع أن القوة من الزينة، والزينة من القوة, ولكن الأمر ينسب إلى معظمه وأصله. ماذا على المبتلى بصحبة السلطان, وصحبة الوالي؟: إن ابتليت بصحبة السلطان فعليك بطول المواظبة في غير معاتبة، ولا يحدثن لك الاستئناس به غفلة, ولا تهاونًا. إذا رأيت السلطان يجعلك أخًا فاجعله أبًا، ثم إن زادك فزده. إذا نزلت من ذي منزلة أو سلطان, فلا ترين أن سلطانه زادك له توقيرًا وإجلالًا، من غير أن يزيدك ودًا ولا نصحًا, وأنك ترى حقًا له التوقير والإجلال, وكن في مداراته, والرفق به كالمؤتنف2 ما قبله، ولا تقدر الأمر بينك وبينه على ما كنت تعرف من أخلاقه، فإن الأخلاق مستحيلة3 مع الملك، وربما رأينا الرجل المدل4 على ذي السلطان بقدمه, قد أضر به قدمه. إن استطعت ألا تصحب من صحبت من الولاة إلا على   1 أولاهما: أحقُّهما. الأثرة: اختيار المرء الأشياء الحسنة لنفسه دون أصحابه. 2 المؤتنف، من ائتنف الشيء: أخذ فيه, وابتدأه. 3 مستحيلة: متغيرة. 4 المدلُّ: المتجرئ بدالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 شعبة من قرابة1 أو مودة، فافعل, فإن أخطأك ذلك, فاعلم أنك إنما تعمل على السخرة2. إن استطعت أن تجعل صحبتك لمن قد عرفك بصالح مروءتك, وصحة دينك, وسلامة أمورك, قبل ولايته, فافعل. فإن الوالي لا علم له بالناس إلا ما قد علم قبل ولايته, أما إذا ولي, فكل الناس يلقاه بالتزين والتصنع3, وكلهم يحتال لأن يثني عليه عنده بما ليس فيه, غير أن الأنذال والأرذال هم أشد لذلك تصنعًا, وأشد عليه مثابرة, وفيه تمحلًا4. فلا يمتنع الوالي، وإن كان بليغ الرأي والنظر، من أن ينزل عنده كثير من الأشرار بمنزلة الأخيار، وكثير من الخانة5 بمنزلة الأمناء، وكثير من الغدرة6 بمنزلة الأوفياء، ويغطي عليه أمر كثير من أهل الفضل الذين يصونون أنفسهم عن التمحل والتصنع. إذا عرفت نفسك من الوالي بمنزلة الثقة، فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثرن من الدعاء له في كل كلمة، فإن ذلك شبيه   1 شعبة من قرابة: أي ما يجمعك إليه من قرابة. 2 السخرة: ما سخرت من خادم, ودابة, بلا أجر. 3 التصنع: أن يظهر المرء من نفسه ما ليس فيه. 4 التمحل: طلب الشيء بحيلة وتكلف. 5 الخانة: جمع خائن, كخونة. 6 الغدرة، جمع غادر: الخائن, وناقض العهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 بالوحشة والغربة، إلا أن تكلمه على رؤوس الناس، فلا تألُ1 عما عظمه, ووقره. لا يعرفنك الولاة بالهوى في بلد من البلدان, ولا قبيلة من القبائل، فيوشك أن تحتاج فيهما إلى حكاية أو شهادة، فتتهم في ذلك. فإذا أردت أن يقبل قولك, فصحح رأيك, ولا تشوبنه2 بشيء من الهوى، فإن الرأي الصحيح يقبله منك العدو، والهوى يرده عليك الولد والصديق. وأحقُّ من احترست من أن يظن بك خلط الرأي بالهوى الولاة، فإنها خديعة وخيانة وكفر عندهم. إن ابتليت بصحبة والٍ لا يريد صلاح رعيته, فاعلم أنك قد خيرت بين خلتين3, ليس منهما خيار: إما الميل مع الوالي على الرعية، وهذا هلاك الدين. وإما الميل مع الرعية على الوالي، وهذا هلاك الدنيا، ولا حيلة لك إلا الموت, أو الهرب. واعلم أنه لا ينبغي لك، وإن كان الوالي غير مرضيِّ السيرة إذا علقت حبالك بحباله، إلا المحافظة عليه، إلا أن تجد إلى الفراق الجميل سبيلًا.   1 لا تأل: لا تقصر. 2 لا تشوبنه: لا تخلطنه. 3 الخلة: الخصلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 تبصَّر ما في الوالي من الأخلاق التي تحب له, والتي تكره، وما هو عليه من الرأي الذي ترضي له, والذي لا ترضي, ثم لا تكابرنه1 بالتحويل له عما يحب ويكره, إلى ما تحب وتكره, فإن هذه رياضة صعبة تحمل على التنائي والقلى2. فإنك قلما تقدر على رد رجل عن طريقة هو عليها بالمكابرة, والمناقضة، وإن لم يكن ممن يجمح به3 عز السلطان, ولكنك تقدر على أن تعينه على أحسن رأيه، وتسدده فيه, وتزينه، وتقويه عليه, فإذا قويت منه المحاسن كانت هي التي تكفيك المساوئ, وإذا استحكمت منه ناحية من الصواب, كان ذلك الصواب هو الذي يبصره مواقع الخطأ بألطف من تبصيرك, وأعدل من حكمك في نفسك, فإن الصواب يؤيد بعضه بعضًا, ويدعو بعضه إلى بعض, حتى تستحكم لصاحبه الأشياء، ويظهر عليها4 بتحكيم الرأي، فإذا كانت له مكانة من الأصالة اقتلع ذلك الخطأ كله. فاحفظ هذا الباب, وأحكمه. لا تسأل السلطان, ولا تتدلل عليه: لا يكونن طلبك ما عند الوالي بالمسألة، ولا تستبطئه،   1 تكابره: تعانده. 2 التنائي: التباعد. القلى: البغض. 3 يجمح به: يطوح به، فيسير على هواه. 4 يظهر عليها: بتغلب عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وإن أبطأ عليك, ولكن أطلب ما قبله بالاستحقاق له، واستأن1 به وإن طالت الأناة منه2, فإنك إذا استحققته أتاك عن غير طلب، وإن لم تستبطئه كان أعجل له. لا تخبرن الوالي أن لك عليه حقًا، وأنك تعتد عليه ببلاء3, وإن استطعت ألا ينسى حقك وبلاءك, فافعل, وليكن ما يذكره به من ذلك تجديدك له النصيحة والاجتهاد، وألا يزال ينظر منك إلى آخر يذكره أول بلائك. واعلم أن السلطان إذا انقطع عنه الآخر نسي الأول، وأن الكثير من أولئك أرحامهم4 مقطوعة, وحبالهم مصرومة، إلا عمن رضوا عنه, وأغنى عنهم في يومهم وساعتهم. إياك أن يقع في قلبك تعتب على الوالي, أو استزراء له. فإنه إن وقع في قلبك بدا في وجهك، إن كنت حليمًا، وبدا على لسانك، إن كنت سفيهًا. فإن لم يزد ذلك على أن يظهر في وجهك لآمن الناس عندك, فلا تأمنن أن يظهر ذلك للوالي, فإن الناس إلى السلطان بعورات6 الإخوان سراع، فإذا ظهر   1 استأن: تمهل، وترفق. 2 الأناة: الرفق, والتمهل. 3 اعتد بالشيء: أدخله في العد, والحساب. البلاء: الاختبار بعد إظهار البأس. 4 الأرحام: القرابات. 5 أغنى عنهم: نفعهم. 6 العورات: العيوب, والمساوئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ذلك للوالي, كان قلبه هو أسرع إلى النفور والتغير من قلبك, فمحق ذلك حسناتك الماضية، وأشرف بك على الهلاك، وصرت تعرف أمرك مستدبرًا1, وتلتمس مرضاة سلطانك مستصعبًا. ولو شئت كنت تركته راضيًا, وازددت من رضاه دنوًا. احذر سخط السلطان, واخضع له: اعلم أن أكثر الناس عدوًا جاهدًا حاضرًا جريئًا واشيًا وزير السلطان ذو المكانة عنده, لأنه منفوس عليه2 مكانه بما ينفس على صاحب السلطان، ومحسود كما يحسد, غير أنه يُجترأ عليه، ولا يُجترأ على السلطان, لأن من حاسديه أحباء السلطان, وأقاربه الذين يشاركونه في المداخل والمنازل3, وهم وغيرهم من عدوه الذين هم حُضَّاره ليسوا كعدو السلطان النائي عنه والمكتتم منه, وهم لا ينقطع طعمهم من الظفر به، فلا يغفلون عن نصب الحبائل4 له. فاعرف هذه الحال، والبس لهؤلاء القوم الذين هم أعداؤك سلاح الصحة والاستقامة ولزوم المحجَّة5 فيما تسرُّ وتعلن.   1 استدبر الرجال الأمر: رأي في عاقبته ما لم يره في صدره. 2 يقال: نفس عليه الشيء: إذا حسده عليه. 3 المداخل، الواحد مدخل: أي دخوله على السلطان, ومواجهته له. المنازل، الواحدة منزلة: أي رتبته عنده, ومقامه. 4 الحبائل، الواحد حبالة: الأشراك، والمراد أنهم يكيدون له المكايد. 5 المحجَّة: أراد محجة الصواب أي طريقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ثم روِّح عن قلبك1, حتى كأنك لا عدو لك, ولا حاسد. وإن ذكرك ذاكر عند السلطان بسوء في وجهك, أو في غيبتك, فلا يرين السلطان, ولا غيره منك اختلاطًا لذلك, ولا اغتياظًا, ولا ضجرًا. ولا يقعن ذلك في نفسك موقع ما يكرثك2، فإنه إن وقع منك ذلك الموقع، أدخل عليك أمورًا مشتبهة بالريبة, مذكرة لما قال فيك العائب, وإن اضطرك الأمر في ذلك إلى الجواب, فإياك وجواب الغضب والانتقام، وعليك بجواب الحجة في حلم ووقار, ولا تشكَّن في أن الغلبة والقوة للحليم أبدًا. لا تتكلمن عند الوالي كلامًا أبدًا إلا لعناية، أو يكون جوابًا لشيء سئلت عنه, ولا تحضرن عند الوالي كلامًا أبدًا لا تعنى به أو تؤمر بحضوره. ولا تعدن شتم الوالي شتمًا، ولا إغلاظة إغلاظًا، فإن ريح العزة قد تبسط اللسان بالغلظة في غير سخط, ولا بأس. جانب المسخوط عليه, والظنين3 به عند السلطان, ولا يجمعنك وإياه مجلس ولا منزل، ولاتظهرن له عذرًا، ولا تثنين عليه خيرًا عند أحد من الناس.   1 روح عنه: أنعشه. 