الكتاب: الأخلاق الفاضلة قواعد ومنطلقات لاكتسابها المؤلف: عبد الله بن ضيف الله الرحيلي الناشر: مطبعة سفير عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الأخلاق الفاضلة قواعد ومنطلقات لاكتسابها عبد الله الرحيلي الكتاب: الأخلاق الفاضلة قواعد ومنطلقات لاكتسابها المؤلف: عبد الله بن ضيف الله الرحيلي الناشر: مطبعة سفير عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمه إن الحمد لله، نحمده، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم. أمّا بعد: فهذا هو الإصدار السادس من سلسلة: "دراسات في المنهج" وقد جاء بعنوان: "الأخلاق الفاضلة، قواعدُ ومنطلقاتٌ لاكتسابها"، وهو موضوعٌ قد اتّجهتُ إلى كتابته منذ عام 1403هـ تقريباً، وانشغلتُ به طوال هذه السنوات، وأنا في تفاعلٍ معه، وعلى قناعة به وبالكتابة فيه، وقناعةٍ بالتربية عليه التربيةَ الأخلاقية النظرية والعملية. وقد اتّجه الرأيُ الآن إلى نشْر ما نَجَزَ من أوراقه، بدلاً من إرجائه حتى يكتمل؛ ولا سيما أن من العسير أن يوفَّى هذا الموضوع حقه، أو أن يَكْتبَ شخصٌ عن موضوعاته كلها كتابةً وافيةً. ولئن بقيتْ للموضوع بواقٍ جديرةٌ بالتأمل والنظر والبحث والكتابة، فالأمل أن تتواصل متابعة ذلك واستكماله في إصدار آخر أو أكثر. أهميّة الأخلاق: إن للأخلاق الفاضلة أهمّيةً عظمى في حياة الإنسان سواءٌ بالنسبة له، أو بالنسبة للمجتمع الذي يعيش فيه، أهميةً تفوق الحاجة إلى الطعام والشراب، ذلك أنه بهذه الأخلاق يعيش حياته السعيدة في الدنيا، ويصير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 إلى حياة أسعد في الآخرة. وإن الإنسان بدون مكارم الأخلاق يصبح عديمَ الخير والفائدة كثيرَ الشرّ والضرر ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى. ولمحاسن الأخلاق في الإسلام مكانةٌ فريدة لم تكن في دين من الأديان، أو منهج من المناهج، وقد بلغ بها الإسلام من المكانة أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مِن خياركم أحسنَكم أخلاقاً" 1 وقال أيضاً: "إنّ مِن أحبِّكم إليّ أحسنَكم أخلاقاً" 2 وقال أيضاً: "اتّقوا النار ولو بِشِقّ تَمْرَة، فإن لم تجد، فبكلمة طيِّبة" 3.? ونظراً لهذه الأهمية، ونظراً لطبيعة الأخلاق، فإن الكتابة فيها تبقى متجددة على الرغم مما كُتب فيها؛ فطالما أن موضوع الأخلاق متشعبٌ بتشعّب الحياة، متجدد بتجددها، فإن الحاجة إلى الكتابة في هذا الموضوع تبقى متشعبة متجددة أيضاً، رغم وجود عدد من الدراسات السابقة. خطأ شائع: وأودّ أن أشير في هذه المقدمة إلى خطأ يقع فيه بعض الناس حول فطرية الأخلاق، فقد زعم بعض الناس أن أخلاق الإنسان فطرية فقط، ولا يمكن اكتسابها، وهذا ادّعاء يردُّه الواقع، فلو كانت الأخلاق لا تَقْبل   1 أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم3366. ومسلم، في الفضائل، برقم682321. 2 أخرجه البخاري، في فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه رقم3549. 3 صحيح البخاري: كتاب الزكاة، باب الصدقة قبل الرد. برقم1347، و1351، ومواضع أُخر. وأخرجه مسلم، في كتاب الزكاة، برقم66-681016. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 التغيير لم يكن للمواعظ والوصايا معنى، ولم يكن للتربية والتهذيب والأمر بهما معنى، ولم يكن للحدود والزواجر الشرعية عن اقتراف الآثام إذَنْ معنى. والواقع المشاهَد يدل على فائدة ذلك وإمكانه في الحيوان فضلاً عن الإنسان؛ يَسْتأنس الصيد الوحشي، ويعلّم الكلب عاداتٍ، وتُدرَّب الفرس. لكن ينبغي أن يُعْلم أن المقصود بالتربية تهذيب الطباع والأخلاق النفسية لا اقتلاعها وقمعها بالكلّية لأن ذلك غير ممكن وليس مراداً شرعاً، بل هو خروجٌ عن الفطرة والشرع. والمراد بتهذيبها أن تكون مستخدمة في أداء التكاليف الشرعية على اختلاف درجاتها، وفي المباحات في حد الاعتدال -دون إفراط أو تفريط-1. وبهذا يتضح المراد في كثير من صفات الإنسان النفسية وأخلاقه التي تلازم -غالباً- غرائزه الجسدية النفسية، وذلك مثل: غريزة الجنس، وغريزة الغضب، وغريزة الأكل، وغريزة حب البقاء، وغريزة حب التملّك. ويُفهَم ذلك في ضوء حديث الثلاثة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني" 2.   1 يُنظَر: في مجمل هذه الأفكار مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة ص165-168. 2 أخرجه البخاري، برقم 4776، ومسلم في النكاح، برقم5 1401. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وبهذا يُدرَك خطأ أنماطٍ من السلوك والمناهج التربوية عند بعض المربين الذين يخرجون عن هذا المنهاج الشرعيّ وعن هذه الغاية من التربية، حينما يُفْرطون أو يُفَرِّطون، أو يتّجهون إلى قلْع الخُلُق كلّيّاً، أو إهمال الجسد، أو المتطلبات الفطرية في الإنسان: الجسدية أو النفسية. هدف هذا الموضوع: إنّ الذي يأمُلُه، والذي قَصَده، كاتب هذه الأوراق المتواضعة هو: - أن تكون محاولَةً عملية لنقْل الإنسان نحو الخُلُق الفاضل، والبعد عن مساوئ الأخلاق. - وأن تكون هذه جزءاً من صيغةٍ تربوية أخلاقية لإصلاح الراعي والرعية1 -أيّاً كان مَوقِعهما- والكبير والصغير، والمثقف والمتعلم، والرجل والمرأة، والشاب والشابة؛ فإنّ هؤلاء جميعاً محتاجون في تعاملهم إلى مكارم الأخلاق، سواء أكان تعاملاً مع الله تعالى، أم مع الناس، أم مع النفس. وإنّ جميع أولئك يبحثون عن فهْم طبيعة الأخلاق، وطريقة اكتسابها، والطريق إلى التحلّي بالفضائل والبعد عن الرذائل، ما داموا أُناساً أسوياء على الفطرة. أما غيرهم فليسوا مخاطبين إلا إذا بقيتْ لهم بقيةٌ من عقلٍ غيرِ مأسورٍ عن فهمِ الواجب، واكتساب الخُلُق الأفضل، والتحلّي بالحلة الأجمل، أعني بها الحلّة التي ينسجها الإنسان لنفسه بنفسه، ويَلبسها   1 وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيّته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 بنفسه، وتكون لُحْمتها وسَداها آياتِ الله البيّنات، وحديثَ مَن لا يَنطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وفطرةَ الله الخالق التي فَطر الناس عليها، إنها مكارم الأخلاق! فدونَكَ أيها الأخ، وأيتها الأُخت، حلّةً دُونها كل حُلَلِ الدنيا، وسِتراً لا يُغني عنه أيُّ سِتْر! والثقةُ يَقينٌ بأنّ الجميع يبحثون عن هذا المطلب وهذه الأُمنية! ويقينٌ لا شك معه أيضاً في أنه لا يستطيع أحدٌ من الناس أن يحول بينك أيها الإنسان وبين لُبْس هذه الحلّة إذا تَحققتْ رغبتك الصادقة فيها، ولم تكنْ أسيراً لأحدٍ ممن ضل الطريق وسار في طريق التخلّي أو تَخلَّى عن هذه الحلّة الجميلة السابغة الساترة في الدنيا وفي الآخرة!. ودُونَك أيها الأخ، وأيتها الأخت، قَدْراً ليس بالقليل من عُمُرِ أخيكما وأوقاته الغالية عنده، وجهده1 المضني -عملاً وتفكيراً- يُهديه إليكما، ولا يبتغي من ذلك إلا هدايةً يرجوها للجميع وتوفيقاً وتسديداً!. أسأل الله ـ عزّ وجلّ ـ أن ينفع بهذه الكلمات، وأن لا يجعلها حُجّة على قائلها، وأن يتجاوز عما فيها من قصور وتقصير. وإنّ من الواجب عليّ أن أشكر الله تعالى، فله الحمد والشكر كله سبحانه على صرْفه إياي إلى هذا الموضوع، وعلى تفضّله عليّ بكل ما فيه من توفيق، وعلى سائر نِعَمِهِ عليّ وعلى الناس. ثم أشكر جزيل الشكر كل من أسهم معي فيه برأي أو مشورة   1 قد أوضحتُ بداية كتابة هذه الأوراق وأحوالها في موضوع قصتي مع الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 أو جهد، وكل من أفادني فيه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، شَعَرَ بذلك أو لم يشعر، وهُم فضلاءُ كثيرون، ولئن لم تحتفظ ذاكرة كاتب هذه السطور أو مذكّرته بأسماء أولئك الأفاضل، فإنّ ملائكة الرحمن جل جلاله قد سجلتْ أسماءهم وأعمالهم؛ فإنه: {مَا يَلْفِظُ مِن قَولٍٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتيدٌ} 1. وهذا يَصْدُق على أعمال الإنسان كلها، خيرها وشرها! {فَمَن يَّعْمَل مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَّرَه} 2. والله الموفق الهادي إلى سواء السبيل.? والحمد لله رب العالمين أوّلاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، سراً وجهراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. كتبه عبد الله بن ضيف الله الرحيلي المدينة المنورة محرّم 1416هـ   1 18: ق: 50. 2 7: الزلزلة: 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 منهج البحث مدخل ... منهج البحث على الرغم من أن الموضوع دعويّ إلا أنني قد راعيت في كتابته منهجاً يتلخص فيما يلي: 1- اعتمدت في اختيار الموضوعات، والكتابة عنها، على الملاحظة والتجربة لقضية الخطأ والصواب في تصرفاتنا، وما أَلْحظه من خطأٍ وصواب ونتائجَ كلٍ منهما في سلوكي وتصرفاتي، وسلوك الآخرين وتصرفاتهم، كل ذلك بعين المراقب الراغب في اكتشاف الخطأ وإصلاحه. 2- وقد اعتمدت المقياس الشرعي، الذي جاءت به نصوص الكتاب والسنة، مقياساً للتمييز بين الحسن والقبيح في السلوك والأخلاق، سواء ذكرت النص أم لم أذكره. 3- أَعْملتُ ما وهبني الله عز وجل من عقل وفطرة في التفريق بين المقبول والمردود وما يقره شرْع الخالق وما لا يقره، وذلك امتثالاً للأوامر الإلهية المفروضة على البَرَيّة، وكذلك خروجاً من عهدة هذه النعم والحجج الربانية على الإنسان بهذا العقل وهذه الفطرة. 4- حرصت على تسجيل الخواطر والمواقف العقلية والفطرية تجاه السلوك والأخلاق المشاهدة في واقعنا، والشاهدة عليه، مفترِضاً أن تكون تلك المواقف هي ذاتها مواقف غيري من البشر الأسوياء جميعاً حتى أعدادٍ كبيرة من الكافرين؛ لأننا جميعاً خَلْق الله، ولأننا جميعاً بنو آدم عليه السلام، ولأننا جميعاً قد زودَنا الخالق بالعقل ذاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 والفطرة ذاتها، وإنما انحرف من انحرف منّا بسبب تعطيله لهذه النعم والحجج والوسائل الإلهية، إلى جانب إعراضه عن نداء الله له بكلامه في كتابه القرآن الكريم وعلى لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أعرض عن هذين النداءين الكريمين فقد عرّض نفسه للهلاك المحقَّق لا المتوقع، إلا أن يمنّ الله عليه بتوبة وأوبة قبل أن تُبِيره الحَوْبة، وأعني بهذين النداءين: النداء الأول: نداء الله للإنسان من داخل ذاته عبْر فطرته وعبْر عقله، والنداء الثاني: نداء الله له في كتابه، القرآن، وعلى لسان رسوله في حديث رسول الله النبي الخاتم عليه السلام! فمن رفضها فقد رفضه الله، "وعلى نفسها جنت براقش"!!. ولعلنا في غنى في هذا المقام عن الرد على الزاعمين أو الداعين إلى تنقُّص العقل والفطرة باسم الدعوة إلى الكتاب والسنة، أو التقليل من شأنهما؛ فيزعمون، بواقع حالهم هذا، التناقضَ بين خَلْق الله وبين أمْره!. 5- لم أقصد استيعاب الموضوع، ولا أستطيع لو قصدت، وذلك لتشعب مثل هذا الموضوع تشعبَ مختَلَفِ مناحي حياة الإنسان وتنوِّعِ سلوكه وأخلاقه، وإنما تناولتُ منه ما اتسع له وقتي وجهدي الآن، فإن أراد الله فيما بعد استكمال ما يمكن استكماله فهذا ما أرجوه وإلا فالنية يؤجر عليها المؤمن. 6- اشترطت على نفسي ألا أعتمد في الاستدلال إلا على دليل صحيح من النقل أو العقل. 7- عزوتُ الآيات إلى المصحف الشريف، واتّبعتُ في ذلك طريقةَ محمد فؤاد عبد الباقي، رحمه الله، بذكْر رقم الآية أو الآيات أوّلاً، فاسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 السورة، فرقم السورة1. 8- خرّجت ما أوردته من الأحاديث تخريجاً مختصراً لا يعدو العزو إلى مصدرٍ صحيح، وإلا فإلى مصدرٍ لم يشترط الصحة، كالسنن الأربعة مثلاً، ولكن لم أورد من ذلك المصدر إلا ما كان صحيحاً. 9- إذا كان الحديث في الصحيحين فإنني لم أُلْزم نفسي إلا بإحالته إلى أحدهما، أياً كان: البخاري أو مسلماً؛ لأن هذا هو الذي يحقق الغرض من عزو الحديث هنا، وهو بيان أنه صحيح. وعزوت الأحاديث إلى مصادرها بذكر رقم الحديث، ولا سيما إذا كان في الصحيحين. واعتمدت في العزو إلى صحيح البخاري على طَبَعاتٍ، هي: طبعة دمشق، ط. الرابعة 1410هـ‍ - 1990م، نشر دار ابن كثير واليمامة، ضبْط وترقيم د. مصطفى ديب البُغا. كما اعتمدتُ على مختَصَر الزبيدي لصحيح البخاريّ، المسمّى "التجريد الصريح للجامع الصحيح"، بيروت، دار النفائس، ط. الخامسة. 1412هـ - 1992م. بتحقيق: إبراهيم بركة، مراجعة أحمد راتب عرموش، كما رجَعْتُ إلى الصحيح نُسْخة "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، لابن حجر العسقلاني، القاهرة، ط. المكتبة السلفية ومطبعتها، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. فإذا ذكرت رقم الحديث في صحيح البخاري فالمقصود رقْمه في ط. البُغا، وإلا بيّنتُ الطبعة المقصودة. واعتمدت في عزو الأحاديث إلى صحيح مسلم ترقيمَ محمد فؤاد عبد الباقي؛ بذكْر الرقم الخاصّ، ثم ذكْر الرقم العامّ بين قوسين. وإذا عزوت الحديث إلى البخاري نَقلتُ في الغالب رقمه في صحيح   1 وهو ما جرى عليه في كتابه "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 مسلم معتمِداً على الرقم الذي ذكره عنه في الحاشية محقِّقُ صحيح البخاري في طبعة دمشق، وهو مصطفى البُغا. 10- وقد كانت الوجهة منذ البداية ألاّ يكون الموضوع تكراراً لما كتبه الآخرون، ومِن ثم لم يأت الموضوع نقولاً، وإنما في الغالب تأملاً وتدبراً وتجربةً، إلا مَوْطنين طال فيهما النقل، هما: الأول: ما رأيت تلخيصه من موضوعاتٍ اعتمدتُ فيها على مؤلف سابقٍ أجاد في بيانها، كالذي نقلته في الفصل الأول، مدخلِ التعريف ببعض المعاني عن الأخلاق، فاختصرتُ جلّه عن عبد الرحمن حبنكة في كتابه: الأخلاق الإسلامية وأسسها. الثاني: بعض ما رأيته من عباراتٍ بليغة وآراء سديدة في التعبير عن بعض المعاني الأخلاقية؛ كالذي رأيته مِن هذا عند ابن حزم في كتابه الأخلاق والسير في مداواة النفوس؛ فنقلتُه عنه بنصه على طوله في الفصل الخامس، المبحث الرابع؛ لِما رأيته فيه مِن تميّز في بابه وفق عناوين وضعتها، بعد تصحيح ما فيه من أخطاء مطبعية ونحوها. وما عدا هذين الموطنين فالشأن فيه كما ذكرتُ1.   1 ثمّ لعلني قد خرجتُ عن هذا في بعض المواضع القليلة، فيما بعد، عند مُراجَعاتي المستمرّة للكتاب للإضافة والتعديل، ولكن، وَفق انتقاءٍ راغبٍ عن كثرةِ المنقول عن الآخرين إلا عن حاجةٍ واضحةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 قصتي مع الموضوع اولا: رحلتي مع الموضوع: ... قصتي مع الموضوع في هذه الفقرة حديثٌ عن قصتي مع هذا الموضوع وفق العناوين التالية: أولاً: رحلتي مع الموضوع: قد شغلني موضوع الأخلاق زمناً ليس بالقصير، بل لقد أحببت الأخلاق الفاضلة منذ صباي، وتفتّح ذهني على الرغبة في التمييز بين الخطأ والصواب في أخلاقي وأخلاق الناس وتصرفاتهم، ولا زلت أذكر يوم أن كنت في تلك المرحلة من العمر أجلس مع كبار السن - إن جلست معهم - وأنا أَرْقُب، بشيء من العناية، تصرفاتهم لأتعرف على أخطائهم؛ لأحفظها في ذاكرتي بهدف أن آخذ نفسي بالابتعاد عنها إن أنا وصلت إلى أعمار أولئك الكبار! وكنت أشعر في قرارة نفسي بعمق الخطأ من الإنسان! وكنت على قناعة شديدة أن الإنسان الكبير لا يليق به شيء من الأخلاق السيئة، ولا تليق به الأخطاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وعلى هذه الوجهة مضى بعض عمري، ثم لَعَلِّي وصلت إلى السن التي كان عليها أولئك الكبار، فراجعت نفسي حينئذٍ: يا تُرى: وهل سَلِمْتُ مما عِبْتُ به أولئك الناس قبلي؟! وهل سَلِمتْ لي أخلاقي كما أُحب؟! وكان الجواب هو أنني رغم ذلك قد أصابني شيء أو أشياء مما قد أصاب غيري في هذه المرحلة من العمر!!. وتساءلت عندها: سبحان الله! وكيف تكون الحال لو لم آخذ نفسي بما اجتهدت أن آخذها به؟! وكيف حالُ من لم يتطلع منذ صغره إلى ما تطلعت إليه؟! الله المستعان!!. إنه مع المجاهدة سيبقى في النفس أو يَعْلق بها بعض الشوائب من وَضَرِ الحياة الدنيا! ولكن الأمل حينئذٍ أن لا تكون هي الأصل في حياة الإنسان، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المرجوّ أن تكون المجاهَدة كفيلةً باستئصال تلك العوالق، ومن هنا تأتي أهمية هذه المجاهدة لإقامة النفس على أمر الله تعالى، وقد قال سبحانه في محكم كتابه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُم سُبُلَنَا} 1. إنني على قناعة اليوم -أكثر مما كنت في الصِّبا- بأن الأزمة في هذه الدنيا إنما هي أزمة أخلاق، سواء بالنسبة للمسلمين أو غيرهم من أُمم الأرض، ولأجل ذلك يحصل ما يحصل في الدنيا من أزمات حادّة، ومن   1 69: العنكبوت: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 مشكلات مُفْنية للدين والخُلُق والإنسان والدواب والشجر!!. وأخلاقُ المرء مرتبطة بعقيدته ودينه ولا شك، بل هي ثمرة من ثمرات العقيدة والدين. فللدين أثره. وللنشأة والتربية والمجاهدة آثارها. وللملاحظة والاعتبار أثرهما في الحياة. وللمطالعة والدرس أثرهما. وللمعاناة أثرها في الحياة. لقد ظللتُ فترةً من عمري أرقب نفسي وأرقب غيري في أَمْر الأخلاق والخطأ والصواب، فتبقى آثار ذلك في نفسي بليغة سلباً وإيجاباً، سروراً وحزناً، رضاً واستنكاراً. ومرّت عليّ في مدرسة الحياة مشاهد، وقصص، وتجارب، كثيراً ما تَنْطِق كلها بما يطابق الحق الذي جاء به كلام رب العالمين وحديث سيد المرسلين! من باب توافُقِ الفطرة والعقل والشرع. وكنت في تلك التجارب والمشاهد كثيراً ما أتلقى فيها الدرس بالمقلوب! ? نعمْ الدرس بالمقلوب!. أرى الظلم والظالم والمظلوم والعاقبة فأستوعب الدرس!. أرى الخطأ وعاقبته وآثاره فأفهم الدرس!. كما أُشاهد العمل الصائب والطاعة والعاقبة فأُوقن بالحقيقة!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 لقد أفدت من هدايات الكتاب والسنة، وأفدت أيضاً من مدرسة الحياة ودروسها بما في ذلك الخطأ والصواب!.? الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ثانياً: الانتقال إلى الكتابة: ولقد استمرت تلك المشاهدات والتجارب عدداً من السنوات، انتقلْتُ بعدها إلى كتابة عددٍ من الملحوظات تجاهها، استهدفتُ فيها تسجيل ما يشبه القواعد والمنطلقات اللازمة لمحاكمة النفس، أو لتبصيرها بالطريق إلى اكتساب الأخلاق الفاضلة، وطريقة تجاوز بعض العقبات!. وعرضتُ أولئك الكلمات على عددٍ من الناس في مناسبات متعددة فلقيتْ قبولاً نبهني على مدى الحاجة إلى الكتابة عن الموضوع، فاستكملت تلك الأوراق بأوراق أخرى ليست بعيدة عن الهدف ذاته، وليست بعيدة عن الدوافع والأسباب ذاتها أيضاً. فأصبحتْ هذه وتلك عصارة أشجانٍ يتطلع صاحبها إلى أن يتخلق بالأخلاق الحميدة، وإلى أن يتخلق بها كذلك الناس من حوله. إن هذه الوريقات التي أُقدمها إلى القارئ العزيز قد جاءت ثمرةً لحالاتٍ متعددة، مَرَّ بها كاتبها، حاول من خلالها أن يرصد الخطأ حيناً، وما ينبغي أن يكون حيناً آخر. وتشعبت الموضوعات تشعبَ الأخلاق ذاتها، ولم يكن -مع ذلك- بالإمكان استيعاب كل الموضوعات؛ لأن الأخلاق تَدْخل في تصرفات الإنسان كلها، وفي سلوكه وفي اهتماماته كلها، فلا يمكن فصلها عن شيء من حياته: جده وهزله، فرحه وحزنه، خطئه وصوابه .... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وتطلّبتُ القرب من الكمال فيما أردت نشره من ذلك ... وحَبَسْتُ الأوراق، وطال الحبس، وكَثُرَ إلحاح بعض الإخوة الفضلاء في نشرها أو نشر ما اطلعوا عليه منها ... وتوصلت في النهاية إلى اختيار عدم التضحية بالكل طلباً للكمال الذي يعز الوصول إليه. ولكن حسبك أن تُصحِّح النية، وأن تبذل الوسع، وأن تجتهد أن لا تنشر إلا صواباً - بحسب الإمكان- في أقل الأحوال. وها أنا أقدمها إلى القارئ العزيز وريقاتٍ بذلت فيها ما الله أعلم به من: الوقت، والجهد، والتأمل والتفكير، والمعاناة!!. وقد جاءت ثمراتِ أحوالٍ مختلفة: فمنها ما كُتب في المكتبة، ومنها في السفر، ومنها في السيارة، ومنها في الطريق، ومنها في السهل ومنها على رأس جبل، ومنها ما كان في راحة بال، ومنها ما كان في حال انشغال، ومنها ما كان في حال شدة، ومنها ما كان بضدها، ومنها ما كان في حالة سموّ نفسي، ومنها ما كان في حالِ بُعْدٍ شيئاً ما عن ذلك. لقد تجمعتْ هذه الأوراق عن الأخلاق عَبْر هذه الأحوال كلها!! ولعلها بهذا تكون أقرب إلى واقع الإنسان حينما يجاهد نفسه في مختلف الأحوال تلك ليكون على الخُلُق الحميد. والأخلاقُ تشمل كل ظروف الإنسان وكل وقته، ولا عجب فلكل حالٍ يمر بها المرء خلقٌ فاضل ينبغي له أن يلتزمه، وما من حَدَثٍ يتجدد له في يومه أو ليله إلا وله خلق فاضل مناسب، فمن يَلْتزِمُ لكل ظرفٍ ووقتٍ ما يجب عليه فيه من خلق كريم يكن هو صاحب الأخلاق الفاضلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ثالثاً: الناس والأخلاق: إن مما استقرّ في فطرة الإنسان: ?- الرغبة في أن يكون هو أحسن الناس وأفضل الناس. ?- الرغبة في أن يكون محبوباً عند الناس مقبولاً عندهم. ?- الرغبة في أن يظهر للناس بمظهر حسن. ?- الرغبة في أن يكون سعيداً. إن هذه دوافع نفسية قد استقرت في نفس كل إنسان سويّ -بغضّ النظر عن دينه ولغته وبلده ولونه-. لكن الناس قد يسلكون مسالك مختلفة وطرقاً متعددة للوصول إلى هذه الغايات، فمنهم من يُوفَّق للطريق الصحيحة الموصلة إلى تلك الغاية أو الغايات، ومنهم من يتنكّب الطريق!! -وهو يلتمس الطريق الصحيح!! - وإن من حق هذا أن يُدَل على الوجهة الصحيحة أو إلى الطريق الموصلة إلى الوجهة الصحيحة!!. إن عدداً كبيراً من الناس يُخْطئون أو يَضِلِّون من حيث لا يريدون!! وما أحوج هذا الصنف من الناس إلى من يَهْديهم سواء السبيل!!. وإن كثيراً من الناس ظنوا أنهم إنما يحققون تلك الفطرة المستقرة في النفوس -فيكونون سعداء ويكونون أحسن الناس ويكونون مقبولين عند الآخرين- بالسعي وراء المال والدنيا!. ومنهم من ظن أنه يدرك ذلك بالجاه والمنصب! ومنهم من ظن أنه يدركه بمُتَعِ الحياة وشهواتها! ومنهم من ظن أنه يدركه بأن يكون رئيساً أو آمراً ناهياً! ومنهم من ظن أنه يحقق ذلك المطلب بجمالِ ظاهرِه ورونق ملابسه!.. إلى آخر هذه التصورات!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 رابعاً: الطريق الصحيح: تلك نظرات الناس وتلك طرائقهم! ولكن هيهات! إنه لا يشفع لمن أخطأ طريقَ الوصول إلى غايةٍ صحيحة، أو إلى هدفٍ نبيل، إرادته تلك الغاية وذلك الهدف!! إنه ليس يَصِلُ إذَنْ إلا إذا حدَّد شيئين لا بدّ منهما: - الغاية الصحيحة. - الطريق الصحيحة الموصلة إلى تلك الغاية. - ثم لا بد من بذل الجهد والسعي إلى تلك الغاية عَبْر تلك الطريق. وإذا طبقنا هذا المنهج هنا وجدنا تلك الغاية أو الغايات صحيحة محمودة؛ لأنه جميلٌ بأن يتطلع الإنسان إلى أن يكون أحسن الناس، ومقبولاً عند الناس، ويظهر للآخرين بالمظهر المناسب، ويلتمس أن يكون سعيداً. لكن تلك الطرق -المذكورة آنفاً- التي ظنها بعض الناس هي جادةُ بلوغ الهدف، ما هي إلا ظنون!. إذَنْ ما الطريق؟!. إنها طريق واحدة، هي: الخلق الفاضل المنبثق عن الإيمان بالله عز وجل. إنها سبيل: مكارم الأخلاق، والعمل لله والدار الآخرة!! {مَن عَمِل صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤمِن فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَاةً طَيِّبَةً} 1.   1 97: النحل: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} 1. {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُم ... } 2. {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُم تُفْلِحُون} 3. نعم، إن الطريق هو هذا الخير الذي تأمر به نصوص الوحي الإلهي، وهذا الخير المفتوح هو طريق الأخلاق الحميدة، فأفعال الخير تنم عن مكارم الأخلاق، ومكارم الأخلاق يصدر عنها الخير بكل أشكاله وألوانه ومجالاته!!. ولما كانت الأخلاق بهذه المكانة وهذه الخطورة في حياة الإنسان، إذ بسببها يكون مصيره إلى الجنة، أو يكون مصيره إلى النار، عُنِيتُ بهذا الموضوع، وكان على العاقل أن يُعنى به عناية فائقة، وَيُولِيه أهميةً خاصة.   1 83: البقرة: 2. 2 53: الإسراء: 17. 3 77: الحج: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 خامساً: حقائق توصلتُ إليها خلال الرحلة: ولقد توصلت خلال هذه الرحلة مع هذا الموضوع إلى عددٍ من الحقائق، لعل من المناسب أن أذْكرها فيما يلي: 1- أن مجاهدة النفس أمرٌ لا بدّ منه كي يتحلى الإنسان بالأخلاق الفاضلة، أما من يرغب في أن تأتيه الأخلاق الحميدة كاملة صافية في صورةِ هدية، وهو بعيد عن المجاهدة والمعاناة، والتطلع إليها، والسعي في سبيلها، والتضحية من أجلها، فلن يصل إليها!؛ فلولا المشقة لساد الناس كلهمو. 2- أن لمراقبة النفس في عاداتها وسجاياها، وما يأتي الإنسانُ وما يَذَرُ، أهميةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 بالغة لاكتساب الأخلاق الفاضلة، لأن ترْك النفس على سجيتها يَذْهب بها بعيداً عن مكارم الأخلاق، بل هذا هو الطريق إلى رذائل الأخلاق. 3- قد تبين لي أنه لو تعلّم الإنسان كيف يحصي أخطاءه، ويعترف بها في قرارة نفسه، ثم يعمل على إصلاحها أو تلافيها لكان هذا سبباً للتحلي بالأخلاق الحميدة، وضدُّ هذا وسيلة إلى ضده. 4- تبين لي أن من أهم أسباب ضياع الأخلاق الفاضلة: - الفراغ. - الخِلْطة والصحبة السيئة. - البيئة المجانبة للأخلاق الفاضلة. - الجهل. فمن يُعَرِّض نفسه لواحد من هذه الأسباب فلا يلومنَّ إلا نفسه. 5- تبين لي أهمية العناية بأنواع من الأخلاق النفسية، وذلك لما لتلك الأخلاق النفسية من آثار في جملة تصرفات الإنسان وسلوكه، ومن تلك الأخلاق: - الأمانة. - الصدق - العفة. - المروءة. - الجدّية. - العناية بالنظر إلى عواقب الأمور، في حدوده الشرعية، ومن ذلك تقدير المسؤولية في هذه الحياة، وتقدير عواقب الكلمة والخطوة والرأي والعقيدة. - الحلم. - الصبر. - الاعتراف بالجميل لأهله. - تقدير ما عند الآخرين من الخير والفضل والعلم والخبرة. وأستطيع أن أقول إن هذه أسس نفسية لا بد منها لاكتساب الأخلاق الفاضلة، فعلى من أراد التطلع إلى التحلي بالأخلاق الحميدة أن يعنى باكتساب هذه الصفات وتربية نفسه عليها ومحاسبتها عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 6- تبين لي أن المحبة والاحترام المتبادَلَين شرط من شروط الإفادة من تربية المربِّي، ومتى فُقد هذا الشرط فلا تربية ولا مربِّي!. 7- تبين لي أنه لا فائدة من وجود مربٍ حكيم في مجتمع أو أناس لا يقدِّرون له صفاته! أو لا ينظرون إليه على أنه كذلك! وكم من عالم ربانيّ عاش بين أُناس لم يستفيدوا منه سوى إقامة حجة الله عليهم!! وكم من عالم ربانيّ عاش بين أناس تخرجوا على يديه زرافاتٍ ووحداناً علماء ربانيين!! بل كم من أناس رحلوا إلى من بَعُدَ عنهم من العلماء الربانيين والهداة الهادين فاستفادوا منهم واقتبسوا من هديهم على البعد، في الوقت الذي حُرِمَ منه بعض مَنْ يعيش بين ظهرانيهم!!. 8- لقد عَلِمتُ جملةً وتفصيلاً، بيقين، أن هذا الدين هو دين الخلق الفاضل. ودستورُ الأخلاق الحق هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن قرأ القرآن بتدبر عرف أن هذا الكتاب هو كتاب الخلق الحميد والفضائل، ومن قرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف أن من أراد الخلق الجميل والشيم الكريمة، فعليه أن يتجه إلى دراسة حديثه وسيرته صلى الله عليه وسلم!.? إلى آخر ما هَدَتْ إليه تجربةٌ، وخطأٌ في التصرف أو صواب، أو تَدبُّرٌ لنصّ من نصوص الوحي الإلهيّ، مما لا يتسع لذكْره هذا المقام، مما سيأتي كثيرٌ منه في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى. والله يزكي من يشاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الفصل الأوّل: مدخلٌ إلى الأخلاق: أوّلاً: تعريف الخُلُق: ... أوّلاً: تعريف الخُلُق: قد شاع بين الناس تصورات وتعريفات للخلق ليست صحيحة، والتعريف الصحيح للخُلُق الذي تشهد له نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف ويشهد له الواقع، هو تعريف الجرجاني: الشريف علي بن محمد، حيث قال: الخُلُق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويُسْرٍ من غير حاجة إلى فكر ورويّة، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلاً وشرعاً بسهولة، سميت الهيئة خُلُقاً حسناً، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة، سميت الهيئة التي هي المصدر خُلُقاً سيئاً. وإنما قلنا: إنه هيئة راسخة؛ لأن مَن يَصْدر منه بَذْل المال على الندور بحالةٍ عارضة، لا يقال خلقه السخاء، ما لم يَثْبُتْ ذلك في نفسه. وكذلك من تكلّفَ السكوت عند الغضب بجهدٍ أو رويّة لا يقال: خُلُقه الحلم. وليس الخُلق عبارة عن الفعل؛ فرب شخص خلقه السخاء، ولا يَبْذل: إما لفقْد المال، أو لمانع. وربما يكون خُلقه البخل، وهو يَبذل لباعثٍ أو رياء1. وهذا التعريف يتفق مع قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ... "2 ومع   1 التعريفات، للجرجانيّ: 101. 2 أخرجه البخاري، برقم 1، و54، و2392، ومواضع أُخر. ومسلم، في الإمارة، برقم155 1907. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 حُكْمِهِ على رجل أَبْلَى بلاءً حسناً في القتال مع المسلمين بأنه في النار، وذلك لعدم إرادته بقتاله وجه الله، ومثل ذلك ما جاء من النصوص الشرعية المتكاثرة في عدم قبول أعمال المنافقين والمرائين. ومن فوائد الوقوف على التعريف الصحيح للخلق هذا، أن يراعيه الإنسان في تقويمه لأخلاق نفسه، فلا يكتفي بصلاح أعماله في الظاهر حتى يطمئن إلى سلامة البواعث والدوافع التي بسببها عملها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ثانياً: طرق اكتساب الأخلاق: من فوائد معرفة طرق اكتساب الأخلاق الحميدة استثمارها، ومحاولة تطبيق ما يمكن أن يطبّقه المرء من ذلك في محاولةِ الوصول إلى فضيلة اكتساب الأخلاق الحميدة والتحلي بها. ولعل أهم طرق اكتساب الأخلاق الحميدة ما يلي: 1- معرفة الأحكام الشرعية في المعاملات وأحكام الأخلاق واستحضار وجوب الواجب وحرمة الحرام؛ فإن هذا هو الوسيلة الأهم في الموضوع. 2- التدريب العمليّ والرياضة النفسية. 3- الحياة في بيئة صالحة. 4- القدوة الحسنة. 5- الضغط الاجتماعيّ من قبل المجتمع المسلم. 6- سلطان الدولة المسلمة1.   1 ذكَر هذه الأسس الخمس عبد الرحمن حبنكة في "الأخلاق الإسلامية وأسسها": 1/196-310، بعنوان: وسائل اكتساب الأخلاق وقد شرحها شرحاً مناسباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 7- التعرف على القواعد الأخلاقية وعلى أهمية الأخلاق الفاضلة وعلى أهمية تحصيلها، ووسائله، والتعريف بها. 8- التعرّض لتربية المربين، وقبول ما عندهم من الخير ومكارم الأخلاق. 9- اتّخاذ أخٍ صالح ناصح متحلٍ بالأخلاق الحميدة يُنبّهه على أخطائه في السلوك والخُلُقِ، ويساعده على إصلاح نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ثالثاً: الأسس التربوية العامة لتقويم الأخلاق: لعل أهم الأسس التربوية العامة لتقويم الأخلاق ما يلي1: 1- التدرج في البناء التربوي؛ لأن التربية ليست عملية تحويل مفاجئ دفعة واحدة. 2- معاملة كل نموذج طبعيّ بما يناسبه ويلائمه من وسائل التربية، ومعاملة كل حالة نفسية بما يلائمها، لأن طبائع الناس وحالاتهم النفسية مختلفة، فلا بدّ من مراعاة ذلك في طريقة التربية والتعامل معها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أعطى أُناساً من غنائم حنين وترك آخرين، مراعاة لهذا الأصل. 3- تصيُّد المناسبات الملائمة للتوجيه التربويّ. 4- الرعاية الشجرية، فالشجرة إذا تُركت وشأنها نمتْ نموّاً عشوائياً، بخلاف ما إذا امتدتْ إليها يد الرعاية بالسقي المستمر والتهذيب، فإنها تنمو نمواً آخر. وهكذا الطبائع البشرية تحتاج إلى مثل هذه الرعاية حتى لا تنشأ نشأة فوضوية عشوائية. 5- التوجيه والتحويل. والمقصود توجيه الطبائع البشرية وتحويلها نحو   1 يُنظر عبد الرحمن حبنكة: 1/184 - 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الخير، وليس القضاء عليها. 6- التصعيد، وهو نوع من التوجيه والتحويل، والمقصود به: تحويل التطلع الإنساني، عن الصغائر والدنايا، وتوجيهه نحو معالي الأمور وما فيه سعادته في الدنيا وفي الآخرة. 7- المزاحمة والتضمير، وذلك بغرس العنصر المزاحم للطبع أو العادة غير المناسبين، عن طريق تكوّن العادة المطلوبُ تربيته عليها. 8- إيجاد الحافز الذاتي، الذي يدفع صاحبه إلى التحلي بمكارم الأخلاق. ولإيجاد الحافز الذاتي عدة طرق، منها: 1- طريق الإيمان بالله واليوم الآخر وبقضاء الله وقدره. 2- طريق استشعار الأحكام الشرعية، وأنها أحكام الله تعالى، وما تؤول إليه عاقبة اتّباعها أو مخالفتها من جنَّة أو نارٍ. 3- طريق الإقناع الفكري. 4- طريق الترغيب والترهيب. 5- طريق تربية الوجدان الأخلاقي.? وليس المقصود التخيّر من هذه الطرق، وإنما الأخذ بها كلها. وبعدُ فإليك مقتطفات مختصرة من أقوال السلف ومواقفهم في الأخلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 رابعاً: الأخلاق في أقوال السلف ومواقفهم: يتسع المجال كثيراً لمواقف السلف الصالح وأقوالهم في الأخلاق مدحاً لممدوحها والتزاماً به، وذمّاً لمذمومها وابتعاداً عنه. ولا يمكن في مثل هذا الموضع استيعاب الحديث عن ذلك، ولكن حسبنا شذراتٌ موقِظاتٌ لمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ومن ذلك ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أ - من أقوالهم في الأخلاق: - ما جاء عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: إن نُؤَبَّنْ أي نُتّهم بما ليس فينا فطالما زُكِّينا بما ليس فينا1. قالته لمّا قيل لها: إنّ رجلاً نال منك عند عبد الملك بن مروان!. - وقال يحيى بن أبي كثير: الذي يعمله النمام في ساعة لا يعمله الساحر في شهر2. - وقال الزبير بن عبد الواحد: سمعتُ بُناناً يقول: الحُرُّ عبْدٌ ما طَمِع، والعبد حُرٌّ ما قَنِعَ! 3. - وقال الإمام ابن حبان: ... فمِن الناس من يكون أكرم من أبيه، وربما كان الأب أكرم من ابنه، وربما كان المملوك أكرم من مولاه، ورُبّ مولىً أكرم من مملوكه4. - وقال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى متحدثاً عن معنى من معاني الرحلة: ومن تعذّرتْ عليه الرحلة منكم ببدنه، فليرحل إلى الله تعالى بقلبه، ولا يَظن أحد أن الرحلة تفيد بصورتها؛ كم راحل قرأ وما قرأ، وروى   1 روضة العقلاء، لابن حبان: 178. 2 روضة العقلاء، لابن حبان: 179. 3 سير أعلام النبلاء، للذهبيّ تهذيبه: ص1056. 4 روضة العقلاء، لابن حبان: 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وما درى، ولم يتحصل له كيف ولا أين؟ فعاد على ظهره بحُنَيْن، دعْ خفيه الاثنين. فارحل من عالم الشهوات إلى عالم القربات، وسافرْ من المحسوسات إلى المعقولات، وانظر في الزاد فلا بدّ منه، والدليل وهو العلم، فلا غنى عنه، فمَنْ وَجَدَ مُعَلِّماً فهو النعيم؛ يهدي إلى السبيل، وينظم الدليل، ويحمي عن البدعة والتعطيل ... 1. - وقال القاضي أبو بكر بن العربي أيضاً: أما بعد: فإن الداخل في طلب العلم كثير، والسعيد قليل، وعدم الإنصاف خطبٌ جليل، وكم حاضر بعرفة من غير معرفة، ونازل بمِنى وما نال مُنى، وكم قارئ في بغداد خرج وما ظفر بزاد ... جميعهم يأمل الغاية وما حصل عليها، ويقصد النهاية وما انتهى إليها، فقد خَلَعَ ثيابَ الوطن، واستظهر على الغربة، واستوطن يجتهد بزعمه وهو لا يعلم كيف؟ ولا أين؟ يرجع بعد طول المغيب بخفّي حنين2. وللإمام أبي محمد ابن حزم أقوالٌ فريدة في باب الأخلاق نقتطف منها ما يلي: - لا تَبْذل نفسك إلا فيما هو أغلى منها. وليس ذلك إلا في ذات الله -عزّ وجلّ-: - في دعاء إلى حقٍّ. - وفي حماية الحريم.   1 قانون التأويل، لابن العربي المالكيّ: 645-646. 2 قانون التأويل، لابن العربي المالكيّ: 645-646. الحاشية، نقلاً عن شواهد الجلة لابن العربيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 - وفي دفْعِ هَوانٍ لم يوجبه عليك خالقك تعالى. - وفي نصْرِ مظلومٍ. وباذلُ نفسه في عَرَضِ دنيا، كبائعِ الياقوت بالحصى‍‍‍‍‍! لا مروءة لمن لا دِين له!. العاقل لا يَرى لنفسه ثمناً إلا الجنة!.1. - ليس بين الفضائل والرذائل، ولا بين الطاعات والمعاصي إلا نِفار النفس وأُنسها فقط ... 