2 يكرثك: يغمك غمًا شديدًا. 3 الظنين: المتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فإذا رأيته قد بلغ من الإعتاب1 مما سخط عليه فيه ما ترجو أن تلين له به قلب الوالي، واستيقنت أن الوالي قد استيقن بمباعدتك إياه, وشدتك عليه عند الناس, فضع عذره عند الوالي, واعمل في إرضائه عنه في رفق ولطف. ليعلم الوالي أنك لا تستنكف عن شيء من خدمته, ولا تدع مع ذلك أن تقدم إليه القول، عند بعض حالات رضاه, وطيب نفسه، في الاستعفاء من الأعمال التي هي أهل أن يكرهها ذو الدين وذو العقل وذو العرض وذو المروءة، من ولاية القتل, والعذاب, وأشباه ذلك. إذا أصبت الجاه والخاصة عند السلطان، فلا يحدثن لك ذلك تغيرًا على أحد من أهله وأعوانه، ولا استغناء عنهم، فإنك لا تدري متى ترى أدنى جفوة, أو تغير, فتذل لهم فيها, وفي تلون الحال عند ذلك من العار ما فيه. ليكن مما تحكم من أمرك ألا تسارَّ أحدًا من الناس, ولا تهمس2 إليه بشيء تخفيه على السلطان, أو تعلنه, فإن السرار مما يخيل إلى كل من رآه من ذي سلطان أو غيره, أنه المراد به, فيكون ذلك في نفسه حسيكة, ووغرًا, وثقلًا3.   1 الإعتاب: الرجوع عن الإساءة إلى ما يرضي العاتب. 2 تهمس: تتكلم سرًا. 3 الحسيكة: العقد والعداوة. الوغر: شدة الغيظ. الثقل هنا: بمعنى الفتور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الكذب يبطل الحق ويرد الصدق: لا تتهاونن بإرسال الكذبة عند الوالي أو غيره في الهزل، فإنها تسرع في إبطال الحق, ورد الصدق مما تأتي به. تنكب1، في ما بينك وبين السلطان, وفي ما بينك وبين الإخوان، خلقًا قد عرفناه في بعض الوزراء والأعوان في ادعاء الرجل، عندما يظهر من صاحبه حسن أثر, أو صواب رأي، أنه عمل في ذلك, وأشار به، وإقراره بذلك إذا مدحه به مادح, بل إن استطعت أن تعرف صاحبك أنك تنحله2 صواب رأيك، فضلًا عن أن تدعي صوابه، وتسند ذلك إليه, وتزينه به، فافعل. فإن الذي أنت آخذ بذلك أكثر مما أنت معطٍ بأضعاف. لا تجب إلا إذا سئلت، وأحسن الإصغاء: إذا سأل الوالي غيرك فلا تكونن أنت المجيب عنه, فإن استلابك الكلام خفة بك, واستخفاف منك بالمسؤول وبالسائل. وما أنت قائل إن قال لك السائل: ما إياك سألت؟ أو قال لك المسؤول عند المسألة يعاد له بها: دونك, فأجب. وإذا لم يقصد السائل في المسألة لرجل واحد, وعم بها جماعة   1 تنكب: تجنب. 2 نحله القول: نسبة إليه دون ن يكون له فيه أثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 من عنده فلا تبادرَنَّ بالجواب، ولا تسابق الجلساء، ولا تواثب بالكلام مواثبة, فإن ذلك يجمع مع شين1 التكلف, والخفة, أنك إذا سبقت القوم إلى الكلام صاروا لكلامك خصماء, فتعقبوه بالعيب والطعن, وإذا أنت لم تعجل بالجواب, وخليته للقوم، اعترضت2 أقاويلهم على عينك، ثم تدبرتها, وفكرت في ما عندك، ثم هيَّأت من تفكيرك, ومحاسن ما سمعت جوابًا رضيًا، ثم استدبرت به أقاويلهم حين تصيخ3 إليك الأسماع, ويهدأ عنك الخصوم. وإن لم يبلغك الكلام حتى يكتفى بغيرك، أو ينقطع الحديث قبل ذلك، فلا يكون من العيب عندك, ولا من الغبن4 في نفسك فوت ما فاتك من الجواب. فإن صيانة القول خير من سوء وضعه، وإن كلمة واحدة من الصواب تصيب موضعها خير من مئة كلمة تقولها في غير فرصها ومواضعها. مع أن كلام العجلة والبدار موكل به الزلل, وسوء التقدير، وإن ظن صاحبه أنه قد أتقن وأحكم. وأعلم أن هذه الأمور لا تدرك, ولا تملك إلا برحب الذرع5   1 الشين: العيب. 2 اعترضتها: أمررتها من أمام بصرك، من قولهم: اعترض القائد الجند، إذا عرضهم واحدًا بعد واحد. 3 تصيخ: تصغي. 4 من قولهم: غبن فلانًا في البيع أو الشراء, إذا خدعه وغلبه. 5 رحب الذرع: سعة قوته. الذرع: بسط اليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 عندما قيل, وما لم يُقَلْ، وقلة الإعظام لما ظهر من المروءة, وما لم يظهر، وسخاوة النفس عن كثير من الصواب؛ مخافة الخلاف والعجلة والحسد والمراء. إذا كلمك الوالي فأصغِ إلى كلامه, ولا تشغل طرفك1 عنه بنظر إلى غيره، ولا أطرافك2 بعمل، ولا قلبك بحديث نفس, واحذر هذه الخصلة من نفسك، وتعاهدها بجهدك. رفق الوزير بنظرائه: ارفق بنظرائك من وزراء السلطان, وإخلائه, ودخلائه, واتخذهم إخوانًا، ولا تتخذهم أعداء, ولا تنافسهم في الكلمة يتقربون بها، أو العمل يؤمرون به دونك. فإنما أنت في ذلك أحد رجلين: إما أن يكون عندك فضل على ما عند غيرك, فسوف يبدو ذلك, ويحتاج إليه, ويلتمس منه، وأنت مجمل3. وإما ألا يكون ذلك عندك، فما أنت مصيب من حاجتك عند وزراء السلطان بمقاربتك إياهم وملاينتك، وما أنت واجد في موافقتك إياهم, ولينك لهم من موافقتهم إياك, ولينهم لك أفضل مما أنت مدرك بالمنافسة, والمنافرة لهم.   1 الطرف: العين. 2 الأطراف، الواحد طرف: وهو من البدن: اليدان والرجلان والرأس. 3 أجمل الرجل: أتَّأَد وترفق في الطلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 لا تجترئن على خلاف أصحابك عند الوالي؛ ثقة باعترافهم لك, ومعرفتهم بفضل رأيك، فإنا قد رأينا الناس يعترفون بفضل الرجل, وينقادون له, وتعلمون منه، وهم أخلياء1. فإذا حضروا السلطان، لم يرضَ أحد منهم أن يقرَّ له، ولا أن يكون له عليه في الرأي والعلم فضل، فاجترأوا عليه بالخلاف والنقض. فإن ناقضهم صار كأحدهم, وليس بواجد في كل حين سامعًا فهمًا أو قاضيًا عدلًا. وإن ترك مناقضهم، كان مغلوب الرأي, مردود القول. لكل أليف وجليس: إذا أصبت عند السلطان لطف منزلة؛ لغناء2 يجده عندك, أو هوىً يكون له فيك, فلا تطمحن كل الطماح, ولا تزينن لك نفسك المزايلة له عن أليفه, وموضع ثقته, وسره قبلك: تريد أن تقلعه وتدخل دونه, فإن هذه خلة من خلال السفه قد يبتلى بها الحلماء عند الدنو من السلطان, حتى يحدث الرجل منهم نفسه أن يكون دون الأهل والولد؛ لفضل يظنه بنفسه, أو نقص يظنه بغيره.   1 أخلياء: منفردون. 2 غناء: نفع وكفاية. 3 الطماح: الإبعاد في الطلب. 4 المزايلة: المفارقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ولكل رجل من الملوك، أو ذي هيئة من السوقة، أليف وأنيس، قد عرف روحه، واطلع على قلبه, فليست عليه مؤونة في تبذل يتبذله1 عنده، أو رأي يستبين منه، أو سر يفشيه إليه، غير أن تلك الأنسة2، وذلك الإلف، يستخرج من كل واحد منهما ما لم يكن ليظهر منه عند الانقباض والتشدد، ولو التمس ملتمس مثل ذلك عند من يستأنف ملاطفته، ومؤانسته، ومناسمته3، وإن كان ذا فضل في الرأي وبسطة في العلم، لم يجد عنده مثل ما هو منتفع به، ممن هو دون ذلك في الرأي، ممن قد كفي مؤانسته، ووقع على طباعه. لأن الأنسة روح4 للقلوب، وأن الوحشة روع عليها، ولا يلتاط6 بالقلوب إلا ما لان عليها، ومن استقبل الأنس بالوحشة استقبل أمرا ذا مؤونة. فإذا كلفتك نفسك السمو إلى منزلة من وصفت لك، فاقدعها7 عن ذلك بمعرفة فضل الأليف والأنيس، وإذا حدثتك نفسك أو غيرك، ممن لعله أن يكون عنده فضل في مروءة،   1 التبذل: ترك الاحتشام والتصاون. 2 الأنسة: ضد الوحشة. 3 المناسمة: المسارة. 4 الروح: الراحة. 5 الروع: الذعر. 6 يلتاط: يلتصق. 7 اقدعها: كفها وامنعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أنك أولى بالمنزلة عند السلطان من بعض دخلائه وثقاته, فاذكر الذي على السلطان من حق أليفه, وثقته, وأنيسه في التكرمة, والمكانة والرأي، والذي يعينه على ذلك من الرأي أنه يجد عنده من الإلف والأنس ما ليس واجدًا عند غيره. فليكن هذا مما تتحفظ فيه على نفسك، وتعرف فيه عذر السلطان ورأيه. والرأي لنفسك مثل ذلك، إن أرادك مريد على الدخول، دون أليفك وأنيسك، وموضع ثقتك، وسرك، وجدك، وهزلك. واعلم أنه يكاد يكون لكل رجل غالبة حديث لا يزال يحدث به: إما عن بلد من البلدان، أو ضرب من ضروب العلم، أو صنف من صنوف الناس، أو وجه من وجوه الرأي، وعندما يغرم به الرجل من ذلك يبدو منه السخف1، ويعرف منه الهوى، فاجتنب ذلك في كل موطن، ثم عند السلطان خاصة. احتمل ما خالفك من رأي السلطان: لا تشكون إلى وزراء السلطان، ودخلائه ما اطلعت عليه من رأي تكرهه له؛ فإنك لا تزيد على أن تفطنهم لهواه، أو تقربهم منه، وتغريهم2 بتزيين ذلك، والميل عليك معه.   1 السخف: نقص العقل. 2 أغراه بالشيء: ولعه به، وحضه عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 واعلم أن الرجل ذا الجاه عند السلطان والخاصة، لا محالة أن يرى من الوالي ما يخالفه من الرأي في الناس والأمور، فإذا آثر1 أن يكره كل ما خالفه، أوشك أن يمتعض من الجفوة2، يراها في المجلس، أو النبوة3 في الحاجة، أو الرد للرأي، أو الإدناء لمن لا يهوى إدناءه، أو الإقصاء لمن يكره إقصاءه. فإذا وقعت في قلبه الكراهية؛ تغير لذلك وجهه، ورأيه وكلامه، حتى يبدو ذلك للسلطان وغيره، فيكون ذلك لفساد منزلته، ومروءته سببا وداعيا. فذلل نفسك باحتمال ما خالفك من رأي السلطان، وقررها على أن السلطان إنما كان سلطانا؛ لتتبعه في رأيه، وهواه، وأمره، ولا تكلفه اتباعك، وتغضب من خلافه إياك. تصحيح النصيحة للسلطان: اعلم أن السلطان يقبل من الوزراء التبخيل4، ويعده منهم شفقة ونظرا له، ويحمدهم عليه، فإن كان جوادا وكنت مبخلا، شنت صاحبك بفساد مروءته، وإن كنت مسخيًا، 5،   1 آثر: فضل واختار. 2 يمتعض: يغضب، الجفوة: البعد. 3 النبوة: الارتداد. 4 التبخيل: الترغيب في البخل. 5 مسخيًا: مرغبا في الكرم والسخاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 لم تأمن إضرار ذلك بمنزلتك عنده. فالرأي لك تصحيح النصيحة على وجهها، والتماس المخلص من العيب واللائمة في ما تترك من تبخيل صاحبك، بألا يعرف منك في ما تدعوه إليه ميلًا إلى شيء من هوك، ولا طلبًا لغير ما ترجو أن يزينه وينفعه. الطاعة للملوك: لاتكونن صحبتك للملوك إلا بعد رياضة1 منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك، وموافقتهم في ما خالفك، وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك، وعلى ألاتكتمهم سرك، ولا تستطلع ما كتموك، وتخفي ما أطلعوك عليه على الناس كلهم، حتى تحمي نفسك الحديث به، وعلى الاجتهاد في رضاهم، والتلطف لحاجتهم، والتثبيت لحجتهم، والتصديق لمقالتهم، والتزيين لرأيهم، وعلى قلة الاستقباح لما فعلوا إذا أساؤوا، وترك الانتحال لما فعلوا إذا أحسنوا، وكثرة النشر لمحاسنهم، وحسن الستر لمساوئهم، والمقاربة لمن قاربوا وإن كانوا بعداء، والمباعدة لمن باعدوا وإن كانوا أقرباء، والاهتمام بأمرهم وإن لم يهتموا به، والحفظ لهم وإن ضيعوه، والذكر لهم وإن نسوه، والتخفيف عنهم من مؤونتك، والاحتمال لهم كل مؤونة، والرضى   1 رياضة: تذليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 منهم بالعفو، وقلة الرضى من نفسك لهم إلا بالاجتهاد. وإن وجدت عنهم, وعن صحبتهم غنى، فأغنِ عن ذلك نفسك, واعتزله جهدك, فإنه من يأخذ عملهم بحقه، يُحَلْ بينه وبين لذة الدنيا وعمل الآخرة, ومن لا يأخذ بحقه، يحتمل الفضيحة في الدنيا, والوزر في الآخرة. إنك لا تأمن أنفة الملوك إن أعلمتهم، ولا تأمن عقوبتهم إن كتمتهم، ولا تأمن غضبتهم إن صدقتهم، ولا تأمن سلوتهم إن حدثتهم, وإنك إن لزمتهم لم تأمن تبرمهم1 بك، وإن زايلتهم لم تأمن عقابهم، وإن تستأمرهم حملت المؤونة عليهم، وإن قطعت الأمر دونهم لم تأمن فيه مخالفتهم, إنهم إن سخطوا عليك أهلكوك, وإن رضوا عنك تكلفت من رضاهم ما لا تطيق. فإن كنت حافظًا إن بلوك، جلدًا2 إن قربوك، أمينًا إن ائتمنوك: تعلمهم, وأنت تريهم أنك تتعلم منهم، وتؤدبهم, وكأنهم يؤدبونك, تشكرهم, ولا تكلفهم الشكر، بصيرًا بأهوائهم, مؤثرًا لمنافعهم، ذليلًا إن ظلموك، راضيًا إن أسخطوك، وإلا فالبعد منهم كل البعد، والحذر منهم كل الحذر. تحزر من سكر السلطان, وسكر المال, وسكر العلم, وسكر   1 التبرم: الملل. 2 بلا فلانًا: جربه. الجلد: القوي الصبور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 المنزلة, وسكر الشباب، فإنه ليس من هذا شيء إلا وهو ريح جنة1 تسلب العقل, وتذهب بالوقار, وتصرف القلب, والسمع, والبصر, واللسان إلى غير المنافع.   1 الجنة: الجنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 في الأصدقاء ابذل لصديقك دمك ومالك: ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك1 ومحضرك2، وللعامة بشرك وتحنُّنَك، ولعدوك عدلك وإنصافك، واضنن بدينك وعرضك على كل أحد. لا تنتحلْ رأي غيرك: إن سمعت من صاحبك كلامًا, أو رأيت منه رأيًا يعجبك, فلا تنتحله تزينًا به عند الناس, واكتفِ من التزين بأن تجتني الصواب إذا سمعته، وتنسبه إلى صاحبه. واعلم أن انتحالك ذلك مسخطة لصاحبه، وأن فيه مع ذلك عارًا, وسخفًا. فإن بلغ بك ذلك أن تشير برأي الرجل, وتتكلم بكلامه, وهو يسمع, جمعت مع الظلم قلة الحياء, وهذا من سوء الأدب الفاشي في الناس.   1 الرفد: العطاء. 2 محضرك: مشهدك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ومن تمام حسن الخلق والأدب في هذا الباب أن تسخو نفسك لأخيك بما انتحل من كلامك ورأيك، وتنسب إليه رأيه وكلامه، وتزينه مع ذلك ما استطعت. تمام إصابة الرأي والقول: لا يكوننَّ من خلقك أن تبتدئ حديثًا, ثم تقطعه, وتقول: سوف. كأنك روَّأت1 فيه بعد ابتدائك إياه, وليكن تروِّيك فيه قبل التفوه به. فإن احتجان2 الحديث بعد افتتاحه سخف وغمٌّ. اخزن عقلك وكلامك إلا عند إصابة الموضع, فإنه ليس في كل حين يحسن كل صواب, وإنما تمام إصابة الرأي والقول بإصابة الموضع, فإن أخطأك ذلك أدخلت المحنة3 على عقلك وقولك, حتى تأتي به, إن أتيت به, في غير موضعه, وهو لا بهاء ولا طلاوة له, وليعرف العلماء حين تجالسهم أنك على أن تسمع أحرص منك على أن تقول.   1 روأ في الأمر: نظر فيه, وتدبره, ولم يعجل بجواب. 2 الاحتجان: الاختزان. 3 المحنة: البلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 لا تخلط الجد بالهزل: إن آثرت أن تفاخر أحدًا ممن تستأنس إليه في لهو الحديث, فاجعل غاية ذلك الجد، ولا تعتدْ أن تتكلم فيه بما كان هزلًا، فإن بلغه أو قاربه, فدعه. ولا تخلطن بالجد هزلًا، ولا بالهزل جدًا, فإنك إن خلطت بالجد هزلًا هجنته1، وإن خلطت بالهزل جدًا كدرته. غير أني قد علمت موطنًا واحدًا إن قدرت أن تستقبل فيه الجد بالهزل أصبت الرأي, وظهرت على الأقران2: وذلك أن يتوردك3 متورد بالسفه, والغضب, وسوء اللفظ، فتجبيه إجابة الهازل المداعب، برحب من الذرع، وطلاقة من الوجه، وثبات من المنطق. لا تتطاول على الأصحاب: إن رأيت صاحبك من عدوك, فلا يغضبنك ذلك، فإنما هو أحد رجلين: إن كان رجلًا من إخوان الثقة, فأنفع مواطنه لك أقربها من   1 هجنته: قبحته. 2 ظهرت: تغلبت. الأقران: النظراء. 3 تورده: طلب وروده, وحضوره. 4 الرحب من الذرع: السعة من القوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 عدوك؛ لشر يكفه عنك، أو لعورة1 يسترها منك، أو غائبة يطلع عليها لك، فأما صديقك فما أغناك أن يحضره ذو ثقتك. وإن كان رجلًا من غير خاصة إخوانك, فبأي حق تقطعه عن الناس, وتكلفه ألا يصاحب, ولا يجالس إلا من تهوى؟. تحفظ في مجلسك, وكلامك من التطاول على الأصحاب، وطب نفسًا عن كثير مما يعرض لك فيه صواب القول والرأي، مداراة؛ لئلا يظن أصحابك أن دأبك3 التطاول عليهم. إذا أقبل إليك مقبل بوده فسرك ألا يدبر عنك, فلا تنعم الإقبال عليه 3, والتفتح له، فإن الإنسان طبع على ضرائب4 لؤم, فمن شأنه أن يرحل عمن لصق به, ويلصق بمن رحل عنه, إلا من حفظ بالأدب نفسه, وكابر طبعه. فتحفظ من هذا فيك, وفي غيرك. ادعاء العلم فضيحة: لا تكثرن ادعاء العلم في كل ما يعرض بينك وبين أصحابك؛ فإنك من ذلك بين فضيحتين. إما أن ينازعوك فما ادعيت, فيهجم منك على الجهالة   1 العورة: كل أمر يستحيا منه. 2 الدأب: العادة, والشأن. 3 تنعم الإقبال عليه: تبالغ فيه. 4 ضرائب: طبائع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 والصلف1، وإما ألا ينازعوك, ويخلوا في يديك ما ادعيت من الأمور، فينكشف منك التصنع والمعجزة. واستحِ الحياء كله من أن تخبر صاحبك أنك عالم, وأنه جاهل: مصرحًا أو معرضًا. وإن استطلت على الأكفاء, فلا تثقن منهم بالصفاء. وإن آنست من نفسك فضلًا فتحرَّج2 أن تذكره, أو تبديه, واعلم أن ظهوره منك بذلك الوجه يقرر لك في قلوب الناس من العيب أكثر مما يقرر لك من الفضل. واعلم أنك إن صبرت, ولم تعجل ظهر ذلك منك بالوجه الجميل المعروف عند الناس. ولا يخفين عليك أن حرص الرجل على إظهار ما عنده, وقلة وقاره في ذلك, باب من أبواب البخل واللؤم. وأن من خير الأعوان على ذلك السخاء والتكرم. وإن أردت أن تلبس ثوب الوقار, والجمال, وتتحلى بحلية المودة عند العامة, وتسلك الجدد3 الذي لا خبار4 فيه, ولا عثار, فكن عالمًا كجاهل, وناطقا كعييٍّ. فأما العلم, فيزنك, ويرشدك. وأما قلة ادعائه, فتنفي عنك   1 الصلف: ادعاء المرء فوق قدره تكبرًا. 2 تحرَّج: تجنب الإثم. 