2!. - إذا حَقَّقتَ مدّة الدنيا، لم تَجدْها إلا (الآن) الذي هو فَصْلُ الزمانين فقط!. وأما ما مضى، وما لم يأتِ، فمعدومان، كما لم يَكُن. فمَن أضلُّ ممن يبيع باقياً، خالداً، بمدّةٍ هي أقلُّ مِن كَرِّ الطرْفِ؟! "3. - "لم أَر لإبليس أَصْيدَ، ولا أقْبحَ، ولا أحْمقَ، مِن كلمتين ألقاهما على ألْسنة دعاته: إحداهما: اعتذار مَن أساء بأنّ فلاناً أساء قَبْله!. والثانية: استسهال الإنسان أن يُسئ اليوم لأنه قد أساء أمسِ، أو أنْ يسئ في وجْهٍ ما؛ لأنه قد أساء في غيره. فقدْ صارت هاتان الكلمتان عُذراً مُسهِّلتين للشر، ومُدْخلتين له في حَدِّ ما يُعْرفُ ويُحْتَمَلُ4 ولا يُنْكَرُ! "5   1 الأخلاق والسير..، 16. 2 "الأخلاق والسّيَر..": 18. 3 "الأخلاق والسّيَر..": 20. 4 في المطبوع: ويحمل. ولعلّ الصواب ما أثْبتُّ. 5 "الأخلاق والسّيَر..": 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 - إهمال ساعةٍ يُفْسِدُ رياضة سنَةٍ! 1. - استبقاك مَن عاتبك، وزهِد فيك مَن استهان بسيئاتك!. العتاب للصديق كالسبْكِ للسّبيكة؛ فإما تَصْفو، وإما تَطير! 2. - لا تَنْقل إلى صديقك ما يؤلِمُ نفسه، ولا يَنتفع بمعرفته؛ فهذا فِعْلُ الأرذال! ولا تَكْتمه ما يَستضِرُّ بجهله؛ فهذا فِعْل أهل الشر!. ولا يَسُرَّك أن تُمْدَح بما ليس فيك، بل لِيَعْظُمْ غمُّك بذلك؛ لأنه نَقْصُك يُنَبِّه الناس عليه، ويُسْمِعهم إياه، وسُخْريةٌ مِنْك وهُزْؤٌ بك! ولا يَرضى بهذا إلا أحمقُ ضعيف العقل! 3. - لاشيء أقبح مِن الكذب؛ وما ظنُّك بعيبٍ يكون الكفْرُ نوعاً مِن أنواعه؟! فكلُّ كفْرٍ كذبٌ؛ فالكذب جنسٌ، والكفرُ نوعٌ تحته! 4. - "رأيتُ الناس في كلامهم -الذي هو فَصْلٌ بينهم وبين الحمير والكلاب والحشرات- ينقسمون أقساماً ثلاثة: أحدها: مَن لا يُبالي فيما أَنْفَقَ كلامه؛ فيتكلم بكل ما سبق إلى لسانه، غير مُحَقِّقٍ نَصْرَ حَقٍّ، ولا إنكارَ باطل، وهذا هو الأغلب في الناس!. والثاني: أن يَتكلم ناصراً لِما وَقَعَ في نفسه أنه حقٌ، ودافعاً لِما تَوَهَّم أنه باطلٌ، غير مُحَقِّقٍ لطلب الحقيقة، لكن لِجاجاً فيما التزمَ، وهذا   1 "الأخلاق والسّيَر..": 33. 2 "الأخلاق والسّيَر..": 40. 3 "الأخلاق والسّيَر..": 47. 4 "الأخلاق والسّيَر..": 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 كثيرٌ!، وهو دون الأول. الثالث: واضِعُ الكلام في موضعه، وهذا أعزُّ مِن الكبريت الأحمر! "1. - مَن امتُحِن بالعُجْبِ، فَلْيُفكّرْ في عيوبه!. فإنْ أُعجِبَ بفضائله، فَلْيُفَتّشْ ما فيه مِن الأخلاق الدنيئة!. فإنْ خَفِيَتْ عليه عيوبه جُمْلةً حتى يَظنّ أنه لا عيبَ فيه، فَلْيَعْلم أن مصيبته إلى الأبد، وأنه أَتَمُّ الناس نقصاً، وأعظمهم عيوباً، وأضعفُهم تمييزاً!. وأوّلُ ذلك أنه ضعيف العقل، جاهلٌ. ولا عيب أشدّ من هذين؛ لأنّ العاقلَ هو مَن ميّزَ عيوب نفسه؛ فغالَبها وسعى في قمْعها. والأحمق هو الذي يَجهل عيوب نفسه: إما لقلة علمه وتمييزه، وضعْفِ فكْرته. وإما لأنه يُقدِّرُ أن عيوبه خصالٌ2 وهذا أشدُّ عيبٍ في الأرض؛ وفي الناس كثير يَفْخرون بالزنا واللياطة والسرقة والظلم؛ فيُعْجَبُ بتأتّي هذه النحوس له، وبقوّته على هذه المخازي!! "3. - ... وبالجُمْلة، فكلَّما نَقَصَ العقلُ تَوَهّمَ صاحبه أنه أَوْفرُ الناس عقلاً ... ! "4.   1 "الأخلاق والسير ... " 61. 2 خصالٌ أي مزايا حميدة، يُفْخَرُ بها!. 3 "الأخلاق والسير ... " 66. 4 "الأخلاق والسير ... " 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 - مَن أراد الإنصاف؛ فَلْيَتوَهّمْ نفسه مكان خصْمِه، فإنه يَلُوح له وَجْهُ تَعَسُّفِهِ! 1. - الغالب على الناس النفاق. ومِن العَجَبِ أنه لا يَجُوزُ2 -مع ذلك- عندهم إلا مَن نافقهم! 3. - كَثْرةُ الرِّيَبِ تُعَلِّمُ صاحبها الكذب؛ لكثرة ضرورته إلى الاعتذار بالكذب؛ فَيَضْرى4 عليه ويستسهله! 5. ب- مِن مواقفهم تجاه الأخلاق: تتعدد مواقف الأسلاف تجاه الأخلاق، وفيها لطائف ودروس وعِبَرٌ، ومن مواقفهم ما يلي: - قال عليّ بن المدينيّ: سمعتُ سفيان يقول: كان ابن عياش المَنْتُوف يقع في عمر بن ذرّ ويشتمه، فلقيه عمر، فقال: يا هذا لا تُفْرِط في شتمنا، وأَبقِ للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ مَن عصى الله فينا بأكثرَ من أن نطيع الله فيه6!. - وسأل رجلٌ سفيان الثوري عن فضْل الصلاة في الصف الأول، فقال له: كِسْرتُكَ هذه التي تأكلها انظرْ مِن أين هي، وصَلِّ في الصف   1 "الأخلاق والسير ... " 82. 2 أي لا يَرُوجُ عندهم. 3 "الأخلاق والسير ... " 81. 4 أي يتعود عليه. 5 "الأخلاق والسير ... " 82. 6 سير أعلام النبلاء، للذهبيّ تهذيبه: ص549. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الأخير1! يعني: انظرْ أحلالٌ أم حرام هي؟. - وأكل سفيان الثوريّ ليلةً حتى شبعَ؛ فقال: إنّ الحِمار إذا زِيدَ في عَلَفِهِ زِيدَ في عمله! وقام ليلته تلك يُصلي حتى أصبَحَ! 2. - ومن كلام المنتصر إذْ عفا عن أبي العَمَرَّد الشاريّ: لذة العفو أعذبُ من لذةِ التَّشَفِّي، وأَقبحُ فعال المُقتدر الانتقام3!!. - وعن عبد الجليل بن الحسن، قال: كان أحمدُ بن المعذَّل في مجلس أبي عاصم، فمزَح أبو عاصم يُخَجِّل أحمد، فقال: يا أبا عاصم، إن الله خلقك جِدّاً؛ فلا تهزِلَن، فإن المستهزئ جاهلٌ. قال تعالى: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلينَ} 4، فخجل أبو عاصم. ثم كان يُقعِدُ أحمدَ بن المعذَّل إلى جنبه"5!. - "كان بَينَ حسن بن حسن وبين ابن عمِّه علي بن الحسين شيءٌ، فما تَرك حسنٌ شيئاً إلا قاله، وعليٌّ ساكتٌ، فذهب حسنٌ، فلما كان في الليل، أتاهُ عليٌّ، فخرج، فقال عليٌّ: يا ابن عمِّي إن كنتَ صادقاً فغفرَ   1 قرأتُ هذا عنه منذ زمنٍ، ولكن، لم أَستطع الآن الوقوف على مصْدره الناقل له. ولا يُفْهَم مِنه التزهيد في الصفِّ الأوّل، بل النظر أَوّلاً في المكسب والمطعم. 2 يُنظر: تَقْدمة "الجرح والتعديل"، لابن أبي حاتم، 85 - 86، و96. 3 سير أعلام النبلاء، للذهبيّ تهذيبه: ص867. 4 67: البقرة: 2. 5 سير أعلام النبلاء، للذهبيّ، تهذيبه: ص852. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الله لي. وإن كنتَ كاذباً، فغفرَ الله لك. السلام عليك. قال: فالتزمَه حسنٌ، وبكى حتى رثى له"1. - "قال أبو المليح: جاء رجلٌ إلى ميمون بن مِهران يخطب بنتَه، فقال: لا أرضاها لك. قال: ولِمَ؟ قال: لأنها تُحبُّ الحُليَّ والحُلَل. قال: فعندي من هذا ما تُريد. قال: الآن لا أرضاك لها"2!. ومواقفهم تجاه الأخلاق في مدح ممدوحها وذمّ مذمومها، قولاً وعملاً، مواقف حميدة عديدة لا يتسع المقام للاسترسال فيها.   1 سير أعلام النبلاء، للذهبي، تهذيبه: 407-408. 2 سير أعلام النبلاء، للذهبي، تهذيبه: 470. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الفصل الثاني: قواعد الأخلاق في الكتاب والسنة توطئة: ... توطئة: إن نصوص القرآن الكريم، ونصوص حديث النبي صلى الله عليه وسلم كلها، إنما هي في الأخلاق سواء منها ما يتعلق بالأصول أو بالفروع، بالعقيدة أو بالشريعة، وسواء منها ما يتعلق بالمعاملة مع الله الخالق سبحانه، أو مع المخلوقين، أو مع النفس. حتى في إقامة الحدود الشرعية أخلاق حميدة، وحتى في القتل أو الذبح، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليُرِحْ ذبيحته" 1. ولهذا ليس بإمكان أحدٍ من الناس أن يَحْصر نصوص الكتاب والسنة الواردة في الأخلاق ولو جَهِدَ. لقد حاولت مرة أن أجمع الأحاديث المتعلقة بالأخلاق، وبعْد خطوات قررت التوقف عن الموضوع، بسبب هذه الحقيقة الآنفة الذكر حين تكشفت لي، وعلمتُ أن الموضوع بعد ذلك إنما هو موضوع فقْه فقط، بحيث لا يمر الحديث على الإنسان فلا تتبين له علاقته بالأخلاق في حين أنه وثيق الصلة بها. وما أحوجنا إلى فقهٍ كفقه الإمام البخاري في صحيحه رحمه الله تعالى، نتتبع به نصوص الكتاب والسنة لنفقهها الفقه الصحيح ثم نتّبعها!!.   1 أخرجه مسلم في صحيحه، الصيد والذبائح برقم57 1955 عن أبي يعلى شداد ابن أوس رضي الله عنه، وأخرجه غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وفي شأن الأخلاق قد جاءت آياتٌ وأحاديثُ نبويّةٌ بمثابة قواعدَ هدايةٍ ونورٍ، تَنْتَظِر مَن يستخرجها وفق فقْهٍ سليم ويصنفها ويكشف عما فيها من الهدايات كي يُبصّر الناس بها. وقد رأيت أن أذكر هنا عدداً قليلاً من الآيات والأحاديث الناطقة بقواعد في الأخلاق لا غنى للإنسان عنها، مقتصراً على موضع الشاهد منها بقدر الإمكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 المبحث الأوّل آيات ناطقة بقواعد أخلاقية بما أن نصوص القرآن العزيز كلها تعود إلى مدح الممدوح وذم المذموم من الأخلاق، فلا يستطاع إذَنْ حصر الآيات في هذا الموضوع، فلْنقتصر هنا على نماذج منها فحسب، فمن ذلك: *- قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} 1؟! قاعدة شرعية ثابتة عامة وهامّة في التعامل تدور عليها المعاملة فيما بين الله وخلْقه، والواجب كذلك أن تكون الأساس لتعاملِ خلقه فيما بينهم، وهي قاعدة مطردة في كل شيء، ولو التزم بها الناس لارتاحوا وأراحوا، ولكن الناس كثيراً منهم، يا للأسف، راحوا!. *- وقوله تعالى: { ... وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ... } 2، قاعدة شرعية عامة في أقوال الناس، وفي كلام بعضهم مع بعض، لفظاً ومعنىً، أُسلوباً ومضموناً، لو اتّبعوها لعادت عليهم بركاتها راحة وسلاماً في الدنيا والآخرة، وكلما تأملتَ هذا اللفظ الكريم من الآية-على وجازته-انكشف لك وجهٌ أو   1 60: الرحمن: 55. 2 83: البقرة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أكثر من لطائفه، تأمّل مثلاً عمومَه، وحُسْنَه، والمعاملةَ فيه بالعَدل، والمعاملةَ بالفضل، ونتائجَ تطبيق هذه القاعدة.. إلى آخر ما هنالك!. * - وقوله سبحانه: { ... وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ... } 1، هذا الجزء من هذه الآية يُحدد قاعدة أخرى في التعامل فيما بين الناس، تذهب إلى أبعدَ في الحُسن مِن سابِقتها، ذلك ليس قول الحَسَن، بل هو قول الأحسن، فلو تأمّلنا مواقفنا، وأقوالنا وأدرناها ليس على الحَسَنِ بل على الأحسن، لكانت حياتنا في الدنيا وفي الآخرة أحسن!. قُلتُ مَرّةً لابني: لا أَحسنَ مِن أَن تكونَ أَحسنَ! ولا أَسوأَ مِن أَن تَكونَ أَسوأَ!. * - وقوله تعالى: { ... وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ... } 2 يُوَجِّهنا هذا الجزء من الآية الكريمة إلى قاعدة العفو في المعاملة فيما بيننا، وإلى قاعدة حِفْظ الجميل والفضل الذي كان بيننا، وأن لا يُنسيَناه الخلاف الطارئ، وإذا كان للإنسان طريقان للوصول إلى حقه وتسوية النزاع بينه وبين سواه، هما: طريق الحق بالعدل، وطريق العفو والمسامحة، فإن هذا الجزء الوجيز من الآية يرشدنا إلى أن العفو أقرب إلى التقوى، وهذا تنبيه إلى ما هو أهم من حصول الإنسان على حقوقه، وهو التقوى التي ينبغي أن تكون في حسّ المؤمن وهمّه مقدَّمة على الحرص على حقوقه! وما أحوجنا إلى مقاومة ميولنا الجامحة نحو استيفاء حقوقنا في مواقف   1 53: الإسراء: 17. 2 237: البقرة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 * الخلافات مع الآخرين التي نحرص عليها حتى ولو كانت تلك الحقوق المزعومة على حساب الخُلق والدين!، ولْنستحضر ما أعدَّه الله تعالى لمَنْ أخبر عنهم في قوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} 1. * - وقوله تبارك وتعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ... } 2 يُوجِّهنا إلى قاعدة عظيمة في باب الأخلاق والسلوك الشخصيّ، تلك هي طريقة المشي على الأرض، الطريقة التي تَبعُد بالإنسان عن الاستكبار في الأرض حينما يمشي مختالاً بمشيته بغير حق، إنها المشي هوناً! وإلى جانب ذلك قاعدة أخرى، هي: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} !! وما أعظم هذه القاعدة وما أشد أهميتها للسلامة في التعامل مع الآخرين، إنّ هذا أقصر الطرق وأسلمها لقطع حماقة الحمقى وجهالة الجاهلين! {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} !!. وبالمقابل مخالفة هاتين القاعدتين من أعظم أسباب عدم السلامة؛ ذلك لأن من أوسعِ أبواب الشر الاستكبارَ على الناس، ومجاراةَ الجاهلين ومُمَاحَكَتَهم ومجادلتهم والتعامل معهم، لَكَ أن تتصوّر ما وراء تطبيق هاتين القاعدتين من الخير، وما وراء الإعراض عن تطبيقهما من الشر!. * - وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ   1 134: آل عمران: 3. 2 63: الفرقان: 25. ويُنظَر الآيات إلى آخر السورة وما تضمنته من صفات لعباد الرحمن الموصوفين بهذا الوصف الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الْجَمِيلَ} 1 هذا الكلام الجميل، كلام العليم الخبير، يرشدنا فيه إلى قاعدة مهمة في التعامل، وهي اتّباع مبدأ الصفح الجميل، وربْط تعاملنا مع بعضنا بعضاً بالنظر إلى الدار الآخرة والساعة الآتية لا محالة! فطالما أن الساعة آتية فاصفح الصفح الجميل، ولا تكن لحوحاً في استيفاء حقوقك، وطالما أن الساعة آتية فاحسب حساباً لها أيها الإنسان!. ولَكَ أن تتصور كم تكون الحياة جميلة لو اتّبعنا قاعدة الصفح الجميل في حياتنا، وقاعدة النظر إلى الدار الآخرة والساعة الآتية، وكم تكون الحياة قبيحة مؤذية عندما يغيب أسلوب الصفح الجميل، وأسلوب النظر إلى الساعة الآتية!!. * - وقوله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 2 هذه الآية تشتمل على الأربع قواعد هذه في التعامل بين الناس1-أَخْذ العفو، 2-الأمر بالعرف، 3-الإعراض عن الجاهلين،4-الاستعاذة بالله مِن نزْغ الشياطين. وكلّها متعيّنٌ لاستقامة الحياة وسعادتها، وضدُّها بضدها. وقد رُوي عن جعفر الصادق أنه قال: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها3. * - وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ... } 4 هذه قاعدة مطردة وسنّة إلهية ثابتة في قضية الاستقامة   1 85: الحجر: 15. 2 199 - 200 : الأعراف: 7. 3 فتح الباري، لابن حجر: 8/306. 4 11: الرعد: 13. ويُنظَر: 53: الأنفال: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وضدها، والسعادة والشقاء، وهي أن التغيير يبدأ من الإنسان ذاته، ومن داخل النفس ذاتها، وهي قاعدة يحتاجها الناس للتعامل بها مع أنفسهم والتعامل مع سواهم، ويحتاجها المربون والمصلحون، كي يسيروا على نهجها في أساليبهم وطرائقهم، فيأتوا الأمور من أبوابها!. *- وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 1 يقرر قاعدة منهجية، ينبغي أن يسير عليها كل مسلم راغب في الخلق الفاضل وفي الخير بعامّةٍ، وهي أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقتدي به في كل شيء؛ لأنه هو المربي الكامل، وهو الأستاذ في الأخلاق والدين! إن التأسي بالرسول الكريم يستطيعه كل أحد، الكبير والصغير، والعالم والمتعلم والجاهل. وضمير الجمع في قوله سبحانه: {لَكُمْ} يتناول هؤلاء كلهم، ويشمل المسلمين جميعاً!. *- وقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 2 هذه قاعدة أخلاقية إصلاحية عامّة، وهي أساسٌ لمن رام منهجاً للصلاح والإصلاح، ولمن رغب في اكتساب مكارم الأخلاق في الكبيرة والصغيرة. فاجتناب الهوى هو الطريق لدخول جنة المأوى! واتّباع الهوى طريق إلى النار وسخط الملك الجبار سبحانه! فما على من رغب في الخلق الفاضل، وفي الخير، وفي جنة الله   1 21: الأحزاب: 33. 2 40-41 : النازعات: 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ورضوانه، إلا أن يقف هذا الموقف من هواه ومن هوى غيره، نسأل الله التوفيق!. * - وقوله سبحانه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ..} 1 تشتمل هذه الآية على قاعدة في الأخلاق تتعلق بالباعث الفرديّ والباعث الجماعيّ في أخلاق الإنسان وسلوكه، وتحدد بوضوح هذا الوعيد الشديد من رب العالمين لمن وقع في وبال النزعة الفردية في الأخلاق، فأصبح لا همّ له إلا نفسه، ولا داعي عنده للتفكير في الآخرين! ومن ثم فلا حرج عند هذا الصنف المرذول من الناس أن يسلك هذا المسلك الذي وصمته به الآية!. وما ذُكِر في الآية -من الكيل والوزن- ما هو إلا مثال. وأفعالُ الشر والانحراف تتعدد، والمنحرفون يخترعون من السلوك والأنماط ما يعبّرون به عن نوازعهم الفردية البغيضة، والله المستعان!. * - وقوله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ... } 2 يقرر نهجاً عامّاً في السلوك والخلق مرتبطاً بالعقيدة والإيمان، ذلك هو إحسان عبادة الله تعالى، والإحسان إلى أَولى الناس بإحسان الإنسان، وهما الوالدان، ولا يكون ذلك إلا بعبادة الله وحده لا شريك له وتقدير الله حق قدره، وبرِّ الوالدين بطاعتهما بطاعة الله وإكرامهما واحترامهما بصورةٍ لا يُقدّم عليهما فيها سواهما من البَشَر   1 1 - 3: المطففين: 83. 2 23: الإسراء: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يَعني هذا أن يكون حقهما مسقِطاً لحق غيرهما، كما قد يتصوره بعض الناس، وهذا أمرٌ مرتبطٌ بخُلُقِ الاعترافي بالفضل لأهله. * - وقوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ..} 1 يقرر منهجَ التوحيد في حياة الإنسان، وأنه هو الصواب والعدل، وأن الشرك ظلمٌ عظيم، ولا شك في أنه ينبني على حقيقة التوحيد صلاحٌ عامّ في حياة الإنسان، كما أنه ينبني على الشرك فساد عامّ في حياة الإنسان، كلُّ ذلك في أصول الحياة وفي فروعها. ولو تابعتَ وصايا لقمان لابنه في هذه السورة من بعد هذه الآية لرأيت فيها ما يؤيِّدُ كل خلق حميد، ويدفع كل خلق غير سديد، ولكن المقام لا يتسع لكي نمضي إلى أكثر من هذا، وتبقى العودة إلى القرآن، أو الحياة معه، واجبَ الحياة لمن أراد الحياة، وما هذه الوقفات إلا إشارات سريعة إلى الموضوع أرجو أن تكون مفيدة. وإن مما يجب أن لا يُنسَى اليقينَ بأن كتاب الله وحديث رسوله قد استوعبا كل ما نحتاجه من بيان عن الأخلاق، بأدق ما يكون، وبأسلوب جميل سهْلٍ معجِز، وما علينا إلا الورود عليهما وفقههما والنهل منهما.   1 13: لقمان: 31. ويُنظَر بقية الآيات بعدها وما اشتملت عليه من أخلاق وآداب عظيمة!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 المبحث الثاني: أحاديث ناطقة بقواعد أخلاقية * - قوله صلى الله عليه وسلم: ... "ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغنِ يغنه الله، ومن يتصبر يصبّره الله ... " 1. هذا الحديث يُنبّه إلى قاعدة مهمّة في سنّة الله في تغيير أخلاق الناس وسلوكهم، وهي أنّ مردّ بداية ذلك إلى الإنسان ذاته، إلى رغبته وإرادته، ثم مباشرته للخطوة الأُولى، وهي فطْم النفس عن الهوى، أو فطْم النفس عن التمادي في الشهوات وعن التمادي في الاستجابة لمطالب نفسه الأمّارة بالسوء ونفسه الهلوعة. وقد تضمّن الحديث ضرْب المثل بثلاثة أمثلةٍ، وسبيلُ إصلاح النفس تجاهها، وسبيل تحقيق المطلوب فيهاكلها أيضاً يرتكزان على شيء واحد، هو صيام النفس عن كلِّ ما هو ضد المطلوب الشرعيّ، فالعفّة تحصل بالاستعفاف، والغنى يحصل بالاستغناء، والصبر بالتصبر!. * - قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العَرَضِ، ولكن الغِنى غنى   1 أخرجه البخاري، برقم: 1400، ومسلم، في الزكاة، برقم124 1053. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 النفس" 1. يتضمن هذا الحديث بيان المقياس السليم الذي ينبغي أن تستقر عليه النفوس، وتربَّى عليه الضمائر، تجاه النظر إلى مفهوم الغنى، وهو مقياسٌ له أهميته، وله ما بعده حين تتربى عليه النفوس؛ ذلك لأن حُبَّ الغِنى غريزة فطرية في النفس البشرية؛ ومِن ثم جاء هذا النص النبويّ الكريم يستثمر هذه الغريزة البشرية لاستصلاح النفس البشرية وتوجيهها الوجهة السليمة! ويقوّمها عن طريق إصلاح مفاهيمها، كتصحيح مفهوم الغِنى بأنه ليس بكثرة أشياء الإنسان، وإنما بغنى نفسه وهذا هو الواقع المشاهَد!. * - قوله صلى الله عليه وسلم: ... "كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها" 2. يُنبّه إلى قاعدتين مطّردتين اطّراد حركة الإنسان وسعيه، اطّراداً لا يتخلف وإنْ غفل الغافلون. القاعدة الأُولى: "كل الناس يغدو"؛ فالناس جميعاً في حركةٍ وفي عملٍ وفي غدوّ ورواح، حتى الجالسين منهم والنائمين!. والقاعدة الثانية: "فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها". إنها نتيجةٌ ملازِمةٌ للقاعدة الأولى إن نتيجة ذلك السعيِ بيعٌ لا محالة، ولكنه ليس بيعاً لسلعة أخرى غير نفس الإنسان، إنه بسعيه بائعٌ لا محالة، والإنسان البائع هنا إنما يبيع نفسه، وفي ذلك البيع إما فكاك نفسه من عذاب الله وسخطه وإعتاقها منهما، وإما تسليمُ نفسه لعذاب الله وأسْرها بسخطه، والعياذ بالله. يقول الإمام النوويّ في معنى هذه اللفظة: "كل إنسان يسعى بنفسه؛   1 أخرجه البخاري، برقم: 6081، ومسلم، في الزكاة، برقم1201051. 2 أخرجه مسلم، في: الطهارة، 1223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فمنهم من يبيعها لله تعالى بطاعته، فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتّباعهما؛ فيوبقها أيْ يُهلكها، والله أعلم1. إنّ فهْم هذه السمة وهذه الشرعة في حياة الإنسان وعواقب تصرفاته أمرٌ بالغُ الأهمية لفهم طبيعة خُلُق الإنسان وسلوكه وكيفية معالجة أخطائه وتربيته. * - قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصُرَعةِ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" 2. هذا الحديث يؤسس قاعدةً في المعايير ذات خطر وشأن في استصلاح النفس البشرية، وذلك عن طريق إصلاح مفاهيمها وقواعدها، فالحكم على الأمور ليس بظواهرها وإنما بحقائقها، وكذلك عن طريق تأسيس أحكام الإنسان على فقه الأَولى. لقد استقر في نفوس الناس حب الشجاعة، وحب القوّة، وتبعاً لذلك الإعجابُ بالرجل الصُّرَعة، فجاء هذا الحديث ليقرر أن الأَولى بالإعجاب ليس الرجل الصُّرَعة، وإنما هو الإنسان الذي يملك نفسه عند الغضب!. أو أن الحديث يقرر إسناد الوصف بالقوّة ليس للصُّرَعة، وإنما للذي يملك نفسه عند الغضب. وسواء أكان المراد هذا أو ذاك، أو كلاهما، فإن النص النبويّ يؤسس قاعدة أخلاقية ينبغي أن نَصْدر عنها في أحكامنا، وبالتالي نحاكم إليها سلوكنا وتصرفاتنا. حقاً إنّ هذا النوع من التوجه التربويّ لتأسيس القاعدة الصحيحة في النفس البشرية توجُّهٌ تربويٌّ لا يُغني عنه سواه من المناهج والجهود   1 شرح النووي لمسلم: 3/102. 2 أخرجه البخاري، بر قم: 5763، ومسلم، في البر والصلة، برقم107 2609. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 التربوية، ولا يستغني عنه مَن رام إصلاح نفسه أو إصلاح غيره. * - قوله صلى الله عليه وسلم: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله تعالى" وفي لفظٍ: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" 1.يُمثّل قاعدة تربوية أخلاقية ضرورية لصلاح النفس البشرية، تلك هي قاعدة التعوّد على شكر ذي الفضل وذي المعروف، وقد أكدها النبي صلى الله عليه وسلم، وأكّد الحرصَ عليها في هذا الدين بالربط بين خُلق شُكر الله تعالى، وخُلق شكر الناس! ثم إن الرابطة واضحة بين هذا وذاك؛ لأن كلاً منهما يعود إلى أصلٍ من أصول الأخلاق هو حب الحق وإيثاره؛ فمن توافر له الأصل الأخلاقيّ أَعطى الحق القليل والكثير، وفي القليل والكثير، وفي الأصول والفروع، وللخالق وللمخلوق وللكبير وللصغير. ويشهد هذا الحديث بجانب جميل شائق من جمال الأخلاق في هذا الدين، تتوافق على اختياره وحُسنه الفِطَرُ الإنسانية السليمة كلها، وتتلقّاه بالقبول والرضا، ولكنّ كثيراً من الناس في بُعْدٍ عن تلقي مثل هذه الأخلاق الجميلة من معينها الأصيل في حين أنهم يبحثون عنها في غير هذا المصْدر!. * - قوله صلى الله عليه وسلم لمن استنصحه: "لا تغضب" 2. قاعدة ذات شأن عظيم في مجال استصلاح خُلق الإنسان، تتلخص في قوله صلى الله عليه وسلم "لا تغضب" وهذا تحديدٌ لبابٍ أساس من أبواب اكتساب مكارم الأخلاق، كما أن   1 جاء بألفاظ، وقد أخرجه الإمام أحمد، في مواضع كثيرة من المسند، منها: 2/258،295،303، وأبو داود: الأدب،11،2/671، والترمذيّ، في البر،35، 4/339، وقال: هذا حديث حسنٌ صحيح. 2 أخرجه البخاري، برقم: 5765. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الغضب بابٌ واسع من أبواب الشر وارتكاب مساوئ الأخلاق؛ لأن الغضب-ولا سيما الشديد-يَحُول بين صاحبه وبين الرؤية الصحيحة، ويَحُول بينه وبين التثبتِ والحلمِ والأناة والصبر؛ فهو يصْرفه إذَنْ عن عدد من مكارم الأخلاق، وفي الوقت نفسه لا ينفعه بشيء؛ ولِذا عُدَّ مِن أُصول المعاصي. إننا نرى الغضب أحياناً كثيرةً يَنقل الإنسان عن دائرة العقل؛ حتى لا نشكّ في أنه شُعْبة من الجنون! وهذا الحديث يَبعُد بالإنسان عن هذا الداء الخطير على الإنسان، جسميّاً ونفسيّاً ودينيّاً. والنهي في قوله صلى الله عليه وسلم "لا تغضب" يتضمن أمرين: الأول: النهي عن خُلق الاسترسال مع الغضب، وهذا نهيٌ عنه وأمْرٌ بضد ذلك من الحلم والأناة. الثاني: النهي عن التعرض لأسباب الغضب؛ فالأمر بالشيء أمرٌ به وبما يتوقف تحصيله عليه. والأمر بالوضوء والجلوس نوع من أنواع معالجة الغضب إذا وقع، فصلِّ اللهم على النبي الكريم معلم الناس الخير!. * - قوله صلى الله عليه وسلم: "البرّ حُسْن الخُلُق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس" 1. تنبيهٌ إلى مراعاة ما أودعه الله في النفس البشرية من العقل والفطرة، اللذين يستنكران مِن داخل النفس المنكَر والخطأ؛ فأغلب المخطئين وأغلب الخاطئين إنما وقعوا فيما وقعوا فيه وهم متجاهلون نداء العقل والفطرة من داخل ذواتهم لمّا وقعوا في أسْر لذاتهم!.   1 أخرجه الإمام مسلم، في البر والصلة، ح15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 * - قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا نظر أحدكم إلى من فُضّل عليه في المال والخَلْق فلينظر إلى من هو أسفل منه" 1. يتضمن قاعدةً ذات جذورٍ عميقةٍ في النفس البشرية، وهي التعامل مع طبيعة النفس البشرية في توجيهها وتربيتها على الخُلق القويم. ولقد جُبِل الإنسان على خُلُق مجاراة الآخرين ومحاكاتهم وتقليدهم، كما أن الإنسان مجبول أيضاً على غريزةٍ لا تكاد تنفك عنه، وهي حب التملك والمال، وكذلك حب التميز على الآخرين فيما يُفضّلونه، مِثْلُ المال وجمال الصورة والهيئة. وهذا الحديث يستثمر هذه الجبلّة البشرية في توجيهه إلى مكارم الأخلاق واستقامة السلوك، فأرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قاعدة عظيمة في هذا الباب، وإلى سبيلٍ سويّ فطريّ من سبل اكتساب الأخلاق الفاضلة والابتعاد عن ضدها من مساوئ الأخلاق، ولعلها سهلة ميسَّرة لمن عوّد نفسه عليها: "إذا نظر أحدكم إلى مَن فُضّل عليه في المال والخَلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه". إن الإنسان في طبيعة خُلُقه مجبول على موازَنةِ نفسه وأحواله بغيره من الناس وأحوالهم، فإذا هو استثمر طبيعة نفسه هذه في النظر إلى من فُضِّل عليه في المال أو في الخَلق عاد عليه بالضرر وكفران ما هو فيه من نِعَم الله، وربما حَسَد مَن رآه أفضلَ منه، وحَقَد عليه، إلى آخر ما هنالك من مرذول الأخلاق!.   1 أخرجه البخاري، برقم: 6125، ومسلم إلى قوله، في الزهد والرقائق،8 2963. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وطريق التخلص من هذا الداء وهذه الأدواء، هو اتّباع ما أرشد إليه النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، بأن ينظر إلى من هو أسفل منه!. نَعم هذا هو الداء وهذا هو الدواء: نظرةٌ خاطئة، دواؤها نظرة صائبة!. ومعلومٌ أنّ مجال تطبيق هذه القاعدة هذه إنما هو الذي حدده الحديث، وهو المال والخَلْق، أمّا مجال الدِّين والخُلُقِ فالقاعدة فيه بعكس ذلك، وهي أنْ تَنْظر إلى مَن هو أفضل منك؛ لتتأسى به وتُنافسه في ذلك الخيرِ وذلك الفضلِ؛ ومِن هنا جاءت أهمية القدوة الحسنة، ومِن هنا كان الأمر بالتأسي بالرسل والأنبياء وأُولي الفضل والتُّقى الذين أمرتْ بالاقتداء بهم نصوص القرآن والحديث، على عكس أمور الدنيا والحظوظ الشخصية. يقول الإمام النوويّ: "قال ابن جرير وغيره: هذا حديث جامعٌ لأنواعٍ من الخير؛ لأن الإنسان إذا رأى مَن فُضّل عليه في الدنيا، طَلَبتْ نفسه مِثلَ ذلك، واستصغر ما عنده من نعمة الله تعالى، وحَرِص على الازدياد؛ لِيَلحق بذلك، أو يقاربه، هذا هو الموجود في غالب الناس، وأمّا إذا نَظَر في أمور الدنيا إلى من هو دونه فيها، ظَهَرتْ له نعمة الله تعالى عليه؛ فشَكَرها، وتواضعَ، وفَعَلَ الخير"1. إنّ نظرك إلى مَن هو أسفل منك في المال أو الخَلق يورثك رؤيةَ نِعَم الله عليك، ويدعوك إلى الحياء من الله والتواضع له وشكره وحَمْده، فهل نحن فاعلون؟! اللهم آمين.   1 شرح النووي لصحيح مسلم: 18/97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 يا أخي.. يا أخي! لا تكن لنعم الله على عباده مراقباً، وإنما كن لنفسك على نعم الله محاسباً، وكن لإخوانك محبِّاً لا حاسداً ولا حاقداً، وكن لنعم الله عليك شاكراً لا كافراً!. * - قوله صلى الله عليه وسلم: "من سمّع سمّع الله به يوم القيامة، ومن شاقّ شقّ الله عليه يوم القيامة.. إن أول ما يُنتن من الإنسان بطنه فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيّباً فلْيفعل ومن استطاع أن لا يحال بينه وبين الجنة بملء كفٍ من دم أهراقه فليفعل" 1. يقرر ثلاثة أمور منهجية، يتعين على الإنسان تذكّرها والأخذ بها في حياته، لتستقيم له في الدنيا وفي الآخرة، وهذه الأمور هي: الأول: أن الجزاء عند الله من جنس العمل،؛ فمن سمّع سمّع الله به يوم القيامة، ومن شاقّ شقّ اللهُ عليه يوم القيامة؛ فمَن كَرِه لنفسه هذا الجزاء يوم القيامة؛ فليَكره لها ما يوصِلُ إليه ولْيبتعد عن سببه. الثاني: أن أول ما يُنتِن من الإنسان بطنه مهما أكل، فلْيكُنْ هذا سبباً للامتناع عن أكل الحرام، فما دام أن ذلك هو أسرع ما ينتن من الإنسان، ثم يَجري عليه الحساب؛ فلماذا تَقحُّم الحرام إذَنْ؟!. الثالث: أن إهراق دم المسلم بغير حق يحول بين الإنسان وبين الجنة؛ فمن كَرِه أن يُحال بينه وبين الجنة فلْيبتعد عن الأسباب، ومنها: إهراق دم المسلم بغير حق.   1 أخرجه البخاري، برقم: 6733، وأخرج مسلم الكلمة الأُولى، في الزهد والرقائق، رقم47و48 2986. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 والحديث يُحدِّد أسباب سعادة الإنسان في حياته في الآخرة والأُولى، وكأنه يُلخّصها في شيئين: أحدهما: إحسانه عبادة ربه؛ فيُخْلِص العبادة له، ويبتعد عن حرماته سبحانه. الثاني: إحسانه معاملة عباد الله؛ فلا يأكل أموالهم ظلماً، ولا يُزْهِق أرواحهم عدواناً. فمن تمّتْ له هذه الأمور الثلاثة التي حددها الحديث 1-الإخلاص، 2-طِيبُ المطعم،3-الابتعاد عن قتْل النفس المحرَّمة فقد تمّتْ له أهم أبواب إحسان عبادة الله وإحسان معاملة عباد الله، وكان سائراً على طريق الخير واستقامةِ الأخلاق. * - قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ... " 1. يحدّد مسؤولية الإنسان -كل إنسان- في هذه الحياة، وهي تتلخص في أمرين: الأول: أنه راعٍ. الثاني: أنه مسؤول عن رعيته. والإعجاز الآسِرُ للعقول والقلوب معاً في هذا الحديث يتجلى في أمرين هما: 1- إنّ هذه الوظيفة راعٍ تستغرق البشر جميعاً، على اختلاف علائقهم وروابطهم ومهامهم، فلا يَفْلت منها أحدٌ أبداً، بدْءاً من الرسول صلى الله عليه وسلم -المتكلم بهذا الحديث- إلى أقل المكلفين في المجتمع الإنسانيّ!.   1 أخرجه البخاري، برقم: 853. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ثم ما من مهمة يقوم بها الإنسان أو يُكلَّف بها لأداء واجبٍ من هذه الواجبات إلا ولها صفة الرعاية هذه، ويجب عليه أن يستشعر هذا المعنى وهو يؤديها، بأن يشعر بأنه راعٍ. وماذا يُنتظر من الراعي؟! هل يُنتظر منه سوى الحدَب والصيانة، والإخلاص والأمانة؟!. وهل ضاعت الأمانة في حياة الناس إلا يوم غاب في حِسِّهم استشعار هذا المعنى تجاه واجباتهم؟!. وهل فسدتْ أخلاق الناس وأحوالهم إلا يوم خَمَد في نفوسهم هذا المعنى تجاه المسؤولية؟!. 2- أن هذا السؤال عن الواجب وأداء الأمانة لا يُعفى منه أحدٌ من المكلَّفين أيضاً، فهو عامٌّ عموم الوظيفة والواجب. ويَدخل في عموم السؤال هذا سؤال الله له، وسؤال الناس أيضاً، والسؤال في الدنيا، والسؤال في الآخرة، ولكن الأخير هو المهم. إن هذه قاعدة أخلاقية أصيلة أساسية لاستصلاح أخلاق الإنسان وسلوكه، وإنّ اكتساب مكارم الأخلاق والبعد عن مساوئها إنما يتوقفان على القناعة بهذه القاعدة!. * - قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء ... " 1. قاعدة أخلاقية تربوية قويمة، وقاعدة أساسية لا يُغني عنها سواها، ومِن ثَم جاءت هكذا عامّةً لتدخُل في كل عمل أو تصرّفٍ أخلاقيّ يقوم به الإنسان، ومطّردةً بحيث لا يُستثنَى منها حالة من الحالات.   1 أخرجه مسلم في: 34 - الصيد والذبائح، حديث 57 1955. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 نَعم إنّ الله كَتَب وفَرَض الإحسان في كل شيء؛ فإذا كان الإنسان لا ينفكُّ عن العمل ما دام حياً، فإن عمله يجب أن لا ينفكَّ عن الإحسان، وإذا كان الإنسان كذلك، فقدْ أصبح على الخُلق الفاضل القويم!. أرأيتَ كيف يكون حُسن الخُلق في إتقان العمل؟! أرأيتَ كيف يكون حُسن الخُلق في إحسان العمل؟! أرأيتَ كيف يصبح الإحسان في كل شيءٍ خلقا حسناً كريماً؟! إنّ حُسن الخُلق في حياة الإنسان، مظهرٌ من مظاهر الإحسان في كل شيء!. * ??- قوله صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة على المرء المسلم، فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصيةٍ فلا سمع ولا طاعة" 1. قاعدة ضرورية لاستقامة الحياة وحسن الخُلق، وهي قاعدةٌ ذات شِقين لا بدّ منهما جميعاً: الأول: السمع والطاعة في طاعة الله، بغضّ النظر عن الحب والكراهية الشخصيين. الثاني: لا سمع ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق. ولِتتصوّر شأن هذين المعنيين لك أن تتصوّر كم أردى الناسَ والمجتمعَ وضْعُ العصيان في موضع الطاعة فيما بينهم، وكم أرداهم أيضاً طاعة المخلوقين في معصية الخالق!!   1 أخرجه البخاري، برقم6725، 2796، ومسلم، في الإمارة،38 1839. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 إنّ شأن هذا المنطلق الأخلاقيّ الشرعيّ يتجلى في كون الإنسان لا يخلو عن أن يكون آمراً أو مأموراً. بل الأغلب أن يكون آمراً ومأموراً في الوقت نفسه، وهو في كلا الحالتين وفي جميع أحواله مضطرٌ إلى تطبيق هذه القاعدة والالتزام بها للسلامة والنجاة والسعادة في الدنيا والآخرة!. * - قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً" 1. قاعدة للحكم على الناس بأخلاقهم. إنّ مِن خيارنا أحسننا أخلاقاً. هكذا بعموم الأخلاق، وبعموم الحُسن وشموله!. إن الرسول صلى الله عليه وسلم يوضّح أن أخلاق الإنسان عنوانُ خيريته وأفضليته، أو هي عنوانٌ بضدّ ذلك!. فاصنعْ لنفسك عنواناً ترضاه في الدنيا وفي الآخرة أيها الإنسان!. * ??- قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مثل ما يحب لنفسه ... " 2. قاعدة تربوية أخلاقية، ومعيارٌ للأخلاق والسلوك بَلَغ من شأنهما أنْ ربطهما النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان؛ فلا يَكْمل إيمان الإنسان إلا بالسير وفق هذه القاعدة وهذا المعيار "لا يؤمن أحدكم حتى يُحِب لأخيه ما يُحب لنفسه" أي حتى يُحب الخير لأخيه. والمعيار فطْريّ جِبلّيّ، وهو أن يُحب له ما يحب لنفسه من الخير الذي جبله الله على حبه لنفسه!.   1 أخرجه البخاري، برقم: 2182 و3366، ومسلم، في المساقاة، 120 1601، لكن عنده بلفظ:"قضاءً"، بدل:"أخلاقاً". 2 أخرجه البخاري، برقم: 13، ومسلم، في الإيمان،71 45، بلفظ: "لأخيه أو جاره". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 * - قوله صلى الله عليه وسلم: " ... وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه" 1. قاعدة في التعامل مع الناس عادلة، سهلة التطبيق لمن أعمل عقله وضميره في تعامله مع الآخرين؛ فما عليه إلا أن يَنظر ما الذي يتطلع إليه من معاملةٍ حسنة عند الآخرين يَودّ أن يقابلوه بها أو يعامِلوه بها، ثم يُلزم نفسه بمعاملة الآخرين بذلك الخُلق الحسن الذي ينتظره من الناس!. وحسْبنا هنا هذه الإشارات إلى ما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه المعاني والقواعد الأخلاقية التي لا تشبع منها النفس السويّة!.   1 أخرجه مسلم، برقم 1844، وأخرجه النسائيّ في: البيعة، باب رقم 25، 7/152 - 154، من حديث طويل، وفيه - بعد أن ذكر الفتن: فمن أحب منكم أن يُزحزح عن النار ويُدخل الجنة، فلتُدْركه موتته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، ولْيأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه..، وأخرجه ابن ماجه في: الفتن، باب رقم 9، 2/1306. وفيه: وهو يؤمن والذي يُحب أن يأتوا إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الفصل الثالث: القواعد الأساسيّة لاكتساب الأخلاق مقدّمة ... مقدّمة: هذه شذرات أكتبها لتكون بمثابة قواعد في باب الأخلاق، ليست مرتّبة ترتيباً موضوعياً، وإِنما سجلتها بحسب ما أملاه عليّ الموقف أو الحالة التي أشهدها ويشهدها غيري، من تعاملي مع الناس ومن تعامل الناس بعضهم مع بعض، فكتبتُ ما أملته عليّ تلك الأحوال، دون النظر إلى موافقة كلامي لكلامٍ سابقٍ لغيري أو عدمه أو النظر إلى أنّ سواي قد قال مثل ذلك القول.. وإنما أردت من هذا استثمار ظروف الحياة لتطبيق قواعدِ حُسْن الخُلُق، خروجاً من النظريّة إلى التطبيق. ولا يخفى على المسلم العاقل أن هذه القواعد والمنطلقات، الواجبُ أن تؤخذ في ضوء هدايات كتاب الله تعالى وسنّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يَضِل من استمسك بهما، وما عدا ذلك فلا عصمة له من الخطأ. القواعد والمنطلقات الأخلاقية: 1- عامِل الناس بمثل مَا تحب أن يعاملوك به، كما في الحديث الصحيح: " ... وليأت إلى الناس الذي يحبّ أن يُؤتى إليه" 1. 2- أحِبّ للناس ما تحب لنفسك واكره لهم ما تَكْرهُ لها. 3- لا يَسُوغُ لك أن تتخذ ظروفك سبباً أو عُذراً لك في الإساءة للآخرين مهما كنت معذوراً عند نفسك.   1 مضى تخريجه في الحاشية السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 4- إِذا أردت تهذيب نفسك فيُمكنُك مخالطة الناس: فما كرهت منهم من أَخلاق فابتعد عنه؛ فإنهم يَكْرهون منك ما تَكرهُ منهم. 5- لا تَكْتفِ بنقْدِ أَخلاق الآخرين وتنسَ نفسك، بل اشتغل بنقد نفسك أولاً، لأنك مكلف بها أولاً، ثم اشتغل في إِصلاح الآخرين. 6- لا تقبل من نفسك ما تذم به الآخرين؛ فإنه عيب شنيع عند الله تعالى وعند الناس. 7- لا يكنْ همّك الاشتغالَ بإِصلاح أعمالك الظاهرة فقط، بل اعتن أيضاً بإصلاح نفسك ودوافِعها في القيام بالأعمال الصالحة. 8- لا تغتر -وأنت تعمل لله- بما تلقاه في الطريق من مدح الناس؛ فما أكثر من خُدِعَ بذلك، وما أكثر من شغلته الوسيلة عن الغاية أو صرفته عنها. 9- لا تغتر ببعض الطرق الخادعة التي يُظن أنها سبيلٌ لتهذيب النفس وإصلاحها، ولكن انظر إلى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه من العلماء المحققين، وقد قال محمد بن سلام البيكندي: "كل طريق لم يمش فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي ظلام وسالكها لا يأمن العطب". 10- تذكّرْ أنّ عليك واجباتٍ؛ كما أن لك حقوقاً، ولْيكن همّك البحثَ عمّا عليك من واجبات وأداءَها؛ فذلك شرط لتحصيل حقوقك. 11- إذا أَساءَ إليك أحدٌ، فلا تتخذ ذلك سبباً للإساءة إليه، وإذا أخطأ أحد في حقّك فلا يكن ذلك سبباً في أن تخطئ في حقّه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 12- لا تُضَحِّ بأَدبِك في سبيل تأديب ولدِك، أو لا تُفْسِد أدبَك في سبيل تأديب ولدك. وذلك يحصل غالباً بسبب الإخلاص وشدة الحماسة للإصلاح؛ ومن مظاهر هذا التصرف ربما تنحصر في أمرين: إما باستخدام وسيلة أو أسلوب في التأديب غير مشروعة، وإما بمجاوزة الحدّ في استخدام المشروع سواء في المقدار أو في وضْع المشروع من ذلك في غير موضعه!. 13- ينبغي أَن تَعْلَم أَن أَقلَّ ما عليك أن تُعَامِل الناس به، العدلُ والإنصافُ من نفسك. وإذا احتاج الناس إلى قاضٍ يأخذ لهم الحق منك؛ فأنت رجل سوء. 14- إذا أردتَ الاجتهاد في تحصيل الأخلاق الحميدة؛ فعليك أن تَعْلم فضلها وفوائدها في الدنيا والآخرة؛ لتعرف أَيَّ شيءٍ تطلب. 15- تكاد نفسُك تكون كالمرآة، يَظهر فيها أخلاقُ مَنْ تُصَاحِبُ وأَفكارُ ما تقرأُ؛ فاختر الطيبَ من ذلك دائماً. 16- بإمكانك التعرفُ على حقيقةِ أخلاقِك بالنظر إليها في الحالات الآتية: - إذا خلوتَ. - وإذا غضبتَ. - وإذا احتجتَ. - وإذا استغنيتَ. - وإذا قَدِرتَ. 17- اعلمْ أن عليك أخلاقاً ينبغي أن تلتزم بها مع أعدائك، كما أن عليك أخلاقاً تلزمها تجاه أصدقائك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 18- يجب أن تفعل الخير وتلتزم الأخلاق الفاضلة مع الناس، دون أن تشترط لنفسك شروطاً. 19- لا تكتفِ بظنِّ صواب ما تَطْلُبه أو تفعله أو تؤمنُ به، إذا كان اليقينُ فيه مُمْكِناً، ولا تدفعِ اليقين بالظن بل العكس، واستعملْ هذا المنهجَ دائماً فيما تَمِيلُ إِليه نفسُك. 20- إِذا ساءك تصرف أخيك تجاهك، فلا تُسَلِّمْ لِمَا يَهْجمُ على قَلْبك مباشرة من تخطئتِه ونقدِه والغضبِ منه، بل اتهمْ نفسك أولاً، وحاكمْها؛ فَلَعلَّك المخطئ، فإِن لم يظهرْ لك خطؤك، فالْتمس لأخيك عذراً، لعل له عذراً وأنت تلوم. 21- لا تلتمس لنفسك الأعذارَ في الأَخطاءِ الصغيرة؛ فإِنها طريقٌ لما هو أكبر منها. 22- لا تنظرْ لخطئك الصغير من حيث صغرُهُ، ولكن انسبه إلى دوافعه، تَظهرْ لك دلالته وحقيقته. 23- لا يغررْك حسنُ أخلاقِك في الرخاء، حتى تُجرِّب نفسَك في أوقات الشدة والغضب وسائر الحالات التي تشتدُّ فيها الحاجةُ إلى الأخلاقِ الفاضلةِ، فإِن لم يَطَّرِدْ حسنُ أخلاقِك في تلك الأحوال فاعلمْ أنه ليس لك كبيرُ فَضْلٍ في وقتِ الرَّخاء. 24- إِذا اشتدت الحاجة إلى خُلقِك الحميد في بعض الأحوال فلم يُوجدْ؛ فلسْتَ على كبيرِ شيء من الأخلاقِ الفاضلةِ. 25- يَزْهدُ بعض الناس في الْتِزَام حسنِ الخلق والأدبِ مع أَخيهِ، بحجَّةِ أَنه أَخوهُ، ولَيْتَ شعْري مع مَنْ يَلْزمُهُ حسنُ الخلق إِذَنْ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 26- لا تتخذْ لك أخاً بشرط أَن لا يخطئَ، وإِذا أخطأَ أخوك مرَّةً، فأَنهَيْتَ ما بَيْنَكَ وبَيْنَهُ؛ فكأَنَّ شرطَك في أُخوّتِهِ أَنْ لا يخطئَ؛ فَلَنْ تجدَ لك أخاً إِذَنْ؛ وأَنتَ أَيضاً لا تصلُحُ للأُخوَّةِ بهذا الشرطِ؛ لأنك لَسْتَ معصوماً، كما أَنَّ غيرك ليس بمعصومٍ. 27- تربية ليس فيها العصا عند الحاجة إليها، تربيةٌ ناقصة. وتربية ليس فيها الإقناع عند الحاجة إليه، تربية ناقصة. 28- تذكر وأنت تحمل العصا لتؤدب أولادك، أنك مؤدِّب ولست معذِّباً، ثم تذكر مسؤوليتك في نفسك تجاه الأخلاق التي حملت العصا لتُقيم غيرك عليها. 29- ينبغي -في سبيل تحصيل الأخلاق الإسلامية- أن تفكر أولاً في فضلها. فإن لم يدفعك ذلك للتحلّي بها؛ فتذكر عاقبتها في الدنيا والآخرة. فإن لم يدفعك هذا للتحلّي بها؛ فتذكر شؤم تركها في الدنيا والآخرة. فإن لم يدفعك هذا للتحلّي بها؛ فتذكر أنه لا خير في ذميم الأخلاق لا في الدنيا ولا في الآخرة. فإن لم ينفعك ذلك؛ فاعلم أنه لا طِبّ فيك إلا بمراجعة فطرتك وإيمانك بالله ورجوعك إليه. 30- كثير من الأخلاق الفاضلة النفس الإنسانية مفطورةٌ عليها وعلى حبها، فيمكن أن يتحلّى بها الإنسان إذا كانت فطرته سليمة لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 تتأثر بأسباب الانحراف عن ذلك. والإيمان بالله يؤيد هذه الفطرة. فإن انحرفت الفطرة فالإيمان بالله يقوّمها. فإن عُدم الإيمان بالله مع الفطرة فلا طب، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. 31- كثير من السلوك الأخلاقية الفاضلة يؤيد فضلَها أكثرُ من أصل من أصول الأخلاق الفاضلة. وهكذا ترى أنّك مطالَب بفعل كثير من السلوك الأخلاقي الحميد، وذلك بمقتضى أكثرِ من أصلٍ من أصول الأخلاق الفاضلة. 32- الأخلاق الإسلامية فضائل أخلاقية كريمة، يعود نفعها - في الدنيا والآخرة - على المتحلي بها، وعلى من يتعامل معه لكن المهم تحقيق نية العبادة في فعلها. 33- الأخلاق الإسلامية جملةٌ من الفضائل التي ينبغي أن يتحلّى بها الإنسان السوي في ظاهره -سلوكاً - وفي باطنه- إيماناً واعتقاداً، وشعوراً-. وهي تختلف في درجات الطلب: فمنها ما هو من أُسس الإيمان بالله ولوازمه. ومنها ما هو من الواجبات. ومنها ما هو من المَسْنونات والمُسْتحبّات. 34- من العجيب أن يفخر الإنسان بما لا فخر فيه في الواقع وعند العقلاء!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 35- حين يَفْقد الإنسان الميزان الصحيح لتقويم الأشياء والحقائق فإنه يفخر بما لا فخر فيه -على مختلف مراحل عمره- حتى يكون آخر ما يفخر به في حال عجزه وكِبَرِه عصاه التي يتوكأ عليها!! إنه خطأ مؤسف حقاً!.. يدعو للتأمل والعجب والعبرة. والعاقل من اعتبر بغيره. 36- من أشد الأخطاء خطراً خطأ المخلصين إذا نسبوه للدين، أو ارتكبوه على أنه من الدين، لأن صاحب الخطأ في هذه الحال يؤيد خطأه -جهلاً- بالدين أو بالكتاب والسنة. ولو أنه أخطأ فقط ولم يَدَّع أن فعله من الإسلام، أو لم يَحْمله الآخرون على أنه كذلك، لكان أخفَّ بكثير. 37- من الاستعداد لما يُنْتظر أو يتوقع في الغيب، بعد التوكل على الله، وأَخْذِ الأسباب المشروعة، توطينُ النفس على أسوأ الاحتمالات.. فإنّ ذلك مفيد جداً، لما فيه من التمهيد لقبول النفس لأقدار الله تعالى المؤلمة وتحمّلها. ومن لا يوطن نفسه على ذلك فإنه لا يُقَدِّرُ -بعد الأخذ بالأسباب- إلا النجاح، وإلا الفوز وإلا السلامة، وإلا الظفر بما سعى له.. فإذا قدَّر الله عليه غير ما سعى له أو ظن أنه الخير فإنه ينتكس.. وتَمْرَضُ نفسه ... ولا يُسلِّم لقَدَرِ الله فتكون خسارته محققةً مؤلمة!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 38- ينبغي أن تتعلم الأخلاق الفاضلة وذلك بدراستها نظرياً من مصدرها الصحيح، والتعوّد عليها عملياً بتطبيقها ومحاسبة النفس عليها دائماً، ومصاحَبَةِ أَهلها. 39- ولْتَعْلم أن الدراسة لها نظرياً وحدها لا تكفي، والتطبيق لها مرة واحدة أو مرتين أو وقتاً قصيراً في حياتك، لا يكفي أيضاً، بل لا بد من التطبيق المستمر والملازمة لها دائماً لتكون حقيقاً بوصفك بالأخلاق الفاضلة. 40- ينبغي أن تعلم أن أَوْلى من يجب أن تتأدّب معه ربُّك الذي خلقك فأحسن خلقك وهداك ورزقك، وهو العليم بسرك وجهرك، وهو القادر على أخذك أو عقابك على سيئاتك إذا شاء!! فإنك إذا نظرت فعرفت أنه ربك ورب العالمين، وعرفت أنه هو وحده المحسن الحقيقي إليك، الذي يغمرك بإحسانه في كل لحظة، وعرفت أنه هو وحده المطلع على سرك وجهرك، وعرفت أنه هو وحدَه القادرُ عليك، علمتَ أنه هو المستحق أن تتأدب معه في سائر أحوالك، وأيقنت سوء أدبك معه عندما تتأدب فقط مع خلقه وتعكس الأمر في حقه!! وحقُّ الخالق أوجبُ من حق المخلوق. 41- الكرم والصبر والحلم والرحمة، ونحوها من الأخلاق، لا تأتي دفعة واحدة، كما أنها لا تُدرك بسهولة، ولا تدرك في وقت قصير، بل تحتاج إلى وقت طويل، وإلى تدرج، ومِران وصبر وتضحية، ولكنها أخلاق ضرورية نفيسة، فتستحق أن يبذل فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الثمن، والله المستعان. 42- قد يتعلم العاقل في مدرسة الحياة بعض ما يبعث الله به الرسل إلى الناس، ويدعونهم إليه، ويقنعونهم به! 43- كن مع الناس كالنحل، الذي يقع على أحسن الزهور وأطهر الزروع؛ فيجتني منها ما يفيده، وما يخدم به الناس، ودع مساوءَهم وأخطاءهم، ولا تكن كالذباب، الذي يقع على أقذر الأشياء وينشرها في الناس ويؤذي بها الأحياء. 44- صِنْفٌ من الناس يصوِّب نظره إلى عنصر الخير في الناس ويتعامل معهم على أساسه، وينشره فيهم، فهو كالنحل الذي لا يقع إلا على الزهور والرياحين الزاكية النظيفة؛ فيجتني منها ما ينفعه وينفع الآخرين. 45- وصِنْفٌ آخر يصوِّب نظره إلى عنصر الشر في الناس وإلى الرذائل فيهم، ويتعامل معهم على أساسه، وينشره فيهم فيؤذي نفسه ويؤذي الآخرين، فهو كالذباب، الذي لا يقع إلا على أقذر الأشياء، وينشرها في الناس، ويؤذي بها الأحياء. فكن كالأول، تَسْعَدْ وتُسْعِدْ، ولا تكن كالثاني، تَشْقَ وتُشْقِ. 46- يظن الحسود والنمام والمغتاب والفاحش البذيء، يظن هؤلاء جميعاً أنهم ينتقمون من الآخرين وينسون أنهم إنما يُلْحِقون الضرر بأنفسهم في الدنيا قبل الآخرة وفي العاجل قبل الآجل؛ إذ يعود عليهم ذلك الصنيع بأمراض النفس والبدن، وعذاب الدنيا وعذاب الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 47- عاملِ الناس جميعاً معاملة أصدقائك، أو من تعرفه ويعرفك، فإني رأيت الناس يحترمون من يعرفونه ويخجلون منه، وربما لا يخجلون من الغريب والمجهول. 48- الرئاسة لا يتكمّل بها إلاّ ناقص ولا تزيده إلا نقصاً. 49- إذا أنت فكّرت في حال كثير ممن يَتعدى عليك بسوء أخلاقه، مَنَعَكَ من معاقبته الحالُ الأخلاقية التي هو فيها، ولم تطمع في معاقبته بأزيد من ذلك. وشاهدت فيه نعم الله عليك. 50- بالخلق الحسن ينتشر الخلق الحسن في الناس، وبالخلق السيئ ينتشر الخلق السيئ. 51- حسن الخلق غاية مقصودة لذاتها، وهو -في الوقت نفسه- وسيلة تربوية ناجحة؛ لأن الخلق الفاضل يكون سبباً لمثله عندما يَتعامل به الإنسان مع الناس، كما أن الخلق السيئ سبب لمثله عندما يَتعامل به المرء مع الناس. 52- يظن بعضهم أن حسن الخلق يتأتى في الناس من طرف واحد، ويمكن أن يُعفَى منه الطرف الآخر، وهيهات!! فإن الحياة لا تستقيم بتأدب بعض الناس في مقابل سوء أدب من يَتعامل معهم، وإن حسن الخلق في هذه الحال لا يدوم، بل عندئذ لا بد أن يَغْلِبَ الأقوى، إما الأخلاق الحميدة أو الأخلاق السيئة. ومن هنا تظهر أهمية المسؤولية على كل واحد من الناس قبل أن يعدها حقاً له يبحث عنه في الآخرين!! 53- كم ودِدْتُ لو أقيمت نوادٍ، وندوات، لكمال العقول؛ إذ ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 أولى مما يقيمه الناس من نواد لكمال الأجسام. 1- كم هو جميل لو اهتمت المدارس والمؤسسات التعليمية بمختلف مراحلها - بما في ذلك الجامعات- بتربية العقول باستحداث مواد دراسية، وأساليب متنوعة خاصة بهذا الهدف. مثل مادة للحوار والمناظرة، يُعنى فيها بالجانب التطبيقي، أكثر مما يعنى بالجانب النظري، كأن تقام مناظرة دورية بين الطلاب، ويكون فيها تحكيم وجوائز وتشجيع!! 2- اجتهدْ ألا تكون طفلاً؛ فقد رأيت أطفالاً كباراً يَبْلغ عمرُ بعضهم خمسين عاماً!!. 3- إذا ذهب حظ النفس الدنيوي في العمل جاء الإخلاص، وإذا انضمّ إليه الصواب كَمُل النصاب. 4- مَنْ حاسب نفسه، وحَكّم عقله تحرّز لسانه عن الكلام. 5- ينبغي أن يفكر المقصر في تقصيره، وأن يفكر العامل في مُحْبطات عمله. 6- أنت أعرف بنفسك؛ فلا تغتر بمدح الناس إذا مدحوك. 7- أقصرُ الطرق لقضاء الحاجات، التوجه إلى الله تعالى. 8- اتهمْ نفسك دائماً؛ فما أُتي كثير من الناس إلا من إحسانهم الظن بأنفسهم. 9- إذا تعلَّقَتْ نفسك بشيء لِحظِّها، ولم تستطع تحويل نِيَّتها لله، فامنعها منه فلا دواء إلا ذلك. فإن استوى عندك -من أجل الله -تحصيله وتركه فقد انتصرت على هواك. 10- الفارق بين الإنسان والحيوان، العلم إذا لازمه الإيمان والتطبيق. 11- يبدو أن التعصب في نظر المتعصبين هو عدم التعصب؛ لأنه يتهمك بالتعصب إذا لم تتعصب معه!. 12- ينبغي أن تَذْكر دائماً أنك لست أفضل كل الناس، ولست خير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 كل الناس، ولست أعلم كل الناس، ولست أعقل كل الناس. وهذا الشعور مهم للتحلي بعددٍ من مكارم الأخلاق والبعد عن عددٍ من مساوئ الأخلاق. وكم انحرف الإنسان بسبب توهمه أنه أفضل الناس وأصلح الناس وأعلم الناس وأعقلهم!. 66- اُعذرِ الناس فيما فيه مجال للعذر، وعوّدْ نفسك هذا الخلق، فإنه من أهم معاني كرم النفس، ومن أهم معاني سماحة النفس، وإياك أن تعوّد نفسك التشنج والغضب والحساسية المفرطة من كل خطأ يقترفه الآخرون، ولا سيما في مجال حقوقك الشخصية، بل حاول دائماً إلى جانب الإحساس بالخطأ، أن تتفهم مواقف المخطئين وأعذارهم التي قد تكون معتبرة عقلاً وشرعاً. 67- إذا أردت اكتساب الأخلاق الفاضلة والابتعاد عن الأخلاق السيئة فعليك باستعراض ما في القرآن الكريم؛ فما وجدتَ فيه من أوامر وتوجيهات إلهية فخذ به، وما وجدت فيه من نواهٍ فابتعد عنه. وافعل مثل هذا بالنسبة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن فَعَل ذلك والتزم به في حياته فقد اكتسب الأخلاق الفاضلة، وابتعد عن مساوئ الأخلاق، وكان على هدى ونورٍ وبيّنة لا ريب معها أنه على الصراط المستقيم. والخلاصة: تخلقْ بأخلاق القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة تكن أحسن الناس خلقاً. 68- يقول الإمام ابن حزم - رحمه الله تعالى-: "من جَهِلَ معرفة الفضائل، فليعتمد على ما أمره الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يحتوي على جميع الفضائل 1. 69- الخاطرة والفكرة بداية التوجه والسلوك: لا تستهن بالخاطرة والفكرة والأمنية، بل حاسب نفسك عليها، ناظراً في نوعها هل هي خاطرة حسنة أو سيئة؟ هل هي فكرة أو أمنية حسنة أو سيئة؟. فإن كانت حسنة نَمَّيتَها وإن كانت سيئة قضيتَ عليها بما يضادها. وإلا فإن معظم النار من مستصغر الشرر، وبداية الشر -في الغالب- خاطرة أو فكرة عنّت لصاحبها، كما أن الخير كذلك!!. وتستطيع أن تتعرف على توجهات نفسك هل هي إلى الخير أم إلى الشر، بالتعرف على خواطرها وأفكارها وأمانيها .... ? ولا تَرْضَ من نفسك إلا بأن يكون همّها وتوجُّهها في الظاهر والباطن نحو الخير. 70- لنا في قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم غنى عن أقوالنا، ولكنها الخواطر.? وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربّ العالمين.   1 الأخلاق والسير في مداواة النفوس، لابن حزم: 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الفصل الرابع: تقسيم الأخلاق توطئة ... توطئة: إذا كانت قضية تقسيم الأخلاق المفروضة على الإنسان تتعلق بعدّة اعتبارات: فهي باعتبارٍ تنقسم إلى أصول وفروع، وباعتبارٍ لها تقسيمٌ آخَر بحسب النظر إلى مَن يَتعامل معه الإنسان، وتقسيمٌ آخر كذلك بالنظر إلى موقع الإنسان في مجتمعه ونوع علاقته التي تربطه به.. إلى آخر ما هنالك من التقسيمات. إذا كان الأمر كذلك فإن معرفة هذه التقسيمات لها أهميتها؛ لأن ذلك يوقِف على أهمية الخلق المتعين عليه، ويوقفه على معرفة مَن يتعلق به هذا الخلق، والمنتَظر من العاقل إذا عَرَف درجة أهمية الشيء هو أن يُقدّره حق قَدره، وإذا عَرَف صاحب الحق أعطاه إياه. ولهذا سأعرض فيما يلي لبيانٍ مختصرٍ لبعض تقسيمات الأخلاق التي يتضح بها بعض هذه الجوانب ذات الأهمية للوصول إلى التحلي بمكارم الأخلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 المبحث الأول: تقسيم الأخلاق إلى أصول وفروع . أصول الأخلاق وفروعها: الأخلاق ليست كلها فروعاً، وليست كلها أصولاً، وإنما منها ما هو أصول، ومنها ما هو فروع، وفيما يلي التعرف على كلٍ من القسمين: للأخلاق الحميدة أصول، وللأخلاق الذميمة أصول، والفروع تبعٌ للأصول؛ فمن حصّل أصول الأخلاق الحميدة سَهُلَ عليه التحلي بفروعها. ويختلف الناس في تحديد أصول الأخلاق، وهو خلافٌ ربما لا يعدو أن يكون من قبيل اختلاف التعبير عن الشيء الواحد المتفَقِ عليه. ولعلّ من المناسب أن أذكر أصول الأخلاق على الرأي الذي يوصلها إلى تسعة أصول للأخلاق الحميدة1، وضدُّ كل واحدٍ منها يُعَدّ أصلاً من   1 ذكر عبد الرحمن حبنكة أنه توصل إلى هذا بالاستقراء، وقد فصّلها وشرحها شرحاً وافياً مركِّزاً على ظواهر هذه الأصول وفروعها، في: 1/471 - 764 و 2/1 - 586. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أصول الأخلاق السيئة، وذلك على الوجه الآتي: أصول الأخلاق الحميدة ... أصول الأخلاق الذميمة 1- حبُّ الحق وإيثاره ... ضدّ هذا الخلق 2- الرحمة وفروعها وإيثارها ... ضدّ هذا الخلق 3- قوة الإرادة ... ضدّ هذا الخلق 4- الدافع الجماعيّ ... ضدّ هذا الخلق 5- المحبة للآخرين ... ضدّ هذا الخلق 6- الصبر وفروعه وظواهره ... ضدّ هذا الخلق 7- حب العطاء وفروعه وظواهره ... ضدّ هذا الخلق 8- سماحة النفس ... ضدّ هذا الخلق 9- علوّ الهمة ... ضدّ هذا الخلق وبمعرفة الإنسان لهذه الأصول وفروعها يستطيع أن يُراقب نفسه فيها ومدى التزامه بها، وإنه لمن المفيد جدّاً أن يجتهد في تتبع معنى كل أصلٍ منها وتطبيقاته وفروعه وظواهره السلوكية، وملاحظته لنفسه في كل ذلك، حتى يكتسب هذا الأصل ثم ذاك ثم الآخَر، وهكذا حتى يستكمل مكارم الأخلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 نبذة عن أصل من أصول الأخلاق الحميدة: حب الحق وإيثاره أصلٌ من أصول الأخلاق الحميدة. وفيما يلي حديثٌ موجز عنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 مظاهره وفروعه: تتعدد مظاهره وفروعه بصورة يصعب حصرها، ومنها على سبيل المثال: - الاعتراف بالحق والإذعان له. - الصدق. - الأمانة. - الصدق في العهد والوعد. - العدل. - الرجوع إلى الحق في المواطِن المتعددة المتجددة، ولا سيما مواطن الخلاف والشجار وغيرها، وكلما قويت الصوارف عن اتّباع الحق ورجع الإنسان إليه كان ذلك أدلّ على شدة حبه للحق وتعلقه به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 من معاني الاعتراف بالحق والإذعان له: إن من مفردات خُلق الاعتراف بالحق والإذعان له، الاعتراف بالفضل لذوي الفضل أياً كانوا. وإن إنكار فضل ذي الفضل، كإنكار عِلْمِ ذي علم، وإنكار حق ذي الحق، يدل على صفة أخلاقية ذميمة في الإنسان. "وأكثر خسةً وأعظم لؤماً وانحرافاً خلقياً من يجحد فضل أبويه عليه، ولا يذعن له، ولا يقوم بما عليه من حق لهما. وأقبح من ذلك من يجحد رسالة رسل الله، ولا يعترف بها، ولا يذعن لها، مع ظهور الأدلة ووضوح البراهين!! ولهذا الجنوح الخلقيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الشنيع سمة خاصة عنوانها الكفر. وأخس من ذلك وأشنع وأقبح إنكار وجود الله، وعدم الاعتراف بأنه الخالق الرازق المحيي المميت، الذي يجازي على الخير خيراً وعلى الشر شراً، مع أن الله تبارك وتعالى قد بث أدلة وجوده وصفاته في كل ما خلق من شيء!!. إن إنكار وجود الله وإنكار صفاته (وأسمائه) وعظيم نعمه لؤم وخسة وحقارة بالغة، وسوء خلقيّ قد بلغ الدرك الأسفل؛ لأنه جحود لكبرى حقائق الوجود، وجحود لنعم المنعم بالحياة والعقل والإرادة وسائر ما في الحياة من نعم وخيرات، وجحود للمنعم بالجزاء العظيم على الإيمان به والتزام طاعته. إن هذا الجحود يدل على انهيار خلقيّ شنيع" 1. وإن حب الحق وإيثاره يتوافر في الناس بدرجات متفاوتة، كما أن عدم توافره في الناس درجات متفاوتة. وإن الحق الذي يجب حبه وإيثاره والاعتراف به درجات، وأعلى درجاته شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم من بعدها لوازم هذه الشهادة، بمختلف درجات تلك اللوازم في باب الحق. ثم يلي ذلك في الرتبة -تعبيراً عن هذا الأصل من أصول الأخلاق- بقية فروع هذا الأصل ومظاهره المتفاوتة الدرجات. إن الإحسان إلى من يستحق الإحسان.   1 حبنكة: 1/ 478 - 479. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ورحمة من يستحق الرحمة. ومواساة من يحتاج المواساة. وإعطاء كل ذي حق حقه. كل ذلك إنما هو من فروع التخلق بهذا الأصل من أصول الأخلاق ومظهر من مظاهره. وإن إنكار شيء من ذلك مظهر من مظاهر أصل من أصول الأخلاق الذميمة هو بغضُ الحق وإنكاره وعدم إيثاره، وفرع من فروعه. ويندرج في هذا: الكفر بالله، وعقوق الوالدين، والكذب والخيانة، والظلم، وعدم الرحمة، والنفاق، وعدم إعطاء الحقوق بأي صورة من الصور.. إلى آخر المظاهر السلوكية الأُخرى لهذه الأخلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 المبحث الثاني: تقسيم الأخلاق بحسب متعلَّقها، وأهمية كل قسم منها توطئة ... - توطئة: تنقسم أخلاق الإنسان كلها بحسب مُتعلَّقها إلى: - أخلاق مع الله تعالى. - أخلاق مع الناس. - أخلاق مع النفس. - أخلاق مع سائر مخلوقات الله الأخرى. وإذا استعمَل الإنسان الأدب والمعاملة الحميدة المتعيّنة عليه تُجاه ربه الخالق سبحانه، وتُجاه الناس، وتُجاه نفسه، وتُجاه سائر مخلوقات الله تعالى؛ فإنه يَصير بذلك صاحِبَ أخلاقٍ حميدة؛ فإذَنْ ليس بين الإنسان وبين مكارم الأخلاق إلا التعرّف على ما يَلزمه مِن معاملةٍ مع الله، ومع الناس، ومع نفسه، ومع المخلوقات الأخرى، ثم الالتزام والتطبيق. وفيما يلي إشارةٌ موجزةٌ إلى أصول المعاملة في هذه المجالات كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 خُلُق التعامل مع الله تعالى: إنّ حق الله تعالى على الإنسان هو أعظم الحقوق على الإطلاق، والأدب مع الله هو أوجبُ الواجبات؛ إذْ هو الخالق، وحده لا شريك له، وما عداه مخلوق؛ فلا يستوي حقُّ المخلوق مع حق الخالق بحالٍ، ولا يستوي تأدُّبُ الإنسان مع الخالق ومع أيّ مخلوق! وكما أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، فكذلك يجب أن يوحِّدَه عبادُه بالعبادة والشكر والأدب وِفَاقَ ما يقتضيه هذا المعنى!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أصول المعاملة مع الله: لعل أصول المعاملة مع الله تتلخص فيما يلي: - الإيمان به إيماناً جازماً. - توحيده في أسمائه، وفي صفاته، وتوحيده بالعبادة. - لزوم طاعته واجتناب معصيته، والحرص على أن لا يفقده ربه حيث أمره، وأن لا يراه حيث نهاه. سواءٌ ذلك في الغيب والشهادة، وفي السر والعَلَن، وفي العسر واليسر. - تعظيم شعائر الله وحرماته، والخضوع لشرْعه. - احترام كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والتأدب معهما، والتسليم لهما، ولكن، على معاني نصوصهما، من غير غلوّ ولا تفريط في الفهم والتطبيق. - العناية بدينه فهماً، وإيماناً، والتزاماً. - إجلاله سبحانه، وتنزيهه عن كل نقْص، ووصْفه بما وَصَف به نفسه، وفْق ما جاء به كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم واعتقاد ذلك اعتقاداً جازماً. - الرضا عن الله، والرضا بقَدَره. - محبته أعظمَ من كل ما سواه، وتعظيمه أكثر مما سِواه. - دوام ذِكْره وشُكْره. - إحسان عبادته. - الإحسان إلى عباده، وعدم ظلْمهم والتعدي عليهم. - إحسان الظن به سبحانه بما هو أهلُهُ عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 خُلق التعامل مع الناس: إنّ خُلُق الإنسان في التعامل مع الناس يأتي تبعاً لخُلقه في تعامله مع الله؛ فإن المتأدبَ مع ربه لا يَسَعُهُ إلا التأدب مع خَلْقه؛ ولا يَسَعُهُ إلا اتّباعُ شَرْعِهِ وما أوجبه على عباده في معاملة بعضهم لبعض. ولعل مِن المهم أن نتبينَ أنّ الأخلاق الحميدة الواجبة في معاملة الإنسان لأخيه الإنسان إنما يوجبها عليه ثلاثة أمورٍ هي: الأول: حَقُّ الله وشَرْعه. الثاني: حَقُّ أخيه الإنسان عليه -على اختلاف درجات هذه الحقوق-. الثالث: مصلحة الإنسان ذاته في الدنيا وفي الآخرة، وما تقضي به مِن الإحسان إلى الناس والبعد عن إيذائهم. أصول المعاملة مع الناس: لعل أصول معاملة الإنسان للناس تتلخص فيما يلي: - أنْ تكون علاقته بهم قائمة على أساس علاقته مع الله؛ فتكون علاقته بهم لله سبحانه. - أن تكون علاقته بهم محكومةً بشرْع الله وما أوجبه على عباده بشأن العلاقة فيما بينهم. وعندما تصبح العلائق بين الناس لله ومحكومةً بشرْع الله، فإنها تصبح خيراً وبركةً عليهم في الدنيا وفي الآخرة. وعندئذٍ تَظْهَرُ مكارم الأخلاق فيما بين الناس، وتَخْتَفي مساوئ الأخلاق لا محالة، فعلى سبيل المثال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 - يَسُودُ الحُبُّ فيما بينهم وتختفي الكراهية والحِقد. - ويَسُودُ الاحترام المتبادَل ويختفي الازدراء المتبادَل. - ويَسُودُ الوئام ويختفي الشِّجار. - ويَسُودُ التعاون والتكافل، وتختفي الأنانيّة والتقاتل. - ويَسُودُ الإنصاف مِن النفس واتّهامها، ويختفي تَبْرئةُ النفس واتّهام الآخرين. - ويَسُودُ الخير، ويختفي الشر. - ويَسُودُ العمل، ويَخْتفي الجَدَل. - ويَسُودُ خُلُق الإحسان، ويختفي خُلُق الإساءة. - ويَسُودُ خُلُق الإيثار، ويختفي خُلُق الأثرة. - ويَسُودُ الصدق، ويختفي الكذب. - ويَسُودُ العدل، ويختفي الظلم. - ويَسُودُ خُلُق تَرْك المال الحرام، وتختفي أساليب جَمْع المال مِن أَوجُهِ الحرام. - ويَسُودُ خُلُق إعطاء الحقوق، ويختفي العقوق ومنْع الحقوق. - ويَسُودُ المعروف، وتَخْتفي المنكرات. - ويَسُودُ خُلُق التطلُّع إلى الدار الآخرة، ويختفي خُلُق الشحّ والحرص على الدنيا الفانية. وعندئذٍ يَسْعد الناس في دنياهم وفي أخراهم، ويكونون بَرَكةً في حياتهم وبعد مماتهم!. وعندئذٍ تتبارك الأعمار والجهود، ويُوفَّر الوقتُ والمجهود، وتَقِلُّ الحاجة إلى الخصومة واللجاجة، وتَقِلُّ الحاجة إلى القضاة ورجال الشُّرطة!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 خُلُق التعامل مع النفس: يأتي خُلُق التعامل مع النفس تبعاً لحال التعامل مع الله تعالى؛ فمن كان لله أقرب كان مِن ظُلْم نفسه أبعدَ، ومَن كان متأدباً مع الله تعالى كان لنفسه مؤدِّباً. أصول معاملة الإنسان لنفسه: لعل أصول معاملة الإنسان لنفسه تتلخص فيما يلي: - أن تكون معاملةً لله. - أن تكون موافِقةً لشرع الله. وعندئذٍ تُصبح أخلاقه مع نفسه قائمةً على الآتي: - تعبيد نفسه لله، وإقامتها على شرْعه. - إلزامها بإخلاص العمل لله تعالى على كل حالٍ. - إلزامها بالرضا عن الله، والرضا بقَدَرِ الله. - إلزامها بالأدب مع الله سبحانه، على الوجه الذي مضى بيانه في هذا المبحث1. - إلزامها بالخُلٌق الحسن والأدب مع الناس وسائر مخلوقات الله عز وجلّ، على الوجه الذي مضى بيانه في هذا المبحث2. - البعد عن ظُلْم نفسه بشيءٍ مِن أنواع الظلم، سواءٌ كان ذلك بإتْباعها هواها على خلاف الشرع وحدودِ الاستقامة، أو بمَنْعها مِن   1 في خُلُق التعامل مع الله. 2 في خُلُق التعامل مع الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 حظوظها الدنيوية المأذون فيها شرعاً أو الواجبة شرعاً، أو مَنْعها مِن الأخْذِ بالفُسْحة التي في ديننا. - أن لا يبيعها بثمَنٍ أقَلّ منها؛ فإنها غاليةٌ؛ فلا ينبغي بيعها بثَمَنٍ أقَلّ مِن الجَنّة -على حَدّ قول ابن حزم، رحمه الله-. وعندئذٍ تُصْبِح هذه النفس مؤمِنةً، صالحةً، عابدةً لله خاضعةً مستسلِمةً، خَيّرةً؛ فالخيرُ خُلُقٌ وسجيّةٌ لها، لا يَصْدُرُ عنها الشرُّ إلا غلطاً أو سهواً، أو هفْوةً أو زلةً لا تستقِرُّ عليها. وهذه النفس الطيبة هي التي جَعَل الله الجنة لها، فالجنة طيّبةٌ لا يَدخلها إلا طيّبٌ، كما أخبَرَنا النبيّ صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 خُلُق التعامل مع مخلوقات الله الأخرى: يأتي خُلُق التعامل مع مخلوقات الله الأخرى تبعاً لحال التعامل مع الله تعالى؛ فمن كان لله أقرب كان مِن ظُلْم هذه المخلوقات أبعدَ، ومَن كان متأدباً مع الله تعالى كان لنفسه مؤدِّباً تجاه مخلوقات الله. وما مِن شكٍ أن الشأن فيمن تأدبَ مع الله ومع الناس، ومع نفسه، أن يكون كذلك على خُلُق الاستقامة نحو بقية مخلوقات الله الأخرى. أصول التعامل مع مخلوقات الله الأخرى: لعل أصول التعامل مع مخلوقات الله الأخرى -وهي ما سِوى الإنسان- تتلخّص فيما يلي: - الالتزام نحوها بما شَرَعه الله له، مِن الأدب تجاهها، وعدِم ظلمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 - استثمارها والانتفاع بها وَفْق ما أباحه الله له وشَرَعَهُ، والبعد عن التعدي في ذلك أو التقصير فيه. - التعرف على ما شرعه الله له في التعامل معها بحسب ما تدعو إليه حاجة التعامل نحوها. - استشعاره كونها مخلوقةً لله تعالى، وقد تكون مؤمنةً به سبحانه. كما هو الشأن بالنسبة للملائكة، وبعض الجن، والبهائم. بل قد أَخبر الله أن كل شيء يُسَبِّح بحمده، فقال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِنْ مِن شَيْءٍ إِلا يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} 1. وهذا يَعْقِدُ نوع أُخوّة في الله بينه وبين هذه المخلوقات يجعله يستشعر حُرمتها مِن أجْله!. - والقاعدة العامّة هي أنّ جُلَّ هذه المخلوقات قد خَلقها الله للإنسان، وسَخّرها له: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً..} 2. - والقاعدة أنّ هذا النوع من المخلوقات، التي أباحها الله، قد أباح للإنسان الانتفاع منها وَفْق المشروع، وجَعَل له أن يَدفع عن نفسه ضررها. ومِن ذلك أنّ مِن الواجب على الإنسان أن يكون على الإحسان في كل شيء، حتى في الذبح المشروع لهذه الحيوانات، كما مضى في   1 44: الإسراء: 17. 2 29: البقرة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الحديث: "إنّ الله كَتبَ الإحسان على كل شيء؛ فإذا قَتلتم فأحسِنوا القِتلة، ولْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرَته، ولْيُرِحْ ذبيحته"!. وعندئذٍ يُصْبحُ الإنسان الملتزم بما شرَعَهُ الله تجاه هذه المخلوقات كلها، إنساناً عديم الشر، بحيث لا يَصْدُرُ منه إلا خطأً، ثم يتوب مِن قريب. وعندئذٍ يَكْتمِل للإنسان - بما مضى كله- الخُلُق الحسن والأدب مع الله، ومع الناس، ومع الملائكة، والجن، والبهائم، وسائر المخلوقات، ومع الصديق، ومع العدوّ، وفي حال السلم وحال الحرب! { ... وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 1، {َمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً..} 2!!. نسأله سبحانه أن يوقظنا مِن غفْلتنا، ويؤدبنا بأدبه، ويوفّقنا لطاعته على كل حال3!.   1 50: المائدة: 5. 2 125: النساء: 4. 3 لم يتسع الوقتُ بعد هذا لكتابة مبحث مستقل عن تقسيم الأخلاق بحسب صفة المتحلِّي بها وعلاقته بمن يتعامَلُ معه، على الرغم من أهمية هذا الموضوع، وأهمية بيانه في صورة نقاطٍ تُساعِدُ الإنسان على التزام حُسْن الخُلُق في هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 المبحث الثالث: تقسيمٌ شجريّ للأخلاق بمختلفِ مُتَعَلَّقَاتِهَا تقسيمٌ شجريّ للأخلاق بمختلفِ مُتَعَلَّقَاتِهَا ... المبحث الثالث: تقسيمٌ شجريّ للأخلاق بمختلفِ مُتَعَلَّقَاتِهَا أقسام الأخلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الفصل الخامس: نَظَراتٌ في كلماتٍ عن الأخلاق توطئة ... - توطئة للنفس الإنسانية خواطرُها وخطراتها الطيبة، وخواطرُها وخطراتها السيئة، لا محالة -حاشا الرسل والأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، فقد عصمهم الله- والمتعيِّن على الإنسان أن يحافظ على الخواطر الخَيِّرة ويستكثر منها، ويحققها في حياته ما استطاع ويدعو الآخرين إليها، وأن يَطْرُدَ الخواطر السيئة، ويستغفر منها، وأن لا يتَّبعَها فيَضِلَّ ويُضِل، ويَهْلك ويُهْلك! قال أبو حفص عمر بن سالم الحداد: "من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتّهم خواطره؛ فلا تَعُدُّوه في ديوان الرجال" 1.   1 مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للسيوطي: 263، و"سِيَر أعلام النبلاء"، تهذيبه: نزهة الفضلاء تهذيب سِيَر أعلام النبلاء، لمحمد بن حسن بن عقيل موسى: ص913. هذا على الرُّغم من أنّ الحدّاد هذا كانت له شطحات صوفيّة-على ما في ترجمته في الموضع المشار إليه- سامَحَنا الله وإياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 المبحث الأول: نظرات حول أهمية الأخلاق الحميدة 1- موازَنةٌ بين حرص الناس على أموالهم وحرصهم على دينهم وأخلاقهم. ... 