3 الجدد: الأرض المستوية. 4 الخبار: ما استرخى من الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الحسد, وأما المنطق إذا احتجت إليه, فيبلغك حاجتك, وأما الصمت, فيكسبك المحبة والوقار. وإذا رأيت رجلًا يحدث حديثًا, قد علمته, أو يخبر خبرا قد سمعته, فلا تشاركه فيه, ولا تتعقبه عليه؛ حرصًا على أن يعلم الناس أنك قد علمته, فإن في ذلك خفة1 وشحًا وسوء أدب, وسخفًا. وليعرف إخوانك والعامة أنك، إن استطعت، إلى أن تفعل ما لا تقول أقرب منك إلى أن تقول ما لا تفعل. فإن فضل القول على الفعل عار وهجنة2، وفضل الفعل على القول زينة. وأنت حقيق فيما وعدت من نفسك, أو أخبرت به صاحبك, أن تحتجن3 بعض ما في نفسك؛ إعدادًا لفضل الفعل على القول، وتحرزًا بذلك عن تقصير فعل إن قصر, وقلما يكون إلا مقصرًا. العدل نحو العدو, والرضى نحو الصديق: احفظ قول الحكيم الذي قال: لتكن غايتك فيما بينك وبين عدوك العدل، وفيما بينك وبين صديقك الرضاء.   1 الخفة: الطيش، وعدم الترصن. 2 فضل القول على الفعل: زيادته عليه. الهجنة: القبح والعيب. 3 تحتجن: تدخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وذلك أن العدو خصم تصرعه بالحجة, وتغلبه بالحكام، وأن الصديق ليس بينك وبينه قاضٍ، فإنما حكمه رضاه. كيف تختار صديقك؟: اجعل غاية تشبشك في مؤاخاة من تؤاخي, ومواصلة من تواصل, توطين نفسك على أنه لا سبيل لك إلى قطيعة أخيك، وإن ظهر لك منه ما تكره، فإنه ليس كالمملوك تعتقه متى شئت, أو كالمرأة التي تطلقها إذا شئت، ولكنه عرضك ومروءتك, فإنما مروءة الرجل إخوانه وأخدانه1, فإن عثر الناس على أنك قطعت رجلًا من إخوانك، وإن كنت معذرًا2، نزل ذلك عند أكثرهم بمنزلة الخيانة للإخاء والملال فيه, وإن أنت مع ذلك تصبرت على مقارته3 على غير الرضا, عاد ذلك إلى العيب والنقيصة. فالاتئاد الاتئاد4! والتثبت التثبت5. وإذا نظرت في حال من ترتئيه لإخائك، فإن كان من إخوان الدين فليكن فقيهًا, غير مراءٍ, ولا حريص، وإن كان من إخوان   1 أخدانه، الواحد خِدْن: الصاحب. 2 أعذر الرجل: بلغ أقصى الغاية من العذر. 3 مقارته: البقاء معه, والاطمئنان إليه. 4 الاتئاد: التأني والتمهل. 5 التثبت: التأني في الأمر, والفحص عنه, والمشاورة فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الدنيا فليكن حرًا, ليس بجاهل, ولا كذاب, ولا شرير, ولا مشنوع1. فإن الجاهل أهل أن يهرب منه أبواه، وإن الكذاب لا يكون أخًا صادقًا؛ لأن الكذب الذي يجري على لسانه, إنما هو من فضول كذب قلبه، وإنما سمي الصديق من الصدق, وقد يهتم صدق القلب, وإن صدق اللسان, فكيف إذا ظهر الكذب على اللسان؟ , وإن الشرير يكسبك العدو, ولا حاجة لك في صداقة تجلب العداوة, وإن المشنوع شانع2 صاحبه. واعلم أن انقباضك عن الناس يكسبك العداوة, وأن انبساطك إليهم يكسبك صديق السوء, وسوء الأصدقاء أضر من بغض الأعداء. فإنك إن واصلت صديق السوء أعيتك جرائره3، وإن قطعته شانك اسم القطيعة، وألزمك ذلك من يرفع عيبك, ولا ينشر عذرك, فإن المعايب تنمي, والمعاذير لا تنمي. لباس انقباض, ولباس انبساط: البس للناس لباسين ليس للعاقل بد منهما، ولا عيش, ولا مروءة, إلا بهما: لباس انقباض, واحتجاز من الناس، تلبسه للعامة, فلا يلقونك   1 المشنوع: المشهور بالقبيح. 2 شانع: فاضح. 3 أعيتك: أعجزتك. جرائره: جناياته، والواحدة جريرة. 4 تنمي: تذيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 إلا متحفظًا متشددًا متحرزًا مستعدًا. ولباس انبساط واستئناس، تلبسه للخاصة الثقات من أصدقائك، فتلقاهم بذات صدرك، وتفضي إليهم بمصون حديثك، وتضع عنك مؤونة الحذر والتحفظ في ما بينك وبينهم. وأهل هذه الطبقة، الذين هم أهلها، قليل من قليل حقا؛ لأن ذا الرأي لا يدخل أحدًا من نفسه هذا المدخل إلا بعد الاختبار والتكشف1 والثقة بصدق النصيحة ووفاء العهد. صن لسانك: اعلم أن لسانك أداة مصلتة2، يتغالب عليه عقلك، وعضبك، وهواك، وجهلك، فكل غالب عليه مستمتع به، وصارفه في محبته، فإذا غلب عليه عقلك، فهو لك، وإن غلب عليه شيء من أشباه ما سميت لك، فهو لعدوك. فإن استطعت أن تحتفظ به وتصونه، فلا يكون إلا لك، ولا يستولي عليه، أو يشاركك فيه عدوك، فافعل. مؤاساة الصديق: إذا نابت أخاك إحدى النوائب من زوال نعمة أو نزول   1 التكشف: إظهار ما في النفس. 2 مصلتة: مجردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 بلية، فاعلم أنك قد ابتليت معه، إما بالمؤاساة1، فتشاركه في البلية، وإما بالخذلان2، فتحتمل العار. فالتمس المخرج عند أشباه ذلك، وآثر مروءتك على ما سواها. فإن نزلت الجائحة3 التي تأبى نفسك مشاركة أخيك فيها، فأجمل4، فلعل الإجمال يسعك، لقلة الإجمال في الناس. وإذا أصاب أخاك فضل، فإنه ليس في دنوك منه، وابتغائك مودته، وتواضعك له مذلة، فاغتنم ذلك، واعمل به. إلى من تعتذر؟: لا تعتذرن إلا إلى من يحب أن يجد لك عذرًا، ولا تستعينن إلا بمن يحب أن يظفرك بحاجتك، ولا تحدثن إلا من يرى حديثك مغنمًا، ما لم يغلبك اضطرار. وإذا اعتذر إليك معتذر، فتلقه بوجه مشرق، وبشر، ولسان طلق إلا أن يكون ممن قطيعته غنيمة. إذا غرست من المعروف غرسًا، وأنفقت عليه نفقة، فلا تضنن في تربية ما غرست، واستنمائه، فتذهب النفقة الأولى ضياعًا.   1 المؤاساة: التعزية. 2 الخذلان، من خذله: ترك نصرته. 3 الجائحة: النازلة العظيمة. 4 أجمل: اصنع الجميل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 إخوان الصدق: اعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، هم زينة في الرخاء، وعدة1 في الشدة، ومعونة على خير المعاش والمعاد2، فلا تفرطن في اكتسابهم، وابتغاء الوصلات، والأسباب3 إليهم. واعلم أنك واجد رغبتك من الإخاء عن أقوام قد حالت بينك وبينهم بعض الأبهة التي قد تعتري بعض أهل المروءات، فتحجز عنهم كثيرًا ممن يرغب في أمثالهم، فإذا رأيت أحدًا من أولئك قد عثر به الدهر، فأَقِلْهُ4. الاستطالة تهدم الصنيعة، وتكدر المعروف: إذا كانت لك عند أحد صنيعة، أو كان لك عليه طول6، فالتمس إحياء ذلك بإماتته، وتعظيمه بالتصغير له، ولا تقتصرن في قلة المنِّ7 به على أن تقول: لا أذكره، ولا أصغي بسمعي إلى   1 العدة: ما أعددته لحوادث الدهر من مال وسلاح. 2 المعاش والمعاد: الحياة الدنيا والآخرة. 3 فرَّط في الشيء: قصَّر فيه. الوصلة: الاتصال. الأسباب، الواحد سبب: كل ما ربط به شيء بآخر من حبل، ونحوه. 4 أَقِلْهُ: أنهضه من عثرته. 5 الصنيعة: ما أصطنعته من المعروف. 6 طول: فضل. 7 المن: هو أن تذكر لمن أحسنتهم إليه ما فعلته له من المعروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 من يذكره، فإن هذا قد يستحيي منه بعض من لا يوصف بعقل، ولا كرم، ولكن احذر أن يكون في مجالستك إياه، وما تكلمه به، أو تستعينه عليه، أو تجاريه فيه، شيء من الاستطالة1، فإن الاستطالة تهدم الصنيعة، وتكدر المعروف. احترس من سورة الغضب: احترس من سورة2 الغضب، وسورة الحمية، وسورة الحقد، وسورة الجهل، وأعدد لكل شيء من ذلك عدة تجاهده بها من الحلم، والتفكر، والروية، وذكر العاقبة، وطلب الفضيلة. واعلم أنك لا تصيب الغلبة إلا بالاجتهاد والفضل، وأن قلة الإعداد لمدافعة الطبائع المتطلعة، هو الاستسلام لها. فإنه ليس أحد من الناس إلا وفيه من كل طبيعة سوء غريزة، وإنما التفاضل بين الناس في مغالبة طبائع السوء، فأما أن يسلم أحد من أن تكون فيه تلك الغرائز، فليس في ذلك مطمع، إلا أن الرجل القوي إذا كابرها بالقمع لها كلما تطلعت، لم يلبث أن يميتها، حتى كأنها ليست فيه، وهي في ذلك كامنة كمون النار في العود، فإذا وجدت قادحًا3 من علة، أو   1 الاستطالة: التفضل. 2 سورة كل شيء: شدته، وحدته. 3 القادح: الذي يقدح بالزند أي يروم إخراج ناره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 غفلة استورت1، كما تستوري النار عند القدح، ثم لا يبدأ ضرها إلا بصاحبها، كما لا تبدأ النار إلا بعودها الذي كانت فيه. ذلِّل نفسه على الصبر: ذلل نفسك بالصبر على جار السوء، وعشير السوء، وجليس السوء؛ فإن ذلك مما لا يكاد يخطئك. واعلم أن الصبر صبران: صبر المرء على ما يكره، وصبره عما يحب. والصبر على المكروه أكبرهما، وأشبههما2 أن يكون صاحبه مضطرًا. واعلم أن اللئام أصبر أجسادًا، وأن الكرام هم أصبر نفوسًا، وليس الصبر الممدوح بأن يكون جلد الرجل وقاحًا3 على الضرب، أو رجله قوية على المشي، أو يده قوية على العمل، فإنما هذا من صفات الحمير. ولكن الصبر الممدوح أن يكون للنفس غلوبًا، وللأمور محتملًا، وفي الضراء متجملًا4، ولنفسه عند الرأي والحفاظ5   1 استورت: اتقدت، واستعرت. 