1- موازَنةٌ بين حرص الناس على أموالهم وحرصهم على دينهم وأخلاقهم تأملت حرص الناس على الدنيا، وحرصهم على أموالهم، وحفاظهم عليها، مع غفلة أكثرهم عن أمر دينهم وخُلُقهم؛ فقلت: لو حرص الناس على أخلاقهم مثل حرصهم على أموالهم، ولو حافظ الناس على أخلاقهم مثل حفاظهم على أموالهم لاختفت من المجتمع كثير من الأمراض الأخلاقية، ولصلحت أخلاق الناس، ولتوارثوا الأخلاق الحميدة والأعمال الفاضلة والعلم والدين كما يتوارثون الدنيا الفانية. إلا أنّه لم يُحدَّد فيها أنصبة الورثة ولا المورِّث -كما هو الحال بالنسبة للدنيا- بل لكل إنسان أن يأخذ من الأخلاق الحميدة والعلم والدين بقدر ما يشاء، وعمن يشاء، وذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء!! فأين الوارثون لهذا الإرث العظيم؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 2- بين جمال الملابس وجمال الأخلاق!! إن الله الخالق الحكيم سبحانه قد اقتضت حكمتُهُ أن جَعَلَ للإنسان عورتين أو سوأتين، وسِتْرين، لكل سوأة سِتْرٌ. أما العورتان: فعَوْرةُ الجسم، وعَوْرةُ النفْس. وجعل للأولى سِتراً هو الملابس، وجعل للثانية سِتراً هو الخُلُق والسلوك الجميل. وقد أَمَرَ الله تعالى بالسترين، ولكنه نبّه على الأهم منهما وهو الثاني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 لأن لباس الإنسان لا يغني عن أخلاقه الحميدة، ولهذا قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} 1. إن هذا النص القرآني عجيب في بيان هذا المعنى، وليس المجال هنا متسعاً للحديث عنه بتوسع، فينبغي للإنسان أن يتدبره. لقد امتنّ الله سبحانه علينا باللباسين، وجعلهما من آياته التي يجب أن تُذكّرنا بالله، وأشار كتاب الله إلى أن هناك علاقة بين كشْف السوأة وبين الشيطان وأوليائه الذين يتولّونه ويتبعونه، إن الشيطان يأمر الإنسان بالوقوع في رذيلة كشْف عورة الجسد والوقوع في رذيلة كشْف عورة النفس عن طريق ارتكاب مساوئ الأخلاق!. وقد نبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الستر يكون في الدنيا ويكون في الآخرة، كما في الحديث الذي روته أمُّ سلمة رضي الله عنها، قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: "سبحان الله ما أُنزل الليلة من الفتن، وماذا فُتح من الخزائن. أيقظوا صواحبات الحُجَرِ، فرُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ في الآخرة" 2!!.   1 26-27: الأعراف: 7. 2 أخرجه البخاري: 3- العلم، 4- باب العِلم والعِظَة بالليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 نَعمْ إن الكاسي في الآخرة من اتخذ الكسوة النافعة هناك من هذه الدار الدنيا بالأعمال الصالحة والأخلاق النافعة، وليس هو من اتخذ الملابس الجميلة هنا في الدنيا!. إن هذا الدين يربط بين الدنيا والآخرة. ويربط أيضاً بين الجمال الحسيّ والجمال المعنوي، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} 1. والشاعر يقول: ليس الجَمال بأثواب تزيننا ... بل الجَمَال جَمال العِلْم والأدب وقال الآخر:? وهل ينفع الفتيانَ حُسْنُ وجوههم ... إذا كانت الأخلاق غير حِسَانِ وقال الآخر: جمال الوجه مع قُبْح النفوس ... كقنديل على قبر المجوسي!   1 197: البقرة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 3- لماذا نخطئ؟! قد يعجب الإنسان: لماذا يخطئ الإنسان العاقل؟! إن اللائق بالإنسان العاقل أن يكون في حياته على الصواب لا على الخطأ، وعلى الحق لا على الباطل. فلماذا يخطئ العاقل؟!. قد تأملتُ هذا فتبين لي أن الإنسان العاقل قد يقع في الخطأ والضلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 لأسباب متعددة: منها: غفلته عن موقعه وعن اللائق به، فيخطئ الكبير لنسيانه أنه كبير، ويخطئ العالم لنسيانه أنه عالم، ويخطئ الأستاذ لنسيانه أنه أستاذ، ويخطئ التلميذ لنسيانه أنه تلميذ، ويخطئ الأب لنسيانه أنه أب، ويخطئ الابن لنسيانه أنه ابن!! وهكذا بقية أفراد المجتمع كلهم! ولذلك قد ترى هؤلاء يحمّلون مسؤولية الخطأ على الآخرين المشاركين لهم في موقعهم؛ فالكبير يلوم في الخطأ الكبار، والعالم الذي قد وقع في الخطأ يوجّه اللوم إلى العلماء ويحمّلهم المسؤولية، والأستاذ يذكر في هذا الشأن الأساتذة والمربين، والتلميذ يذكر التلاميذ والأب يذكر الآباء، والابن يذكر الأبناء!! وما ذلك إلا لنسيان الإنسان موقعه ومكانه وموضع مسؤوليته!! فهل نتذكر هذه الحقيقة كي لا نقع في هذا الخطأِ؟!. ومنها: استيلاء أسباب الخطأ على عقل العاقل وإيمان المؤمن فيغلبه مثلاً هواه أو شهوته الحيوانية، أو يقع في أسر الصحبة أو المجتمع من حوله فيخطئ بخطئهم أو يضل بضلالهم. ومنها: غفلة الإنسان وعدم إدراكه لواجبه ومسؤوليته. ومنها: أن يقع الإنسان في الخطأ عفواً من غير قصد. ... إلى آخر الأسباب. والعاقل الحريص على الحق والصواب من تنبّه إلى هذه الأسباب وابتعد عنها. نسأله سبحانه أن يجنبنا أسباب الشقاء والهلاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 4- الأخلاق الحميدة وعبادة الله تعالى الأخلاق الحميدة جزء أساس من فطرة الله التي فطر الناس عليها. وهي جزء أساس كذلك من شرع الله وعبادته اللذين جاء بهما الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وتعبّدنا لله بهذه الأخلاق جزء من تعبّدنا له بسائر العبادات، وفهمنا لهذه الأخلاق والتزامنا بها مرتبط بفهمنا والتزامنا لمعنى العبودية لله. وشرف الطاعة في شرف المطاع؛ فمن يطيع الله تعالى ليس كمن يطيع سواه وهذا من أَعظم ما يحمل المرء على عبادة الله تعالى فلو تذكّر الإنسان -وهو يعبد الله سبحانه- أنه إنما يَعْبد مولاه في الدنيا وفي الآخرة، وأنه إنما يعبد قيوم السماوات والأرض، ورب كل شيء ومليكه، الذي له الخَلْق والأمر، وليس لأحد معه من ذلك شيء، وتذكّر سائر صفات المعبود الحق سبحانه لَعَلِمَ شرف هذه العبادة!! ولَعَلِمَ ضرورته لهذه العبادة!! ولَعَلِمَ أهمية هذه العبادة!! ولَعَلِمَ طبيعة هذه العبادة وطعْم هذه العبادة!. نسأل المولى عزّ وجل توفيقه وهدايته. ونحن نرى الناس يغتبط أحدهم أنه أمره رئيسٌ ما أو ملك من ملوك الأرض أوكلّفه تكليفاً ما أو أذن له بلقاء معه، فتراه يفتخرُ بذلك ويُحِبّ أن يذكر هذا عند الناس أو يذكروا ذلك عنه، هذا مع أنّ الدائرة لم تتجاوز دائرة لقاء مخلوق بمخلوق آخر من خَلْق الله تعالى! أو أمْر عبْدٍ من عبيد الله لعبْد آخر من عبيده عزّ وجل!. ويالله ما أشدّ العَجَب!! ما بالنا إذن لا نفخر بطاعة الله الملك الحق المبين!! ما بالنا لا نفخر بطاعة ربّ كل شيء ومليكه!! ما بالنا لا نغتبط بالعبودية للخالق سبحانه ملك الدنيا والآخرة!!. ما بالنا لا نغتبط ولا نَسْعَد بصلتنا بمالك يوم الدين اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم!! اللهم مسامحتك!! ولو عَلِمَ المرء ما في طاعة الله تعالى وعبادته من الخير له في الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 والآخرة لَعَلِمَ أن هذه العبودية والطاعة غنيمة له وسعادة في الدارين، ولكان أحرصَ عليها، وأسعد بها، وأكثر رضاً بها من أي شيء آخر، ولأدرك أن التكليف حقيقةً -في نهاية الأمر- ليس هو أمْره بالطاعة، ولكنه اتّباعه لهواه، ونسيانه طاعة مولاه، وتحمّله لعواقب ذلك وتَبِعاتِه في الدنيا وفي الآخرة ‍‍ حقاً إنه بمعصيته لله يُكلِّف نفسه ما لا تطيق عاقبته لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولكن أين العقلاء الناصحون لأنفسهم؟ ‍‍. لو عَلِمَ الإنسان أن الغاية من خَلْقه هي عبادة الله لَعَلِمَ مدى حمْقه حين ينصرف -وهو العبد المملوك- عما خَلَقه له سيده ومولاه إلى غير ما خلقه له، وقد منّ عليه مولاه عزّ وجل بالخلْق ثم بالإمداد، ثم بالهداية، وقال له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 1!! ثم يَنْكِصُ هذا الإنسان عن مهمته!! ألا ما أجهله إذن!! وما أقلّ أدبه مع ربه!!. فاللهم غَفْرَك ومسامحتك!!   1 56 - 58: الذاريات: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 5- إنسانية الإنسان بين مظهره ومَخْبَرِه وصورته وأخلاقه ليس الإنسان إنساناً بجسمه وصورته، ولا بثيابه ومظهره، ولكن إنسانية الإنسان بخُلُقه وخَلْقِهِ معاً، وبجسمه ونفسه وروحه وعقله. أما الجسم وحده فلا يكفي دليلاً على إنسانية الإنسان، بدليل أنك قد ترى حيواناً في صورة إنسان، ويُطْلِقُ الناس عليه وصْف الإنسانية بحكم خَلْقه لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 خُلُقه، ولكنه في الحقيقة لم يَعُدْ إنساناً، وذلك بحكم ما طرأ عليه من تغيّرٍ، كأن يكون مجنوناً مثلاً فاقد العقل، فلا يمكنه والحالة هذه أن يفكر تفكير الإنسان ولا يتصرف تصرف الإنسان؛ إنه لمّا فقد العقل الذي هو أحد ما يميزه عن الحيوانات فقد مقومات الإنسان الأساسية، فأصبح مُضِرّاً غير نافع، وهذه مرتبة تنزل عن مرتبة كثير من الحيوانات الأخرى، التي ينتفع بها الناس!. أو كأن يكون قد انحرف ضميره وخُلُقه، فأصبح -تبعاً لذلك- يتصرف تصرف الوحوش الضارة غير النافعة، فقد أصبح هذا المخلوق مؤذياً، وأصبح الإيذاء طبعاً له، فهو شرٌ لا خير فيه؛ فهل بقي مثلاً هذا على إنسانيته بحكم خِلْقته فقط؟!. كلاّ بل هو مخلوق آخر قد يَخْدَعُ الآخرين بصورته ويوهمهم أنه إنسان وليس الأمر كذلك!. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 1!! فانظر كيف أخبرك الله سبحانه بأنه خلقك من سلالة من طين، ثم قال لك: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ... } !!. يقول القاضي أبو بكر بن العربي: "ليعرِّفك أن الشرف والقَدْر إنما هو للتربية لا للتربة" 2!!.   1 12-14: المؤمنون: 23. 2 قانون التأويل: 458. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 نعم إن إنسانية الإنسان ليست بجسمه، وإنما بنفسه وفكره وخُلُقِهِ، بدليل أنه إذا مات أسرع أهله إلى دفنه، ولو كان إنساناً بمجرّد جسمه لما أسرعوا إلى دفن الجسم بعد موته!! 1. وإن من أهم أسباب التحلّي بالأخلاق الحميدة والسعي في اكتسابها معرفة الإنسان لهذه الحقيقة أعني معرفته بنفسه وبمعنى إنسانيته كي يُعْنى بها ويَسْعى في المحافظة عليها ولا ينحرف في أخلاقه وسلوكه تبعاً لانحراف فهمه لحقيقته ونفسه وطبيعة العلاقة بين خَلْقه وخُلُقه. يقول أبو القاسم الراغب الأصبهاني: فقد كاد قولُنا: الإنسان يصير لفظاً مُطْلَقاً على معنىً غير موجود، واسماً لحيوان غير معهود، كعنازيل وعنقاء مغرب، وغير ذلك من الأسماء التي لا معاني لها، كما قال تعالى في صفة الأسماء المسمّاة آلهةً: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} 2 وقال عز وجل: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} 3 فجعلها اسماً بِلاَ مُسَمَّى. ولم أَعْنِ بالإنسان كل حيوان منتصب القامة، عريض الظُّفر، أَمْلَسِ البَشَرةِ، ضاحكِ الوجه، ممن ينطقون ولكن بالهوى، ويتعلمون ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم، ويَعْلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ويكتبون الكتاب بأيديهم ولكن يقولون هذا من   1 قال الإمام ابن حزم في "الأخلاق والسير: 30 " كلاماً نحو هذا، وعنه استوحيت الفكرة. 2 23: النجم: 53. 3 40: يوسف: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 عندِ الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، ويجادلون ولكن بالباطل ليُدْحِضُوا به الحق، ويؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، ويعبدون ولكن من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويُبَيِّتون ولكن ما لا يرضى من القول، ويأتون الصلاة ولكن كُسالى ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ويُصَلّون ولكن من المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، ويذكرون ولكن إذا ذُكّروا لا يَذْكرون، ويَدْعون ولكن مع الله آلهةً أُخرى، ويُنْفقون ولكن لا يُنْفقون إلا وهم كارهون، ويحكمون ولكن حُكْمَ الجاهلية يَبْغون، ويَخْلُقون ولكن يَخْلُقون إفكاً، ويحلفون ولكن يحلفون بالله وهم كاذبون. فهؤلاء وإن كانوا بالصورة المحسوسة ناساً، فهم بالصورة المعقولة لا ناس ولا نسناس، كما قال أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه: يا أشباه الرجال ولا رجال بل هم من الإنس المذكور في قوله تعالى: { ... شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ... } 1. وما أَرى البحتري إذ اعتَبَر الناسَ بالخُلُقِ لا بالخَلْق متعدّياً في قوله: لم يَبْقَ من جُلِّ هذا الناس باقيةٌ ... ينالها الفهم إلا هذه الصّور ولا من يقول: فجلُّهم إذا فكّرتَ فيهم ... حميرٌ أو ذئابٌ أو كلابُ ولا تَحْسَبَنَّ هذه الأبيات أقوالاً شعرية، وإطلاقات مجازية، فإن الله تعالى يقول: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا   1 112: الأنعام: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 1 2. "وسُئل ابن المبارك: مَنِ الناس؟ فقال: العلماء. قيل: فمن الملوك؟. قال: الزهّاد. قيل: فمَنِ السفلة. قال: الذين يأكلون الدنيا بالدين. ولم يجعل غير العالِمِ من الناس؛ لأن الخاصية التي يتميّز بها الناس عن البهائم هي العلم، فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله، وليس ذلك بقوّة شخصه؛ فإن الجمل أقوى منه، ولا بِعِظَمِهِ؛ فإن الفيل أعظم منه، ولا بشجاعته؛ فإن السَّبُعَ أشجعُ منه، ولا بأكله؛ فإن الثور أوسع بطناً منه، ولا بباههِ؛ فإن أخس العصافير أقوى على السِّفاد منه، بل لم يُخْلَقْ إلا للعلم والتفكر" 3. وقال القائل: يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... أتطلب الربح مما فيه خسران أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ وقال الآخر: وكائِنْ تَرَى مِن صامتٍ لك معجِبٍ ... زيادتُه أو نقْصُه في التكلم لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم والناس إنما يتفاوتون فيما بينهم بسِيرهم لا بصُوَرِهم، وخُلُقِهم لا بخَلْقهم وبنفوسهم وأرواحهم لا بأجسامهم، أمّا أجسامهم وخَلْقهم فهي هيئة واحدة، ومادتها مادة واحدة، وذلك على حدِّ قول من قال:   1 44: الفرقان: 25. 2 "تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين" لأبي القاسم الراغب الأصبهاني: 50 - 53. 3 "نموذج من الأعمال الخيرية في إدارة الطباعة المنيرية": 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الناس من جهة التمثيل أكفاء ... أبوهمُ آدم والأم حواء نفسٌ كنفس وأرواح مشاكِلةٌ ... وأَعْظُمٌ خُلِقَتْ فيهم وأعضاء فإن يك لهم في أصلهم شرف ... يفاخرون به فالطين والماء ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهُدى لمن استهدى أدلاّء وقدْرُ كل امرئ ما كان يُحْسِنُهُ ... وللرجال على الأفعال أسماء وضدُّ كلِ امرئ ما كان يجهله ... والجاهلون لأهل العلم أعداء فَفُزْ بعلمٍ تَعِشْ حياً به أبداً ... الناس موتى وأهل العلم أحياء وقد لَمحَ بعض هذه المعاني ابن عصفور رحمه الله فقال فيها الأبيات التالية: مع العِلْم فاسلك حيث ما سلك العِلْم ... وعنه فكاشفْ كل مَنْ عنده فهم ففيه جلاء للقلوب من العمى ... وعونٌ على الدِّين الذي أَمْره حتمُ فإني رأيت الجهل يُزْري بأهله ... وذو العلم في الأقوام يرفعه العِلْم يُعَدُّ كبيرَ القوم وهو صغيرهم ... ويَنْفُذُ منه فيهم القول والحكم وأيُّ رجاءٍ في امرئٍ شابَ رأسُهُ ... وأفنى سِنِيهِ وهو مستعجِمٌ فَدْم يروح ويغدو الدهر صاحب بطْنةٍ ... تركّب في أحضانها اللحم والشحم إذا سئل المسكين عن أمر دينه ... بدتْ رحضاء العيّ في وجهه تسمو وهل أبصرتْ عيناك أقبح منظرا ... من أشيبَ لا علم لديه ولا حكم؟ هي السوأة السوءاء فاحذر شماتها ... فأوّلُها خزي وآخرها ذمُّ وخالطْ رواة العلم واصحب خيارهم ... فصحبتهم زينٌ وخلطتهم غُنْمُ ولا تعدون عيناك عنهم فإنهم ... نجوم إذا ما غاب نجم بدا نجم ويترتب على معرفة الإنسان لحقيقة ذاته إدراكه ما ميزه الله به عن سائر المخلوقات، وإدراكه لما صيّره اللهُ به إنساناً، وما خلقه من أجله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وهو تزكية نفسه بعبادة ربه والاستقامة على شرعه، وإعداد نفسه للقاء ربه والفوز برضاه ودخول جنته والسلامة من سخطه وناره. ومن ثمرات هذه المعرفة حِرْص الإنسان على التحلي بالأخلاق الفاضلة واكتسابها، والبعد عن إشقاء نفسه بالتجنّي على إنسانيته، بأي سبب يضرّ بهذه المعاني الآنفة الذكر التي ميزه الله بها عن المخلوقات الأخرى، كالانصراف إلى العناية بالجسم على حساب الخُلُقِ والعِلْم والدين، أو الانصراف إلى العناية بالثياب والمظاهر على حساب الخُلُقِ والدين .... إلى آخر ما هنالك من الأخطاء. ومن ثمرات معرفة هذه الحقيقة مراعاتها في تقويم الناس فلا يتجه المرء اتجاهاً مُخطئاً أو خاطئاً في تقويم الناس، بل يستعمل هذا الميزان الصحيح أعني النظر إلى الخُلُقِ والسيرة لا إلى الخَلْق والصورة. ومن ثمرات معرفة هذه الحقيقة إدراكُ الإنسان خطأ الذين يسلكون مسالك خاطئة متعددة طلباً منهم لإسعاد أنفسهم، وتحسيناً لصفاتهم عند الآخرين، كسعي الإنسان في التحلي بالثياب فقط. فيا أخي! أراك تتزين بثيابك وتُعْنى بها، وربما لا تكون بهذا مخطئاً، ولكنك تناقض نفسك حينما تضيف إلى هذا الصنيع إهمال التزين بأفعالك وسلوكك وأخلاقك، وتغفل عن أُسس الأخلاق الجميلة!. أيهما أكثر ضرراً؟ رداءة ثوبك أم رداءة تصرفك وسوء ذوقك في التعامل مع الآخرين؟! أليست أخلاقك أبلغ في الدلالة على مدْحك أو قدْحك؟! أليست تصرفاتك وطريقة تعاملك مع الناس تتعداك إلى سواك، بينما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 عدم جمال ثوبك إن كان فيه ضرر أو أذى فإنه ربما لا يتعداك إلى الآخرين؟! - على أنّ حُسْن المَظْهر مطلوبٌ، ولكنْ في حدِّ الاعتدال-. فأيُّ الأمرين أحق منك بالعناية وبمحاسبة النفس عليه؟!. وقلْ لي بربك أيها الداعية ما حقيقة الدعوة؟! هل هي مظهر فقط؟ أو درسٌ فقط؟ أو حُسْنُ تعامل في الفصل فقط؟ أم هي سلوك منك وحُسْن تعامل مع الناس في كل شيء وفي جميع الأحوال؟!. ما أحوجنا إلى إعادة النظر وشدة المراقبة في ميزان اهتمامنا بأنفسنا، وفي معيار تقويمنا لأخلاقنا ومعرفتنا لمقدار نفوسنا!. والإمام ابن حزم، رحمه الله تعالى، يَدْعونا إلى دقّة التفكير وحُسْن الاختيار في موازَناتِه الآتية: طالبُ الآخرة ليفوز في الآخرة متشبهٌ بالملائكة. وطالبُ الشرِّ متشبهٌ بالشياطين. وطالبُ الصوت 1 والغلبة متشبهٌ بالسباع. وطالبُ اللذات متشبهٌ بالبهائم. وطالبُ المال -لِعَينِ المال لا لينفقه في الواجبات والنوافل المحمودة- أسقطُ وأرذلُ من أن يكون له في شيء من الحيوان شَبَهٌ، ولكنه يشبه الغُدْرانَ التي في الكهوف في المواضع الوعرة، لا ينتفع بها شيء من الحيوان. فالعاقل لا يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد، وإنما يغتبط   1 أي الجاه والغَلَبةوالسمعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 بتقدمه في الفضيلة التي أبانه1 الله تعالى بها عن السباع والبهائم والجمادات، وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة. فمن سُرَّ بشجاعته التي يضعها في غير موضعها لله ـ عز وجل ـ فلْيَعْلَمْ أن النمر أجرأ منه، وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه، ومن سُرَّ بقوة جسمه، فلْيَعْلْم أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسماً، ومن سُرَّ بحَمْله الأثقالَ، فلْيَعْلَمْ أن الحمار أحملُ منه، ومن سُرَّ بسرعة عَدْوِهِ فلْيَعْلَمْ أن الكلب والأرنب أسرعُ عَدْواً منه، ومن سُرّ بحُسْن صوته، فلْيَعْلَمْ أن كثيراً من الطير أحسن صوتاً منه، وأن أصوات المزامير ألذُّ وأطربُ من صوته. فأيُّ فخرٍ وأيُّ سرور فيما تكون فيه هذه البهائم متقدمة عليه؟!. لكن من قوي تمييزه، واتسع علمه، وحَسُنَ عمله، فليغتبط بذلك، فإنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة وخيار الناس 2.   1 أي مَيَّزَهُ. 2 الأخلاق والسير في مداواة النفوس: ص18- 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 6- نُخْطِئُ كثيراً نخطئ كثيراً حينما يتّجه أحدنا إلى العناية بالطِّيبِ المصنوع ويتجاهل الطِّيبَ المطبوع، أَعْني به: طهارة السريرة وحُسْن الخُلُقِ والسيرة!!. وننسى الفرقَ بين الطِّيب الذي يَذْهبُ مع الهواء وأدراج الرياح والطِّيبِ الذي يستقرُّ في النفوس والأرواح!! وكم هو الفرق بين طيبٍ يُمْكن أن يتطيب به خبيث النفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 والخلق، وطيب لا يتحلى به إلا مَنْ طابت نفسه وأخلاقه؟!. نخطئ كثيراً حينما نهتم بملابسنا ومظاهرنا على حساب بواطننا وقلوبنا وأخلاقنا!!. نخطئ كثيراً حينما نُعْنى بأجسامنا ونهمل قلوبنا ونفوسنا!!. نخطئ كثيراً حينما نُعْنى بإصلاح ما بيننا وبين المخلوقين وننسى ما بيننا وبين الخالق سبحانه!! نخطئ كثيراً حينما نتأدب مع المخلوقين وننسى الأدب مع الخالق سبحانه!!. نخطئ كثيراً حينما نُصْلح دنيانا بتمزيق ديننا!!. نخطئ كثيراً حينما نُصْلح دنيانا وننسى آخرتنا!!. نخطئ كثيراً حينما يَعْمَدُ أحدنا إلى التأدب مع الأبعدين وينسى الأقربين!!. نخطئ كثيراً حينما نهتم بأنفسنا وننسى الآخرين!!. نخطئ كثيراً حينما لا نتنبّهُ إلى أننا نخطئ كثيراً!!. نخطئ كثيراً حينما لا نشعر بأهمية محاسبة أنفسنا وتعديل أخطائنا!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 7- خاطرةٌ حَوْلَ معنىً مِن الأخلاق من تقدير الإنسان للمعاني الفاضلة والحقائق الكبيرة تقديراً صحيحاً، وتصوّر حقيقة الحياة، والمصير بعد ذلك، أن ترى العالِم لا يخون بأيّ صورة من صور الخيانة ... لا يخون نفسه ... ولا يخون أُمّته ... ولا يخون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 دينه ... بل يؤدي النصيحة على كل حال ... فهو لا يغش نفسه فلا يبيعها بثمن بخس، ولو كان ذلك هو الدنيا بأسرها. إنه لا يبيع نفسه إلا بثمن واحد هو رضى الله وجنة الله!!. وهو لا يغش أُمّته: راعياً ورعية ... بل يجتهد في القيام بحق الجميع بأمانة وإخلاص وإنصاف كما أمره الله تعالى. ومن الصور المخزية للإنسان ما يَحْدث في كل عصر من علماء السوء، الذين يسعى أحدهم للدنيا أو للشهرة والمناصب والجاه لدى السلطان بكل سبيل؛ ليشتهر في النهاية على حساب دينه، وعلى حساب حق أُمته، وعلى حساب حق نفسه عليه. ثم لا بد له من النزول ... ولا بد له من النسيان في مقابل تلك الشهرة، ولا بد أن ينطرح أرضاً!. إنه مسكين! إنه كأنما سعى ليَطُلّ برأسه للناس ليقولوا له: تُفّ عليك أيها الخائن الدنيء. ثم يخفض رأسه في ذلة وهوانٍ أمام الله ... وأمام الناس ... ثم يبقى ذلك تاريخاً إلى ما شاء الله تعالى ... نعم إنه سيكون تاريخاً وأيّ تاريخ!. فلله الأمر من قبل ومن بعد! وما أشد جهل الإنسان وما أشد حماقته، حين لا يكون مخلصاً، وحين يكون في مثل هذه الحال وهذا المستوى الهابط!! نسأل الله العافية!.? إنّ هذا لم يُخْلِص لأحدٍ: لا لنفسه، ولا للراعي، ولا للرعية. كما أنه لم يَسْلم مِن شرِّه أحدٌ مِن هؤلاء جميعاً، وإنْ بَدَت الأمور في بدايتها وفي ظاهرها على غير ذلك!. وإنّ الواجب يَقْضي بالإخلاص والنصح للناس كلهم، راعياً ورعيّةً!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 8- أيها ... !! أيها الأخ القارئ إنني أعني نفسي وأعنيك في هذا الخطاب ولست أعني أحداً آخر!. أيها المعتني بتزيين ظاهره والغافل عن حقيقة باطنه!! أيها الملمّع يديه ووجهه ماذا صنعت لقلبك؟! أيها المنظف ثوبه هل نظفت طويّتك ودخيلة نفسك وطهرتها؟! أيها الملمّع حذاءه والغافل عن نفسه وقلبه!! هلاّ تذكرت نفسك وقلبك!! أيها المتطيب في الظاهر هل تطيبت في الباطن أيضاً حتى لا تكون ذا وجهين!! وماذا يفيدك طِيب الظاهر مع فساد المَخْبَرِ؟!. وماذا يفيدك حُسْن مظهرك مع فساد مَخْبَرِك؟!. أيها المتجمّل للناس هلاّ تجمّلتَ لرب الناس!!. أيها المزكي نفسه عند الناس هلاّ زكيتَ نفسك لله!!. أيها المصلح أمر دنياه هلاّ أصلحت أمر آخرتك!! أيها الباني له داراً مؤقتة هنا هلاّ بنيت لك داراً هناك مؤبَّدةً في جنات عدنٍ عند مليك مقتدر!!. ما الذي يذكّرك دنياك ويُنْسيك آخرتك؟! وما الذي ينفعك تعمير دنياك إذا كانت آخرتك خراباً؟! هل انعكس عليك الأمر فظننت أن الدنيا هي المؤبّدة والآخرة هي المؤقّتة؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أم أنت في شك من يوم القيامة فلم تؤمن به إيمانك بالحياة الدنيا الفانية؟! ألا ما أعظم الغفلة؟! وما أدهى المصيبة؟! فهل أُعزّيك؟! وماذا ينفع العزاء في هذه الحال؟!. إنه لا يملك قريب ولا بعيد أن يواسيك في هذه المصيبة إلا بأن يدلك على الدواء، ويبصّرك بهذه المصيبة التي دونها كل المصائب ويدلك على الطريق.. يذكّرك.. يَعِظُك ... يزجرك ... يحذّرك ... فذلك هو الصديق الصادق. والله يُصْلح حالنا وحالك في الظاهر والباطن وفي الدنيا وفي الآخرة، والله المستعان!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 المبحث الثاني: نظرات في طُرق اكتساب الأخلاق الحميدة 1- التربية وتهذيب الأخلاق ليست مهمة المربي وحده! ... 1- التربية وتهذيب الأخلاق ليست مهمة المربي وحده! التربية وتهذيب الأخلاق ليست مهمة المربِّي وحده بل هي مسؤولية مشتركة بين المربّي والمربَّى والمجتمع. والمرء إذا بلغ الرشد مطالب شرعاً أن يتعرف على هَدْي الإسلام وأحكامه وإلزام نفسه بذلك سواء دعاه أحد إليها أم لا، وسواء ربّاه من تجب عليه تربيته أم لا. ومعلومٌ، أنّ مَن استُهدِف بالتربية، ولكنه لم يقتنع بها، ولم يرض بها، فلن تنفعه هذه التربية!. صحيح أن الناس جميعاً كما أن عليهم واجباً تجاه تربية أنفسهم عليهم واجب تجاه تربية من هو في تربيتهم ومَنْ يجب عليهم تربيته، ولكنّ جهودهم قد لا تثمر في الأرض السبخة ولا الصخور الصماء، إن من لا يستقبل جهود المربي بالقبول والرضا بل والشكر والأدب والحرص عليها سوف لا ينتفع منها أبداً. إن بداية التغيير إنما هي من النفس، نعم من داخل النفس وليس من الخارج: {إِِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 1. سواء كان التغيير إلى الحسن أو إلى القبيح، إلى الخطأ أو إلى الصواب! إنها سنة كونية فطرية جعلها الله تعالى في خَلْقه، فهل يعيها المربون؟! وهل يعيها الذين يتطلعون إلى إصلاح أخلاقهم وسلوكهم؟! فيتجهون حينئذٍ إلى إصلاح النفس من الداخل، وإلى تربية الإيمان والضمير!! لقد   1 11: الرعد:13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا بما يتطابق مع القرآن ومع الواقع فقال: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" 1. لقد نشأ في الناس من لا يعي مسؤوليته تجاه تربيته نفسه وتهذيبها، فلا يشعر بأي أهمية نحو قيامه بهذا الواجب، بل هو لم يستقر في خَلَدِه أن هذا واجب من واجباته، ولم يُدْرِك عاقبة إهماله لهذا الجانب في حياته، ولعله لم يسمع قول الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 2!!. بل نشأ في الناس من يرفض تربية من يربّيه، وتعليم من يُعَلّمه، ونُصْح من ينصحه. وهذه درجة أبعد في الغواية من سابقتها!! ولكن سنّة الله جارية في من يَرْفض تربية أبيه أو والديه أو معلّمه أن يُربّيه الرجال، بل ربما الأنذال، وقد تربيه أقدار الله تعالى، وقد تؤدّبه أو تعاقبه أو تأخذه بجريرته تلك!! فهل يعي هذا الصنف من الناس هذه الحقيقة؟!. نرجو.   1 جزء من حديث أخرجه أصحاب الكتب الستة، وقد جاء عند البخاري في مواضع منها: 3- الإيمان، باب من استبرأ لدينه. 2 7-10 : الشمس: 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 2- أثر الطمع والخوف في الأخلاق إن الحياة الآخرة ليست منفصلة عن الحياة الدنيا، بل هي مرتبطة بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ارتباط السبب بالمُسَبِّب والمقدِّمة بالنتيجة. فحالُ الناس في الآخرة امتداد لحالهم في الحياة الدنيا، فمن كان في هذه في طاعة الله نيّةً وقَوْلاً وعملاً، فهو في الآخرة في جنات عدن في مقعد صدق عند مليك مقتدر. ومن كان في هذه الحياة الدنيا في معصية الله نيّة أو قولاً أو عملاً فهو في الآخرة يعيش في ثمار هذه الحال النّكِدة، ولا ينفعه شيء من السراب الزائف يَحْصل عليه مؤقتاً هنا، ولا ينفعه قريب أو بعيد، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. وإن الناس الذين يصابون بالهزيمة والهلع أمام خوف أو طمع لم يعرفوا الله حقاً، ولم يعرفوا حقيقة الدنيا، ولم يعرفوا حقيقة الآخرة، وإن مثل هذا الصنف من الناس ينحرفون كثيراً، ويقعون في الشقاء من حيث لا يشعرون حين يشغلهم النظر للمستقبل عن إصلاح الحاضر، لأنهم لا يعلمون أن المستقبل موكول إلى الله تعالى، وإنما هم مكلفون بإصلاح حاضرهم بإلزام أنفسهم بطاعة الله نيّة وقولاً وعملاً، وبهذا يَصْلُح لهم الحاضر والمستقبل في الدنيا وفي الآخرة، ولا يمكن إصلاح المستقبل بغير إصلاح الحاضر، إن الذين يقفزون محطة الحاضر لضمان صلاح المستقبل ينكسرون أو تنكسر بهم الحياة، وإنهم يخالفون سنة الله في الخلق، ويخالفون شرع الله، أمّا أنهم يريدون لأنفسهم السعادة فلا إشكال، ولكن ليس هو هذا الطريق. فمتى يثوب الإنسان إلى رشده، ويُلْزم نفسه بطاعة الله، ويتعلّم كيف يكون مع أمْر الله تعالى، لا يصرفه عن ذلك شدة طمع أو شدة خوف؟! متى يَعْلم الإنسان يقيناً -نظرياً وعملياً- أن طاعة الله لا تأتي إلا بالخير، ولا تأتيه إلا برضا الله وثواب الله مهما بَدَتْ له العاقبة أوّل الأمر أو في ظاهر الأمر؟!. ومتى يَعْلم الإنسان يقيناً -نظرياً وعملياً- أن معصية الله تعالى لا تأتي إلا بالشر في الدنيا والآخرة، ولا تأتيه إلا بسخط الله وعقاب الله مهما بَدَتْ له العاقبة أوّل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الأمر أو في ظاهره؟! متى يَعْلم الإنسان يقيناً أن خطأه في هذه الحياة وأن معصيته لله إنما هي بسبب خوف أو طمع في غير موضعهما؟! ومتى انتصر على نفسه في تلك العواطف الخاطئة فَقَدْ ألزمها بطاعة الله وجنّبها معصيته. متى يعلم الإنسان يقيناً أن خطأه ومعصيته هو وحده الذي سيواجِهُ عاقبتهما في الدنيا وفي الآخرة وِفْق سنة الله الكونية وسنته الشرعية، ولا مفرَّ له من ذلك إلا بالاستغفار والتوبة والإصلاح والاعتراف لله بالذنب والخطيئة؟!. متى يَعْلم الإنسان يقيناً أنه ليس أرحم بنفسه من الله الخالق الكريم الرحيم، فإذا أراد الرحمة فليس أمامه إلا أن يسلك الطريق إليها بالتزام طاعة الخالق الكريم الرحيم؟!. إلى متى يتمادى الإنسان في غيّه؟! وإلى متى يستمر في شقاء نفسه وشقاء من معه؟!. ألا ما أشقى الحياة عندما تحيد عن طاعة الله وعبادته وحبه وخشيته!!. ألا ما أسعد الحياة عندما تكون مصابَرةً وصبراً على طاعة الله وعبادته وعندما تكون في حب الله وخشيته، وتعاوناً على البر والتقوى!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 1.   1 10: الزمر: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 3- التعاون والتكافل في التربية من أَولى ما تعاون الناس فيه تربية النشء والأولاد، وليس التعاون في أمور دنياهم بأولى من التعاون في هذا المطلب الأساس. وينبغي لنا من جهة أخرى أن نُدْرك أن التعاون والتكافل بين الناس في التربية ضرورة من ضرورات التربية، سواء داخل الأسرة الواحدة، أو بين الأقارب، أو الأصدقاء أو أفراد المجتمع بعامّة؛ فإن من الصعب جداً أن يقوم فردٌ واحد بتربية أبنائه مثلاً دون تعاون مَنْ معه ومَنْ حوله على هذه المهمة، وإن كان ذلك ليس عذراً له بحالٍ من الأحوال أن يتخلّى عن تربية من يجب عليه شرعاً تربيته. وبالتعاون على أداء واجب التربية والإصلاح يُختصر الجهد، ويُخْتصر الوقت، وتستقيم التربية، وتَزْكُو النتائج أَحْسَنَ ما تكون. فإذا قلتُ لولدي مثلاً كلمة يَعْرف منها أن أمراً ما هو الصواب، ثم جاءت مناسَبَةٌ فأشعرته والدته بالمعنى ذاته، وقال له أخوه المعنى ذاته، وقاله له ذلك أيضاً قريبنا فلان وقريبنا فلان وصديقنا فلان فإنه سيدرك أن هذا المعنى صواب في نظر الجميع وله أهمية في نظر الجميع، وأن الجميع يدعونه إليه، فتصعبُ عليه مخالفته. وهكذا بالنسبة لولدك مثلاً، إلى آخر المجتمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 هذا خير أم السلبيّة المدمّرة بين الأسر والأقارب والأصدقاء؟! هذا خير أم المعارضة والمناقضة في التربية فالأبوان يعارض بعضهما بعضاً، أو يناقض بعضهما بعضاً، والمربي وأقاربه وأصدقاؤه يعارض بعضهم بعضاً، والبيت والمدرسة يعارض أو يناقض بعضهما بعضاً؟!. أَنّى لمثل هذه التربية أن تُؤتيَ ثماراً حسنة؟!. إن التربية في البيت وفي المدرسة وفي المجتمع وبين الأقارب يجب أن تكون في تصوّر الخير والشر على رأي واحدٍ وموقف واحدٍ، ومتى ما كانت على رأيين وموقفين في هذا الأمر فقلْ على الأسرة وعلى المجتمع وعلى الأولاد السلام!! إذا كان الأمر كذلك فقد شقي المربى ومن توجَّه إلى تربيته!!. وماذا يُنْتظر من تربية قد انشطرت شطرين؟! وماذا يُنْتظر من تربية قد انشطرت شطرين متعارضين أو متناقضين؟!. وماذا يُنْتظر من تربية لها هدفان متصارعان؟!. أو ماذا يُنْتظر من تربية لها طريقتان مصطرعتان أو متناقضتان أو متعارضتان لتحقيق هدفٍ واحدٍ زعموا؟!. هيهات هيهات أن تحقق خيراً مثل هذه التربية!. وهل هذه تربية؟! إن هذا هدم وليس بناءً، وإساءة وليس إحساناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 4- أمور تتوقف عليها استقامة الحياة وسعادتها تتوقف استقامة حياة الناس وسعادتهم على أمور، منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أخْذُ الابن عن أبيه، والسمع والطاعة لوالديه في المعروف، والأدب معهما على كل حالٍ. وأَخْذ الزوجة عن زوجها، والسمع والطاعة له في المعروف، والتسليم له بحق الرئاسة والولاية على البيت، وتربية أولادها على ذلك. وأَخْذ التلميذ عن أستاذه العلم والأدب بالاحترام والأدب الواجبين، والشكر والدعاء له. وأَخْذ الجاهل عن العالم، أو عن من عنده عِلْمٌ كافٍ للنجاة، بتقبّل ورضىً وشكر. ومؤازرة المرءوس لرئيسه في المعروف، والسمع والطاعة له في ذلك. ونصْحُ الرئيس لمرءوسه، وحرصه على مصلحته أكثر من حرصه على مصلحة نفسه. وأمانة الشريك مع شريكه، وصدْقه معه، ومصافاته، ومحبته له مثل ما يُحبُّ لنفسه، وعدم التدقيق الزائد المنافي للخلق الحميد في استقصاء حقوق نفسه. ومحبة المسلم لأخيه المسلم مثل ما يحب لنفسه من الخير، نيةً وتَهمُّماً وعملاً. وإذا لم يأخذ هؤلاء بهذه الأخلاق الواجبة عليهم والضرورية لاستقامة حياتهم ولسعادتهم في الدنيا وفي الآخرة فسدتْ حياتهم، واستحالت الاستقامة في حياتهم إلى ضدها، والسعادة إلى شقاء، وشقي بشقائهم من معهم، وربما من حولهم أيضاً!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وعندما تقع كارثةُ أحدِ هؤلاء بتنكّبه لهذا الخُلُق الواجب عليه، فإن الحلّ هو العودة إلى الصواب، وليس الدعوة إلى الخطأ، فإننا نرى في حياة كثير من الناس وقوع الخطأ المركّب، فترى أحدهم يقع في الخطأ ويخلّ بواجبه، ثم لا يُدْرك خطأه هذا - إما لعدم استعداده لهذه الفضيلة، أو لِعماهُ بهواه عن رؤية الحق والصواب - فيطالب الطرف الآخر ويحاكمه بمقتضى تصوّره الفاسد أنه هو الذي على الحق، ويغضب من عدم إنصافه وعدم الأخذ بما هو عليه، ويطالبه به!!. والحمد لله رب العالمين، وهذه ظلمات بعضها فوق بعض ينبغي للعاقل الحريص على سعادة نفسه وسعادة من معه أن يَحْذرَ منها، ويحاسبَ نفسه عليها قبل أن يحاسبَ الآخرين. وهكذا موقف الآخرين ينبغي أن يكون هو موقفَ الإصلاح، وذلك بفهم المشكلة على وجهها وإزالة سببها بأن يُرَدّ المخطئ إلى الصواب. وبتعاون العقلاء والمنصفين، وبموقفهم من القضية موقفاً واحداً على الحق، يثوب المخطئ والجاهل إلى رشده، أو يُدْرك -على الأقل- أنه وحده لا أحد معه، فيتوقف عن التمادي في باطله. أما إذا انضم جاهل إلى جاهل أو أحمق إلى أحمق أو مبطلٌ إلى مبطل فكوّنوا صفاً، فلا تسأل عن الحق وأهله والداعين إليه!!. وأما إذا اتُّخِذَ الجاهل أو الأحمق أو المبطل حَكَماً يُصْدَرُ عن رأيه ويؤخذ بحكمه فتَودّعْ من العافية والسلامة والاستقامة والسعادة!!. وهل أَرْدَى الجاهلَ والأحمقَ والمبطلَ إلاّ أنهم صَدَرُوا عن رأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 أنفسهم، ولم يُصِيخوا لنداء الحق والعقل والفطرة ونُصْحِ الناصحين؛ فأَخَذَ الجاهل بما أملاه عليه جهله. وأَخَذَ الأحمق بما أملاه عليه حمقُهُ. وأَخَذَ المُبْطِلُ بما دعاه إليه خُبْثُ نفسه. وإذا وصلتِ الحال إلى هذا فعليك بما فيه سلامتك ودعْك من سلامة هؤلاء. وبُعداً للقوم الظالمين!. ومن يملك أن يُقْنِع المجنون بأنه مجنون؟! والمجاهدة واجبة على الابن والزوجة والطالب وكلّ من ذكرتُ، فلا بدّ لهم من مجاهدة النفس للتحلّي بهذه الأخلاق، إن عليهم أن لا يسترسلوا مع هوى النفس، أو مع سجيّة الطبع، أو مع سوى ذلك من أسباب الميل عن الجادّة والعدل والنصفة والصواب، كالميل لمشاكلة الآخرين من المخطئين ومتابعتهم، أو الحرص على إعطاء حقوق أُناسٍ سوى من ذَكرْتُ ممن وجبت حقوقهم على هؤلاء لا يصح أن تكون حقوقهم على حساب حقوق هؤلاء الأوجب والأقرب. ومن الظلم-إذا لم يعط الابن والزوجة والطالب والشريك والمرءوس والرئيس والأخ الحقوق التي عليهم-أن يطالبوا بحقوقهم من له الحق عليهم فمنعوه إياه. ومن السَّفَه بعد ذلك أن ينتظر هؤلاء استقامة الحياة وسعادتها في الدنيا وفي الآخرة!! ومما ينبغي أن يُقْنع هؤلاء به أنفسهم لأداء الحق من السمع والطاعة والأدب والشكر وإلزام النفس السير على الجادّة والرضا بِمُرِّ الحق ثلاثة موازين: الأول: القناعة بأن هؤلاء الذين وجبت عليهم حقوقهم من الأب والأم والزوج والأخ والشيخ ونحوهم بحكم موقعهم إنما هم ناصحون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 شفيقون مؤتمنون، ولا يُنْتظر منهم للإنسان إلا الخير والنصح، ولا يُتصوَّر أن يَرْضى الوالد مثلاً، أو يأمر ابنه، بما فيه الضرر أو الشر على ابنه، إلا في قلة نادرة من الناس انحرفت عن الفطرة لا اعتبار بها ولا تغيّر من فطرة الله في خلْقه شيئاً. الثاني: القناعة بأن ما يعمله الإنسان مع هؤلاء، وما يؤديه لهم من الحقوق والواجبات عليه إنما يصنعه لنفسه ليلقى جزاءه عند ربه في الدنيا وفي الآخرة، وما يفعله من نكاية بهؤلاء إنما يفعله بنفسه. الثالث: القناعة بأن المقياس الصحيح لوزْن الأشياء والأفعال ليس هو ميل النفس وهواها، وإنما هو ميزان الشرع والعقل والفطرة السليمة، وأما مَيْلُ النفس وهواها فهو -في الغالب- على العكس من ذلك، حيث تحبّ عدم الالتزام بالواجبات، والبعد عن خلق التضحية والإيثار، وحبُّ الأخذ أكثر من الإعطاء، وقد قال الله تعالى: { ... وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1.   1 216: البقرة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 5- من وسائل تربية الإنسان نفسه وتهذيبها - تذكُّرُ نِعَمِ الله عليك وشكره سبحانه عليها. - تذكُّرُ الموت وما بعده من الحساب والجزاء وأن ذلك مرتبط بحال الإنسان في هذه الحياة الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 - تذكّر قدْر الآمر لك بالأخلاق الحميدة والناهي لك عن الأخلاق السيئة وتذكُّر حقه عليك، وهو الله جل جلاله ورسوله صلى الله عليه وسلم المبلِّغ عنه. - مجاهدة النفس ومراقبتها ومحاسبتها على ما تُمْدَحُ به وما تُذَم وإلزامها دائماً بأحسن الأمور. - التعرّف على القواعد والمنطلقات اللازمة للأخذ بالأخلاق الحميدة والبعد عن ضدها. - العناية بأخْذ النفس بتحصيل أصول الأخلاق الفاضلة والالتزام بها، والبعد عن أصول الأخلاق الذميمة. - تتبُّع صفات المؤمنين والصفات الحميدة التي دعا إليها القرآن الكريم والحديث الشريف ومحاولة التحلي بها، وتتبُّع ما حذّرا منه من الأخلاق السيئة وأخلاق الكافرين والمنافقين والفاسقين والاحتراس منها والحذر كل الحذر من الوقوع فيها. - اتخاذ أخ صالح ناصح ذي خُلُقٍ فاضل يُبَصِّرك بعيوبك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 6- الاعتراف بنعم الله من أهم الدوافع للخلق الحسن تذكّرْ -يا أخي- في يوم تهنئتك يومَ تعزيتك، وفي يوم توليتك يومَ تنحيتك، وفي يوم عافيتك يومَ ابتلائك، وفي يوم سرورك يومَ حزنك، وفي يوم صحتك يوم مرضك، وفي يوم الاجتماع يوم الفراق، وفي يوم السعة يوم الضيق، وفي يوم الأنس يوم الغربة والوحشة، وفي يوم سلامة حواسك وأعضائك يومَ فقْدها أو مرضها، وفي يوم شبابك يوم هرمك وعجزك، وفي يوم حياتك يوم موتك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 تذكّر -يا أخي- عند كل نعمة فقْدها؛ ولتحاسب نفسك عليها، وتشكر المنعم عليك بها سبحانه، وتصوّرْ دائماً حِرْمانك من كل نعمة من نِعم الله عليك لتصنع ما أنت صانع لو ردّها الله عليك!! وتذكّرْ أن الله قد أنعم عليك بها، ولم يسلبك إياها، فلماذا تفرِّقُ بين الحالين حال الإنعام بها عليك ابتداءً، وحال إرجاعها إليك بعد سلْبها؟!!. إن الإنسان لظلوم كفور!! عليك يا أخي أن تشاهد نِعَم الله عليك فيما تراه في غيرك من ابتلاء بفقْد نعمة أو أكثر من نعم الله. فإذا رأيتَ كفيفاً فاعلم أن هاتين العينين حجة لله عليك، وإذا رأيت من فقد إحدى عينيه فاعلم أن الله أبقى لك العينين اختباراً وابتلاء، أو إن أبقى الله لك إحداهما فتذكّرْ أنه لم يأخذهما معاً، وإذا رأيت مُقْعداً فتذكّرْ أن الله أقدرك على الحركة ... وإذا رأيت مبتلى في دينه أو خُلُقه فتذكر معافاة الله لك من تلك البلية ... إلى آخر ما هنالك، { ... وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} 1!!. إن هذا التذكّر بهذا الهدف من أهم ما يَحْمِلُ المرء على التخلق بالخلق الحسن مع الله تعالى ومع عباده سبحانه، ومع النفس.   1 34: إبراهيم: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 7- تقدير مشاعر الآخرين طريق لمكارم الأخلاق فطر الله الإنسان محباً لمحبة الناس له، فهذه الصفة فطرة متغلغلة في نفوس البشر جميعاً إلا القليل الشاذ الذي انحرف عن هذه الفطرة، فلا وزن لهذا القليل ولا اعتبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وهذا الخُلُق النفسي يمكن أن يُستثمر لصالح اكتساب مكارم الأخلاق، وذلك عن طريق أساليب متعددة، منها: أن يتذكر الإنسان دائماً أن من يحبه إنما يحب فيه الأشياء الطيبة، ولا يحب منه قبيح الأفعال والأخلاق، ويحب نظافته لا وساخته، مهما كانت الرابطة بينه وبين هذا الإنسان بما في ذلك أقاربه وأصدقاؤه، فعليه أن يراعي هذا الشعور، فيحرص على مكارم الأخلاق ويبتعد عن مساوئها. هذا بالنظر إلى من تحبهم ويحبونك من المخلوقين، فكيف إذا نظرت إلى محبة الخالق سبحانه، وعلمت أنه يحب لعبده محاسن الأخلاق، ويكره له مساوءَها؟!. والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 8- مجاهدة النفس شرط لاكتساب الأخلاق الفاضلة إذا أردت اكتساب الأخلاق الحميدة فأنت في حاجة إلى المجاهدة، فإن النفس مَيَّالة إلى التفلت من القيود والتكاليف، حتى ولو كانت تلك القيود حدوداً لدائرة سعادتها، وحتى لو كان ذلك التفلت إلى سعادة لحظة مُتَوهَّمة بشقاء الأبد!. ولا يصح لك أن تطلب معالي الأمور بأرخص الثمن! ولا يصح أن يُطمِّعك في الشر والدناءة حصولهما بغير ثمن! وإن من يريد عظيماً ومن يريد معالي الأمور لا بد له من أن يدفع ثمنها المناسب، وإلا لاستوى الناس جميعاً في فُرَصِ الوصول إلى المعالي!!. إن أوّل ثمن معالي الأمور ومكارم الأخلاق أن يَسْمُوَ المرء أوّلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 بتفكيره، كمن يروم صعود الجبل العالي الأشم يبدؤه أوّلاً برفع بصره إلى القمة التي سيسعى إليها ويوطن نفسه على ما يتطلبه الوصول إليها من تضحيات، ثم يحتاج إلى السعي والجهد والعزم غير ملتفت إلى المشقة والجهد والعرق والوقت!. أما من يريد السقوط من أعلى إلى أسفل فلا يحتاج إلى ذلك الجهد، ولكنه قد يسقط سقطة لا يقوم منها أبداً!!. مثله مثل الإنسان الذي يكون في قمة جبل فلو رغب في السقوط فماذا يعمل سوى أن يرمي بنفسه من فوق إلى أسفل؟!. حقاً ليست العبرة دائماً بمقدار الثمن ولكن بالنتيجة والمُثَمَّنِ، وقد اقتضت سنة الله تعالى في الحياة أن يَبْذل الإنسان لكل شيء ما يناسبه، فللدنيا سعي وللآخرة سعي!! وللفضائل سعيٌ وللرذائل سعيٌ!!. {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} 1. والصبر بأنواعه المختلفة مِن أهم عُدّة المجاهِد نفسه، ومِن أهم ما يَحتاجه في هذا الباب الصبر عن الشهوة؛ فإنها هي التي أردتْ أكثر مَن سَقط من الناس، وإنما يَقوى على هذا الصبر مَن جاهَدَ نفسه لله، وعَوّدها النظرَ في عواقب الأمور كلها؛ ثم عامَلَ تلك الأمور بما تستحقّه من المواقف، والتوجّهات، والأقوال، والأعمال. ومِن هذا القبيل النظر في عواقب الاستجابة للشهوة، أياً كانت هذه الشهوة، حلالاً أم حراماً؛ فإنّ لكلّ عَمَلٍ عاقِبَةً، ولكلِّ خطوةٍ نتيجةً، لك أو عليك!.   1 19: الإسراء: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 إنّ على الإنسان أن يكون موقفه مِن شهوته موقف المراقبة والمحاسبة، لا موقفَ الاسترسال معها والاستجابة لها، وأن يستحضر -قَبْل الاستجابة لها- ما وَجّهَهُ له الإمام ابن القيّم حيث قال: "الصبر عن الشهوة أسهلُ مِن الصبر على ما توجبه الشهوة1؛ فإنها: إِمّا أَنْ توجب أَلَماً وعقوبةً. وإِمّا أَنْ تقطع لذةً أكملَ منها. وإِمّا أَنْ تُضيع وقتاً إضاعته حسرةٌ وندامةٌ. وإِمّا أَنْ تَثْلمَ عِرضاً توفيره أنفع للعبدِ مِن ثَلْمه. وإِمّا أَنْ تُذهِب مالاً بقاؤه خيرٌ له من ذهابه. وإِمّا أَنْ تَضَعَ قَدْراً وجاهاً قيامه خيرٌ مِن وضْعه. وإِمّا أَنْ تَسْلب نعمةً بقاؤها ألذّ وأطيبُ مِن قضاء الشهوة. وإِمّا أَنْ تُطَرِّقَ لِوَضيعٍ إليك طريقاً لم يَكُن يَجِدها قبلَ ذلك. وإِمّا أَنْ تَجْلِبَ همّاً وغَمّاً وحُزْناً وخوفاً لا يُقارِبُ لذّة الشهوة. وإِمّا أَنْ تُنْسيَ عِلْماً ذِكْرُهُ أَلَذّ مِن نَيلِ الشهوة. وإِمّا أَنْ تُشْمِتَ عدوّاً وتُحزِنَ ولِيّاً. وإِمّا أَنْ تَقطَعَ الطريق على نِعْمةٍ مُقْبلةٍ. وإِمّا أَنْ تُحْدِثَ عَيباً يَبقى صفةً لا تَزول؛ فإنّ الأعمال تورث الصفات والأخلاق" 2!!.   1 أي ما توجبه الاستجابة للشهوة. 2 الفوائد:250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وما من شكٍ أنّ مَن يتعوّد التعقّل والتأني والنظرَ في العواقب، قَبَلَ أن يخطو خطواته؛ فيُؤثِرَ منها ما كان لله تعالى، ويُجاهِد نفسه عليه؛ حتى يَجْعَلَ ذلك خُلُقاً له، ما من شكٍّ أنّ الله يساعده ويوفّقه، ويُصْبِح بهذا على مكارم الأخلاق، بعيداً عن مساوئها!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 9- أثر السيرة النبوية وتراجم الرجال في الأخلاق تراجم الرجال مدارس الأجيال ... فالمرء يستفيد الخير من قراءة سير أهل الخير.. فإذا قرأ سيرة كريم تنبّه إلى أهمية الكرم.. وإذا قرأ سيرة شجاع تنبه إلى أهمية الشجاعة وإذا قرأ سيرة زاهد أدرك أهمية الزهد.. وإذا قرأ سيرة ورع تنبه إلى أهمية الورع، وإذا قرأ سيرة داعية أو آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر تنبه إلى أهمية ذلك في حياة الإنسان، وإذا قرأ سيرة عالم محقق تنبه إلى أهمية العلم في حياة الإنسان ... ولربما حاسب نفسه عند قراءته لتلك السير على تلك المعاني وأخذ نفسه بها، واكتسبها سيرة وخلقاً في حياته. ومن المعلوم أن الخير قد تفرق في الناس، فهذا حليم وهذا شجاع وهذا كريم.. إلخ ولا تجد إنساناً كاملاً قد جمع الفضائل كلها والكمال كله. وأيضاً فقد تجد فضيلة في شخصٍ ما إلى جانب رذيلة ما فيه أو نقصٍ فيه. وتجد أيضاً وأنت تقرأ في تراجم الرجال وفي سيرهم نوعاً آخر من الناس يقال في وصفه مثلاً: سَرَق، أو زنى، أو ظلم، أو قتل.. إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فأنت في حاجة إلى أن تتنبه في قراءتك لسير الرجال إلى الخير فتأخذه، وإلى الشر فتجتنبه، وإلى العبرة في سير هذا الصنف، وفي سير هذا الصنف من الناس. وأيضاً لا بد من التنبه إلى أمر آخر وهو أن كل خلق فاضل إنما يكون بين رذيلتين، فالتهور صفة ذميمة، والجبن صفة ذميمة، وبينهما الشجاعة صفة حميدة. والإسراف والتبذير صفة ذميمة، والتقتير والكنود والبخل صفة ذميمة، وبينهما الكرم صفة حميدة. وهكذا دواليك. وأنت إذا تأمّلت أخلاق الناس في ضوء هذا المعيار، لا تكاد تجد عندهم أخلاقاً حميدة تَسْلم من العيب إلا القليل؛ لأن ما فيهم أو في أحدهم من صفات وأخلاق حميدة تقترب من أحد هذين الطرفين المذمومين، ولا يكاد يسلم من هذا العيب إلا القليل من أخلاق القليل من الناس. ومعنى ذلك أنك في حاجة، وأنت تقرأ في سير الرجال أن تتنبّه لهذا الأمر، وأن تأخذ القدوة والأسوة في فضلائهم في ضوء الكتاب والسنة، وتردّ منهم ما تردّ بحكم الكتاب والسنة. لكن السيرة الكاملة، والسيرة التي اجتمع فيها من الخير والفضل ما تفرّق في الناس، والسيرة التي اشتملت على الخير الذي لا شرّ معه، والخُلُق الحميد الذي ليس معه خُلُقٌ مذموم، والسيرة التي اجتمع فيها كريم الأخلاق على أفضل درجاتها، فلم تنحرف لا إلى غلوّ ولا إلى تقصير، والسيرة التي تحقق فيها موطن القدوة والأسوة الحسنة فتتأسّى بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 كلها، وتَقْبلها كلها، ولا تستثني منها شيئاً ولا تردّ منها شيئاً، هذه السيرة التي اجتمع فيها كل هذا الخير هي سيرة واحدة، إنها سيرة رسول الله محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه. إنها سيرة نبي ورسول أرسله الله تعالى، واصطفاه، وربّاه وأدّبه فأحسن تأديبه، إنه ليس رسولاً من رسل الله فحسب، بل هو رسول ختم الله به الرسل، وهو أفضل رسل الله جميعاً، عليهم صلوات الله وسلامه. إن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي السيرة التي أُمرنا بالتأسي بها، إننا مأمورون بذلك ولا خيار لنا فيه، لأن الذي أمرنا هو ربنا تبارك وتعالى. وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والشريعة التي جاء بها هي الطريق الوحيد إلى رضوان الله تعالى وجناته جنات النعيم. وطريق رضوان الله، وطريق جنة الله مسدودان على من أرادهما عن غير طريق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يتحقق له رضوان الله ولا يفوز بجنة الله، ولا يَسْلم من عذاب الله إلا بالإيمان به وبرسوله محمد بن عبد الله عليه صلوات الله، والتزام طريقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 10- العدل مفهومه، وأثره في السلوك والأخلاق قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1.   1 35: الإسراء: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} 1 وما في معناهما من الآيات. إن من يستعرض آيات الكتاب العزيز في الأمر بإيفاء الكيل والميزان، ووعيدِ مَنْ يَظْلم الآخرين في الكيل والوزن يعلم أهمية هذا الخُلُق في هذا الدين!. بَيْدَ أن هنا فهماً غريباً مغلوطاً، حينما يتصور كثير من الناس اليوم أنه يتّبع هذا الدين -وربما بشيء من الحساسية- في الوفاء بالكيل والميزان في تعامله مع الآخرين، لكن إلى جانب ذلك ربما لا يَجِدُ حرجاً في الإخلال بهذا المعنى ذاته في مجال آخر هو مجال الحقوق الأخرى التي لا تكال ولا توزن!! إنها حقوق لا تكال ولا توزن ولكنها تُرى أو تُرى آثارها، وتَمَسُّ القلب والنفس والشعور والتصور!! وقد تكون تلك الآثار لهذا النوع من السلوك آثاراً مدمّرة للفرد والمجتمع!!. وما هذا النوع من الظلم في حقوق الآخرين إلا ثمرة طبيعية نكدة للأنانية والشح والأثرة والإفراط في حُبِّ الذات ونسيان الآخرين، حتى ولو كانوا أولي قُربى، أو ذوي حاجة ماسة، أو مسكنةٍ، وربما كانوا -إلى جانب ذلك- ذوي خُلُقٍ ودين وتُقىً هُمْ به أفضل عند الله ممن هم في حاجة إلى صدقته أو مساعدته. وإن الاستكبار –مثلاً- على الناس - في حين أنك لا ترضى منهم أن   1 17: الشورى: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 يتكبروا عليك - من التطفيف في الكيل والوزن في معاملة الناس. وإن عدم الاكتراث بحقوق إخوانك أو حقوق الناس عليك في حين أنك لا ترضى منهم هذا الخُلُق هو من التطفيف في الكيل والوزن. وإن إيذاء الآخرين بأي نوع من الأذى، في حين أنك لا ترضاه منهم، هو من قبيل التطفيف في الكيل والميزان. وإن ظُلْم الآخرين بأي نوعٍ من أنواع الظلم -وإن لم يكن فيما يكال ويوزن- هو من قبيل التطفيف في الكيل والوزن. وقد قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1؟!. نعم هؤلاء هم المطففون الذين ذمهم الله تعالى في كتابه وتوعدهم في هذه الآيات، وسميت السورة باسمهم!!. وما أعظم الجهل والظلم معاً حينما يتصور المرء أن العدل لا يكون إلا في الأشياء المحسوسة المكيلة والموزونة، وأما الحقوق المعنوية فالخطب فيها يسير!!. وكيف يُتَصوّر أنْ لا يُهِمّ الإنسانَ إلا حقوقه في أشيائه المحسوسة، أو أنّ هذه تُهِمُّه أكثر مما تُهِمُّه حقوقه المعنوية، بحيث يغضب أو يتألم أو يتضرر إذا بُخِسَ حقه في الكيل أو الوزن حينما يشتري شيئاً مكيلاً أو موزوناً، ولكن لا يَحْصُلُ له ذلك الغضب أو التألم أو الضرر إذا أُهين مثلاً أو استُكبِرَ عليه، أو هُجِرَ بغير حق، أو استبيح عِرْضه، أو أُخيف، أو شُتِم، أو تُكُلِّم في عِرْضه ... ؟!.   1 1 - 6: المطففين: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وكيف يَتَصوَّر المرء أن يَنهى الإسلام عن الظلم ويحرّمه في المكيل والموزون، وهي دنيا فانية، ولا ينهى أشدّ من ذلك عن بخس الناس حقوقهم المعنوية، ويحرّمه أشد من ذلك، في حين أن هذه الحقوق تتعلق بقلب الإنسان وضميره ونفسه وإنسانيته وإيمانه وآخرته؟!!. إن الذي نستفيده من نصوص تحريم الظلم في المكيل والموزون هو تحريم ظلم الناس في حقوقهم المعنوية تلك بطريقِ الأَوْلى وبدرجة أَشد، ولكنّ كثيراً من الناس عن آيات الله غافلون. لقد جعل الله لمعرفة الحق ميزانين1: أحدهما: محسوس، وهو الجِرْم الذي يُسَمَّى الميزان الذي يَتَوصَّل به التُّجار إلى معرفة الحقوق، وهو الذي يَفُضُّون به التنازع بينهم وبين المشتري منهم في الأشياء المكيلة والموزونة. والميزان الثاني: هو ميزان الضمير الإنساني وهو الفطرة التي أمدّها الله تعالى بميزان الكتاب أو ميزان الوحي. فلا بدّ من هذا الميزان وهذا الميزان لإيفاء الحقوق ... ومتى اختل أحد هذين الميزانين كان مانعاً من إيصال الحقوق لأصحابها. لكن الميزان الأهم هو ميزان الضمير والفطرة والإيمان، وبدونه قد لا ينفع شيئاً ذلك الميزان المحسوس، ومجال هذا الميزان الذي هو الضمير الحيّ والفطرة السليمة المهتدية بالوحي الإلهي أوسع وأهم ....   1 تنبّهتُ إلى هذه الفكرة من خلال الآية 25 في سورة الحديد وأمثالها بالاطّلاع على كلامٍ بشأن الفكرة لابن الوزير، رحمه الله، في كتابه: " إيثار الحق على الخَلق"، 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 11- البواعث الفردية والجماعية وأثرها في الأخلاق قد يتنازع الإنسان في أخلاقه وتصرفاته دافعان: الدافع الفردي الذي ينظر بمقتضاه إلى نفسه ومصالحها. والدافع الجماعي الذي ينظر بمقتضاه إلى أفراد مجتمعه ومصالحهم. والإسلام لا يُبطل الدافع الفردي في الأخلاق ولا يسقطه على الإطلاق، بل يُكلِّف المسلم بأن ينظر في حق نفسه ومصالحها، ولكن على أن يكون ذلك ضمن ضوابط معيّنة يفرضها عليه وهو يقوم بهذا الواجب تجاه نفسه، ومن أهم هذه الضوابط أن لا يُغفله ذلك عن حقوق المجتمع الذي يعيش فيه. فلا بدّ إذن من التوازن في الاهتمام النفسيّ وفي النشاط السلوكيّ لدى المسلم؛ لئلا يكون أنانياً مُفْرطاً في حب نفسه، والاهتمام بها، جُلُّ هَمِّه البحث عن حقوقه في ذلك المجتمع، أو البحث عمّا له، وما ليس له من ذلك، ناسياً الواجبات التي عليه لمجتمعه. حقاً إنّ قدراً زائداً من الاهتمام بالذات يُعدّ أنانيةً قاتلة للفرد والمجتمع. وإنّ قدراً معيَّناً من الاهتمام بالآخرين، لا بدّ منه للإنسان؛ ليباعِدَ بينه وبين تلك الأنانية الظالمة التي بها تموت، أو تُقتل، كثير من المجتمعات على أيدي الظالمين والمنحرفين في سبيل تحقيق مآربهم الشخصية الغريبة. ولخطورة الأنانية المفرطة على المجتمع فإن الإسلام يَسُدّ الطريق إليها على الإنسان المسلم الذي يسير وفق هَدْي الله تعالى، وذلك بالتربية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الأخلاقية الإيمانية. ثم يحول الإسلام بين الفرد وبين هذه الأنانية بالتشريع الذي شرعه والتعليمات التي ألزم بها المسلم. وفي النهاية بالحدود والعقوبات التي سنها للأخذ على أيدي الظالمين. إن الإسلام بمنهجه التربوي السليم يوجد الفرد الذي يقوم بهذا الواجب دون حاجة إلى الردع والعقوبة إلا في حالات قليلة. لأنه يوجد الضمير الحيّ الذي لا يرضى من نفسه إلا العدل والإنصاف إن لم يكن التضحية والإيثار وذلك عن طريق الإيمان بالله تعالى الذي دعا إليه الإسلام وجعل الأخلاق الفاضلة فروعه وثماره الطبيعية الطيبة دون الحاجة إلى العقوبات الزاجرة إلا في حالات قليلة تخرج عن الأصل الذي يكون عليه أفراد المجتمع المسلم بمقتضى ذلك الإيمان. إن الإسلام إذا أوجب على المسلم واجباً فإنه يدعوه إليه باسم الإيمان أولاً وليس بالعقوبة وإقامة الحدّ. وقد جعل الإسلام الأخلاق الفاضلة من أهم واجبات المسلم في هذه الحياة. إن لنا أن نتصور خطر أنانية الأخلاق بأن نتخيل مجتمعاً ما كل فرد من أفراده لا يهمه سوى مصلحته الشخصية ولا يريد أن يتحقق له سواها، كيف يكون حال ذلك المجتمع وهل يمكن أن يبقى على وجه الأرض؟!. وقد تتجاوز الأنانية حدود الفرد إلى شعب بأكمله، فتصبح أنانية شعب ضد شعب أو شعوب، وينتج عن ذلك حروب واضطهادات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ومظالم لا تليق ببني آدم. وما كثير من هذه الحروب الطاحنة التي يشهدها العالم على مرّ العصور إلا ثمرة نكدة من ثمرات الأنانية الجائرة الصادرة عن أفراد أو شعوب. واستغلال الشعوب المسمى بالاستعمار صورة بشعة من صور الأنانية المتوحشة. وما استعمال الفيتو الذي يسمى "حق الفيتو" الذي تستعمله وحوش العصر الحديث الكاسرة من الدول الغربية والشرقية الكبيرة ضد الدول الضعيفة في تقرير مصيرها أو المطالبة بحقوقها، ليس ذلك كله إلا صورةٌ جِدُّ ممقوتة لأنانية شعب ضد شعب أو شعوب، وفرد ضد فرد أو أفراد في مجتمعات تنتسب إلى التحضر. إن تلك الشعوب الضعيفة أو الأقل قوة في حاجة إلى مساعدة تلك الدول والشعوب لتصل إلى حقوقها المشروعة، فإن لم تفعل هذا فعلى الأقل عليها أن لا تظلمها. إن معنى الحضارة يصطرع مع ما يسمى بحق الفيتو ومع استغلال شعب بأكمله فلا يَحْكُم العقل عند ذلك بأي معنى من معاني الحضارة لمجتمع يحصل فيه شيء من هذه الانحرافات المغرقة في الجهل والظلم والوحشية ... ولا يحكم العقل عند ذلك أيضاً بشيء من محاسن الأخلاق لذلك المجتمع إلا بما يحكم به لمن استولى على شخص -ظالماً له- وقهره وسجنه ثم هو إذا جاع أطعمه وإذا مرض عالجه!! فأي قدر من الإحسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 والرحمة يبقي له بعد ذلك؟!!. وقد يتساءل المرء في هذا الأمر عن حدود هذه الدوافع الفردية في الأخلاق وتلك الدوافع الجماعية في الأخلاق ولا سيما أن المسلم مطالب بأن ينظر لهذه وتلك وقد يتنازعه الأمران ويختلط عليه الواجبان. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لربك عليك حقاً وإن لنفسك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه" 1. والجواب أن للتمييز بين الدافع الفردي المذموم والدافع الفردي المشروع وبين الدافع الجماعي المذموم والدافع الجماعي المحمود قاعدةً يستطيع الفرد نفسه أن يُفرّق بها بين هذا وهذا، ألا وهي أن لا ينسى -عندما يهتم بمصالح نفسه - مصالح الجماعة فضلاً عن أن يضر بمصالح الجماعة وهو يسعى في تحقيق مصالح نفسه. فإذنْ كل دافع فردي لسلوك يقوم به الإنسان تجاه مصالحه يرافقه نسيان أو تجاهل لمصالح المجتمع الذي يعيش فيه فهو دافع أخلاقي مذموم ومن ثم فإنه غير مشروع "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه" 2. أو كل دافع فردي لسلوك يقوم به الإنسان تجاه مصالحه يترتب عليه إضرار بمصالح المجتمع أو فرد آخر من أفراده فهو دافع أخلاقي مذموم ومن ثم فإنه غير مشروع.   1 أخرجه البخاري، برقم1974 و4975 و5199 و6134 نسخة الفتح. 2 متفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه في الحاشية رقم 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى، المؤمنون كرجلٍ واحدٍ، إن اشتكى رأسُه تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر"1. وليس من لازم هذه القاعدة أن لا يسعى الإنسان في تحصيل مصالحه الخاصة به إلا إذا كانت مشتركة بينه والجماعة فقد ألزم الإسلام الفرد واجبات نحو نفسه لا بد أن يقوم بها. كما أنه لا يجوز للفرد أن يهتم بنفسه فقط وينسى الآخرين. يقول الإمام ابن حزم: "حَدُّ الاعتدال، أن تُعْطيَ مِن نفْسِك الواجب وتأخذه. وحَدُّ الجَور أنْ تأخذَهُ ولا تُعطيه! " 2. إذن على الفرد المسلم أن يقوم بحقوق نفسه وبحقوق مجتمعه وِفَاق ما شرعه الله تعالى في هذا الدين العظيم. إنه - بحكم ذلك - يؤدي الواجبات عليه نحو نفسه في كثير من   1 مسلمٌ، البر والصلة، ح66،2586 بألفاظ، منها: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى، المؤمنون كرجلٍ واحدٍ، إن اشتكى رأسُه تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر"، "المسلمون كرجلٍ واحدٍ إن اشتكى عينُه اشتكى كله وإن اشتكى رأسُه اشتكى كله"، وأخرج البخاريّ بعض هذه الألفاظ. ولك أن تُقَدِّر مدى قُربنا أو بُعدنا نحن المسلمين اليوم من هذه الصورة المُفترَضة شرعاً!! ولا تكتفِ بالتأوه والحزن، وإنما خُذْ نفسك بخطوة أو خطوات إلى الاقتراب من هذه الصورة المشرقة التي يفرضها علينا الخالق سبحانه. 2 "الأخلاق والسّيَر..": 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الأحيان على أنها واجبات عليه تجاه نفسه لا أنها حقوق له، مثلما يؤدي تلك الحقوق التي عليه للمجتمع والتي هي في أقل الأحوال أن لا يضر بالمجتمع ولا يؤذيه. ليس الأمر إذن على ما عليه الشيوعية التي تسحق الفرد بحجة حق المجتمع، وليس على ما عليه الرأسمالية التي تسحق المجتمع بحجة حق الفرد. والفرد في هذه الحال عضو فعّال في بناء المجتمع باهتمامه بالمجتمع وبأفراده وينتج عن هذا أن يكون الفرد جزءاً من المجتمع له حقوقه داخل المجتمع. إلا أنه في حال تعارض مصلحة الفرد مع مصلحة المجتمع، أو بعبارة أخرى: في حال تعارض المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة فإن الإسلام يرجح المصلحة العامة أو يُسقط المصلحة الخاصة. ولهذا نجد في الإسلام ما يسمى بفرض الكفاية الذي يأثم مجموع الأمة إذا لم يقم به أحد أفرادها، وإذا قام به البعض فإن الإثم يسقط عن الأمة وإذا تأهّل أحد للقيام بهذا الفرض أو الواجب تَعَيّن عليه. ويترجح القيام بالطاعات التي تتعدى مصلحتها -في الدنيا والآخرة-الفرد إلى غيره من أفراد مجتمعه، والثواب في ذلك أكثر منه فيما يقوم به الإنسان من طاعات يقتصر نفعها عليه، كأن يكون الأمر موازنة بين أمرين: إما أن يصلي نوافل مطلقة أو أن يعلّم الناس ويدعوهم إلى الله تعالى، فلا شك في أن اشتغاله بتزكية الآخرين -وفي ذلك تزكية لنفسه- أهم وأولى من أن يشتغل بتزكية نفسه فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 المبحث الثالث: نظرات حول مجالات الأخلاق 1- _25 d8_25b9_25d9_2588_25d9_2591_25d8_25af_25d9_2592 _25d9_2586_25d9_2581_25d8_25b3_25d9_2583 _25d80f466a20ae ... 1- عوّدْ نفسك رعاية المصلحة العامة ومصالح الآخرين اجتهد أن تُعَوِّدَ نفسك دائماً أن تعمل ما في طريقك، مما في وُسْعِك، من المصالح العامّة لمصلحة مجتمعك الصغير كالأسرة والرفقة في السفر والرحلة وزملاء الدراسة والعمل، أو لمصلحة مجتمعك الكبير كأهل حيّك وأهل مدينتك أو بلدك، أو لمصلحة أُمّتك. واحذر أن تكون اتكالياً في هذا الأمر فتترك كل شيء من هذا القبيل على غيرك، وتنتظر من أفراد مجتمعك الصغير أو الكبير أو الأُمّة أن يعملوا ما لم تعمله أنت وأن لا يقصّروا في ما قصّرت أنت فيه! بل قم أنت بواجبك، وحاسب نفسك عليه قَبْلَ أن تحاسب الآخرين، وعوّدْ نفسك هذا الخُلُقَ، وادعُ الآخرين للقيام بواجبهم، ولكن لا تجعل ذلك شرطاً لأداء واجبك!. ولا تحتقرْ في هذا المجال شيئاً من الأعمال الصغيرة، سواء كانت نصيحة، أو أذى تميطه عن الطريق، أو منكراً تسعى في إزالته بالأسلوب الحكيم المناسب، أو رأياً ناصحاً أو فكرة نافعة أو مشروعاً، أو جزءاً من نظافة المكان الذي تعيش فيه، أو ترتيبه، أو خدمة تقوم بها، أو أي شيء نحو هذا مما تستطيع القيام به وتَعُودُ عائدته الحسنة على غيرك أكثر مما تعود عليك، أو عليك وعلى الآخرين. واجتهد أن تعوّد نفسك القيام بمثل هذه الأعمال ليس طلباً للشهرة ولا ثناء الناس ولا مكافأتهم لك، وإنما إلزاماً لنفسك بفضيلة الخُلُقِ، وطلباً للأجر من الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 2- العلم والعناية به من مساوئ الأخلاق في صفات الإنسان أن تراه قليل العناية بالعلم؛ وتراه يعتني بأمور دنياه وحاجاته المادية، وينسى العلم؛ مع أن العلم من أخص خصائص الإنسان وهو والإيمان بالله والعمل الصالح أهم ما يتميز به، فإذا افتقد صفة العلم وصفة العناية بتحصيله فقد رجع إلى أي مخلوق آخر غير الإنسان وإن بقيتْ صورته كما هي!!. ومن الصفات السيئة في شخصٍ ما أن تراه يستسهل كل صعب إلا طلب العلم الذي تتوقف عليه سعادته، وتتحقق به إنسانيته!!. إن الواجب أن يكون للرجل والمرأة والكبير والصغير برنامج ثابت يطلب فيه العلم لا يَعْذر فيه أحدُهم نفسَه. ومما يؤسف له أن ترى من يعيش حياته كلها عامّيّاً، وحروف الهجاء تسعة وعشرون حرفاً -على رأيٍ- يكفيه لتعلّمه كل حرف منها مثلاً يوم واحدٌ، وقد عاش عشرات السنين يعاني من أُمّيته وجهله!! وفي هذا الصنف من الناس عباقرة لو تعلّموا!!. وهكذا ينبغي أن تُدْرك أن الجهل -بمختلف أنواعه- تستطيع أن تقضي عليه بالتقسيط، ولكن إذا اقتنعت وبذلت الجهد وحرصت!!. يجب أن تقرأ المفيد دائماً، وأن تَدْرس، وأن تتعلم!!. ومن أشد ما يؤخذ على المسلم أن لا يهتم بكتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اللذين هما رسالة الله إليه، ولكنه يهملهما، فلا يقرؤهما، ولا يصرف شيئاً مناسباً من حياته في تدبرهما والعمل بهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 3- الغفلة عن أمر الإيمان والآخرة خُلقٌ سيّئٌ إن من أعظم ما يصاب به الإنسان من مساوئ الأخلاق أن يشتغل بأمر دنياه وينسى آخرته وشأن الإيمان بالله ومتطلباته!!. وهذا قصور في النظر، وداء خطير يودي بسعادة الإنسان، وقد ينقله عن إنسانيته. وقد قال القائل: أبنيَّ إن من الرجال بهيمة ... في صورة الرجل السميع المبصرِ فَطِنٌ بكل مصيبة في ماله ... وإذا أُصيبَ في دينه لم يَشْعُرِ!! فلا تَخْتَلَّ نظرتك إلى هذا الحدّ الذي تُدْرك فيه أهمية أمور دنياك وتذهل عن آخرتك وإيمانك وواجباته!!. ولا شك في أن من تكون الدنيا همّه يتسلّط عليه عدد كبير من مساوئ الأخلاق التي يجرّ بعضها بعضاً، أما من يكون الإيمان والآخرة همه فإنه يَجتمع فيه -بحكم هذه الصفة- عدد من الأخلاق الحميدة التي يجرّ بعضها بعضاً أيضاً؛ فالحسنة تطلبُ أُختَها، وكذلك السيئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 4- صلة الرحم صلة الرَّحِمِ ليست نافلة في حياة المسلم بل هي فرضٌ لازم، قد أوجبه الله تعالى عليه، على اختلاف درجات حقوق الأرحام باختلاف درجات قرابتهم واختلاف أحوالهم. وصلة الرحم تُبارِكُ العمر وتزكّيه، وقطيعة الرحم تُلَطِّخُ حياة الإنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 بالعار وسخط الجبّار وتهوي بصاحبها إلى النار!! قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} 1!!. عياذاً بالله تعالى من معصية هذه عقوبتها!! أرأيت يا أخي كيف جمع الله لقاطع الرحم هذه العقوبات الشنيعة؟! 1- لعنهم الله. 2- فأصمهم. 3- وأعمى أبصارهم. وماذا بعد لَعْن الله له؟! وماذا بعد الصمم؟! وماذا بعد عمى الأبصار؟!. إن هذه المعصية لم يأذن الله بها شرعاً، شأنها شأن غيرها من المعاصي. إن هذه المعصية يَسْخط الله على صاحبها ويلعنه ويطرده من رحمته، لأن صاحبها حَرَمَ رحمته مَنْ أوجب الله عليه أن يرحمهم من ذوي رحمه، ويقطعه الله لأنه قَطَع الرحم التي حرّم الله عليه أن يقطعها وأوجب عليه أن يصلها. إن هذه المعصية من عقوبتها أن يُحْرم صاحبها الهدى والاستضاءة بالحق، ويُحْرم نعمة إصابة الحق ومعرفته واتّباعه، ألم تر أن الله أخبر في كتابه أنه يُصِمُّ قاطع الرحم ويعمي بصره؟! ألا تعلم أن السمع والبصر هما الوسيلة التي يتصل بوساطتها الإنسان بالآخرين؟! ألا تَعْلم أن السمع والبصر هما الوسيلة الوحيدة لمعرفة الحق والهدى والنور فمن فَقَدَ سمعه وبصره لا يستطيع بعد ذلك أن يتلقى شيئاً من الهدى والعلم والمعرفة؟!   1 22 - 23: محمد: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وهذا يبيّن لنا خطورة هذه المعصية. ويبين لنا أن هذه المعصية من جملة المعاصي التي يُعاقَبُ صاحبُها بالصرف عن الحق وعن المعرفة والهدى. إن هذا كله يؤكد أن صلة الرحم ليست حقاً للموصول فقط بل هي حقٌ للواصل أيضاً كما أنها حق واجب عليه؛ لأنه متضرر إن لم يفعل، ومنتفع إن فعل حيث تعود عليه صلة الرحم بعواقب الفعل الجميل في الدنيا وفي الآخرة وعند الناس وعند الله. وصلة الرحم لله طاعة لا تتجزأ فمن يقدّر صلة الرحم لله حق قدرها فإنه لا يخصّ بها أحداً دون أحد، كما يفعله بعض الناس اليوم، فيصلون رحماً ويقطعون أخرى، كما أن من كان رحيماً تراه رحيماً بكل من يستحق الرحمة شرعاً دون أن يخص أحداً من مستحقيها ويترك الباقين، أو لا يرحم بعض الناس ويقسو على آخرين، وإلا لكانت تلك الرحمة كرحمة بعض الوحوش بأولادها إلى جانب افتراسها ما سواهم!!. إن الرحمة لا تخص أحداً من مستحقيها، وهكذا صلة الرحم يجب أن تكون، وإلا لكانت صلة البهائم ببعضها. والصلة أنواع: فهي تكون بالمال، وتكون بالجاه، وتكون بالنصيحة والرأي والمشورة، وبالعمل البدني، وبالزيارة، وبالدعاء، وبالشكر، وبالثناء. ومن الخطأ الفادح أن يُظَن أنها نوع واحد كالمال مثلاً. وعلى المرء أن يأخذ بهذه الأنواع كلها ويضع كلاً منها في موضعه المناسب حسب حال رَحِمِه وحسب قدرته. ورُبّ مستغن عن المال وهو في أشد الحاجة إلى الرأي أو النصيحة أو المساعدة البدنية. ورُبّ عاجز عن بذل المال ولكنه قادر على الرأي والنصيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وصلة الرحم ليست عملاً يعمله الإنسان مكافأةً أو ينتظر جزاءه من الموصول في الدنيا، كلاّ بل هو عملٌ لله يبذله لكل مَنْ يستحقه شرعاً. وتقديم الأَوْلى فالأَوْلى في حقوق الأرحام أمرٌ مطلوب من الإنسان عند تزاحم الحقوق، مراعياً في هذا الترتيب درجات الحقوق حسب القرابة، وحسب شدة الحاجة أيضاً، وحسب أحوال الأرحام. وهذا الخُلُق يحتاج إلى تربية فينبغي أن يُعْنى به المربون. وهذا الخلق يحتاج إلى تَدَرُّبٍ ومران فينبغي أن يُعْنى به المؤمنون المتقون الطامعون في ثواب الله ورضاه الخائفون من عذاب الله وسخطه. وهذا الخلق يحتاج اكتسابه إلى أن يحاسِبَ المرء نفسَهُ عليه وعلى الأخذ به حتى يصبح خُلُقاً وطبعاً له. وإن من نِعَم الله علينا أَنْ لم يجعل الصلة مالاً فقط وإنما هي بجميع الأنواع السابق ذكْرها، بل لا تكون في كثيرٍ من الأحيان سوى خُلُقٍ فاضل وأعمالٍ يسيرة. وإن من نِعَم الله علينا أنْ أوصانا بذوي رحمنا وأوصى ذوي رحمنا بنا ولم يترك علاقتنا هذه لمروءتنا أو مصالحنا أو أمزجتنا أو تقديرنا لحقوق قراباتنا كما هو الحال بالنسبة للبهائم!! وكم هو مؤثّر في النفس مثل قول الله سبحانه في كتابه الكريم: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 1. فينبغي أن تتذكر هذا يا أخي!   1 11: النساء: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وأن تتذكر الآيتين السابقتين في بداية هذا الموضوع وما اشتملتا عليه من عقوبات للقاطع رَحِمَهُ. وأن تتذكر مثل ما رواه أبو هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله خَلَق الخَلْقَ، حتى إذا فَرَغ مِن خَلْقه قالت الرَّحِمُ هذا مقام العائذ بكَ من القطيعة. قال: نَعَم، أمَا تَرْضين أنْ أَصِلَ مَن وَصَلَكِ وأقْطَع مَن قطعَكِ؟ قالت: بلى ياربِّ. قال: فهو لكِ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاقرءُوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} " 1. وأن تتذكر أن قطْع الرحم يتنوّع كتنوّع صلتها فيُقابِل كل نوع من أنواع الصلة نوع من أنواع القطيعة سواء بسواء. فللجنة طريق وللنار طريق ولرضا الله طريق ولسخطه طريق. نسأل الله السداد والتوفيق.   1 أخرجه البخاري، 78 - الأدب، برقم 5987 نسخة الفتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 5- أخلاق الداعية أيها الأخ الداعية إلى الله تعالى إن من أجلّ نعم الله عليك وأعظمها أَنْ جعلك من الدعاة إليه الناصحين لعباده، وربما جعلك الله سبباً لدخول كثير من عباد الله الجنة دار السلام، ولكن عليك أن تفكّر كثيراً وأن تحاسب نفسك طويلاً وتقول لها: أخاف أن أكون قد دللت غيري على الجنة ولم أدخلها!!. وربما جعلك الله سبباً لحصول كثير من عباده على رضاه، ولكن عليك أن تحاسب نفسك طويلاً وتقول لها: أخاف أن أكون قد هديت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 غيري إلى رضى الله ولم أَنَلْه!!. ولربما تكون قد دعوت غيرك إلى العلم وقصّرت في تحصيله، فعليك أن تذكّر نفسك بذلك!. وهكذا دواليك، حاسب نفسك اليوم قبل أن يحاسبك الله غداً، أو يعاجل بك العقوبة في الدنيا قبل الآخرة جزاء ذنب أو تقصير شَغَلك عن رؤيته حسنة أو حسنات نسيت بها سيئاتك والله يتولى الصالحين!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 6- الفضولية عيبٌ وقلة حياء!! مما يُبْتلى به بعض الناس من الأمراض في أخلاقهم صفة الفضولية وحب الاستطلاع المفرط في غير موضعه المناسب شرعاً وعقلاً وذوقاً!!. فترى من يتصف بهذا الخلق ينشغل بغير ما يعنيه من أمور الناس: ما شأن فلان، وماذا مع فلان؟ وماذا يملك فلان؟ وماذا يصنع فلان؟ وأين ذهب فلان؟ ولماذا ما عمل فلان كذا؟.. إلخ قائمة الفضولية!!. إن الإنسان الفضولي ناقص العقل والمروءة والذوق، ولا يحسب للحياء حساباً؛ لذلك يصنع في هذا المجال ما يشاء، لأن الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت" 1. وهذا الخلق السيئ يقود صاحبه إلى مجموعة أخلاقٍ سيئة مثل الغيبة والنميمة وكثرة القيل والقال، وإضاعة الأوقات، والحسد والبغضاء والحقد، إلى آخر هذه القائمة!!.   1 البخاري، الأدب، المختَصَر: ص471، ح2044. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ويترتب على هذا الخلق أيضاً كثير من المفاسد، وضياع كثير من المصالح!! وكم أفسد هذا الخُلُق حياة الإنسان وكم أضر بالمجتمعات!! فهل أيقنت أيها الإنسان بمسؤوليتك تجاه تربية نفسك على الابتعاد عن الفضولية والإفراط في صفة حب الاستطلاع الذي يكون على حساب الخلق والدين؟! عوّد نفسك على أن لا تسأل عمّا لا يعنيك وعلى أن لا تتطلع إلى ما لا يهمك، وتذكّر قوله صلى الله عليه وسلم: "من حُسْنِ إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 7- تعوّدْ أن تعيش لغيرك كما تعيش لنفسك تعوّدْ أن لا تعيش لنفسك فقط، وإنما تُفَكِّرُ في غيرك، وتعمل شيئاً من أجل غيرك، وتضحي بشيء من مصالحك لمصالح غيرك، فإذا تذكرت أن لك حاجات فتذكّرْ أيضاً أن لغيرك حاجات، وإذا أحسست بأن لك مشاعر فتذكرْ أيضاً أن لسواك من الناس مشاعر، ولا تكن كالحجر عديم الإحساس والشعور بآلام الناس من حولك وآمالهم، ولعل هذا الخلق الطيب في الإنسان من أهم الفوارق بينه وبين المخلوقات الأخرى في تعامله مع الناس ومخالطته لهم. ألا تعلم أن من أهم معاني مكارم الأخلاق هو أن يتعوّد الإنسان الاتصاف بصفات الكرم والإيثار والتضحية، وأن من تطبيقات هذه الصفات أن تعتاد ترْك أشياء من أجل الله، وتعمل أشياء من أجل الله، وتكون بذلك أكثر سروراً من تحقيق بعض ما فاتك بسببها من مصالحك الشخصية القريبة في هذه الدار الفانية؟!. وتذكّر أن إيمانك لا يَكْمُلُ إلا بهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يحب لنفسه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 المبحث الرابع: أقوالٌ وآراء رائقة في النُّصْح للإمام ابن حزم توطئة ... توطئة: للإمام أبي محمد، ابن حزم أقوالٌ وآراء رائقة في مجال النُّصْح وأساليبه الأخلاقية الشرعية، قد ذكرها، منثورةً غير مُرتّبة، في كتابه: الأخلاق والسير في مداواة النفوس 1. ولِما لتلك الأقوال والآراء مِن أهمية في باب الأخلاق وطُرُق التعامل مع الآخرين تعاملاً حسناً، على وجازتها، جاء الاختيار لِتَتَبُّعِها وجمْعها ونقْلها هنا -بعد إصلاح الأخطاء الطباعية الواقعة في النسخة المطبوعة، ووضْعِ عناوين لها المرجوّ أن تكون مناسِبة-.   1 وهو كتابٌ جِدُّ مهمّ في الأخلاق، واسمٌ مطابِقٌ لمعناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 1- حكم نصيحة الناصح إذا لم يتمثلها: "فُرِضَ على الناس تَعَلُّمُ الخير والعمل به، فمن جمع الأمرين فقد استوفى الفضيلتين معاً، ومَنْ عَلِمَهُ ولم يَعْمل به فقد أحسن في التعليم، وأساء في ترْك العمل به، فخَلَط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وهو خيرٌ من آخَرَ لم يَعْلَمْهُ ولم يَعْمَلْ به، وهذا -الذي لا خير فيه- أَمْثَلُ حالاً، وأقل ذمّاً من آخر ينهى عن تَعَلُّمِ الخير، ويَصدُّ عنه. ولو لم ينه عن الشر إلا من ليس فيه منه شيء، ولا أمر بالخير إلا مَنْ استوعبه، لما نهى أحدٌ عن شر، ولا أمر بخير بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وحَسْبُكَ بمن أدّى رأيه إلى هذا فساداً وسوء طبع وذمِّ حال. وبالله التوفيق. قال أبو محمد -رضي الله عنه- فاعترض هاهنا إنسان فقال: كان الحسن- رضي الله عنه- إذا نهى عن شيء لا يأتيه أصلاً، وإذا أَمر بشيء كان شديد الأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 به، وهكذا تكون الحكمة، وقد قيل: أقبح شيء في العالم أن يأمر بشيء ولا يأخذ به نفسه، أو ينهى عن شيء يستعمله. قال أبو محمد: كَذَبَ قائل هذا، وأقبحُ منه من لم يأمر بخير، ولا نهى عن شر، وهو مع ذلك يعمل الشر ولا يعمل الخير. قال أبو محمد: وقد قال أبو الأسود الدُّؤلي: لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم وابدأ بنفسك فانهها عن غيّها ... فإذا انتهتْ عنه فأنت حكيم فهناك يُقْبَلُ إن وعظتَ ويُقْتدى ... بالعلم منك وينفع التعليم قال أبو محمد: إن أبا الأسود إنما قَصَدَ بالإنكار المجيء بما نَهَى عنه المرء، وأنه يتضاعف قبْحه منه مع نهيه عنه، فقد أحسن، كما قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} 1، ولا يُظن بأبي الأسود إلا هذا. وأما أن يكون نهى عن النهي عن خُلُقٍ مذموم، فنحن نعيذه بالله من هذا، فهو فعْل من لا خير فيه، وقد صح عن الحسن أنه سمع إنساناً يقول: لا يجب أن ينهى عن الشر إلا من لا يفعله. فقال الحسن: وَدَّ إبليس لو ظفر منَّا بهذه حتى لا ينهى أحدٌ عن منكر، ولا يأمر بمعروف. وقال أبو محمد: صَدَقَ الحسن، وهو قولنا آنفاً، جَعَلَنا ممن يوفَّق لفعل الخير والعمل به وممن يبصر رُشْدَ نفسه، فما أحدٌ إلا له عيوب، إذا نظرها شغلته عن   1 44: البقرة: 2. وتمام الآية: {وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 غيره، وتوفّانا على سنة محمد صلى الله عليه وسلم، آمين يا رب العالمين 1.   1 الأخلاق والسير في مداواة النفوس: 92 - 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 2- لا تنصحْ على شرط القبول: "لا تنصح على شرط القبول، ولا تشفع على شرط الإجابة، ولا تَهَبْ على شرط الإثابة، لكن على سبيل استعمال الفضل، وتأديةِ ما عليك من النصيحة والشفاعة، وبذْل المعروف" 2.   2 الأخلاق والسير ... : 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 3- الصداقة والنصح: " ... وليس كل صديق ناصحاً، لكن كل ناصح صديق فيما نصح فيه. وحدُّ النصيحة هو أن يسوء المرءَ ما ضرّ الآخر، ساء ذلك الآخر أو لم يسؤه، وأن يسرّه ما نفعه، سَرَّ ذلك الآخر أو ساءه، فهذا شرط في النصيحة زائد على شروط الصداقة" 3. "استبقاك من عاتبك، وزَهِدَ فيك من استهان بسيئاتك، العتاب للصديق كالسبْكِ للسبيكة، فإما تصفو وإما تَطِيرُ" 4.   3 الأخلاق والسير ... : 41. 4 "الأخلاق والسير ... " 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 4- بعض الجوانب السلبية لأنماط من النصيحة: بعض أنواع النصيحة يُشْكل تمييزه من النميمة، لأن من سمع إنساناً يذم آخر ظالماً له، أو يكيده5 ظالماً له، فكتم ذلك عن المقول فيه   5 في المطبوع: " بكيده" وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 والمكيد كان الكاتم لذلك ظالماً مذموماً. ثم إن أعلمه بذلك على وجهه كان ربما قد ولّد على الذامّ والكائد ما لم يبلغه استحقاقه بعدُ من الأذى، فيكون ظالماً له، وليس من الحق أن يقتص من الظالم بأكثر من قَدْرِ ظلمه، فالتخلص من هذا الباب صعبٌ إلا على ذوي العقول. والرأي للعاقل في مثل هذا، أن يحفظ المقول فيه من القائل فقط، دون أن يُبَلِّغه ما قال؛ لئلا يقع في الاسترسال الزائد فيهلك. وأما في الكيد فالواجب أن يحفظه من الوجه الذي يُكاد منه بألطف ما يقدر في الكتمان على الكائد، وأبلغ ما يقدر في تحفيظ المكيد، ولا يزد على هذا شيئاً. وأما النميمة فهي التبليغ لما سمع مما لا ضرر فيه على المبلّغ إليه، وبالله التوفيق" 1.   1 "الأخلاق والسير ... " 43-44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 5- تكرار النصيحة والصفات المطلوبة في النصيحة: النصيحة مرتان: فالأولى فرضٌ وديانة، والثانية: تنبيه وتذكير، وأما الثالثة فتوبيخ وتقريع، وليس وراء ذلك إلا التركّل واللطام، اللهم إلا في معاني الديانة، فواجب على المرء ترداد2 النصح فيها رَضِيَ المنصوحُ أو سخط، تأذّى الناصح بذلك أو لم يتأذ. وإذا نصحت فانصح سراً لا جهراً، وبتعريض لا تصريح، إلا أن لا يفهم المنصوح تعريضك، فلا بدّ من التصريح. ولا تنصح على شرط القبول منك.   2 في المطبوع: "تزداد" وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فإن تعديت هذه الوجوه فأنت ظالم لا ناصح، وطالب طاعة وملك لا مؤدي حق أمانة وأُخوّة، وليس هذا حُكْم العقل، ولا حُكْم الصداقة، لكن حُكْم الأمير مع رعيته، والسيد مع عبيده 1!!. ... إذا نصحتَ ففي الخلاء وبكلام ليّنٍ، ولا تُسْند سبّ مَنْ تحدّثه إلى غيرك فتكون نمّاماً، فإن خشّنت كلامك في النصيحة فذلك إغراء وتنفير، وقد قال الله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً ... } 2 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُنفّروا". وإن نصحتَ بشرط القبول فأنت ظالم، ولعلك مخطئ في وجْهِ نُصْحك، فتكون مطالِباً بقبول خطئك وبترك الصواب 3!!.   1 الأخلاق والسير ... :44. 2 44: طه: 20. 3 الأخلاق والسير ... :. 48 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 6- بين إغضاب الخالق وإغضاب المخلوق: إن لم يكن بدٌّ من إغضاب الناس، أو إغضاب الله -عز وجل- ولم يكن لك مندوحة عن منافرة الخَلْق أو منافرة الحق، فأغضبْ الناس ونافرهم، ولا تُغْضِبْ ربك ولا تُنافر الحق 4.   4 الأخلاق والسير ... : 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 7- الهدي المطلوب في النصيحة: الاتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم في وعْظ أهل الجهل والمعاصي والرذائل واجب، فمن وَعَظَ بالجفاء والاكفهرار فقد أخطأ، وتعدّى طريقته صلى الله عليه وسلم، وصار في أكثر الأمر مُغْرياً للموعوظ بالتمادي على أمره -لجاجاً وحَرداً ومغايظةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 للواعظ الجافي- فيكون في وعْظه مسيئاً لا محسناً. ومن وَعَظَ ببشرٍ وتبسمٍ ولين وكأنه مشير برأي، ومخبر عن غير الموعوظ بما يستقبح1 من الموعوظ، فذلك أبلغ وأنجع في الموعظة، فإن لم يتقبل فلينتقل إلى الموعظة بالتحشيم وفي الخلاء، فإن لم يقبل ففي حضرة من يستحيي منه الموعوظ، فهذا أدبُ الله في أمْره بالقول واللين. وكان صلى الله عليه وسلم لا يواجِهُ بالموعظة2 لكن كان يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا، وقد أثنى -عليه الصلاة والسلام- على الرفق، وأَمَرَ بالتيسير، ونهى عن التنفير، وكان يتخوّل بالموعظة خوف الملل، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} 3. وأما الغلظة والشدة، فإنما تجب في حدّ من حدود الله تعالى، فلا لين في ذلك للقادر على إقامة الحدّ خاصة. ومما ينجع في الوعظ أيضاً الثناء بحضرة المسيء على من فَعَلَ خلاف فِعْله، فهذا داعية إلى عمل الخير، وما أعلم لحبّ المدح فضلاً إلا هذا وحده، وهو أن يَقْتدي به من يسمع الثناء، ولهذا يجب أن تؤرّخ الفضائل والرذائل، لينفر سامعها عن القبيح المأثور عن غيره، ويَرْغَبَ في الحسن   1 في المطبوع: "يستفتح" وهو خطأ. 2 لو قال - رحمه الله: "كان لا يواجه بالموعظة دائماً" لكان هذا صواباً، أمّا أنه مطلقاً لا يواجِهُ بالموعظة فهذا غير صحيح، بل كان صلى الله عليه وسلم على ما تقضي به الحكمة من المواجهة بالنصيحة أو عدمها، وثبوت أنه كان يقول: "ما بال أقوام ... " ليس ثبوتاً لالتزامها دائماً، وليس نفياً لثبوت غيرها. 3 159: آل عمران: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 المنقول عمن تقدّمه، ويتعظ بما سلف 1.   1 الأخلاق والسير ... : 62-63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 8- ظاهرة التأثر والتأثير بين الأحياء والأشياء: تأملت كلَّ ما دون السماء، وطالت فيه فكرتي، فوجدت كل شيء فيه من حيٍّ وغير حيٍّ، مِنْ طَبْعِهِ -إِنْ قَوِيَ- أن يخلع عن غيره من الأنواع كيفياته، ويُلْبسه صفاته: فترى الفاضل يَوَدُّ لو كان الناس فضلاء، وتَرَى الناقص يَوَدُّ لو كان الناس نُقَصَاءَ، وترى كُلَّ مَنْ ذَكَرَ شيئاً يَحُضُّ عليه يقول: وأنا أفعل أَمْرَ2 كذا، وكل ذي مذهب يَوَدُّ لو كان الناس موافقين له، وترى ذلك في العناصر3، إذا قوي بعضها على بعض أحاله إلى نوعيّته، وترى ذلك في تركيب الشجر، وفي تغذّي النبات والشجر بالماء ورطوبة الأرض، وإحالتهما ذلك إلى نوعيّتهما، فسبحان مخترع ذلك ومدبّره، لا إله إلا هو 4.   2 في المطبوع: "أمراً" وهو خطأ. 3 يقصد بها عناصر الأشياء والمواد مِن سِوى الأحياء. 4 الأخلاق والسير ... : 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 9- شكْر الخالق وشكر المخلوق: شكرُ المنعم فرضٌ واجب، وإنما ذلك بالمقارضة له بمثل ما أحسن فأكثر، ثم بالتهمم بأموره، والتأني بحسن الدفاع عنه، ثم بالوفاء له حياً وميتاً، ولمن يتصل به من ساقةٍ وأهل كذلك، ثم بالتمادي على ودّه ونصيحته، ونشْر محاسنه بالصدق، وطيّ مساويه ما دمت حيّاً، وتوريث ذلك عقبك وأهل ودّك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وليس من الشكر عونه على الآثام، وترْك نصيحته فيما يُوتِغُ1 به دينه ودنياه، بل من عاون من أحسن إليه على باطل، فقد غشّه، وكفر إحسانه، وظَلَمهُ، وجَحَدَ إنعامه، وأيضاً فإن إحسان الله تعالى وإنعامه على كل حالٍ، أعظمُ وأقدمُ، وأَهْنَأُ2 مِن نعمة كل مُنْعِم دونه -عز وجل- فهو تعالى الذي شق لنا الأبصار الناظرة، وفتق فينا الآذان السامعة، ومنحنا الحواس الفاضلة، ورزقنا النطق والتمييز اللذين بهما استأهلنا أن يخاطبنا، وسخّر لنا ما في السماوات وما في الأرض من الكواكب والعناصر، ولم يفضّل علينا مِنْ خَلْقه شيئاً غير الملائكة المقدسين، الذين هم عمّار السماوات فقط. فأين تقع نِعَمُ المنعِمين من هذه النعم؟! فمن قدَّر أنه يَشْكر محسناً إليه بمساعدته على باطل، أو بمحاباته فيما لا يجوز، فقد كَفَرَ نعمة أعظم المنعِمين، وجَحَدَ إحسان أجلِّ المحسنين إليه، ولم يشكر وليَّ الشكر حقاً، ولا حمد أهل الحمد أصلاً، وهو الله -عز وجل-. ومن حال بين المحسن إليه وبين الباطل، وأقامه على مُرِّ الحق فَقَدْ شكره حقاً، وأدّى واجب حقه عليه مستوفى، ولله الحمد أوّلاً وآخراً وعلى كل حال 3.   1 يُوتِغُ: يُفْسِدُ. 2 في المطبوع: "أوهنأ" وهو تصحيف. 3 الأخلاق والسير ... : 88 - 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 10- النطق بعيوب الناس ليس نصيحَة: "واعلمْ يقيناً أنه لا يَسْلم إنسيٌّ مِنْ نقصٍ، حاشا الأنبياء -صلوات الله عليهم-. فمن خفيتْ عليه عيوب نفسه فقد سقط، وصار من السُّخْف والضعة والرذالة والخسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وضعْف التمييز والعقل وقلة الفهم، بحيث لا يتخلف عنه متخلف من الأرذال، وبحيث ليس تحته منزلة من الدناءة، فليتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه، والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها وعن عيوب غيره التي لا تضره لا في الدنيا ولا في الآخرة. وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة إلا الاتعاظ بما يسمع المرء منها، فيجتنبها ويسعى في إزالة ما فيه منها بحول الله تعالى وقوّته. وأما النطق بعيوب الناس فعيب كبير، لا يسوغ أصلاً، والواجب اجتنابه، إلا في نصيحةِ مَنْ يتوقع عليه الأذى بمداخلة المعيب، أو على سبيل تبكيت المعجَبِ فقط في وجهه لا خلْف ظهره، ثم يقول للمعجَبِ: ارجع إلى نفسك، فإذا ميزت عيوبها فقد داويت عجبك، ولا تُمَثِّلْ بين نفسك وبين من هو أكثر عيوباً منها1، فتستسهل الرذائل، وتكون مقلِّداً لأهل الشر، وقد ذُمَّ تقليد أهل الخير، فكيف تقليد أهل الشر؟!. ولكن مثّل بين نفسك وبين من هو أفضل منك، فحينئذٍ يتلفُ عُجْبك، وتفيق من هذا الداء القبيح الذي يُولِّد عليك الاستخفاف بالناس -وفيهم، بِلاَ شك، من هو خير منك- فإذا استخففتَ بهم بغير حقٍ استخفّوا بك بحقٍ؛ لأن الله تعالى يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 2، فتُولّد على نفسك أن تكون أهلاً للاستخفاف بك، بل على الحقيقة، مع مقتِ الله -عز وجل- وطمْس ما فيك من فضيلة ... " 3.   1 أي لا تقايس نفسك بمن هو أكثر منها عيوباً فيكون ذلك سبباً لاستسهال الرذائل. 2 40: الشورى: 42. 3 الأخلاق والسير ... : 65 - 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 11- أدب الحضور لمجالس العلم: "إذا حضرتَ مجلس علمٍ، فلا يكن حضورك إلا حضور مستزيدٍ علماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وأجراً، لا حضور مستغنٍ بما عندك، طالباً عثرةً تُشيعها، أو غريبةً تُشنّعها؛ فهذه أفعال الأرذال الذين لا يفلحون في العلم1 أبداً. فإذا حضرتها على هذه النية، فقد حصّلتَ خيراً على كل حال، وإن لم تحضرها على هذه النية، فجلوسك في منزلك أَرْوَحُ لبدنك، وأكرم لِخُلُقِك، وأسلمُ لدينك. فإن حضرتها كما ذكرنا، فالتزمْ أحدَ ثلاثة أوجهٍ، لا رابع لها، وهي: - إما أن تسكت سكوت الجهّال؛ فتحصل على أجر النية في المشاهدة، وعلى الثناء عليك بقلة الفضول، وعلى كرم المجالسة، وموَدّة مَن تُجالس. - فإن لم تفعل ذلك، فاسأل سؤال المتعلم؛ فتحصل على هذه الأربع محاسن، وعلى خامسةٍ، وهي: استزادة العلم. وصفة سؤال المتعلم أن تسأل عما لا تدري، لا عما تدري؛ فإنّ السؤال عما تدريه سُخفٌ، وقلةُ عقل، وشغلٌ لكلامك، وقطعٌ لزمانك بما لا فائدة فيه، لا لك ولا لغيرك، وربما أدّى إلى اكتساب العداوات، وهو -بَعْدُ- عينُ الفضول؛ فيجب عليك أن لا تكون فضولياً؛ فإنها صفةُ سوءٍ. فإنْ أجابك الذي سألتَ بما فيه كفاية لك، فاقطع الكلام، وإنْ لم يُجبك بما فيه كفاية، أو أجابك بما لم تفهم؛ فقلْ له: لم أفهم، واستزدْه، فإنْ لم يَزدْك بياناً وسكتَ، أو أعاد عليك الكلام الأول، ولا مزيد؛ فأمسك عنه؛ وإلا حصلتَ على الشر والعداوة، ولم تحصل على ما تريد من الزيادة. - والوجه الثالث: أن تُراجع مراجعة العالم.   1 في المطبوع: "العالم" وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وصفة ذلك أن تُعارض جوابه بما يَنقضه نقضاً بيّناً، فإن لم يكن ذلك عندك، ولم يكن عندك إلا تكرار قولك، أو المعارضة بما لا يراه خصمك معارضةً؛ فأمسك؛ فإنّك لا تحصل بتكرار ذلك على أجرٍ، ولا على تعليمٍ، ولا على تعلّمٍ، بل على الغيظ لك ولخصمك، والعداوةِ التي ربما أدّت إلى المضرّات. وإياك وسؤال المعنت، ومراجعة المكابر، الذي يطلب الغَلَبَةَ بغير علمٍ؛ فَهُما خُلُقا سوءٍ، دليلان على قلةِ الدين، وكثرة الفضول، وضعف العقل، وقوّة السخف، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وإذا وردَ عليك خطابٌ بلسانٍ، أو هجمتَ على كلامٍ في كتابٍ؛ فإياك أن تُقابله مقابلة المغاضبةِ الباعثة على المغالبة، قبلَ أن تتبيّن بطلانه ببرهانٍ قاطعٍ، وأيضاً فلا تُقْبلْ عليه إقبال المصدّق به، المستحسن إياه، قبْلَ علمك بصحته ببرهانٍ قاطعٍ؛ فتَظلم في كلا الوجهين نفسك، وتبتعد عن إدراك الحقيقة، ولكن أَقْبِل عليه إقبال سالمِ القلب عن النزاع عنه، والنزوع إليه، إقبال مّن يُريد حظ نفسه في فهم ما سمع ورأى، فالتزيّد به علماً، وقبوله إن كان حسناً، أو ردّه إن كان خطأً؛ فَمَضْمونٌ لك-إن فعلتَ ذلك-: الأجر الجزيل، والحمد الكثير، والفضل العميم1!!.   1 "الأخلاق والسير في مداواة النفوس": 90-91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الفصل السادس: الذوق والأدب في تصرفات الإنسان المبحث الأول: الذوق والأدب في الإسلام أوّلاً: الذوق والأدب في الخُلُق الإسلاميّ ... المبحث الأول: الذوق والأدب في الإسلام أوّلاً: الذوق والأدب في الخُلُق الإسلاميّ: الإسلام كله أدبٌ وذوقٌ رفيعان، لم يَصِل إليهما، بل لم يَعْرفهما بنو آدم مِن قَبْلِ أن يَمُنّ الله علينا بهذا الدين، وما كان لهم أن يكون لهم ذلك بغير تعليم العليم الخبير لهم وتربيته وتزكيته لهم؛ فالإسلام كله ناطِقٌ بهذه السمة في تعاليمه وأحكامه كلها!. ولك أن تتصوّر هذا -على سبيل المثال- فيما جاء به هذا الدين في جانب المعاملة والحقوق بين الناس، مثلُ: -إفشاء السلام. -الشكر لذي المعروف. -الصدق. -الأمانة. -الكلمة الطيبة. -الطهارة والنظافة، حسياً ومعنوياً. -الدعوة إلى البعد عن الشر وعن أضداد الأخلاق الطيبة كلها. -الدعوة إلى فعل الخير والإحسان بمختلف صورهما. -إعطاء حقوق القرابة، والصلة. -حق الزيارة بين المسلم وأخيه، من أجل الله تعالى. -حق الاستئذان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} 1. -الصبر في مختلف مواضعه ومجالاته. -الكرم. -الحلم. -الشعور بالأخوّة، وإعطاء حقوقها المتعددة. -العدل والإنصاف. -التثبت. -إلى آخر تعاليم هذا الدين وأحكامه التي لا يَخيب المستمسك بها.   1 27 - 28: النور: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ثانياً: الذوق والأدب في أخلاق النبيّ عليه الصلاة والسلام ... ثانياً: الذوق والأدب في خلق النبي صلى الله عليه وسلم: لقد كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها ذوقاً رفيعاً وأدباً عالياً. والوثيقة الناطقة بهذا هي كتاب الله، القرآن الكريم، وحديث النبيّ، وسيرته، ولقد شَهِدَ له ربه عزّ وجلّ بهذا فقال في شأنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 2، وقال عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} 3. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما: أنه سئل عن صفةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال: أَجَلْ، والله إنه لموصوفٌ في التوراة ببعض صِفتِه في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} 4، وحِرْزاً للأمّيين، أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكّل، ليس بفظّ   2 4: القلم: 68. 3 159: آل عمران: 3. 4 45: الأحزاب: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يَقبِضه الله حتى يُقيمَ به الملَّة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويَفتَح بها أعيناً عُمياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غُلْفاً"1!!. وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2. وقال صلى الله عليه وسلم:"إني لأقوم في الصلاة، وأريد أن أُطوِّل فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوَّز في صلاتي كراهية أن أَشُقَّ على أُمِّه" 3، وقال صلى الله عليه وسلم: "لو أنْ أَشُقَّ على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة" 4، وقال صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إنكم مُنَفِّرون؛ فمن صلّى بالناس فلْيُخفِّف؛ فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة" 5. قال أنس رضي الله عنه: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أفٍ قط، وما قال لشيء صنعته: لِمَ صنعتَه؟ ولا لشيء تركته: لِمَ تركته. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، ولا مسست خَزّاً قَطُّ ولا حريراً ولا شيئاً كان أَلْيَنَ مِن كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاشممت مسكاً قط ولاعطراً كان أطيب مِن عَرَق" النبي صلى الله عليه وسلم6"!! وعند البخاري، عن أنس رضي الله عنه: "ما مسستُ حريراً ولا   1 البخاري المختصر برقم1013، ص220. 2 128: التوبة: 9. 3 البخاري المختصر برقم 420، ص108. 4 البخاري المختصر برقم 498، ص122. 5 البخاري المختصر برقم 79، ص42. 6 الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: حديث حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ديباجاً أَلْيَنَ مِن كفِّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا شَممتُ رِيحاً قَطُّ أو عَرْفاً قطُّ، أَطْيَبَ مِن رِيحِ أو عَرْفِ النبيّ صلى الله عليه وسلم"1!!. ولك أن تتصوّر الذوق والأدب في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم -على سبيل المثال- في الجوانب الآتية: -لينُ جانبه صلى الله عليه وسلم وتواضعه، ومباسطته للناس، وملاطفته وممازحته لهم. -صِدْقه. -عفافه. -حياؤه. -مشاورته لأصحابه. -إفشاؤه السلام، سواءٌ على الكبير والصغير، أَومَن يَعرف ومَن لا يَعرف. -شكره للمعروف، وحفظه للجميل، وحسن العهد. -طيب كلامه، وحُسْن فعاله، ولُطْف تصرفاته، وسموُّ مقاله. -نظافته، وطهارته، وطيب رائحته. -ابتعاده عن كل نقيصة من نقائص الأخلاق وخوارم العدالة والمروءة التي ربما لا يسلم منها بعض الحريصين على السموّ وتحاشي مساوئ الأخلاق!!. - لقد كان على مكارم الأخلاق في أحواله كلها: في الرضا والغضب، والسرور والحزن، والرخاء والشدة، ومع الكبير والصغير، والقريب والبعيد، والصديق والعدو: * لقد اجتمع فيه ما تفرق في الناس من الفضائل! * لقد كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويغضب لغضبه! * لقد كان على خلق عظيم صلى الله عليه وسلم وبذلك وصَفَه ربه عز وجل!. فهو الأسوة الحسنة في أقواله وأفعاله وسائر أحواله لكل من رام أن يكون على الخلق القويم، ولكل من أراد أن يكون على الصراط المستقيم في الدنيا وفي الآخرة!.   1 البخاري المختصر برقم 1493، ص334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 المبحث الثاني: الذوق والأدب في تصرّفات الإنسان أوّلاً: هلاّ تعرفتَ على سلوكك في عيون الآخرين؟! : ما أشد حاجة الإنسان إلى أن يتعرف على صورته في عيون الآخرين، ليتعرف على خطئه من صوابه في تعامله مع الناس وتصرفاته! ويراعي حدود الأدب والذوق في ذلك!. أما الذي لا يعنيه هذا الأمر فذلك إنسان عديم الإحساس، فاقد الذوق جملةً وتفصيلاً، فلا يميز بين المناسب وغير المناسب مما يأتي ويَذَر. أما من أدرك أهمية العناية بهذا الأمر -أعني التعرف على صورته في عيون الآخرين- فإن له للوصول إلى هذه الغاية ثلاث طرق: الأولى: معرفته بشعور الآخرين تجاه تصرفاته وتعامله معهم، فإنه سَيَعلم منه مواطن السخط ومواطن الرضا منهم؛ فيُراعيه ضِمْن دائرة هَدْي الإسلام وأحكامه. الثانية: القياس على ما يَجِدُهُ في نفسه من آثار رؤيته تصرفات الناس في عينه، وما ينتج عنها في نفسه مِن سخطه ورضاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الثالثة: أن يجِدَ أخاً ناصحاً يُبَصّره بما يراه من عيوبه وأخطائه؛ فذاك غنيمة الحياة بالنسبة له! وقَبْل هذا جُهْد الوالدَين المُوَفَّقَين يجب أن يكون مذكوراً مشكوراً. وينبغي للعاقل أن يستعمِل هذه الطرق الثلاث كلها. إنك لو جلستَ فترةً من يومك أمام آلة تصوير تلفزيونية كَاميرا تلفزيونية، ثم راجعتَ المشهد أو المَشاهِد التي التقطتها آلة التصوير التلفزيونية كلها بعين المراقب الناقد فإنك لا شك راءٍ عدداً من التصرفات التي قد تودُّ الاعتذار منها، أو الابتعاد عنها مهما كانت صغيرة!. وإذا كانت آلة التصوير نادرة أو معدومة في تاريخ حياتك فإن الواجب عليك أن تتذكّر أنّ تصرّفاتك في حال تسجيلٍ دائم لا يَفْلتُ منها شيء سرِّها وجهرها، إنك أمام الناس، وأمام ملائكة الله، وأمام السميع البصير تبارك وتعالى!! فهل ستكون عندئذٍ على ذلك الشعور المُرْهَف والحساسية ذاتها أم تتناسى ذلك؟!. وسأذكر فيما يلي بعض هذه الأخطاء التي يقع فيها كثير من الناس -من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون، فيُسيئون إلى أنفسهم وإلى الآخرين- مساهمةً في مساعدة الراغب في التعرف على الأخطاء الشائعة هذه، مما ينافي الأدب والذوق، وذلك ليَبْتعد عنها مَن يُريد، ويحاسبَ نفسه على ذلك. وقد ذكرتها وفق التصنيف الآتي: - أخطاء الجلوس على الطعام. - أخطاء استخدام الحمّام. - الأخطاء العامة. - خاتمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ثانياً: أخطاء الجلوس على الطعام: لستُ راغباً في سرد هذه الأخطاء لولا الرغبة في النصيحة والإخلاص لحقّ الأخوّة وتقدير رغبة عدد من الناس الأسوياء والحريصين على ألاَّ يُخِطئوا ولكنهم قد يقعون في مثل هذه الأخطاء دون أن يشعروا. هذا هو الدافع لطَرْق هذا الموضوع، وإنما الأعمال بالنيات ... فمن هذه الأخطاء ما يلي: 1- عدم غسل اليدين غسلاً كافياً قبْل الأكل وبَعْده. 2- الكلام أثناء وجود الطعام أو بقاياه في الفم بحيث يؤذي الآخرين، وكم يَرى الإنسان مِن الناس من لا يُنسّق بين اللقمة والكلمة فيخرج عن إطار الأدب والذوق. 3- التَّجَشُّؤ بطريقة مؤذية للآخرين، وذلك بصوت الجشاء ورائحته، سواء في أثناء الأكل أو في سواه. 4- نَفْض اليد في السفرة سواء كان في الإناء أو خارجه. 5- لعْق اليد أو الأصابع بعد كل لقمة، أو ما بين فترة وأخرى على الطعام وقبل الانتهاء منه. 6- إعطاء الآخرين شيئاً من الطعام ونحوه بيده التي لعقها، أو التي عَلِق بها الطعام، أو فِعْل ذلك بملعقته التي أكل بها، يُخرجها من فمه، ويأخذ بها طعاماً لغيره. 7- تسبُّبُ الآكل في الخَلْط بين بعض أنواع الطعام بطريقة أكله بصورةٍ قد يتقزز منها غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 8- عدم الذوق في مضغ الطعام قد يسيء إلى الآخرين، فمن الناس من يمضغ الطعام بما يُشبه اجترار الدابة، ومن الناس من يفتح فمه أثناء مضغ الطعام بصورة كاشفة لكل ما في فمه، وإصدار صوتٍ مزعج. 9- تنقيب الأسنان بطريقة تسيء إلى الآخرين، سواء أثناء الأكل أو بعده. 10- كثرة نِثار الآكل أثناء أكلهوهو ما يتساقط منه من الأكل. 11- الجشع في الأكل ولو على حساب من معه دون أن يَشْعر بشعوره، فقد يكون الطعام قليلاً، وقد يكون من معه جائعاً أو أشد حاجة. 12- كثرة الأكل كثرةً مفرطة مجاوزة للحد الشرعي؛ فإنّها مُضرِّةٌ بصحتك، ومُضرِّةٌ بأدبك وذوقك. 13- عدم التسمية في البدء، وعدمُ حمد الله وشكره عند الانتهاء. 14- عدم مراعاة شعور الآخرين في طريقة جلوسه، فلربما جَلَس متربِّعاً، في حين أنّ غيره لا يَجِدُ مكاناً للجلوس. 15- عدمُ مراعاة الذوق في أثناء الحديث على الطعام، فلربما ذَكَر بعض الأشياء التي بسببها يقوم بعض الناس عن الطعام. 16- الأكلُ ليس مما يليه، وإنما مما يلي غيره-في غير الحالات التي تحتَمِلُ ذلك-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ثالثاً: أخطاء استخدام الحمّام: من الأخطاء التي يقع فيها كثير من الناس في أثناء استخدام الحمّام ما يلي: - عدم سحْب الطاردِ المائيّ السيفون لتنظيف المرحاض، وترْك هذه المهمة على غيره من الناس!!. - عدم غسل اليدين بالصابون بعد استخدام الحمّام غسلاً جيّداً!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 - مسْك صنبور الماء أو الصابون بعد خروجه من الحمّام أو في الحمّام قبل غسلها بالصابون!. والطريقة الصحيحة في هذه الحال هي: ألاَّ يستخدم يده اليسرى في شيء بعد ذهابه إلى الحمّام، حتى يغسلها بالصابون. ومعنى هذا أنه يتّبع الآتي: 1- يسحب السيفون بيده اليمنى. 2- ويغلق صنبور الماء في الحمام بعد انتهائه بيده اليمنى. 3- ويفتح باب الحمام ويغلقه بيده اليمنى. 4- ويفتح صنبور الماء بيده اليمنى. 5- ويأخذ الصابون بيده اليمنى. 6- ويربرب الصابون في يده اليمنى بالقَدْر الكافي. 7- ثم يغسل يده اليسرى في ذلك الصابون دون أن يمسك بها صنبور الماء أو المغسلة. - توسيخه لحوض الغسيل أو الحمّام بأيّ سبب من الأسباب وترْك ذلك كما هو، ليأتي مَن بعده ليقوم بمهمة التنظيف المطلوبة هذه!. فبأيّ حق يُشغّل غيره في مثل هذا؟! وبأيّ حقٍّ ينقسم الناس إلى فريقين: فريق يوسِّخون، وفريق يُنظِّفون؟! في أيّ عقل أو شرع أو ذوقٍ هذا.؟!. -الإسراف في استخدام الماء، سواءٌ للغَسْل أو الاستحمام أو الوضوء. -رمْيُ المناديل أو المحارم الورقيّة ونحوها، بعد الفراغ منها، في الحمام في أيّ مكان، مما قد يُسئ إلى الآخرين، أو في موضعٍ يَسُدُّ الحمام. والقاعدة العامّة هي: لا تترك الأشياء والمرافق التي تستعملها، بعْد استعمالك لها، إلا وهي كما تُحِبُّ أن تجدها فيما بعد، أو كما تُحبُّ أن يَجدها إخوانك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 رابعاً: أخطاء عامّة: كثيرة هي الأخطاء العامّة التي يقع فيها كثير من الناس، مما قد يصعب معه حصرها، ومنها ما يلي: - تنقيب الإنسان أنفه بأصابعه. - مسْح السواك بعد استخدامه باليد مباشرة. - مصافحة الناس باليد التي كان ينقب بها أسنانه مباشرة أو أنفه أو مَسَح بها سواكه، أو أصابها شيء من لعبه أو ليست نظيفة. - رفْع الصوت أكثر من الحاجة. - رفْع صوته بالضحك والقهقهة. - إزعاج الآخرين بمنبه السيارة باستخدامه في غير الموضع المناسب ودون حاجة ملحّة، أو بصوته المرتفع، أو بتعليقه وقتاً. - إيذاؤه الآخرين بتقفّزه إيّاهم بسيارته بصورة تتنافى مع الأدب والذوق. - إيذاؤه نفسه وإيذاؤه الآخرين بعدم عنايته بالنظافة الشخصية بصفة عامة. - إيذاء الآخرين بأنوار سيارته في عدد من الحالات التي ربما لا يحتاج فيها إضاءتها أصلاً. - إيذاء الآخرين بالبصاق في الطرقات والأماكن غير المناسبة. - إيذاء الآخرين بإيقاف سيارته في الموقف غير المناسب. - عدم الشعور بمشاعر الآخرين وعدم رحمتهم بصفة عامّة. - إيذاء الناس بالتدخين في الأماكن العامَّة. - عدم الاكتراث بحقوق الآخرين عليه، سواء منها المالية وغير المالية. - التمخط والمسح باليد!