2 أشبههما: أمثلهما. 3 الوقاح: الصلب. 4 من تجمل الفقير: تصبر، ولم يظهر المسكنة والذل. 5 الحفاظ: الغضب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 مرتبطًا1، وللحزم مؤْثِرًا، وللهوى تاركًا، وللمشقة التي يرجو حسن عاقبتها مستخفًا، وعلى مجاهدة الأهواء والشهوات مواظبًا، ولبصيرته بعزمه منفذًا. حَبِّبْ العلم إلى نفسك: حبب إلى نفسك العلم حتى تلزمه وتألفه، ويكون هو لهواك، ولذتك، وسلوتك، وبلغتك2. واعلم أن العلم علمان: علم للمنافع، وعلم لتذكية العقول3. وأفشى العلمين، وأحراهما أن ينشط له صاحبه من غير أن يحض عليه علم المنافع، وللعلم الذي هو ذكاء العقول، وصقالها، وجلاؤها، فضيلة منزلة عند أهل الفضيلة والألباب. في السخاء كمال الجود والكرم: عود نفسك السخاء. واعلم أنه سخاءان: سخاوة نفس الرجل بما في يديه، وسخاوته عما في أيدي الناس.   1 مرتبطًا: مسكنًا نفسه. 2 البلغة: ما يكتفي به من العيش. 3 تذكية العقول: إشعال ذكائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وسخاوة نفس الرجل بما في يديه أكثرهما, وأقربهما من أن تدخل فيه المفاخرة، وتركه ما في أيدي الناس أمحض في التكرم، وأبرأ من الدنس، وأنزه. فإن هو جمعهما، فبذل، وعف، فقد استكمل الجود والكرم. لا تكن حسودًا: ليكن مما تصرف به الأذى والعذاب عن نفسك، ألا تكون حسودًا. فإن الحسد خلق لئيم، ومن لؤمه أنه موكل1 بالأدنى، فالأدنى من الأقارب، والأكفاء، والمعارف، والخلطاء، والإخوان. فليكن ما تعامل به الحسد أن تعلم أن خير ما تكون حين تكون، مع من هو خير منك، وأن غنمًا حسنًا لك أن يكون عشيرك، وخليطك، أفضل منك في العلم، فتقتبس من علمه، وأفضل منك في القوة، فيدفع عنك بقوته، وأفضل منك في المال، فتفيد من ماله، وأفضل منك في الجاه، فتصيب من حاجتك بجاهه، وأفضل منك في الدين، فتزداد صلاحًا بصلاحه. كيف تعامل عدوك؟: ليكن مما تنظر فيه من أمر عدوك وحاسدك، أن تعلم أنه   1 موكل: ملازم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 لا ينفعك أن تخبر عدوك وحاسدك أنك له عدو، فتنذره بنفسك، وتؤذنه بحربك قبل الإعداد والفرصة، فتحمله على التسلح لك، وتوقد ناره عليك. واعلم أنه أعظم لخطرك1 أن يرى عدوك أنك لا تتخذه عدوًا، فإن ذلك غرة2 له، وسبيل لك إلى القدرة عليه، فإن أنت قدرت واستطعت اغتفار العداوة عن أن تكافئ بها، فهنالك استكملت عظيم الخطر. إن كنت مكافئًا بالعداوة والضرر، فإياك أن تكافئ عداوة السر بعداوة العلانية، وعداوة الخاصة بعداوة العامة، فإن ذلك هو الظلم. واعلم مع ذلك أنه ليس كل العداوة والضرر، يكافأ بمثله: كالخيانة لا تكافأ بالخيانة، والسرقة لا تكافأ بالسرقة. ومن الحيلة في أمرك مع عدوك أن تصادق أصدقاءه، وتؤاخي أخوانه، فتدخل بينه وبينهم في سبيل الشقاق، والتلاحي3، والتجافي، حتى ينتهي ذلك بهم إلى القطيعة والعداوة له، فإنه ليس رجل ذو طرق4 يمتنع من مؤاخاتك إذا التمست ذلك منه، وإن كان إخوان عدوك غير ذوي طرق، فلا عدو لك.   1 الخطر: الشر، ورفعة القدر. 2 غرة: غفلة. 3 التلاحي: التنازع. 4 يراد بالطرق هنا: الأساليب في الدهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 لا تدع، مع السكوت عن شتم عدوك، إحصاء مثالبه1 ومعايبه, واتباع عوارته، حتى لا يشذَّ عنك من ذلك صغير ولا كبير، من غير أن تشيع ذلك عليه, فيتقيك به، ويستعد له، أو تذكره في غير موضعه, فتكون كمستعرض الهواء بنبله قبل إمكان الرمي. ولا تتخذن اللعن والشتم على عدوك سلاحًا، فإنه لا يجرح في نفس, ولا منزلة, ولا مال, ولا دين. إن أردت أن تكون داهيًا 2 فلا تحبَّن أن تسمي داهيًا. فإنه من عرف بالدهاء خاتل3 علانية، وحذره الناس، حتى يمتنع منه الضعيف، ويتعرض له القوي. وإن من إرب4 الأريب دفن إربه ما استطاع, حتى يعرف بالمسامحة في الخليقة, والاستقامة في الطريقة. ومن إربه ألا يؤارب العاقل المستقيم الطريقة, والذي يطَّلع على غامض إربه, فيمقته عليه. وإن أردت السلامة, فأشعر قلبك الهيبة للأمور، من غير أن تظهر منك الهيبة, فتفطن الناس بنفسك, وتجرئهم عليك,   1 المثالب: النقائص. 2 من الدهاء، وهو جودة الرأي. 3 خاتل: خادع. 4 الإرب: الدهاء, والعقل. 5 يؤارب: يخادع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وتدعو إليك منهم كل الذي تهاب. فاشعب1 لمدارة ذلك من كتمان الهيبة, وإظهار الجرأة, والتهاون طائفة من رأيك. وإن ابتليت بمحاربة عدوك, فحالف هذه الطريقة التي وصفت لك من استشعار الهيبة, وإظهار الجرأة, والتهاون، وعليك بالحذر, والجد في أمرك، والجرأة في قلبك، حتى تملأ قلبك جراءة, ويستفرغ عملك الحذر. اعلم أن من عدوك من يعمل في هلاكك، ومنهم من يعمل في مصالحتك، وممنهم من يعمل في البعد منك. فاعرفهم على منازلهم. ومن أقوى القوة لك على عدوك، وأعزِّ أنصارك في الغلبة له، أن تحصي على نفسك العيوب والعورات, كما تحصيها على عدوك، وتنظر عند كل عيب تراه, أو تسمعه لأحد من الناس: هل قارفت ذلك العيب؟ , أو ما شاكله, أو سلمت منه؟. فإن كنت قارفت شيئًا منه, جعلته مما تحصي على نفسك, حتى إذا أحصيت ذلك كله, فكاثر2 عدوك بإصلاح نفسك, وعثراتك, وتحصين عوراتك, وإحراز مقاتلك3, وخذ نفسك بذلك ممسيًا ومصبحًا.   1 اشعب: اجمع. 2 المكاثرة: المغالبة. 3 المقاتل، الواحد مقتل: وهو العضو الذي إذا أصيب لم يسلم صاحبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فإذا آنست منها دفعًا, وتهاونًا به, فاعدد نفسك عاجزًا ضائعًا خائبًا، معورًا1 لعدوك, ممكنًا له من رميك. وإن حاصل من عيوبك, وعوراتك ما لا تقدر على إصلاحه من ذنب مضى لك، أو أمر يعيبك عند الناس ولا تراه أنت عيبًا، فاحفظ ذلك وما عسى أن يقول فيه قائل من حسبك2 أو مثالب آبائك, أو عيب إخوانك, ثم اجعل ذلك كله نصب عينك, واعلم أن عدوك مريدك بذلك, فلا تغفل عن التهيؤ له, والإعداد لقوتك وحجتك وحيلتك وحيلتك فيه سرًا وعلانية. فأما الباطل, فلا تروعن به قلبك, ولا تستعدن له, ولا تشتغلن بشيء من أمره، فإنه لا يهولك ما لم يقع، وما إن وقع اضمحل. الشهود العدل: واعلم أنه قلما بده3 أحد بشيء يعرفه من نفسه، وقد كان يطمع في إخفائه عن الناس، فيعيره به معير عند السلطان, أو غيره، إلا كاد يشهد به عليه وجهه وعيناه ولسانه، للذي يبدو منه عند ذلك، والذي يكون من انكساره وفتوره عند تلك البديهة.   1 من أعور الفارس: إذا بدا فيه موضع خلل للضرب. 2 حسب الرجل: ما يعده من مآثر آبائه, وما ينشئه لنفسه من المفاخر. 3 بدهه بأمر: استقبله به مفاجأة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فاحذر هذه, وتصنع لها، وخذ أهبتك لبغتاتها, وتقدم في أخذ العتاد لنفيها. حاذر الغرام بالنساء: اعلم أن من أوقع الأمور في الدين, وأنهكها للجسد, وأتلفها للمال, وأقتلها للعقل, وأزراها للمروءة, وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار, الغرام بالنساء. ومن البلاء على المغرم بهن، أنه لا ينفك يأجم1 ما عنده, وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده منهن. إنما النساء أشباه, وما يتزين في العيون والقلوب من فضل مجهولاتهن على معروفاتهن باطل وخدعة, بل كثير مما يرغب عنه الراغب مما عنده, أفضل مما تتوق إليه نفسه منهن. وإنما المرتغب عما في رحله2 منهن إلى ما في رحال الناس, كالمرتغب عن طعام بيته إلى ما في بيوت الناس, بل النساء بالنساء أشبه من الطعام بالطعام، وما في رحال الناس من الأطعمة, أشد تفاضلًا وتفاوتًا مما في رحالهم من النساء. ومن العجب أن الرجل الذي لا بأس بلبه ورأيه يرى المرأة   1 يأجم: يكره, ويمل. 2 الرحل: أراد به المثوى, والمنزل. وارتغب عنه: لم يرده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 من بعيد متلففة في ثيابها، فيصوَّر لها في قلبه الحسن والجمال, حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية, ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح, وأدم الدمامة1، فلا يعظه ذلك, ولا يقطعه عن أمثالها, ولا يزال مشغوفًا بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن لها شأنًا غير شأن ما ذاق, وهذا هو الحمق, والشقاء, والسفه. ومن لم يحمِ نفسه, ويظلفها, ويحلئها2 عن الطعام, والشراب, والنساء في بعض ساعات شهوته وقدرته، كان أيسر ما يصيبه من وبال ذلك انقطاع تلك اللذات عنه بخمود نار شهوته, وضعف حوامل3 جسده, وقل من تجده إلا مخادعًا لنفسه في أمر جسده عند الطعام والشراب والحمية والدواء، وفي أمر مروءته عند الأهواء والشهوات، وفي أمر دينه عند الريبة والشبهة والطمع. كن متواضعا, سكوتًا, واحذر المراءاة: إن استطعت أن تضع نفسك دون غايتك في كل مجلس   1 الدمامة: القبح. 