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 إلى آخر ما هنالك من الأخطاء المجانبة للشرع والأدب، فإنه يصعب حصرها، ولكن القاعدة في هذا أن يَعْلم الإنسان أنّ كل تصرفٍ لم يأمر به الشرعُ، ووَجَدَ في نفسه نفرةً منه، أو وَجَدَ غيرُهُ نفرةً منه فهو تصرفٌ مجانبٌ للذوق والأدب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 خامساً: خاتمة: وبعد! فقد يقول من ليس له في النظافة والذوق همٌّ ولا تفكير ولا مذهب، عند قراءته لهذه الهموم والتوجيهات حول النظافة وأهميتها وأمثالها: هذا تشدُّدٌ، أو هذه وسوسة، أو ما أنزل الله بهذا من سلطان، أو نحو هذا من العبارات التي لا اعتداد بها في حكم الشرع والعقل والذوق، حين توضَع في غير موضعها!. ولا عجب أن يهجم قليل النظافة والذوق أو عديمهما على ما تنكشف به عيوبه، مِن بيانٍ لهدي الإسلام في هذا الباب!. ولكن العجب كل العجب أن يَهْجم مثل هذا على النظافة والذوق والأدب باسم الإسلام، يريد أن يتسلح بالإسلام وبوحي الله تعالى، ويريد أن ينصره الإسلام في معركته هذه الفاشلة!! وكان الأَولى به أن يخجل من نفسه، ويستر عيوبه، ويشكر الناصح، ويَعُود إلى هدْي الدين وما فيه سعادته في الدنيا وفي الآخرة!! ولكن لله في خَلْقه شؤون، والناس معادن وعقول وأخلاق مختلفة متفاوتة، فإن عافاك الله تعالى من مثل هذه الداهية فاحمد الله عزّ وجل. والعاقل يَقْبل النصيحة من حيث أتتْه، ويتقبل الهدى ممن أهداه -في أي موضوع وبأي أسلوب- بل المخاشنة بالنصيحة أحبُّ إليه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 المداهنة على الأقوال القبيحة1". و"ضرْب الناصح خيرٌ من تحية الشانئ"2. و"ظاهرُ العِتاب خيرٌ من مكتوم الحقد، ورُبَّ عتْبٍ أنفع من صفْحٍ3". على أني في هذه الأوراق لم أتجاوز الغاية من كتابتها، وهي بيان الحق من الباطل، والخطأ من الصواب في باب الأخلاق، ولم أَسبَّ ولم أَشْتِمْ، لأن ذلك ليس من الخُلق الفاضل في شيء، ولا تستقيم الدعوة إلى الخلق الفاضل بغير الخلق الفاضل، ولكن بعض الأخطاء مجرّدُ ذكْره ينبو على السمع، وحسبُك من شرٍ سَمَاعُهُ"! ولابُدّ مما ليس منه بدٌ لمصلحة النصح والبيان، والله المستعان!.   1 أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الوزير، الروض الباسم في الذب عن سُنّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم:11. 2 ابن حبان، مِن قوله، في " روضة العقلاء..": 195. 3 ابن حبان، مِن قوله، في "روضة العقلاء..": 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الفصل السابع: خُلُق التعامل مع المخالِف توطئة ... توطئة: إذا كانت أخلاق الإنسان تشمل نشاطاته وعلاقاته وتوجهاته كلها، فإنّ مما يَدْخل في ذلك -بصورةٍ مؤكَّدة وعلى نطاق واسع- خُلق التعامل مع المخالف. والمخالِف أنواع وأصناف شتى من الناس، ولكنهم على اختلافهم، ينقسمون بحسب الدِّين إلى قسمين: - المخالف المسلم. - المخالف الكافر. ومبدأ الالتزام بمكارم الأخلاق، يَتطلَّب الالتزام بها مع المخالِف أياً كان، وهذا يستدعي التعرف على وجه الصواب، وعلى محاسن الأخلاق في التعامل مع المخالف. وإصابة الخُلق المحمود في التعامل مع المخالف مرهون بأمرين: الأول: الفقه الشرعيّ، والمعرفة الصحيحة بالأحكام الشرعية المتعلقة بهذا الموضوع. وكم انطلق الإنسان من تصرفاتٍ تجاه المخالف مخطئة خاطئة معاً؛ ظناً منه أن ذلك هو حُكم الشرع!. والناس بعد معرفتهم بنصوص الشرع منهم من يفقه الحكم، ومنهم من لا يفقهه. الثاني: الأخلاق النفسية الشخصية المستقرة في داخل النفس، المحرِّكة لتصرفات الإنسان وسلوكياته. وكم من شخصٍ عَرَف حكم الشرع في هذا الموضوع، لكنه تركه جانباً، وأَخذ بما تُمْليه عليه سجيته وطبعه أو هواه!. ومِن اللازم الإشارة هنا إلى أنَّ الشرطَ في تحديد هذه المفاهيم والأخلاق في هذا الموضوع هو أَن يكون الإنسان فيها صادِراً عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الكتاب والسنّة -مُلتَمِساً الإخلاص والفقه السديد للنصوص- وهو الأمرُ الذي اشترطه كاتب هذه السطور على نفسه، بقدْر ما استطاع. وفي الأسطر الآتية إشارة إلى بعض ما يبدو مهمّاً في نظر كاتبها من أخلاقٍ تتعلق بهذه القضية1.   1 ويُنظر أيضاً: "خُلُق التعامل مع الناس"، في الفصل الرابع، المبحث الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 المبحث الأول: خُلق التعامل مع المخالِف المسلم أوّلاً: أُصول المعاملة الواجبة شرعاً: حَدّد اللهُ الخالقُ سبحانه صُوَر التعامل الواجب بين الناس والأخلاقَ المتعيّنة عليهم تجاه بعضهم بعضاً، كما حدّد الخُلق الواجبَ على المخلوقين تجاه الخالق سبحانه. ومما أوضحه الله للناس طريقة معاملة المسلم لأخيه المسلم، سواء في حال خلافه أو في وفاقه معه. فما الواجب بصورة عامّة على المسلم في تَعامله مع أخيه المخالف له؟ إنّ القاعدة العامّة الواجبةَ الاتّباعِ هنا هي: مراعاة الأخوّة بينهما، ومراعاة حقوق هذه الأخوّة، والتزام حُسْن الخُلق بصورة مطّردة، ومحبة الأخ لأخيه الخير كما يُحبُّه لنفسه، وتحريم أذيّته، وتحريم عِرْضه ودمه وماله. وفيما يلي النصوص الشرعية الدّالّةُ على هذه الواجبات والحقوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 بين المسلم وأخيه. أ- الآيات في الموضوع: فيما يلي بعض الآيات مِن كتاب الله تعالى الشاهدة بهذه المعاملة الواجبة شرعاً، فمنها قوله تعالى: 1- في تقرير مبدأِ الأخوّة الإيمانيّة بينهم جميعاً: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ... } 1. 2- في وصْف النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ... } 2. 3- في وصْف الأنصار مِن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم -بعدَ أَن ذَكَر المهاجرين- وفي وصْفِ المؤمنين مِن بَعْدهم3: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ   1 10: الحجرات: 49. 2 29: الفتح: 48. 3 وهذا مِنْ معناه: أَنه يجِبُ أَن يكون المؤمنون مِن بَعْدهم هكذا، وأَن هذه صِفَتهم؛ فَلْيُحاسِبْ امرؤٌ نفْسهُ قِبْل أَن يَفوت وقت المُهلة ولا يَبقى إلا حسابُ الله تعالى العالمِ السرَّ والجهر‍َ على السَّوَاء!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَاغِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} 1 ويُلاحَظُ العموم في الذين آمنوا، والتنكير في غِلاًّ لِيَصْدقَ على أي غِلٍٍّ ولو قليلاً!!. 4- في تحريم موالاة المسلم للكافرين من دُونِ المؤمنين: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} 2،وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} 3، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... } 4. 5- في تحريم قتل المسلم لأخيه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ... } الآية 5، وقال عزّ وجلّ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ   1 9-10: الحشر: 59. 2 28: آل عمران: 3. 3 144: النساء: 4. 4 71: التوبة: 9. 5 92: النساء: 4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} 1. بل أَوجب الله على عباده المؤمنين حقوقاً أَحياناً للمشركين، فضلاً عن المسلمين-مِن أَجْل تبليغ الإسلام وإقامة الحجّة وإنقاذ الناس من النار-فقال سبحانه في كتابه العزيز: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} 2!!. 6- في اتّهام المسلم لأخيه في عقيدته ونيّته: { ... وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... } 3. 7- وقال سبحانه حكايةً لِدُعاء رسوله نوحٍ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراًً} 4. 8- في مبدأِ التحية بينهم: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} 5.   1 93: النساء: 4. 2 6: التوبة: 9. 3 94: النساء: 4. 4 28: نوح: 71. 5 86: النساء: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 9- في إنْكاره تصديق بعض المسلمين لِحادثِ الإفك: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} 1. 10- في شأن المشركين أَعداءِ المسلمين: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} 2. ويَصعبُ حَصْرُ الآيات في هذا الموضوع؛ فإنها كثيرةٌ ومجالاتها متعددةٌ، وأبواب الوقوف عليها في الكتاب العزيز متعددةٌ كذلك، ومِن ذلك موضوعاتٌ وآياتٌ لم يُذْكَر فيها لفظ "الأُخُوّة" ولا لفظ "المعامَلة"، ومع هذا هي في صميم الموضوع، ومِن ذلك: ما جاء في القرآن الكريم في الأمر بالبِرّ والمعروف والخير والعَدل والإنصاف3 والإحسان، وما جاء في منع الظلم والاعتداء والأذى بصورةٍ عامّةٍ.   1 12: النور: 24. 2 10: التوبة: 9. 3 لقد تتبَّعتُ الآيات في موضوع العدل والإنصاف؛ فانكشفَ لي ذلك عن جانبٍ مِن سموّ الأخلاق والمعاملة- فيما يجب أَن يَك ون عليه عبادُه المؤمنون في التعامل والسلوك-سُموّاً لا يتخيّلُه مَن لم يتلقّ ذلك مِن هذا الدِّين الإلهيّ المِنْحةِ الربّانية التي يَرْفِضها مَن عَشِيَتْ قلوبهم وأَبصارهم عنه!. وقد أَخبر الله تعالى أَنّ هذه سنّته فيما يُعامِل به اللهُ عزّ وجلّ عبادَه في باب الحساب والجزاء، وأنّهم بين فضْله وعدله لا يَنْفكّون عن أحدِهما!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ب- الأحاديثُ في الموضوع: فيما يلي بعض الأحاديث النبوية الشاهدة أيضاً بهذه المعاملة الشرعيّة الواجبة على كل مسلمِ تُجاه أَخيه المسلم؛ فمِن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: 1- في تحديد مَن هو المسلم الذي له حقوق المسلم: "من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمّة رسوله، فلا تُخْفِروا الله في ذمته" 1. 2- في تحريم عِرْض المسلم ودمه وماله: "كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ: دمه، وماله، وعِرْضه" 2. 3- في اتّباع جنازة المسلم عموماً والصلاة عليه: "من اتبع جَنَازَةَ مسلمٍ إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يُصلَّى عليها، ويُفرغَ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراطٍ مثل جبل أُحد، ومن صلّى عليها ثم رجع قبل أن تُدفن فإنه يرجع بقيراطٍ" 3.   1 البخاري المختصر برقم 257 ص76. 2 جاء هذا اللفظُ في الرواية مستقِلاًّ عند أَبي داوُد، في الأدب، ح4882، 5/195-196، ط. الدعاس، وجاء جُزْءاً من حديث: "المسلم أَخو المسلم.." عند مسلمٍ، في إحدى رواياته، في الصحيح: البر والصلة والآداب، ح 32 2564، شرح النوويّ:16/120-121. 3 البخاري المختصر برقم 44 ص33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ولَمْ يُحدِّد مَن يكون هذا سوى أَن يكون مسلماً، ولَمْ يَذْكُر له صِفاتٍ مخصوصَةً، يكفي أَن يكون مسلماً، والله هو الذي يَتولّى سرائرَ الناس. 4- في تحريم معاداة المسلم وإيذائه: قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسيّ أَن الله تعالى قال: "مَنْ عادى لي وَليّاً فقد آذنته بالحرب" 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "من كانت له مَظْلَمَةٌ له لأخيه: من عِرْضِه، أو شيء؛ فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له عملٌ صالِحٌ أُخِذَ منه بقدْر مَظْلَمَتِهِ، وإن لم تكن له حسناتٌ أُخذ من سيئات صاحبه فحُمِلَ عليه" 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "أَتدرون مَن الْمُفْلِسُ؟ " قالوا: الْمُفْلِسُ فينا مَن لا دِرهمَ له ولا متاعٌ. فقال: "إنّ الْمُفْلِسَ مِن أُمّتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاةٍ، وصيامٍ، وزكاةٍ، وقد شتمَ هذا، وقذَفَ هذا، وأَكل مال هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضربَ هذا؛ فيُعطَى هذا مِن حسناته، وهذا مِن حسناته؛ فإنْ فَنِيَتْ حسناتُه قبْلَ أَن يُقضى ما عليه أُخِذ من خطاياهم فَطُرِحتْ عليه؛ ثم طُرِحَ في النار" 3.   1 البخاري المختصر برقم 2117 ص483. 2 البخاري المختصر برقم 1118 ص244-245. 3 أَخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، ح58 2580، شرح النووي: 16/135-136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وعن جابرٍ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ الشيطان قد أَيسَ أَن يَعْبُدَهُ المُصَلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"1. 5- وقال في فضلِ قضاء المسلم حاجة أخيه وتحريم أَذيّته أيضاً: "المسلمُ أَخو المسلم لا يَظْلمه ولا يُسْلمه، مَن كان في حاجةِ أَخيه كان الله في حاجته، ومِن فَرَّج عن مسلمٍ كربةً فَرَّج الله عنه بها كربةً مِن كُرَبِ يوم القيامةِ، ومَن سَتَرَ مسلماً سترهُ الله يوم القيامة" 2!!. فما أَعظمَ فضلَ الله، ولكنّا عن هذا غافلون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون! وما بالُك بِمَن يَعكِسُ هذه الأخلاقَ، كما نشاهده مِن بعض المسلمين اليوم! أَليس العقاب على ذلك بعكسِ الثوابِ على هذه؟! وهذا زيادةٌ على ما وَردَ من عقوباتٍ عليها بخصوصها، نسأل الله السلامة والعافية، وأَن لا يَحْرِمنا فضله ورحمته بسوء أعمالنا. وانظر كم الفرق بين أن يَظلم الإنسان أخاه وبين أن لا يُسْلمه، وكم هو الفرق بين أن لا يُسْلمه وبين أن يَطْلبه هو ظُلْماً وعدواناً، بل لعلَّه يَطْلبه في دينه وعقيدته ونيّته!!. وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ... " 3. وقال صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: يا رسول الله: هذا   1 مسلم، صفات المنافقين وأحكامهم، برقم652812. 2 مضى تخريجه في الحاشية رقم 198. 3 البخاري المختصر برقم 2026 ص468. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: "تأخذ فوق يديه" 1. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يَرْمي رجلٌ رجُلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدّتْ عليه إن لم يكن صاحبُهُ كذلك" 2! وقال صلى الله عليه وسلم: " ... ومَن لَعَن مؤمناً فهو كقتله، ومَن قَذَف مؤمناً بكفرٍ فهو كقتله" 3!. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يَدْخل الجنة قتّاتٌ" 4. والقتّات هو النمّام الذي يسعى بالحديث بين الناس لإفسادِ ما بينهم. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تَباغَضوا ولا تحاسَدوا ولا تَدَابروا وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يَحِل لمسلم أن يَهْجر أخاه فوق ثلاثة أيام" 5. وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن؛ فإنّ الظن أكذبُ الحديث، ولا تحسّسوا ولا تجسّسوا، ولا تَناجشوا، ولا تَحاسدوا، ولا تَباغضوا، ولا تَدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً" 6!.وسَرِّح الطَّرْف في حال كثيرٍ مِن المسلمين اليوم في هذه المعاني؛ فماذا عسى أَن تقول؟!.   1 البخاري المختصر برقم 1116 ص244. 2 البخاري المختصر برقم 2030، ص469. 3 البخاري المختصر برقم 2031، ص 469. 4 البخاري المختصر برقم 2032، ص469. 5 البخاري المختَصَر برقم 2034، ص 469. 6 البخاري المختَصَر برقم 2035، ص 469. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 6- في الحث على حُسْن معاملة المُسْلِم بصفةٍ عامّة: قد أوجَبَ الله تعالى للمسلم على المسلم حقوقاً محدَّدة، وحقوقاً عامّة مُطْلقةً، يَجْمعها حُسْن المعاملة؛ بإيصال البر وكَفِّ الأَذى، بما في ذلك حُسْن الاستقبال، والبشاشة والبِشْر، وطلاقة الوجه، وإظهار السرور بمقابلتِه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَبَسُّمُكَ في وجْه أخيك لك صدقةٌ، وأَمْرك بالمعروف ونَهْيُك عن المنكَرِ صَدَقَةٌ، وإرشادك الرَّجُلَ في أرض الضلال لك صَدَقَةٌ، وبَصَرُك للرَّجل الرديء البصر لك صَدَقةٌ، وإماطتك الحجر والشوكَ والعظمَ عن الطريق، لك صَدَقةٌ، وإفراغُك مِن دَلْوِكَ1 في دَلْوِ أَخيك لك صَدَقَةٌ" 2، ولاحِظْ قوله صلى الله عليه وسلم:لك صَدَقَةٌ، لك وليس على أَخيك!! وقال: "لاتحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْقٍ" 3، وقال البراء بن عازب رضي الله عنه: "أَمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعٍ، ونهانا عن سبعٍ: أَمَرَنا باتّباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونَصْر المظلوم، وإبرار القَسَم، وردِّ السلام، وتشميت العاطس،.." 4، وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده،   1 الدَّلْوُ هو: شيء مِن جِلْدٍ ونحوه، يُنْزَعُ به الماء مِن البئر. 2 الترمذيّ، البر والصلة، 36-باب ما جاء في صنائع المعروف، برقم1956، وقال: حسنٌ غريب، وقد ذَكَره الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذيّ برقم1594، وفي سلسلة الصحيحة572. 3 مسلم، البر والصلة، ح1442626،نسخة شرح النووي:16/177. وقد قال أحد الصحابة، رضوان الله عليهم: البِرُّ شيءٌ هَيّن: وجْهٌ طليق، وكلامٌ لَيّن!!. 4 البخاري المختَصَر برقم 2035، ص 469. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 لا تَدْخلون الجنّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أَوَ لا أَدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أَفشوا السلام بينكم" 1، ولاحِظْ قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا تُؤمِنوا حتى تحابُّوا"، ولاحِظْ العموم في مخاطبة المؤمنين جميعاً بهذا الخطاب، وإثبات هذا الحقَّ لهم جميعاً، ولم يَستثنيَ-مثلاً- عاصياً، أَو مبتدِعاً!!. وقال صلى الله عليه وسلم: "فُكُّوا العاني [يعني الأسير] وأَطعِموا الجائع، وعُودُوا المريض" 2، وقال صلى الله عليه وسلم: "حَقُّ المسلم على المسلم خمسٌ: رَدُّ السلام، وعيادة المريض، واتّباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس" 3. وكم مِن المسلمين اليوم مَن قد عَكَسَ هذه الأخلاق بضدّها، كأنّ الله سبحانه قد نهاه عن هذه وأَمَرَهُ بذلك!!. وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الخُلُق الحسن وثوابه، مِن ذلك قوله: "ما من شيء أَثقلُ في ميزان المؤمن يوم القيامة مِن خُلُقٍ حَسَن؛ فإنّ الله تعالى لَيُبْغِضُ الفاحش البذيء"4، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من شيءٍ يُوضَع في الميزان أَثقلُ مِن حُسن الخُلُق، وإنّ صاحِبَ حُسن الخُلُق لَيَبْلُغُ به دَرَجَةَ صاحِبِ الصوم والصلاة" 5، وعن أبي هريرة   1 مسلم، الإيمان، ح9354. 2 البخاري المختصَر برقم1301، ص294. 3 البخاري، الجنائز، برقم1183. ط. البُغا. 4 الترمذيّ، برقم2002،. وذَكَره الشيخ الألبانيّ في صحيح الترمذي برقم1628. 5 الترمذيّ، برقم2003، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وذَكَره الشيخ الألبانيّ في صحيح الترمذي برقم1629. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 رضي الله عنه قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أَكثر ما يُدْخلُ الناسَ الجنّةَ، قال: "تقوى الله وحُسْن الخُلُق". وسئل عن أكثر ما يُدْخل الناسَ النارَ، قال: الفم والفرْجُ" 1. وأَخرج الترمذيّ بالسند عن عبد الله بن المبارك أنه وَصَف حُسن الخُلق، فقال: "هو بَسْط الوجه، وبَذْل المعروف، وكَفُّ الأذى" 2!!. وقال صلى الله عليه وسلم: "اتّقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" 3. ويَصْعُبُ أَن نَحْصر الأحاديث في هذا المعنى، شأنها شأن الآيات على ما سَبَق بيانه عند الحديث عنها. والحقُّ أَنِّي مُعْجَبٌ ومُنْدَهِشٌ أَيضاً مِن كثرة أَحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وشمولها واستغراقها لكل صُوَرِ التعامل ومجالاته، وكلُّها عدلٌ ورحمةٌ وإحسانٌ وهُدىً واستقامةٌ، ولا أَدري كيف صُرِفَتْ أَبصارُ أَقوامٍ من المسلمين عنها إلى ضدّها تماماً، نسأل الله عفواً وسلاماً!!. ربنا لا تُزِغْ قلوبنا بعد إذْ هديتنا، وهَبْ لنا مِن لدُنك رحمةً. وحسْبُك أَيها المسلم الصادق أَن تَقرأَ في هذه المعاني الجميلة هذه النصوص الجميلة المحبَّبة إلى النفس وإلى كل فطرةٍ سويّةٍ، وأَن تستسلمَ لها بقلبٍ سليمٍ، وأَن تَدَعَ كل ذي خُلُقٍ لئيمٍ، في غوايته يَهِيم، وتلتزم   1 الترمذيّ برقم2004، وقال: هذا صحيح غريب. وذَكَره الشيخ الألبانيّ في صحيح الترمذي برقم1630. 2 الترمذيّ برقم2005. وذَكَره الشيخ الألبانيّ في صحيح الترمذي برقم1631. 3 الترمذيّ برقم2014، وقال: هذا حسنٌ صحيح. وذَكَره الشيخ الألبانيّ في صحيح الترمذي برقم1638. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الصراط المستقيم، وتستعيذ بالله مِن الشيطان الرجيم، وتَدَع الجدال في الدين، وتبتعد عن مماراة الجاهلين والحاقدين على المسلمين -باسم الحرص على الدين-وأن تختصِرَ الطريق على نفسك بالاستمساك بكل ما جاءك عن الله عزّ وجلّ وعن رسولِه الكريم الذي لا يَنطقُ عن الهوى، وأن تَعْلم أنه صلى الله عليه وسلم قد بَلَّغَ البلاغ المبين، ولم يَتْرك مجالاً للزائدين والناقصين في الدين قليلاً ولا كثيراً، وأنْ تُلْزِمَ نفسَك بأن لا تَترك الحديث إلا لحديث مِثْلهِ يَقْضِي بتركه-بنسْخٍ أو تخصيصٍ أو تقييدٍ- وأَنّ عمومات أَلفاظ الكتاب والسنّة ومُطْلقها ليس لأحدٍ مِن البشر أَن يُخصِّصها أَو يُقيّدها-مِن تِلقاء نفسه، بغير آيةٍ أو حديث-إِلا أَن يَدّعي أَنه رسول جديد!!. وحَسْبك أَن تقرأَ النصوص الشرعيّة على ما أَراد الله بها، دون تأويلٍ متَكَلَّفٍ!. وحَسْبك دليلاً على بطلان الباطل والمسالك الحائدة عن هدايات هذه النصوص أَن تقرأَ على الباطل وأَهله الآيات والأحاديث، وكفى!. ثم: الإيمان، والفطرة، والعقل، كلها تشهد مِن داخلِ الإنسان بما جاءت به نصوص الكتاب والسنّة. وأَصولُ منهج أَهل السنة والجماعة على هذا المنهج، وبه عَظُمتْ هذه الأصول عند مَن عَرَفها.!!. ج- الدَّلالةُ العامّةُ لهذه النصوص: وهذه النصوص من الكتاب والسنّة، وما في معناها، عامّة الدلالة بحيث تَستغرِق كل الأحوال، وتستغرِق كل الأشخاص، من الطرفين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 المتعامِلَين؛ فإنها لم تُحدِّد ظرفاً أو حالةً لتطبيق هذه الأخلاق فيها، ولا شخصاً أو أشخاصاً مِن المسلمين لالتزام هذه الأخلاق معهم، لا بأشخاصهم وأعيانهم، ولا بصفاتٍ أخرى زائدةٍ على ما جاء في النصوص هذه؛ بحيثُ يتعلق بها الحكم؛ فإذَنْ يَبْقى هذا العموم الذي جاء به كلام الله وحديث رسوله كما هو؛ فلا يُخرَجُ عنه إلا باستثناءٍ مِن الله أو مِن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يَرِد عنهما استثناءٌ في الواقع. وبناءً على ذلك فإن الواجب على كل مسلم أن يسير في معاملته لإخوانه المسلمين وعلاقاته معهم وَفْق هذه الأخلاق؛ التي عليها مدار صلاحِ ذات بينهم، واستقامتُهم في دينهم، وبالخروج عن ذلك فساد حالهم في الأمْرين. لقد رَبَط الله عزَّ وجل هذه الحقوق الإيمانيّة الأخويّة بدينه، يتجلى هذا في كلٍ من جانِبَي الإيمان والتشريع، فمِن حقوق الإيمان الالتزام بهذه الواجبات تجاه كل مؤمن، ومِن الأخذ بشرع الله سبحانه الالتزام بهذه الواجبات للمسلمين، ولذلك فإن مِن مَواطِن ذكْر الأحاديث في هذا الموضوع كِتاب الإيمان من كُتُب السنّة-إضافةً إلى كتاب الأدب، والبر والصلة، وكتاب المظالم وغيرها- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رَبَطها بالإيمان. كما أن التشريع والأحكام كثيرٌ منها قد جاء لصيانة الأخوّة والحقوق بين المسلمين وجمْع كلمتهم، والحفاظ على وحدتهم، سواء ما يتعلق بالبيوع والمعاملات أم ما يتعلق بسواها!. وقد جاءت النصوص بإثبات هذه الحقوق والواجبات بين المسلمين بصفةٍ عامّةٍ لا تُسقطها معصيةٌ ولا خلافٌ باسم الدين أم الرأي أم بأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 سببٍ آخر، وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يُلَقّبُ حِماراً، وكان يُضحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدْ جَلَده في الشراب، فأُتي به يوماً، فأَمر به فجُلِد، فقال رجلٌ مِن القوم: اللهم الْعَنْه، ما أَكثرَ ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تَلْعنوه، فوالله ما عَلِمتُ إلا أنه يُحبُّ اللهَ ورسولَه" 1. وانظرْ إلى التجانس في المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضه بعضاً.." 2؛ فالمؤمن هذا شأنه، والإيمان هذا أَثَرُه، فمن ادّعاه فليَنْظر في مدى اتّصافه بهذه الصفة، والتجانس كذلك بين صفة الإيمان ومعاملة المؤمن!! والتجانس كذلك في قوله: "لا يُؤمِن أَحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه مثلَ ما يُحِبُّ لنفسه.." 3، والتجانس كذلك بين الإسلام وسلامة المسلمين مِن يَدِ المسلم ولِسانه في قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم مَن سَلِم المسلمون مِن لسانه ويَدِهِ.." 4. وفي الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه، قال: قالوا: يا رسول الله أَيُّ الإسلام أفضل؟. قال: "مَن سَلِم المسلمون مِن لسانه ويَدِهِ ... " 5!!. وانظرْ كيف عَرَّف النبي صلى الله عليه وسلم المسلم بما يُشْعِرُ بالْحَصْرِ بأن: "المسلم   1 البخاري المختَصَر برقم 635، ص 150. 2 مضى تخريجه في الحاشية رقم 201. 3 البخاري المختَصَر برقم 13، ص 27. 4 البخاري المختَصَر برقم 10، ص 27. 5 البخاري المختَصَر برقم 11، ص 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده"، مِثْلُ قوله صلى الله عليه وسلم: "الحجُّ عَرَفَةُ"، كأن عرفة أهمُّ شيء في الحج يَكون به الحج حجّاً، وكأن هذه الصفةَ في المسلم أهم شيء فيه يَكون بها مسلماً!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ثانياً: مظاهرُ لمفاهيمَ مغلوطةٍ: تتعدّد المفاهيم المغلوطةُ في هذا الباب، والتي قد يَحْرص عليها صاحبها؛ لظنّهِ أَنها مِن الدِّين وما هي من الدِّين، ومنها ما يلي: 1- الظنُّ بأنّ المخالَفَةَ في الرأي تُوجِبُ العِداء والإيذاء: يَظن بعض الناس أن المخالفة في الرأي، أو المخالفة في المذهب، أو في منهج الفهم، أو في الطرائق والأساليب، ونحو ذلك، يُسوّغ للإنسان أن يَتّهم أخاه المخالف له بأيّ تهمة، عقدية أو غير عقدية!. وهذا تَصَوُّرٌ ليس عليه دليلٌ صحيحٌ مِن شرْعٍ أو عقْلٍ أو فِطْرَةٍ!. 2- الظن بأنّ المسلمَ المخالِفَ لا يَصِحُّ ذِكْرُ شئ مِن محاسنه أو العَدْلُ معه: يَظن بعض الناس أن المسلم المخالِف له لا يصح ذِكْر شئ من محاسنه، ولا يصح العدْل في حقه أو في التعامل معه! وهذا مسلكٌ لا دليل عليه أيضاً، ولَمْ تَنُصّ عليه نصوص الكتاب والسنَّة، وما ذَهبَ إلى هذا إلا مَن لم يقف على مجموع النصوص بتجرّد، أو مجتَهِدٌ مُخْطئٌ، أَوصِنْفٌ ثالثٌ نعوذ بالله منه. والواجب على مَن أراد الصواب والسلامة أن يَتَخلّص من كل هذه الأسباب الصارفةِ عن الحقِّ والفطرةِ في هذا الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 3- الظنّ بأنّ المسلم المخالِفَ لا يَصحُّ إحسان الظنّ به: يَظن بعض الناس أن المسلم المخالف له لا يصح إحسان الظن به، بل الواجب إساءة الظن!. وهذا يخالف ما دلّتْ عليه نصوص الكتاب والسنة، ويُناقِضُ واقعَ الحال! إذ الواقع أنه ليس كل مخالِفٍ للإنسان فهو على السوء والخطأ، ولو قال قائلٌ بهذه النظرة؛ لقيل له: ومَن هو الذي له أن يَحْكم بهذا الحكم في شأن غيره مِن الطرَفين المُختَلِفَين؟! أو مَن ذا الذي هو في مكان التزكية منهما، ومَن الذي هو بضدّ ذلك مِن الطرفين؟! وقد قال الله تعالى: { ... فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 1، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} 2وقال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 3؛ ولم يَخُصّ –سبحانه- هؤلاء القوم بأُناس مُحَدّدين؛ فيَبقى عموم اللفظ على حاله، ليَدْخُلَ فيه أيّ قوم، بل لم يُحَدَّد حتى بالمسلمين، فيَصْدق هذا على المسلمين وغير المسلمين! فأين الوِجهة أيها الظالم لنفسه ولغيره من الناس بِسُلوكِكَ هذا المسْلَكَ الخطأَ باسم الدين؟!.   1 32: النجم: 53. 2 49-50 : النساء: 4. 3 8: المائدة: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 4- الظنُّ بأنه يَجوز الحُكْمُ على عقائد الناس بالظنّ: يَظُن بعض الناس أَنه يَجوزُ له أَن يَحكمَ على عقائد الناس-رجماً بالغيب- طالما أَنه على المنهج الحقِّ! وليس الأَمرُ كذلك؛ إذْ هو مخالفٌ للأدلة من الكتاب والسنّة، وكثيراً ما يستجيز هذا مَن يستجيزه مِن المسلمين –للأسف- تنصيباً لنفسه في مقام المُدافع الوحيد عن الدين مِن بين إخوانه المسلمين، وحِرصاً منه، بزعمه، على إقامة الناس على الدين، وليس بهذا يتحقّق الصلاح والإصلاح، وليس بهذا جاء الكتاب والسنّة. ومما جاء في حديثٍ عند الإمام البخاريّ: "فقام رجلٌ غائر العينين، مُشرِفُ الوَجنتين، ناشِزُ الجبهة، كثُّ اللحية، محلوق الرأس، مُشَمِّرُ الإزار، فقال: يا رسول الله "اتّقِ الله"، قال: ويلك، أَوَ لستُ أَحقَّ أَهلِ الأرضِ أَن يتّقيَ الله؟!. قال: ثم ولَّى الرَّجلُ. قال خالدُ بن الوليد: يا رسول الله، أَلا أَضربُ عنُقَهُ؟. قال: "لا، لعلَّهُ أَن يكونَ يُصَلِّي". فقال خالدٌ: وكم مِن مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لَمْ أُومرْ أَن أُنقِّبَ قلوب الناسِ ولا أَشُقَّ بطونهم". قال: ثم نَظَر إليه وهو مُقَفٍّ، فقال: "إنه يَخرج مِن ضئضئ هذا قومٌ يتلون كتاب الله رَطباً، لا يُجاوِزُ حناجرهم، يَمْرقون مِن الدين كما يَمرقُ السّهمُ مِن الرَّمِيِّة"-وأظنه قال-"لئن أَدركتهم لأَقتلنَّهم قتْلَ عادٍ" 1. وجاء في بعض أَلفاظ الحديث عند البخاري أَن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ   1 البخاري: المغازي، ح4094، وهو في الأحاديث عنده أيضاً برقم:4390، 6995، 7123، 3166، ط. البُغا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 مِن ضئضئ هذا، أو في عَقِب هذا قومٌ يَقرءون القرآن لا يُجاوِزُ حناجرهم، يَمْرقون مِن الدِّين مُرُوق السّهم مِن الرَّمِيَّة، يقْتُلونَ أهلَ الإسلامِ ويَدَعون أَهل الأوثان، لئن أَدركتهم لأَقتلنَّهم قتْلَ عاد" 1. ولعلَّك-أَيها القارئ الكريم-تعود مرَّةً أُخرى فتقرأَ الحديث، وتلْحَظ: -صفاتِ هذا الآمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالتقوى! -وكيف أنه يأمرُ رسولَ الله بذلك! -ومطابقةَ بعض أَهل عصرنا-ممن قد يَعُدُّه البعض في جُمْلة الدعاة-لصفاتِ ذلك الرجل ودعوتِه المزعومة. -وتَحَقُّقَ ما أَخبرَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم!. -وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا، لَعَلَّهُ أن يكون يُصَلِّي"، وقوله: "إنّي لم أُومر أن أُنَقّبَ قلوب الناس، ولا أَشُقّ بطونهم"، وقوله: "قومٌ يَقرءون القرآن لا يُجاوِزُ حناجرهم، يَمْرقون مِن الدِّين"، وقوله: "يقْتُلونَ أهلَ الإسلامِ ويَدَعون أَهل الأوثان"!. فهل يَغضَبُ مَن على هذه الشاكلة إذا قرأَ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، أم سيرعوي عن هذا الطريق الغوي؟! إنّ في ذلك لعبرة لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيدٌ ولم يَحجبه عن الهُدى هوىً أو بدْعة. ولقد ظَنّ بعض الناس أَن هجومه على الدعاة، باسم محاربة البدعة، واتهامه لكثيرٍ منهم بها، براءةٌ له مِن البدعة، وما عَلِمَ أَنه بهذا المسلَك قد ابتدعَ ووقع في البدعة؛ لمجانبته نصوص الكتاب والسنّة وهَدْي النبيّ صلى الله عليه وسلم،   1 البخاري، الأنبياء، ح رقم3166، ط. البُغا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وأَنّ ذلك المسْلك ليس براءةً لصاحبه مِن البدعة ولا تزكيةً له في دينه!! وصَوّرَ بعض الناس اليوم البدعة-وهو يُهاجمها، بتلك الطريقة، على غير هَدْي الكتاب والسنّة-أَن أَيَّ بدعة فهي في العقيدة، وأَن أَيّ بدعة فهي كفْرٌ، وأَنّ صاحبها لا يَصِحّ أَن يُعاملَه أَهلُ السنّة إلا: بالبغض، والتكفير، وسائر تلك الألوان من المعاملة المجانِبة لما جاء به دين الله تعالى! ويُصَوِّر مَن على هذا المَسْلك أَن معاملة المبتدع بما جاءت به النصوص الشرعية-مما يَعْلمه ومما لا يَعْلمه- إقرارٌ للبدعة للأسف!! مع أَنه لا تَعارضَ بين رَدِّ البدعة أَيّاً كانت، وبين معاملة المسلم المعاملة الشرعية ونصْره ظالماً أو مظلوماً بالمعنى الشرعيّ. ومَن أَعطاك أَيّها المسكين هذا الختمَ؛ لتختمَ به على مَن تشاء مِن عباد الله؛ بأَنّ هذا سُنّيّ وهذا مبتدِعٌ، وحسْبَ هواك، آلله أَذِنَ لك بهذا أَم على الله تفترون؟! وهل تأذَنُ لغيرك بأن يأخذ هذا الختمَ بالتناوب معك أو بمشاركتك في هذه الصلاحيّة، أَم أَن الأمر خاصٌ بك، خصّك الله به مِن بين عباده الصالحين!! اللهم إخلاصاً واتّباعاً وفقْهاً، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهم احفظْ دينك وعبادك وسنّةَ نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم!!. وما أَجملَ قولةَ عبّاد بن عبّاد حين قال: ولا تكتفوا مِن السنّةِ بانتحالها بالقول دونَ العمل بها؛ فإنّ انتحال السنّة دونَ العمل بها كذِبٌ بالقول مع إضاعة [العمل] 1. ولا تعيبوا بالبدع تَزَيُّناً بعيبها؛ فإنّ فساد   1 في المطبوع: العلم. وهو واضحٌ أنه تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 أَهلِ البدع ليس بزائدٍ في صلاحكم، ولا تعيبوها بغْياً على أَهلِها؛ فإنّ البغيَ مِن فسادِ أَنفسِكم. وليس ينبغي للمطبِّب أَن يُداوي المرضى بما يُبرِؤهم ويُمْرِضُه ... " 1!!. 5- استباحة عدَدٍ مِن الأساليب المحرَّمة في التعامل مع المسلم المخالِف: ولقد ترتَّبَ على الظن السابق ذِكره-وهو استباحةُ الطعن في عقائد المسلمين، نُصْرةً للدين، على حدِّ زعْم الزاعمين-استباحةُ ارتكابِ عددٍ مِن الأساليب غير مشروعة، كلُّها ظُلُماتٌ بعضها فوق بعض، للقيام بهذا الواجب المزعوم!. ومِن تلك الأساليب ما يلي: *استباحةُ تتبُّعِ عورات المسلمين بغيرِ حقٍّ، وقد جاء في الحديث: "عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنادى بصوتٍ رفيعٍ، فقال: "يا معشر مَن أسلمَ بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه، لا تُؤذوا المسلمين ولا تُعَيّروهم، ولا تتبَّعوا عوراتهم؛ فإنه مَن تَتبَّعَ عورة أَخيه المسلم تَتبَّع الله عورته، ومَن تتَبَّعَ الله عورته يَفضحْه ولو في جوف رَحْله" 2.   1 سنن الدارمي: 1/170. 2 أَخرجه الترمذيّ: برقم2032، وعنده: "ونظر ابن عمر يوما إلى البيت أو إلى الكعبة، فقال: ما أعظَمَك وأعظَمَ حُرمَتَكِ، والمؤمنُ أعظَمُ حُرْمَةً عند الله منكِ"، قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ ... ، وأخرجه ابن حبان برقم: 1494. يُنْظَر: غاية المرام بتخريج أحاديث "الحلال والحرام"، للألباني، برقم420، وقد حسّنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 هذا في الذي يتتبَّعُ عورات المسلمين؛ فكيف بالذي يتَّهم المسلمين بما ليس فيهم!. وإذا قال لك مَن هذه حاله: إنه يفعلُ هذا مِن أَجْل الإسلام. فقُلْ له: كَذبتَ، ليس الأمر كذلك؛ لأنَّ هذا الحديث هو كلام رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، والإسلام إنما يؤخذُ عنه وليس عن مثلك!. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: "إنك إنْ اتّبعتَ عورات الناس أفسدتهم، أو كدتَ أن تُفْسِدهم" 1، وقال أيضاً: "إنّ الأميرَ إذا ابتغى الريبةَ في الناس أَفسدهم" 2. * مخادعَةُ الناس والتعاملُ معهم ليس على أساس النصيحةِ، وإنما بهدَفِ تَطَلُّبِ الفضيحة؛ لأن هذا هو الذي يَسرُّ هذا الصنفَ مِن الناس؛ فيُحِبُّ أحدُهم أَن يُثْبِتَ أن فلاناً مبتدعٌ-مثلاً-ويَدْعُوه ذلك إلى أنْ يتخذ عدداً من الأساليب والوسائل المادِّيّة والمعنويّة، غيرَ مشروعةٍ؛ لتحقيق غايته تلك، ولَعَلّه يزورُ-مِن أجْلِ ذلك الغرض- مَن لا يُحِبُّ زيارته، أو مَن لا يُحبُّه، ولعلَّه يستمِعُ لحديث مَن لا يُحِب سماع حديثه، وقد يكون المتحدِّثُ كارهاً كذلك لاستماع ذلك الشخص لحديثه، ثم يُحَوِّر الزائرُ ويُزَوِّرُ في الكلام قصْداً، أو ينقله على غير فهْمٍ، كلُّ ذلك لِيَنْصُرَ الدين ويُحاربَ البدعةَ بزعمه! -والحمد لله على العافية والسلامة مِن مثل هذه الأمراض3.   