2 ظلف نفسه عن الشيء: منعها عن أن تأتيه. يحلئها، من قولهم حلأ الإبل: إذا منعها عن مناهل الماء. 3 الحوامل: الأرجل، ومن القدم, والذراع عصبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ومقام, ومقال, ورأي, وفعل, فافعل، فإن رفع الناس إياك فوق المنزلة التي تحط إليها نفسك، وتقريبهم إياك إلى المجلس الذي تباعت منه، وتعظيمهم من أمرك ما لم تعظم، وتزيينهم من كلامك ورأيك وفعلك مالم تزين, هو الجمال. لا يعجبنك العالم ما لم يكن عالِمًا بمواضع ما يعلم، ولا العامل إذا جهل موضع ما يعمل, وإن غلبت على الكلام وقتًا, فلا تغلبن على السكوت، فإنه لعله يكون أشدهما لك زينة، وأجلبهما إليك للمودة، وأبقاهما للمهابة، وأنفاهما للحسد. احذر المراء, وأغربه1، ولا يمنعنك حذر المراء من حسن المناظرة والمجادلة. واعلم أن المماري هو الذي لا يريد أن يتعلم, ولا أن يُتَعَلَّمَ منه, فإن زعم زاعم أنه مجادل في الباطل عن الحق، فإن المجادل، وإن كان ثابت الحجة, ظاهر البينة, حاضر الذهن، فإن يخاصم إلى غير قاضٍ، وإنما قاضيه الذي لا يعدل بالخصومة إلا إليه عدل صاحبه وعقله, فإن آنس أو رجا عند صاحبه عدلًا يقضي به على نفسه, فقد أصاب وجه أمره, وإن تكلم على غير ذلك كان مماريًا. وإن استطعت ألا تخبر أخاك عن ذات نفسك2 بشيء إلا   1 المراء: الجدال مما يشغل عن ظهور الحق. أغربه: أبعده. 2 ذات نفسك: ما تخفيه, وتضمره فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وأنت محتجن عنه بعض ذلك؛ التماسًا لفضل الفعل على القول, واستعدادًا لتقصير فعل، إن قصر، فافعل. واعلم أن فضل الفعل على القول زينة، وفضل القول على الفعل هجنة، وأن إحكام هذه الخلة من غرائب الخلال. الصبر على الأعمال يخففها: إذا تراكمت عليك الأعمال, فلا تلتمس الروح1 في مدافعتها2, بالروغان منها3, فإنه لا راحة لك إلا في إصدارها4، وإن الصبر عليها هو الذي يخففها عنك، والضجر هو الذي يراكمها عليك. فتعهد من ذلك في نفسك خصلة قد رأيتها تعتري بعض أصحاب الأعمال, وذلك أن الرجل يكون في أمر من أمره، فيرِدُ عليه شغل آخر، أو يأتيه شاغل من الناس يكره إتيانه, فيكدر ذلك بنفسه تكديرًا يفسد ما كان فيه, وما ورد عليه، حتى لا يحكم واحدًا منهما، فإذا ورد عليك مثل ذلك, فليكن معك رأيك, وعقلك اللذان بهما تختار الأمور، ثم اختر أولى الأمرين بشغلك، فاشتغل به حتى تفرغ منه, ولا يعظمن عليك فوت ما فات, وتأخير ما تأخر إذا أعملت الرأي معمله, وجعلت   1 الروح: الاستراحة. 2 مدافعتها: تمهيلها إلى يوم بعد يوم. 3 الروغان: الانحراف. 4 إصدارها: إنجازها, والفراغ منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 شُغلك في حقه، واجعل لنفسك في كل شغل غاية ترجو القوة, والتمام عليها. لا تجاوز الغاية: اعلم أنك إن جاوزت الغاية في العبادة, صرت إلى التقصير، وإن جاوزتها في حمل العلم, لحقت بالجهال، وإن جاوزتها في تكلف رضى الناس, والخفة1 معهم في حاجاتهم, كنت المحشود المصنع2. واعلم أن بعض العطية لؤم، وبعض السلاطة3 غيم، وبعض البيان عيٌّ، وبعض العلم جهل, فإن استطعت ألا يكون عطاؤك جورًا، ولا بيانك هذرًا4، ولا علمك وبالًا، فافعل. احفظ المليح, والرائع من الأحاديث: اعلم أنه ستمر عليك أحاديث تعجبك: إما مليحة, وإما رائعة. فإذا أعجتك كنت خليقًا أن تحفظها، فإن الحفظ موكل   1 الخفة: الطيش, وعدم الترصن. 2 المحشود: هو الرجل المحفوف بالجماعات. والمصنع، من قولهم: أصنع الرجل, إذا أعان امرأ أخرق. 3 السلاطة: حدة اللسان وشدته. 4 الهذر: سقط الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 بما ملح وراع, وستحرص على أن تعجب منها الأقوام, فإن الحرص على ذلك التعجب من شأن الناس, وليس كل معجب لك معجبًا لغيرك. فإذا نشرت ذلك المرة والمرتين، فلم تَرَهُ وقع من السامعين موقعه منك, فأزدجر1 عن العودة, فإن العجب من غير عجيب سخف شديد. وقد رأينا من الناس من يعلق الشيء, ولا يقلع عنه, وعن الحديث به، ولا يمنعه قلة قبول أصحابه له من أن يعود إليه, ثم يعود. ثم انظر الأخبار الرائعة فتحفظ منها, فإن الإنسان من شأنه الحرص على الأخبار، ولا سيما ما راع منها، فأكثر الناس من يحدث بما سمع، ولا يبالي ممن سمع, وذلك مفسدة للصدق, ومزراة بالمروءة، فإن استطعت ألا تخبر بشيء إلا وأنت به مصدق، ولا يكون تصديقك إلا ببرهان، فافعل, ولا تقل كما يقول السفهاء: أخبر بما سمعت, فإن الكذب أكثر ما أنت سامع, وإن السفهاء أكثر من هو قائل, وإنك إن صرت للأحاديث واعيًا وحاملًا, كان ما تعي وتحمل عن العامة أكثر مما يخترع المخترع بأضعاف.   1 ارزدجر: ارتدع, وامتنع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 من تصاحب من الناس؟: انظر من صاحبت من الناس: من ذي فضل عليك بسلطان أو منزلة، أو من دون ذلك من الأكفاء والخلطاء والإخوان، فوَطِّنْ نفسك في صحبته على أن تقبل منه العفو, وتسخو نفسك عما اعتاض عليك مما قبله، غير معاتب, ولا مستبطئ, ولا مستزيد, فإن المعاتبة مقطعة للودِّ، وإن الاستزادة من الجشع، وإن الرضا بالعفو, والمسامحة في الخلق مقرب لك كل ما تتوق إليه نفسك, من بقاء العرض والمودة والمروءة. واعلم أنك ستبلى من أقوام بسفه، وأن سفه السفيه سيطلع له منك حقدًا، فإن عارضته, أو كافأته بالسفه, فكأنك قد رضيت ما أتى به، فأحببت أن تحتذي على مثاله, فإن كان ذلك عندك مذمومًا, فحقق ذمك إياه بترك معارضته, فأما أن تذمَّه, وتمتثله1 فليس في ذلك لك سداد2. لا تصاحب أحدًا إلا بمروءة: لا تصاحبن أحدًا، وإن استأنست به أخًا ذا قرابة, أو أخًا ذا مودة، ولا ولدًا إلا بمروءة، فإن كثيرًا من أهل   1 تمتثله: تسلك طريقه. 2 السداد: الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 المروءة قد يحملهم الاسترسال1 والتبذل2 على أن يصحبوا كثيرًا من الخلطاء بالإدلال3 والتهاون والتبذل, ومن فقد من صاحبه صحبة المروءة, ووقارها, وجلالها, أحدث ذلك له في قلبه رقة شأن, وسخف منزلة. ولا تلتمس غلبة صاحبك, والظفر عليه عند كل كلمة ورأي، ولا تجترئن على تقريعه بظفرك, إذا استبان، وحجتك عليه, إذا وضحت. فإن أقوامًا قد يحملهم حب الغلبة, وسفه الرأي في ذلك على أن يتعقبوا الكلمة بعدما تنسى، فيلتمسوا فيها الحجة، ثم يستطيلوا4 بها على الأصحاب, وذلك ضعف في العقل, ولؤم في الأخلاق. أي إكرام يعجب؟: لا يعجبنك إكرام من يكرمك؛ لمنزلة أو لسلطان، فإن السلطان أوشك5 أمور الدنيا زوالًا, ولا يعجبنك أكرام من يكرمك؛ للمال، فإنه هو الذي يتلو السلطان في سرعة الزوال, ولا يعجبنك إكرامهم إياك؛ للنسب، فإن الأنساب أقل مناقب   1 الاسترسال، من استرسل إليه: ابنسط, واستأنس. 2 التبذل: رفع الاحتشام. 3 الإدلال: الاجتراء. 4 استطال على فلان: قهره, وتطاول عليه. 5 أوشك: أسرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الخير غناء عن أهلها في الدين والدنيا. ولكن إذا أُكرمت على دين أو مروءة, فذلك فليعجبك, فإن المروءة لا تزايلك1 في الدنيا, وإن الدين لا يزايلك في الآخرة. الجبن والحرص مقتلة ومحرمة: اعلم أن الجبن مقتلة، وأن الحرص محرمة. فانظر في ما رأيت أو سمعت: أمن قتل في القتال مقبلًا أكثر, أم من قتل مدبرا؟ وانظر أمن يطلب إليك بالإجمال والتكرم أحق أن تسخو نفسك له بطلبته؟ , أم من يطلب إليك بالشره والزيغ؟ واعلم أنه ليس كل من كان لك فيه هوىً، فذكره ذاكر بسوء, وذكرته أن بخير ينفعه ذلك, بل عسى أن يضره, فلا يستخفنك ذكر أحد من صديقك أو عدوك إلا في مواطن دفع أو محاماة, فإن صديقك إذا وثق بك في مواطن المحاماة, لم يحفل بما تركت مما سوى ذلك، ولم يكن له عليك سبيل لائمة. وإن من أحزم الرأي لك في أمر عدوك, ألا تذكره إلا حيث تضره, وألا تعد يسير الضرر له ضررًا.   1 تزايلك: تفارقك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 احترس مما يقال فيك: اعلم أن الرجل قد يكون حليمًا، فيحمله الحرص على أن يقول الناس: جليد1، والمخافة أن يقال: مهين2, على أن يتكلف الجهل, وقد يكون الرجل زِمِّيْتًا3, فيحمله الحرص على أن يقال: لسن، والمخافة من أن يقال: عييٌّ, على أن يقول في غير موضعه, فيكون هذرًا4. فاعرف هذا, وأشباهه، واحترس منه كله. نزاهة العرض, وبقاء العز: إذا بدهك أمران لا تدري أيهما أصوب, فانظر أيهما أقرب إلى هواك, فخالفه، فإن أكثر الصواب في خلاف الهوى. وليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس, والاستغناء عنهم، وليكن افتقارك إليهم في لين كلمتك لهم، وحسن بشرك بهم, وليكن استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك, وبقاء عزك.   1 الجليد: الصبور. 2 مهين: ذليل. 3 الزميت: الكثير الوقار. 4 الهذر: كثير الكلام في الحق والباطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 كيف تجالس الناس؟: لا تجالس امرأ بغير طريقته، فإنك إن أردت لقاء الجاهل بالعلم، والجافي بالفقه1، والعييَّ بالبيان, لم تَزِدْ على أن تضيع علمك, وتؤذي جليسك بحملك عليه ثقل ما لا يعرف, وغمك إياه, بمثل ما يغتمُّ به الرجل الفصيح من مخاطبة الأعجمي الذي لا يفقه عنه. واعلم أنه ليس من علم تذكره عند غير أهله إلا عابوه، ونصبوا له2, ونقضوه عليك، وحرصوا على أن يجعلوه جهلًا، حتى إن كثيرًا من اللهو واللعب الذي هو أخف الأشياء على الناس, ليحضره من لا يعرفه, فيثقل عليه, ويغتم به. وليعلم صاحبك أنك تشفق عليه, وعلى أصحابه، وإياك إن عاشرك امرؤ, أو رافقك أن لا يرى منك بأحد من أصحابه وإخوانه وأخدانه رأفة، فإن ذلك يأخذ من القلوب مأخذًا, وإن لطفك بصاحِبِ صَاحِبِكَ أحسن عنده موقعًا من لطفك به في نفسه. واتق الفرح عند المحزون، واعلم أنه يحقد على المنطلق3, ويشكر للمكتئب.   1 الفقه: العلم بالشيء, والفهم له. 2 نصبوا له: عادوه, وتجردوا له. 3 المنطلق: المسرور المتهلل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 اعلم أنك ستسمع من جلسائك الرأي والحديث, تنكره وتستجفيه, وتستشنعه من المتحدث به عن نفسه أو غيره، فلا يكونن منك التكذيب, ولا التسخيف لشيء مما يأتي به جليسك. ولا يجرِّئَنَّكَ على ذلك أن تقول: إنما حدَّث عن غيره، فإن كل مردود عليه, سيمتعض من الرد، وإن كان في القوم من تكره أن يستقر في قلبه ذلك القول؛ لخطإ تخاف أن يعقد عليه1، أو مضرة تخشاها على أحد, فإنك قادر على أن تنقض ذلك في ستر، فيكون ذلك أيسر للنقض, وأبعد للبغضة. ثم اعلم أن البغضة خوف، وأن المودة أمن، فاستكثر من المودة صامتًا, فإن الصمت سيدعوها إليك, وإذا ناطقت, فناطق بالحسنى، فإن المنطق الحسن يزيد في وُدِّ الصديق, ويستل سخيمة الوغر2. واعلم ان خفض الصوت, وسكون الريح, ومشي القصد3 من دواعي المودة، إذا لم يخالط ذلك بأوٌ4 ولا عجب, أما العجب فهو من دواعي المقت والشنآن.   1 يعقد عليه: يبنى عليه. 2 السخيمة: الحقد والموجدة في النفس. الوغر: المحترق من الغيظ. 3 القصد: استقامة الطريق. 4 البأو: الفخر بالنفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 المستشار ليس بضامن وجه الصواب: اعلم أن المستشار ليس بكفيل، وأن الرأي ليس بمضمون, بل الرأي كله غرر1؛ لأن أمور الدنيا ليس شيء منها بثقة، ولأنه ليس من أمرها شيء يدركه الحازم, إلا وقد يدركه العاجز, بل ربما أعيا الحزمة ما أمكن العجزة, فإذا أشار عليك صاحبك برأي، ثم لم تجد عاقبته على ما كنت تأمل, فلا تجعل ذلك عليه ذنبًا، ولا تلزمه لومًا وعذلًا, بأن تقول: أنت فعلت هذا بي، وأنت أمرتني، ولولا أنت لم أفعل، ولا جرم لا أطيعك في شيء بعدها, فإن هذا كله ضجر, ولؤم, وخفة. فإن كنت أنت المشير، فعمل برأيك, أو تركه، فبدا صوابك, فلا تمنن به, ولا تكثرن ذكره إن كان فيه نجاح، ولا تلمه عليه, إن كان قد استبان في تركه ضرر, بأن تقول: ألم أقل لك: افعل هذا, فإن هذا مجانب لأدب الحكماء. حسن الاستماع: تعلم حسن الاستماع, كما تتعلم حسن الكلام, ومن حسن الاستماع إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه، وقلة   1 الغرر: التعرض للهلكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 التلقت إلى الجواب، والإقبال بالوجه والنظر إلى المتكلم، والوعي لما يقول. واعلم، في ما تكلم به صاحبك، أن مما يهجن صواب ما يأتي به، ويذهب بطعمه وبهجته، ويرزي به في قبوله، عجلتك بذلك، وقطعك حديث الرجل قبل أن يفضي إليك بذات نفسه1. كيف يكون الزهد؟: إن رأيت نفسك تصاغرت إليها الدنيا، أو دعتك إلى الزهادة فيها على حال تعذر من الدنيا عليك, فلا يغرنك ذلك في نفسك على تلك الحال، فإنها ليست بزهادة، ولكنها ضجر, واستخذاء2, وتغير نفس, عندما أعجزك من الدنيا, وغضب منك عليها مما التوى3 عليك منها. ولو تممت4 على رفضها, وأمسكت عن طلبها, أوشكت أن ترى من نفسك من الضجر والجزع أشد من ضجرك الأول بأضعاف، ولكن إذا دعتك نفسك إلى رفض الدنيا, وهي مقبلة عليك، فأسرع إلى إجابتها.   1 أي يكشف لك مكنونات صدره. 2 الاستخذاء: الاسترخاء، الانقياد. 3 التوى: صعب عليك الوصول إليه. 4 تمم على أمره: إمضاه, وأنفذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 حسن المجالسة, وسوءها: اعرف عوراتك, وإياك أن تعرض بأحد في ما ضارعها, وإذا ذكرت من أحد خليقة, فلا تناضل عنه مناضلة المدافع عن نفسه, المصغر لما يعيب الناس منه, فتتهم بمثلها, ولا تلح كل الإلحاح, وليكن ما كان منك في غير اختلاط، فإن الاختلاط من محققات الريب. إذا كنت في جماعة قوم أبدًا, فلا تعمن جيلًا1 من الناس, أو أمة من الأمم بشتم, ولا ذم؛ فإنك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك مخطئًا، فلا تأمن مكافأتهم, أو متعمدًا, فتنسب إلى السفه, ولا تذمن مع ذلك اسمًا من أسماء الرجال أو النساء, بأن تقول: إن هذا لقبيح من الأسماء, فإنك لا تدري لعل ذلك غير موافق لبعض جلسائك، ولعله يكون بعض أسماء الأهلين والحرم, ولا تستصغرن من هذا شيئًا، فكل ذلك يجرح في القلب, وجرح اللسان أشد من جرح اليد. ومن الأخلاق السيئة على كل حال مغالبة الرجل على كلامه, والاعتراض فيه، والقطع للحديث. ومن الأخلاق التي أنت جدير بتركها إذا حدث الرجل حديثًا تعرفه، ألا تسابقه إليه, وتفتحه عليه, وتشاركه فيه، حتى كأنك   1 الجيل: الصنف من الناس, وأهل الزمان الواحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 تظهر للناس أنك تريد أن يعلموا أنك تعلم مثل الذي يعلم. وما عليك أن تهنئه بذلك, وتفرده به. وهذا الباب من أبواب البخل, وأبوابه الغامضة كثيرة. إذا كنت في قوم ليسوا بلغاء, ولا فصحاء، فدعِ التطاول عليهم بالبلاغة والفصاحة. واعلم أن بعض شدة الحذر عون عليك في ما تحذر. وإن بعض شدة الاتقاء مما يدعو إليك ما تتقي. واعلم أن الناس يخدعون أنفسهم بالتعريض, والتوقيع1 بالرجال في التماس مثالبهم, ومساويهم, ونقيصتهم. وكل ذلك أبين عند سامعيه من وضح الصبح, فلا تكونن من ذلك في غرور, ولا تجعلن نفسك من أهله. اعلم أن من تنكب2 الأمور ما يسمى حذرًا, ومنه ما يسمى خورًا3, فإن استطعت أن يكون حبنك من الأمر قبل مواقعتك4 إياه, فافعل. فإن هذا الحذر, ولا تنغمس فيه ثم تتهيبه, فإن هذا هو الخور, فإن الحكيم لا يخوض نهرًا حتى يعلم مقدار غوره. قد رأينا من سوء المجالسة أن الرجل تثقل عليه النعمة براها بصاحبه، فيكون ما يشتفي بصاحبه، في تصغير أمره وتكدير   1 التوقيع: التظني, والتوهم. 2 التنكب: التباعد. 3 الخور: الضعف. 4 مواقعتك: مداناتك, ومباشرتك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 النعمة عليه، أن يذكر الزوال والفناء والدول، كأنه واعظ وقاصٌّ, فلا يخفى ذلك على من يعنى به, ولا غيره, ولا ينزل قوله بمنزلة الموعظة والإبلاغ، ولكن بمنزلة الضجر من النعمة، إذا رآها لغيره، والاغتمام بها, والاستراحة إلى غير روح. وإني مخبرك عن صاحب لي كان من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما أعظمه في عيني صغر الدنيا في عينه: كان خارجًا من سلطان بطنه، فلا يشتهى ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد. وكان خارجا من سلطان فرجه، فلا يدعو إليه ريبة، ولا يستخف له رأيًا, ولا بدنًا, وكان خارجًا من سلطان لسانه، فلا يقول ما لا يعلم، ولا ينازع في ما يعلم, وكان خارجًا من سلطان الجهالة، فلا يقدم أبدًا إلا على ثقة بمنففة. كان أكثر دهره صامتًا, فإذا نطق بَذَّ1 الناطقين. كان يرى متضاعفًا مستضعفًا، فإذا جاء الجد فهو الليث عاديًا2. كان لا يدخل في دعوى، ولا يشترك في مراء، ولا يدلي بحجة3 حتى يرى قاضيًا عدلًا, وشهودًا عدولًا. وكان لا يلوم أحدًا على ما قد يكون العذر في مثله, حتى يعلم ما اعتذاره.   1 بذَّ القوم: غلبهم, وفاقهم. 2 عاديًا: واثبًا. 3 أدلى بحجته: أحضرها على صحة, وأثبتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وكان لا يشكو وجعًا إلا إلى من يرجو عنده البرء, وكان لا يستشير صاحبًا إلا من يرجو عنده النصيحة, وكان لا يتبرم1، ولا يتسخط، ولا يتشهى، ولا يشتكى, وكان لا ينقم على الولي2، ولا يغفل عن العدو، ولا يخص نفسه دون إخوانه بشيء من اهتمامه, وحيلته, وقوته. فعليك بهذه الأخلاق إن أطقت، ولن تطيق، ولكن أخذ القليل خير من ترك الجميع. واعلم أن خير طبقات أهل الدنيا طبقة أصفها لك: من لم ترتفع عن الوضيع, ولم تتضع عن الرفيع.   1 يتبرم: يتضجر. 2 الولي: المحب والصديق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الفهارس الأدب الصغير, والأدب الكبير ابن المقفع حياته ومقتله. . . . . . 5 الأدب الصغير. . . . . 7 صفاته. . . . . . . 6 أسلوب الإنشائي. . . . . 7 كتبه. . . . . . . 6 فضله على العربية. . . . 7 الأدب الصغير بسم الله الرحمن الرحيم. . . . 11 الخصال الصالحة. . . . . 20 الأدب ينمي العقول. . . . 12 من نسي وتهاون خسر. . . . 21 الاقتداء بالصالحين. . . . . 13 إيناس ذوي الألباب. . . . 21 ما وضع في هذا الكتاب. . . . 15 ساعة عون على الساعات. . . 22 انظر أين تضعه نفسك. . . . 16 الرغبات الثلاث. . . . . 22 جماع الصواب وجماع الخطإ. . . 16 الناس طبقتان متباينتان. . . . 22 الباب الأول من ذلك. . . . 17 الصغير يصير كبيرًا. . . . . 23 الباب الثاني من ذلك. . . . 17 الرأي والهوى عدوان. . . . 24 الباب الثالث من ذلك. . . . 18 علم نفسك قبل تعليم غيرك. . . 24 محاسبة النفس. . . . . 18 أعمدة السلطان. . . . . 25 ذكر الموت. . . . . . 19 بماذا يستطاع السلطان. . . . 26 إحصاء المساوئ. . . . . 20 الدنيا دول. . . . . . 27 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 المثل أوضح للمنطق. . . . . . 27 علامات اللئيم. . . . . . 41 لا مال أفضل من العقل. . . . . 27 اشتغل بالأعظم. . . . . . 42 كن ستورًا. . . . . . . 28 الرجال أربعة. . . . . . 42 الحارس والمحروس. . . . . . 28 حكم متفرقة. . . . . . 43 الأدب العظيم. . . . . . . 28 غير المغتبطين. . . . . . .44 أجناس الناس. . . . . . 29 ماذا ينفع. . . . . . . 44 لا تغير الدنيا. . . . . . . 30 أمور هن تبع لأمور. . . . . 44 كيف تطلع الشيطان على عورتك. . . 30 أصول وثمرات. . . . . . 45 زخرف الدنيا. . . . . . . 31 الذكر السيء. . . . . . 45 القيام على الثقة. . . . . . 31 من تؤاخي. . . . . . . 45 شكر الله على نعمه والعمل بطاعته. . 32 بم يروح المرء عن نفسه. . . . 46 الدين أفضل المواهب. . . . . 33 لا تفرح بالبطالة. . . . . . 46 أحق الناس. . . . . . . 33 ضياع العقل. . . . . . 46 العجب آفة العقل. . . . . 34 ذو العقل لا يستخف بأحد. . . . 46 حكمتان. . . . . . . 35 أزواج. . . . . . . .47 العلم زين لصاحبه. . . . . 35 سلامة العاقل. . . . . . 47 العقل الذاتي. . . . . 36 ذو العقل. . . . . . 48 الدليل على معرفة الله. . . . 36 سعيد, ومرجو. . . . . . 48 حق السلطان المقسط. . . . 37 السعيد يرغبه الله, والشقي يرغبه الدليل على علم العالم. . . . 38 الشيطان. . . . . . . 48 علم الآخرة. . . . . 38 الرجال أربعة. . . . . 49 ماذا يجب على المرء. . . . 39 أغنى الناس, وخير ما يؤتى المرء. . . 49 نصائح سنية. . . . . . 39 أشد العيوب. . . . . . 50 رأس الذنوب. . . . . . 41 الخصال المذمومة. . . . . 50 دين المرء. . . . . . . 41 سخافة المتكلم. . . . . . 51 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 القائد إلى النار, وخازن الشيطان. . . . 51 البلايا في الحرص والشره. . . . 56 أخوف ما يكون. . . . . . . 51 ماذا قال العلماء. . . . . 57 ماذا يعمل الحازم. . . . . . . 52 تمام حسن الكلام. . . . . 57 فائدة المشورة. . . . . . . 53 صاحب المروءة. . . . . 57 الطمع. . . . . . . . . 53 تعاهد نفسك. . . . . . 58 صرعة اللين. . . . . . . . 53 أشياء غير ثابتة. . . . . .58 أربعة أشياء. . . . . . . . 54 أولى الناس. . . . . . 58 أحق الناس بالتوقير. . . . . . 54 شراء العظيم بالصغير. . . . .59 العاجز والحازم. . . . . . . 54 المشاركة في المال. . . . . 59 أهل العقل والكرم. . . . . . 54 المعونة عل تسلية الهموم. . . . 59 المال كل شيء. . . . . . . 55 من بلاء إلى بلاء. . . . . 60 الفقر مجمعة للبلايا. . . . . . . 55 تقلب الأحوال, وتعاقبها. . . . 60 الموت راحة. . . . . . . . 56 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الأدب الكبير بسم الله الرحمن الرحيم. . . . . . 63 يا طالب الأدب. . . . . . . . 65 في السلطان إذا ابتليت بالسلطان تعوذ بالعلماء. . . . 68 ما يحتاج إليه الوالي من أمر الدنيا. . . . . 79 إياك وحب المدح. . . . . . . 69 ماذا على المبتلى بصحبة السلطان ما ينبغي للسلطان نحو رعيته. . . . 70 وصبحة الوالي. . . . . . . . 80 مباشرة الصغير تضيع الكبير. . . . 71 لا تسأل السلطان، ولا تتدلل عليه. . . . 83 إياك والإفراط في الغضب. . . . . 72 احذر سخط السلطان، واخضع له. . . . 85 الملك ثلاثة. . . . . . . 73 الكذب يبطل الحق، ويرد الصدق. . . . . 88 الاعتدال في الكلام والسلام. . . . 74 لا تجب إلا إذا سئلت، وأحسن بأي شيء تكون الثقة. . . . . . 75 الإصغاء. . . . . . . . . 88 تجنب الغضب والكذب. . . . 75 رفق الوزير بنظرائه. . . . . . . 90 التفويض إلى الكفاءة. . . . . 76 لكل أليف وجليس. . . . . . . 91 ما يزين الجور ويحمل على الباطل. . . 76 احتمل ما خالفك من رأي السلطان. . . . 93 تفقد الوالي لرعيته وتجنبه الحسد. . . 77 تصحيح النصيحة للسلطان. . . . . . 94 كيف يكسد الفجور والدناءة. . . . 79 الطاعة للملوك. . . . . . . . 95 في الأصدقاء ابذل لصديقك دمك ومالك. . . . 98 تمام إصابة الرأي والقول. . . . . . 99 لا تنتحل رأي غيرك. . . . . 98 لا تخلط الجد بالهزل. . . . . . 100 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 لا تتطاول على الأصحاب. . . . . 100 الشهود العدل. . . . . . . . 116 ادعاء العلم فضيحة. . . . . . 101 حاذر الغرام بالنساء. . . . . . 117 العدل نحو العدو، والرضى نحو الصديق. . . 103 كن متواضعا سكوتا واحذر المراءاة. . . 118 كيف تختار صديقك. . . . . . 104 الصبر على الأعمال يخفها. . . . . . 120 لباس انقباض ولياس انبساط. . . . 105 لا تجاوز الغاية. . . . . . . . 121 صن لسانك. . . . . . . 106 احفظ المليح والرائع من الأحاديث. . . . 121 مؤاساة الصديق. . . . . . 106 من تصاحب من الناس. . . . . . .123 إلى من تعتذر. . . . . 107 لا تصاحب أحدا إلا بمروءة. . . . . . 123 إخوان الصدق. . . . . . 108 أي إكرام يعجب. . . . . . . . 124 الاستطالة تهدم الصنيعة، وتكدر الجبن والخرص مقتلة ومحرمة. . . . . . 125 المعروف. . . . . . . . 108 احترس مما يقال فيك. . . . . . . 126 احترس من سورة الغضب. . . . 109 نزاهة العرض وبقاء العز. . . . . . 126 ذلل نفسك على الصبر. . . . 110 كيف تجالس الناس. . . . . . . 127 حبب العلم إلى نفسك. . . . . 111 المستشار ليس بضامن وجه الصواب. . . . 129 في السخاء كمال الجود والكرم. . . 111 حسن الإستماع. . . . . . . . 129 لا تكن حسودًا. . . . . . 112 كيف يكون الزهد. . . . . . . 130 كيف تعامل عدوك. . . . . . 112 حسن المجالسة وسوءها. . . . . . 131 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139