1 ممن أَخرجه أبو داود برقم4888، وابن حبان برقم5730. يُنْظَر: غاية المرام بتخريج أحاديث "الحلال والحرام"، للألباني، برقم424، وقد صححه. 2 ممن أخرجه أحمد: 6/4، وأبو داود برقم4889. يُنْظَر: غاية المرام بتخريج أحاديث "الحلال والحرام"، للألباني، برقم425، وقد صححه. 3 ولقد يَفعل هذا طالبٌ مع أُستاذه-وهو طالبٌ، وهو مِن أَجهلِ الناس بمنهج السلف وأخلاق الإسلام-. ومتى أَصبح مثْلُ هذا الطالب وليّاً للإسلام وفي مكان الرقيب على شيخه، ومتى أَصبح الشيخ في مكان المتَّهم على الإسلام وأَهله؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ولقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ... "ومَن استَمَعَ إلى حديث قومٍ وهم له كارهون أو يَفِرّون منه، صُبَّ في أُذنه الآنِكُ1 يوم القيامة"..2. وقد يُعمِي أعمى البصيرة عن استعظام هذا الذنْبِ والنفورِ منه، أَنّ الآنِكَ لَمْ يُصَبَّ في أذنيه بعْدُ؛ لأنّ يوم القيامة لم يأتِ بعْدُ!. * وقد يزور أحدُهم أخاه المسلمَ، المخالِفَ له في أمورٍ لعلّها اجتهادية، ونتائج الاجتهاد فيها لا تدور بين الكفر والإيمان، وإنما بين: أَخطأتَ، وأَصَبتَ، يَزوره-ليس لله تعالى إنما- لِيَرْصُدَ عليه خطأً أو خطيئةً؛ فبأيِّهما ظَفِرَ فَرِحَ، وقد يُعامله المَزُور بصدقٍ وصفاءٍ، وقد يُسِرُّ إليه بِسِرِّهِ يَظنّه صديقاً صدوقاً، وما عَلِم أنه عَدوٌّ في ثيابِ صَديقِ، وأنه مِن شِرارِ الناسِ ذَوِي الوَجْهين، الذين أخبرَ عنهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم!!. 6- الظنُّ بأن المسلم المخالِف لا يَصحُّ التعامل معه أو إعطاؤه شيئاً من الحقوق: يَظن بعض الناس أن المسلم المخالِف له لا يصح التعامل معه ولا زيارته، ولا يصح إعطاؤه شيئاً من الحقوق الشرعية للمسلم على المسلم!. وقد زار النبيّ صلى الله عليه وسلم غلاماً يهوديّاً مَرِض، فقد روى الإمام البخاريُّ في صحيحه: عن أَنسٍ رضي الله عنه، قال: "كان غلامٌ يَهوديٌّ يَخْدِم النبيّ صلى الله عليه وسلم فمَرِض، فأتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُوده، فقَعَد عند رأسه، فقال له: أَسلِ مْ،   1 هو: الرصاص المُذاب، وقيل هو خالصُ الرصاص الفتح12/429. 2 البخاري، التعبير، 45-باب من كَذَب في حُلمهالفتح12/427. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 فنَظَرَ إلى أَبيه-وهو عنده-فقال له: أَطعْ أَبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأَسلمَ، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمدُ لله الذي أَنقذهُ مِن النار! " 1؛ فهذا يهوديٌّ يَزوره رسول الله المُبَلِّغ عن ربه تبارك وتعالى؛ فأين المفر أيها السادر في هذه الطريق المُظلمة الظالمة باسم الدين، والدِّين لا يُقِرُّ بذاك؟!. 7- الظن بأن المسلم المخالِفَ يَجوز الكلام في عِرْضه: يَظن بعض الناس أنه يجوز له أن يَتكلم في عِرْض أخيه المسلم المُخالِف له ويَطعن فيه-بحُكْمِ هذه المخالَفِة-بمختلف أَوجُهِ الطعن بل قد يَزْعم أنّ ذلك يَجِبُ!. ولكن أين الدليل الصحيح الذي يَسْلم الاستدلال به مِن الاعتراض؟! وكيف يُمْكن أنْ يَقُوم دليلٌ على معارضة جمهور الأدلة الشرعية المُحَرِّمةِ ذلك الناهية عنه أشدَّ النهيِ؟!. 8- زعْمُ التقرُّبِ إلى الله تعالى بأذيِّة المسلمِ أخاه المسلمَ: يَزعم بعض الناس التقرّبَ إلى الله بأذية أخيه المسلم بأنواعٍ مِن الأذى كتَجهُّمِ الوجه، وعدم ردِّ السلام عليه -تعالى الله عن هذه القُربة-!. وما هذا الخُلُق إلا تعبيرٌ عن انفعالاتٍ نفسيّة وصِفاتٍ شخصيّةٍ يُلْبِسها صاحِبُها لَبوس الدين. ودينُ الله مِنها بُراءٌ! وما هو إلا تأصيلٌ للحقدِ والأذى ومساوئ الأخلاق في مجتمعات المسلمين تأصيلاً دينياً للأسف الشديد، ولكن -بحمد الله- دينُ الله بريءٌ مِن هذا كله، بل قد جاء بضد ذلك، مِن الأخوّة، والعدل، والإنصاف، وحُسْن الظن في مواضعه،   1 البخاري المختصر برقم679، ص159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وإفشاء السلام، والإحسان، والسماحة، والصدق، والتثبت، وما إلى ذلك مِن معاني الدين ومقاصده وأخلاقه. وهذه الأوهام يَصعبُ حصرها هنا، وليس هذا مقصوداً في طَرْقِ الموضوع الآن. د- معارَضَةُ هذه الأوهام لما جاءت به شريعة الإسلام: ولكن المتعيّن هنا التأكيد على أن هذا كله يتعارض مع ما جاءت به نصوص الشرع من أصولٍ وفروعٍ في هذه الحقوق؛ فعموم الأمر بالسلام، والأمر بِرَدِّه، وعموم الأمر بالكلمة الطيّبة، والصَّدقة، والإحسان إلى الناس، وإلى القريب والجار، وأمثالها، كلُّها عمومات تَرُدُّ على هذه الأغاليط مِن الأفهام. فمثلاً قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخِر فلا يؤذِ جاره" 1، وفي روايةٍ: "فلْيُكْرم جاره" 2، وفي روايةٍ: "فلْيُحْسن إلى جاره" 3 وأمثال ذلك، يَرُدُّ على مسالك الفهم المخطِئة تلك -وربما الخاطئة-؛ فليس في هذه الأحاديث -مثلاً- اشتراط شروط لإعطاء حق الجار هذا، ولم تأتِ بقية النصوص بشرط أو شروط مِن هذا القبيل!. ومِن الأمثلة أَيضاً ما جاء مِن النصوص في تحريم الظلم بصفةٍ عامّة، مثل ما رواه أبو ذرّ، رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربّه تبارك   1 البخاري، برقم5672، و4890، ومسلم، في الإيمان، برقم75. ولفظة: فلا يؤذي. جاءت في بعض الروايات بالياء المثنّاة، وفي بعضها بدونها. 2 أخرجه البخاري، برقم5673 ط. البُغا، ومسلم، في الإيمان، برقم: 7447. 3 أخرجه مسلم، في الإيمان، برقم76، و7748. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وتعالى أنه قال: "يا عبادي! إنّي حرّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلْتُه بينكم مُحَرّماً؛ فلا تظالموا.." 1؛ فإنّ هذا العموم في تحريم الظلم، أيِّ ظلْم، ولأيّ شخص، ومِن أيّ شخص -حتى حَرَّمه الله على نفسه- عمومٌ ليس له مُخَصِّص! ومَن استحلّ شيئاً مِن الظلم لأحدٍ مِن الناس المسلمين أو الكافرين، بل وظُلم الدواب، بدليلٍ صحيحٍ فلْيُظْهرْه! بل ذهَب سُموُّ هذا الدين إلى أبعدَ مِن ذلك في أخلاقه وآدابه فجاءت نصوصه وأحكامه بتحريم أن يؤذيَ المسلم أخاه مِن غير قصْد له، كما هو الشأن في التنفير الصارم مِن أكل الثوم والبصل؛ لا لأنهما حرامٌ حرمةً ذاتيّةً، وإنما لكي لا يتأذى منهما المصلّون وملائكة الله2!!. وقد روى تميم الداريّ، رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال:" لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامّتهم" 3؛ فهذا هو الواجب: النصيحة. وبهذا العموم، دون قيدٍ أو شَرْطٍ في أداء هذه النصيحة. وإذا كان الدين النصيحة؛ فإنّ معنى هذا أنّه واجبٌ على كل مسلمٍ أن يكون على النُّصْح، وأن يكون على هذا النصح وَفْقَ ما وَرَدتْ به النصوص من عموم. يقول الإمام ابن حبان مُعلِّقاً على هذا الحديث: الواجب على العاقل لزوم النصيحة للمسلمين كافة، وتَرْك الخيانة لهم بالإضمار، والقول، والفعل معاً؛ إذْ المصطفى صلى الله عليه وسلم   1 مسلم، البر والصلة، برقم552577. 2 مسلم، المساجد ومواضع الصلاة، الأحاديث: 68- 78561-567. 3 مسلم، - الإيمان، ح95 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 كان يشترط على مَن بايعه مِن أصحابه النصحَ لكل مسلمٍ مع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة1!!. ولعلَّ مِن المهم التنبّه هنا إلى أن النُّصْح إما أن يوجَدَ لدى الإنسان، أو يُفْقَدَ، وأنه صفةٌ لا تتجزَّأُ؛ فمن كان ناصحاً مخلِصاً فإنه سيكون ناصحاً مخلِصاً لكلِ مَن أوجب الله له النصيحة والإخلاص؛ فيكون ناصحاً: لله، ولرسوله، ولكتابه، وللأئمة المسلمين، وعامّتهم، ومتى ما رأيت مَن يَدّعي الإخلاص لمجالٍ واحدٍ من مجالات النصيحة دون سواه؛ فاعلم أنه دَعيٌّ وليس كما يقول، فمَن يَزعم الإخلاص لعامّة المسلمين دون وليّ أمرهم، فاعلم أنه ليس على شيءٍ مما يقول، ومَن يَزعم الإخلاص لوليِّ أمر المسلمين في حين أنه غاشٌّ للمسلمين فاعلم أنه ليس كما يَدَّعي! إنّ كلّ مجالات النُّصْح خُلُقٌ ودِينٌ؛ فلا يَصِحّ التفريقُ بينها، ولا معنى له إلا عدمُ الإخلاص، نسألُ اللهَ منه الخلاص!. ومِثْل صفةِ الإخلاصِ صفةُ الرحمة؛ فإنك تجد مَن يتصف بها رحيماً في شتى مَوَاطن الرحمة ومجالاتها، لا يَخُصُّ واحداً مِن ذلك عن سواه، أَمّا أن يَرْحم أولاده فقط-مثلاً-ولا يَرحم مَن عداهم فهذه ليست رحمة الإنسان للإنسان أو رحمة الرحيم في مَوَاطن الرحمة، وإنما هي رحمة البهائم ومَن كان في هواه هائماً!!. وهكذا قُلْ في العموم الذي جاء في باقي النصوص السابقة، وما في معناها، وكذا قُلْ في بقيةِ المعاني في هذا الباب -أعني بابَ المعاملة بين الناس- التي لا   1 "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء": 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 شك في أن مجموعها هو الإسلام -في هذا المجال مِن مجالات الدين- بحِكَمه وأحكامه. وكأننا عنها أو عنه غافلون؛ فإنا لله وإنّا إليه راجعون!. وليس الغريب ارتكاب هذه الأخطاء فقط، وإنما الحرص عليها واتخاذها ديانةً وقُربةً، والدين لا يُقِرُّ ذلك، وإنما جاء بعكسه!. - قال جعفر بن محمد: إياكم والخصومةَ في الدين، فإنها تشغل القلب، وتورِثُ النفاق! 1. - قال الفُضَيل: واللهِ ما يَحِلُّ لك أن تؤذيَ كلباً ولا خنزيراً بغير حقٍّ؛ فكيف تُؤذي مسلماً؟! 2. وقال الإمام الذهبيّ في مَعْرض تعليقٍ له على حُكم الضحك: وأما التبسُّم وطلاقة الوجه فأرفعُ مِن ذلك كلِّه، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "تَبسُّمك في وجه أخيك صَدَقةٌ" 3، وقال جريرٌ: "ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تَبسَّمَ" 4؛ فهذا خُلق الإسلام، فأعلى المقاماتِ مَن كان بكّاءً بالليل،   1 سير أعلام النبلاء، للذهبيّ، تهذيبه: ص536. 2 سير أعلام النبلاء، للذهبيّ، تهذيبه: 663. 3 يُنظر الحديث في ص 194، حاشية 209. 4 أَخرجه مسلمٌ في: فضائل الصحابة رضي الله عنهم، ح1352475، وتمامه: ما حجَبَني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذُ أَسلمتُ، ولا رآني إلا تَبَسّمَ في وجهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 بسّاماً بالنهار1. ثم قال: "بقيَ هنا شيءٌ: ينبغي لمن كان ضحوكاً بسّاماً أن يُقصِّر مِن ذلك، ويلومَ نفسَه؛ حتى لا تَمجَّه الأَنفُس، وينبغي لمن كان عبوساً منقبضاً أن يَتبسّمَ، ويُحسِّنَ خُلقه، ويَمْقتَ نفسَه على رداءة خُلقه. وكل انحرافٍ عن الاعتدال فمذمومٌ، ولا بدَّ للنفسِ من مجاهدة وتأديب! " 2. وقد عَرفنا مِن خلال النصوص الشرعية خطأَ هذه الظنون، وفداحةَ هذه الأخطاء في الدنيا والآخرة!. هـ- خلاصةُ ما يؤدي إليه هذا المبحث: وبِتتبُّعِ هذه النصوص يتبيّنَ لنا ما يلي: 1- أَن هذه النصوص مِن الكتاب والسنّة ليس لها مُعارِضٌ مِن النصوص الأُخرى. 2- وأن الأحكام الواردة في الكتاب والسنّة بشأن هذا الموضوع قد شملت ثلاثةَ أنواعٍ مِن الحقوق للمسلم على المسلم، هي: الحقوق التي على القلب، والحقوق التي على اللسان، والحقوق التي على الجوارح الأخرى؛ فمعنى ذلك أن حقوق المسلم على أخيه المسلم قد استغرقت جوارح الإنسان كلها، ومعنى ذلك أيضاً أن حقوق المسلم على المسلم يَجب أن يَتواطأ عليها القلب واللسان وسائر الجوارح! 3- وأنه ليس في الكتاب والسنّة نصوصٌ ناسخةٌ لهذه النصوص السابقة   1 سير أعلام النبلاء، للذهبي، تهذيبه: 747. 2 سير أعلام النبلاء، للذهبي، تهذيبه: 747. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وما في معناها. 4- وأنه ليس بِمَلْكِ أَحدٍ مِن الناس أن يَدّعيَ أن له الحقَّ أن يَنْسَخ كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم!. 5- وبهذا يَتبين أن هذه النصوص وهذه الأحكام مُحْكمَةٌ غايةَ الإحكام، وأنها: * مِن خصائص الإسلام العظام. * ومِن ثمرات الإيمان بالله تعالى. * ومِن أهمّ وسائل حِفْظ الدِّين وحِفْظ المجتمَع مِن التصدّع والزوال. * ومِن أهمّ وسائل حِفْظ الحقوق بين كلٍّ مِن الأخ المسلم وأَخيه، والراعي والرعيّة، والكبير والصغير. * وأنّ كلّ دعوى أو دعوةٍ تقوم على خلاف هذه الأخلاق التي جاءت بها الآيات والأحاديث، أو على مُعارَضتِها، فهي مرفوضةٌ شرعاً وعقلاً وفِطرةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 المبحث الثاني: خُلق التعامل مع المخالِف الكافر توطئة : هناك تفاصيل في أحكام علاقة المسلم بغير المسلم، وهي مختلفةٌ بحسب نوع العلاقة، وهل هي مع الأفراد، أو مع الدول، وكذلك العلاقة في السِّلْم، والعلاقة في الحرب. وليس القصد في هذا الموضوع هنا بيان تفاصيل ذلك، وإنما بيان طبيعة هذه العلاقة، وذلك نظراً لارتباطها بالأخلاق، وكذلك نظراً لما وقع فيها من أخطاء عند كثير من المسلمين. وإن الأساس الذي بَنَى عليه الإسلامُ علاقة المسلم مع غير المسلم في الأحوال كلها هو مكارم الأخلاق، وخُلق التعامل الحسن، وخُلق الدعوة في مواضعها، والجهاد في سبيل الله في مواضعه الشرعية؛ فللسماحة مواضعها الشرعية، وللحزم مواضعه الشرعية، وهذه المواضع كلها مبنية على مكارم الأخلاق!. نَعَمْ هذا هو الأساس في تعامل المسلم مع الكافر، على الرغم من أن الكافر مخالِفٌ للمسلم مطلقاً بحُكْم كفره، فلا نحتاج أن نقول: خُلُق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 تعامُلِ المسلم مع الكافر المخالف1. وذلك لأن الكافر مخالف للمسلم في أصْل الدين بطبيعة الحال. وفيما يلي حديثٌ عن سمات هذا الموضوع. وربما كان من المهم الإشارة هنا إلى أن البحث في هذا الموضوع قد جاء على اشتراط تَلقّي المفاهيم أو أي موقف في الموضوع من نصوص الكتاب والسنة فحسبُ، وأن تكون هي الموجِّهُ والمرشِدُ والحَكَم في فهم هذا الموضوع.   1 لأنه ليس هناك كافرٌ غير مخالف للمسلم. والفرق واضحٌ بين أن نقول: التعامل مع المخالف الكافر، وبين أن نقول: التعامل مع الكافر المخالف. وهذا بخلاف الأمر بالنسبة للمسلم؛ إذْ هناك المسلم المخالف، والمسلم غير المخالِف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 1- الأصول الشرعية للعلاقة بالكافر غير المحارِب: ينقسم الكافر إلى محارِب للمسلمين وغير محارِب، ولكلٍ منهما في الإسلام أحكامٌ واجبٌ أن يَلتزمَ بها المسلم معه. وأهم مظاهر العلاقة بالكافر غير المحارب في حكم الإسلام ما يلي: 1- كفُّ الأذى والظلم، وعدم التعدي عليه، وهذا مما يَصْدق عليه مثْل قوله صلى الله عليه وسلم: "من قَتَلَ معاهَداً لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإنّ ريحها توجَدُ مِن مسيرة أربعين عاماً"2. فهكذا يتحدد هذا الوعيد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قَتَل الكافر المعاهَد!. 2- التزام أصول الأخلاق في الإسلام معه، من الصدق والأمانة، والعدل والإنصاف، والرحمة في مواضعها الشرعية، وما إلى ذلك من أصول الأخلاق الحميدة.   2 أخرجه البخاري، الجزية، باب رقم 5،ح2995، ط. البُغا، 3/1155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 3- جواز إيصال البِرِّ والمعروف الإنسانيّ إليه، ومِن ذلك جواز الهدية والإغاثة، ونحو ذلك من أعمال الأخلاق الحسنة، بضوابطها الأخلاقية الشرعية1. ومِن ذلك الهدية مثلاً؛ فقد قالت أسماء رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم -لَمّا قَدِمتْ عليها أُمُّها مشركةً-: إنّ أمي قَدِمتْ عليّ وهي راغبة، أفأَصِلُ أُمي؟ قال: "نعم، صِلي أُمّك"2، وأهدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حُلّةً إلى أخٍ له مشرك بمكة، كانت قد جاءته مِن النبيّ صلى الله عليه وسلم3. وأباح الله قبول الهدية من المشركين والكافرين، فقد قَال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الغنم المشرك عندما أراد أن يأخذ منها شاةً: "بيعاً أم عطية"، أو قال: "أم هبةً؟ ". قال: لا، بل بيعٌ، فاشترى منه شاةً4، وأهدى مَلِكُ أيلة للنبيّ صلى الله عليه وسلم بَغْلةً بيضاء، وكساه بُرْداً5، وكَتَب له ببحرهم6 فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قد قَبِلَ الهديّة من الكافر، وأهدى إليه أيضاً؛ وهكذا فإنه تجوز الهدية إلى الكافر، ويجوز قبول هديته7، من حيث المبدأ، ما لم يقترن   1 وأهمّها أن لاتكون بمحرَّم، وأن لا تكون على حسابِ الدَّين والأخلاق، ومن ذلك أن لا تكون على حساب واجبات المسلم تجاه الإسلام والمسلمين. 2 أخرجه البخاري، الهبة، باب 28،ح 2477، ط. البُغا 2/924. 3 الحديث في البخاري، في مواضع منها حديث رقم846، ط. البُغا،1/302. 4 البخاري المختصر برقم255،ح 1168. وقد عقد له ترجمةً بعنوان: "باب قبول الهدية من المشركين". 5 قال الإمام ابن حجر: "وكساه بُرْداً"، كذا فيه بالواو، ولأبي ذرٍّ بالفاء، وهو أَولى؛ لأن فاعل "كسا" هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: "ببحرهم" أي بقريتهم. الفتح: 6/266-267. 6 البخاريّ المختَصَر برقم 1340، ص302، والفتح: 6/266. 7 والمسألة خلافيةٌ بين العلماء لهذه الأحاديث وأمثالها، وللحديث عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّهُ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً لَهُ، أَوْ نَاقَةً؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ؟ " قَالَ: لا.== الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ذلك بما يجعله محرّماً كأن تكون على حساب شئ من الخُلق والدين. وهذا حُكمٌ مطّرِدٌ حتى بالنسبة للمسْلم. على أنّ من اللازم أن يتنبّه المسلم إلى الحذر من تحوِّلِ تعامُلِه مع الكافر أو الكافرين إلى موالاةٍ أو محبةٍ أو تفضيل لهم وتقديمٍ لهم على المسلمين أو مجاملة لهم في مسائل الكفر أو إطراءً لهم أو لعباداتهم أو تهنئةٍ بأعيادهم، ونحو ذلك مما هو مِن شعائر دينهم، أو مُلازِمٌ للكفر.   = قَالَ: "فَإِنِّي نُهِيتُ عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِين"َ، أخرجه الترمذي، 1577، السير، وأبو داود، 3057، الخراج والإمارة والفيء، وقَالَ الترمذي: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إ"ِنِّي نُهِيتُ عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِك" ينَ يَعْنِي هَدَايَاهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقْبَلُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ هَدَايَاهُمْ، وَذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْكَرَاهِيَةُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَعْدَ مَا كَانَ يَقْبَلُ مِنْهُمْ، ثُمَّ نَهَى عَنْ هَدَايَاهُمْ" قلتُ: قد ضَعّف الإمام ابن حجر دعوى النسخ ودعوى التخصيص، وَسَاق ابن حجر الخلاف في هذا بين الأئمة بقوله: "وأورد المصنف [يَعني: البخاري] عدة أحاديث دالة على الجواز، فجمع بينها الطبري بأن الامتناع فيما أُهدِي له خاصة، والقبول فيما أُهدِي للمسلمين. وفيه نظر؛ لأن مِن جملة أدلة الجواز ما وقعت الهدية فيه له خاصة. وَجَمع غيره بأن الامتناع في حق مَن يريد بهديته التودد والموالاة، والقبول في حق مَن يُرجى بذلك تأنيسه وتأليفه على الإسلام. وهذا أقوى مِن الأول. وقيل: يُحْمل القبول على مَن كان مِن أهل الكتاب، والرد على مَن كان من أهل الأوثان، وقيل: يمتنع ذلك لغيره من الأمراء، وأن ذلك من خصائصه. ومنهم مَن ادّعى نسخ المنع بأحاديث القبول، ومنهم مَن عَكَسَ. وهذه الأجوبة الثلاثة ضعيفة؛ فالنسخ لا يَثْبت بالاحتمال، ولا التخصيص"، الفتح، 5/ 231. ومع هذا، فإنّ أحاديث الجواز هي الأكثر الأشهر والأقوى ثبوتاً، ثم إنه لابدّ مِن مراعاة اختلاف الأحوال ورعاية المصالح الشرعية، ولا شَكّ في أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إن اختلفت الأحاديث عنه في هذا فإنّه كان مراعياً لذلك، وربما كان هذا هو السبب في اختلاف الأحاديث، والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وهكذا، فإن الإسلام لا يبيح للمسلم أن يتعامل بأخلاق ذات وجهين: - وجْهٍ هو مكارم الأخلاق، للتعامل مع المسلم. - ووجْهٍ هو بضدّ ذلك، لا يندرج إلا في مساوئ الأخلاق، للتعامل مع الكافر. ولكن الإسلام في الوقت نفسه لا يُسَوِّي بين المسلمِ والكافر في مجالٍ آخَر هو مجالُ الدِّين وما يستلزمه من حقوق بين المسلمين، ومجالُ ولايةِ الله ونُصْرته سبحانه. إنّ القاعدة العامة لِتعامُلِ المسلم مع الناس واحدةٌ، هي قاعدة الخُلق الحميد، وهي قاعدة التعامل الشرعيّ، وهي قاعدةٌ تُساوي بين المتساويين وتُفرّق بين المفترقَين على ما سبق بيانه. وتتلخص صورة تَعَامل المسلم مع الكافر في المجالين الآتيين: أ- مجال البر والإحسان ومختلف مكارم الأخلاق: وفي هذا المجال جاءت أحكام الإسلام وَفق ما يلي: ? حَرّم الإسلام الإكراه في الدين، قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 1. ? أوجب على المسلم الالتزام بمحاسن الأخلاق في مختلف الأحوال والظروف ومع جميع الأشخاص كما سبق بيانه. ? حَرّم على المسلم الغدر والظلم لأي طرَفٍ يتعامل معه، سواء أكان مسلماً أم كافراً. والنصوص الشرعية في هذه المعاني كثيرة، منها قوله تعالى: { ... وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} 2، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الظلم ظلماتٌ   1 256: البقرة: 2. 2 140، و157: آل عمران: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 يوم القيامة" 1، وقوله: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يُرْفَع لكل غادرٍ لواءٌ، فقيل: هذه غَدْرة فلان بن فلان" 2!، وقد عَقَد البخاريّ على هذا باباً عنوانه: "باب إِثْم الغادر لِلبَرِّ والفاجر! "، ولا يتسع المقام لحصر الآيات والأحاديث المتواردة على هذا المعنى؛ لكثرتها، وقد عَقَد الإمام البخاري في صحيحه كتاباً بعنوان: كتاب المظالم. وعموم النصوص الشرعية في تحريم الظلم لم يُخصصه شئٌ، فلم يَرد شئ من النصوص يُجيز شيئاً مِن غدْر غير المسلم وظلْمه! ? أباح إيصال المعروف والبِرِّ إلى الكافر غير المحارِبِ، على ما دلّتْ عليه الأدلة التي مضت الإشارة آنفاً إلى طَرَفٍ منها. ب- مجال العلاقة مع الكافر على حساب الدِّين: وفي هذا المجال حَرّم الإسلام أن تكون علاقة المسلم بالكافر على حساب الدين والعقيدة والأخلاق، ومِن ثم حرّم الإسلام على المسلم أنواعاً من الأخلاق وصوراً من التعامل مع الكافر، لعل أصولها ما يلي: ? محبة الكافر ومودّته، {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ..} 3. وهذا حُكمٌ معلَّقٌ بالأوصاف لا الأشخاص؛ ولهذا فإن كل من حادّ   1 البخاريّ المختَصًر برقم 116، ص244. 2 أخرجه مسلم بهذا اللفظ، في الجهاد والسير، ح 9 1735،ص 1359، وبألفاظ أُخَر، يُنظَر: الأحاديث إلى رقم16، وأخرجه البخاري بألفاظ، في الجهاد باب إِثْم الغادر للبَرّ والفاجر!. 3 22: المجادلة: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الله ورسوله فإن هذا الحكم مطّرد في حقه، فلا تجوز محبته ومودّته، بل الواجب بغضه في الله، وبُغْضُه ببغض الله له: { ... فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 1 { ... إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 2. ? موالاة الكافر من دون المؤمنين {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... } 3. فموالاة المؤمن للكافر لا تجوز ولم يأذن بها الله سبحانه، ولكن المراد بها الموالاة بمفهومها الشرعيّ، وليس كما يتصوره أو يصّوره بعض المسلمين، الذين يمنعون بموجبها أشياء أباحها الله أو أوجبها للتعامل مع الكافر، أو يوجبون بمقتضاها في نظرهم أشياء حرمها الله تعالى. والموالاة المنهيّ عنها هي أن تكون علاقة المسلم بالكافر علاقةً على حساب الدين والخُلق وعلى حساب المسلمين، في أي أمرٍ من الأمور أو حالٍ من الأحوال، سواء أكان ذلك في أمْر النُّصْرة أم المودّة أم في سواهما، ومن ذلك موافقةُ الكافر في منكرٍ ما أو مشاركته فيه.   1 32: آل عمران: 3. 2 45: الروم: 30. 3 28: آل عمران: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 2- مظاهرُ طبيعة علاقة المسلم بالكافر المحارِب: إنّ مِن مظاهر طبيعة علاقة المسلم بالكافر المحارِب ما يلي: * النهي عن البدء معهم بالقتال قبل الدعوة، وهو ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم حاملَ الراية في جيشه يوم خيبر -عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه- بقوله له: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 "انفُذْ عَلى رِسْلِك حتى تَنْزِل بساحتِهم، ثم ادْعُهُم إلى الإسلام، وأخْبِرْهم بِما يجبُ عليهم، فواللهِ لأَنْ يهدِيَ اللهُ بِكَ رَجلاً، خيرٌ لك من أن يكون لَكَ حُمْرُ النَّعم" 1. *النهي عن الغدر والمُثْلَة في القتال. *النهي عن قتل من لا يقتضي الجهاد في سبيل الله قتْلَه، وهم الذين لم يُشاركوا منهم في القتال، كالصبيان والنساء، والقسس والرهبان المنقطعين للعبادة في صوامعهم، والشيوخ الكبار المعتزلين للمعركة. فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "وُجِدَتْ امْرأةٌ مقتولةً في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قَتْلِ النساء والصبيان" 2. *تحريم إفساد الزروع والثمار وإحراق الدور -من غير ضرورة إليه، وتسميم المياه ونحو ذلك، فإنّ ذلك داخِلٌ في عموم النهيِ عن الإفساد في الأرض. وتبقى بعد ذلك مفاهيم مغلوطة فيما يتعلق بالأخلاق وطبيعة التعامل مع الكفار، يظنها بعض المسلمين من الإسلام، وليست منه في شئ. وسأشير إلى بعض مظاهر هذه المفاهيم فيما يلي.   1 البخاري: 60- الجهاد، 141- باب فضلِ مَنْ أسلم على يَدَيْهِ رجلٌ، ح: 28473/1096، ط. البُغا. 2 البخاري: 60-الجهاد، 146-باب قَتْل النساء في الحرب، ح:2852 3/1098 ط. البُغا. ويُنظَر حكم قتْل النساء والصبيان في"فتح الباري ... ":6/146-148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 3- مظاهر لبعض المفاهيم المغلوطة: تتعدّد مظاهرُ المفاهيم المغلوطة في هذا الباب وأسبابُها، وأشيرُ هنا إلى أهمها في النقاط التالية: أ - الانطلاق من الانفعالات والمواقف الشخصية: لعل من أوسع أبواب الخطأ في فهم طبيعة التعامل الشرعي، وفي فهم الأخلاق المتعيّنة على المسلم تجاه الكافرين، الانطلاق من الانفعالات والمواقف الشخصية، وليس من خلال النصوص والأحكام الشرعية؛ وبالتالي تأتي المفاهيم والكتابات في هذا الموضوع تبعاً لمواقف الأشخاص، وانفعالاتهم، وطبائعهم، وظروفهم. فهي عندئذٍ تختلف باختلاف القوة والضعف، والشدة واللين، والحماس وضده!. والواجب أن يكون التعرف على هذا الجانب المهم من الإسلام، من خلال النصوص الشرعية، لا المواقف الشخصية، ولا ما يُمليه واقع العصر1. والواجب أن يكون ذلك من خلال الرجوع إلى النصوص كلها وفهْمها وَفْق منهج سديد. ومِن المؤكَّد أن ما يُعبِّر به بعض المسلمين عن إخلاصهم للإسلام تجاه   1 ولا سيّما في هذا العصر الذي مارسَتْ فيه كثيرٌ من دول الكفر ألواناً مِن الإساءة والضغوط والاضطهاد للمسلمين، بعيداً عمّا تَقضي به أصول الأخلاق الحميدة، فانعكس ذلك على طبيعة العلاقة مع المسلمين، وعلى نظرة المسلمين لهؤلاء، ومواقِفهم منهم؛ فظهر أثرُه في آرائهم تجاههم؛ والشر يَجرُّ الشرَّ، والخطأ يَجرُّ الخطأ!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 تعاملهم مع الكافرين مِن تصرفاتٍ انفعالية، يُعبِّرون بها عن الكراهية والعِداء بطريقة لا يُقرّها الإسلام، يظنون أنهم يَنصرون بها الإسلام، إنما هي تصرفات لا تُغْني عن العمل الجادّ لنُصْرة الدين، ولا تَنُوبُ عن خُلق الإسلام وأدبه، ولا تَنِمُّ عنه، ولا تُغْنِي، إنها لا تَخْدم الإسلام في شئ، إنما هي تشنجاتٌ وردود أفعال مخطئة. -هذا على الرُّغم من أنّ الغالب أن تَكُون هذه نتيجةً لحُبِّ الدِّين والغيرة عليه والإيمان الصادق- ولكن الأفضل مِن ذلك: عَملٌ وئيدٌ راسخ يَخدم هذا الدين في أيّ مجال، أو في شتى المجالات، ويَهْتدي بهدْي الإسلام وأحكامه، ويتخلّق بأخلاقه وآدابه {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ... } 1 ونَصْرُنا لله إنما يجب أن يكون بشرع الله، لا بأهوائنا حتى ولو كانت سائرة في هذا الاتجاه المتشنج من أجْل الدين ما دامت على غير هدْيه!. ب- الانطلاق من مفاهيم يُظنُّ أنها شرعيةٌ: هناك عِدّةُ مفاهيم في هذا الباب لا تتفقُ مع ما جاء به الإسلام مِن أحكام، ومع ذلك يَتعامَل بها صاحبها ظناً منه أنها شرعيةٌ يَدْعوه إليها الإسلام، أُشيرُ إلى أهمها في الأسطر التالية. فمِن أغاليط بعض المسلمين الصالحين في هذه القضية ما يلي: 1 - الظن بأنّ أذيّة المسلم للكافر فيها أجرٌ مطلقاً: يَظن بعض الناس أن أذية المسلم للكافر مأمور بها شرعاً، وفيها   1 40: الحج: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 أجرٌ!!. وهذا الفهم لا يؤيده شيءٌ من النصوص الشرعية، البتّة، ولعل الظن بأنّ هناك نصوصاً من القرآن والحديث تُبيح هذا الصنيع هو الذي أَوْقع بعض الناس في هذا الفهم، أو أنه اختلط عليهم هذا الفهم بما أمرتْ به النصوص المسلمين في قتال الكافرين من الصبر والمصابرة في إيلام العدوّ! وهذا خطأ وخروج عن موضوع تلك النصوص. نَعَم جاء في شأن الدين وفي شأن صفات عباد الله قوله تعالى: { ... أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ..} 1. وجاء في الحديث: " ... فإذا لقيتم أحدهم في طريقٍ فاضطرُّوه إلى أضيَقِهِ" 2.وسيأتي بعد قليل بيان معنى ذلك. 2- الظن بأن التعامل الحسن مع الكافرين حرام: يَظن بعض الناس أن التعامل الحسن مع الكافرين حرامٌ، منهيٌّ عنه شرعاً!، ويَظن بعض الناس أنه لا يصح الصدق والعدل في حق الكافر!. وهذا الفهم لا يؤيده شئ من القرآن والحديث، بل يتعارض مع ما جاء فيهما من التأكيد على الصدق والعدل والإنصاف وسائر الأخلاق الحميدة مُطْلَقاً، والتأكيد على تحريم الكذب والظلم والجور وسائر مساوئ الأخلاق مُطْلَقاً. وعموم النصوص في ذلك ليس له مُخَصِّص. 3- اختلاط مفهوم التعامل الحسن بمفهوم الولاء: يختلط على بعض الناس مفهوم الولاء، ومفهوم التعامل الحسن مع   1 54: المائدة: 5. 2 يأتي بعد قليل تخريجُه، وبيانُ معناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الكافرين! وذلك حينما يظن أن التعامل الحسن مع الكافر -مثلاً- موالاةٌ له. وليس الأمرُ كذلك؛ لأن هذا شيء وذاك شيء آخَرُ. 4- الظن بأنه لا يجوز السلام على الكافر مطلقاً: يَظن بعض الناس أنه لا يصح السلام على الكافر مطلقاً!. مع أنّ النبي صلى الله عليه وسلم "أَتى مجلسَ قوم فيهم أخلاطٌ مِن المسلمين والمشركين عبَدَةِ الأوثان واليهود فسلّمَ عليهم1"، ومثْلُ هذا الحديث ينبغي أن يُضمّ إلى الأحاديث الأخرى بشأن السلام على أهل الكتاب، كقوله صلى الله عليه وسلم:" إذا سلّمَ عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم "2، ومِن هذا القبيل: قوله: "إذا سلّمَ عليكم اليهود، فإنما يقول أحدهم: السامُ عليك. فقُلْ: وعليك" 3. وفي ضوء ذلك يُنظَرُ في المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام. فإذا لقيتم أحدهم في طريقٍ فاضطروه إلى أضْيَقه" 4، فإنّ المتعيّن أن يؤخَذَ إلى جانب بقية النصوص؛ الْتماساً للفهم الصحيح لمعانيها، مع التسليم اليقينيّ بأنّ كلَّ ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حقٌ،   1 البخاري، الأدب، 115 -باب كنية المشرك البُغا، ح5854، 5/2292، وأخرجه البخاريّ في الاستئذان، 20 -باب التسليم في مجلسٍ فيه أخلاطٌ مِن المسلمين والمشركين، ح5899. 2 البخاريّ، الاستئذان، برقم5903بُغا. 3 البخاريّ، الاستئذان، برقم5902 بُغا. 4 مسلم، 39 - السلام، ح 132167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ولكن على مراد الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن الواضح أنّ مِثْل هذا الحديث مِن القول الذي ظاهرُهُ العموم، والمراد به الخصوص؛ يَدُلُّ على هذا الأحاديث الأخرى، وكذلك الرواية الأخرى: "إني راكبٌ غداً إلى اليهود؛ فلا تبدءوهم بالسلام" 1؛ فعموم الرواية السابقة يُحْمَل على خصوص هذه2. ومما قاله: قال القرطبيّ في قوله: "وإذا لقيتموهم في طريقٍ فاضطروهم إلى أضْيقه" معناه: لا تتنحّوا لهم عن الطريق إكراماً لهم واحتراماً، وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبةً للجملة الأولى في المعنى، وليس المعنى: إذا لقيتموهم في طريقٍ واسع فألْجئوهم إلى حَرْفه حتى يضيق عليهم؛ لأن ذلك أذىً لهم؛ وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب3. 5- الخلط بين تفضيل الإسلام، وتفضيل الخُلُق الشخصيّ للمسلم: يَظن بعض الناس أنه بحكم الإسلام فإنه يتعين الحُكْم للمسلم أنه أفضل في الخُلق والسلوك الشخصي من الكافر مطلقاً، وأنه لا يمكن أن يوجد كافرٌ أفضل في الخلق والسلوك الشخصي من المسلم! وهذه مغالطة في فهم الدين وفي فهم الواقع؛ إذ الأخلاق الممدوحة في الإسلام إنما هي ممدوحةٌ لِذَاتها، بِغضِّ النظر عن صاحبها، كما أن الأخلاق المذمومة في   1 البخاري، في الأدب المفرد، برقم1102، وأحمد: 6/398، بلفظين، للنسائيّ في عمل اليوم والليلة: ص305، بمعناه، وابن ماجة، برقم3699. 2 يُنظر ما ذكره الإمام ابن حجر من فقْهِ أحاديثِ الباب وأحكامها في: الفتح11/38- 40و41 - 46. 3 فتح الباري، لابن حجر 11/40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 حكم الإسلام مذمومة لِذَاتها، بِغضِّ النظر عن صاحبها، مسلماً كان أو كافراً. وقد خَلق الله الناس جميعاً على الفطرة، ولكن الشياطين تَجْتال مَن تَقْدِر عليه منهم!. ثم كيف يَحق للإنسان أن يفتخر بأخلاقِ دِينِهِ الحقِّ في الوقت الذي قد تَخلى عنها فيه؟!. والإنسان قد يتحلى بصفاتٍ متناقضة أو متعارضة: صفات محمودة، وأخرى مذمومة! ولهذا فقد يكون المسلم أحياناً -مع ما هو عليه من شَرَف الانتساب إلى الإٍسلام- مُضَيِّعاً لبعض الأخلاق الحميدة، أو مُرْتكِباً لبعض مساوئ الأخلاق. وربما كان مناسباً التنبيه هنا إلى أنّ المعاملة الحسنة التي يدعو إليها الإسلام في التعامل مع الناس جميعاً، بما فيهم الكفار، ليس مِن لازِمِه الغفلة، وعدم الحيطة والحذر، سواء أكان تعامُلُك مع المسلم، أو مع الكافر، أو مع الكافرين، بل إنّ مِن الواجب على المسلم، وعلى المسلمين، الحيطةُ والحذَرُ، دون الخروج عن أُسسِ دِينهم في التعامل مع الآخرين، لاسيما أن الواقع يُثْبت أنواعاً مِن المكر في هذه الأعصار؛ فَحُسْن المعاملة والخُلُق لا يَعني الغفلةَ وأمْنَ الجانب على كلِّ حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الخاتمة هذا ما يَسّر الله تعالى كتابتَه في هذا الموضوع المهمّ الواسع، وهذا ما اتسعَ له الوقت، وقد كان في النيّةِ أشياءُ وأشياءُ، ولكن، لم يتسع لها الوقت، وربما كان في الإنسان خُلُق معاجَلَةِ المَنيَّة بتحقيقِ الأُمْنِيّة، إضافةً إلى رغبةٍ في البُعد عن الإطالة، ومع ذلك فالبقيّة من الموضوع تستحقُّ المواصَلة، وما تشاءون إلا أن يشاءَ الله ربُّ العالمين. ومما بقي: -فصلٌ في تقسيم الأخلاق باعتبار صفة المتحلّي بها وموقعه في المجتمع: أخلاق الداعية، أخلاق الأسرة، أخلاق تعلُّمِ العلم، أخلاق تعليم العِلْم، وأخلاق العلماء، أخلاق الرئيس وأخلاق المرؤوس ... إلى آخره. -فصلٌ في: الأخلاق والمال. -فصلٌ في: المروءة وأَهمّيّتها في الأخلاق واكتسابها. -فصلٌ في أخلاقٍ ينبغي التحلى بها وأخلاقٍ ينبغي الابتعاد عنها. -فصل في الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم غير الثابتة في موضوع الأخلاق. ولقد تَبَيّنَ للإنسان في السنوات القليلة الماضية تَغَيّراتٌ سلبيّة في أَخلاق مجتمعات المسلمين، جديرةٌ بالمعالجة ووضْع الحلول لها. وذلك كله يؤكِّدُ أَهميّة الموضوع، وأَهمّيّةَ مواصلته. ولعلّ عزاء مَن أَراد أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 يَكتبَ في مثْل هذا فلم يَستطع، أَن يَعْلم أَن العلاج لكل داء موجود في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم لكل مِن رَغِب فيه وأَقبلَ عليه. وقبْل أَن أُوَدّع القارئ العزيز، يَحْسُنُ التذكير بأَنّ مِثْل هذا الموضوع-بالنظر إليه موضوعاً أَخلاقيّاً تربويّاً- لايَكفي فيه القراءة العابرة، ولا القراءة لمرّةٍ واحدة، وإنما يَحتاج إلى القراءة المتكرِّرة ما بين فَينةٍ وأُخرى، بعقلٍ وقلبٍ حاضرين، والله يؤتي الحكمة من يشاء. اللهم: قبولاً، وسَداداً، ونَفْعاً لعبادك: كبيراً وصغيراً، قريباً وبعيداً، موافِقاً ومخالفاً، طائعاً وعاصياً، مُصيباً ومُخْطئاً!!. سبحانك اللهم وبحمدك، أَشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأَتوب إليك. سبحان ربك رب العِزّةِ عمّا يَصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أَجمعين!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230