الكتاب: الروضة الندية شرح الدرر البهية المؤلف: أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (المتوفى: 1307هـ) الناشر: دار المعرفة عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الروضة الندية شرح الدرر البهية ط المعرفة صديق حسن خان الكتاب: الروضة الندية شرح الدرر البهية المؤلف: أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (المتوفى: 1307هـ) الناشر: دار المعرفة عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الاول مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك اللهم أنت الذي علمت الناس في دينهم حكما وفي دنياهم أحكاما. وجعلت أمة خاتم الرسل المرحومة أكرم الأمم كلها منزلا ومقاما. ومازلت ألهمت من شئت وتلهم من تشاء منهم في كل قرن استعمال السنن المطهرة على وجهها إلهاما. ونهيتهم عن التفرق في الدين وأوضحت لهم سبيل اليقين فأصبحوا بنعمتك بررة كراما. وما انفك عدو لهم نفوا عن الدين وينفون عنه انتحال1 المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين حتى عاد علم الحق معتدلا قواما. . ونصلي عليك أيها النبي الكريم, بك من الله علينا بالإيمان وهدانا إسلاما. لطفا بنا ورحمة علينا وبركة فينا وإحسانا إلينا وإكراما. فكان ذلك لزاما. ولولاك ما اهتدينا ولا صلينا ولا علمنا أحكاما. فكنت أنت داعينا إلى الله سبحانه وتعالى وهاديا لنا ورؤوفا بنا وفينا إماما. ونسلم عليكم أهل البيت الطاهرين الطيبين أنتم أصبتم من سعادة الدارين سهاما. وقمتم بالحق الحقيق بالاتباع كما يحق قياما. ورضي الله عنكم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بكم انتظم مبتغي الأمة الأمية بدءا وختاما. ومنك استتب أمر الملة المكرمة أصلا وفرعا واهتماما. ورحمة الله وبركاته عليكم أهل الحديث أنتم كشفتم للناس عن صراح2 الحق وصحاح السنة وقح3 الشريعة ظلاما. وعن وجه الدين القويم والصراط المستقيم لثاما. وكيف وقد جعلكم الله تعالى للمتقين إماما. . وبعد: فلما جمع الإمام الهمام عز المسلمين والإسلام سلالة السلف الصلحاء تذكار العرب العرباء وارث علوم سيد المرسلين خاتم المفسرين والمحدثين شيخ شيوخنا الكاملين المجتهد المطلق العلامة الرباني قاضي قضاة القطر اليماني محمد   1 أي ادعاء 2 الصراح بالضم والفتح الخالص من كل شيء. 3 أي خالصها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 ابن علي بن محمد اليمني الشوكاني المتوفى سنة خمس وخمسين ومائتين وألف الهجرية رضي الله تعالى عنه وأرضاه وجعل الفرودس منزله ونزله ومأواه المختصر الذي سماه: "الدرر البهية في المسائل الفقهية" قاصدا بذلك جمع المسائل التي صح دليلها واتضح سبيلها تاركا لما كان منها من محض الرأي فإنه قالها وقيلها غير ملتفت إلى ما اشتهر فالحق أحق بالاتباع وغير جامد على ما ذكر في الزبر1 فلمسلك التحقيق اتساع بل محض فيه النصح النصيح ومخض2 عن زبد الحق الصريح وأتى بتحقيقات جليلة خلت عنها الدفاتر وأشار إلى تدقيقات نفسية تحوها صحف الأكابر ونسبة هذا المختصر إلى المطولات من الكتب الفقهية نسبة السبيكة الذهبية إلى التربة المعدنية كما يعرف ذلك من رسخ في العلوم قدمه وسبح في بحار المعارف ذهنه ولسانه وقلمه سأله جماعة من أهل الانتقاد والفهم النافذ العاضين على علوم الاجتهاد بأقوى لحي3 وأحد ناجذ4 أن يجلي عليهم عروس ذلك المختصر ويزفه إليهم ليمعنوا في محاسنه النظر فاستمهلهم ريثما يصحح منه ما يحتاج إلى التصحيح وينقح فيه ما لا يستغني عن التنقيح ويرجح من مباحثه ماهو مفتقر إلى الترجيح ويوضح من غوامضه ما لا بد فيه من التوضيح فشرحه بشرح مختصر من معين عيون الأدلة معتصر وسماه: "الدراري المضية شرح الدرر البهية" وفيهما قال قائل: إن شئت في شرح النبي ... تقدح بزند فيه واري5 فاعكف على الدرر التي ... سلكت بسمط6 من دراري وشرحه هذا كان بالقول فجعلته شرحا ممزوجا وصيرته على منواله منسوجا مستوعبا للفظه ومعناه ومستصحبا لفحاويه ومبناه مضيفا إليه مذاهب الفقهاء ليظهر ضعفها أو قوتها عند تقابل الأدلة وتعارضها بالآراء لا للأخذ بها على ما كان بأي حال فإن الرجال تعرف بالحق لا الحق بالرجال ثم زدت عليه أشياء من حاشية الماتن7 على شفاء الأوام التي سماها! وبل الغمام! ومن غيرها عند النظر الثاني   1 أي في الكتب. 2 مخض اللبن أخذ زبده. 3 أي منبت اللحية. 4 الناجذ آخر الأضراس وللإنسان أربعة نواجذ في أقصى الأسنان. 5 ورى الزند خرجت ناره. 6 السمط الخيط ما دام فيه الخرز وإلا فهو سلك. 7 يعبر مؤلف هذا الشرح كثيرا عن مصنف الأصل بلفظ "الماتن" وهو مولد مستكره فأصل "المتن" الظهر في اللغة ثم استعمله طلاب العلم في الكتاب المختصر إذا كان عليه شرح فاشتقاق اسم فاعل من هذا وليس بمصدر اشتقاق خاطئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 في هذا الكتاب فعاد بحمد الله تعالى كما قيل اللبأ وابن طاب1 هذا وقد أمليت هذا الشرح على طريق الارتجال بالاستعجال إرشادا إلى طرق من العلم طالما تركت وهزا لطبائع جامدة طالما ركدت راجيا من الله تعالى أن أكون ممن تعلم علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه وأذاعه وحفظه على الناس وفيهم روجه وأشاعه فدونك هذا المشروح والشرح يلقي إليك زمام التفويض في المدح والقدح يا من له في أوج التحقيق صعود وعليه من ملابس التدقيق برود كيف وهو يروي غليل طالبي فقه السنة ويشفي عليل السائقين إلى مساق الجنة فليسعد به كل طالب الحق الصادق ويضن به كل ذي باطل زاهق ولئن رده القاصرون فسيقبله الماهرون وإن ذمه الجهلة فسوف يمدحه الكملة وسميت هذا الشرح الأنيس بل العلق النفيس! الروضة الندية شرح الدرر البهية! والله سبحانه وتعالى أرجو أن يعين على التمام وينفعني به ومن أخلفه وجميع المتبعين للسنن في هذه الدار ودار السلام إنه ولي الإجابة وبيده الهداية والإصابة. قال رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم أحمد من أمرنا بالتفقه في الدين وأشكر من أرشدنا إلى اتباع سنن سيد المرسلين وأصلي وأسلم على الرسول الأمين وآله الطاهرين وأصحابه الأكرمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 كتاب الطهارة باب هذا الباب قد اشتمل على مسائل: "الأولى الماء طاهر ومطهر" ولا خلاف في ذلك وقد نطق بذلك الكتاب والسنة وكما دل الدليل على كونه طاهرا مطهرا وقام على ذلك الإجماع كذلك يدل على ذلك الأصل والظاهر والبراءة فإن أصل عنصر الماء طاهر مطهر بلا نزاع وكذلك الظهور يفيد ذلك والبراءة الأصلية عن مخالطة النجاسة له مستصحبة "لا يخرجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 عن الوصفين" أي عن وصف كونه طاهرا وعن وصفه كونه مطهرا إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه من النجاسات. هذه المسألة الثانية من مسائل الباب وهي أنه لا يخرج الماء عن الوصفين إلا ما غير أحد أوصافه الثلاثة من النجاسات لا من غيرها وهذا المذهب هو أرجح المذاهب وأقواها. والدليل عليه ما أخرجه أحمد وصححه وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه أيضا يحيى بن معين وابن حزم من حديث أبي سعيد قال: قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض1 ولحوم الكلاب والنتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور لا ينجسه شيء". وقد أعله ابن القطان باختلاف الرواة في اسم الراوي له عن أبي سعيد واسم أبيه وليس ذلك بعلة وقد اختلف في أسماء كثير من الصحابة والتابعين على أقوال ولم يكن ذلك موجبا للجهالة على أن ابن القطان نفسه قال بعد ذلك الإعلال: وله طريق أحسن من هذه ثم ساقها عن أبي سعيد وقد قامت الحجة بتصحيح من صححه من أولئك الأئمة. وله شواهد منها حديث سهل بن سعد عند الدارقطني ومن حديث ابن عباس عند أحمد وابن خريمة وابن حبان ومن حديث عائشة عند الطبراني في الأوسط وأبي يعلى والبزار وابن السكن كلها بنحو حديث أبي سعيد, وأخرجه بزيادة الاستثناء الدارقطني من حديث ثوبان بلفظ: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو لونه أو طعمه", وأخرجه أيضا مع الزيادة ابن ماجة والطبراني من حديث أبي أمامة بلفظ: "إن الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه" وفي إسنادهما من لا يحتج به, وقد اتفق أهل الحديث على ضعف هذه الزيادة لكنه قد وقع الإجماع على مضمونها كما نقله ابن المنذر وابن الملقن في البدر المنير والمهدي في البحر, فمن كان يقول بحجيّة الإجماع كان الدليل عنده على ما أفادته تلك الزيادة هو الإجماع, ومن كان لا يقول بحجيّة الإجماع كان هذا الإجماع مفيداً لصحة تلك   1 جمع حيضة وهي الخزنة التي تتقي بها المرأة دم الحيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الزيادة لكونها قد صارت مما أُجمع على معناها وتُلقّي بالقبول فالاستدلال بها لا بالإجماع. وعن الثاني ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيرات الطاهرة. . هذه المسألة الثالثة من مسائل الباب ووجه ذلك أن الماء الذي شرع لنا التطهير به هو الماء المطلق الذي لم يضف إلى شيء من الأمور التي تخالطه فإن خالطه شيء أوجب إضافته إليه كما يقال ماء ورد ونحوه فليس هذا الماء المقيد بنسبته إلى الورد مثلاً هو الماء المطلق الموصوف بأنه طهور في الكتاب العزيز بقول سبحانه: {مَاءً طَهُوراً} وفي السنة المطهرة بقول صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور" فخرج بذلك عن كونه مطهراً ولم يخرج به عن كونه طاهراً لأن الفرض أن الذي خالطه طاهر واجتماع الطاهرين لا يوجب خروجهما عن الوصف الذي كان مستحقاً لكل واحد منهما قبل الاجتماع. قال في حجة الله البالغة: وأما الوضوء من الماء المقيد الذي لا يطلق عليه اسم الماء بلا قيد فأمر تدفعه الملة بادي الرأي, نعم إزالة الخبث به محتمل بل هو الراجح. وقد أطال القوم في فروع موت الحيوان في البئر والعشر في العشر والماء الجاري وليس في كل ذلك حديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم البتة, وأما الآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين كأثر ابن الزبير في الزنجي وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الفأرة والنخعي والشعبي في نحو السِّنَّور فليست مما يشهد له المحدثون بالصحة ولا مما اتفق عليه جمهور أهل القرون الأولى, وعلى تقدير صحتها يمكن أن يكون ذلك تطييباً للقلوب وتنظيفاً للماء لا من جهة الوجوب الشرعي كما ذُكر في كتب المالكية ودون نفي هذا الاحتمال خرط القتاد. وبالجملة: فليس في هذا الباب شيء يُعتد به ويجب العمل عليه وحديث القلتين أثبت من ذلك كله بغير شبهة ومن المحال أن يكون الله تعالى شرع في هذه المسائل لعباده شيئاً زيادة على ما لا ينفكون عنه من الارتفاقات وهي مما يكثر وقوعه وتعم به البلوى ثم لا ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلم نصاً جلياً ولا يستفيض في الصحابة ومن بعدهم ولا حديث واحد فيه والله أعلم انتهى. قلت: وقد أطال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في تخريج حديث القُلّتين والكلام عليه جرحاً وتعديلاً لفظاً ومعنى في كتابه تلخيص الحبير في تخريج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 أخبار الرافعي الكبير إطالةً حسنةً فليرجع إليه. "ولا فرق بين قليل وكثير" هذه المسألة الرابعة من مسائل الباب, والمراد بالقلة والكثرة ما وقع من الاختلاف في ذلك بين أهل العلم بعد إجماعهم على أن ما غيّرت النجاسة أحد أوصافه الثلاثة ليس بطاهر فقيل: إن الكثير ما بلغ قلتين والقليل ما كان دونهما لما أخرجه أحمد وأهل السنن والشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي وصححه الحاكم على شرط الشيخين من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة1 من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب فقال: "إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخبث" وفي لفظ أحمد: "لم ينجسه شيء" وفي لفظ لأبي داود: "لم ينجس" وأخرجه بهذا اللفظ ابن حبان والحاكم وقال ابن مندة: إسناد حديث القُلّتين على شرط مسلم. انتهى. ولكنه حديث قد وقع الاضطراب في إسناده ومتنه كما هو مبين في مواطنه وقد أجاب من أجاب عن دعوى الاضطراب, وقد دلّ هذا الحديث على أن الماء إذا بلغ قُلّتين لم يحمل الخبث وإذا كان دون القُلّتين فقد يحمل الخبث ولكنه كما قيد حديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء" بتلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها كذلك يقيد حديث القلتين بها فيقال: إنه لا يحمل الخبث إذا بلغ قلتين في حال من الأحوال إلا في حال تغير بعض أوصافه بالنجاسة فإنه حينئذ قد حمل الخبث بالمشاهدة وضرورة الحس فلا منافاة بين حديث القلتين وبين تلك الزيادة المجمع عليها, وأما ما كان دون القلتين فهو مظنة لحمل الخبث وليس فيه أنه يحمل الخبث قطعاً وبتّاً ولا أن ما يحمله من الخبث يخرجه عن الطهورية لأن الخبث المخرج عن الطهورية هو خبث خاص وهو الموجب لتغير أحد أوصافه أو كلها لا الخبث الذي لم يغير, وحاصله: أن ما دل عليه مفهوم حديث القلتين من أن ما دونهما قد يحمل الخبث لا يُستفاد منه إلا أن ذلك المقدار إذا وقعت فيه نجاسة قد يحملها, وأما أنه يصير نجساً خارجاً عن كونه طاهراً فليس في هذا المفهوم ما يفيد ذلك ولا ملازمة بين حمل الخبث والنجاسة المخرجة عن الطهورية؛ لأن الشارع قد نفى   1 هي الصحراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 النجاسة عن مطلق الماء كما في حديث أبي سعيد المتقدم وما شهد له ونفاها عن الماء المقيد بالقلتين! كما في حديث عبد الله بن عمر المتقدم أيضاً وكان النفي بلفظ هو أعم صيغ العام فقال في الأول: "لا ينجسه شيء" وقال في الثاني أيضا كما في تلك الرواية: "لم ينجسه شيء" فأفاد ذلك أن كل ماء يوجد على وجه الأرض طاهر إلا ما ورد فيه التصريح بما يخصص هذا العام مصرحاً بأنه يصير الماء نجساً كما وقع في تلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها فإنها وردت بصيغة الاستثناء من ذلك الحديث فكانت من المخصصات المتصلة بالنسبة إلى حديث أبي سعيد ومن المخصصات المنفصلة بالنسبة إلى حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما على القول الراجح في الأصول وهو: أنه يُبنى العام على الخاص مطلقاً فتقرر بهذا أنه لا منافاة بين مفهوم حديث القلتين وبين سائر الأحاديث بل يقال فيه: إن مادون القلتين إن حمل الخبث حملاً استلزم تغير ريح الماء أو لونه أو طعمه فهذا هو الأمر الموجب للنجاسة والخروج عن الطهورية وإن حمله حملاً لا يغير أحد تلك الأوصاف فليس هذا الحمل مستلزماً للنجاسة. .وقد ذهب إلى تقدير الماء القليل بما دون القلتين والكثير بهما الشافعي رحمه الله وأصحابه رحمهم الله وذهب إلى تقدير القليل بما يظن استعمال النجاسة باستعماله والكثير بما لا يظن استعمال النجاسة باستعماله ابن عمر ومجاهد, وقد روي أيضا عن الشافعية رحمهم الله والحنفية رحمهم الله وأحمد بن حنبل رحمه الله ولا أدري هل تصح هذه الرواية أم لا فمذاهب هؤلاء مُدونّة في كتب أتباعهم من أراد الوقوف عليها راجعها واحتج أهل هذا المذهب بمثل قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ1 فَاهْجُرْ} وبخبر الاستيقاظ وخبر الولوغ وأحاديث النهي عن البول في الماء الدائم وهي جميعها في الصحيح ولكنها لا تدل على المطلوب ولو فرضنا أن لشيء منها دلالة بوجه ما كان ما أفادته تلك الدلالة مقيداً بما تقدّم لأن التعبد إنما هو بالظنون الواقعة على الوجه المطابق   1 الرجز قرئ بضم الراء وكسرها ومعناه العذاب والمراد بهجر العذاب هجر أسبابه فلا حجة في الآية على ما ادعوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 للشرع على أنه لا يبعد أن يقال: إن العاقل لا يظن استعمال النجاسة باستعمال الماء إلا إذا خالطت الماء بجِرمها أو بريحها أو بلونها أو بطعمها مخالطة ظاهرة توجب ذلك الظن, ولا شك ولا ريب أن ما كان من الماء على هذه الصفة ينجس لأن المخالطة إن كانت بالجِرم فالمتوضئ مستعمل لعين النجاسة وإن كانت المخالطة بالريح أو اللون أو الطعم فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه. . والحاصل: أنهم إن أرادوا بقولهم إن ظُنّ استعمال النجاسة باستعماله فهو القليل وإن لم يظن فهو الكثير ما هو أعم من عين النجاسة وريحها ولونها وطعمها فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه إلا من جهة أن هؤلاء اعتبروا المظنّة وأهل المذهب الأول اعتبروا المَئنّة1 ولكن لا يخفى أن المظنة إذا كانت هي الصادرة من غير أهل الوسوسة والشكوك فهي لا تكاد تخالف المِئنّة في مثل هذا الموضع وإن أرادوا استعمال العين فقط أو عدم استعمال العين فقط فهو مذهب مستقل غير ذلك المذهب ولكن الظاهر أنهم أرادوا المعنى الأول, ويدل على ذلك أنه قد وقع الإجماع على أن ما غيّر لون الماء أو ريحه أو طعمه من النجاسات أوجب تنجيسه كما تقدم تقريره فأهل هذا المذهب من جملة القائلين بذلك لدخولهم في الإجماع بل هو مصرِّح لحكاية الإجماع في البحر فتقرر بهذا أنهم يريدون المعنى الأول أعني الأعم من العين والريح واللون والطعم ثبوتا وانتقاء, وحينئذ فلا مخالفة بين المذهبين لأن أهل المذهب الأول لا يخالفون في أن استعمال المطهر لعين النجاسة مع الماء موجب لخروج الماء عن الطهورية خروجاً زائداً على خروجه عند استعمال ما فيه مجرد الريح أو اللون أو الطعم فتأمل هذا فهو مفيد, بل مجموع ما اشتمل عليه هذا البحث في الجمع بين المذاهب المختلفة في الماء وبين الأدلة الدالة عليها على هذه الصورة التي لخصتها مما لم أقف عليه لأحد من أهل العلم, وهذه المسألة هي من المضايق التي يتعثر في ساحاتها كل محقق ويتبلّد عند تشعب طرائقها كل مدقق, وقد حررها الماتن في سائر مؤلفاته2 تحريرات مختلفة لهذه العلة وأطال   1المئنة العلامة 2 كنيل الاوطار ووبل الغمام والسيل الجرار والفتح الرباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الكلام عليها في طيب النشر في المسائل العشر.. وقد استدل بعض أهل العلم بمثل حديث: "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون", ومثل حديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ولا يستفاد منهما إلا أن التورع عند الظن من الإقدام أولى, وأهل هذا المذهب يوجبون العمل بذلك الظن حتماً وجزماً, وقد عرفت أن أدلة المذهب الأولى على الوجه الذي لخصناه تدل على المذهب الثاني فإبعاد النُّجعة إلى مثل حديث: "استفت قلبك" و"دع ما يريبك" ليس كما ينبغي فإن قيل: إنه قصد الاستدلال على مجرد العمل بالظن من غير نظر إلى هذه المسألة فيقال: أدلة العمل بالظن في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأكثر منها أدلة النهي عن العمل به, وهكذا التعويل على حديث الولوغ والاستيقاظ ونحو ذلك لا يفيد, وقد حُكي في تحديد الماء الكثير أقوال منها: أن الكثير هو المستبحر وقيل: ما إذا حُرِّك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر, وقيل: ما كان مساحة مكانه كذا وقيل: غير ذلك وهذه الأقوال ليس عليها أثارة من علم بل هي خارجة عن باب الرواية المقبولة والدراية المعقولة. "وما فوق القلتين وما دونهما" قدَّر الشافعي الماء الذي لا ينجس بوقوع النجاسة ما لم يتغير بالقلتين وقدَّرهما بخمس قرب وفسرها أصحابه بخمسمائة رطل, وقدّره الحنفية بالغدير الكبير الذي لا يتحرك جانب منه بتحريك الآخر والعشر في العشر كذا في المسوى شرح الموطأ, وقال في حجة الله البالغة: ومن لم يقل بالقلتين اضطر إلى مثلهما في ضبط الماء الكثير كالمالكية أو الرخصة في آبار الفلوات من نحو أبعار الإبل انتهى. ويدفع ذلك ما مر من عدم الفرق بين ما دون القلتين وما فوقهما مع الدليل عليه, وإن شئت زيادة التفصيل فعليك بالفتح الرباني في فتاوى الشوكاني ففيها ما يشفي العليل ويسقي الغليل. "ومتحرك وساكن", وجه ذلك أن سكونه وإن كان قد ورد النهي عن التطهير به حالة1 فإن ذلك لا يخرجه عن كونه طهوراً لأنه يعود إلى وصف كونه طهوراً بمجرد تحركه, وقد دلّت الأحاديث على أنه لا يجوز التطهير بالماء الساكن مادام ساكنا كحديث   1 كذا في الأصل. ولم يرد في الحديث النهي عن التطهير بالماء الساكن إنما ورد النهي عن الانغماس فيه للجنب كما سيذكر المؤلف بعض ألفاظه وفرق كبير بينهما بل في الحديث التصريح بالتطهير به بالتناول في كلام أبي هريرة راويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغتسلنّ أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" فقالوا يا أبا هريرة: كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولاً, وفي لفظ لأحمد وأبي داود: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من جنابة" وفي لفظ للبخاري: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه" وفي لفظ للترمذي: "ثم يتوضأ منه" وغير هذه الرويات التي يفيد مجموعها النهي عن البول في الماء الدائم على انفراده والنهي عن الاغتسال فيه على انفراده والنهي عن مجموع الأمرين ولا يصح أن يقال: إن روايتي الانفراد مقيدتان بالاجتماع لأن البول في الماء على انفراده لا يجوز فأفاد هذا أن الاغتسال والوضوء في الماء الدائم من دون بول فيه غير جائز فمن لم يجد إلا ماء ساكنا وأراد أن يتطهر منه فعليه أن يحتال قبل ذلك بأن يحركه حتى يخرج عن وصف كونه ساكناً ثم يتوضأ منه, وأما أبو هريرة فقد حمل النهي على الانغماس في الماء الدائم ولهذا لما سئل كيف يفعل قال: يتناوله تناولاً ولكنه لا يتم ذلك في الوضوء فإنه لا انغماس فيه بل هو يتناوله تناولاً من الابتداء فالأوْلى تحريك الماء قبل الشروع في الطهارة ثم يتطهر1 به, وقد ذهب الجمهور إلى خلاف ما دلت عليه هذه الروايات فلم يفرقوا بين المتحرك والساكن ومنهم من قال: إن هذه الروايات محمولة على الكراهة فقط ولا وجه لذلك وقد قيل إن المُستبحر مخصوص من هذا بالإجماع والراجح أن الماء الساكن لا يحل التطهر به مادام ساكناً فإذا تحرك عاد له وصفه الأصلي وهو كونه مطهراً وهذه هي المسألة الخامسة من مسائل الباب. "ومستعمَل وغير مستعمَل" هذه المسألة السادسة من مسائل الباب وقد وقع الاختلاف بين أهل العلم في الماء المستعمل لعبادة من العبادات هل يخرج بذلك عن كونه مُطهِّراً أم لا؟ فحُكي عن أحمد بن حنبل والليث والأوزاعي والشافعي ومالك في إحدى الروايتين عنهما وأبي حنيفة في رواية عنه أن الماء المستعمل غير مطهِّر واستدلوا بما تقدم من حديث النهي عن الاغتسال في الماء الدائم ولا دلالة له على ذلك لأن علة النهي عن التطهير به ليست كون ذلك الماء مستعملاً بل كونه ساكناً وعلة السكون لا ملازمة بينها وبين الاستعمال,   1 هذا لا يطابق معنى الحديث وليس المقصود من التشريع إلا صيانة الماء عن القذر والنجس وأبو هريرة فهم الحديث كما ينبغي أن يفهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 واحتجوا أيضاً بما ورد من النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة ولا تنحصر علة ذلك في الاستعمال كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى فلا يتم الاستدلال بذلك لاحتماله, ولو كانت العلة الاستعمال لم يختص النهي بمنع الرجل من الوضوء بفضل المرأة والعكس بل كان النهي سيقع من الشارع لكل أحد عن كل فضل, ومن جملة ما استدلوا به: أن السلف كانوا يكملون الطهارة بالتيمم عند قلة الماء لا بماء ساقط منه وهذه حجة ساقطة لا ينبغي التعويل على مثلها في إثبات الأحكام الشرعية, فعلى هذا المستدل أن يوضح هل كان هذا التكميل يفعله جميع السلف أو بعضهم والأول باطل والثاني لا يُدرى من هو فليبين لنا من هو على أنه لا حجة إلا الإجماع عند من يحتج بالإجماع, وقد استدلوا بأدلة هي أجنبية عن محل النزاع مثل: حديث غسل اليد ثلاثاً بعد الإستيقياظ قبل إدخالها الإناء ونحوه فالحق أن المستعمل طاهر ومطهر عملاً بالأصل وبالأدلة الدالة على أن الماء طهور, وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف والخلف ونسبه ابن حزم إلى عطاء وسفيان الثوري وأبي ثور وجميع أهل الظاهر ونقله غيره عن الحسن البصري والزهري والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة في إحداى الروايات عن الثلاثة المتأخرين, والحق أن الماء لا يخرج عن كونه طهوراً بمجرد استعماله للطهارة إلا أن يتغير بذلك ريحه أو لونه أو طعمه, وقد كان الصحابة يكادون يقتتلون على ما تساقط من وضوئه صلى الله عليه وسلم فيأخذونه ويتبركون به والتبرك به يكون بغسل بعض أعضاء الوضوء كما يكون بغير ذلك. والحاصل: أن إخراج ما جعله الماء طهوراً عن الطهورية لا يكون إلا بدليل. فصل"والنجاسات" جمع نجاسة وهي كل شيء يستقذره أهل الطبائع السليمة ويتحفظون عنه ويغسلون الثياب إذا أصابها كالعذرة والبول, هي غائط الإنسان مطلقا وبوله بالأدلة الصحيحة المفيدة للقطع بذلك بل نجاستهما من باب الضرورة الدينية كما لا يخفى على من له اشتغال بالأدلة الشرعية وبما كان عليه الأمر في عصر النبوة ولا يقدح في ذلك التخفيف في تطهيرهما في بعض الأحوال. . أما الغائط فكما في حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور" وفي لفظ: "إذا وطئ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الأذى بخفيه فطهورهما التراب". رواهما أبو داود رحمه الله وابن السكن والحاكم والبيهقي وقد اختُلف فيه على الأوزاعي, وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم وابن حبان من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض ثم ليصلّ فيهما" وقد اختُلف في وصله وإرساله ورجح أبو حاتم في العلل الموصول, وأخرج أهل السنن عن أم سلمة مرفوعاً بلفظ: "يطهِّره ما بعده" وعن أنس عند البيهقي بسند ضعيف بنحوه وكذلك عن امرأة من بني عبد الأشهل عند البيهقي أيضا فإن جعل التراب مع المسح مطهراً لذلك لا يُخرجه عن كونه نجسا بالضرورة إذ اختلاف وجه التطهير لا يُخرج النجس عن كونه نجسا, وأما التخفيف في تطهير البول فكما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يُراق على بول الأعرابي ذَنوب1 من ماء وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما. وأما ما عدا غائط الآدمي وبوله من الأبوال والأزبال فلم يحصل الاتفاق على شيء في شأنها والأدلة مختلفة فورد في بعضها ما يدل على طهارته كأبوال الإبل فإنه ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العُرَنيين بأن يشربوا من أبوال الإبل ومن ذلك حديث: "لا بأس ببول ما يؤكل لحمه" وهو حديث ضعيف أخرجه الدارقطني من حديث جابر رضي الله عنه والبراء رضي الله عنه وفي إسناده عمرو بن الحصين العقيلي وهو ضعيف جدا لا تقوم بمثله الحجة2, وورد ما يدل على نجاسة الرَّوث ما أخرجه البخاري وغيره أنه قال صلى الله عليه وسلم في الروثة: "إنها رِكْس" والركس النجس وقد نقل التيمي أن الروث مختص بما يكون في الخيل والبغال والحمير ولكنه زاد ابن خزيمة في رواية: "إنها ركس إنها روثة حمار" ومعظم ما استدل به القائلون بالتعميم في النجاسة لا ينطبق على غير الخارج من الآدمي وحديث الروثة لا يستلزم التعميم وحديث عمار قد أطبق من رواه على أنه من الضعف بمكان يسقط به عن درجة الاعتبار لأنه من رواية ثابت بن حماد بن علي بن زيد بن جدعان والأول مجمع على تركه والثاني مجمع على ضعفه فلا   1 في الأصل "ذنوباً" وهو خطأ. والذنوب الدلو. 2 بل كذبه أحمد بن حنبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ينتهض بمثله حجة على التعميم1, واحتجوا بإذنه صلى الله عليه وسلم بالصلاة في مرابض الغنم وبإذنه بشرب أبوال الإبل وهما صحيحان ولاحكم للمعارضة بنهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل لأن النهي معلل بأنها ربما تؤذي المصلِّي فلا يستلزم ذلك عدم طهارة أزبالها وأبوالها كما أن تعليل الصلاة في مرابض الغنم بأنها بركة لا يستلزم أن الصلاة إنما كانت لأجل كونها بركة فإن مثل ذلك لا يُسوِّغ مباشرة ما ليس بطاهر. . فالحق الحقيق بالقبول الحكم بنجاسة ما ثبتت نجاسته بالضرورة الدينية وهو بول الآدمي وغائطه, وأما ما عداهما فإن ورد فيه ما يدل على نجاسته كالروثة وجب الحكم بذلك من دون إلحاق وإن لم يرد فالبراءة الأصلية كافية في نفي التعبد بكون الشيء نجساً من دون دليل فإن الأصل في جميع الأشياء الطهارة والحكم بنجاستها حكم تكليفي تعم به البلوى, ولا يحل إلا بعد قيام الحجة قال الماتن رحمه الله تعالى: ولا يخفى عليك أن الأصل في كل شيء أنه ظاهر لأن القول بنجاسته يستلزم تعبد العباد بحكم من الأحكام والأصل عدم ذلك والبراءة قاضية بأنه لا تكليف بالمحتمل حتى يثبت ثبوتاً ينقل عن ذلك وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى الشرع بدون دليل بأقل إثماً ممن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام فالكل إما من التقول على الله تعالى بما لم يقل أو من إبطال ما قد شرعه لعباده بلا حجة "إلا الذكر الرضيع" لحديث:" يُغسل من بول الجارية ويُرش من بول الغلام" أخرجه أبو داود رحمه الله تعالى والنسائي رحمه الله تعالى وابن ماجه والبزار وابن خزيمة من حديث أبي السمح خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصححه الحاكم وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بول الغلام الرضيع يُنضح وبول الجارية يُغسل" وأخرجه أيضا ابن ماجه وأبو داود بإسناد صحيح عن علي موقوفاً, وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خريمة وابن حبان والطبراني من حديث أم الفضل لُبابة بنت الحارث قالت: بال الحسين بن علي في حِجر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أعطني ثوبك والبس ثوباً غيره حتى أغسله فقال: "إنما يُنضح من بول الذكر ويُغسل   1 هو حديث رواه الدارقطني والبزار والبيهقي وغيرهم ولفظه: "إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني والدم والقيء" قال الدارقطني لم يروه غير ثابت بن حماد وهو ضعيف جدّاً. وقال البيهقي هذا باطل لا أصل له ثابت متهم بالوضع. انظر شرحنا على التحقيق في المسألة رقم 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 من بول الأنثى", وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أم قيس بنت مِحصن: أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله, وفي صحيح البخاري من حديث عائشة قالت: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي يُحنِّكه فبال عليه فأتبعه الماء وفي صحيح مسلم عنها قالت: كان يؤتى بالصبيان فيبرِّك عليهم ويحنِّكهم فأتي بصبي فبال عليه فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله, فهذا تصريح بأنه لم يغسله فيكون إتباعه الماء مجرد النضح كما وقع في الحديثين الآخرين أو مجرد صب الماء عليه من دون غسل, وبالجملة: فالتصريح منه صلى الله عليه وسلم بالقول بما هو الواجب في ذلك هو الأوْلى بالاتِّباع لكونه كلاماً مع أمته فلا يعارضه ما وقع من فعله على فرض أنه مخالف للقول, وقد ذهب إلى الاكتفاء بالنضح في بول الغلام لا الجارية جماعة منهم علي وأم سلمة والثوري والأوزاعي والنخعي وداود وابن وهب وعطاء والحسن الزهري وأحمد وإسحق ومالك في رواية وهذا هو الحق الذي لامحيص عنه, وذهب بعض أهل العلم -وقد حُكي عن مالك والشافعي والأوزاعي- إلى أنه يكفي النضح فيهما وهذا فيه مخالفة لما وقع في هذه الأحاديث الصحيحة من التفرقة بين الغلام والجارية, وذهب الحنفية رحمهم الله وسائر الكوفيين إلى أنهما سواء في وجوب الغسل وهذا المذهب كالذي قبله في مخالفة الأدلة وقد استدل أهل هذا المذهب الثالث بالأدلة الواردة في نجاسة البول على العموم ولا يخفاك أنها مخصصة بالأدلة الخاصة المصرحة بالفرق بين بول الجارية والغلام, وأما ما قيل من قياس بول الغلام على بول الجارية فلا يخفاك أنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار, وقد شدّد1 ابن حزم فقال: إنه يرش من بول الذكر أي ذكر كان وهو إهمال للقيد المذكور سابقاً بلفظ: "بول الغلام الرضيع يُنضَح" والواجب حمل المطلق على المقيد. قال في الحُجّة: قد أخذ بالحديث أهل المدينة وإبراهيم النخعي وأضجع فيه القول محمد فلا تغتر بالمشهور بين الناس. قلت: قال الشافعي رحمه الله تعالى: يُنضح من بول الغلام ما لم يطعم ويغسل من بول الجارية, فسّره البغوي بأن بول الصبي نجس غير أنه يُكتفى فيه بالرش وهو أن ينضح الماء عليه بحيث يصل إلى جميعه فيطهّر من غير   1 قوله شدّد هكذا بالأصل مصلحاً ولعله شذّ فليتأمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 مَرْس ولا دلك, وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: يغسل منهما سواء, ويتجه أن يقال من جانب أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن المراد بالنضح الغسل الخفيف وبالغسل المرس والدلك وأصل المسألة أن التطهير إنما يكون بإزالة عين النجاسة وأثرها وبول الجارية أغلظ وأنتن فاحتيج فيه إلى زيادة المرس كذا في المُسوى. . وأقول: أحاديث التخصيص هنها صحيحة لا شك في ذلك ولا ريب فما الذي دعاهم إلى الوقوع في مضيق التأويل المتعسف الذي لا يسوغ ارتكاب مثله مع وجود السعة وهذا كلام عاطل الجِيد عن الفائدة بمرة لأن هذا المعنى قد استُفيد من العام ثم إهدار لفائدة المغايرة بالمرة وحكم على كلام من أوتي جوامع الكلم وكان أفصح العرب بما يلحقه بكلام من هو من العيّ بمنزلة تُوقعه في الكلام القاصر عن رتبة الفصاحة والبلاغة, وقد ذكر في النهاية ما يفيد أن النضح يأتي بمعنى الغسل. قلت: قد يَرِد في مثل ذلك نادراً إذا اقتضاه المقام وههنا وقع مقابلاً للغسل فكيف يصح تفسيره به وقد أطبق أئمة اللغة أن النضح هو الرش فيجب حمله على ذلك إذا لم تقم قرينة على إرادة غيره فكيف إذا كان الكلام لا يصح إلا بالحمل على ذلك المعنى الأعم الأغلب وإلا كان الكلام حشواً وإن كان استعظام قائل قد قال بوجوب غسل البول فليس أحد أعظم منزلة ولا أكبر قدراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقل الأحوال أن يجعل لكلامه مزيّة على غيره من علماء أمّته فيكون كلامهم مردوداً إلى كلامه وليت أن المشغوفين بمحبة مذاهب الأسلاف جعلوه كأسلافهم فسلكوا فيما بين كلامه وكلامهم طريقة الإنصاف ولكنهم في كثير من المواطن يجعلون الحظ لأسلافهم فيردون كلامه صلى الله عليه وسلم إلى كلامهم فإن وافقهم فيها ونعمت وإن لم يوافقهم فالقول ما قالت حَذام, فإن أنكرتَ هذا فهات أبِنْ لي ما الذي اقتضى هذه التأويلات المتعسفة وردّ أحاديث التخصيص الصحيحة مع تسليمهم أن الخاص مقدم على العام وإنه يُبنى العام على الخاص وهذا مشتهر في الأصول اشتهار النهار. "ولعاب كلب" قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً" وثبت أيضاً عندهما وغيرهما مثله في حديث عبد الله بن مغفل فدل ذلك على نجاسة لعاب الكلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وهو المطلوب هنا والكلام في الخلاف بين من عمل بظاهر هذه الأدلة ومن اكتفى بالتثليث معروف وليس ذلك مما يقدح في كونه نجساً لأن محل الدليل على النجاسة هو إيجاب الغسل وهكذا لا يتعلق بما نحن بصدده زيادة التغليظ بالتتريب كما وقع في أحاديث الباب في الصحيحين وغيرهما فإنه ليس المقصود ههنا إلا إثبات كون اللعاب نجساً لا بيان كيفية تطهيره فلذلك موضع آخر, والحاصل: أن الحق ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التسبيع والتتريب وليس من شرط التعبد الاطِّلاع على علل الأحكام التي تعبَّدَنا الله بها على ما هو الراجح وقد صح لنا الأمر منه صلى الله عليه وسلم بالغسل على الصفة المذكورة بالأحاديث الصحيحة ولم نجد عنه ما يدلنا على خلاف هذا الحكم فلا يحل تحويل الشرع المتقرر بأقوال علماء الأمة سواء كان القول المخالف منسوباً إلى جميعهم أو إلى بعضهم, وقد حفظ الله هذه السنة بأقوال جماعة من علماء الأمة كما هو معروف في كتب الخلاف والفقه وشروح السنة, ومن أغرب ما يراه من ألهمه الله رشده وحبب إليه الإنصاف ما يقع في كثير من المواطن من جماعة من ذلك عن الشريعة بمعزل والميل عن الحكم الثابت بشرع أوضح من الشمس من دون سبب يقتضي ذلك كما فيما نحن بصدده وفيما سلف في بول الصبي وأشباه هذا ونظائره لا تحصى والله المستعان. وروث الدليل على نجاسته ما تقدمت الإشارة إليه من قوله صلى الله عليه وسلم في الروثة: "إنها ركس" والركس في اللغة النجس فالروثة نجس وهو المطلوب وقد قدمنا كلام التيمي في تخصيص ذلك بروث الخيل والبغال والحمير. "ودم حيض" الدليل على ذلك ما ثبت عند أحمد وأبي داود والترمذي من حديث خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض فيه قال: "فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم ثم صلي فيه" قالت: يا رسول الله إن لم يخرج أثره, قال: "يكفيك الماء ولا يضرك أثره" وفي إسناده ابن لهيعة, وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن مرفوعاً بلفظ: "حُكّيه بضِلَع1 واغسليه بماء وسِدْر". قال ابن القطان: إسناده في غاية   1 بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام أي بعود والأصل فيه الضلع باللام الساكنة ضلع الجنب وقيل للعود الذي فيه انحناء وعرض ضلع تشبيهاً بالضلع الذي هو واحد الأضلاع قاله في اللسان. وقال ابن الأعرابي الضلع ههنا العود الذي فيه الاعوجاج. وفي بعض الروايات: "بضلع" بفتح الصاد المهملة وإسكان اللام وهو الحجر. وزعم ابن دقيق العيد أن الأول تصحيف وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الصحة, وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم حيض فكيف تصنع؟ قال: "تحتُّه ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه" فالأمر بغسل دم الحيض وحكّه بضِلع يفيد ثبوت نجاسته وإن اختلف وجه تطهيره فذلك لا يخرجه عن كونه نجسا, وأما سائر الدماء فالأدلة فيها مختلفة مضطربة والبراءة الأصلية مستصحبة حتى يأتي الدليل الخالص عن المعارضة الراجحة أو المساوية1, ولو قام الدليل على رجوع الضمير في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} إلى جميع ما تقدم في الآية الكريمة من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير لكان ذلك لكان ذلك مفيداً لنجاسة الدم المسفوح والميتة ولكنه لم يرد ما يفيد ذلك بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل أو إلى الأقرب والظاهر رجوعه إلى الأقرب وهو لحم الخنزير لإفراد الضمير ولهذا جزمنا ههنا بنجاسة لحم الخنزير دون الميتة والدم الذي ليس بدم حيض ولا سيما وقد ورد في الميتة ما يفيد أنه لا يحرم منها إلا أكلها كما ثبت في الصحيح بلفظ: "إنما حُرِّم من الميتة أكلها" ومن رام تحقيق الكلام في الخلاف الواقع في مثل هذا الضمير المذكور في الآية فليرجع إلى ما ذكره أهل الأصول في الكلام على القيد الواقع بعد جملة مشتملة على أمور متعددة. ولحم الخنزير الدليل على نجاسته ما قدمنا قريباً من الآية الكريمة وفيما عدا ذلك خلاف, وأما المني فاحتجوا على نجاسته بأمور: الأول حديث عمار وقد سلف عدم صلاحيته للاحتجاج, والثاني بما ورد عن جماعة من الصحابة وذلك لا تقوم به حجة لأنه لم يكن إجماعاً ولا مرفوعاً والثالث بما ورد في المَذْي من الأمر بغسل الفرج والأُنثيين, ويجاب عنه أنه إثبات لنجاسة المني بقياس لأنهما متغايران على أنه يمكن أن يكون التغليظ في المذي إما لكونه يخرج غالباً مختلطاً بالبول أو لأنه ليس بأصل للنسل ويلزم أنه يطهُر بالنضح لما ورد عند أبي داود والترمذي وصححه من حديث سهل بن   1 هذا خطأ من المؤلف والشارح فإن نجاسة دم الحيض ليست لأنه دم حيض بل لمطلق الدم والمتتبع للأحاديث يجد أنه كان مفهوماً أن الدم نجس ولو لم يأت لفظ صريح بذلك وقد كانوا يعرفون ما هو قذر نجس بالفطرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 حُنَيْف بلفظ: "يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح به حيثما ترى أنه1 أصاب من ثوبك". وأما الجواب عن حديث أمره صلى الله عليه وسلم لعائشة بفرك المني بأن المراد به الفرك قبل الغسل لا مجرد الفرك فقط فهذا خلاف ما تقتضيه المقابلة للفرك بالغسل وكان أقرب من هذا أن يجاب بأن الفرك لم يكن بأمره صلى الله عليه وسلم إنما قالت عائشة: كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في كتب الحديث. والأمر الرابع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل موضع المني من ثوبه ويجاب عنه بأن هذا فعل لا يصلح لإثبات النجاسة المستلزم لوجوب الإزالة مع احتمال أن يكون غسله تقذُّراً لما فيه من مخالفة النظافة, وأما فرك عائشة لمنيِّه صلى الله عليه وسلم من ثوبه حال صلاته بأنه2 لم يعلم بذلك فالجواب عنه بأنه لو كان نجساً لما أقره الله على ذلك كما ثبت في حديث خلع النعل بعد دخوله في الصلاة لإخبار جبريل له بذلك, وقد قدمت لك أن الحكم بكون الشيء نجساً لا يُقبل إلا بدليل تقوم به الحجة غير معارض بما هو أنهض أو مساوٍ لأن الحكم بكون الشيء نجساً يستلزم تعبد العباد بحكم من أحكام الشرع تعم به البلوى, وقد أوردت في مِسك الختام شرح بلوغ المرام حجج المختلفين ورجّحت هناك ما رجّحت وظهر لي الآن أن القيام في مقام المنع هو الذي ندين به عند الله, وفي سُبُل السلام والحق أن الأصل الطهارة والدليل على القائل بالنجاسة فنحن باقون على الأصل, وذهب الحنفية رحمهم الله إلى نجاسة المني كغيرهم ولكن قالوا يطهره الغسل أو الفرك أو الإزالة بالخِرقة أو الإذخرة عملاً بالحديثين وبين الفريقين القائلين بالنجاسة والقائلين بالطهارة مجادلات ومناظرات واستدلالات طويلة استوفيناها في حواشي شرح العمدة انتهى. "والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه" لأن كون الأصل الطهارة معلوم من كليات الشريعة المطهرة وجزئياتها ولا ريب أن الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم من أحكام الشرع والأصل البراءة من ذلك ولا سيما من الأمور التي تعم بها البلوى وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السكوت عن الأمور التي سكت الله تعالى عنها وأنها عفو فما لم يرد فيه شيء من   1 أي المذي. 2 لعله وأنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الأدلة الدالة على نجاسته فليس لأحد من عباد الله تعالى أن يحكم بنجاسته بمجرد رأي فاسد أو غلط في الاستدلال كما يدعيه بعض أهل العلم من نجاسة ما حرّمه الله تعالى زاعماً أن النجاسة والتحريم متلازمان وهذا الزعم من أبطل الباطلات فالتحريم للشيء لا يدل على نجاسته بمطابقة ولا تضمن ولا التزام؛ فتحريم الخمر والميتة والدم لا يدل على نجاسة ذلك وكأن الشارع قد علم وقوع مثل هذا الغلط لبعض أمته فأرشدهم إلى ما يدفعه قائلاً: "إنما حُرِّم من الميتة أكلها" 1 ولم كان مجرد تحريم شيء مستلزماً لنجاسته لكان مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى آخره دليلاً على نجاسة النساء المذكورات في الآية والمسلم لا ينجس حيّاً ولا ميتاً كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح وهكذا يلزم نجاسة أعيان وقع التصريح بتحريمها وهي طاهرة بالاتفاق كالأنصاب والأزلام وما يُسكر من النبات والثمرات بأصل الخلقة فإن قلت إذا كان التصريح بنجاسة شئ أو رجسيَّته أو ركسيَّته يدل على أنه نجس كما قلت في نجاسة الروثة ولحم الخنزير فكيف لم تحكم بنجاسة الخمر لقول تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ} قلت: لما وقع الخمر ههنا مقترناً بالأنصاب والأزلام كان ذلك قرينة صارفة لمعنى الرِّجسيّة إلى غير النجاسة الشرعية وهكذا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} لما جاءت الأدلة الصحيحة المقتضية لعدم نجاسة ذوات المشركين كما ورد في أكل ذبائحهم وأطعمتهم والتوضؤ من آن يتهم والأكل فيها وإنزالهم المسجد كان ذلك دليلاً على أن المراد بالنجاسة المذكورة في الآية غير النجاسة الشرعية بل قد ورد البيان من الشارع لذلك بما لا يحتاج إلى زيادة فقال في وفد ثقيف لما أنزلهم المسجد: "ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء إنما أنجاسهم على أنفسهم" , فهذا يدل على أن تلك النجاسة حُكمية لا حِسِّيّة والتعبد إنما هو بالنجاسة الحسية, وأما ما ورد فيه ما يدل على نجاسته ولكنه قد   1 هذا فهم خطأ ولم يقصد الشارع بالحصر –إذا سلمنا أن إنما تدل على الحصر- أنها ليست نجسة فإن الصحابة رضي الله عنهم فهموا نجاسة الميتة بكل أجزائها مما علموه من الشريعة فأعلمهم أن المحرم هو أكلها وأما الانتفاع بجلدها فجائز بعد دباغه ولذلك ورد مرفوعاً من حديث ابن عباس: إذا دُبغ الإهاب فقد طهر. رواه مسلم ورواه الحاكم بلفظ: دباغه يذهب بخبثه أو نجسه أو رجسه، وهو صحيح لا علة له وله ألفاظ أخرى تدل على أن الميتة نجسة. انظر شرحنا على التحقيق لابن الجوزي. مسألة رقم 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 عورض بما هو أرجح منه فلا شك أنه يتعين العمل بالأرجح فإن عورض بما يساويه فالأصل عدم التعبد بما يتضمن ذلك الحكم حتى يرد مورداً خالصاً عن شَوْب المعارضة أو راجحاً على ما عارضه. وبالجملة: فالواجب على المنصف أن يقوم مقام المنع ولا يتزحزح عن هذا المقام إلا بحجة شرعية قال في سبل السلام: والحق أن الأصل في الأعيان الطهارة وأن التحريم لا يلازم النجاسة فإن الحشيشة محرمة طاهرة وكل المخدرات والسمومات القاتلة لا دليل على نجاستها, وأما النجاسة فيلازمها التحريم فكل نجس محرم ولا عكس وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع عن ملامستها على كل حال فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها بخلاف الحكم بالتحريم فإنه يحرم لبس الحرير والذهب وهما طاهران ضرورة شرعية وإجماعاً, إذا عرفت هذا فتحريم الحُمُر والخمر الذي دلت عليه النصوص لا يلزم منه نجاستها بل لا بد من دليل آخر عليه وإلا بقيا على الأصول المتفق عليها من الطهارة فمن ادعى خلافه فالدليل عليه انتهى. وقد أوضح الماتن في مصنفاته كشرح المنتقى ووبل الغمام حاشية شفاء الأوام هذه المباحث المتعلقة بالنجاسة ما لا يحتاج الناظر في ذلك إلى النظر في غيره فليرجع. . فصل "ويطهر ما يتنجس بغلسه" أي بإسالة الماء عليه ثم إن ورد فيه شيء عن الشارع كان الواجب الاقتصار في صفة التطهير على ذلك الوارد من دون مخالفة بزيادة عليه أو نقصان عنه كما ورد في أن النعل إذا تلوث بالنجاسة طهر بمسحه وقد تقدم ما يدل على ذلك وتقدم أيضا ما ورد في كيفية تطهير ما ينجس بدم الحيض وبلعاب الكلب. وبالجملة: فكل ما علمنا الشارع كيفية تطهيره كان علينا أن نقتصر على تلك الكيفية, وأما ما ورد فيه عن الشارع أنه نجس ولم يرد فيه بيان كيفية تطهيره فالواجب علينا إذهاب تلك العين حتى لا يبقى لها عين ولا لون ولا ريح ولا طعم؛ لأن الشيء الذي يجد الإنسان ريحه أوطعمه قد بقي فيه جزء من العين وإن لم يبق جرمها ولونها إذ انفصال الرائحة لا يكون إلا عن وجود شيء من ذلك الشيء الذي له الريح وكذلك وجود الطعم لا يكون إلا عن وجود شيء من ذلك الشئ الذي له الطعم. "والنعل بالمسح" وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الخف لأنه جسم صلب لا يتخلل فيه النجاسة والظاهر أنه عام في الرطبة واليابسة فيطهر من النجاسة التي لها جرم بالدلك ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم حدوث الشكوك في الطهارات فيما يأتي من الزمان وأطلعه الله على ما يأتي به المصابون بالوسوسة من التأويلات التي ليس لها في الشريعة أساس أوضح هذا المعنى إيضاحا ينهدم عنده كل ما بنوه على قنطرة الشك والخيال فقال: "إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر نعليه فإن كان فيهما خبث فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما". ولفظ أحمد وأبي داود: "إذا جاء أحدكم إلى المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما" فانظر هذه العبارة الهادمة لكل شك فإنه أولا بين لهم أنهم إذا وجدوا النجاسة في النعلين وجودا محققا فعلوا المسح بالأرض ثم أمرهم بالصلاة في النعلين ليعلموا بأن هذه هي الطهارة التي تجوز الصلاة بعدها ثم ترى أحدهم يلعب به الشيطان حتى يصير ماهو فيه نوعا من الجنون فيغسل يده أو وجهه مرة بعد مرة حتى يبلغ العدد إلى حد يضيق عنه الحصر مع دلك شديد وكلفة عظيمة واستغراق للفكر وهو يعلم بأن ذلك العضو لم تصبه نجاسة مغلظة ولا مخففة فلا يزال في تعب ونصب ومزاولة لا يشك من رآه أنه لم يبق عنده من العقل بقية ثم إذا فرغ من العضو الأول بعد جهد جهيد شرع في العضو الثاني ثم كذلك وكثير منهم من يدخل محل الطهارة قبل طلوع الفجر ولا يخرج إلا بعد طلوع الشمس فما بلغ الشيطان هذا المبلغ من أحد العصاة لأنه عذب نفسه في معصية لا لذة فيها للنفس ولا رفعة للقدر وصار بمجرد مجاوزة الثلاث الغسلات كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن تجاوزها فقد أساء وتعدى وظلم" فجمع له صلى الله عليه وسلم بين هذه الثلاثة الأنواع ثم لم يقنع منه بهذا حتى صيره تاركا للفريضة التي ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها كما ثبت في الحديث الصحيح عن جابر بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأخرج أهل السنن وأحمد من حديث بريدة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" وأخرج الترمذي عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. فانظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 كيف صار هذا الموسوس بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم مسيئا متعديا ظالما كافرا إن بلغ إلى الحد الذي ذكرناه, فهذا باعتبار ما له عند ربه وأما باعتبار ما له عند الخلق فأقل الأحوال أن يقال: مجنون يلعب به الشيطان في مخالفة شريعة الرحمن فخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين, ومع هذا فهو يعذب نفسه بأشد العذاب وكثيرا ما يفضي به ذلك إلى علة كبيرة تكون سببا لهلاكه فيلقى ربه قاتلا لنفسه في معصية فلا يراح رائحة الجنة كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فيمن قبل نفسه وهذه المحنة يقع فيها العالم والجاهل فمن كان جاهلا اعتذر لنفسه بأعذار شيطانية قد استزله الشيطان بها فمنهم من يقول: لم أتيقن كمال الثلاث الغسلات في كل عضو وهو قد غسل ذلك العضو مئات ومنهم من يقول: أريد أن أغسل غسلا مشروعا لا تبقى شعرة ولا بشرة إلا وقد شملها الغسل والدلك فتراه يقلب يديه ورجليه ويدلك كل موضع منه في مقدار الجثة1 دلكا فظيعا فيشرع بالأنملة ثم يدلك جزءا بعد جزء حتى يفرغ من الأصبع ثم يأخذ في الأخرى ثم كذلك فلا يفرغ من غسل يده إلا بعد مدة طويلة ثم يلعب به الشيطان فيشككه فيما قد غسله أنه لم يغسله فيعود إليه ثم كذلك فلا يكمل الثلاث الغسلات في زعمه إلا بعد أن يبلغ بنفسه إلى حد يرحمه من رآه ومن كان عالما يعترف بأن هذا الفعل مخالف للشريعة وأنه وسوسة شيطانية وهو أقبح الرجلين فإنه ممن أضله الله على علم ونادى على نفسه بأنه منقاد لطاعة شيطانه في مخالفة خالقه مستغرق بعبادة عدو الله إبليس لم يبق فيه بقية تزجره عن معصيته فلم يستحي من الله فيحمله الحياء على إيثار الرحمن على الشيطان ولم يستحي من الناس فيردعه حياؤه عن التحدث لعباد الله بأنه قد اشتغل عن ربه بطاعته الشيطان, وفي مثل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت". والحاصل: أن هذه المحنة قد عمت وطمت عند كل فرد من أفراد العباد منها جزء من الأجزاء وإن قل والكل من طاعة الشيطان ومخالفة الرحمن والناجي من ذلك هو الكبريت الأحمر وعنقاء مغرب والغراب الأبقع ومن أنكر هذا فليجرب نفسه ويعمل بمثل هذا النص الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في مسح الأذى الذي يعلق بالنعل في الأرض ثم يصلي فيه وينظر عند ذلك كيف يجد نفسه مع أن ذلك هو المهيع الذي لا يرجح المجتهد سواه إن أنصف من نفسه   1 لعله الحبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فليصدق فعله قوله, وإن كان مقلدا فله بالأئمة الأسلاف قدوة وهم الأقل من القائلين بذلك وهيهات ذاك فإن الشكوك والخيالات قد جعلها الشيطان ذريعة يقتنص بها من لم يقع في شباكه المنصوبة للمتهتكين من العصاة المستهترين بمحبتها لأنه وجد قوما لا تطمح أنفسهم إلى شرب الخمور وارتكاب الفجور فحفر لهم حفيرة جمع لهم فيها بين خزي الدنيا والآخرة فهم أشقى أتباعه اللهم أعذنا من نزعات الشيطان وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. والاستحالة مطهرة أي إذا استحال الشيء إلى شيء آخر حتى كان ذلك الشيء الآخر مخالفا للشيء الأول لونا وطعما وريحا كاستحالة العذرة رمادا وقد أوضحت ذلك في كتابي دليل الطالب فليراجع وحققه الماتن في وبل الغمام والسيل الجرار وغيرهما, لعدم وجود الوصف المحكوم عليه يعني فقدْ فقدَ الوصف الذي وقع الحكم من الشارع بالنجاسة عليه وهذا هو الحق والخلاف في ذلك معروف وما كان لا يمكن غسله من المتنجسات كالأرض والبئر فتطهيره بالصب عليه أو النزح منه حتى لا يبقى أي لا يوجد للنجاسة أثر لأنها لو كانت باقية لكان التعبد بإذهابها باقيا, ولكن هذا إنما يكون في مثل النجاسة التي لها جرم ولون, وأما مثل البول فقد ورد عن الشارع أن تطهيره بأن يصب عليه ذنوب من ماء فإذا وقع ذلك صارت الأرض المتنجسة بالبول طاهرة. أقول: البول على الأرض يطهره مكاثرة الماء عليه وهو مأخوذ مما تقرر عند الناس قاطبة أن المطهر الكثير يطهر الأرض وأن المكاثرة تذهب بالرائحة المنتنة وتجعل البول متلاشيا كأن لم يكن في المسوى. قال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا أصاب الأرض بول أو غيره من النجاسة المائعة فصب عليها الماء حتى غلبها طهرت والغسالة طاهرة إذا لم يكن فيها تغير ولكنها لا تطهر وفرق بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء على النجاسة, وعند الحنفية رحمهم الله تعالى الغسالة نجسة والأرض لا تطهر بصب الماء حتى تزول عنها الغسالة انتهى. والماء هو الأصل في التطهير فلا يقوم غيره مقامه إلا بإذن من الشارع لأن كون الأصل في التطهير هو الماء قد وصف بذلك في الكتاب والسنة وصفا مطلقا غير مقيد بل قوله صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور" يرشد إلى ما ذكرنا إرشادا تشهد له قواعد علم المعاني وعلم الأصول فإذا ثبت عن الشارع أن تطهيره شيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 من النجاسات يكون بغير الماء كمسح النعل بالأرض ونحو ذلك كان الماء غير متعين في تطهير تلك النجاسة بخصوصها بل نقتصر عليه هناك ويتعين الماء فيما عداها وهذا هو الحق, وقد ذهب الجمهور إلى أن الماء هو المتعين في تطهير النجاسات, وذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وأبو يوسف رحمه الله تعالى إلى أنه يجوز التطهير بكل مائع طاهر ويرد على الجمهور بما ثبت عن الشارع تطهيره بغير الماء إن كانوا يقولون إن الماء يتعين في مثل ذلك ويرد على أبي حنيفة رحمه الله تعالى ومن معه بأن إثبات مطهر لم يرد عن الشارع أو تطهير على غير الصفة الثابتة عنه مدفوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 باب قضاء الحاجة والحاجة كناية عن خروج البول والغائط وهو مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قعد أحدكم لحاجته" وعبر عنه الفقهاء بباب الاستطابة لحديث: "ولا يستطيب بيمينه" , والمحدثون بباب التخلي مأخوذ من قوله: "إذا دخل أحدكم الخلاء" والتبرز من قوله: "البراز في الموارد" والكل من العبارات صحيح على المتخلي الاستتار فينبغي أن يبعد لئلا يسمع منه صوت أو يشم منه ريح أو يرى منه عورة ولا يرفع ثوبه "حتى يدنو من الأرض" عند قضاء الحاجة ويستتر بمثل حائش نخل مما يواري أسفل بدنه فمن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم وذلك لأن الشيطان جبل على أفكار فاسدة وأعمال شنيعة كذا في الحجة, وذلك لما ورد من الأدلة الدالة على وجوب ستر العورة عموما وخصوصا إلا عند الضرورة ومنها قضاء الحاجة فلا يكشف عورته إلا عند القعود وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة بلفظ: "من أتى الغائط فليستتر". "والبعد" لما أخرجه أهل السنن وصححه الترمذي من حديث جابر رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكان لا يأتي البراز حتى يغيب فلا يرى, ولفظ أبي داود: كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد, ورجاله رجال الصحيح إلا إسماعيل بن عبد الملك الكوفي ففيه مقال يسير. "أو دخول الكنيف" يعني إذا أراد أن يقضي الحاجة في البنيان وهناك كنيف فليس عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 إلا أن يدخله وإن قرب من الناس لما سيأتي من حديث ابن عمر. وأما "ترك الكلام" فلحديث: "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك". أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث أبي سعيد وأخرج نحوه ابن السكن وصححه من حديث جابر رضي الله تعالى عنه. وأما ترك الملابسة لما له حرمة فلحديث أنس رضي الله عنه عند أهل السنن وصححه الترمذي والمنذري وابن دقيق العيد بلفظ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء ينزع خاتمه, ولم يأت من ضعفه بما تقوم به الحجة في التضعيف. وتجنب الأمكنة التي منع عن التخلي فيها شرع كالتخلي في ظل الناس وطريقهم ومتحدثهم والماء الدائم فقد ورد في ذلك أحاديث منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم رحمه الله تعالى وأبي داود رحمه الله تعالى قال: "اتقوا اللاعنين" قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: "الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم". وافهم أن الحكمة الاحتراز عن لعنهم وتأذيهم ومنها حديث معاذ بن جبل عند أبي داود وابن ماجه والحاكم وابن السكن وصححاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل" وقد أعل بأنه من رواية أبي سعيد الحميري عن معاذ ولم يسمع منه, وفي الباب أحاديث فيها مقال ومن الأمكنة التي نهى الشارع عنها الجحر لحديث عبد الله بن سرجس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الجحر, أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم والبيهقي وقد أعل بأنه من رواية قتادة عنه ولم يسمع منه ولكنه قد صحح سماعه منه علي بن المديني وصحح الحديث ابن خزيمة وابن السكن, والجحر قد يكون مأوى حية أو مثلها فتخرج وتؤذي, ومنها ما أخرجه أحمد رحمه الله تعالى وأهل السنن من حديث عبد الله بن مغفل عن البني صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه". ومنها ما أخرجه مسلم رحمه الله تعالى وأحمد رحمه الله تعالى والنسائي رحمه لله تعالى وابن ماجة رحمه الله تعالى عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الراكد, "أو عرف" وجهه أنهم يتأذون بذلك وما كان ذريعة إلى ما لا يحل فهو لا يحل: "وعدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الاستقبال والاستدبار للقبلة" قد ورد في ذلك أحاديث منها ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي أيوب بلفظ: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا". وأخرج نحوه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ومن حديث سلمان أيضا وابن ماجه وابن حبان من حديث عبد الله بن الحرث بن جزء وأبو داود من حديث عبد الله بن مغفل والدارمي في مسنده من حديث سهل بن حنيف وقد اختلف أهل العلم في ذلك على ثمانية أقوال استوفاها الماتن في نيل الأوطار وقد استدل من لم يمنع من ذلك بما أخرجه الجماعة من حديث ابن عمر قال: رقيت يوما على بيت حفصة رضي الله تعالى عنها فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة, وجعلوا هذا الحديث ناسخا لأحاديث النهي. ومن جملة ما استدلوا به حديث جابر رضي الله تعالى عنه عند أحمد رحمه الله تعالى وأبي داود رح تعالى والترمذي رح تعالى وحسنه وابن ماجه رح تعالى والبزار رح تعالى وابن الجارود رح تعالى وابن خزيمة رح تعالى وابن حبان رح تعالى والحاكم رح تعالى والدارقطني رح تعالى قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها, وقد نقل الترمذي عن البخاري رح تعالى تصحيحه وصححه أيضا ابن السكن وحسنه أيضا البزار, ولا يخفى أنه قد تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة فما وقع منه صلى الله عليه وسلم لا يعارض النهي عن الاستقبال والاستدبار للقبلة1, فإن قلت حديث عائشة رضي الله تعالى عنها عند أحمد رح تعالى وابن ماجه رح تعالى قالت: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال: "أو قد فعلوها حولوا مقعدتي قبل القبلة". قلت: لو صح هذا لكان صالحا للنسخ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله لقصد التشريع للأمة ولمخالفة من كان يكره الاستقبال ولكنه لم يصح فإن في إسناده خالد بن أبي الصلب قال ابن حزم:   1 كلا بل يعارضه وقد أمرنا باتباعه والاقتداء به صلى الله عليه وسلم وما زعمه الشارح تبعا للمؤلف في نيل الأوطار من أنه تقرر في الأصول الخ دعوى لا دليل عليها ومرجعها إلى ادعاء الخصوصية في بعض أفعاله وهي لا تقبل ممن يدعيها إلا بدليل صريح والحق أن النهي عن الاستقبال أو الاستدبار منسوخ بحديث جابر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 هو مجهول وقال الذهبي في الميزان في ترجمة خالد بن أبي الصلت إن هذا الحديث منكر1 وقد استدل من خصص المنع من الاستقبال والاستدبار للقبلة بالفضاء بما أخرجه أبو داود رح تعالى والحاكم رح تعالى عن مروان الأصفر رضي الله عنه قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة يبول إليها فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن ذلك فقال: بلى إنما نهي عن هذا في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس, وقد حسن الحافظ في الفتح إسناده ولكنه إنما يكون هذا دليلا إذا كان قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما يفيد تخصيص ذلك النهي السابق, وأما إذا كان مستنده إنما هو مجرد فهمه من فعله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة رضي الله عنها فلا يكون هذا الفهم حجة ومع الاحتمال لا ينتهض للاستدلال قال الشافعي رح: الاستقبال والاستدبار محرمان في الصحراء لا في البنيان, ووجه الجمع عنده تنزيل النهي والإباحة على حالتين, وقال أبو حنيفة رح تعالى: مكروهان فيهما سواء ووجه الجمع عنده أن النهي للتنزيه والفعل لبيان الجواز في الجملة كذا في المسوى قال في سبل السلام: اختلف العلماء فيها على خمسة أقوال: أقربها يحرم في الصحارى دون العمران لأن أحاديث الإباحة وردت في الإباحة فحملت عليه وأحاديث النهي عامة وبعد تخصيص العمران بأحاديث فعله التي سلفت بقيت الصحراء على التحريم وقد قال ابن عمر: إنما نهي عن ذلك في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس رواه أبو داود وغيره وهذا القول ليس بالبعيد لبقاء أحاديث النهي على بابها وأحاديث الإباحة كذلك انتهى وروي عن عائشة عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبل قائما, وروي عن عمر عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أن يبول قائما, وروى الحاكم أن بوله صلى الله عليه وسلم قائما كان لمرض لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي فلم يكن صالحا لحمل بوله على حالة الضرورة فالأولى أن يقال: أن فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز وإن البول من قيام مكروه فقط وفعله للمكروه لبيان حكم شرعي جائر ولا ريب أن البول من قيام من الجفاء والغلظة والمخالفة للهيئة المستحسنة مع كونه مظنة لانتضاح البول وترشرشه على البائل   1 خالد بن أبي الصلت ثقة وثقه ابن حبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وثيابه فأقل أحوال النهي مع هذه الأمور أن يكون البول من قيام مكروها, وهذا على فرض أن فعله صلى الله عليه وسلم لقصد التشريع حتى يكون لبيان الجواز ويكون صارفا للنهي فإن لم يكن كذلك فالنهي باق على حقيقته والبول من قيام من خصائصه1 ولكن بعد ثبوت النهي من طريق صحيحة أو حسنة وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في شرح المنتقى. وعليه الاستجمار بثلاثة أحجار طاهرة أي مسحات لأنها لا تنقي غالبا بأقل من ثلاثة أحجار لما في صحيح مسلم وغيره من حديث سلمان: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار وعن الاستنجاء برجيع أو عظم, وأخرج أحمد رح تعالى والنسائي رح تعالى وأبو داود رح تعالى وابن ماجه رح تعالى والدارقطني رح تعالى وقال إسناده صحيح حسن من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه" وأخرج نحوه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي رح تعالى وابن ماجه رح تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروثة والرمة. وأخرج ابن خزيمة وابن حبان والدارمي وأبو عوانة في صحيحه والشافعي رح تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضا بلفظ: "وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار" وفي الباب أحاديث غير ما ذكرناه. . ثم اعلم أنه قال الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي في المسوى شرح الموطأ قال الشافعي رح تعالى: الاستنجاء واجب والمراد ثلاث مسحات, وقال أبو حنيفة رح تعالى: سنة والمراد الإنقاء. وقال الشافعي: لا يجوز الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار وإن حصل الإنقاء بما دونها فإن لم يحصل فإن حصل بعدها بشفع يستحب أن يختم بالوتر, وقال أبو حنيفة رح تعالى: يسن الإنقاء ولا يستحب الإيتار وتأويل الحديث عنده أن المراد بالإيتار هو التثليث كنى به عن الإنقاء ويستحب الاستنجاء بالماء من غير وجوب عن عمر بن الخطاب:   1 ليس هناك دليل على إثبات أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم ولا تقبل دعوى ذلك إلا بدليل كما سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 "يتوضأ بالماء لما تحت إزاره". قلت: معنى الوضوء ههنا الغسل والتنظيف وعليه عامة أهل العلم انتهى. وورد كيفية استعمال الثلاث في حديث ابن عباس رضي الله عنه حجران للصفحتين وحجر للمسربة بسين مهملة وراء مضمومة أو مفتوحة مجرى للحدث من الدبر. أو ما يقوم مقامها للضرورة أي إذا لم توجد الأحجار ما لم يكن ذلك الغير مما ورد النهي عنه كالروثة والرجيع والعظم فإنه لا يجوز ولا يجزئ. قال في الحجة: لأنه طعام الجن وكذا سائر ما ينتفع به ويستحب الجمع بين الحجر والماء. وأقول: لا شك أن الاستنجاء بالماء أفضل من الاستنجاء بالحجارة من دون ماء لأنه أقطع للنجاسة فلا تبقى بعده عين للنجاسة ولا ريح بخلاف الاستنجاء بالحجارة وهو الاستجمار فإذا لم يبق جزء من عين النجاسة بقي أثر من آثارها, وإذا لم يبق شيء من الآثار بقيت الريح ومع هذا فهو من السنن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة مقرونا بما لا خلاف في شرعيته إنما الشأن في كونه يجب على من قضى الحاجة إذا أراد القيام إلى الصلاة أن يستنجي بالماء ولا يكفيه الاستجمار بالأحجار. ثم يتوضأ وضوء الصلاة ثم يصلي والاستدلال على الوجوب بحديث أهل قبا لا يخفى أن غاية ما فيه تخصيصهم بالأمر بذلك دون غيرهم فإن سائر الصحابة كانوا إذ ذاك لا يستنجون بالماء ولهذا خص الله أهل قبا بالثناء ثم لم يرد أنه صلى الله عليه وسلم أمر غير أهل قبا بذلك, وقد ذهب إلى أنه يكفي الأحجار ابن الزبير وسعد بن أبي وقاص والشافعية والحنفية كما حكى ذلك في البحر الزخار عنهم بل حكى أيضا عن عطاء أن غسل الدبر محدث وعن سعيد بن المسيب ما يفعله إلا النساء هكذا في البحر, وروى عنه أنه كان يقول: إذن لا يزال في يدي نتن يعني إذا غسل فرجه بالماء ويدل على عدم الوجوب في أحاديث الأمر بالاستجمار وما ورد من أن ثلاثة أحجار ينقين المؤمن لم يصح. والحاصل: أنه لا نزاع في كون الماء أفضل إنما النزاع في أنه يتعين ولا يجزئ غيره وهذا كله على فرض ثبوت قوله في حديث أهل قباء: "ذلكموه فعليكموه" ولكنه لم يثبت في شيء من كتب الحديث بل الذي في الجامع عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء: "إن الله قد أحسن الثناء عليكم فما ذاك"؟ قالوا: نجمع في الاستجمار بين الأحجار والماء. قال في الجامع ذكره رزين وفي التلخيص عن البراز في مسنده قال: "نبأنا عبد الله بن شبيب نبأنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 قال: وجدت في كتاب أبي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ابن العباس قال: نزلت هذه الآية في أهل قبا {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إنا نتبع الحجارة والماء. قال البزار لا نعلم أحدا رواه عن الزهري إلا محمد بن عبد العزيز ولا عنه إلا ابنه انتهى. ومحمد بن عبد العزيز ضعفه أبو حاتم فقال: ليس له ولأخويه عمران وعبيد الله حديث مستقيم وعبد الله بن شبيب أيضا ضعيف وأصل الحديث في سنن أبي داود والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة وليس في شيء هنا الجمع بين الأحجار والماء فمحل الاستدلال على وجوب الاستنجاء بالماء هو قوله لهم: "فعليكموه" إغراء لهم على الفعل بمعنى الزموه لم يثبت حتى يثبت ما دل عليه واعلم أن الأدلة في هذه المسألة غير مقيدة بكون الأحجار المذكورة للفرج الأعلى أو الأسفل أو لهما جميعا إذ يصدق قوله1 صلى الله عليه وسلم: "وأن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار" على من أراد أن يستنجي بعد البول فقط أو بعد الغائط فقط أو بعدهما, وكذلك قوله2 صلى الله عليه وسلم: "وكان يأمرنا بثلاثة أحجار" يصدق على كل ذاهب إلى الغائط سواء ذهب إلى البول فقط أو إلى الغائط فقط أو لهما, والمراد بالغائط في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم الغائط": المكان المطمئن لا نفس الخارج كما صرح به أئمة اللغة. وكذلك قوله: "وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار" شامل لكل قاض للحاجة سواء ذهب إلى البول فقط أو الغائط فقط أو ذهب إليهما جميعا كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطب بهن فإنها تجزي عنه" يتناول من بال فقط كما يتناول من تغوّط فقط, وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فليستنج بثلاثة أحجار" يصدق على كل قاض للحاجة كما عرفت, وكذلك حديث: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نجتزي بأقل من ثلاثة أحجار, وقوله: "وأعدوا النبل" إذا تقرر هذا علمت أنه شرع الاستجمار لمن بال كما شرع لمن تغوط وأن يكون بثلاثة أحجار ولم يَرِدْ ما يخالف هذا من شرع ولا لغة ولا اشتقاق والاستنجاء هو غسل البدن عن الأذى بالماء ومسحه بالحجر كما صرح به صاحب النهاية وصاحب الصحاح والقاموس والاستجمار عندهم استعمال الجِمار والتمسح بالجِمار وهي الأحجار الصغار وهو استعمال   1 صوابه قول الصحابي لأن هذا حكاية منه عن نهيه صلى الله عليه وسلم. 2 هذا كالذي قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 من غير تقييد. قال في القاموس: استجمر استنجى انتهى. وهو كما لا يخفى يصدُق على من استنجى بها للفرج الأعلى أو الأسفل أو لهما وكذلك تصدق الاستطابة على مسح الذكر والفرج قال في النهاية: الاستطابة والإطابة كناية عن الاستنجاء وسمي بها من الطيب لأنه يطيب جسده بإزالة ما عليه من الخبث بالاستنجاء أي يطهره, ومثل ذلك في الصحاح والقاموس ثم قد وردت أحاديث فيها مجرد الأمر بثلاثة أحجار من غير ذكر استنجاء ولا استطابة ولا استجمار ولا نزاع في صدقها على الذاهب إلى البول كما تصدق على الذاهب إلى الغائط وحينئذ تعلم أنه شرع لمن بال أن يستجمر بالأحجار عقب البول كما شرع لمن تغوط أن يفعل ذلك ولا ينافي ذلك حديث: "إذا بال أحدكم فلينثر ذكره ثلاثاً" كما أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي من حديث عيسى بن يزداذ عن أبيه وقد قال ابن معين: لا يعرف عيسى ولا أبوه, وقال الثوري: اتفقوا على أنه ضعيف, وقال أبو حاتم: حديثه مرسل لأن الحديث وإن كان مما لا تقوم به الحجة لكنه يمكن الجمع بينه وبين أحاديث الاستجمار إذ الاستجمار إنما هو المسح بالجِمار لما تلوث بالبول أو الغائط من خارج الفرج أو الذكر لا لاستخراج ما كان داخلهما فالنثر والاستجمار مختلفان مفهوماً وصدقاً وزماناً ومكاناً وصفة فكيف يجعل أحدهما معارضاً للآخر لا سيما وحديث النثر بمكان من الضعف لا تقوم به الحجة على فرض انفراده فكيف يؤخذ به وتترك أحاديث الاستجمار المتواترة تواتراً معنوياً عند من له أدنى ممارسة للفن وقد أوضحت ذلك في دليل الطالب على أرجح المطالب فليراجع. "وتُندب الاستعاذة عند الشروع" أي الدخول لأن الحشوش مُحتضَرة يحضرها الشياطين لأنهم يحبون النجاسة ووجهه ما أخرجه الجماعة من حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" وقد روى سعيد بن منصور في سننه: أنه كان صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" وإسناده على شرط مسلم. "والاستغفار والحمد بعد الفراغ" لأنه وقت ترك ذكر الله تعالى ومخالطة الشياطين, والدليل عليه ما أخرجه ابن ماجه رح تعالى بإسناد صالح من حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى" 1. وأخرج نحوه النسائي رح تعالى وابن السني رح تعالى من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه ورمز السيوطي رح تعالى لصحته وأخرج أحمد رح تعالى وأبو داود رح تعالى والترمذي رح تعالى وابن ماجه رح تعالى من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك" وصححه ابن حبان رح تعالى وابن خزيمة رح تعالى والحاكم رح تعالى. .   1 نيل الأوطار بزيادة: "وعافاني". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 باب الوضوء فُرض مع الصلاة قبل الهجرة بسنة وهو من خصائص هذه الأمة بالنسبة لبقية الأمم لا لأنبيائهم "يجب على كل مكلف" لم أراد الصلاة وهو مُحْدِث أو جنب: أن يسمي, وجه وجوب التسمية ما ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" أخرجه أحمد رح تعالى وأبو داود رح تعالى وابن ماجه رح تعالى والترمذي رح تعالى في العلل والدارقطني رح تعالى وابن السكن رح تعالى والحاكم رح تعالى والبيهقي رح تعالى وليس في إسناده ما يُسقطه عن درجة الاعتبار وله طرق أخرى من حديثه عند الدارقطني رح تعالى والبيهقي رح وأخرج نحوه أحمد رح تعالى وابن ماجه رح تعالى من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه ومن حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأخرج آخرون نحوه من حديث عائشة رضي الله عنها وسهل بن سعد رضي الله عنه وأبي سبرة رضي الله عنه وأم سبرة رضي الله عنها وعلي رضي الله عنه وأنس رضي الله عنه ولا شك ولا ريب أنها جميعاً تنتهض للاحتجاج بها بل مجرد الحديث الأول ينتهض للاحتجاج لأنه حسن فكيف إذا اعتضد بهذه الأحاديث الواردة في معناه, ولا حاجة للتطويل في تخريجها فالكلام عليها معروف وقد صرح الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 بنفي وضوء من لم يذكر اسم الله وذلك يفيد الشرطية التي يستلزم عدمها العدم فضلاً عن الوجوب فإنه أقل ما يستفاد منه1, "إذا ذكر" تتقييد الوجوب بالذِّكر للجمع بين هذه الأحاديث وبين حديث: "ومن توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهوراً لجميع بدنه ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا لأعضاء وضوءه". أخرجه الدارقطني رح تعالى والبيهقي رح من حديث ابن عمر رضي الله عنه وفي إسناده متروك ورواه الدارقطني رح تعالى والبيهقي رح تعالى من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وفي إسناده أيضا متروك, ورواه أيضا الدارقطني رح تعالى والبيهقي رح تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه ضعيفان, وهذه الأحاديث لا تنتهض للاستدلال بها وليس فيها أيضا دلالة على المطلوب من أن الوجوب ليس إلا على الذِّكر ولكنه يدل على ذلك أحاديث عدم المؤاخذة على السهو والنسيان وما يفيد ذلك من الكتاب العزيز فقد اندرجت تلك الأحاديث الضعيفة تحت هذه الأدلة الكلية ولا يلزم مثل ذلك في الأعضاء القطعية وبعد هذا كله ففي التقييد بالذكر إشكال. قال في الحجة البالغة: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وضوء لمن لا يذكر الله" هذا الحديث لم يُجمع أهل المعرفة بالحديث على تصحيحه, وعلى تقدير صحته فهو من المواضع التي اختلف فيها طريق التلقي من النبي صلى الله عليه وسلم فقد استمر المسلمون يحكون وضوء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويعلّمون الناس ولا يذكرون التسمية حتى ظهر زمان أهل الحديث وهو نص على أن التسمية ركن أو شرط, ويمكن أن يجمع بين الوجهين بأن المراد هو التذكر بالقلب فإن العبادات لا تقبل إلا بالنية وحينئذ يكون صيغة لا وضوء على ظاهرها, نعم التسمية أدب كسائر الآداب لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لم يبدأ باسم الله فهو أبتر" وقياساً على مواضع كثيرة،   1 الحديث الأول ضعيف لأنه من رواية يعقوب بن سلمة الليثي عن أبيه عن أبي هريرة قال البخاري: لا يعرف له سماع من أبيه ولا لأبيه من أبي هريرة. ووقع الإسناد للحاكم في المستدرك: يعقوب بن أبي سلمة وزعم أنه الماجشون فصححه لذلك وتعقبه الذهبي وغيره بأنه خطأ والصواب يعقوب بن سلمة الليثي ولو سُلّم أنه الماجشون فإن أباه أبا سلمة واسمه دينار مجهول الحال وعلى كل فالحديث ضعيف. وباقي الأحاديث التي ذكرها الشارح لا تصلح للاحتجاج لأنها ضعيفة جداً ولذلك قال أحمد بن حنبل: لا أعلم في هذا الباب حديثاً له إسناد جيد وليس لمن قال بوجوب التسمية في الوضوء على أنها شرط فيه: دليل صحيح والحق أنها سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ويحتمل أن يكون المعنى لا يكمل الوضوء لكن لا أرتضي مثل هذا التأويل فإنه من التأويل البعيد الذي يعود بالمخالفة على اللفظ انتهى. وأقول: قد تقرر أن النفي في مثل قوله: "لا وضوء" يتوجه إلى الذات إن أمكن فإن لم يمكن توجه إلى الأقرب إليها وهو نفي الصحة فإنه أقرب المجازيْن لا إلى الأبعد وهو نفي الكمال, وإذا توجه إلى الذات أي لا ذات وضوء شرعية أو إلى الصحة دل على وجوب التسمية لأن انتفاء التسمية قد استلزم انتفاء الذات الشرعية أو انتفاء صحتها فكان تحصيل ما يُحصِّل الذات الشرعية أو صحتها واجباً ولا يتوجه إلا نفي الكمال إلا لقرينة لأن الواجب الحمل على الحقيقة ثم على أقرب المجازات إليها إن تعذر الحمل على الذات ثم لا يحمل على أبعد المجازات إلا لقرينة, ويمكن أن يقال إن القرينة ههنا المسوِّغة لحمل النفي على المجاز الأبعد هي ما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ وذكر اسم الله على وضوئه كان طهوراً لجسده, ومن توضأ ولم يذكر اسم الله على وضوئه كان طهورا لأعضائه". وس نده ضعيف. "ويتمضمض ويستنشق" وجهه أنهما من جملة الوجه الذي ورد القرآن الكريم بغسله وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما في القرآن بوضوئه المنقول إلينا ومن جملة ما نقل إلينا المضمضة والاستنشاق فأفاد ذلك أن الوجه المأمور بغلسه من جملة المضمضة والاستنشاق وقد ورد الأمر بذلك كما أخرجه الدارقطني رح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق, وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر". وثبت عند أهل السنن وصححه الترمذي رح تعالى من حديث لقيط بن صبرة رضي الله تعالى عنه بلفظ: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما1". وأخرج النسائي رح تعالى من حديث سلمة بن قيس رضي الله تعالى عنه: "إذا توضأت فانتثر" وأخرجه الترمذي رح تعالى أيضا وفي رواية   1 رواه أيضا الشافعي وأحمد وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه أيضا البغوي وابن القطان. ورواه أيضا الدولابي بلفظ: "وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائماً" قال ابن القطان: وهذا سند صحيح. ورجحه على الرواية الأخرى التي ليس فيها ذكر المضمضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 من حديث لقيط بن صبرة رضي الله تعالى عنه المذكور: "إذا توضأت فمضمض". أخرجها أبو داود بإسناد صحيح, وقد صحح حديث لقيط رضي الله تعالى عنه الترمذي رح تعالى والنووي رح تعالى وغيرهما, ولم يأت من أعلّه بما يقدح فيه, وقد ذهب إلى وجوب المضمضة والاستنشاق أحمد رح تعالى واسحق رح تعالى وبه قال ابن أبي ليلى رح تعالى وحماد بن سليمان رح تعالى1, وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الاستنشاق واجب في الغسل والوضوء والمضمضة سنة فيهما حكى هذا المذهب النووي رح تعالى في شرح مسلم عن أبي ثور رح تعالى وداود الظاهري وابن المنذر رح تعالى ورواية عن أحمد رح تعالى وقد روى غيره مثل ذلك عن أبي حنيفة رح تعالى والثوري رح تعالى وزيد بن علي رح تعالى وذهب مالك رح تعالى والشافعي رح تعالى والأوزاعي رح تعالى والليث رح تعالى والحسن البصري رح تعالى والزهري رح تعالى وربيعة رح تعالى ويحيى بن سعيد رح تعالى وقتادة رح تعالى والحكم بن عتيبة رح تعالى ومحمد بن جرير الطبري رح تعالى إلى أنهما غير واجبين, واستدلوا على عدم الوجوب بحديث: "عشر من سنن المرسلين" وهو حديث صحيح, ومن جملتها المضمضة والاستنشاق ورد بأنه لم يرو بلفظ عشر من السنن من الفطرة وعلى فرض وروده بذلك اللفظ فالمراد بالسنة الطريقة وهي تعم الواجب لا ما وقع في اصطلاح أهل الأصول فإن ذلك اصطلاح حادث وعرف متجدد لا تحمل عليه أقوال الشارع, وهكذا يجاب عن استدلالهم بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه بلفظ: "المضمضة والاستنشاق سنة" أخرجه الدارقطني رح تعالى وإسناده ضعيف, والمراد بالسنة في اصطلاح الشارع وأهل عصره ما دل عليه دليل من قوله صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره, ولهذا جعلت السنة مقابلة للقرآن فهذه اللفظة أعم من المدعى فإنها تطلق على الواجب   1 من الأدلة القوية على وجوب المضمضة والاستنشاق أن غسلهما داخل في غسل الوجه لأنهما عضوان منه وقد واظب عليهما النبي صلى الله عليه وسلم فالتحق عمله بالأمر الوارد في القرآن بغسل الوجه بياناً له. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: لم يحك أحد ممن وصف وضوءه عليه الصلاة والسلام على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق بل ولا المضمضة وهو يَرد على من لم يوجب المضمضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 كما تطلق على المندوب فيقال مثلا: الدليل على هذا الحكم من السنة ولا يقال: إن الحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية لأن المراد بالسنة كما عرفت في لسان الشارع ليس ما اصطلح عليه الفقهاء وأهل الأصول فتأمل. ثم يغسل جميع وجهه والمراد بالوجه ما يسمى وجهاً عند أهل الشرع واللغة ووجوب غسل الوجه لا خلاف فيه في الجملة وقد قام عليه الدليل كتابا وسنة, ثم يديه مع مرفقيه وهو نص القرآن الكريم والسنة المطهرة ولا خلاف في ذلك, وإنما وقع الخلاف في وجوب غسل المرفقين معهما, ومما يدل على وجوب غسلهما جميعا حديث جابر رضي الله تعالى عنه عن الدارقطني رح تعالى والبيهقي رح تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الماء على مرفقيه ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به". وفي إسناده ضعيفان هما عباد بن يعقوب والقاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل ولكن يغني عن هذا الضعف ما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه توضأ ثم غسل يده حتى شرع في العضد ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوصأ هكذا. وفي رواية الدارقطني رح تعالى من حديث عثمان رضي الله عنه أنه غسل وجهه ويديه حتى مس أطراف العضدين. قال الحافظ: وإسناده حسن, وأخرج البزار والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعاً: ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه, وهذا بيان لما في القرآن فأفاد أن الغاية داخلة فيما قبلها. "ثم يمسح رأسه" ولا خلاف فيه في الجملة وإنما وقع الخلاف هل المتعين مسح الكل أم يكفي البعض؟ وما في الكتاب العزيز قد وقع الخلاف في كونه يدل على مسح الكل أم البعض والسنة الصحيحة وردت بالبيان وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح بناصيته على العمامة. وأخرج أبو داود رح تعالى من حديث أنس رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر وهذه هي الهيئة التي استمر عليها صلى الله عليه وسلم فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان صلى الله تعالى عليه وسلم يداوم عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وهي مسح الرأس مقبلا ومدبرا وإجزاء غيرها في بعض الأحوال ولا يخفى أن قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} لا يفيد إيقاع المسح على جميع الرأس كما في نظائره من الأفعال, نحو: ضربت رأس زيد وضربت برأسه وضربت زيداً وضربت يد زيد فإنه يوجد المعنى اللغوي في جميع ذلك بوجوب الضرب على جزء من الأجزاء المذكورة وهكذا ما في الآية, وليس النزاع في مسمى الرأس لغة حتى يقال: إنه حقيقة في جميعه بل النزاع في إيقاع المسح عليه وعلى فرض الإجمال فقد بينه الشارع تارة بمسح الجميع وتارة بمسح البعض بخلاف الوجه فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال بل غسله جميعا. وأما اليدان والرجلان فقد صرح فيهما بالغاية للمسح والغسل, فإن قلت: إن المسح ليس كالضرب الذي مثلت بت. قلت: لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال: مسحت الثوب أو بالثوب أو مسحت الحائط أو بالحائط على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط, وإنكار مثل هذا مكابرة وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في حاشية الشفاء وغيرها فليراجع. "مع أذنيه" وجهه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مسحهما مع مسح رأسه, وقد ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وسلم بلفظ: "الأذنان من الرأس" من طرق يقوي بعضها بعضا1. "ويجزئ مسح بعضه" قال الشافعي رح تعالى: الفرض أدنى ما يطلق عليه اسم المسح, وقال أبو حنيفة رح تعالى: مسح ربع الرأس, وقال مالك: مسح جميع الرأس في سفر السعادة2, وكان يمسح جميع رأسه أحيانا وأحيانا يمسح على العمامة وأحيانا يمسح على الناصية والعمامة ولم يقتصر على مسح بعض الرأس أبدا وكان يمسح الآذان ظاهرا وباطنا ولم يثبت في مسح الرقبة حديث انتهى. "والمسح على العمامة" أو غيرهما مما هو على الرأس فقد ثبت ذلك عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من حديث عمرو بن أمية الضمري عند البخاري رح تعالى وغيره ومن حديث بلال رضي الله عنه عند مسلم رح تعالى وغيره ومن حديث المغيرة رضي   1 بل كل طرقه ضعيفة والضعيف لا حجة فيه وإن اعتضد بمائة ضعيف مثله إلا ما كان ضعفه من قبل حفظ الراوي فهذا يقويه ما يتابعه فيه غيره ممن هو مثله أو أقوى منه. 2 وهو كتاب نفيس جدا وقد نشرناه بفضل الله وحسن توفيقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الله تعالى عنه عند الترمذي رح وصححه وليس فيه المسح على الناصية بل هو بلفظ: "ومسح على الخفين والعمامة". وفي الباب أحاديث غير هذه منها عن سلمان رضي الله عنه عند أحمد رح تعالى وعن ثوبان رضي الله عنه عند أبي داود وأحمد رح أيضا. والحاصل: أنه قد ثبت المسح على الرأس وحده وعلى العمامة وحدها وعلى الرأس والعمامة والكل صحيح ثابت, وقد ورد في حديث ثوبان رح ما يشعر بالإذن بالمسح على العمامة مع العذر وهو عند أحمد رح وأبي داود رح أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعث سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين, وفي إسناده راشد بن سعد قال الخلال في علله: إن أحمد رح قال: لا ينبغي أن يكون راشد بن سعد سمع من ثوبان رضي الله عنه لأنه مات قديما. "ثم يغسل رجليه" وجهه ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في جميع الأحاديث الواردة في حكاية وضوئه فإنها جميعها مصرحة بالغسل وليس في شيء منها أنه مسح إلا في روايات لا تقوم بمثلها الحجة, ويؤيد ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للماسحين على أعقابهم: "ويل للأعقاب من النار" كما ثبت في الصحيحين وغيرهما, ومما يؤيد ذلك وقوع الأمر منه صلى الله عليه وسلم بغسل الرجلين كما في حديث جابر رضي الله عنه عند الدارقطني رح ويؤيده أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" وهو حديث رواه أهل السنن وصححه ابن خزيمة رح ولا شك أن المسح بالنسبة إلى الغسل نقص, وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وكان في ذلك الوضوء قد غسل رجليه وكذلك قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله" ثم ذكر له صفة الوضوء وفيها غسل الرجلين, وهذه أحاديث صحيحة معروفة وهي تفيد أن قراءة الجر إما منسوخة أو محمولة على أن الجر بالجوار, وقد ذهب إلى هذا الجمهور. قال النووي: ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به في الإجماع, وقال الحافظ رح في الفتح: إنه لم يثبت عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم خلاف ذلك إلا عن علي رضي الله تعالى عنه وابن عباس رضي الله عنه وأنس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 رضي الله عنه, وقد ثبت الرجوع منهم عن ذلك وروى سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رح قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم على غسل القدمين, وقالت الإمامية: الواجب مسحهما, وقال محمد بن جرير والحسن البصري رح والجبائي: إنه مخير بين الغسل والمسح, وقال بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بين الغسل والمسح, ولم يحتج من قال بوجوب المسح إلا بقراءة الجر وهي لا تدل على أن المسح متعين لأن القراءة الأخرى ثابتة بلا خلاف بل غاية ما تدل عليه هذه القراءة هو التخيير لو لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب الاقتصار على الغسل. أقول: الحق أن الدليل القرآني قد دل على جواز الغسل والمسح لثبوت قراءة النصب والجر ثبوتاً لا ينكر وقد وصف تعسف القائلون بالغسل فحملوا الجر على الجوار وأنه ليس للعطف على مدخول الباء في مسح الرأس بل هو معطوف على الوجوه فلما جاور المجرور انجر وتعسف القائلون بالمسح فحملوا قراءة النصب على العطف على محل الجار والمجرور في قوله: {بِِرُؤُوسِكُمْ} 1 كما أن قراءة الجر عطف على لفظ المجرور وكل ذلك ناشئ عن عدم الإنصاف عند عروض الاختلاف ولو وجد أحد القائلين بأحد التأويلين اسما مجرورا في رواية ومنصوبا في أخرى مما لا يتعلق به الاختلاف ووجد قبله منصوبا لفظا ومجرورا لما شك أن النصب عطف على المنصوب والجر عطف على المجرور, وإذا تقرر هذا كان الدليل القرآني قاضيا بمشروعية كل واحد منهما على انفراده لا على مشروعية الجمع بينهما, وإن قال به قائل فهو الضعف بمكان لأن الجمع بين الأمرين لم يثبت في شيء من الشريعة. انظر الأعضاء المتقدمة على هذا العضو من أعضاء الوضوء فإن الله سبحانه شرع في الوجه الغسل فقط, وكذلك في اليدين وشرع في الرأس المسح فقط ولكن الرسول قد بين للأمة أن المفروض عليهم هو غسل الرجلين لا مسحهما, فتواترت الأحاديث عن الصحابة في حكاية وضوئه صلى الله عليه وسلم وكلها مصرحة بالغسل ولم يأت في شيء منها المسح إلا في مسح الخفين فإن كانت الآية مجملة في الرجلين باعتبار احتمالها للغسل والمسح فالواجب الغسل بما وقع منه صلى الله عليه وسلم من البيان المستمر جميع عمره, وإن كان ذلك لا يوجب الإجمال فقد ورد في السنة الأمر بالغسل ورودا ظاهرا؛ ومنه   1 هذا هو الصحيح من جهة العربية وليس فيه تعسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الأمر بتخليل الأصابع فإنه يستلزم الأمر بالغسل؛ لأن المسح لا تخليل فيه بل يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطأ والكلام على ذلك يطول جدا. والحاصل: أن الحق ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الغسل وعدم إجزاء المسح. قال في الحجة البالغة: ولا عبرة بقوم تجارت بهم الأهواء فأنكروا غسل الرجلين متمسكين بظاهر الآية فإنه لا فرق عندي بين من قال بهذا القول وبين من أنكر غزوة بدر وأحد مما هو كالشمس في رابعة النهار. نعم من قال بأن الاحتياط الجمع بين الغسل والمسح أو أن أدنى الفرض المسح وإن كان الغسل مما يلام أشد الملامة على تركه فذلك أمر يمكن أن يتوقف فيه العلماء حتى تنكشف جلية الحال انتهى. قلت: ويدفعه ما تقدم من الدليل على عدم إجزاء المسح والجمع بينه وبين الغسل فلا فائدة للتوقف في ذلك مع الكعبين أي مع القدمين للآية هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم, فالكلام في ذلك كالكلام في المرفقين, ولكنه لم يثبت في غسلهما عنه صلى الله عليه وسلم مثل ما ثبت في المرفقين, وإذا تقرر أنه لا يتم الواجب إلا بغلسهما ففي ذلك كفاية مغنية عن الاستدلال بدليل آخر. وله المسح على الخفين ويشترط في المسح عليهما أن يكون أدخل رجليه فيهما وهما طاهرتان. قال الشافعي رح: يشترط كمال الوضوء عند اللبس, وقال أبو حنيفة رح: عند الحدث ومسح أعلى الخف فرض ومسح أسفله سنة عند الشافعي رح, وقال أبو حنيفة رح: لا يمسح إلا الأعلى. وبالجملة: فوجهه ما ثبت تواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله وقوله, وقد قال الإمام أحمد رح: فيه أربعون حديثا, وكذلك قال غيره وقال ابن أبي حاتم رح: إنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة رض1 أحد وأربعون رجلا, وقال ابن عبد البر رح: أربعون رجلا. وقال ابن منده: إن الذين رووه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانون رجلا, ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك رح أنه قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة رضي الله عنهم اختلاف لأن كل من روى عنه منهم   1 اختصار رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 إنكاره فقد روي عنه إثباته وقد ذكر أحمد رح أن حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في إنكار المسح باطل, وكذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنه قد أنكره الحفاظ ورووا عنهم خلافه, وكذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: سبق الكتاب الخفين. فهو منقطع, وقد روى عنه مسلم رح والنسائي رح القول بالمسح عليهما بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم, وقد روى الإمام المهدي في البحر عن علي رضي الله عنه القول بمسخ الخفين, وقد ثبت في الصحيح من حديث جرير رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين: وإسلام جرير رضي الله تعالى عنه كان بعد نزول المائدة لأن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع, وقد روى المغيرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين وأنه فعل ذلك في غزوة تبوك وتبوك متأخرة عن المريسيع بالاتفاق, وقد ذكر البزار رح أن حديث المغيرة رض هذا رواه عنه ستون رجلا, وبالجملة: فمشروعية المسح على الخفين أظهر من أن يطول الكلام عليها ولكنه لما كثر الخلاف فيها وطال النزاع اشتغل الناس بها حتى جعلها بعض أهل العلم من مسائل الاعتقاد, وقد ورد توقيت المسح بثلاثة أيام للمسافر وبيوم وليلة للمقيم. قال ابن القيم رح في إعلام الموقعين1: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسح على الخفين فقال: "للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوما" , وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي عمارة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: "نعم" قال: يوما. قال: "ويومين" قال: وثلاثة أيام. قال: "نعم وما شئت" ذكره أبو داود رح وطائفة. قالت هذا مطلق أحاديث التوقيت مقيدة والمقيد يقضي على المطلق انتهى وأما مسح الرقبة فقد ورد من الروايات ما يصلح للتمسك به على مشروعية مسح الرقبة وقد بسطه المجتهد الرباني في شرح المنتقى وقد كاد يقع الإجماع بين أهل المذاهب على أنه بدعة, "ولا يكون وضوءا شرعيا إلا بالنية لاستباحة الصلاة" لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" وهو في الصحيحين وغيرهما, وورد من طرق بألفاظ قال في التلخيص: لم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة رحمهم الله من لم يخرجه سوى مالك   1 وهو كتاب نادر المثال وقد وفقنا الله لنشره والحمد لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 رح فإنه لم يخرجه في الموطأ وإن كان ابن دحية رح وهم في ذلك وادعى أنه في الموطأ. قال الهروي: كتب هذا الحديث عن سبعمائة نفر من أصحاب يحيى بن سعيد قلت: تتبعته من الكتب والأجزاء حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقا, هذا ما كنت وقفت عليه ثم إن في المستخرج لابن منده رح عدة طرق فضممتها إلى ما عندي فزادت على ثلثمائة طريق انتهى. فإن كان المقدر عاما فهو يفيد أنه لا يثبت العمل الشرعي إلا بها وإن كان خاصا فأقرب ما يقدر الصحة وهي تفيد ذلك. قال في الفتح: وقد اتفق العلماء على أن النية شرط في المقاصد, واختلفوا في الوسائل ومن ثم خالفت الحنفية رحمهم الله في اشتراطها للوضوء, ورد ابن القيم رح على الحنفية رحمهم الله بأحد وخمسين وجها في إعلام الموقعين فليرجع إليه, وقد نسب القول بفرضية النية إلى الشافعي رح ومالك رح والليث رح وربيعة رح وأحمد بن حنبل رح وإسحق بن راهوية رح. . فصل "ويستحب التثليت" وجهه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم غسل كل عضو ثلاث مرات وبيّن أن الواجب مرة واحدة في غير الرأس لأن الأحاديث الواردة بتثليث سائر الأعضاء وقع التصريح فيها بإفراد مسح الرأس ولا تقوم الحجة بما ورد في تثليثه, وأما الترتيب فمن جملة ما استدل به القائل بوجوب الترتيب أن الآية مجملة باعتبار أن الواو لمطلق الجمع على أي صفة كان فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم للأمة أن الواجب من ذلك هيئة مخصوصة هي المروية عنه وهي مرتبة وأيضا الوضوء الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله الصلاة إلا بت" كان مرتبا, والحديث المذكور وإن كان في جميع طرقه مقال لكنها يقوي بعضها بعضا, ويؤيده ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم مرفوعا عن أبي هريرة: "إذا توضأتم فابدؤوا بميانكم". قال ابن دقيق العيد: هو خليق بأن يصح وقد حقق الكلام على هذا شيخنا العلامة الشوكاني في شرح المنتقى, وإطالة الغرة والتحجيل لثبوته في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: "أن أمتي يُدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل". وتقديم السواك استحباباً" وجهه الأحاديث المتواترة من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وليس في ذلك خلاف قال في الحجة: قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" معناه لولا خوف الحرج لجعلت السواك شرطا للصلاة كالوضوء, وقد ورد بهذا الأسلوب أحاديث كثيرة جدا وهي دلائل واضحة على أن لاجتهاد النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مدخلاً في الحدود الشرعية وأنها منوطة بالمقاصد وأن رفع الحرج من الأصول التي بُني عليها الشرائع, وقول الراوي في صفة تسوكه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أع أع كما يتهوع أقول: ينبغي للإنسان أن يبلغ بالسواك أقاصي الفم فيخرج بلاغم الحلق والصدر والاستقصاء في السواك يذهب بالقُلاع ويصفي الصوت ويطيب النكهة انتهى. "وغسل اليدين إلى الرسغين ثلاثا قبل الشروع في غسل الأعضاء المتقدمة" لحديث أوس بن أوس الثقفي قال: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم توضأ فاستوكف ثلاثاً, أي غسل كفيه أخرجه أحمد رح والنسائي رح. وثبت في الصحيحين من حديث عثمان رضي الله عنه: فأفرغ على كفيه ثلاث مرات يغسلهما, وثبت نحو ذلك عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فصل "وينتقض الوضوء بما خرج من الفرجين من عين أو ريح" فقد وردت الأدلة بذلك مثل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" وقد فسره أبو هريرة رضي الله عنه لما قال له رجل ما الحدث؟ قال: فساء أو ضراط, ومعنى الحدث أعم مما فسره به ولكنه نبه بالأخف على الأغلظ ولا خلاف في انتقاض الوضوء بذلك, "وبما يوجب الغسل" في الجماع ولا خلاف في انتقاضه به أيضا. ونوم المضطجع وجهه أن الأحاديث الواردة بانتقاض الوضوء بالنوم كحديث: "من نام فليتوضأ" مقيد بما ورد أن النوم الذي ينتقض به الوضوء هو نوم المضطجع, وقد روي من طرق متعددة والمقال الذي فيها ينجبر بكثرة طرقها وبذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 يكون الجمع بين الأدلة المختلفة, وفي ذلك ثمانية مذاهب استوفيناها في مسك الختام شرح بلوغ المرام واستوفاها الماتن في نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار, وذكر الأحاديث المختلفة وتخريجها وترجيح ما هو الراجح. قال الشافعي رح: النوم ينقض الوضوء إلا نوم ممكِّن مقعدته, وقال أبو حنيفة رح: لو نام قائماً أو قاعداً أو ساجداً ولا وضوء عليه حتى ينام مضطجعاً أو متكئاً كذا في المسوى, وأكل لحم الإبل وجهه قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لما قيل له: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم". وهو في الصحيح من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه, وقد روي أيضا من طريق غيره وذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقض الوضوء, واستدلوا بالأحاديث التي نسخت الأحاديث الواردة في الوضوء مما مست النار ولا يخفى أنه لم يصرح في شيء منها بلحوم الإبل حتى يكون الوضوء منها منسوخاً, وقد ذهب إلى انتقاض الوضوء بأكل لحوم الإبل أحمد بن حنبل رح وإسحق بن راهويه رح ويحيى بن يحيى رح وابن المنذر رح وابن خزيمة رح والبيهقي رح, وحكي عن أصحاب الحديث رحمهم الله وحكي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كما قال النووي رح قال البيهقي رح: حكي عن بعض أصحابنا عن الشافعي رح أنه قال: إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت بت. قال البيهقي رح: قد صح فيه حديثان حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه وحديث البراء رضي الله عنه. قال في الحجة: وأما لحم الإبل فالأمر فيه أشد لم يقل به أحد من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم والتابعين رضي الله عنهم ولا سبيل إلى الحكم بنسخه فلذلك لم يقل به من يغلب عليه التخريج, وقال به أحمد رح1 وإسحق رح وعندي أنه ينبغي أن يحتاط فيه الإنسان والله أعلم وقد أطال ابن القيم رح في إعلام الموقعين في إثبات النقض به. أقول: الإنصاف في هذا أن لحوم الإبل ناقضة للوضوء وحديث النقض من الصحة بمكان يعرفه من يعرف هذا الشأن أخرجه مسلم وأهل السنن وصححه جماعة من غيرهم ولم يأت عنه صلى الله عليه وسلم ما يخالف هذا من قول أو فعل أو تقرير وإلى هذا التخصيص ذهب   1 اختصار رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 جماعة من أهل العلم كما تقدم ومن أراد الاطلاع على مذاهب العلماء وأدلتهم في هذه المسألة فهي مستوفاة في مؤلفات شيخنا العلامة الشوكاني, وأما حمل الوضوء على غسل اليد فالواجب علينا حمل ألفاظ الشارع على الحقائق الشرعية إن وجدت وهي ههنا موجودة فإنه في لسان الشارع وأهل عصره لغسل أعضاء الوضوء لا لغسل اليد فقط ولم يصح من أحاديث الغسل قبل الطعام وبعده شيء. "والقيء" وجهه ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قاء فتوضأ. أخرجه أحمد رح وأهل السنن رح. قال الترمذي هو أصح شيء في الباب وصححه ابن منده رح وليس فيه ما يقدح في الاحتجاج بت, ويؤيده أحاديث منها حديث عائشة رضي الله تعالى عنها عنه صلى الله عليه وسلم: "من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ" وفي إسناده إسماعيل بن عياش وفيه مقال وفي الباب عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم والمجموع ينتهض للاستدلال بت, وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة رح وأصحابه رح وذهب الشافعي رح وأصحابه رح إلى أنه غير ناقض وأجابوا عن أحاديث الوضوء من القيء بأن المراد بها غسل اليدين ولا يخفى أن الحقيقة الشرعية مقدمة, وفي الحجة البالغة قال إبراهيم رح بالوضوء من الدم السائل والقيء الكثير والحسن رح الوضوء من القهقهة في الصلاة ولم يقل: بذلك آخرون وفي كل ذلك حديث لم يُجمع أهل المعرفة بالحديث على تصحيحه, والأصح في هذه أن من احتاط فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن لا فلا سبيل عليه, وفي صراح الشريعة والدم السائل والقيء الكثير ملوثان للبدن مبلدان للنفس والقهقهة في الصلاة خطيئة تحتاج إلى كفّارة فلا عجب أن يأمر الشارع بالوضوء من هذه ولا عجب أن يأمر ويرغب فيه من غير عزيمة, وفي المسوى قال الشافعي رح: خروج النجاسة من غير الفرجين لا يوجب الوضوء وقال أبو حنيفة رح: يوجبه بشرط انتهى1. ونحوه والمراد بنحو القيء هو القلس والرعاف والخلاف في القلس كالخلاف في القيء. قال الخليل: هو ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه وليس بقيء, وفي النهاية: القلس ما خرج من الجوف, ثم ذكر مثل كلام الخليل. وأما الرعاف فقد   1 الأحاديث المروية في نقض الوضوء بالقيء ضعيفة لا تصلح للاحتجاج وكذلك ما ورد في النقض بخروج النجاسة من غير السبيلين. وأما أحاديث نقض الوضوء بالقهقهة فإنها من أضعف الحديث بل حكم كثير من الحفاظ بأنها موضوعة والحق أن ليس شيء من هذا ناقضا للوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ذهب إلى أنه ناقض أبو حنيفة رح وأبو يوسف رح ومحمد رح وأحمد بن حنبل رح واسحق رح وقيدوه بالسيلان, وذهب ابن عباس رضي الله عنه ومالك رح والشافعي رح وروي عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه وأبي هريرة رضي الله عنه وجابر بن زيد رضي الله عنه وابن المسيب رح ومكحول رح وربيعة رح إلى أنه غير ناقض وأجابوا عن دليل الأولين بما فيه من المقال وبالمعارضة بمثل حديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم احتجم فصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه. رواه الدارقطني رح وفي إسناده صالح بن مقاتل وهو ضعيف ويُجاب عن الأول بأنه ينتهض بمجموع طرقه وعن المعارضة بأنها غير صالحة للاحتجاج وبأن دم الرعاف غير دم الحجامة فلا يبعد أن يكون لخروجه من الأعماق تأثير في النقض في المسوى. قال الشافعي رح: الرعاف والحجامة لا ينقضان الوضوء. وقال أبو حنيفة رح: ينقضان إذا كان الدم سائلاً وقال مالك رح: الأمر عندنا أنه لا يتوضأ من رعاف ولا دم ولا من قيح يسيل من الجسد ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو نوم انتهى. أقول: قد اختلف أهل العلم في انتقاض الوضوء بخروج الدم وجميع ما هو نص في النقض أو عدمه لم يبلغ إلى رتبة تصلح للاحتجاج بها وقد تقرر أن كون الشيء ناقضاً للوضوء لا يثبت إلا بدليل يصلح للاحتجاج وإلا وجب البقاء على الأصل لأن التعبد بالأحكام الشرعية لا يجب إلا بإيجاب الله أو رسوله وإلا فليس بشرع ومع هذا فقد كان الصحابة رض يباشرون مع معارك القتال ومجاولة الأبطال في كثير من الأحوال ماهو من الشهرة بمكان أوضح من الشمس فلو كان خروج الدم ناقضاً لما ترك صلى الله عليه بيان ذلك مع شدة الاحتياج إليه وكثرة الحامل عليه, ومثل الدم القيء في عدم ورود دليل يدل على أنه ناقض وغاية ما هناك حديث إسماعيل بن عياش وفيه من المقال ما لا يخفى. "ومس الذكر", وقد دل على ذلك حديث بسرة بنت صفوان رض: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ" رواه أحمد رح وأهل السنن رح ومالك رح والشافعي رح وابن خزيمة رح وابن حبان رح والحاكم رح وابن الجارود وصححه أحمد رح والترمذي رح والدارقطني رح ويحيى بن معين رح والبيهقي رح والحازمي رح وابن حبان رح وابن خزيمة رح. قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب, وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة رض منهم جابر رض وأبو هريرة رضي الله عنه وأم حبيبة رضي الله عنها وعبد الله ابن عمر رضي الله عنهما وزيد بن خالد رضي الله عنه وسعيد بن أبي وقاص رض وعائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنهما وابن عمرو رضي الله عنهما والنعمان ابن بشير رضي الله عنه وأنس رضي الله عنه وأبي بن كعب ومعاوية بن حيدة1 رضي الله عنه وقبيصة رضي الله عنه وأروى بنت أُنيس2 رضي الله عنها وحديث بسرة رضي الله عنها بمجرده أرجح من حديث طلْق بن علي رضي الله عنه عند أهل السنن رح مرفوعاً بلفظ: الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ فقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إنما هو بضعة منك" فكيف إذا انضم إلى حديث بسرة رضي الله عنها أحاديث كثيرة كما أشرنا إليه ومن مال إلى ترجيح حديث طلق فلم يأت بطائل وقد تقرر في الأصول أن رواية الإثبات أولى من رواية النفي وأن المقتضي للحظر أولى من المقتضي للإباحة, وقد ذهب إلى انتقاض الوضوء بمس الذكر جماعة من الصحابة والتابعين رض والأئمة رح ومالوا إلى العمل بحديث بسرة لتأخر إسلامها, وذهب إلى خلاف ذلك جماعة كذلك والحق الانتقاض. وقد ورد ما يدل على أنه ينتقض الوضوء بمس الفرج وهو أعم من القُبُل والدُبُر كما أخرجه ابن ماجه رح من حديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "من مس فرجه فليتوضأ" وصححه أحمد رح وأبو زرعة رح وقال ابن السكن رح: لا أعلم له علة, وأخرج الدارقطني رح من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: "إذا مسّت إحداكن فرجها فلتتوضأ" وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله العمري وفيه مقال. وأخرج أحمد رح والترمذي رح والبيهقي رح من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "أيما رجل مس فرجه فليتوضأ وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ" وفي إسناده بقية بن الوليد ولكنه صرح بالتحديث. قال في المسوى قال الشافعي رح: يجب الوضوء على من مس الفرج وشرطه أن يمس ببطن الكف أو بطون الأصابع, وقال   1 في الأصل معاوية بن أبي حيدة وهو خطأ. 2 هي غير معروفة والإسناد إليها ضعيف واختُلف فيها فقال بعضهم: أروى ولم يذكر اسم أبيها وقال بعضهم: أروى بنت أنيس, وقال بعضهم: عن أبي أروى فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 أبو حنيفة رح مس الفرج لا ينقض واحتج بقول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "هل هو إلا بضعة منك" انتهى. قالوا: إن مس الفرج لما كانت حاجة الناس إليه عامة والبلوى به دائمة وجب أن ينقل شرعاً ثابتاً متواترا مستقرا. أقول: قد وقع في الأصول أن الحكم الذي تعم به البلوى لا بد أن يُنقل نقلاً مستفيضاً والقائل بذلك بعض الحنفية وخالفهم الجمهور لعموم الأدلة الدالة على قبول أخبار الآحاد وهذه القاعدة كثيراً ما ترى المشغوفين بمحبة ما ألفوه من مذاهب الأسلاف يدفعون بها الحجج الشرعية التي يوردها خصومهم فإذا استدلوا لأنفسهم على إثبات حكم قد دأبوا عليه ودرجوا وصار عندهم من المألوفات المعروفات مالوا عن ذلك ولم يُعرِّجوا عليه وهذا ستراه في غير موطن من كتب المتمذهبين فإن كنت ممن لا تنفق عليه التدليسات ولا يغره سراب التلبيسات فلا تلعب بك الرجال من حال إلى حال بزخارف ما تنمقه من الأقوال. فكن رجلا رِجْله في الثَّرى ... ... وهامة همته في الثُرَيّا ... ولا حرج على المجتهد إذا رجح غير ما رجحناه إنما الشأن في التكلم في مواطن الخلاف بما يتبرأ منه الإنصاف اللهم بصرنا بالصواب واجعل بيننا وبين العصبية من لطفك أمنع حجاب, وفي الحجة البالغة موجبات الوضوء في شريعتنا على ثلاث درجات: إحداها ما اجتمع عليه جمهور الصحابة رضي الله تعالى عنهم وتطابق فيه الرواية والعمل الشائع وهو البول والغائط والريح والمذي والنوم الثقيل وما في معناها. الثانية ما اختلف فيه السلف من فقهاء الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وتعارض فيه الرواية عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كمس الذكر لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "من مس ذكره فليتوضأ". قال به عمر وسالم وعروة وغيرهم رضي الله عنهم, ورده علي وابن مسعود رضي الله عنهما وفقهاء الكوفة ولهم قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "هل هو إلا بضعة منك" ولم يجيء الثلج بكون إحداهما منسوخا, ولمس المرأة قال ابن عمر وابن مسعود وإبراهيم رضي الله عنهم لقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ولا يشهد له حديث بل يشهد حديث عائشة رضي الله عنها بخلافه لكن فيه نظر لأن في إسناده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 انقطاعاً؛ وعندي أن مثل هذه العلة إنما تعتبر في مثل ترجيح أحد الحديثين على الآخر ولا تعتبر في ترك حديث من غير تعارض والله تعالى أعلم. وبالجملة: فجاء الفقهاء من بعدهم على ثلاث طبقات: آخذ به على ظاهره وتارك له رأساً: وفارق بين الشهوة وغيرها ولا شبهة أن لمس المرأة مهيج للشهوة مظنة لقضاء شهوة دون شهوة الجماع, وأن مس الذكر فعل شنيع ولذلك جاء النهي عن مس الذكر بيمينه في الاستنجاء فإذا كان قبضاً عليه كان من أفعال الشياطين لا محالة, والثالثة ما وُجد فيه شبهة من لفظ الحديث وقد أجمع الفقهاء من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم على تركه كالوضوء مما مست النار فإنه ظهر عمل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والخلفاء وابن عباس وأبي طلحة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم بخلافه وبيّن جابر رضي الله عنه أنه منسوخ. قلت: عامة أهل العلم على أن الوضوء مما مسته النار منسوخ وتأول بعضهم على غسل اليد والفم. قال قتادة رضي الله عنه: من غسل فمه فقد توضأ كذا في المسوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 باب الغسل وأصله تعميم البدن بالغسل "يجب بخروج المني بشهوة ولو بتفكر" وقد دلت على ذلك الأدلة الصحيحة كأحاديث: "الماء من الماء" وأحاديث: في المني الغسل, وصدق اسم الجنابة على من كان كذلك وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} والاطهار استيعاب جميع البدن فالغسل كذا في المسوى ولا أعلم في ذلك خلافا وإنما وقع الخلاف المشهور بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وكذلك بين من بعدهم هل يجب الغسل بالتقاء الختانين من دون خروج مني أم لا يجب إلا بخروج المني؟ والحق الأول لحديث: "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل" أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما رحمهم الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وأخرج نحوه مسلم وأحمد والترمذي رحمهم الله تعالى وصححه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فهذان الحديثان وما ورد في معناهما ناسخان لما كان في أول الإسلام من أن الغسل إنما يجب بخروج المني, ويدل على ذلك حديث أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ابن كعب رضي الله تعالى عنه قال: إن الفتيا التي كانوا يقولون الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعدها. وأخرج مسلم رح تعالى من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل وعائشة رضي الله تعالى عنها جالسة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل" وقال في الحجة البالغة: اختلف أهل الرواية هل يُحمل الإكسال أي الجماع من غير إنزال على الجماع الكامل في معنى قضاء الشهوة أعني ما يكون معه الإنزال والذي صح رواية وعليه جمهور الفقهاء هو أن من جهد فقد وجب عليهما الغسل وإن لم ينزل واختلفوا في كيفية الجمع بين هذا الحديث وحديث: "إنما الماء من الماء" فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: للاحتلام, وفيه ما فيه لأنه يأباه سبب ورود الحديث كما أخرجه مسلم, وقال أبي رضي الله تعالى عنه: كانت رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها, وقد روي عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وأبي ابن كعب وأبي أيوب رضي الله تعالى عنهم فيمن جامع امرأته ولم يُمْن قالوا: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره, ورفع ذلك إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم, ولا يبعد عندي أن يُحمل ذلك على المباشرة الفاحشة فإنه قد يطلق الجماع عليها. قلت: على هذا أكثر أهل العلم أن غسل الجنابة يجب بأحد الأمرين: إما بإدخال الحشفة في الفرج أو بخروج الماء الدافق من الرجل أو المرأة بالتقاء الختانين وعلى هذا أكثر أهل العلم أن من جامع امرأته فغيّب الحشفة وجب الغسل عليهما وإن لم ينزل والختان موضع القطع من ذكر الغلام ونواة الجارية, "وبانقطاع الحيض والنفاس" ولا خلاف في ذلك, وقد دل عليه نص القرآن ومتواتر السنة وكذلك وقع الإجماع على وجوبه بانقطاع النفاس. وكذلك وقع الإجماع على وجوبه "بالاحتلام" إلا ما يُحكى عن النخعي رح تعالى ولكنه إنما يجب إذا وجد المحتلم بللاً. "مع وجود بلل" كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً فقال: "يغتسل" وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 البلل فقال: "لا غسل عليه". أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه رحمهم الله ورجاله رجال الصحيح إلا عبد الله بن عمر العمري وفيه مقال خفيف, وأخرج نحوه أحمد والنسائي رحمهما الله من حديث خولة بنت حكيم رضي الله تعالى عنها, وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما رحمهم الله تعالى من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن أم سليم رضي الله تعالى عنها قالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت؟ قال: "نعم إذا رأت الماء" وهذه الأحاديث ترد على من اعتبر أن يحصل للمحتلم شهوة ويتيقن ذلك والمراد من البلل المني فإن رأى بللاً ولم يتيقن أنه مني لم يجب الغسل عند أكثر أهل العلم. قال في الحجة: أراد الحكم على البلل دون الرؤيا لأن الرؤيا تكون تارة حديث نفس ولا تأثير له وتارة تكون قضاء شهوة ولا تكون بغير بلل فلا يصلح لإدارة الحكم إلا البلل, وأيضا فإن البلل شيء ظاهر يصلح للانضباط. وأما الرؤيا فإنها كثيراً ما تنسى انتهى. "وبالموت" المراد وجوب ذلك على الأحياء إذ لا وجوب بعد الموت من الواجبات المتعلقة بالبدن أي يجب على الأحياء أن يغسلوا من مات وقد حكى المهدي في البحر والنووى رح الإجماع على وجوب غسل الميت وناقش في ذلك بعض المتأخرين مناقشة واهية وسيأتي الكلام على غسل الميت وصفته وتفاصيله إن شاء الله تعالى وفي الحجة وأما غسل الميت فلأن الرشاش ينتشر في البدن وجلست عند محتضر فرأيت أن الملائكة الموكلة بالقبض لها نكاية عجيبة في المحتضرين ففهمت أنه لا بد من تغيير الحالة لتنبه النفس لمخالفها, "وبالإسلام" وجهه ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود وابن حبان وابن خزيمة رحمهم الله عن قيس بن عاصم رض: أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر, وصححه ابن السكن رح وأخرج أحمد وعبد الرزاق والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان رحمهم الله من حديث أبي هريرة رض: أن ثمامة رضي الله تعالى عنه أسلم فقال النبي صلى الله وسلم عليه: " اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل" وأصله في الصحيحين وليس فيهما الأمر بالاغتسال بل فيهما أنه اغتسل. قال في الحجة: قال لآخر: ألق عنك شعر الكفر وسره أن يتمثل عنده الخروج من شيء أصرح ما يكون والله تعالى أعلم انتهى. وقد ذهب إلى الوجوب أحمد بن حنبل وأتباعه رحمهم الله وذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الشافعي رح إلى عدم الوجوب والحق الأول, ويؤيده ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الأمر بالغسل عند الإسلام لواثلة بن الأسقع وقتادة الرهاوي رض كما أخرجه الطبراني رح وأمره أيضا لعقيل بن أبي طالب رض كما أخرجه الحاكم رح في تاريخ نيسابور وفي أسانيدها مقال. فصل "والغسل الواجب هو أن يُفيض الماء على جميع بدنه أو ينغمس فيه" أقول: الغسل شرعاً ولغة هو ما ذُكر وقد وقع النزاع في دخول الدلك في مسمى الغسل ولكنه لا يخفى أن مجرد بل الثوب أو البدن من دون دلك لا يسمى غسلاً كما يفهم ذلك من الاستعمالات العربية وكما يفيد ذلك ما تقدم في بول الصبي أنه صلى الله عليه وسلم أتبعه الماء ولم يغسله وهو في صحيح مسلم رح وغيره, مع المضمضة والاستنشاق فقد ثبتا في الغسل من فعله صلى الله عليه وسلم ووجه الوجوب ما قدمناه في الوضوء وفيهما وفي السواك إزالة المخاط والبَخر "والدلك لما يمكن دلكه ولا يكون شرعيا إلا بالنية لرفع موجبه" لما قدمناه في الوضوء, "ونُدب" لا أنه وجب لأنه يصدق الغسل ويوجد مسماه بالإفاضة على جميع البدن من غير تقدم, "تقديم غسل أعضاء الوضوء إلا القدمين" لما قد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يفيض على سائر جسده ثم يغسل رجليه, وهو من حديث عائشة رض وورد في الصحيحين وغيرهما من حديث ميمونة رض بلفظ: أنه صلى الله عليه وسلم أفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثاً ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره ثم دلك يده بالأرض ثم مضمض واستنشق ثم غسل وجهه ويديه ثم غسل رأسه ثلاثاً ثم أفرغ على جسده ثم تنحى من مقامه فغسل قدميه, وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يتوضأ بعد غسل كما أخرجه أحمد وأهل السنن رح وقال الترمذي رح: حسن صحيح, وأخرجه البيهقي رح أيضا بأسانيد جيدة وقد روى ابن أبي شيبة رح عن ابن عمر رض مرفوعاً وموقوفاً أنه قال لما سئل عن الوضوء بعد الغسل: وأي وضوء أعم من الغسل, وروي عن حذيفة رض أنه قال: "أما يكفي أحدكم أن يغتسل من قرنه إلى قدمه حتى يتوضأ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم حتى قال أبو بكر ابن العربي: إنه لم يختلف العلماء أن الوضوء داخل تحت الغسل وأن نية طهارة الجنابة تأتي على طهارة الحدث وهكذا نقل الإجماع ابن بطال رح, وتُعقِّب بأنه قد ذهب جماعة منهم أبو ثور وداود وغيرهما رحمهم الله إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء, وأما كون تقديم أعضاء الوضوء غير واجب فلأنه يصدق الغسل ويوجد مسماه بالإفاضة على جميع البدن من غير تقديم. "ثم التيامن" لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً عموما وخصوصا فمن العموم ما ثبت في الصحيح أنه صلى الله وسلم عليه كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله. ومن الخصوص ما ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه بدأ بشق رأيه الأيمن ثم الأيسر في الغسل, وقد ثبت من قوله ما يفيد ذلك ولا خلاف في استحباب التيامن. فصل "ويُشرع" أي الغسل "لصلاة الجمعة" لحديث: "إذا جاء أحد كم الجمعة فليغتسل" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر رض وقد تلقت الأمة هذا الحديث بالقبول ورواه عن نافع رح نحو ثلاثمائة نفس, ورواه من الصحابة غير ابن عمر رض نحو أربعة وعشرين صحابياً, وقد ذهب إلى وجوبه جماعة. قال النووي رح: حُكي وجوبه عن طائفة من السلف رحمهم الله حكوه عن بعض الصحابة رض وبه قال أهل الظاهر وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار رض ومالك وحكاه الخطابي عن الحسن البصري وحكاه ابن حزم عن جمع من الصحابة رض ومن بعدهم, وذهب الجمهور إلى أنه مستحب واستدلوا بحديث أبي هريرة رض عند مسلم بلفظ: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام1" وبحديث سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله وسلم عليه قال: "من توضأ للجمعة فبها ونِعمت ومن اغتسل فذلك أفضل" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي رحمهم الله وفيه مقال مشهور وهو عدم سماع الحسن رح من سمرة رح وغير ذلك من   1 قال ابن حجر في الفتح: ليس فيه نفي الغسل وقد ورد من وجه آخر في الصحيح بلفظ: "من اغتسل" فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الأحاديث قالوا: وهي صارفة للأمر إلى الندب ولكنه إذا كان ما ذكروه صالحاً لصرف الأمر فهو لا يصلح مثل قوله صلى الله وسلم عليه: "حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً يغسل فيه رأسه وجسده" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رض, وقد استوفى الماتن رح الكلام على حكم غسل الجمعة في نيل الأوطار فليرجع إليه ولا يخفى أن تقييد الغسل بالمجيء للجمعة يدل على أنه للصلاة لا لليوم. "وللعيدين" فقد روي من فعله صلى الله وسلم عليه من حديث الفاكه بن سعد رض: أنه صلى الله وسلم عليه كان يغتسل يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر. أخرجه أحمد وابن ماجه والبزار والبغوي رح. وأخرج نحوه ابن ماجه رح من حديث ابن عباس رض وأخرجه البزار رح من حديث أبي رافع رض وفي أسانيدها ضعف ولكنه يقوي بعضها بعضاً ويقوي ذلك آثار عن الصحابة رض جيدة. أقول: قد روي في ذلك أحاديث لم يصح منها شيء ولا بلغ شيء منها إلى رتبة الحسن لذاته ولا لغيره وأما اعتبار كون المغتسل يصلي صلاة العيد بذلك الغسل أي من دون أن يتخلل بين الغسل وبين الصلاة شيء من الأحداث فلا أحفظ فيه حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا قول صحابي وهو أحسن الاقتصار على ما ثبت وإراحة العباد مما لم يثبت. "ولمن غسل ميتاً" وجهه ما أخرجه أحمد وأهل السنن رح من حديث أبي هريرة رض مرفوعاً: "من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ". وقد روي من طرق وأعل بالوقف وبأن في إسناده صالحاً مولى التوأمة رح ولكنه قد حسنه الترمذي رح وصححه ابن القطان رح وابن حزم, وقد روي من غير طريق قال الحافظ ابن حجر رح: هو لكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنا فإنكار النووي رح على الترمذي رح تحسينه معترض وقال الذهبي رح: هو أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء رح وذكر الماوردي رح أن بعض أصحاب الحديث رح خرج لهذا الحديث مائة وعشرين طريقا وقد روي نحوه عن علي رض عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن شيبة وأبي يعلى والبزار والبيهقي رح وعن حذيفة رض عند البيهقي رح قال ابن أبي حاتم والدارقطني رح: لا يثبت. وعن عائشة رض من فعله صلى الله وسلم عليه عند أحمد وأبي داود رح, وقد ذهب إلى الوجوب علي وأبو هريرة رض والإمامية, وذهب الجمهور إلى أنه مستحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فقط قالوا وهذا الأمر المذكور في الحديث السابق مصروف عن الوجوب بحديث: "إن ميتكم يموت طاهراً فحسبكم أن تغسلوا أيديكم" أخرجه البيهقي وحسنه ابن حجر رح ولحديث: كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل. أخرجه الخطيب رح عن ابن عمر رض وصحح ابن حجر أيضا إسناده ولما وقع من الفتيا من الصحابة رض لأسماء بنت عميس امرأة أبي بكر رض لما غسلته فقالت لهم: إن هذا يوم شديد البرد وأنا صائمة فهل علي من غسل؟ قالوا: لا. رواه مالك رح في الموطأ. "وللإحرام" لحديث زيد بن ثابت رض أنه رأى النبي صلى الله وسلم عليه تجرد لإهلاله واغتسل. أخرجه الترمذي والدارقطني والبيهقي والطبراني وحسنه الترمذي وضعفه العقيلي رحمهم الله, ولعل وجه التضعيف كون عبد الله بن يعقوب المدني في إسناده قال ابن الملقن في شرح المنهاج: لعل الترمذي رح حسنه لأنه عرف عبد الله بن يعقوب أي عرف حاله, وفي الباب عن عائشة رض عند أحمد رح وعن أسماء رض عند مسلم رح وقد ذهب إلى استحباب غسل الإحرام الجمهور وقال الحسن البصري رح ومالك رح: أنه محتمل. "ولدخول مكة المكرمة حرسها الله تعالى" لما أخرجه مسلم عن ابن عمر رض: أنه كان لا يدخل مكة إلا بات بذي طُوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارا ويذكر عن النبي صلى الله وسلم عليه أنه فعله, وأخرج البخاري رح معناه. قال في الفتح: قال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء وليس في تركه عندهم فدية. وقال أكثرهم: يجزئ عنه الوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 باب التيمم قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وقد كثر الاختباط في تفسير هذه الآية والحق أن قيد عدم الوجود راجع إلى قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} فتكون الأعذار ثلاثة السفر والمرض وعدم الوجود في الحضر وهذا ظاهر على قول من قال: إن القيد إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وقع بعد جُمل متصلة كان قيداً لآخرها, وأما من قال: أنه يكون قيداً للجميع إلا أن يمنع مانع فكذلك أيضا لأنه قد وجد المانع ههنا من تقييد السفر والمرض بعدم الوجود للماء وهو: أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الباب كالصوم, ويؤيد هذا أحاديث التيمم الواردة مطلقة ومقيدة بالحضر فإن قلت: ما المعتبر في تسويغ التيمم للمقيم؟ هل هو عدم الوجود عند إرادة الصلاة كما هو الظاهر من الآية أم عدم الوجود مع طلب مخصوص كما قيل إنه يطلب في كل جهة من الجهات الأربع في ميل أو ينتطر إلى آخر الوقت حتى لا يبقى إلا ما يسع الصلاة بعد التيمم؟ قلت: الحق أن المعتبر هو ما يصدق عليه مفهوم عدم الوجود المقيد بالقيام إلى الصلاة فإذا دخل الوقت المضروب للصلاة وأراد المصلي القيام إليها فلم يجد حينئذ ما يتوضأ به أو يغتسل في منزله ومسجده وما يقرب منهما كان ذلك عذراً مسوغاً للتيمم وليس المراد بعدم الوجود في ذلك أن لا يجده بعد الكشف والبحث وإخفاء السؤال, بل المراد أن لا يكون معه علم أو ظن بوجود شيء منه هنالك ولم يتمكن في تلك الحالة من تحصيله بشراء أو نحوه فهذا يصدق عليه أنه لم يجد الماء عند أهل اللغة والواجب حمل كلام الله على ذلك مع عدم وجود عرف شرعي وقد وقع منه صلى الله وسلم عليه ما يشعر بما ذكرناه فإنه تيمم في المدنية من جدار كما ثبت ذلك في الصحيحين من دون أن يسأل ويطلب ولم يصح عنه في الطلب شيء تقوم به الحجة فهذا كما يدل على عدم وجوب الطلب يدل على عدم وجوب انتظار آخر الوقت, ويدل على ذلك حديث الرجلين اللذين تيمما في سفر ثم وجدا الماء فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر فقال صلى الله وسلم عليه للذي لم يعد: "أصبت السنة" أخرجه أبو داود والحاكم وغيرهما من حديث أبي سعيد فإنه يرد قول من قال بوجوب الانتظار إلى آخر الوقت على المتيمم سواء كان مسافراً أو مقيماً إذا تقرر لك هذا استرحت عن الاشتغال بكثير من التفاريع المحررة في كتب الفقه فإن هذه هي ثمرة الاجتهاد فأي فرق بين من لا يفرق بين الغث والسمين من المجتهدين وبين من هو في عداد المقلدين. قال في القاموس: والصعيد التراب أو وجه الأرض انتهى. والثاني: هو الظاهر من لفظ الصعيد لأنه ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 صعد أي علا وارتفع على وجه الأرض وهذه الصفة لا تختص بالتراب ويؤيد ذلك حديث: "جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره, وما ثبت في رواية بلفظ: "وتربتها طهوراً" كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء لأن غاية ذلك أن لفظ التراب دل بمفهومه أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطهورية وهذا مفهوم لقب لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسنة ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول فيكون ذكر التراب في تلك الرواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث ووجه ذكره أنه الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة, ويؤيد هذا ما تقدم من تيممه صلى الله وسلم عليه من جدار. وأما الاستدلال بوصف الصعيد بالطيب ودعوى أن الطيب لا يكون إلا تراباً طاهراً منبتاً لقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} فغير مفيد للمطلوب إلا بعد بيان اختصاص الطيب بما ذُكر, والضرورة تدفعه فإن التراب المختلط بالأزبال أجود إخراجاً للنبات قال الماتن في شرح المنتقى: ومن الأدلة الدالة على أن المراد خصوص التراب ما ورد في القرآن والسنة من ذكر الصعيد فالأمر بالتيمم منه وهو التراب لكنه قال في القاموس: والصعيد التراب أو وجه الأرض, وفي المصباح: الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره. قال الزجاج لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك. قال الأزهري: ومذهب أكثر العلماء أن الصعيد في قوله تعالى: {صَعِيداً طَيِّباً} هو التراب. وفي كتاب فقه اللغة للثعالبي: الصعيد تراب وجه الأرض ولم يذكر غيره وفي المصباح أيضا ويقال الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه على التراب الذي على وجه الأرض وعلى وجه الأرض وعلى الطريق, ويؤيد حمل الصعيد على العموم تيممه صلى الله وسلم عليه من الحائط فلا يتم الاستدلال وقد ذهب إلى تخصيص التيمم بالتراب الشافعي وأحمد وداود, وذهب مالك وأبو حنيفة وعطاء والأوزاعي والثوري إلى أنه يجزئ بالأرض وما عليها قال: واستدل القائل بتخصيص التراب بما عند مسلم من حديث حذيفة مرفوعاً بلفظ: "وجُعلت تربتها لنا طهوراً" وهذا خاص فينبغي أن يُحمل عليه العام, وأجيب بأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 غيره فلا يتم الاستدلال, ورُدّ بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ التراب أخرجه ابن خزيمة وغيره. وفي حديث علي: "جُعل التراب لي طهوراً" أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن وأجيب أيضا عن ذلك الاستدلال بأن تعليق الحكم بالتربة مفهوم لقب ومفهوم اللقب ضعيف عند أرباب الأصول ولم يقل به إلا الدقاق فلا ينتهض لتخصيص المنطوق ورُدّ بأن الحديث سيق لإظهار التشريف فلو كان جائزاً بغير التراب لما اقتصر عليه, وأنت خبير بأنه لم يقتصر على التراب إلا في هذه الرواية نعم الافتراق في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجداً دون الآخر كما سيأتي في حديث مسلم يدل على الافتراق في الحكم وأحسن من هذا أن قوله تعالى في آية المائدة: {مِنْهُ} يدل على أن المراد التراب وذلك لأن كلمة مِن للتبعيض كما قال في الكشاف أنه لا يفهم أحد من العرب من قول القائل مسحت برأسه من الدهن والتراب إلا معنى التبعيض انتهى. فإن قلت سلمنا التبعيض فما الدليل على أن ذلك البعض هو التراب؟ قلت: التنصيص عليه في الحديث المذكور انتهى. "يستباح به ما يستباح بالوضوء والغسل لمن لا يجد الماء" لأن حكم التيمم مع العذر المسوغ له حكم الوضوء لمن لم يكن جنباً وحكم الغسل لمن كان جنبا يصلي به ما يصلي المتوضئ بوضوئه ويستبيح المغتسل بغسله فيصلي به الصلوات المتعددة ولا ينتقض بفراغ من صلاة ولا بالاشتغال بغيره ولا بخروج وقت على ما هو الحق والخلاف في ذلك معروف والأدلة الواردة لمشروعية التيمم عند عدم الماء ثابتة كتاباً وسنة. قال في الحجة: ولم أجد في حديث صحيح تصريحاً بأنه يجب أن يتيمم لكل فريضة أو لا يجوز التيمم للآبق ونحوه وإنما ذلك من التخريجات وإنما لم يفرق بين بدل الغسل والوضوء ولم يشرع التمرغ لأن من حق ما لا يعقل بادي الرأي أن يجعل كالمؤثر بالخاصية دون المقدار فإنه هو الذي اطمأنت نفوسهم به في هذا الباب ولأن التمرغ فيه بعض الحرج فلا يصلح رافعاً للحرج بالكلية وفي معنى المرض البرد الضار لحديث عمرو بن العاص رض والسفر ليس بقيد إنما هو صورة لعدم وجدان الماء تتبادر إلى الذهن وإنما لم يؤمر بمسح الرِّجْل بالتراب لأن الرِّجل محل الأوساخ وإنما يؤمر بما ليس حاصلاً ليحصل التنبيه به انتهى. "أو خشي الضرر من استعماله" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 لما أخرجه داود وابن ماجه والدارقطني رحمهم الله من حديث جابر رض قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون له رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات, فلما قدمنا علي رسول الله صلى الله وسلم عليه أخبرناه بذلك فقال: "قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده". وقد تفرد به الزبير بن خريق رح وليس بالقوي وقد صححه ابن السكن رح وروي من طريق أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما, وقد ذهب إلى مشروعية التيمم بالعذر الجمهور, وذهب أحمد بن حنبل رح وروي عن الشافعي رح في قول له: أنه لا يجوز التيمم لخشية الضرر ولا أدري كيف صحة ذلك عنهما فإن هذا الحديث يؤيده قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} الآية وكذلك حديث المسح على الجبائر المروي عن على رض وكذلك حديث عمرو بن العاص لما بعثه رسول الله صلى الله وسلم عليه في غزوة ذات السلاسل فاحتلم في ليلة باردة فتيمم وصلى بأصحابه فلما قدموا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله وسلم عليه فقال: يا عمرو أصليت مع أصحابك وأنت جنب؟ فقال: ذكرت قول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله صلى الله وسلم عليه ولم يقل شيئاً. رواه أحمد والدارقطني وابن حبان والحاكم وأخرجه البخاري تعليقاً قال في الحجة: وكان عمر وابن مسعود رض لا يريان التيمم عن الجنابة وحملا الآية على اللمس وأنه ينقض الوضوء لكن حديث عمران وعمار يشهد بخلاف ذلك, "وأعضاؤه الوجه ثم الكفان يمسحها" أي الوجه والكفين لما ورد من الأحاديث الصحيحة قولاً وفعلاً وقد أشار بالعطف بثم إلى الترتيب بين الوجه والكفين وأما الاقتصار على الكفين فلكون الأحاديث الصحيحة مصرحة بذلك منها حديث عمار بن ياسر: أن النبي صلى الله وسلم عليه أمره بالتيمم للوجه والكفين. أخرجه الترمذي وغيره وصححه ومنها ما في الصحيحين من حديث عمار أيضا أن النبي صلى الله وسلم عليه قال له: "إنما كان يكفيك هكذا وضرب النبي صلى الله وسلم عليه لكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه" وفي لفظ للدارقطني: "إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين" وقد ذهب إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أنه يُقتصر من اليدين على الكفين عطاء ومكحول والأوزاعي وأحمد واسحق وابن المنذر وعامة أصحاب الحديث هكذا في شرح مسلم, وذهب الجمهور إلى أن المسح في التيمم إلى المرفقين وذهب الزهري إلى أنه يجب المسح إلى الإبطين وقال الخطابي: إنه لم يختلف أحد من أهل العلم في أنه لا يلزم مسح ما وراء المرفقين والحق ما ذهب إليه الأولون لأن الأدلة التي استدل بها الجمهور منها ما لا ينتهض للاحتجاج به كحديث ابن عمر عند الدارقطني والحاكم والبيهقي مرفوعاً بلفظ: "التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين" وفي إسناده علي بن ظبيان قال الدارقطني وثقه يحيى بن القطان وهشيم وغيرهما وقال الحافظ: هو ضعيف ضعفه ابن القطان وابن معين وغير واحد. وأما ما ورد فيه لفظ اليدين كما وقع في بعض روايات من حديث عمار فالمطلق يحمل على المقيد بالكفين واحتج الزهري بما ورد في رواية من حديث عمار أيضا بلفظ: "إلى الآباط" وقد نسخ ذلك كما قال الشافعي. مرة بضربة واحدة لأن ذلك هو الثابت في الأحاديث الصحيحة ولم يثبت ما يخالف ذلك من وجه صحيح وقد ذهب إلى كون التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين الجمهور, وذهب جماعة من الأئمة والفقهاء إلى أن الواجب ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين, وذهب ابن المسيب وابن سيرين إلى أن الواجب ثلاث ضربات ضربة للوجه وضربة للكفين وضربة للذراعين ناوياً مسمياً لما تقدم في الوضوء لأنه بدل عنه وأدلة النية شاملة لكل عمل. "ونواقضه نواقض الوضوء" لما ذكرنا من البدلية ومن أثبت للتيم شيئاً من النواقض لم يثبت في الوضوء لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ولم نجد دليلاً تقوم به الحجة يصلح لذلك فالواجب الاقتصار على نواقض الوضوء, وأما وجود الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة بالتيمم فقد صرح النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لمن لم يعد الصلاة من الرجلين اللذين سألاه بعد أن صلياها بالتيمم ثم وجدا الماء أن الذي لم يعد أصاب السنة والحديث معروف. وأما قوله للذي أعاد لك من الأجر مرتين فلكونه قد كرر العبادة معتقداً وجوب ذلك فكان له الأجر الآخر لذلك وليس المراد ههنا إلا الإجزاء وسقوط الوجوب وقد أفاد ذلك قوله صلى الله وسلم عليه: "أصبت السنة" مع ما في إصابة السنة من الخير والبركة والتعريض بأن ما عدا ذلك مخالف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 للسنة كما لا يخفى. وأما القول بأن من أسباب التيمم تعذر استعمال الماء وخوف سبيله ونحو ذلك فلا يخفى أن هذه داخلة تحت ما ذكرناه من عدم الماء أو خشية الضرر من استعماله فإن من تعذر عليه استعمال الماء هو عادم للماء إذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع فمن كان يشاهد ماء في قعر بئر يتعذر عليه الوصول إليه بوجه من الوجوه فهو عادم وهكذا خوف السبيل الذي يسلك إلى الماء وهكذا من كان ينجسه, ولا محالة إذا استعمله وهكذا من كان يحتاجه للشرب فهو عادم له بالنسبة إلى الوضوء. وأما ما قيل من أن فوات الصلاة باستعمال الماء وإدراكها بالتيمم سبب من أسباب التيمم فليس على ذلك دليل بل الواجب استعمال الماء وهو إن كان تراخيه عن تأدية الصلاة إلى ذلك الوقت لعذر مسوغ للتأخير كالنوم والسهو ونحوهما فلم يوجب الله تعالى عليه إلا تأدية الصلاة في ذلك الوقت بالطهور الذي أوجبه الله تعالى, وإن كان التراخي لا لعذر إلى وقت لو استعمل الوضوء فيه لخرج الوقت فعليه الوضوء, وقد باء بإثم المعصية وأما ما قيل من الطلب إلى مقادير محدودة فليس على ذلك حجة نيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 باب الحيض لم يأت في تقدير أقله وأكثره ما تقوم به الحجة وكذلك الطهر لأن ما ورد في تقدير أقل الحيض والطهر وأكثرهما فهو إما موقوف ولا تقوم به الحجة أو مرفوع ولا يصح فلا تعويل على ذلك ولا رجوع إليه بل المعتبر لذات العادة المتقررة هو العادة وغير المعتادة تعمل بالقرائن المستفادة من الدم فذات العادة المتقررة تعمل عليها فقد صح في غير حديث اعتبار الشارع للعادة كحديث: "إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة, وأخرج مسلم وغيره من حديثها نحو ذلك أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أم سلمة أنها استفتت النبي صلى الله وسلم عليه في امرأة تهراق الدم فقال: "لتنتطر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر فتدع الصلاة" وهو حديث صالح للاحتجاج به وكذلك حديث زينب بنت جحش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 أن النبي صلى الله وسلم عليه قال في المستحاضة: "تجلس أيام أقرائها" أخرجه النسائي والأحاديث في هذا لمعنى كثيرة. وغيرها ترجع إلى القرائن المستفادة من الدم لحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله وسلم عليه: "إن كان دم الحيض فإنه أسود يُعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عِرْق" أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم, وأخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي والحاكم أيضا بزيادة: "فإنما هو داء عرَض أو ركضة من الشيطان أو عرق انقطع1. "فدم الحيض يتميز عن غيره فتكون حائضا إذا رأت دم الحيض" أخرج أبو داود والنسائي من حديث فاطمة بنت حبيش أنه قال صلى الله وسلم عليه: "دم الحيض أسود يُعرف" 2 صححه ابن حزم وأخرج النسائي من حديث عائشة مرفوعاً نحوه وأخرج الطبراني والدارقطني من حديث أبي أمامة مرفوعاً بلفظ: "دم الحيض لا يكون إلا أسود3". فدلت هذه الأحاديث على أنه لا يقال للصفرة والكُدرة دم حيض ولا يعتد بها سواء كانت بين دمي حيض أو بعد دم الحيض وليس التحيض بين دمي الحيض مع تخلل الصفرة والكدرة لأجلهما بل لكون ما توسط بين دمي الحيض حيضا كما لو لم يخرج دم أصلا بين دمي الحيض ولا يعارض هذا ما أخرجه في الموطأ وعلقه في البخاري: أن النساء كن يبعثن إلى عائشة بالدِّرَجة فيها الصفرة والكدرة من دم الحيض ليسألنها عن الصلاة فتقول لهن: لا تعجلن حتى   1 بضم الياء وسكون الراء أي له عرف أي رائحة تعرفها النساء، ويروى بفتح الراء أي تعرفه أي تعرفه النساء وهو الأظهر. 2 هذه الرواية في المستدرك ج 1 ص 175 من طريق أبي عاصم النبيل. وفي الدارقطني ص 80 من طريق محمد بن بكر البرساني وأبي عاصم كلاهما عن عثمان بن سعد عن ابن أبي مليكة وهو إسناد صحيح ظاهره الإرسال. وبذلك أعله الذهبي. وقد أخطأ المصنف في نيل الأوطار خطأ غريباً فقال: وقد استنكر هذا الحديث أبو حاتم لأنه من رواية عدي بن ثابت عن أبيه عن جده وجده لا يُعرف اهـ. وليس لعدي في إسناده ذكر بل هذا حديث آخره غيره. 3 في سنن الدارقطني ص80 بهذا اللفظ ورواه البيهقي ج 1 ص 326 والدارقطني ص 80 بلفظ: "ودم حيض أسود خاثر تعلوه حمرة" واللفظان ضعيفان فإنهما من رواية العلاء بن كثير وهو ضعيف عن مكحول عن أبي أمامة ومكحول لم يسمع من أبي أمامة شيئا كما قال الدارقطني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ترين القصة البيضاء؛ فإن هذا مع كونه رأيا منها ليس بمخالف لما تقدم لأنها لم تخبرهن بأن الصفرة والكدرة حيض إنما أمرتهن بالانتظار إلى حصول دليل يدل على أنه قد انقضى الحيض وهو خروج القصة فمتى خرجت لم يخرج بعدها دم حيض ولم تأمرهن بالانتظار ما دامت الصفرة والكدرة وهذا واضح لا يخفى. ومستحاضة وهي التي يستمر خروج الدم منها إذا رأت غيره تعمل على العادة المتقررة فتكون فيها حائضاً تثبت لها فيه أحكام الحائض وفي غير أيام العادة تكون طاهراً لها حكم الطاهر, وهي كالطاهرة كما أفادت ذلك الأحاديث الصحيحة الواردة من غير وجه فإذا لم تكن لها عادة متقررة كالمبتدأة والملتبسة عليها عادتها فإنها ترجع إلى التمييز فإن دم الحيض أسود يُعرف كما قال صلى الله عليه وآله وسلم فتكون إذا رأت دماً كذلك حائضاً وإذا رأت دماً ليس كذلك طاهراً وقد أطال الناس الكلام في هذا الباب في غير طائل وكثرت فيه التفريعات والتدقيقات والأمر أيسر من ذلك, "وتغسل أثر الدم" لقوله صلى الله وسلم عليه في حديث عائشة الثابت في الصحيح: "فاغسلي عنك الدم وصلي" وقد ورد ما يفيد معنى ذلك من غير وجه. "وتتوضأ لكل صلاة" وذلك هو الذي ورد من وجه معتبر وإذا جمعت بين الصلاتين فأخرت الأولى إلى آخر وقتها وقدمت الثانية في أول وقتها كان لها أن تصليهما بوضوء واحد ولم يأت في شيء من الأحاديث الصحيحة إيجاب الغسل لكل صلاة ولا لكل صلاتين ولا في كل يوم بل الذي صح إيجاب الغسل صح إيجاب الغسل عند انقضاء وقت حيضها المعتاد أو عند انقضاء ما يقوم مقام العادة من التمييز بالقرائن كما في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما بلفظ: "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" وأما ما في صحيح مسلم: أن أم حبيبة كانت تغتسل لكل صلاة فلا حجة في ذلك لأنها فعلته من جهة نفسها ولم يأمرها النبي صلى الله وسلم عليه بذلك بل قال لها: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي" فإن ظاهر هذه العبارة أنها بعد المكث قدْر ما كانت تحبسها الحيضة وذلك هو الغسل الكائن عند إدبار الحيضة وليس فيه ما يدل على أنها تغتسل لكل صلاة وقد ورد الغسل لكل صلاة من طرق لا تقوم بمثلها الحجة لا سيما مع معارضتها لما ثبت في الصحيح ومع ما في ذلك من المشقة العظيمة على النساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الناقصات العقول والأديان, والشريعة سمحة سهلة {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} واتقوا الله ما استطعتم. "والحائض لا تصلي ولا تصوم" لما ورد في ذلك من الأدلة الصحيحة كحديث: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم"؟ وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد وهو مجمع عليه وكان هذا شأن الحائض في زمن النبوة وأيام الصحابة فمن بعدهم أنها تدع الصلاة والصوم أيام حيضتها وتقضي الصوم لا الصلاة بعد طهرها ولم يخالف في ذلك غير الخوارج ولا ريب أن القضاء إن كان بدليل الأصل كما ذهب إليه البعض فلا وجوب للأصل ههنا ولا دليل عليه في حال الحيض وإن كان بدليل جديد غير دليل المقضي فلم يقم في الصلاة وقام في الصيام فطاح القياس وذهب الإلزام, وأما كونها لا توطأ حتى تغتسل بعد الطهر فذلك نص الكتاب العزيز قال الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} والأحاديث في ذلك كثيرة منها قوله صلى الله وسلم عليه: "اصنعوا كل شئ إلا النكاح" وهو في الصحيح وهو مجمع على تحريم ذلك ليس فيه خلاف وتحريم الصلاة والصوم على الحائض كما تقدم وكذلك وطؤها هو إلى غاية هي الغسل بعد الطهر كما صرحت بذلك الأدلة. وأما كونها "تقضي الصيام" فلحديث عائشة بلفظ: فنؤمر بقضاء الصيام ولا نؤمر بقضاء الصلاة, وهو في الصحيحين وغيرهما وقد نقل ابن المنذر والنووي وغيرهما إجماع المسلمين على ذلك وحكى ابن عبد البر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبون على الحائض قضاء الصلاة ولا يقدح في إجماع الأمة مخالفة هؤلاء الذين هم كلاب النار. فصل "والنفاس أكثره أربعون يوماً" لحديث أم سلمة قالت: كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله وسلم عليه أربعين يوماً. أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والدارقطني والحاكم وللحديث طرق يقوي بعضها بعضا وإلى ذلك ذهب الجمهور وقد قيل إن أكثره ستون يوماً وقيل سبعون يوماً وقيل خمسون وقيل نيف وعشرون والحق الأول وهذا القدر هو أرجح ما قيل لأن ما عداه خال عن الدليل. وأما كونه لا حد لأقله فلم يأت في ذلك دليل بل ما دام الدم باقياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 كانت المرأة نفساء فإن انقطع قبل الأربعين انقطع عنها حكم النفاس فإن جاوز دمها الأربعين عاملت نفسها معاملة المستحاضة إذا جاوزت أيام العادة المتقررة, وهو أي النفاس كالحيض في تحريم الوطأ وترك الصلاة والصيام ولا خلاف في ذلك وكذلك لا تقضي النفساء الصلاة, وفي رواية لأبي داود من حديث أم سلمة قالت: كانت المرأة من نساء النبي صلى الله وسلم عليه تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقضاء صلاة النفاس, وقد تقدم الإجماع على ذلك في الحائض وهو في النفاس إجماع كذلك ولعل الخوارج يخالفون ههنا كما خالفوا هنالك ولا يُعتد بهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 كتاب الصلاة مقدمة ... كتاب الصلاة قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} والأمر بمطلق الصلاة إنما يفيد الإتيان بها في زمان ومكان من دون تعيين لأن مطلق الزمان والمكان من ضروريات الفعل, وأما الوقت الخاص الذي شرع الله فيه الصلاة وكذلك كونها على هيئة مخصومة مع شروط محصورة فهذا لا دلالة للآية عليه بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ولم يدل على ذلك إلا السنة الثابتة عنه صلى الله وسلم عليه قولاً وفعلاً وليس في القرآن من ذلك إلا النادر القليل كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فإنه في هذه الآية ذكر الوضوء وهو شرط من شروط الصلاة وقيد الأمر به بالقيام إليها فكان ذلك مقيداً لوجوب الفعل ولا بد للشرطية من دليل أخص من ذلك وقد ورد في السنة ما يفيد الشرطية وكذلك ورد في القرآن ذكر بعض هيآت الصلاة كالسجود والركوع ولكن بدون ذكر صفة ولا عدد ولا كون ذلك في الموضع الذي بينته السنة المطهرة, "أول وقت الظهر" تعيين أول الأوقات وآخرها قد ثبت في الأحاديث الصحيحة من تعليم جبرائيل عليه السلام له صلى الله وسلم عليه ومن تعليمه صلى الله وسلم عليه لمن سأله وغير ذلك من أقواله وأفعاله. "الزوال" أي زوال الشمس ويبين ذلك باخضرار الجدار إلى جهة الشرق يعرفه كل ذي عينين. "وآخره مصير ظل الشيء مثله سوى فيء الزوال" فإن قلت: أخرج النسائي وأبو داود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 من حديث ابن مسعود: كان قدر صلاة رسول الله صلى الله وسلم عليه في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام. قلت: إنهم حملوه على الإبراد كما قاله ابن العربي المالكي في القبس وتبعه الحافظ السيوطي وأنه حديث قد قُدح فيه فإنه من رواية عبيدة بن حميد الطيبي الكوفي عن أبي مالك سعد بن طارق عن كثير بن مدرك عن الأسود وفي عبيدة وشيخه سعد خلاف ففي الميزان في ترجمة سعد وثقه أحمد وابن معين وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه في القبول وقد ضعف عبد الحق حديث تقدير صلاة رسول الله صلى الله وسلم عليه بالأقدام في الشتاء والصيف والعجب من الحافظ ابن الحجر في التلخيص لم يتكلم على لفظ الحديث ولا سنده وذكر كلام ابن العربي وأبطله السيد محمد الأمير في اليواقيت نعم أيام الشتاء يحسن التأني بالظهر حتى يحصل ظن أن الشمس لو كانت في كبد السماء أن قد زالت لأنه يدرك بالحس والمشاهدة إذا كانت من جهة الجنوب لأن ظلها يزداد في جهة الشرق زيادة كثيرة لكن لا إلى الحد الذي يقدّر بالأقدام وغايته أن ينظر في أمارات تحصل الظن بالزوال وأهل الأقدام ليس معهم إلا الظن لا غير وليس أحد مخاطباً بظن غيره بل بظن نفسه فتأمل. وهو أول وقت العصر أي صيرورة ظله مثله قال ابن القيم: وأنهم كانوا يصلونها مع النبي صلى الله وسلم عليه ثم يذهب أحدهم إلى العوالي قدر أربعة أميال والشمس مرتفعة1, وقال أنس صلى بنا رسول الله صلى الله وسلم عليه العصر فأتاه رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله: إنا نريد أن ننحر جزوراً وإنا نحب أن تحضرها. قال: "نعم" فانطلق وانطلقنا معه فوجد الجزور لم تُنحر فنحرت ثم قطعت ثم طبخ منها ثم أكلنا منها قبل أن تغيب الشمس2, ومحال أن يكون هذا بعد المثلين وفي صحيح مسلم عنه: "وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر" 3 , ولا معارض لهذه السنن في الصحة ولا في الصراحة والبيان فرُدّت بالمجمل من قوله صلى الله وسلم عليه: "ومثل أهل الكتاب قبلكم كمثل رجل استأجر أجيراً فقال: من يعمل إلى نصف النهار على قيراط قيراط"   1 رواه الجماعة إلا الترمذي من حديث أنس بن مالك. 2 رواه مسلم في صحيحه. 3 رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مطولاً وسيذكره الشارح في الكلام على أخره وقت العصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الخ ويا لله العجب أي دلالة في هذا على أنه لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل مثلين بنوع من أنواع الدلالة وإنما يدل على أن من صلاة العصر إلى غروب الشمس أقصر من نصف النهار إلى وقت العصر وهذا لا ريب فيه انتهى. وآخره أي آخر وقت العصر صيرورة ظله مثليه قال الشافعي: آخر الوقت المختار للعصر أن يكون ظل كل شيء مثليه وقيل: إلى أن تصفر الشمس وآخر وقت الضرورة مغيب الشمس كذا في المسوى وفي الحجة البالغة وكثير من الأحاديث يدل على أن آخر وقت العصر أن تتغير الشمس وهو الذي أطبق عليه الفقهاء فلعل المثلين بيان لآخر الوقت المختار والذي يستحب فيه أو نقول لعل الشرع نظر أولاً إلى المقصود من اشتقاق العصر أن يكون الفصل بين كل صلاتين نحواً من ربع النهار فجعل الأمد الآخر بلوغ الظل إلى المثلين ثم ظهر من حوائجهم وأشغالهم ما يوجب الحكم بزيادة الأمد وأيضا معرفة ذلك الحد تحتاج إلى ضرب من التأمل وحفظ الفيء الأصلي ورصد وإنما ينبغي أن يُخاطب الناس في مثل ذلك بما هو محسوس ظاهر فنفث الله تعالى في روعه صلى الله وسلم عليه أن يجعل الأمد تغيير قرص الشمس أو ضوئها والله تعالى أعلم. "مادامت الشمس بيضاء نقية" فإذا اصفرت خرج وقت العصر لما ورد في ذلك من الأحاديث منها حديث ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى وسلم عليه: "وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط ثور1 الشفق ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس". أخرجه مسلم وأحمد والنسائي وأبو داود ولا يخالف ما وقع في هذا الحديث في آخر وقت العصر والعشاء ما ورد في بعض الأحاديث أن آخر وقت العصر مصير ظل الشيء مثليه وآخر وقت العشاء ذهاب ثلث الليل. فإن هذا الحديث قد تضمن زيادة غير منافية للأصل لأن وقت اصفرار الشمس هو متأخر عن المثلين إذ هي تبقى بيضاء نقية بعد المثلين وكذلك نصف الليل هو متضمن لزيادة غير منافية لما وقع في رواية بلفظ ثلث الليل على أن الرواية المتضمنة للزيادتين   1 بفتح الثاء المثلثة وإسكان الواو أي ثورانه وانتشاره ومعظمه وفي القاموس أنه حُمْرة الشفق الثائرة فيه، قاله المصنف في نيل الأوطار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 هي أصح من الأخرى1. وأول وقت المغرب غروب الشمس أي سقوط القرص وهو وقت الاختيار الذي يجوز أن يصلى فيه من غير كراهية والعمدة فيه حديثان: حديث جبرائيل عليه السلام فإنه صلى بالنبي صلى الله وسلم عليه يومين وحديث بريدة ففيه أنه صلى الله وسلم عليه أجاب السائل عنها أي عن الأوقات بأن صلى يومين والمفسر منهما قاض على المبهم وما اختلف يتبع فيه حديث بريدة لأنه مدني متأخر والأول مكي متقدم وإنما يتبع الآخر كذا في الحجة. "وآخره ذهاب الشفق الأحمر" جميع كتب اللغة مصرحة بهذا وجميع أشعار العرب ومن بعدهم زعم أن الشفق في لسان أهل اللغة أو لسان أهل الشرع يطلق على البياض فعليه الدليل ولا دليل ولو فُرض وجود ما يدل على ذلك فلا يُنكر ندوره كما لا ينكر أن الشائع في لسان العرب وأهل الشرع وإطلاقه على الحمرة والحمل على الأعم الأغلب هو الواجب ولا يُحمل على النادر فليس ههنا ما يسوغ اختلاف المذاهب قال ابن القيم رح تعالى: امتداد وقت المغرب إلى سقوط الشفق كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر وقد تقدم وفي صحيحه أيضا عن أبي موسى أن سائلا سأل رسول الله صلى الله وسلم عليه عن المواقيت فذكر الحديث وفيه: فأمره فأقام المغرب حين وجبت الشمس فلما كان اليوم الثاني قال: ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق ثم قال: الوقت ما بين هذين. وهذا متأخر عن حديث جبرائيل عليه السلام لأنه كان بمكة وهذا قول وذلك فعل وهذا يدل على الجواز وذلك على الاستحباب وهذا في الصحيح وهذا في السنن وهذا يوافق قوله صلى الله وسلم عليه: "وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي بعدها" وإنما خُص منه الفجر بالإجماع فما عداها من الصلوات داخل في عمومه والفعل إنما يدل على الاستحباب فلا يعارض العام ولا الخالص. "وهو" أي ذهاب   1 اختار المصنف وتبعه الشارح أن وقت العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" رواه الجماعة من حديث أبي هريرة وهو نص صريح في أن آخر وقت العصر إلى غروب الشمس وروى نحوه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه من حديث عائشة. وتأوله الشارح باختصاص هذا الوقت بالمضطرين ولكن صنيعه في وقت الصبح هنا وجعل آخره طلوع الشمس وهو في الحديث وارد مع العصر يرد عليه فإن حكمها واحد في الحديث نعم يُكره التأخير إلى الوقت لغير المضطر ولكن هذا شيء وخروج الوقت شيء آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الشفق غروبه "أول العشاء" للإجماع على دخوله بالشفق، والأحمر هو المتبادر منه لأن وقت الاستحباب الذي يستحب أن يصلى فيه هو أوائل الأوقات إلا العشاء. وآخره نصف الليل فالمستحب الأصلي تأخيرها وهو قوله صلى الله وسلم عليه: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء" ولأنه أنفع في تصفية الباطن من الأشغال المنسية لذكر الله تعالى وأقطع لمادة السمر بعد العشاء لكن التأخير ربما يفضي إلى تقليل الجماعة وتنفير القوم وفيه قلب الموضوع فلهذا كان النبي صلى الله وسلم عليه إذا كثر الناس عجّل وإذا قلوا أخّر كذا في الحجة فهذه علامات وكان المعلم لها جبرائيل عليه السلام ثم محمد رسول الله للأمة "وأول وقت الفجر إذا انشق الفجر" أي ظهور الضوء المنتشر وبينه صلى الله وسلم عليه أشفى بيان فقال لهم: "أنه يطلع معترضاً في الأفق" وأنه: "ليس الذي يلوح بياضه كذنب السِّرحان" وهذا شيء تدركه الأبصار, وقال تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فجاء بلفظ التفعل لإفادة أنه لا يكفي إلا التبين الواضح أي يتبين لكم شيئاً فشيئاً حتى يتضح فإنه لا يتم تبينه وظهوره إلا بعد كمال ظهوره فإنه يطلع أولا تباشير الوضوء ثم ذنب السِّرحان وهو الفجر الكذاب ثم يتضح نور الصباح الذي أبداه بقدرته فالق الإصباح ولذلك قال الشاعر: وأزرق الصبح يبدو قبل أبيضه ... ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب ... قال ابن القيم: إن النبي صلى الله وسلم عليه كان يقرأ بالستين آية إلى المائة ثم ينصرف منها والنساء لا يُعرفن من الغلس وأن صلاته كانت في التغليس حتى توفاه الله تعالى وأنه إنما أسفر بها مرة واحدة وكان بين سحوره وصلاته قدر خمسين آية فرُد ذلك بمجمل حديث رافع بن خديج: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" وهذا بعد ثبوته إنما المراد به الإسفار بها دواماً لا ابتداء فيدخل فيها مغلسا ويخرج منها مسفرا كما كان يفعله رسول الله صلى الله وسلم عليه فقوله موافق لفعله لا مناقض له وكيف يُظن به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه انتهى. "وآخره طلوع الشمس" ومما ينبغي أن يُعلم أن الله عز وجل لم يكلف عباده في تعريف أوقات الصلوات بما يشق عليهم ويتعسر فالدين يسر والشريعة سمحة سهلة بل جعل صلى الله تعالى عليه وسلم للأوقات علامات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 حسية يعرفها كل أحد فقال في الفجر: طلوع النور الذي هو من أوائل أجزاء النهار يعرفه كل أحد وقال في الظهر: "إذا دحضت الشمس إذا زالت الشمس" وقال في العصر: "والشمس بيضاء نقية" وقال في المغرب: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا" وقال في العشاء من قدّر وقت صلاته بأنه كان يصليها وقت غروب الهلال ليلة ثالث الشهر وورد1التقدير بالشفق وورد التقدير بثلث الليل وبنصفه فهذه العلامات لا تلتبس إلا على أكمه والنظر في النجوم وإن كنت لا أظن ثبوت ذلك هو النظر الذي يكون في الشمس والقمر والأظلة المقترنة بالنجوم والمراد أنه يستدل على دخول وقت كذا بكون النجم في مكان كذا كما يكون مثل ذلك في الشمس والقمر لا أنه النظر المفضي إلى الاشتغال بعلم النجوم المؤدي إلى الوقوع في مضايق عن الشريعة بمعزل فإن هذا علم نهى عنه الشارع وحذر عن إتيان صاحبه حتى جعل ذلك كفراً فكيف يجعل طريقاً إلى أمر من أمور الشريعة ومهم من مهماتها فمن ظن أن شيئا من علم الشريعة محتاج إلى علم النجوم المصطلح عليه فهو إما جاهل لا يدري بالشريعة أو مغالط قد مالت نفسه إلى ما نهى عنه الشارع وأراد أن يدفع عن نفسه القائلة فاعتل بأنه لم يتعلق بمعرفة ذلك لكونه قد تعلقت به معرفة أوقات الصلوات وكثيرا من نسمعه من المشتغلين بذلك يُدلي بهذه الحجة الباطلة فيصدقه من لم يثبت قدمه في علم الشريعة المطهرة ومن أعظم المروجات لهذه البلية ما وقع من جماعة من المشتغلين بعلم الفقه من تعداد النجوم وتقدير المنازل والاستكثار من ذلك بما لا طائل تحته إلا تأنيس المنجمين فإنا لله وإنا إليه راجعون. وحاصل الكلام: أن هذه تكاليف موجهة كلف الله تعالى بها عباده وعيّن أوقاتها تعييناً يعرفه العالم والجاهل والقروي والبدوي والحر والعبد والذكر والأنثى على حد سواء اشترك فيه كل هؤلاء لا يحتاج معه إلى شيء آخر.   1 هذا التقدير قدّره النعمان بن بشير رضي الله عنه وقد بينت في شرحي على التحقيق لابن الجوزي أنه تقدير لا يطابق كل شهر فإن القمر يغيب ليلة ثالث الشهر في أوقات مختلفة باختلاف الأشهر وقد يصل الفرق بين الليلة الثالثة من شهر وبين الليلة الثالثة من شهر آخر إلى نحو الساعتين ولعل النعمان رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء لسقوط القمر لثالثه مرات من غير تتبع ولا استقصاء فظن أن هذا الوقت متحد في الليالي ولم يلاحظ الفرق بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 أمع الصبح للنجوم تجل ... ... أم مع الشمس للظلام بقاء .... قال صاحب سبل السلام: التوقيت في الأيام والشهور والسنوات بالحساب للمنازل القمرية بدعة باتفاق الأمة فلا يمكن عالم من علماء الدنيا أن يدعي أن ذلك كان في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم أو عصر خلفائه الراشدين وإنما هو بدعة لعلها ظهرت في عصر المأمون حين أخرج كتب الفلاسفة وعرّبها ومنها المنطق والنجوم فإنه علم أولئك الذين قال الله تعالى فيهم: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} فأقل أحوال المقرين على حساب المنازل القمرية أنهم مبتدعون وكل بدعة ضلالة ولقد عظمت هذه البدعة في الحرمين الشريفين فإنهم في مكة المكرمة لا يعتمدون إلا على ذلك ولهم فيه أنواع مؤلفات مثل الربع المجيَّب ونحوه يدرِّسونه ويقرءونه ويعتمدونه وهو من العلم الذي قال فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "علم لا ينفع وجهل لا يضر" وهو من علم أهل الكتاب فإن أعيادهم ونحوها تدور على حساب سير الشمس, ولعله دخل على المسلمين من علم اليونان وأهل الكتاب ومات رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعد أن أنزل الله تعالى عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} وكان أهل بيته وأصحابه رض على ذلك لا يعرفون منازل الزيادة والنقصان ولا ما يجعله المتأخرون هو الميزان ولا شيئاً من هذه الأمور التي صار ذلك التكليف الموقت عليها يدور انتهى1. "ومن نام عن صلاته أو سها عنها فوقتها حين يذكرها". أي وقت القضاء إذا ذكر وقد دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة كحديث أنس عند البخاري ومسلم وغيرهما, وحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره وقد ورد هذا   1 يظهر أن صاحب سبل السلام ومن بعده الشارح لم يعرفا الفرق بين علم النجوم المنهي عنه وهو دعوى معرفة الغيب بحسابها وما إلى ذلك وبين علم الفلك والميقات وتقدير منازل الشمس والقمر والنجوم وهي من العلوم الصحيحة الثابتة ببراهين قطعية مبنية على الحساب الصحيح وبه يعلم الكسوف والخسوف ومواقيت الصلاة والشهور وغير ذلك. حقيقة لم يكن في عصره صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الخلفاء الراشدين ولكنّا لا نسميه بدعة لأن كل علم مستحدث ينفع الناس يجب تعلمه على بعض أفراد المسلمين ليكون قوة لهم ترقى بها الأمة الإسلامية. وإنما البدعة ما يستحدثه الناس في أنواع العبادات فقط وما كان في غير العبادات ولم يخالف قواعد الشريعة فليس بدعة أصلا والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 المعنى من غير وجه وهو قوله صلى الله وسلم عليه: "من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول في كتابه العزيز: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ". قلت: وعلى هذا أهل العلم وقاسوا المفوت قصداً على النائم كذا في المسوى. ومن كان معذوراً لأن الأوقات للصلوات قد عينها الشارع وحدد أوائلها وأواخرها بعلامات حسية وجعل ما بين الوقتين لكل صلاة هو الوقت لتلك الصلاة وجعل الصلاة المفعولة في غير هذه الأوقات المعينة صلاة المنافق وصلاة الأمراء الذين يميتون الصلاة كقوله في حديث أنس الثابت في الصحيح قال سمعت رسول الله صلى الله وسلم عليه يقول: "تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله إلا قليلاً" وكقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأبي ذر: "كيف أنت إذا كان عليك أمراء يميتون الصلاة أو يؤخرون الصلاة عن وقتها"؟ قلت: فما تأمرني؟ قال: "صلّ الصلاة لوقتها" الحديث ونحو ذلك, وهكذا أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر فكان ما ذكرناه دليلاً على أن إدراك الركعة في الوقت الخارج عن الأوقات المضروبة كوقت طلوع الشمس وغروبها وطلوع الفجر هو خاص بالمعذور كمن مرض مرضا شديدا لا يستطع معه تأدية الصلاة ثم شفي وأمكنه إدراك ركعة وكالحائض إذا طهرت وأمكنها إدراك ركعة ونحو ذلك. "وأدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها" أي الصلاة لما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة كحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله وسلم عليه قال: "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". وهو في الصحيحين وغيرهما ونحو ذلك حديث عائشة عند مسلم وغيره وقد ثبت من حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما بلفظ: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" 1 وهذا يشمل جميع الصلوات لا يخص شيئا منها قلت: هذا الحديث يحتمل   1 لم يحرر المؤلف ولا الشارح وقت العصر مع هذا الحديث باختلاف رواياته فإن دعوى المؤلف أن إدراك ركعة من الصلاة إنما هو للمضطر لا دليل عليها بل الحديث عام في كل من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس والأحاديث الأخرى إنما تدل على النهي عن تأخير العصر إلى اصفرار الشمس ولكنها لا تدل على أنه آخر وقتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وجوها: أحدها من أدرك ركعة من الصلاة في الوقت فالجميع أداء وإلا فقضاء وهو الأصح عند الشافعية وقال أبو حنيفة بذلك في العصر خاصة وثانيها من أدرك من المعذورين من الوقت ما يسع ركعة من الصلاة فقد وجبت عليه تلك الصلاة وهو مذهب أبي حنيفة وقول للشافعي وثالثها أن الجماعة تدرك بركعة وهو وجه للشافعية وقال أبو حنيفة: لو أدرك التشهد كان مدركاً للجماعة كذا في المسوى فمن صلى ركعة في الوقت والباقي خارج الوقت لا يكون عند الشافعي كمن صلى الكل خارج الوقت: وقال أبو حنيفة مثله إلا في صلاة العصر خاصة وقد رد ابن القيم على من قال بكونها خلاف الأصول ورده بالمتشابه من نهيه صلى الله وسلم عليه عن الصلاة وقت طلوع الشمس أتم رد في إعلام الموقعين فليرجع إليه. "والتوقيت واجب" لما ورد في ذلك من الأوامر الصحيحة بتأدية الصلاة لوقتها والنهي عن فعلها في غير وقتها المضروب لها. "والجمع لعذر جائز" أي بين الصلاتين إن كان صورياً وهو فعل الأولى في آخر وقتها والأخرى في أول وقتها فليس بجمع في الحقيقة لأن كل صلاة مفعولة في وقتها المضروب لها وإنما هو جمع الصورة ومنه جمعه صلى الله وسلم عليه في المدينة المنورة من غير مطر ولا سفر كما في الصحيح من حديث ابن عباس وغيره فإنه قد وقع التصريح في بعض الروايات بما يفيد ذلك بل فسره من رواه بما يفيد أنه الجمع الصوري وقد أوضح الماتن ذلك في رسالة مستقلة فالمراد بالجمع الجائز للعذر هو جمع المسافر والمريض وفي المطر كما وردت بذلك الأدلة الصحيحة وقد اختلف في جواز الجمع بين الصلاتين لغير هذه الأعذار أو مع عدم العذر والحق عدم جواز ذلك كما حققه المجتهد الرباني شيخنا العلامة محمد بن علي الشوكاني في الفتح الرباني وغيره من مؤلفاته المباركة عليها ولها وفيها. "والمتيمم وناقص الصلاة" كمن به مرض يمنعه عن استيفاء بعض أركانها "أو الطهارة" كمن في بعض أعضاء وضوئه ما يمنعه من غسله بالماء, "يصلون كغيرهم من غير تأخير" وجهه أنهم داخلون في الخطاب المشتمل على تعيين الأوقات وبيان أولها وآخرها ولم يأت ما يدل على أنهم خارجون عنها وأن صلاتهم لا تجزيء إلا في آخر الوقت ولم يعول من أوجب التأخير على شيء تقوم به الحجة بل ليس بيده إلا مجرد الرأي البحت كقولهم إن صلاتهم بدلية ونحو ذلك وهذا لا يغني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 من الحق شيئاً. أقول: لم يأت ما يدل على وجوب التأخير على من كان ناقص صلاة أو طهارة من كتاب ولا سنة بل التيمم مشروع عند عدم الماء إذا حضر وقت الصلاة وكذلك من كانت به علة لا يتمكن معها من استيفاء الطهارة أو الصلاة جاز له أن يصلي إذا حضر وقت الصلاة كيف أمكن وذلك هو المطلوب منه والواجب عليه ولو كان التأخير واجباً على من كان كذلك لبينه الشارع لأنه من الأحكام التي تعم بها البلوى ولا فرق بين من كان راجياً لزوال العلة في آخر الوقت ومن كان آيساً من زوالها في الوقت, ومن زعم أنه يجب تأخير صلاة من الصلوات على فرد من أفراد العباد لم يُقبل منه ذلك إلا بدليل. وأما ما يقال من أن الصلاة الناقصة أو الطهارة الناقصة بدل عن الصلاة الكاملة أو الطهارة الكاملة فكلام لا يتفق في مواطن الخلاف ولا تقوم بمثله الحجة على أحد على أن البدلية غير مسلَّمة وعلى فرض تسليمها فلا نسلم أن البدل لا يجزئ إلا عند تعذر المبدَل إلى آخر الوقت فإنهم يجعلون الظهر أصلا والجمعة بدلا والجمعة مجزئة في أول وقت الظهر بل لا يجزيء في ذلك الوقت غيرها لمن لم يكن معذوراً ثم لو سلمنا أن البدل لا يجزيء إلا عند تعذر المبدل فوقت التعذر هو وقت الصلاة مثلا فإذا دخل أول جزء من أجزاء الوقت والمبدل متعذر كان البدل في ذلك الوقت مجزئا ومن زعم غير هذا جاءنا بحجة. وأما كون "أوقات الكراهة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس وعند الزوال وبعد العصر حتى تغرب" فلما ثبت في الصحيح عن جماعة من الصحابة مرفوعاً من النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس وعند الزوال وورد في روايات أخر النهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات: وقت الطلوع ووقت الزوال ووقت الغروب قال في الحجة: الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر منها فليفعل غير أنه نهي عن خمسة أوقات: ثلاثة منها أوكد نهيا من الباقيين وهي الساعات الثلاث إذا طلعت الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل وحين تتضيف للغروب حتى تغرب لأنها أوقات صلاة المجوس, وأما الآخران فقوله صلى الله وسلم عليه: "لا صلاة بعد الصبح حتى تبزغ الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب" ولذلك صلى فيهما النبي صلى الله وسلم عليه تارة وروي استثناء نصف النهار يوم الجمعة واستنبُط جوازها في الأوقات الثلاث في المسجد الحرام من حديث: "يا بني عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 مناف من ولي منكم من أمر الناس شيئا فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار1" وعلى هذا فالسر في ذلك أنهما وقت ظهور شعائر الدين ومكانه فعارضا المانع من الصلاة انتهى. وأقول: الأحاديث في النهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر قد صحت بلا ريب وهي عمومات قابلة للتخصيص بما هو أخص منها مطلقاً لا بما هو أعم منها من وجه وأخص منها من وجه كأحاديث الأمر بصلاة تحية المسجد فإنه من باب تعارض العمومين والواجب المصير إلى الترجيح فإن أمكن ترجيح أحدهما على الآخر وجب العمل به وإن لم يمكن وجب المصير إلى الترجيح بأمور خارجة فإن تعذّر من جميع الوجوه فالتخيير أو الاطراح في مادة إذا تقرر هذا فما عورضت به أحاديث النهي عن الصلاة في الوقتين المذكورين لا يصلح للمعارضة. أما حديث الرجلين اللذين أمرهما صلى الله وسلم عليه بالإعادة فقد اختلفت الرواية ففي بعض الروايات أنه قال: هذه فريضة وتلك نافلة وفي بعضها عكس ذلك وعلى الرواية الأولى لا معارضة وعلى الثانية غاية ما هناك أن ذلك يكون مخصصا لأحاديث النهي بمثل حال الرجلين وهو من دخل مسجد جماعة يصلون فيه فريضة في أحد الوقتين فإنه يتنفل معهم وحديث: أنه صلى الله وسلم عليه كان يصلي ركعتين بعد العصر قد تبين في روايات الحديث الثابتة في الأمهات أنه وفد عليه وفد عبد القيس فشغلوه عن ركعتي الظهر فصلاهما بعد العصر وكان هديه صلى الله وسلم عليه أنه إذا فعل شيئاً داوم عليه حتى سألته بعض نسائه وقالت: "هل نقضيهما إذا فاتتانا؟ فقال: "لا" وقد ذكر من روى ذلك وما عليه شيخنا العلامة الشوكاني في شرح المنتقى. وأما حديث: "لا تمنعوا طائفاً" فهو مع كونه غير صلاة وإن كان مشبهاً بها فليس المشبه كالمشبه به هو أيضا عام مخصص بأحاديث النهي أو خاص بنوع من أنواع الصلاة وهو الطواف فليعلم.   1 ليس المراد من هذا الحديث إباحة الصلاة في الأوقات المذكورة بل هو نهي لبني عبد مناف من التعرض للمصلي في أي وقت شاء لما كانوا يزعمون لأنهم من السلطان على البيت وعلى زائريه فهو حَجْر عليهم كفّ به أيديهم عن التعرض للناس ولكنه لا يُفهم منه أن النهي عن الأوقات إنما هو في غير البيت وهذا واضح لا يخفى على متأمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 باب الأذان أقول هذه العبادة من أعظم شعائر الإسلام وأشهر معالم الدين فإنها وقعت المواظبة عليها منذ شرعها الله سبحانه وتعالى إلى أن مات رسول الله صلى الله وسلم عليه في ليل ونهار وحضر وسفر ولم يُسمع بأنه وقع الإخلال بها أو الترخيص في تركها. "يشرع" وقد اختلف في وجوبه والظاهر الوجوب لأمره صلى الله وسلم عليه بذلك في غير حديث والحاصل: أنه ما ينبغي في مثل هذه العبادة العظيمة أن يتردد متردد في وجوبها فإنها أشهر من نار على علم وأدلتها هي الشمس المنيرة لأهل كل بلد أن يتخذوا مؤذناً وأما كون المؤذن مكلفا ذاكرا فهذا هو الظاهر لأن الأذان عبادة شرعية لا تجزيء إلا من مكلَّف بها ولم يُسمع في أيام النبوة ولا في الصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم أنه وقع التأذين المشروع الذي هو إعلام بدخول الوقت ودعاء إلى الصلاة من امرأة قط, وأما أذان المرأة لنفسها أو لمن يحضر عندها من النساء مع عدم رفع الصوت رفعاً بالغاً فلا مانع من ذلك بل الظاهر أن النساء ممن يدخل في الخطاب بالأذان ولم يأت ما تقوم به الحجة لا في كون المؤذن طاهراً من الحدث الأكبر ولا من الحدث الأصغر لأن ما هو مرفوع في ذلك لم يصح وما هو موقوف على صحابي أو تابعي لا تقوم به الحجة وإن كان التطهر للمؤذن من الحدثين هو الأولى والأحسن فقد كره النبي صلى الله وسلم عليه أن يرد السلام وهو محدث حدثاً أصغر حتى توضأ كما في رواية وتيمم كما في أخرى والأذان أولى بذلك من مجرد السلام قال الماتن في حاشية الشفاء وظاهر الأحاديث أنه لا يصح أذان غير المتوضيء وقد ورد حديث يدل على اشتراط كون المؤذن متوضئاً أخرجه الترمذي بلفظ: "لا يؤذن إلا متوضئ" وقد أُعل بالانقطاع والإرسال ويشهد له حديث: "إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان. "ينادى بألفاظ الأذان المشروعة" لإعلامهم بمواقيت الصلاة وللتمسك بشعائر الإسلام فقد كان الغزاة في أيام النبوة وما بعدها إذا جهلوا حال أهل قرية تركوا حربهم حتى يحضر وقت الصلاة فإن سمعوا أذاناً كفّوا عنهم وإن لم يسمعوا قاتلوهم مقاتلة المشركين, وأما غير أهل البلد كالمسافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 والمقيم بفلاة من الأرض فيؤذن لنفسه ويقيم فإن كانوا جماعة أذن لهم أحدهم وأقام وألفاظ الأذان قد ثبتت في أحاديث كثيرة وفي بعضها اختلاف بزيادة ونقص وقد تقرر أن العمل على الزيادة التي لا تنافي المزيد فما ثبت من وجه صحيح مما فيه زيادة تعين قبوله كتربيع الأذان وترجيع الشهادتين ولا تطرح الزيادة إذا كانت أدلة الأصل أقوى منها لأنه لا تعارض حتى يصار إلى الترجيح كما وقع لكثير من أهل العلم في هذا الباب وغيره من الأبواب بل الجمع ممكن بضم الزيادة إلى الأصل وهو مقدم على الترجيح وقد وقع الإجماع على قبول الزيادة التي لم تكن منافية كما تقرر في الأصول وأدلة إفراد الإقامة أقوى من أدلة تشفيعها ولكن التشفيع مشتمل على زيادة خارجة من مخرج صالح للاعتبار فكان العمل على أدلة التشفيع متعينا. "عند دخول وقت الصلاة" إلا الأذان للفجر قبل دخول وقتها لما في الصحيحين من حديث سالم بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم" وفي صحيح مسلم عن سمرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى ينفجر الفجر" وهو في الصحيحين من حديث ابن مسعود ولفظه: "لا يمنع أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو ينادي ليرجع قائمكم وينبه نائمكم". قال مالك: لم يزل الصبح ينادى لها قبل الفجر فردت هذه السنة لمخالفتها الأصول والقياس على سائر الصلوات وبحديث حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن يرجع فينادي ألا إن العبد نام ألا إن العبد نام فرجع فنادى ألا إن العبد نام. ولا ترد السنة الصحيحة بمثل ذلك فإنها أصل بنفسها وقياس وقت الفجر على غيره من الأوقات لو لم يكن فيه إلا مصادمة للسنة لكفى في رده فكيف والفرق قد أشار إليه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وهو ما في النداء قبل الوقت من المصلحة والحكمة التي لا تكون في غير الفجر وإذا اختص وقتها بأمر لا يكون في سائر الصلوات امتنع الإلحاق. وأما حديث حماد عن أيوب فحديث معلول عند أئمة الحديث لا تقوم به حجة كذا في إعلام الموقعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وقد أطال ابن القيم في تعليل هذا الحديث والجواب عنه وعن غيره فليرجع إليه. ويشرع للسامع أن يتابع المؤذن لما قد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن". وفي الباب عن جماعة من الصحابة بنحو هذا وورد مفصلاً مبيناً من حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال: أشهد أن إله إلا الله قال: أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله قال: أشهد أن محمداً رسول الله ثم قال: حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال: حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلى بالله ثم قال: الله أكبر الله أكبر قال: الله أكبر الله أكبر ثم قال: لا إله إلا الله قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة". أخرجه مسلم وغيره وأخرج نحوه البخاري وقد اختار بعض العلماء الجمع عند الحيعلتين بين المتابعة للمؤذن والحوقلة وهو جمع حسن وإن لم يكن متعينا. ثم تشرع الإقامة على الصفة الواردة أقول: قد ثبت تشفيع الأذان وايتاء الإقامة في الصحيحين وغيرهما وروي من وجه صحيح تشفيع جميع ألفاظ الإقامة وورد في الإقامة من وجه صحيح ما يدل على إيتارها إلا التكبير في أولها وآخرها وقد قامت الصلاة فإن ذلك يكون مثنى مثنى وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الكل سنة وأيها فعلها المؤذن والمقيم فقد فعل ما هو حق وسنة قال الماتن في شرح المنتقى بعد ما ذكر اختلاف الناس في ذلك وأطال في بيانه: إذا عرفت هذا تبين لك أن أحاديث تثنية الإقامة صالحة للاحتجاج بها وأحاديث إفراد الإقامة وإن كانت أصح منها لكثرة طرقها وكونها في الصحيحين لكن أحاديث التثنية مشتملة على الزيادة فالمصير إليها لازم لا سيما مع تأخر تاريخ بعضها انتهى ثم اعلم أن هذا الشعار لا يختص بصلاة الجماعات بل كل مصل عليه أن يؤذن ويقيم لكن من كان في جماعة كفاه أذان المؤذن لها وإقامته ثم الظاهر أن النساء كالرجال لأنهن شقائقهم والأمر لهم أمر لهن ولم يرد ما ينتهض للحجة في عدم الوجوب عليهن فإن الوارد في ذلك في أسانيده متروكون لا يحل الاحتجاج بهم فإن ورد دليل يصلح لإخراجهن فذاك وإلا فهن كالرجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 باب ويجب على المصلي تطهير ثوبه لنص القرآن {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ولقوله صلى الله وسلم عليه لمن سأله: هل يصلي في الثوب الذي يأتي فيه أهله فقال: نعم إلا أن يرى فيه شيئاً فيغسله. أخرجه أحمد وابن ماجه ورجال إسناده ثقات ومثله عن معاوية قال: قلت لأم حبيبة هل كان النبي صلى الله وسلم عليه يصلي في الثوب الذي يجامع فيه قالت: نعم إذا لم يكن فيه أذى. أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بإسناد رجاله ثقات ومنها حديث خلعه صلى الله وسلم عليه النعل أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وابن خزيمة وابن حبان وله طريق عن جماعة من الصحابة يقوي بعضها بعضا ومنها الأدلة المتقدمة في تعيين النجاسات وبدنه لأنه أولى من تطهير الثوب ولما ورد من وجوب تطهيره ومكانه من النجاسة لما ثبت عنه صلى الله وسلم عليه من رش الذنوب على بول الأعرابي ونحو ذلك, وقد ذهب الجمهور إلى وجوب تطهير الثلاثة للصلاة وذهب جمع إلى أن ذلك شرط لصحة الصلاة وذهب آخرون إلى أنه سنة والحق الوجوب فمن صلى ملابساً لنجاسة عامداً فقد أخل بواجب وصلاته صحيحة والشرطية التي يؤثر عدمها في عدم المشروط كما قرره أهل الأصول لا يصلح للدلالة عليها إلا ما كان يفيد ذلك مثل نفي القبول أو نحو: "لا صلاة لمن صلى في مكان متنجس" أو النهي عن الصلاة في المكان المتنجس لدلالة النهي على الفساد. وأما مجرد الأمر فلا يصلح لإثبات الشروط اللهم إلا على قول من قال: إن الأمر بالشيء نهي عن ضده فليكن هذا منك على ذُكْر فإنك إن تفطنت له رأيت العجب في كتب الفقه فإنهم كثيراً ما يجعلون الشيء شرطاً ولا يستفاد من دليله غير الوجوب وكثيراً ما يجعلون الشيء واجباً ودليله يدل على الشرطية والسبب الحامل على ذلك عدم مراعاة القواعد الأصولية والذهول عنها. والحاصل: أن ما دل على الشرطية دل على الوجوب وزيادة وهو تأثير بطلان المشروط وما دل على الوجوب لا يدل على الشرطية لأن غاية الواجب أن تاركه يذم أما أنه يستلزم بطلان الشيء الذي ذلك الواجب جزء من أجزائه أو عارض من عوارضه فلا فمن حكم على الشيء بالوجوب وجعل عدمه موجباً للبطلان أو حكم على الشيء بالشرطية ولم يجعل عدمه موجباً للبطلان فقد غفل عن هذين المفهومين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وفي المقام أدلة مختلفة ومقالات طويلة ليس هذا محل بسطها. وستر عورته لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . قلت: الزينة ما وارى عورتك ولو عباءة قاله مجاهد والمسجد الصلاة ولما وقع منه صلى الله وسلم عليه من الأمر بسترها في كل الأحوال كما في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ملكت يمينك" قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال: "إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها" قلت: فإذا كان أحدنا خاليا قال: "الله تبارك وتعالى أحق أن يُستحيا منه" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وعلقه البخاري وحسنه الترمذي وصححه الحاكم ومن ذلك قوله صلى الله وسلم عليه: "لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم والبزار وفي إسناده مقال ولكنه يعضده حديث محمد بن جحش قال: مر رسول الله صلى الله وسلم عليه على معمر وفخذاه مكشوفتان فقال: "يا معمر غط فخذيك فإن الفخذين عورة" أخرجه أحمد والبخاري في صحيحه تعليقاً وأخرجه أيضا في تاريخه والحاكم في المستدرك وروى الترمذي وأحمد من حديث ابن عباس مرفوعا: "الفخذ عورة" وأخرج نحوه مالك في الموطأ وأحمد وأبو داود الترمذي وحسنه وابن حبان وصححه وعلقه البخاري وقد عارض أحاديث الفخذ عورة أحاديث أخر وليس فيها إلا أنه صلى الله وسلم عليه كشف عن فخذه يوم خيبر أو في بيته ولا يصلح ذلك لمعارضة ما تقدم, وورد في الركبة ما يفيد أنها تُستر وما يخالف ذلك وأما المرأة فورد حديث: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم وقد روي موقوفاً ومرفوعاً من حديث عائشة ومن حديث أبي قتادة ومما يفيد وجوب ستر العورة أحاديث النهي عن الصلاة في الثوب الواحد ليس على عاتق المصلي منه شيء وفي بعضها: "فليخالف بين طرفيه" وفي بعضها: "وإن كان ضيقا فاتزر به" وكلها في الصحيح, ولكن ليس فيها ما يستفاد منه الشرطية التي صرح بها جماعة من المصنفين وحديث الخمار إذا انتهض للاستدلال به على الشرطية فهو خاص بالمرأة وقد عرفت مما سلف أن الذي يستلزم عدمه عدم الصلاة أي بطلانها هو الشرط أو الركن لا الواجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فمن زعم أن من ظهر شيء من عورته في الصلاة أو صلى بثياب متنجسة كانت صلاته باطلة فهو مطالب بالدليل ولا ينفعه مجرد الأوامر بالستر أو التطهير فإن غاية ما يستفاد منها الوجوب. ولا يشتمل الصماء لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله وسلم عليه نهى أن يشتمل الصماء وهو في الصحيحين وفي لفظ فيهما: وأن يشتمل في إزاره إذا ما صلى إلا أن يخالف بطرفيه على عاتقه, وأخرج نحوه الجماعة من حديث أبي سعيد واشتمال الصماء: هو أن يجلل جسده بالثوب لا يرفع منه جانباً ولا يبقى ما يخرج منه يده. "ولا يسدل" لحديث النهي عن السدل في الصلاة وهو عند أحمد وأبي داود والترمذي والحاكم في المستدرك وفي الباب عن جماعة من الصحابة. والسدل: هو إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه بل يلتحف به ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد وهو كذلك, "ولا يسبل" لما ورد من الأحاديث الصحيحة من النهي عن إرسال الإزار والمراد بالإسبال أن يرخي إزاره حتى يجاوز الكعبين. "ولا يكفت" لأنه قد ورد النهي عن أن يكفت الرجل ثوبه أو شعره أما كفت الثوب فكمن يأخذ طرف ثوبه فيغرزه في حجزته أو نحو ذلك, وأما كفت الشعر فنحو أن يأخذ منه خصلة مسترسلة فيكفتها في شعر رأسه أو يربطها بخيط إليه أو نحو ذلك, "ولا يصلي في ثوب حرير" والأحاديث في ذلك كثيرة وكلها يدل على المنع من لبس ثوب الحرير الخالص. وأما المشوب فالمذاهب في ذلك معروفة: فبعض الأحاديث يدل على أنه إنما يحرم الخالص لا المشوب كحديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود قال: إنما نهى رسول الله صلى الله وسلم عليه عن الثوب المصمت من القز. قال ابن عباس: أما السدي والعلم فلا نرى به بأسا وبعضها يدل على المنع كما ورد في حلة السيراء فإنه غضب لما رأى عليا قد لبسها وقال: "إني لم أبعث بها إليك لتلبسها إنما بعثت بها إليك لتشققها خمراً بين النساء" وهو في الصحيح والسيراء قد قيل إنها المخلوطة بالحرير لا الحرير الخالص وقيل إنها الحرير الخالص المخطط وقيل غير ذلك ولكنه قد ورد في طرق من طرق هذا الحديث ما يفيد أنها غير خالصة فأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجه والدورقي هذا الحديث بلفظ قال علي: أُهدي إلى رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 صلى الله وسلم عليه حلة مسيرة إما سَداها وإما لُحمتها, فذكر الحديث. "ولا ثوب شهرة" لحديث من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة, أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر وهذا الوعيد يدل على أن لبسه محرم في كل وقت فوقت الصلاة أولى بذلك. وأما الثوب المصبوغ بالصفرة والحمرة فالأدلة في ذلك متعارضة فلهذا لم نذكره وقد أفرده الماتن برسالة مستقلة "ولا مغصوب" لكونه ملك الغير وهو حرام بالإجماع, "وعليه استقبال عين الكعبة" إن كان مشاهدا لها أو في حكم المشاهد وجوباً لأنه قد تمكن من اليقين فلا يُعدل إلى الظن والأحاديث المتواترة مصرحة بوجوب الاستقبال بل هو نص القرآن الكريم {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وعلى ذلك أجمع المسلمون وهو قطعي من قطعيات الشريعة, وغير المشاهد ومن في حكمه يستقبل الجهة بعد التحري لأن ذلك هو الذي يُمكنه ويدخل تحت استطاعته ولم يكلفه الله تعالى مالا يطيق كما صرح بذلك في كتابه العزيز, وقد جعل النبي صلى الله وسلم عليه بين المشرق والمغرب قبلة كما في حديث أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجه ومثل ذلك ورد عن الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم, وقد استقبل النبي صلى الله وسلم عليه الجهة بعد خروجه من مكة المكرمة وشرع للناس ذلك. أقول: استقبال القبلة هو من ضروريات الدين فمن أمكنه استقبال القبلة تحقيقاً فذلك الواجب عليه مثل القاطن حولها المشاهد لها من دون قطع مسافة ولا تجشم مشقة ومن لم يكن كذلك ففرضه استقبال الجهة وليس المراد من تلك الجهة الكعبة على الخصوص بل المراد ما أرشد إليه صلى الله وسلم عليه من كون بين المشرق والمغرب قبلة فمن كان في جهات اليمن وعرف جهة المشرق وجهة المغرب توجه بين الجهتين فإن تلك الجهة هي القبلة وكذلك من كان بجهة الشام يتوجه بين الجهتين من دون إتعاب للنفس في تقدير الجهات فإن ذلك مما لم يرد به الشرع ولا كُلّف به العباد والمحاريب المنصوبة في المساجد والمشاهد المعمورة في بلاد المسلمين الذين لهم عناية بأمر الدين مغنية عن التكلف وكذلك أخبار لعدول المرضيين كافية فإن من قال: هذه جهة القبلة أو عمّر محراباً يأوي إليه الناس لا شك أنه قد بلغ من التحري ما يبلغه من أراد تأدية صلاة أو صلوات في مكان من الأمكنة لأن معرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الجهة التي عرفناك بها من السير ما تراد لمعرفته لكون الجهات الأربع معلومة لكل عاقل وقد يعرض اللبس في بعض المواطن على بعض الأفراد إما لعدم ظهور ما يهتدي به في ظلمة الليل أو حيلولة جبال عالية في أرض عالية لا يعرفها مع تلون طرقها التي قد سلكها فهذا فرضه أن يمعن النظر في تعريف الجهة فإذا أعوزه الأمر توجه حيث شاء هذا في الفرائض, وأما النوافل فقد خفف الشارع فيها وسوغ تأديتها على ظهر الراحلة إلى جهة القبلة وغير جهتها بل سوّغ تأدية الفريضة في الأرض الندية على ظهر الراحلة كما تجد ذلك في المنتقى وشرحه فهذا خلاصة ما تعبدنا الله به في أمر القبلة وهو يغنيك عن التفريعات الطويلة والتهويلات المهيلة في كتب الفقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 باب كيفية الصلاة وهي علامات تواتر صلى الله وسلم عليه وتوارثه الأمة أن يتطهر ويستر عورته ويقوم ويستقبل القبلة بوجهه ويتوجه إلى الله تعالى بقلبه ويخلص له العمل ويقول: الله أكبر بلسانه ويقرأ فاتحة الكتاب ويضم معها إلا في ثالثة الفرض ورابعته سورة من القرآن ثم يركع وينحني بحيث يقتدر على أن يمسح ركبتيه برؤوس أصابعه حتى يطمئن راكعاً ثم يرفع رأسه حتى يطمئن قائماً ثم يسجد على الآراب السبعة اليدين والرجلين والركبتين والوجه ثم يرفع رأسه حتى يستوي جالساً ثم يسجد ثانيا كذلك فهذه ركعة ثم يقعد على رأس كل ركعتين ويتشهد فإن كان آخر صلاته صلى على النبي صلى الله وسلم عليه ودعا أحب الدعاء إليه وسلم على من يليه من الملائكة والمسلمين فهذه صلاة النبي صلى الله وسلم عليه لم يثبت أنه ترك شيئاً من ذلك قط عمداً من غير عذر في فريضة وصلاة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين وهي التي توارثوا أنها مسمى الصلاة وهي من ضروريات الملة نعم اختلف الفقهاء في أحرف منها هل هي أركان الصلاة لا يعتد بها بدونها أو واجباتها التي تنقص بتركها أو أبعاض يُلام على تركها وتجبر بسجدة السهو؟ كذا في الحجة البالغة لا تكون شرعية إلا بالنية لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وروى مالك بإسناده في غير رواية يحيى بن يحيى عن النبي صلى الله وسلم عليه: "إنما الأعمال بالنيات". قلت: وعلى وجوب النية في ابتداء الصلاة أهل العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وعندي أن المقدر في حديث: "إنما الأعمال بالنية" إن كان الحصول أو الوجود أو الثبوت أو الصحة أو ما يلاقي هذه الأمور في المعنى الذي لا تكون تلك الصلاة شرعية إلا به فالنية في مثل الصلاة شرط من شروطها لأنه قد استلزم عدمها عدم الصلاة وهذه خاصة الشروط وإن كان المقدّر الكمال أو ما يلاقيه في المعنى الذي تكون الصلاة شرعية بدونه فليست النية بواجبة فضلا عن أن تكون شرطا لكن قد عُرف رجحان التقدير المشعر بالمعنى الأول لكون الحصر في إنما في معنى ما الأعمال إلا بالنية وإن اختلفا في أمور خارجة عن هذا كما تقرر في علمي المعاني والأصول والنفي يتوجه إلى المعنى الحقيقي وهو الذات الشرعية وانتفاؤها ممكن لأن الموجود في الخارج ذات غير شرعية وعلى فرض وجود مانع عن التوجه إلى المعنى الحقيقي فلا ريب أن الصحة أقرب إلى المعنى الحقيقي من الكمال لاستلزامها لعدم الاعتداد بتلك الذات وترجيح أقرب المجازين متعيِّن فظهر بهذا أن القول بأن النية شرط للصلاة أرجح من القول بأنها من جملة واجباتها والكلام على هذا يطول ليس هذا موضع ذكره, وأركانها كلها مفترضة لكونها ماهية الصلاة التي لا يسقط التكليف إلا بفعلها وتُعدم الصورة المطلوبة بعدمها وتكون ناقصة بنقصان بعضها وهي القيام فالركوع فالاعتدال فالسجود فالاعتدال فالسجود فالقعود للتشهد وقد بين الشارع صفاتها وهيئاتها وكان يجعلها قريبا من السواء كما ثبت في الصحيح عنه. أقول: وجملة القول في هذا الباب: إنه ينبغي لمن كان يقتدر على تطبيق الفروع على الأصول وإرجاع فرع الشيء إلى أصله أن يجعل هذه الفروض المذكورة في هذا الباب منقسمة إلى ثلاثة أقسام: واجبات كالتكبير والتسليم والتشهد وأركان كالقيام والركوع والاعتدال والسجود والاعتدال والسجود والقعود للتشهد وشروط كالنية والقراءة أما النية فلما قدمنا, وأما القراءة فلورود ما يدل على شرطيتها كحديث: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وحديث: "لا تجزيء صلاة إلا بفاتحة الكتاب" ونحوها فإن النفي إذا توجه إلى الذات أو إلى صحتها أفاد الشرطية إذ هي تأثير عدم الشرط في عدم المشروط وأصرح من مطلق النفي النفي المتوجه إلى الإجزاء, والحاصل: أن شروط الشيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 يقتضي عدمها عدمه وأركانه كذلك لأن عدم الركن يوجب عدم وجود الصورة المأمور بها على الصفة التي اعتبرها الشارع وما كان كذلك لا يجزئ إلا أن يقوم دليل على أن مثل ذلك الركن لا يخرج الصورة المأمور بها عن كونها مجزئة كما يقول بعض أهل العلم في الاعتدال وقعود التشهد وإن كان الحق خلاف ما قال وأما الواجبات فغاية ما يستفاد من دليلها وهو مطلق الأمر أن تركها معصية لا أن عدمها يستلزم عدم الصورة المأمور بها إذا تقرر هذا لاح لك أن هذه الفروض المعدودة في هذا الباب متوافقة في ذات بينها والفرض والواجب مترادفان على ما ذهب إليه الجمهور وهو الحق وحقيقة الواجب ما يمدح فاعله ويذم تاركه والمدح على الغعل والذم على الترك لا يستلزمان البطلان بخلاف الشرط فإن حقيقته ما يستلزم عدمه عدم المشروط كما عرفت فاحفظ هذا التحقيق تنتفع به في مواطن وقع التفريع فيها مخالفا للتأصيل وهو كثير الوجود في مؤلفات الفقهاء من جميع المذاهب وكثيرا ما تجد العارف بالأصول إذا تكلم في الفروع ضاقت عليه المسالك وطاحت عنه المعارف وصار كأحد الجامدين على علم الفروع إلا جماعة منهم {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} إلا قعود التشهد الأوسط لكونه لم يأت في الأدلة في ما يدل على وجوبه بخصوصه كما ورد في قعود التشهد الأخير فإن الأحاديث التي فيها الأوامر بالتشهد قد اقترنت بما يفيد أن المراد التشهد الأخير فإن قلت: قد ذكر التشهد الأوسط في حديث المسيء كما في رواية لأبي داود من حديث رفاعة ولم يذكر فيه التشهد الأخير قلت: تقوم الحجة بمثل ذلك ولا يثبت به التكليف العام والتشهد الأخير وإن لم يثبت ذكره في حديث المسيء فقد وردت به الأوامر وصرح الصحابة بافتراضه وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في حاشية الشفاء إيضاحا حسنا فلتراجع. "والاستراحة" لكونه لم يأت دليل يفيد وجوبها وذكرها في حديث المسيء وهم كما صرح بذلك البخاري, ولا يجب من أذكارها أي الصلاة إلا التكبير لقوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ولقوله صلى الله وسلم عليه في حديث المسيء: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر" ولما ورد من أن تحريم الصلاة التكبير. أقول: تعيين التكبير للدخول في الصلاة محكم صريح لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 "لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يستقبل القبلة ويقول الله أكبر1" وبما تقدم من النصوص وهي نصوص في غاية الصحة فردت بالمتشابه من قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} قال في الحجة: فإذا كبر يرفع يديه إلى أذنيه ومنكبيه وكل ذلك سنة اهـ. أقول: إن الأدلة على هذه السنة قد تواترت تواترا لا ينكره من له أدنى إلمام بعلم الأدلة واختصت باجتماع العشرة المبشرة بالجنة على روايتها ومعهم من الصحابة جماهير ونقل جماعة من الحفاظ أنه لم يقع الخلاف في ذلك بين الصحابة بل اتفقوا عليه. والحاصل: أنه نقل إلينا هذه السنة الذين نقلوا إلينا أعداد ركعات الصلاة فإذا لم يثبت بمثل ما ورد فيها مشروعيتها فليس في الدنيا مشروع لأن كثيرا مما وقع الإطباق على مشروعيته وصار من قطعيات المرويات لم يبلغ إلى ما بلغ إليه نقل الرفع وليس في المقام ما يصلح لمعارضة هذه السنة لا من قوله صلى الله وسلم عليه ولا من فعله ولا عن أصحابه من أقوالهم ولا من أفعالهم وقد درج عليها خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وأما حديث البراء قال: رأيت رسول الله صلى الله وسلم عليه إذا افتتح الصلاة رفع يديه ثم لم يعد فهو قد تضمن إثبات الرفع عند الافتتاح, ولفظ: "ثم لم يعد" قد اتفق الحفاظ على أنه مدرج من قول يزيد بن أبي زياد وقد رواه عنه بدونها جماعة من الأئمة منهم: شعبة والثوري وخالد الطحان وزهير وغيرهم ومع هذا فالحديث من أصله قد أطبق الأئمة على تضعيفه, وكما ثبت الرفع عند الافتتاح ثبت عند الركوع وعند الاعتدال منه بأحاديث تقارب أحاديث الرفع عند الافتتاح, وكذلك ثبت الرفع عند القيام من التشهد الأوسط بأحاديث صحيحة كما سيأتي بيانه. "والفاتحة في كل ركعة" لقوله صلى الله وسلم عليه في حديث المسيء: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" وفي لفظ من حديث المسيء لأبي داود: "ثم أقرأ بأم القرآن" وكذلك لفظ منه لأحمد وابن حبان بزيادة ثم اصنع ذلك في كل ركعة بعد قوله: "ثم اقرأ بأم القرآن" فكان ذلك بيانا لما تيسر وورد ما يفيد وجوب الفاتحة في غير حديث المسيء   1 هو قطعة من حديث رفاعة بن رافع بن مالك الزرقي في قصة المسيء صلاته رواه أبو داود والترمذي والنسائي وبن ماجة والحاكم وليس فيه التصريح بلفظ: "الله أكبر" ورواه الطبراني في الكبير بلفظ: "لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يقول: "الله أكبر" قال في مجمع الزوائد: ورجاله رجال الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 كأحاديث: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وهي صحيحة ويدل على وجوبها في كل ركعة ما وقع في حديث المسيء فإنه صلى الله وسلم عليه وصف له ما يفعل في كل ركعة وقد أمره بقراءة الفاتحة فكانت من جملة ما يجب في كل ركعة كما أنه يجب فعل ما اقترن بها في كل ركعة بل ورد ما يفيد ذلك من لفظه صلى الله وسلم عليه فإنه قال للمسيء: "ثم افعل ذلك في الصلاة كلها" وهو في الصحيح من حديث أبي هريرة قال ذلك بعد أن وصف له ما يفعل في الركعة الواحدة لا في جملة الصلاة فكان ذلك قرينة على أن المراد بالصلاة كل ركعة تماثل تلك الركعة من الصلاة قال في الحجة: وما ذكره النبي صلى الله وسلم عليه بلفظ الركنية كقوله صلى الله وسلم عليه: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وقوله: "لا يجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود" وما سمى الشارع الصلاة به فإنه تنبيه بليغ على كونه ركنا في الصلاة انتهى. ولو كان مؤتما فوجوب الفاتحة في كل ركعة على المؤتم لما ورد من الأدلة الدالة على أن المؤتم يقرأها خلف الإمام كحديث: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب" ونحوه ولدخول المؤتم تحت هذه الأدلة المقتضية لوجوب الفاتحة في كل ركعة على كل مصل قال في الحجة البالغة: وإن كان مأموما وجب عليه الإنصات والاستماع فإن جهر الإمام لم يقرأ إلا عند الإسكاتة وإن خافت فله الخيرة فإن قرأ فليقرأ الفاتحة قراءة لا يشوش على الإمام وهذا أولى الأقوال عندي وبه يجمع بين أحاديث الباب انتهى وفي تنوير العينين دلائل الجانبين فيه قوية لكن يظهر بعد التأمل في الدلائل أن القراءة أولى من تركها فقد عولنا فيه على قول محمد كما نقل عنه صاحب الهداية وتركنا الكلام وقال ابن القيم في الأعلام: ردت النصوص المحكمة الصريحة الصحيحية في تعيين قراءة الفاتحة فرضا بالمتشابه من قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وليس ذلك في الصلاة وإنما يدل على قيام الليل وبقوله للأعرابي: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" وهذا يحتمل أن يكون قبل تعيين الفاتحة للصلاة وأن يكون الأعرابي لا يحسنها وأن يكون لم يسيء في قراءتها فأمره أن يقرأ معها ما تيسر من القرآن وأن يكون أمره بالاكتفاء بما تيسر منها فهو متشابه يحتمل هذه الوجوه فلا يترك الصريح انتهى, وقال في إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء: روى البيهقي عن يزيد بن شريك: أنه سأل عمر عن القراءة خلف الإمام فقال: اقرأ بفاتحة الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فقلت: وإن كنت أنت قال: وإن كنت أنا, قلت: وإن جهرت؟ قال: وإن جهرت. قلت: روى أهل الكوفة عن أصحاب عمر الكوفيين أن المأموم لا يقرأ شيئا والجمع أن القبيح في الأصل أن ينازع الإمام في القرآن وقراءة المأموم قد تفضي إلى ذلك ثم إن اشتغال المأموم بمناجاة ربه مطلوب فتعارضت مصلحة ومفسدة فمن استطاع أن يأتي بالمصلحة بحيث لا تخدشها مفسدة فليفعل ومن خاف المفسدة ترك والله تعالى أعلم انتهى. أقول: الأوجه هو الإتيان بفاتحة الكتاب خلف الإمام كما تشهد له أدلة السنة الصريحة من دون تعارض والأمر بالإنصات في قوله تعالى: {أَنْصِتُوا} عام يتناول فاتحة الكتاب وغيرها وكذلك حديث: "وإذا قرأ فأنصتوا" وإن كان فيه مقال لا ينتهض معه للاستدلال وعلى فرض انتهاضه فغاية ما فيه أنه اقتضى أن الإنصات حال قراءة الإمام يجب على المؤتم ولا يقرأ بفاتحة الكتاب ولا غيرها, وأما حديث: "خلطتم علي" فلا يشك عارف أن خلط المؤتم على إمامه إنما يكون قرأ المؤتم جهرا وأما إذا قرأ سرا فلا خلط وكذلك المنازعة لا تكون إلا إذا سمع الإمام قراءة المؤتم, وأما حديث جابر في هذا الباب فهو من قوله: ولم يرفعه إلى النبي صلى الله وسلم عليه كما في الترمذي والموطأ وغيرهما وقول الصحابي لا تقوم به حجة فلم يبق ههنا ما يدل على منع قراءة المؤتم خلف الإمام حال قراءته إلا الآية الكريمة وحديث: "إذا قرأ فأنصتوا" وهما عامان كما عرفت يتناولان فاتحة الكتاب وغيرها والعام معرض للتخصيص والمخصص وههنا موجود وهو حديث عبادة بن الصامت وهو حديث صحيح وبناء العام على الخاص واجب باتفاق أهل الأصول فلا معذرة عن قراءة فاتحة الكتاب حال قراءة الإمام ولا سيما وقد دل الدليل على وجوبها على كل مصل في كل ركعة من ركعات صلاته. "والتشهد الأخير واجب" لورود الأمر به في الأحاديث الصحيحة وألفاظه معروفة وقد ورد بألفاظ من طريق جماعة من الصحابة وفي كل تشهد ألفاظ تخالف التشهد الآخر والحق الذي لا محيص عنه أنه يجزئ للمصلي أن يتشهد بكل واحد من تلك التشهدات الخارجة من مخرج صحيح وأصحها التشهد الذي علمه النبي صلى الله وسلم عليه ابن مسعود وهو ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديثه بلفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 "التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" وفي بعض ألفاظه: "إذا قعد أحدكم فليقل" قال في الحجة البالغة: وجاء في التشهد صيغ أصحها تشهد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ثم تشهد ابن عباس وعمر رضي الله تعالى عنهما وهي كأحرف القرآن كلها كاف وشاف انتهى. قلت: اختار أبو حنيفة تشهد ابن مسعود والشافعي تشهد ابن عباس ومالك تشهد عمر واختلافهم في المختار لا في الإجزاء كذا في المسوى, وأما الصلاة على النبي صلى الله وسلم عليه التي يفعلها المصلي في التشهد فقد وردت بألفاظ وكل ما صح منه أجزأ ومن أصح ما ورد ما ثبت في الصحيح بلفظ: "اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وزاد في الحجة: "اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" انتهى. قال الماتن في حاشية الشفاء: ومما ينبغي أن يُعلم أن التشهد وألفاظ الصلاة على النبي صلى الله وسلم عليه وآله عليهم السلام كلها مجزئة إذا وردت من وجه معتبر وتخصيص بعضها دون بعض كما يفعله بعض الفقهاء قصور باع وتحكم محض, وأما اختيار الأصح منها وإيثاره مع القول بإجزاء غيره فهو من اختيار الأفضل من المتفاضلات وهو من صنيع المهرة بعلم الاستدلال والأدلة انتهى. وقال في موضع آخر: التشهدات الثابتة عنه صلى الله وسلم عليه موجودة في كتب الحديث فعلى من رام التمسك بما صح عنه صلى الله وسلم عليه أن ينظرها في دواوين الإسلام الموضوعة لجمع ما ورد من السنة ويختار أصحها ويستمر عليه أو يعمل تارة بهذا وتارة بهذا مثلا يتشهد في بعض الصلوات بتشهد ابن مسعود وفي بعضها بتشهد ابن عباس وفي بعضها بتشهد غيرهما فالكل واسع والأرجح هو الأصح لكن كونه الأصح لا ينافي إجزاء الصحيح انتهى. قلت: عامة أهل العلم على أن الصلاة على النبي صلى الله وسلم عليه مستحبة في التشهد الأخير غير واجبة وإلى هذا يشير لفظ ابن عمر وعائشة في باب التشهد وأن التشهد الأول ليس محلا لها, وذهب الشافعي وحده إلى وجوبها في التشهد الأخير فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 لم يصل لم تصح صلاته1 وإلى استحبابها في التشهد الأول وورد ما يفيد وجوب التعوذ من أربع كما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله وسلم عليه: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيى والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال" وورد نحو ذلك من حديث عائشة وهو في الصحيحين وغيرهما فيكون هذا التعوذ من تمام التشهد ثم يتخير المصلي بعد ذلك من الدعاء أعجبه كما أرشد إلى ذلك رسول الله صلى الله وسلم عليه قال في الحجة: وورد في صيغ الدعاء في التشهد: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" وورد: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت". "والتسليم" وهو واجب لكون النبي صلى الله وسلم عليه جعله تحليل الصلاة فلا تحليل لها إلا به فأفاد ذلك وجوبه وإن لم يذكر في حديث المسيء قال في الحجة: وجب أن لا يكون الخروج من الصلاة إلا بكلام هو أحسن كلام الناس أعني السلام وأن يوجب ذلك انتهى قال ابن القيم: إن السنة الصحيحة الصريحة المحكمة عن النبي صلى الله وسلم عليه التي رواها خمسة عشر نفسا من الصحابة أنه كان يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: "السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله" منهم عبد الله بن مسعود بن أبي وقاص وجابر ابن سمرة وأبو موسى الأشعري وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمر والبراء بن عازب ووائل بن حجر وأبو مالك الأشعري وعدي بن عمرة الضمري وطلق بن علي وأوس بن أوس وأبو رمثة والأحاديث بذلك ما بين صحيح وحسن فرد ذلك بخمسة أحاديث مختلف في صحتها واردة في تسليمة واحدة انتهى. وقد أطال في الجواب عنها إلى خمسة أوراق فليرجع إليه. قلت: وعامة أهل العلم على أنه يسلم تسليمتين   1 هذا هو الحق فإن الله تعالى أمرنا بالصلاة على النبي بقوله: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وسأله الصحابة عن الصلاة التي أمروا بها عليه فعلمهم صيغة الصلاة المعروفة على اختلاف رواياتها ففهموا إذا من الآية أن الأمر بالصلاة عليه إنما هو عقيب التشهد وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وواظبوا عليه وكان الوحي ينزل بين أظهرهم وتلقينا ذلك بالتواتر العملي عنهم فكان سؤالهم وبيانه لهم ثم مواظبتهم على ما أمروا تفسيرا للأمر الوارد في القرآن وهو من أقوى الأدلة على الوجوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 عن يمينه وعن شماله؛ واحتجوا بحديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله وسلم عليه رواه أبو داود والترمذي ولفظه: أن النبي صلى الله وسلم عليه كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده الأيمن السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده الأيسر, رواه النسائي وأحمد وابن حبان والدارقطني وغيرهم وفي الباب عن سهل بن سعد وحذيفة ومغيرة بن شعبة وواثلة بن الأسقع ويعقوب بن الحسين, ووقع في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود زيادة: "وبركاته" وهي عند ابن ماجة أيضا وعند أبي داود أيضا في حديث وائل بن حجر فالعجب من ابن الصلاح كيف يقول إن هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث إلا في رواية وائل بن حجر كذا في التلخيص, وقال مالك يسلم الإمام والمنفرد تسليمة واحدة: السلام عليكم لا يزيد على ذلك. "ويستحب للمأموم أن يسلم ثلاثا عن يمينه وعن شماله وتلقاء وجهه بردها على إمامه كذا في المسوى. أقول: ورود التسليمة الواحدة فقط لا يعارض الثابت مما فيه زيادة عليها وهي أحاديث التسلميتين لما عرفناك غير مرة أن الزيادة التي لم تكن منافية يجب قبولها فالقول بتسليمتين إعمال لجميع ما ورد بخلاف القول بتسليمة فإنه إهدار لأكثر الأدلة بدون مقتض وأما كون التسليم واجبا أو غير واجب فقد تقرر أن المرجع حديث المسيء وأنه لا وجوب لغير ما لم يذكر فيه إلا أن يثبت إيجابه بعد تاريخ حديث المسيء إيجابا لا يمكن صرفه بوجه من الوجوه1. وأما الطمأنينة في حال الركوع والسجودين فلا خلاف في ذلك وأما في حال الاعتدال من الركوع وبين السجدتين فخالف في ذلك قوم والحق أنه من آكد فرائض الصلاة في الموطنين بل المشروع إطالتهما وقد ثبت عنه صلى الله وسلم عليه ما يدل على ذلك كما في حديث البراء أنه حزر أركان صلاته صلى الله وسلم عليه وعد من جملتها الاعتدال من الركوع والاعتدال بين السجدتين فوجدها قريبا من السواء وهذا يدل على أنه كان يلبث فيهما كما يلبث في الركوع والسجود, وثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقف في اعتداله من الركوع كاعتداله من السجود حتى يظن من رآه أنه قد نسي لإطالته لهما   1 لا نسلم هذا فإن حديث المسيء اختلفت رواياته كثيرا وهو حديث صحيح وبعض الرواة يزيد فيه ما تركه غيره وقد يصح دليل على بعض الواجبات في الصلاة وهي زيادة من ثقة فتكون مقبولة ولعلنا لم نطلع على جميع ألفاظ حديث المسيء أو لعل بعض الرواة نسي منه شيئا فلا يجوز رد ما يصح دليله بهذا الحصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وثبت من أدعية فيهما ما يدل على طولهما. فالحاصل: أن أصل الاطمئنان في الركوع والسجود والاعتدالين ركن من أركان الصلاة لاتتم بدونه وأما طول اللبث زيادة على الاطمئنان فمن السنن المؤكدة لأنه لم يذكر في حديث المسيء وقد صارت هذه السنة متروكة في الاعتدال إلى غاية بل صار الاطمئنان فيهما مما يقل وجوده وما أحق من نازعته نفسه إلى اتباع الآثار المصطفوية أن يثبت معتدلا من ركوعه ومعتدلا من سجوده ويدعو بالأدعية المأثورة فيهما ويجعل مقدار اللبث كمقدار لبثه في الركوع والسجود فذلك هو السنة التي لا يجهل ورودها إلا جاهل والله المستعان. سنن الصلاة "وما عدا ذلك فسنن" لأنه لم يرد فيها ما يفيد وجوبها من أمر بالفعل أو نهي عن الترك غير مصروفين عن المعنى الحقيقي أو وعيد شديد يفيد الوجوب ولا ذكر شيء منها في حديث المسيء إلا على وجه لا تقوم به الحجة أو تقوم به وقد ورد ما يفيد أنه غير واجب. والحاصل: أن مرجع واجبات الصلاة كلها هو حديث المسيء فما ذكره صلى الله وسلم عليه فيه كان واجبا وما لم يذكره فليس بواجب لكن قد تشعبت روايات حديث المسيء وثبت في بعضها ما لم يثبت في البعض الآخر فعلى من أراد تحقيق الحق أن يجمع طرقه الصحيحة ويحكم بوجوب ما اشتملت عليه أو شرطيته أو ركنيته بحسب ما يقتضيه الدليل وما خرج عنه خرج عن ذلك وقد جمع ما صح من طرقه شيخنا الحافظ الرباني العلامة الشوكاني في شرح المنتقى في موضع واحد منه فمن رام ذلك فليرجع إليه1. "وهي الرفع في المواضع الأربعة" أي عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الاعتدال من الركوع هذه الثلاثة المواضع في كل ركعة والموضع الرابع عند القيام إلى الركعة الثالثة فقد دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة أما عند التكبير فقد روي ذلك عن النبي صلى الله وسلم عليه نحو خمسين رجلا من الصحابة منهم العشرة المبشرة بالجنة ورواه كثير من الأئمة عن جميع الصحابة من غير استثناء وقال الشافعي: روى الرفع جمع من الصحابة لعله لم يرد قط حديث بعدد أكثر منهم وقال ابن المنذر: لم يختلف أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه   1 ثم ما يؤمننا أن تكون هناك روايات فيه لم نطلع عليها فقدت فيما فقد من كتب العلم أو نسيها الرواة فلم يذكروا والحق ما قلناه أنه لا عبرة بالحصر الذي فيه لأجل هذا الاحتمال فإن صح الدليل على شيء آخر وجب الأخذ به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وسلم كان يرفع يديه, وقال البخاري في جزء رفع اليدين: روى الرفع تسعة عشر نفسا من الصحابة وسرد البيهقي في السنن وفي الخلافيات أسماء من روى الرفع نحوا من ثلاثين صحابيا وقال الحسن وحميد بن هلال كان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يرفعون أيديهم ولم يستثن أحدا منهم كذا في التلخيص وقال النووي في شرح مسلم: إنها أجمعت على ذلك عند تكبيرة الإحرام وإنما اختلفوا فيما عدا ذلك, وقد ذهب إلى وجوبه داود الظاهري وأبو الحسن أحمد بن سيار والنيسابوري والأوزاعي والحميدي وابن خزيمة1. وأما الرفع عند الركوع وعند الاعتدال منه فقد رواه زيادة على عشرين رجلا من الصحابة عن النبي صلى الله وسلم عليه وقال محمد بن نصر المروزي: إنه أجمع علماء الأمصار على ذلك إلا أهل الكوفة. وأما الرفع عند القيام إلى الركعة الثالثة فهو ثابت في الصحيح من حديث ابن عمر وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه وصححه أيضا أحمد بن حنبل من حديث علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي حجة الله البالغة: فإذا أراد أن يركع رفع يديه حذو منكبيه وكذلك إذا رفع رأسه من الركوع, ولا يفعل ذلك في السجود وهو من الهيئات التي فعلها النبي صلى الله وسلم عليه مرة وتركها أخرى, والكل سنة وأخذ بكل واحد جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهذا أحد المواضع التي اختلف فيها الفريقان: أهل المدينة وأهل الكوفة ولكل واحد أصل أصيل والحق عندي في مثل ذلك أن الكل سنة ونظيره الوتر بركعة واحدة أو بثلاث والذي يرفع أحب إلي ممن لا يرفع فإن أحاديث الرفع أكثر وأثبت غير أنه لا ينبغي لإنسان في مثل هذه الصور أن يثير على نفسه فتنة عوام بلده وهو قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة" ولا يبعد أن يكون ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ظن أن السنة المتقررة آخرا هو تركه لما تلقن من أن مبنى الصلاة على سكون الأطراف ولم يظهر له أن الرفع فعل تعظيمي ولذلك ابتدئ به في الصلاة أو لما تلقن من أنه فعل ينبئ عن الترك فلا يناسب كونه في أثناء الصلاة ولم يظهر له أن تجديد التنبه لترك ما سوى الله تعالى عند كل فعل أصلي   1 وهو ظاهر كلام الشافعي في الأم في كتاب اختلاف مالك والشافعي. وسيذكره الشارح نقلا عن ابن الجوزي في آخر المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 من الصلاة مطلوب والله تعالى أعلم. قوله لا يفعل ذلك في السجود: أقول القومة شرعت فارقة بين الركوع والسجود فالرفع معها رفع للسجود فلا معنى للتكرار انتهى بحروفه. وفي التكميل للشيخ رفيع الدين الدهلوي ولد صاحب الحجة البالغة اختلفوا في سنية رفع اليدين في الصلاة بعد التحريمة مع اتفاقهم على أنه لم يصح فيه أمر باستحباب ولا بيان فضيلة ولا نهي الصحابة عنه قط وعلى أنه ثبت عنه صلى الله وسلم عليه فعله مدة إلا أنه زاد ابن مسعود فقال: ألا أصلي بكم صلاة رسول صلى الله وسلم عليه؟ فلم يرفع يديه إلا في أول مرة وظاهر أنه لم يرد تركه أبدا وإنما أراد تركه آخرا كما يشعر به بعض ما ينقل عنه أن آخر الأمرين ترك الرفع ولا يدرى مدة الترك فيحتمل أنه تركه في أيام المرض للضعف فظن قوم أن سنيته كانت بمجرد الفعل فبطلت بالترك وقوم أن الترك بعذر وبغير نهي لا ينفي السنية كترك القيام للفرض بالعذر فهي إذا باقية فلا مناقشة للمجتهدين في أصل سنيته في الجملة ولا في بقاء جوازه وإن منعه بعض المتعصبة إذ ليس مما يخالف أفعال الصلاة لبقائه في التحريمة والقنوت والعيدين فلا نكير على فاعله لأحد بل في بقاء سنيته بناء على الظنين فلا نزاع إلا في المواظبة والرجحان وحيث واظب عليه جمع بلغوا حد الاستفاضة فوق الشهرة ولم يتعرض صلى الله وسلم عليه لفعلهم كما تعرض لرفع اليد في السلام حيث قال: "ما بال أيديكم كأنها أذناب خيل شمس" وهو صلى الله وسلم عليه كان يرى خلفه كما يرى أمامه فثبت بقاء سنيته وتركه صلى الله وسلم عليه أحيانا كما رواه ابن مسعود والبراء بن عازب وعدم التعرض لتاركه يقضي بسقوط تأكيده ولم يبلغ أبا حنيفة رح تعالى خبر هذا الجمع إنما روى له الأوزاعي عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فرجح عليه أبو حنيفة حمادا عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود بكثرة الفقه لا بكثرة الحفظ فكأنه ظن أنه تفطن ابن مسعود للنسخ دون ابن عمر حيث لم يرفع إلا في التحريمة بناء على أن السكوت في معرض البيان يفيد الحصر, وما يذكر عن الشافعي من عدم الرفع عند قبره مشعر بعدم التأكيد انتهى. وفي تنوير العينين للشيخ محمد إسماعيل الشهيد الدهلوي حفيد صاحب حجة الله البالغة إن رفع اليدين عند الافتتاح والركوع والقيام منه والقيام إلى الثالثة سنة غير مؤكدة من سنن الهدى فيثاب فاعله بقدر ما فعل إن دائما فبحسبه وإن مرة فبمثله ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 يلام تاركه وإن تركه مدة عمره, وأما الطاعن العالم بالحديث أي من ثبت عنده الأحاديث المتعلقة بهذه المسالة فلا إخاله إلا فيمن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ونريد بسنة الهدى ههنا فعل غير فرض وغير مختص بالنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فعله هو والخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم أو أمروا به وأقروا عليه قربة ولم ينسخ ولم يترك بالإجماع وبغير المؤكدة ما فعلوه مرة وتركوه أخرى فبقولنا فعل خرج به عدم الرفع فإن العدم ليس بفعل نعم إذا كان العدم مستمرا في زمان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم فقطعه يكون بدعة وليس في مفهوم البدعة إزالة السنة حتى يلزم كون العدم سنة بل مفهومها فعل لم يفهم في زمنهم وبقولنا غير فرض خرجت الفرائض كلها وبقولنا غير مختص خرجت النوافل المختصة به صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كالوصال في الصوم وبقولنا لم ينسخ خرجت السنن المنسوخة كالقيام للجنازة وبقولنا لم يترك بالإجماع خرجت السنن المتروكة به كالرفع بين السجدتين انتهى. وفيما لا بد منه أن رفع اليدين عند الإمام الأعظم ليس بسنة ولكن أكثر الفقهاء والمحدثين يثبتونه انتهى. وفي سفر السعادة إن الأخبار والآثار التي رويت في هذا الباب تبلغ إلى أربعمائة انتهى. قال شارحه الشيخ عبد الحق الدهلوي: إن الرفع وعدم الرفع كلاهما سنة انتهى. وقد مر الجواب عنه وفي سفر السعادة العربي وقد ثبت رفع اليدين في هذه المواضع الثلاثة ولكثرة رواته شابه المتواتر فقد صح في هذا الباب أربعمائة خبر وأثر رواه العشرة المبشرة ولم يزل على هذه الكيفية حتى رحل عن هذا العالم ولم يثبت غير هذا انتهى بعبارته, ونقل ابن الجوزي في نزهة الناظر للمقيم والمسافر عن المزني أنه قال: سمعت الشافعي يقول: لا يحل لأحد سمع حديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في رفع اليدين في افتتاح الصلاة وعند الركوع والرفع من الركوع أن يترك الاقتداء بفعله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وهذا صريح في أنه يوجب ذلك انتهى. وبالجملة: فقد ثبت رفع اليدين في المواضع الأربعة المذكورة بروايات صحيحة ثابتة وآثار مرضية راجحة ومذاهب حقة صادقة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وعن كبراء الصحابة وعظماء العلماء والفقهاء والمجتهدين بحيث لا يشوبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 نسخ ولا تعارض حتى ادعى بعضهم التواتر ولا أقل من أن تكون مشهورة كذا في التنوير, "والضم" لليدين أي اليمنى على اليسرى حال القيام إما على الصدر أو تحت السرة أو بينهما بأحاديث تقارب العشرين في العدد ولم يعارض هذه السنن معارض ولا قدح أحد من أهل العلم بالحديث في شيء منها وقد رواه عن النبي صلى الله وسلم عليه نحو ثمانية عشر صحابياً حتى قال ابن عبد البر: إنه لم يأت فيه عن النبي صلى الله وسلم عليه خلاف وفي تنوير العينين إن وضع اليد على الأخرى أولى من الإرسال لأن الإرسال لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أصحابه بل ثبت الوضع بروايات صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وعن أصحابه رضي الله تعالى عنهم كما روى مالك في الموطأ والبخاري في صحيحه عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة. قال أبو حازم: لا أعلم إلا أنه ينمي ذلك إلى النبي صلى الله وسلم عليه وروى الترمذي عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله وسلم عليه يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه. قال الترمذي: وفي الباب عن وائل ابن حجر وغطيف بن الحرث وابن عباس وابن مسعود وسهل بن سعد قال أبو عيسى: حديث هلب حديث حسن والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله وسلم عليه والتابعين ومن بعدهم يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة, ورأى بعضهم أن يضعهما فوق السرة ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السرة وكل ذلك واسع عندهم انتهى. كذلك أخرج مسلم عن وائل بن حجر وابن مسعود والنسائي عن وائل بن حجر والبخاري والحاكم عن علي وابن أبي شيبة عن غطيف بن الحرث وقبيصة بن هلب عن أبيه ووائل بن حجر وعلي وأبي بكر الصديق وأبي الدرداء أنه قال: من أخلاق النبيين وضع اليمين على الشمال في الصلاة, وعن الحسن أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كأني أنظر أحبار بني إسرائيل واضعي أيمانهم على شمائلهم في الصلاة" وهكذا أخرج عن أبي مجلز وأبي عثمان النهدي ومجاهد وأبي الحوراء. وأما ما روي من الإرسال عن بعض التابعين من نحو الحسن وإبراهيم وابن المسيب وابن سيرين وسعيد بن جبير كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 أخرجه ابن أبي شيبة فإن بلغ عندهم حديث الوضع فمحمول على أنه لم يحسبوه سنة من سنن الهدى بل حسبوه عادة من العادات فمالوا إلى الإرسال لأصالته مع جواز الوضع فعملوا بالإرسال بناء على الأصل إذ الوضع أمر جديد يحتاج إلى الدليل وإذ لا دليل لهم فاضطروا إلى الإرسال لا أنه ثبت عندهم الإرسال وإلى ذلك يشير قول ابن سيرين حيث سئل عن الرجل يمسك بيمينه شماله قال: إنما فعل ذلك من أجل الروم كما أخرج ابن أبي شيبة. وأما ما أخرج أبو بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن إبراهيم قال: سمعت عمرو بن دينار قال: كان ابن الزبير إذا صلى يرسل يديه فهي رواية شاذة مخالفة لما روى الثقات عنه كما أخرج أبو داود عن زرعة بن عبد الرحمن قال: سمعت ابن الزبير يقول: صف القدمين ووضع اليد على اليد من السنة, وإن سُلّم كونها صحيحة فهذه فعله والفعل لا عموم له ورواية الوضع عنه مرفوعة لأنه نسبه إلى السنة, وقول الصحابي من السنة في حكم الرفع كما حُقق في كتب أصول الحديث ومع هذا لعله لم ير الوضع من سنن الهدى وفهم الصحابي ليس بحجة كما مضى لا سيما إذا كان مخالفاً لأجله الصحابة كأميري المؤمنين أبي بكر الصديق وعلي المرتضى وابن عباس وابن مسعود وسهل بن سعد ونحوهم على أنها مخالفة للأحاديث المرفوعة المشهورة, وأعمال الصحابة المستفيضة في باب الوضع فينبغي أن لا يعول على الاعتبار ولا يلتفت إليها. وأما مالك بن أنس فقد اضطربت الروايات عنه فالمدنيون من أصحابه رووا عنه أمر الوضع مطلقاً سواء كان في الفرض أو النفل كما يشهد به حديث الموطأ عن سهل بن سعد وأثره عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري, والمصريون من أصحابه رووا عنه الإرسال في الفرض والوضع في النفل وعبد الرحمن بن القاسم روى عنه الإرسال مطلقاً وروى أشهب عنه إباحة الوضع وتلك الروايات أي روايات المصريين وابن القاسم عنه وإن عمل بها المتأخرون من المالكلية لكنها روايات شاذة مخالفة لرواية جمهور أصحابه فلا تخرق الإجماع والاتفاق ولا تصادم ما ادعينا من الإطباق ولكونها شاذة أولها ابن الحاجب في مختصره في الفقه بالاعتماد على الأرض إذا رفع رأسه من السجدة ونهض إلى القيام ووضع اليدين تحت السرة وفوقها متساويان لأن كلا منهما مروي عن أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أخرج أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 داود وأحمد وابن أبي شيبة عن علي: "السنة وضع الكف في الصلاة تحت السرة" رواه رزين وغيره وفي سفر السعادة وضع الكف تحت الصدر في صحيح ابن خزيمة. قال الترمذي: رأى بضعهم أن يضعهما فوق السرة ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السرة وكل ذلك واسع عندهم كما ذكرنا سابقا وقال الشيخ ابن الهمام: ولم يثبت حديث صحيح يوجب العمل في كون الوضع تحت الصدر وفي كونه تحت السرة والمعهود من الحنفية هو كونه تحت السرة وعن الشافعية تحت الصدر وعند أحمد قولان كالمذهبين والتحقيق المساواة بينهما كما ذكرنا سابقا والله تعالى أعلم بأحكامه انتهى. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين بعد تخريج الأخبار والآثار في وضع اليمنى على اليسرى: رُدّت هذه الآثار برواية ابن القاسم عن مالك قال: تركه أحب إليّ ولا أعلم شيئاً ردت به سواه انتهى. وفي حاشية الشفاء ومن الغرائب أنها صارت في هذه الديار وفي هذه الأعصار عند العامة ومن يشابههم ممن يظن أنه قد ارتفع عن طبقتهم من أعظم المنكرات حتى إن المتمسك بها يصير في اعتقاد كثير في عداد الخارجين عن الدين فترى الأخ يعادي أخاه والوالد يفارق ولده إذا رآه يفعل واحدة منها أي من هذه السنن وكأنه صار متمسكاً بدين آخر ومنتقلاً إلى شريعة غير الشريعة التي كان عليها, ولو رآه يزني أو يشرب الخمر أو يقتل النفس أو يعق أحد أبويه أو يشهد الزور أو يحلف الفجور لم يجر بينه وبينه من العداوة ما يجري بينه وبينه بسبب التمسك بهذه السنن أو ببعضها, لا جرم هذه علامات آخر الزمان ودلائل حضور القيامة وقرب الساعة انتهى. والإشارة بقوله بهذه السنن إلى رفع اليدين في المواضع الأربعة وضم اليدين في الصلاة قال: وأعجب من فعل العامة الجهلة وأغرب سكوت علماء الدين وأئمة المسلمين عن الإنكار على من جعل المعروف منكراً والمنكر معروفاً وتلاعب بالدين وبسنة سيد المرسلين انتهى. "والتوجه" فقد وردت فيه أحاديث بألفاظ مختلفة ويجزئ التوجه بواحد منها إذا خرج من مخرج صحيح وأصحها الاستفتاح المروي من حديث أبي هريرة وهو في الصحيحين وغيرهما بل قد قيل إنه تواتر لفظاً وهو: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد". قال في الحجة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وقد صح في ذلك صيغ منها: "اللهم باعد بيني" إلى آخره ومنها: "إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين"1. ومنها: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك". ومنها: "الله أكبر كبيرا ثلاثا الحمد لله كثيراً ثلاثاً وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثاً" والأصل في الاستفتاح حديث علي في الجملة وأبي هريرة وعائشة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم وحديث عائشة وابن مسعود وأبي هريرة وثوبان وكعب بن عجرة في سائر المواضع وغير هؤلاء انتهى ملخصاً. قلت: ذهب الشافعي في دعاء الافتتاح إلى حديث علي رضي الله تعالى عنه: "إني وجهت وجهي" الخ وأبو حنيفة إلى حديث عائشة "سبحانك اللهم وبحمدك" الخ وقال مالك: لا نقول شيئا من ذلك. ومعنى قوله عندي أنه ليس بسنة لازمة, وأشار البغوي إلى أن الاختلاف في أذكار الصلاة من دعاء الافتتاح وذكر الركوع والسجود وما بعد التشهد بين الأئمة من الاختلاف المباح فذكر كل أصح ما عنده وليس أحد ينكر ما عند الآخر. بعد التكبيرة لأنه لم يأت في ذلك خلاف النبي صلى الله عليه وسلم بل كل من روى عنه الاستفتاح روى أنه بعد التكبيرة ولم يأت في شيء أنه توجه قبلها وقد أوضح ذلك العلامة الشوكاني في حاشية الشفاء. وأما ما يتوجه به فهو الذي قد ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وفيه الصحيح والأصح والوقوف على ذلك ممكن بالنظر في مختصر من مختصرات الحديث وسبحان الله وبحمده ما فعلت هذه المذاهب بأهلها. وأما "التعوذ" فقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم يفعله بعد الاستفتاح قبل القراءة ولفظه: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" كما أخرجه أحمد وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري قال في الحجة: ثم يتعوذ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وفي التعوذ صيغ منها: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ومنها: "أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم" ثم يبسمل سرا لما شرع الله تعالى لنا من تقديم التبرك باسم الله تعالى على القراءة ولأن   1 الوارد في الحديث في التوجه: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} لأن حكاية لفظ الآية غير مراد فإن إبراهيم قال: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ولكن لا يقولها كل فرد منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فيه احتياطاً إذ قد اختلفت الرواية هل هي آية من الفاتحة أم لا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفتتح الصلاة أي القراءة بالحمد لله رب العالمين ولا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم انتهى. أقول: قد وقع الخلاف في البسملة من جهات: الأولى في كونها قرآنا في كل سورة أم لا الثانية في قراءتها في الصلاة أو سرا في السرية وجهراً في الجهرية ولأهل العلم في كل طرف من هذه الأطراف خلاف طويل ومنازعات كثيرة والقراء منهم من يقرؤها في أول كل سورة ومنهم من لا يقرؤها وقد أورد شيخنا العلامة الشوكاني في شرح المنتقى ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. والحاصل: أن الحق ثبوت قراءتها وأنها آية من كل سورة وأنها تُقرأ في الصلاة جهراً في الجهرية وسرا في السرية في السرية وأحاديث عدم سماع جهره صلى الله عليه وسلم بها وإن كانت صحيحة فالجمع بينها وبين أحاديث الجهر ممكن بأن يُحمل نفي من نفى على أنه عرض له مانع عن سماعها فإن وقت قراءة الإمام لها وقت اشتغال المؤتم بالدخول في الصلاة والإحرام والتوجه وتكبير القائمين إلى الصلاة ورواة الإسرار هم مثل أنس وعبد الله بن مغفل وهم إذ ذاك من صغار الصحابة قد لا يقفون في الصفوف المتقدمة لأنها موقف كبار الصحابة كما ورد الدليل بذلك وعلى كل تقدير فالمثبت مقدم على النافي, وأحاديث الجهر وإن كانت غير سليمة من المقال فهي قد بلغت في الكثرة إلى حد يشهد بعضها لبعض مع كونها معتضدة بالرسم في المصاحف وهو دليل علمي كما قاله العضد وغيره فقد وافقت سائر الآيات القرآنية في ذلك فالظاهر مع من قال بأن صفتها وصفة سائر الآيات متفقة. وأما ما في تنوير العينين من أن ترك الجهر بالتسمية أولى من الجهر بها لأن رواية ترك جهره أكثر وأوضح من جهره انتهى فقد دفعه ما تقدم آنفا. وأما التأمين فقد ورد به نحو سبعة عشر حديثاً وربما تفيد أحاديثه الوجوب على المؤتم إذا أمّن إمامه كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما بلفظ: "إذا أمّن الإمام فأمنوا" فيكون ما في المتن مقيدا بغير المؤتم إذا أمّن إمامه وقد ذهب إلى مشروعيته جمهور أهل العلم ومما يؤكد مشروعيته أن فيه إغاظة لليهود لما أخرجه أحمد وابن ماجه والطبراني من حديث عائشة مرفوعاً: "ما حسدتكم اليهود على شي ما حسدتكم على قول آمين". قال ابن القيم في إعلام الموقعين: السنة المحكمة الصحيحة الجهر بآمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 في الصلاة كقوله في الصحيحين: "إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه أمين الملائكة غفر له" ولولا جهره بالتأمين لما أمكن المأموم أن يؤمن معه ويوافقه في بالتأمين وأصرح من هذا حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن حجر ابن عنبس عن وائل بن حجر قال: كان رسول الله صلى الله وسلم عليه إذا قال ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته, وفي لفظ: "وطول بها" رواه الترمذي وغيره وإسناده صحيح, وقد خالف شعبة سفيان في هذا الحديث فقال: "وخفض بها صوته" وحكم أئمة الحديث وحفاظه في هذا لسفيان فقال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل في هذا الباب أصح من حديث شعبة وأخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع فقال عن حجر أبي العنبس وإنما كنيته أبو السكن وزاد فيه عن علقمة بن وائل وإنما هو حجر بن عنبس عن وائل بن حجر ليس فيه علقمة وقال: "وخفض بها صوته" والصحيح أنه جهر بها. قال الترمذي: سألت أبا زرعة عن حديث سفيان وشعبة إذا اختلفا فقال: القول قول سفيان إلى قوله: فرُد هذا كله بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} والذي نزلت عليه هذه الآية هو الذي رفع صوته بالتأمين والذين أمروا بها رفعوا به أصواتهم ولا معارضة بين هذه الآية والسنة بوجه ما اهـ, ثم أطال ابن القيم في بيان أدلة ترجيح هذه السنة وتقريرها تركنا ذكرها مخافة الإطالة وفي تنوير العينين يظهر بعد التعمق في الروايات والتحقيق أن الجهر بالتأمين أولى من خفضه لأن رواية جهره أكثر وأوضح من خفضه اهـ. وقراءة غير الفاتحة معها لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب وورد ما يُشعر بوجوب قرآن مع الفاتحة من غير تعيين كحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله وسلم عليه أمره أن يخرج فينادي: لاصلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد أخرجه أحمد وأبو داود وفي إسناده مقال ولكنه قد أخرج مسلم في صحيحه وغيره من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعداً" وقد أعلها البخاري في جزء القراءة, وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد بلفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أُمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. قال ابن سيد الناس: وإسناده صحيح ورجاله ثقات, وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح. وأخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد بلفظ: "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة" وهو حديث ضعيف, وهذه الأحاديث لا تقصر عن إفادة إيجاب قرآن مع الفاتحة من غير تقييد بل مجرد الآية الواحدة يكفي, وأما زيادة على ذلك كقراءة سورة مع الفاتحة في كل ركعة من الأوليين فليس بواجب فيكون ما في المتن مقيداً بما فوق الآية. قال في الحجة البالغة: ثم يرتل سورة الفاتحة وسورة من القرآن ترتيلا يمد الحروف ويقف على رؤوس الآي يخافت في الظهر والعصر ويجهر الإمام في الفجر والمغرب والعشاء ويقرأ في الفجر ستين آية إلى مائة تداركاً لقلة ركعاته بطول قراءته وفي العشاء: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ومثلهما وحُمل الظهر على الفجر والعصر على العشاء وفي بعض الروايات الظهر على العشاء والعصر على المغرب وفي بعضها وفي المغرب بقصار المفصل لصيق الوقت انتهى. وأما التشهد الأوسط فلم يرد فيه ألفاظ تخصه بل يقول فيه ما يقول في التشهد الأخير ولكنه يسرع بذلك وفي حاشية الشفاء للشوكاني رح: وأما ما يقال فيه فهو ما يقال في التشهد الأخير سواء بسواء إلا ما ورد تخصيصه بالآخر فيختص به وظاهر الأدلة الواردة في التشهد شامل للتشهدين جميعاً إلا أنه ينبغي تخفيفه كما ورد الدليل بذلك وأقل ما يقال فيه تشهد ابن مسعود ويُضم إليه الصلاة على النبي وآله صلى الله وسلم عليه بأخصر لفظ فهذا لا ينافي التخفيف المشروع انتهى. وقد روى أحمد والنسائي من حديث ابن مسعود قال: إن محمداً قال إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فليدع به ربه عز وجل, ورجاله ثقات وأخرجه الترمذي بلفظ: علمنا رسول الله صلى الله وسلم عليه إذا قعدنا في الركعتين, فالتقييد بالقعود في كل ركعتين يفيد أن هذا التشهد هو التشهد الأوسط ولكن ليس فيه ما ينفي زيادة الصلاة على النبي صلى الله وسلم عليه وقد شرعها رسول الله صلى الله وسلم عليه في التشهد مقترنة بالسلام على النبي صلى الله وسلم عليه كما ورد بلفظ: قد علمنا كيف السلام عليك فكيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الصلاة وهو في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة وفي رواية من حديث ابن مسعود فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ وإنما لم يكن التشهد الأوسط واجباً ولا قعوده لأن النبي صلى الله وسلم عليه تركه سهوا فسبَّح الصحابة فلم يعد له بل استمر وسجد للسهو فلو كان واجباً لعاد له عند ذهاب السهو بوقوع التنبيه من الصحابة فلا يقال: إن سجود السهو يكون لجبران الواجب كما يكون لجبران غير الواجب لأنا نقول: محل الدليل ههنا هو عدم العود لفعله بعد التنبيه على السهو. أقول: لا ريب أنه صلى الله وسلم عليه لازم التشهد الأوسط ولم يثبت في حديث من الأحاديث الحاكية لفعله صلى الله وسلم عليه أنه تركه مرة واحدة ولكن هذا القدر لا يثبت به الوجوب وإن كان بيانا لمجمل واجب وانضم إليه حديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي" لأن الاقتصار في حديث المسيء بعض ما كان يفعله دون بعض يشعر بعدم وجوب ما لم يذكر فيه وأحاديث التشهد الصحيحة التي فيها لفظ: "قولوا" وإن كان أصل الأمر للوجوب لكنه مصروف عن حقيقته بحديث المسيء ويشكل على ذلك قول ابن مسعود: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد. الحديث. فإن هذه العبارة على أن التشهد من المفترضات ويمكن أن يقال: إن فهم ابن مسعود للفرضية لا يستلزم أن يكون الأمر كذلك لأنه من مجالات الاجتهادات واجتهاده ليس بحجة على أحد1, وأيضا بعض التشهد تعليم كيفية وتعليم الكيفيات وإن كان بلفظ الأمر لا يدل على وجوبها وما نحن بصدده من ذلك فإنه وقع في جواب كيف نصلي عليك وإنما كان كذلك لأن جواب السائل عن الكيفية يكون بالأمر وإن كانت غير واجبة إجماعاً تقول كيف أغسل ثوبي وأحمل متاعي فيقول المسؤول افعل كذا غير مريد لا يجاب ذلك عليك بل لمجرد التعليم للهيئة المسؤول عنها بكيف فلا بد أن يكون الشيء المسؤول عن كيفيته قد وجب بدليل آخر غير تعليم   1 أما احتجاج الشارح بحديث المسيء صلاته فقد بينا آنفا أنه لا يمنع من وجوب ما يدل الدليل على وجوبه فالأحاديث التي فيها: "قولوا" تدل على الوجوب قطعا ولا تصرف عن الوجوب وأما دعواه أن قول ابن مسعود: "قبل أن يفرض علينا التشهد" فهم من ابن مسعود فإنه مغالطة صريحة بل هو دليل صريح وإخبار منه على أن التشهد فرض عليهم وبناء الفعل لما لم يسم فاعله لا ينفي فهم المراد وهو الشارع الذي إذا فرض عليهم شيئا وجبت طاعته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الكيفية1 وقد وقع في بعض طرق حديث المسيء ذكر للتشهد فراجعه في الموطن فإن صحت تلك الطرق كانت هي المفيدة للوجوب, وأما حديث: "إذا أحدث المصلي بعد آخر سجدة" فليس مما تقوم به الحجة فليعلم. وأما الأذكار الواردة في كل ركن فكثيرة جدا منها: تكبير الركوع والسجود والرفع والخفض كما دل عليه حديث ابن مسعود قال: رأيت النبي صلى الله وسلم عليه يكبر في كل رفع وخفض وقيام وقعود. وأخرجه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وأخرج نحوه البخاري ومسلم من حديث عمران بن حصين وأخرج نحوه من حديث أبي هريرة وفي الباب أحاديث إلا عند الارتفاع من الركوع فإن الإمام والمنفرد يقولان: "سمع الله لمن حمده" والمؤتم يقول: "اللهم ربنا ولك الحمد" وهو في الصحيح من حديث أبي موسى قال في حاشية الشفاء: الظاهر من الأدلة أن الإمام والمنفرد يجمعان بين السمعلة والحمدلة فيقولان: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وأما المؤتم ففيه احتمال وقد أوضحت الصواب فيه في شرح المنتقى انتهى. قال ابن القيم في الإعلام: السنة الصريحة في قول الإمام: "ربنا لك الحمد" كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله وسلم عليه إذا قال سمع الله لمن حمده قال: "اللهم ربنا لك الحمد" وفيهما أيضا عنه: كان رسول الله صلى الله وسلم عليه يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم ربنا لك الحمد, وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله وسلم عليه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: "سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد" فرُدّت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله صلى الله وسلم عليه: "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد" انتهى. وأما ذكر الركوع فهو: "سبحان ربي العظيم" وذكر السجود: "سبحان ربي الأعلى" ويدعو بعد ذلك بما أحب من المأثور وغيره وأقل ما يستحب من التسبيح في الركوع والسجود ثلاث لحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله وسلم عليه قال: إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تم ركوعه   1 وقد وجب المسؤول عن كيفية بدليل آخر وهو الأمر بالصلاة عليه في القرآن واستفهموا عن بيان هذا الأمر المجمل فبين لهم فصار تفسيراً للأمر الأول ملحقاً به واجباً طاعته والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وذلك أدناه وإذا سجد فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تم سجوده وذلك أدناه أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وفي إسناده انقطاع. وأما ذكر الاعتدال فقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد". وأما الذكر بين السجدتين فقد روى الترمذي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: "اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني". أقول: قد بين لنا صلى الله عليه وسلم كيفية تسبيح الركوع والسجود بيانا شافيا نقله لنا عنه الذين نقلوا إلينا سائر الأحكام الشرعية فقالوا كان يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم" وفي سجوده: "سبحان ربي الأعلى" وكذلك أرشد إليه صلى الله وسلم عليه قولاً. وأما التقييد بعدد مخصوص فلم يرد ما يدل عليه إنما كان الصحابة يقدرون لبثه في ركوعه وسجوده تقادير مختلفة والتطويل في الصلاة من السنن الثابتة ما لم يكن المصلي إماماً لقوم فإنه يصلي بهم صلاة أخفهم كما أرشد إليه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم, والأحاديث في الأذكار الكائنة في الصلاة كثيرة جدا فينبغي الاستكثار من الدعاء في الصلاة بخيري الدنيا والآخرة بما ورد وبما لم يرد والأوْلى أن يأتي بهذه الأذكار قبل الرواتب فإنه جاء في بعض الأذكار ما يدل على ذلك كقوله: "من قال قبل أن ينصرف ويثني رجله من صلاة المغرب والصبح لا إله إلا الله" الخ وكقول الراوي: "كان إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى: لا إله إلا الله" الخ. قال ابن عباس: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالتكبير , وفي بعضها ما يدل ظاهراً كقوله: "دبر كل صلاة" وأما قول عائشة: كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام" الخ فيحتمل وجوها ذكرتها في شرح بلوغ المرام. وبالجملة: فالأدعية كلها بمنزلة أحرف القرآن من قرأ منها شيئا فاز بالثواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الموعود وهذا الباب يحتمل البسط وليس المراد هنا إلا الإشارة إلى ما يُحتاج إليه وقد ذكر الماتن هذه المسائل والأذكار في شرح المنتقى وأورد كل ما يحتاج إليه على وجه لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. فصل فيما لا يجوز في الصلاة وتبطل الصلاة بالكلام لحديث زيد بن أرقم في الصحيحين وغيرهما قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وهكذا حديث ابن مسعود في الصحيحين وغيرهما بلفظ: "إن في الصلاة لشغلا" وفي رواية لأحمد والنسائي وأبي داود وابن حبان في صحيحه: إن الله يحدث من أمره ما شاء وإنه أحدث من أمره أن لا يتكلم في الصلاة, ولا خلاف بين أهل العلم أن من تكلم عامدا عالما فسدت صلاته, وإنما الخلاف في كلام الساهي ومن لم يعلم بأنه ممنوع فأما من لم يعلم فظاهر حديث معاوية بن الحكم السلمي الثابت في الصحيح أنه لا يعيد وقد كان شأنه صلى الله وسلم عليه أن لا يحرج على الجاهل ولا يأمره بالقضاء في غالب الأحوال بل يقتصر على تعليمه وعلى إخباره بعدم جواز ما وقع منه وقد يأمره بالإعادة كما في حديث المسيء, وأما كلام الساهي والناسي فالظاهر أنه لا فرق بينه وبين العامد العالم في إبطال الصلاة. قال أبو حنيفة: كلام الناسي يبطل الصلاة وحديث أبي هريرة كان قبل تحريم الكلام ثم نسخ وفيه بحث لأن تحريم الكلام كان بمكة وهذه القصة بالمدينة, وقال الشافعي: كلام الناسي لا يبطل الصلاة وكلام العامد يبطلها ولو قل, وتأويل الحديث عنده أن النبي صلى الله وسلم عليه كان ناسيا بانيا كلامه على أن الصلاة تمت وهو نسيان وكلام ذي اليدين على توهم قصر الصلاة فكان حكمه حكم الناسي وكلام القوم كان جوابا للرسول وإجابة الرسول لا تبطل الصلاة, وقال مالك: إن كان الكلام العمد يسيرا لإصلاح الصلاة لا يبطل مثل أن يقال: لم تكمل فيقول: قد أكملت وحديث: نهينا عن الكلام. ولا تكلموا خص منه هذا النوع من الكلام كذا في المسوى. أقول أما فساد صلاة من تكلم ساهيا فلا أعرف دليلا يدل عليه إلا عموم حديث النهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 عن الكلام وهو مخصص بمثل حديث تكلمه صلى الله وسلم عليه بعد أن سلم على ركعتين كما في حديث ذي اليدين فإنه تكلم في تلك الحال ساهيا عن كونه مصليا وهو المراد بكلام الساهي لأن المراد إصدار الكلام من غير قصد فإن قيل إن ثم فرقا بين من تكلم وهو داخل الصلاة لم يخرج منها وبين من تكلم وقد خرج منها ساهيا فإن الأول أوقع الكلام حال الصلاة والآخر أوقعه خارجها واعتداده بما قد فعله قبل الخروج ساهيا لا يوجب كونه بعد الخروج قبل الرجوع في صلاة وأدل دليل على ذلك تكبيره للدخول بعد الخروج سهوا فيقال: الأدلة لواردة في رفع الخطاب عن الساهي مخصصة لذلك العموم فاقتضى ذلك أن المفسد هو كلام العامد لا كلام الساهي, وأما عدم أمره لمعاوية بن الحكم بالإعادة كما في الحديث فيمكن أن يكون لتنزيل كلام الجاهل بالتحريم منزلة كلام الساهي ويمكن أن يكون الجهل عذرا بمجرده وبالاشتغال بما ليس منها وذلك مقيد بأن يخرج به المصلي عن هيئة الصلاة كمن يشتغل مثلا بخياطة أو نجارة أو مشي كثير أو التفات طويل أو نحو ذلك وسبب بطلانها بذلك أن الهيئة المطلوبة من المصلي قد صارت بذلك الفعل متغيرة عما كانت عليه حتى صار الناظر لصاحبها لا يعده مصليا, أقول: اختلفت أنظار أهل العلم في تعريف الفعل الكثير المفسد للصلاة والمبطل لها والذي أراه طريقا إلى معرفة الفعل الكثير أن ينظر المتكلم في ذلك إلى ما صدر منه صلى الله وسلم عليه من الأفعال مثل حمله لأمامة بنت أبي العاص وطلوعه ونزوله في المنبر وهو في حال الصلاة ونحو ذلك مما وقع منه صلى الله وسلم عليه لا لإصلاح الصلاة فيحكم بأنه غير كثير, وكذلك ما وقع لقصد إصلاح الصلاة مثل خلعه صلى الله وسلم عليه للنعل وإذنه بمقاتلة الحية وما أشبه ذلك ينبغي الحكم بأنه غير كثير بالأولى وما خرج عن الواقع من أفعاله والمسوغ بأقواله فهو فعل غير مشروع, ورجع في كونه مفسدا وغير مفسد إلى الدليل فإن ورد ما يدل على أحد الطرفين كان العمل عليه وإن لم يرد فالأصل الصحة والفساد خلاف الأصل لا يصار إليه إلا لقيام دليل يدل على الفساد ولكنه إذا صدر من المصلي من الأفعال التي لمجرد العبث ما يخرج به عن هيئة من يؤدي هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 العبادة مثل: أن يشتغل بعمل من الأعمال التي لا مدخل لها في الصلاة ولا في إصلاحها نحو: حمل الأثقال والخياطة والنسخ ونحو ذلك فهذا غير مصل فإذا قال قائل بفساد صلاته فهو من حيث إنه قد فعل ما ينافي الصلاة. وأما الاستدلال بحديث: "اسكتوا في الصلاة" فهو مع كونه لا يفيد إلا الوجوب والواجب لا يستلزم عدمه فساد ما هو واجب فيه مخصص بجميع ما فعله صلى الله وسلم عليه أو أذن به أو قرره وما خرج عن ذلك ففعله غير جائز بل يجب تركه فقط فمن تركه كان ممدوحا ومن فعله كان مذموما ومن قال إن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي يقتضي الفساد كما هو مذهب طائفة من أهل الأصول فغاية ما هناك أن ذلك الفعل الذي فعله ولم يتركه كما يجب عليه فاسد, وأما كون الصلاة التي فعل فيها ذلك الفعل فاسدة فشيء آخر. قال مجد الدين الفيروز أبادي في الصراط المستقيم: ولسماع بكاء الطفل كان يخفف الصلاة وأحيانا كان يتعلق به وهو في الصلاة طفل فيحمله على عاتقه وأحيانا كان يأتي الحسين وهو في السجود فيركب على ظهره المبارك فيطيل السجود لأجله, وأحيانا كانت عائشة تأتي وهو في الصلاة وقد غلق الباب فيخطو ليفتح الباب لها, وأحيانا كان يسلم عليه وهو في الصلاة فيجيب بالإشارة باسطا يده وقد يومئ برأسه المبارك وكانت عائشة نائمة تجاه صلاته فكان عند السجود يضع يده على رجلها لتخلي مكان السجود بضم رجلها, وكان قد يصل إلى آية السجدة على المنبر فيهبط إلى الأرض ليسجد ثم يصعد واختصم وليدتان من بني عبد المطلب فتصارعتا فلما دنتا منه أمسكهما بيده وفرق بينهما, وكان يبكي في الصلاة كثيرا ويتنحنح أحيانا لحاجة, وقال: "صلوا في نعالكم خلافا لليهود" اهـ. قال في الحجة البالغة: إن النبي صلى الله وسلم عليه قد فعل أشياء في الصلاة بيانا للمشروع وقرر على أشياء فذلك وما دونه لا يبطل الصلاة. والحاصل من الاستقراء أن القول اليسير مثل: ألعنك بلعنة الله, ويرحمك الله, ويا ثكل أماه وما شأنكم تنظرون إلي والبطش اليسير مثل: وضع صبية من العاتق ورفعها وغمز الرجل ومثل فتح الباب والمشي اليسير كالنزول من درج المنبر إلى مكان ليتأتى منه السجود في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أصل المنبر والتأخر من موضع الإمام إلى الصف والتقدم إلى الباب المقابل ليفتح والبكاء خوفا من الله تعالى والإشارة المفهمة وقتل الحية والعقرب واللحظ يمينا وشمالا من غير لي العنق لا يفسد, وإن تعلق القذر بجسده أو ثوبه إذا لم يكن بفعله أو كان لا يعلمه لا يفسد. اهـ. قلت: اتفقوا على أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة في العالمكيرية إن حمل صبيا أو ثوبا على عاتقه لم تفسد صلاته وإن حمل شيئا يتكلف في حمله فسدت, وفي المنهاج الكثرة بالعرف فالخطوتان والضربتان قليل والثلاث كثير وتبطل بالوثبة الفاحشة لا الحركات الخفيفة المتوالية كتحريك أصابعه في سبحة أوحك في الأصح في العالمكيرية1 لو فتح على غير إمامه تفسد إلا إذا عنى به التلاوة دون التعليم وإن فتح على إمامه فالصحيح لا تفسد بحال وفي المنهاج لو نطق بنظم القرآن بقصد التفهيم كيا يحيى خذ الكتاب قصد معه قراءة لم تفسد وإلا بطلت كذا في المسوى, وبترك شرط كالوضوء فلأن الشرط يؤثر عدمه في عدم المشروط. أو ركن لكون ذهابه يوجب خروج الصلاة عن هيئتها المطلوبة عمدا وإذا ترك الركن فما فوقه سهوا فعله وإن كان قد خرج عن الصلاة كما وقع منه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في حديث ذي اليدين فإنه سلم على ركعتين ثم أخبر بذلك فكبر وفعل الركعتين المتروكتين, وأما ترك ما لم يكن شرطا ولا ركنا من الواجبات فلا تبطل به الصلاة لأنه لا يؤثر عدمه في عدمها بل حقيقة الواجب ما يمدح فاعله ويذم تاركه وكونه يذم لا يستلزم أن صلاته باطلة. والحاصل: أن الشروط للشيء هي التي تثبت بدليل يدل على انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط نحو أن يقول الشارع: من لم يفعل كذا فلا صلاة له أو يأتي عن الشارع ما هو تصريح بعدم الصحة أو بعدم القبول أو الأجر أو يثبت عنه النهي عن الإتيان بالمشروط بدون الشرط لأن النهي يدل على الفساد المرادف للبطلان على ما هو الحق وأما كون الشيء واجبا فهو يثبت بمجرد طلبه من الشارع ومجرد الطلب لا يستلزم زيادة على كون الشيء واجبا فتدبر هذا تسلم من الخبط والخلط. فصل "ولا تجب" الصلوات المكتوبة الخمس "على غير مكلف" لأن   1 هي الفتاوى الهندية المعروفة في مذهب أبي حنيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 خطاب التكليف لا يتناول غير مكلف ولا خلاف في ذلك في الواجبات الشرعية, وأما ما ورد من تعويد الصبيان وتمرينهم فالخطاب في ذلك للمكلفين والوجوب عليهم لا على الصغار. "وتسقط عمن عجز عن الإشارة" لأن إيجابها على المريض مع بلوغه إلى ذلك الحد هو من تكليف ما لا يطاق ولم يكلف الله تعالى أحدا فوق طاقته. وكذلك عمن أغمي عليه حتى خرج وقتها فلا وجوب عليه لأنه غير مكلف في الوقت ويصلي المريض قائما ثم قاعدا ثم على جنب لحديث عمران بن حصين عند البخاري وأهل السنن وغيرهم قال: "كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الصلاة فقال: "صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب". وقد نطق بمضمون ذلك القرآن الكريم وإذا تعذر على المصلي صفة من صفات صلاة العليل الواردة أتى بالصلاة على صفة أخرى مما ورد ثم يفعل ما قدر عليه ودخل تحت استطاعته: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . "وإذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 باب صلاة التطوع "هي أربع قبل الظهر وأربع بعده وأربع قبل العصر". لما ثبت في ذلك من حديث أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله وسلم عليه يقول: "من صلى أربع ركعات قبل الظهر وأربعا بعدها حرمه الله على النار" رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان قال في سفر السعادة: وكان يفصل بين هذه الأربع بتسليمتين قال أمير المؤمنين علي: كان النبي صلى الله وسلم عليه يصلي قبل الظهر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن معهم من المسلمين والمؤمنين. رواه أحمد والترمذي محسنا اهـ. وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمر: أن النبي صلى الله وسلم عليه قال: "رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا" وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان وابن خزيمة. "وركعتان بعد المغرب" قال في سفر السعادة: وفي سنة المغرب سنتان: إحداهما أن لا يتكلم بينهما وبين الفريضة لما في الحديث: "من صلى ركعتين بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 المغرب". قال مكحول: يعني قبل أن يتكلم رُفعت صلاته في عليين. الثانية: أن تكون في البيت, دخل رسول الله صلى الله وسلم عليه مسجد بني الأشهل وصلى المغرب فلما فرغ رأى أهل المسجد اشتغلوا بصلاة السنة فقال: "هذه صلاة البيوت" وفي لفظ ابن ماجه: "اركعوا هاتين في بيوتكم". حاصله: أن عادة حضرة سيدنا رسول الله صلى الله وسلم عليه أنه كان يصلي جميع السنن في بيته إلا أن يكون بسبب وكان يقول: أيها الناس: "صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة" اهـ. وقال أيضا: وكان الصحابة يصلون قبل المغرب ركعتين ولم يمنعهم صلى الله وسلم عليه من ذلك وثبت في الصحيحين أنه صلى الله وسلم عليه قال: "صلوا قبل المغرب" وقال في الثالثة: "لمن شاء" كراهة أن يتخذها الناس سنة فصلاتها مندوبة مستحبة لكن لا تبلغ درجة الرواتب اهـ. "وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر" لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر قال: حفظت عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الغداة". وأخرج نحوه مسلم في صحيحه وأحمد والترمذي وصححه من حديث عبد الله بن شقيق, وأخرج نحوه مسلم وأهل السنن من حديث أم حبيبة ولا ينافي هذا ما تقدم من الدليل الدال على مشروعية أربع قبل الظهر وأربع بعده لأن هذه زيادة مقبولة وثبت في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر. وثبت في صحيح مسلم وغيره من حديثها: أن ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها, وفيهما أحاديث كثيرة. قال في سفر السعادة: وكان يحافظ على ركعتي الفجر بحيث إنه كان يواظب عليهما في السفر أيضا ولم يرو أنه صلى الله وسلم عليه صلى في السفر شيئا من السنن الرواتب إلا سنة الفجر وصلاة الوتر, وللعلماء في أفضلية سنة الفجر وصلاة الوتر قولان: قال بعضهم: سنة الفجر آكد, وقال بعضهم: بل الوتر, وكما أن الوتر واجب عند البعض كذا سنة الفجر تجب عند البعض, وقال بعض المشايخ: سنة الفجر ابتداء العمل والوتر ختم العمل فلا جرم صرفنا العناية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 لشأنهما ولهذا السبب شُرع فيهما قراءة سورة الإخلاص وسورة قل يا1 لاشتمالهما على توحيد العلم والعمل وتوحيد المعرفة والإرادة وتوحيد الاعتقاد والقصد كما بيناه في كتاب حاصل كورة الخلاص في فضائل سورة الإخلاص اهـ. "وصلاة الضحى" والأحاديث فيها متواترة عن جماعة من الصحابة وأقلها ركعتان كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما, وأكثرها اثنتا عشرة ركعة كما دلت على ذلك الأدلة وفي الحجة البالغة وللضحى ثلاث درجات أقلها ركعتان وفيها أنها تجزي عن الصدقات الواجبة على كل سلامي ابن آدم وثانيتها أربع ركعات وفيها عن الله تعالى: "يا ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره" وثالثها ما زاد عليها كثماني ركعات وثنتي عشرة, وأكمل أوقاته حين يرتحل النهار وترمض الفصال2 اهـ. "وصلاة الليل" والأحاديث فيها صحيحة متواترة لا يتسع المقام لبسطها قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} وقال صلى الله وسلم عليه: "صلوا بالليل والناس نيام" وكانت العناية بصلاة التهجد أكثر فبين صلى الله وسلم عليه فضائلها وضبط آدابها وأذكارها. قال: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وهو قربة لكم إلى ربكم مكفرة للسيئات منهاة عن الإثم" وغير ذلك. وأكثرها ثلاث عشرة ركعة, وقد كان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يصلي صلاة الليل على أنحاء مختلفة فتارة يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر بركعة وتارة يصلي أربعا أربعا وتارة يجمع بين زيادة على الأربع وذلك كله سنة ثابتة قال في الحجة البالغة: صلاها النبي صلى الله وسلم عليه على وجوه والكل سنة. قال في المنح قالت عائشة: ولا أعلم رسول الله صلى الله وسلم عليه قرأ القرآن كله في ليلة ولا قام ليلة حتى أصبح. اهـ. "يوتر في آخرها بركعة" إما منفردة أو منضمة إلى شفع قبلها. قال ابن القيم: ووردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الوتر بخمس متصلة وسبع متصلة كحديث أم سلمة كان رسول الله صلى الله وسلم عليه يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بسلام ولا كلام, رواه   1 يعني: " {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} " وهذا اختصار غريب لا معنى له. 2 "ترمض" بفتح الميم من باب "تعب" و"الفصال" جمع فصيل وهو ولد الناقة والمراد إذا وجد الفصيل حر الشمس من الرمضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 أحمد وكقول عائشة: كان رسول الله صلى الله وسلم عليه يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس إلا في آخرهن متفق عليه. وكحديث عائشة: أنه يصلي من الليل تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليماً يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة فلما أسن رسول الله صلى الله وسلم عليه وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأول, وفي لفظ عنها: فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة. وفي لفظ: صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن, وكلها أحاديث صحاح صريحة لا معارض لها فرُدّت بقوله صلى الله وسلم عليه: "صلاة الليل مثنى مثنى" وهو حديث صحيح ولكن الذي قاله هو الذي أوتر بالسبع والخمس وسنته كلها حق يصدق بعضها بعضا فالنبي صلى الله وسلم عليه أجاب السائل له عن صلاة الليل بأنها مثنى مثنى ولم يسأله عن الوتر, وأما السبع والخمس والتسع والواحدة فهي صلاة الوتر والوتر اسم للواحدة المنفصلة مما قبلها وللخمس والسبع والتسع المتصلة كالمغرب اسم للثلاث المتصلة فإن انفصلت الخمس والسبع بسلامين كالإحدى عشرة كان الوتر اسم الركعة المفصولة وحدها قال صلى الله وسلم عليه: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي الصبح أوتر بواحدة توتر له ما قد صلى" فاتفق فعله صلى الله وسلم عليه وقوله وصدق بعضه بعضا اهـ. والحق أن الوتر سنة هو أو كد السنن بينه علي وابن عمر وعبادة ابن الصامت وإليه ذهب أكثر العلماء إلا أبا حنيفة خاصة فإنه واجب على الصحيح عنده. وثلاث ركعات لا يزيد ولا ينقص قال في المسوى: وأقل الوتر ركعة في قول أكثرهم وأكثره إحدى عشرة أو ثلاث عشرة وأدنى الكمال ثلاث وما زاد فهو أفضل اهـ. وكان النبي صلى الله وسلم عليه إذا صلاها ثلاثا يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية: بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة: بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين. أقول: دلت الأخبار على أن وقت الوتر بعد الفراغ من العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر وهذا هو عين ما أفتى به أبو موسى وفتواه هي الثابتة عن رسول الله صلى الله وسلم عليه أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى وسلم عليه: "أوتروا قبل أن تصبحوا" وأخرج ابن حبان عنه صلى الله وسلم عليه أنه قال: "إذا طلع الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 والوتر فأوتروا قبل طلوع الفجر, والأحاديث في الباب كثيرة والأحاديث الثابتة في إيتاره صلى الله وسلم عليه بركعة أكثر من أن تحصى فهي صالحة لتخصيص ما هو من العمومات في أعلى طبقة فكيف بما لا صحة له قط؟ وحديث البتيراء لم يصح والذي ينبغي التعويل عليه في دفع الوجوب الأحاديث المصرحة بأن الوتر غير واجب والوتر عبادة عن آخر صلاة الليل, وقد ثبت في ذلك صفات متعددة بأحاديث صحيحة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. والحاصل: أن لصلاة الليل باعتبار وترها ثلاث عشرة صفة كما ذكر ذلك ابن حزم في المحلى فالقول بأن الوتر ثلاث ركعات فقط لا يجوز أن يكون الإيتار بغيرها ضيق عطن وقصور باع ولمثل هذا صار أكثر فقهاء العصر لا يعرفون الوتر إلا بأنها ثلاث ركعات بعد صلاة العشاء حتى إن كثيراً منهم يكون له قيام في الليل وتهجد فتراه يصلي الركعات المتعددة ويظن أن الوتر شيء قد فعله وأنه لا تعلق له بهذه الصلاة التي يفعلها في الليل وهو لايدري أن الوتر هو ختام صلاة الليل وأنه لا صلاة بعده إلا الركعتان المعروفتان بسنة الفجر وكثيرا ما يقع الإنسان في الابتداع وهو يظن أنه في الاتباع والسبب عدم الشغل بالعلم وسؤال أهل الذكر, وأما ما روي عن الحسن البصري أنه قال: أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن فإن أراد أن الإجماع وقع على هذا القدر وأنه لا يجوز الإيتار بغيره فهو من البطلان بمكان لا يخفى على عارف, فهذه الدفاتر الإسلامية الحاكية لمذاهب الصحابة الذين أدركهم الحسن البصري ولمذاهب التابعين الذين هو واحد منهم قاضية بخلاف هذه الحكاية وهي بين أيدينا, وإن أراد أن هذه الصفة هي إحدى صفات الوتر فنحن نقول بموجب ذلك فقد روي الإيتار بثلاث ولكنه روي النهي عن الإيتار بثلاث كما أوضح ذلك الماتن رح في شرح المنتقى فتعارضت رواية الثلاث ورواية النهي, والعالم بكيفية الاستدلال لا يخفى عليه الصواب وقد تقدم أن حديث البتيراء لا أصل له على أن النسخ لا يتم ادعاؤه إلا بعد معرفة التاريخ لأن الناسخ لا يكون إلا متأخرا بإجماع المسلمين القائلين بثبوت أصل النسخ في هذه الشريعة المطهرة فدعوى النسخ بمجرد الاحتمال مجازفة عظيمة ولا سيما إذا كان المدعي لذلك لم يتعب نفسه في علوم السنة المطهرة. وتحية المسجد لحديث: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أخرجه الجماعة من حديث أبي قتادة وفي ذلك أحاديث كثيرة وقد وقع الاتفاق على مشروعية تحية المسجد, وذهب أهل الظاهر إلى أنهما واجبتان وذلك غير بعيد وقد حقق الماتن المقام في شرح المنتقى وفي رسالة مستقلة. وصلاة الاستخارة وفيها أحاديث كثيرة منها: حديث جابر عند البخاري وغيره بلفظ: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: "إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني بت". قال: ويسمي حاجته. قال في الحجة البالغة: وعندي أن إكثار الاستخارة في الأمور ترياق مجرب بتحصل شبه الملائكة وضبط النبي صلى الله وسلم عليه آدابها ودعاءها فشرع ركعتين وعلّم اللهم إني أستخيرك الخ اهـ. "وركعتان بين كل أذان وإقامة" لحديث: "بين كل أذانين صلاة" قال ذلك ثلاث مرات ثم قال: "لمن شاء" وهو حديث صحيح والمراد بالأذانين الأذان والإقامة تغليبا كالقمرين والعمرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 باب صلاة الجماعة "هي من آكد السنن" وأعظم الشعائر الإسلامية وأفضل القرب الدينية لما ورد فيها من الترغيبات حتى إنه صلى الله وسلم عليه صرح بأنه تزيد على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة كما في الصحيحين ووقع منه الإخبار بأنه قد هم بأن يحرق على المتخلفين دورهم. قال ابن القيم: ولم يكن ليحرق مرتكب صغيرة فترك الصلاة في الجماعة هو من الكبائر اهـ. ولازمها صلى الله وسلم عليه من الوقت الذي شرعها الله تعالى فيه إلى أن قبضه الله تعالى إليه ولم يرخص صلى الله وسلم عليه في تركها لمن سمع النداء فإنه سأله الرجل الأعمى أن يصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال: "هل تسمع النداء –قال: نعم- قال: فأجب" وكل ما ذكرناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ثابت في الصحيح وثبت في الصحيح أيضا عن ابن مسعود أنه قال: لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. قال ابن القيم: هذا فوق الكبيرة اهـ. ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. أقول: أما كونها فريضة متحتمة فالأدلة متعارضة ولكن ههنا طريقة أصولية يجمع بها بين هذه الأدلة وهي أن أحاديث أفضلية الجماعة مشعرة بأن صلاة المنفرد مجزئة وهي أحاديث كثيرة مثل حديث: "الذي ينتطر الصلاة مع الإمام أفضل من الذي يصلي وحده ثم ينام" وهو في الصحيح ومنه حديث المسيء صلاته المشهور فإنه أمره بأن يعيد الصلاة منفردا ومنه حديث: "ألا رجل يتصدق على هذا" عند أن رأى رجلا يصلي منفردا ومن ذلك أحاديث التعليم لأركان الإسلام فإنه لم يأمر من علمه بأن لا يصلي إلا في جماعة مع أنه قال لمن قال له لا يزيد على ذلك ولا ينقص: "أفلح وأبيه إن صدق" ونحو ذلك من الأدلة فالجميع صالح لصرف: "فلا صلاة له" الواقع في الأحاديث الدالة على وجوب الجماعة إلى نفي الكمال لا إلى نفي الصحة. وأما ما وقع منه صلى الله وسلم عليه من الهم بتحريق المتخلفين فهو إن لم يكن قولا ولا فعلا ولا تقريرا لكنه لا يكون ما يهم به إلا جائزا ولا يجوز التحريق بالنار لمن ترك ما لم يفرض عليه فالجواب عنه قد بسطه شيخنا العلامة الشوكاني في شرح المنتقى قال في الحجة البالغة: لما كان في شهود الجماعة حرج للضعيف والسقيم وذي الحاجة اقتضت الحكمة أن يرخص في تركها عند ذلك ليتحقق العدل بين الإفراط والتفريط فمن أنواع الحرج: ليلة ذات برد ومطر ويستحب عند ذلك قول المؤذن: ألا صلوا في الرحال, ومنها حاجة يعسر التربص بها كالعشاء إذا حضر فإنه ربما يتشوف إليه, وربما يضيع الطعام وكمدافعة الأخبثين فإنه بمعزل عن فائدة الصلاة مع ما به من اشتغال النفس, ولا اختلاف بين حديث: "لا صلاة بحضرة الطعام" وحديث: "لا تؤخر الصلاة لطعام ولا غيره" إذ يمكن تنزل كل واحد على صورة أو معنى والمراد نفي وجوب الحضور سر الباب التعمق وعدم التأخير هو الوظيفة لمن أمن سر التعمق وذلك كتنزيل فطر الصائم وعدمه على الحالين أو التأخير إذا كان تشوف إلى الطعام أو خوف ضياع وعدمه إذا لم يكن كذلك مأخوذ من حال العلة, ومنها ما إذا كان خوف فتنة كامرأة أصابت بخورا ولا اختلاف بين قوله صلى الله وسلم عليه: "إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها" وبين ما حكم به جمهور الصحابة من منعهن إذ المنهي عنه الغيرة التي تنبعث من الأنفة دون خوف الفتنة والجائز ما فيه خوف الفتنة وذلك قوله صلى الله وسلم عليه: "الغيرة غيرتان" الحديث. وحديث عائشة: أن النساء أحدثن الحديث, ومنها الخوف والمرض والأمر فيهما ظاهر ومعنى قوله صلى الله وسلم عليه للأعمى: "أتسمع النداء" الخ أن سؤاله كان في العزيمة فلم يرخص له وتنعقد باثنين وليس في ذلك خلاف, وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس أنه صلى بالليل مع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وحده وقام عن يساره1 فأداره إلى يمينه. وإذا كثر الجمع كان الثواب أكثر لأنه قد ثبت عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم "ويصح بعد المفضول2" لأنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قد صلى بعد أبي بكر وبعد غيره من الصحابة كما في الصحيح ولعدم وجود دليل يدل على أنه يكون الإمام أفضل والأحاديث التي فيها: "لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه" ونحوها لا تقوم بها الحجة, وعلى فرض أنها تقوم بها الحجة فليس فيها إلا المنع من إمامة من كان ذا جرأة في دينه وليس فيها المنع من إمامة المفضول, وقد عورض ذلك بأحاديث تتضمن الإرشاد إلى الصلاة خلف كل بر وفاجر وخلف من قال لا إله إلا الله وهي ضعيفة وليست بأضعف مما عارضها, والأصل أن الصلاة عبادة تصح تأديتها خلف كل مصل إذا قام بأركانها وأذكارها على وجه لا تخرج به الصلاة عن الصورة المجزئة وإن كان الإمام غير متجنب للمعاصي ولا متورع عن كثير مما يتورع عنه غيره, ولهذا إن الشارع إنما اعتبر حسن القراءة والعلم والسن ولم يعتبر الورع والعدالة فقال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا".   1 الأصل: "وقعد" وهو خطأ فإن الحديث في الصحيحين وغيرهما: فقمت أصلي معه فقمت عن يساره فأخذ برأسي وأقامني عن يمينه. 2 استعمل المؤلف في أفعال الصلاة ويفعلها بعده ولكني لم أجد هذا الاستعمال في كتب اللغة ولا غيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي مسعود وفي حديث مالك بن الحويرث: "وليؤمكما أكبركما" وهو في الصحيحين وغيرهما, وقد استخلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم وهو أعمى. والحاصل: أن الشارع اعتبر الأفضلية في القراءة والعلم بالسنة وقدم الهجرة وعلو السن فلا ينبغي للمفضول في مثل هذه الأمور أن يؤم الفاضل إلا بإذنه ولا اعتبار بالفضل في غير ذلك. والأولى أن يكون الإمام من الخيار لحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله وسلم عليه: "اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم". رواه الدارقطني, وأخرج الحاكم في ترجمة مرثد الغنوي عنه صلى الله وسلم عليه: "إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم" قال في منح المنة: وكان صلى الله وسلم عليه يجيز إمامة الأرقاء وكان سالم مولى أبي حذيفة يصلي بالمهاجرين الأولين لما نزلوا بقباء1 لكونه أكثرهم قرآنا وكان صلى الله وسلم عليه يقول: "صلوا خلف كل بر وفاجر" وكانت الصحابة خلف الحجاج وقد أحصي الذين قتلهم من الصحابة والتابعين فبلغوا مائة ألف وعشرين ألفا اهـ. أقول: الأحاديث الواردة في الصلاة خلف كل بر وفاجر وما قابلها من الأحاديث المقضية للمنع من الصلاة خلف الفاجر ومن كان ذا جرأة لم يبلغ منها شيء إلى حد يجوز العمل عليه فوجب الرجوع إلى الأصل, وأما عدم اعتبار قيد العدالة فلعدم ورود دليل يدل عليه, وأما كون الصلاة خلف كامل العدالة واسع العلم كثير الورع أفضل وأحب فلا نزاع في ذلك إنما النزاع في كون ذلك شرطا من شروط الجماعة مع أنه قد ثبت ما يدل على عدم الاعتبار مثل حديث: "يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطؤوا فعلى أنفسهم" أو كما قال وهو حديث صحيح. والحاصل: أن الدين يسر وقد جاءنا صلى الله وسلم عليه بالشريعة السمحة السهلة ولم يأمرنا بالكشف عن الحقائق وسن أن نصلي بعد من كان بالنسبة إلى الواحد منا في الحضيض باعتبار المزايا الموجبة للفضل فإنه صلى الله وسلم عليه بعد أبي بكر وعتاب بن أسيد وهما بالنسبة إليه لا يعدان شيئا ولا ريب أن الذي ينبغي تقديمه لمثل هذه العبادة ليكون وافد المؤتمين به إلى الله هو من أرشد إليه   1 في المصباح: موضع بقرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الجنوب نحو ميلين وهو بضم القاف يقصر ويمد ويصرف ولا يصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 صلى الله وسلم عليه بقوله: "يؤم القوم أقرؤهم" إلى آخر الحديث إنما الشأن فيمن يلعب به الشيطان في الوسوسة المفضية إلى إساءة الظن بأئمة الصلاة المتبعين للسنة فيوقع في قلبه العداوة لكل واحد منهم بمجرد خيالات مختلة وضلالات مضلة فيقول له هذا العالم لا يصلح للإمامة لكونه كذا وهذا الفاضل لا يصلح لها لكونه كذا, ثم ينقله من درجة إلى درجة ومن واحد إلى واحد حتى لا يجد على ظهر البسيطة من يصلح لإمامة الصلاة فهذا مخدوع قد لعب به الشيطان كيف يشاء حتى أحرمه1 فضيلة الجماعة التي هي من أعظم شعائر الإسلام وأجل أسباب الأجور, ومع هذا فهو قد أوقعه في ورطة أخرى وهي حمل جميع المسلمين على غير السلامة فصار ظالما لكل واحد منهم مظلمة يستوفيها منه بين يدي الجبار, وقد ينضم إلى هذه المصائب أن هذا الذي صار في يد الشيطان يلعب به كيف يشاء قد يعتقد الفضل في نفسه وأن الإمامة لم تكن تصلح إلا له ولم يكن يصلح إلا لها فيجتنب الجماعة ولا يقتدي بأحد من المسلمين بل يجمع له جماعة يكون إمامهم فهو أسقى ممن قبله لأنه اعتقد أنه لم يبق في أرض الله من عباده الصلحاء سواه فلا حياه الله ولا بياه. "ويؤم الرجل بالنساء لا العكس" لحديث أنس في الصحيحين وغيرهما أنه صف هو واليتيم وراء النبي صلى الله وسلم عليه والعجوز من ورائهم وقد أخرج الإسماعيلي عن عائشة أنها قالت: كان النبي صلى الله وسلم عليه إذا رجع من المسجد صلى بنا وقد كانت النساء يصلين خلفه صلى الله وسلم عليه في مسجده وليس في صلاة النساء خلف الرجل مع الرجال نزاع وإنما الخلاف في صلاة الرجل بالنساء فقط, ومن زعم أن ذلك لا يصح فعليه الدليل, وأما عدم صحة إمامة المرأة بالرجل فلأنها عورة وناقصة عقل ودين و {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} "ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" كما ثبت في الصحيح ومن ائتم بالمرأة فقد ولاها أمر صلاته. "والمفترض بالمتنفل والعكس" لحديث معاذ أنه كان يؤم قومه بعد أن يصلي تلك الصلاة بعد النبي صلى الله وسلم عليه وهو في الصحيحين وغيرهما وهذا دليل على جواز ذلك لأنه كان متنفلا وهم مفترضون لما في بعض الروايات من تصريح معاذ بأنه كان يصلي بقومه متنفلا وهذه الزيادة المصرحة بالمطلوب وإن كان فيها مقال معروف لكنها معتضدة بما عرف من   1 حرمه الشيء من باب ضرب منعه منه وتعدى لمفعولين قال في المصباح: وأحرمته لغة فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 حرص الصحابة على الأوفر أجرا والأكمل ثوابا ولا شك أن الصلاة خلفه صلى الله وسلم عليه أفضل وأكمل وأتم, وأما الجواب عن حديث معاذ بأنه حكاية فعل فساقط لاستلزامه لبطلان قسم من أقسام السنة المطهرة وهو قسم الأفعال الذي دارت عليه رحى بيانات القرآن وجماهير من أحكام الشريعة مع أن هذا الاعتذار غير نافع ههنا لأن الحجة هي تقريره صلى الله وسلم عليه لمعاذ ولقومه على ذلك لا نفس فعل معاذ حتى يعتذر عنه بذلك, وأما الجواب بأن فعل آحاد الصحابة لا يكون حجة فكلام صحيح ولكن الحجة ليست فعل معاذ بل تقريره صلى الله وسلم عليه كما عرفت وهذا من الوضوح بمكان لا يخفى. والحاصل: أن الأصل صحة الاقتداء من كل مصل بكل مصل فمن زعم أن ثمّ مانعاً في بعض الصور فعليه الدليل فإن نهض به صح ما يقوله وإن لم ينهض به بطل وأما صلاة المتنفل بعد المتنفل فكما فعله صلى الله وسلم عليه في صلاة الليل وصلى معه ابن عباس وكذلك صلاته بأنس واليتيم والعجوز وغير ذلك والكل ثابت في الصحيح ويجب المتابعة في غير مبطل لحديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" وهو ثابت في الصحيح من حديث أبي هريرة وأنس وجابر وثابت خارج الصحيح عن جماعة من الصحابة, وورد الوعيد على المخالفة كحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله وسلم عليه: "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يحول صورته صورة حمار" أخرجه الجماعة ولا يتابعه في شيء يوجب بطلان صلاته نحو أن يتكلم الإمام أو يفعل أفعالاً تخرجه عن صورة المصلي, ولا خلاف في ذلك. قال في المسوى: هو كذلك عند الجمهور أنه يجب اتباع الإمام في جميع الحالات. وقوله: "إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً" منسوخ1. ومعنى كان الناس يصلون بصلاة أبي بكر على الصحيح أنه كان مسمعا   1 دعوى النسخ هنا لا دليل عليها أصلا بل قد ثبت في الصحيح وغيرهما من حديث عائشة مرفوعا: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" وكان ذلك إذ قام وراءه قوم يصلون وهو يصلي جالسا فأشار إليهم أن اجلسوا وفيهما عن أنس مرفوعا أيضا: إنما جعل الإمام ليؤتم به ... وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون" وفي صحيح مسلم من حديث جابر: "اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا فلما سلم قال إن كنتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا" وهو معنى قد يكون متواترا في السنة وممن قال بصلاة المأموم قاعدا جابر وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس ين فهد من الصحابة. وأحمد وإسحاق والأوزاعي وابن المنذر وداود وابن أبي شيبة والبخاري ومحمد بن نصر ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومن تبعهم من أهل الحديث. وادعى مخالفوهم النسخ بصلاته صلى الله عليه وسلم في مرض موته بالناس قاعدا وأبو بكر والناس خلفه قياما, رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة. وهذا فعل محتمل أن يكون لبدئهم الصلاة قائمين خلف إمام صلى بهم قائما وهو أبو بكر فلم يجز لهم أن يرجعوا إلى القعود وقد انعقدت صلاتهم بالقيام, ثم إن روايات الحديث مختلفة في أنه كان إماما أو صلى خلف أبي بكر فقد روى ابن خزيمة في صحيحه عن عائشة قالت: من الناس من يقول كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم المقدم. والروايات في هذا متضاربة وهي تدل على أن عائشة سمعت بهذا من الصحابة فاختلفوا عليها ولم تشاهد بنفسها فمرة تجزم ومرة تشك. ولا يترك المحكم الثابت بأشد تأكيد بفعل غير متيقن صفته والأمر بالجلوس منصوص على سببه وهو النهي عن التشبه بفارس والروم في قيامهم على ملوكهم وهذا سبب لا يزول فرضه عن الناس فقد جاء الإسلام قاضيا على هذه الرسوم التي أضعفت تلك الأمم وقد فعل الصحابة ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى جابر وهو مريض جالسا وصلوا معه جلوسا كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح وكذلك أسيد بن حضير وقيس بن فهد. وأما حديث: "لا يؤمن أحد بعدي جالسا" فإنه حديث ضعيف جدا ودعوى الخصوصية لا تثبت إلا بدليل صحيح. والحق أن الإمام إذا صلى جالسا لمرض وجب على القتدين الصلاة جلوسا كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 لمن خلفه في العالمكيرية إذا رفع المقتدي رأسه من الركوع والسجود قبل الإمام ينبغي أن يعود ولا يصير ركوعين وسجودين. قلت عامة أهل العلم على أن هذا الفعل منهي عنه وصلاته مجزئة وأكثرهم يأمرونه بأن يعود إلى السجود. "ولا يؤم الرجل قوما هم له كارهون" لحديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة من يقدم قوماً وهم له كارهون ورجل أتى الصلاة دباراً ورجل اعتبد محررة" أخرجه أبو داود وابن ماجه وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وفيه ضعف, وأخرج الترمذي من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق حتى يرجع وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وإمام قوم وهم له كارهون" وقد حسنه الترمذي وضعفه البيهقي. قال النووي في الخلاصة: والأرجح قول الترمذي وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة يقوي بعضها بعضا. أقول: ظاهر الأحاديث الواردة في الترهيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 عن ذلك أنه لا فرق بين كون الكارهين من أهل الفضل أو من غيرهم فيكون مجرد حصول الكراهة عذرا لمن كان يصلح للإمامة في تركها وغالب الكراهات الكائنة بين هذا النوع الإنساني خصوصا في هذه الأزمنة راجعة إلى أغراض دنيوية والراجع هنا إلى أغراض دينية أقل قليل ومع كونه كذلك فغالبه صادر عن اعتقادات فاسدة وخيالات مختلفة كما يقع بين المتخالفين في المذاهب فإن العصبية الناشئة بينهم تعمي بصائرهم عن الصواب فلا يقيم أحدهم للآخر وزنا ولا ينظر إليه إلا بعين السخط لا بعين الرضا فيرى محاسنه مساويء كائنة ما كانت, وقد تقع هذه العداوة بين أهل مذهب واحد باعتبار الاختلاف في كون أحدهم من المشتغلين بالدين والعلم والآخر من الجهلة المتهتكين وكثيرا ما ترى أرباب المعاصي إذا رأوا أرباب الدين والعلم تضيق بهم الأرض بطولها والعرض ولا يطيقونهم بغضا فإن كان ثَمّ دليل يدل على تخصيص الكراهة بما كان منها راجعاً إلى ما هو مختص بالله عز وجل كمن يكره إنسانا لكونه مكبا على المعاصي أو متهاونا بما أوجبه الله عليه فهذه الكراهة هي الكبريت الأحمر لا توجد حقيقتها إلا عند أفراد من العباد وإن لم يوجد دليل يخصص الكراهة بذلك فالأولى لمن عرف أن جماعة من الناس يكرهونه لا لسبب أو لسبب ديني أن لا يؤمهم وأجره في الترك يفضل أجره في الفعل. "ويصلي بهم صلاة أخفهم" لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء" وفي الباب أحاديث صحيحة واردة في التخفيف. قال في الحجة: وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يطول ويخفف على ما يرى من المصلحة الخاصة بالوقت واختار بعض السور في بعض الصلوات لفوائد من غير حتم ولا طلب مؤكد فمن اتبع فقد أحسن ومن لا فلا حرج, وقصة معاذ في الإطالة مشهورة انتهى حاصله. وأما ارتفاع الإمام عن المأموم فلا يضر قدر القامة ولا فوقها لا في المسجد ولا في غيره من غير فرق بين الارتفاع والانخفاض والبعد والحائل ومن زعم أن شيئا من ذلك تفسد به فعليه الدليل ولا دليل إلا ما روي عن حذيفة أنه أم الناس بالمدائن على دكان الحديث أخرجه أبو داود وصححه ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 خزيمة وابن حبان والحاكم, وفي رواية للحاكم التصريح برفعه ورواه أبو داود من وجه آخر وفيه قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله وسلم عليه يقول: "إذا أمّ الرجل القوم فلا يقم أرفع من مقامهم أو نحو ذلك" الحديث وفي إسناده الرجل المجهول, ورواه البيهقي أيضا ففي هذين الحديثين دليل على منع الإمام من الارتفاع عن المؤتم ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه لحديث صلاته صلى الله وسلم عليه على المنبر كما في الصحيحين وغيرهما, ومن قال إنه صلى الله وسلم عليه فعل ذلك للتعليم كما وقع في آخر الحديث فلا يفيده ذلك لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي صلى الله وسلم عليه, وقد جمع الماتن رح تعالى في هذا البحث رسالة مستقلة جوابا عن سؤال بعض الأعلام فمن أحب تحقيق المقام فليرجع إليها, ويقدم السلطان ورب المنزل لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو مرفوعاً: "لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه" وفي لفظ: "لايؤمن الرجل الرجل في أهله ولا سلطانه" وورد تقييد جواز ذلك بالإذن وفي لفظ لأبي داود: "لا يُؤم الرجل في بيته" وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن مالك بن الحويرث قال: سمعت رسول الله صلى الله وسلم عليه يقول: "من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم". والأقرأ ثم الأعلم ثم الأسن لما في حديث أبي مسعود بلفظ: "يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا" وه وفي الصحيح وإنما لم يذكر الهجرة في المتن لأنه لا هجرة بعد الفتح كما في الحديث الصحيح, وإذا اختلت صلاة الإمام كان ذلك عليه لا على المؤتمين به لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله وسلم عليه: "يصلون بكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطؤوا فلكم وعليهم" أخرجه البخاري وغيره وأخرج ابن ماجه من حديث سهل بن سعد نحوه. وموقفهم أي المؤتمين خلفه أي خلف الإمام إلا الواحد فعن يمينه لحديث جابر بن عبد الله أنه صلى مع النبي صلى الله وسلم عليه فجعله عن يمينه ثم جاء آخر فقام عن يسار النبي صلى الله وسلم عليه فأخذ بأيديهما فدفعهما حتى أقامهما خلفه, وهو في الصحيح. وقد كان هذا فعله وفعل أصحابه في الجماعة يقف الواحد عن يمين الإمام والإثنان فما زاد خلفه وقد ذهب الجمهور إلى وجوب ذلك وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 سعيد بن المسيب: إنه مندوب فقط وروي عن النخعي أن الواحد يقف خلف الإمام. وإمامة النساء وسط الصف لما روي من فعل عائشة أنها أمّت النساء فقامت وسط الصف أخرجه عبد الرزاق والدارقطني والبيهقي وابن أبي شيبة والحاكم وروي مثل ذلك عن أم سلمة أخرجه الشافعي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق والدارقطني قال ابن القيم في المسند والسنن من حديث عبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة بنت الحرث: أن رسول الله صلى الله وسلم عليه كان يزورها في بيتها وجعل لها مؤذنا كان يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها. قال عبد الرحمن: فأنا رأيت مؤذنها شيخا كبيرا. ولو لم يكن في المسألة إلا عموم قوله صلى الله وسلم عليه: "تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" لكفى وأخرج البيهقي بسنده عن عائشة أن رسول الله صلى الله وسلم عليه قال: "لا خير في جماعة النساء إلا في صلاة أو جنازة" والاعتماد على ما تقدم فرُدّت هذه السنن بالمتشابه من قوله صلى الله وسلم عليه: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" رواه البخاري, وهذا إنما هو في الولاية والإمامة العظمى والقضاء. وأما الرواية والشهادة والفتيا والإمامة فلا تدخل في هذا ومن العجب أن من خالف هذه السنة جوّز للمرأة أن تكون قاضية تلي أمور المسلمين فكيف أفلحوا وهي حاكمة عليهم ولم تفلح أخواتها من النساء إذا أمتهن انتهى حاصله. "وتقدم صفوف الرجال ثم الصبيان ثم النساء" لحديث أبي مالك الأشعري: أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يجعل الرجال قدّام الغلمان والغلمان خلفهم والنساء خلف الغلمان. أخرجه أحمد وأخرج بعضه أبو داود وفي إسناده شهر ابن حوشب1 ويؤيده ما في الصحيحين من حديث أنس: أنه قام هو واليتيم خلف النبي صلى الله وسلم عليه وأم سليم خلفهم "و" أما كون "الأحق بالصف الأول" هم أولو الأحلام والنهى فلحديث أبي مسعود الأنصاري الثابت في الصحيح أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه. قال في الحجة: ولئلا يشق على أولي الأحلام تقدم من دونهم عليهم انتهى. "و"   1 شهر بن حوشب ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 أما كون الأمر على الجماعة أن يسووا صفوفهم وأن يسدوا الخلل1 فلما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "وسِّطوا الإمام وسدوا الخلل" وفي الصحيحين من حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة" , وعنه أيضا في الصحيحين كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر فيقول: "تراصوا واعتدلوا" وثبت في الصحيح من حديث نعمان بن بشير أنه قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "عباد الله لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم". قلت: وهو قول أهل العلم: أن تسوية الصفوف سنة وأن يتموا الصف الأول ثم الذي يليه ثم كذلك لما ورد في الأحاديث الصحيحة من أمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بإتمام الصف الأول ثم الذي يليه ثم كذلك فالسنة أن لا يقف المؤتم في الصف الثاني وفي الصف الأول سعة ثم لايقف في الصف الثالث وفي الصف الثاني سعة ثم كذلك, وورد أيضا أن الوقوف يمنة الصف أولى وأفضل, وأما الاعتداد بالركعة التي لحق الإمام فيها راكعا ففيه خلاف لجماعة من الأئمة والحق عدم الاعتداد بها بمجرد إدراك ركوعها من دون قراءة الفاتحة2 ومن أراد الوقوف على الحقيقة فليراجع إلى شرح المنتقي وطيب النشر والسيل الجرار وحاشية الشفاء والفتح الرباني ودليل الطالب, فالمسألة من المعارك. وأما جعل ما أدركه مع الإمام أول صلاته فهذا هو الحق فالهيئة المشروعة في الصلاة لا تتغير بتقديم أو تأخير بل الأصل الأصيل البقاء على الصفة المشروعة فيفعل الداخل مع الإمام بعد أن فاته بعض الركعات ما يفعله لو كان داخلا معه في الابتداء أو كان منفرداً وحديث: "فاقضوا" وإن كان صحيحاً فحديث: "أتموا" أصح منه, وقد أمكن الجمع بجعل معنى القضاء على التمام لأنه أحد معانيه3 ولكن يترك المؤتم مخالفة إمامه في   1 الخلل بفتحتين الفرجة بين الشيئين والجمع خلال مثل جبل وجبال. قاله في المصباح. 2 كان الأولى بهذه المسألة أن تذكر عند الكلام على وجوب قراءة الفاتحة, انظر نيل الأوطار 3: 240-243. والذي نراه أن من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة, رواه الحاكم في المستدرك: 1: 216, 273. وصححه ووافقه الذهبي. 3 بل إن الأصل في معنى القضاء هو الإتمام: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الأركان فلا يقعد في موضع ليس بموضع قعود للإمام وإن كان موضع قعود له ولا يدع القعود في موضع قعود للإمام وإن لم يكن موضع قعود له؛ لأن الاقتداء والمتابعة لا زمان في صلاة الجماعة وتركهما يخرج الصلاة عن كونها صلاة جماعة, وقد ورد الأمر بالمتابعة في الأركان بيانا لقوله: "لا تختلفوا على إمامكم" ولم يرد الأمر بذلك في الأذكار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 باب سجود السهو سنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما إذا قصّر الإنسان في صلاته أن يسجد سجدتين تداركاً لما فرّط ففيه شبه القضاء وشبه الكفارة والمواضع التي ظهر فيها النص أربعة وسيأتي قال في سِفر السعادة: من جملة منن الحق تعالى ونعمه على الأمة المحمدية أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يسهو في الصلاة لتقتدي الأمة به في التشريع وإذ ذاك يقول: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني" وقال: "إنما أَنسى أو أُنسى لأسُنّ" يعني لأسُنّ ما شُرع في جبر ذلك انتهى. "هو سجدتان قبل التسليم أو بعده" ووجه التخيير أن النبي صلى الله وسلم عليه صح عنه أنه سجد قبل التسليم وصح عنه أنه سجد بعده, أما ما صح عنه مما يدل على أنه قبل التسليم فحديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه قال: سمعت رسول الله صلى الله وسلم عليه يقول: "إذا شك أحدكم فلم يدر أواحدة صلى أم ثنتين فليجعلها واحدة وإذا لم يدر ثنتين صلى أم ثلاثا فليجعلها ثنتين وإذا لم يدر ثلاثا صلى أم أربعا فليجعلها ثلاثا ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس قبل أن يسلم سجدتين". وفي الباب أحاديث منها: ما هو في الصحيح كحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله وسلم عليه: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدركم صلى ثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما تستيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم" ومنها ما هو في غير الصحيحين, وأما ما صح عنه مما يدل على أنه بعد التسليم فكحديث ذي اليدين الثابت في الصحيحين فإن فيه أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سجد بعدما سلم وحديث ابن مسعود وهو في الصحيحين وغيرهما مرفوعا بلفظ: "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين" وحديث المغيرة بن شعبة: أنه صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 بقوم فترك التشهد الأوسط فلما فرغ من صلاته سلم ثم سجد سجدتين وسلم وقال: هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد والترمذي وصححه, وحديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة فقال: "لا وما ذاك" فقالوا: صليت خمسا فسجد سجدتين بعد ما سلم. فهذه الأحاديث المصرحة بالسجود تارة قبل التسليم وتارة بعده تدل على أنه يجوز جميع ذلك ولكنه ينبغي في موارد النصوص أن يفعل كما أرشد إليه الشارع فيسجد قبل التسليم فيما أرشد إلى السجود فيه قبل التسليم ويسجد بعد التسليم فيما أرشد فيه إلى السجود بعد التسليم وما عدا ذلك فهو بالخيار والكل سنة. قال في سفر السعادة: وسجد للسهو قبل السلام في بعض المواضع وبعده في بعضها فجعله الإمام الشافعي في كل حال قبل السلام والإمام أبو حنيفة جعله بعد السلام في كل حال, وقال الإمام مالك: يسجد لسهو النقصان قبل السلام ولسهو الزيادة في الصلاة بعد السلام وإن اجتمع سهوان أحدهما زائد والآخر ناقص يسجد لهما قبل السلام, وقال الإمام أحمد: يسجد قبل السلام في المحل الذي سجد فيه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قبل السلام وما عداه يسجد للسهو بعد السلام, وقال داود الظاهري: لا يسجد للسهو إلا في هذه المواطن الخمس التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو سها في غيرها لا يسجد للسهو ولم يعرض له صلى الله عليه وآله وسلم الشك في الصلاة لكن قال: من شك فليبن على اليقين ولم يعتبر الشك ويسجد للسهو قبل السلام, وقال الإمام أبو حنيفة: إن كان له ظن بنى علي غالب ظنه وإن لم يكن له ظن بنى على اليقين, وقال الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد: بنى على اليقين مطلقا انتهى. ولا يشك منصف أن الأحاديث الصحيحة مصرحة بأنه كان يسجد في بعض الصلوات قبل السلام وفي بعضها بعد السلام فالجزم بأن محلهما بعد السلام فقط طرح لبعض الأحاديث الصحيحة لا لموجب إلا لمجرد مخالفتها لما قاله فلان أو فلان كما أن الجزم بأن محلهما قبل التسليم فقط طرح لبعض الأحاديث الصحيحة لمثل ذلك والمذاهب في المسألة منتشرة قد بسطها الماتن في شرح المنتقى والحق عندي أن الكل جائز وسنة ثابتة والمصلي مخير بين أن يسجد قبل أن يسلم أو بعد أن يسلم وهذا فيما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 من السهو غير موافق للسهو الذي سجد له صلى الله وسلم عليه قبل السلام أو بعده, وأما في السهو الذي سجد له صلى الله وسلم عليه فينبغي الاقتداء به في ذلك وإيقاع السجود في المواضع الذي أوقعه فيه صلى الله تعالى عليه وسلم مع الموافقة في السهو وهي مواضع محصورة مشهورة يعرفها من له اشتغال بعلم السنة المطهرة. وأما كون سجود السهو بإحرام وتشهد وتحليل فقد ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كبّر وسلّم كما في حديث ذي اليدين الثابت في الصحيح وفي غيره من الأحاديث, وأما التشهد فلحديث عمران ابن حصين أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم, أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين, وقد روي نحو ذلك من حديث المغيرة وابن مسعود وعائشة, وأما كونه يشرع لترك مسنون فلحديث سجوده صلى الله تعالى عليه وسلم لترك التشهد الأوسط ولحديث: "لكل سهو سجدتان" والكلام فيه معروف ونحو ذلك إذا كان ذلك المسنون تركه المصلي سهوا لأنه قد ثبت أن سجود السهو فيه ترغيم للشيطان كما في حديث أبي سعيد الثابت في الصحيح ولا يكون الترغيم إلا مع السهو لأنه من قبل الشيطان, وأما مع العمد فهو من قبل المصلي وقد فاته ثواب تلك السنة. قلت: مذهب أبي حنيفة والشافعي أن من سلم من ركعتين ساهيا أتم وسجد سجدتين وهو في مذهب أبي حنيفة خاص بمن سلم على رأس الركعتين على ظن أنهما أربعة فلو سلم على رأسهما على ظن أنهما جمعة أو على أنه مسافر فإنه يستقبل الصلاة كذا في العالمكيرية في فصل المفسدات واستخرج له الشافعي علة وهي فعل شيء يبطل الصلاة عمده دون سهوه. أقول: ما وقع من اصطلاح الفقهاء على تسميته هيئة هو لا يخرج به عن كونه مندوبا وتخصيص وجوب السجود للسهو بترك ما كان مسنونا دون ما كان مندوبا لا دليل عليه ولا سيما وهذه الأسماء إنما هي اصطلاحات حادثة وإلا فالمسنون والمندوب إليه معناهما لغة أعم من معناهما اصطلاحا, وأيضا الفرق بين المسنون والمندوب إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 هو اصطلاح لبعض أهل الأصول دون جمهورهم وغاية ما هناك أن المسنون هو المندوب المؤكد وصدق اسم السهو على ترك المندوب كصدقه على ترك المسنون فيندرج تحت حديث: "لكل سهو سجدتان" وتحقق الزيادة والنقص حاصل لكل واحد منهما فمدعي التفرقة بينهما مطالب بالدليل ولا ريب أن بعض ما عدوه من الهيئات لا يتحقق مثل ترك نصب القدم وترك وضع اليدين. وأما كونه يشرع للزيادة ولو ركعة سهوا فللحديث المتقدم وما دون الركعة بالأولى قال في المسوى: عند الحنفية إن سها عن القعدة الآخرة وقام إلى الخامسة رجع إلى القعدة ما لم يسجد وتشهد ثم سجد للسهو وإن قيد الخامسة بالسجدة بطل فرضه ولو قعد في الرابعة ثم قام ولم يسلم عاد إلى القعدة ما لم يسجد للخامسة وسلم وسجد للسهو وإن قيدها بالسجدة تم فرضه فيضم إليها ركعة أخرى لتكونا تطوعا فإن لم يضم وقطع الصلاة لم يلزمه القضاء لأنه إنما شرع ظنا, وعند الشافعية في أية حالة ذكر أنها خامسة قعد وألغى الزائد وراعى ترتيب الصلاة مما قبل الزائد ثم سجد للسهو وفي معنى الركعة عنده الركوع والسجود ويتجه على مذهب الحنفية أن يقال في حديث ابن مسعود: أنه حكاية حال فلعله قام بعد القعدة ولم يضم السادسة لبيان أنه غير واجب انتهى. "و" أما "للشك في العدد" ففيه الأحاديث المتقدمة المصرحة بأن من شك في العدد بنى على اليقين وسجد للسهو قال في الحجة البالغة: وهو الأول من المواضع الأربع التي ظهر فيها النص وفي معناه الشك في الركوع والسجود, والثاني زيادة الركعة كما سبق وفي معناه زيادة الركن, والثالث أنه صلى الله وسلم عليه سلم من ركعتين فقيل له في ذلك فصلى ما ترك وسجد سجدتين, وأيضا روي أنه سلم وقد بقي عليه ركعة بمثله وفي معناه أن يفعل سهوا ما يبطل عمده, الرابع أنه صلى الله وسلم عليه قام من الركعتين كما مر وفي معناه ترك التشهد في القعود, وقوله صلى الله وسلم عليه: "إذا قام الإمام من الركعتين فإن ذكر قبل أن يستوي قائما فليجلس وإن استوى قائما فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو". أقول: في الحديث دليل على أن من كان قريب الاستواء ربما يستوي فإنه لا يجلس خلافا لما عليه العامة انتهى. وفي المسوى اختلفوا في ذلك فعند الشافعية إذا شك في صلاته بنى على اليقين وهو الأقل سواء كان شك في ركعة أو ركن, وعند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الحنفية إن كان ذلك أول مرة سها يستقبل الصلاة وإن كان يعرض له كثيرا بنى على أكبر رأيه لحديث ابن مسعود: "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب" وقال أحمد: يطرح الشك إما بأخذ الأقل وإما بالتحري فإن اختار الأول سجد قبل السلام وإن اختار الثاني سجد بعده انتهى. وإذا سجد الإمام تابعه المؤتم لأن ذلك من تمام الصلاة ولأنه كان يسجد الصحابة إذا سجد النبي صلى الله وسلم عليه وقد ورد الأمر بمتابعة الإمام كما سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 باب القضاء للفوائت "إن كان الترك عمدا لا لعذر فدين الله تعالى أحق أن يقضى" وقد اختلف أهل العلم في قضاء الفوائت المتروكة لا لعذر فذهب الجمهور إلى وجوب القضاء, وذهب داود الظاهري وابن حزم وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه لاقضاء على العامد غير المعذور بل قد باء بإثم ما تركه من الصلاة, وإليه ذهب شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ولم يأت الجمهور بدليل يدل على ذلك ولم أجد أنا دليلا لهم من كتاب ولا سنة إلا ما ورد في حديث الخثعمية حيث قال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "فدين الله أحق أن يقضى" وهو حديث صحيح وفيه من العموم الذي يفيده المصدر المضاف ما يشمل هذا الباب فهذا الدليل ليس بأيدي الموجبين سواه1, وقد اختلف أهل الأصول هل القضاء يكفي فيه دليل وجوب المقضى أم لا بد من دليل جديد يدل على وجوب القضاء والحق أنه لا بد من دليل جديد لأن إيجاب القضاء هو تكليف مستقل غير تكليف الأداء ومحل الخلاف هو الصلاة المتروكة لغيرعذر عمدا, وأقول: حكمه ما في الأحاديث الصحيحة "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويحجوا البيت ويصوموا رمضان فمن فعل ذلك فقد عصم دمه وماله إلا بحقه" , ومن لم يفعل فلا عصمة لدمه وماله بل نحن مأمورون بقتاله كما أمر رسول الله صلى الله وسلم عليه والمقاتلة تستلزم القتل ثم التوبة مقبولة فتارك الصلاة إن تاب وأناب وجب علينا أن نخلي سبيله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ   1 وهو كاف تماما للدلالة على وجوب القضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فمن علمنا أنه ترك صلاة من الصلوات الخمس وجب علينا أن نؤذنه بالتوبة فإن فعل فذاك وإن لم يفعل قتلناه حكم الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} , وأما إطلاق اسم الكفر عليه فقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة وتأويلها لم يوجبه الله علينا ولا أذن لنا فيه ومن غرائب بعض الفقهاء التردد في إطلاق اسم الفسق عليه معللا ذلك بأن التفسيق لا يجوز إلا بدليل قطعي مع أنه يرمي بالكفر من خالفه في أدنى معتقداته التي لم يأذن الله لنا باعتقادها فضلا عن التكفير بها والله المستعان. وأما كيفية القضاء فأقول: لا شك أن تقديم المقضية على المؤداة وتقديم الأولى من المقضيات على الأخرى هو الأولى والأحب ولو لم يرد في ذلك إلا فعله صلى الله وسلم عليه في يوم الخندق لكان فيه كفاية وإنما الشأن في كون ذلك متحتما لا يجوز غيره, وإن كان أي الترك لعذر من نوم أو سهو أو نسيان أو اشتغال بملاحمة القتال مع عدم إمكان صلاة الخوف والمسايفة فليس بقضاء بل تجب تأدية تلك الصلاة المتروكة عند زوال العذر وذلك وقتها وفعلها فيه أداء كما يفيد ذلك أحاديث: "من نام عن صلاة أو سها عنها فوقتها حين يذكرها" وقد تقدمت في أول كتاب الصلاة وفي ذلك خلاف والحق أن ذلك هو وقت الأداء لا وقت القضاء للتصريح منه صلى الله وسلم عليه أن وقت الصلاة المنسية أو التي نام عنها المصلي وقت الذكر, وأما المتروكة لغير نوم وسهو كمن يترك الصلاة لاشتغاله بالقتال كما سبق فقد شغل النبي صلى الله وسلم عليه وأصحابه يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر وما صلوهما إلا بعد هوي1 من الليل كما أخرجه أحمد والنسائي من حديث أبي سعيد وهو في الصحيحين من حديث جابر وليس فيه ذكر الظهر بل العصر فقط ولذلك قال الماتن: بل أداء في وقت زوال العذر إلا صلاة العيد المتروكة العذر وهو عدم العلم بأن ذلك اليوم يوم عيد. "ففي ثانيه" أي تفعل في اليوم الثاني ولا تفعل في يوم العيد بعد خروج الوقت إذا حصل العلم بأن ذلك اليوم يوم عيد لحديث عمير بن أنس عن عمومة له: أنه غم عليهم الهلال فأصبحوا صياما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول   1 الهوي بفتح الهاء وكسر الواو وتشديد الياء المثناة التحية الحين الطويل من الزمان أو الساعة الممتدة الليل وقيل هو خاص بالليل، وحكى فيه ابن سيده ضم الهاء أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمر الناس أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد. أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم والخطابي وابن حجر في بلوغ المرام. أقول: وأما الكافر إذا أسلم فلا يجب عليه القضاء على كل حال لأن القائل بأنه غير مخاطب بالشرعيات ينفي عنه الوجوب حال الكفر والقائل أنه مخاطب يجعل الخطاب باعتبار الثواب والعقاب لا باعتبار وجوب الأداء أو القضاء, فالإسلام يجب ما قبله بلا خلاف والظاهر أن المرتد حكمه حكم غيره من الكفار في عدم وجوب القضاء لأن الدليل يصدق عليه كما يصدق على غيره من الكفار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 باب صلاة الجمعة "تجب على كل مُكلَّف" لأن الجمعة فريضة من فرائض الله تعالى وقد صرح بذلك كتاب الله عز وجل وما صح من السنة المطهرة كحديث أنه صلى الله وسلم عليه هم بإحراق من يتخلف عنها وهو في الصحيح من حديث ابن مسعود وكحديث أبي هريرة: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين" أخرجه مسلم وغيره, ومن ذلك حديث حفصة مرفوعا: "رواح الجمعة واجب على كل محتلم" أخرجه النسائي بإسناد صحيح وحديث طارق بن شهاب: "الجمعة حق واجب على كل مسلم" أخرجه أبو داود وسيأتي, وقد واظب عليها النبي صلى الله وسلم عليه من الوقت الذي شرعها الله تعالى فيه إلى أن قبضه الله عز وجل, وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أنها فرض عين, وقال ابن العربي: الجمعة فرض بإجماع الأم, ة وقال ابن قدامة في المغني: أجمع المسلمون على وجوب الجمعة وإنما الخلاف هل هي من فروض الأعيان أو من فروض الكفايات؟ ومن نازع في فرضية الجمعة فقد أخطأ ولم يصب. قال في المسوى: اتفقت الأمة على فرضية الجمعة وأكثرهم على أنها من فروض الأعيان واتفقوا على أنه لا جمعة في العوالي وأنه يشترط لها الجماعة وأن الوالي إن حضر فهو الإمام, ثم اختلفوا في الوالي وشرط الموضع والجماعة قال الشافعي: كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلا أحرارا مقيمين تجب عليهم الجمعة ولا تنعقد إلا بأربعين رجلا كذلك والوالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ليس بشرط, وقال أبو حنيفة: لا جمعة إلا في مصر جامع أو في فنائه وتنعقد بأربعة والوالي شرط, وقال مالك: إذا كان جماعة في قرية بيوتها متصلة وفيها سوق ومسجد يجمع فيه وجبت عليهم الجمعة وفي مختصر ابن الحاجب لا تجزيء الأربعة ونحوها ولا بد من قوم تتقرى بهم القرية ولا يشترط السلطان على الأصح. قال في العالمكيرية: القروي إذا دخل المصر ونوى أن يخرج في يومه ذلك قبل دخول الوقت أو بعد دخوله لا جمعة عليه انتهى. إلا المرأة والعبد والمسافر والمريض لحديث: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض" أخرجه أبو داود من حديث طارق بن شهاب عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد أخرجه الحاكم من حديث طارق عن أبي موسى قال الحافظ: وصححه غير واحد, وفي حديث أبي هريرة وحديث جابر ذكر المسافر وفي الحديثين مقال معروف والغالب أن المسافر لا يسمع النداء وقد ورد أن الجمعة على من سمع النداء كما في حديث ابن عمر وعند أبي داود قال في المسوى: واتفقوا على أنه لا جمعة على مريض ولا مسافر ولا امرأة ولا عبد وأنه إن صلاها منهم أحد سقط الفرض وعلى أنه إن أم مريض أو مسافر جاز, وفي المنهاج وتصح خلف العبد والصبي والمسافر في الأظهر إذا تم العدد بغيره وفيه أيضا ولا جمعة على معذور مرخص في ترك الجماعة وفي العالمكيرية المطر الشديد والاختفاء من السلطان الظالم مسقط. قال في المنح: وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يرخص في تركها وقت المطر ولو لم يبتل أسفل النعلين وكان يرخص في السفر يوم الجمعة لا سيما للجهاد انتهى. وهي كسائر الصلوات لا تخالفها لكونه لم يأت ما يدل على أنها تخالفها في غير ذلك وفي هذا الكلام إشارة إلى رد ما قيل إنه يشترط في وجوبها الإمام الأعظم والمصر الجامع والعدد المخصوص فإن هذه الشروط لم يدل عليها دليل يفيد استحبابها فضلا عن وجوبها فضلا عن كونها شروطا بل إذا صلى رجلان الجمعة في مكان لم يكن فيه غيرهما جماعة فقد فعلا ما يجب عليهما فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة وإن تركا الخطبة فهي سنة فقط, ولولا حديث طارق بن شهاب المذكور قريبا من تقييد الوجوب على كل مسلم بكونه في جماعة ومن عدم إقامتها صلى الله وسلم عليه في زمنه في غير جماعة لكان فعلها فرادى مجزئا كغيرها من الصلوات وأما ما يروى من أربعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 إلى الولاة فهذا قد صرح أئمة الشأن بأنه ليس من كلام النبوة ولا من كلام من كان في عصرها من الصحابة حتى يحتاج إلى بيان معناه أو تأويله, وإنما هو من كلام الحسن البصري ومن تأمل فيما وقع في هذه العبادة الفاضلة التي افترضها الله تعالى عليهم في الأسبوع وجعلها شعارا من شعائر الإسلام وهي صلاة الجمعة من الأقوال الساقطة والمذاهب الزائغة والاجتهادات الداحضة1 قضى من ذلك العجب فقائل يقول: الخطبة كركعتين وإن من فاتته لم تصح جمعته وكأنه لم يبلغه ما ورد عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا ويشد بعضها من عضد بعض أن: من فاتته ركعة من ركعتي الجمعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته. ولا بلغه غير هذا الحديث من الأدلة, وقائل يقول: لا تنعقد الجمعة إلا بثلاثة مع الإمام, وقائل يقول: بأربعة. وقائل يقول: بسبعة, وقائل يقول: بتسعة, وقائل يقول: باثني عشر, وقائل يقول: بعشرين. وقائل يقول: بثلاثين. وقائل يقول: لا تنعقد إلا بأربعين. وقائل يقول: بخمسين. وقائل يقول: لا تنعقد إلا بسبعين. وقائل يقول: فيما بين ذلك. وقائل يقول: بجمع كثير من غير تقييد. وقائل يقول: إن الجمعة لا تصح إلا في مصر جامع وحدّه بعضهم بأن يكون الساكنون فيه كذا وكذا من آلاف, وآخر قال: أن يكون فيه جامع وحمام وآخر قال: أن يكون فيه كذا وكذا, وآخر قال: إنها لا تجب إلا مع الإمام الأعظم فإن لم يوجد أو كان مختل العدالة بوجه من الوجوه لم تجب الجمعة ولم تشرع ونحو هذه الأقوال التي ليس عليها أثارة من علم ولا يوجد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله صلى الله وسلم عليه حرف واحد يدل على ما ادعوه من كون هذه الأمور المذكورة شروطا لصحة الجمعة أو فرضا من فرائضها أو ركنا من أركانها فيالله العجب ما يفعل الرأي بأهله ومن يخرج من رؤوسهم من الخزعبلات الشبيهة بما يتحدث الناس به في مجامعهم وما يخبرونه في أسمارهم من القصص والأحاديث الملفقة وهي عن الشريعة المطهرة بمعزل يعرف هذا كل عارف بالكتاب والسنة وكل متصف بصفة الإنصاف, وكل من ثبت قدمه ولم يتزلزل عن طريق الحق بالقيل والقال, ومن جاء بالغلط فغلطه رد عليه مضروب به في وجهه, والحكم بين العباد هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله   1 أي الباطلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كما قال سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فهذه الآيات ونحوها تدل أبلغ دلالة وتفيد أعظم فائدة أن المرجع مع الاختلاف إلى حكم الله ورسوله وحكم الله هو كتابه وحكم رسوله بعد أن قبضه الله تعالى هو سنته ليس غير ذلك ولم يجعل الله تعالى لأحد من العباد وإن بلغ في العلم أعلى مبلغ وجمع منه ما لا يجمع غيره أن يقول في هذه الشريعة بشيء لا دليل عليه من كتاب ولا سنة, والمجتهد وإن جاءت الرخصة له بالعمل برأيه عند عدم الدليل فلا رخصة لغيره أن يأخذ بذلك الرأي كائنا من كان, وإني كما علم الله لا أزال أكثر التعجب من وقوع مثل هذا للمصنفين تصديره في كتب الهداية وأمر العوام والمقصرين باعتقاده والعمل به وهو على شفا جرف هار ولم يختص هذا بمذهب من المذاهب ولا بقطر من الأقطار ولا بعصر من العصور بل تبع فيه الآخر الأول كأنه أخذه من أم الكتاب وهو حديث خرافة وقد كثرت التعيينات في هذه العبادة كما سبقت الإشارة إليها بلا برهان ولا قرآن ولا شرع ولا عقل, والبحث في هذا يطول جدا1. قال الماتن رح: وقد جمعت فيه مصنفين مطولا ومختصراً ولله الحمد. إلا في مشروعية الخطبتين قبلها لأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سنّ في الجمعة خطبتين يجلس بينهما وما صلى بأصحابه جمعة من الجمع إلا وخطب فيها إنما دعوى الوجوب إن كانت بمجرد فعله المستمر فهذا لا يناسب ما تقرر في الأصول ولا يوافق تصرفات الفحول وسائر أهل المذهب المنقول, وأما الأمر بالسعي إلى ذكر الله فغايته أن السعي واجب وإذا كان هذا الأمر مجملا فبيانه واجب فما كان متضمنا لبيان نفس السعي إلى الذكر يكون واجبا   1 ما قاله الشارح هنا جيد ولكن رأيه في جواز صلاة الجمعة من اثنين بدون خطبة لا نراه حقا فإن وجوبها معلوم من الدين ضرورة لم يخالف فيه أحد ولم تذكر في القرآن إلا إجمالا ولكن تواترا العمل بها وبصفتها من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن والأحاديث الصحيحة بينت هذه الصفة تفصيلا، فلم يصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة بدون خطبتين وبغير جمع الحاضرين ممن يسعه حضورها وهذه المواظبة الدقيقة لا يصح حملها إلا على أنها بيان لهذا الواجب يلحق به في الوجوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فأين وجوب الخطبة1 فإن قيل إنه لما وجب السعي إليها كانت واجبة بالأولى فيقال ليس السعي لمجرد الخطبة بل إليها وإلى الصلاة ومعظم ما وجب السعي لأجله هو الصلاة فلا تتم هذه الأولوية وهذا النزاع في نفس الوجوب, وأما في كون الخطبة شرطا للصلاة فعدم وجود دليل يدل عليه لا يخفى على عارف فإن شأن الشرطية أن يؤثر عدمها في عدم المشروط فهل من دليل يدل على أن عدم الخطبة يؤثر في عدم الصلاة, ثم اعلم أن الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من ترغيب الناس وترهيبهم فهذا في الحقيقة روح الخطبة الذي لأجله شرعت, وأما اشتراط الحمد لله أو الصلاة على رسول الله أو قراءة شيء من القرآن فجميعه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة واتفاق مثل ذلك في خطبته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لا يدل على أنه مقصود متحتم وشرط لازم ولا يشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ دون ما يقع قبله من الحمد والصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم, وقد كان عرف العرب المستمر أن أحدهم إذا أراد أن يقوم مقاماً ويقول مقالا شرع بالثناء على الله وعلى رسوله وما أحسن هذا وأولاه, ولكن ليس هو المقصود بل المقصود ما بعده ولو قال قائل إن من قام في محفل من المحافل خطيباً ليس له باعث على ذلك إلا أن يصدر منه الحمد والصلاة لما كان هذا مقبولاً بل كل طبع سليم يمجه ويرده, إذا تقرر هذا عرفت أن الوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث فإذا فعله الخطيب فقد فعل الأمر المشروع إلا أنه إذا قدم الثناء على الله وعلى رسوله أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية كان أتم وأحسن. "ووقتها وقت الظهر" لكونها بدلا عنه, وقد ورد ما يدل على أنها تجزيء قبل الزوال كما في حديث أنس أنه كان صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي الجمعة ثم يرجعون   1 وجوب الخطبتين كما قلنا ظاهر من المواظبة على الفعل الذي هو بيان لصفة هذه الصلاة الواجبة وهذا ظاهر مطابق لقواعد الأصول ودقائق الشريعة المطهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 إلى القائلة يقيلون, وهو في الصحيح ومثله من حديث سهل بن سعد في الصحيحين وثبت في الصحيح من حديث جابر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي الجمعة ثم يذهبون إلى جمالهم فيريحونها حين تزول الشمس, وهذا فيه التصريح بأنهم صلوها قبل زوال الشمس, وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل وهو الحق. وذهب الجمهور إلى أن أول وقتها أول وقت الظهر. "وعلى من حضرها أن لا يتخطى رقاب الناس" إلا إذا كان إماماً أو كان بين يديه فرجة لا يصلها إلا بتخط كما نقله المحلي عن الروضة, لحديث عبد الله ابن بسر قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس فقد آذيت" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره, ولحديث أرقم بن أبي أرقم المخزومي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "الذي يتخطى الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجارّ قُصبه1 في النار". أخرجه أحمد والطبراني في الكبير وفي إسناده مقال2, وفي الباب أحاديث منها عن معاذ بن أنس عند الترمذي وابن ماجه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم" قا ل الترمذي: حديث غريب والعمل عليه عند أهل العلم. وفي تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين: ومنها تخطي رقاب الناس يوم الجمعة كذا عده الشيخ شمس الدين بن القيم من الكبائر, وقد صرح النووي وغيره بأنه حرام انتهى. قلت: وفي الباب عن عثمان وأنس أيضا. وأن ينصت حال الخطبتين لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" وهو في الصحيحين وغيرهما وأخرج أحمد وأبو داود من حديث علي قال: "من دنا من الإمام فلغا ولم يستمع ولم ينصت كان عليه كفل3 من الوزر, ومن قال صه فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له", ثم قال: هكذا سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم, وفي إسناده مجهول, وفي   1 القصب بضم القاف وإسكان الصاد المهملة اسم للأمعاء كلها وجمعه أقصاب. 2 قال ابن حجر في الإصابة: جزء 1 ص 26: قال الدارقطني في الأفراد تفرد به هشام بن زياد وقد ضعفوه. 3 يعني ضعفا أي يضاعف عليه الإثم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة. أقول: وحاصل ما يستفاد من الأدلة أن الكلام منهي عنه حال الخطبة نهيا عاما وقد خصص هذا النهي بما يقع من الكلام في صلاة التحية من قراءة وتسبيح وتشهد ودعاء والأحاديث المخصصة لمثل ما ذكر صحيحة1 فلا محيص لمن دخل المسجد حال الخطبة من صلاة ركعتي التحية إن أراد القيام بهذه السنة المؤكدة والوفاء بما دلت عليه الأدلة فإنه صلى الله عليه وسلم أمر سُليكا الغطفاني لما وصل إلى المسجد حال الخطبة فقعد ولم يصل التحية بأن يقوم فيصلي فدل هذا على كون ذلك من المشروعات المؤكدة بل من الواجبات كما قرره شيخنا العلامة الشوكاني في رسالة مستقلة وبينت أنا في دليل الطالب إلى أرجح المطالب وجوب صلاة التحية ومن جملة مخصصات صلاة التحية حديث: "إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين" وهو حديث صحيح متضمن للنص في محل النزاع, وأما ما عدا صلاة التحية من الأذكار والأدعية والمتابعة للخطيب في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأت ما يدل على تخصيصها من ذلك العموم والمتابعة في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وأن وردت بها أدلة قاضية بمشروعيتها فهي أعم من أحاديث منع الكلام حال الخطبة من وجه وأخص منها من وجه فيتعارض العمومان وينظر في الراجح منهما, وهذا إذا كان اللغو المذكور في حديث: "ومن لغا فلا جمعة له" يشمل جميع أنواع الكلام, وأما إذا كان مختصا بنوع منه وهو ما لا فائدة فيه فليس فيه ما يدل على منع الذكر والدعاء والمتابعة في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم, وأما حديث: "إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام" فقد أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عمر وفي سنده ضعف كما قاله صاحب مجمع الزوائد فلا تقوم به الحجة, ولكنه قد روي ما يقويه فأخرج أبو يعلى والبزار عن جابر قال: قال سعد بن أبي وقاص لرجل لا جمعة لك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لم يا سعد"؟ فقال: لأنه تكلم وأنت تخطب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق سعد" وفي إسناده مجالد بن سعيد وهو ضعيف عند الجمهور, وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة وقد ذكر العلامة الشوكاني في شرح المنتقى أحاديث تفيد معنى هذا الحديث فليراجع, ويقويها ما يقال إن المراد باللغو المذكور في الحديث التلفظ وإن   1 ليس هذا تخصيصا بل هذا باب وذاك باب فإن النهي عن الكلام إنما هو نهي عن محادثة غيره لئلا يغلوا وأما الذكر في الصلاة فهو شيء آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 كان أصله ما لا فائدة فيه بقرينة أن قول من قال لصاحبه أنصت لا يعد من اللغو لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم لغوا ويمكن أن يقال إن ذلك الذي قال: أنصت لم يؤمر في ذلك الوقت بأن يقول هذه المقالة فكان كلامه لغوا حقيقة من هذه الحيثية, ونُدب له التبكير لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن1 ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر". وفي الباب أحاديث في مشروعية التبكير. قال في المسوى شرح الموطأ: الأصح أن هذه الساعات ساعات لطيفة بعد الزوال لا الساعات التي يدور عليها حساب الليل والنهار انتهى. والتطيب والتجمل لحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله وسلم عليه قال: "على كل مسلم الغسل يوم الجمعة ويلبس من صالح ثيابه وإن كان له طيب مس منه" أخرجه أحمد وأبو داود وهو في الصحيحين بلفظ: "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن وأن يمس طيبا إن وجد" وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما من حديث سلمان الفارسي قال: قال النبي صلى تعالى عليه وآله وسلم: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر ويدّهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يروح إلى المسجد ولا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت للإمام إذا تكلم إلا غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى" وأخرج أحمد وغيره من حديث أبي أيوب قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحدا ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كان كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى" ورجال إسناده ثقات, وفي الباب أحاديث. "والدنو من الإمام" لحديث سمرة عند أحمد وأبي داود أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:   1 الأقرن ذو القرون وهو خير مما لا قرن له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 "احضروا الذكر وادنوا من الإمام فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها". وفي إسناده انقطاع, وفي الباب أحاديث ومن جملة ما يشرع يوم الجمعة الغسل وقد تقدم الكلام عليه في باب الغسل. ومن أدرك ركعة منها فقد أدركها لحديث: "من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته" فهذا وإن كان فيه مقال غايته الإعلال بالإرسال فقد ثبت رفعه من طريق جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة, فإنه روي عنه من ثلاثة عشر طريقا ومن ثلاث طرق عن ابن عمر وبعضها يؤيد بعضا فهي لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره, وقد أخرجه الحاكم من ثلاث طرق عن أبي هريرة وقال فيها على شرط الشخين1 فالعجب من أن يُؤْثر على هذا كله قول عمر بن الخطاب ويدعم بتلك العصا التي لا يأخذها إلا الزمن أو من ضاقت عليه المسالك فيقال: ولم يرد خلافه عن أحد من الصحابة والحال أن أول المخالفين له رسول الله صلى الله وسلم عليه بعموم قوله وخصوصه. والحاصل: أن الحديث له طرق كثيرة يصير بها حسنا لغيره وقد قدمنا أنها كسائر الصلوات وليست الخطبة شرطا من شروط الجمعة حتى يتوقف إدراك الصلاة على إدراك الخطبة فمن زعم أن صلاة الجمعة تختص بحكم يخالف سائر الصلوات فعليه الدليل, وقد أوضح الماتن المقال في أبحاث مطولة وقعت مع بعض الأعلام مشتملة على ما يحتاج إليه في هذا البحث فليرجع إلى ذلك فهو مفيد جدا. وهي في يوم العيد رخصة لحديث زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد في يوم الجمعة ثم رخص في الجمعة فقال من شاء أن يجمع فليجمع, أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي والحاكم وصححه علي بن المديني2, وأخرج أبو داود وابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه   1 رواه الحاكم في المستدرك جزء 1: ص 29 من طريق الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة" ومن طريق أسامة بن زيد الليثي وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري بهذا الإسناد بلفظ: "من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى وصححها كلها على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في مختصره. 2 وصححه الحاكم على شرط الشيخين جزء 1: ص 288 ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 من الجمعة وإنا مجمعون"1 وقد أعل بالإرسال وفي إسناده أيضا بقية بن الوليد, وفي الباب أحاديث عن ابن عباس وابن الزبير وغيرهما وظاهر أحاديث الترخيص يشمل من صلى العيد ومن لم يصل بل روى النسائي وأبو داود أن ابن الزبير في أيام خلافته لم يصل بالناس الجمعة بعد صلاة العيد فقال ابن عباس لما بلغه ذلك أصاب السنة وفي إسناده مقال. أقول: الظاهر أن الرخصة عامة للإمام وسائر الناس كما يدل على ذلك ما ورد من الأدلة, وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ونحن مجمعون" فغاية ما فيه أنه أخبرهم بأنه سيأخذ بالعزيمة وأخذه بها لا يدل على أن لا رخصة في حقه وحق من تقوم بهم الجمعة وقد تركها ابن الزبير في أيام خلافته كما تقدم ولم ينكر عليه الصحابة ذلك.   1 صححه الحاكم على شرط مسلم وقال: "فإن بقية بن الوليد لم يختلف في صدقه إذا روى عن المشهورين" ووافقه الذهبي وبقية بن الوليد ثقة إلا أنه كثير التدليس وقد صرح هنا بالتحديث فقال: "ثنا شعبة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 باب صلاة العيدين قد اختلف أهل العلم هل صلاة العيد واجبة أم لا؟ والحق الوجوب لأنه صلى الله عليه وسلم مع ملازمته لها قد أمرنا بالخروج إليها كما في حديث أمره صلى الله عليه وسلم للناس أن يغدوا إلى مصلاهم بعد أن أخبره الركب برؤية الهلال وهو حديث صحيح وثبت في الصحيح من حديث أم عطية قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُخرج في الفطر والأضحى العواتق2 والحُيّض وذوات الخدور فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين, فالأمر بالخروج يقتضي الأمر بالصلاة لمن لا عذر لها بفحوى الخطاب, والرجال أولى من النساء بذلك لأن الخروج وسيلة إليها ووجوب الوسيلة يستلزم وجوب المتوسل إليه بل ثبت الأمر القرآني بصلاة العيد كما ذكره أئمة التفسير في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} فإنهم قالوا: المراد صلاة العيد, ومن الأدلة على وجوبها أنها مسقطة للجمعة إذا اتفقتا في يوم واحد وما ليس بواجب لا يسقط ما كان واجباً. "هي ركعتان" يجهر فيهما بالقراءة يقرأ عند إرادة التخفيف: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ} وعند الإتمام {ق} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} وعند الشافعي تشرع صلاة العيد جماعة وللمنفرد والعبد والمرأة   2 يعني الشواب من النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 والمسافر ولا يخطب المنفرد ويخطب إمام المسافرين وعند أبي حنيفة تجب صلاة العيد على كل من تجب عليه صلاة الجمعة ويشترط لصلاة العيد ما يشترط لصلاة الجمعة كذا في المسوى وغيره, "في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة وفي الثانية خمس كذلك" لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كبّر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة سبعا في الأولى وخمسا في الثانية أخرجه أحمد وابن ماجه, وقال أحمد أنا أذهب إلى هذه قال العراقي إسناده صالح ونقل الترمذي في العلل المفردة عن البخاري أنه قال: إنه حديث صحيح وفي رواية لأبي داود والدارقطني التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الأخيرة والقراءة بعدهما كلتيهما, وإسناد الحديث صالح وقد صححه البخاري, وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كبّر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الثانية خمسا قبل القراءة وقد حسنه الترمذي وأُنكر عليه تحسينه لأن في إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده وهو متروك. قال النووي: لعله اعتضد بشواهد وغيرها انتهى. قال العراقي: إن الترمذي إنما تبع في ذلك البخاري فقد قال في كتاب العلل المفردة: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح منه وبه أقول انتهى. وقد أخرجه ابن ماجه بدون ذكر القراءة وأخرجه الدارقطني وابن عدي والبيهقي وفي إسناده كثير بن عبد الله ابن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال الشافعي وأبو داود: إنه ركن من أركان الكذب, وقال ابن حبان: له نسخة موضوعة عن أبيه عن جده, وأخرج ابن ماجه من حديث سعد القرظ1 المؤذن: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يكبّر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الآخرة خسما قبل القراءة. قال العراقي: وإسناده ضعيف, وفي الباب أحاديث تشهد لذلك والجميع يصلح للاحتجاج به وفي المسألة عشرة مذاهب هذا أرجحها. قال في الحجة: يكبر في الأولى سبعا قبل القراءة والثانية خمسا قبل القراءة وعمل الكوفيين أن يكبر أربعا كتكبير الجنائز في الأولى قبل القراءة وفي الثانية بعدها وهما سنتان وعمل الحرمين أرجح انتهى.   1 هو سعد بن عائذ مولى عمار بن ياسر كان تاجرا في القرظ –بفتح القاف والراء وهو بمر السنط وجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا بقباء وتوارث بنوه الأذان إلى زمن مالك وبعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 أقول: الذي دلت عليه الأدلة أن يكون التكبير مقدما على القراءة في الركعتين كما ثبت ذلك من فعله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في حديث عمرو بن عوف المزني المتقدم1 ولم يأت من قال بمشروعية تقديم القراءة في الركعتين أو تأخيرها في الأولى وتقديهما في الثانية بحجة قط. ثم اعلم أن الحافظ قال في التلخيص قوله: ويقف بين كل تكبيرتين بقدر آية لا طويلة ولا قصيرة روي مثل ذلك عن ابن مسعود قولا وفعلا. قلت: رواه الطبراني والبيهقي موقوفاً وسنده قوي وفيه عن حذيفة وأبي موسى مثله وعن عمر أنه كان يرفع يديه في التكبيرات رواه البيهقي وفيه ابن لهيعة. واحتج ابن المنذر والبيهقي بحديث روياه من طريق بقية عن الزبيدي عن الزهري عن سالم عن أبيه في الرفع عند الإحرام والركوع والرفع منه وفي آخره يرفعهما في كل تكبيرة يكبرها قبل الركوع انتهى. قال في شرح المنتقى: والظاهر عدم وجوب التكبير كما ذهب إليه الجمهور لعدم وجدان دليل يدل عليه انتهى. والحاصل: أنه سنة لا تبطل الصلاة بتركه عمدا ولا سهوا. قال ابن قدامة: ولا أعلم فيه خلافا. قالوا: وإن تركه لا يسجد للسهو وروي عن مالك وأبي حنيفة أنه يسجد للسهو والحق الأول. "ويخطب بعدها يأمر بتقوى الله تعالى ويُذكِّر ويعظ". لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى وأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم وإن كان يريد أن يقطع بعثا2 أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف, وفي الباب من حديث جابر عند مسلم وغيره وأول من خطب قبل الصلاة في العيد مروان وأنكر عليه ذلك, وأخرج النسائي وابن ماجة وأبو داود من حديث عبد الله بن السائب قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال: "إنا نريد أن نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب" 3. ويستحب في العيد التجمل بالثياب فقد ثبت في الصحيحين أن عمر   1 سبق أنه حديث ضعيف جدا. 2 يعني يرسل جيشا إلى غزو أو غيره. 3 في نيل الأوطار: "قال أبو داود: هو مرسل. وقال النسائي: هذا خطأ والصواب أنه مرسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وجد حلة في السوق من إستبرق1 تباع فأخذها فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ابتع هذه فتجمل بها للعيد والوفد. فقال: "إنما هذه لباس من لا خلاق2 له" وأخرج الشافعي عن شيخه إبراهيم ابن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس برد حبرة3 في كل عيد وشيخ الشافعي ضعيف ولكنه قد تابعه سعيد بن الصلت عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن ابن عباس بمثله أخرجه الطبراني وأخرج ابن خزيمة عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس البرد الأحمر في العيدين وفي الجمعة. "والخروج إلى خارج البلد" لمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك وصلى بهم صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد لمطر وقع كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود وابن ماجة والحاكم وفي إسناده مجهول. ومخالفة الطريق لحديث أبي هريرة عند البخاري وغيره قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد خالف الطريق4, وأخرج أبو داود وابن ماجه نحوه من حديث ابن عمر وفي الباب أحاديث غير ما ذكر. "والأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى" لما ثبت في الصحيح من حديث أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وترا. وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع, زاد أحمد: "فيأكل من أضحيته" وفي الباب أحاديث. "ووقتها بعد ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال" لما أخرجه أحمد بن الحسن البناء في كتاب الأضاحي من حديث جندب قال: كان النبي صلى الله تعالى عليه وأله وسلم يصلي بنا يوم الفطر والشمس على قيد رمحين والأضحى على قيد رمح, وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله   1 هو ما غلظ من الديباج والحرير. 2 الخلاق النصيب. 3 بوزن غنية نوع من برود اليمن. 4 هذا حديث جابر وأما حديث أبي هريرة فقد رواه أحمد ومسلم والترمذي ولفظه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى العيد يرجع في غير الطريق الذي خرج منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ابن بسر صاحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه خرج مع الناس يوم عيد فطر أو أضحى فأنكر إبطاء الإمام وقال: إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين التسبيح, أي حين وقت صلاة العيد. وأخرج الشافعي مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران أن عجل الأضحى وأخر الفطر. وفي إسناده إبراهيم بن محمد شيخ الشافعي وهو ضعيف, وقد وقع الإجماع على ما أفادته الأحاديث وإن كانت لا تقوم بمثلها الحجة, وأما آخر وقت صلاة العيدين فزوال الشمس وإذا كان الغدو من بعد طلوع الشمس إلى الزوال كما قال بعض أهل العلم فحديث أمره صلى الله عليه وسلم للركب أن يغدوا إلى مصلاهم يدل على ذلك قال في البحر: وهي من بعد انبساط الشمس إلى الزوال ولا أعرف فيه خلافا. "ولا أذان فيها ولا إقامة" لما ثبت في الصحيح من حديث جابر بن سمرة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة, وثبت في الصحيحين عن ابن عباس أنه قال: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى. وفي الباب أحاديث. وأما تكبير أيام التشريق فلا شك في مشروعية مطلق التكبير في الأيام المذكورة ولم يثبت تعيين لفظ مخصوص ولا وقت مخصوص ولا عدد مخصوص بل المشروع الاستكثار منه دبر الصلوات وسائر الأوقات فما جرت عليه عادة الناس اليوم استنادا إلى بعض الكتب الفقهية من جملة عقب كل صلاة فريضة ثلاث مرات وعقب كل صلاة نافلة مرة واحدة وقصر المشروعية على ذلك فحسب ليس عليه أثارة من علم فيما أعلم وأصح ما ورد فيه عن الصحابة أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى, وأما صفة التكبير فأصح ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان قال كبروا: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرا قال في شرح المنتقى نقلا عن الفتح: وقد أحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها انتهى. قال الشوكاني: والظاهر أن تكبير التشريق لا يختص استحبابه بعقب الصلوات بل هو مستحب في كل وقت من تلك الأيام كما تدل على ذلك الآثار انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 باب صلاة العيدين ... باب صلاة الخوف "قد صلاّها رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفات مختلفة" قيل على ستة عشر وقيل سبعة عشرة وقيل ثمانية عشر وقيل أقل من ذلك, وقد صح منها أنواع فمنها أنه صلى الله عليه وسلم بكل طائفة ركعتين فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع وللقوم ركعتان وهذه الصفة ثابتة في الصحيحين من حديث جابر ومنها أنه صلى بكل طائفة ركعة فكان له ركعتان وللقوم ركعة وهذه الصفة أخرجها النسائي بإسناد رجاله ثقات ومنها أنه صلى بهم جميعا فكبر وكبروا وركع وركعوا ورفع ورفعوا ثم سجد وسجد معه الصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم وفعلوا كالركعة الأولى ولكنه قد صار الصف المؤخر مقدما والمقدم مؤخرا ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلموا جميعا وهذه الصفة ثابتة في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر ومن حديث أبي عياش الزرقي عند أحمد وأبي داود والنسائي ومنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقيلين على العدو وجاء أولئك ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قضى هؤلاء ركعة وهذه الصفة ثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر ومنها أنها قامت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة فكبر فكبروا جميعا الذين معه والذين مقابل العدو ثم ركع ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ثم سجد فسجدت التي تليه والآخرون قيام مقابل العدو ثم قام وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كما هو ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد ومن معه ثم كان السلام فسلم وسلموا جميعا فكان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتان وللقوم لكل طائفة ركعتان وهذه الصفة أخرجها وأحمد والنسائي وأبو داود ومنها أنه صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة ركعة وطائفة وجاه العدو ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته فأتموا لأنفسهم فسلم بهم وهذه الصفة ثابتة في الصحيحين من حديث سهل بن أبي حثمة وإنما اختلفت صلاته صلى الله عليه وسلم في الخوف لأنه كان في كل موطن يتحرى ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة, وكلها مجزئة لأنها وردت على أنحاء كثيرة وكل نحو روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو جائز يفعل الإنسان ما هو أخف عليه وأوفق بالمصلحة حالتئذ كذا في الحجة. أقول: من زعم من أهل العلم أن المشروع من صلاة الخوف ليس إلا صفة من الصفات الثابتة دون ما عداها فقد أهدر شريعة ثابتة وأبطل سنة قائمة بلا حجة نيرة وغالب ما يدعو إلى ذلك ويوقع فيه قصور الباع وعدم الاعتناء بكتب السنة المطهرة فالحق الحقيق بالقبول جواز جميع ما ثبت من الصفات وقد ذكر هنا صاحب المنتقى أنواعا هي حاصل ما ذكره المحدثون مما بلغ إلى رتبة الصحيح وثم صفات أخر ليست ببالغة إلى تلك الرتبة فإن قلت: ما الحكمة في وقوع هذه الصلاة على أنواع مختلفة؟ قلت: أمران: الأول اقتضاء الحادثة لذلك والمقتضيات مختلفة ففي بعض المواطن تكون بعض الصفات أنسب من بعض لما يكون فيها من أخذ الحذر والعمل بالحزم ما يناسب الخوف العارض فقد يكون الخوف في بعض المواطن شديدا والعدو متصلا أو قريبا وفي بعض المواطن قد يكون الخوف خفيفا والعدو بعيدا فتكون هذه الصفة أولى بهذا الموطن وهذه أولى بهذا الموطن, فالأمر الثاني أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فعلها متنوعة إلى تلك الأنواع لقصد التشريع وإرادة البيان للناس وأما صلاة المغرب فقد وقع الإجماع على أنه لا يدخلها القصر ووقع الخلاف هل الأولى أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعتين والثانية ركعة أو العكس ولم يثبت في ذلك شيء عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد روي أن عليا رضي الله تعالى عنه صلاها ليلة الهرير, واختلفت الرواية في حكاية فعله كما اختلفت الأقوال والظاهر أن الكل جائز وإن صلى لكل طائفة ثلاث ركعات فيكون له ست ركعات وللقوم ثلاث ركعات فهو صواب قياسا على فعله في غيرها, وقد تقرر صحة إمامة المتنفل بالمفترض كما سبق. "وإذا اشتد الخوف والتحم القتال صلاها الراجل والراكب ولو إلى غير القبلة ولو بالإيماء" ويقال لصلاة الخوف عند التحام القتال صلاة المسايف أخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 البخاري عن ابن عمر في تفسير سورة البقرة بلفظ: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. قال مالك قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو في مسلم من قول ابن عمر بنحو ذلك وقد رواه ابن ماجة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف صلاة الخوف وقال: فإن كان خوف أشد من ذلك فرجالا وركبانا, وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن أنيس قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي وكان نحو عرنة وعرفات فقال: اذهب فاقتله, قال: فرأيته وقد حضرت صلاة العصر فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه فلما دنوت منه" الحديث. ومن البعيد أن لا يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ولو أنكره لذكر ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 باب صلاة السفر يجب القصر لحديث عائشة الثابت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال1: "فرضت الصلاة ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر" فهذا يشعر بأن صلاة السفر باقية على الأصل فمن أتم فكأنه صلى في الحضر الثنائية أربعا والرباعية ثمانيا عمدا, وثبت أيضا في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقتصر في جميع أسفاره على القصر. قلت: اتفقت الأمة على جواز القصر في السفر واختلف المفسرون في قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أنزلت في السفر وقيد الخوف اتفاقي أو في الخوف وقيد السفر اتفاقي والمراد من القصر الإيماء في الركوع والسجود فذهب إلى الأول جماعات من المفسرين وإلى الثاني يشير قول ابن عمر ويدل عليه بناء قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} على آية القصر من غير ذكر الخوف ثانيا ثم مذهب الأكثرين أن القصر واجب, وقال الشافعي: إن شاء أتم وإن شاء قصر والقصر أفضل كذا في المسوى. أقول: الحق وجوب القصر والأحاديث مصرحة بما يقتضي ذلك,   1 هذا خطأ فاحش فإن الحديث المذكور إنما هو من قول عائشة غير مرفوع وهي تحكي كيف فرضت الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وأما ما يروى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في الصلاة ويتم ويفطر ويصوم. فلم يثبت كما صرح به جماعة من الحفاظ1 وكذلك ما روي عنها أنها فعلت ذلك ولم ينكر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة بما تسقط به حجيته, وكذلك ما روي عن أن عثمان أتم الصلاة بمنى فلا حجة في ذلك وقد صح إنكار بعض الصحابة عليه واعتذاره عن ذلك فلم يبق في المقام ما يوجب التردد, والظاهر من الأدلة في القصر والإفطار عدم الفرق بين من سفره في طاعة ومن سفره في معصية لا سيما القصر لأن صلاة المسافر شرعها الله كذلك فكما أن الله شرع للمقيم صلاة التمام من غير فرق بين من كان مطيعا ومن كان عاصيا بلا خلاف كذلك شرع للمسافر ركعتين من غير فرق وأدلة القصر متناولة للعاصي تناولا زائدا على تناول أدلة الإفطار له لأن القصر عزيمة وهي لم تشرع للمطيع دون العاصي بل مشروعة لها جميعا بخلاف الإفطار فإنه رخصة للمسافر والرخصة تكون لهذا دون هذا في الأصل وإن كانت هنا عامة وإنما المراد بطلان القياس والركعتان في السفر تمام غير قصر ومعناه عند الحنفية أنه لا يكون فرض المسافر غير ركعتين وإن صلى أربعا ولم يقعد للتشهد بطلت صلاته وإن قعد أتمها أربعا والأخريان نقل وعند الشافعية أن المسافر إذا قصر في السفر فليس عليه ما تركه إذا صار مقيما بخلاف الصوم فإنه يعيد ما أفطر إذا صار مقيما وإيجاب القصر على من خرج من بلده قاصدا للسفر وإن كان دون بريد وجهه أن الله تعالى قال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} والضرب في الأرض يصدق على كل ضرب لكنه خرج الضرب أي المشي لغير السفر لما كان يقع منه صلى الله عليه وسلم من الخروج إلى بقيع الغرقد ونحوه ولا يقصر ولم يأت في تعيين قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء فوجب الرجوع إلى ما يسمى سفرا لغة وشرعا, ومن خرج من بلده قاصدا إلى محل يعد في مسيره إليه مسافرا قصر الصلاة وإن كان ذلك المحل دون البريد ولم يأت من اعتبر البريد واليوم واليومين   1 المطلع على إسناد الحديث وما قيل فيه لا يجد مناصا من القول بأنه حديث حسن صالح للاحتجاج إن لم يكن صحيحا. انظر نيل الأوطار جزء 3: ص 248- 250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 والثلاث وما زاد على ذلك بحجة نيرة وغاية ما جاءوا به حديث: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم" وفي رواية: "يوما وليلة" وفي رواية: "بريدا" وليس في هذا الحديث ذكر القصر ولا هو في سياقه والاحتجاج به مجرد تخمين وأحسن ما ورد في التقدير ما رواه شعبة عن يحيى بن زيد الهنائي, قال: سألت أنسا عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين والشك في شعبة. أخرجه مسلم وغيره فإن قلت: محل الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون محرم هو كونه صلى الله عليه وسلم سمى ذلك سفرا. قلت: تسميته سفرا لا تنافي تسمية ما دونه سفرا فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم مسافة الثلاث سفرا كما سمى مسافة البريد سفرا في ذلك الحديث باعتبار اختلاف الرواية وتسمية البريد سفرا لا ينافي تسمية ما دونه سفرا, فإن قلت أخرج الدارقطني والبيهقي والطبراني من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان1". قلت: هو ضعيف لا تقوم به الحجة فإن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر وهو متروك2. قال الماتن وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها لدي, وقال أبو حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام وفي العالمكيرية الصحيح أنه لا يشترط سير كل اليوم إلى الليل فلو بكر في كل يوم ومشى إلى الزوال ثم نزل يصير مسافرا, وقال الشافعي أربعة برد وقال مالك وذلك أحب ما سمعت يقصر فيه الصلاة إلي وتفسيرها ستة عشر فرسخا ويتجه على هذا أن قولهما متقاربان قال الأوزاعي: عامة الفقهاء يقولون مسيرة يوم تام وإنما يحل القصر إذا خرج من بيوت القرية. قال العلماء: إذا جاوز عمران المصر قصر. أقول مسألة أقل السفر قد اضطربت فيها الأقوال وطال فيها النزاع وتشعبت فيها المذاهب وليس في ذلك شيء يستند إليه إلا مجرد قول الرواة قصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كذا من دون بيان لمقدار يرجع إليه, وأصرح ما في ذلك ما قاله بعض الرواة أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يقصر إذا سافر ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ هكذا على الشك مع أنه   1 بضم العين وإسكان المهملتين على مرحلتين من مكة. 2 وقد كذبه الثوري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 لم يين مقدار المسافة التي هي انتهاء سفره وغاية ما وقع التعويل عليه أحاديث لا يحل لامرأة كما تقدمت والمعمول عليه ههنا رواية البريد لأن ما فوقها يعتبر فيه ذلك بفحوى الخطاب لكن لا ملازمة بين اعتبار المحرم للمرأة وبين وجوب القصر على غيرها من المسافرين لأن علة مشروعية المحرم غير علة مشروعية القصر فلم يبق في المسألة ما يصلح للاستناد إليه فوجب الرجوع إلى ما يصدق عليه مسمى الضرب في الأرض على وجه يخالف ما يفعله المقيم من ذلك وهو يصدق على من أراد سفرا زائدا على الميل لا ما كان ميلا فما دون فقد يتردد المقيم في الجوانب المقاربة لبلد إقامته وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يخرج إلى البقيع لزيارة الأموات ولا يقصر وإن كان هذا لا يتم الاحتجاج به إلا بعد تسلم أنه خرج إلى هنالك وحضر وقت الصلاة فصلى تماما وهو ممنوع فالتعويل في استثناء الميل هو ما قدمنا وفيه ما فيه لولا أنه أوجب الرجوع إليه البقاء على الأصل والفرار من التحكمات التي لا ترجع إلى شيء كما يقوله بعض أهل العلم إن مسافة القصر ما بين الشام والعراق ونحو ذلك. فالحاصل: أن الواجب الرجوع إلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعا أو لغة أو عرفا لأهل الشرع فما كان ضربا في الأرض يصدق عليه أنه سفر وجب فيه القصر, وأما ما رواه سعيد بن منصور: أنه كان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة فهو أيضا لا ينفي السفر فيما دون ذلك, وإذا أقام ببلد مترددا قصر إلى عشرين يوما ثم يتم وجهه أن من حط رحله بدار إقامة فقد ذهب عنه حكم السفر وفارقته المشقة فلولا أن الشارع سمى من أقام كذلك مسافرا فقال: "أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر" لما كان حكم السفر ثابتا له فالواجب الاقتصار في القصر مع الإقامة على المقدار الذي سوغه الشارع, وما زاد عليه فللمسافر حكم المقيم يجب عليه أن يتم صلاته لأنه مقيم لا مسافر وقد أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة في غزوة الفتح قيل ثماني عشرة ليلة وقيل تسع عشرة ليلة وقيل أقل من ذلك وفي صحيح البخاري وغيره تسع عشرة ليلة وأخرج أحمد وأبو داود من حديث جابر قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة. وأخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي وصححه ابن حزم والنووي فوجب علينا أن نقتصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 علي هذا المقدار وتتم بعد ذلك ولله در الحبر ابن عباس ما أفقهه وما أفهمه للمقاصد الشرعية فإنه قال فيما رواه عنه البخاري وغيره: لما فتح النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مكة أقام فيها تسع عشرة يصلي ركعتين. قال: فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة قصرنا وإن زدنا أتممنا. وأقول: هذا الفقه الدقيق والنظر المبني على أبلغ تحقيق ولو قال له جابر أقمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين ليلة نقصر الصلاة لقال بموجب ذلك. قال الماتن: وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها لدي انتهى. أقول: الظاهر فيمن أقام ببلد وحط الرحل يوما بعد يوم وليلة بعد ليلة أنه لا يقصر الصلاة لأنه غير مسافر فلو لم يرد الدليل الدال على أن من أقام عازما على السفر كان له حكم المسافر لم يثبت القصر في حقه فينبغي أن يقتصر على ما ورد ولا يجاوز. أما مع التردد وعدم العزم على إقامة أيام معينة فلا يزال يقصر المسافر حتى يبلغ مدة إقامته مقدار المدة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد الفتح وأكثر ما قيل عشرون ليلة, وقد روي أنه أقام في غزوة تبوك بمكان نحو ذلك وروي أكثر فإن قيل إن الاقتصار على مقدار إقامته صلى الله عليه وسلم وعدم تجويز القصر فيما زاد عليها لا يصلح للتمسك به لأنه مجرد فعل لا دلالة فيه على قصر الجواز على تلك المدة, ومن أين لنا أنه لو عرض له ما يوجب إقامته فوق تلك المدة لما قصر الصلاة بل كان يتمها؟ فيقال هذا صحيح ولم نقل إن هذا الفعل يدل بمجرده على ذلك بل قلنا إن من حط رحله بمحل فالظاهر أنه في ذلك الوقت غير مسافر فيما كان من الإقامة زائدا على ما يعتاده المسافرون من الإراحة لأنفسهم ودوابهم يوما أو بعض يوم وليلة أبو بعض ليلة فإذا سمي بعد إقامته أياما مسافرا فهذه التسمية غير مناسبة لما هو الظاهر فوجب الاقتصار على مقدار المدة التي أقامها الشارع وقصر الصلاة فيها. وقال: "إنا قوم سفر" ومن زعم جواز القصر فيما زاد عليها فعليه الدليل, وأما إذا نوى إقامة أيام معينة فقد وقع الاضطراب في ذلك فقيل: أربعة أيام فإن نوى إقامة أكثر منها قصر. واستدل هذا القائل بإقامته صلى الله عليه وسلم في مكة في حجة الوداع أربعة أيام يقصر الصلاة, ووجه الاستدلال بهذا كالوجه الذي ذكرناه مع التردد سواء بسواء وهو أشف ما قيل وغاية ما تمسك به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أهل الأقوال الآخرة ما روي عن جماعة من الصحابة من الاجتهادات المختلفة ولا حجة في ذلك وما يقال من أنها بمنزلة المرفوع لكونها ليست من مسارح الاجتهاد فمردود على أن التقدير بالأربع مع كونه أشف ما قيل كما ذكرنا يمكن أن يقال عليه إنما يتم الاستدلال به بعد ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم عزم على إقامة الأربع ولم ينقل ذلك ويمكن أن يجاب بأن أعمال الحج لا يمكن الإتيان بها في دون تلك المدة فالعزم على الإقامة قدرها لا بد منه, وأما ما روي عن أنس أنه قال: أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرا فهو محمول على جميع أيام الإقامة بمكة ونواحيها, وأما نفس الإقامة بمكة فليست إلا أربعة أيام فليعلم. وإذا عزم على إقامة أربع أتم بعدها وجهه ما عرفناك من أن المقيم لا يعامل معاملة المسافر إلا على الحد الذي ثبت عن الشارع ويجب الاقتصار عليه وقد ثبت عنه مع التردد ما قدمنا ذكره, وأما مع عدم التردد بل العزم على إقامة أيام معينة فالواجب الاقتصار على ما اقتصر عليه صلى الله تعالى وآله وسلم مع عزمه على الإقامة في أيام الحج فإنه ثبت في الصحيحين أنه قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن ثم خرج إلى منى فلما أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة مع كونه لا يفعل ذلك إلا عازما على الإقامة إلى أن يعمل أعمال الحج كان ذلك دليلا على أن العازم على إقامة مدة معينة يقصر إلى تمام أربعة أيام ثم يتم وليس ذلك لأجل كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو أقام زيادة على الأربع لأتم فإنا لا نعلم ذلك ولكن وجهه ما قدمنا من أن المقيم العازم على إقامة مدة معينة لا يقصر إلا بإذن كما أن المتردد كذلك, ولم يأت الإذن بزيادة على ذلك ولا ثبت عن الشارع غيره. قال الشافعي: لو نوى إقامة أربعة أيام بموضع انقطع سفره بوصوله. قال في المنهاج: ولا يُحسب منها يوما دخوله وخروجه على الصحيح, وقال أبو حنيفة: لا يزال على حكم السفر حتى ينوي الإقامة في بلدة أو قرية خمسة عشر يوما, وقول أكثر أهل العلم: إنه يقصر أبدا ما لم يجمع إقامة1 واختلف أصحاب الشافعي في حكاية مذهبه وحكاية البغوي أنه إذا لم يجمع الإقامة فزاد مكثه على أربعة   1 أي يعزم على الإقامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 أيام وهو عازم على الخروج أتم إلا أن يكون في خوف أو حرب فيقصر, وقد قصر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عام الفتح بحرب هوازن تسعة عشر أو ثمانية عشر يوما, وله قول آخر موافق للجمهور. قال الماتن: واعلم أن هذه الثلاثة الأبحاث المذكورة في هذا الباب هي من المعارك التي تتبلد عندها الأذهان وقد اضطربت فيها المذاهب اضطراباً شديداً وتباينت فيها الأنظار تباينا زائدا انتهى. "وله الجمع تقديما وتأخيرا" وجهه ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب". وأخرج أحمد وأبو دواد والترمذي وابن حبان والحاكم والدارقطني وحسنه الترمذي من حديث معاذ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار". وأخرج أحمد من حديث ابن عباس نحوه وزاد المغرب والعشاء وأخرجه أيضا البيهقي والدارقطني وصحح إسناده ابن العربي وتُعقِّب بأن في إسناده من لا يحتج بحديثه, وللحديثين طرق يقوي بعضها بعضا وليس فيها من المقال ما يبطل الاحتجاج بمجموعها, ومن الجمع بين المغرب والعشاء حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان إذا جد به السير أخر المغرب حتى يغيب الشفق ثم يجمع بينها وبين العشاء. قال ابن القيم: وكل هذه سنن في غاية الصحة والصراحة ولا معارض لها فرُدّت بأنها أخبار آحاد وأوقات الصلوات ثابتة بالتواتر لحديث إمامة جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم, وقوله للسائل عن المواقيت وهذه أحاديث محكمة صحيحة صريحة في تفصيل الأوقات مجمع عليها بين الأمة وأحاديث الجمع غير صريحة لجواز أن يكون المراد بها الجمع في الفعل وفي الوقت فكيف يترك المبين للمجمل. والجواب أن يقال: الجميع حق والذي وقت هذه المواقيت وبينها بفعله وقوله هو الذي شرع الجمع بقوله وفعله فلا يؤخذ ببعض السنة ويترك بعضها. فأحاديث الجمع مع أحاديث الأفراد بمنزلة أحاديث الأعذار والضرورات مع أحاديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الشروط والواجبات؛ فالسنة يبين بعضها بعضا لا يرد بعضها ببعض ومن تأمل أحاديث الجمع وجدها كلها صريحة في جمع الوقت لا في جمع الفعل وألفاظ السنة الصريحة ترده كذا في إعلام الموقعين. قال في المسوى: أكثر أهل العلم على جواز الجمع في السفر بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما, وقالت الحنفية: لا يجوز. ومعنى الحديث عنهم أن يؤخر إحدى الصلاتين إلى آخر وقتها ويعمل الأخرى في أول وقتها فيحصل الجمع صورة, رووا ذلك عن علي وسعد بن أبي وقاص. وأما الجمع للحاج فمتفق عليه انتهى. "بأذان وإقامتين" لثبوت ذلك في الصحيحين في جمع مزدلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 باب صلاة الكسوفين وهي صلاة الآيات: "وهي سنة". قال الماتن في شرحه: أي لعدم ورود ما يفيد الوجوب ومجرد الفعل لا يفيد زيادة على كون المفعول مسنونا انتهى. وزاد في السيل الجرار: اعلم أنه قد اجتمع ههنا في صلاة الكسوف الفعل والقول ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما كذلك فافزعوا إلى المساجد" وفي رواية: "فصلوا وادعوا" والظاهر الوجوب فإن صح ما قيل من وقوع الإجماع على عدم الوجوب كان صارفا وإلا فلا انتهى. قال في الحجة البالغة: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها جماعة وأمر أن ينادى بها أن الصلاة جامعة وجهر بالقراءة فمن اتبع فقد أحسن ومن صلى صلاة معتدا بها في الشرع فقد عمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا" انتهى. ورجح ابن القيم الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف لحديث عائشة صحيح البخارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قراءة طويلة يجهر بها في صلاة الكسوف. وأما قول سمرة صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كسوف ولم نسمع له صوتا فقال البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة. وأصح ما ورد في صفتها ركعتان في كل ركعة ركوعان لثبوت ذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وابن عمر وابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 "وورد ثلاثة" ركوعات في ركعة فثبت ذلك من حديث جابر عند مسلم وغيره ومن حديث ابن عباس عند الترمذي وصححه ومن حديث عائشة عند أحمد والنسائي. وورد أربعة في كل ركعة لما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث ابن عباس. وورد خمسة ركوعات في كل ركعة أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث أبي بن كعب قال ابن القيم: السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في صلاة الكسوف تكرار الركوع في كل ركعة لحديث عائشة وابن عباس وجابر وأبي بن كعب وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري كلهم روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تكرار الركوع في الركعة الواحدة والذي رووا تكرار الركوع أكثر عددا وأجل وأخص برسول الله صلى الله عليه وسلم من الذين لم يذكروه انتهى. يقرأ بين كل ركوعين وورد في كل ركعة ركوع فقط في صحيح مسلم من حديث سمرة وأخرجه أبو داود وأحمد والنسائي والحاكم وصححه ابن عبد البر والحاكم من حديث النعمان بن بشير وأخرجه أبو داود والنسائي والحاكم من حديث قبيصة قلت: وأجاب ابن القيم عن هذه الروايات من ثلاثة أوجه: أحدها: أن أحاديث تكرار الركوع أصح إسنادا وأسلم من العلة والاضطراب ولا سيما حديث عبد الله بن عمر الذي في الصحيحين وهذا أصح وأصرح من حديث كل ركعة بركوع فلم يبق إلا حديث سمرة ونعمان وليس منهما شيء في الصحيح. والثاني: أن رواتها من الصحابة أكبر وأكثر وأحفظ وأجل من سمرة ونعمان بن بشير فلا ترد روايتهم بها, والثالث: أنها متضمنة لزيادة صح الأخذ بها انتهى. وأقول: قد رويت هذه الصلاة من فعله صلى الله تعالى عليه وسلم على أنواع: ركعتين كسائر الصلوات في كل ركعة ركوع واحد وركوعين في كل ركعة وثلاثة وأربعة وخمسة كما تقدم والكل سنّة أيها فعل المكلف فقد فعل ما شرع له واختيار الأصح منها على الصحيح هو دأب الراغبين في الفضائل العارفين بكيفية الدلائل, وقد أورد على هذه الروايات المنسوبة إلى فعله صلى الله تعالى عليه وسلم إشكال هو: أنه لم يصلها صلى الله تعالى عليه وسلم غير مرة واحدة فكيف تشعبت الروايات إلى هذه الصفات؟ وقد أجيب عن ذلك بأجوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ذكرها الماتن رح في شرح المنتقى وقد ثبت الجهر بالقراءة وثبت ذلك الإسرار والجهر أصح والقيام بهذه السنة جماعة أفضل وليست الجماعة شرطا فيها لما في الأحاديث الصحيحة بلفظ: "فصلوا" ولما في حديث قبيصة الهلالي يرفعه أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إذا رأيتم ذلك فصلوها كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة" أخرجه أحمد والنسائي. "ونُدب الدعاء والتكبير والتصدق والاستغفار" لحديث أسماء: "فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا" وهو في الصحيحين, وفي حديث أبي موسى بلفظ: "فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره" وهو في الصحيحين أيضا وفي حديث المغيرة: "فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى تنجلي" وهو أيضا في الصحيحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 باب صلاة الاستسقاء قال في الحجة: وقد استسقى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأمته مرات على أنحاء كثيرة لكن الوجه الذي سنه لأمته أن خرج بالناس إلى المصلى متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا فصلى لهم ركعتين جهر بهم فيهما بالقراءة ثم خطب واستقبل فيها القبلة يدعو ورفع يديه وحول رداءه انتهى. وهذه الصلاة مسنونة تسن عند الجدب لعدم ورود ما يدل على الوجوب ركعتان بعدهما خطبة لكونه صلى الله عليه وسلم خرج حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر. الحديث بطوله وفيه الدعاء وتحويل الرداء وهو في سنن أبي داود وأخرجه أبو عوانة وابن حبان والحاكم وصححه ابن السكن وأخرج أحمد وابن ماجه وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله عز وجل وحول وجهه نحو القبلة رافعا يديه ثم قلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن. وفي الباب أحاديث بمعنى ما ذكر وهي متضمنة للدعاء برفع الجدب وبنزول المطر وتحويل الأردية من الإمام وغيره, وروى سعيد بن منصور في سننه أن عمر استسقى فلم يزد على الاستغفار. قال أبو حنيفة: لا تسن الصلاة في الاستسقاء, وقال الشافعي: ثبت من حديث عبد الله بن زيد وابن عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 أنه صلى الله عليه وسلم صلى, وروي ذلك من حديث جعفر بن محمد عن البني صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر قال في إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء: الأوجه عندي أن من دعا ولم يصل فقد أصاب أصل الاستسقاء, وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وعمر, ومن صلى ودعا فقد أصاب الأكمل الأفضل فإن الدعاء أرجى في حرمة الصلاة, وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمر انتهى. وقد كان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الاستسقاء حتى يُرى بياض إبطيه وكان الصحابة فمن بعدهم يستسقون بأهل الصلاح ولا سيما من كان من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل عمر فإنه استسقى بالعباس رضي الله تعالى عنهما. تتضمن الذكر والترغيب في الطاعة والزجر عن المعصية ويستكثر الإمام ومن معه من الاستغفار والدعاء برفع الجدب لأن روح هذه الصلاة وأساسها وعمادها الذي لا تقوم بدونه هو الاستكثار من الاستغفار قبلها وبعدها وإخلاص التوبة من الذنوب التي يقارفها الإنسان والخروج من التبعات والظلامات في الدماء والأموال والأعراض وذلك غير مختص بفرد من الأفراد بل يفعله كل أحد ويشرع للإمام أو من يقوم مقامه أن يخطب الناس ويذكرهم بما يفعلونه من الأسباب الموجبة للرحمة, وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب قبل الصلاة وخطب بعدها فالكل سنة ومن جملة أدعيته صلى الله عليه وسلم: "اللهم أغثنا اللهم أغثنا" كما في الصحيحين من حديث أنس, ومن أدعيته صلى الله عليه وسلم: "اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً1 مَريعاً2 طبقاً3 غدقاً4 عاجلاً غير رائث5" وهذا لفظ ابن ماجه من حديث ابن عباس. وهذه الألفاظ ثابتة من رواية غيره من الصحابة في غير سنن ابن ماجه ومنها: "اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين" وهو في سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث عائشة ومن دعائه: "اللهم اسق عبادك وبهيمتك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت" إلى غير ذلك. "ويحولون جميعا أرديتهم" لما روي في ذلك ما تقدم من جعل الأيمن أيسر والأيسر أيمن وروي أنه قلبه ظهرا لبطن وحول الناس معه أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن زيد وأصله في الصحيح.   1 هو المحمود العاقبة. 2 بفتح الميم وبضمها مع كسر الراء فيهما هو الذي يأتي بالريع يعني الزيادة. 3 هو المطر العام كما في القاموس. 4 الغدق الماء الكثير. 5 الريث الإبطاء والرائث المبطئ وإسناد هذا الحديث ثقات كما قال المؤلف في نيل الأوطار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 كتاب الجنائز "من السُّنَّة عيادة المريض" لأن الأحاديث في مشروعيتها متواترة وقد جعلها الشارع من حقوق المسلم على المسلم ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس" وزاد مسلم: "النصيحة" وزاد البخاري من حديث البراء: "نصر المظلوم وإبرار القسم". "وتلقين المختضر" وهو في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة, "الشهادتين" فوجب أن يحث على الذكر والتوجه إلى الله تعالى لتفارق نفسه وهي في غاشية من الإيمان فيجد ثمرتها في معاده, ودليله حديث أبي سعيد الثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" وفي الباب أحاديث. "وتوجيهه" إلى القبلة لحديث عبيد بن عمير عن أبيه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال وقد سأله رجل عن الكبائر فقال هي تسع: "الشرك والسحر وقتل النفس وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات وعقوق الوالدين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا" أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم. وقد أخرج البغوي في الجعديات من حديث ابن عمر نحوه وفي إسناده أيوب بن عتبة وهو ضعيف. وقد استدل بهذا على مشروعية توجيه المريض إلى القبلة ليموت إليها لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "قبلتكم أحياء وأمواتا" وفيه نظر لأن المراد بقوله: "أحياء" عند الصلاة وبقوله: "أمواتا" في اللحد والمحتضر حي غير مصل فلا يتناوله الحديث, وإلا لزم وجوب التوجه إلى القبلة على كل حي وعدم اختصاصه بحال الصلاة وهو خلاف الإجماع, والأوْلى الاستدلال بما رواه الحاكم والبيهقي عن أبي قتادة: أن البراء بن معرور أوصى أن يُوجَّه إلى القبلة إذا احتضر فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 "أصاب الفطرة"1. وقد اختلف الصفة التي يكون التوجه إلى القبلة عليها فقيل: يكون مستلقيا ليستقبلها بكل وجهه. وقيل: على جنبه الأيمن وهو الأولى. أقول: وهو الصفة التي يوجه عليها في قبره والصفة التي أمر صلى الله تعالى عليه وآله وسلم النائم أن ينام عليها, ومن ذلك فعل البتول رضي الله عنها ولا وجه لاختيار الاستلقاء إلا وهم أنه أكمل. "وتغميضه إذا مات" لحديث شداد بن أوس عند أحمد وابن ماجة والحاكم والطبراني والبزار قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح وقولوا خيرا فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت" وأخرج مسلم في صحيحه أن البني صلى الله تعالى عليه وسلم دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر". وقراءة يس عليه لحديث: "اقرؤا على موتاكم يس" أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان وصححه من حديث معقل بن يسار مرفوعا وقد أعل2 وقد أخرج نحوه صاحب مسند الفردوس من حديث أبي الدرداء وأبي ذر وأخرج نحوه أيضا أبو الشيخ في فضل القرآن من حديث أبي ذر وحده. قال ابن حبان في صحيحه: المراد بقوله: "اقرؤا على موتاكم يس" من حضرته المنية لا الميت, وكذلك: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله". "والمبادرة بتجهيزه إلا لتجويز حياته" لما أخرجه أبو داود من حديث الحصين بن وحوح أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يعوده فقال: "إني لا أرى طلحة إلا قد حدث به الموت فآذنوني به وأعجلوا3 فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله"   1 قال المصنف في نيل الأوطار بعد ذكره: وقد ذكر هذا الحديث في التلخيص وسكت عنه. وهو في المستدرك للحاكم جزء 1 ص 353 من حديث يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح ولا أعلم في توجه المحتضر إلى القبلة غير هذا الحديث. وصححه أيضا الذهبي والذي أراه أنه حديث مرسل لأن يحيى رواه عن أبيه وأبوه تابعي وبعد البحث تبين لي أن الخطأ إنما هو من الناسخين فقد وجدت الحديث في السنن الكبرى للبيهقي رواه عن الحاكم بإسناده وفيه عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه فالحديث إذن من حديث أبي قتادة وليس حديثا مرسلا والحمد لله. 2 وصححه ابن حبان. 3 في نيل الأوطار "وعجلوا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وأخرج أحمد والترمذي من حديث علي مرفوعا بلفظ: "ثلاث لا يؤخرن: الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت كفؤا". وأما إذا كان يظن أنه لم يمت فلا يحل دفنه حتى يقع القطع بالموت كصاحب البرسام وغيره. "والقضاء لدينه" لحديث امتناعه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من الصلاة على الميت الذي عليه دين حتى التزم بذلك بعض الصحابة والحديث معروف, وحديث: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه" أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة. "وتسجيته" لما وقع من الصحابة من تسجية رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عنه موته ببرد حبرة وهو في الصحيحين من حديث عائشة وذلك لا يكون إلا بجري العادة بذلك في حياته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. "ويجوز تقبيله" لتقبيله صلى الله عليه وآله وسلم لعثمان بن مظعون وهو ميت كما في حديث عائشة عند أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه وفي الصحيح من حديثها وحديث ابن عباس أن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته. "وعلى المريض أن يحسن الظن بربه" والأحاديث في ذلك كثيرة ولو لم يكن منها إلا حديث النهي عن أن يموت الميت إلا وهو حسن الظن بربه, وحديث المريض الذي زاره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كيف تجدك"؟ فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي, فقال: "ما اجتمعنا في قلب امرئ في مثل هذا الموطن إلا دخل الجنة. أو كما قال. "ويتوب إليه" والآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة في ذلك لا يتسع المقام لبسطها وفي الصحيحين: "أن الله يفرح بتوبة عبده" وأن باب التوبة مفتوح لا يغلق. "ويتخلص عن كل ما عليه" ووجوب ذلك معلوم, وإذا أمكن بإرجاع كل شيء لمن هو له من دين أو وديعة أو غصب أو غير ذلك فهو الواجب, وإن لم يكن في الحال فالوصية المفصلة هي أقل ما يجب, وورد الأمر بالوصية وأنه لا يحل لأحد أن يبيت إلا ووصيته عند رأسه كما في الأحاديث الصحيحة. فصل "ويجب غسل الميت المسلم على الأحياء" وهو مجمع عليه كما حكى ذلك النووي والمهدي في البحر ومستند هذا الإجماع أحاديث الأمر بالغسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 والترغيب فيه كالأمر منه صلى الله عليه وسلم بغسل الذي وقصته ناقته وبغسل ابنته زينب وهما في الصحيح. والقريب أولى بالقريب إذا كان من جنسه لحديث: "ليليه أقربكم إن كان يعلم فإن لم يكن يعلم فمن ترون عنده حظا من ورع وأمانة" أخرجه أحمد والطبراني وفي إسناده جابر الجعفي والحديث وإن كان لا يصلح للاحتجاج به ولكن للقرابة مزية وزيادة حنو وشفقة توجب كمال العناية ولا شك أنها وجه مرجح مع علم القريب بما يحتاج إليه في الغسل. "وأحد الزوجين بالآخر" أولى لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك" أخرجه أحمد وابن ماجة والدارمي وابن حبان والدارقطني والبيهقي وفي إسناده محمد بن إسحق ولم ينفرد به فقد تابعه عليه صالح بن كيسان, وأصل الحديث في البخاري بلفظ: "ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك" وقالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه. أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود, وقد غسلت الصديق زوجته أسماء كما تقدم في الغسل لمن غسل ميتا وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكروه, وغسل علي فاطمة كما رواه الشافعي والدارقطني وأبو نعيم والبيهقي بإسناد حسن, وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. قال في المسوى: اتفقوا على جواز غسل المرأة زوجها, واختلفوا في غسل الزوج امرأته قالت الحنفية: لا يجوز فإن لم يكن إلا الزوج يممها. وقال الشافعي: يجوز لما مر. "ويكون الغسل ثلاثا أو خمسا أو أكثر بماء وسدر" لقوله صلى الله عليه وسلم للنسوة الغاسلات لابنته زينب: "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسدر واجعلن في الأخيرة كافورا" وهو في الصحيحين من حديث أم عطية وفي لفظ لهما أيضا: "اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن" وفيه دليل على تفويض عدد الغسلات إلى الغاسل. قال في الحجة: إنما أمر بالسدر وزيادة الغسلات لأن المريض مظنة الأوساخ والرياح المنتنة 1هـ. "وفي الآخرة كافورا" لقوله صلى الله عليه وسلم: "واجعلن في الآخرة كافورا" كما سبق, وإنما أمر بالكافور في الآخرة لأن من خاصيته أن لا يسرع التغير فيما استعمل, ويقال من فوائده أنه لا يقرب منه حيوان مؤذ. "وتقدم الميامن" ليكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 غسل الموتى بمنزلة غسل الأحياء وليحصل إكرام هذه الأعضاء, ودليله قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم عطية هذا: "ابدأن بميامنها ومواضع الضوء منها" قال ابن القيم: السنة الصحيحة الصريحة في ضفر رأس الميت ثلاث ضفائر كقوله في الصحيحين في غسل ابنته: "اجعلوا رأسها ثلاثة قرون" قالت أم عطية: ضفرنا رأسها وناصيتها وقرنيها ثلاثة قرون وألقيناه من خلفها. فرد ذلك بأنه يشبه زينة الدنيا وإنما يرسل شعرها شقتين على ثديها وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع 1هـ. "ولا يغسل الشهيد" بل يدفن في ثيابه ودمائه تنويها بما فعل وليتمثل صورة بقاء عمله بادي الرأي وهذا هو الحق لما ثبت في شهداء أحد أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا وهو في الصحيح, وما قيل بأن الترك إنما كان لكثرة القتلى وضيق الحال فمردود بما عند أحمد في هذا الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في قتلى أحد: "لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة" وأخرج أبو داود عن جابر قال: رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإسناده على شرط مسلم, وعن ابن عباس عند أبي داود وابن ماجة قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم. وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي وقد تكلم فيه جماعة وفيه أيضا عطاء بن السائب وفيه مقال وفي الباب أحاديث. وبالجملة: فقد جرت السنة في الشهيد أن لا يغسل ولم يرو أنه غسل شهيدا وبه قال الجمهور, وأما من أطلق عليه اسم الشهيد كالمطعون والمبطون والنفساء ونحوهم فقد حكى في البحر الإجماع على أنهم يغسلون. فصل "ويجب تكفينه" الأصل في التكفين التشبه بحال النائم المسجى بثوبه, أكمله في الرجل إزار وقميص وملحفة أو حلة, وفي المرأة هذه مع زيادة ما لأنها يناسبها زيادة الستر. بما يستره لأمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بإحسان الكفن كما في حديث: "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه" وهو في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي قتادة والكفن الذي لا يستر ليس بحسن. "ولو لم يملك غيره" أي الكفن لأمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بتكفين مصعب بن عمير في النمرة1 التي لم يترك غيرهما كما في   1 النمرة بفتح النون وكسر الميم شملة فيها خطوط بيض وسود أو بردة من صوف يلبسها الأعراب قاله في القاموس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الصحيحين وغيرهما من حديث خباب بن الأرت. "ولا بأس بالزيادة مع التمكن من غير مغالاة" لما وقع منه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في كفن ابنته فإنه كان يناول النساء ثوبا ثوبا وهو عند الباب فناولهن الحقو ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر أخرجه أحمد وأبو داود من حديث ليلى بنت قائف الثقفية, وقد كفن صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في ثلاثة اثواب سحولية1 جدد يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة أدرج فيها إدراجا, وهو في الصحيحين. وأخرج أبو داود من حديث علي: "لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعا". أقول: أراد العدل بين الإفراط والتفريط وأن لا ينتحلوا عادة الجاهلية في المغالاة والحاصل: أنه لا ريب في مشروعية الكفن للميت ولا شك في عدم وجوب زيادة على الواحد ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم كون الكفن على صفة من الصفات أوعدد من الأعداد إلا ما كان منه صلى الله عليه وسلم في تكفين ابنته أم كلثوم, وهذا الحديث وإن كان فيه مقال لكنه لا يخرج به عن حد الاعتبار فغاية ما يقال إنه يستحب أن يكون كفن المرأة على هذه الصفة, وأما كفن الرجل فلم يثبت عنه إلا الأمر بالتكفين في الثوب الواحد كما في قتلى أحد, وفي الثوبين كما في المحرم الذي وقصته ناقته وليس تكثير الأكفان والمغالاة في أثمانها بمحمود فإنه لولا ورود الشرع به لكان من إضاعة المال, لأنه لا ينتفع به الميت ولا يعود نفعه على الحي ورحم الله أبا بكر الصديق حيث قال: "إن الحي أحق بالجديد" لما قيل له عند تعيينه لثوب من أثوابه في كفنه: "إن هذا خلق2" والأولى أن يكون الكفن من الأبيض لحديث: "ألبسو من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وصححه والشافعي وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان وفي معناه أحاديث أخر عن عمران وسمرة وأنس وابن عمر وأبي الدرداء. "ويكفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها" فقد كان ذلك صنيعه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الشهداء المقتولين معه, وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد بالشهداء   1 بفتح السين وضمها نسبة إلى سحول قرية باليمن قال ابن الأعرابي وغيره هي ثياب بيض نقية لا تكون إلا من القطن. 2 بفتح اللام وهو الثوب البالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 أن ينزع عنهم الحديد والجلود, وقال: "ادفنوهم بدمائهم وثيابهم" وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن ثعلبة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال يوم أحد: "زملوهم في ثيابهم". وندب تطييب بدن الميت وكفنه لحديث جابر عند أحمد والبيهقي والبزار بإسناد رجاله رجال الصحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أجمرتم الميت فأجمروه1 ثلاثا" ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المحرم الذي وقصته ناقته: "ولا تمسوه بطيب" وهو في الصحيح من حديث ابن عباس فإن ذلك يشعر أن غير المحرم يطيب ولا سيما مع تعليله صلى الله عليه وسلم بقوله: "فإنه يبعث ملبيا". قال في الحجة: فوجب المصير إليه وإلى هذه النكتة أشار النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها". وأما ما قيل تتبع بالطيب مساجده فلعل وجه ما قاله ابن مسعود ومن بعده تكريم هذه الأعضاء لكون الاعتماد عليها في أشرف طاعات الله وهي الصلاة ولم يرد فيه ذلك من المرفوع شيء ولكنه يحسن لستر ما لعله يظهر من روائح الميت التي يتأذى بها المتولون لتجهيزه. فصل "وتجب الصلاة على الميت" لأن اجتماع أمة من المؤمنين شافعين للميت له تأثير بليغ في نزول الرحمة عليه, والصلاة على الأموات ثابتة ثبوتا ضروريا من فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه ولكنها من واجبات الكفاية, لأنهم قد كانوا يصلون على الأموات في حياته صلى الله عليه وسلم ولا يؤذنونه2 كما في حديث السوداء التي كانت تقم3 المسجد فإنه لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد دفنها فقال لهم: "ألا آذنتموني" وهو في الصحيح وامتنع من الصلاة على من عليه دين وأمرهم بأن يصلوا عليه. "ويقوم الإمام حذاء رأس الرجل ووسط المرأة" لحديث أنس بن مالك أنه صلى على جنازة رجل فقام عند رأسه فلما رفعت أتي بجنازة امرأة فصلى عليها فقام وسطها فسئل عن ذلك وقيل له هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من الرجل حيث قمت ومن المرأة حيث قمت قال: نعم أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة ولفظ أبي داود: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنازة كصلاتك يكبر عليها أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة. قال: نعم وفي الصحيحين من حديث   1 الإجمار التبخير بالبخور. 2 أي لا يعلمونه. 3 تقم أي تجمع القمامة وهي الكناسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 سمرة قال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وسطها. والخلاف في المسألة معروف وهذا هو الحق. وأقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقف مقابلا لرأس الرجل ولم يثبت عنه غير ذلك وأما المرأة فروي أنه كان يقوم مقابلا لوسطها وروي أنه كان يقوم مقابلا لعجيزتها ولا منافاة بين الروايتين فالعجيزة يصدق عليها أنها وسط وإيثار ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أئمة الفن الذين هم المرجع لغيرهم واجب ولم يقل أحد من أهل العلم بترجيح قول أحد من الصحابة أو من غيرهم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله وهذا مما لا ينبغي أن يخفى. "ويكبر أربعا أو خمسا" لورود الأدلة بذلك, أما الأربع فثبتت ثبوتا متواترا من طريق جماعة من الصحابة أبي هريرة وابن عباس وجابر وعقبة بن عامر والبراء بن عازب وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم رضي الله تعالى عنهم, وأما الخمس فثبتت في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا وإنه كبر على جنازة خمسا فسألته فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها أخرجه مسلم وأحمد وأهل السنن, وأخرج أحمد عن حذيفة أنه صلى على جنازة فكبر خمسا ثم التفت فقال: ما نسيت ولا وهمت ولكن كبرت كما كبر النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فكبر خمسا. وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابري وهو ضعيف, وقد اختلف الصحابة فمن بعدهم في عدد تكبير صلاة الجنازة: فذهب الجمهور إلى أنه أربع وذهب جماعة من الصحابة فمن بعدهم إلى أنه خمس, وقال القاضي عياض: اختلفت الصحابة في ذلك من ثلاث تكبيرات إلى تسع. قال ابن عبد البر: وانعقد الإجماع بعد ذلك على أربع وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما جاء في الأحاديث الصحاح وما سوى ذلك عندهم فشذوذ لا يلتفت إليه اهـ. وهذه الدعوى مردودة فالخلاف في ذلك معروف بين الصحابة وإلى الآن ولا وجه لعدم العمل بالخمس بعد خروجها من مخرج صحيح مع كونها زيادة غير منافية إلا أن يصح ما رواه ابن عبدا لبر في الاستذكار من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبيه كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وسبعا وثمانيا حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 جاء موت النجاشي فخرج فكبر أربعا ثم ثبت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أربع حتى توفاه الله تعالى, على أن استمراره على الأربع لا ينسخ ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الخمس ما لم يقل قولا يفيد ذلك, وقد أخرج الطبراني في الأوسط عن جابر مرفوعا: "صلوا على موتاكم بالليل والنهار والصغير والكبير والدنيء والأمير أربعا" وفي إسناده عمرو بن هشام البيروتي تفرد به عن ابن لهيعة, وما أحق هذا بأن لا يصح ولا يثبت, وقد روى البخاري عن علي أنه كبر على سهل بن حنيف ستا وقال إنه شهد بدرا وروى سعيد بن منصور عن الحكم بن عتيبة أنه قال: كانوا يكبرون على أهل بدر خمسا وستا وسبعا. "ويقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة وسورة" لحديث ابن عباس عند البخاري وأهل السنن أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنه من السنة. ولفظ النسائي: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر فلما فرغ قال سنة وحق. وروى الشافعي في مسنده عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات ولا يقرأ في شيء منهن ثم يسلم سرا في نفسه. قال في الفتح: وإسناده صحيح, وقد أخرجه عبد الرزاق والنسائي بدون قوله: "بعد التكبيرة" ولا قوله: "ثم يسلم سرا في نفسه". قال في الحجة: ومن السنة قراءة الفاتحة لأنها خير الأدعية وأجمعها علمها الله تعالى عباده في محكم كتابه اهـ. والحاصل: أن المواطن موطن دعاء لا موطن قراءة قرآن فيتوجه الاقتصار على ما ورد وهو الفاتحة وسورة ويكون ذلك بعد التكبيرة الأولى ويشتغل فيما بعدها بمحض الدعاء. "ويدعو بين التكبيرات بالأدعية المأثورة" منها ما أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا صلى على جنازة قال: "اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان" زاد أبو داود وابن ماجه: "اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده" وأخرجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 أيضا النسائي وابن حبان والحاكم قال: وله شاهد صحيح من حديث عائشة نحوه: وأخرج هذا الشاهد الترمذي وأعله بعكرمة بن عمار وأخرج مسلم وغيره من حديث عوف بن مالك قال: سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بماء وثلج وبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وقه فتنة القبر وعذاب النار". وقد وردت أدعية متنوعة في أحاديث صحيحة هي أولى من الاستحسانات التي ذكرها الفقهاء في كتبهم من عند أنفسهم فإنهم لم يقصدوا أنها أولى من الثابت عنه صلى الله عليه وسلم, ولكن فن الرواية هم عنه بمعزل فضاعت عليهم المسالك وهي واسعة. قال في الحجة البالغة: ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الميت: "اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك فقه من فتنة القبر وعذاب النار وأنت أهل الوفاء والحق اللهم اغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم" وأما الصلاة على الجنائز في المساجد فغاية ما استدل به من قال بالكراهة ما أخرجه أبو دواد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه" وأخرجه ابن ماجه بلفظ: "فليس له شيء" وقد أجاب الجمهور عن هذا الحديث بأجوبة منها: أنه ضعيف كما قاله جماعة من الحفاظ فإن في إسناده صالحاً مولى التوأمة ومنها: أن الذي في النسخ المشهورة الصحيحة من سنن أبي داود بلفظ: "فلا شيء عليه" كما تقدم, وعلى فرض ثبوت الرواية باللفظ الآخر فيجب تأويلها لما ثبت من صلاته صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد. بل أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة أن الصحابة صلوا على أبي بكر وعمر في المسجد, وأما إنكار من أنكر على عائشة فلا حجة فيه ولا سيما وقد انقطع عند أن قامت عليه الحجة, وأما الصلاة على الجنازة فرادى فأقول: الاستدلال ممن قال باشتراط التجميع فيها بأنه صلى الله عليه وسلم ما صلى على جنازة إلا في جماعة لا تتم به الحجة لأن الأصل في كل صلاة مشروعة أن تكون كالصلوات الخمس في إجزائها فرادى كما تجزئ جماعة ومن زعم غير ذلك فعليه الدليل ولو كان فعلها منه صلى الله عليه وسلم في جماعة تقوم به الحجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 للزم في صلاة الفرائض الخمس أن لا تصح إلا جماعة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يؤدها إلا في جماعة. إذا تقرر هذا فالاقتصار في الاستدلال لصحة صلاة الجنازة فرادى على ما ذكرناه مغن عن غيره فإن تحقيق إجماع الصحابة على تجويز الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند موته فرادى ممنوع لأنهم قد تفرقوا بعض تفرق في تلك الحال, وإن كان الباقون في المدينة جمهورهم وأكابرهم ثم لو فرض الإجماع على ذلك فهو إجماع سكوتي وانتهاضه للاحتجاج فيه ما لا يخفى على عارف بالأصول ثم هذا مبني على صدور ذلك ولم يرد إلا بإسناد ضعيف أنهم فعلوا ذلك, وأما ما يقال أنه صلى الله عليه وسلم أوصاهم بأن يصلوا عليه فرادى ففي إسناده عند المنعم بن إدريس وهو كما قيل كذاب وصرح بعض الحفاظ بأن الحديث موضوع, "ولا يصلى على الغال1" لامتناعه صلى الله عليه وسلم في غزاة خبير من الصلاة على الغال كما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه. "وقاتل نفسه" لحديث جابر بن سمرة عند مسلم وأهل السنن أن رجلا قتل نفسه بمشاقص2 فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم. "والكافر" وذلك هو المعلوم منه صلى الله عليه وسلم فإنه لم ينقل عنه أنه صلى على كافر وقد صرح بذلك القرآن الكريم قال الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} . "والشهيد" وقد اختلفت الروايات في ذلك وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد. وأخرجه أيضا أهل السنن وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل عليهم. أقول: لا يشك من له أدنى إلمام بفن الحديث أن أحاديث الترك أصح إسنادا وأقوى متنا حتى قال بعض الأئمة إنه كان ينبغي لمن عارض أحاديث النفي بأحاديث الإثبات أن يستحي على نفسه. لكن الجهة التي جعلها المجوزون وجه ترجيح وهي الإثبات لا ريب أنها من المرجحات الأصولية إنما الشأن في صلاحية أحاديث الإثبات لمعارضة أحاديث النفي لأن الترجيح فرع المعارضة. والحاصل: أن أحاديث الإثبات مروية من طرق متعددة لكنها جمعيا متكلم عليها, وقد أطال   1 هو الذي سرق من الغنيمة قبل قسمتها. 2 جمع مشقص كمنبر نصل عريض أو طويل أو سهم فيه ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الماتن الكلام على هذا في شرح المنتقى وسرد الروايات المختلفة واختلاف أهل العلم في ذلك فليرجع إليه فإن هذا المقام من المعارك. "ويصلى على القبر وعلى الغائب" لحديث أنه صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى إلى قبر رطب فصلى عليه وصفوا خلفه وكبر أربعا. وهو في الصحيحن من حديث ابن عباس وكذلك صلاته على قبر السوداء التي كانت تقم المسجد وهو أيضا في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وصلى على قبر أم سعد وقد مضى لذلك شهر أخرجه الترمذي وصلى على النجاشي هو وأصحابه كما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر وأبي هريرة وهو مات في دياره بالحبشة فصلى عليه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالمدينة, والخلاف في الصلاة على القبر والغائب معروف ولم يأت المانع بشيء يُعتد به. أقول: الأدلة ثابتة في الصلاة على القبر ثبوتا لا يقابله أهل العلم بغير القبول, أما فيمن لم يصل عليه فالأمر أوضح من أن يخفى ولا تزال الصلاة مشروعة عليه ما علم الناس أنه لم يصل عليه أحد, وأما فيمن قد صُلي عليه فلمثل حديث السوداء المتقدم, ومعلوم أن الميت لا يدفن في عصره صلى الله عليه وسلم بدون صلاة عليه, وأما المانعون من الصلاة على القبر مطلقا فأشف ما استدلوا به ما روي عنه صلى الله عليه وسلم في حديث السوداء المذكور أنه قال: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها بصلاتي عليهم". قالوا: فهذا يدل على اختصاصه صلى الله عليه وسلم بذلك وتُعقِّب بأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على من صلى معه على القبور ولو كان خاصا به لأنكر عليهم, وأجيب عن هذا التعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا يصلح للاستدلال به على الفعل أصالة وأحسن ما يجاب به عن هذه الزيادة بأنها مدرجة في هذا الحديث كما بين ذلك جماعة من أصحاب حماد بن زيد على أنه يمكن الجواب بأن كون الله ينور القبور بصلاة رسوله صلى الله عليه وسلم عليها لا ينفي مشروعية الصلاة من غيره تأسيا به لا سيما بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي". قال ابن القيم في إعلام الموقعين: رُدت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" وهذا حديث صحيح, والذي قاله هو الذي صلى على القبر فهذا قوله وهذا فعله ولا يناقض أحدهما الآخر فإن الصلاة المنهي عنها إلى القبر غير الصلاة التي على القبر فهذه صلاة الجنازة على الميت التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 لا تختص بمكان بل فعلها في غير المسجد أفضل من فعلها فيه فالصلاة عليه على قبره من جنس الصلاة عليه على نعشه فإنه المقصود بالصلاة في الموضعين ولا فرق بين كونه على النعش وعلى الأرض وبين كونه في بطنها, بخلاف سائر الصلوات فإنها لم تشرع في القبور ولا إليها لأنها ذريعة إلى اتخاذها مساجد, وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك فأين ما لعن فاعله وحذر منه وأخبر أن أهله شرار الخلق كما قال: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذي يتخذون القبور مساجد" إلى ما فعله صلى الله عليه وسلم مراراً متكررة؟ وبالله التوفيق. فصل ويكون المشي بالجنازة سريعاً لحديث أبي بكرة عند أحمد والنسائي وأبي داود والحاكم قال: لقد رأيتنا مع رسول الله عليه وسلم وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملا1, وأخرج البخاري في تاريخه قال: أسرع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسرعوا بالجنازة فإن كانت صالحة قربتموها إلى الخير وإن كان غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم" وقد ذهب الجمهور إلى أن الإسراع مستحب, وقال ابن حزم: بوجوبه. وذهب بعض أهل العلم إلى أن المستحب التوسط لحديث أبي موسى قال: مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة تمخض مخض الزق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم القصد" أخرجه أحمد وابن ماجة والبيهقي وفي إسناده ضعف وأخرج الترمذي وأبو داود من حديث ابن مسعود قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال: "ما دون الخبب فإن كان خيرا عجلتموه وإن كان شرا فلا يبعد إلا أهل النار" وفي إسناده مجهول, ولا يخفاك أن حديث أبي موسى لا يصلح للاحتجاج به على فرض عدم وجود ما يعارضه فكيف وقد عارضه ما هو في الصحيحين بلفظ الأمر. وأما حديث ابن مسعود فلا ينافي الإسراع لأن الخبب هو ضرب من العدو وما دونه إسراع. أقول: والحق هو القصد في المشي فالأحاديث المصرحة بمشروعية الإسراع ليس المراد بها الإفراط في المشي الخارج عن حد الاعتدال, والأحاديث التي فيها الإرشاد   1 الرمل بفتح الميم المشي مع هز المنكبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 إلى القصد ليس المراد بها الإفراط في البطء فيجمع بين الأحاديث بسلوك طريقة وسطى بين الإفراط والتفريط يصدق عليها أنه إسراع بالنسبة إلى الإفراط في البطء وأنها قصد بالنسبة إلى الإفراط في الإسراع فيكون المشروع دون الخبب وفوق المشي الذي يفعله من يمشي في غير مهم, ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي وأبو داود عن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال: "ما دون الخبب" وقد ضعفه جماعة بأبي ماجد المذكور في إسناده قيل إنه مجهول وقيل منكر الحديث, والراوي عنه يحيى الجابري وهو ضعيف. وأخرج أحمد والنسائي والحاكم عن أبي بكرة قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملا1. فمعنى نكاد نرمل أي نقارب الرمل. "والمشي معها" سنة وهو ظاهر لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يمشي مع الجنائز هو وأصحابه كما يفيد ذلك الأحاديث المتقدمة في صفة المشي والأحاديث الآتية في التقدم والتأخر على الجنازة ولحديث أبي هريرة الثابت في الصحيح: "من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا" الحديث. "والحمل لها سنة" لحديث ابن مسعود قال: من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع. أخرجه ابن ماجة وأبو داوود اليطالسي والبيهقي من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عنه2. وفي الباب عن جماعة من الصحابة والأحاديث يقوي بعضها بعضا ولا تقصر عن إفادة مشروعية الحمل والمتقدم عليها والمتأخر عنها سواء لما ثبت في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يمشون حول جنازة ابن الدحداح, وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وابن حبان وصححه أيضا والحاكم وقال: على شرط البخاري من حديث المغيرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريبا منها عن يمينها أو عن يسارها" ولفظ أبي داود: "والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبا منها" وفي لفظ لأحمد والنسائي والترمذي: "الراكب خلف   1 هذا الحديث وحديث ابن مسعود كررهما الشارح في هذه المسألة بدون مناسبة فقد ذكرهما أولا وتكلم عنهما. 2 أبو عبيدة لم يسمع من أبيه هو معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الجنازة والماشي حيث شاء منها" وأخرج أحمد وأهل السنن والدارقطني والبيهقي وابن حبان وصححه من حديث ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المشي أما الجنازة أفضل وبعضهم إلى أن المشي خلفها أفضل. أقول: فإذا لم يكن المشي أمام الجنازة أفضل فأقل الأحوال أن يكون مساويا للمشي خلفها في الفضيلة ولم يأت حديث صحيح ولا حسن أن المشي خلف الجنازة أفضل وأقوال الصحابة مختلفة فالحق أن ذلك سواء ولا ينافيه رواية من روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم مشى أمامها أو خلفها فذلك سواء لأن المشي مع الجنازة إنما يكون أمامها أو خلفها أو في جوانبها وقد أرشد إلى ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كما تقدم فكل مكان من الأمكنة المذكورة هو من جملة ما أرشد إليه. قال في الحجة: وهل يمشي أمام الجنازة أو خلفها وهل يحملها أربعة أو اثنان وهل يسل من قبل رجليه أو من القبلة المختار أن الكل واسع وأنه قد صح في الكل حديث أو أثر اهـ. ويكره الركوب لحديث ثوبان قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى ناسا ركبانا فقال: "ألا تستحيون إن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب" أخرجه ابن ماجة والترمذي وأخرج أبو داود من حديث ثوبان أيضا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أتي بدابة وهو مع جنازة فأبى أن يركبها فلما انصرف أتي بدابة فركب فقيل له فقال: "إن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون فلما ذهبوا ركبت" وقد خرج صلى الله عليه وآله وسلم مع جنازة ابن الدحداح ماشيا ورجع على فرس كما في حديث جابر بن سمرة عند الترمذي وقال صحيح ولا يعارض الكراهة ما تقدم من قوله: "الراكب خلف الجنازة" لأنه يمكن أن يكون ذلك لبيان الجواز مع الكراهة أو المراد بأن كون الراكب خلفها أن يكون بعيدا على وجه لا يكون في صورة من يمشي مع الجنازة "ويحرم النعي" لحديث حذيفة عند أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن النعي وحديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والنعي فإن النعي عمل الجاهلية" أخرجه الترمذي وفي إسناده أبو حمزة ميمون الأعور وليس بالقوي, وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الباب أحاديث والذي في الصحاح والقاموس والنهاية وغيرها من كتب اللغة أن النعي الإخبار بموت الميت فظاهره تحريم ذلك وإن لم يصحبه ما يستنكر كما كانت تفعله الجاهلية من إرسال من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق, ولكنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه أي أخبرهم وأخبر بقتلى مؤتة وقال في السوداء التي كانت تقم المسجد: "ألا أخبرتموني بموتها" فدلت هذه الأحاديث على جواز الإعلام بمجرد الموت لمن يحضر الغسل والتكفين والصلاة والمنع منه لغير ذلك. "والنياحة" لحديث: "من نيح عليه يعذب بما نيح عليه" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث المغيرة وعلى النياحة تحمل الأحاديث الواردة في النهي عن البكاء وأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الميت يعذب في قبره بما نيح عليه" وأخرج أحمد ومسلم من حديث أبي مالك الأشعري: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب" وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي موسى بلفظ: أنا بريء مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: بريء من الصالقة والحالقة والشاقة. أقول: الأحاديث في هذا الباب قد اختلفت فمنها ما فيه الإذن بمطلق البكاء ومنها ما فيه النهي عن مطلق البكاء ووردت أحاديث مصرحة بالنهي عن النوح كما تقدم بعض ذلك ولم يأت ما يدل على جوازه واختلف الناس في الجميع بين الأحاديث فالذي يترجح الجزم بتحريم نفس النوح لأنه أمر زائد على البكاء, وأما ما لا يستطاع دفعه من دمع العين وماعجز الطبع عن كتمه من الصوت فلا مانع منه وعليه تحمل أحاديث الإذن بالبكاء وفيها ما يرشد إلى هذا فليعلم. "واتباعها بنار وشق الجيب والدعاء بالويل والثبور" لحديث أبي بردة قال: أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال: لا تتبعوني بمجمر. قالوا: أوسمعت فيه شيئا؟ قال: نعم من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. أخرجه ابن ماجة وفي إسناده مجهول, وقد كان هذا الفعل من أفعال الجاهلية. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية". "ولا يقعد المتبع لها حتى توضع" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 لحديث: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها فمن اتبع فلا يجلس حتى توضع" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة نحوه وقد وردت أحاديث صحيحة في القيام للجنازة إذا مرت بمن كان قاعدا كحديث: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر وغيره, وأخرج مسلم من حديث علي قال: قام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يعني في الجنازة ثم قعد. وفي رواية من حديثه قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس. رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود وابن حبان, وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجة والبزار من حديث عبادة بن الصامت أن يهوديا قال: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم للجنازة هكذا نفعل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجلسوا وخالفوهم" وفي إسناده بشر بن أبي رافع وليس بالقوي كما قال الترمذي, وقال البزار تفرد به بشر وهو لين. فأفاد ما ذكرناه أن القيام لها إذا مرت منسوخ, وأما قيام الماشي خلفها حتى توضع على الأرض فمحكم لم ينسخ قال القاضي عياض: ذهب جمع من السلف إلى أن الأمر بالقيام منسوخ بحديث علي هذا. أقول: وهذا الحديث بلفظ ثم قعد لا يصلح لنسخ الأحاديث الصحيحة المصرحة بأمره صلى الله عليه وسلم لنا بالقيام وعلل ذلك بأن الموت فزع وقام لجنازة فقيل إنها جنازة يهودي فقال: "أليست نفسا" فغاية ما يدل عليه قعوده من بعد هو أن القيام ليس بواجب عليه وقد تقرر في الأصول أنه إذا فعل فعلا لم يظهر منه التأسي به فيه وكان ذلك مخالفا لما قد أمر به الأمة أو نهاها عنه فإنه يكون مختصا به ويبقى حكم الأمر أو النهي للأمة على حاله1 ولفظ: "أمرنا بالجلوس" إن بلغ إلى حد الاعتبار صلح للنسخ ويؤيده حديث عبادة بن الصامت المتقدم وفيه ما تقدم والمقام عندي من المضايق. فصل "ويجب دفن الميت" أي مواراة جيفته في "حفرة" قبر بحيث لا تنبشه السباع وتمنعه من السباع ولا تخرجه السيول المعتادة ولا خلاف في ذلك, وهو ثابت في الشريعة ثبوتا ضروريا وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "احفروا وأعمقوا   1 كلا بل فعله صلى الله عليه وسلم يجب التأسي به مطلقا فيما كان من الشرائع والخصوصية لا تثبت إلا بدليل صريح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وأحسنوا" أخرجه النسائي والترمذي وصححه. "ولا بأس بالضرح واللحد أولى". لأن اللحد أقرب من إكرام الميت وإهالة التراب على وجهه من غير ضرورة سوء أدب, ودليله حديث: أن أبا عبيدة بن الجراح كان يضرح وأن أبا طلحة كان يلحد. وقد أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف, وأخرج أحمد وابن ماجه من حديث أنس قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل يلحد وآخر يضرح فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد فلحدوا له. وإسناده حسن. فتقريره صلى الله عليه وسلم للرجلين في حياته هذا يلحد وهذا يضرح يدل على أن الكل جائز, وأما أولوية اللحد فلحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللحد لنا والشق لغيرنا" أخرجه أحمد وأهل السنن وقد حسنه الترمذي وصححه ابن السكن مع أن في إسناده عبد الأعلى بن عامر وهو ضعيف, وأخرج أحمد والبزار وابن ماجة من حديث جرير نحوه وفيه عثمان بن عمير وهو ضعيف, وقد ذهب إلى ذلك الأكثر, وحكى النووي في شرح مسلم اتفاق العلماء على جواز اللحد والشق وعلى كل حال اللحد أولى للخروج من الريبة وإن كان المقام مقام احتمال. ويدخل الميت من مؤخر القبر لحديث عبد الله بن زيد: أنه أدخل ميتا من قبل رجلي القبر, وقال: هذا من السنة أخرجه أبو داود وأخرج ابن ماجه من حديث أبي رافع قال: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ سلا. وقد روى الشافعي من حديث ابن عباس وأبو بكر النجاد من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه سلا. وقد روى البيهقي من حديث ابن عباس وابن مسعود وبريدة أنهم أدخلوا النبي صلى الله عليه وسلم من جهة القبلة. وقد ضعفها البيهقي ولا يعارض السنة ما وقع من بعض الصحابة عند دفنه صلى الله عليه وسلم. "ويوضع على جنبه الأيمن مستقبلا" وهو مما لا أعلم فيه خلافا. "ويستحب حثو التراب من كل من حضر ثلاث حثيات" لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا. أخرجه ابن ماجه وأبو داود وإسناده صحيح لا كما قال أبو حاتم. وأخرج البزار والدارقطني من حديث عامر بن ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم حثى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 على قبر عثمان بن مظعون ثلاثا. وفي الباب غير ذلك. ولا يرفع القبر زيادة على شبر لحديث علي عند مسلم وأحمد وأهل السنن: أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يدع تمثالا إلا طمسه ولا قبرا مشرفا إلا سواه. وفي مسلم أيضا وغيره من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبر وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء ورفعه شبرا. أقول: الأحاديث الصحيحة وردت بالنهي عن رفع القبور وقد ثبت من حديث أبي الهياج ما تقدم فما تصدق عليه أنه قبر مرفوع أو مشرف لغة فهو من منكرات الشريعة التي يجب على المسلمين إنكارها وتسويتها من غير فرق بين نبي وغير نبي وصالح وطالح فقد مات جماعة من أكابر الصحابة في عصره صلى الله عليه وسلم ولم يرفع قبورهم بل أمر عليا بتسوية المشرف منها ومات صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرفع قبره أصحابه وكان من آخر قوله: "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ونهى أن يتخذوا قبره وثنا فما أحق الصلحاء والعلماء أن يكون شعارهم هو الشعار الذي أرشدهم إليه صلى الله عليه وآله وسلم وتخصيصهم بهذه البدعة المنهي عنها تخصيص لهم بما لا يناسب العلم والفضل فإنهم لو تكلموا لضجوا من اتخاذ الأبنية على قبورهم وزخرفتها لأنهم لا يرضون بأن يكون لهم شعار من مبتدعات الدين ومنهياته فإن رضوا بذلك في الحياة كمن يوصي من بعده أن يجعل على قبره بناء أو يزخرفه فهو غير فاضل والعالم يزجره علمه عن أن يكون على قبره ما هو مخالف لهدي نبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فما أقبح ما ابتدعه جهلة المسلمين من زخرفة القبور وتشييدها, وما أسرع ما خالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته فجعلوا قبره على هذه الصفة التي هو عليها الآن, وقد شد من عضد هذه البدعة ما وقع من بعض الفقهاء من تسويغها لأهل الفضل حتى دونوها في كتب الهداية والله المستعان, ومثل هذا التسويغ الكتب على القبور بعد ورود صريح النهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة1 كأنه لم يكف الناس ابتداعهم في مطعمهم   1 روى الحاكم في المستدرك جزء 1 ص 370 من حديث جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور والكتاب فيها والبناء عليها والجلوس عليها ثم قال: هذه الأسانيد صحيحة وليس العمل عليها فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوب على قبورهم وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف. قال الذهبي عقبه: قلت: ما قلت طائلا ولا نعلم صحابيا فعل ذلك إنما هو شيء أحدثه بعض التابعين فمن بعدهم ولم يبلغهم النهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ومشربهم وملبوسهم وسائر أمور دنياهم فجعلوا على قبورهم شيئا من هذه البدع لتنادي عليهم بما كانوا عليه حال الحياة وتغالوا في ذلك حتى جعلوه مختصا بأهل العلم والفضل اللهم غفرا وما جعلوه وجها لرفع القبور وهو تمييزها لأجل الزيارة فهذا ممكن بوضع حجر على القبر أو بوضع قضيب أو نحو ذلك لا بتشييد الأبنية ورفع الحيطان والقبب وتزويق الظاهر والباطن. "والزيارة للموتى مشروعة" أي زيارة القبور لحديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكر الآخرة" أخرجه الترمذي وصححه وهو في الصحيح مسلم وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة بنحو ذلك وفي الباب أحاديث, وقد قيل باختصاص ذلك بالرجال لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: لعن زوارات القبور أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه, وفي الباب عن حسان بن ثابت عند أحمد وابن ماجة والحاكم وعن ابن عباس عند أحمد وأهل السنن والحاكم والبزار بإسناد فيه صالح مولى التوأمة وهو ضعيف وقد وردت أحاديث في نهي النساء عن اتباع الجنائز وهي تقوي المنع من الزيارة وروى الأثرم في سننه والحاكم من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهن في زيارة القبور وأخرج ابن ماجة عنها مختصرا أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور فيمكن أنها أرادت الترخيص الواقع في قوله صلى الله عليه وسلم: "فزوروها" كما سبق فلا يكون في ذلك حجة لأن الترخيص العام لا يعارض النهي الخاص لكنه يؤيد ما روته عائشة ما في صحيح مسلم عنها أنها قالت: يا رسول الله كيف أقول إذا زرت القبور؟ قال: "قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين" الحديث, وروى الحاكم أن فاطمة رضي الله تعالى عنها كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة1 ويجمع بين الأدلة بأن المنع لمن كانت تفعل في الزيارة ما لا يجوز من نوح ونحوه والإذن لمن لم تفعل ذلك. أقول: استدلوا للجواز بأحاديث الإذن العام بالزيارة وغير خاف على عارف بالأصول أن الأحاديث الواردة في النهي للنساء عن الزيارة   1 رواه الحاكم جزء 1: ص 377 من طريق سليمان بن داود عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه وقال رواته عن آخرهم ثقات. قال الذهبي: هذا منكر جدا وسليمان ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 والتشديد في ذلك حتى لعن صلى الله عليه وسلم من فعلت ذلك بل وردت أحاديث صحيحة في نهيهن عن اتباع الجنائز فزيارة القبور ممنوعة منهن بالأولى وشدد في ذلك حتى قال للبتول رضي الله عنها: "لو بلغت معهم يعني أهل الميت الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك" 1 فهذه الأحاديث مخصصة لأحاديث الإذن العام بالزيارة لكنه يشكل على ذلك أحاديث أخر منها حديث عائشة المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها كيف تقول إذا زارت القبور, ومنها ما أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة تبكي على قبر ولم ينكر عليها الزيارة. قال القرطبي: اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة يعني لفظ زوارات. قال: ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج. ويقف الزائر مستقبلا للقبلة لحديث: أنه جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة لما خرج إلى المقبرة أخرجه أبو داود من حديث البراء وهو صلى الله عليه وسلم خرج في هذا الحديث مع جنازة فأفاد مشروعية قعود من خرج من الجنازة مستقبلا حتى يدفن وكذلك مشروعية الاستقبال للزائر لكونه قد خرج إلى المقبرة كما يخرج من معه جنازة وقعد كما يقعد وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول عند الزيارة: "السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية" فينبغي للزائر أن يقول كذلك وقال في الحجة: وفي رواية: "السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم وأنتم سلفنا ونحن بالأثر" والله تعالى أعلم. "ويحرم اتخاذ القبور مساجد" الأحاديث في ذلك كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما ولها ألفاظ منها: "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وفي لفظ: "قاتل الله اليهود" الحديث وفي لفظ: "لا تتخذوا قبري مسجدا" وفي آخر: "لا تتخذوا قبري وثنا" واتخاذ القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها أو بمعنى الصلاة عليها وفي مسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ولا عليها". قال البيضاوي: وأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا لتعظيم له ولا لتوجه نحوه فلا   1 رواه الحاكم جزء 1: ص 374 ولم يذكر فيه أن المرأة فاطمة ونسبه الشوكاني في نيل الأوطار جزء 4: ص 165 طبعتنا لأبي داود. صححه الحاكم ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 يدخل في ذلك الوعيد انتهى. وتعقبه في سبل السلام وقال: قوله لا لتعظيم له يقال اتخاذ المسجد بقربه وقصد التبرك به تعظيم له, ثم أحاديث النهي مطلقة ولا دليل على التعليل بما ذكر, والظاهر أن العلة سد الذريعة والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان التي تعظم الجمادات التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر, ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية ولأنه سبب لا يقاد السرج عليها الملعون فاعله ومفاسد مابني على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر, وقد أخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج وقد حققنا ذلك في رسالة مستقلة انتهى. وزخرفتها لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ما أمرت بتشييد المساجد" أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان. قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى, والتشييد رفع البناء وتزيينه بالشيد وهو الجص والحديث ظاهر في الكراهة أو التحريم لقول ابن عباس كما زخرفت اليهود والنصارى فإن التشبه بهم محرم وذلك أنه ليس المقصود من بناء المساجد إلا أن تكن الناس من الحر والبرد وتزيينه يشغل القلوب عن الإقبال على الطاعة, ويذهب الخشوع الذي هو روح جسم العبادة. والقول بأنه يجوز تزيين المحراب باطل. قال المهدي في البحر: إن تزيين الحرمين لم يكن برأي ذي حل وعقد ولا سكوت رضا أي من العلماء, وإنما فعله أهل الدول الجبابرة من غير مؤاذنة لأحد من أهل الفضل وسكت المسلمون والعلماء من غير رضا وهو كلام حسن, وفي قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ما أمرت" إشعار بأنه لا يحسن فإنه لو كان حسنا لأمره الله تعالى به صلى الله تعالى عليه وآله وسلم, وأخرج البخاري من حديث ابن عمر أن مسجده صلى الله تعالى عليه وسلم كان على عهده مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة وبنى جدرانه بالأحجار المنقشة والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج. قال ابن بطال: وهذا يدل على أن السنة في بنيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 المساجد القصد وترك الغلو في تحسينه فقد كان عمر رضي الله تعالى عنه مع كثرة الفتوحات في أيامه وكثرة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه وإنما احتاج إلى تجديده لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه ثم قال عند عمارته: أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. ثم كان عثمان المال في زمنه أكثر فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة ومع ذلك أنكر بعض الصحابة عليه, وأول من زخرف المساجد الوليد ابن عبد الملك وذلك في أواخر عصر الصحابة وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة فتأمل. "وتسريجها" لحديث: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه وفي إسناده أبو صالح با ذام وفيه مقال, وأخرج أحمد ومسلم وأهل السنن عن جابر قال: نهى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه. وزاد الترمذي: "وأن يكتب عليه وأن يوطأ" وصححه, وأخرج النهي عن الكتابة أيضا النسائي وقال الحاكم إن الكتابة وإن لم يخرجها مسلم فهي على شرطه. "والقعود عليها" لما أخرجه مسلم وأحمد وأهل السنن من حديث أبي هريرة قال: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر" 1 وأخرج أحمد بإسناد صحيح عن عمرو ابن حزم قال: رآني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم متكئا على قبر فقال لا تؤذ صاحب هذا القبر. قال في الحجة البالغة: ومعنى أن لا يقعد عليه قيل: أن يلازمه المزورون وقيل: أن يطؤوا القبور وعلى هذا فالمعنى إكرام الميت فالحق التوسط بين التعظيم الذي يقارب الشرك وبين الإهانة وترك الموالاة بت. وسب الأموات لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ماقدموا" أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة, وأخرج أحمد والنسائي من حديث ابن عباس: "لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا" وفي إسناده صالح بن نبهان وهو ضعيف ولكنه يشهد له ما ورد بمعناه من حديث سهل بن سعد والمغيرة. أقول: أما السباب للأموات   1 ظاهر صنيع الشارح يوهم أن هذا الحديث من كلام أبي هريرة وليس كذلك بل هو حديث مرفوع وقوله: وأهل السنن يشمل الترمذي وليس كذلك فإنه لم يروه. انظر نيل الأوطار جزء 4 ص 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 من الشافعين لهم القائمين بالصلاة عليهم فما لهذا حمل الحاملون الجنازة إليهم فإذا كان لا يستجيز الدعاء للميت كمن يكون مثلا معلوم النفاق فيدعو المصلي لنفسه ولسائر المسلمين إذا ألجأته الضرورة إلى الصلاة عليه و: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه", "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" , "طوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس". قال بعض المقصرين لرجل من أهل العلم ألا تلعن فلانا قال: وهل تعبدنا الله بذلك؟ قال: نعم. قال: فمتى عهدك بلعن الشيطان وفرعون فإنهما من رؤوس هذه الطائفة التي زعمت أن الله تعبدك بلعنها؟ قال: لا أدري؟ قال: لقد فرطت فيما تعبدك الله به وتركت ما هو أحق بما تفعل فعرف ذلك المقصر خطأه. "والتعزية مشروعة" لحديث: "من عزى مصابا فله مثل أجره" أخرجه ابن ماجة والترمذي والحاكم من حديث ابن مسعود, وقد أنكر هذا الحديث على علي بن عاصم وأخرج ابن ماجه من حديث عمرو بن حزم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة" ورجال إسناده ثقات, وأخرج الشافعي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: لما توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب. وفي إسناده القاسم بن عبيد الله ابن عمرو وهو متروك, وأخرج البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيا لها أو ابنا لها في الموت فقال للرسول: "ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب". فينبغي التعزية بهذه الألفاظ الثابتة في الصحيح ولا يعدل عنها إلى غيرها1. "وكذلك إهداء الطعام لأهل الميت" لحديث عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي   1 لماذا لا يعدل عنها إلى غيرها هل ورد الأمر والنهي عما عداها نعم إن اتباع الوارد أفضل ولكن هذا لا يمنع إباحة التعزية بكل ما يراه الإنسان نافعا لتخفيف المصاب على أن لا يقول ما يغضب الرب ولا يخالف المشروع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وابن ماجة وصححه ابن السكن وحسنه الترمذي وأخرج نحوه أحمد الطبراني وابن ماجة من حديث أسماء بنت عميس أم عبد الله بن جعفر, وأخرج أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح من حديث جرير قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. ولا يعارض هذا ما قد ثبت عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وشرف وكرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 كتاب الزكاة مقدمة ... كتاب الزكاة وهي فريضة من فرائض الدين وركن من أركانه وضروري من ضرورياته ولكنها لا تجب إلا فيما أوجب فيه الشارع الزكاة من الأموال وبينه للناس فإن ذلك هو بيان لمثل قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} {وَآتُوا الزَّكَاةَ} كما بين للناس قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ} ما شرعه الله تعالى من الصلوات التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس. قال الماتن: وقد توسع كثير من أهل العلم في إيجاب الزكاة في أموال لم يوجب الله الزكاة فيها بل صرح النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في بعض الأموال بعدم الوجوب كقوله: "ليس على المرء في عبده ولا فرسه صدقة" وقد كان للصحابة أموال وجواهر وتجارات وخضراوات ولم يأمرهم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بتزكية ذلك ولا طلبها منهم ولو كانت واجبة في شيء من ذلك لبين للناس ما نزل إليهم فقد أوردنا في هذا المختصر ما تجب فيه وأشرنا إلى أشياء من الأموال التي لا زكاة فيها مما قد جعله بعض أهل العلم من الأموال التي تجب فيها الزكاة كما ستسمع ذلك اهـ. "تجب في الأموال التي ستأتي" ببيانها عن قريب واجتمعت الأمة على أن منع الزكاة كبيرة قال في العالمكيرية: وهي فريضة محكمة يكفر جاحدها ويقتل مانعها. قال مالك: الأمر عندنا أن كل من منع فريضة من فرائض الله تعالى فلم يستطع المسلمون أخذها كان حقا عليهم جهاده حتى يأخذوها منه وبلغه أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه. كذا في المسوى. "إذا كان المالك مكلفا" اعلم أن هذه المقالة قد ينبو عنها ذهن من يسمعها فإذا راجع الإنصاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ووقف حيث أوقفه الحق علم أن هذا هو الحق وبيانه أن الزكاة هي أحد أركان الإسلام ودعائمه وقوائمه ولا خلاف أنه لا يجب شيء من الأربعة الأركان التي الزكاة خامستها على غير مكلف فإيجاب الزكاة عليه إن كان بدليل فما هو؟ فما جاء عن الشارع في هذا شيء مما تقوم به الحجة كما يروى عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه أمر بالاتجار في أموال الأيتام لئلا تأكلها الزكاة فلم يصح ذلك في شيء مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فليس مما تقوم به الحجة, وأما ما روي عن بعض الصحابة فلا حجة فيه أيضا وقد عورض بمثله كما روى البيهقي عن ابن مسعود قال: من ولي مال يتيم فليحص عليه السنين فإذا دفع إليه ماله أخبره بما فيه من الزكاة فإن شاء زكى وإن شاء ترك, وروي نحو ذلك عن ابن عباس. وإن قال قائل: إن الخطاب في الزكاة عام كقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ونحوه فذلك ممنوع وليس الخطاب في ذلك إلا لمن يصلح له الخطاب وهم المكلفون, وأيضا بقية الأركان بل وسائر التكاليف التي وقع الاتفاق على عدم وجوبها على من ليس بمكلف الخطابات بها عامة للناس والصبي من جملة الناس فلو كان عموم الخطاب في الزكاة مسوغا لإيجابها على غير المكلفين لكان العموم في غيرها كذلك وأنه باطل بالإجماع وما استلزم الباطل باطل مع أن تمام الآية أعني قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} يدل على عدم وجوبها على الصبي وهو قوله: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فإنه لا معنى لتطهير الصبي والمجنون ولا لتزكيته فما جعلوه مخصصا لغير المكلفين في سائر الأركان الأربعة لزمهم أن يجعلوه مخصصا في الركن الخامس وهو الزكاة. وبالجملة: فأموال العباد محرمة بنصوص الكتاب والسنة لا يحللها إلا التراضي وطيبة النفس. أما ورود الشرع كالزكاة والدية والأرش والشفعة ونحو ذلك فمن زعم أنه يحل مال أحد من عباد الله سيما من كان قلم التكليف عنه مرفوعا فعليه البرهان والواجب على المنصف أن يقف موقف المنع حتى يزحزحه عنه الدليل ولم يوجب الله تعالى على ولي اليتيم والمجنون أن يخرج الزكاة من مالهما ولا أمره بذلك ولا سوغه له بل وردت في أموال اليتامى تلك القوارع التي تتصدع لها القلوب وترجف لها الأفئدة. أقول: وأما اشتراط الإسلام فالراجح أن الكفار مخاطبون بجميع الشرعيات لكنه منع صحتها منهم مانع الكفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فليس الإسلام شرطا في الوجوب بل الكفر مانع عن الصحة والمكلف مخاطب برفع الموانع التي لا يجزئ عنه ما وجب عليه مع وجودها فخذ هذه قاعدة كلية في كل باب من الأبواب التي يجعلون الإسلام فيها شرطا للوجوب واما اشتراط الحرية فلا ريب أن هذا الاشتراط إنما يتم على قول من قال: إن العبد لا يملك وهي مسألة قد تعارضت فيها الأدلة بما لا يتسع لبسطه وهذه شرطية حقيقة عند القائل بعدم تملك العدم لأنه لا يجب على العبد أن يسعى في تحرير نفسه لتجب عليه الزكاة لما تقرر أن تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب فلا وجوب على العبد حال العبودية بخلاف الكافر فإن الوجوب ثابت عليه في حال كفره ولكنه لا تتم تأدية الواجب إلا بإزالة المانع وهو الكفر وما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه ومن ههنا يتبين لك الفرق بين هاتين القاعدتين فالاولى تستعمل قبل وجوب ذلك الواجب على الشخص والثانية بعد وجوبه عليه مع مانع يمنعه عنه ومما ينبغي أن يجعل شرطا في وجوب الزكاة التكليف كما فعل الماتن رح مع أنها مشروعة للتطهرة والتزكية كما نطق بذلك القرآن وهما لا يكونان لغير المكلفين فمن أوجب على الصبي زكاة في ماله تمسكا بالعمومات فليوجب عليه بقية الأركان الأربعة تمسكا بالعمومات. وبالجملة: فالأصل في أموال العباد الحرمة: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" ولا سيما أموال اليتامى فإن القوارع القرآنية والزواجر الحديثية فيها أظهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر فلا يأمن ولي اليتيم إذا أخذ الزكاة من ماله من التبعة لأنه أخذ شيئا لم يوجبه الله على المالك ولا على الولي ولا على المال. أمال الأول: فلأن المفروض أنه صبي لم يحصل له فما هو مناط التكاليف الشرعية وهو البلوغ وأما الثاني: فلأنه غير مالك للمال والزكاة لا تجب على غير مالك. وأما الثالث: فلأن التكاليف الشرعية مختصة بهذا النوع الإنساني لا تجب على دابة ولا جماد والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 باب زكاة الحيوان "إنما تجب منه في النعم" أي الماشية وهي في أكثر البلدان الإبل والبقر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 والغنم ويجمعها اسم الأنعام. وأما الخيل فلا تكثر صرمها1 ولا تناسل نسلا وافرا إلا في أقطار يسيرة كتركستان كذا في الحجة. وهي الإبل والبقر والغنم فتؤخذ من كل صرمة من الإبل ناقة ومن كل قطيع من البقر بقوة ومن كل ثلة من الغنم شاة مثلا ثم يعرف كل واحد من هذه بالمثال والقسمة والاستقراء ليتخذ ذلك ذريعة إلى معرفة الحدود الجامعة المانعة كذا في الحجة وكونها لا تجب في غير الثلاثة الأنواع من الحيوانات فلأن الذي بين للناس ما نزل إليهم لم يوجبها عليهم في غيرها وأما ما ورد من ذكر حق الله تعالى في الخيل فالمراد به الجهاد. فصل "إذا بلغت الإبل خمساً ففيها شاة ثم في كل خمس شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض أو ابن لبون وفي ست وثلاثين ابنة لبون وفي ست وأربعين حقة وفي إحدى وستين جذعة وفي ست وسبعين بنتا لبون وفي إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين فإذا زادت ففي كل أربعين ابنة لبون وفي كل خمسين حقة" هذا التفصيل في فرائض الصدقة هو الثابت في حديث أنس أن أبا بكر كتب لهم أن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على المسلمين ثم ذكر فيه ما يجب في كل عدد كما في هذا المختصر ثم قال فيه: فإذا تباين أسنان الإبل في فرائض الصدقات فمن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا جذعة فإنها تقبل مند ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما, ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده إلا حقة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده ابنة لبون وعنده ابنة مخاض فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما, ومن بلغت عنده صدقة ابنة   1 جمع صرمة بكسر الصاد وإسكان الراء في اللسان: يقال اللقطة من الإبل صرمة إذا كانت خفيفة ولا أدري وجها للشارح في استعمالها في الخيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 مخاض وليس عنده إلا ابن لبون ذكر فإنه يقبل منه وليس معه شيء ومن لم تكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها, وقد أخرج هذا الحديث أحمد والنسائي وأبي داود وأخرجه أيضا البخاري مفرقا في صحيحه. قال ابن حزم: هذا كتاب في نهاية الصحة عمل به الصديق بحضرة العلماء ولم يخالفه أحد وصححه ابن حبان وغيره وقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والدارقطني والحاكم والبيهقي نحو ما اشتمل عليه المختصر من حديث الزهري عن سالم عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كتب الصدقة ولم يخرجها إلى عمالها حتى توفي فأخرجها أبو بكر فعمل بها حتى توفي ثم أخرجها عمر من بعده فعمل بها قال: فلقد هلك عمر يوم هلك وإن ذلك لمقرون بوصيته. ثم ذكر الحديث. قال في الحجة: وقد استفاض ذلك من رواية أبي بكر وعمر وابن مسعود وعمر وبن حزم وغيرهم بل صار متواترا بين المسلمين انتهى. فصل "ويجب في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة وفي أربعين مسنة ثم كذلك" يدل على ذلك ما أخرجه أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم وصححاه منم حديث معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة. فإذا زادت على الأربعين فلا شيء في الزائد حتى يبلغ سبعين وفيها تبيع ومسنة إلى ثمانين وفيها مسنتان ثم كذلك, وقال ابن عبد البر في الاستذكار: لا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقر على ما في حديث ابن معاذ وأنه النصاب المجمع عليه. فصل "ويجب في أربعين من الغنم شاة إلى مائة وإحدى وعشرين وفيها شاتان إلى مائتين وواحدة وفيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة وواحدة وفيها أربع ثم في كل مائة شاة" هذا التفضيل هو الثابت في حديث أنس وحديث ابن عمر اللذين تقدم تخريجهما في باب زكاة الإبل وقد وقع الإجماع على ذلك. فصل "ولا يُجمع بين مُفترق من الأنعام ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في كتاب أبي بكر المحكي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد تقدمت الإشارة إليه وكذلك في حديث ابن عمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 حاكيا لكتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في ذلك كما سبقت الإشارة إليه وكذلك وقع التصريح بالنهي عن ذلك في غير الحديثين المذكورين فإن فيه النهي كذلك ومعنى التفريق بين مجتمع أن يكون لثلاثة أنفار لكل واحد أربعون شاة فإذا لم يجمعوها كان على كل واحد شاة, وإذا جمعوها لم يجب فيها إلا شاة وصورة الجمع بين مفترق أن يكون لرجلين مائتا شاة وشاة فيكون عليهما فيها ثلاث شياه فيفرقونها حتى لا يكون على كل واحد منهما إلا شاة واحدة ونحو ذلك من الصور وهذا على اعتبار المسرح والمراح والخلطة وإن اختلف المالكون كما دلت على ذلك الأدلة. "ولا شيء فيما دون الفريضة" ولا خلاف في ذلك "ولا في الأوقاص" وهي ما بين الفريضتين فلا خلاف في ذلك أيضا إلا في رواية عن أبي حنيفة وفي حديث معاذ عند أحمد وغيره أن الأوقاص لا فريضة فيها, "وما كان من خليطين فيتراجعان بالسوية" لما وقع في الكتابين المذكورين من قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية" والمراد أنهما إذا خلطا ما يملكانه من المواشي فبلغت النصاب أخرجا زكاة تلك الماشية المخلوطة وكان على كل واحد بحساب ماشيته, وصورة ذلك: أن يكون لكل واحد منهما عشرون شاة فيأخذ المصدق من الأربعين شاة من ملك أحدهما فيرجع على صاحبه بنصف قيمتها, وهذا على أن مجرد خلط الشريكين بملكيهما يصيرهما بمنزلة الماشية المملوكة لرجل واحد وهو الحق كما دلت على ذلك الأدلة. "ولا تؤخذ هرمة ولا ذات عوار ولا عيب ولا صغيرة ولا أكولة ولا ربى ولا ما خض ولا فحل غنم" لما في كتاب أبي بكر بلفظ: ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس, وفي كتاب عمر المحكي عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب" وفي حديث عبد الله بن معاوية الغاضري مرفوعا بلفظ: "ولا تعطي الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط1 اللئيمة ولكن من أوسط أموالكم" أخرجه أبو داود والطبراني بإسناد جيد, وأخرج مالك في الموطأ والشافعي عن سفيان بن عبد الله الثقفي أن عمر بن الخطاب نهى المصدق أن   1 الشرط بفتح الشين والراء هي صغار المال وشراره ووقع في الأصل الشرطة بالهاء في آخره وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 يأخذ الأكولة والربى والماخض وفحل الغنم. وقد روى ذلك عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ابن أبي شيبة في مسنده, والهرمة الكبيرة التي قد سقطت أسنانها وذات العوار بفتح العين المهملة وضمها. قيل: هي العوراء وقيل: هي المعيبة, وقد شمل قوله: "ولا عيب" كل ما فيه عيب يعد عنه العارفين بالمواشي نقصا فإنه لا يخرج في الصدقة فتدخل في ذلك الدرنة بفتح الدال المهملة مشددة بعدها راء مكسورة ثم نون وهي الجرباء والشرطة اللئمية هي صغار المال وشراره, واللئيمة: البخيلة باللبن وغيرها, وأما الأكولة: فهي بفتح الهمزة وضم الكاف العاقر من الشاة, والربى بضم الراء وتشديد الباء الموحدة الشاة التي تربى في البيت للبنها, والماخض الحامل1 وفحل الغنم هو الذي ينزو عليها لأن المالك يحتاج إليه وإن لم يكن من الخيار.   1 هي الحامل التي أخذها المخاض لتضع والمخاض الطلق عند الولادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 باب زكاة الذهب والفضة لا خلاف في وجوب الزكاة في الذهب والفضة مع النصاب والحول ولهذا قال الماتن رح: "إذا حال على أحدهما الحول ربع العشر" وذلك لأن الكنوز أنفس المال يتضررون بإنفاق المقدار الكثير منها فمن حق زكاته أن يكون أخف الزكوات والذهب محمل على الفضة. "ونصاب الذهب عشرون ديناراً ونصاب الفضة مائتا درهم" لحديث علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهما وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيهما خمسة دراهم" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي, وفي لفظ: "وليس فيما دون المائتين زكاة" وفي إسناده مقال وقد حسنه ابن حجر, ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه وأخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة" وأخرجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 أحمد والبخاري من حديث أبي سعيد وأخرج أبو داود من حديث علي قال: "إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء يعني في الذهب حتى يكون لك عشرون دينارا فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار" , وفي إسناده مقال ولكنه حسنه الحافظ ابن حجر ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه كالحديث الأول, وقد وقع الإجماع على أن نصاب الفضة مائتا درهم ولم يخالف في ذلك إلا ابن حبيب الأندلسي والخمس الأواقي المذكورة في الحديث هي مائتا درهم لأن وزن كل أوقية أربعون درهما, وذهب إلى أن نصاب الذهب عشرون دينارا الجمهور وقد روي عن الحسن وطاوس ما يخالف ذلك وهو مردود, وذهب إلى اعتبار الحول الأكثر وذهب ابن عباس وابن مسعود وداود إلى أنه يجب على المالك إذا استفاد نصابا أن يزكيه في الحال تمسكا بما دل على مطلق الوجوب وهو إهمال للقيد. "ولا شيء فيما دون ذلك". قال في الحجة: وهل في الحلي زكاة؟ الأحاديث فيه متعارضة وإطلاق الكنز عليه بعيد ومعنى الكنز حاصل والخروج من الاختلاف أحوط, وفي الموطأ: كانت عائشة تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي فلا تخرج من حليهن الزكاة. قال مالك: من كان عنده تبر أو حلي من ذهب أو فضة لا ينتفع به للبس فإن عليه فيه الزكاة في كل عام فيؤخذ ربع عشره إلا أن ينقص من وزنه عشرين دينارا عينا أو مائتي درهم فإن نقص من ذلك فليس فيه زكاة وإنما تكون الزكاة إذا كان إنما يمسكه لغير اللبس فأما التبر والحلي المكسور الذي يريد أهله صلاحه ولبسه فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله فليس على اهله فيه زكاة. قال مالك: ليس في اللؤلؤ ولا في المسك ولا في العنبر زكاة. قلت: قال به الشافعي في أظهر قوليه وخصه بالمباح, وأما المحظور كالأواني وكالسوار والخلخال للرجل فتجب فيه الزكاة بكل حال وعند الحنفية تجب في الحلي إذا كان ذهب أو من فضة دون اللؤلؤ ونحوه. "ولا زكاة في غيرهما من الجواهر" كالدر والياقوت والزمرد والألماس1 واللؤلؤ والمرجان ونحوها لعدم وجود دليل يدل على ذلك والبراءة الأصلية مستصحبة وقد تقدم في أول كتاب   1 صوابه: "الماس" فإدخال الألف واللام عليه خطأ لأنه معرف وأصله ماس ثم دخل عليه حرف التعريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الزكاة ما يفيد هذا. أقول: ليس من الورع ولا من الفقه أن يوجب الإنسان على العباد ما لم يوجبه الله عليهم بل ذلك من الغلو المحض, والاستدلال بمثل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} يستلزم وجوب الزكاة في كل جنس من أجناس ما يصدق عليه اسم المال, ومنه الحديد والنحاس والرصاص والثياب والفراش والحجر والمدر وكل ما يقال له مال على فرض أنه ليس من أموال التجارة, ولم يقل بذلك أحد من المسلمين وليس ذلك لورود أدلة تخصص الأموال المذكورة من عموم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} حتى يقول قائل إنها تجب زكاة ما لم يخصه دليل لبقائه تحت العموم بل الذي شرع الله فيه الزكاة من أموال عباده هو أموال مخصوصة وأجناس معلومة ولم يوجب عليها الزكاة في غيرها فالواجب حمل الإضافة في الآية الكريمة على العهد لما تقرر في علم الأصول والنحو والبيان أن الإضافة تنقسم إلى الأقسام التي تنقسم إليها اللام ومن جملة أقسام اللام العهد بل قال المحقق الرضي: إنه الأصل في اللام إذا تقرر هذا فالجواهر واللآليء والدر والياقوت والزمرد والعقيق واليسر وسائر ما له نفاسة وارتفاع قيمة لا وجه لإيجاب الزكاة فيه, والتعليل للوجوب بمجرد النفاسة ليس عليه أثارة من علم, ولو كان ذلك صحيحا لكان في المصنوعات من الحديد كالسيوف والبنادق ونحوها ما هو أنفس وأعلى ثمنا ويلحق بذلك الصين والبلور واليشم وما يتعسر الإحاطة به من الأشياء التي فيها نفاسة وللناس إليها رغبة فما أحسن الإنصاف والوقوف على الحد الذي رسمه الشارع وإراحة الناس من هذه التكاليف التي ما أنزل الله بها من سلطان على أن الآية التي أوقعت كثيرا من الناس في إيجاب الزكاة فيما لم يوجبه الله وهي: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} قد ذكر أئمة التفسير أنها في صدقة النفل وليست في صدقة الفرض التي نحن بصددها, وأموال التجارة لما قدمنا من عدم قيام دليل يدل على ذلك وقد كانت التجارة في عصره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قائمة في أنواع مما يتجر به ولم ينقل عنه ما يفيد ذلك, وأما ما أخرجه أبو داود والدارقطني والبزار من حديث جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يأمرنا بأن نخرج الزكاة فيما نعد" فقال ابن حجر في التلخيص: إن في إسناده جهالة, وأما ما رواه الحاكم والدارقطني عن عمران مرفوعاً بلفظ: "في الإبل صدقتها وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الغنم صدقتها وفي البز صدقته" بالزاي المعجمة فقد ضعف الحافظ في الفتح جميع طرقه وقال في واحدة منها: هذا إسناد لا بأس به, ولا يخفاك أن مثل هذا لا تقوم به الحجة لا سيما في التكاليف التي تعم بها البلوى على أنه قد قال ابن دقيق العيد: إن الذي رآه في المستدرك في هذا الحديث البر بضم الباء الموحدة وبالراء المهملة. قال: والدارقطني رواه بالزاي لكن من طريق ضعيفة وهذا مما يوجب الاحتمال فلا يتم الاستدلال فلو فرضنا أن الحاكم قد صحح إسناد هذا الحديث كما قال المحلي في شرح المنهاج لكان مجرد الاحتمال مسقطا للاستدلال فكيف إذا قد عورض ذلك التصحيح بتضعيف الحفاظ لما صححه الحاكم مع تأخر عصرهم عنه واستدراكهم عليه, ويؤيد عدم الوجوب ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة: "ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه" وظاهر ذلك عدم وجوب الزكاة في جميع الأحوال, وقد نقل ابن المنذر الإجماع على زكاة التجارة وهذا النقل ليس بصحيح فأول من يخالف في ذلك الظاهرية وهم فرقة من فرق الإسلام. أقول: وأما الاستدلال بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "وأما خالد فقد حبس أدراعه وأعتده1 في سبيل الله" فلا تقوم به الحجة إلا إذا كانت المطالبة بزكاة ذلك الذي حبسه مع كونه للتجارة فعرّفهم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنها قد صارت محبسة وأنه لا زكاة فيها بعد التحبيس وليس الأمر كذلك بل الظاهر أنهم لما أخبروا النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بأن خالدا امتنع من الزكاة رد عليهم بذلك, والمراد أن من بلغ في التقرب إلى الله إلى هذا الحد وهو تحبيس أدراعه وأعتده يبعد كل البعد أن يمتنع من تأدية ما أوجبه الله عليه من زكاة التجارة. وأما الاستدلال بقول عمر فهو ممن لا يقول بجحية قول الصحابي ولكنه إذا وافق قوله الصحابي ما يعتقده ضم إليه دعوى الإجماع السكوتي مجازفة. إذا تقرر هذا علمت   1 العتاد بفتح العين والتاء وبعدها ألف آلة الحرب من السلاح والدواب وغيرها جمعه أعتد بضم التاء ويجوز كسرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 أنه لا دليل يدل على وجوب زكاة التجارة والبراءة الأصلية مستصحبة حتى يقوم دليل ينقل عنها, وأما ما حكاه ابن المنذر من الإجماع على زكاة التجارة فلا أدري كيف تجاسر على هذا ولو سلمناه قامت به حجة إلا على من يقول بحجية الإجماع وقد عرفت ما هو الصواب في هذا الباب في كتابنا حصول المأمول من علم الأصول, وقد حقق الماتن رح المقام في كتابه إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول فليراجع. "والمستغلات" كالدور التي يكريها مالكها وكذلك الدواب ونحوها لعدم الدليل كما قدمنا, وأيضا حديث: "ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه" يتناول هذه الحالة أعني حالة استغلالهما بالكراء لهما وإن كان لا حاجة إلى الاستدلال بل القيام مقام المنع يكفي. أقول: هذه المسألة من غرائب العلماء التي ينبغي أن تكون مغفورة باعتبار ما لهم من المناقب فإن إيجاب الزكاة فيما ليس من الأموال التي تجب فيها الزكاة بالاتفاق كالدور والعقار والدواب ونحوها بمجرد تأجيرها بأجرة من دون تجارة في أعيانها مما لم يُسمع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فضلا أن يسمع فيه بدليل من كتاب أو سنة, وقد كانوا يستأجرون ويؤجرون ويقبضون الأجرة من دورهم وضياعهم ودوابهم ولم يحظر ببال أحدهم أنه يخرج في رأس الحول ربع عشر قيمة داره أو عقاره أو دوابه وانقرضوا وهم في راحة من هذا التكليف الشاق حتى كان آخر القرن الثالث من أهل المائة الثالثة فقال بذلك من قال بدون دليل إلا مجرد القياس على أموال التجارة وقد عرفت الكلام في الأصل* فكيف يقوم الظل والعود أعوج* مع أن هذا القياس في نفسه مختل بوجوه منها: وجود الفارق بين الأصل والفرع فإن الانتفاع بالمنفعة ليس كالانتفاع بالعين. وأما العمومات التي أوردوها فهي عن الدلالة على المطلوب بمراحل والأمر أوضح من أن تُستغرق الأوقات في إبطاله ودفعه, وأما ما زعموه من أن الموجب أولى من المسقط فذلك على عدم تسليمه إنما هو بعد الاتفاق على أن الموجب والمسقط اجتمعا في أمر قد قضى الشرع بالوجوب في أصله والأمر ههنا بالعكس فإن الشرع لم يوجب في أعيان الدور والعقار التي هي أصل الاستغلال شيئا ثم أين هذا الموجب وما هو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 باب زكاة النّبات "يجب العشر في الحنطة والشعير والذرة والتمر والزبيب" وجوب الزكاة من هذه الأجناس لشمول الأدلة الصحيحة لها وللتنصيص عليها في حديث أبي موسى ومعاذ حين بعثهما صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم فقال: "لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الشعير والحنطة والزبيب والتمر" أخرجه الحاكم والبيهقي والطبراني. قال البيهقي: رواته ثقات وهو متصل وأخرج الطبراني عن عمر قال: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة. فذكرها وأخرج ابن ماجه والدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: إنما سن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب, زاد ابن ماجه: "والذرة" وفي إسناده محمد بن عبيد الله العرزمي1 وهو متروك, وأخرج البيهقي من طريق مجاهد قال: لم تكن الصدقة في عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلا في خمسة فذكرها, وأخرج أيضا من طريق الحسن فقال: لم يفرض الصدقة النبي صلى الله عليه وسلم إلا في عشرة. فذكر الخمسة المذكورة والإبل والبقر والغنم والذهب والفضة. وأخرج أيضا عن الشعبي أنه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن إنما الصدقة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب. قال البيهقي: هذه المراسيل طرقها مختلفة وهي يؤكد بعضها بعضا ومعها حديث أبي موسى ومعها قول عمر وعلي وعائشة: ليس في الخضروات زكاة انتهى. "وما كان يسقى بالمسني منها ففيه نصف العشر" وجهه حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت الأنهار والغيم عشر وفيما سقي بالسانية2 نصف العشر" رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود قال3: "الأنهار والعيون", وأخرج البخاري وأحمد وأهل السنن من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وفيما يسقى بالنضح نصف العشر" فإن الذي هو   1 بتقديم الراء على الزاي وفي الأصل بتقديم الزاي على الراء وهو خطأ. 2 السانية وجمعها السواني ما يسقى عليه الزرع والحيوان من بعير وغيره. 3 لعله وقال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 أقل تعانيا وأكثر ريعا أحق بزيادة الضريبة والذي هو أكثر تعانيا وأقل ريعا أحق بتخفيفها, والعثري بفتح العين المهملة والمثلثة وكسر الراء المهملة هو الذي يشرب بعروقه, وقيل الذي في سواقي العيون ونحوها, والحق وجوب الزكاة من العين ولا يسوغ إخراج القيمة إلا لعذر مسوغ لحديث: "خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الإبل والبقرة من البقر" أخرجه أبو داود والحاكم وصححه على شرط الشيخين1. وأما قول معاذ فهو فعل صحابي لا حجة فيه على أنه منقطع كما صرح بذلك الحفاظ2. وأما الاعتذار عن الحديث بأنه لا ظاهر له فهذه إحدى العصي التي يتوكأ عليها المقلدة. "ونصابها خمسة أوسق" لحديث أبي سعيد في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وفي رواية لأحمد وابن ماجه أن النبي صل الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "الوسق ستون صاعا" وفي رواية لأحمد وأبي داود: "الوسق ستون مختوما"3. قال في الحجة البالغة: وإنما قُدر من الحب والتمر خمسة أوسق لأنها تكفي أهل بيت إلى سنة, وذلك لأن أقل البيت الزوج والزوجة وثالث خادم أو ولد بينهما وما يضاهي ذلك من أقل البيوت وغالب قوت الإنسان رطل أو مد من الطعام فإذا أكل كل واحد من هؤلاء ذلك المقدار كفاهم لسنة وبقيت بقية لنوائبهم أو إمدامهم انتهى. قال ابن القيم: وقد رُدت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تقدير نصاب المعشرات بخمسة أوسق بالمتشابه من قوله: "فيما سقت السماء العشر وما سقي بنضح أو غرب فنصف العشر". قالوا: هذا يعم القليل والكثير وقد عارضه الخاص ودلالة العام قطعية كالخاص وإذا تعارضا قُدم الأحوط وهو الوجوب فيقال: يجب العمل بكلا الحديثين ولا يجوز   1 رواه الحاكم في المستدرك جزء 1: ص 388. وقال صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع عطاء ابن يسار عن معاذ بن جبل فإني لا أتقنه. قال الذهبي: لم يقله. وقال ابن حجر في التلخيص لم يصح لأنه ولد بعد موته أو في سنة موته أو بعد موته بسنة. 2 هو قوله لأهل اليمن: ائتوني بكل خميس وليس آخذه منكم مكان الصدقة رواه البخاري معلقا والبيهقي وهو منقطع أيضا. 3 هذه الرواية نرى أنها خطأ فإن الختوم هو صاع اتخذه الحجاج وقال لأهل المدينة إني قد اتخذت لكم مختوما على صاع عمر بن الخطاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 معارضة أحدهما بالآخر وإلغاء أحدهما بالكلية فإن طاعة الرسول فرض في هذا وفي هذا ولا تعارض بينهما بحمد الله تعالى من الوجوه فإن قوله: "فيما سقت السماء العشر" إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وما يجب فيه نصفه فذكر النوعين مفرقا بينهما في مقدار الواجب, وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث وبينه نصا في الحديث الآخر فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير ما أُوِّل عليه البتة إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يُتعلق فيه بعموم لم يقصدوا بيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصها من النصوص انتهى. أقول: الأحاديث القاضية بإيجاب العشر أو نصف العشر تقتضي التسوية بين القليل والكثير وأحاديث لا زكاة فيما دون خمسة أوسق تقتضي اختصاص الوجوب بمقدار معلوم هو الخمسة الأوسق وعدم الوجوب فيما دونها فالأحاديث الأولة1 عامة لقليل ما أخرجت الأرض من الأنواع المخصوصة ولكثيره والأحاديث الثانية خاصة ببعض ذلك الخارج دون بعض مصرحة بنفي الوجوب عن دون الخمسة الأوسق بمنطوقها مثبتة لوجوبها في الخمسة فصاعدا بمفهومها وهي أحاديث صحيحة فإهمالها مع كونها خاصة والرجوع إلى العامة خارج عن سنن الإنصاف ولم يكن بيد من أهملها شيء يدفعها إلا مجرد تكليف العباد بما هو أشق الشكوك كشكوك الموسوسين في الطهارة. وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة ولا فيما دون خمس ذود صدقة" ثبت هذا عنه في حديث واحد فكان على من أوجب الزكاة فيما دون خمسة أوسق أن يوجبها فيما دون خمس أواق وخمس ذود بل يوجبها فيما دون الأربعين من الغنم والثلاثين من البقر تمسكا بالعمومات القاضية بوجوب أصل الزكاة في الأموال فإنه لا فرق بينها وبين حديث: "فيما أخرجت الأرض العشر" وليست المكيلات بالشك أولى من غيرها والله المستعان. وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق مما أخرجت الأرض والمقام وإن كان حقيقا بأن يقع الإجماع   1 بفتح الواو المشددة قال ثعلب: هن الأولات والآخرات خروجا واحدتها الأولة والآخرة ثم قال ليس هذا من أصل الباب إنما أصل الباب الأول والأولى كالأطول والطولى. قاله في اللسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 عليه لكن الخلاف لجماعة من العلماء أشهر من نار على علم وكيف خفي على ابن المنذر مذهب أبي حنيفة رح وهو متداول عند جميع أهل المذاهب حتى قال ابن العربي المالكي: إن أقوى المذاهب وأحوطها للمساكين مذهب أبي حنيفة وهو التمسك بالعموم انتهى. وهذه غفلة من مثل هذا الحافظ ناشئة عن الوسوسة التي قدمنا لك ذكرها فإن الشارع أشفق بفقراء أمته من كل أحد وأي قوة وأحوطية في شيء مخالف لنصه الصريح وكيف يخفى على عالم أن هذه الشفقة التي هي المستندة لهذه المقالة مستلزمة لظلم الأغنياء وأخذ أموالهم بدون طيبة من أنفسهم وأكلها بالباطل وسيوف السلاطين تابعة لأقلام العلماء فإذا أجبروا أهل الأموال على تسليم زكاة دون الخمسة الأوسق استناداً إلى قول من قال بذلك بمجرد الشك والشفقة على الفقراء لا لما يقتضيه الاجتهاد فهم شركاء في هذه المظلمة التي هي محض أكل أموال الناس بالباطل. وما أحسن الوقوف على الحدود الشرعية والمشي على الطريقة النبوية فذلك هو الورع الخالص وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ولا شيء فيما عدا ذلك. قال المجد في الصراط المستقيم ولم يكن من العادة النبوية أخذ الزكاة من الخيل والرقيق والبغال والحمر والبقول والبطيخ والخيار والعسل والفواكه التي لا تدخل المكيال ولا تصلح للادخار إلا الرطب والعنب فإنه كان يأخذ الزكاة منهما لا يفرق بين الرطب واليابس انتهى. كالخضروات وغيرها حديث الخضراوات أخرجه الدارقطني والحاكم والأثرم في سننه أن عطاء بن السائب قال: أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ صدقة من أرض موسى بن طلحة من الخضراوات فقال له موسى بن طلحة: ليس لك ذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يقول: "ليس في ذلك صدقة" وهو مرسل قوي وقد أخرجه الدارقطني والحاكم من حديث إسحق بن يحيى ابن طلحة عن عمه موسى بن طلحة عن معاذ بلفظ: وأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. قال الحافظ: وفيه ضعف وانقطاع وروى الترمذي بعضه من حديث موسى بن طلحة عن معاذ وقد رواه ابن عدي من وجه آخر عن أنس والدارقطني من حديث علي ومن حديث محمد بن جحش ومن حديث عائشة, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ورواه أيضا البيهقي عن علي وعمر موقوفا في طرق حديث الخضراوات مقال لكنه روي من طرق كثيرة يشهد بعضها لبعض فينتهض للاحتجاج به, وإذا انضم إلى ما تقدم في وجوب الزكاة في تلك الأجناس الأربعة أو الخمسة انتهض الجميع للاحتجاج بلا شك ولا شبهة, وقد رويت تلك الروايات بلفظ الحصر على تلك الأجناس كما سبق وكان ذلك هو البيان منه صلى الله عليه وآله وسلم لما أنزل الله تعالى فلا تجب في غير ذلك من النباتات, وقد ذهب إلى ذلك الحسن البصري والحسن بن صالح والثوري والشعبي وأيضا يمكن الجمع بطريق أخرى وهي: أن هذه الأدلة المذكورة هنا مخصصة لعمومات القرآن والسنة وذلك واضح ولا يصح جعل ذلك من باب التنصيص على بعض أفراد العام لما في ذلك من الحصر تارة والنفي لما عدا ما ذُكر أخرى. أقول: العمومات الشاملة للخضراوات كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر" قد خُصصت بمخصصات كثيرة منها: حديث الأوساق ومنها: الأحاديث القاضية بأن الزكاة لا تجب إلا في الأربعة الأنواع الشعير والحنطة والتمر والزبيب هذا في الأشياء التي تنبت على وجه الأرض وفيما عداها السوائم الثلاث والذهب والفضة, والواجب بناء العام على الخاص كما هو إجماع من يُعتد به من أهل العلم فلا وجوب فيما عدا هذه الثلاثة الأمور سواء كان من الخضراوات أو غيرها بل قد ورد في الخضراوات بخصوصها ما يدل على عدم وجوب الزكاة فيها من طرق يشهد بعضها لبعض كما أوضح ذلك الماتن في شرح المنتقى فليكن هذا البحث منك على ذُكر فإن الاحتجاج بمثل هذه العمومات قد كثر في أهل العلم مع عدم الالتفات إلى الأدلة الخاصة والذهول عن وجوب بناء العام على الخاص. والحاصل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين للناس ما نُزّل إليهم ففرض على الأمة فرائض في بعض أملاكهم ولم يفرض عليهم في البعض الآخر ومات على ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الأصول فمن زعم أنها تجب الزكاة في غير ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم متمسكا بالعمومات القرآنية كان محجوجا بما ذكرناه هذا على فرض أنه لم يثبت عنه إلا مجرد البيان من دون ما يفيد عدم الوجوب في البعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 المسكوت عنه فكيف وقد ثبت عنه ما يفيد ذلك كحديث أبي موسى ومعاذ عند الحاكم والبيهقي والطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم قال: "لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة الشعير والحنطة والزبيب والتمر". قال البيهقي: رواته ثقات وهو متصل. وأخرج الطبراني عن عمر قال: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة, فذكرها ونحوه عن جماعة من الصحابة وفي بعضها ذكر الذرة ولكن من طريق لا تقوم بمثلها الحجة. "ويجب في العسل العشر" وجهه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه أخذ من العسل العشر" أخرجه ابن ماجه وقال الدارقطني: يروى عن عبد الرحمن بن الحارث وابن لهيعة عن عمرو بن شعيب ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرو بن شعيب ومثله حديث أبي سيارة عند أحمد وابن ماجه وأبي داود والبيهقي قال: قلت يا رسول الله إن لي نحلا قال: "فأد العشور" وهو منقطع. وأخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في العسل: "في كل عشرة أزقاق زق" وفي إسناده صدقة السمين وهو ضعيف الحفظ وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: "أدوا العشر في العسل" وفي إسناده منير بن عبد الله وهو ضعيف والجميع لا يقصر عن الصلاحية للاحتجاج به وفي العسل أحاديث أخرى لم ينتهض شيء منها للاحتجاج به وقد جمعها الماتن في شرح المنتقى فليراجع. "ويجوز تعجيل الزكاة" لحديث علي: أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك. أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم والدارقطني والبيهقي وقد قيل: إنه مرسل, وقد روي عن علي بلفظ آخر من طريق أخرى أخرجها البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا كنا احتجنا فأسلفنا العباس صدقة عامين" ورجاله ثقات إلا أنه فيه انقطاعاً, وفي الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في زكاة العباس: "هي عليّ ومثلها معها" لما قيل إنه منع من الصدقة. وقد قيل إنه كان تسلف منه صدقة عامين فدل على أنه يجزئ عن المعجل أي يسقط الوجوب عند الاتصاف بت, ولا شك أن التعجل لا يكون تعجيلا إلا إذا كان قبل الوجوب. "وعلى الإمام أن يرد صدقات أغنياء كل محل في فقرائهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وجهه حديث أبي جحيفة قال: قد علينا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا فكنت غلاما يتيما فأعطاني منها قلوصا. أخرجه الترمذي وحسنه وحديث عمران بن حصين أنه استُعمل على الصدقة فلما رجع قيل له أين المال؟ فقال: وللمال أرسلتني؟ أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناه حيث كنا نضعه أخرجه أبو داود وابن ماجه, وعن طاوس قال: كان في كتاب معاذ بن خرج من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته أخرجه الأثرم وسعيد بن منصور بإسناد صحيح وفي الصحيحين عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال له: "خذها من أغنيائهم وضعها في فقرائهم". "ويبرأ رب المال بدفعها إلى السلطان وإن كان جائرا" لحديث ابن مسعود في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها" قالوا يا رسول الله: فما تأمرنا؟ قال: "تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم" وأخرج مسلم والترمذي وصححه من حديث وائل بن حُجر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يسأله فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم؟ فقال: "اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حُملوا وعليكم ما حُملتم" وأخرج أبو داود من حديث جابر بن عتيك1 مرفوعاً بلفظ: "سيأتيكم ركب مبغضون فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليها وأرضوهم فإن تمام زكاتهم رضاهم" وأخرج الطبراني عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا: "ادفعوا إليهم ما صلوا الخمس" وفي الباب آثار الصحابة حتى أخرج البيهقي عن عمر أنه قال: "ادفعوها إليهم وإن شربوا الخمر" وإسناده صحيح وأخرج أحمد من حديث أنس أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ فقال: "نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله فلك أجرها وإثمها على من بدلها" وأخرج البيهقي من حديث أبي هريرة: "إذا أتاك المصدق فأعطه صدقتك فإن اعتدى عليك فوله ظهرك ولا تلعنه وقل   1 في الأصل جابر بن عبيد وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 اللهم إني أحتسب عنك ما أخذ مني" وقد ذهب إلى ما دلت عليه هذه الأدلة الجمهور وأن الدفع إلى السلطان أو بأمره يجزي المالك وإن صرفها في غير مصرفها سواء كان عادلاً أو جائراً. أقول: لا ريب أن مجموع الأدلة يقتضي أن أمره الزكاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} خطاب له إن سُلم أنه في صدقة الفرض وفد تقدم ما فيه وأنص من الآية على المطلوب حديث: "أمرت أن آخذها من أغنيائكم" وأحاديث بعثه صلى الله عليه وسلم للسعاة وأمره لهم بأخذ الصدقات ومن ذلك الأدلة الواردة في الاعتداء بما أخذه سلاطين الجور فإنها متضمنة لوجوب الدفع إليهم والاجتزاء بما دفع إليهم ومن ذلك حديث: "من أعطاها مؤتجرا فله أجره ومن منعها فإنا نأخذها وشطر ماله" ومنها الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على وجوب طاعة أولي الأمر ولكن لا يخفى أن مجموع هذه الأدلة وإن أفاد أن للأئمة والسلاطين المطالبة بالزكاة وقبضها, ووجوب الدفع إليهم عند طلبهم لها فليس فيها ما يدل على أن رب المال إذا صرفها في مصرفها قبل أن يطالبه الإمام بتسليمها لا تجزئه ولا يجوز له ذلك لأن الوجوب على أرباب الأموال والوعيد الشديد لهم والترغيب تارة والترهيب أخرى لمن عليه الزكاة إذا لم يخرجها يستفاد من مجموعه أن لهم ولاية الصرف. أما مع عدم الإمام فظاهر وأما مع وجوده من غير طلب منه فكذلك أيضا, ويؤيد ذلك حديث: "أما خالد فقد حبس أدرعه وأعتده في سبيل الله" فإنه صلى الله عليه وسلم أجاب بذلك على من قال له إن خالداً منع من تسليم الزكاة. وأما المطالبة من الإمام فالظاهر أنه لا يجوز لرب المال الصرف لأنه عصيان لمن أمر الله بطاعته ولكن هل يجزئه ذلك أم لا؟ الظاهر الإجزاء لأنه لا ملازمة بين كونه عاصيا لأمر الإمام وبين عدم الإجزاء ومن رغم ذلك طولب بالدليل فإن قيل الدليل ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن منعها فإنا نأخذها وشطر ماله" فيقال: الحديث على ما فيه من المقال لا يصلح للاستدلال به على هذا لأن المراد أنه منع الزكاة ولم يسلمها إلى الإمام ولا صرفها في مصارفها كما هو مدلول المنع الواقع على ضمير الزكاة في الحديث كما في أحاديث الوعيد لمانع الزكاة فإن المراد به المانع لها عن الإخراج مطلقاً ومما يؤيد ثبوت الولاية لرب المال قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 لَكُمْ} ففي هذه الآية أعظم متمسك وأوضح مستند ومن زعم أنها في صدقة النفل بدليل السياق فلم يصب لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول. نعم تطبيق الأدلة الواردة منه صلى الله عليه وسلم على من بعده من الأئمة والسلاطين حتى يكون لهم مثل الذي له في أمر الزكاة يحتاج إلى فضل نظر ولا يقنع الناظر بمجرد الإجماع السكوتي الواقع من الناس بعد عصره صلى الله عليه وسلم, وأما قتال الصحابة لمانعي الزكاة فلكونهم ارتدوا بذلك وصمموا على منع إخراجها وقد أمر صلى الله عليه وسلم أمته بقتال الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويفعلوا سائر أركان الإسلام وأعظم ما يُستأنس به ما ورد في طاعة السلاطين وإن ظلموا وأن دفعها إليهم من الطاعة لهم كما في حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليهم وسلم قال: "إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها" قالوا يا رسول الله: فما تأمرنا؟ قال: "تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم" أخرجه الشيخان وغيرهما, وعن وائل بن حُجر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يسأله فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم؟ قال: "اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حُملوا وعليكم ما حُملتم" أخرجه مسلم وغيره وفي الباب أحاديث كثيرة وهي تفيد وجوب طاعتهم فيما طلبوا إذا كان في معروف غير معصية وطلبهم للزكاة من المعروف إذا كانوا يجعلونها في أمر غير معصية الله, والأمر بالطاعة فرع ثبوت الولاية وثبوتها يستلزم الإجزاء, وقد ذهب إلى هذا الجمهور من الصحابة فمن بعدهم ويؤيد ذلك حديث جابر بن عتيك عند أبي داود مرفوعاً بلفظ: "سيأتيكم ركب مبغضون فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليها وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم" وأخرج الطبراني من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا: "ادفعوا إليهم ما صلوا الخمس" ويغني عن جميع هذا التكليف بطاعة سلاطين الجور ما أقاموا الصلاة وفي بعض الأحاديث الأمر بالطاعة للظلمة ما لم يظهروا كفرا فمن طلب الزكاة منهم لم تتم الطاعة له التي كلفنا الله بها إلا بالدفع إليه والله أعدل أن يجمع على رب المال في ماله زكاتين زكاة للظالم المأمور بطاعته وزكاة أخرى تصرف إلى غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 باب مصارف الزكاة وهي ثمانية كما في الآية الكريمة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فإنها تضمنت الثمانية الأنواع الذي هم مصارف الزكاة, وقد أخرج أبو داود عن زياد بن الحرث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك" وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وفيه مقال. قال في المسوى: الفقير هو عند الشافعي من لا مال له ولا حرفة يقع منه موقعا, وعند أبي حنيفة من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب أو قدر نصاب غير تام وهو مستغرق في الحاجة, والمسكين هو عند الشافعي من له مال أو حرفة يقع منه موقعاً ولا يغنيه, وعند أبي حنيفة من لا شيء له فيحتاج إلى المسألة لقوته أو يواري بدنه والعامل له مثل عمله سواء كان فقيرا أو غنيا وعليه أهل العلم والمؤلفة قلوبهم قسمان: من أسلم ونيته ضعيفة أوله شرف يُتوقع بإعطائه إسلام غيره فيُعطون من الزكاة على الأصح من مذهب الشافعي, وقال أبو حنيفة: سقط سهمهم لغلبة الإسلام. والرقاب: هم المكاتبون عند الشافعية والحنفية والغارم هو عند أبي حنيفة من لزمه دين ولا يملك نصابا فاصلا عن دينه أو كان له مال على الناس لا يمكنه أخذه وعند الشافعي قسمان: من استدان لنفسه في غير معصية والأظهر اشتراط الحاجة, أو استدان لإصلاح البين ويعطى مع الغنى وسبيل الله غزاة لا فيء لهم ويشترط فقرهم عند أبي حنيفة وعند الشافعي يعطون مع الغنى وابن السبيل هو الغريب المنقطع عن ماله عند الحنفية أو منشئ سفر أو مجتاز له حاجة عند الشافعية, وشرط هؤلاء الأصناف الإسلام عند أهل العلم وعند الشافعي يجب استيعاب الأصناف الثمانية إن كان هناك عامل وإلا فاستيعاب السبعة وتجب التسوية بين الأصناف لا بين آحاد الصنف, وعند أبي حنيفة لو صرف الكل إلى صنف واحد أو شخص واحد يجوز قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 مالك: الأمر عندنا في قسم الصدقات أن ذلك لا يكون إلا على وجه الاجتهاد من الوالي فأي الأصناف كانت الحاجة فيه والعدد أوثر ذلك الصنف بقدر ما يرى الوالي وعسى أن ينتقل ذلك إلى الصنف الآخر بعد عام أو عامين أو أعوام فيؤثر أهل الحاجة والعدد حيثما كان ذلك وعلى هذا أدركت من أرضى من أهل العلم انتهى. قال الماتن: وقد أطال أئمة التفسير والحديث والفقه الكلام على الأصناف الثمانية وما يعتبر في كل صنف والحق أن المعتبر صدق الوصف شرعا أو لغة فمن صدق عليه أنه فقير كان مصرفا وكذلك سائر الأوصاف وإذا لم يكن للوصف حقيقة شرعية وجب الرجوع إلى مدلوله اللغوي وتفسيره به فما وقع من الشروط والاعتبارات المذكورة لأهل العلم إن كانت داخلة في مدلول الوصف لغة أو شرعاً أو لدليل يدل على ذلك كانت معتبرة وإلا فلا اعتبار لشيء منها انتهى. أقول: الواجب الجزم بأن الفقير من ليس بغني والغني قد ثبت في الشريعة المطهرة تعريفه كما أخرجه أهل السنن من حديث ابن مسعود مرفوعاً: أنه قيل يا رسول الله وما الغنى؟ قال: "خمسون درهما أو قيمتها من الذهب" فمن لم يملك هذا المقدار فهو فقير لأنه إذا ارتفع عنه اسم الغني ثبت له الفقر إذا النقيضان لا يرتفعان كما لا يجتمعان ولا بد من كونه يملك معها ما لا بد منه من ملبوس وفراش ومسكن. حاصله ما تدعو الضرورة إليه لأن من المعلوم أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يرد بذلك المقدار قيمة ما يلبسه ويسكنه ويلحق بذلك ما لا يتم له القيام بالأمور الدينية أو الدنيوية بدونه كآلة الجهاد للمجاهد وكتب العلم للعالم وآلة الصناعة للصانع فمن ملك مما هو خارج عن هذه الأمور ما يساوي خمسين درهماً كان كمن ملك الخمسين أو قيمتها من الذهب فيكون غنيا, ومن لم يملك ذلك المقدار فهو فقير تحل له الزكاة والمصير إلى ما قررناه متحتم والحق أن الفقير والمسكين متحدان يصح إطلاق كل واحد من الاسمين على من لم يجد فوق ما تدعو الضرورة إليه خمسين درهما وليس في قوله تعالى: {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} ما ينافي هذا لأن ملكهم لما لا يخرجهم عن صدق اسم الفقر والمسكنة عليهم لما عرفت من أن آلات ما تقوم به المعيشة مستثناة والسفينة للملاح كدابة السفر لمن يعيش بالمكاراة والضرب في الأرض وليس في الآية الكريمة ما يدل على أن صدقة كل إنسان تُصرف في كل صنف من الأصناف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الثمانية بحيث يحصل لكل صنف مقدار معين وهذا أوضح, ثم أقول: كتاب الله وسنة رسوله مصرحان بأن الفقير يُعطى من الزكاة وليس فيهما التقييد بمقدار معين وليس المعتبر إلا اتصاف المصرف وهو الفقير والمسكين ومن كان الفقر شرطا للصرف فيه بصفة الفقر أو المسكنة فمن صرف إليه في تلك الحال فقد صرف إلى مصرف شرعي وإن أعطاه مالا جما وأنصباء متعددة فهو إنما اتصف بصفة الغني بعد الصرف إليه وذلك غير ضائر للصارف ولا مانع من الإجزاء, ومن زعم أنه لا يجوز إلا دون النصاب فعليه الدليل الصالح لتقييد ما كان مطلقا من الأدلة وتخصيص ما كان عاما وليس هناك إلا مجرد تخيلات فاسدة لم تُبن على أساس صحيح. وأما الغارم فظاهر إطلاق الآية يشمل من عليه دين سواء كان غنيا أو فقيرا مؤمنا أو فاسقا في طاعة أو معصية. أما عدم الفرق بين الغني والفقير فليس فيه إشكال لدخولهما تحت الآية ولاستثناء الغارم من حديث: "لا تحل الصدقة لغني" وما سلكه صاحب المنار من التخصيص والتعميم فوهم منشؤه تجريد النظر إلى لفظ غني من غير نظر إلى تمام الحديث المشتمل على استثناء خمسة أحدهم الغارم, وأما عدم الفرق بين المؤمن والفاسق فلإطلاق الآية لا سيما إذا كان ما استدانه الفاسق في غير سرف ولا معصية فلا معنى لاشتراط الإيمان. وأما عدم الفرق بين الدين في طاعة أو معصية فلتناول الإطلاق له وإذا ورد ما يقتضي التقييد بما لزم في طاعة فله حكمه. نعم إذا كانت الإعانة له تستلزم إغراءه على المعاصي ووقوعه فيما يحرم عليه فلا ريب أنه ممنوع لأدلة أخرى, وأما إذا لزمه الدين في السرف والمعصية ثم تاب وأقلع وطلب أن يعان من الزكاة على القضاء فالظاهر عدم المنع, وأما سبيل الله فالمراد هنا الطريق إليه عز وجل والجهاد وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل لكن لا دليل على اختصاص هذا السهم به بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقا إلى الله عز وجل هذا معنى الآية لغة, والواجب الوقوف على المعاني اللغوية حيث لم يصح النقل هنا شرعاً. وأما اشتراط الفقر في المجاهد ففي غاية البعد بل الظاهر إعطاؤه نصيبا وإن كان غنيا وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يأخذون من أموال الله عز وجل التي من جملتها الزكاة في كل عام ويسمون ذلك عطاء وفيهم الأغنياء والفقراء وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 عطاء الواحد منهم يبلغ إلى ألوف متعددة ولم يسمع من أحد منهم أنه لا نصيب للأغنياء في العطاء ومن زعم ذلك فعليه الدليل, فإن قال الدليل حديث: "إن الصدقة لا تحل لغني" قلنا أصناف مصارف الزكاة ثمانية أحدها الفقير فمن لم يكن فيه إلا كونه فقيرا بدون اتصافه بوصف آخر من أوصاف أصناف مصارف الزكاة فلا ريب أنه إذا صار غنيا لم تحل له, وأما من أخذها بمسوغ آخر غير الفقر وهو كونه مجاهداً أو غارماً أو نحوهما فهو لم يأخذها لكونه فقيرا حتى يكون الغنى مانعا بل أخذها لكونه مجاهدا أو غارما أو نحوهما فتدبر هذا فهو مفيد, ومن جملة سبيل الله الصرف في العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية فإن لهم في مال الله نصيبا سواء كانوا أغنياء أو فقراء بل الصرف في هذه الجهة من أهم الأمور لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين وبهم تحفظ بيضة الإسلام وشريعة سيد الأنام وقد كان علماء الصحابة يأخذون من العطاء ما يقوم بما يحتاجون إليه مع زيادات كثيرة يتفوضون بها في قضاء حوائج من يرد عليهم من الفقراء وغيرهم والأمر في ذلك مشهور, ومنهم من كان يأخذ زيادة على مائة ألف درهم ومن جملة هذه الأموال التي كانت تفرق بين المسلمين على هذه الصفة الزكاة, وقد قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعمر لما قال له يعطي من هو أحوج منه: "ما آتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك" كما في الصحيح والأمر ظاهر, وأما ابن السبيل فإذا كان فقيرا لا يملك شيئا في وطنه ولا في غيره فلا نزاع في أنه يعان على سفره بنصيب غير النصيب الذي يأخذه لأجل فقره وإن كان غنيا في وطنه وفي المحل الذي يريد السفر منه فلا نزاع أنه لا يأخذ شيئا لكونه ابن سبيل, وإن كان غنيا في وطنه وفي المحل الذي يريد السفر منه فإن كان لا يمكنه القرض فلا ريب أنه يعان على سفره لأنه كالفقير لعدم إمكان انتفاعه بماله بوجه من الوجوه وإن كان يمكنه القرض فهذا محل النزاع, وأما صرف الزكاة كلها في صنف واحد فهذا المقام خليق بتحقيق الكلام. والحاصل: أن الله سبحانه جعل الصدقة مختصة بالأصناف الثمانية غير سائغة لغيرهم واختصاصها بهم لا يستلزم أن تكون موزعة بينهم على السوية ولا أن يقسط كل ما حصل من قليل أو كثير عليهم بل المعنى أن جنس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الصدقات لجنس هذه الأصناف فمن وجب عليه شيء من جنس الصدقة ووضعه في جنس الأصناف فقد فعل ما أمره الله به وسقط عنه ما أوجبه الله عليه ولو قيل إنه يجب على المالك إذا حصل له شيء تجب فيه الزكاة تقسيطه على جميع الأصناف الثمانية على فرض وجودهم جميعا لكان ذلك مع ما فيه من الحرج والمشقة مخالفا لما فعله المسلمون سلفهم وخلفهم وقد يكون الحاصل شيئا حقيرا لو قسط على جميع الأصناف لما انتفع كل صنف بما حصل له ولو كان نوعا واحدا فضلا أن يكون عددا إذا تقرر لك هذا لاح لك عدم صلاحية ما وقع منه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من الدفع إلى سلمة بن صخر1 من الصدقات للاستدلال, ولم يرد ما يقتضي إيجاب توزيع كل صدقة صدقة على جميع الأصناف وكذلك لا يصلح للاحتجاج حديث أمره صلى الله عليه وسلم لمعاذ أن يأخذ الصدقة من أغنياء أهل اليمن ويردها في فقرائهم لأن تلك أيضا صدقة جماعة من المسلمين وقد صرفت في جنس الأصناف وكذلك حديث زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فبايعته فأتى رجل فقال أعطني من هذه الصدقة فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك" لأن في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وقد تكلم فيه غير واحد وعلى فرض صلاحيته للاحتجاج فالمراد بتجزئة الصدقة تجزئة مصارفها كما هو ظاهرة الآية التي قصدها صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولو كان المراد تجزئة الصدقة نفسها وأن كل جزء لا يجوز صرفه في غير الصنف المقابل له لما جاز صرف نصيب ما هو معدوم من الأصناف إلى غيره وهو خلاف الإجماع من المسلمين, وأيضا لو سلم ذلك لكان باعتبار مجموع الصدقات التي تجتمع عند الإمام لا باعتبار صدقة كل فرد فلم يبق ما يدل على وجوب التقسيط بل يجوز إعطاء بعض المستحقين بعض الصدقات وإعطاء بعضهم بعضا آخر, نعم إذا جمع الإمام جميع صدقات أهل قطر من الأقطار وحضر   1 كان قد ظاهر من امرأته في رمضان ثم واقعها ليلا ولم يجد كفارة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فيأخذها منه ويؤدي ما عليه من الكفارة. انظر نيل الأوطار جزء 7 ص 50 – 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 عنده جميع الأصناف الثمانية كان لكل صنف حق في مطالبته بما فرضه الله وليس عليه تقسيط ذلك بينهم بالسوية ولا تعميمهم بالعطاء بل له أن يعطي بعض الأصناف أكثر من البعض الآخر وله أن يعطي بعضهم دون بعض إذا رأى في ذلك صلاحا عائدا على الإسلام وأهله مثلا: إذا جمعت لديه الصدقات وحضر الجهاد وحقت المدافعة عن حوزة الإسلام من الكفار أو البغاة فإن له إيثار صنف المجاهدين بالصرف إليهم وإن استغرق جميع الحاصل من الصدقات وهكذا إذا اقتضت المصلحة إيثار غير المجاهدين. "وتحرم على بني هاشم" وبنو عبد المطلب مثلهم. أقول: الأحاديث القاضية بتحريم ذلك عليهم قد تواترت تواترا معنويا ولم يأت من خادع نفسه بتسويغها بشيء ينبغي الالتفات إليه بل مجرد هذيان هو عن الحق معزل, واحتج لعدم التحريم بحديث: "إن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم". قال: فإذا منعوا ذلك حلت لهم الزكاة وفي إسناده حسين ابن قيس الرحبي الملقب بحنش1. قال الهيثمي: وفيه كلام كثير وقد وثقه أبو محصن, وقال في خلاصة البدر المنير: ضعفوه. وليس في هذا مع كونه أشف ما جاء به هو وغيره ممن ترخص في هذا الأمر ما يدل على الحل لأنهم إذا منعوا ما يحل لهم لم يحل لهم ما حرم عليهم فما وزان هذا إلا وزان قول القائل: لا يحل الزنا لأن في النكاح ما يغني عنه فهل يقول من له أدنى تمسك بالعلم إنه إذا لم يقدر على النكاح حل له الزنا؟ وأما التعليل للتحريم بالتهمة له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد زالت بموته فحلت لقرابته كما رواه عن أبي حنيفة رح فمجرد تخمين لا مستند له وتخيل لا مرشد إليه ولو كان الأمر كذلك لكانت التهمة في الخمس وصفي الغنيمة أدخل وأشد والله المستعان. "ومواليهم" لحديث أبي هريرة مرفوعا وفيه: "إنا لا نأكل الصدقة" وفي لفظ: "إنا لا تحل لنا الصدقة" وهو في الصحيحين وغيرهما وفي حديث أبي رافع: "إن الصدقة لا تحل لنا وإن موالي القوم من أنفسهم" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وابن حبان وابن خريمة وصححاه أيضا وفي رواية   1 قال النسائي: ليس بثقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 لأحمد والطحاوي من حديث الحسن بن علي: "لا تحل لآل محمد الصدقة". وفي حديث المطلب بن ربيعة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد إنما هي أوساخ الناس" وهو في صحيح مسلم وفي الباب أحاديث قال في الحجة البالغة: إنما كانت أوساخا لأنها تكفر الخطايا وتدفع البلايا وتقع فداء عن العبد في ذلك فيتمثل في مدارك الملأ الأعلى أنها هي فتدرك بعض النفوس العالية أن فيها ظلمة. وقد يشاهد أهل المكاشفة تلك الظلمة, وكان سيدي الوالد قدس سره يحكي ذلك من نفسه. وأيضا المال الذي يأخذه الإنسان من غير مبادلة عين أو نفع ولا يراد به احترام وجهه فيه ذلة ومهانة ويكون لصاحب المال عليه فضل ومنة, وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى" فلا جرم أن التكسب بهذا النوع شر وجوه المكاسب لا يليق بالطهرين المنوه بهم في الملة اهـ. قال ابن قدامة: لا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة, وكذا حكى الإجماع ابن رسلان في شرح السنن وقد وقع الخلاف في الآل الذين تحرم عليهم الصدقة على أقوال أظهرها أنهم بنو هاشم وحكم مواليهم حكمهم في ذلك. أقول: الحق تحريم الزكاة أجمع على بني هاشم سواء كانت الزكاة منهم أو من غيرهم وما استروح إليه من قال بجواز صدقة بعضهم لبعض من حديث العباس بن عبد المطلب أنه قال: قلت يا رسول الله إنك حرمت علينا صدقات الناس هل تحل لنا صدقات بعضنا لبعض؟ قال: "نعم" أخرجه الحاكم1 فليس بصالح للاحتجاج به لما فيه من المقال حتى قيل إنه اتهم بعض رواته كما حققه صاحب الميزان وقد عرفت عموم أحاديث التحريم فلا يجوز تخصيصها بمخصص غير ناهض. "و" تحرم "على الأغنياء والأقوياء المكتسبين" وجهه ما في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن جماعة: "أنها لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" وفي لفظ لأحمد وأهل السنن من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار مرفوعا: "ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" وفي بعض الأخبار: "ولا   1 ظاهر صنيع الشارح يوهم أن الحاكم رواه في المستدرك وليس كذلك. ذكر المؤلف في نيل الأوطار أن الحاكم أخرجه في النوع السابع والثلاثين من علوم الحديث بإسناد كله من بين هاشم جزء 4 ص 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 لذي مرة قوي". والمرة بكسر الميم وتشديد الراء القوة وشدة العقل. كذا قال الجوهري قال في الحجة البالغة: وجاء في تقدير الغنية المانعة من السؤال أنها أوقية أو خمسون درهما, وجاء أيضا أنها ما يغديه أو يعشيه وهذه الأحاديث ليست متخالفة عندنا لأن الناس على منازل شتى ولكل واحد كسب لا يمكن أن يتحول عنه فمن كان كاسبا بالحرفة فهو معذور حتى يجد آلات الحرفة ومن كان زارعا حتى يجد آلات الزرع ومن كان تاجرا حتى يجد البضاعة ومن كان على الجهاد مسترزقا بما يروح ويغدو من الغنائم كما كان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فالضابط فيه أوقية أو خمسون درهما ومن كان كاسبا بحمل الأثقال في الأسواق أو احتطاب الحطب وبيعه وأمثال ذلك فالضابط فيه ما يغديه ويعشيه أهـ. في الموطأ من حديث عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني". قال في المسوى: لا خلاف في صورة تبدل الأيدي وكذا في العامل وابن السبيل, وأما الغارم والغازي فتحل الصدقة لهما وإن كانا غنيين عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تحل إلا إذا كانا فقيرين وظاهر الآية مع الشافعي لأن الله تعالى جعلهما قسيمي الفقير والمسكين وعند الحنفية تحل الصدقة لمن ليس عنده نصاب غير مستغرق في حاجته فلو ملك نصابا غير نام لكنه غير مستغرق لم تحل له ولو ملك نصبا كثيرة إلا أنها مستغرقة حلت له, ولا يحل السؤال إلا لمن يملك قوت يومه بعد ستر بدنه كذا في العالمكيرية. قال في شرح السنة: إذا رأى الإمام السائل جلدا قويا وشك في أمره أنذره وأخبره بالأمر فإن زعم أنه لا كسب له أو له عيال لا يقوم كسبه بكفايتهم قبل منه وأعطاه. أقول: يمكن أن يطبق بين الأحاديث باختلاف الأحوال والأصل اعتبار معنى الحاجة والاستغناء بالكسب المتيسر فالأوقية تمنع السؤال لمن كان حاله مثل حال المهاجر في زمان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كانوا مرتزقين من الفيء دفعة بعد دفعة وفي الفيء قلة والاحتطاب مانع من السؤال لمن كان قويا حاذقا في الاحتطاب أو أراد أن يسأل غير الإمام وعلى هذا القياس غيرهما اهـ. أقول: قد قدمنا ما هو الحق في تفسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الغنى المانع من أخذ الزكاة وقدمنا أيضا ما هو الحق في بعض الأصناف الثمانية من عدم اشتراط الفقر كالمجاهد ونحوه, ثم اعلم أن الأدلة طافحة بأن الصرف في ذوي الأرحام أفضل من غير فرق بين الصدقة الواجبة والمندوبة كما يدل على ذلك ترك الاستفصال في مقام الاحتمال فإنه ينزل منزلة العموم على أنه قد ورد التصريح في حديث أبي سعيد عند البخاري أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لامرأة: "زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم" وثبت عند البخاري وأحمد عن معن بن يزيد قال: أخرج أبي دنانير يتصدق بها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فقال: والله ما إياك أردت فخاصمته إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: "لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت ما معن" وهذه الأدلة إنما هي تبرع من القائل بالجواز والإجزاء وإلا فهو قائم مقام المنع من كون القرابة أو وجوب النفقة مانعين ولم يأت القائل بذلك بدليل ينفق في محل النزاع على فرض أنه لم يكن بيد القائل بالجواز إلا التمسك بالأصل فكيف والأدلة عموما وخصوصا ناطقة بما ذهبوا إليه, وأما أهل الذمة فالذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه هو أخذ الجزية من أهل الذمة بدلا عن دمائهم وصالح بعض أهل الذمة على شيء معلوم يسلمونه في كل سنة وهو الجزية أيضا فقد تكون الجزية مضروبة على كل فرد من أفراد أهل الذمة كذا وقد تكون مضروبة على الجميع بمقدار معين, وأما الاستئناس لقول عمر رضي الله عنه بكونه بمشاورة الصحابة فليس ذلك مستلزما لكونه إجماعا وليس الحجة إلا إجماعهم وليس فيه حجة على ثبوت مثل هذا التكليف الشاق على أهل الملة, ولم يثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما حديث: "ليس على المسلمين عشور إنما العشور على اليهود والنصارى" فهذا الحديث هو أشف ما يستدل به على المطلوب وقد أخرجه أبو داود من طرق في بعضها مقال وأخرجه أحمد والبخاري في التاريخ وساق الاضطراب في سنده وقال: لا يتابع عليه والراوي له عن النبي صلى الله عليه وسلم رجل بكري وهو مجهول ولكن جهالة الصحابي غير قادحة كما قرره شيخنا العلامة الشوكاني في الرسالة التي سماها القول المقبول في رد رواية المجهول من غير صحابة الرسول, وفي بعض ألفاظ هذا الحديث عند أبي داود: "الخراج" مكان: "العشور" ولكن إنما يتم الاستدلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 بهذا الحديث على المطلوب لو كان المراد به هو نصف عشر ما يتجرون به كما زعموه وليس كذلك بل فيه خلاف فقال في القاموس عشّرهم يُعشّرهم عشراً وعُشوراً أخذ عشر أموالهم اهـ. وقال في النهاية العشور جمع عشر يعني: ما كان من أموالهم للتجارات دون الصدقات والذي يلزمهم من ذلك عند الشافعي ما صولحوا عليه وقت العهد فإن لم يصالحوا على شيء فلا تلزمهم إلا الجزية, وقال أبو حنيفة رح إن أخذوا من المسلمين إذا دخلوا بلادهم للتجارة أخذنا منهم إذا دخلوا بلادنا للتجارة, ومنه احمدوا الله إذ رفع عنكم العشور. يعني: ما كانت الملوك تأخذه منهم, ومنه أن وفد ثقيف اشترطوا أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا أي لا يؤخذ عشر أموالهم1 اهـ. كلام النهاية. وقال الخطابي مثل ما نقله صاحب النهاية في أول كلامه فحصل من جميع هذا أن العشور إما العشر أو المال المصالح به أو ما يؤخذ من تجار أهل الذمة إن أخذوا من تجارنا أو ما يأخذه الملوك من الجبايات والضرائب أو الخراج كما في بعض روايات الحديث ومع هذا الاحتمال لا ينتهض للاستدلال به. والحاصل: أن الأصل في أموال الناس مسلمهم وكافرهم التحريم: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} فلا بد من دليل يدل على تحليل المطلوب لأنه خارج عن الأقسام المسوغة إذ ليس بجزية ولا مال صلح ولا خراج ولا معاملة ولا زكاة لعدم صحتها منهم لأن الكفر مانع وأظهر ما يقال في معنى العشور أحد أمرين: إنما الخراج لأن بعض ألفاظ الحديث يفسر بعضا أو الضرائب التي تضرب عليها كالجزية ومال الصلح فيكون المراد أن المسلمين ليس عليهم الخراج أي لا يوضع في أموالهم ابتداء وليس عليهم ضريبة في رقابهم أو أموالهم كاليهود وحينئذ لم يبق ما يصلح للتمسك به على جواز أخذ نصف عشر أموال تجار أهل الذمة ومما يؤيد ما ذكرناه في معنى العشور ما أخرجه أحمد   1 معنى: لا يحشروا أي لا يندبون إلى المغازي ولا تضرب عليهم البعوث وقيل لا يحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم بل يأخذها في أماكنهم, وأما: لا يُجبوا فإنه بضم الياء وفتح الجيم وتشديد الباء المضمومة وأصل التجبية أن يقوم الإنسان قيام الراكع وقيل هو أن يضع يديه على ركبتيه وهو قائم وقيل هو السجود والمراد بقولهم: لا يجبوا أنهم لا يصلون ولفظ الحديث يدل على الركوع لقوله في جوابهم: ولا خير في دين ليس فيه ركوع. اهـ ملخصا من النهاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وأبو داود والترمذي من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تصلح قبلتان في أرض وليس على مسلم جزية" فيمكن أن يكون مفسرا لحديث: "ليس على المسلمين عشور" ولم يثبت عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تقدير ما يؤخذ من أهل الذمة إلا ما في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً. أخرجه أحمد وأهل السنن والدارقطني والبيهقي وابن حبان والحاكم وهذا الحديث وإن كان فيه مقال فهو لا يخرج به عن صلاحيته للاستدلال فالوقوف على هذا المقدار متعين لا تجوز مجاوزته, وأما النقص منه إذا رآه الإمام أو المسلمون فلا بأس به لأن الجزية حق لهم يجوز لهم الاقتصار على بعض ما وجب والظاهر أنه لا فرق بين الغني والفقير والمتوسط في أنهم يستوون في جواز أخذ هذا المقدار منهم لأن الجزية لما كانت عوضا عن الدم كان ذو المال كمن لا مال له. وأما من ذهب إلى أنه يجب على الفقير نصف ما على المتوسط وعلى المتوسط نصف ما على الغني وجعلوا الغني من يملك ألف دينار, أو ما يساويها ويركب الخيل ويتختم الذهب والمتوسط دونه تمسكا بما روي عن علي أنه كان يجعل على المياسير من أهل الذمة ثمانية وأربعين درهما وعلى الأوساط أربعة وعشرين وعلى الفقراء اثني عشر فهذا مع كونه غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تقوم به الحجة لأن في إسناده أبا خالد الواسطي ولا يحتج بحديثه إذا كان مرفوعاً فكيف إذا كان موقوفاً, وكذلك لا تقوم الحجة بما أخرجه في الموطأ عن عمر أنه كان يأخذ على أهل الذهب من أهل الذمة الجزية أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما لأنه فعل صحابي لا يصلح للاحتجاج به فالاقتصار على ما في حديث معاذ متحتم ويؤيده ما أخرجه البيهقي عن أبي الحويرث مرسلا: أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل أيلة وكانوا ثلثمائة رجل على ثلثمائة دينار. وأما ما روي عن الشافعي قال: سمعت بعض أهل العلم من أهل نجران يذكر أن قيمة ما أخذ من كل واحد أكثر من دينار فهذا مع كونه ليس بمرفوع ولا موقوف ولا معلوم قائله لا ينافي ما ذكرنا لأن المأخوذ من أهل نجران إنما كان صلحا بمقدار من المال على جميعهم ومحل النزاع ما يضرب على كل فرد ابتدءا ثم نقول: أموال أهل الحرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 على أصل الإباحة يجوز لكل أحد أخذ ما شاء منها كيف شاء قبل التأمين لهم فيجوز للسلطان أن يأذن بدخول بلاد المسلمين والتجارة فيها على ما شاء من قليل أو كثير يأخذه من أموالهم إنما الشأن في أخذ مثل ذلك من المسلمين الذين يسافرون للتجارة من أرض إلى أرض فيأخذ منهم أهل الأرض التي يصلون إليها شطرا من أموالهم من غير نظر إلى كون ذلك زكاة تجارة ولا غيرها بل لا يعتبرون في استحلال أخذه إلى مجرد خروجهم من سفائن البحر أو وصولهم من البر إلى حدود الأرض التي يخرجون إليها فهذا عند التحقيق ليس هو إلا المكس من غير شك ولا شبهة وقد حققت المقام في إكليل الكرامة فليراجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 باب صدقة الفطر "هي صاع من القوت المعتاد عن كل فرد" لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين, والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفي صحيح مسلم وغيره: "ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر" وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد عمن تمونون. وأخرج نحوه الدارقطني من حديث علي وفي إسناده ضعف وله طرق والخطابات في إخراجها على من ليس بمكلف إنما هي كائنة مع المكلفين1, وقد ذهب الجمهور إلى أنها صاع من البر وغيره, وذهب بعض الصحابة إلى أن الفطرة من البر نصف صاع, وقد حكاه ابن المنذر عن علي وعثمان وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر بأسانيد صحيحة كما قال الحافظ, وإليه ذهب أبو حنيفة وقد تمسكوا بحديث ابن عباس مرفوعا: "صدقة الفطر مدّان من قمح" أخرجه الحاكم وأخرج نحوه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً, وفي الباب أحاديث تعضد ذلك ولكن ليس هذا بإجماع من   1 لعل صحة الجملة والخطابات في إخراجها عمن ليس بمكلف إنما هي كائنة على المكلفين ليستقيم المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الصحابة حتى يكون حجة, وقد أخرج ابن خزيمة والحاكم في صحيحيهما أن أبا سعيد قال لما ذكروا عنده صدقة رمضان: لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاع تمر أو صاع حنطة أو صاع شعير أو صاع أقط. ولكن هذا مع كونه غير مصرح باطلاع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ذلك ولا تقريره قد قال ابن خزيمة: ذكر الحنطة في خبر أبي سعيد غير محفوظ. ولا أدري ممن الوهم وكذلك قال أبو دواد, وقد روى الحاكم من حديث ابن عباس والترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر صارخا بمكة ينادي: "إن صدقة الفطر حق واجب على كل مسلم صغير أو كبير ذكر أو أنثى حر أو مملوك حاضر أو باد مُدّان من قمح أو صاع من شعير أو تمر" وأخرج نحوه الدارقطني من حديث عصمة بن مالك بلفظ: "مدان من قمح" وفي إسناده الفضل بن المختار وهو ضعيف, ويؤيده ما عند أبي داود والنسائي عن الحسن مرسلا بلفظ: "فرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هذه الصدقة صاعا من تمر أو من شعير أو نصف صاع من قمح" وأخرج أيضا أبو داود من حديث عبد الله بن ثعلبة بن عبد الله بن أبي صغير بلفظ: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "صدقة الفطر صاع من بر أو قمح عن كل اثنين" وأخرج سفيان الثوري في جامعه عن علي موقوفا بلفظ: "نصف صاع بر". وهذه الروايات متعاضدة صالحة لتخصيص لفظ الطعام على فرض شموله للبر كما قال بذلك بعض أهل العلم قال في المسوى: في الحديث: "صدقة الفطر فريضة" وعليه الشافعي, وقال أبو حنيفة: واجبة وفيه أنه لا يشترط لها النصاب بل هي فريضة على الغني والفقير وعليه الشافعي, وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا على من يملك نصابا وإن لم يكن ناميا وفيه أنها تجب على الصغير والمجنون ومن لم يطق الصوم وعليه أكثر أهل العلم, وفيه أنها تجب عن الرقيق مطلقا سواء كانوا للتجارة أو للخدمة وعليه الشافعي, وقال أبو حنيفة: لا تجب عن رقيق التجارة وفيه أنها لا تجب عن العبد الكافر وعليه الشافعي. وقال أبو حنيفة تجب عنه وفيه أنه لا يجوز إخراج الدقيق والسويق ولا الخبز ولا القيمة وعليه الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز كل ذلك, وفيه أنه لا يجوز أقل من صاع من أي جنس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أخرج وعليه الشافعي, وقال أبو حنيفة: يجوز من البر نصف صاع وفيه أن الواجب مقدر بصاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو خمسة أرطال وثلث بالرطل العراقي وقدرها بالقدح المصري قدحان وقال أبو حنيفة: بصاع الحجاز وهو ثمانية أرطال, وقال الشافعي: تجب فطرة المرأة على زوجها وقال حنيفة: لا تجب عليه. والوجوب على سيد العبد ومنفق الصغير ونحوه ويكون إخراجها قبل صلاة العيد لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة. فيه دليل على وجوب الإخراج في ذلك الوقت, وأخرج أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: "فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" وهذا يدل على أنها لا تجزئ بعد الصلاة لأنها حينئذ صدقة كسائر الصدقات التي يتصدق بها الإنسان وليست بزكاة الفطر. قال في المسوى: السنة عند أهل العلم أن يُخرج صدقة الفطر يوم العيد قبل الخروج إلى الصلاة ولو عجلها بعد دخول رمضان يجوز ولا يجوز تأخيرها عن يوم الفطر عند بعضهم, وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس وفي سفر السعادة وظاهر هذه الأحاديث أنها بعد الصلاة لا تجزئ اهـ. ومن لا يجد زيادة على قوت يومه وليلته فلا فطرة عليه لأنه إذا أخرج قوت يومه أو بعضه كان مصرفا لا صارفا لقوله صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم في هذا اليوم" أخرجه البيهقي والدارقطني من حديث ابن عمر فإذا ملك زيادة على قوت يومه أخرج الفطرة إن بلغ الزائد قدرها ويؤيده تحريم السؤال على من ملك ما يغديه ويعشيه كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث سهل بن الحنظلية مرفوعاً لأن النصوص أطلقت ولم تخص غنيا ولا فقيرا, وقد أخرج أحمد وأبو داود عن عبد الله بن ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقة الفطر صاع تمر أو صاع شعير عن كل رأس أو صاع بر أو قمح بين اثنين صغير أو كبير حر أو عبد ذكر أو أنثى غني أو فقير أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى" وقد وقع الخلاف في تقدير ما يعتبر في وجوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 زكاة الفطرة فقيل: ملك النصاب, وقيل: قوت عشر. أقول: التقدير بقوت عشرة أيام محض رأي ليس عليه أثارة من علم وليس هو أيضا على أسلوب مناسب باعتبار محض الرأي فإن الرأي إذا لم يكن له علة معقولة سائغة في العقل مقبولة في الطبع فهو مردود عند أهل الرأي, وقد ورد ما يدل على أن الفقير كالغني في الفطرة ففي حديث ابن أبي صعير1 عند أبي داود بلفظ: "غني أو فقير" ويؤيده حديث ابن ثعلبة المتقدم لأن المراد أن الله يرد عليه من العوض خيرا مما أخرج وقال مالك والشافعي وعطاء وأحمد بن حنبل وإسحق: إنه يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكا لقوت يومه وليلته والظاهر: أن من وجد ما يكفيه ومن يعول ليوم الفطر ووجد صاعا زائدا على ذلك أخرجه لحديث: "أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم" أخرجه البيهقي والدارقطني عن ابن عمر مرفوعاً, وأخرجه ابن سعد أيضا في الطبقات من حديث عائشة وأبي سعيد فظاهر قوله: "أغنوهم" أنهم يصيرون أغنياء إذا نالوا ما يكفيهم في يومهم والمراد أنهم أغنياء عن الطواف وأن الغني في الفطرة من استغنى عن الطواف في يومه, والفقير من افتقر إلى الطواف في يومه فيكون الوجوب متحتما على من وجد ما يغنيه في يومه مع زيادة قدر ما يجب عليه من الفطرة ويكون مصرفها من لم يجد ذلك لا كما قالوا إن مصرفها مصرف الزكاة. "ومصرفها مصرف الزكاة" لكونه صلى الله عليه وآله وسلم قد سماها زكاة لقوله: فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة. وقول ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطرة, وقد تقدما ولكنه ينبغي تقديم الفقير للأمر بإغنائهم في ذلك اليوم فما زاد صُرف في سائر الأصناف وقال في سفر السعادة: وكان يخص المساكين بهذه الصدقة ولا يقسمها على الأصناف الثمانية ولم يرد بذلك أمر أيضا وبه قال بعض العلماء ويجوز الصرف للأصناف الثمانية بل خص بها المساكين انتهى.   1 بضم الصاد وفتح العين المهملتين وهو عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير ويقال ابن صعير ويقال ثعلبة بن عبد الله بن صعير ومن هذا تعرف خطأ الشارح في قوله: ويؤيده حديث ابن ثعلبة المتقدم فإن الحديثان هما حديث واحد ولكنه أوهم رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 كتاب الخُمس يجب فيما يُغنم في القتال وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى في كتاب الجهاد والسير ولا فرق بين الأراضي والدور المأخوذة من الكفار وبين المنقولات فإن الجميع مغنوم في القتال وأما الفيء وهو ما أُخذ بغير قتال فحكمه مذكور في قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} والمراد بقوله تعالى: {مِنْ شَيْءٍ} ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كل ما يطلق عليه اسم الغنيمة بل ما غُنم بالقتال كما في النهاية وغيرها ولو بقي على عمومه لاستلزم وجوب الخمس في الأرباح والمواريث ونحوهما وهو خلاف الإجماع وما استلزم الباطل باطل. "وفي الركاز الخمس" لأنه يشبه الغنيمة من وجه ويشبه المجان فجُعلت زكاته خمساً لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس" والرِّكاز بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي قال مالك والشافعي: الركاز دفن الجاهلية, وقال أبو حنيفة والثوري وغيرهما: إن المعدن ركاز وخالفهم في ذلك الجمهور فقالوا: لا يقال للمعدن ركاز واحتجوا بما وقع في هذا الحديث من التفرقة بينهما بالعطف وأن ذلك يدل على المغايرة وفي القاموس تفسير الركاز بالمعدن ودفين الجاهلية, وقال صاحب النهاية: إن الركاز يقع عليهما وإن الحديث ورد في الدفين هذا معنى كلامه. قال ابن القيم في إعلام الموقعين: وفي قوله: "المعدن جبار" قولان: أحدهما أنه إذا استأجر من يحفر له معدنا فسقط عليه فقتله فهو جبار, ويؤيد هذا القول اقترانه بقوله: "البئر جبار والعجماء جبار" والثاني: أنه لا زكاة فيه ويؤيد هذا القول اقترانه بقوله: "وفي الركاز الخمس" ففرق بين المعدن والركاز فأوجب الخمس في الركاز لأنه مال مجموع يؤخذ بغير كلفة ولا تعب وأسقطها عن المعدن لأنه يحتاج إلى كلفة وتعب في استخراجه والله تعالى أعلم اهـ. قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا والذي سمعت أهل العلم يقولون: إن الركاز إنما هو دفن يوجد من دِفن الجاهلية ما لم يُطلب بمال ولم يُتكلف فيه نفقة ولا كبير عمل ولا مؤنة فأما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ما طُلب بمال وتُكلف فيه كبير عمل فأصيب مرة وأخطئ مرة فليس بركاز. قال في المسوى: هو أظهر أقوال الشافعي في تفسير الركاز وله قول إن المعدن من الركاز أو بمنزلة الركاز وعليه أبو حنيفة والمراد بالركاز على أظهر أقوال الشافعي هو الدفين الجاهلي من النقد, وأما الإسلام فإن عُلم مالكه فله وإلا فلقطة وإنما يملكه الواجد وتجب فيه الزكاة إذا وُجد في موات أو ملك أحياء فإن وجد في ملك شخص فللشخص أو في مسجد أو شارع فلقطة. قال مالك: المعدن بمنزلة الزرع يؤخذ منه مثل ما يؤخذ من الزرع يؤخذ منه إذا خرج من المعدن من يومه ذلك ولا يُنتظر به الحول كما يؤخذ من الزرع إذا حُصد العشر ولا يُنتظر به أن يحول عليه الحول. قلت: وبه قال الشافعي في أظهر أقواله ولم يوجب في غير الذهب والفضة وقال الشافعي في حديث معان القبلية1 في قول آخر: ليس هذا مما يثبته أهل الحديث ولو أثبتوه لم يكن فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إقطاعه. وأما الزكاة فليست مروية عنه كذا روى عنه البيهقي في سننه. أقول: ولو كانت الزكاة مروية فليس ذلك نصا في ربع العشر بل يحتمل معنيين آخرين أحدهما يؤخذ منه الخمس وهو زكاة وهو قول للشافعي والحصر بالنسبة إلى الكل, والثاني إذا ملكه وحال عليه الحول تؤخذ منه الزكاة وهو قول جمع من المحدثين انتهى. "ولا يجب فيما عدا ذلك" لعدم الإيجاب الشرعي والبقاء تحت البراءة الأصلية, وقال أبو حنيفة: الخمس في كل جوهر ينطبع كالحديد والنحاس. أقول: إن إيجاب الزكاة في جميع المعادن ومجاوزة ذلك إلى صيد البر والبحر والمسك والحطب والحشيش كما فعله كثير من المصنفين ليس بصواب لعدم وجود دليل يدل على ذلك والأصل في أموال العباد التي قد دخلت في أملاكهم بوجه من الوجوه المقتضية للملك هو الحرمة ولا يجوز أخذ شيء منها إلا بطيبة من نفس مالكها: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" وإلا كان أكلا بالباطل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} والمتيقن وجوب الخمس في الغنيمة عن القتال. "وفي معدن الذهب والفضة" لما أخرجه البيهقي في حديث الركاز بزيادة قيل: وما الركاز يا رسول الله؟ قال: "الذهب والفضة التي خلقت في الأرض يوم خُلقت" وهو وإن   1 القبلية بفتح القاف والباء الموحدة ناحية من ساحل البحر بينها وبين المدينة خمسة أيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 كان في إسناده سعيد بن أبي سعيد المقبري فهو لا يقصر عن صلاحية حديثه للتفسير فليعلم, ومصرفه أي مصرف الزكاة عند الشافعي ومصرف خمس الفيء عند أبي حنيفة. من في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وكفى بها دليلا على ذلك, وفي حجة الله البالغة يوضع سهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعده في مصالح المسلمين الأهم فالأهم وسهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب الفقير منهم والغني والذكر والأنثى وعندي أنه يخير الإمام في تعيين المقادير وكان عمر رضي الله تعالى عنه يزيد في فرض آل النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال ويعين المدين منهم والناكح وذا الحاجة, وسهم اليتامى لصغير فقير لا أب له وسهم الفقراء والمساكين لهم يفوض كل ذلك إلى الإمام يجتهد في الفرض وتقديم الأهم فالأهم ويفعل ما أدى إليه اجتهاده ويقسم أربعة أخماسه في الغانمين يجتهد الإمام أولا في حال الجيش فمن كان نفله أوفق بمصلحة المسلمين نفل له وأما الفيء فمصرفه ما بين الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} إلى قوله: {رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ولما قرأها عمر قال: هذه استوعبت المسلمين فيصرفه إلى الأهم فالأهم, ويُنظر في ذلك إلى مصالح المسلمين لا مصلحته الخاصة واختلفت كيفية قسمة الفيء فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الفيء قسمه في يوم فأعطى الآهل حظين وأعطى الأعزب حظا, وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقسم للحر والعبد يتوخى كفاية الحاجة ووضع عمر الديوان على السوابق والحاجات فالرجل وقِدمه والرجل وبلاؤه والرجل وعياله والرجل وحاجته والأصل في كل ما كان مثل هذا من الاختلاف أن يُحمل على أنه إنما فعل ذلك على الاجتهاد فتوخى كل المصلحة بحسب ما رأى في وقته انتهى حاصله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 كتاب الصيام مقدمة ... كتاب الصيام "يجب صيام رمضان" وهو ركن من أركان الدين وضروري من ضرورياته "لرؤية هلاله من عدل" لصيامه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأمره للناس بالصيام لما أخبره عبد الله بن عمر أنه رآه أخرجه أبو داود والدارمي وابن حبان والحاكم وصححاه وصححه أيضا ابن حزم من حديث ابن عمر بلفظ: "تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه" وأخرج أهل السنن وابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم من حديث ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: إني رأيت الهلال يعني رمضان فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله قال: نعم قال: أتشهد أن محمدا رسول الله قال: نعم قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا". وأخرج الدارقطني والطبراني من طريق طاوس قال: شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس فجاء رجل إلى واليها وشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه وقالا: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة الرجلين. قال الدارقطني تفرد به حفص بن عمر الأيلي وهو ضعيف, وقد ذهب إلى العمل بشهادة الواحد ابن المبارك وأحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه. قال النووي: وهو الأصح وذهب مالك والليث والأوزاعي والثوري إلى أنه يعتبر اثنان واستدلوا بحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وفيه: فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا" أخرجه أحمد والنسائي وفي حديث أمير مكة الحرث بن حاطب قال: عهد إلينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما. أخرجه أبو داود والدارقطني وقال: هذا الإسناد متصل صحيح وغاية ما في الحديثين أن مفهوم الشرط يدل على عدم قبول الواحد ولكن أحاديث قبول الواحد أرجح من هذا المفهوم وقد حققه الماتن رح في كتابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 إطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال, ويؤيد وجوب العمل بخبر الواحد الأدلة الدالة على قبول أخبار الآحاد على العموم إلا ما خصه دليل فمحل النزاع مندرج تحت العموم بعد التنصيص عليه بما في حديث الأعرابي وبما في حديث ابن عمر, وأما التأويل باحتمال أن يكون قد شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل قبل شهادة ابن عمر فلو كان مجرد هذا الاحتمال قادحا في الاستدلال لم يبق دليل شرعي إلا وأمكن دفعه بمثل هذا التأويل الباطل. في المسوى اختلفوا في هلال رمضان فقيل يثبت بشهادة الواحد وعليه أبو حنيفة وقيل لا بد من عدلين وعليه مالك وللشافعي قولان كالمذهبين أظهرهما الأول, ولا فرق عنده بين أن تكون السماء مصحية أو مغيمة, وقال أبو حنيفة في الصحو لا بد من جمع كثير وفي العالمكيرية إذا رأوا الهلال قبل الزوال أو بعده لا يصام به ولا يفطر وهو من الليلة المستقبلة وفي الأنوار وإذا رؤي الهلال بالنهار يوم الثلاثين فهو لليلة المستقبلة. أو إكمال عدة شعبان لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" والأحاديث في هذا المعنى كثيرة, وفي الحجة البالغة لما كان وقت الصوم مضبوطا بالشهر القمري باعتبار رؤية الهلال وهو تارة ثلاثون يوما وتارة تسع وعشرون وجب في صورة الاشتباه أن يرجع إلى هذا الأصل, وأيضا مبنى الشرائع على الأمور الظاهرة عند الأميين دون التعمق والمحاسبات النجومية بل الشريعة واردة بإخمال ذكرها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا تكتب ولا نحسب" انتهى. "ويصوم ثلاثين يوما ما لم يظهر هلال شوال قبل إكمالها" وجهه ما ورد من الأدلة الصحيحة أن الهلال إذا غم صاموا ثلاثين يوما كحديث أبي هريرة المذكور ومثله في صحيح مسلم من حديث ابن عمر ومن حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي والترمذي وصححه من حديث عائشة عند أحمد وأبي داود والدارقطني بإسناد صحيح وغير ذلك من الأحاديث وفيها التصريح بإكمال العدة الثلاثين يوما في بعضها عدة شعبان وفي بعضها ما يفيد أنها عدة رمضان وفي بعضها الإطلاق وعدم التقييد بأحد الشهرين. قال في الحجة: قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة1, قيل لا ينقصان معا وقيل لا يتفاوت أجر ثلاثين وتسعة وعشرين وهذا الآخر أقعد بقواعد التشريع كأنه أراد سد أن يخطر في قلب أحد ذلك انتهى. أقول: يمكن أن يقال: إن هذا إخبار من الشارع بعدم دخول النقص في الشهرين المذكورين فما ورد عنه أنه يكون الشهر تسعة وعشرين عام مخصص بالشهرين المذكورين وما ورد في خصوص شهر رمضان مما يدل على أنه قد يكون تسعة وعشرين فيمكن أن يقال فيه إن ذلك إنما هو باعتبار ما ظهر للناس من طلوع الهلال عليهم وفي نفس الأمر ذلك الشهر هو ثلاثون يوما. قال بعض المحققين: التكليف الشهري علق معرفة وقته برؤية الهلال دخولا وخروجا أو إكمال العدة ثلاثين يوما فهل في الأكوان أوضح من هذا البيان والتوقيت في الأيام والشهور بالحساب للمنازل القمرية بدعة باتفاق الأمة انتهى. أقول: إن الرؤية التي اعتبرها الشارع في قوله: "صوموا لرؤيته" هي الرؤية الليلية لا الرؤية النهاية فليست بمعتبرة سواء كانت قبل الزوال أو بعده ومن زعم خلاف هذا فهو عن معرفة المقاصد الشرعية بمراحل واحتجاج من احتج برؤية الذين أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم رأوه بالأمس باطل كاحتجاج من احتج على وجوب الإتمام بقول تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وكلا الدليلين لا دلالة لهما على محل النزاع, وأما الأول فإنهم إنما أخبروا عن الرؤية في الوقت المعتبر وذلك مرادهم بلفظ أمس كما لا يخفى على عالم, وأما الثاني فالمراد به وجوب إتمام الصيام إلى الوقت الذي يسوغ فيه الإفطار تعيينا لوقته الذي لا يكون صوما بدونه. والحاصل: أن المجادلة عن هذا القول الفاسد وهو الاعتداد برؤية الهلال نهارا يأباه الإنصاف وإن قال المتخذلق إن الاعتبار بالرؤية وقد وقعت لحديث: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" والاعتبار بعموم اللفظ ونحو ذلك من المجادلات التي لا يجهل صاحبها أنه غالط أو مغالط ولو كان هذا صحيحا لوجب الإفطار عند كل رؤية للهلال في أي وقت من أوقات الشهر وهو باطل بالضرورة الدينية. "وإذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة" وجهه الأحاديث المصرحة بالصيام   1 هذا لفظ الترمذي ورواه البخاري بلفظ: "شهران لا ينقصان شهرا عيد رمضان وذو الحجة. انظر فتح الباري جزء 4 ص 87- 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 لرؤيته والإفطار لرؤيته وهي خطاب لجميع الأمة فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لجميعهم, وأما استدلال من استدل بحديث كريب عند مسلم وغيره: أنه استهل عليه رمضان وهو بالشام فرأى الهلال ليلة الجمعة فقدم المدينة فأخبر بذلك ابن عباس فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه, ثم قال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وله ألفاظ فغير صحيح لأنه لم يصرح ابن عباس بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمرهم بأن لا يعملوا برؤية غيرهم من أهل الأقطار بل أراد ابن عباس أنه أمرهم بإكمال الثلاثين أو يروه ظنا منه أن المراد بالرؤية رؤية أهل المحل وهذا خطأ في الاستدلال أوقع الناس في الخبط والخلط حتى تفرقوا في ذلك على ثمانية مذاهب, وقد أوضح الماتن المقام في الرسالة التي سماها إطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال. قال في المسوى: لا خلاف في أن رؤية بعض أهل البلد موجبة على الباقين واختلفوا في لزوم رؤية أهل بلد أهل بلد آخر والأقوى عند الشافعي يلزم حكم البلد القريب دون البعيد وعند أبي حنيفة يلزم مطلقا "وعلى الصائم النية قبل الفجر" لحديث حفصة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" أخرجه أحمد وأهل السنن وابن خزيمة وابن حبان وصححاه, ولا ينافي ذلك رواية من رواه موقوفا فالرفع زيادة يتعين قبولها على ما ذهب إليه أهل الأصول وبعض أهل الحديث, وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم وخالفهم آخرون واستدلوا بما لا تقوم به الحجة. أما حديث أمره صلى الله عليه وسلم لمن أصبح صائما أن يتم صومه في يوم عاشوراء فغاية ما فيه أن من لم يتبين له وجوب الصوم إلا بعد دخول النهار كان ذلك عذرا له عن التبييت1, وأما حديث أنه صلى الله عليه وسلم: دخل على بعض نسائه ذات يوم فقال: هل عندكم من شيء؟ فقالوا: لا, فقال: "فإني إذن صائم" فذلك في صوم التطوع. قال في المسوى: قال الشافعي: يشترط للفرض التبييت   1 أمر صلى الله عليه وسلم في عاشوراء من أصبح صائما أن يتم صومه ومن أصبح مفطرا أن يمسك بنية يومه وهذا حديث خاص بعاشوراء ثم نسخ وجوب صومه فلا يستدل به على ما قاله الشارح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ويصح النفل بنيته قبل الزوال وقال أبو حنيفة: يكفي في الفرض والنفل وأن ينوي قبل نصف النهار ولا بد في القضاء والكفارات من التبييت. أقول: وأما أنه يجب تجديد النية لكل يوم فلا يخفى أن النية هي مجرد القصد إلى الشيء أو الإرادة له من دون اعتبار أمر آخر ولا ريب أن من قام في وقت السحر وتناول طعامه وشرابه في ذلك الوقت من دون عادة له به في غير أيام الصوم فقد حصل له القصد المعتبر لأن أفعال العقلاء لا تخلو عن ذلك وكذلك الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس لا يكون إلا من قاصد للصوم بالضرورة إذا لم يكن ثم عذر مانع عن الأكل والشرب غير الصوم, ولا يمكن وجود مثل ذلك من غير قاصد إلا إذا كان مجنونا أو ساهيا أو نائما كمن ينام يوما كاملا, وإذا تقرر هذا فمجرد القصد إلى السحور قائم مقام تبييت النية عند من اعتبر التبييت ومجرد الإمساك عن المفطرات وكف النفس عنها في جميع النهار يقوم أيضا مقام النية عند من لم يعتبر التبييت, ومن قال إنه يجب في النية زيادة على هذا المقدار فليأت بالبرهان فإن مفهوم النية لغة وشرعا لا يدل على غير ما ذكرناه وهكذا سائر العبادات فإن مجرد قصدها كاف من غير احتياج إلى زيادة على ذلك, مثلا يكفي في نية الوضوء مجرد دخول المكان المعتاد لذلك والاشتغال بغسل الأعضاء المخصوصة على الصفة المشروعة, وكذلك في الصلاة يكفي الدخول في المحل الذي تقام فيه والتأهب لها والشروع فيها على الصفة المشروعة فإن القصد والإرادة لا زمان لهذه الأفعال لعدم صدور مثل ذلك من العقلاء لمجرد اللعب والعبث. فصل "يبطل بالأكل والشرب عمدا" لا خلاف في ذلك. وأما مع النسيان فلا لما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة فقال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "من نسي وهو صائم فأكل وشرب فليتم صومه فإنما الله أطعمه وسقاه" وفي لفظ للدارقطني بإسناد صحيح: "فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه" وفي لفظ آخر للدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والحاكم: "من أفطر يوما من رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة" وإسناده صحيح أيضا قاله الحافظ ابن حجر, وأخرج الدارقطني من حديث أبي سعيد مرفوعا: "من أكل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه". قال ابن حجر: وإسناده وإن كان ضعيفا ولكنه صالح للمتابعة فأقل درجات هذا الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسنا فيصلح للاحتجاج به انتهى. وقد ذهب إلى العمل بهذا الجمهور وهو الحق ومن قابل هذه السنة بالرأي الفاسد فرأيه رد عليه مضروب في وجهه. "و" هكذا "الجماع" لا خلاف في أنه يبطل الصيام إذا وقع من عامدا. وأما إذا وقع مع النسيان فبعض أهل العلم ألحقه بمن أكل أو شرب ناسيا, وتمسك بقوله في الرواية الأخرى: "من أفطر يوما من رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة" وبعضهم منع من الإلحاق. أقول: إفساد الصوم بالوطء لا يعرف في مثل هذا خلاف وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن المجامع في رمضان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هلكت يا رسول الله! قال: "وما أهلكك"؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان فأمره بكفارة, وفي رواية لأبي داود وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "وصم يوما مكانه" وهذه الزيادة مروية من أربع طرق ويقوي بعضها بعضا, ويدل على تحريم الوطء للصائم واجبا مفهوم قوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} . "والقيء عمداً" لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم وصححه, وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن تعمد القيء يفسد الصيام وفيه نظر فإن ابن مسعود وعكرمة وربيعة قالوا: إنه لا يفسد الصوم سواء كان غالبا أو مستخرجا ما لم يرجع منه شيء باختياره. واستدلوا بحديث: "ثلاث لا يفطّرن القيء والحجامة والاحتلام" أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف, وعلى فرض صلاحيته للاستدلال فلا يعارض حديث أبي هريرة لأن هذا مطلق وذاك مقيد بالعمد. أقول: حديث أبي هريرة المتقدم هو في عدة من كتب الحديث وله طرق مختلفة ينتهض معها للاستدلال وفيه الفرق بين المتعمد للقيء وغير المتعمد ولا يعارض هذا حديث أبي سعيد المتقدم لأنه عام مخصص الحديث الفرق بين المتعمد وغير المتعمد فيكون معناه أن القيء إذا وقع من غير اختيار الصائم بل ذرعه كان غير مفطر وهذا الجمع لا بد منه ويؤيده حديث: أنه صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 "قاء فأفطر". فإن بعض الحفاظ فسره بأنه استقاء والمراد بالاستقاء تعمد القيء كما صرح به أهل العلم. وتحرم الوصال لنهيهه صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في حديث أبي هريرة ابن عمر وعائشة وهو في الصحيحين وغيرهما وفي الباب أحاديث, وعلى من أفطر عمدا كفارة ككفارة الظهار لحديث المجامع في رمضان فإن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال له: "هل تجد ما تعتق رقبة"؟ قال: لا. قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين"؟ قال: لا. قال: "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا"؟ قال: لا. ثم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال: "تصدق بهذا" قال: فهل على أفقر منا فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا فضحك النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه. وقال: "اذهب فأطعمه أهلك" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وعائشة, وقد قيل إن الكفارة لا تجب على من أفطر عامدا بأي سبب بل بالجماع فقط, ولكن الرجل إنما جامع امرأته فليس في الجماع في نهاية رمضان إلا ما في الأكل والشرب لكون الجميع حلالا لم يحرم إلا لعارض الصوم, وقد وقع في رواية من هذا الحديث: "أن رجلا أفطر" ولم يذكر الجماع1. أقول: إذا ورد ما يدل على وجوب مثل كفارة الظهار وورد ما يدل على أنه يجزئ أقل منها كان ورود الأقل رخصة لمن لا يجد مثل كفارة الظهار وهذا ظاهر لا لبس فيه. "ويُندب تعجيل الفطر وتأخير السحور" لحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" وهو في الصحيحين وغيرهما. وعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر" أخرجه أحمد وفي إسناده سليمان بن عثمان. قال أبو حاتم: مجهول, وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث زيد بن ثابت أنه كان بين تسحره صلى الله عليه وسلم ودخوله في الصلاة قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية وفي الباب أحاديث كثيرة. فصل "ويجب على من أفطر لعذر شرعي أن يقضي" كالمسافر   1 إذا صح هذا الحديث فهو مجمل وقد بينته الروايات الأخرى أنه أفطر بالجماع ثم إن قياس الأكل والشرب على الجماع غير صحيح والقياس في العبادات باطل أصلا وليس للقائلين بوجوب الكفارة على المفطر بغير الجماع دليل صحيح والأصل عدم الوجوب إلا بدليل فالحق أن الكفارة لا تجب إلا على من أفطر بالجماع فقط كما ذهب إليه الشافعي وغيره من أهل العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 والمريض, وقد صرح بذلك القرآن الكريم: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وقد ورد في الحائض حديث معاذة عن عائشة وقد تقدم ذكره والنفساء مثلها. "والفطر للمسافر ونحوه رخصة إلا أن يخشى التلف أو الضعف عن القتال فعزيمة" الأحاديث في ذلك كثيرة منها: قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" لما سأله حمزة بن عمرو الأسلمي عن الصوم في السفر وهو في الصحيحين من حديث عائشة وفيه دليل على تفويض الفطر في الصوم وعدمه إلى المسافر, ومن حمله على صوم التطوع فلم يصب فإنه عند أبي داود والحاكم وصححه أنه قال: "ربما صادفني هذا الشهر" يعني رمضان, وأما حديث أنه قيل له صلى الله عليه وسلم إن جماعة لم يفطروا في سفر من أسفارهم فقال: "أولئك العصاة" فذاك لأنه صلى الله عليه وسلم قد كان أمرهم بالإفطار في ذاك اليوم بخصوصه فسماهم عصاة لمخالفة أمره لا لمجرد الصوم في السفر, وأما حديث: "ليس من البر الصيام في السفر" وهو متفق عليه ففي رواية زادها النسائي في هذا الحديث: "عليكم برخص الله التي رخص لكم فاقبلوا" فالتصريح بالرخصة مشعر بأن الصوم عزيمة وهو المطلوب. وأما ما روي بلفظ: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" فقد صحح جماعة من الحفاظ وقفه على عبد الرحمن بن عوف ولا حجة في ذلك, وفي الصحيحين من حديث أنس كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم, وأخرج مسلم وغيره عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال يا رسول الله: أجد مني قوة على الصوم فهل علي جناح فقال: "هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" وفي الصحيحين من حديث جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال: "ماهذا"؟ فقالوا: صائم. فقال: "ليس من البر الصوم في السفر ". وأخرج مسلم وأحمد وأبو داود من حديث أبي سيد قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام قال: فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم" فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر ثم نزلنا منزلا آخر فقال: "إنكم مصبِّحو عدوكم والفطر أقوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 لكم فأفطروا" فكانت عزيمة. ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر. وقد ذهب إلى كون الصوم رخصة في السفر الجمهور, وروي عن بعض الظاهرية وهو محكي عن أبي هريرة أن الفطر في السفر واجب وأن الصوم لا يجزئ والمراد بنحو المسافر الحبلى والمرضع لما أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي من حديث أنس بن مالك الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحبلى والمرضع الصوم". ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه لحديث عائشة في الصحيحين وغيرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" وقد زاد البزار لفظ: "إن شاء". قال في مجمع الزوائد: وإسناده حسن وبه قال أصحاب الحديث وبعض الشافعية وأبو ثور والأوزاعي وأحمد بن حنبل. قال البيهقي في الخلافيات: هذه السنة ثابتة لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في صحتها, وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجب صوم الولي عن وليه, وقال في الحجة: ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" وقوله فيه أيضا: "فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا" إذ يجوز أن يكون كل من الأمرين مجزئا. قال ابن القيم في إعلام الموقعين: وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه وقالت: يصام عنه النذر والفرض وأبت طائفة ذلك وقالت: لا يصام عنه نذر ولا فرض وفصلت طائفة فقالت يصام النذر دون الفرض الأصلي وهذا قول ابن عباس وأصحابه والإمام أحمد وأصحابه وهو الصحيح؛ لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة فكما لا يصلي أحد عن أحد ولا يسلم أحد عن أحد فكذلك الصيام, وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدين فيقبل قضاء الولي له كما يقضي دينه وهذا محض الفقه وطرد هذا أنه لا يحج عنه ولا يزكي عنه إلا إذا كان معذورا بالتأخير كما يطعم الولي عمن أفطر في رمضان لعذر. فأما المفطر من غير عذر أصلا فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله تعالى التي فرض فيها وكان هو المأثور بها ابتلاء وامتحانا دون الولي فلا ينفع توبة أحد عن أحد ولا إسلامه عنه ولا أداء الصلاة عنه ولا غيرها من فرائض الله تعالى التي فرط فيها حتى مات والله تعالى أعلم. أقول: الظاهر والله أعلم أنه يجب على الولي أن يصوم عن قريبه الميت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 إذا كان عليه صوم سواء أوصى أو لم يوص كما هو مدلول الحديث ومن زعم خلاف ذلك فليأت بحجة تدفعه1 والكبير العاجز عن الأداء والقضاء يكفر عن كل يوم بإطعام مسكين لحديث سلمة بن الأكوع الثابت في الصحيحين وغيرهما قال: لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وأخرج هذا الحديث أحمد وأبو داود عن معاذ بنحو ما تقدم وزاد: ثم أنزل الله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام وأخرج البخاري عن ابن عباس أنه قال: ليست هذه الآية منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا, وأخرج أبو داود عن ابن عباس أنه قال: أثبتت للحبلى والمرضع أن يفطرا ويطعما كل يوم مسكينا وأخرج الدارقطني والحاكم وصححاه عن ابن عباس أنه قال: رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه: وهذا أنه قال وهذا من ابن عباس تفسير لما في القرآن مع ما فيه من الإشعار بالرفع فكان ذلك دليلا على أن الكفارة هي إطعام مسكين عن كل يوم. أقول: لم يثبت في الكفارة على من لم يطق الصوم شيء من المرفوع في شيء من كتب الحديث وليس في الكتاب العزيز ما يدل على ذلك لأن قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} إن كانت منسوخة كما ثبت عن سلمة بن الأكوع عند أهل الأمهات كلهم أنها كانت في أول الإسلام فكان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نسختها الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ومثل ذلك روي عن معاذ بن جبل أخرجه أحمد وأبو داود ومثله عن ابن عمر أخرجه البخاري فالمنسوخ ليس بحجة بلا خلاف, وإن كانت محكمة كما رواه أبو داود عن ابن عباس فظاهرها جواز ترك الصوم لمن كان   1 سياق الأحاديث الواردة في الصيام عن الميت يدل على إباحة ذلك للولي برا بالميت لا وجوبا ويقوي هذا الظاهر رواية البزار التي ذكرها الشارح وفيها زيادة: "إن شاء" ولم يرد في شيء من السنة ما يدل على الوجوب فمن ادعاه طولب بالدليل لأن الأصل براءة الذمة وأن المكلف غير ملزم بأداء ما ثبت في ذمة غيره إلا بدليل صريح والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 مطيقا غير معذور ووجوب الفدية عليه وهو خلاف ما أجمع عليه المسلمون. وأما قول ابن عباس المتقدم فكلام غير مناسب لمعنى الآية لأنها في المطيقين لا فيمن لا يستطيع أن يصوم كما قال وكذلك ما رواه عنه أبو داود أنها أُثبتت للحبلى والمرضع فإنه يدل على أنها منسوخة فيما عداهما فعلى كل حال ليس في الآية دليل على وجوب الإطعام على من ترك الصوم وهو لا يطيقه وهو محل النزاع وإذا لم يوجد دليل في كتاب الله ولا في سنة رسوله فليس في غيرهما أيضا ما يدل على ذلك فالحق عدم وجوب الإطعام, وقد ذهب إليه جماعة من السلف منهم: مالك وأبو ثور وداود وكذا لا فدية على من حال عليه رمضان وعليه رمضان أو بعضه ولم يقضه لأنه لم يثبت في ذلك شيء صح رفعه وغاية ما فيه آثار عن جماعة من الصحابة من أقوالهم وليس بحجة على أحد ولا تعبد الله بها أحدا من عباده والبراءة الأصلية مستصحبة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح, وقد ذهب إلى هذا النخعي وأبو حنيفة وأصحابه, وأما التفريق في قضاء رمضان فقد أخرج الدارقطني من حديث ابن عمر أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سئل عن قضاء رمضان فقال: "إن شاء فرقه وإن شاء تابعه" وفي إسناده سفيان بن بشر وقد ضعفه بعضهم, وقال ابن الجوزي ما علمنا أحدا طعن فيه ثم صحح الحديث, ويؤيد ما دل عليه هذا الحديث من التخيير قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وهذه العدة تصدق على ما كان مجتمعا ومتفرقا لأنه يحصل من كل واحد منهما عدة والبراءة الأصلية قاضية بعدم التعبد بما هو أشق ما يصدق عليه معنى الآية دون ما هو أخف, وأما ما يروى من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه" كما أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة ففي إسناده عبد الرحمن بن إبراهيم القاص وقد ضعفه جماعة من الأئمة وقال البيهقي لا يصح وأنكره أبو حاتم على عبد الرحمن, وأما ابن القطان فقال: لم يأت من ضعفه بحجة1 انتهى. ولكنه مع ذلك لا ينتهض للنقل عن مجرد البراءة الأصلية فضلا عما عضدها.   1 قال ابن القطان والحديث حسن وقال ابن حجر قد صرح ابن أبي حاتم عن أبيه أنه أنكر هذا الحديث بعينه على عبد الرحمن نقله الشوكاني جزء 4 ص 317 في نيل الأوطار وعبد الرحمن هذا قال أحمد ليس به بأس. قال الذهبي ومن مناكيره عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا: "من كان عليه صوم رمضان فليسرده ولا يقطعه" أخرجه الدارقطني. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 باب صوم التطوع "يُستحبّ صيام ست من شوال لحديث: "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فذاك صيام الدهر" أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي أيوب, وفي الباب أحاديث قال في الحجة البالغة: والسر في مشروعيتها أنها بمنزلة السنن الرواتب في الصلاة تكمل فائدتها بالنسبة إلى أمزجة لم تتام فائدتها بهم وإنما خص في بيان الفضيلة التشبه بصوم الدهر لأن من القواعد المقررة أن الحسنة بعشر أمثالها وبهذه الستة يتم الحساب انتهى. أقول: ظاهر الحديث أنه يكفي صيام ست من شوال سواء كانت من أوله أو من أوسطه أو من آخره ولا يشترط أن تكون متصلة به لا فاصل بينها وبين رمضان إلا يوم الفطر وإن كان ذلك هو الأولى ولأن الاتباع وإن صدق على جميع الصور فصدقه على الصورة التي لم يفصل فيها بين رمضان وبين الست إلا يوم الفطر الذي لا يصح صومه لا شك أنه أولى, وأما أنه لا يحصل الأجر إلا لمن فعل كذلك فلا لأن من صام ستا من آخر شوال فقد أتبع رمضان بصيام ست من شوال بلا شك وذلك هو المطلوب. "وتسع ذي الحجة" لما ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من حديث حفصة عند أحمد والنسائي قالت: أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم صيام عاشوراء والعشر وثلاثة أيام من كل شهر. وأخرجه أبو داود بلفظ: كان يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وأول اثنين من الشهر والخميس. وقد أخرج مسلم عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم صائما في العشر قط, وفي رواية: "لم يصم العشر قط" وعدم رؤيتها وعلمها لا يستلزم العدم وآكد التسع يوم عرفة, وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "صوم يوم عرفة يكفّر سنتين ماضية ومستقبلة وصوم يوم عاشوراء يكفّر سنة ماضية". وأما صيام شهر "محرم" فلحديث أبي هريرة عند مسلم وأحمد وأهل السنن أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سئل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 أي الصيام بعد رمضان أفضل؟ فقال: "شهر الله المحرم" وآكده يوم عاشوراء لما ورد فيه من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه ثم قال: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء صام ومن شاء فليفطر", وقد تقدم أنه يكفر سنة ماضية, وثبت في مسلم وغيره أنه لما أمر بصيامه قالوا يا رسول الله: إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى فقال: "إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا التاسع" فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وعليه أهل العلم, واستحب أكثرهم أن يصوم التاسع والعاشر, وفي العالمكيرية: ويكره صوم يوم عاشوراء مفردا انتهى. وفي الباب أحاديث أخرى أوردها الشيخ عبد الحق الحنفي الدهلوي فيما ثبت من السنة في أيام السنة. أقول: أما شهر المحرم فلا ريب أنه قد خصه دليل صحيح ناطق بأنه أفضل الصيام المتطوع به ولم يعارضه في هذه الأفضلية إلا ما قيل في صوم يوم عرفة وقد ذكر الجمع الماتن رح في شرح المنتقى. وشعبان لحديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلى شعبان يصل به رمضان أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي وفي الصحيحين من حديث عائشة ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان كان يصومه إلا قليلا بل كان يصومه كله. وفي لفظ: وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان. "والاثنين والخميس" لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس. أخرجه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن حبان وصححه, وأخرج نحوه أبو داود من حديث أسامة بن زيد وأخرجه أيضا النسائي وفي إسناده مجهول مع أنه قد صححه ابن خزيمة. وأخرج أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعرض الأعمال كل اثنين وخميس فأحب أن يُعرض عملي وأنا صائم" وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: "ذاك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه". "وأيام البيض" لحديث أبي قتادة عند مسلم وغيره. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله". وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان وصححه من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 صمت من الشهر ثلاثة فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" وفي الباب أحاديث. قال في الحجة البالغة: وقد اختلفت الرواية في اختيار تلك الأيام فورد: "يا أبا ذر" إلخ وورد كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس وورد من غرة كل شهر ثلاثة أيام وورد أنه أمر أم سلمة بثلاثة أولها الاثنين والخميس ولكل وجه انتهى. "وأفضل التطوع صوم يوم وإفطار يوم" لحديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صم في كل شهر ثلاثة أيام" قلت: فإني أقوى من ذلك فلم يزل يرفعني حتى قال: "صم يوما وأفطر يوما فإنه أفضل الصيام وهو صوم أخي داود عليه السلام". قال في الحجة البالغة: واختلفت سنن الأنبياء عليهم السلام في الصوم فكان نوح عليه السلام يصوم الدهر وكان داود عليه السلام يصوم يوما ويفطر يوما وكان عيسى عليه السلام يصوم يوما ويفطر يومين أو أياما, وكان النبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه يصوم حتى يقال لا يفطر ويفطر حتى يقال لا يصوم ولم يكن يستكمل صيام شهر إلا رمضان وذلك أن الصيام ترياق والترياق لا يستعمل إلا بقدر المرض وكان قوم نوح عليه السلام شديدي الأمزجة حتى روي غنهم ما روي, وكان عليه السلام ذا قوة ورزانة وهو قوله صلى الله عليه وسلم. وكان لا يفر إذا لا قي. وكان عيسى عليه السلام ضعيفا في بدنه فارغا لا أهل له ولا مال فاختار كل واحد ما يناسب الحال, وكان نبينا صلى الله عليه وسلم عارفا بفوائد الصوم والإفطار مطلعا على مزاجه وما يناسبه فاختار بحسب مصلحة الوقت ما شاء. ويُكره صوم الدهر لحديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صام من صام الأبد" وهو في الصحيحين وغيرهما, وأخرج أحمد وابن حبان وابن خزيمة والبيهقي وابن أبي شيبة من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام الدهر ضُيقت عليه جهنم هكذا وقبض كفه" ولفظ ابن حبان: "ضُيقت عليه جهنم هكذا وعقد تسعين" ورجاله رجال الصحيح, وهذه الأحاديث من أعظم الأدلة الدالة على أن صوم الدهر مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم لأنه نزّل صوم صائم الدهر منزلة العدم في الحديث الأول وفي رواية: "لا صام من صام الدهر ولا أفطر" والحديث صحيح, ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من نهيه صلى الله عليه وسلم لابن عمرو لما أراد أن يصوم الدهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وقال له: "لا تفعل", وقال لما بغله عن المتكلفين في العبادة أنهم سألوا عن عبادته صلى الله عليه وسلم فاستقلوها فقال أحدهم: أصوم ولا أفطر, وقال الثاني: أقوم ولا أنام, وقال الثالث: لا أنكح النساء فقال صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وأما تقريره صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمرو قال له يا رسول الله: إني أسرد الصوم أفأصوم في السفر؟ قال: "إن شئت" كما أخرجه الشيخان وغيرهما فليس فيه دليل على صوم الدهر لأن السرد يصدق بصوم أيام متتابعة وإن كانت بعض سنة فضلا عن أكثر منها ومن جملة الوعيد لمن صام الدهر حديث أبي موسى المتقدم وهذا وعيد شديد ومن زعم أنه ترغيب في صوم الدهر فلم يصب. وإفراد يوم الجمعة لحديث جابر في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نهى عن صوم يوم الجمعة. وفي رواية: "أن يفرد بصوم" وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: "لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم" وفي لفظ المسلم: "ولا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" وفي الباب أحاديث قال الشافعي: يكره إفراد الجمعة. وفي العالمكيرية يستحب صوم يوم الجمعة بانفراده. أقول: الأحاديث واردة بالنهي وحقيقة النهي التحريم إذا لم يصم يوما قبله ولا يوما بعده وما روي عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من أنه كان يصومه لا يصلح لجعله قرينة صارفة لوجهين: الأول أنه لم ينقل أنه كان يصومه منفردا بل الظاهر أنه كان يصومه على غير الصفة التي نهانا عنها. الثاني: أن فعله لا يعارض قوله الخاص بالأمة كما تقرر في الأصول وعلى فرض عدم الاختصاص لقوله بالأمة بل شموله له ولهم فهو مخصص له من العموم وذلك لا يصلح قرينة صارفة للنهي عن معناه الحقيقي ويوم السبت لحديث الصماء بنت بسر عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والطبراني والبيهقي وصححه ابن السكن أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا عود عنب أو لحاء شجر فليمضغه". "ويحرم صوم العيدين" لحديث أبي سعيد في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن صوم يومين: يوم الفطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ويوم النحر. وقد أجمع المسلمون على ذلك. "وأيام التشريق" لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الصوم فيها كما ثبت ذلك من طريق جماعة من الصحابة وقد سرد أحاديثه الماتن في شرح المنتقى. واستقبال رضمان بيوم أو يومين لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صوما فليصمه" ويؤيده حديث أبي هريرة أيضا عند أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره مرفوعا بلفظ: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" وفي الباب أحاديث والخلاف طويل مبسوط في المطولات. أقول: وما زال الخلاف في هذه المسألة من عصر الصحابة إلى الآن, وقد صارت مركزا من المراكز التي يتغالى الناس في أمرها إثباتا ونفيا ولم يحتج أحد منهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه, وأما ما احتجوا به من العمومات الدالة على مشروعية مطلق الصوم واستحبابه فنحن نقول بموجبها ونقول هي مخصصة بأحاديث أمره صلى الله عليه وسلم بالصوم لرؤية الهلال والإفطار لرؤيته أو إكمال العدة كما صح في جميع دواوين الإسلام وبأحاديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان بيوم أو يومين وهو في الصحيح بل ورد النهي عن صوم النصف الأخير من شعبان وقال عمار: من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم, وهو صحيح. بل قال ابن عبد البر: لا يختلفون في رفعه ولعل مراده أن له حكم الرفع لا أن القائل له هو النبي صلى الله عليه وسلم فهذا إذا لم يصلح لتخصيص العمومات لم يصلح مخصص قط ومن نظر إلى ما يقع من عوام المسلمين بل ومن بعض خواصهم في هذه الأعصار من التخاري على الصوم والإفطار بمجرد الشكوك والخيالات التي هي عن الشريعة بمعزل قضى العجب وبكى على الدين وانتظر القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 باب الاعتكاف "يشرع" لا خلاف في مشروعية الاعتكاف وقد كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة. "ويصح في كل وقت في المساجد" لأنه ورد الترغيب فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ولم يأت ما يدل على أنه يختص بوقت معين, وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: "فأوف بنذرك" وأما كونه لا يكون إلا في المساجد فلأن ذلك هو معنى الاعتكاف شرعا إذ لا يسمى من اعتكف في غيرها معتكفا شرعا, وقد ورد ما يدل على ذلك كحديث: "لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة" أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور من حديث حذيفة. قال في المسوى: الاعتكاف جائز في كل مسجد فإن لم يكن المسجد جامعا فالخروج للجمعة واجب عليه فإذا خرج يبطل اعتكافه عند الشافعي فيحتاج إلى نية جديدة لما يستقبله إن كان تطوعا ولا يبطل عند أبي حنيفة كما لو خرج لقضاء الحاجة. أقول: لا ريب أن مسمى الاعتكاف الشرعي لا يحصل إلا إذا كان في المسجد ولهذا لم تختلف الأمة في اعتبار ذلك إلا ما يروى عن محمد بن عمر بن لبابة المالكي فإنه أجازه في كل مكان, وإنما اختلفوا هل يجزئ الاعتكاف في كل مسجد أم في الثلاثة المساجد فقط أم في المسجد الحرام فقط؟ والظاهر أنه يجزئ في كل مسجد قال تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ولا حجة في قول عائشة ولا في قول حذيفة1 في هذا الباب. "وهو في رمضان آكد سيما في العشر الأواخر منه" أفضل وآكد لكونه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف فيها. ولم يرد ما يدل على توقيته بيوم أو أكثر ولا على اشتراط الصيام إلا من قول عائشة وحديث نذر عمر المتقدم يرده, وكذلك حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه" أخرجه الدارقطني والحاكم وقال: صحيح الإسناد, ورجح الدارقطني والبيهقي وقفه. وبالجملة: فلا حجة إلا في الثابت من قوله صلى الله عليه وسلم ولم يثبت عنه ما يدل على أنه لا اعتكاف إلا بصوم بل ثبت عنه ما يخالفه في نذر عمر وقد روى أبو داود عن عائشة مرفوعا من حديث: "ولا اعتكاف إلا بصوم" ورواه غيره من قولها ورجح ذلك الحفاظ. أقول: اعلم أن كون الشيء شرطا لشيء آخر أو ركنا له أو فرضا من فروضه لا يثبت إلا بدليل لأنه حكم شرعي   1 قول عائشة سيأتي في الكلام على خروج المعتكف وهو حديث صحيح مرفوع حكما وقول حذيفة سبق قريبا وهو حديث مرفوع أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 أو وضعي ولم يأت ما يدل على أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم, بل ثبت الترغيب منه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف ولم ينقل إلينا أنه اعتبر ذلك ولو كان معتبرا لبينه للأمة. وأما اعتكافه صلى الله عليه وسلم في صومه فلا يستلزم أن يكون الاعتكاف كذلك لأنه أمر اتفاقي ولو كان ذلك معتبرا لكان اعتكافه في مسجده معتبرا فلا يصح من أحد الاعتكاف في غيره وأنه باطل. وأما قول عائشة المتقدم فظاهر هذا السياق أن لفظ: "ولا اعتكاف إلا بصوم" ليس من بيان السنة المذكورة في أول كلامها بل ابتداء كلام منها فقد أخرجه النسائي ولم يذكر فيه قولها من السنة وكذلك أخرجه أيضا من حديث مالك وليس فيه ذلك وقال أبو داود: غير عبد الرحمن بن إسحق لا يقول فيه من السنة وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها: "لا يخرج وما عداه ممن دونها" وكذلك رحج ذلك البيهقي كما ذكره ابن كثير في إرشاده ومما يؤيد هذا حديث: "من اعتكف فواق ناقة" وكذلك حديث: "ليس على المعتكف صيام" وفيهما مقال أوضحه الماتن رح في شرح المنتقى, وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف عشرا من شوال ولم ينقل عنه أنه صامها بل روي عنه أنه اعتكف العشر الأول من شوال ولا يخفى أن يوم الفطر من جملتها وليس بيوم صوم فالحق عدم اشتراط الصوم في الاعتكاف لما تقدم ولما ثبت أن عمر: سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال: "أوف بنذرك" وهو متفق عليه, وفي رواية لمسلم: "يوما" مكان: "ليلة" وما في الصحيحين أرجح مما في أحدهما إذا لم يمكن الجمع وقد جمع ابن حبان وغيره بأنه نذر اعتكاف ليلة ويوم وفي رواية أبي داود والنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اعتكف وصم" ولكن في إسناده عبد الله بن بديل وهو ضعيف, وقد ذكر ابن عدي والدارقطني أنه تفرد بذلك عمرو بن دينار وقال الحافظ في الفتح إن رواية من روى: "يوما" شاذة, وإذا عرفت ما تقدم من عدم انتهاض ما احتجوا به على شرطية الصوم فالحق الحقيق بالقبول أن الاعتكاف يكون ساعة فما فوقها. بل حديث: "من اعتكف فواق ناقة" يدل على أنه يكون أقله لحظة مختطفة وهذا الحديث وإن لم يكن صالحا للاحتجاج به فالأصل عدم التقدير بوقت معين, والدليل على مدعي ذلك ثم كون اليوم الكامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 شرطا للصوم لا يسلتزم أن يكون شرطا للاعتكاف لأنه يمكن الاعتكاف بعض اليوم مع الصوم لكل اليوم فاليوم شرط الصوم لا شرط الاعتكاف على تسليم أن الصوم شرط. ويستحب الاجتهاد في العمل فيها لحديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل كله وأيقظ أهله وشد المئزر. وهو في الصحيحين وغيرهما. "وقيام ليالي القدر" لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".وفي تعيين ليلة القدر أحاديث مختلفة وأقوال جاوزت الأربعين ذكرتها في مسك الختام شرح بلوغ المرام بالفارسية وقد استوفاها الماتن في نيل الأوطار وفي حاشية الشفاء للماتن. أقول: في تعيينها مذاهب يطول تعدادها وقد بسطتها في شرح المنتقى فكانت سبعة وأربعين قولا وذكرت أدلتها وبينت راجحها من مرجوحها ورحجت أنها في أوتار العشر الأواخر لما ذكرته هنالك انتهى. قال في الحجة البالغة: إن ليلة القدر ليلتان: إحداهما ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم وفيها نزل القرآن جملة واحدة ثم نزل بعد ذلك نجما نجما وهي ليلة في السنة ولا يجب أن تكون في رمضان نعم رمضان مظنة غالبة لها واتفق أنها كانت في رمضان عند نزول القرآن والثانية يكون فيها نوع انتشار الروحانية ومجيء الملائكة إلى الأرض فيتفق المسلمون فيها على الطاعات فيتعاكس أنوارهم فيما بينهم ويتقرب منهم الملائكة ويتباعد منهم الشياطين ويستجاب منهم أدعيتهم وطاعاتهم وهي ليلة في كل رمضان في أوتار العشر الأواخر تتقدم وتتأخر فيه ولا تخرج منها فمن قصد الأولى قال: هي في كل سنة ومن قصد الثانية قال: هي في العشر الأواخر من رمضان1, وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر" وقال: "أريت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين" فكان ذلك في ليلة إحدى وعشرين واختلاف الصحابة فيها مبني على اختلافهم في وجدانها, ومن أدعية من وجدها: "اللهم إنك   1 هذا خيال غريب من صاحب الحجة البالغة لا دليل عليه من كتاب ولا سنة وما أظن أحدا قبله والعبرة في هذه الأمور بالنقل لا بالتخيل والأوهام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 عفو تحب العفو فاعف عني". وفي المسوى اختلفوا في ليلة هي أرجى والأقوى أنها ليلة في أوتار العشرة الأخيرة تتقدم وتتأخر وقول أبي سعيد إنها ليلة إحدى وعشرين, وقال المزني وابن خزيمة إنها تنتقل كل سنة ليلة جمعا بين الأخبار. قال في الروضة: وهو قوي ومذهب الشافعي أنها لا تلزم ليلة بعينها وفي المنهاج ميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والثالث والعشرين وعن أبي حنيفة أنها في رمضان لا يدرى أية ليلة هي وقد تتقدم وتتأخر وعندهما كذلك إلا أنها متعينة لا تتقدم ولا تتأخر. ولا يخرج المعتكف إلا لحاجة لما ثبت من حديث عائشة في الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أنه كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفا" وأخرج أبو داود عنها قالت: كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه. وفي إسناده ليث بن أبي سليم. قال الحافظ: والصحيح عن عائشة من فعلها أخرجه مسلم وغيره, وقال صح ذلك عن علي وأخرج أبو داود عن عائشة أيضا قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه. "ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع" وأخرجه أيضا النسائي وليس فيه قالت: السنة. قال أبو داود: غير عبد الرحمن بن اسحق لا يقول فيه قالت السنة وجزم الدارقطني بأن القدر من حديث عائشة قولها: "لا يخرج" وما عداه ممن دونها1. قال في المسوى: اتفق أهل العلم على أن المعتكف يخرج للغائط والبول ولا يفسد به اعتكافه ولا يخرج للأكل والشرب ويجوز له غسل الرأس وترجيل الشعر وما في معناه, وأكثرهم على أنه لا يجوز له الخروج لعيادة المريض وصلاة الجنازة إلا أن يخرج لحاجة فيسأل المريض مارا وإن شرط في اعتكافه الخروج لشيء من هذا جاز له أن يخرج عند الشافعي ولا يجوز عند أبي حنيفة كذا في شرح السنة.   1 سبق أن نقل كلام أبي داود والدارقطني فلا داعي لتكراره. وانفراد عبد الرحمن بن إسحاق بزيادة قول عائشة: السنة لا يضر فإنه ثقة تقبل زيادته ومثل هذا حكمه أن يكون مرفوعا عند أهل العلم بالحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 كتاب الحج مقدمة ... كتاب الحج أقول: الحج في اللغة القصد فمعنى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} قصد البيت, والقصد لا إجمال فيه, وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" فهو أمر بالاقتداء به في أفعاله وأقواله والأمر يفيد الوجوب فتكون المناسك التي بينها صلى الله تعالى عليه وسلم واجبة ولا يخرج عن الوجوب منها إلا ما خصه دليل, وأما كونه لا يصح الحج إلا بفعل جميع المناسك أو يختل باختلال بعضها فلا دليل على ذلك لأن الذي يؤثر عدمه في العدم هو الشرط لا الواجب وليس في أدلة مناسك الحج ما يفيد تأثير عدمه في عدم الحج إلا الوقوف بعرفة ولا ريب أنه نسك من مناسك الحج يختص بمزية لا توجد في غيره من المناسك لحديث: "الحج عرفة من أدرك عرفة فقد أدرك الحج" أخرجه أحمد وأصحاب السنن والحاكم والبيهقي وابن حبان من حديث عبد الرحمن بن نعيم الدؤلي, وأخرج من تقدم ذكره: من حديث عروة بن مضرس من صلى معنا هذه الصلاة يعني صلاة يوم النحر وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أونهارا فقد تم حجه وقضى تفثه. وصحح هذا الحديث جماعة من الحفاظ كالحاكم والدارقطني وابن العربي وفي رواية من حديث عبد الرحمن المذكور: "من جاء عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج" وفي رواية لأبي نعيم: "ومن لم يدرك جمعا فلا حج له" فهذه الروايات تدل على أن الوقوف بعرفة ركن من الأركان التي لا يتم الحج بدونها, وههنا بحث وهو أن الاستدلال ببعض أفعاله على الوجوب وبعضها على الندب تحكم وكذلك القول بأن بعضها نسك وبعضها غير نسك, والظاهر أن جميع أفعاله الصادرة عنه في حجته مناسك لأنه لم يتبين لنا أن النسك هو هذا الفعل دون هذا ولكن لا بد أن تكون الأفعال مقصودة لذاتها كالإحرام والوقوف بعرفة والطواف والسعي ورمي الجمار لا ما كان غير مقصود لذاته كالمبيت بمنى ليالي الرمي أو كان بسبب غير الحج كجمع الصلاتين في مزدلفة ونحو ذلك, وقد زعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الجلال في ضوء النهار أن من زعم أن حجه صلى الله عليه وسلم مجمل بين بفعله فقد أسرف في الجهل قال: لأن اسم الحج ومسماه ظاهران, ثم قال: إن تلك التي فعلها صلى الله عليه وسلم إنما هي أفعال وهي لا تدل على الوجوب حتى يعلم أنه فعلها على وجه الوجوب وإلا فالظاهر القربة فقط وهي لا تستلزم الوجوب ولا الشرطية انتهى. ولعله لم يخطر بباله حال تحرير هذا البحث حديث: "خذوا عني مناسككم" وهو حديث صحيح في مسلم وغيره ولا ريب أنه يفيد وجوب مناسك الحج كما قدمنا. يجب على كل مكلف مستطيع لنص الكتاب العزيز: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وعليه إجماع الأمة. قالوا: الحج فريضة محكمة يكفر جاحدها. وقالوا: الحر المكلف القادر إذا وجد الزاد والراحلة وأمن الطريق يلزمه الحج كذا في المسوى. أقول: حديث تفسيره صلى الله عليه وسلم للسبيل بالزاد والراحلة فيه مقال ولكنه قد روي من طريق جماعة من الصحابة وفي جميع الطرق علل لا تمنع تقوية بعضها لبعض ويشد من عضدها حديث: "من وجد زادا وراحلة" وهو مروي من طريق ثلاثة من الصحابة وفي جميعها مقال. فالحاصل: أن مجموع ما ورد في تفسير السبيل بالزاد والراحلة وترتيب الوجوب عليها ينتهض للاحتجاج به على ذلك فلا وجوب على من لم يجد الراحلة كما أنه لا وجوب على من لم يجد الزاد ولا وجه لقصر السبيل على الزاد والراحلة بل السلامة من المرض والأمن هما من السبيل, وكذلك المحرم للمرأة لدلالة الدليل على ذلك ثم التحقيق أن الشروط تنقسم إلى قسمين: شرط يتعلق بالفاعل وشرط يتعلق بالفعل فالأول يتوقف عليه تعلق الخطاب به والثاني يتوقف عليه كونه مطلوبا من فاعله والأول أيضا هو الذي يقال له شرط الإيجاب وشرط الطلب والثاني: هو الذي يقال له شرط الواجب وشرط المطلوب, وإيضاح هذا أن التكليف والإسلام والحرية شروط متعلقة بالفاعل والزاد والراحلة والأمن والمحرم شروط متعلقة بالفعل, فجعل بعض شروط الفعل للوجوب وبعضها للأداء غير موافق لعقل ولا نقل, وأنت خبير بأن المرأة منهية عن السفر بدون محرم كما ثبت النهي عن ذلك في الصحيح ولم يثبت النهي عن الحج لمن لم يجد الراحلة مثلا بل كان الإيجاب متعلقا بوجودها, وهذا يقتضي أن تحصيل المحرم أهم من تحصيل الراحلة؛ لأن السفر بدون محرم حرام كما يقتضيه النهي يحقيقته وكما يقتضيه لفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام أو يوما أو ليلة أو بريدا بدون محرم" على اختلاف الروايات ولم يرد ما يدل على تحريم السفر بدون الراحلة فإيجاب الوصية بالحج على من ماتت ولها زاد وراحلة وليس لها محرم دون من ماتت ولها زاد ومحرم وليس لها راحلة ليس بمناسب فإن فاقدة المحرم لم تستطع إلى الحج سبيلا كفاقدة الراحلة وزيادة, ومعنى كون الشيء شرطا لتأدية شيء آخر أن التأدية بدونه لا تصح, وهذا يعود إلى شرط الصحة وهم لا يريدون هذا بل معنى شرط الأداء عندهم أن يكون المكلف قد كملت له شروط الصحة والوجوب ولم يبق إلا التأدية وهي مشروطة بشرط وهذا اصطلاح قليل الثمرة غاية ما فيه أن من مات وقد كملت له شروط الصحة والوجوب ولم يبق إلا شرط الأداء وجب عليه الإيصاء بالحج وقد تقدم ما هو الحق في ذلك. فوراً لحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم ما يدري ما يعرض له" أخرجه أحمد وأخرج أحمد أيضا وابن ماجه من حديث ابن عباس عن الفضل أو أحدهما عن الآخر. قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتعرض الحاجة" وفي إسناده إسماعيل بن خليفة العبسي أبو إسرائيل وهو صدوق ضعيف الحفظ, وأخرج أحمد وأبو يعلى وسعيد بن منصور والبيهقي من حديث أبي أمامة مرفوعا: "من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا" وفي إسناده ليث بن أبي سليم وشريك وفيهما ضعف. وأخرجه الترمذي من حديث علي مرفوعا: من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت نصرانيا أو يهوديا, وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال الترمذي غريب وفي إسناده مقال والحديث يضعف وهلال بن عبد الله الراوي له عن أبي إسحق مجهول, وقال العقيلي: لا يتابع عليه, وقد روي من طريق ثالثة من حديث أبي هريرة عند ابن عدي بنحوه وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين. وأخرجه أيضا البيهقي, وقد ذهب إلى القول بالفور مالك وأبو حنيفة وأحمد وبعض أصحاب الشافعي, وقال الشافعي والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد إنه على التراخي. قال في حجة الله البالغة تحت قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "من ملك زادا وراحلة الخ". أقول: ترك ركن من أركان الإسلام يشبه بالخروج عن الملة وإنما شبه تارك الحج باليهودي والنصراني وتارك الصلاة بالمشرك لأن اليهود والنصارى يصلون ولا يحجون ومشركو العرب يحجون ولا يصلون, والمصلحة المرعية في الحج أعلاه كلمة الله وموافقة سنة إبراهيم عليه السلام وتذكر نعمة الله عليه انتهى. وفي بعض النسخ المتن وذلك العمرة وما زاد فهو نافلة وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". قلت: الحج المبرور هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم, وفي تنبيه الغافلين للشيخ محي الدين بن إبراهيم النحاس في ذكر منكرات الحجاج وأعظمها فتنة وأجلها مصيبة وأكثرها وجودا وبلية هو تضييع أكثرهم الصلاة في الحج وكثير منهم لا يتركونها بل يضيعون أوقاتها ويجمعونها على غير الوجه الشرعي, وذلك حرام بالإجماع ومن تحقق أن ذلك نصيبه في حجه حرم عليه الحج رجلا كان أو امرأة. قال ابن الحاج: وقد قال علماؤنا في المكلف: إذا علم أنه تفوته الصلاة الواحدة إذا خرج إلى الحج فقد سقط الحج عنه, وقد سئل مالك في الذي يركب البحر ولا يجد موضعا يسجد فيه إلا على ظهر أخيه أيجوز له الحج؟ فقال رح: أيركب حيث لا يصلي ويل لمن ترك الصلاة ويل له. وأما النساء فلا يمكن إحداهن الصلاة في وقتها المشروع إلا في النادر الذي لا حكم له وسبب هذا المنكر العظيم أمراء الحاج وتهاونهم في الإنكار. وخوف المصلي من فوات الرفقة ومشقة اللحوق بهم فالواجب على الأمراء أن يقفوا بالحج في أوقات الصلاة إذا دخلت عليهم وهم مسافرون ويتفقدون من لم يصل من الجمّالين وغيرهم ويشددون عليهم في أمر الصلاة ويمنعون من يتقدم منهم قبل الصلاة فإن لم يفعلوا كان إثم من ترك الصلاة كذلك في أعناقهم ومن تركها تهاونا وكسلا ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 يعلموا به فإثمه في عنق نفسه وحكمه مذكور في كتب الفقه انتهى حاصله1. فصل "ويجب تعيين نوع الحج بالنية" لأن المناسك على ما استفاض من الصحابة والتابعين وسائر المسلمين أربعة: حج مفرد وعمرة مفردة وتمتع وقران. "من تمتع" وهو أن يحرم الآفاقي بالعمرة في أشهر الحج فيدخل مكة ويتم عمرته ويخرج من إحرامه ثم يبقى حلالا حتى يحج وعليه أن يذبح ما استيسر من الهدي. أو قران وهو أن يحرم الآفاقي بالحج والعمرة معا ثم يدخل مكة وبيقي على إحرامه حتى يفرغ من أفعال الحج وعليه أن يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا في قوله وطوافين وسعيين ثم يذبح ما استيسر من الهدي فإذا أراد أن ينفر من مكة طاف للوداع. أو إفراد أي حج مفرد أو عمرة مفردة فالحج لحاضر مكة أن يحرم منها ويجتنب في الإحرام الجماع ودواعيه والحلق وتقليم الأظفار ولبس المخيط وتغطية الرأس والتطيب والصيد ويجتنب النكاح على قول ثم يخرج إلى عرفات ويكون فيها عشية عرفة ثم يرجع منها بعد غروب الشمس ويبيت بمزدلفة ويدفع منها قبل شروق الشمس فيأتي منى ويرمي العقبة الكبرى ويهدي إن كان معه ويحلق أو يقصر ثم يطوف للإفاضة في أيام منى ويسعى بين الصفا والمروة, وللآفاقي أن يحرم من ميقات فإن دخل مكة قبل الوقوف طاف للقدوم ورمل فيه وسعى بين الصفا والمروة ثم بقي على إحرامه حتى يقوم بعرفة ويرمي ويحلق ويطوف ولا رمل ولا سعي حينئذ والعمرة أن يحرم من الحل فإن كان آفاقيا فمن الميقات فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر. وبالجملة: فتعيين نوع الحج بالنية لما تقدم في الوضوء, وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل". قالت: وأهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج وأهلّ به ناس معه وأهلّ معه ناس بالعمرة والحج وأهلّ ناس بعمرة وكنت فيمن أهل بعمرة. وفي البخاري من حديث جابر: أن إهلال النبي صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته. وفي   1 في هذا الكلام شيء من الخلط فإن تارك الصلاة آثم بلا خلاف ولكن هل هذا يسقط عنه الحج وهل تمسكم بكلمة ما تلك التي ذكرها الشارح له وجه؟ إن مالكا ينعى على ركب حيث يصلي وهو تعليم منه رحمه الله وإرشاد إلى أن الواجب على المسلم أن يتحرى في ركوبه وحله وترحاله إمكان تأدية الصلاة ولم يرد قط بهذا أن فريضة الحج تسقط حينئذ أعاذه الله من سوء الفهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الصحيحين من حديث ابن عمر قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد. يعني مسجد ذي الحليفة وقد وقع الخلاف في المحل الذي أهل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب اختلاف الرواة فمنهم من روى أنه أهل من المسجد ومنهم من روى أنه أهلّ حين استقلت به راحلته, ومنهم من روى أنه أهلّ لما علا شرف البيداء. وقد جمع بين ذلك ابن عباس فقال: إنه أهلّ في جميع هذه المواضع فنقل كل راو ما سمع. قال في الحجة البالغة: وبين ابن عباس أن الناس كانوا أتونه أرسالا فأخبر كل احد بما رآه والأول أي التمتع "أفضلها". أي الأنواع الثلاثة. واعلم أن هذه المسألة قد طال فيها النزاع واضطربت فيها الأقوال فمنهم من قال بأن أفضل الأنواع القران لكونه صلى الله عليه وسلم حج قرانا على ما هو الصحيح, وإن كان قد ورد ما يدل على أنه حج إفرادا لكن الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق عديدة مصرحة بأنه أهل بحج وعمرة فلو لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن غير ما فعله أفضل مما فعله لكان القران أفضل الأنواع, لكنه ورد ما يدل على ذلك, ففي الصحيحين وغيرهما من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأيها الناس أحلوا فلولا الهدي معي فعلت كما فعلتم". قال: فأحللنا حتى وطئنا النساء, وفعلنا كما يفعل الحلال حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج. وثبت مثل ذلك في حديث جماعة من الصحابة بألفاظ منها: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سُقت الهدي ولجعلتها عمرة". وقد ذهب إلى هذا جمع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كمالك وأحمد وهو الحق لأنه لم يعارض هذه الأدلة معارض, وقد أوضح فيها صلى الله عليه وسلم أن نوع التمتع أفضل من النوع الذي فعله وهو القران وقد أوضح الماتن حجج الأقوال واحتج به كل فريق في شرح المنتقى, والعبد الضعيف في شرح بلوغ المرام وكذلك أوضح الماتن فيه أن حجه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان قرانا. أقول: قد روى الفسخ عنه صلى الله عليه وسلم أربعة عشر رجلا من الصحابة. وأما قول أبي ذر فليس بحجة على أحد لأنه رأي صحابي فيما للاجتهاد فيه مسرح. والحاصل: أن هذا البحث يطول الكلام عليه جدا فمن رام العثور على الصواب فعليه بشرح المنتقى أو بالهدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 النبوي للحافظ ابن القيم رح. قال ابن القيم في إعلام الموقعين: أفتى صلى الله عليه وسلم بجواز فسخهم الحج إلى العمرة ثم أفتاهم باستحبابه ثم أفتاهم بفعله حتما ولم ينسخه شيء بعده وهو الذي ندين الله به أن القول بوجوبه أقوى وأصح من القول بالمنع منه, وقد صح عنه صحة لا شك فيها أنه قال: "من لم يكن أهدى فليهل بعمرة ومن أهدى فليهل بحج ثم مع عمرة". وأما ما فعله هو فإنه صح عنه أنه قرن بين الحج والعمرة من بضع وعشرين رواية عند ستة وعشرين نفسا من أصحابه ففعل القران وأمر بفعله من ساق الهدي وأمر بفسخه إلى التمتع من لم يسق الهدي, وهذا من فعله وقوله كأنه رأي عين وبالله التوفيق. فإن قيل كيف وقع اختلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم في صفة حجته صلى الله عليه وسلم وهي حجة واحدة وكل واحد منهم يخبر عن مشاهدة في قصة واحدة. قلت: قال القاضي عياض: قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث فمن مجد منصف ومن مقصر متكلف ومن مطيل مكثر ومن مقتصر مختصر. قال: وأوسعهم في ذلك نفسا أبو جعفر الطحاوي الحنفي فإنه تكلم في ذلك في زيادة على ألف ورقة وتكلم معه في ذلك أيضا أبو جعفر الطبري ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة ثم المهلب والقاضي أبو عبد الله بن المرابط والقاضي أبو الحسن بن القصار البغدادي والحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيرهم. قال القاضي عياض: وأولى ما يقال في هذا على ما فحصناه من كلامهم واخترناه من اختياراتهم مما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة ليدل على جواز جميعها ولو أمر بواحد لكان غيره يظن أنه لا يجزئ فأضيف الجميع عليه وأخبر كل واحد بما أمره به وأباحه له ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إما لأمره وإما لتأويله عليه انتهى. أقول: إنما ذكر المختلفون في أفضل الأنواع نوع حجته صلى الله عليه وسلم يقولون إن النوع الذي اختاره صلى الله عليه وسلم لنفسه لا يكون إلا فاضلا ولا سيما والتلبية كانت عن وحي من الله عز وجل كما في حديث: أنه نزل جبريل فقال: "قل لبيك بحجة وعمرة" وقد اختلف في نوع حجته صلى الله عليه وسلم والحق أنها قران كما قرر الماتن ذلك في شرح المنتقى ولكنه قال بعد ذلك: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" يعني كما فعل أصحابه صلى الله عليه وسلم عن أمره, وهذا الحديث متفق على صحته كما تقدم فدل على أن التمتع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 أفضل من القران بلا ريب. ولا اعتبارا بقول من قال: أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك تطييبا لقلوب أصحابه حيث حجوا تمتعا لعدم الهدي لأن المقام مقام تشريع لا مقام جبر خواطر وتطييب قلوب, فالحق أن التمتع أفضل. وأما أنه متعين لا يجوز غيره كما رحجه ابن القيم رح وأطال الكلام في تقريره فلا. قال في التكميل: اختلفوا في نسك النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان مفردا للحج أو قارنا أو متمتعا سائقا الهدي ووجه التطبيق أن النبي صلى الله عليه وسلم حين جمع الناس وخرج من المدينة المنورة إلى مكة المعظمة كان لا ينوي إلا الحج فلما بات بذي الحليفة في العقيق أُمر بالقران فقال: "لبيك بحجة وعمرة" فلما دخل مكة وتذكر جهالة العرب أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وعرف أنه في آخر عمره ولا يعيش إلى قابل أراد رد هذا الوهم بأبلغ وجه, فأمر الناس بفسخ إحرام الحج وجعله عمرة وقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وأحللت مع الناس كما حلوا" فكان مفردا بحسب ابتداء النية والشهرة وقارنا بحسب تلبيته من العقيق حيث أُمر: "صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة", وكان متمتعا سائق الهدي بحسب الهم والرغبة, ولم ينقل تجديد الإحرام للحج يوم التروية نعم عُرف تجديد التلبية عند إنشاء السفر إلى عرفة من منى فكان قارنا حقيقة مفردا في أول الأمر متمتعا في آخره انتهى. قال في المسوى: والتحقيق في هذه المسألة أن الصحابة لم يختلفوا في حكاية ما شاهدوه من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من أنه أحرم من ذي الحليفة وطاف أول ما قدم وسعى بين الصفا والمروة ثم خرج يوم التروية إلى منى ثم وقف بعرفات ثم بات بمزدلفة ووقف بالمشعر الحرام ثم رجع إلى منى ورمى ونحر وحلق ثم طاف طواف الزيارة ثم رمى الجمار في الأيام الثلاثة, وإنما اختلفوا في التعبير عما فعل باجتهادهم وآرائهم فقال بعضهم: كان ذلك حجا مفردا وكان الطواف الأول للقدوم والسعي لأجل الحج وكان بقاؤه على الإحرام لأنه قصد الحج, وقال بعضهم: كان ذلك تمتعا بسوق الهدي وكان الطواف الأول للعمرة كأنهم سمعوا طواف القدوم والسعي بعد عمرة وإن كان للحج وكان بقاؤه على الإحرام لأنه كان متمتعا بسوق الهدي. وقال بعضهم: كان ذلك قرانا والقران لا يحتاج إلى طوافين وسعيين. وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الاختلاف سبيه سبيل الاختلاف في الاجتهادات. أما أنه سعى تارة أخرى بعد طواف الزيارة سواء قيل بالتمتع أو القران فإنه لم يثبت في الروايات المشهورة بل ثبت عن جابر أنه لم يسع بعده انتهى. قال النووي في شرح صحيح مسلم: وأما إحرامه صلى الله عليه وسلم بنفسه فأخذ بالأفضل فأحرم مفردا للحج وبه تظاهرت الروايات الصحيحة. وأما الروايات بأنه كان متمتعا فمعناها أمر بت. وأما الروايات بأنه كان قارنا فإخبار عن حالته الثانية لا عن ابتداء إحرامه بل إخبار عن حاله حين أمر أصحابه بالتحلل من حجهم وقلبه إلى عمرة لمخالفة الجاهلية إلا من كان معه هدي وكان هو صلى الله عليه وسلم ومن معه هدي في آخر إحرامهم قارنين يعني أنهم أدخلوا العمرة على الحج وفعل ذلك مواساة لأصحابه وتأنيسا لهم في فعلها في أشهر الحج لكونها كانت منكرة عندهم في أشهر الحج ولم يمكنه التحلل معهم بسبب الهدي واعتذر إليهم بذلك في ترك مواساتهم فصار النبي صلى الله عليه وسلم قارنا في آخر أمره, وقد اتفق جمهور العلماء على جواز إدخال الحج على العمرة وشذ بعض الناس فمنعه انتهى. "ويكون الإحرام" وهو في الحج والعمرة بمنزلة التكبير في الصلاة فيه تصوير الإخلاص والتعظيم وضبط عزيمة الحج بفعل ظاهر وفيه جعل النفس متذللة خاشعة لله بترك الملاذ والعادات المألوفة وأنواع التجمل وفيه تحقيق معاناة التعب والتشعث والتغير لله. أقول: وليس في إيجاب الإحرام على غير من دخل لأحد النسكين دليل. أما الآية أعني قول تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وقد عُلم أنه لا إحرام إلا لأحد النسكين, ثم أخبرهم بإباحة الصيد لهم إذا حلوا. وأما قول ابن عباس فاجتهاد منه وليس ذلك من الحجة في شيء والمقام مقام اجتهاد ولهذا خالفه ابن عمر فجاوز الميقات غير محرم. كما روى ذلك عنه مالك في الموطإ وقد كان المسلمون في عصره صلى الله عليه وسلم يختلفون إلى مكة لحوائجهم ولم ينقل أنه أمر أحدا منهم بإحرام كقصة الحجاج ابن علاط, وكذلك قصة أبي قتادة لما عقر حمار الوحش داخل الميقات وهو حلال وقد كان أرسله لغرض قبل الحج فجاوز الميقات غير مريد للحج ولا للعمرة والبراءة الأصلية مستصحبة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح يجب العمل بت, وقد ذهب إلى جواز المجاوزة من غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 إحرام لغير الحاج والمعتمر ابن عمر والشافعي في أخير قوليه. وأما إيجاب الدم على من جاوز معللا ذلك بأنه ترك نسكا ففاسد فإن الإحرام ليس بنسك لغير من أراد الحج أو العمرة على أنه لم يثبت عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: من ترك نسكا فعليه دم, وإنما روي ذلك عن ابن عباس كما في الموطأ. "من المواقيت المعروفة" لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما قال: وقّت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأهل المدنية ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم. قال: "فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة" وفائدة التأقيت المنع عن تأخير الإحرام فلو قدم عليها جاز. أقول: قال قوم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يوقت لأهل العراق ذات عرق وإنما وقته عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قلت: قد ذهب إلى هذا طاوس ورواه أحمد بن حنبل عن ابن عباس وإليه ذهب جماعة من الشافعية كالغزالي والرافعي والنووي وغير هؤلاء ووجه ذلك ما قاله ابن خزيمة وابن المنذر من أنه لم يصح أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: وقّت ذات عرق لأهل العراق في حديث صحيح. قال الحافظ في الفتح: لعل من قال إنه غير منصوص لم يبغله أو رأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق من طرقه لا تخلو عن مقال لكن الحديث بمجموع طرقه يقوى انتهى. وقد ذكر الماتن رح في شرح المنتقى من روى حديث توقيت ذات عرق لأهل العراق من الصحابة ومجموع ما رووه لا يخرج عن حد الحسن لغيره وهو مما تقوم به الحجة. "ومن كان دونها فمهله" من "أهله" وكذلك "حتى أهل مكة" يهلون "منها" ومثله في الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر وفي رواية من حديثه لأحمد أنه قاس الناس ذات عرق بقرن, وفي البخاري من حديثه أن عمر قال لأهل البصرة والكوفة: انظروا حذو قرن من طريقكم قال: فحد لهم ذات عرق. في المسوى وميقات المكي للحج جوف مكة وللعمرة الحل في العالمكيرية والتنعيم أفضل. وفي المنهاج أفضل بقاع الحل الجعران1   1 بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء وقد تكسر العين وتشدد الراء وهو موضع قريب من مكة قاله في النهاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ثم التنعيم ثم الحديبية. وأما الغسل للإحرام ففيه حديث خارجة بن زيد حسنه الترمذي وضعفه العقيلي, وأما حديث جابر في ولادة أسماء وغسلها فهو صحيح ولكنه قد قيل إن أمرها بذلك ليس للإحرام بل لقذر النفاس وكذلك أمره للحائض وقد أخرج الحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم اغتسل ولبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم أحرم بالحج. وفي إسناده يعقوب بن عطاء وهو ضعيف, والحديث محتمل فيمكن أن يكون الغسل للإحرام ويمكن أن يكون لغيره كإذهاب وعثاء السفر أو التبرد أو نحوهما, ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من الناس أن يغتسل للإحرام إلا ما وقع منه الأمر للحائض والنفساء دون غيرهما فدل ذلك على أن اغتسالهما للقذر ولو كان للإحرام لكان غيرهما أولى بذلك منهما فمع الاحتمال في فعله وعدم صدور الأمر منه لا تثبت المشروعية أصلا, وأما إزالة التفث1 قبل الإحرام فلم يرد في هذا شيء يصلح لإثبات مثل هذا الحكم الشرعي وهو الاستحباب, وأما ما قيل من أنه يقاس على تطييبه صلى الله عليه وسلم فقياس فاسد ولا سيما وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم الإرشاد إلى ترك الشعر والبشر بعد رؤية هلال ذي الحجة لمن أراد أن يضحي كما في صحيح مسلم وسائر السنن من حديث أم سلمة, والحاج أولى بهذه السنة من غيره لأنه في شغل شاغل عن ذلك وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عمر أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: من الحاج يا رسول الله؟ قال: "الشعث التفل" وقد كان ابن عمر إذا أفطر من رمضان وهو عازم على الحج في ذلك العام لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئا حتى يحج كما في الموطإ. والحاصل: أن التساهل في الأحكام الشرعية بلا دليل بل إثبات ما قام الدليل على خلافه ليس من دأب أهل الإنصاف. فصل ولا يلبس المحرم القميص الفرق بين المخيط وما في معناه وبين غير ذلك أن الأول ارتفاق وتجمل وزينة والثاني ستر عورة وترك الأول تواضع لله وترك الثاني سوء أدب كذا في الحجة. "ولا العمامة ولا البرنس ولا   1 بفتح الثاء والفاء وآخره ثاء مثلثة هو ما يفعله المحرم بالحج إذا حل كقص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة وقيل: هو إذهاب الشعث والدرن والوسخ مطلقا قاله في النهاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 السراويل ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فيقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين وما مسه الورس والزعفران" لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال: سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما يلبس المحرم؟ فقال: "لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا ثوبا مسه ورس1 ولا زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين" قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على أن ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم, وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل" وفي الصحيحين نحوه من حديث ابن عباس, وأخرج أحمد والبخاري والنسائي والترمذي وصححه من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين" زاد أبو داود والحاكم والبيهقي: "وما مس الورس والزعفران من الثياب". والقفاز بضم القاف وتشديد الفاء وبعد الألف زاي ما تلبسه المرأة في يدها فتغطي أصابعها وكفها عند معاناة شيء. "ولا يطيب ابتداء" ويجوز له أن يستمر على الطيب الذي كان على بدنه قبل الإحرام فذلك هو الراجح جمعا بين الأدلة, وقد أوضح الماتن ذلك في شرح المنتقى وحاشية الشفاء وغيرهما. قال صاحب سبل السلام في منسكه: ولما أراد الإحرام اغتسل لإحرامه ثم طيبته عائشة بذريرة وطيب فيه مسك في يديه ورأسه حتى كان وبيص2 المسك يُرى في مفارقه ولحيته صلى الله عليه وسلم ثم استدامه ولم يغسله انتهى. "ولا يأخذ من شعره وبشره إلا لعذر" لحديث كعب بن عجرة في الصحيحين وغيرهما قال: كان بي أذى من رأسي فحُملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: "ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ منك ما أرى أتجد شاة"؟. قلت: لا. فنزلت الآية: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . قال: هو صوم ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين نصف صاع نصف صاع طعاما لكل مسكين. وقد تقدم الكلام على إزالة التفث فليراجع. "ولا يرفث   1 بفتح الواو وإسكان الراء وآخره سين هو نبت أصفر يصبغ به. 2 بفتح الواو وكسر الباء وهو البريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ولا يفسق ولا يجادل" لنص القرآن الكريم: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وهذه الأمور لا تحل للحلال ولكنها مع الإحرام أغلظ, وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه". قال الحافظ المنذري: الرفث يطلق ويراد به الجماع ويطلق ويراد به الفحشاء ويطلق ويراد به خطاب الرجل المرأة فيما يتعلق به الجماع. وقد نُقل معنى هذا الحديث كل واحد من هذه الثلاثة عن جماعة من العلماء. قلت: فيحرم الجميع. وقال مالك: الرفث إصابة النساء. والله تعالى أعلم قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} والفسوق الذبح للأنصاب والله تعالى أعلم قال تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} والجدال في الحج أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقُزح وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة فكانوا يتجادلون يقول هؤلاء نحن أصوب ويقول هؤلاء نحن أصوب, فقال الله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} فهذا الجدال في الحج فيما ترى والله تعالى أعلم. وأما فساد الحج بالجماع قبل الوقوف بعرفة فإن كان الدليل على هذا الفساد أقوال الصحابة فمع كون الروايات عنهم إنما هي بطريق البلاغ كما ذكره مالك في الموطإ وليس ذلك بحجة لو كان في المرفوع فضلا عن الموقوف, فقد عرفت غير مرة أن قول الصحابي ليس بحجة إنما الحجة في إجماعهم عند من يقول بحجية الإجماع. وأما الاستدلال على ذلك بما أخرجه أبو داود في المراسيل بإسناد رجاله ثقات أن رجلا جامع امرأته وهما محرمان فسألا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اقضيا نسككما واهديا هديا" فالمرسل لا حجة فيه على ما هو الحق. وأما الاستدلال بقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فعلى تسليم أن الرفث هو الجماع غاية ما يدل عليه المنع منه لا أنه يفسد الحج وإلا لزم في الجدال أنه يفسد الحج ولا قائل بذلك, والمروي في هذا الحديث المرسل هو إيجاب الهدي عليهما والهدي يصدق على الشاة والبقرة والبدنة ولا وجه لإيجاب أشد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ما يطلق عليه اسم الهدي. ولا حجة فيما رواه في الموطإ عن ابن عباس: أنه سئل عن رجل واقع أهله وهو بمنى قبل أن يفيض فأمره أن ينحر بدنة. ولا يصح تقييد المطلق به ولا تفسير المجمل. فالحاصل: أن البراءة الأصلية مستصحبة ولا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تقوم به الحجة وليس ههنا ما هو كذلك فمن وطئ قبل الوقوف أو بعده قبل الرمي أو قبل طواف الزيارة فهو عاص يستحق العقوبة وتغفر له بالتوبة, ولا يبطل حجه ولا يلزمه شيء ومن زعم غير هذا فعليه الدليل المرضي فليس بين أحد وبين الحق عداوة. "ولا ينكح ولا يُنكح ولا يخطب1" لحديث عثمان الثابت في مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح المحرم ولاينكح ولا يخطب" وفي الباب أحاديث. وأما ما في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم. فقد عارضه ما في صحيح مسلم وغيره من حديث ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال, وما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه من حديث أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا. وكان أبو رافع السفير بين رسول الله صلى الله وسلم عليه وبين ميمونة وهما أعرف بذلك, وعلى فرض صحة خبر ابن عباس ومطابقته للواقع فلا يعارض الأحاديث المصرحة بالنهي بل يكون هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم كما قرر الماتن في مؤلفاته أن فعله صلى الله عليه وسلم إذا خالف ما أمر الأمة به أو نهاهم عنه يكون مختصا به. قال في الحجة البالغة: اختار أهل الحجاز من الصحابة والتابعين والفقهاء أن السنة للمحرم أن لا ينكح ولا يُنكح, واختار أهل العراق بأنه يجوز له ذلك. ولا يخفى عليك أن الأخذ بالاحتياط أفضل. وعلى الأول السر فيه أن النكاح من الارتفاقات المطلوبة أكثر من الصيد ولا يقاس الإنشاء على الإبقاء لأن الفرح والطرب إنما يكون في الابتداء ولذلك يضرب بالعروس المثل في هذا الباب دون البقاء انتهى. "ولا يقتل صيدا" فإن الله تعالى حرم على المحرم صيد البر مادام حرما والمراد من الصيد عند الشافعي كل صيد مأكول بري فذبح الأنعام ليس منه وكذا ما ليس بمأكول وكذا الصيد البحري وعند أبي حنيفة غير المأكول قد يكون صيداً. "ومن قتله فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل"   1 هو من حديث ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 لما ورد بذلك القرآن الكريم: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} أقول ههنا أمران: أهدهما اعتبار المماثلة الثاني حكم العدلين وظاهره أن العدلين إذا حكما بغير المماثل لم يلزم حكمهما لأنه قال يحكم به أي بالمماثل وحق العدالة أن لا يقع من صاحبها الحكم بغير المماثل إلا لغلط أو طرو شبهة بأن المعتبر في المماثلة هو هذا الوصف دون هذا الوصف والواقع بخلافه ثم الظاهر أن العدلين إذا حكما بحكم في السلف لا يكون ذلك الحكم لازما للخلف بل تحكيم العدلين ثابت عند كل حادثة تحدث في قتل الصيد, إذا تقرر لك هذا فاعلم أن جعل الظبي مشبها بالشاة دون التيس مخالف للمشاهد المحسوس فإن الظبي يشبه التيس في غالب ذاته وصفاته ولا مشابهة بينه وبين الشاة في غالب ذاته وصفاته, وكذلك الحمامة فإنها لا تشبه الشاة في شيء من الأوصاف وكذلك سائر الطيور ليس بمشابه للشاة في شيء وإذا صح عن بعض السلف أنه حكم في شيء منها بشاة فذلك غير لازم لنا لما عرفت من أن حكم العدلين لا بد أن يكون بالمثل كما صرح به القرآن الكريم. "ولا يأكل ما صاده غيره" لحديث الصعب بن جثامة في الصحيحين وغيرهما أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان1 فرده عليه فلما رأى في وجهه قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" وأخرج مسلم نحوه من حديث زيد بن أرقم وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من صيده الذي صاده وهو حلال وكان النبي صلى الله عليه وسلم محرما فأكل عضد حمار الوحش الذي صاده. وجمع بين حديث الصعب وحديث أبي قتادة المتفق عليه بأنه صلى الله عليه وسلم إنما امتنع من أكل صيد الصعب لكونه صاده لأجله وأكل من صيد أبي قتادة لكونه لم يصده لأجله, فلو كان صيد الحلال حراما على المحرم لما أكل منه صلى الله عليه وسلم. وقرر الصحابة على الأكل منه فهذا يدل على جواز أكل المحرم لصيد الحلال ويدل على ذلك أيضا   1 الأبواء بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة جبل. وودان بفتح الواو وتشديد الدال وآخره نون موضع بقرب الجحفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 حديث جابر عند أحمد وأهل السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يُصد لكم" وهذا الحديث وإن كان فيه مقال فهو لا يقدح في انتهاضه للاستدلال وهو نص في الفرق باعتبار القصد وعدمه. إلا إذا كان الصائد حلالا ولم يصده لأجله ولا بد من ضبط الصيد فإن الإنسان قد يقتل ما يريد أكله وقد يقتل ما لا يريد أكله وإنما يريد به التمرن بالاصطياد وقد يقتل ويريد أن يدفع شره عنه أو عن أبناء جنسه وقد يذبح بهمية الأنعام فأيها الصيد؟ أخبر صلى الله عليه وسلم أن المحرّم منه ما صاده المحْرم أو صيد لأجله وما لم يكن كذلك فإنه حلال كما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم" وفي لفظ: "أو يصد لكم" فما ورد من الأحاديث في ذلك تحريا وتحليلا حمل على ذلك التفصيل. "ولا يعضد1 من شجر الحرم إلا الإذخر2" لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام لا يعضد شجره ولا يُختلى خلاه3 ولا يُنفَّر صيده ولا تُلتقط لقطته إلا لمعرّف" قال العباس: إلا الإذخر فإنه لا بد لهم منه فإنه للقيون4 والبيوت فقال: "إلا الإذخر" وأخرجا نحوه أيضا من حديث أبي هريرة. "ويجوز له قتل الفواسق الخمس" لحد يث عائشة في الصحيحين وغيرهما قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور. وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الدواب ليس في قتلهن جناح" وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر زيادة: "الحية" وكذلك في حديث ابن عباس عند أحمد بإسناد فيه ليث ابن أبي سليم. قال البغوي   1 بضم الياء وإسكان العين وفتح الضاد أي لا يقطع. 2 بكسر الهمزة وإسكان الذال وكسر الخاء هو نبت معروف عند أهل مكة طيب الرائحة ينبت في السهل والخزن وأهل مكة يسقون به البيوت بين الخشب ويسدون به الخلل بين اللبنات في القبور. 3 الخلا بفتح الخاء مقصور هو الرطب من النبات واختلاؤه قطعه واحتشاشه. 4 جمع قين وهو الحداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 اتفق أهل العلم على أنه يجوز للمحرم قتل هذه الأعيان المذكورة في الخبر ولا شيء عليه في قتلها, وقاس الشافعي عليها كل حيوان لا يؤكل لحمه فقال: لا فدية على من قتلها في الإحرام أو الحرم. وصيد حرم المدينة وشجره كحرم مكة لحديث علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور" وهو في الصحيحين وغيرهما, وفي الصحيحين أيضا حديث عباد بن تميم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة" وفي الباب أحاديث في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة. قال ابن القيم: وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة التي رواها بضعة وعشرون صحابيا في أن المدينة حرم يحرم صيدها, ودعوى أن ذلك خلاف الأصول ومعارضتها بالمتشابه من قوله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا عمير ما فعل النغير1" ويا لله العجب أي الأصول التي خالفتها هذه السنن وهي من أعظم الأصول فهلا رد حديث أبي عمير لمخالفته لهذه الأصول ونحن نقول: معاذ الله أن نرد لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سنة صحيحة غير معلومة النسخ أبدا وحديث أبي عمير يحتمل أربعة أوجه: قد ذهب إلى كل منها طائفة أحدها أن يكون متقدما على أحاديث تحريم المدينة فيكون منسوخا. الثاني: أن يكون متأخرا عنها معارضا لها فيكون ناسخا. الثالث: أن يكون النغير مما صيد خارج المدينة ثم أدخل المدينة كما هو الغالب من الصيود. الرابع: أن يكون رخصة لذلك الصغير دون غيره كما رخص لأبي بردة في التضحية بالعناق دون غيره, فهو متشابه كما ترى فكيف يجعل أصلا يقدم على تلك النصوص الكثيرة المحكمة الصريحة التي لا تحتمل إلا وجها واحدا انتهى. "إلا أن من قطع شجره أو خبطه كان سلبه حلالا لمن وجده" لحديث سعد بن أبي وقاص أنه ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أوعليهم ما أخذ من غلامهم, فقال: معاذ الله أن أرد شيئا   1 النغير تصغير النغر بضم النون وفتح الغين وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار ويجمع على نغران –بكسر النون وإسكان الغين- قاله في النهاية وظاهر الحديث لا يحتمل ما زعمه ابن القيم ولا معارضة فيه لحديث تحريم حرم المدينة بل الوجه الصحيح فيه هو الوجه الثالث والأوجه الباقية لا دليل عليها ولا معنى لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 نفّلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى أن يرد عليهم. أخرجه مسلم وأحمد وفي لفظ لأحمد وأبي داود والحاكم وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من رأيتموه يصيد فيه شيئاً فلكم سلبه". أقول: عندي أنه لا يجب على من قتل صيدا أو قطع شجرا من حرم المدينة لا جزاء ولا قيمة بل يأثم فقط ويكون لمن وجده يفعل ذلك أخْذ سلبه ولا يجب على الحلال في صيد حرم مكة ولا شجره شيء إلا مجرد الإثم. وأما من كان محرما فعليه الجزاء الذي ذكره الله عز وجل إذا قتل صيدا وليس عليه شيء في شجر مكة لعدم ورود دليل تقوم به الحجة, وما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في الدوحة الكبيرة إذا قُطعت من أصلها بقرة لم يصح, وما يروى عن بعض السلف لا حجة فيه. والحاصل: أنه لا ملازمة بين النهي عن قتل الصيد وقطع الشجر وبين وجوب الجزاء أو القيمة بل النهي يفيد بحقيقته التحريم والجزاء والقيمة لا يجبان إلا بدليل ولم يرد دليل إلا قول الله تعالى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية وليس فيها إلا ذكر الجزاء فقط فلا يجب غيره, "ويحرم صيد وجّ" بفتح الواو وتشديد الجيم اسم واد بالطائف وشجره لحديث الزبير أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إن صيد وج وعضاهه1 حرم محرم لله عز وجل" أخرجه أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه وحسنه المنذري وصححه الشافعي وأخرج أبو داود من حديث الزبير بن العوام بلفظ: أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "صيد وجّ محرم" وحسنه الترمذي وصححه الشافعي, وقد ذهب إلى ما في الحديث الشافعي وهو الحق ولم يأت من قدح في الحديث بما يصلح للقدح المستلزم لعدم ثبوت التكليف بما تضمنه. فصل "وعند قدوم الحاج مكة يطوف للقدوم" لأن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لما دخل المسجد الحرام بدأ بالطواف ولم يصل تحية المسجد فإن تحية المسجد الحرام الطواف بالبيت قد استفاض عن الصحابة أن أول شيء كانوا يبدؤون به الطواف بالبيت ثم لا يحلون رواه الشيخان, ولا يسن طواف القدوم لمن أحرم من مكة وعليه أهل العلم. في المنهاج: يختص طواف القدوم بحاج دخل مكة قبل الوقوف "سبعة أشواط" الأقرب والله أعلم أن الطواف يوافق الصلاة فمن شك هل طاف   1 بكسر العين وهو كل شجر يعظم وله شوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ستة أشواط أبو سبعة أشواط فليطرح الشك وليتحر الصواب فإن أمكنه ذلك عمل عليه وإن لم يمكنه فليبن على الأقل كما ورد بذلك الدليل الصحيح وشرع الرقل في الطواف في الأصل لإغاظة المشركين كما في حديث ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم1 حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. متفق عليه. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب2 ثلاثا ومشى أربعا, وفي لفظ: رمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحجر ثلاثا ومشى أربعا. وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عمر أنه قال فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب وقد أطى3 الله الإسلام ونفى الكفر وأهله ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد ذهب الجمهور إلى فرضية الطواف للقدوم وقال أبو حنيفة سنة وروي عن الشافعي أنه كتحية المسجد والحق الأول لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} "يرمل في الثلاثة الأولى ويمشي فيما بقي". قال في الحجة: وأول طواف بالبيت رمل واضطباع4 وبعده سعي بين الصفا والمروة وكان عمر أراد أن يترك الرمل والاضطباع لانقضاء سببهما ثم تفطن إجمالا أن لهما سببا آخر غير منقض فلم يتركهما. "ويقبل الحجر الأسود" لما في الصحيحين من حديث عمر أنه كان يقبل الحجر ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك. وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله   1 بتخفيف الهاء وقد يستعمل رباعيا ومعناه أضعفتهم. 2 الخب بفتح الخاء هو إسراع المشي مع تقارب الخطى كالرمل بفتح الميم. 3 أصله وطى فأبدلت الواو همزة كما في وقت وأقت ومعناه مهد وثبت. 4 هو افتعال من الضبع بإسكان الباء وهو العضد وهو أن يدخل إزاره تحت إبطه الأيمن ويرد طرفه على منكبه الأيمن مكشوفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 صلى الله عليه وسلم: "يأتي هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق" وفي الباب أحاديث. وأما الابتداء بالحجر فلأنه وجب عند التشريع أن يعين محل البداية وجهة المشي والحجر أحسن مواضع البيت لأنه نازل من الجنة واليمين أين الجهتين. "أو يستلمه" وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في استلامه ثلاث صفات: أحدها تقبيله, وثانيها: أنه وضع يده ثم قبلها وثالثها: أنه يشير إليه بالمحجن1 ولم يقل طوافي لكذا ولا افتتحه بالتكبير كما يفعله كثير ممن لا علم عنده وذلك من البدع المنكرة. "يمحجن ويقبل المحجن" لما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن. وأخرج نحوه مسلم من حديث أبي الطفيل وزاد: ويقبل المحجن ونحوه أخرج أحمد من حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا عمر: "إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف إن وجدت خلة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر" وفي إسناده مجهول. "ويستلم الركن اليماني" لما أخرج أحمد والنسائي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مسح الركن اليماني والركن الأسود يحط الخطايا حطا" وفي إسناده عطاء بن السائب. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال: لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يمس من الأركان إلا اليمانيين. وأخرج البخاري في تاريخه وأبو يعلى من حديث ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الركن اليماني. وفي إسناده عبد الله بن مسلم بن هرمز وهو ضعيف, وأخرج أحمد وأبو داود من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الركن اليماني ويضع خده عليه. قال صاحب سبل السلام وكان يقول عند استلامهما: "بسم الله والله أكبر" وكان كلما أتى الحجر يقول: "الله أكبر" ولم يحفظ له دعاء معين في الطواف إلا أنه أخرج أبو داود وابن حبان أنه يقول بين الركنين: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" وفي الطواف: "اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف على كل غائب لي بخير" أخرجه الحاكم وفي مصنف ابن أبي شيبة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". والموضع موضع دعاء فيختار فيه ما شاء انتهى.   1 بكسر الميم وإسكان الحاء وفتح الجيم وآخره نون هو عصا محنية الرأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 قلت: إنما خص الركنين اليمانيين بالاستلام كما ذكره ابن عمر من أنهما باقيان على بناء إبراهيم دون الركنين الآخرين فإنهما من تغيرات الجاهلية وإنما اشترط له شروط الصلاة كما ذكره ابن عباس لأن الطواف يشبه الصلاة في تعظيم الحق وشعائره فحمل عليها. "ويكفي القارن طواف واحد وسعي واحد" لكونه صلى الله عليه وسلم حج قرانا على الأصح واكتفى بطواف واحد للقدوم بسعي واحد ولا دليل على وجوب طوافين وسعيين, وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا: "من أحرم بالحج والعمرة أجزأة طواف واحد وسعي واحد" وقد حسنه الترمذي. أقول: الأدلة القاضية بأن الواجب على القارن ليس إلا طواف واحد وسعي واحد ثابتة قولا وفعلا, أما القول فحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرن بين حجه وعمرته أجزأه لهما طواف واحد" أخرجه أحمد وابن ماجة وأخرجه أيضا الترمذي بلفظ: "من أحرم بالحج والعمرة أجزأة طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا" وقال: هذا حديث حسن, وأخرجه أيضا سعيد بن منصور بنحو لفظ الترمذي, وأما إعلال الطحاوي لهذا الحديث بالوقف فقد رده غيره من الحفاظ لأن الطحاوي قال: إن الدراوردي أخطأ في رفعه وإنه موقوف فأجابوا عنه بأن الدراوردي صدوق وأن رفعه حجة ومن القول حديث طاوس عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك" أخرجه أحمد ومسلم, وأخرج أيضا مسلم من طريق مجاهد عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك" وأما أحاديث الفعل فأخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة أن الذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا طوافا واحدا. وأخرج مسلم وأبو داود عن جابر أنه لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا وحدا. وأخرج البخاري عن ابن عمر أنه طاف لحجته وعمرته طوافا واحدا بعد أن قال: إنه سيفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن طاوس أنه حلف ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرته إلا طوافا واحدا, واستدل القائلون بأن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين بفعل علي رضي الله عنه وقوله: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هكذا. أخرجه عبد الرزاق والدارقطني وغيرهما وقد روي نحوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 عن ابن مسعود وابن عمر بأسانيد في بعضها متروك وفي البعض الآخر ضعيف حتى قال ابن حزم: لا يصح عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولا عن أحد من أصحابه في ذلك شيء وتعقب أن حديثي علي وابن مسعود لا بأس بإسناديهما ولهذا رجح البيهقي وغيره المصير إلى الجمع أنه طاف طواف القدوم وطواف الإفاضة. قال: وأما السعي فلم يثبت فيه شيء وقد حكى الحافظ في الفتح أنه روى جعفر الصادق عن أبيه أنه كان يحفظ عن علي للقارن طوافا واحدا خلاف ما يقوله أهل العراق. والحاصل: أن الجمع بما تقدم إن اندفع به النزاع فالمراد وإلا وجب المصير إلى التعارض والترجيح ولا يشك عالم بالحديث أن أدلة الطواف الواحد والسعي الواحد أرجح. "ويكون حال الطواف متوضئا ساتر العورة" لما في الصحيحين من حديث عائشة أن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت. وفيهما أيضا من حديث أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يطوف بالبيت عريان" في شرح السنة عند الشافعي لا يجزئ الطواف إلا بما يجزئ به الصلاة من الطهارة عن الحدث والنجاسة وستر العورة فإن ترك شيئا منها فعليه الإعادة. قال في الأنوار: ولو أحدث في الطواف عمدا توضأ وبنى ولا يجب الاستئناف وإن طال الفصل والكلام في الطواف مباح ويستحب أن لا يتكلم إلا بذكر الله أو حاجة أو علم, وقال أبو حنيفة: إذا طاف جنبا أو محدثا وفارق مكة لا تلزمه الإعادة وعليه دم وفي العالمكيرية أن كل عبادة تؤدى لا في المسجد من المناسك فالطهارة ليست من شرطها كالسعي والوقوف بعرفة وكل عبادة في المسجد فالطهارة من شرطها كالطواف. أقول: أما فرضية الوضوء للطواف أو شرطيته كما زعمه البعض فغاية ما في ذلك حديث: أنه توضأ صلى الله عليه وسلم ثم طاف, وهذا مجرد فعل لا ينتهض للوجوب وليس الوضوء بداخل في عموم المناسك حتى يقول إنه بيان لقوله: "خذوا عني مناسككم" فإن قيل إنه شرط النسك أو فرضه فيكون من جملة بيان المناسك فيجاب بأن هذه مصادرة على المطلوب لأن كونه شرطا أو فرضا هو محل النزاع ومع هذا ففعله للوضوء يحتمل أن يكون لما يتعقب الطواف من الصلاة ولا سيما وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يدخل المسجد إلا متوضئا في غير الحج فملازمته لذلك في الحج أولى, وأما منعه صلى الله عليه وسلم للحائض أن تطوف بالبيت فليس فيه دليل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 أن المنع لها لكون الطهارة شرطا أو فرضا للطواف لاحتمال أن يكون المنع لها لكون الطواف من داخل المسجد وهي ممنوعة من المساجد ولو سلم فغايته أن الطهارة من الحيض هي الشطر لا الوضوء, وأما حديث الطواف بالبيت صلاة فمع كونه في إسناده عطاء بن السائب وهو ضعيف فليس التشبيه بمقتض لمساواة المشبه للمشبه به في جميع الأوصاف: بل الاعتبار التشابه في أخص الأوصاف وليس هو الوضوء. "والحائض تفعل الحاج غير أن لا تطوف" طواف القدوم وكذا طواف الوداع بالبيت لحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف" أخرجه أحمد وأخرج نحوه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من حديث ابن عمر, ولحديث عائشة أيضا في الصحيحين وغيرهما أنه قال لها النبي صلى الله عليه وسلم لما حاضت: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي". "ويندب الذكر حال الطواف بالمأثور" لحديث عبد الله بن السائب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركن اليماني والحجر: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم لأنه دعاء جامع نزل به القرآن وهو قصير اللفظ يناسب تلك الفرصة القليلة, وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وكل به -يعني الركن اليماني- سبعون ملكا فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا آمين" أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه إسماعيل بن عياش وهشام بن عمار وهما ضعيفان, وأخرج ابن ماجه أيضا من حديثه أنه سمعه يقول: "من طاف بالبيت سبعا ولا يتكلم إلا بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله محيت عنه عشر سيئات وكتب له عشر حسنات ورفع له بها عشر درجات" وفي إسناده من تقدم في الحديث الأول. وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة لإقامة ذكر الله تعالى" وفي الباب أحاديث. "وبعد فراغه يصلي ركعتين" وعليه الشافعي وقال أبو حنيفة: هما واجبتان "في مقام إبراهيم ثم يعود إلى الركن فيستلمه" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 لحديث جابر عند مسلم وغيره: أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لما انتهى إلى مقام إبراهيم قرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} فصلى ركعتين فقرأ فاتحة الكتاب و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم عاد إلى الركن فاستلمه قلت: وجهر فيهما بقراءته نهارا فالجهر فيهما السنة ليلا ونهارا فلما فرغ منهما أتى الحجر الأسود فاستلمه ثم خرج إلى الصفا من الباب الذي يقابله. فصل "ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط داعيا بالمأثور" والسعي واجب لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} وعليه أهل العلم إلا أنه عند الشافعي من الأركان فلا يجبر بالدم, وذهب الجمهور إلى أنه فرض وعند أبي حنيفة من الواجبات وعلى من تركه دم كذا في المسوى والسعي هو النسك الثالث لأن النسك الأول الإحرام والثاني الطواف كما تقدم ودليله ما أخرج أحمد والشافعي من حديث حبيبة بنت أبي تجزأة1 أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" وفي إسناده عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف وله طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة والطبراني عن ابن عباس, وأخرج أحمد نحوه من حديث صفية بنت شيبة وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء أن يدعو, وأخرج نحوه النسائي من حديث جابر وفي صحيح مسلم من حديث جابر أيضا: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره   1 وحبيبة بنت أبي تجزئة بضم التاء وسكون الجيم صحابية كذا ضبطه القاموس في باب الزاي وقال ابن حجر في الفتح جزء 3 ص 323 بكسر المثناة وسكون الجيم بعدها راء ثم ألف ساكنة ثم هاء وهي إحدى نساء بني عبد الدار وقال في الإصابة جزء 8 ص 47 ضبطها الدارقطني بفتح المثناة من فوق وقال أيضا حبيبة بفتح أوله وقيل بالتصغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" , ثم دعا بين ذلك فقال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا, ويجوز السعي راكبا وماشيا وهو أفضل وعليه أهل العلم. وإذا كان متمتعا صار بعد السعي حلالا حتى إذا كان يوم التروية أهل بالحج لقول عائشة حاكية لحجهم مع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فأما من أهل بالعمرة فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة, وهو في الصحيحين وغيرهما وفيهما أيضا من حديث جابر أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم لها متعة" وفي لفظ لمسلم من حديثه أيضا قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح. أقول: الإهلال هو رفع الصوت بلفظ لبيك بحجة وعمرة والظاهر من الأدلة أنه لا يجب إلا نية الإحرام بالحج وليس وراء ذلك أمر آخر هو الإحرام بل هو مجرد النية, وأما اشتراط كونها مقارنة لتلبية أو تقليد فلم يدل عليه دليل بل التلبية ذكر مستقل وسنة منفردة وكذلك التقليد للهدي ولا كلام في ثبوت مشروعيتهما, وأما أنهما شرط لنية الإحرام بالحج فلا ومن ادعى ذلك فعليه البرهان. فصل "ثم يأتي عرفة صبح يوم عرفة ملبيا مكبرا ويجمع العصرين" الظهر والعصر "فيها ويخطب" لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس وهو على راحلته خطبة بديعة قرر فيها قواعد الإسلام وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية وقرر فيها المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها وهي الدماء والأموال والأعراض وغير ذلك من الأحكام وكانت خطبة واحدة لم تكن خطبتين يجلس بينهما, وقال في الحجة: إنما خطب يومئذ بالأحكام التي يحتاج الناس إليها لا يسعهم جهلها لأن اليوم يوم اجتماع وإنما تنتهز مثل هذه الفرصة لمثل هذه الأحكام التي يراد تبليغها إلى جميع الناس انتهى. "ثم يفيض من عرفة ويأتي المزدلفة ويجمع فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 بين العشاءين" المغرب والعشاء بأذان وإقامتين ولا يسبح1 ههنا كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم. "ثم يبيت بها". قال النحاس: إن كثيرا من الحجاج لا يقف بالمزدلفة وإن وقف فلا يبيت وهذه بدعة يجب على الأمير ومن قدر أن يمنع منها لأن من ترك المبيت بالمزدلفة وجب عليه إراقة دم في الأظهر, وذهب ابن خزيمة وجماعة من العلماء إلى أن المبيت بها ركن فعلى هذا إذا تركه فسد حجه ولا يجبر بدم ولا بغيره وشرط المبيت أن يكون في ساعة من النصف الثاني من الليل فلو رحل قبله لم يسقط عنه الدم ولو عاد إليها قبل الفجر سقط انتهى. "ثم يصلي الفجر" حتى يتبين له الصبح بأذان وإقامة "ويأتي المشعر" الحرام تركهم السنة في الوقوف بالمشعر الحرام بدعة أيضا ويستقبل القبلة. فيذكر الله عنده ويدعوه ويكبره ويهلله ويوحده. أقول: وما أحق الذكر عند المشعر الحرام بأن يكون واجبا أو نسكا لأنه مع كونه مفعولا له صلى الله عليه وسلم ومندرجا تحت قوله: "خذوا عني مناسككم" فيه أيضا النص القرآني بصيغة الأمر: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} . "ويقف به" والوقوف هو النسك الرابع من مناسك الحج. "إلى قبل طلوع الشمس ثم يدفع حتى يأتي بطن محسر" وهو محل هلاك أصحاب الفيل. ويرزخ بين المزدلفة ومنى ليس من هذه ولا هذه فمن شأن من خاف الله وسطوته أن يستشعر الخوف في ذلك الموطن ويهرب من الغضب ثم يسلك الطريق الوسطى بين الطريقين "إلى الجمرة التي عند الشجرة وهي جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة" مثل حصى الخذف."ولا يرميها إلا بعد طلوع الشمس" وإنما كان رمي الجمار يوم الأول غدوة وفي سائر الأيام عشية لأن من وظيفة الأول النحر والحلق والإفاضة وهي كلها بعد الرمي ففي كونه غدوة توسعة وأما سائر الأيام فأيام تجارة وقيام أسواق فالأسهل أن يجعل ذلك بعد ما يفرغ من حوائجه وأكثر ما كان الفراغ في آخر النهار. "إلا النساء والصبيان فيجوز لهم قبل ذلك ويحلق رأسه" فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة. "أو يقصره" وهو النسك الخامس "فيحل له كل شيء   1 أي لا يصلي نافلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 إلا النساء ومن حلق أو ذبح أو أفاض إلى البيت قبل أن يرمي فلا حرج ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ليالي التشريق" وهو النسك السادس. والحاصل: أن المبيت بمنى ليس بمقصود في ذاته إنما هو لأجل الرمي المشروع لأنه فعل والزمان والمكان من ضرورياته فالحق ما قاله الحنفية وبعض الشافعية من عدم وجوبه في نفسه ويرمي في كل يوم من أيام التشريق الجمرات الثلاث بسبع حصيات مبتدئا بالجمرة الدنيا ثم الوسطى ثم جمرة العقبة لما أخرج أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني من حديث عبد الرحمن بن يعمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مناديا فنادى الحج عرفة. وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن عمر قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح في صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل بنمرة وهي منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع بين الظهر والعصر ثم خطب الناس ثم راح فوقف على الموقف من عرفة. وفي صحيح مسلم من حديث جابر قال: لما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء1 فرُحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" وفي صحيح مسلم من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: "عليكم السكينة" وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا, وفي حديث جابر عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم   1 اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر, وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جابر قال: رمى النبي صلى الله عليه تعالى وآله وسلم الجمرة يوم النحر ضحى وأما بعد فإذا زالت الشمس, وفيهما أيضا من حديث ابن مسعود أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ورمى بسبع وقال: هكذا رمى الذي أُنزلت عليه سورة البقرة, وفي رواية حتى انتهى من جمرة العقبة وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال: أنا ممن قدّم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله, وفيهما أيضا من حديث عائشة قالت: كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة1 فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من جمع بليل. وفي الباب أحاديث وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للمحلقين" قالوا يا رسول الله: وللمقصرين قال: "اللهم اغفر للمحلقين" قالوا يا رسول الله: وللمقصرين قال: "اللهم اغفر للمحلقين" قالوا يا رسول الله: وللمقصرين قال: "وللمقصرين" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء" وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة فقال: يا رسول الله حلقت قبل أن أرمي قال: "ارم ولا حرج" وأتاه آخر فقال: ذبحت قبل أن أرمي فقال: "ارم ولا حرج" وأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي فقال: "ارم ولا حرج" وفي رواية فيهما: "فما سئل عن شيء يومئذ إلا قال: افعل ولا حرج". وأخرج أحمد من حديث علي قال: جاء رجل فقال يا رسول الله: حلقت قبل أن أنحر قال: "انحر ولا حرج" ثم أتاه   1 بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة أي بطيئة الحركة لعظم جسمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 آخر فقال: إني أفضت قبل أن أحلق قال: "احلق أو قصر ولا حرج" وفي لفظ للترمذي وصححه قال: إني أفضت قبل أن أحلق وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: "لا حرج" وأخرج أحمد وأبو داود وابن حبان والحكم من حديث عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى وعند الثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمي الثالثة لا يقف عندها, وعن ابن عباس قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار حين زالت الشمس. رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه وفي البخاري عن ابن عمر قال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا. وأخرج الترمذي وصححه من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا وراجعا. وفي لفظ عنه أنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبا وسائر ذلك ماشيا ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك أخرجه أحمد وأبو داود, وفي الصحيحين من حديث ابن عباس وابن عمر أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له, وفي البخاري وأحمد من حديث ابن عمر أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم يتقدم فيسهل فيقوم مستقبل القبلة طويلا ويدعو ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل فيقوم مستقبل القبلة ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي من حديث عاصم بن عدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغداة ومن بعد الغداة ليومين ثم يرمون يوم النفر. وأخرج أحمد والنسائي عن سعد بن مالك قال: رجعنا في الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها يقول: رميت بسبع حصيات وبعضنا يقول رميت بست حصيات ولم يعب بعضهم على بعض ورجاله رجال الصحيح. "ويستحب لمن يحج بالناس أن يخطبهم" بعد الزوال خطبتين خفينفتين قائما والأخيرة أخف ويجلس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 بينهما كالجمعة يعلم فيهما المناسك إلى اليوم الثاني وإذا زالت الشمس اغتسل إن أحب, "يوم النحر" لحديث الهرماس بن زياد قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى أخرجه أحمد وأبو داود وأخرج نحو أبو داود أيضا من حديث أبي أمامة وأخرج نحوه هو والنسائي من حديث عبد الرحمن بن معاذ التيمي, وأخرجه البخاري وأحمد من حديث أبي بكرة وفيه أنه قال: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ألا هل بلغت" قالوا: نعم. قال: "اللهم اشهد فليبلغ الشاهد الغائب فربّ مبلَّغ أوعى من سامع فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض". "و" يستحب الخطبة "في وسط أيام التشريق" لحديث سراء بنت نبهان قالت: خطبنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يوم الرؤف1 فقال: "أي يوم هذا"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "أليس أوسط أيام التشريق" أخرجه أبو داود ورجاله رجال الصحيح وأخرج نحوه أحمد من حديث أبي بصرة ورجاله رجال الصحيح وأخرج نحوه أبو داود عن رجلين من بني بكر فتضمنت حجته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثلاث خطب يوم عرفة. ويوم النحر. وثاني أيام التشريق. قال الماتن رح في حاشية الشفاء: الخطب المشروعة في الحج أربعة كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة وقد بيناها في شرح المنتقى فليرجع إليه انتهى. "ويطوف الحاج طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة يوم النحر" لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى. وفي صحيح مسلم من حديث جابر نحوه والمراد بقوله: "أفاض" أي طاف طواف الإفاضة. قال النووي: وقد أجمع العلماء أن هذا الطواف وهو طواف الإفاضة ركن من أركان الحج لا يصح إلا به واتفقوا على أنه يستحب فعله يوم النحر بعد الرمي والنحر والحلق, فإن أخره عنه وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم عليه بالإجماع. قال صاحب سبل السلام: طواف الزيارة ويقال له طواف الصدر ويسمى طواف الإفاضة طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يطف غيره ولم يسع وتضمنت حجته رفع   1 سمي بذلك لأنهم كانوا يأكلون فيه رؤوس الأضاحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 يديه للدعاء ست مرات: الأولى على الصفا الثانية على المروة الثالثة بعرفة الرابعة بمزدلفة الخامسة عند الجمرة الأولى السادسة عند الجمرة الثانية انتهى. أقول: الأدلة تدل على عدم وجوب طواف الزيارة على التعيين فضلا عن كونه ركنا من أركان الحج التي لا يصح بدونها فعلى المجتهد أن يبحث عن المسائل التي قلد فيها الآخر الأول: وجعل عليها سورا لا يستطيع صعوده من كان هيابا للقيل والقال, ومخبوطا بأسواط آراء الرجال, وهو دعوى الإجماع فإن ما كان كذلك قل أن يكشف عن أصله ومستنده إلا من كان من الأبطال المؤهلين للنظر في الدلائل الفارقين بين العالي منها والسافل وقليل ما هم, بل هم أقل من القليل والله المستعان. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم عند الشيخين وغيرهما من حديث عائشة أنه قال لها: "طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك" وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أحرم بالحج والعمرة أجزأة طواف واحد وسعي واحد" واللفظ للترمذي وهذا يدل على أن الواجب ليس إلا طواف واحد لا ثلاثة: طواف القدوم والزيارة والوداع, ويدل عليه ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر أنه حج فطاف بالبيت ولم يطف طوافا غير ذلك. "وإذا فرغ من أعمال الحج طاف للوداع " لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره قال: كان الناس ينصروفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" وفي لفظ للبخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. وفي الباب أحاديث وإلى وجوب طواف الوداع ذهب الجمهور وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سنة لا شيء في تركه. قال في الحجة: والسر فيه تعظيم البيت أن يكون هو الأول وهو الآخر تصويرا لكونه هو المقصود من السفر وموافقة لعادتهم في توديع الوفود ملوكها عند النفر. وقال في سبل السلام: ثم إنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم طاف طواف الوداع ليلا سحرا ولم يرمل في هذا الطواف وصلى الفجر بالحرم وقرأ بالطور ثم نادى بالرحيل فارتحل راجعا إلى المدينة فلما أتى ذا الحليفة بات بها فلما رأى المدينة كبر ثلاثا وقال: "لا إله إلى الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" ثم دخلها نهارا انتهى. فصل والهدي لقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} واتفق أهل العلم على أن الهدي مستحب للحاج المفرد والمعتمر المفرد وواجب على المتمتع والقارن وعلى من وجب عليه جزاء العدوان على الإحرام ويعتبر في الهدايا ما يعتبر في الضحايا أفضله البدنة لأنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يهدي البدن ولأنه أنفع للفقراء. "ثم البقرة ثم الشاة" لأن البقرة أنفع بالنسبة إلى شاة وهذا إذا كان الذي يهدي البدنة والبقرة واحدا أما إذا كانوا جماعة بعدد ما تجزيء عنه البدنة والبقرة فقد وقع الخلاف هل الأفضل سُبع البدنة أو البقرة أم الشاة عن الواحد والظاهر أن الاعتبار بما هو أنفع للفقراء. "وتجزيء البدنة والبقرة عن سبعة" لحديث جابر في الصحيحين وغيرهما قال: أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة. وفي لفظ لمسلم: فقيل لجابر أيُشترك في البقر ما يُشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن. وأخرج أحمد وابن ماجه عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: إن علي بدنة وأنا موسر ولا أجدها فأشتريها؟ فأمره صلى الله عليه وسلم أن يبتاع سبع شياه فيذبحن. ورجاله رجال الصحيح ولا يعارض هذا حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه قال: كنا في سفر فحضر الأضحى فذبحنا البقرة عن سبعة والبعير عن عشرة. وكذلك لا يعارضه ما في الصحيحين من حديث رافع بن خديج: أنه صلى الله عليه وسلم قسم فعدل1 عشرا من الغنم ببعير. لأن تعديل البدنة بسبع شياه هو في الهدي وتعديلها بعشر هو في الأضحية والقسمة. وقد ذهب الجمهور إلى أن عدل البدنة في الهدي سبع شياه. وادعى الطحاوي وابن رشد أنه إجماع ولا تصح هذه الدعوى فالخلاف مشهور. "ويجوز للمهدي أن يأكل من لحم   1 العدل والتعديل بين الشيئين التسوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 هديه" لحديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل بدنة ببضعة1 فجعلت في قدر فطبخت فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها. أخرجه أحمد ومسلم وفي الصحيحين من حديث عائشة أنه دخل عليها يوم النحر بلحم بقر فقالت: ما هذا؟ فقيل نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه. قال النووي: وأجمع العلماء على أن الأكل من هدي التطوع وأضحيته سنة انتهى. والظاهر أنه لا فرق بين هدي التطوع وغيره لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} ويركب عليه أي المهدي على هديه لحديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يسوق بدنة فقال: "اركبها" فقال: إنها بدنة قال: "اركبها" قال: إنها بدنة. قال: "اركبها" وفيهما نحوه من حديث أبي هريرة وأخرج أحمد ومسلم من حديث جابر أنه سئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا". "ويندب له إشعاره وتقليده" لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين. قال ابن القيم في إعلام الموقعين: قالوا إنها خلاف الأصول إذ الإشعار مثلة ولعمر الله إن هذه السنة خلاف الأصول الباطلة وما ضرها ذلك شيئا والمثلة المحرمة هي العدوان لا يكون عقوبة ولا تعظيما لشعائر الله, فأما شق صفحة سنام البعير المستحب أو الواجب ذبحه ليسيل دمه قليلا فيظهر شعار الإسلام وإقامة هذه السنة التي هي من أحب الأشياء إلى الله وفق الأصول وأي كتاب أو سنة حرم ذلك حتى يكون خلافا للأصول وقياس الإشعار على المثلة المحرمة من أفسد قياس على وجه الأرض, فإن قياس ما يحبه الله ويرضاه على ما يبغضه ويسخطه وينهى عنه ولو لم يكن في حكمة الإشعار إلى تعظيم شعائر الله وإظهارها وعلم الناس بأن هذه قرابين الله عز وجل تساق إلى بيته تذبح له ويتقرب بها إليه عند بيته كما يتقرب إليه بالصلاة إلى بيته عكس ما عليه أعداؤه المشركون الذين يذبحون لأربابهم ويصلون لها, فشرع لأوليائه وأهل توحيده أن يكون نسكهم وصلاتهم لله وحده وأن يظهروا شعائر توحيده غاية الإظهار ليعلو دينه على كل   1 البضعة بفتح الباء لا غير هي قطعة من اللحم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 دين فهذه هي الأصول الصحيحة التي جاءت السنة بالإشعار على وفقها ولله الحمد. "ومن بعث بهدي لم يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم" لحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يهدي من المدينة ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم. أقول: هذا آخر كلام الماتن على أحكام الحج. وأما الحج عن الميت والاستئجار له فاعلم أن الحج من الواجبات المتعلقة ببدن المكلف والظاهر في الواجبات البدنية أنها لا تلزم بعد رفع قلم التكليف وانتقال المكلف من هذه الدار التي هي دار التكاليف إلى دار الآخرة لأنه لم يبق من طلب منه الفعل فمن قال إنه يلزم الميت الإيصاء بشيء من الواجبات البدنية بأن يفعله عنه غيره بعد موته لم يقبل إلا بدليل أو قال: من تبرع عن ميت بفعل واجب بدني أجزأه لم يقبل ذلك منه إلا بدليل, وقد ورد الدليل في أمور منها الصوم لحديث: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" ولكن ليس في هذا الحديث وجوب على الميت بل الإيجاب على الولي وغاية ما يستفاد من قوله: "صام عنه" أنه يجزئ ذلك الصوم عن الميت. وأما الحج فلم يرد ما يدل على وجوب الوصية على الميت به بل ورد ما يدل على وقوع الحج من القريب عن قريبه الميت كما في حديث من نذرت أخته أن تحج فماتت قبل أن تحج, وكذلك ورد ما يدل على وقوع الحج من الولد لأبيه إذا كان في الحياة عاجزا عن الإتيان بالفريضة كما في خبر الخثعمية. وأما إيجاب الوصية بالحج أو أنه يجزئ من كل أحد من كل ميت فلا دليل على ذلك فيما أعلم. نعم إذا أوصى بالحج بنصيب من ماله فقد جعل الله له ثلث ماله في آخر عمره يتصرف به كيف يشاء ما لم يكن ضرارا فالموصي بالحج كأنه أوصى بنصيب من ماله المأذون له بالتصرف في ثلثه فيجب امتثال وصيته. وأما كون ذلك يسقط الواجب على الميت فمحل تردد عندي ولا سيما إذا كان الذي حج عنه ليس من قرابته فإن القرابة لها تأثير في القيام ببعض الواجبات البدنية من الحي عن الميت كما في حديث: "صام عنه وليه" وكما في حديث الذي نذرت أخته أن تحج. وأما حديث: "حج عن نفسك ثم عن شبرمة" فهو وإن كان في بعض السنن لكن لم يصرح فيه بأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الملبي عن شبرمة كان أجنبيا عنه بل ورد في رواية: "وهو أخ له أو صديق" ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال. وفي لفظ أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "من شبرمة"؟ قال: أخ لي أو قريب لي. وقد أخرج هذه الرواية البيهقي والظاهر أن اعتناءه به وتلبيته عنه وطيبة نفسه بأن يكون حجه له للقرابة بينهما إذ من البعيد أن يفعل ذلك لغير من بينه وبينه قرابة ثم ليس في الحديث أن شبرمة هذا قد كان مات إذ ذاك. وأما ما رواه الثعلبي في تفسيره بلفظ: من أوصى بحجة كانت أربع حجج وحجة للذي كتبها. فمع كونه غير مرفوع لا يدرى كيف إسناده. والثعلبي ليس من أهل الرواية فقد روى في تفسيره الموضوعات. وقد أخرج البيهقي مثل ما ذكر عن جابر مرفوعا كما ذكره صاحب التخريج فينظر في سنده فما أظنه يصح. والحاصل: أن هذا البحث طويل الذيول متشعب الحجج والنقول فمن رام ولعثور على الصواب فعليه بالفتح الرباني فتاوي الشوكاني ودليل الطالب على أرجح المطالب لهذا العبد الضعيف وليس مقصودنا هنا إلا التنبيه على الحق الحقيق بالقبول وإن أباه أكثر العقول. وحديث: "فدين الله أحق أن يقضى" ليس المراد به دفع الأجرة لمن يحج بل المراد أن الحج عن الوالد يصح من الولد كما يصح منه قضاء الدين ولا يرد على هذا أن اللفظ عام والاعتبار به لأنا نقول: العموم ليس هو إلا باعتبار فعل فريضة الحج لا باعتبار دفع المال لمن يحج فهذا لم يرد به دليل فعرفت بهذا أن ما يوصي به الميت من أجرة من يحج عنه لكون خارجا من ثلثه المأذون له. وأما من قال بوجوب الوصية على من لم يحج فكان قياس قوله أن تكون الأجرة الموصى بها من رأس المال لأن وجوب الوصية فرع وجوب الأجرة في مال الموصي ولا فرق بين وجوب مثل الأجرة من ماله وبين وجوب مثل الزكاة. وأما ما يذكرونه من الفرق بين ما يتعلق بالمال ابتداء وانتهاء وبين ما يتعلق بالبدن ابتداء بالمال وانتهاء فشيء لا مستند له ولا معول عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 باب العمرة المفردة وقد تقدمت صفتها. "يحرم لها من الميقات" أي كالتنعيم لأن الإحرام لها كالإحرام للحج وقد تقدمت الأدلة في ذكر المواقيت فإنها للحج والعمرة ومن كان في مكة خرج إلى الحل لما ثبت في الصحيحين وغيرهما: أن رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج عائشة إلى التنعيم فتحرم للعمرة منه, ثم يطوف ويسعى ويحلق ويقصر ولا خلاف في ذلك وقد ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث جماعة من الصحابة أنه أمر من لم يكن معه هدي بالطواف والسعي والحلق أو التقصير فمن فعل ذلك فقد حل الحل كله فواقعوا النساء بعد ذلك. "وهي مشروعة" في العالمكيرية: العمرة عندنا سنة وليست بواجبة وللشافعي قولان: أظهرهما أنها فرض والثاني سنة. أقول: ولم يأت من قال بوجوبها بدليل ينتهض للوجوب بل ما روي في ذلك متكلم عليه مع أنه معارض بأحاديث أوردها من قال بعدم الوجوب مصرحة بذلك وهي لا تخلوا عن مقال والواجب العمل على البراءة الأصلية حتى يرد ناقل ينقل عنها ولم يأت إلا ما يفيد مطلق المشروعية لا المقيدة بالوجوب فالحق ما قاله من ذهب إلى عدم الوجوب في جميع السنة لحديث عائشة عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال. وفي الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر في ذي القعدة إلا التي اعتمر مع حجته. ومن ذلك عمرة عائشة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم فإن ذلك كان مع حجتها مع النبي صلى الله عليه وسلم, وقد كان أهل الجاهلية يحرمون العمرة في أيام الحج فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم واعتمر وأمر بالعمرة فيها, وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة". أقول ثبت اعتماره صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج بل روي أن عمَرَه كلها كانت في أشهر الحج وإنما فعل ذلك لقصد الرد على المشركين فإنهم كانوا يروونها في أشهر الحج من أفجر الفجور. وأما تعليل بعض الفقهاء للكراهة بأن العمرة تشغل عن أعمال الحج فليست أعمال الحج بمستغرقة لشوال والقعدة وبعض الحجة بل هي في بعض أيام ذي الحجة فما بال من ذهب إلى كراهة العمرة في أشهر الحج وخالف هدي محمد صلى الله عليه وسلم. والحاصل: أن هذا ونحوه صنيع من لا يدري بالمدارك خفيها وجليها والله المستعان. ومن أراد الاطلاع على تفصيل أحكام الحج والعمرة على الوجه الثابت المأثور فليرجع إلى منسكنا رحلة الصديق إلى البيت العتيق وإلى كتابنا مسك الختام شرح بلوغ المرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 المجلد الثاني كتاب النكاح ... بسم الله الرحمن الرحيم كتاب النكاح قال الزمخشري في الكشاف: النكاح الوطء وتسمية العقد نكاحا لملابسته له من حيث إنه طريق له ونظيره تسمية الخمر إثما لأنها سبب في اقتراف الإثم انتهى ولا ينافي هذا كثرة ورود النكاح في القرآن بمعنى العقد حتى قال في الكشاف إنه لم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد لأن الكثرة ليست من خواص الحقيقة ولا مخرجة للمجاز عن كونه مجازا كما تقرر في موضعه على أن دعوى الكلية التي ذكرها صاحب الكشاف ممنوعة فإن قوله تعالى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} لا يصح أن يراد به العقد كما دل عليه الدليل من السنة وذهب إليه جماهير الأمة. وكذلك ما ورد في كتاب الله من ألفاظ النكاح للمملوكات لا يكون إلا للوطء إذ لا عقد هناك. وبالجملة فمعنى النكاح حقيقة الوطء ومجازا العقد كما صرح به الزمخشري وهو أقعد بمعرفة اللغة من غيره لا سيما التمييز بين المعاني الحقيقية والمجازية فإنه المرجوع إليه في ذلك دون غيره ممن صارت مؤلفاتهم الآن متداولة بين أهل هذه العصور كما لا يخفى على فطن "يشرع لمن استطاع الباءة" لما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء1" والمراد بالباءة النكاح والأحاديث الواردة   1الباءة الجماع يعني من استطاعع منكم الجماع منكم لقدرته على مؤنه وهي مؤن النكاح فليتزوج والوجاء بكسر الواو وهو أن ترض أنثيا الفاح رضا شديدا يذهب شهوة الجماع ويتنزل في قطعة منزله الحصي قاله في اللسان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 في الترغيب في النكاح كثيرة وقال تعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} "ويجب على من خشي الوقوع في المعصية" لأن اجتناب الحرام واجب وإذا لم يتم الاجتناب إلا بالنكاح كان واجبا وعلى ذلك تحمل الأحاديث المقتضية لوجوب النكاح كحديث أنس في الصحيحين وغيرهما: أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم لا أتزوج وقال بعضهم أصلي ولا أنام وقال بعضهم أصوم ولا أفطر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وأخرج ابن ماجة والترمذي من حديث الحسن عن سمرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل"قال الترمذي إنه حسن غريب قال: وروى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة ويقال كلا الحديثين صحيح انتهى وفي سماع الحسن عن سمرة مقال معروف وأخرج النهي عن التبتل أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث أنس وأخرج ابن ماجه من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني " "والتبتل غير جائز" لما تقدم. وقد رد صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون وكانت المانوية والمترهبة من النصارى يتقربون إلى الله بترك النكاح وهذا باطل لأن طريقة الأنبياء عليهم السلام التي ارتضاها الله تعالى للناس هي إصلاح الطبيعة ودفع اعوجاجها لا سلخها عن مقتضياتها "إلا لعجز عن القيام بما لا بد منه" لما ثبت في الكتاب العزيز من النهي عن مضارة النساء والأمر بمعاشرتهن بالمعروف. فمن لا يستطيع ذلك لم يجز له أن يدخل في أمر يوقعه في حرام وعلى ذلك تحمل الأدلة الواردة في العزبة والعزلة. أقول: الحاصل أن من كان محتاجا إلى النكاح أو كان فعله له أولى من تركه من دون احتياج فلا ريب أن أقل الأحوال أن يكون في حقه مندوبا للأدلة الواردة فيه. ومن لم يكن محتاجا إليه ولا كان فعله أولى له كالحصور والعنين فقد يكون في حقه مكروها إذا كان يخشى الاشتغال عن الطاعات من طلب العلم أو غيره مما يحتاج إليه أهله أو كانت المرأة تتضرر بترك الجماع من دون أن تقدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 على المعصية وأما إذا كان في غنية بحيث لا يشتغل عن الطاعات وكانت المرأة لا تتضرر بترك الجماع ولا يحصل له بالنكاح نفع فيما يرجع إلى الباءة فالظاهر أنه مباح وإن لم يأت من الأدلة ما يقتضي هذه التفاصيل فثم أدلة أخرى تقتضيها وقواعد كلية ولو قيل إنه لا يكون في تلك الصورة مباحا بل مكروها لما ورد في العزبة والعزلة آخر الزمان لم يكن بعيدا من الصواب "وينبغي أن تكون المرأة ودودا" لأن تواد الزوجين به تتم المصلحة المنزلية وكثرة النسل بها تتم المصلحة المدنية والملية وود المرأة لزوجها دال على صحة مزاجها وقوة طبيعتها مانع لها من أن يطمح بصرها إلى غيره باعث على تجملها بالامتشاط وغير ذلك وفيه تحصين فرجه ونظره "ولودا" لحديث أنس عند أحمد وابن حبان وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة" وأخرج نحوه أحمد من حديث ابن عمر وفي إسناده جرير بن عبد الله العامري وقد وثق وفيه ضعف وأخرج نحوه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث معقل بن يسار "بكرا" لما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "تزوجت بكرا أم ثيبا؟ " قال: ثبيا قال: "فهلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك " "ذات جمال" فإن الطبيعة البشرية راغبة في الجمال وكثير من الناس تغلب عليهم الطبيعة والجمال وما يشبهه من الشباب مقصد من غلب عليه حجاب الطبيعة"وحسب" يعني مفاخر آباء المرأة فإن التزوج في الأشراف شرف وجاه "ودين" أي عفة عن المعاصي وبعدها عن الريب وتقربها إلى بارئها بالطاعات والدين مقصد من تهذب بالفطرة فأحب أن تعاونه امرأته في دينه ورغب في صحبة أهل الخير "ومال" بأن يرغب في المال ويرجى مواساتها معه في مالها وأن يكون أولاده أغنياء لما يجدون من قبل أمهم والمال والجاه مقصد من غلب عليه حجاب الرسم ووجهه ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" وفي صحيح مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها فعليك بذات الدين تربت يداك " قال في الحجة قال صلى الله عليه وسلم "خير النساء اللاتي ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 على زوج في ذات يده "أقول: يستحب أن تكون المرأة من كورة وقبيلة عادات نسائها صالحة فإن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة وعادات القوم ورسومهم غالبة على الإنسان وبمنزلة الأمر المجبول هو عليه وبين أن نساء قريش خير النساء من جهة أنهن أحنى إنسان على ولد في صغره وأرعاه على الزوج في ماله ورقيقه ونحو ذلك وهذان من أعظم مقاصد النكاح وبهما انتظام تدبير المنزل وإن أنت فتشت حال الناس اليوم في بلادنا وبلاد ما وراء النهر وغيرها لم تجد أرسخ قدما في الأخلاق الصالحة ولا أشد لزوما لها من نساء قريش انتهى. "وتخطب الكبيرة إلى نفسها" لما في صحيح مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى أم سلمة يخطبها" "والمعتبر حصول الرضا منها" لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره: "الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها" وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وعائشة نحوه وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عباس "أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم" قال الحافظ: ورجال إسناده ثقات وروي نحوه من حديث جابر أخرجه النسائي ومن حديث عائشة أخرجه أيضا النسائي وأخرج ابن ماجة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته قال فجعل الأمر إليها فقالت قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شئ" ورجاله رجال الصحيح وأخرجه أحمد والنسائي من حديث ابن بريدة عن عائشة. قال في الحجة البالغة أقول: لا يجوز أيضا أن يحكم الأولياء فقط لأنهم لا يعرفون ما تعرف المرأة من نفسها ولأن حار العقد وقاره راجعان إليها والاستئمار طلب أن تكون هي الآمرة صريحا والاستئذان طلب أن تأذن ولا تمنع وأدناه السكوت وإنما المراد استئذان البكر البالغة دون الصغيرة كيف ولا رأي لها قد زوج أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست سنين انتهى لمن كان كفؤا لحديث علي عند الترمذي "أن النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث لا يؤخرن الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم1 إذا وجدت لها كفؤا" ولكن ليس في هذا الحديث ما يدل على اعتبار الكفاءة في النسب بل يحمل على أن المرأة إذا وجدت لها كفؤا ترضى خلقه ودينه كما سيأتي وأخرج الحاكم من حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " العرب أكفاء بعضهم لبعض قبيلة لقبيلة وحي لحي ورجل لرجل إلا حائك أو حجام " وفي إسناده رجل مجهول وقال أبو حاتم إنه كذب لا أصل له وذكر الحفاظ أنه موضوع وقد أوضح الكلام عليه الماتن في كتابه في الموضوعات الذي سماه الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ولكن رواه البزار في مسنده من طريق أخرى عن معاذ بن جبل رفعه "العرب بعضها أكفاء لبعض" وفيه سليمان بن أبي الجون ويغني عن ذلك مافي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" ولكن ليس فيه دلالة على المطلوب لأن إثبات كون البعض خيرا من بعض لايستلزم أن الأدنى غير كفؤ للأعلى وهكذا حديث "إن الله تعالى اصطفى كنانة من ولد اسمعيل واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم" فإن هذا الاصطفاء لا يدل على أن الأدنى غير كفوء للأعلى وأخرج الترمذي من حديث أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه قال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات " وقد حسنه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب* ونقل المناوي عن البخاري أنه لم يعده محفوظا وعده أبو داود في المراسيل وأعله ابن القطان بالإرسال وضعف راويه وأبو حاتم المزني له صحبة ولا يعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث وأخرج الدارقطني عن عمر أنه قال: "لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء" أقول: استدل على اعتبار الكفاءة في النسب بما أخرجه ابن ماجه بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه "أن فتاة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته قال فجعل الأمر إليها فقالت قد أجزت   1 هب التي لا زوج لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أنه ليس إلى الآباء من أمر النساء شئ "وأخرجه أحمد والنسائي من حديث ابن بريدة عن عائشة ومحل الحجة منه قولها ليرفع بي خسيسته فإن ذلك مشعر بأنه غير كفؤا لها ولا يخفى أن هذا إنما هو من كلامها وإنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إليها بكون رضاها معتبرا فإذا لم ترض لم يصح النكاح سواء كان المعقود له كفؤا أو غير كفؤ وأيضا هو زوجها بابن أخيه وابن عم المرأة كفؤ لها واستدل على اعتبار الكفاءة في النسب بما أخرجه أحمد والنسائي وصححه وابن حبان والحاكم من حديث بريدة مرفوعا: "إن أحساب أهل الدنيا الذين يذهبون إليه المال" وبما أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم من حديث سمرة مرفوعا: "الحسب المال والكرم التقوى" ويحتمل أن يكون المراد أن هذا هو الذي يعتبره أهل الدنيا كما صرح به في حديث بريدة وأن هذا حكاية عن صنيعهم واغترارهم بالمال وعدم اعتدادهم بالدين فيكون في حكم التوبيخ لهم والتقريع وقد ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم زوج مولاه زيد بن حارثة بزينب بنت جحش القرشية وزوج أسامة بن زيد بفاطمة بنت قيس القرشية وزوج عبد الرحمن بن عوف بلالا بأخته وأخرج أبو داود "أن أبا هند حجم النبي صلى الله عليه وسلم فقال "يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه" أخرجه أيضا الحاكم وحسنه ابن حجر في التلخيص وأخرج البخاري والنسائي وأبو داود عن عائشة: "أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تبنى سالما وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو مولى امرأة من الأنصار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال في الحجة البالغة: أقول: ليس في هذا الحديث أن الكفاءة غير معتبرة كيف وهي مما جبل عليه طوائف الناس وكاد يكون القدح فيها أشد من القتل والناس على مراتبهم والشرائع لا تهمل مثل ذلك ولذلك قال عمر لأمنعن النساء إلا من أكفائهن ولكنه أراد أن لا يتبع أحد محقرات الأمور نحو قلة المال ورثاثة الحال ودمامة الجمال أو يكون ابن أم ولد ونحو ذلك من الأسباب بعد أن يرضى دينه وخلقه. فإن أعظم مقاصد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 تدبير المنزل الاصطحاب في خلق حسن. وأن يكون ذلك الاصطحاب سببا لصلاح الدين. وقال في المسوى في باب الكفاءة: قال الله تعالى {أفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} وقال تعالى {هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} قلت: هذه الآيات تدل على تفاوت مراتب الناس وأن ذلك أمر ثابت فيهم ولم يرده الله تعالى فكان تقريرا ثم اختلفوا في تحديد المعاني التي يقع بها التفاوت فذهب أكثرهم إلى أنها أربعة: الدين والحرية والنسب والصناعة والمراد من الدين الإسلام والعدالة واعتبر الشافعي السلامة من العيوب المثبتة للخيار أيضا ومعنى اعتبار الكفاءة عند أبي حنيفة أن المرأة إذا زوجت نفسها من غير الكفؤ فللأولياء أن يفرقوا بينهما وعند الشافعي أن أحد الأولياء المستوين إذا زوجها برضاها من غير كفؤ لم يصح وفي قول يصح ولهم الفسخ إذا زوج الأب بكرا صغيرة أو بالغة بغير رضاها وفيه القولان أيضا انتهى. أقول: قوله صلى الله عليه وسلم "من ترضون دينه وخلقه" فيه دليل على اعتبار الكفاءة في الدين والخلق وقد جزم بأن اعتبار الكفاءة مختص بالدين مالك ونقل عن عمر وابن مسعود ومن التابعين عن محمد ابن سيرين وعمر بن عبد العزيز ويدل عليه قوله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} واعتبر الكفاءة في النسب الجمهور وقال أبو حنيفة قريش أكفاء بعضهم بعضا والعرب كذلك وليس أحد من العرب كفؤا لقريش كما ليس أحد من غير العرب كفؤا للعرب وهو وجه للشافعية قال في الفتح والصحيح تقديم بني هاشم والمطلب على غيرهم ومن عدا هؤلاء أكفاء بعضهم لبعض قال الشافعي: ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث وأما ما أخرجه البزار من حديث معاذ رفعه "العرب بعضهم أكفاء بعض والموالي بعضهم أكفاء بعض" فإسناده ضعيف قال في الفتح واعتبار الكفاءة في الدين متفق عليه فلا تحل المسلمة لكافر انتهى. وأعلى الصنائع المعتبرة في الكفاءة في النكاح على الإطلاق العلم لحديث "العلماء ورثة الأنبياء" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان من حديث أبي الدرداء وضعفه الدارقطني في العلل قال المنذري هو مضطرب الإسناد وقد ذكره البخاري في صحيحه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 بغير إسناد. والقرآن الكريم شاهد صدق على ما ذكرناه فمن ذلك قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} وغير ذلك من الآيات والأحاديث المتكاثرة منها حديث "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا " وقد تقدم. وبالجملة إذا تقرر لك هذا عرفت أن المعتبر هو الكفاءة في الدين والخلق لا في النسب لكن لما أخبر صلى الله عليه وسلم "بأن حسب أهل الدنيا المال" وأخبر صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح عنه أن في أمته "ثلاثا من أمر الجاهلية الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة" كان تزوج غير الكفوء في النسب والمال من أصعب ما ينزل بمن لم يؤمن بالله واليوم الآخر قال الماتن رحمه الله ومن هذا القبيل استثناء الفاطمية من قوله ويغتفر برضا الأعلى والولي وجعل بنات فاطمة رضي الله عنها أعلى قدرا وأعظم شرفا من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلبه فيا عجبا كل العجب من هذه التعصبات الغربية والتصلبات على أمر الجاهلية وإذا لم يتركها من عرف أنها من أمور الجاهلية من أهل العلم فكيف يتركها من لم يعرف ذلك والخير كل الخير في الإنصاف والانقياد لما جاء به الشرع ولهذا أخرج الحاكم في المستدرك وصححه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس" فهذا نص في محل الخلاف انظر أمهات العترة الطاهرة الذين هم قدوة السادة وأسوة القادة في كل خير ودين من كن فأم أبي العترة الإمام زين العابدين علي بن الحسين شهريانو بنت يزدجرد بن شهريار بن شيرويه بن خسروبرويز بن هرمز بن نوشيروان ملك الفرس وأم الإمام موسى الكاظم أم ولد اسمها حميدة وأم الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم أم ولد أيضا اسمها تكتم وأم الإمام علي بن محمد بن علي المذكور الملقب بالجواد والتقي أم ولد اسمها خيزران وقيل ريحانة وأم الإمام علي بن محمد الملقب بالهادي والعسكري أم ولد اسمها سمانة وأم الإمام حسن بن علي الملقب بالزكي والخالص والعسكري أم ولد اسمها سوسن وأم الإمام محمد بن حسن الملقب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 بالحجة والقائم والمهدي أم ولد اسمها نرجس وهكذا كان شأن التزوج في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرج أحد منهم على الكفاءة في النسب وإنما أخذ بذلك الجهلة من الأمة لا سيما أهل القرى والقصبات من نسل العترة والصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وأكثرهم خائضون في الباطل عاطلون عن حلي العلم الموصل إلى الحق وكان أمر الله قدرا مقدورا "و" تخطب "الصغيرة إلى وليها" لما في صحيح البخاري وغيره عن عروة "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم خطب عائشة إلى أبي بكر" ورضا البكر صمتها لما تقدم من الأحاديث الصحيحة وتحرم الخطبة في العدة لحديث فاطمة بنت قيس "أن زوجها طلقها ثلاثا فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا حللت فآذنيني فآذنته " الحديث وهو في صحيح مسلم وغيره وأخرج البخاري عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} قال: يقول إني أريد التزويج ولوددت أنه ييسر لي امرأة صالحة وأخرج الدارقطني عن محمد بن علي الباقر عليهما السلام "أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة فقال لقد علمت أني رسول الله وخيرته من خلقه وموضعي من قومي وكانت تلك خطبته" والحديث منقطع قال في الفتح: واتفق العلماء على أن المراد بهذا الحكم من مات عنها زوجها واختلفوا في المعتدة من الطلاق البائن وكذا من وقف نكاحها وأما الرجعية فقال الشافعي لا يجوز لأحد أن يعرض لها بالخطبة فيها. والحاصل أن التصريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات والتعريض مباح في الأولى وحرام في الأخيرة مختلف فيه في البائن "و" الخطبة "على الخطبة" لحديث عقبة بن عامر "أن رسول الله صلى الله وسلم " قال المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر " وهو في صحيح مسلم وغيره وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك" وأخرج أيضا من حديث ابن عمر "لا يخطب الرجل على خطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له" وقد ذهب إلى تحريم ذلك الجمهور "ويجوز" له "النظر إلى المخطوبة" لحديث المغيرة عند أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي والدارمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 وابن حبان وصححه أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله وسلم: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم1 بينكما" فأتى أبويها فأخبرهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهما كرها ذلك فسمعت ذلك المرأة وهي في خدرها فقالت إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر وإلا فإني أنشدك2 كأنها عظمت ذلك عليه فنظرت إليها فتزوجتها فذكر من موافقتها ذكره أحمد وأهل السنن وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال "كنت عند النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنظرت إليها قال لا قال فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا" وفي الباب أحاديث "ولا نكاح إلا بولي" لحديث أبي موسى عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لانكاح إلا بولي" وحديث عائشة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه وابن حبان والحاكم وأبي عوانة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" وفي الباب أحاديث قال الحاكم وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش ثم سرد تمام ثلاثين صحابيا. أقول الأدلة الدالة على اعتبار الولي وأنه لا يكون العاقد سواه وأن العقد من المرأة لنفسها بدون إذن وليها باطل قد رويت من طريق جماعة من الصحابة فيها الصحيح والحسن وما دونهما فاعتباره متحتم وعقد غيره مع عدم عضله باطل بنص الحديث لا فاسد على تسليم أن الفساد واسطة بين الصحة والبطلان ولا يعارض هذه الأحاديث حديث "الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن" ونحوه كحديث "ليس للولي مع الثيب أمر واليتيمة تستأمر" لأن المراد أنها أحق بنفسها في تعيين من تريد نكاحه إن كانت ثيبا والبكر يمنعها الحياء من التعيين فلا بد من استئذانها وليس المراد أن الثيب تزوج نفسها أو توكل من يزوجها مع وجود الولي فعقد النكاح أمر آخر وبهذا تعلم أن لا وجه لما ذهبت   1 أي تحصل الموافقة والملائمة بينكما. 2 أي أقسم عليك بالله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 إليه الظاهرية من اعتبار الولي في البكر دون الثيب والولي عند الجمهور هو الأقرب من العصبة وروي عن أبي حنيفة أن ذوي الأرحام من الأولياء. أقول الذي ينبغي التعويل عليه عندي هو أن يقال إن الأولياء هم قرابة المرأة الأدنى فالأدنى الذين يلحقهم الغضاضة إذا تزوجت بغير كفء وكان المزوج لها غيرهم وهذا المعنى لا يختص بالعصبات بل قد يوجد في ذوي السهام كالأخ لأم وذوي الأرحام كابن البنت وربما كانت الغضاضة معهما أشد منها مع بني الأعمام ونحوهم فلا وجه لتخصيص ولاية النكاح بالعصبات كما أنه لا وجه لتخصيصها بمن يرث ومن زعم ذلك فعليه الدليل أو النقل بأن معنى الولي في النكاح شرعا أو لغة هو هذا وأما ولاية السلطان فثابتة بحديث "إذا تشاجر الأولياء فالسلطان ولي من لا ولي لها" فهذا الحديث وإن كان فيه مقال فهو لا يسقط به عن رتبة الاستدلال وهو يدل على حكمين الأول: أن تشاجر الأولياء يوجب بطلان ولا يتهم ويصيرهم كالمعدومين الثاني: أنهم إذا عدموا كانت الولاية للسلطان وإذا تحرر لك ما ذكرناه في الأولياء فاعلم أن من غاب منهم عند حصور الكفء ورضا المكلفة به ولو في محل قريب إذا كان خارجا عن بلد المرأة ومن يريد نكاحها فهو كالمعدوم: والسلطان ولي من لا ولي له اللهم إلا أن ترضى المرأة ومن يريد الزواج بالانتظار لقدوم الغائب فذلك حق لهما وإن طالت المدة وأما مع عدم الرضا فلا وجه لإيجاب الانتظار ولا سيما مع حديث "ثلاث لا يؤخرن إذا حانت منها الأيم إذا حضر كفؤها" كما أخرجه الترمذي والحاكم وجميع ما ذكر من تلك التقديرات بالشهر وما دونه ليس على شئ منها أثارة من علم ومع ذلك فالقول بأن غيبة الولي الموجبة لبطلان حقه هي الغيبة التي يجوز الحكم معها على الغائب هو قول مناسب إذا صح الدليل على أنه لايجوز الحكم على الغائب إلا إذا كان في مسافة القصر فإن لم يصح دليل على ذلك فالواجب الرجوع إلى ما ذكرناه فإن قلت إذا كان ولي النكاح هو أعم من العصبات كما ذكرته فما وجهه؟ قلت وجهه أنا وجدنا الولاية قد أطلقت في كتاب الله تعالى على ما هو أعم من القرابة {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ووجدناها قد أطلقت في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما هو أخص من ذلك قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "السلطان ولي من لا ولي له" ولا ريب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 أنه لم يكن المراد في الحديث مافي الآية وإلا لزم أنه لا ولاية للسلطان إلا عند عدم المؤمنين وهو باطل لأنه أحدهم بل له مزية عليهم لا توجد في أفرادهم وإذا ثبت أنه لم يكن المراد بالولي في الحديث الأولياء المذكورين في الآية فليس بعض من يصدق عليه اسم الإيمان أولى من بعض إلا بالقرابة ولا ريب أن بعض القرابة أولى من بعض وهذه الأولوية ليست باعتبار استحقاق نصيب من المال أو استحقاق التصرف فيه حتى يكون كالميراث أو كولاية الصغير بل باعتبار أمر آخر وهو ما يجده القريب من الغضاضة التي هي العار اللاصق به وهذا لا يختص بالعصبات كما بينا بل يوجد في غيرهم ولا شك أن بعض القرابة أدخل في هذا الأمر من بعض فالآباء والأبناء أولى من غيرهم ثم الإخوة لأبوين ثم الإخوة لأب أو لأم ثم أولاد البنات ثم أولاد الإخوة وأولاد الأخوات ثم الأعمام والأخوال ثم هكذا من بعد هؤلاء ومن زعم الاختصاص بالبعض دون البعض فليأتنا بحجة وإن لم يكن بيده إلا مجرد أقوال من تقدمه فلسنا ممن يعول على ذلك وبالله التوفيق * قال في الحجة: وفي اشتراط الولي في النكاح تنويه أمرهم واستبداد النساء بالنكاح وقاحة منهن منشؤها قلة الحياء واقتصاب على الأولياء وعدم اكثرات بهم وأيضا يجب أن يميز النكاح من السفاح بالتشهير وأحق التشهير أن يحضر أولياؤها ولا يجوز أن يحكم في النكاح النساء خاصة لنقصان عقلهن وسوء فكرهن فكثيرا ما لا يهتدين للمصلحة ولعدم حماية الحسب منهن غالبا فربما رغبن في غير الكفء وفي ذلك عار على قومها فوجب أن يجعل للأولياء شئ من هذا الباب لتسد المفسدة وأيضا فإن السنة الفاشية في الناس من قبل ضرورة أنهن عوان1 بأيديهم وهو قوله تعالى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} انتهى. قال الشافعي: لا ينعقد نكاح امرأة إلا بعبارة الولي القريب فإن لم يكن فبعبارة الولي البعيد فإن لم يكن فبعبارة السلطان فإن زوجت نفسها أوغيرها بإذن الولي أو بغير إذنه بطل ولم يتوقف وتأويل قوله "لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها" لا يزوجها إلا وكيل الولي ويفهم تزوجيها بنفسه بالأولى وقال أبو حنيفة: ينعقد نكاح المرأة الحرة العاقلة البالغة برضاها وإن لم يعقد ولي بكرا كانت أو ثيبا   1 العوان من النساء هي التي قد كان لها زوج وقيل الثيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وتأويل الحديث أنه يكره لها ذلك خشية أن تقصر في رعاية الكفاءة وغيرها أو تنسب إلى الوقاحة أو تأويله إن للولي حق الاعتراض في غير الكفء فمعنى قوله "لا تنكح "أي لا تستقل بنكاحها إلا بإذنه لأن له حق الاعتراض في غير الكفء وقال محمد: ينعقد موقوفا على إذنه كذا في المسوى "وشاهدين" لحديث عمران بن حصين عند الدارقطني والبيهقي في العلل وأحمد في رواية ابنه عبد الله عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" وفي إسناده عبد الله بن محرز وهو متروك وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" وإسناده ضعيف وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال " البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة" وصحح الترمذي وقفه وهذه الأحاديث وما ورد في معناها يقوي بعضها بعضا وقد ذهب إلى ذلك الجمهور قال في شرح السنة أكثر أهل العلم على أن النكاح لاينعقد إلا ببينة ولا ينعقد حتى يكون الشهود حضورا حالة العقد واختلفوا في صفة الشهود قال الشافعي: لا ينعقد إلا بمشهد رجلين عدلين وقال أبو حنيفة ينعقد برجل وامرأتين وبفاسقين كذا في المسوى وفي الموطإ في باب "لا يحل نكاح السر "مالك عن أبي الزبير المكي أن عمر بن الخطاب أتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة فقال هذا نكاح السر ولا أجيزه ولو كنت تقدمت فيه لرجمت "إلا أن يكون" الولي "عاضلا أو غير مسلم" لقوله تعالى {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} ولتزوجه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان من غير وليها لما كان كافرا حال العقد "ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يوكل لعقد النكاح ولو واحدا" لحديث عقبة ابن عامر عند أبي داود "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أترضى أن أزوجك فلانا قال نعم وقال للمرأة أترضين أن أزوجك فلانا قالت نعم فزوج أحدهما صاحبه" الحديث وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم الأوزاعي وربيعة والثوري ومالك وأبو حنيفة وأكثر أصحابه والليث وأبو ثور وحكى في البحر عن الشافعي وزفر أنه لا يجوز وقال في الفتح وعن مالك لو قالت المرأة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 لوليها زوجني بمن رأيت فزوجها من نفسه أو ممن اختار لزمها ذلك ولو لم تعلم عين الزوج وقال الشافعي: يزوجه السلطان أو ولي آخر مثله أو أقعد منه ووافقه زفر وأما استحباب النثار فأقول لم يصح في ذلك شئ كما أوضحه في النيل والسيل ولا بأس بنثر شئ من المأكولات فهو من جملة الإطعام المندوب إنما الشأن في الحكم بمشروعية انتهابه مع ورود الأحاديث الصحيحة بالنهي عن النهي والظاهر أن هذا نوع منها ولم يرد ما يدل على التخصيص لا من وجه صحيح ولا حسن بل ولا ضعيف ينجبر وأما إجابة الوليمة فأحاديث الأمر بالإجابة صحيحة ولم يأت ما يقتضي صرفها عن الوجوب نعم الولائم المشوبة بالمنكرات مع عدم القدرة على التغيير لا يجوز حضورها كما يدل عليه حديث النهي عن الجلوس على المائدة التي تدار عليها الخمر وسائر المعاصي تقاس على ذلك فصل ونكاح المتعة1" قال في الحجة رخص فيها صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أياما ثم نهى عنها أما الترخيص أولا فلملكان حاجة تدعو إليه كما ذكره ابن عباس فيمن يقدم بلدة ليس بها أهله أشار ابن عباس أنها لم تكن يومئذ استئجارا على مجرد البضع بل كان ذلك مغمورا في ضمن حاجات من باب تدبير المنزل كيف والاستئجار على مجرد البضع انسلاخ عن الطبيعة الإنسانية ووقاحة يمجها الباطن السليم وأما النهي عنها فلارتفاع تلك الحاجة في غالب الأوقات وأيضا ففي جريان الرسم به اختلاط الأنساب لأنها عند انقضاء تلك المدة تخرج من حيزه ويكون الأمر بيدها فلا يدري ماذا تصنع وضبط العمدة في النكاح الصحيح الذي بناؤه على التأييد في غاية العسر فما ظنك بالمتعة وإهمال النكاح الصحيح المعتبر في الشرع فإن أكثر الراغبين في النكاح غالب داعيتهم قضاء شهوة الفرج وأيضا فإن من الأمر الذي يتميز به النكاح من السفاح التوطين على المعاونة الدائمة وإن كان الأصل فيه قطع المنازعة فيها على أعين الناس انتهى في شرح السنة اتفق العلماء على تحريم المتعة وهو كالإجمال بين المسلمين "منسوخ" فإنه لا خلاف أنه قد كان ثابتا في الشريعة كما صرح بذلك القرآن {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ   1 هونكاح إلى أجل مؤقت كيومين أو ثلاثة أيام أو شهر أو غير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ولما في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال "كنا نغرو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس معنا نساء فقلنا ألا نختصي فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل "وفي الباب أحاديث وثبت النسخ من حديث جماعة فأخرج مسلم وغيره من حديث سبرة الجهني "أنه غزا مع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فتح مكة فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في النساء قال فلم يخرج حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم "وفي لفظ من حديثه "وأن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة" وأخرج الترمذي عن ابن عباس "إنما كانت المتعة في أول الإسلام حتى نزلت هذه الآية {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} " وفي الصحيحين من حديث علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر" والأحاديث في هذا الباب كثيرة والخلاف طويل وقد استوفاه الماتن في نيل الأوطار ورواية من روى تحريمها إلى يوم القيامة هي الحجة في هذا الباب وهذا نهي مؤبد وقع في آخر موطن من المواطن سافر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعقبه موته بعد أربعة أشهر فوجب المصير إليه ولا يعارضه ما روي عن بعض الصحابة أنهم ثبتوا على المتعة في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد موته إلى آخر أيام عمر كما زعمه صاحب ضوء النهار فإن من النسخ المؤبد حجة على من لم يعلم واستمرار من استمر عليها إنما كان لعدم علمه بالناسخ وأما ما صار يهول به جماعة من المتأخرين من أن تحليل المتعة قطعي وحديث تحريمها على التأبيد ظني والظني لا ينسخ القطعي حتى قال المقبلي إن الجمهور لم يجدوا جوابا على هذا فيقال: إن كان كون التحليل قطعيا لكونه منصوصا عليه في الكتاب العزيز فذلك وإن كان قطعي المتن فليس بقطعي الدلالة لأمرين أحدهما: أنه يمكن حمله على الاستمتاع بالنكاح الصحيح الثاني: أنه عموم وهو ظني الدلالة على أنه قد روى الترمذي عن ابن عباس أنه قال "إنما كانت المتعة حتى نزلت هذه الآية {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قال ابن عباس فكل فرج سواهما حرام" وهذا يدل على التحريم بالقرآن فيكون ما هو قطعي المتن ناسخا لما هو قطعي المتن وإن كان التحليل قطعيا لكونه قد وقع الإجماع من الجميع عليه في أول الأمر فيقال وقد وقع الإجماع أيضا عل التحريم في الجملة عند الجميع وإنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 الخلاف في التأبيد هل وقع أم لا وكون هذا التأبيد ظنيا لا يستلزم ظنية التحريم الذي وقع النسخ به فالحاصل أن الناسخ للتحليل المجمع عليه هو التحريم المجمع عليه المقيد بقيد ظني وهو التأبيد فالناسخ والمنسوخ قطعيان هذا على التسليم ناسخ القطعي لا يكون إلا قطعيا كما قرره جمهور أهل الأصول وإن كنت لا أوافقهم على ذلك. والتحليل حرام لحديث ابن مسعود عند أحمد والنسائي والترمذي وصححه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له" وصححه أيضا ابن القطان وابن دقيق العيد وله طريق أخرى أخرجها عبد الرزاق وطريق ثالثه أخرجها اسحق في مسنده وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وصححه ابن السكن من حديث علي مثله وخرج ابن ماجه والحاكم من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالتيس المستعار قالوا بلى يا رسول الله قال: هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له" وفي إسناده يحيى بن عثمان وهو ضعيف وقد أعل بالإرسال وأخرج أحمد والبيهقي والبزار وابن أبي حاتم والترمذي في العلل من حديث أبي هريرة نحوه وحسنه البخاري وأخرج الحاكم والطبراني في الأوسط من حديث عمر "أنهم كانوا يعدون التحليل سفاحا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال في تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين رواه ابن ماجه بإسناد رجاله موثقون وصح عن عمر أنه قال: لا أوتى بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفهما وابن المنذر في الأوسط وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه سئل عن ذلك فقال كلاهما زان والكلام في ذلك عن الصحابة والتابعين طويل قد أطال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية الكلام عليه وأفرده مصنفا سماه بيان الدليل على إبطال التحليل انتهى. أقول حديث لعن المحلل مروي من طريق جماعة من الصحابة بأسانيد بعضها صحيح وبعضها حسن واللغن لا يكون إلا على أمر جائز في الشريعة المطهرة بل على ذنب هو من أشد الذنوب فالتحليل غير جائز في الشرع ولو كان جائزا لم يلعن فاعله والراضي به وإذا كان الفاعل يدل على تحريم فعله لم تبق صيغة تدل على التحريم قط وإذا كان هذا الفعل حراما غير جائز في الشريعة فليس هو النكاح الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 ذكره الله في قوله {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} كما أنه لوقال لعن الله بائع الخمر لم يلزم من لفظ بائع أنه قد جاز بيعه وصار من البيع الذي أذن فيه بقوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} والأمر ظاهر قال ابن القيم ونكاح المحلل لم يبح في ملة من الملل قط ولم يفعله أحد من الصحابة ولا أفتى به واحد منهم ثم سل من له أدنى اطلاع على أحوال الناس كم من حرة مصونة أنشب فيها المحلل مخالب إرادته فصارت له بعد الطلاق من الأخدان وكان بعلها منفردا بوطئها فإذا هو والمحلل ببركة التحليل شريكان فلعمر الله كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء بين مرامين العشراء والحرماء ولولا التحليل لكان منال الثريا دون منالها والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها وعناق القنا دون عناقها والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها وأما هذه الأزمان التي شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد بل عمى في عين الدين وشجا في حلوق المؤمنين من قبائح تشمت أعداء الدين به وتمنع كثيرا ممن يريد الدخول فيه بسببه بحيث لا يحيط بتفاصليها خطاب ولا يحصرها كتاب يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح ويعدونها من أعظم الفضائح قد قلبت من الدين رسمه وغيرت منه اسمه وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل وزعم أنه قد طيبها للتحليل فيالله العجب أي طيب أعارها هذا التيس الملعون وأي مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدون إلى غير ذلك انتهى وقد أطال رحمه الله تعالى في تخريج أحاديث التحليل في إعلام الموقعين إطالة حسنة فليراجع "وكذلك الشغار" لثبوت النهي عنه كما في حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نهى عن الشغار" وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال "نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الشغار والشغار أن يقول الرجل زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي أو زوجني أختك وأزوجك أختي" وأخرج مسلم أيضا من حديث ابن عمر "أن النبي صلى ا. لله وسلم عليه قال "لا شغار في الإسلام" وفي الباب أحاديث قال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز ولكن اختلفوا في صحته والجمهور على البطلان قال الشافعي هذا النكاح باطل كنكاح المتعة وقال أبو حنيفة جائز ولكل واحد منهما مهر مثلها انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 أقول النهي عن الشغار ثابت بالأحاديث الصحيحة من طرق جماعة من الصحابة. وعلى كل حال فكون الشغار من مفسدات العقد غير مناسب لما تقرر في الأصول لأن النهي عن الشغار يقتضي قبحه أو تحريمه أو فساده على اختلاف الأقوال وإذا اقتضى ذلك وجب على كل واحد من الزوجين توفير المهر لزوجته بما استحل من فرجها فهو بمنزلة فساد التسمية وفسادها لا يستلزم فساد عقد النكاح والمهر ليس بشرط للعقد فالحكم بأن الشغار يفسد العقد غير مناسب لما تقرر في الأصول ولا موافق لقواعد الفروع ولو فرض أن النهي عن النكاح الذي فيه شغار لم يكن ذلك مقتضيا لفساد العقد لأن النهي ليس لذات العقد ولا لوصفه بل لأمر خارج عنه وقد تقرر في الأصول أن ذلك لا يوجب الفساد. ويجب على الزوج الوفاء بشرط المرأة لحديث عقبة بن عامر قال: "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج" وهو في الصحيحين وغيرهما قلت: هو قول أكثر أهل العلم وقالوا قوله صلى الله عليه وسلم "إن أحق الشروط" الخ خاص في شرط المهر إذا سمى لها مالا في الذمة أو عينا عليه أن يوفيها ما ضمن لها وفي الحقوق الواجبة التي هي مقتضى العقد وأما ما سوى ذلك مثل أن يشترط في العقد للمرأة أن لايخرجها من دارها ولا ينقلها من بلدها أو لا ينكح عليها أو نحو ذلك فلا يلزمه الوفاء به وله إخراجها ونقلها وأن ينكح عليها إلا أن يكون في ذلك يمين فليزمه اليمين كذا في المسوى. أقول: الوفاء بمطلق الشروط مشروع قال تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا" وهو حديث حسن ولكن هذا المخصص المتصل أعني قوله "إلا شرطا" الخ يدل على أن ما كان من الشروط بهذه الصفة لا يجب الوفاء به وكما يخصص عموم أول الحديث كذلك يخصص عموم الآية ويؤيد هذا المخصص الحديث المتفق عليه بلفظ "كل شرط ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله فهو باطل" ولا يعارض هذا حديث "أحق الشروط" الخ وهو متفق عليه ووجه عدم المعارضة أن عموم هذا الحديث مخصص بما قبله من الحديثين الدالين على أن الشروط التي تحلل الحرام أو تحرم الحلال مما ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله لا يجب الوفاء بها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 سواء كانت في نكاح أو غيره لا كما قاله الجلال في ضوء النهار "إلا أن يحل حراما أو يحرم حلالا" فلا يحل الوفاء به كما ورد بذلك الدليل وقد ثبت النهي عن اشتراط أمور كحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أويبيع على بيعة أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفىء ما في صحفتها أو إنائها فإنما رزقها على الله" وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن عمر "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا يحل أن ينكح امرأة بطلاق أخرى" "ويحرم على الرجل أن ينكح زانية أو مشركة" لقوله تعالى {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ولما أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عبد الله بن عمرو "أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه فقرأ عليه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه من حديث ابن عمر "أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة وكان بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقته قال فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أنكح عناقا قال فسكت عني فنزلت الآية {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} فدعاني فقرأها علي وقال لا تنكحها "وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله" قال ابن القيم أخذ بهذه الفتاوى التي لا معارض لها الإمام أحمد ومن وافقه وهي من محاسن مذهبه فإنه لم يجوز أن ينكح الرجل زوجا تحبه ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلا قد ذكرناها في موضع آخر انتهى وأخرج ابن ماجة والترمذي وصححه من حديث عمرو بن الأحوص "أنه شهد حجة الوداع مع النبي الله تعالى عليه وآله وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: "استوصوا في النساء خيرا فإنما هن عندكم عوان ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 سبيلا" وأخرج أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس قال: غربها قال: أخاف أن تتبعها نفسي قال فاستمتع بها" قال المنذري ورجال إسناده محتج بهم في الصحيحين قال ابن القيم عورض بهذا الحديث المتشابه الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تزوج1 البغايا واختلفت مسالك المحرمين لذلك فيه فقالت طائفة المراد باللامس ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة وقالت طائفة بل هذا في الدوام غير مؤثر وإنما المانع ورود العقد على الزانية فهذا هو الحرام وقالت طائفة بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما فإنه لما أمر بمفارقتها خاف أن لا يصبر عنها فيواقعها حراما فأمره حينئذ بإمساكها إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فسادا من مواقعتها بالسفاح وقالت طائفة بل الحديث ضعيف لا يثبت وقالت طائفة ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية وإنما فيه أنها لا تمنع ممن يمسها أو يضع يده عليها أو نحو ذلك فهي تعطي الليان لذلك ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة فأمره بفراقها تركا لما يريبه إلى ما لا يريبه فلما أخبره بأن نفسه تتبعها وأنه لا صبر له عنها رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك والله تعالى أعلم انتهى. في المسوى أقول: الظاهر عندي أن مبنى اختلافهم هذا اختلافهم في مرجع "ذلك "في قوله "حرم ذلك" فقال أحمد مرجعه نكاح الزانية والمشركة وقال غيره مرجعه الزنا والشرك والمراد على هذا أن العادة قاضية بأن الزانية لا يرغب فيها إلا زان أو مشرك والزنا والشرك حرام على المؤمنين فنكاحها لا يليق بحال المؤمنين ولا يقولون إن الحديث ناسخ بل يقولون إنه مبين لتأويل الآية ومع ذلك فلا يخلو عن بعد في الكافي مذهب أحمد الزانية يحرم نكاحها كالمعتدة وأما غير أحمد فقولهم جواز نكاح الفاجرة وإن كان الاختيار غير ذلك لحديث "لا ترد يد لامس" قال الواحدي: عن أبي عبيد مذهب مجاهد أن التحريم لم يكن إلا على جماعة خاصة من فقراء المهاجرين أرادوا نكاح البغايا لينفقن عليهم ومذهب سعد أن التحريم كان عاما ثم نسخته الرخصة وأورد أبو عبيد على هذا الحديث أنه خلاف الكتاب   1 في الأصل "تجويز"وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 والسنة المشهورة لأن الله تعالى إنما أذن في نكاح المحصنات خاصة ثم أنزل في القاذف آية اللعان وسن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم التفريق بينهما فلا يجتمعان أبدا فكيف يأمر بالإقامة على عاهرة لا تمتنع ممن أرادها والحديث مرسل فإن ثبت فتأويله أن الرجل وصف امرأته بالخرق وضعف الرأي وتضييع ماله فهي لا تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق وهذا أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم وأحرى بحديثه. أقول في الاستدلال بحديث لا ترد يد لامس نظر من وجهين: أحدهما: أن هذا ليس رميا لها بالزنا البتة بل رمي بقلة الاحتياط في أمر الملامسة فيحتمل حينئذ أن لا تتورع من اللمس الحرام وتتورع من حقيقة الزنا المفضي إلى الحد والمقتضي للحبل الموجب للفضيحة الشديدة وكم من امرأة لا تتورع من النظر واللمس المحرمين وتتورع من موجب الحد وسبب الحبل خوفا من الفضيحة فلما لم يصرح بالزنا لم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه الفراق1 وثانيهما: أن حالة الابتداء تفارق حالة البقاء في أكثر المسائل كالمحرم لا يبتدىء بالنكاح في حالة إحرامه ولا يضره البقاء فإذا جوز النبي صلى الله عليه وسلم إمساكها في حالة بقاء النكاح من أين لكم أنه يجوز ابتداء النكاح انتهى. والعكس وإنما قال بالعكس لأن هذا الحكم لا يختص بالرجل دون المرأة كما تفيد ذلك الآية الكريمة {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} . أقول: هذا هو الظاهر من الآية الكريمة ودعوى أن سبب نزول الآية فيمن سأله صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن ينكح عناقا وكانت مشركة مدفوعة بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لا سيما والآية الكريمة قد تضمنت نكاح الزانية على حدة ونكاح المشركة على حدة وأما حديث "إن امرأتي لا ترد يد لامس" فالظاهر أنه كناية عن كونها زانية لا كما قال المقبلي إن المراد أنها ليست نفورا من الريبة لا أنها زانية ثم استبعد أن يقول له صلى الله عليه وسلم "استمتع بها" وقد عرف أنها زانية وأن ذلك مناف لأخلاقه الشريفة2 وأقول: هذا التأويل خلاف الظاهر والاستبعاد لا يجوز إثبات الأحكام الشرعية   1 هذا هو الوجه الصحيح في فهم الحديث وما عداه غير قوي. 2 بل إن ما قاله المقبلي هو الصحيح ولو كان رميا لها بالزنا لا وجب عليه الحد أو اللعان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 أو نفيها بمجرده فالأولى التعويل على شئ آخر هو أن الحديث قد اختلف في وصله وإرساله بل قال النسائي إنه ليس بثابت وهكذا لا وجه لحمل الحديث على مجرد التهمة فإن الرجل لم يقل إنه يتهم أنها لا ترد يد لامس أو يشك أو يظن بل قال ذلك جزما. "ومن صرح القرآن بتحريمه" وهو ظاهر لقوله تعالى {حرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} ثم قال {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} . قال في المسوى: اتفقت الأمة على أنه يحرم الرجل أصوله وفصوله وفصول أول أصوله وأول فصل من كل أصل بعده فالأصول هي الأمهات والجدات وإن علون والفصول هي: البنات وبنات الأولاد وإن سفلن وفصول أول الأصول هي: الأخوات وبنات الإخوة والأخوات وإن سفلن وأول فصل من كل أصل بعده هي: العمات والخالات وإن علت درجتهن انتهى. "والرضاع كالنسب" لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من الرحم" وفي لفظ "من النسب" وفيهما أيضا من حديث عائشة مرفوعا "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة" وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث علي قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب" قال أهل العلم والمحرمات من الرضاع سبع: الأم والأخت - بنص القرآن - والبنت والعمة والخالة وبنت االأخ وبنت الأخت لأن هؤلاء يحرمن من النسب فيحرمن من الرضاع وقد وقع الخلاف هل يحرم من الرضاع ما يحرم من الصهار وقد حقق الكلام في ذلك ابن القيم في الهدي قال في المسوى: اتفقت الأمة على أن كل من عقد النكاح على امرأة تحرم المنكوحة على آباء الناكح وإن علوا وعلى أبنائه وأبناء أولاده من النسب والرضاع جميعا وإن سفلو تحريما مؤبدا بمجرد العقد ويحرم على الناكح أمهات المنكوحة وجداتها من الرضاع والنسب جميعا تحريما مؤبدا بمجرد العقد فإن دخل بالمنكوحة حرمت عليه بناتها وبنات أولادها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 من النسب والرضاع جميعا وإن فارقها قبل أن يدخل بها جاز له نكاح بناتها واتفقوا على أن حرمة الرضاع كحرمة النسب في المناكح فإذا أرضعت المرأة رضيعا يحرم على الرضيع وعلى أولاده من أقارب المرضعة كل من يحرم على ولدها من النسب ولا تحرم المرضعة على أبي الرضيع ولا على أخيه ولا تحرم عليك أم أختك إذا لم تكن أمك ولا زوجة أبيك ويتصور هذا في الرضاع ولا يتصور في النسب ليس لك أم أخت إلا وهي أم لك أو زوجة لأبيك وكذلك لا تحرم عليك أم نافلتك إذا لم تكن ابنتك أو زوجة ابنك ولا جدة ولدك إذا لم تكن أمك أو أم زوجتك ولا أخت ولدك إذا لم تكن ابنتك أو ربيبتك وحرمة الرضاع تكون بالرجال كما تكون بالنساء وهو قول أكثر أهل العلم انتهى. "والجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها" لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها "وفي لفظ لهما "نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها "وفي الباب أحاديث وقد حكى الترمذي المنع من ذلك عن عامة أهل العلم وقال: لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك وقال ابن المنذر: لست أعلم في منع ذلك اختلاف اليوم وقد حكى الإجماع أيضا الشافعي والقرطبي وابن عبد البر قلت اتفقت الأمة على أنه يحرم عليه أن يجمع بين الأختين وبين الأمة وبنت أخيها وبنت الخالة وبنت أختها من النسب والرضاع جميعا وجملته أن كل امرأتين من أهل النسب لو قدرت إحداهما ذكرا حرمت الأخرى عليه فالجمع بينهما حرام ولا بأس بالجمع بين المرأة وزوجة أبيها أو زوجة ابنها لأنه نسب بينهما كذا في المسوى. "و" يحرم "ما زاد على العدد المباح للحر والعبد" لحديث قيس بن الحرث قال: "أسلمت وعندي ثمان نسوة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: "اختر منهن أربعا" أخرجه أبو داود وابن ماجه وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد ضعفه غير واحد من الأئمة وقال ابن عبد البر ليس له إلا حديث واحد1 ولم يأت من   1 ظاهر صنع الشارح يوهم أن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ليس له إلا حديث واحد وهو خطأ شنيع فإن محمد هذا من أكثلر الرواة حديثا واختلفور فيه والغالب على حديثه الضعف. وأما كلمة عبد البر فإنها في الصحابي وهو الحرث بن قيس أو قيس بن الحارث. وقال البقوي لا أعلم للحارث بن قيس حديثا غير هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 وجه صحيح ويؤيده ما سيأتي فيمن أسلم وعنده أكثر من أربع. وأما الاستدلال بقوله تعالى {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ففيه ما أوضحه الماتن في شرح المنتقى وفي حاشية الشفاء وقد قيل إنه لا خلاف في تحريم الزيادة على الأربع وفيه نظر كما أوضحه هنالك. أقول: قال الماتن رحمه الله تعالى في كتابه السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار أما الاستدلال على تحريم الخامسة وعدم جواز زيادة على الأربع بقوله عز وجل {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} فغير صحيح كما أوضحته في شرحي للمنتقي ولكن الاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحرث وحديث غبلان الثقفي وحديث نوفل ابن معاوية وحديث نوفل بن معاوية هو الذي ينبغي الاعتماد عليه وإن كان في كل أحد منها مقال لكن الإجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل عليه وقد حكى الإجماع صاحب فتح الباري والمهدي في البحر والنقل عن الظاهرية لم يصح فإنه قد أنكر ذلك منهم من هو أعرف بمذهبمهم وأيضا قد ذكرت في تفسيري الذي سميته فتح القدير تصحيح بعض هذه الأحاديث وأطلت المقال في ذلك فليرجع إليه انتهى. وقال في نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار حديث قيس بن الحرث وفي رواية الحرث بن قيس في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد ضعفه غير واحد من الأئمة قال أبو القاسم البغوي ولا أعلم للحارث بن قيس حديثا غير هذا وقال أبوعمر النمري1 ليس له إلا حديث واحد ولم يأت به من وجه صحيح وفي معنى هذا الحديث حديث غيلان الثقفي وهو عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال "أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن يختار منهن أربعا "رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحكم أبو حاتم وأبو زرعة بأن المرسل أصح وحكى الحاكم عن مسلم أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة قال فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقي بظاهر الحكم وأخرجوه من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة وأهل خراسان وأهل اليمامة عنه قال الحافظ ولا يفيد ذلك شيئا فإن هؤلاء كلهم إنما   1 هو ابن عبد البر وقد ظهر من هذا خطأ الشارح في تعبيره فيما مضى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 سمعوا منه بالبصرة وعلى تقدير أنهم سمعوا بغيرها فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء وهم فيها اتفق على ذلك أهل العلم كابن المديني والبخاري وابن أبي حاتم ويعقوب ابن شيبة وغيرهم وحكى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح والعمل عليه وأعله بتفرد معمر في وصله وتحديثه به في غير بلده وقال ابن عبد البر طرقه كلها معلولة وقد أطال الدارقطني في العلل تخريج طرقه ورواه ابن عيينة ومالك عن الزهري مرسلا ورواه عبد الرزاق عن معمر كذلك وقد وافق معمرا على وصله بحر بن كنيز1 السقاء عن الزهري ولكنه ضعيف وكذا وصله يحيى بن سلام عن مالك ويحيى ضعيف وفي الباب عن نوفل بن معاوية عند الشافعي "أنه أسلم وتحته خمس نسوة فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمسك أربعا وفارق الأخرى "وفي إسناده رجل مجهول لأن الشافعي قال حدثنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد عن عبد المجيد بن سهل عن عوف بن الحرث عن نوفل بن معاوية قال أسلمت فذكره وفي الباب أيضا عن عروة بن مسعود وصفوان بن أمية عند البيهقي وقوله "اختر منهن أربعا "استدل به الجمهور على تحريم الزيادة على أربع وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعا ولعل وجهه قوله تعالى {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ومجموع ذلك لا باعتبار ما فيه من العدل تسع وحكي ذلك عن ابن الصباغ والعمراني وبعض الشيعة وحكي أيضا عن القاسم بن إبراهيم وأنكر الإمام يحيى الحكاية عنه وحكاه صاحب البحر عن الظاهرية وقوم مجاهيل وأجابوا عن حديث قيس بن الحرث المذكور بما فيه من المقال المتقدم وأجابوا عن حديث غيلان الثقفي بما تقدم فيه من المقال وكذلك أجابوا عن حديث نوفل بن معاوية بما قدمنا من كونه في إسناده مجهول قالوا ومثل هذا الأصل العظيم لا يكتفى فيه بمثل ذلك ولا سيما وقد ثبت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قد جمع بين تسع أو إحدى عشرة وقد قال تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}   1 في الأصل "بحر كنيز"وهو خطأ وكنيز بنون وزاي مصغر وضبطه عبد الغني بفتح الكاف وبحر هذا ضعيف جدا مات سنة 160. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وأما دعوى اختصاصه بالزيادة على الأربع فهو محل النزاع ولم يقم عليه دليل وأما قوله تعالي {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} فالوا وفيه للجمع لا للتخيير وأيضا لفظ مثنى معدول له عن اثنين اثنين وهو يدل على تناول ما كان متصفا من الأعداد بصفة الاثنينية وإن كان في غاية الكثرة البالغة إلى ما فوق الألوف فإنك تقول جاءني القوم مثنى أي اثنين اثنين وهكذا ثلاث ورباع وهذا معلوم في لغة العرب لا يشك فيه أحد فالآية المذكورة تدل بأصل الوضع على أنه يجوز للإنسان أن يتزوج من النساء اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا وليس من شرط ذلك أن لا تأتي الطائفة الأخرى في العدد إلا بعد مفارقته للطائفة التي قبلها فإنه لا شك أنه يصح لغة وعرفا أن يقول الرجل لألف رجل عنده جاءني هؤلاء اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة فحينئذ الآية تدل على إباحة الزواج بعدد من النساء كثير سواء كانت الواو للجمع أو للتخيير لأن خطاب الجماعة بحكم من الأحكام بمنزلة الخطاب به لكل واحد منهم فكأن الله سجانه قال لكل فرد من الناس: انكح ما طاب لك من النساء مثنى وثلاث ورباع ومع هذا فالبراءة الأصلية مستصحبة وهي بمجردها كافية في الحل حتى يوجد ناقل صحيح ينقل عنها وقد يجاب بأن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره فتنتهض بمجموعها للاحتجاج وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن مقال ويؤيد ذلك كون الأصل في الفروج الحرمة كما صرح به الخطابي فلا يجوز الإقدام على شئ منها إلا بدليل وأيضا هذا الخلاف مسبوق بالإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع كما صرح بذلك في البحر وقال في الفتح: اتفق العلماء على أن من خصائصه صلى الله تعالى عليه وسلم الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن وقد ذكر الحافظ في الفتح والتلخيص الحكمة في تكثير نسائه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فليراجع ذلك انتهى وقال في تفسيره فتح القدير وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد كما يقال للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم أو هذا المال الذي في البدرة درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو عين مكانه أما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 لو كان مطلقا كما يقال اقتسموا الدراهم ويراد بها ما كسبوه فليس المعنى هكذا والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول على أن من قال لقوم يقتسمون مالا معينا كبيرا اقتسموه مثنى وثلاث ورباع فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين وبعضه ثلاثة ثلاثة وبعضه أربعة أربعة كان هذا هو المعنى العربي ومعلموم أنه إذا قال القائل جاءني القوم مثنى وهم مائة ألف كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين وهكذا جاءني القوم ثلاث ورباع والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد كما في قوله تعالى {اقتلوا المشركين} {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ونحوها ومعنى قوله {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا هذا ما تقتضي لغة العرب فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} فإنه وإن كان خطابا للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة وكأنه قال انكحوا مجموع هذا العدد المذكور فهذا جهل بالمعنى العربي ولو قال انكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا كان هذا القول له وجه وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون أو لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره وذلك ليس بمراد من النظم القرآني وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر "أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم اختر منهن "وفي لفظ "أمسك منهن أربعا وفارق سائرهن "وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق وعن نوفل بن معاوية الديلي قال "أسلمت وعندي خمس نسوة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمسك أربعا وفارق الأخرى" أخرجه الشافعي في مسنده وأخرج ابن ماجه والنحاس في ناسخه عن قيس بن الحرث الأسدي قال "أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال " اختر منهن أربعا وخل سائرهن ففعلت" وهذه شواهد للحديث الأول كما قال البيهقي وعن الحكم قال أجمع أصحاب رسول الله صلى الله وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 على أن المملوك لا يجمع من النساء فوق اثنتين انتهى كلامه وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ينكح العبد امرأتين ويطلق تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين رواه الدارقطني قال الماتن رحمه الله في نيل الأوطار قد تمسك بهذا من قال إنه لا يجوز للعبد أن يتزوج فوق اثنتين وهو مروي عن علي وزيد بن علي والناصر والحنفية والشافعية ولا يخفى أن قول الصحابي لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته نعم لو صح إجماع الصحابة على ذلك لكان دليلا عند القائلين بحجية الإجماع ولكنه قد روي عن أبي الدرداء ومجاهد وربيعة وأبي ثور والقاسم بن محمد وسالم أنه يجوز له أن ينكح أربعا كالحر حكى ذلك عنهم صاحب البحر فالأولى الجزم بدخوله تحت قوله تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} والحكم له وعليه بما للأحرار وعليهم إلا أن يقوم دليل يقتضي المخالفة كما في المواضع المعروفة بالتخالف بين حكميهما انتهى. ويوضح ذلك ما حرره الماتن رحمه الله تعالى في وبل الغمام حاشية شفاء الأوام وعبارته هكذا: الذي نقله إلينا أئمة اللغة والإعراب وصار كالمجمع عليه عندهم أن العدل في الأعداد يفيد أن المعدود لما كان متكثرا يحتاج استيفاؤه إلى أعداد كثيرة كانت صيغة العدل المفردة في قوة تلك الأعداد فإن كان مجيء القوم مثلا اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة وكانوا ألوفا مؤلفة فقلت جاءني القوم مثنى أفادت هذه الصيغة أنهم جاءوا اثنين اثنين حتى تكاملوا فإن قلت مثنى وثلاث ورباع أفاد ذلك أن القوم جاءك تارة اثنين اثنين وتارة ثلاثة ثلاثة وتارة أربعة أربعة فهذه الصيغ بينت مقدار عدد دفعات المجيء لا مقدار عدد جميع القوم فإنه يستفاد منها أصلا بل غاية ما يستفاد منها أن عددهم متكثر تكثرا تشق الإحاطة به ومثل هذا إذا قلت نكحت النساء مثنى فإن معناه نكحتهن اثنتين اثنتين وليس فيه دليل على أن كل دفعة من الدفعات لم يدل في نكاحه إلا بعد خروج الأولى كما أنه لا دليل في قولك جاءني القوم مثنى أنه لم يصل الاثنان الآخران إليك إلا وقد فارقك الاثنان الأولان إذا تقرر هذا فقوله تعالى {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} يستفاد منه جواز نكاح النساء اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا والمراد جواز تزوج كل دفعة من هذه الدفعات في وقت من الأوقات وليس في هذا تعرض لمقدار عددهن بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 يستفاد من الصيغ الكثرة من غير تعيين كما قدمنا في مجيء القوم وليس فيه أيضا دليل على أن الدفعة الثانية كانت بعد مفارقة الدفعة الأولى ومن زعم أنه نقل إلينا أئمة اللغة والإعراب ما يخالف هذا فهذا مقام الاستفادة منه فليتفضل بها علينا وابن عباس إن صح عنه في الآية أنه قصر الرجال على أربع فهو فرد من أفراد الأمة وأما القعقعة بدعوى الإجماع من المصنف وأمثاله فما أهونها وأيسر خطبها عند من لم تفزعه هذه الجلبة وكيف يصح إجماع خالفته الظاهرية وابن الصباغ والعمراني والقاسم بن إبراهيم نجم آل الرسول وجماعة من الشيعة وثلة من محققي المتأخرين وخالفه أيضا القرآن الكريم كما بيناه وخالفه أيضا فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كما صح ذلك تواترا من جمعه بين تسع أو أكثر في بعض الأوقات {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ودعوى الخصوصية مفتقرة إلى دليل والبراءة الأصلية مستصحبة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تنقطع عنده المعاذير وأما حديث أمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لغيلان لما أسلم وتحته عشر نسوة بأن يختار منهن أربعا ويفارق سائرهن كما أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن حبان فهو وإن كان له طرق فقد قال ابن عبد البر كلها معلولة وأعله غيره من الحفاظ بعلل أخرى ومثل هذا لا ينتهض للنقل عن الدليل القرآني والفعل المصطفوي الذي مات صلى الله عليه وسلم والبراءة الأصلية ومن صحح لنا هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة أو جاءنا بدليل في معناه فجزاه الله خيرا فليس بين أحد وبين الحق عداوة وعلى العالم أن يوفي الاجتهاد حقه لا سيما في مقامات التحرير والتقرير كما نفعله في كثير من الأبحاث وإذا حاك في صدره شئ فليكن تورعه في العمل لا في تقرير الصواب فإياك أن تحامي التصريح بالحق الذي تبلغ الله ملكتك لقيل وقال ولا سيما في مثل مواطن تجبن عنها كثير من الرجال فإنك لا تسأل يوم القيامة عن الذي ترتضيه منك العباد بل عن الذي يرتضيه المعبود وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. ومن ورد البحر استقل السواقيا انتهى واندفع بهذا ما في المسوى من قوله قلت: اتفقت الأمة على أن الحر يجوز له أن ينكح أربع حرائر ولا يجوز له أن ينكح أكثر من أربع قال الشافعي انتهى الله تعالى بالحرائر إلى أربع تحريما لأن يجمع أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 غير النبي صلى الله عليه وسلمبين أكثر من أربع. وأما العبد فأكثر الأمة على أنه لا ينكح أكثر من امرأتين وفي الآية ما يدل على أنها في الأحرار وهو قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وملك اليمين لا يكون إلا للأحرار انتهى وأما العدد الذي يحل للعبد فقد حكى البيهقي وابن أبي شيبة أنه أجمع الصحابة على أنه لا ينكح العبد أكثر من اثنتين وكذلك حكى إجماع الصحابة الشافعي وروى الدارقطني عن عمر أنه قال: ينكح العبد امرأتين ويطلق يطليقتين وسيأتي ما ورد في طلاق الأمة والعدة في باب العدة فمن قال بأن إجماع الصحابة حجة كفاه إجماعهم ومن لم يقل بحجية إجماعهم أجاز للعبد ما يجوز للحر من العدد وقد أوضح الماتن حكم الإجماع في أول حاشية الشفاء. وإذا تزوج العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل لحديث جابر عند أحمد وأبي داود والترمذي وحسنه وابن حبان والحاكم وصححاه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر" "وأخرجه أيضا ابن ماجه من حديث ابن عمر قال الترمذي لا يصح إنما هو عن جابر وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر أيضا وفي إسناده مندل بن علي وهو ضعيف وقد ذهب إلى عدم صحة عقد العبد بغير إذن مولاه الجمهور وقال مالك إن العقد نافذ ولسيده فسخه ورد بأن العاهر الزاني والزنا باطل وفي رواية من حديث جابر بلفظ "باطل". وإذا عتقت الأمة ملكت أمر نفسها وخيرت في زوجها لحديث عائشة في صحيح مسلم وغيره "أن بريرة خيرها النبي صلى الله عليه وسلم وكان زوجها عبدا "وكذا في صحيح البخاري من حديث ابن عباس وفي حديث آخر لعائشة عند أحمد وأهل السنن "أن زوج بريرة كان حرا "وقد اختلفت الروايات في ذلك وقد اختلف أهل العلم في ثبوت الخيار إذا كان الزوج حرا فذهب الجمهور إلى أنه يثبت وجعلوا العلة في الفسخ عدم الكفاءة وقد وقع في بعض الروايات "أن النبي صلى الله عليه وسلم لبريرة ملكت نفسك فاختاري "فإن هذا يفيد أنه لا فرق بين الحر والعبد والحاصل أن الاختلاف في كون زوجها حرا أو عبدا لا يقدح في ذلك لأن ملكها لأمر نفسها يقتضي عدم الفرق ولكن دعوى أن تمكينها لزوجها بعد علمها بالعتق وثبوت الخيار مبطل لخيارها لا دليل عليها وتركه صلى الله عليه وسلم لاستفصال بريرة أو زوجها عن ذلك يفيد أنه غير مبطل ولو كان مبطلا لم يتركه ويجوز فسخ النكاح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 بالعيب لحديث كعب بن زيد أو زيد بن كعب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار فلما دخل عليها ووضع ثوبه وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضا فانحاز عن الفراش ثم قال خذي عليك ثيابك ولم يأخذ مما آتاها شيئا" أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وابن عدي والبيهقي وأخرجه من حديث كعب بن عجرة الحاكم في المستدرك وأخرجه أبو نعيم في الطب والبيهقي من حديث ابن عمر وفي الحديث اضطراب1 وروى مالك في الموطإ والدارقطني وسعيد بن منصور والشافعي وابن أبي شيبة عن عمر أنه قال "أيما امرأة غُر بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلما مهرها بما أصاب منها وصداق الرجل على من غره" ورجال إسناده ثقات وفي الباب عن علي عند سعيد بن منصور وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن النكاح يفسخ بالعيوب وإن اختلفوا في تفاصيل ذلك وروي عن علي وعمر وابن عباس أنها لا ترد النساء إلا بالعيوب الثلاثة المذكورة والرابع الداء في الفرج وذهب بعض أهل العلم إلى أن المرأة ترد بكل عيب ترد به الجارية في البيع ورجحه ابن القيم واحتج له في الهدي بالقياس على البيع وذهب البعض إلى أن المرأة ترد الزوج بتلك الثلاثة وبالجب والعنة2 والخلاف في هذا البحث طويل. أقول اعلم أن الذي ثبت بالضرورة الدينية أن عقد النكاح لازم تثبت به أحكام الزوجية من جواز الوطء ووجوب النفقة ونحوها وثبوت الميراث وسائر الأحكام وثبت بالضرورة الدينية أن يكون الخروج منه بالطلاق والموت فمن زعم أنه يجوز الخروج من النكاح بسبب من الأسباب فعليه الدليل الصحيح المقتضي للانتقال عن ثبوته بالضرورة الدينية وما ذكروه من العيوب لم يأت في الفسخ بها حجة نيرة ولم يثبت شئ منها وأما قوله صلى الله عليه وسلم "الحقي بأهلك3 " فالصيغة صيغة طلاق وعلى فرض الاحتمال فالواجب الحمل على المتيقن دون ما سواه وكذلك الفسخ بالعنة لم يرد به دليل صحيح والأصل البقاء على النكاح حتى يأتي ما يوجب الانتقال عنه ومن أعجب   1 وفي اسنناده جميل بن زيد وهو ضعيف ولا دلالة فيه على الفسخ لاحتمال أن يكون طلقها وكنى عن الطلاق بقوله "خذي عليك ثيابك". 2 الجب قطع الذكر. والعنة ارتخاءه دائما فلا يصل إلى النساء. 3 هههذا اللفظ رواية في حديث كعب بن زيد في قصة الغفارية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 ما يتعجب منه تخصيص بعض العيوب بذلك دون بعض لا لمجرد دليل1 فسبحان الله وبحمده ويقر من أنكحة الكفار إذا أسلموا ما يوافق الشرع لحديث الضحاك بن فيروز عن أبيه عند أحمد وأهل السنن والشافعي والدارقطني والبيهقي وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان قال "أسلمت وعندي امرأتان أختان فأمرني النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن أطلق إحداهما "وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي والشافعي وابن حبان والحاكم وصححاه عن ابن عمر قال "أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن يختار منهن أربعا" وقد أعل الحديث بأن الثابت منه إنما هو قول عمر كما قال البخاري قال ابن القيم السنة الصحيحة الصريحة المحكمة فيمن أسلم وتحته أختان أنه يخير في إمساك من شاء منهما وترك الأخرى وردت بأنه خلاف الأصول وقالوا قياس الأصول يقتضي أنه نكاح واحدة بعد واحدة فنكاح الثانية هو المردود ونكاح الأولى هو الصحيح من غير تخيير وإن نكحهما معا فنكاحهما باطل ولا يخير وكذلك حديث من أسلم علي عشرة نسوة وربما أولوا التخيير بتخييره في غبتداء العقد علي من شاء نمن المنكوحات ولفظ الحديث يأبى هذا التأويل أشد الإباء فإنه قال "أمسك أربعا وفارق سائرهن" رواه معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه "أن غيلان أسلم" فذكره وحديث فيروز المتقدم فهذان الحديثان هما الأصول التي يرد ما خالفهما من القياس أما أن تقعد قاعدة وتقول هذا الأصل ثم ترد السنة لأجل مخالفة تلك القاعدة فلعمر الله لهدم ألف قاعد لم يؤصلها الله تعالى ورسوله أفرض علينا من رد حديث واحد وهذه القاعدة معلومة البطلان من الدين فإن أنكحة الكفار لم يتعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم كيف وقعت وهل صادفت الشروط المعتبرة في الإسلام فتصح أم لم تصادفها فتبطل وإنما اعتبر حالها وقت إسلام الزوج فإن كان ممن يجوز له المقام نع امرأته أقرهما ولو كان في الجاهلية وقد وقع على غير شرطه   1كلا بل الدليل قائم وهو نهي عن المضارة وعن الغش وهذه العيوب مما لا يرجى برؤها وزوالها فما لم يعلم بها أحد الزوجين فهو بالخيار عند العلم بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 من الولي والشهود وغير ذلك وإن لم يكن الآن ممن ممن يجوز له الاستمرار لم يقر عليه كما أسلم وتحته ذات رحم محرم أو أختان أو أكثر من أربع فهذا هو الصل الذي أصلته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما خالفه فلا يلتفت إليه والله الموفق انتهي ملخصا "وإذا أسلم أحد الزوجين انفسخ النكاح وتجب العدة" لحديث ابن عباس عند البخاري قال: "كان إذا هاجرت المرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر فإذا طهرت حل لها النكاح وإن جاء زوجها قبل أن تنكح ردت إليه" وأخرج مالك في الموطإ عن الزهري أنه قال "ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله وزجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها وإنه لم يبلغنا أن امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها" وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: "كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أهل الحرب يقاتلهم ويقاتلونه وأهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر فإذا طهرت حل لها النكاح فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه "فإن أسلم ولم تتزوج المرأة كانا على نكاحهما الأول ولو طالت المدة إذا اختارا ذلك" لحديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود وصححه الحاكم "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص زوجها بنكاحها الأول بعد سنتين ولم يحدث شيئا" وفي لفظ "ولم يحدث صداقا" زفي لفظ للترمذي "ولم يحدث نكاحا" وقال هذا حديث حسن ليس بإسناده بأس وأخرج الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمرو "أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها على أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد" وفي إسناده الحجاج بن أرطاة وهو الضعيف وروي باسناج ضعيف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله قال الترمذي في إسناده مقال وقال الإمام أحمد هذا حديث ضعيف والصحيح أنه أقرهما على النكاح الأول وقال الدارقطني هذا حديث لا يثبت والصواب حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الأول" وقال الترمذي في كتاب العلل له سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال حديث ابن عباس في هذا الباب أصح من حديث عمرو ين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 شعيب قال ابن القيم فكيف يجعل هذا الحديث الضعيف أصلا ترد به السنة الصحيحة المعلومة وتجعل خلاف الأصول انتهى وقد ذهب إلى ما دل عليه حديث ابن عباس جماعة من الصحابة ومن بعدهم لا كما نقله ابن عبد البر من الإحماع على أنه لا يبقى العقد بعد انقضاء العدة ولا مانع من جعل حديث ابن عباس وما ورد في معناه مخصصا لما ورد من أن العدة إذا انقضت فقد ذهب العقد ولم تحل للزوج إلا بغقد جديد قال ابن القيم في إعلام الموقعين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يفرق بين من أسلم وبين من امرأته إذا لم تسلم معه بل متى أسلم الآخر فالنكاح بحاله مالم تتزوج هذه سنته المعلومة قال الشافعي أسلم أبو سفيان بن حرب بمر الظهران وهي دار خزاعة وبخزاعة مسلمون قبل الفتح في دار الإسلام ورجع إلى مكة وهند بنت عتبة مقيمة على غير الإسلام فأخذت بلحيته وقالت اقتلوا الشيخ الضال ثم أسلمت هند بعد إسلام أبي سفيان بأيام كثيرة وقد كانت كافرة مقيمة بدار ليست بدار الإسلام وأبو سفيان بها مسلم وهند كافرة ثم أسلمت بعد بعد انقضاء العدة واستقر علي النكاح لا أن عدتها لم تنقض حتى أسلمت وكان كذلك حكيم بن حزام وإسلامه وأسلمت امرأة صفوان بن أمية وامرأة عكرمة ابن أبي جهل بمكة وصارت دارهما دار الإسلام وظهر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهرب عكرمة إلى اليمن وهي دار حرب وصفوان يريد اليمن وهي دار حرب ثم رجع صفوان ظغلي مكة وهي دار الإسلام وشهد حنينا وهو كافر ثم أسلم فاستقرت عنده امرأته بالنكاح الأول وذلك أنه لم تنقض عدتها وقد حفظ أهل العلم بالمغازي أن امرأة من الأنصار كانت عند رجل بمكة فأسلمت وهاجرت إلى المدينة فقدم زوجها وهي في العدة فاستقر على النكاح انتهى. أقول إن إسلام المرأة مع بقاء زوجها في الكفر ليس لمنزلة الطلاق إذ لو كان كذلك لم يكن له عليها سبيل بعد انقضاء عدتها إلا برضاها مع تجديد العقد فالحاصل أن المرأة المسلمة إن حاضت بعد إسلامها ثم طهرت كان لها أن تتزوج بمن شاءت فإذا تزوجت لم يبق للأول عليها سبيل إذا أسلم وإن لم تتزوج كانت تحت عقد زوجها الأول ولا يعتبر تجديد عقد ولا تراض هذا ما تقتضيه الأدلة وإن خالف أقوال الناس وهكذا الحكم في ارتداد أحد الزوجين فإنه إذا عاد المرتد إلى الإسلام كان حكمه حكم إسلام من كان باقيا على الكفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 فصل المهر واجب" وبه يتحقق التمييز بين النكاح والسفاح وهو قوله تعالى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} فلذلك أبقى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وجوب المهر كما كان ودليل وجوبه أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يسوغ نكاحا بدون مهر أصلا وفي الكتاب العزيز {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وقوله {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} وقال {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} الآية وقال تعالى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقد أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم منع عليا أن يدخل بفاطمة عليهما السلام حتى يعطيها شيئا ولما قال ما عندي شئ قال فأين درعك الحطمية فأعطاه إياها "وحديث سهل بن سعد الآتي قريبا من أعظم الأدلة على وجوب المهر "وتكره المغالاة فيه" لحديث عائشة عند الطبراني في الأوسط "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: " إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة" وفي إسناده ضعف وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال:" جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال له إني تزوجت امرأة من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هل نظرت إليها فإن في عيون الأنصار شيئا قال قد نظرت إليها قال على كم تزوجتها قال على أربع أواق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه قال فبعث بعثا إلى بني عبس بعث ذلك الرجل فيهم "وأخرج أبو داود والحاكم وصححه من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الصداق أيسره" وعن عائشة "أنه كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا" أي نصفا وهو في صحيح مسلم وغيره قال في الحجة ولم يضبط النبي صلى الله عليه وسلم المهر بحد لا يزيد ولا ينقص إذ العادات في إظهار الاهتمام مختلفة والرغبات لها مراتب شتى ولهم في المشاحة طبقات فلا يمكن تحديده عليهم كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص ولذلك قال "التمس ولو خاتما من حديد" غير أنه سن في صداق أزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا وقال عمر رضي الله تعالى عنه "لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم" انتهى. "ويصح ولو خاتما من حديد أو تعليم قرآن" لما أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عامر بن ربيعة "أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرضيت عن نفسك ومالك بنعلين فقالت: نعم فأجازه" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا ملء يديه طعاما كانت له حلالا" وفي إسناده ضعف وأخرج الدارقطني في حديث لأبي سعيد في المهر قال "ولو على سواك من أراك" وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد" أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا فقام رجل فقال يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل عندك من شئ تصدقها قال ما عندي إلا إزاري هذا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس شيئا فقال ما أجد شيئا قال التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هل معك من القرآن شئ قال نعم سورة كذا وسورة كذا لسور سماها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قد زوجتكها بما معك من القرآن" ولا يعارض ما ذكر حديث "لا مهر أقل من عشرة دراهم" عند الدارقطني من حديث جابر لأن في إسناده مبشر بن عبيد وحجاج بن أرطاة وهما ضعيفان قال ابن القيم وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز النكاح بما قل من مهر ولو خاتما من حديد مع موافقتها لعموم القرآن في قوله {نْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وللقياس في جواز التراضي بالمعاوضة على القليل والكثير بأثر لا يثبت وقياس من أفسد القياس على قطع يد السارق وأين النكاح من اللصوصية وأين استباحة الفرج به إلى قطع اليد في السرقة وقد تقدم مرارا أن أصح الناس قياساً أهل الحديث وكلما كان الرجل إلى الحديث أقرب كان قياسه أصح وكلما كان عن الحديث أبعد كان قياسه أفسد انتهى. أقول الحاصل أن الأدلة قد دلت على أنه يصح أن يكون المهر قليلا بدون تقييد وكذلك حديث المرأة التي تزوجت بنعلين وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك حديث أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 صلى الله عليه وسلم قال "لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا ملء يديه طعاما كانت حلالا " وكذلك حديث عبد الرحمن بن عوف تزوج امرأة على وزن نواة من ذهب يدل على عدم التقييد بحد في جانب القلة والأحاديث المذكورة هي في الأمهات فالأول متفق عليه والثاني أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه والثالث أخرجه أحمد وأبو داود والرابع أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه فهذه الأحاديث تدل على أنه لا حد للمهر في جانب القلة بل إذا كان له قيمة صح أن يكون مهرا وأما في جانب الكثرة فكذلك أيضا لا حد له ولذلك ذكر الله القنطار وكانت مهور زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم لكل واحدة اثنتا عشرة أوقية ونصف عن خمسمائة درهم1 فمن زعم أن المهر لا يكون إلا كذا فعليه الدليل الصحيح ولا ريب أن المغالاة في المهور مكروهة كما تقدم. ومن تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا فلها مهر نسائها إذا دخل بها لحديث علقمة عند أحمد وأهل السنن والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن حبان قال "أتي عبد الله يعني ابن مسعود في امرأة تزوجها رجل ثم مات عنها ولم يفرض لها صداقا ولم يكن دخل بها قال فاختلفوا إليه فقال أرى لها مثل مهر نسائها ولها الميراث وعليها العدة فشهد معقل بن سنان الأشجعي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قضى في بَرْوع ابنة واشق بمثل ما قضى "وفي إعلام الموقعين "سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا حتى مات فقضى لها على صداق نسائها وعليها العدة ولها الميراث "ذكره أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وغيره قال ابن القيم وهذه فتوى لا معارض لها فلا سبيل إلى العدول عنها انتهى. ويستحب تقديم شئ من المهر قبل الدخول لحديث ابن عباس المتقدم قريبا وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث عائشة قالت "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئا "ولا يعارض هذا حديث ابن عباس فإن غاية ما فيه أنه يدل على أن تقدمه شيء من المهر قبل الدخول غير واجبة ولا ينفي كونها مستحبة وعليه إحسان العشرة لقوله تعالى {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وفي الصحيحين   1 هكذا الأصل ولعله وهي عبارة خمسمائة درهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وغيرهما من حديث أبي هريرة "إن المرأة كالضلع إن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها استمتعت بها فاستوصوا بالنساء" وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديثه أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم" وأخرج الترمذي وصححه من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" وقال في الحجة البالغة: الإنسان إذا أراد استيفاء مقاصد المنزل منها لا بد أن يجاوز عن محقرات الأمور ويكظم الغيظ فيما يجده خلاف هواه إلا ما يكون من باب الغيرة المحمودة وتداركا لجور ونحو ذلك والواجب الأصلي هو المعاشرة بالمعروف وبينها النبي صلى الله عليه وسلم بالرزق والكسوة وحسن المعاملة ولا يمكن في الشرائع المستندة إلى الوحي أن يعين جنس القوت وقدره مثلا فإنه لا يكاد يتفق أهل الأرض على شئ واحد ولذلك إنما أمر أمرا مطلقا قال في المسوى إذا أعسر الزوج بنفقة امرأته فهل يثبت لها حق الخروج من النكاح قال الشافعي: لها الخروج عن النكاح وقال أبو حنيفة: ليس لها ذلك وكذلك الخلاف في الإعسار بالصداق إلا أن عند الشافعي في الإعسار بالنفقة إذا رضيت مرة ثم بدا لها فلها الخروج وفي الإعسار بالصداق إذا رضيت مرة سقط حقها انتهى. وعليها الطاعة لقوله تعالى {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح" وأخرج أهل السنن وصححه الترمذي من حديث عمرو بن الأحوص "أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال " استوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن لكم من نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن" وفي الباب أحادث كثيرة وأما أن عليها خدمته في بيته أم لا؟ فأقول: إيجاب ذلك عليها غير ظاهر ولكن قد كان نساء الصحابة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 يعملن الأعمال التي تصلح المعيشة بل ويعملن من الأعمال الخارجة عن ذلك ما هو متبالغ في المشقة ولم يسمع أن امرأة امتنعت من ذلك وقالت هذا ليس علي أو لست ممن يعمل هذه الأعمال لكوني بمكان من الشرف أو بمحل من الجمال فقد صح في الصحيحين وغيرهما "أن الرحى أثرت في يد البتول والقربة أثرت في نحرها "ولا شرف كشرفها رضي الله عنها وأرضاها فمن زعمت أنه لا يجب عليها إلا تمكين زوجها من الوطء وأرادت الرجوع بأجرة عملها لم تحل إجابتها إلى ذلك إنما الإشكال إذا امتنعت من المباشرة للأعمال ابتداء قائلة هذا لا يجب علي فإجبارها على ذلك يحتاج إلى دليل فإن صح الأمر منه صلى الله عليه وسلم للبتول بخدمة زوجها كان ذلك صالحا للتمسك به على إجبار الممتنعة وأما استدلال القائلين بعدم الوجوب بقوله تعالى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ونحو ذلك فليس مما يفيد المطلوب وكان يكفيهم أن يقولوا لم نقف على دليل يدل على الوجوب ولا يثبت مثل هذا الحكم الشاق بدون ذلك ومجرد تقريره صلى الله عليه وسلم لنسائه ونساء المسلمين على العمل في بيوت الأزواج غايته الجواز لا الوجوب. ومن كان له زوجان فصاعدا عدل بينهن في القسمة وما تدعو الحاجة إليه لحديث أبي هريرة عند أحمد وأهل السنن والدارمي وابن حبان والحاكم وقال: إسناده على شرط الشيخين وصححه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطا أو مائلا" وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها كما في الصحيح وأخرج أهل السنن وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" قال في الحجة البالغة: والظاهر أن ذلك منه صلى الله عليه وسلم كان تبرعا وإحسانا من غير وجوب عليه لقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} وأما في غيره فموضع تأمل واجتهاد ولكن جمهور الفقهاء أوجبوا القسم واختلفوا في القرعة أقول: وفيه أن قوله فلم يعدل مجمل لا يدرى أي عدل أريد به انتهى. أقول وأما الأمة المعقود عليها عقد نكاح فيصدق عليها أنها زوجة ويصدق عليها أنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 امرأة فيكون الوعيد الوارد فيمن له زوجتان أو امرأتان شاملا لهما فالقول بأن الأمة لا تستحق إلا نصف الحرة في القسمة محتاج إلى دليل ولم يصح في المرفوع شئ والموقوف على الصحابة وكذلك المرسلات ليس فيها حجة. وأما الكلام حال الجماع فقد استدل بعض أهل العلم على كراهة الكلام حال الجماع بالقياس على كراهته حال قضاء الحاجة فإن كان ذلك يجامع الاستخباث فباطل فإن حالة الجماع حالة مستلذة لا حالة مستخبثة وفي المكالمة حالته نوع من إحسان العشرة بل فيه لذة ظاهرة كما قال بعض الشعراء: ويعجبني منك حال الجماع ... لين الكلام وضعف النظر وإن كان الجامع شيئا آخر فما هو؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد شرع الملاعبة والمداعبة ووقت الجماع أولى بذلك من غيره وإذا سافر أقرع بينهن دفعا لوحر1 الصدر لحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها "وللمرأة أن تهب نوبتها أو تصالح الزوج على إسقاطها لحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما "أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة "وفي الصحيحين عن تفسير قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} قالت: "هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج غيرها فتقول له: أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج غيري وأنت في حل من النفقة علي والقسم لي2 "ويقيم عند الجديدة البكر سبعا والثيب ثلاثا لأن البكر الرغبة فيها أتم والحاجة إلى تأليف قلبها أكثر فجعل قدرها السبع وقدر الثيب الثلاث لحديث أم سلمة عند مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام "وفي الصحيحين من حديث أنس قال: "من   1الوحر بفتح الواو والحاء الغيظ والحقد وبلابل الصدر ووساوسه ويقال أيضا في صدره وحر بإسكان الجاء وهو اسم والمصدر بالفتح. 2 تعني عئشة أن هذا نوع من الصلح الجائز الذي تشمله الآية ولا تريد بذلك حصر الصلح في هذا النوع فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا ثم قسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم" وفي الباب أحاديث ولا يجوز العزل يشير إلى كراهة العزل من غير تحريم قال في المسوى: اختلف أهل العلم في العزل فرخص فيه غير واحد من الصحابة والتابعين وكرهه جمع منهم ولا شك أن تركه أولى وبالجملة فدليله حديث جذامة بنت وهب الأسدية "أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال ذلك الوأد الخفي" أخرجه مسلم وغيره وأخرج أحمد وابن ماجه عن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن نعزل عن الحرة إلا بإذنها "وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال وأخرج عبد الرزاق والبيهقي من حديث ابن عباس قال "نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها "وقد استدل من جوز العزل بحديث جابر في مسلم وغيره قال "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل "وفي رواية "فبلغه ذلك فلم ينهنا "وغايته أن جابرا لم يعلم بالنهي وقد علمه غيره وأما ما في الصحيحين من حديث أبي سعيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما سألوه عن العزل ما عليكم أن لا تفعلوا فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة "فقد قيل إن معناه النهي وقيل إن معناه ليس عليكم أن تتركوا وغايته الاحتمال ولا يصلح للاستدلال وأخرج أحمد والترمذي والنسائي بإسناد رجاله ثقات قال "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في العزل أنت تخلقه أنت ترزقه أقرره قراره فإنما ذلك القدر" وأخرج أحمد ومسلم من حديث أسامة بن زيد "أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أعزل عن امرأتي فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم تفعل ذلك فقال أشفق على ولدها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لو كان ضارا ضر فارس والروم" وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها وتعقب بأن الشافعية تقول إنه لا حق للمرأة في الجماع أقول: وفي حديث أبي سعيد الذي أخرجه أهل السنن قال: "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم زعموا أن العزل هو المؤودة الصغرى فقال: كذبت يهود لو أراد الله أن يخلق لم تستطع أن تصرفه" وأخرج نحوه النسائي من حديث أبي هريرة وجابر ويمكن الجمع بحمل الأحاديث القاضية بالمنع على مجرد الكراهة فقط من دون تحريم ولا يجوز إتيان المرأة في دبرها لحديث أبي هريرة عند أحمد وأهل السنن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 والبزار قال: "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم " ملعون من أتى امرأة في دبرها" وفي إسناده الحرث بن مخلد لا يعرف حاله وأخرج أحمد والترمذي وأبو داود من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد" وفي إسناده أبو تميمة عنه قال البخاري لا يعرف لأبي تميمة سماع عن أبي هريرة وقال البزار هذا حديث منكر وفي إسناده أيضا حكيم بن الأثرم قال البزار لا يحتج به وما تفرد به فليس بشئ وأخرج أحمد وابن ماجه من حديث خزيمة بن ثابت "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها "وفي إسناده عمر بن أحيحة وهو مجهول وفي الباب عن علي بن أبي طالب عند أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تأتوا النساء في أعجازهن أو قال في أدبارهن" ورجال إسناده ثقات وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد والنسائي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته في دبرها هو اللوطية الصغرى" وفي الباب أحاديث وبعضها يقوي بعضا وحكي عن بعض أهل العلم الجواز واستدلوا بقوله تعالى {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} والبحث طويل لا يتسع المقام لبسطه. أقول: كان اليهود يضيقون في هيئة المباشرة من غير حكم سماوي وكان الأنصار ومن وليهم يأخذون سنتهم وكانوا يقولون إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فنزلت هذه الآية أي أقبل وأدبر ما كان في صمام واحد وذلك لأنه لا شئ تتعلق به المصلحة المدنية والملية والإنسان أعرف بمصلحة خاصة نفسه وإنما كان ذلك من تعمقات اليهود فكان من حقه أن ينسخ قال في إعلام الموقعين "وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة من الأنصار عن وطء المرأة في قبلها من ناحية دبرها فتلا عليها قوله تعالى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} صماما واحدا "ذكره أحمد وسأله صلى الله عليه وسلم عمر فقال "يا رسول الله هلكت قال وما أهلكك؟ قال: حولت رحلي البارحة فلم يرد عليه شيئا فأوحى الله تعالى إلى رسوله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أقبل وأدبر واتق الحيضة والدبر "ذكره أحمد والترمذي وهذا هو الذي أباحه الله تعالى ورسوله وهو الوطء من الدبر لا في الدبر انتهى. أقول: هذه النصوص المذكورة فيها مقالات لأئمة الحديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 ولكن لها طرق عن جماعة من الصحابة وهي منتهضة بمجموعها على فرض أن معنى قوله تعالى {أَنَّى شِئْتُمْ} أين شئتم فإن كل ما في هذه الأحاديث من المقالات لا يبلغ بواحد منها إلى حد السقوط عن درجة الاعتبار وقد استوفى الماتن رحمه الله البحث في النيل واستوفاه الجلال في ضوء النهار وساق الأدلة برصانة ومتانة رحمه الله وأعظم ما يستشكل في المقام ما صح عن ابن عمر من طرق "أنه قرأ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فقال تدري يا نافع فيم أنزلت هذه الآية قال لا قال في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فوجد من ذلك وجدا شديدا فأنزل الله سبحانه {نساؤكم حرث لكم} "لكنه قد وهمه حبر الأمة ابن عباس في ذلك كما في سنن أبي داود فصل الولد للفراش وللعاهر الحجر ولا عبرة لشبهه بغير صاحبه لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر" وفيهما أيضا من حديث عائشة قالت "اختصم سعد ابن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه وقال عبد بن زمعة هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة وقال هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة ". وإذا اشترك ثلاثة في وطء أمة طهر ملكها كل واحد منهم فيه فجاءت بولد وادعوه جميعا فيقرع بينهم ومن استحقه بالقرعة فعليه للآخرين ثلثا الدية لما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي من حديث زيد بن أرقم قال: "أتي علي وهو باليمن بثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد فسأل اثنين وقال أتقران لهذا بالولد قالا لا ثم سأل اثنين أتقران لهذا بالولد قالا لا فجعل كلما سأل اثنين أتقران لهذا بالولد قالا لا فأقرع بينهم فألحق الولد بالذي أصابته القرعة وجعل عليه ثلثي الدية فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه "وأخرجه النسائي وأبو داود موقوفا على علي بإسناد أجود من الأول لأن في الإسناد الأول يحيى بن عبد الله الكندي المعروف بالأجلح وقد وثقه يحيى بن معين والعجلي وضعفه النسائي بما لا يوجب ضعفا وقد أخذ بالقرعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 مطلقا مالك والشافعي وأحمد والجمهور حكى ذلك عنهم ابن رسلان في كتاب العتق من شرح السنن وقد ورد العمل بها في مواضع هذا منها أقول القرعة قد صح الدليل باعتبارها كما أوضحت ذلك في ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي وأوضحه الماتن في شرح المنتقى فإذا أعوز الأمر ولم يمكن التعيين بسبب من الأسباب الراجعة إلى ثبوت الفراش أو البينة أو نحوهما فإنه يرجع إلى القرعة فقد اعتبرها صلى الله عليه وسلم في الإلحاق مع الاختلاف واعتبرها في تعيين من يعتق كما في حديث من أوصى بعتق ستة أعبد فأقرع بينهم وأعتق اثنين وأرق أربعة بعد أن جزأهم ثلاثة أجزاء وأعتق الجزء الذي وقعت عليه القرعة وورد أيضا غير ذلك فالحاصل أن القرعة معتبرة شرعا في غير باب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 كتاب الطلاق هو مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك ومنه طلقت البلاد أي تركتها "هو جائز"بنص الكتاب العزيز ومتواتر السنة المطهرة وإجماع المسلمين وهو قطعي من قطعيات الشريعة ولكنه يكره مع عدم الحاجة وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث ثوبان قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" وأخرج أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق "وقال في الحجة البالغة: إن في الإكثار من الطلاق وجريان الرسم بعدم المبالاة به مفاسد كثيرة وذلك أن ناسا ينقادون لشهوة الفرج ولا يقصدون إقامة تدبير المنزل ولا التعاون في الارتفاقات ولا تحصين الفرج وإنما مطمح أبصارهم التلذذ بالنساء وذوق لذة كل امرأة فيهيجهم ذلك إلى أن يكثروا الطلاق والنكاح ولا فرق بينهم وبين الزناة من جهة ما يرجع إلى نفوسهم وإن تميزوا عنهم بإقامة سنة النكاح والموافقة لسياسته المدنية وهو قوله صلى الله عليه وسلم "لعن الله الذواقين والذواقات" انتهى. أقول: هذا الحديث ذكره صاحب الحجة تبعا لابن همام من غير تخريج ولم أجده في كتب الحديث مخرجا نعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 حديث "لا أحب الذواقين من الرجال والذواقات من النساء" رواه الطبراني عن أبي موسى مرفوعا وكذا الدارقطني في الأفراد وهو في الجامع الصغير للسيوطي بلفظ "إن الله لا يحب" الخ قال شراحه وفي سنده راو لم يسم وأما حديث "إن الله يكره المطلاق الذواق" فقال السخاوي: لا أعرفه كذلك ثم قال في الحجة: وأيضا ففي جريان الرسم بذلك إهمال لتوطين النفس على المعاونة الداعية أو شبه الداعية وعسى إن فتح هذا الباب أن يضيق صدره أو صدرها في شئ من محقرات الأمور فيندفعان إلى الفراق وأين ذلك من احتمال أعباء الصحبة والإجماع على إدامة هذا النظم وأيضا فإن اعتيادهن بذلك وعدم مبالاة الناس به وعدم حزنهم عليه يفتح باب الوقاحة وأن لا يجعل كل منهما ضرر الآخر ضرر نفسه وأن يخون كل واحد الآخر يمهد لنفسه إن وقع الافتراق وفي ذلك ما لا يخفى ومع ذلك لا يمكن سد هذا الباب والتضييق فيه فإنه قد يصير الزوجان متناشزين إما لسوء خلقهما أو لطموح عين أحدهما إلى حسن إنسان آخر أو لضيق معيشتهما أو لخرق واحد منهما ونحو ذلك من الأسباب فيكون إدامة هذا النظم مع ذلك بلاء عظيما وحرجا انتهى. من مكلف مختار لأن أمر الصغير إلى وليه وطلاق المكره لا حكم له والأدلة على هاتين المسألتين مقررة في مواضعهما وقال صلى الله تعالى عليه وسلم "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" معناه في إكراه وطلاق المكره هدر ولو هازلا وهو الذي يتكلم من غير قصد لموجبه وحقيقته بل على وجه اللعب ونقيضه الجاد من الجد بكسر الجيم وهو نقيض الهزل لحديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب ابن أردك1 وهو مختلف فيه وفي الباب عن فضالة بن عبيد عند الطبراني مرفوعا "ثلاث لا يجوز فيهن اللعب الطلاق والنكاح والعتق" وفي إسناده ابن لهيعة وعن عبادة بن الصامت عند الحرث بن أسامة في مسنده مرفوعا بنحوه وزاد "فمن قالهن فقد وجبن" وفي إسناده انقطاع وعن أبي ذر عند عبد الرزاق رفعه "من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز ومن أعتق وهو لاعب   1 بالراء المهملة كما في الخلاصة وسنن الترمذي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 فعتقه جائز ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز"وفي إسناده أيضا انقطاع وعن علي موقوفا عند عبد الرزاق أيضا وعن عمر مرفوعا عنده أيضا وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا قال ابن القيم: وأما طلاق الهازل فيقع عند الجمهور وكذلك نكاحه صحيح كما به النص وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين وهو قول الجمهور حكاه أبو حفص أيضا عن أحمد وهو قول الصحابة وقول طائفة من أصحاب الشافعي وذكر بعضهم أن الشافعي نص على أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه ومذهب مالك رواه ابن القاسم عنه وعليه العمل عند أصحابه أن هزل النكاح والطلاق لازم بخلاف البيع انتهى. لمن كانت في طهر لم يمسها فيه ولا طلقها في الحيضة التي قبله أو في حمل قد استبان أقول: ويشترط في طلاق السنة أن لا تكن المرأة حائضا وهذا لغضبه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ابن عمر لما طلق امرأته في الحيض كما في الصحيحين وغيرهما وأما اشتراط أن لا تكون نفساء فلأن قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في حديث ابن عمر "ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإذا بدا له أن يطلقها فليطلقها" فهذا فيه أن طلاق السنة يكون حال الطهر والنفاس ليس بطهر وأما اشتراط أن يكون في طهر لم يجامعها فيه فلقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في حديث ابن عمر "فليطلقها قبل أن يمسها" يعني في ذلك الطهر وأما اشتراط أن لا يطلقها في ذلك الطهر أكثر من طلقة فلما رواه الدارقطني من حديث ابن عمر "أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض ثم أراد أن يتبعها تطليقتين أخريين عند القرء فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله إنك قد أخطأت السنة والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء" وفي لفظ "في كل قرء تطليقة"وقد أنكر الحافظ ابن حجر هذه الرواية وأخرج النسائي من حديث محمود ابن لبيد قال: "أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان فقال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهر كم" وأما اشتراط أن لا يطلقها في طهر قد طلقها في حيضه المتقدم فلأمره صلى الله عليه وسلم لابن عمر أن يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فلولا أن الطلاق في الحيض مانع من الطلاق في الطهر المتعقب له لم يأمره بإمساكها في الطهر الذي عقب الحيضة التي طلقها فيها وجميع ما ذكرناه من حديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 ابن عمر متفق عليه إلا رواية الدارقطني التي ذكرناها وفي رواية من حديث ابن عمر عند مسلم وأبي داود والنسائي "أن النبي أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم إن شاء طلق أو أمسك"وفي لفظ لمسلم أيضا والترمذي "مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا " وظاهر هاتين الروايتين أن الطلاق في الطهر المتعقب للحيضة التي وقع الطلاق فيها يكون طلاق سنة لا بدعة ولكن الرواية الأولى التي فيها "ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر" متضمنة لزيادة يجب العمل بها وهي أيضا في الصحيحين فكانت أرجح من وجهين ويدل على قوله أو حاملا أن طلاق الحامل للسنة وأما من كانت صغيرة أو آيسة أو منقطعا حيضها فالظاهر أنه يكون طلاقها للسنة من غير شرط إلا مجرد إفراد الطلاق وأما القول بأنه ليس بسنة ولا بدعة كما في البحر وغيره ففاسد لأن الأصل عدم عروض ما يمنع من الطلاق المشروع. ويحرم إيقاعه على غير هذه الصفة لحديث ابن عمر عند مسلم وأهل السنن وأحمد "أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" وفي لفظ أنه قال: "ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله" وهو في الصحيحين وغيرهما وفي رواية في الصحيح "أنه قرأ النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وللحديث ألفاظ ووقع الخلاف بين الرواة هل حُسبت تلك الطلقة أم لا؟ ورواية عدم الحسبان لها أرجح وقد أوضح الماتن هذه المسألة في شرح المنتقى وفي رسالة مستقلة والخلاف طويل والأدلة كثيرة والراجح عدم وقوع البدعي لما ذكره هنالك1 وقد روى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس   1يؤيد هذا أن الصل في عقد النكاح البقاء والاستمرار وهو عقد بين اثنين هما الزوجان والأصل في العقود أن فسخها كابتدائها يجب فيه رضا العاقدين وأباح الشارع الطلاق من أحد طرفي العقد وحده وهو الزوج عل يغير القياس في فسخ العقود أو إلغائها فيجب الاقتصار على ما ورد عنه والوقوف عند الحد الذي أباحه فكل صفة للطلاق غير الصفة التي أذن بها الشارع لا أثر لها في العقد ولا يجوز قياس الممنوع على الجائز كما لا يجوز قياس أحد طرفي العقد على الآخر فإن الزوجة لا يجوز لها أن تطلق نفسها إلا إذا فوض الزوج ذلك إليها وتلقته عنه وهذه إشارة إلى حث ممتع طويل لعلنا نوفق إلى كتابته في مجال أوسع من هذا إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 ذلك بشئ" وقد روى ابن حزم في المحلى بسنده المتصل إلى ابن عمر"أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض لا يعتد بذلك"وإسناده صحيح وقد تابع أبا الزبير الراوي لعدم الحسبان لتطليقة ابن عمر المذكورة في الحديث أربعة عبد الله بن عمر العمري ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رواد ويحيى بن سليم وإبراهيم بن أبي حسنة ولو لم يكن في المقام إلا قول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقد تقرر أن الأمر بالشئ نهي عن ضده والنهي يقتضي الفساد وقول الله تعالى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} والمطلق على غير ما أمر الله تعالى به لم بسرح بإحسان وقد ذهب إلى عدم الوقوع جماعة من السلف كابن علية وإليه ذهب ابن حزم وابن تيمية وذهب الجمهور إلى الوقوع. وفي وقوعه أقول: هذه المسألة من المعارك التي لا يجول في حافاتها إلا الأبطال ولا يقف على تحقيق الحق في أبوابها إلا أفراد الرجال والمقام يضيق عن تحريرها على وجه ينتج المطلوب فمن رام الوقوف على سرها فعليه بمؤلفات ابن حزم كالمحلي ومؤلفات ابن القيم كالهدي وقد جمع السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في ذلك مصنفا حافلا وجمع الإمام الشوكاني رسالة ذكر فيها حاصل ما يحتاج إليه من ذيول المسألة وقرر ما ألهم الله إليه وذكر في شرح المنتقى أطرافا من ذلك. وخلاصة ماعول عليه القائلون بوقوع الطلاق البدعي هو اندراجه تحت الآيات العامة وتصريح ابن عمر بأنها حسبت تلك طلقة وأجاب القائلون بعدم الوقوع عنهم بمنع اندراجه تحت العمومات لأنه ليس من الطلاق الذي أذن الله به بل هو من الطلاق الذي أمر الله بخلافه قال {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقال صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها" وصح أنه غضب عند أن بلغه ذلك وهو لايغضب مما أحله الله وأما قول ابن عمر: "إنها حسبت"فلم يبين من الحاسب لها بل أخرج عنه أحمد وأبو داود والنسائي "أنه طلق امرأته وهي حائض فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرها شيئا"وإسناد هذه الرواية صحيح ولم يأت من تكلم عليها بطائل وهي مصرحة بأن الذي لم يرها شيئا هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فلا يعارضها قول ابن عمر لأن الحجة في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 روايته لا في رأيه وأما الرواية بلفظ "مره فليراجعها ويعتد بتطليقة" فهذه لو صحت لكانت حجة ظاهرة ولكنها لم تصح كما جزم به ابن القيم في الهدي وقد روي في ذلك روايات في أسانيدها مجاهيل وكذابون لا تثبت الحجة بشئ منها. والحاصل أن الاتفاق كائن على أن الطلاق المخالف لطلاق السنة يقال له طلاق بدعة وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن كل بدعة ضلالة ولا خلاف أيضا أن هذا الطلاق مخالف لما شرعه الله في كتابه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر وما خالف ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو رد لحديث عائشة عنه صلى الله عليه وسلم "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" وهو حديث متفق عليه فمن زعم أن هذه البدعة يلزم حكمها وأن هذا الأمر الذي ليس من أمره صلى الله عليه وسلم يقع من فاعله ويعتد به لم يقبل منه ذلك إلا بدليل وإذا كان من جلمة طلاق البدعة إيقاع الثلاث دفعة كما سيأتي فهذه الصورة من طلاق البدعة بخصوصها. ووقوع ما فوق الواحدة من دون تخلل رجعة خلاف قال الماتن في رسالته في هذا الباب: اختلف أهل العلم فيها على أربعة أقوال: الأول وقوع جميعها وهو مذهب الأئمة وجمهور العلماء وكثير من الصحابة وفريق من أهل البيت الثاني عدم الوقوع مطلقا لا واحدة ولا ما فوقها لأنه بدعة محرمة وهذا المذهب حكاه ابن حزم وحكى للإمام أحد ما يكفي وقال: هو مذهب الرافضة قلت: بل هو مذهب جماعة من التابعين كما حكاه الليث ومذهب ابن علية وهشام بن الحكم وجميع الإمامية ومن أهل البيت عليهم السلام الباقر والصادق والناصر وبه قال أبو عبيدة وبعض الظاهرية لأن هؤلاء قالوا: إن الطلاق البدعي لا يقع والثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متتابعة لا يقع الثالث وقع الثلاث أن كانت المطلقة مدخولة وواحدة إن لم تكن كذلك وهذا هو مذهب جماعة من أصحاب ابن عباس واسحق بن راهويه الرابع أنه يقع واحدة رجعية من غير فرق بين المدخول بها وغيرها وهذا مذهب ابن عباس على الأصح وابن اسحق وعطاء وعكرمة وأكثر أهل البيت وهذا أصح الأقوال انتهى ثم سرد أدلة هؤلاء ورجح القول الرابع فليرجع إليه. قال ابن القيم: قد صح عنه صلى الله عليه تعالى وآله وسلم أن الثلاث كانت واحدة في عهده وعهد أبي بكر وصدرا من خلافة عمر وغاية ما يقدر مع بعده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 أن الصحابة كانوا على ذلك ولم يبلغه وهذا وإن كان كالمستحيل فإنه يدل على أنهم كانوا يفتون في حياته وحياة الصديق بذلك وقد أفتى هو صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهذه فتواه وعمل أصحابه كأنه أخذ باليد ولا معارض لذلك ورأى عمر رضي الله تعالى عنه أن يحمل الناس على إنفاذ الثلاث عقوبة وزجرا لهم لئلا يرسلوها جملة وهذا اجتهاد منه رضي الله تعالى عنه غايته أن يكون سائغا لمصلحة رآها ولا يجوز ترك ما أفتى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وكان عليه أصحابه في عهده وعهد خليفته فإذا ظهرت الحقائق فليقل امرؤ ما شاء وبالله التوفيق انتهى. "الراجح عدم الوقوع"قال الماتن ذهب الجمهور إلى أنه يقع وأن الطلاق يتبع الطلاق وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الطلاق لا يتبع الطالق بل يقع واحدة وقد حكي ذلك عن أبي موسى وابن عباس وطاوس وعطاء وجابر بن زيد وأحمد بن عيسى وعبد الله بن موسى ورواية عن علي ورواية عن زيد بن علي وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تميمة والحافظ ابن القيم وقد حكاه ابن مغيث في كتاب الوثائق عن علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير وحكاه أيضا عن جماعة من مشايخ قرطبة ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس واستدل الجمهور بحديث ركانة بن عبد الله "أنه طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أردت إلا واحد قال ركانة: والله ما أردت إلى واحدة فردها إليه"أخرجه الشافعي وأبو داود والترمذي وصححه أبو داود وابن حبان والحاكم وفي إسناده أيضا الزبير بن سعيد الهاشمي وقد ضعفه غير واحد وقيل إنه متروك وفي إسناده أيضا نافع بن عجير وهو مجهول ومتنه أيضا مضطرب كما قال البخاري ففي لفظ منه "أنه طلقها ثلاثا"وفي لفظ "واحدة"وفي لفظ "البتة"وقال أحمد: طرقه كلها ضعيفة وأما استدلالهم بقوله تعالى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وبقوله {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ} فليس في ذلك من الحجة شئ بل هو عليهم لا لهم وقد حقق هذا صاحب الهدي بما يشفي وقد ورد ما يدل على أن الطلاق يتبع الطلاق وليس في الصحيح شئ من ذلك وأرجح من الجميع والحجة في هذا المقام حديث ابن عباس الثابت في صحيح مسلم وغيره "أن الطلاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 من إمارة عمر الثلاث واحدة فلما كان في عهد عمر تتابع الناس فأجازه عليهم"انتهى وكل رجال إسناده أئمة وله ألفاظ وأسانيد وفي لفظ "أن أبا الصهباء قال له ألم تعلم أن الثلاث كانت واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر قال نعم"ولم يأت من حاول التخلص عنه بحجة تنفق والتمسك بما في بعض الروايات من تقييد ذلك بالطلاق قبل الدخول لا وجه له فإن الطلاق لا يتفاوت الحال فيه قبل الدخول وبعده وإذا ثبت الحكم في أحدهما ثبت في الآخر ومن ادعى الفرق فعليه إيضاحه وفي حديث محمود بن لبيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاثا جمعا فقام غضبان فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال: يارسول الله ألا أقتله"وقد أخرجه النسائي بإسناد صحيح وروى البيهقي عن ابن عباس "أن ركانة طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها؟ فقال: طلقتها ثلاثا فقال: في مجلس واحد قال: نعم قال: إنما تلك واحدة إن شئت فراجعها" وأخرج نحوه عبد الرزاق وأبو داود من حديثه وهذا خلاصة الحجج في هذه المسألة1 وهي طويلة الذيول كثيرة النقول متشعبة   1 أحسن الشارح جدا في تلخيص الأدلة على أن الطلاق الثلاث دفعة واحدة إنما يقع طلاقا واحدا ولكن فت الباحثين في هذا المقام أمر نراه أساساً للمسئلة وهو أن المعلوم بالبهية من لغة العرب أن وصف اللفظ بالعدد إنما هو إخبار عن وقوع الموصوف في الخراج بهذا اللفظ فإذا قال القائل: "قلت كذا خمس مرات"دل على أنه تلفظ به مرار مكررة عددها خمس وكذلك الإنشاء ومنه قوله تعالى {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} بل يجب أن يقول: "أشهد بالله"الخ ويكررها أربع مرات زكذلك أمره صلى الله عليه وسلم بالتسبيح والتجميد والتهليل ثلاثا وثلاثين إنما معناه أن يكرر كل واحد منها ثلاثا وثلاثين مرة وكذلك ما ورد أنه كان صلى الله عليه وسلم "إذا سلم سلم ثلاثا معناه أن يقول ثلاث مرات "السلام عليكم"ومثل هذا لا يماري فيه أحد ولم يختلف اثنان اذن فما الذي علي إخلااج الطلاق من هذه القاعدة الظاهرة الصحيحة. اللهم لا دليل إلا الوهم وانتقال النظر والذي نراه أن قول القائل: "أنت طالق ثلاثا"لا يخرج عنه أنه نطق بالطلاق مرةواحدة وأنه لا يصلح أن يكون موضع خلاف بين الصحابة أو غيرهم وإنما الذي اختلفوا فيه وامضاه عمر بن الخطاب هو ما إذا قال لامرأته ثلاث مرات كررها "أ، ت طالق"سواء كانت في مجلس واحد وفي مجالس متعدد مادامت في العدة فهذا جعله عمر ثلاث تطبيقات باعتبار أن الطلا قيلحق المعتدة وهي قد صارت باللفظ الأول من التطليقات التي كررها المطلق ثلاث مرات وكان في عهد النبي صلي الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر خلافة عمر تعتبر المرة الأةلي ثم لا يلحقها بعد لأنها معتدة فلما تكرر في ألفاظ الصحابة والتابعين. = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 الأطراف قديمة الخلاف والإحاطة بجميع ما فيها من الأقوال وأدلتها وتصحيحها يحتمل مصنفا مستقلا وقد جمع في ذلك شيخنا العلامة الشوكاني رسالة بسط فيها بعض البسط وقد امتُحن بهذه المسألة جماعة من العلماء منه شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة ممن بعده والحق بأيديهم ولكن لما كان مذهب الأربعة الأئمة أن الطلاق يتبع الطلاق كان المخالف لذلك عند عامة أتباعهم وكثير من خاصتهم كالمخالف للإجماع وقد ظهر مما سقناه ههنا من الأدلة والنقول أن الطلاق ثلاثا بلفظ واحد أو ألفاظ في مجلس واحد من دون تخلل رجعة يقع واحدة وإن كان بدعيا فتكون هذه الصورة من صور الطلاق البدعي واقعة مع إثم الفاعل دون سائر صور البدعي فلا يقع الطلاق فيها لما قدمنا تحقيقه وأطال ابن القيم في تخريج أحاديث الباب والكلام عليها وأثبته بالكتاب والسنة واللغة والعرف وعمل أكثر الصحابة ثم قال بعد ذلك فهذا كتاب الله تعالى وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه لغة العرب وهذا عرف التخاطب وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة كلهم معه في عصره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب فلو عدهم العاد بأسمائهم واحدا واحدا أنهم1 كانوا يرون الثلاث واحدة إما بفتوى وإما بإقرار عليها ولو فرض منهم من لم يكن يرى ذلك فإنه لم يكن منكرا للفتوى به بل كانوا ما بين مفت ومقر بفتيا وساكت غير منكر هذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر وهم يزيدون على الألف قطعا كما ذكر يونس بن بكير عن أبي اسحق فكل صحابي كان على أن الثلاث واحدة بفتوى أو إقرار أو سكوت ولقد ادعى بعض أهل العلم إن هذا   = الكلام في وقوع الطلاق أ, عدمه فهم منه الفقهاء أن المراد به لفظ "أنت طالق ثلاثا"وهذا مم تنبو عنه قواعد اللغة وبديهة العقل وشاع ذلك فيهم حتى أنكروا على من خالفه أشد الإنكار ورموه بالكفر والتضليل ولو رجعوا إلى عقولهم وطبقوا ما سمعوا على مثل ما ورد في اللغة والكتاب والسنة لوجدوا أنهم بعدوا جدا عن محل النزاع. نعم إن كثيرا من القائلين بوقوع الثلاث واحدة تنبهوا غلي وصف اللفظ بالعدد لا يصلح محلا للخلاف ولإنما هو طلاق واحد وصف خطأ بعدد لم يتكرر في اللقظ ومحل الخلاف هو تكرار لفظ الطلاق كما قلناه ولعلنا نوفق إلى زيادة إيضاح البحث وبسطه بحوله وقوته والله الموفق 1 هكذا الصل ولعل صحة العبارة هي "لوجد أنهم"الخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 إجماع قديم ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه بل لم يزل فيهم من يفت به قرنا بعد قرن وإلى يومنا هذا فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف حكاه عنهما ابن وضاح وأما التابعون فأفتى به عكرمة وطاوس وأما تابعو التابعين فأفتى به محمد بن اسحق وحلاس بن عمرو والحارث العكلي وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه وأفتى به بعض أصحاب مالك وأفتى به بعض الحنفية وأفتى به بعض أصحاب أحمد والمقصود أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم ولم يأت بعده إجماع يبطله ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أن الناس استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه والذي ندين الله تعالى به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان انتهى حاصله وتمام هذا البحث في إعلام الموقعين وإغاثة اللهفان للحافظ ابن القيم وفي رسالة مستقلة للماتن وفي كتابنا مسك الختام فليرجع الطالب إليها إن أراد التفصيل والتحقيق وبالله التوفيق وأما التفريق بين المعسر وبين امرأته فأقول: إذا كانت المرأة مثلا جائعة أو عارية في الحالة الراهنة فهي في ضرار والله تعالى يقول {وَلا تُضَارُّوهُنَّ} وهي أيضا غير معاشرة بالمعروف والله يقول {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وهي أيضا غير ممسكة بمعروف والله يقول {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} بل هي ممسكة ضرارا والله يقول {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} والنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول "لا ضرر ولا ضرار" وقد ثبت في الفسخ بعدم النفقة ما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته يفرق بينهما" وأخرجه الشافعي وعبد الرزاق عن سعيد ابن المسيب وقد سأله سائل عن ذلك فقال: يفرق بينهما فقيل له سنة فقال نعم سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وما زعمه ابن القطان من توهيم الدارقطني فليس بظاهر ثم من أعظم ما يدل على جواز الفسخ بعد النفقة أن الله سبحانه قد شرع الحكمين بين الزوجين عند الشقاق وجعل إليهما الحكم بينهما ومن أعظم الشقاق أن يكون الخصام بينهما في النفقة وإذا لم يمكنهما دفع الضرر عنها إلا بالتفريق كان ذلك إليهما وإذا جاز ذلك منهما فجوازه من القاضي أولى فإن قلت: تجويزك الفسخ للنفقة بتلك الأدلة العامة يستلزم جوازه من القاضي أولى فإن قلت: تجويزك التضرر بها على أحد الزوجين قلت: النفقة وتوابعهما واجبة للزوجة على زوجها وليس ما يفوت بسبب تلك العيوب بواجب لها عليه ثم التضرر بترك النفقة وتوابعها لا يعادله شئ وإذا كان العيب في الزوجة كالجنون والجذام والبرص فقد فات الزوج شئ واجب له لكن قد جعل الله بيده الطلاق ثم قد ورد في خصوص الفسخ بعدم النفقة ما قدمنا ذكره * وأما التفريق بين المفقود وبين امرأته فأقول: قد تشعبت المذاهب في هذه المسألة إلى شعب ليس عليه أثارة من علم لا سيما التحديدات بمقادير معلومة من الأوقات منها ماهو رجوع إلى مذاهب الطبائعية كقول من قال: إنه يُنتظر المفقود حتى يمضي له من يوم ولادته مائة وعشرون سنة لأن كل طبيعة من الطبائع الأربع إذا لم يعرض لها ما يفسدها تغلب على الإنسان ثلاثين سنة فتحصل من مجموع الأربع الطبائع مائة وعشرون سنة وهذا مذهب كفري وكلام بمعزل عن الشريعة1 قال الماتن في حاشية الشفاء: وقد رأينا في عمرنا من عاش مائة وسبعا وعشرين سنة ونصف سنة ورأيناه وهو في هذا السن في كمال من حواسه وجوارحه بحيث إنه لم يفقد منها شيئا وهو يذهب ويجيء ويحضر المساجد وغاب عنا بعد ذلك فالله أعلم بعد هذه المدة انتهى. أقول: وقد رأينا من عاش فوق المائة إلى عشرين سنة أو أكثر من ذلك وهم كثيرون وسمعنا بمن عاش فوق المائة إلى أربعين سنة بل أزيد من ذلك وهم قليلون والقدرة الإلهية صالحة للكل   1لا نرى في هذا شيئا من الكفر فإنه إذا صح أن أحدا بهذا فإنما يرجع فيه إلى سنة الله في خلقه به أن الغالب على الإنسان أن يعيش هذه المدة إذا خلا من الآفات والأمراض وعودي الزمن والذي يظهر لنا أن التقدير بمائة وعشرين خطأ لأن متوسط العمر يبلغه كثير الناس بين الستين والسبعين وما زاد فهو قليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 وبالجملة فمن العلماء من قال: مائة وخمسون ومنهم من قال: مائتان ومنهم من قال: أربع سنين ومنهم من قال: زيادة على ذلك ومنهم من فرق بين من كان له أهل ومال ومن لم يكن له أهل ومال والكل محض رأي وعندي أن تحريم نكاح المحصنة ورد به النص القرآني وأجمع عليه جميع المسلمين بل هو معلوم من ضرورة الدين وامرأة المفقود محصنة فالأصل الأصيل تحريم نكاحها وإذا لم يكن لها ما تستنفقه وكان إمساكها حينئذ وإلزامها على استمرار نكاح الغائب فيه إضرار بها كان ذلك وجها للفسخ وهكذا إذا طالت مدة الغيبة وكانت المرأة تتضرر بترك النكاح فالفسخ لذلك جائز وإذا جاز الفسخ للعنة فجوازه للغيبة الطويلة أولى لأنه قد عُلم من نصوص الكتاب والسنة تحريم الإمساك ضرارا والنهي للأزواج عن الضرار في غير موضع فوجب دفع الضرار عن الزوجة بكل ممكن وإذا لم يكن إلا بالفسخ جاز ذلك بل وجب1 وأما عدم وقوع طلاق المكره فدليله حديث "لا طلاق في إغلاق" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي والحاكم وصححه من حديث عائشة وضعفه أبو حاتم بمحمد بن عبيد الله بن أبي صالح ورُد عليه بأنه قد أخرجه البيهقي من طريق غيره والإغلاق عند علماء اللغة الإكراه كما في النهاية وغيرها وأما عدم صحة الطلاق قبل أن ينكحها فالأحاديث الواردة في هذا الكتاب لا تخلو عن مقال لكن لها طرق عدة عن جماعة من الصحابة وهي لا تقصر عن بلوغ رتبة الحسن لغيره فالعمل بها متحتم ولم يأت من خالفها بشئ إلا مجرد رأي محض ثم إن السيد لا يطلق عند عبده بل الطلاق إلى العبد وذلك هو الأصل في الشريعة المطهرة فمن زعم أنه يصح طلاق غير زوج فعليه الدليل   1 هذا صحيح وإذا وجب النسخ عند تضرر الزوجة من ترك النكاح وهو الحاصل لكل امرأة يغيب زوجها إلا فيما ندر فما الذي يضرب لها لانتظاره ثم يجوز لها طلب الفسخ بعده هـ1اهو مجال العلماء وموضع الاجتهاد ولم يرد في ذلك نص عن الشارع وآراء الصحابة إن هي إلا اجتهاد منهم والذي نعتقده حقا هو أن مرجع الأمر للحاكم فله أن يقدر الوقت لها وذلك يختلف باختلاف الأزمان فإذا كان في عصر الصحابة مقدرا بأربع سنين كما ذهب إليه أو حكم به عمر بن الخطاب وهو إنما قاله بما كان من سلطة الحكم وعصرهم لم تكن فيه الأخبار سريعة التداول بين البلدان ومن الصعب وصول خير من قطر إلى آخر إلا بعد مدة طويلة فقد يجوز في زماننا هذا أن بقد الأجل بسنة واحدة وإن ذهب إليه ذاهب كان مذهبا قريبا إلى الحق ظاهر الصحة وهو الذي نختاره والتوفيق من الله سبحانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 "فصل ويقع بالكناية مع النيّة" لحديث عائشة عند البخاري وغيره "إن ابنة الجون لما أُدخلت علي رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك فقال لها: لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك" وفي الصحيحين وغيرهما في حديث تخلف كعب بن مالك لما قيل له "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقال: أطلقها أم ماذ أفعل؟ قال: بل اعتزلها فلا تقربنها فقال لامرأته: الحقي بأهلك"فأفاد الحديثان أن هذه اللفظة تكون طلاقا مع القصد ولا تكون طلاقا مع عدمه ويقع الطلاق بالتخيير إذا اختارت الفرقة لقوله تعالي {ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} الآية {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} الآية وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا نساءه لما نزلت الآية فخيرهن وثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة قالت: "خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعدها شيئا"وفي المسألة خلاف وهذا هو الحق وبه قال الجمهور وإذا جعله الزوج إلى غيره وقع منه لأنه توكيل بالإيقاع وقد تقرر جواز التوكيل من غير فرق بين الطلاق وغيره فلا يخرج من ذلك إلا ما خصه دليل وقد سئل أبو هريرة وابن عباس وعمرو بن العاص عن رجل جعل أمر امرأته بيد أبيه فأجازوا طلاقه كما أخرجه أبو بكر البرقاني في كتابه المخرج على الصحيحين "ولا يقع بالتحريم"لما في الصحيحين عن ابن عباس قال "إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وأخرج عنه النسائي "أنه قال أتاه رجل فقال إني جعلت امرأتي علي حراما فقال: " كذبت ليست عليك بحرام" ثم تلا هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} عليك أغلظ الكفارة عتق رقبة"وأخرج النسائي أيضا بإسناد صحيح عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه فأنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية"وفي الباب روايات عن جماعة من الصحابة في تفسير الآية بمثل ما ذكر وفي هذه المسألة مذاهب قد ذكر الحافظ ابن القيم منها ثلاثة عشر مذهب وقال: إنها تزيد على عشرين مذهبا والذي أرجحه منها هو أن التحريم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 ليس من صرائح الطلاق ولا من كناياته بل هو يمين من الأيمان كما سماه الله عز وجل في كتابه فقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} فهذه الآية مصرحة بأن التحريم يمين والسبب وإن كان خاصا وهو العسل الذي حرمه على نفسه أو الأمة التي كان يطؤها فلا اعتبار بخصوص السبب فإن لفظ ما أحل الله لك عام وعلى فرض عدم العموم فلا فرق بين الأعيان التي هي حلال وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه فجعل الحرام حلالا وجعل في اليمين كفارة"أي جعل الشئ الذي حرمه حلالا بعد تحريمه وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: "إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها ثم قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} "وفي الباب عن جماعة من الصحابة في تفسير الآية بمثل ما ذكرناه وبالجملة الحق ما ذكرناه وقد ذهب إليه جماعة من الصحابة ومن بعدهم وجميع أهل الظاهر وأكثر أصحابه الحديث وهذا إذا أراد تحريم العين وأما إذا أراد الطلاق بلفظ التحريم غير قاصد لمعنى اللفظ بل قصد التسريح فلا مانع من وقوع الطلاق بهذه الكناية كسائر الكنايات والرجل أحق بامرأته في عدة طلاقه يراجعها متى شاء إذا كان الطلاق رجعيا"لحديث ابن عباس عند أبي داود والنسائي في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية قال: وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك الطلاق مرتان"وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: "كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا راجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر حتى قال رجل لامرأته والله لا أطلقك فتبيني مني ولا آويك أبدا وقالت: وكيف ذلك قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها فسكتت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قالت عائشة: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا من كان طلق ومن لم يكن طلق"وأخرج أبو داود وابن ماجه والبيهقي والطبراني عن عمران بن حصين "أنه سأل عن الرجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 يطلق امرأته يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد" ولا تحل له بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره لقول الله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ولما في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة القرظي "لا حتى تذوقي عسيلته ويذون عسيلتك" وهو مجمع على ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 " باب الخلع " وفيه شناعة ما لأن الذي أعطاه من المال قد وقع في مقابلة المسيس وهو قوله تعالى {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في اللعان حيث قال: "إن صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها" ومع ذلك فربما تقع الحاجة إلى ذلك فذلك قوله تعالى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} قلت: دلت الآية الأولى على النهي عن الخلع والثانية على جوازه فتكلم الفقهاء في ترتيبهما قال البغوي وغيره إذا آذاها بمنع بعض حقوقها حتى ضجرت فاختلعت نفسها فهذا الفعل منه حرام ولكن الخلع نافد لأن الله تعالى قال في صورة النهي {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} والعضل التضييق والمنع وقال: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} وهذا إشارة طموح بصره إلى غيرها من غير أن يرى منها التقصير والخلع المباح بلا كراهية أن تكره المرأة صحبة الزوج ولا يمكنها القيام بأداء حقوقه فتخرج فتخلع نفسها لقوله تعالى {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} إلى أن قال: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} ولتقريره صلى الله عليه وسلم حبيبة بنت سهل على الخلع حين ذكرت الشقاق ولو اختلعت نفسها بلا سبب فجائز مع الكراهة لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفتشوا عن سبب الاختلاع من جانبها وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق" أقول: في قولهم هذا الفعل منه حرام ولكن الخلع نافذ نظرا لأن قوله تعالي: {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} وقوله: لا يحل لكم نصان في تحريم أخذ البدل وهو يقتضي بطلان العقد كما في كثير من مسائل البيوع فإما أن يكون العقد باطلا من أصله أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 مضي الطلاق ويرد عليها ما لها كما قال مالك والله تعالى أعلم. واتفق أهل العلم على أنه إن طلقها على مال فقبلت فهو طلاق بائن واختلفوا في الخلع فقال أبو حنيفة: تطليقة بائنة وهو أصح قولي الشافعي وله قول أنه فسخ وليس بطلاق ولا ينقص به العدد كذا في المسوى "وإذا خالع الرجل امرأته كان أمرها إليها"بعد الخلع لا ترجع إليه بمجرد الرجعة ويجوز بالقليل والكثير ما لم يجاوز ما صار إليها منه لحديث ابن عباس عند البخاري وغيره"أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يارسول الله إني ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته قالت: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة وطلقها" وفي رواية لابن ماجه والنسائي بإسناد رجاله ثقات "أنها قالت: لا أطيقه بغضا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته قالت: نعم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الحديقة ولا يزداد"وفي رواية للدارقطني بإسناد صحيح "أن أبا الزبير قال إنه كان أصدقها حديقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته التي أعطاك قالت: نعم وزيادة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الزيادة فلا ولكن حديقته قال: نعم"فهذه الفرقة إنما كانت بسبب ماافتدت به المرأة فلو لم يكن أمرها إليها كانت الفدية ضائعة وقد أفاد ما ذكرناه أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ منها أكثر مما صار إليها منه وقد ذهب إلى هذا علي وطاوس وعطاء والزهري وأبو حنيفة وأحمد واسحق وذهب الجمهور إلى أنه يجوز أن يأخذ منها زيادة على ما أخذت منه استدلالا بقوله تعالى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فإنه عام للقليل والكثير ويجاب بأن الروايات المتضمنة للنهي عن الزيادة مخصصة لذلك كحديث "أما الزيادة فلا" صححه الدارقطني فصلح لتخصيص ذلك العموم كما هو الحق عند الماتن رحمه الله من جواز تخصيص عموم القرآن بالآحاد ومذاهب الصحابة فمن بعدهم في هذا مختلفة مبسوطة في المطولات وأما ما أخرجه البيهقي عن أبي سعيد الخدري قال: "كانت أختي تحت رجل من الأنصار فارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: أتردين حديقته قالت: وأزيد عليها فردت عليه حديقته وزادته"ففي إسناده ضعف مع أنه لا حجة فيه لأنه لم يقررها على تسليم الزيادة وأيضا قوله تعالى: {وَلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} يدل على منع الأخذ مما آتوهن إلا مع ذلك الأمر فلا بأس بأن يأخذوا مما آتوهن لا كله فضلا عن زيادة عليه "ولا بد من التراضي بين الزوجين على الخلع أو إلزام الحاكم مع الشقاق بينهما"لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ} وأما اعتبار إلزام الحاكم فلارتفاع ثابت وامرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلزامه بأن يقبل الحديقة ويطلق ولقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} وهذه الآية كما تدل على بعث حكمين تدل على اعتبار الشقاق في الخلع ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} ويدل عليه قصة امرأة ثابت المذكورة وقولها أكره الكفر بعد الإسلام وقولها لا أطيقه بغضا فلهذا اعتبرنا الشقاق في الخلع وهو فسخ وليس بطلاق ولكن قال الماتن رحمه الله في حاشية الشفاء بخلاف ما قال ههنا ورجح أن الخلع طلاق وليس بفسخ وقال هذا هو الحق لأن الله سبحانه ذكر أحكام الخلع بعد قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} والضمائر من آيات الاختلاع راجعة إلى ذلك كقوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقد سماه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم طلاقا كما في صحيح البخاري وغيره فإنه قال لثابت بن قيس "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" ولا يعارضه ما روي في سنن النسائي "أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمرها أن تعتد بحيضة"وكذلك في سنن أبي داود لأنه ملازمة بين الاعتداد بحيضة وبين الفسخ بل إذا ورد في بعض المطلقات ما يدل على مخالفة عدتها لعدة سائر المطلقات المصرح بها في القرآن كان ذلك مخصصا لعموم العدة وقد أطال ابن القيم الكلام على ذلك ورجح أن الخلع فسخ ولم يأت ببرهان يشفي سوى ما ذكرنا من أمره صلى الله عليه وآله وسلم لها أن تعتد بحيضة وهو في غير محل النزاع كما عرفت انتهى. ثم رجح في فتاواه المسماة بالفتح الرباني كون الخلع فسخا وقال: الظاهر أنه فسخ لا طلاق وهو قول جماعة من العلماء منهم ابن عباس رواه عنه ابن عبد البر في التمهيد وكذلك رواه عن أحمد واسحق وداود وهو قول الصادق والباقر وأحد قولي الشافعي ومن قال بذلك لم يشترط فيه أن يكون للسنة وأجازه في الحيض وأوقعه وإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 كان لا يرى وقوع الطلاق البدعي واحتجوا لذلك بقول الله تعالى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ثم ذكر الافتداء ثم عقبه بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فلو كان الاقتداء طلاقا لكان الطلاق الذي لا تحل له إلا بعد زوج هو الطلاق الرابع وبحديث الربيع "أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فأمرها النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أو أمرت أن تعتد بحيضة"أخرجه الترمذي وبحديث ابن عباس الآتي في قصة امرأة ثابت بن قيس قال العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: بحثت عن رجال الحديثين معا فوجدتهم ثقات ولحديث رواه مالك عن حبيبة بنت سهل الأنصاري"أنها قالت للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يارسول الله كل ما أعطاني عندي فقال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت: خذ منها فأخذ وجلست في أهلها قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في هذا الحديث وهو حديث مسند صحيح ووجه دلالته أنه لم يذكر فيه طلاقا ولا زاد على الفرقة ويدل على ذلك من النظر أنه لا يجعله طلاقا بائنا ولا رجعيا أما الأول فلأنه خلاف الظاهر لأنها تطليقة واحدة وأما الثاني فلأنه إهدار لمال المرأة الذي دفعته لحصول الفرقة ولا يرد على هذا أعني الاكتفاء في العدة بحيضة قول الله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} لأن الخلع عندهم فسخ لا طلاق فلا يندرج تحت عمومه سلمنا فالآية في الطلاق الرجعي بدليل آخرها وهو قوله تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} سلمنا فالآية عامة وأدلتنا خاصة وذهب الجمهور إلى أنه طلاق مستدلين بحديث ابن عباس عند البخاري وأبي داود بلفظ "طلقها تطليقة" قلنا ثبت من حديث المرأة نفسها عند الموطإ وأبي داود والنسائي بلفظ "وخل سبيلها" وعند أبي داود من حديث عائشة بلفظ "وصاحب القصة أخص بها" قال ابن القيم رحمه الله: لا يصح عن صحابي أنه طلاق البتة وقال الخطابي في معالم السنن: إنه احتج ابن عباس على أنه ليس بطلاق بقوله تعالى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} انتهى ومخالفة الراوي لما روى دليل على علمه بناسخ لوجوب حمله على السلامة قال الترمذي: قال أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم إن عدة المختلعة عدة الطلاق قلت: قد عرفت أن ابن القيم قال إنه لم يصح عن صحابي وعرفت الأدلة الدالة على أن العدة بحيضة ولاحجة في أحد غير الشارع قال العلامة محمد بن إبراهيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 الوزير: وقد استدل الزيدية في أنه طلاق بثلاثة أحاديث وأجاب عنها بوجوه حاصلها أنها مقطوعة الأسانيد وأنها معارضة بما هو أرجح وأن أهل الصحاح لم يذكروها واختلف العلماء أيضا في شروط الخلع فالزيدية جعلوا منها النشوز وهو قول داود الظاهري والجمهور على أنه ليس بشرط وهو الحق لأن المرأة اشترت الطلاق بمالها ولذلك لم تحل فيه الرجعة على القول بأنه طلاق قال العلامة ابن الوزير: ثم تأملت فإذا الأمر المشترط فيه خوف أن لا يقيما حدود الله هو طيب المال للزوج لا الخلع لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ولم يقل في الخلع يوضحه أنه لوضارها حرم عليه لقوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} انتهى ثم قال في السيل الجرار بعد ذكر أدلة الفريقين الدالة على أن الخلع طلاق أو فسخ ما نصه: فهذه الأحاديث تدل على أنه فسخ لا طلاق قال: والذي ينبغي الجمع به هو أن عدة الخلع حيضة لا غير وليس الغير سواء كان بلفظ الطلاق أو بغيره مما يشعر بتخلية السبيل أو بتركها وشأنها من دون أن يجري منه لفظ قط قد يكون الوارد في هذا الطلاق الكائن في الخلع مخصصا لما ورد في عدة المطلقة فتكون عدة الطلاق ثلاثة قروء إلا إذا كان الطلاق مع الافتداء فإنه حيضة واحدة ولا تحسب عليه طلقة إلا إذا جاء بلفظ الطلاق أو بما يدل عليه لا إذا لم يقع منه لفظ البتة بل تركها وشأنها فإن هذا لا يحسب عليه طلاقا بهذا التقرير تجتمع الأدلة ويرتفع الإشكال على كل تقدير وأما كونه يمنع الرجعة فلما قدمنا أن الطلاق لا يتبع الطلاق انتهى. وعدته حيضة لحديث الربيع بنت معوذ عند النسائي في قصة امرأة ثابت "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال له: خذ الذي لها عليك وخل سبيلها قال: نعم"فأمرها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن تعتد بحيضة واحدة وتلحق بأهلها"ورجال إسناده كلهم ثقات ولها حديث آخر عند الترمذي والنسائي وابن ماجه "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمرها أن تعتد بحيضة وفي إسناده محمد بن اسحق وقد صرح بالتحديث وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة"وأخرج الدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح عن أبي الزبير وفيه فأخذها وخلى سبيلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 قال الدارقطني: سمعه أبو الزبير من غير واحد فهذه الأحاديث كما تدل على أن العدة في الخلع حيضة تدل على أنه فسخ لأن عدة الطلاق ثلاث حيض وأيضا تخلية السبيل هي الفسخ لا الطلاق وأما ما وقع في بعض روايات الحديث "أنه طلقها تطليقة" فقد أجيب عن ذلك بجوابات طويلة قد أودعها الماتن في شرح المنتقى فليرجع إليه قال ابن القيم: واختلف الناس في عدة المختلعة فذهب اسحق وأحمد في أصح الروايتين عنه دليلاً أنها تعتد بحيضة واحدة وهو مذهب عثمان بن عفان وعبد الله بن عباس وقد حكى إجماع الصحابة ولا يعلم لهما مخالف وقد دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة دلالة صريحة وعذر من خالفها أنها لم تبلغه أو لم تصح عنده أوظن الإجماع على خلاف موجبها فهذا القول هو الراجح في الأثر والنظر أما رجحانه أثرا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المختلعة قط أن تعتد بثلاث حيض بل قد روى أهل السنن عنه من حديث الربيع بنت معوذ وحديث امرأة ثابت بن قيس المتقدمة وهذه الأحاديث لها طرق يصدق بعضها بعضا فيكفي في ذلك فتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جعفر النحاس في كتاب الناسخ والمنسوخ هو إجماع من الصحابة انتهى حاصله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 " باب الإيلاء " "هو أن يحلف الزوج من جميع نسائه أو بعضهن لا أقربهن"وهو ظاهر"فإن وقت بدون أربعة أشهر اعتزل حتى ينقضي ما وقت به"لما ثبت في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا ثم دخل بهن بعد ذلك"وإن وقت بأكثر منها خير بعد مضيها بين أن يفيء أو يطلق لقوله تعالى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الآية وقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال: "إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق"قال البخاري: ويذكر ذلك عن عثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأخرج الدارقطني عن سليمان ابن يسار قال: أدركت بضعة عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يوقفون المولي وأخرج أيضا عن سهل بن أبي صالح عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 يولي قالوا: ليس عليه شئ حتى يمضي أربعة أشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق. قال في المسوى: اختلفوا فيما إذا انقضت أربعة أشهر وهو لم يفيء قال الشافعي: لا يقع الطلاق بمضيها بل يوقف فإما أن يفيء ويكفر عن يمينه أو يطلق فإن طلق فيها وإلا طلق عليه السلطان وقال أبو حنيفة: إذا مضت أربعة أشهر وقعت عليها طلقة بائنة وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن: يقع عليها طلقة رجعية انتهى. قال الماتن: وقد اختلف في مقدار مدة الإيلاء فذهب الجمهور إلى أنها أربعة أشهر فصاعدا قالوا: فإن حلف على أنقص لم يكن موليا واحتجوا بالآية وهي لا تدل على مطلوبهم لأنها لبيان المدة التي تضرب للمولى ليفئ بعدها أو يطلق وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم الإيلاء شهرا ودخل على نسائه بعده فلو كان الإيلاء دون أربعة أشهر جماعة من أهل العلم وهو الحق وأما لزوم الحد إذا نكلت فقد أوضح ابن القيم في الهدي هذا البحث بما لا مزيد عليه فليراجع فإنه لا يستغنى عنه قال في المسوى: إيلاء العبد نحو إيلاء الحر وهو عليه واجب وإيلاء العبد شهران قلت: وعليه مالك أن مدة الإيلاء تنتصف برق الرجل وقال أبو حنيفة: مدة الإيلاء تنتصف برق المرأة وقال الشافعي: الحر والعبد في مدة الإيلاء سواء انتهى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 "باب الظِّهار" "وهو قول الزوج لامرأته أنت علي كظهر أمي أو ظاهرتك أو نحو ذلك فيجب عليه قبل أن يمسها أن يكفر بعتق رقبة فإن لم يجد فليطعم ستين مسكينا فإن لم يجد فليصم شهرين متتابعين"وإنما جعلت كفارة هذه لأن من مقاصد الكفارة أن يكون بين عيني المكلف ما يكبحه عن الاقتحام في الفعل خشية أن يلزمه ذلك ولا يمكن ذلك إلا بكونها طاعة شاقة تغلب على النفس إما من جهة كونها بذل ما تشح به أو من جهة مقاساة جوع أو عطش مفرطين والدليل على ما اشتمل عليه هذا الباب من التكفير على هذا الترتيب ما في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 القرآن الكريم {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقد بينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة سلمة بن صخر لما ظاهر من امرأته ثم وطئها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتق رقبة فقال: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها وضرب صفحة رقبته قال: فصم شهرين متتابعين قال: قلت يارسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم قال: فتصدق قال: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا ما لنا عشاء قال: اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك فأطعم منها وسقا من تمر ستين مسكينا ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن خزيمة وابن الجارود وفي لفظ لأبي داود "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كله أنت وأهلك" وأخرج نحوه أهل السنن وصححه الترمذي من حديث ابن عباس وصححه أيضا الحاكم قال ابن حجر: رجاله ثقات لكن أعله أبو حاتم والنسائي بالإرسال وقال ابن حزم: رواته ثقات ولا يضره إرسال من أرسله وللحديثين شواهد وأخرج نحوه أبو داود وأحمد من حديث خولة بنت مالك بن ثعلبة وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث عائشة وأخرجه الحاكم أيضا وقد قام الإجماع على أن الكفارة تجب بعد العود لقوله تعالى {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} واختلف أهل العلم هل العلة في وجوبها العود أو الظهار واختلفوا أيضا هل المحرم الوطء فقط أم هو مع متقدماته فذهب الجمهور إلى الثاني لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وذهب البعض إلى الأول قالوا: لأن المسيس كناية عن الجماع واختلفوا في العود ما هو؟ فقال قتادة وسعيد بن جبير وأبو حنيفة وأصحابه: إنه إرادة المسيس لما حرم بالظهار لأنه إذا أراد فقد عاد من عزم الترك إلى عزم الفعل سواء فعل أم لا وقال الشافعي: بل هو إمساكها بعد الظهار وقتا يسع الطلاق ولم يطلق إذ تشبيهها بالأم يقتضي إبانتها وإمساكها نقيضه وقال مالك وأحمد: بل هو العزم على الوطء فقط وإن لم يطأ وقد وقع الخلاف أيضا إذا وطيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 المظاهر قبل التكفير فقيل: تجب عليه كفارتان وقيل: ثلاث وقيل: تسقط الكفارة وذهب الجمهور إلى أن الواجب كفارة واحدة وهو الحق كما تفيده الأدلة المذكورة واعلم أن الرقبة وإن كانت مطلقة في كفارة الظهار فقد ورد ما يدل على اعتبار كونها مؤمنة وليس ذلك الدال على اعتبار الإيمان هو ما وقع في القرآن في كفارة القتل لما تقرر في الأصول أن المختلفين سببا لا يصح تقييد أحدهما بالآخر بل الدال على ذلك هو سؤاله صلى الله عليه وسلم لمن قال عليه رقبة عن إيمانها وقوله لها "أين الله؟ ومن أنا؟ " ثم قال: "أعتقها فإنها مؤمنة" كما في حديث معاوية بن الحكم السلمي ولم يستفصله صلى الله عليه وسلم عن وجوب تلك الرقبة عليه هل هو عن كفارة ظهار أو قتل أو يمين أو غير ذلك؟ وقد تقرر أن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم إذا كان في مقام الاحتمال1 ويجوز للإمام أن يعينه من صدقات المسلمين إذا كان فقيرا لا يقْدر على الصوم وله أن يصرف منها لنفسه وعياله وإذا كان الظهار مؤقتا فلا يرفعه إلا انقضاء الوقت لتقريره صلى الله عليه وسلم سلمة بن صخر لما قال له إنه ظاهر من امرأته حتى ينسلخ رمضان وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه ابن خزيمة وابن الجارود كما تقدم وظاهر القرآن أنه لا يوجب الكفارة إلا العود فالظهار المؤقت إذا انقضى وقته لم يكن إرادة الوطء عودا فلا تجب فيه كفارة وأما إذا كان الموجب للكفارة قول المنكر والزور فهي واجبة في مطلق ومؤقت لأنه قد وقع القول بمجرد إيقاع الظهار. "وإذا وطيء قبل انقضاء الوقت أو قبل التفكير كف حتى يكفر في المطلق أو ينقضي وقت المؤقت"لحديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمظاهر الذي وطيء امرأته: لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله" أخرجه أهل السنن وصححه الترمذي والحاكم وظهار العبد نحو ظهار الحر وصيام العبد في الظهار شهران كالحر بالإتفاق   1هذا عموم ضعيف الاحتمال أن يكون الراوي اختصر الحديث وأن يكون معاوية بن الحكم بين سبب وجوب الرقبة والقرآن فمن زاد شرطا فليأت بدليل صريح في كفارة الظهار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 " باب اللعان " والأصل فيه أنه أيمان مؤكدة تبريء الزوج من حد القذف وتثبت اللوث عليها تحبس لأجله ويضيق عليها به فإن نكل ضرب الحد وأيمان مؤكدة منها تبرئها فإن نكلت ضربت الحد وبالجملة فلا أحسن فيما ليس فيه بينة وليس مما يهدر ولا يسمع من الإيمان المؤكدة "إذا رمى الرجل امرأته بالزن"احكم اللعان مذكور في الكتاب العزيز قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} واستفاض حديث عويمر العجلاني وهلال ابن أمية "ولم تقر بذلك ولا رجع عن رميه"لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يحث المتلاعنين على ذلك ففي الصحيحين وغيرهما "أنه وعظ الزوج وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ثم وعظ المرأة وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة "فإذا أقرت المرأة كان عليها حد الزاني المحصن إذا لم يكن هناك شبهة وإذا أقر الرجل بالكذب كان عليه حد القذف"لا عنها فيشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم تشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين"وقد نطق بذلك الكتاب العزيز والسنة المطهرة في ملاعنته صلى الله تعالى عليه وسلم بين عويمر العجلاني وامرأته وبين هلال بن أمية وامرأته "ويفرق الحاكم بينهما وتحرم عليه أبدا "لحديث سهل بن سعد عند أبي داود قال: "مضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا"وفي حديث ابن عباس عند الدارقطني "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا" وأخرج نحوه عنه أبو داود وفي الصحيحين وغيرهما "أن عويمرا طلق امرأته ثلاث تطليقات قبل أن يأمره صلى الله تعالى عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 وآله وسلم قال ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين"ويلحق الولد بأمه فقط ومن رماها به فهو قاذف"لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في ولد المتلاعنين أنه يرث أمه وترثه أمه ومن رماها به جلد ثمانين"أخرجه أحمد وفي إسناده محمد بن اسحق وبقية رجاله ثقات ويؤيد هذا الحديث الأدلة الدالة على أن الولد للفراش ولا فراش هنا والأدلة الدالة على وجوب حد القذف والملاعنة داخلة في المحصنات لم يثبت عليها ما يخالف ذلك وهكذا من قذف ولدها فإنه كقذف أمه يجب الحد على القاذف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 " باب العدة " وكانت من المشهورات المسلمة في الجاهلية وكانت مما يكادون يتركونه وكان فيها مصالح كثيرة فأقرها الشارع "هي للطلاق من الحامل بالوضع"لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ومن الحائض بثلاث حيض لقول تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} والقروء هي الحيض كما تقدم في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "دع الصلاة أيام أقرائك" والقرء وإن كان في الأصل مشتركا بين الأطهار والحيض لكنه هنا قد دل الدليل على أن المراد أحد معنيي المشترك وهو الحيض لقوله صلى الله عليه وسلم: "تعتد بثلاث حيض" وقوله: "تجلس أيام أقرائها" وقوله: "وعدتها حيضتان" وسيأتي "ومن غيرهما"أي غير الحامل والحائض وهي الصغيرة والكبيرة التي لا حيض فيها أو التي انقطع حيضها بعد وجوده فإنها تعتد بثلاثة أشهر لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} الآية وقد وقع الخلاف في منقطعة الحيض لعارض فقيل إنها تتربص حتى يعود فتعتد بالحيض أو تيأس فتعتد بالأشهر والحق ما ذكرناه لأنه يصدق عليها عند الانقطاع أنها من اللائي لم يحض وللوفاة بأربعة أشهر وعشر لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} هذا في غير الحامل"وإن كانت حاملا فبالوضع"لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وقد بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أكمل بيان ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أم سلمة "أن امرأة من أسلم يقال لها سبيعة كانت تحت زوجها فتوفي عنها وهي حبلى فخطبها أبو السنابل بن بعكك فأبت أن تنكحه فقال والله ما يصلح أن تنكحي حتى تعتدي آخر الأجلين فمكتث قريبا من عشر ليال ثم نفست ثم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال انكحي "وأخرج البخاري عن ابن مسعود في المتوفى عنها زوجها وهي حامل قال: "أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} "وقد أخرج أحمد والدارقطني عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} للمطلقة ثلاثا وللمتوفى عنها قال: هي للمطلقة ثلاثا وللمتوفى عنها"وأخرجه أبو يعلى والضياء في المختارة وابن مردويه وفي إسناده المثنى بن الصباح وثقه ابن معين وضعفه الجمهور وقد أخرج ابن ماجه عن الزبير بن العوام "أنها كانت عنده أم كلثوم بنت عقبة فقالت له وهي حامل طيب نفسي بتطليقة فطلقها تطليقة ثم خرج إلى الصلاة فرجع وقد وضعت فقال ما لها قد خدعتني خدعها الله ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال سبق الكتاب أجله اخطبها إلى نفسها"ورجال إسناده رجال الصحيح إلا محمد بن عمر بن هياج وهو صدوق لا بأس به وقد تمسك بعض الصحابة بالآيتين فجعل عليها أطول الأجلين فقال: إذا وضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشر لم تنقص عدتها حتى تمضي أربعة أشهر وعشر وإذا انقضت الأربعة الأشهر وعشر ولم تضع لم تنقض العدة حتى تضع وبه قال جماعة من أهل العلم والحق أن عدة الحامل بالوضع في الطلاق والوفاة للأدلة التي ذكرناها وهي نصوص في محل النزاع ومبينة للمراد قال ابن القيم: وقد كان بين السلف نزاع في المتوفى عنها أنها تتربص أبعد الأجلين ثم حصل الاتفاق على انقضائها بوضع الحمل وأما عدة الوفاة فتجب بالموت سواء دخل بها أو لم يدخل كما دل عليه عموم القرآن والسنة الصحيحة واتفاق الناس انتهى "ولا عدة على غير مدخولة"لقوله تعالى في غير الممسوسات {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} "والأمة"أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 عدتها "كالحرة"لأن حديث عائشة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" أخرجه الترمذي وأبو داود والبيهقي قال فيه أبو داود هو حديث مجهول وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث مظاهر بن أسلم ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث انتهى وأخرج ابن ماجه والدارقطني ومالك في الموطإ والشافعي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان" وفي إسناده عمرو ابن شبيب وعطية العوفي وهما ضعيفان وصحح الدارقطني أنه موقوف على ابن عمر وأخرج الدارقطني من حديث ابن مسعود وابن عباس الطلاق بالرجال والعدة بالنساء وقد أعل بالوقف وأخرج أحمد عن علي نحو ذلك وإذا كان الصحيح الوقف فيما عدا حديث عائشة فلم يكن في الباب ما تقوم به الحجة لأن حديث عائشة ضعيف كما عرفت فوجب الرجوع إلى أدلة الكتاب والسنة المشتملة على تفصيل العدد وهي غير مختصة بالحرائر "وعلى المعتدة للوفاة ترك التزين"لحديث أم سلمة في الصحيحين"أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة مسملة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة أيام إلى على زوجها أربعة أشهر وعشرا" وفي الباب عن أم حبيبة وزينب بنت جحش في الصحيحين وغيرهما وفيهما أيضا من حديث أم سلمة "أن امرأة توفي زوجها فخشوا على عينها فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل فقال: لاتكتحل كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها1 أو شر بيتها2 فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة3 فلا حتى تمضي أربعة أشهر وعشرا " وفي الصحيحين من حديث أم عطية قالت: "كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل ولا نطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب4 وقد   1 الأحلاس جمع حلس بكسر الحاء وإسكان اللام وهو الثوب الرقيق. 2 هو أضعف موضع فيه كالامكنة المظلمة ونحوها. 3 كذا كانت عادتهن في الجاهلية تمكث المتوفى عنها سنة ثم ببعرة إذا مر عليها كلب موبه تخرج من أحدادها. 4 بفتح العين واسكان الصاد والعين المهملتين قال: "العصب برود يمنية يعصب عزلها أي يجمع ويشد ثم يصبغ وينسج فيأتي موشيا لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كست أظفار"وفي الباب أحاديث وقد روي ما يعارض هذه الأحاديث فأخرج أحمد وابن حبان وصححه من حديث أسماء بنت عميس قالت: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم لليوم الثالث من قتل جعفر بن أبي طالب قال: لا تحدي بعد يومك هذا" وهي كانت امرأته بالاتفاق وقد أجيب بأنه حديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة وقد وقع الإجماع على خلافه وقيل إنه منسوخ وقد أعله البيهقي بالانقطاع وهذه الأحاديث المؤقتة في الإحداد بأربعة أشهر وعشر هي في غير الحامل وأما هي فعليها ذلك حتى تنقضي عدتها بالوضع ثم الإحداد إنما يكون للموت لا لغيره لأنه التظهر بما يدل على الحزن والكآبة لمفارقة الزوج بالموت لا لمطلق المفارقة بالطلاق وغيره لأنه لم يرد فيه شئ ولا فعلته النساء في أيام النبوة والخلفاء الراشدين فمن ادعى وجوبه على غير المميتة فنحن نطالبه بالدليل "والمكث في البيت الذي كانت فيه عند موت زوجها أبو بلوغ خبره"لحديث فريعة بنت مالك عند أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم قالت: "خرج زوجي في طلب أعلاج1 له فأدركهم في طريق القدوم2 فقتلوه فأتى نعيه وأنا في دار شاسعة من دور أهلي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة عن أهلي من دور أهلي ولم يدع نفقة ولا مالا ورثته وليس المسكن له فلو تحولت إلى أهلي وإخوتي لكان أرفق بي في بعض شأني قال: تحولي فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني أو أمر بي فدعيت فقال امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا"وفي بعض ألفاظه أنه أرسل إليها عثمان بعد ذلك فأخبرته فأخذ به وقد أعل هذا الحديث بما لا يقدح في الاحتجاج به وأخرج النسائي وأبو داود وعزاه المنذري إلى البخاري عن ابن عباس "في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} نسخ ذلك بآية الميراث بما فرض الله تعالى لها من الربع والثمن ونسخ أجل الحول أن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا"   1 الأعلاج العبيد 2 بفتح القاف وتخفيف الدال جبل بالحجاز قرب المدينة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وقد ذهب إلى العمل بحديث فريعة جماعة من الصحابة فمن بعدهم وقد روي جواز الخروج للعذر عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم ولم يأت من أجاز ذلك بحجة تصلح لمعارضة حديث فريعة وغاية ما هناك روايات عن بعض الصحابة وليست بحجة ولا سيما إذا عارضت الموفوع وأخرج الشافعي وعبد الرزاق عن مجاهد مرسلا "أن رجالا استشهدوا بأحد فقال نساؤهم: يارسول الله إنا نستوحش في بيوتنا أفنبيت عند إحدانا فأذن لهن أن يتحدثن عند إحداهن فإذا كان وقت النوم تأوي كل واحدة إلى بيتها"وهذا مع إرساله لا تقوم به الحجة وأما أن لا تعتد بما مضى من الأيام قبل العلم وبعد الطلاق أو نحوه فلا وجه له لأن مشروعية العدة لم يشترطها الشارع بعلم المعتدة إنما ضرب للعدة مقادير كما في القرآن فإذا مضت تلك المقادير من يوم الطلاق أو الموت انقضت العدة ومن زعم أنه لا يحتسب بجميع العدة أو ببعضها قبل العلم فعليه الدليل لأنه يدعي إما فقد شرط أو وجود مانع وكلاهما خلاف الأصل ثم الفرق بين بعض المعتدات دون بعض في اعتبار العلم وعدمه كما وقع في كتب الفروع لا مستند له إلا خيالات مختلة "فصل"يجب استبراء الأمَة المسْبِيّة والمُشتراة ونحوهما بحيضه إن كانت حائضا والحامل بوضع الحمل لما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه من حديث أبي سعيد "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: في سبايا أوطاس لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض حيضة" ولما أخرجه مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن يلعن الرجل الذي أراد وطء امرأة حامل من السبي لعنة تدخل معه قبره"وأخرج الترمذي من حديث العرباض بن سارية "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن"وأخرج ابن أبي شيبة من حديث علي قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ حامل حتى تضع ولا توطأ حائل حتى تستبرأ بحيضة"وفي إسناده ضعف وانقطاع وأخرج أحمد والطبراني قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقعن رجل على امرأة وحملها لغيره" وفي إسناده بقية والحجاج بن أرطاة وهما مدلسان وهو يشمل المسبية وغيرها كالمشتراة والموهوبة وكذلك حديث رويفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره" أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وابن أبي شيبة والدارمي والطبراني والبيهقي والضياء المقدسي وابن حبان وصححه والبزار وحسنه وهو كما يتناول الحامل المشتراة ونحوها كذلك يتناول من يجوز حملها من الغير كائنا من كان لأن العلة كونه يسقي بمائه ولد غيره وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن بيع المغانم حتى تقسم وقال: لا تسق ماءك زرع غيرك" وأصله في النسائي وأخرج البخاري عن ابن عمر إذا وهبت الوليدة التي توطأ أو بيعت أو أعتقت فلتستبرأ بحيضة ولا تستبرأ العذراء ويدل على استيراء المشتراة التي هي حامل أو مجوز حملها الأدلة الواردة في المسبية لأن العلة واحدة وأما العذراء والصغيرة فليستا ممن تصدق عليه تلك العلة وإن كان حمل العذراء البالغة ممكنا مع بقاء البكارة ولكنه في غاية الندرة فلا اعتبار به وأما ما أخرجه البخاري وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى اليمن ليقبض الخمس فاصطفى علي منه سبية فأصبح وقد اغتسل ثم بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره"بل قال في بعض الروايات "لنصيب علي أفضل من وصيفة" فيحمل على أنها كانت صغيرة أو بكرا جمعا بين الأدلة أو أنه قد كان مضى لها من وقت الصبا ما تبين به أنها غير حامل ومنقطعة الحيض تستبرأ حتى يتبين عدم حملها لأنه لا يمكن العلم بعدم الحمل إلا بذلك إذا لا حيض بل المفروض أنه منقطع لعارض أو أنها ضهيأ1 وأما من قد بلغت سن الإياس من الحيض فقد صار حملها مأيوسا كحيضها ولا اعتبار بالنادر "ولا تستبرأ بكر ولا صغيرة ولا يلزم"الاستبراء "على البائع ونحوه"لعدم الدليل على ذلك لا بنص ولا بقياس صحيح بل هو محض رأي   1 في القاموس والضهيأ كعسجد المرأة لا تحيض والتي لا لبن لها ولا ثدي كالضهيأ اهـ بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 " باب النفقة " "تجب على الزوج للزوجة"لا أعرف في ذلك خلافا وقد أوجبها القرآن الكريم قال الله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} وقد قرر دلالة هذه الآية على المطلوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 الموزعي في تفسيره والحديث إذنه صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف وهو في الصحيحين وغيرهما ولقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن حق الزوجة على الزوج "أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت" وهو عند أهل السنن وغيرهم قال في المسوى: تجب نفقة الزوجة على الزوج موسرا كان أو معسرا قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} وقال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وقال تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} قلت: قال الشافعي: أي لا يكثر من تعولون وفيه دليل على أن على الرجل نفقة امرأته وقد أنكر على الشافعي بعض أهل العربية هذا التفسير فأجاب البغوي بأن الكسائي قال: يقال عال الرجل يعول إذا كثر عياله واللغة الجيدة أعال وأجاب الزمخشري بأنه بيان حاصل المعنى وجهه أن يجعل من قولك عال الرجل عياله يعولهم كقولهم مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم ومن كثر عياله لزمه أن يعولهم وهذا مما اتفق عليه أهل العلم وقال ابن القيم: في حديث هند المتقدم تضمنت هذه الفتوى أمورا أحدها أن نفقة الزوجة غير مقدرة بل المعروف لنفي تقديرها وإن لم يكن تقديرها معروفا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم الثاني أن نفقة الزوجة من جنس نفقة الوالد كلاهما بالمعروف الثالث انفراد الأب بنفقة أولاده الرابع أن الزوج والأب إذا لم يبذل النفقة الواجبة عليه فللزوجة والأولاد أن يأخذوا قدر كفايتهم بالمعروف الخامس أن المرأة إذا قدرت على أخذ كفايتها من مال زوجها لم يكن لها إلى الفسخ سبيل السادس أن ما لم يقدره الله تعالى ورسوله من الحقوق الواجبة فالمرجع فيه إلى العرف السابع أن من منع الواجب عليه وكان سبب ثبوته ظاهرا فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه كما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم هذا انتهى حاصله. أقول: هذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص فنفقة زمن الخصب المعروف فيها غير المعروف في زمن الجدب ونفقة أهل البوادي المعروف فيها ما هو الغالب عندهم وهو غير المعروف من نفقة أهل المدن وكذلك المعروف من نفقة الأغنياء على اختلاف طبقاتهم غير المعروف من نفقة الفقراء والمعروف من نفقة أهل الرياسات والشرف غير المعروف من نفقة أهل الوضاعات فليس المعروف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 المشار إليه في الحديث هو شئ متحد بل مختلف باختلاف الاعتبار وقد أوضحت المقام في كتابي دليل الطالب فليراجع. وقال الماتن رحمه الله في الفتح الرباني في جواب سؤال في الفرض للزوجة ونحوها ما لفظه قد اختلفت المذاهب في تقديره النفقة بمقدار معين وعدم التقدير فذهب جماعة من أهل العلم وهم الجمهور إلى أنه لا تقدير للنفقة إلا بالكفاية وقد اختلفت الرواية عن الفقهاء فقال: الشافعي على المسكين والمتكسب مد وعلى الموسر مدان وعلى المتوسط مد ونصف وقال أبو حنيفة: على الموسر سبعة دراهم إلى ثمانية في الشهر وعلى المعسر أربعة دراهم إلى خمسة قال بعض أصحابه هذا التقدير في وقت رخص الطعام وأما في غيره فيعتبر بالكفاية انتهى. والحق ما ذهب إليه القائلون بعدم التقدير لاختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص فإنه لا ريب أن بعض الأزمنة قد يكون أدعى للطعام من بعض وكذلك الأمكنة فإن بعضها قد يعتاد أهله أن يأكلوا في اليوم مرتين وفي بعضها ثلاثا وفي بعضها أربعا وكذلك الأحوال فإنه حالة الجدب تكون مستدعية لمقدار من الطعام أكثر من المقدار الذي تستدعيه حالة الخصب وكذلك الأشخاص فإن بعضهم قد يأكل الصاع فما فوقه وبعضهم قد يأكل نصف صاع ويعضهم دون ذلك وهذا الاختلاف معلوم بالاستقراء التام ومع العلم بالاختلاف يكون التقدير على طريقة واحدة ظلما وحيفا ثم إنه لم يثبت في هذه الشريعة المطهرة التقدير بمقدار معين قط بل كان صلى الله تعالى عليه وسلم يحيل على الكفاية مقيدا لذلك بالمعروف كما في حديث عائشة عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وأحمد بن حنبل وغيرهم "أن هندا قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" فهذا الحديث الصحيح فيه الإحالة على الكفاية مع التقييد بالمعروف والمراد به الشئ الذي يعرف وهو خلاف الشئ الذي ينكر وليس هذا المعروف الذي أرشد إليه الحديث شيئا معينا ولا المتعارف بين أهل جهة معينة بل هو في كل جهة باعتبار ما هو الغالب على أهلها المتعارف بينهم مثلا أهل صنعاء المتعارف بينهم الآن أنهم ينفقون على أنفسهم وأقاربهم الحنطة والشعير والذرة ويعتادون الإدام سمنا ولحما فلا يحل أن يجعل طعام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 من تجب نفقته من طعام غير الثلاثة الأجناس المتقدمة كالعدس والفول ولا من الشعير والذرة فقط ولا بدون إدام ولا بإدام غير المعتاد كالزيت والتلبينة ونحو ذلك فإن ذلك جميعه وإن كان يصدق عليه لفظ الكفاية لكنه لا يصدق عليه معنى المعروف والعمل بالمطلق وإهمال قيده لا يحل وأما أهل البوادي المتصلة بصنعاء والقريبة منها بمقدار بريد ودونه وفوقه فالمعروف عندهم هو الكفاية من أي طعام كان من غير سمن ولا لحم إلا في أندر الأحوال بل يكتفون تارة بالتلبينة وتارة بما يقوم مقامها فالمتوجه شرعا على من وجبت عليه النفقة أن يدفع إلى من كان في مثل صنعاء ما هو المعروف لديهم مما قدمنا وإلى من كان في البوادي ما قدمنا مما هو المعروف لديهم ويعتبر في كل محل بعرف أهله ولا يحل العدول عنه إلا مع التراضي وكذلك الحاكم يجب عليه مراعاة المعروف بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص مع ملاحظة حال الزوج في اليسار والإعسار لأن الله تعالى يقول: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وإذا تقرر لك أن الحق عدم جواز تقدير الطعام بمقدار معين فكذلك لا يجوز تقدير الإدام بمقدار معين بل المعتبر الكفاية بالمعروف وقد حكى صاحب البحر أنه قد قدر في اليوم أوقيتان دهنا من الموسر ومن المعسر أوقية ومن المتوسط أوقية ونصف وفي شرح الإرشاد أنه يعتبر في الإدام تقدير القاضي باجتهاده عند التنازع فيقدر في المد من الإدام ما يكفيه ويقدر على الموسر ضعف ذلك وعلى المتوسط بينهما ويعتبر في اللحم عادة البلد للموسرين والمتوسطين كغيرهم قال الرافعي: وقد تغلب الفاكهة في أوقاتها فتجب ثم قال: وإنما يجب ما ذكر لزوجته إن لم تواكله حال كونها رشيدة فإن واكلته وهي رشيدة سقطت نفقتها ثم ذكر كلاما طويلا وأقول: المرجع ما هو معروف عند أهل البلد في الإدام جنسا ونوعا وقدرا وكذلك في الفاكهة لا يحل الإخلال بشئ مما يتعارفون به إن قدر من تجب عليه النفقة على ذلك وكذلك ما يعتاد من التوسعة في الأعياد ونحوها ويدخل في ذلك مثل القهوة والسليط. وبالجملة فقد أرشد الشارع إلى ماهو معروف من الكفاية وليس بعد هذا الكلام الجامع المفيد شئ من البيان وأما ما أجاب به عن الحديث بعض من لم يتمرن بعلم الأدلة ولم يتدرب بمسالك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 الاجتهاد من أنه لم يكن منه صلى الله عليه وسلم على طريقة الحكم بل على طريقة الإفتاء فهذه غفلة كبيرة وبعد عن الحقيقة لأنه صلى الله عليه وسلم لا يفتي إلا بما هو حق وشرع وقد تقرر أن السنة أقواله وأفعاله وتقريراته لا مجرد أحكامه فقط التي تكون بعد الخصومة وحضور المتخاصمين ولو كانت السنة ليست إلا الأحكام الكائنة على تلك الصفة لم يبق منها حجة على العباد إلا أقل من عشر معشارها لأن صدور الحكم منه صلى الله عليه وسلم على تلك الصفة إنما وقع في قضايا محصورة كقضية الحضرمي والزبير وعبد بن زمعة والمتلاعنين فإن قلت: ما وجه ما يفعله كثير من القضاة في هذه الأزمنة من تقدير النفقة بقدح من الطعام متنوعا قلت: هو من تقدير الكفاية بالمعروف لأن القدح يكفي غالب الأشخاص شهرا لا سيما في مثل صنعاء فيكون للشخص في كل يوم نصف صاع يأتي المجموع في ثلاثين يوما خمسة عشر صاعا وهي قدح ينقص صاعا فهذا فيه ملاحظة للمعروف باعتبار الغالب ولكن إذا انكشف أنه لا يكفي بأن يكون الشخص أكولا فلا يحل العمل بذلك الغالب لأنه فيه إهمالا لما أرشد إليه صلى الله عليه وسلم وهذا ليس فيه كفاية فالحاصل أنه لا بد من ملاحظة أمرين أحدهما الكفاية والثاني كونها بالمعروف فإذا عُلم مقدار الكفاية كان المرجع في صفاتها إلى المعروف وهو الغالب في البلد وإذا لم يُعلم حال الشخص في مقدار ما يكفيه أو وقع الاختلاف بينه وبين من يجب عليه إنفاقه كان القول قول من يدعي ما هو المتعارف به مثلا: إذا قال من له النفقة لا يكفيه إلى قدحان وقال من عليه النفقة قد كان القول قول من عليه النفقة بكونه مدعيا لما هو الغالب في العادة وإذا تبين حال من له النفقة وجب الرجوع إلى ذلك لما عرفناك من أنه لا يحل الوقوف على مقدار معين على طريق القطع والبت ثم الظاهر من قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" أن ذلك غير متخص بمجرد الطعام والشراب بل يعم جميع ما يُحتاج إليه فيدخل تحته الفضلات التي قد صارت بالاستمرار عليها مألوفة بحيث يحصل التضرر بمفارقتها أو التضجر أو التكدر ويختلف ذلك بالأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال ويدخل فيه الأدوية ونحوها وإليه يشير قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فإن هذا نص في نوع من أنواع النفقات أن الواجب على من عليه النفقة رزق من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 عليه إنفاقه والرزق يشمل ما ذكرناه قال في الانتصار ومذهب الشافعي: لا تجب أجرة الحمام وثمن الأودية وأجرة الطبيب لأن ذلك يراد لحفظ البدن كما لا يجب على المستأجرة أجرة إصلاح ما انهدم من الدار وقال في الغيث: الحجة أن الدواء لحفظ الروح فأشبه النفقة انتهى قلت: هو الحق لدخوله تحت عموم قوله "ما يكفيك" وتحت قوله رزقهن فإن الصيغة الأولى عامة باعتبار لفظ ما والثانية عامة لأنها مصدر مضاف وهي من صيغ العموم واختصاصه ببعض المستحقين للنفقة لا يمنع من الإلحاق وبمجموع ما ذكرناه يتقرر لك أن الواجب على من عليه النفقة لمن له النفقة هو ما يكفيه بالمعروف وليس المراد تفويض أمر ذلك إلى من له النفقة وأنه يأخذ ذلك بنفسه حتى يرد ما أورده السائل من خشية السرف في بعض الأحوال بل المراد تسليم ما يكفي على وجه لا سرف فيه بعد تبين مقدار ما يكفي بإخبار المخبرين أو تجريب كما سبق وهو معنى قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "بالمعروف" أي لا بغير المعروف وهو السرف والتقتير نعم إذا كان الرجل لا يسلم ما يجب عليه من النفقة جاز لنا الإذن لمن له النفقة بأن يأخذ ما يكفيه إذا كان من أهل الرشد لا إذا كان من أهل السرف والتبذير فإنه لا يجوز لنا تمكينه من مال من عليه النفقة لأن الله تعالى يقول: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} بل ورد ما يدل على عدم جواز دفع أموال من لا رشد لهم إليهم كما في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فجعل الرشد شرطا لدفع أموالهم فكيف يجوز دفع أموال غيرهم إليهم مع عدم الرشد ولكن يجب علينا إذا كان من عليه النفقة متمردا ومن له النفقة ليس بذي رشد أن نجعل الأخذ إلى ولي من لا رشد له أو إلى رجل عدل وأما ما ورد في بعض التفاسير من أن المراد بالسفهاء في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} تمكين المرأة من مال الرجل كما ذكره السائل فذلك إنما هو باعتبار أن غالب نوع النساء خال عن الرشد وإلا فلا شك أن عدم الرشد يوجد في غيرهن كالصبيان والمجانين ومن يلتحق بهم من البله والمعتوهين وكثير ممن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ولا نشك أيضا أن في النساء من لها من الرشد والكمال ما لا يوجد إلا في أفراد الرجال ومنهن هند بنت عتبة المذكورة في الحديث فإنها كانت من سروات نساء قريش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 المشهورات بحسن العقل وكمال الفطنة كما يعرف ذلك من عرف أخبارها ومحاورتها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عند مبايعته لها فالحاصل أنه لا ملازمة بين القول بوجوب الكفاية في النفقة وبين حضور السرف بل الأمر كما قدمنا والله أعلم "والمطلقة رجعيا"لحديث فاطمة بنت قيس أنه قال لها صلى الله عليه وسلم "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة" أخرجه أحمد والنسائي وفي لفظ لأحمد "فإذا لم يكن عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى" وفي إسناده مجالد بن سعيد وقد توبع وأعل بالوقف ولكن الرفع زيادة مقبولة إذا صح مخرجها أو حسن وقد أثبت لها القرآن الكريم السكنى قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} ويستفاد من النهي عن الإخراج وجوب النفقة مع السكنى ويؤيده قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} ويدل على وجوب النفقة قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وقوله تعالى في آخر الآية الأولى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} وهو الرجعة فكان ذلك في الرجعية لابائنا فالبائنة لا نفقة لها ولا سكنى لحديث فاطمة بنت قيس عند مسلم وغيره عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في المطلقة ثلاثا "لا نفقة ولا سكنى"وفي الصحيحين وغيرهما عنها "أنها قالت طلقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لا نفقة ولا سكنى"وقد صح حديثها فلا نزاع وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أنه قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا" وقد أنكر عليها عمر وعائشة هذا الحديث وقال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت وقد قالت فاطمة: حين بلغها ذلك بيني وبينكم كتاب الله قال الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} حتى قال: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} فأي أمر يحدث بعد الثلاث وقد ذهب إلى عدم وجوب النفقة والسكنى للبائنة أحمد واسحق وأبو ثور وداود وأتباعهم وحكاه في البحر عن ابن عباس والحسن البصري وعطاء والشعبي وابن أبي ليلى والأوزاعي والإمامية وذهب الجمهور إلى أنه لا نفقة لها ولها السكنى لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وقد تقدم ما يدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 على أنها في الرجعية وذهب عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز والثوري وأهل الكوفة إلى وجوب النفقة والسكني "ولا في عدة الوفاة فلا نفقة ولا سكنى إلا أن تكونا حاملتين"لعدم وجود دليل يدل على ذلك في غير الحامل ولا سيما بعد قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة فإذا لم يكن عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى" ويؤيده أيضا تعليل الآية المتقدمة بقوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} وهو الرجعة ولم يبق في عدة الوفاة ذلك الأمر ويفيده أيضا مفهوم الشرط في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وهي أيضا تدل على وجوب النفقة للحامل سواء كانت في عدة الرجعي أو البائن أو الوفاة وكذلك يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا" وقد روى البيهقي عن جابر يرفعه"في الحامل المتوفى عنها قال لا نفقة لها" قال ابن حجر ورجاله ثقات لكنه قال المحفوظ وقفه فلو صح رفعه لكان نصا في محل النزاع وينبغي أن يقيد عدم وجوب السكنى لمن في عدة الوفاة بما تقدم في وجوب اعتدادها في البيت الذي بلغها موت زوجها وهي فيه فإن ذلك يفيد أنها إذا كانت في بيت الزوج بقيت فيه حتى تنقضي العدة ويكون ذلك جمعا بين الأدلة من باب تقييد المطلق أو تخصيص العام فلا إشكال قال في المسوى: اختلف أهل العلم في السكنى للمعتدة عن الوفاة فقال أبو حنيفة لا سكنى لها بل تعتد حيث شاءت وقال مالك لها السكنى وللشافعي قولان كالمذهبين ومنشأ ذلك تردده في تأويل حديث فريعة فرأى مرة أن إذنه لها في الخروج حكم وقوله "امكثي في بيتك" أقول: يحتمل أن يكون إذنه لها من حيث إنها ذكرت أن زوجها لم يتركها في مسكن يملكه انتهى. أقول: الحق أن المتوفى عنها زوجها لا تستحق في عدة الوفاة لا نفقة ولا سكنى سواء كانت حاملا أو حائلا لزوال سبب النفقة بالموت واختصاص آية السكنى بالمطلقة رجعيا واختصاص آية إنفاق الحامل بالمطلقة كما تقدم فإذا مات وهي في بيته اعتدت فيه لا لأن لها السكنى بل لوجوب الاعتداد عليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 في البيت الذي مات وهي فيه مع أن في حديث الفريعة أنها قالت للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إن زوجها لم يتركها في منزل يملكه فأمرها أن تعتمد في ذلك المنزل الذي بلغها نعي زوجها وهي فيه وهو غير مملوك له وبهذا يتضح أن ذلك لا يستلزم وجوب السكنى من تركة الميت بل هو أمر تعبد الله به المرأة فإن كان المنزل ملكها فذاك وإن كان ملك غيرها وجب عليها تسليم الأجرة مع الطلب سواء كان ملكا لورثة الزوج أو لغيرهم وعلى هذا يحمل قوله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} وقوله {وَلا يَخْرُجْنَ} وقوله {لا تُخْرِجُوهُنَّ} فتقرر بمجموع ما ذكر أن المتوفى عنها مطلقا كالمطلقة بائنا إذا لم تكن المطلقة بائنا حاملا في عدم وجوب النفقة والسكنى فإن كانت المطلقة بائنا حاملا فلها النفقة ولا سكنى لها وأما المطلقة الرجعية فلها النفقة والسكنى سواء كانت حاملا أو حائلا وأما المطلقة قبل الدخول فلا عدة عليها فالنفقة ساطقة بلا ريب وكذلك السكنى والمتعة المذكورة لها في القرآن هي عوض عن المهر والملاعنة لا نفقة لها ولا سكنى لأنها إن كانت المطلقة بائنا كانت مثلها في ذلك وإن كانت المتوفى عنها زوجها فكذلك ولا ريب أن فرقتها أشد من فرقة المطلقة بائنا لأن هذه يجوز نكاحها في حال من الأحوال بخلاف تلك "وتجب على الوالد الموسر لولده المعسر والعكس"لحديث هند بنت عتبة المتقدم ويؤيده ما تقدم في الفطرة من وجوبها على الرجل ومن يمون وأما العكس فلأن النفقة هي أقل ما يفيده قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "أنت ومالك لأبيك" أخرجه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن الجارود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديث "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه فكلوا من أموالهم" أخرجه أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم ويؤيد ذلك حديث "من أبر يارسول الله قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أباك "وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال في المسوى: تجب على الابن نفقة الأبوين إذا كان موسرا وهما معسران قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وقال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} ومن المعلوم أنه ليس من الإحسان ولا من المصاحبة بالمعروف أن يموتا جوعا والولد في أرغد عيش قلت: على هذا أهل العلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 إلا أن الشافعي قال: إن كان واحد منهما قويا سويا يمكنه تحصيل قوته لا تجب نفقته وإن كان معسرا وأوجب سائر الفقهاء نفقتهم عند الإعسار ولم يشترطوا الزمانة وفي إعلام الموقعين وسأله صلى الله عليه وسلم من أحق الناس بحسن صحابتي قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال ثم أبوك متفق عليه قال الإمام أحمد الطاعة للأب وللأم ثلاثة أرباع البر "وعلى السيد لمن يملكه لحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق" وحديث "فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي ذر قلت: وذلك أنه مشغول بخدمته عن الاكتساب فوجب أن يكون كفاية عليه وعليه أهل العلم "ولا تجب على القريب لقريبه إلا من باب صلة الرحم"لعدم ورود دليل بخص ذلك بل جاءت أحاديث صلة الرحم وهي عامة والرحم المحتاج إلى نفقة أحق الأرحام بالصلة وقد قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وعند أبي داود "أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم من أبر؟ قال: أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذلك حق واجب ورحم موصولة "أقول: ومن جملة ما يدل على نفقة الأقارب قوله تعالي: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى} وقوله تعالي: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} فقد أمر الله سبحانه بالإحسان إلى القرابة وإيتائه حقه ولا ريب أن من كان يتقلب في النعم وقريبه قد أضر به الجوع أو العرى فهو غير محسن إليه ولا قائم بحقه ومن جملة الأدلة القرآنية قوله تعالي: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فإن جمهور السلف فسروها بأن على الرجل الذي يرث أن ينفق على الموروث مثل ما ينفق المولود له على والدة الولد كما في أول الآية ومن الأدلة على ذلك ما تقدم في رواية أبي داود وهو في الصحيحين أيضا وأخرجه النسائي بنحوه وزاد "ثم أدناك أدناك" وفيه "وابدأ بمن تعول" وفي الصحيحين أيضا بلفظ "من أحق الناس بحسن صحابتي يارسول الله قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أبوك ثم أدناك أدناك" وأخرجه الترمذي وقال "ثم الأقرب فالأقرب" وفي المسألة مذاهب مختلفة قد بسطها صاحب الهدي وغيره. وأما ماقيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 من أن المراد بمثل هذه الأدلة صلة الرحم فقد أجيب عن ذلك بأن الله سبحانه سماه حقا على أنه لو سُلم لم يكن قادحا في الاستدلال فإن من ترك قريبه بغير نفقة ولا كسوة مع حاجته إليهما لم يكن واصلا لرحمه لا لغة ولا عرفا ولا شرعا ومن أنكر هذا فليخبرنا ما هي الصلة التي تختص بها الرحم لأجل كونه رحما ويمتاز بها عن الأجنبي فإنه لا يمكنه أن يعين مسقطا للنفقة إلا وكان أولى بإسقاط ما عداها فالحاصل أن من وجب ما يكفيه وكان له زيادة يستغني عنها وجب عليه أن ينفقها على المحاويج من قرابته ويقدم الأقرب فالأقرب كما دلت عليه الأدلة السالفة وهذا هو معنى الغنى أي الاستغناء عن فضلة تفضل على الكفاية لا ما ذكره الفقهاء من تلك التقديرات التي لا ترجع إلى دليل عقل ولا نقل "ومن وجبت نفقته وجبت كسوته وسكناه"لما يستفاد من الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 "باب الرّضاع" "إنما يثبت حُكمه بخمس رضعات"لحديث عائشة عند مسلم وغيره "أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نُسخ بخمس رضعات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يُقرأ من القرآن"وللحديث طرق ثابتة في الصحيح ولا يخالفه حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحرم المصة ولا المصتان"أخرجه أحمد ومسلم وأهل السنن وكذلك حديث أم الفضل عند مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان والمصة والمصتان "وفي لفظ "لا تحرم الإ ملاجة1 ولا الإملاجتان" وأخرج نحوه أحمد والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن الزبير لأن غاية ما في هذه الأحاديث أن المصة والمصتين والرضعة والرضعتين والإملاجة والإملاجتين لا يحرمن وهذا هو معنى الأحاديث منطوقا وهو لا يخالف حديث الخمس الرضعات لأنها تدل على أن ما دون   1هي الرضاعة الواحدة مثل المصة. وفي القاموس "ملج الصبي أمه كنصر وسمع تناول ثيدها بأدني فمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 الخمس لا يحرم. وأما معنى هذه الأحاديث مفهوما وهو أنه يحرم ما زاد على الرضعة والرضعتين فمدفوع بحديث الخمس وهي مشتملة على زيادة فوجب قبولها والعمل بها ولا سيما عند القول من يقول: إن بناء الفعل على المنكر يفيد التخصيص والرضعة هي أن يأخذ الصبي الثدي فيمتص منه ثم يستمر على ذلك حتى يتركه باختياره لغير عارض وقد ذهب إلى اعتبار الخمس ابن مسعود وعائشة وعبد الله بن الزبير وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير والليث بن سعد والشافعي وأحمد واسحق وابن حزم وجماعة من أهل العلم وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب وذهب الجمهور إلى أن الرضاع الواصل إلى الجوف يتقضي التحريم وإن قل قال في المسوى: ذهب الشافعي إلى أنه لا يثبت حكم الرضاع بأقل من خمس رضعات متفرقات وذهب أكثر الفقهاء منهم مالك وأبو حنيفة إلى أن قليل الرضاع وكثيره محرم وقال بعضهم: لا يحرم أقل من ثلاث رضعات لقوله صلى الله عليه وسلم "لا تحرم المصة ولا المصتان" ويحكى عن بعضهم أن التحريم لا يقع بأقل من عشر رضعات وهو قول شاذ والظاهر أن عائشة وحفصة إنما كانتا تذهبان إلى عشر رضعات تورعا وتشفيا للخاطر لا من جهة حكم الشرع كما ذكرنا في لبن الفحل قال البغوي: قوله عائشة "فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ في القرآن "أرادت به قرب عهد النسخ من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعض من لم يبلغه النسخ يقرأ على الرسم الأول لأن النسخ لا يتصور بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجوز بقاء الحكم مع نسخ التلاوة كالرجم في الزنا حكمه باق مع ارتفاع التلاوة في القرآن أو أن الحكم يثبت بأخبار الآحاد ويجب العمل به والقرآن لا يثبت بأخبار الآحاد فلم يجز كتبه بين الدفتين انتهى وتمامه في كتابنا أفاد الشيوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ فليرجع إليه.أقول: اعلم أن الأحاديث قد اختلفت في هذه المسألة اختلافا كثيرا وكذلك اختلفت المذاهب ونحن نعرفك بما هو الحق الذي يجتمع فيه جميع الأدلة فنقول: أما ما ورد من الرضاع مطلقا من دون تقييد بعدد فالأحاديث الواردة بذكر العدد تفيد تقييده كما هو شأن المطلق والمقيد: وقد أفاد حديث "لا تحرم المصة والمصتان والإملاجة والإملاجتان " وحديث "لا تحرم الرضعة الواحدة" أن الرضعة والرضعتين لا تحرمان فلو لم يرد إلا هذا لكانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 الثلاث مقتضية للتحريم ولكنه ثبت في الصحيح عن عائشة أنها قالت: "عشر رضعات معلومات يحرمن"ثم قالت: "خمس رضعات معلومات يحرمن"وصرحت بأن العشر منسوخة بالخمس وصرحت أيضا بأنه "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن"وليس من شرط القرآن تواتر النقل على ما هو الحق ولو سلم ذلك فالقراءة الآحادية منزّلة منزلة أخبار الآحاد ولكن ههنا إشكال وهو أن حديث "لا تحرم المصة والمصتان" دل بمفهوم العدد على أن الثلاث والأربع يثبت بهما التحريم وحديث الخمس دل بمفهومه على أنهما لا يحرمان وأقول: قد تقرر في علم المعاني والبيان أن الإخبار بالفعل المضارع يفيد الحصر وصرح بذلك الزمخشري في الكشاف ولا سيما إذا بني الفعل على المنكر كما هو مقرر في مواطنه فيكون قد انضم إلى مفهوم العدد في الخمس مفهوم الحصر فلا يثبت التحريم بدونها ويؤيد ذلك ما ورد في بعض ألفاظ حديث سهلة بنت سهيل "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أرضعي سالما خمس رضعات تحرمي عليه" وهذا التركيب في قوة إن ترضعيه خمسا تحرمي عليه فانضم إلى مفهومي العدد والحصر مفهوم الشرط وكما تصلح هذه الأدلة لتقييد مطلق القرآن تصلح أيضا لتقييد حديث "الرضاع ما أنبث اللحم وأنشر العظم" وحديث "الرضاعة من المجاعة" على فرضه أن الرضعة والرضعتين تنبت اللحم فيكون المراد أن المقتضي للتحريم من الرضاع الذي ينبت اللحم والذي في زمن المجاعة هو ما كان على صفة مخصوصة وهي خمس رضعات هذا تقرير الاستدلال على وجه تجتمع فيه الأدلة وأما الجواب عن الوجوه التي ذكروها في دفع ما ذكرناه من الأدلة فقد بسطه الماتن رحمه الله في وبل الغمام حاشية شفاء الأوام فمن شاء الاطلاع على ذلك فليراجعه "مع تيقن وجود اللبن"لأنه سبب ثبوت حكم الرضاع فلو لم يكن وجوده معلوما وارتضاع الصبي منه معلوما لم يكن لإ ثبات حكم الرضاع وجه مسوغ. قال في الحجة البالغة: يعتبر في الإرضاع شيئان: أحدهما القدر الذي يتحقق به هذا المعنى فكان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات والثاني أن يكون الرضاع في أول قيام الهيكل وتشبّح صورة الولد وإلا فهو غذاء بمنزلة سائر الأغذية الكائنة بعد التشبّح وقيام الهيكل كالشاب يأكل الخبز انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 "وكون الرضيع قبل الفطام"لحديث أم سلمة عند الترمذي وصححه والحاكم وصححه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:"لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام" وأخرج سعيد بن منصور والدارقطني والبيهقي وابن عدي من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لارضاع إلا ما كان في الحولين" وقد صحح البيهقي وقفه ورجحه ابن عدي وابن كثير وأخرج أبو داود الطيالسي من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام" وقد قال المنذري إنه لا يثبت وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت: "لما دخل علي رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وعندي رجل فقال: من هذا قلت: أخي من الرضاعة قال: يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة" "ويحرم به ما يحرم بالنسب"قد تقدم الاستدلال عليه فيمن يحرم نكاحه من كتاب النكاح من أم وأخت وغيرهما"ويقبل قول المرضعة"لما أخرجه البخاري وغيره من حديث عقبة بن الحرث "أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عني: قال: فتنحيت فذكرت ذلك له فقال: وكيف وقد زعمت أنها أرضعتكما فنهاه"وفي لفظ "دعها عنك" وهو في الصحيح وفي لفظ آخر "كيف وقد قيل ففارقها عقبة" وقد ذهب إلى ذلك عثمان وابن عباس والزهري والحسن واسحق والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وروي عن مالك وأما دفع الحجة بأنها شهدت على تقرير فعلها فهذه قاعدة فقهية لم يرد بها كتاب الله ولا سنة رسوله وهذا الحديث أول حجة يبطلها فكيف يكون الأمر بالعكس وحسبنا الله ونعم الوكيل "ويجوز إرضاع الكبير ولو كان ذا لحية لتجويز النظر"لحديث زينب بنت أم سلمة قال: "قالت أم سلمة لعائشة: إنه يدخل عليك هذا الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي فقالت عائشة: مالك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة وقالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يارسول الله إن سالما يدخل علي وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضعيه حتى يدخل عليك" أخرجه مسلم وغيره وقد أخرج نحوه البخاري من حديث عائشة أيضا وقد روى هذا الحديث من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 الصحابة أمهات المؤمنين وسهلة بنت سهيل وزينب بنت أم سلمة ورواه من التابعين جماعة كثيرة ثم رواه عنهم الجمع الجم وقد ذهب إلى ذلك علي وعائشة وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وابن علية وداود الظاهري وابن حزم وهو الحق وذهب الجمهور إلى خلاف ذلك قال ابن القيم: أخذ طائفة من السلف بهذه الفتوى منهم عائشة ولم يأخذ به أكثر أهل العلم وقدموا عليها أحاديث توقيت الرضاع المحرم بما قبل الفطام وبالصغر وبالحولين لوجوه: أحدها: كثرتها وإنفراد حديث سالم والثاني: أن جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة في شق المنع الثالث: أنه أحوط الرابع: أن رضاع الكبير لا ينبت لحما ولا ينشر عظما فلا يحصل به البعضية التي هي سبب التحريم الخامس: أنه يحتمل أن هذا كان مختصا بسالم وحده ولهذا لم يجيء ذلك إلا في قصته السادس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة وعندها رجل قاعد فاشتد عليه وغضب فقال: إنه أخي من الرضاعة فقال: انظرن من إخوانكن من الرضاعة فإنما الرضاعة من المجاعة" متفق عليه واللفظ لمسلم وفي قصة سالم مسلك وهو أن هذا كان موضع حاجة فإن سالما كان قد تبناه أبو حذيفة ورباه ولم يكن لنه منه ومن الدخول على أهله بد فإذا دعت الحاجة إلى مثل ذلك فالقول به مما يسوغ فيه الاجتهاد ولعل هذا المسلك أقوى المسالك وإليه كان شيخنا يجنح والله تعالى أعلم انتهى. أقول: الحاصل أن الحديث المتقدم صحيح وقد رواه الجم الغفير عن الجم الغفير سلفا عن خلف ولم يقدح فيه من رجال هذا الشأن أحد وغاية ما قاله من يخالفه أنه ربما كان منسوخا ويجاب بأنه لو كان منسوخا لوقع الاحتجاج على عائشة بذلك ولم ينقل أنه قال قائل به مع اشتهار الخلاف بين الصحابة وأما الأحاديث الواردة بأنه لا رضاع إلا في الحولين وقبل الفطام فمع كونها فيها مقال لا معارضة بينها وبين رضاع سالم لأنها عامة وهذا خاص والخاص مقدم على العام ولكنه يختص بمن عرض له من الحاجة إلى إرضاع الكبير ماعرض لأبي حذيفة وزوجته سهلة فإن سالما لما كان لهما كالابن وكان في البيت الذي هما فيه وفي الاحتجاب مشقة عليهما رخص صلى الله عليه وسلم في الرضاع على تلك الصفة فيكون رخصة لمن كان كذلك وهذا لا محيص عنه قال في المسوى: يجب إحياء المولود بالإرضاع حولين كاملين إلا إذا اجتمع رأي الوالدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 عن تشاور منهما على أن الفطام لا يضره فحينئذ يجوز الفطام قبل الحولين والمرضع يجوز أن تكون الوالدة أو الظئر المسترضعة فإن لم تتيسر المسترضعة أو لم يقدر الوالد على استئجارها تعينت الوالدة فإن أرضعت الوالدة فليس لها إلا النفقة والكسوة بالمعروف مما كان بسبب الزوجية وإن أرضعت الظئر فلها أجرها قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} قلت: الظاهر أن الوالدات تعم المطلقات وغيرها وقيل: تختص بالمطلقات لأن سياق الآية في قصة المطلقات. أقول: وحينئذ يؤخذ حكم غير المطلقات بالأولى وقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} يدل على أن الوالدة ما دامت زوجة أو معتدة لا تستحق الأجر وعليه أبو حنيفة وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} المراد منه وارث الأب وهو الصبي أي مؤن المرضعة من ماله إذا مات الأب قوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} يعني قبل الحولين قوله: {أَنْ تَسْتَرْضِعُوا} أي المراضع أولادكم أي تأخذوا مراضع لأولادكم قوله: {مَا آتَيْتُمْ} أي ما أردتم إيتاءه كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} انتهى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 " باب الحضانة " "الأوْلى بالطفل أمه ما لم تنكح"لحديث عبد الله بن عمرو "أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وحجري له حواء وثديي له سقاء وزعم أبوه أنه ينزعه مني فقال: "أنت أحق به ما لم تنكحي" أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه وقد وقع الإجماع على أن الأم أولى بالطفل من الأب وحكى ابن المنذر الإجماع على أن حقها يبطل بالنكاح وقد روي عن عثمان أنه لا يبطل بالكناح وإليه ذهب الحسن البصري وابن حزم واحتجوا ببقاء ابن أم سلمة في كفالتها بعد أن تزوجت بالنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ويجاب عن ذلك بأن مجرد البقاء مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 عدم المنازع لا يُحتج به لاحتمال أنه لم يبق له قريب غيرها واحتجوا أيضا بما سيأتي في حديث ابنة حمزة فإن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قضى بأن الحق لخالتها وكانت تحت جعفر بن أبي طالب وقد قال: "الخالة بمنزلة الأم" ويجاب عن هذا بأنه لا يدفع النص الوارد في الأم ويمكن أن يقال إن هذا يكون دليلا على ما ذهبت إليه الحنفية من أن النكاح إذا كان لمن هو رحم للصغير فلا يبطل به الحق ويكون حديث ابنة حمزة مقيدا لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "ما لم تنكحي" ثم الخالة أولى بعد الأم ممن عداها لحديث البراء بن عازب في الصحيحين وغيرهما "أن ابنة حمزة اختصم فيها علي وجعفر وزيد فقال علي: أنا أحق بها هي ابنة عمي وقال جعفر: بنت عمي وخالتها تحتي وقال زيد: ابنة أخي فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: الخالة بمنزلة الأم" والمراد بقول زيد ابنة أخي أن حمزة قد كان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهما ووجه الاستدلال بهذا الحديث أنه قد ثبت بالإجماع أن الأم أقدم الحواضن فمقتضى التشبيه أن تكون الخالة أقدم من غيرها من غير فرق بين الأب وغيره وقد قيل إن الأب أقدم منها إجماعا وليس ذلك بصحيح والخلاف معروف والحديث يحج من خالفه قال في المسوى: إذا فارق الرجل امرأته وبينهما ولد صغير فالأم وأم الأم أولى بالحضانة من الأب لرواية مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كانت عند عمر بن الخطاب امرأة من الأنصار فولدت له عاصم بن عمر ثم إنه فارقها فجاء عمر بن الخطاب قباء فوجد ابنه عاصما يلعب بفناء المسجد فأخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة فأدركته جدة الغلام فنازعته إياه حتى أتيا أبا بكر الصديق فقال عمر: ابني وقالت المرأة: ابني فقال: أبو بكر خل بينها وبينه قال: فما راجعه عمر الكلام "ثم الأب"وإن لم يرد بذلك بدليل يخصه لكنه قد استفيد من مثل قوله صلى الله عليه وسلم للأم "أنت أحق به ما لم تنكحي" فإن هذا يدل على ثبوت أصل الحق للأب بعد الأم ومن هو بمنزلتها وهي الخالة وكذلك إثبات التخيير بينه وبين الأم في الكفالة فإنه يفيد إثبات حق له في الجملة وقال في المسوى: روى الشافعي بإسناده عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه"ثم طبق بين الحديث والأثر بأن المولود إذا كان دون سبع سنين فالأم أولى به وإذا بلغ سبع سنين وعقل عقل مثله خُيّر بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 الأبوين سواء كان ذكرا أوأنثى فأيهما اختاره يكون عنده وأخذ هذا النوع من التطبيق من قضاء علي رضي الله تعالى عنه فإنه خيّر صبيا كان ابن سبع سنين أو ثمان سنين بين الأم والعم وقال لأخيه الصغير منه وهذا أيضا لو قد بلغ هذا لخيرته وقال أبو حنيفة: الأم أحق بالغلام حتى يأكل ويلبس وحده وبالجارية حتى تحيض ثم بعد ذلك الأب أحق بهما أقول: الحق أن الحضانة للأم ثم للخالة للدليل الذي قدمنا ولا حضانة للأب ولا لغيره من الرجال والنساء إلا بعد بلوغ الصبي سن التمييز فإن بلغ إليه ثبت تخييره بين الأم والأب وإذا عد ما كان أمره إلى أوليائه إن وجدوا وإلا كان إلى قرابته الذين ليسوا بأولياء ويقدم الأقرب فالأقرب ولكن ليس هذا الدليل اقتضى ذلك بل لأن حضانة الصبي وكفالة أمره لا بد منه والقرابة أولى به من الأجانب بلا ريب وبعض القرابة أولى من بعض فأحقهم به بعد عدم من وردت النصوص بثبوت حضانته هو الأولياء لكون ولاية النظر في مصالحه إليهم ومع عدمهم تكون حضانته إلى الأقرب فالأقرب هذا ما يقتضيه النظر الصحيح ومن رام الوقوف على جميع العلل التي علل بها المختلفون في التقديم والتأخير في باب الحضانة فعليه بالهدي لابن القيم ولكنه لم يترجح لدي إلا ما ذكرته ههنا وذكره الماتن وقد يقال: إن حديث "أنت أحق به ما لم تنكحي" يفيد ثبوت أصل الحق في الحضانة للأب بعد الأم ومن هو بمنزلتها وهي الخالة فتكون أهل الحضانة الأم ثم الخالة ثم الأب "ثم يُعين الحاكم من القرابة من رأى فيه صلاحا"لأنه إذا عدمت الأم والخالة والأب فالصبي محتاج إلى من يحضنه بالضرورة والقرابة أشفق به فيعين الحاكم من يقوم به منهم ممن يرى فيه صلاحا للصبي وقد أخرج عبد الرزاق عن عكرمة قال: إن امرأة عمر بن الخطاب خاصمته إلى أبي بكر في ولد عليها فقال أبو بكر: هي أعطف وألطف وأرحم وأحنى وهي أحق بولدها ما لم تتزوج فهذه الأوصاف تفيد أن أبا بكر جعل العلة العطف واللطف والرحمة والحنو "وبعد بلوغ سن الاستقلال يخير الصبي بين أبيه وأمه"لحديث أبي هريرة عند أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي "أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه "وفي لفظ "أن امرأة جاءت فقالت: يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عتبة وقد نفعني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 عليه قال زوجها: من يحاقني في ولدي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به "أخرجه أهل السنن وابن أبي شيبة وصححه الترمذي وابن حبان وابن القطان وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني من حديث عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن جده "أن جده أسلم وأبت امرأته أن تسلم فجاء بابن صغير له لم يبلغ قال: فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأب ههنا والأم ههنا ثم خيره وقال: "اللهم اهده فذهب إلى أبيه" قال ابن القيم: "الحضانة قضي فيها خمس قضايا: إحداها: قضى بابنة حمزة لخالتها وكانت تحت جعفر بن أبي طالب وقال: "الخالة بمنزلة الأم" فتضمن هذا القضاء أن الخالة قائمة مقام الأم في الاستحقاق وأن تزوجها لا يسقط حضانتها إذا كانت جارية القضية الثانية: أن رجلا جاء بابن له صغير لم يبلغ فاختصم فيه هو وأمه ولم يسلم فأجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم الأب ههنا وأجلس الأم ههنا ثم خير الصبي وقال: اللهم اهده فذهب إلى أمه ذكره أحمد القضية الثالثة: أن رافع بن سنان أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت فطيم أو شبيهه وقال رافع ابنتي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقعد ناحية وقال لها اقعدي ناحية فأقعد الصبية بينهما ثم قال: ادعواها فمالت إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها ذكره أحمد القضية الرابعة: جاءته امرأة فقالت إن زوجي يريد أن يذهب بابني الخ ذكره أبو داود القضية الخامسة: جاءته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت يا رسول الله: إن ابني هذا كان بطني له وعاء الخ ذكره أبو داود فعلى هذه القضايا الخمس تدور الحضانة وبالله التوفيق فإن لم يوجد من له في ذلك حق بنص الشرع أكفله من كان له في كفالته مصلحة لكونه محتاجا إلى ذلك فكانت المصلحة معتبرة في بدنه كما اعتبرت في ماله وقد دلت على ذلك الأدلة الواردة في أموال اليتامى من الكتاب والسنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 كتاب البيع المعتبر فيه مجرد التراضي وحقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله تعالى والمراد ههنا أمارته كالإيجاب والقبول وكالتعاطي عند القائل به وعلى هذا أهل العلم "ولو بإشارة"وينعقد بالكناية "من قادر على النطق"لكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعض أهل العلم من ألفاظ مخصوصة وأنه لا يجوز البيع بغيرها ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو: بعت منك وبعتك فإنا لا ننكر أن البيع يصح بذلك وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها ولم يرد في ذلك شئ وقد قال الله تعالى: {تجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كناية بأي لفظ وقع على أي صفة كان وبأي إشارة مفيدة حصل وقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه" فإذا وجدت طيبة النفس مع التراضي فلا يعتبر غير ذلك أقول: هذا غاية ما يستفاد من الأدلة أعني أن المعتبر في البيع هو مجرد التراضي والمشعر بالرضا لا ينحصر فيما ذكروه من الألفاظ المخصوصة المقيدة بقيود بل ما أشعر بالرضا ولو بكناية أو إشارة أو معاطاة من دون لفظ ولا ما في معناه فإن البيع عند وجود المشعر بمطلق الرضا بيع صحيح وعلى مدعي الاختصاص الدليل ولا ينفعه في المقام مثل حديث "إذا بعت" وحكاية مبايعته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للأعرابي وما أشبه ذلك لأنا لا نمنع من إشعار لفظ بعت ونحوه بالرضا وإنما نمنع دعوى التخصيص ببعض الأفراد التي لا تستفاد إلا من صيغ مخصوصة ومن ههنا يلوح لك أن قولهم لا ربا في المعاطاة باطل وهكذا أخواته والحاصل أنا لم نجد في الكتاب والسنة بعد ذكر مطلق البيع إلا قيد الرضا والأمور المشعرة به أعم من الألفاظ التي اصطلح عليها الفقهاء فيندرج تحت الرضا كل ما دل عليه ولو إشارة من قادر وكتابة من حاضر "ولا يجوز بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام"لحديث جابر في الصحيحين وغيرهما"أنه سمع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 يقول: " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " "والكلب والسنور"لما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي مسعود قال: "نهى رسول الله صلى الله وسلم عن ثمن الكلب"وفيها أيضا من حديث أبي جحيفة نحوه وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور" وأخرج النسائي بإسناد رجاله ثقات قال: "نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد" قال في المسوى اختلفوا في بيع الكلب فقال الشافعي: حرام وقال أبو حنيفة: جائز ويضمن متلفه "والدم"لحديث أبي جحيفة في الصحيحين قال: "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم حرم ثمن الدم ""وعسب الفحل"وهو ماء الفحل يكريه صاحبه لينزي به لما أخرجه البخاري من حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن عسب الفحل"ومثله في صحيحي مسلم من حديث جابر وفي الباب أحاديث ورخص في الكرامة وهي ما يعطى على عسب الفحل من غير شرط شئ عليه كذا في الحجة البالغة "وكل حرام"لما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر "قيل يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال: لا هو حرام ثم قال: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه1 ثم باعوه وأكلوا ثمنه" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله إذا حرم على قوم أكل شئ حرم عليهم ثمنه" قال ابن القيم في الإعلام: وفي قوله حرام قولان أحدهما: أن هذه الأفعال حرام والثاني: أن البيع حرام وإن كان المشتري يشتريه لذلك والقولان مبنيان على أن السؤال هل وقع عن البيع لهذا الإنتفاع المذكور؟ أوعن الانتفاع المذكور؟ والأول اختاره شيخنا وهو الأظهر لأنه لم يخبرهم أولا عن تحريم هذا الانتفاع حتى يذكروا له حاجتهم إليه وإنما أخبرهم عن تحريم البيع فأخبروه أنهم يبتاعونه لهذا الانتفاع فلم يرخص لهم في البيع ولم ينههم عن الانتفاع المذكور ولا تلازم بين جواز البيع وحل المنفعة والله تعالى أعلم انتهى قلت: والأقرب إلى السنة ما ذهب إليه الماتن "وفضل الماء"   1 بفتح الجيم والميم المخففة أي أذابوه والجميل الشحم المذاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 لحديث إياس بن عبد "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء"رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وقال القشيري: هو على شرط الشيخين ولحديث جابر عند مسلم وأحمد وابن ماجه بنحوه وقد ورد مقيدا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ "لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ" وفي لفظ "لا يباع فضل الماء ليمنع به الكلأ" وهو في مسلم وما فيه غرر وهو استتار عاقبة الشئ وتردده بين جهتين ممكنتين كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء لحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر"وأخرج أحمد من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر" وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وقد رجح البيهقي وقفه ولكنه داخل في بيع الغرر قال في المسوى: قال مالك: ومن الغرر والمخاطرة أن يعمد الرجل قد ضلت دابته أو أبق غلامه وثمن شئ من ذلك خمسون دينارا فيقول رجل أنا آخذه منك بعشرين دينارا فإن وجده المبتاع ذهب من البائع ثلاثون دينارا وإن لم يجده ذهب البائع من المبتاع بعشرين دينارا قال مالك وفي ذلك أيضا عيب آخر أن تلك الضالة إن وجدت لم يدر زادت أم نقصت أم ما حدث بها من العيوب وهذا أعظم المخاطرة قال مالك: والأمر عندنا أن من المخاطرة والغرر اشتراء ما في بطون الإناث من النساء والدواب لأنه لا يدري أيخرج أم لا يخرج فإن خرج لم يدر أيكون حسنا أم قبيحا أم تاما أم ناقصا أم ذكرا أم أنثى وذلك كله يتفاضل إن كان على كذا فقيمته كذا وإن كذا فقيمته كذا انتهى "وحبل الحبلة"لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في مسلم وغيره من حديث ابن عمرو "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة" أخرجه مالك وفي الصحيحين "كان أهل الجاهلية يبتاعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة وحبلة الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت فنهاهم عن ذلك"وقد قيل: إنه بيع ولد الناقة الحامل في الحال وقيل: بيع ولد ولدها كما في الرواية وقد ورد النهي عن شراء ما في بطون الأنعام كما في حديث أبي سعيد عند أحمد وابن ماجه والبزار والدارقطني وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه ضعف وروى مالك عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا ربا في الحيوان وإنما نهي من الحيوان عن ثلاثة عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 المضامين والملاقيح وحبل الحبلة فالمضامين ما في بطون إناث الإبل والملاقيح ما في ظهور الجمال قلت: وعليه أهل العلم قال محمد: هذه البيوع كلها مكروهة ولا ينبغي مباشرتها لأنها غرر عندنا وفي المنهاج نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حبل الحبلة وهو نتاج النتاج بأن يبيع نتاج النتاج أو بثمن إلى نتاج النتاج وعن الملاقيح وهي: ما في البطون والمضامين وهي: ما في أصلاب الفحول "والمنابذة"أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه على غير تأمل ويقول كل واحد منهما هذا بهذا فهذا الذي عنه "والملامسة"أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره ولا يتبين ما فيه أو يبتاعه ليلا ولا يعلم ما فيه لحديث أبي سعيد في الصحيحين قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة في البيع"وأخرج نحوه مالك في الموطإ من حديث أبي هريرة وفسرهما بما تقدم ولفظ الماتن الملامسة لمس ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض كذا في الرواية وفي الباب عن أنس عند البخاري قلت: وعليه أهل العلم قال المحلى: والبطلان فيهما لعدم الرؤية أو عدم الصيغة1 أو الشرط الفاسد أي لا خيار له إذا رآه كذا في المسوى "وما في الضرع والعبد الآبق والمغانم حتى تقسم والثمر حتى يصلح والصوف في الظهر والسمن في اللبن"لحديث أبي سعيد المتقدم في النهي عن شراء ما في بطون الأنعام فإن فيه النهي عن بيع ما في ضروعها وعن شراء العبد الآبق وعن شراء المغانم حتى تقسم وقد ورد النهي عن بيع المغانم حتى تقسم من حديث ابن عباس عند النسائي ومن حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود وقد ورد النهي عن بيع الثمر حتى يُطعم والصوف على الظهر واللبن في الضرع والسمن في اللبن من حديث ابن عباس أيضا عند الدارقطني والبيهقي وفي إسناده عمر بن فروخ وقد وثقه يحيى بن معين وغيره وأحاديث النهي عن بيع الغرر تشد من عضد جميع ما في هذه الروايات لأن الغرر يصدق على جميع هذه الصور وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع"وأخرج نحوه مسلم من   1 قوله أو عدم الصيغة أي بعت واشتريت أهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 حديث أبي هريرة وفي الصحيحين من حديث أنس نحوه قال مالك: الأمر عندنا في بيع البطيخ والقثاء والخربز1 والجزر أن بيعه إذا بدا صلاحه حلال جائز ثم يكون للمشتري ما ينبت حتى ينقطع ثمره ويهلك وليس في ذلك وقت مؤقت وذلك أن وقته معروف وربما دخلته العاهة فقطعت ثمرته قبل أن يأتي ذلك الوقت فإذا دخلته العاهة بجائحة تبلغ الثلث فصاعدا كان ذلك موضوعا عن الذي ابتاعه والمحاقلة بيع الزرع بكيل من الطعام معلوم قال مالك: المحاقلة كراء الأرض بالحنطة وقال في المسوى: المحاقلة بيع الزرع بعد اشتداد الحب نفيا "والمزابنة"بيع ثمر النخل بأوساق من التمر وقال مالك: المزابنة اشتراء الثمر بالتمر في رؤس النخل وقال في المسوى: المزابنة بيع الثمر على الشجر بجنسه على الأرض قال مالك: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة؟ وتفسير المزابنة أن كل شئ من الجزاف الذي لا يُعلم كيله ولا وزنه ولا عدده ابتيع بشئ مسمى من الكيل والوزن والعدد وذلك أن يقول الرجل للرجل يكون له الطعام المصبر الذي لا يعلم كيله من الحنطة والتمر أو ما أشبه ذلك من الأطعمة أو يكون للرجل السلعة من الخبط أو النوى أو القضب أو العصفر أو الكرسف أو الكتان أو القز أو ما أشبه ذلك من السلع لا يعلم كيل شئ من ذلك ولا وزنه ولا عدده فيقول الرجل: لرب تلك السلعة كِل سلعتك هذه أو مر من يكيلها أوزن من ذلك ما يوزن أوعدد منها ما كان يعد فما نقص من كذا وكذا صاعا لتسمية يسميها أو وزن كذا وكذا رطلا أو عدد كذا وكذا فما نقص من ذلك فعلي غرمه حتى أوفيك تلك التسمية فما زاد على تلك التسمية فهو لي أضمن ما نقص من ذلك على أن يكون ما زاد فليس ذلك بيعا ولكنه المخاطرة والغرر والقمار يدخل هذا لأنه لم يشتر منه شيئا بشئ أخرجه ولكن ضمن له ما سمى من ذلك الكيل أو الوزن أو العدد على أن يكون له ما زاد على ذلك فإن نقصت تلك السلعة من تلك التسمية أخذ من مال صاحبه ما نقص بغير ثمن أعطاه إياه وإن زادت تلك السلعة على تلك التسمية أخذ الرجل من مال   1 الخربز – بكسر الخاء والباء وبينهما راء ساكنة – البطيخ وأصل الكلمة فارسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 رب السلعة مالا بغير ثمن ولا هبة طيبة بها نفسه فهذا يشبه القمار وما كان مثل هذا من الأشياء فذلك يدخله قلت: في شرح السنة والعمل على هذا عند عامة أهل العلم والعلة في النهي أن المساواة بينهما شرط وما على الشجر لا يحرز بكيل ولا وزن وإنما يكون تقديره بالخرص وهو حدس وظن لا يؤمن فيه من التفاوت فأما إذا باع بجنس آخر من الثمار على الأرض أو على الشجر يجوز لأن المماثلة بينهما غير شرط والتقابض شرط في المجلس وقبض ما على الأرض بالنقل وقبض ما على الشجر بالتخلية أقول: ومعنى هذا الكلام أن سبب التحريم هو شبه الربا ومعنى قول مالك أن سبب التحريم معنى القمار وكلا الأمرين صحيح انتهى "والمعاومة"بيع ثمر النخلة لأكثر من سنة في عقد واحد والجميع بيع غرر وجهالة والمخاضرة بيع الثمرة خضراء قبل بدو صلاحها دليل ذلك حديث أنس عند البخاري قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والمنابذة والملامسة والمزابنة"وفي الصحيحين من حديث جابر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة"وفي الباب أحاديث "والعربون"هو أن يعطي المشتري البائع درهما أو نحوه قبل البيع على أنه إذا ترك الشراء كان الدرهم للبائع بغير شئ لما أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربون "ولا يعارض هذا ما أخرجه عبد الرزاق في مسنده عن زيد بن أسلم "أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العربان1 في البيع"فأحله لأن في إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف وأيضا الحديث مرسل قال في المسوى: قال مالك: وذلك فيما نرى والله تعالى أعلم أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة أو يتكارى الدابة ثم يقول للذي اشتراه منه أو تكارى منه أعطيتك دينارا أو درهما أو أقل أو أكثر من ذلك على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك من ثمن السلعة أو من كراء الدابة وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك فهو لك بغير شئ قلت: وعليه أهل العلم في المنهاج ولا يصح بيع العربون بأن يشتري ويعطيه دراهم لتكون من الثمن إن رضي السلعة وإلا فهي هبة قال المحلى2 وعدم صحته لاشتماله على شرط الرد   1 العربون والعربان بضم العين فيهما. 2 أي قال ابن حزم في المحلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 والهبة إن لم يرض السلعة انتهى "والعصير إلى من يتخذه خمرا"لحديث " لُعن بائع الخمر وشاربها ومشتريها وعاصرها" أخرجه الترمذي وابن ماجه ورجاله ثقات من حديث أنس وأخرج نحوه أحمد وابن ماجه وأبو داود وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي وقد قيل إنه غير معروف وقيل إنه معروف وهو من أمراء الأندلس وصحح الحديث ابن السكن وأخرج الطبراني في الأوسط عن بريدة مرفوعا "من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة" وإسناده حسن كما قال الحافظ وأخرجه أيضا البيهقي وزاد "أو ممن يعلم أنه يتخذه خمرا" ويؤيده حديث أبي أمامة عند الترمذي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا القينات المغنيات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام" وفي الباب أحاديث وأخرج مالك عن ابن عمر "أن رجالا من أهل العراق قالوا له يا أبا عبد الرحمن: إنا نبتاع من ثمر النخل والعنب فنعصره خمرا فنبيعها فقال عبد الله بن عمر: إني أشهد الله عليكم وملائكته ومن سمع من الجن والأنس أني لا آمر كم أن تبيعوها ولا تبتاعوها ولا تعصروها ولا تسقوها فإنها رجس من عمل الشيطان" قلت: وعليه أهل العلم "والكاليء بالكاليء" أي المعدوم بالمعدوم لحديث ابن عمر عند الدارقطني والحاكم وصححه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكاليء بالكاليء" ولكنه اعترض على الحاكم بأنه وهم في صحيحه لأن في إسناده موسى بن عبيدة وهو ضعيف ولكنه قد رواه الشافعي بلفظ "نهى عن الدَّين بالدَّين" ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن رافع بن خديج "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكاليء بالكاليء دين بدين" وفي إسناده موسى بن عبيدة الزبدي وهو ضعيف وقد قال أحمد فيه لا تحل الرواية عنه عندي ولا أعرف هذا الحديث عن غيره وقال ليس في هذا أيضا حديث يصح ولكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين انتهى يعني روي الإجماع على معنى الحديث فشد ذلك من عضده لأنه صار متلقى بالقبول ويؤيده النهي عن بيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة لأن العلة في ذلك هي كونه بيع معدوم وتقويه أيضا الأحاديث الواردة في اشتراط التقابض كحديث "إذا كان يدا بيد "وهو في الصحيح وحديث "ما لم تتفرقا وبينكما شئ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 "وما اشتراه قبل قبضه"لحديث جابر عند مسلم وغيره قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه" وأخرج مسلم أيضا وغيره قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حتى تستوفى "وأخرج أحمد من حديث حكيم بن حزام "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه" وفي إسناده العلاء بن خالد الواسطي1 وأخرج أبو داود والدارقطني والحاكم وابن حبان وصححاه من حديث زيد بن ثابت "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" وفي الباب أحاديث وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وفي الحجة البالغة: قيل مخصوص بالطعام لأنه أكثر الأموال تعاورا وحاجة ولا ينتفع به إلا بإهلاكه فإذا لم يستوفه فربما تصرف فيه البائع فيكون قضية في قضية وقيل يجري في المنقول لأنه مظنة أن يتغير ويتعيب فتحصل الخصومة في الخصومة وقال ابن عباس: ولا أحسب كل شئ إلا مثله وهو الأقيس بما ذكرنا في العلة انتهى. قال في المسوى: قال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا الذي لا اختلاف فيه أنه من اشترى طعاما برا أو شعيرا أو سلتا أو ذرة أو دخنا أو شيئا من الحبوب القطنية أو شيئا مما يشبه القطنية مما تجب فيه الزكاة أو شيئا من الأدم كلها الزيت والسمن والعسل والخل والجبن واللبن والشبرق وما أشبه ذلك من الأدم فإن المبتاع لا يبيع شيئا من ذلك حتى يقبضه ويستوفيه وفي شرح السنة: اتفق أهل العلم على أن من ابتاع طعاما لا يجوز له بيعه قبل القبض واختلفوا فيما سواه فقال الشافعي ومحمد: لا فرق بين الطعام والسلع والعقار في أن بيع شئ منها لا يجوز قبل القبض قال أبو حنيفة وأبو يوسف: يجوز بيع العقار قبل القبض ولا يجوز بيع المنقول وقال مالك: ما عدا المطعوم يجوز بيعه قبل القبض قلت كان الأمراء يكتبون للناس بأرزاقهم وعطياتهم كتبا وكان الناس يبيعون ما فيها قبل أن يقبضوها ويعطون المشتري الصك ليمضي به ويقبضه فذلك بيع الصكوك انتهى "والطعام حتى يجري فيه الصاعان"لحديث عثمان عند أحمد والبخاري "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إذا ابتعت فاكتل وإذا بعت فكل" وأخرج ابن ماجه والدارقطني والبيهقي من حديث   1 وثقه ابن حبان وكذبه التبوذكي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري "وفي إسناده ابن أبي ليلى وفي الباب عن أبي هريرة بإسناد حسن وعن غيره بأسانيد فيها مقال وقد ذهب إلى ذلك الجمهور "ولا يصح الاستثناء في البيع"مثل أن يبيع عشرة أفراق إلا شيئا لأن فيه جهالة مفضية إلى المنازعة والمفسد هو المفضي إلى المنازعة "إلا إذا كان معلوما"لحديث جابر عند مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثنيا" وزاد النسائي والترمذي وابن حبان وصححاه "إلا أن تعلم "والمراد أن يبيع شيئا ويستثني منه شيئا مجهولا لا إذا كان معلوما فيصح "ومنه"أي من الثنيا المعلومة استثناء جابر ظهر المبيع أي جمله إلى المدينة بعد أن باعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصحيحين وغيرهما من حديثه قال النووي في شرح مسلم الثنيا المبطلة للبيع قوله بعتك هذه الصبرة إلا بعضها أو هذه الأشجار إلا بعضها فلا يصح البيع لأن المستثنى مجهول ولو قال: بعتك هذه الأشجار إلا هذه الشجرة أو إلا ربعها أو الصبرة إلا ثلثها أو بعتك بألف إلا درهما صح البيع باتفاق العلماء ولو باع الصبرة إلا صاعا منها فالبيع باطل عند الشافعي وصحح مالك أن يستثني منها ما لا يزيد على ثلثها وإذا باع ثمرة نخلات واستثنى عشرة آصع للبائع فمذهب الشافعي وأبي حنيفة والعلماء كافة بطلان البيع وقال مالك وجماعة من علماء المدينة: يجوز ذلك ما لم يزيد على قدر ثلث الثمرة "ولا يجوز التفريق بين المحارم"لحديث أبي أيوب قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" أخرجه أحمد والترمذي والدارقطني والحاكم وصححه وحديث علي "أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما وفرقت بينهما فذكرت ذلك له فقال: أدركهما فارتجعهما ولا تبعهما إلا جميعا" أخرجه أحمد وقد صححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وغيرهم وحديث أبي موسى قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرق بين الوالد وولده وبين الأخ وأخيه" أخرجه ابن ماجه والدارقطني ولا بأس بإسناده وحديث علي "أنه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وردّ البيع" أخرجه أبو داود والدارقطني والحاكم وصححه وقد أعل بالانقطاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وفي الباب أحاديث وقد قيل: إنه مجمع على ذلك وفيه نظر. أقول: الاختلاف في هذه المسألة أعني بيع أمهات الأولاد بين الصحابة أشهر من نار على علم وروي عن علي كرم الله وجهه الموافقة لعمر ومن معه في عدم جواز بيعهن ثم صح عنه القول بجواز البيع وقد ذكر الماتن في شرح المنتقى متمسكات الجميع فليرجع إليه والعجب ممن يزعم أن تحريم البيع قطعي وأما المدبر فقد دلت الأدلة الصحيحة على جواز بيعه للحاجة كالدَّين والإعواز عن النفقة ونحوهما "ولا أن يبيع حاصر لباد"لحديث ابن عمر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد "أخرجه البخاري وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" وفي الصحيحين من حديث أنس قال: "نهينا أن يبيع حاضر لباد وإن كان أخاه لأبيه وأمه "قلت: وعليه أهل العلم وفي المنهاج بيع حاضر لباد بأن يقدم غريب بمتاع تعم الحاجة إليه الحاجة إليه ليبيعه بسعر يومه فيقول بلديّ اتركه عندي لأبيعه على التدريج وفي الوقاية: كره بيع الحاضر للبادي طمعا في الثمن الغالي زمان القحط انتهى "والتناجش"وهو الزيادة في ثمن السلعة عن مواطأة لرفع ثمنها وعن ابن عمر عند مالك قال: النجش أن تعطيه في السلعة أكثر من ثمنها وليس في نفسك اشتراء فيقتدي بك غيرك وفي الصحيحين عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد وأن يتناجشوا" وفيهما من حديث ابن عمر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش" وأخرجه مالك أيضا قلت: وعليه أهل العلم في المنهاج ومن المنهي عنه النجش بأن يزيد في الثمن لا لرغبة بل ليخدع غيره فيشتريها وفي الوقاية كره النجش "والبيع على البيع"لحديث ابن عمر عند أحمد والنسائي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يبيع أحدكم على بيع أخيه" وهو في الصحيحين أيضا بنحو ذلك وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا "لا يبيع الرجل على بيع أخيه " وقد ورد " أن من باع من رجلين فهو للأول منهما" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه وصححه أبو زرعة وأبو حاتم والحاكم وفي الموطإ من حديث ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يبع بعضكم على بعض " قلت: وعليه الشافعي وفي المنهاج ومن المنهي عنه البيع على بيع غيره قبل لزومه بأن يأمر المشتري بالفسخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 ليبيعه مثله والشراء على الشراء بأن يأمر البائع بالفسخ ليشتريه بأكثر وفي شرح السنة عند الحنفية المراد بالبيع على بيع أخيه هو السوم لأن عنده خيار المكان لا يثبت بالبيع فلا يتصور بعد التواجب بيع الغير عليه "وتلقي الركبان"بأن يتلقى طائفة يحملون متاعا إلى البلد فيشتريه منهم قبل قدومهم ومعرفتهم بالسعر وله الخيار إذا عرف الغبن كذا في المنهاج لحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُتلقى الجلب فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق "وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود قال "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي البيوع "وفيهما أيضا نحو ذلك من حديث ابن عمر وابن عباس وفي الموطإ من حديث أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: لا تلقوا الركبان للبيع ولا يبع بعضكم على بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ولا تصروا الإبل والغنم "قلت: وعليه أهل العلم "والاحتكار"لحديث ابن عمر عند أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزار وأبي يعلى مرفوعا "من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برىء من الله وبرىء الله منه " وفي إسناده أصبغ بن زيد وفيه مقال وأخرج مسلم وغيره من حديث معمر بن عبد الله مرفوعا "لا يحتكر إلا خاطيء " وأخرج نحوه أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة قلت: وعليه أهل العلم قال النووي في شرح مسلم: قال أصحابنا: الاحتكار المحرم هو الاحتكار في الأقوات خاصة وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء ولا يبيعه في الحال بل يدخره ليغلو ثمنه فأما إذا اشتراه أو جاء من قرية وقت الرخص وادخره أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله أو ابتاعه ليبيعه في الوقت فليس باحتكار ولا تحريم فيه وأما غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال هذا تفصيل مذهبنا وفي الهداية يكره الاحتكار في أقوات الآدمي والبهائم إذا كان ذلك في بلد يضر الاحتكار بأهله ومن احتكر غلة ضيعته أو جلبه من بلد آخر فليس بمحتكر أقول: الحق أن الأحاديث المطلقة في تحريم الاحتكار مقيدة بالطعام فلا يصح ما قيل من تحريم احتكار قوت البهائم والقياس له على قوت الآدمي قياس مع الفارق ولا يكون الاحتكار محرما إذا كان لقصد أن يغلي ذلك على المسلمين كما ورد في حديث أبي هريرة عند أحمد والحاكم فاعتبار هذا القيد لا بد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 منه فمن لم يقصد ذلك لم يحرم عليه الاحتكار وظاهره أن القاصد باحتكاره غلاء الأسعار على المسلمين داخل تحت النهي والوعيد سواء كان بالمسلمين حاجة أم لا لأن هذا القصد بمجرده كاف وأما إجبار المحتكر على البيع فجائز إن لم يكن واجبا لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما واجبان على كل مكلف "والتسعير"لحديث أنس عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجة والدارمي والبزار وأبي يعلى "أن السعر غلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يارسول الله سعر لنا فقال: إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال " وصححه ابن حبان والترمذي وفي الباب أحاديث وفي الهداية ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس فإن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون في القيمة تعديا فاحشا وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير فحينئذ لا بأس به بمشورة من أهل الرأي والبصر انتهى "ويجب وضع الجوائح"الجائحة الآفة التي تهلك الثمار والأموال لحديث جابر "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وضع الجوائح "أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود وأخرجه أيضا مسلم بلفظ "أمر بوضع الجوائح "وفي لفظ لمسلم وغيره "إن كنت بعت من أخيك ثمرا فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك" وفي الباب عن عائشة في الصحيحين وعن أنس فيهما أيضا وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وأبو حنيفة والليث وسائر الكوفيين قلت: وهو عند أبي حنيفة على الاستحباب وعند الشافعي في القديم على الوجوب وفي الجديد على الاستحباب "ولا يحل سلف وبيع"قال مالك: وتفسير ذلك أن يقول الرجل للرجل آخذ سلعتك بكذا وكذا على أن تسلفني كذا وكذا فإن عقدا بيعهما على هذا فهو غير جائز فإن ترك الذي اشترط السلف ما اشترط منه كان ذلك البيع جائزا قلت: وعليه أهل العلم وفي شرح السنة هو أن يقول أبيعك هذا الثوب بعشرة دراهم على أن تقرضني عشرة دراهم والمراد بالسلف هنا القرض فهذا فاسد لأنه جعل العشرة وفي القرض ثمنا للثوب فإذا بطل الشرط سقط بعض الثمن وصار ما يبقى من المبيع بمقابلة الباقي مجهولا قال الماتن: قال مالك: هو أي السلف هنا أن تقرض قرضا ثم تبايعه عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 بيعا يزداد عليه وهو فاسد لأنه إنما تقرضه على أن تحابيه في الثمن وقد يكون السلف بمعنى السلم وذلك مثل: أن تقول أبيعك عبدي هذا بألف على أن تسلفني ماله في كذا وكذا انتهى "ولا شرطان في بيع"لحديث عبد الله بن عمرو "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك " أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وكذلك صححه ابن خزيمة والحاكم والشرطان في بيع أن يقول بعتك هذا بألف إن كان نقدا وبألفين إن كان نسيئة وقيل هو أن يقول بعتك ثوبي بكذا وعلي قصارته وخياطته وفي الحجة البالغة: ومعنى الشرطين أن يشترط حقوق البيع ويشترط أن يشترط حقوق البيع ويشترط شيئا خارجا منها مثل: أن يهبه كذا أو يشفع له إلى فلان أو إن احتاج إلى بيعه لم يبع إلا منه ونحو ذلك فهذان شرطان في صفقة واحدة "ولا بيعتان في بيعة"لحديث أبي هريرة عند أحمد والنسائي وأبي داود والترمذي وصححه "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نهى عن بيعتين في بيعة "ولفظ أبي داود "من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما أو الربا " وأخرجه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود قال: "نهى النبي صلى الله عليه تعالى عليه وآله وسلم عن صفقتين في صفقة "قال سماك هو الرجل يبيع البيع فيقول بنسء كذا وبنقد كذا ورجاله رجال الصحيح وما ذكره سماك هو معنى البيعتين في بيعة وقد تقدم تفسير الشرطين في بيعة بمثل هذا وليس بصحيح بل المراد بالشرطين في بيعة أن البيع واحد شرط فيه شرطان وهنا البيع بيعان قلت: وفي شرح السنة فسروا البيعتين في بيعة على وجهين: أحدهما أن يقول بعتك هذا الثوب بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة إلى سنة فهو فاسد عند أكثر أهل العلم فإذا باعه على أحد الأمرين في المجلس فهو صحيح لا خلاف فيه والآخر أن يقول بعتك عبدي هذا بعشرين ديناراً على أن تبيعني جاريتك فهذا فاسد لأنه جعل ثمن العبد عشرين دينارا وشرك بيع الجارية وذلك شرط لا يلزم وإذا لم يلزم ذلك بطل بعض الثمن فيصير ما بقي من المبيع في مقابلة الباقي مجهولا أما إذا جمع بين شيئين في صفقة واحدة بأن باع دارا وعبدا بثمن واحد فهو جائز وليس من باب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 البيعتين في بيعة إنما هي صفقة واحدة جمعت شيئين وأما بيع الشئ بأكثر من سعر يومه مؤجلا فأقول الزيادة على سعر يوم البيع ليست من الربا في ورد ولا صدر لأن الربا زيادة أحد المتساويين على الآخر ولا تساوي بين الشئ وثمنه مع اختلاف جنسهما فلا يصح أن يكون تحريم هذه الصورة لكونها ربا فإن قيل أن تحريمها لكونه الزيادة في مقابل التنفيس بالأجل فقط فلا يخفى أن تحريم مثل ذلك مفتقر إلى دليل والمسألة محتملة للبسط وقد أفردها الماتن برسالة مستقلة سماها شفاء العلل في حكم الزيادة لأجل الأجل ولكن يمكن الاستدلال لهذا المنع بما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما أو الربا " وبما أخرجه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة قال: سماك هو الرجل يبيع المبيع فيقول: هو بنساء كذا وهو بنقد كذا "قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد ثقات فهذان الحديثان قد دلا على أن الزيادة لأجل النساء ممنوعة ولهذا قال: "فله أو كسهما أو الربا " والأعيان التي هي غير ربوية داخلة في عموم الحديثين وقد ذهب الجمهور: إلى جواز بيع الشئ بأكثر من بيع يومه لأجل النساء ونازعوا في دلالة الحديثين المذكورين على محل النزاع وربح ما لم يضمن لما تقدم في دليل لا يحل سلف وبيع وهو أن يبيع شيئا لم يدخل في ضمانه كالبيع قبل القبض "وبيع ما ليس عند البائع"لحديث حكيم بن حزام قال: "قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال لا تبع ما ليس عندك" أخرجه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن ماجه والمراد بقوله: ما ليس عندك أي ما ليس في ملكك وقدرتك وفي معنى بيع ما ليس عنده أن يبيع مال غيره بغير إذنه لأنه غرر لا يدري هل يجيزه غيره أولا وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة: يجوز بيع الفضولي ويكون موقوفا على إجازة المالك وبيع القطوط عند أهل العلم لا يجوز حتى تصل إلى من كتبت له فيملك ثم يبيع "القط الصك "ومنه قوله تعالى: {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} ويجوز بشرط عدم الخداع"لحديث ابن عمر في الصحيحين قال: "ذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يُخدع في البيوع فقال: من بايعت فقل لا خلابة "وفي الباب أحاديث والخلابة الخديعة وظاهره أن من قال بذلك ثبت له الخيار سواء غبن أو لم يغبن "والخيار في المجلس ثابت ما لم يتفرقا"لحديث حكيم بن حزام في الصحيحين "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " وفيهما أيضا نحوه من حديث ابن عمر وأيضا في الموطإ من حديث ابن عمر بلفظ "أن رسول الله صلى الله عليه قال المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار" وفي الباب أحاديث وقد ذهب إلى إثبات خيار المجلس جماعة من الصحابة منهم علي وأبو برزة الأسلمي وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وغيرهم ومن التابعين شريح الشعبي وطاوس وعطاء وابن أبي مليكة نقل ذلك عنهم البخاري ونقل ابن المنذر القول به أيضا عن سعيد بن المسيب والزهري وابن أبي ذئب من أهل المدينة وعن الحسن البصري والأوزاعي وابن جريج وغيرهم وبالغ ابن حزم فقال: لا يعرف لهم مخالف من التابعين إلا النخعي وحده وحكاه صاحب البحر أيضا عن الشافعي وأحمد وإسحق وأبي ثور وذهب الحنفية والمالكية وغيرهم إلى أنها إذا وجبت الصفقة فلا خيار والحق القول الأول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 " باب الربا " قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} وقال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه} واتفق أهل العلم أن الربا من الكبائر وأنه إذا وقع هذا العقد فهو باطل ولا يجب إلا رد رأس المال وإن كان ذو عسرة فحكمه الإنظار إلى الميسرة أقول: هذا الحكم يستفاد من كتاب الله تعالى قال عز وجل: {إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} ومفهوم الشرط يدل على جواز أخذ مال المربي مع عدم التوبة ويستدل بهذه الآية أيضا على جواز أخذ ما ربح المربي من الربا وهو ما زاد على رأس ماله سواء تاب أو لم يتب فالحاصل أنه يجوز أخذ جميع ماله الربح ورأس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 المال مع عدم التوبة ويجوز أخذ رأس المال فقط معها "يحرم بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا مثلا بمثل يدا بيد"فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد والستة الأجناس المذكورة هي المنصوص عليها في الأحاديث كحديث أبي سعيد بلفظ "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو ازداد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء " وهو في الصحيح وسائر الأحاديث في الصحيحين وغيرهما هكذا ليس فيها إلا ذكر الستة الأجناس وفي الحجة البالغة وتفطن الفقهاء أن الربا المحرم يجري في غير الأعيان الستة المنصوص عليها وأن الحكم متعد منها إلى كل ملحق بشئ منها في شرح السنة اتفق العلماء على أن الربا يجري في هذه الأشياء الستة التي نص الحديث عليها وذهب عامتهم إلى أن حكم الربا غير مقصور عليها بأعيانها إنما ثبت لأوصاف فيها ويتعدى إلى كل ما يوجد فيه تلك الأوصاف وذهبوا إلى أن الربا ثبت في الدراهم والدنانير بوصف وفي الأشياء الأربعة بوصف آخر ثم اختلفوا في ذلك الوصف فقال الشافعي: ثبت في الدراهم والدنانير بوصف النقدية وقال أبو حنيفة: بعلة الوزن حتى إن الربا يجري في الحديد والنحاس والقطن وقال الشافعي: في القديم ثبت في الأشياء الأربعة بوصف الطعم مع الكيل والوزن كما قال سعيد بن المسيب وفي الجديد ثبت فيها بوصف الطعم فقط وأثبت في جميع الأشياء المطعومة مثل: الثمار والفواكه والبقول والأدوية فدل على أن مأخذ الاشتقاق علة وقال أبوحنيفة: ثبت في الأشياء الأربعة بوصف الكيل حتى إن الربا يجري في الجص والنورة وسيأتي ما يدفع ذلك كله "وفي إلحاق غيرها بها خلاف"هل يلحق بهذه الأجناس المذكورة غيرها فيكون حكمه حكمها في تحريم التفاضل والنساء مع الاتفاق في الجنس وتحريم النساء فقط مع الاختلاف في الجنس والاتفاق في العلة فقالت الظاهرية: إنه لا يلحق بها غيرها ورجحه في سبل السلام وقال قد أردنا الكلام على ذلك في رسالة مستقلة سميناها القول المجتبى انتهى وتفصيل ذلك في مسك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 الختام وذهب من عداهم إلى أنه يلحق بها ما يشاركها في العلة واختلفوا في العلة ما هي؟ فقيل الاتفاق في الجنس والطعم وقيل الجنس والتقدير بالكيل والوزن والاقتيات وقيل الجنس ووجوب الزكاة وقيل الجنس والتقدير بالكيل والوزن وقد يستدل لمن قال بالإلحاق بما أخرجه الدارقطني والبزار عن الحسن من حديث عبادة وأنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا وما كيل فمثل ذلك فإذا اختلف النوعان فلا بأس به" وقد أشار إلى هذا الحديث صاحب التلخيص ولم يتكلم عليه وفي إسناده الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وغيره وضعفه جماعة قال أحمد: لا بأس به وقال يحيى بن معين: في رواية عنه ضعيف وفي أخرى ليس به بأس وربما دلس وقال ابن سعد والنسائي ضعيف وقال أبو زرعة شيخ صالح وقال أبو حاتم: رجل صالح انتهى ولا يلزم من وصفه بالصلاح أن يكون ثقة في الحديث وقال في التقريب: صدوق سيء الحفظ ولا يخفاك أن الحجة لا تقوم بمثل هذا الحديث لا سيما في مثل هذا الأمر العظيم فإنه حكم بالربا الذي هو من أعظم معاصي الله سبحانه وتعالى على غير الأجناس التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يستلزم الحكم على فاعله بأنه مرتكب لهذه المعصية التي هي من الكبائر ومن القطعيات الشرعية ومع هذا فإن هذا الإلحاق قد ذهب إليه الجمع الجم والسواد الأعظم ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية فقط وهذا الحديث كما يدل على إلحاق غير الستة بها كذلك يدل على أن العلة الاتفاق في الكيل والوزن مع اتحاد الجنس ومما يدل على أن الربا يثبت في غير هذه الأجناس حديث ابن عمر في الصحيحين قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله "وفي لفظ لمسلم "وعن كل ثمر بخرصه "فإن هذا الحديث يدل على ثبوت الربا في الكرم والزبيب ورواية مسلم تدل على أهم من ذلك ومما يدل على الإلحاق ما أخرجه مالك في الموطإ عن سعيد بن المسيب "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان "وأخرجه أيضا الشافعي وأبو داود في المراسيل ووصله الدارقطني في الغريب عن مالك عن الزهري عن سهل بن سعد وحكم بضعفه وصوب الرواية المرسلة وتبعه ابن عبد البر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 وله شاهد من حديث ابن عمر عند البزار وفي إسناده ثابت بن زهير وهو ضعيف وأخرجه أيضا من رواية أبي أمية بن يعلى عن نافع أيضا وأبو أمية ضعيف وله شاهد أقوى منه من رواية الحسن عن سمرة عند الحاكم والبيهقي وابن خزيمة ومما يؤيد ذلك حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة عند الترمذي في رخصة العرايا وفيه "وعن بيع العنب بالزبيب وعن كل ثمر بخرصه "ومما يدل على أن المعتبر الاتفاق في الوزن حديث أبي سعيد عند أحمد ومسلم بلفظ "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء" وأخرج أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة "الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل" وعند مسلم والنسائي وأبي داود من حديث فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن" ومما ورد في اعتبار الكيل حديث ابن عمر المتقدم وفيه "وإن كان كرما أن تبيعه بزبيب كيلا" وما سيأتي قريبا من النهي عن بيع الصبرة لا يعلم كيلها. أقول: أما اختلاف مثبتي القياس في علة الربا فليس على شئ من هذه الأقوال حجة نيرة إنما هي مجرد تظننات وتخمينات انضمت إليها دعاوى طويلة بلا طائل هذا يقول العلة التي ذهب إليها ساقه إلى القول بها مسلك من مسالك العلة لتخريج المناط والآخر يقول ساقه إلى ما ذهب إليه مسلك آخر كالسبر والتقسيم ونحن لا نمنع كون هذه المسالك تثبت بمثلها الأحكام الشرعية بل نمنع اندراج ما زعموه علة في هذا المقام تحت شئ منها فما أحسن الاقتصار على نصوص الشريعة وعدم التكليف بمجاوزتها والتوسع في تكليفات العباد بما هو تكليف محض ولسنا ممن يقول بنفي القياس لكنا نقول بمنع التعبد به فيما عدا العلة المنصوصة وما كان طريق ثبوته فحوى الخطاب وليس ما ذكروه ههنا من هذا القبيل فليكن هذا المبحث على ذكر منك تنتفع به في مسائل كثيرة قال الماتن رحمه الله في كتابه السيل الجرار: ولا يخفاك أن ذكره صلى الله عليه وسلم للكيل والوزن في الأحاديث لبيان ما يتحصل به التساوي في الأجناس المنصوص عليها فكيف كان هذا الذكر سببا لإلحاق سائر الأجناس المتفقة في الكيل والوزن بهذه الأجناس الثابتة في الأحاديث وأي تعدية حصلت بمثل ذكر ذلك وأي مناط استفيد منها مع العلم أن الغرض بذكرها هو تحقيق التساوي كما قال: "مثلا بمثل سواء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 بسواء" وأما الاتفاق في الجنس والطعم كما قال الشافعي واستدلوا على ذلك بما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث معمر بن عبد الله قال: كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الطعام بالطعام مثلا بمثل وكان طعامنا يومئذ الشعير" فأقول: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الطعام فكان ماذا؟ وأي دليل على أنه أراد بهذا الذكر الإلحاق؟ وأي فهم يسبق إلى كون ذلك هو العلة المعدية حتى تركب عليها القناطر وتبنى عليها القصور ويقال هذا دليل على أن كل ماله طعم كان يبعه بماله متفاضلا ربا مع أن أول ما يدفع هذا الاستدلال الذهب والفضة اللذين هما أول منصوص عليه في الأحاديث المصرحة بذكر الأجناس التي تحرم فيها الربا ومما يدفع القولين جميعا أنه قد ثبت في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر العدد كما في حديث عثمان عند مسلم بلفظ "لا تبيعوا الدينار بالدينارين" وفي رواية من حديث أبي سعيد "ولا درهمين بدهم" ولا يعتبر العدد أحد من أهل هذين القولين ولا من غيرهم وقد وافقت المالكية الشافعي في الطعم وزادت عليه الادخار والاقتيات فوسعوا الدائرة بما ليس بشئ والحاصل أنه لم يرد دليل به الحجة على إلحاق ما عدا الأجناس المنصوص عليها بها "فإن اختلفت الأجناس جاز التفاضل إذا كان يدا بيد"لما ثبت في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الذهب الذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد " وفي الباب أحاديث "ولا يجوز بيع الجنس بجنسه مع عدم العلم بالتساوي"لما وقع في الأحاديث الصحيحة من قوله صلى الله عليه وسلم "مثلا بمثل سواء بسواء وزنا بوزن" فإن هذا يدل على أنه لا يجوز بيع الشئ بجنسه إلا بعد العلم بالمماثلة والمساواة ومما يدل على ذلك حديث جابر عند مسلم وغيره قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكليل المسمى من التمر "فإن هذا يدل على أنه لا يجوز البيع إلا بعد العلم "وإن صحبه غيره"أي لا تأثير لمصاحبة شئ آخر لأحد المثلين لحديث فضالة بن عبيد عند مسلم وغيره قال: "اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 تباع حتى تفصل" وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف منهم عمر بن الخطاب وقال به الشافعي وأحمد وإسحق وذهب جماعة منهم الحنفية إلى جواز التفاضل مع مصاحبة شئ آخر إذا كانت الزيادة مساوية لما قابلها "ولا بيع الرطب بما كان يابسا"لحديث ابن عمر المتقدم في النهي عن أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا وكذلك حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة المتقدمات وفي الموطإ حديث سعد قال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم فنهى عن ذلك "قلت: وعليه الشافعي وهذا الحديث أصل في أنه لا يجوز بيع شئ من المطعوم بجنسه أحدهما رطب والآخر يابس مثل: بيع الرطب بالتمر وبيع العنب بالزبيب وبيع اللحم الرطب بالقديد وهذا قول أكثر أهل العلم وإليه ذهب مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة وجوزه أبو حنيفة وحده ورده بالمتشابه من قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} والمتشابه من قياس في غاية الفساد وهو قولهم: الرطب والتمر إما أن يكونا جنسين وإما أن يكون جنسا واحدا وعلى التقديرين فلا يمنع بيع أحدهما بالآخر قال ابن القيم: وإذا نظرت إلى هذا القياس رأيته مصادما للسنة أعظم مصادمة ومع أنه فاسد في نفسه بل هما جنس واحد أحدهما أزيد من الآخر قطعا بنية فهو أزيد أجزاء من الآخر بزيادة لا يمكن فصلها وتميزها ولا يمكن أن يجعل في مقابلة تلك الأجزاء من الرطب ما يتساويان به عند الكمال إذ هو ظن وحسبان فكان المنع من بيع أحدهما بالآخر محض القياس لو لم يأت به سنة وحتى لو لم يكن ربا ولا القياس يقتضيه لكان أصلا قائما بنفسه يجب التسليم والانقياد له كما يجب التسليم لسائر نصوصه المحكمة انتهى "إلا لأهل العرايا"لحديث زيد بن ثابت عند البخاري وغيره "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا "وفي لفظ في الصحيحين "رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا "وأخرج أحمد والشافعي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث جابر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حين أذن لأهل العرايا أن يبيعوها بخرصها الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 وفي الباب أحاديث والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للفقراء الذين لا نخل لهم أن يشتروا من أهل النخل رطبا يأكلونه في شجرة بخرصه تمرا والعرايا جمع عرية وهي في الأصل عطية ثمر النخل دون الرقبة وقد ذهب إلى ذلك الجمهور ومن خالف فالأحاديث ترد عليه قلت: العرية فعيلة بمعنى مفعولة من عراه يعروه إذا قصده وهي عقد مقصود أو بمعنى فاعلة من عري يعرى إذا خلع ثوبه كأنها عريت وهي بيع الرطب على النخل بتمر في الأرض والعنب في الشجر بزبيب فيما دون خمسة أوسق وقال محمد: وبهذا نأخذ ولفظ البخاري في باب تفسير العرايا قال مالك: العرية أن يعري الرجل الرجل النخلة ثم يتأذى بدخوله عليه فرخص له أن يشتريها منه بتمر وقال ابن إدريس: العرية لا تكون إلا بالكيل من التمر يدا بيد ولا تكون بالجزاف ومما يقويه قول ابن أبي حثمة بالأوسق الموسقة وقال ابن إسحق: في حديثه عن نافع عن ابن عمر كانت العرايا أن يعري الرجل الرجل في ماله النخلة والنخلتين وقال يزيد: عن سفيان بن حسين العرايا نخل كانت توهب للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها رخص لهم أن يبيعوها بما شاؤا من التمر انتهى. أقول: العرايا أصلها أن العرب كانت تطوع على من لا ثمر له كما يتطوع صاحب الشاة أو الإبل بالمنيحة وهي عطية اللبن دون الرقبة قال الجوهري في الصحاح: العرية هي النخلة التي يعريها صاحبها رجلا محتاجا بأن يجعل له ثمرها عاما من عراه إذا قصده انتهى فرخص صلى الله عليه وسلم لمن لا نخل لهم أن يشتري الرطب على النخل بخرصها تمرا كما وقع في الصحيحين وغيرهما من حديث زيد بن ثابت وفي لفظ في الصحيحين من حديثه "رخص في العرايا يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا "وفي لفظ لهما من حديثه "ولم يرخص في غير ذلك "فهذا جائز والذي أخبرنا بتحريم الربا ومنعنا من المزابنة هو الذي رخص لنا في العرايا والكل حق وشريعة واضحة وسنة قائمة ومن منع ذلك فقد تعرض لرد الخاص بالعام ولرد الرخصة بالعزيمة ولرد السنة بمجرد الرأي وهكذا من منع من البيع وجوز الهبة كما روي عن أبي حنيفة رحمه الله ولكن هذه الرخصة مقيدة بأن يكون الشراء بالوسق والوسقين والثلاثة والأربعة كما وقع في حديث جابر عند الشافعي وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 والحاكم فلا يجوز الشراء بزيادة على ذلك ولا بيع اللحم بالحيوان لما تقدم قريبا من حديث سعيد بن المسيب عند مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم "وقال سعيد: من ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين وقال نهى عن بيع الحيوان باللحم وقال أبو الزناد: كل من أدركت من أهل العلم ينهون عن بيع الحيوان باللحم أي من جنسه وكذا بغير جنسه من مأكول وغيره وفي شرح السنة ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى تحريمه وإليه ذهب الشافعي وحديث ابن المسيب وإن كان مرسلا لكنه يتقوى بعمل الصحابة واستحسن الشافعي مرسل ابن المسيب وذهب جماعة إلى إباحته واختارها المزني إذ لم يثبت الحديث وكان فيه قول متقدم ممن يكون بقول اختلاف ولأن الحيوان ليس بمال الربا بدليل أنه يجوز بيع حيوان بحيوانين فبيع اللحم بالحيوان بيع مال الربا بما لا ربا فيه فيجوز ذلك في القياس إلا أن يثبت الحديث فنأخذ به وندع القياس وقال محمد في الموطإ: وبهذا نأخذ من باع لحما من لحم الغنم بشاة حية لا يدري اللحم أكثر أو مافي الشاة أكثر فالبيع فاسد مكروه ولا ينبغي وهذا مثل المزابنة والمحاقلة وكذا بيع الزيتون بالزيت ودهن السمسم بالسمسم. أقول: والأحسن عندي أن معنى الحديث: أن يقول للقصاب كم يخرج من هذه الشاة فيقول القصاب: عشرون رطلا فيقول: خذ هذه الشاة بعشرين رطلا من اللحم إن خرج أكثر فلك أو أقل فعليك وهذا نوع من القمار ورجع الحديث إلى القياس "ويجوز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه"لحديث جابر عند أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى عبدا بعبدين "وأخرجه أيضا مسلم في صحيحه وأخرج أيضا مسلم وغيره من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى صفية بسبعة أرؤس من دحية الكلبي "وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن عمرو "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبعث جيشاً على إبل كانت عنده قال: فحملت الناس عليها حتى نفذت الإبل وبقيت بقية من الناس قال: فقلت يارسول الله الإبل قد نفذت وبقيت بقية من الناس لا ظهر لهم فقال لي: ابتع علينا إبلا بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى ينفذ هذا البعث قال: وكنت أبتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 نفذت ذلك البعث فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم "وفي إسناده محمد ابن اسحق وفيه مقال وقوى في الفتح إسناده وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن الجارود من حديث سمرة قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة "وهو من رواية الحسن عن سمرة ولم يسمع منه1 وقد جمع الشافعي بين الحديثين بأن المراد به النسيئة من الطرفين فيكون ذلك من بيع الكالىء بالكالىء لا من طرف واحد فيجوز وفي الموطإ أن علي بن أبي طالب باع جملا له يدعى عصيفر بعشرين بعيرا إلى أجل وأن عبد الله بن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بالربذة وسئل ابن شهاب عن بيع الحيوان اثنين بواحد إلى أجل فقال: لا بأس بذلك قال الشافعي: يجوز سواء كان الجنس واحدا أو مختلفا مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم سواء باع واحدا بواحد أو باثنين وقال أبو حنيفة: لا يجوز وفي بيع الحيوان بالحيوان نسيئة خلاف "ولا يجوز بيع العينة"لحديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم "أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني وابن القطان وصححه وقال الحافظ: رجاله ثقات والمراد بالعينة بكسر العين المهملة بيع التاجر سلعته بثمن إلى أجل ثم يشتريها منه بأقل من ذلك الثمن ويدل على المنع من ذلك ما رواه أبو إسحق السبيعي عن امرأته "أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقع فقالت: يا أم المؤمنين إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة وإني ابتعته منه بستمائة نقدا فقالت لها عائشة: بئسما اشتريت وبئسما شريت إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إلا أن يتوب "أخرجه الدارقطني وفي إسناده الغالية بنت أيفع وقد روي عن الشافعي أنه لا يصح وقرر كلامه ابن كثير في إرشاده وقد ذهب إلى عدم جواز بيع العينة مالك وأبو حنيفة وأحمد وجوز ذلك الشافعي وأصحابه وقد ورد النهي عن العينة من طرق عقد لهما البيهقي في سننه بابا. أقول: أما بيع أئمة الجور وشراؤهم   1 في سماعه منه خلاف طويل ورجح كثير من أئمة الحديث أنه سمع منه ورجح بعضهم أنه لم يسمع منه إلا حديثا وهو حديث العقيقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 على وجه التجارة مع رعاياهم فهذه المسألة قد عمت وطمت وكادت تطبق الأرض وقد رأينا في كتب التواريخ حكايات عن ملوك مصر من الجراكسة وذلك من أشدها وأعظمها جرما أنهم إذا أرادوا بيع شئ لهم أكرهوا التجار على شرائه بأضعاف ثمنه وإذا أراد أحد منهم الامتناع ضربوه ضربا مبرحا وأخذوا ماله كرها ومن ذلك أنهم يمنعون الناس من الشراء من أحد من التجار حتى ينفق ما يريدون بيعه من أموالهم فيرتفع ثمنه لأجل ذلك وينفق سريعا قال الماتن في حاشية الشفاء: وفي الديار اليمنية من هذا القبيل أنواعها منها: أنهم يرسمون صرف القرش بمقدار محدود من الضربة التي يضربونها من الفضة المغشوشة بالنحاس المغلوبة بالغش على وجه لا تكون الفضة الخالصة إلا مقدار نصف الفضة التي في القرش ثم إن الرعايا لا تمتثل هذا الرسم بل يتعاملون في المصارفة بزيادة على ذلك إلى مقدار الثلث أو الربع من ذلك الرسم فإذا كان النقد خارجا من مال الدولة إلى غيرهم من الأجناد ونحوهم كان على ذلك الرسم الناقص وإذا كان النقد داخلا إلى أموال الدولة من الرعايا لم يقبلوا منهم إلا القروش الفرانسة أو الصرف الزائد الذي يتعامل به الرعية فيما بينهم فيأخذون ثلث أموال الرعية أو ربعها ظلما وإذا تزايد صرف القروش بين الرعايا أمر الأمراء بكسر السكة ويضربون ضربة أخرى مثل الكسورة في الخالص والغش أو أكثر منها غشا ثم يمنعون التعامل بتلك الضربة الأولى فيبيعونها الرعايا وزنا من الدولة فيأتي ثمن القفلة منها بنصف قفلة من الضربة الأخرى وقد يزيد قليلا أو ينقص قليلا ثم يأخذون تلك السكة الأولى ويضربونها على تلك الضربة الأخرى ويدفعونها إلى الرعايا بصرف قد رسموه فيأكلون بهذا الذريعة نصف أموال العباد أو قريبا من ذلك والرعايا لا يقدرون على الاستمرار على الرسم الذي يرسمونه لهم في صرف القروش من تلك الضربة لأنهم يحتاجون إلى القروش الفرانسة في كثير من الحالات لكونه لا يتفق لهم في المعاملة لتجار سائر الأرض إلا هي ومن الأنواع التي يأكلون بها أموال الرعايا أكلا ظاهرا ويتجرون فيها اتجارا بينا أنهم يجعلون ضرائب على الباعة في الأسواق يجبرونهم على تسليمها شاؤا أم أبوا ثم يأذنون لهم بالزيادة في الأسعار فيبيعون بما شاؤا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 ويصنعون بالناس ما أرادوا وليس عليهم إلا الوفاء بالضرائب فإذا استغاث مستغيث بالناس من زيادة الأسعار أو أراد منكر أن ينكر على الباعة ما يفعلونه قالوا: هذه الزيادات للدولة فيلقمون المنكر والمستغيث حجرا وكم أعدد لك من هذه إلا حبولات الشيطانية التي هي السحت بلا شك ولا شبهة نسأل الله أن يصلح الجميع انتهى. ومن هذا القبيل أنواع المكوس على أهل الدور والتجارات والضرائب المتنوعة التي لا تكاد تنحصر على الرعايا في الأشياء المختلفة وكل ذلك من جهة الدول ولا شكوى في ذلك من الكفرة الفجرة الذي استولوا على أكثر البلاد الإسلامية بل من ملوك الإسلام وولاة المسلمين المدعين للتدين بالدين المحمدي والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وانظر في كتابنا إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة يتضح عليك الحق في هذا الباب من الباطل والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم قال الماتن في حاشية الشفاء: اعلم أن باب المصارفة قد صار في هذه الأزمنة بحيث لا يتمكن من الخلوص عن الدخول به في الربا البحت أحد كما عرفناك فيما سبق ثم إن الناس يحتاجون إلى التعامل بهذه الضربة في تصرفاتهم ويضطرون إلى المصارفة بها إلى القرش الفرنجي بذلك المقدار المرسوم لهم فيبيعون الفضة بالفضة مع العلم بالتفاضل وهذا ربا بحت والعارف منهم يستروح إلى حيل قد رآها في كتب الفروع التي لا يرجع غالبها إلى دليل وهي لا تغني من الحق شيئا وها نحن نعرفك بغالب ما يظنونه من الحيل مخلصا له من ورطة الربا فمن ذلك أن بعض المتفقهة الذين لا يعرفون لعلوم الاجتهاد رسما قد أفتاهم بأنه لا ربا في المعاطاة وأن الصرف الذي يفعله الناس الآن هو معاطاة لعدم وقوع العقد وهذا المقصر لا يدري بأن أدلة الكتاب والسنة مصرحة بتحريم الربا من غير نظر إلى عقد بل لم يعتبر الله في البيع إلا مجرد الرضا ومن ذلك ما قاله أيضا بعض المصنفين في الفروع أن الغش في كل واحد من البدلين يكون مقابلا للفضة في الآخر وهذا لا يرضى به عاقل قط وكيف يرضى العاقل أن يبيع تسع أواقي فضة بأوقية نحاس فإن كان مراد هذا القائل أن ذلك مخلص عن الربا سواء رضي كل واحد من المتبايعين بالبدل أم لم يرض فهذا جهل لا علم ومن ذلك أن الغش في كل واحد من البدلين يكون جريرة مسوغة للصرف وهذا يرده حديث القلادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 فإنه قد انضم إلى الفضة غيرها ولم يجعل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ذلك مسوغا للبيع بل أمر بالفصل والتمييز بين الفضتين وقد ذكروا غير هذه الأمور مما هو من السقوط بمكان لا يخفى على من له أدنى فطنة فإن قلت فهل من مخلص من هذه الورطة التي وقع الناس فيها؟ قلت: نعم ثم مخلص أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما قاله لمن اشترى تمرا جيدا بتمر رديء أحد التمرين جمع والآخر جنيب وأخبره أنه اشترى الصاع الجيد بصاعين من الرديء فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "أن ذلك ربا " فسأله رسول الله كيف يصنع فقال: إنه " يبيع التمر الرديء بالدراهم ثم يشتري بها التمر الجيد" فهذه وسيلة شرعية ومعاملة نبوية فمن أراد أن يصرف الدراهم المغشوشة بالقروش الفرنجية فليشتر صاحب الدراهم مثلا بمقدار صرف القرش سلعة من صاحب القرش ثم يبيعها منه بالقرش ولا مخلص من ذلك إلا هذه الصورة ومن ظن أن ثم مخلصا في غيرها فهو مخادع بنفسه بما هو صريح الربا المتوعية عليه بحرب من الله ورسوله وعلى الضارب لتلك الدراهم المغشوشة نصيبه من الإثم لأنه حمل الناس على الربا وألجأهم إلى الدخول فيه وسن لهم هذه السنة الملعونة لقصد الحطام وأكل أموال الناس بالباطل ولو كان ممتثلا لما أمر الله به من الرفق بالرعية والعدل في القضية لكان له بضرب الفضة الخالصة عن الغش مندوحة وأقل أحوال المسلم أن يكون في رعاية مصالح الرعية كالفرنج فيجعل ضربته كضربتهم حتى يرتفع الربا في المصارفة انتهى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 " باب الخيارات " "يجب على من باع ذاعيب أن يبينه وإلا ثبت للمشتري الخيار"لحديث عقبة بن عامر عند ابن ماجه والدارقطني والحاكم والطبراني قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه عيب إلا بينه" وقد حسن إسناده الحافظ في القمح وأخرج نحوه أحمد وابن ماجه والحاكم في المستدرك من حديث واثلة مرفوعا وفي إسناده أبو جعفر الرازي وأبو سباع والأول مختلف فيه والثاني مجهول وأخرج ابن ماجه والترمذي والنسائي وابن الجارود والبخاري تعليقا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 من حديث العداء بن خالد قال: "كتب لي النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبدا أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة بكسر الخاء بيع المسلم المسلم "ويؤيد هذه الأحاديث: حديث "من غشنا فليس منا " وهو في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة فدلت هذه الأحاديث على أن من باع ذا عيب ولم يبينه فقد باع بيعا لا يحل شرعا فيكون المشتري بالخيار إن رضيه فقد أثم البائع وصح البيع لوجود المناط الشرعي وهو التراضي وإن لم يرضه كان له رده لأن العلم بالعيب كشف عن عدم الرضا الواقع حال العقد فلم يوجد المناط الشرعي ولما ورد في رد المعيب وسيأتي "والخراج بالضمان" لحديث عائشة عند أحمد وأهل السنن والشافعي وصححه الترمذي وابن حبان وابن الجارود والحاكم وابن القطان وابن خزيمة "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قضى أن الخراج بالضمان "وفي رواية "أن رجلا ابتاع غلاما فاستغله ثم وجد به عيبا فرده بالعيب فقال البائع غلة عبدي فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "الغلة بالضمان " والمراد بالخراج الدخل والمنفعة أي يملك المشتري الخراج الحاصل من المبيع بضمان الأصل الذي عليه أي بسببه قال مالك: في الرجل يشتري العبد فيؤاجره بالإجارة العظيمة أو القليلة ثم يجد به عيبا يرد منه إنه يرده بذلك العيب وتكون له إجارته وغلته وذلك الأمر الذي كانت عليه الجماعة ببلدنا وذلك لو أن رجلا ابتاع عبدا فبنى له دارا قيمة بنيانها ثمن العبد أضعافا ثم يوجد به عيب يرد منه رده ولا يحسب للعبد عليه إجارة فيما عمل له ذلك فكذلك تكون له إجارته إذا آجره من غيره لأنه ضامن له قلت: وعليه أهل العلم "وللمشتري الرد بالغرر"لأن المشتري إنما رضي بالمبيع عند العقد قبل علمه بالغرر فإذا تبين له الغرر كشف عن عدم الرضا الذي هو المناط الشرعي "ومنه"أي من ذلك الغرر "المصراة فيردها وصاعا من تمر"فإنه ثبت الخيار فيها بوجود الغرر الكائن بالتصرية وهو حبس اللبن في الضروع ليخيل المشتري غزارته فيغتر وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 وإن سخطها ردها وصاعا من تمر "وفي رواية مسلم وغيره "من اشترى مصراة فهو منها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر لا سمراء" قلت عليه الشافعي وفي المنهاج التصرية حرام تثبت الخيار على الفور وقيل: يمتد ثلاثة أيام فإن رد بعد تلف اللبن1 رد معها صاع تمر وقيل يكفي صاع قوت والأصح أن الصاع لا يختلف بكثرة اللبن وفي شرح السنة قال أبو حنيفة: لا خيار له بسبب التصرية وليس له ردها بالعيب بعد ما حلبها وقال ابن أبي ليلى: وأبو يوسف: بردها ويرد معها قيمة اللبن قال في الحجة البالغة: واعتذر بعض من لم يوفق للعمل بهذا الحديث بضرب قاعدة من عند نفسه فقال: كل حديث لا يرويه إلا غير فقيه أسند باب الرأي فيه يترك العمل به وهذه القاعدة على ما فيها لا تنطبق على صورتنا هذه لأنه أخرجه البخاري عن ابن مسعود أيضا وناهيك به ولأنه بمنزلة سائر المقادير الشرعية يدرك العقل حسن تقدير ما فيه ولا يستقل بمعرفة حكمه هذا القدر خاصة اللهم إلا عقول الراسخين في العلم انتهى قال ابن القيم: ومنها رد المحكم الصحيح الصريح في مسألة المصراة بالمتشابه من القياس وزعمهم أن هذا حديث يخالف الأصول فلا يقبل فيقال: الأصول كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة والقياس الصحيح الموافق للكتاب والسنة فالحديث الصحيح أصل بنفسه فكيف يقال الأصل يخالف نفسه؟ هذا من أبطل الباطل والأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما: كلام الله تعالى وكلام رسوله وما عداهما فمردود إليهما فالسنة أصل قائم بنفسه والقياس فرع فكيف يرد الأصل بالفرع؟ قال الإمام أحمد: إنما القياس أن يقيس على أصل فأما أن يجيء إلى أصل فيهدمه ثم يقيس فعلى أي يقيس وقد تقدم بيان موافقة حديث المصراة للقياس وإبطال قول من زعم أنه خلاف القياس وأنه ليس في الشريعة حكم يخالف القياس الصحيح وأما القياس الباطل فالشريعة كلها مخالفة له ويا لله العجب كيف وافق الوضوء بالنبيذ المشتد الأصول حتى قبل وخالف خبر المصراة الأصول حتى رد انتهى. والحاصل: أنه لم يرد ما يعارض حديث المصراة   1قوله تلف اللبن أي حلبه وعبر به عنه لأنه بمجرد حلبه يسري إليه التلف اهـ. من ابن حجر على المنهاج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 ولم تصح الرواية بلفظ "طعام أو بر "بل الذي صح الصاع من التمر وللحنفية أجوبة عن الحديث كثيرة ليس على شئ منها أثارة من علم وقد استوفاها الماتن في شرح المنتقى ودفعها جميعها ولا نؤثر على نص الشارع شيئا بل نقول: إذا تنازع بائع المصراة ومشتريها في قيمة اللبن المستهلك وردّ المشتري صاعا من تمر وجب على البائع قبوله ولا يجاب إلى غيره ولو كان المثل موجودا نعم إذا عدم التمر كان الواجب الرجوع إلى قيمته وكذلك إذا تراضى البائع والمشتري على قيمة أخرى كان الرضا له حكمه وتمام هذا البحث في شرحنا لبلوغ المرام فليرجع إليه "أو ما يتراضيان عليه"لأن حق الآدمي مفوض إليه فإذا رضي بأخذ عوض عنه جاز ذلك كما لو رضي بإسقاطه أو أخذ بعضه "ويثبت الخيار لمن خدع"فإن كان مع شرط عدم الخداع فلا ريب في ذلك لما تقدم من حديث ابن عمر "أن رجلا كان يُخدع في البيوت فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: من بايعت فقل لا خلابة" وهو في الصحيحين والموطأ وزاد فيه "فكان الرجل إذا بايع يقول لا خلابة "وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لحبان بن منقذ الذي كان يخدع في البيوع خيار ثلاثة أيام كما في حديث ابن عمر في رواية منه وكذلك في حديث غيره وأما إذا لم يشترط فالبيع الذي وقع ليس هو بيع المسلم إلى المسلم بل هو مشتمل على الخبث والخداع والغائلة فللمخدوع الخيار لكونه كذلك ولكونه الخداع كشفا عن عدم الرضا المحقق الذي هو المناط كما تقدم تقريره قلت: اختلفوا في تفسير هذا الحديث فقال المحلي: لا خلابة عبارة عن اشتراط الخيار ثلاثة أيام وفي رواية البيهقي وابن ماجه "ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال" وقال محمد: نرى أن هذا كان لذلك الرجل خاصة يريد أنه خيار الغبن وليس بمطرد وفي شرح السنة: عند أحمد الخبر عام في حق كافة الناس إذا ذكر هذه الكلمة في البيع كان له الرد إذا ظهر في بيعه الغبن وسبيله سبيل من باع واشترى بشرط الخيار في المنهاج لهما ولأحدهما شرط الخيار وإنما يجوز في مدة معلومة ولا تزيد على ثلاثة أيام "أو باع قبل وصول السوق"لحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره قال: "نهى النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 صلى الله عليه وسلم أن يُتلقى الجلب فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق "وتلقي الجلب هو أن يقدم ركب بتجارة فيتلقاه رجل قبل أن يدخلوا البلد ويعرفوا السعر فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد وهذا مظنة ضرر للبائع لأنه إن نزل بالسوق كان أغلى له ولذلك كان له الخيار إذا عثر على الضرر "ولكل من المتبايعين بيعا منهيا عنه الرد"كتلك الصور المتقدمة ووجهه: أن النهي إن كان مقتضيا للفساد المرادف للبطلان كما تقرر في الأصول فوجود العقد كعدمه وهو غير لازم لواحد منهما فالرد بالخيار هو بمعنى الرد لما هو غير لازم وإن كان النهي غير مقتض للفساد فوقوع العقد على صورة من تلك الصور إن رضيه كل واحد منهما فقد حصل المناط الشرعي وهو الرضا وإن لم يحصل الرضا منهما أو من أحدهما لوقوعه على وجه يخالف الشرع فقد المناط "ومن اشترى شيئا لم يره فله رده إذا رآه"لحديث أبي هريرة مرفوعا "من اشترى ما لم يره فله الخيار إذا رآه" أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده عمر بن إبراهيم الكردي وهو ضعيف ولكنهما أخرجا عن مكحول مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وفي إسناده أيضا أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف ومثل هذا لا تقوم به الحجة ولكن الخيار في الغالب يمكن الاستدلال عليه بأحاديث النهي عن الغرر فإن ما لم يقف الإنسان على حقيقته لا يخلو عن نوع غرر سواء كان بعناية البائع أم لا وأيضا لا بد من حصول المناط الشرعي وهو التراضي فإذا لم يرض المشتري بالمبيع عند رؤيته فقد فقد الرضا وعدم المصحح "وله رد ما اشتراه بخيار"وذلك نحو أن يشتري شيئا على أنه له فيه الخيار مدة معلومة لما ورد في الأحاديث الصحيحة الواردة في خيار المجلس بلفظ "كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار " وفي لفظ "إلا أن يكون صفقة خيار" وهما في الصحيحين وفيهما ألفاظ بهذا المعنى ولكنه قد اختلف في تفسير بيع الخيار فقيل هذا وقيل غيره ويؤيد ثبوت خيار الشرط ما تقدم من حديث من كان يخدع في البيوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا بايعت فقل لا خلابة" وفي بعض الروايات "ولك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 الخيار ثلاثة أيام" وقد تقدم ذلك "وإذا اختلف البيعان فالقول ما يقوله البائع" لحديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وصححه الحاكم وابن السكن قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول صاحب السلعة أو يترادان " وفي لفظ "والمبيع قائم بعينه" وفي لفظ "إذا اختلف البيعان والمبيع مستهلك فالقول قول البائع" وفي لفظ "ولا بينة لأحدهما" وفي الباب روايات كثيرة قد استوفاها المصنف في نيل الأوطار وحاصلها: يفيد أن القول قول البائع وقد قيل: إن هذا الحديث مخصص لأحاديث أن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين وسيأتي وقيل بينهما عموم وخصوص من وجه فظاهر حديث القول ما يقول البائع أن القول قوله سواء كان مدعيا أو مدعى عليه وظاهر حديث "على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين "أن القول قول المنكر مع يمينه سواء كان بائعا أو غير بائع وقد تقرر أنه إذا تعارض عمومان كما نحن بصدده وجب المصير إلى الترجيح إن أمكن والترجيح ههنا ممكن فإن حديث "على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين" أصح من حديث "فالقول قول البائع" ومتقضى هذا الترجيح أن القول لا يكون قول البائع إلا إذا كان منكرا غير مدع من غير فرق بين المبيع الباقي والتالف ولكنه يرشد إلى الجمع ما رواه أحمد1 في زوائد المسند والدارمي والطبراني من حديث ابن مسعود الذي فيه "فالقول ما يقول البائع "بزيادة "والسلعة قائمة " ولكن في إسناد هذه الزيارة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف لسوء حفظه فلا يصح للجمع بين الحديثين بها وقد اختلف الفقهاء في ذلك اختلافا طويلا قال مالك الأمر عندنا في الرجل يشتري السلعة فيختلفان في الثمن فيقول البائع بعتكها بعشرة دنانير ويقول المبتاع ابتعتها منك بخمسة دنانير أنه يقال للبائع إن شئت فأعطها المشتري بما قال وإن شئت فاحلف بالله ما بعت سلعتك إلا بما قلت فإن حلف قيل للمشتري إما أن تأخذ السلعة بما قال البائع وإما أن تحلف بالله ما اشتريتها إلا بما قلت فإن حلف بريء منها وذلك أن كل   1الصواب "عبد الله بن أحمد في زوائد المسند"لأنه روى في أثناء مسند أبيه أحمد بن حنبل أحاديث لم يروها عن أبيه بل عن شيوخ آخرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 واحد منهما مدع على صاحبه وفي شرح السنة: ولا فرق عند الشافعي بين أن تكون السلعة قائمة أو تالفة في أنهما يتحالفان ويرد قيمة السلعة وإليه رجع محمد بن الحسن وذهب أبو حنيفة إلى أنهما لا يتحالفان بعد هلاك السلعة عند المشتري بل القول قول المشتري مع يمينه فإذا اختلفا في الأجل أو الخيار أو الرهن أو الضمين فهو عند الشافعي كالاختلاف في الثمن يتحالفان وقال أبو حنيفة: القول قول من ينفيها1 ولا تحالف عنده إلا عند اختلاف الثمن وفي الحجة البالغة: القول قول صاحب المال لكن المبتاع بالخيار لأن البيع مبناه على التراضي2   1قوله ينفيها أي الأجل والخيار وغيرهما 2لا نرى تعارضا بين حديث "على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين"وبين إثبات اليمين للبائع إذا اختلفا في القيمة فإن السلعة ملك البائع بيقين. والمشتري يدعي أنه ملكها بثمن ادعاه والبائع ينكر هذا ويتمسك بأصل بقائها في ملكه. وبأنها لم تخرج منه إلا بثمن أكثر مما قال المشتري. فالمشتري في الحقيقة هو المدعي وهو قوله مع يمينه إذا لم تكن بينة. وهذا هو الموافق للقواعد الصحيحة والقياس الجلي والأحاديث تؤيده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 " باب السلم " "هو"نوع مخصوص من أنواع البيع فلا يجوز أن يكون المالان مؤجلين لأن ذلك هو بيع الكالىء بالكالىء وقد تقدم المنع منه فلا بد أن يكون رأس المال مدفوعا عند العقد "أن يسلم رأس المال في مجلس العقد"وقد وقع الاتفاق على أنه يشترك فيه ما يشترط في البيع وعلى تسليم رأس المال في المجلس وقد شرط في السلم جماعة من أهل العلم شروطا لم يدل عليها دليل "على أن يعطيه ما يتراضيان عليه معلوما إلى أجل معلوم"لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" وأخرج أحمد والبخاري من حديث عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى قالا: "كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يأتينا أبناط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 والزيت إلى أجل مسمى قيل: أكان لهم زرع أو لم يكن؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك "وفي لفظ لأحمد وأهل السنن إلا الترمذي "وما نراه عندهم "في شرح السنة: السلف له معنيان في المعاملات أحدهما القرض والثاني السلم ومعناه عند الشافعي لو كان مؤجلا اشترط معرفة الأجل ولو كان مكيلا أو موزونا اشترط معرفة الكيل أو الوزن وفهم معرفة الجنس والوصف بالأولى وفي الوقاية: يصح فيما يعلم قدره وصفته لا فيما لا يعلم قدره وصفته كالحيوان وشروطه بيان جنسه ونوعه وصفته وقدره معلوما وأجله معلوما وأقله شهر وفي الحجة البالغة: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهو يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال: "من أسلف في شئ فليسلف في كيل ووزن إلى أجل معلوم" وذلك لترتفع المناقشة بقدر الإمكان وقاسوا عليها الأوصاف التي يبين بها الشئ من غير تضييق ومبنى القرض على التبرع من أول الأمر وفيه معنى الإعارة فلذلك جازت النسيئة وحرم الفضل انتهى. أقول: أما اعتبار الجنس والصفة فليس في الحديث ما يدل عليه وكذلك اشتراط تعيين المكان ليس في الحديث ما يدل عليه وإنما اعتبر تعيين هذه الأمور لرفع التشاجر من بعد ولا يخفى أن الرجوع إلى النوع المعهود أو الصفة المعهودة أو إلى الأوسط من ذلك يرفع التشاجر وكذلك يرفع التشاجر في تعيين المكان إلى الأصل وهو عدم وجوب الإيصال على المسلم إليه والرجوع إلى البلدة التي هي وطنه أو بلد إقامته يرفع ذلك أيضا. فالحاصل: أن شروط السلم تعيين جنس المسلم فيه وكونه معلوما بكيل أو وزن وكونه إلى أجل معلوم فهذه ثلاثة شروط ولم يدل الدليل على اشتراط غيرها. ولا يأخذ إلا ما سماه أو رأس ماله لحديث ابن عمر عند الدارقطني قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسلف شيئا فلا يشرط على صاحبه غير قضائه" وفي لفظ "من أسلف في شئ فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه أو رأس ماله" قال مالك: الأمر عندنا فيمن أسلف في طعام بسعر معلوم إلى أجل مسمى فحل الأجل فلم يجد المبتاع عند البائع وفاء مما ابتاع منه فأقاله فإنه لا ينبغي له أن يأخذ إلا ورقه أو ذهبه أو الثمن الذي دفع إليه بعينه "ولا يتصرف فيه قبل قبضه"لما أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره" وفي إسناده عطية بن سعيد العوفي وفيه مقال. والمعنى أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 لا يحل جعل المسلم فيه ثمنا لشئ قبل قبضه ولا يجوز بيعه قبل القبض وقد اختلف أهل العلم في ذلك قال مالك: لا يشتري منه بذلك الثمن شيئا حتى يقبضه منه وذلك أنه إذا أخذ غير الثمن الذي دفع إليه أوصرفه في سلعة غير الطعام الذي ابتاع منه فهو بيع الطعام قبل أن يستوفى قلت: وعليه أهل العلم في الوقاية: ولم يجز التصرف في رأس المال والمسلم فيه كالشركة والتولية قبل قبضه وفي المنهاج: ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه ولا الاعتياض عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 " باب القرض " "يجب إرجاع مثله"لأنه إذا وقع التعاطي على أن يكون القضاء زائدا على أصل الدين فذلك هو الربا بل قد ورد ما يدل على أن مجرد الهدية من المستقرض للمقرض ربا كما أخرجه البخاري عن أبي بردة بن أبي موسى قال: "قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: إنك بأرض فيها الربا فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذنه فإنه ربا " "ولا يجوز أن يكون أفضل أو أكثر إذا لم يكن مشروطا"لحديث جابر في الصحيحين قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي عليه دين فقضاني وزادني "وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة قال: "كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال أعطوه فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنا فوقها فقال: أعطوه فقال: أوفيتني أوفاك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خيركم أحسنكم قضاء " وأخرج نحوه مسلم وغيره من حديث أبي رافع وهذان الحديثان كما يدلان على جواز أن يكون القضاء أفضل يدلان على أنه يصح قرض الحيوان وإليه ذهب الجمهور ومنه من ذلك الكوفيون "ولا يجوز أن يجر القرض نفعا للمقرض"لحديث أنس عند ابن ماجه "أنه سئل عن الرجل يقرض أخاه المال فيهدي إليه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك" وفي إسناده يحيى بن إسحق الهنائي وهو مجهول وفي إسناده أيضا عتبة ابن حميد الضبي وقد ضعفه أحمد والراوي عنه إسمعيل بن عياش وهو أيضا ضعيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وقد أخرج البخاري في التاريخ من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقرض فلا يأخذ هدية " وأخرج البيهقي عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عياش في السنن الكبرى موقوفا عليهم "إن كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا "وأخرج البيهقي أيضا نحو ذلك في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفا عليه وقد تقدم ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن سلام وقد أخرجه الحرث بن أبي أسامة من حديث علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة "وفي رواية "كل قرض جر منفعة فهو ربا "وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك وما في الباب من الأحاديث والآثار يشهد بعضها لبعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 كتاب الشفعة والأصل فيها دفع الضرر عن الجيران والشركاء "سببها الإشتراك في سيء ولو منقولا"لعموم الأحاديث الواردة في ذلك كحديث جابر في البخاري وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة "وأخرجه أيضا بنحو هذا اللفظ أهل السنن وحديث أبي هريرة قال "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: إذا قسمت الدار وحدت فلا شفعة فيها "أخرجه أبو داود وابن ماجه بإسناد رجاله ثقات وأخرج مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم "وأخرج البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا "الشفعة في كل شئ " ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال وأخرج الطحاوي له شاهدا من حديث جابر بإسناد لا بأس به "فإذا وقعت القسمة فلا شفعة" لما في هذه الأحاديث من التصريح بأنها في الشئ الذي لم يقسم ثم فسر القسمة بقوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " فالأحاديث الواردة في مطلق شفعة الجار كأحاديث "الجار أحق بسقبه1"   1السقب بفتح القاف. القرب وفيه لغتان السين والصاد. قال في النهاية "ويحتمل أن يكون أراد أنه أحق بالبر والمعونة بسبب قربه من جاره"وهذا الاحتمال أظهر عندي في معنى الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وهي ثابتة في الصحيحين وغيرهما مقيدة بعدم القسمة لأن الجار كما يصدق على الملاصق يصدق على المخالط وأما تقييد شفعة الجار باتحاد الطريق كما في حديث جابر عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم "الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها إن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا " فهذا الحديث يؤيد ما قلناه من أنه لا شفعة إلا للخليط لأن الطريق إذا كانت واحدة فالخلطة كائنة فيها ولم تقع القسمة الموجبة لبطلان الشفعة لعدم تصريف الطرق فالحق أن سبب الشفعة هو واحد فقط وهو الشركة قبل القسمة والخلطة الكائنة بين الشريكين في المشترك بينهما أو في طريقه أو في مجاريه أو منبعه فما قيل من أن من أسبابها الاشتراك في الطريق والاشتراك في قرار النهر أو مجاري الماء هو راجع إلى السبب الذي ذكرناه لأن الاشتراك في طريق الشئ أو في سواقيه هو اشتراك في بعض ذلك الشئ والحاصل: أن هذه الأحاديث مخصصة لذلك العموم لأن الظاهر من قوله: "فلا شفعة "أن القسمة مانعة من ثبوت الشفعة سواء كانت القس مة بين المشتري والشفيع أو متقدمة كما يفيده النكرة الواقعة في سياق النفي وقد حقق الماتن المقام في رسالة مستقلة أورد فيها جميع ما ورد في الشفعة من الأدلة وجمع بينها جمعا نفيسا فليرجع إليها وقد حكى في البحر عن علي وعثمان وعمر وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز وربيعة بن مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وعبيد الله بن الحسن والإمامية أن الشفعة لا تثبت إلا بالخلطة وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى وابن سيرين: أن الشفعة تثبت بالجوار واستدلوا بالأحاديث الواردة في شفعة الجار قال في شرح السنة: اتفق أهل العلم على ثبوت الشفعة للشريك في الربع المنقسم إذا باع أحد الشركاء نصيبه قبل القسمة فللباقين أخذه بالشفعة بمثل الثمن الذي وقع عليه البيع وإن باع بشئ متقوم من ثوب أو عبد فيأخذ بقيمته واختلفوا في ثبوت الشفعة للجار قال الشافعي: لا شفعة للجا. وذهب أبو حنيفة: إلى ثبوت الشفعة للجار وفي المنهاج: وكل ما لو قسم بطلت منفعته المقصودة كحمام ورحى لا شفعة فيه في الأصح وفي الموطإ: عن عثمان بن عفان لا شفعة في بئر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 ولا نخل1 قال في الحجة البالغة: أرى أن الشفعة شفعتان شفعة يجب على المالك أن يعرضها على الشفيع فيما بينه وبين الله وأن يؤثره على غيره ولا يجبر عليها في القضاء وهي للجار الذي ليس بشريك وشفعة يجبر عليها في القضاء وهي للجار الشريك فقط وهذا وجه الجمع بين الأحاديث المختلفة في الباب انتهى والحق ما قدمناه "ولا يحل للشريك أن يبيع حتى يؤذن شريكه"لحديث جابر عند مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به " "ولا تبطل بالتراخي"لما في الأحاديث الواردة في الشفعة من الإطلاق وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ "لا شفعة لغائب ولا لصغير والشفعة كحل العقال" ففي إسناده محمد بن عبد الرحمن البيلماني وهو ضعيف جدا وقال ابن حبان: لا أصل للحديث وقال أبو زرعة: منكر وقال البيهقي: ليس بثابت ولا يصح تأييد هذا الحديث الباطل بما روي من قول شريح فإنه لاحجة في ذلك على أن هذا الحديث قد اشتمل على ثلاثة أحكام: نفي شفعة الغائب ونفي شفعة الصغير واعتبار الفور وقد هُجر ظاهره في الحكمين الأولين فكان ذلك مقيدا لترك الاحتجاج به في الحكم الثالث على فرض أنه غير باطل. والحاصل: أنه ليس في اشتراط الفورية ما يصلح متمسكا كما لا يخفى على عارف وقد ثبتت الشفعة بتلك الأحاديث الصحيحة فتقييد الثبوت بقيد لا دليل عليه مستلزم لإبطال ما يستفاد من أحاديث الثبوت من الإطلاق بدون حجة وذلك باطل فالحق أن الشفعة لا تبطل بالتراخي لأن دفع الضرر الذي شرعت لأجله لا يختص بوقت دون وقت وما قيل من أن إثباتها مع التراخي يستلزم الإضرار بالمشتري لأنه ملكه يكون معلقا ممنوع والسند أن ملكه مستقر يتصرف به كيف يشاء غاية ما هناك أن للشفيع حقا متى طلبه وجب وليس ذلك من التعليق في شئ ولا إضرار في ذلك بحال2   1لفظ الموطإ: "لا شفعة في بئر ولا فحل النخل" وبين صاحب النهاية سببه بأنه كان للقوم نخيل ولهم فحل يلقحون منه نخيلهم فلا شفعة فيه لأنه يمكن قسمته. وهذا خلاف ظاهر ما فهمه الشارح هنا. 2كلا بل الضرر واقع على المشتري فغن وقع طلب الشريك الشفعة يفوت عليه كثيرا من المقاصد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 كتاب الإجارة قال الله تعالى في قصة موسى وشعيب عليهما السلام: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} وقال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} في هذه الآية مشروعية الإجارة مطلقا ومشروعية الإجارة بتسليم نفسه للخدمة وعليه أهل العلم وتدل أيضا على أنه إن أطاق الخدمة فهي محمولة على المتعارف ولا يضرها الجهالة في الجملة لأن الإرضاع والرعي لا يضبطان حق الضبط "تجوز على كل عمل لم يمنع منه مانع شرعي"لإطلاق الأدلة الواردة في ذلك كحديث أبي سعيد قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره "أخرجه أحمد ورجال إسناده رجال الصحيح وأخرجه أيضا البيهقي وعبد الرزاق وإسحاق في مسنده وأبو داود في المراسيل والنسائي في الزراعة غير مرفوع ولفظ بعضهم من استأجر أجيرا فليسم له أجرته ولا طلاق حديث أبي هريرة عند البخاري وأحمد قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا وأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره" وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم دليلا عند هجرته إلى المدينة كما في البخاري وغيره وثبت من حديث أبي هريرة عند البخاري قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم فقال أصحابه: وأنت قال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي من حديث سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه وثم رجل يزن بالأجر فقال له: زن وأرجح "وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر قدر أجرته بل أعطاه ما يعتاده في مثل ذلك وقد كان الصحابة   1وغذا أراد أن يبيع باع بالبخس لخوف المشتري الجديد أن يخرج من ملكه بالشفعة. والحق أن تقدير أن هذا الحق للشريك لأنه مما لا فص فيه فإذا حد لخ اجلا وجب الوقوف عنده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 رضي الله تعالى عنهم يؤجرون أنفسهم في عصره صلى الله عليه وسلم ويعملون الأعمال المختلفة حتى إن عليا آجر نفسه من امرأة على أن ينزع لها كل ذنوب بتمرة فنزع ستة عشر ذنوبا حتى مجلت1 يداه فعدت له ست عشرة تمرة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأكل معه منها أخرجه أحمد من حديث علي بإسناد جيد وأخرجه أيضا ابن ماجه وصححه ابن السكن وأخرجه البيهقي وابن ماجه من حديث ابن عباس "أن عليا آجر نفسه من يهودي يسقي له كل دلو بتمرة "وأما المانع الشرعي فهو مثل الصور التي سيأتي ذكرها "وتكون الأجرة معلومة عند الاستئجار"لحديث أبي سعيد المتقدم "فإن لم تكن"أجرته "كذلك"أي معلومة "استحق الأجير مقدار عمله عند أهل ذلك العمل"لحديث سويد بن قيس السابق ولكون ذلك هو الأقرب إلى العدل وأما أجرة القسام فأقول: القسام أجير كسائر الأجراء يستحق أجرته ممن عمل له فإن كانت مسماة لم يستحق سواها وإن كانت غير مسماة كانت له مثله على حسب العمل ولكنه لا يُجعل له من الأجرة ما يُجعل لمن يزاول الأعمال الوضيعة لأن مرجع صناعة القسمة إلى العلم وهو أشرف صناعة دينا ودنيا ولا يجعل له ما يجعل للقسامين في هذا العصر من الأجرة التي تكاد تبلغ إلى مقدار نصيب بعض المقتسمين فإن ذلك من الظلم البحت بل يسلك به مسكا وسطا وتكون الأجرة على مقدار الأنصباء فيكون على كل واحد من الشركاء بمقدار نصيبه وأما ما يروى عن بعض أهل العلم أن أجرة القسام تكون نصف عشر التركة أو ربع عشرها فمجازفة لا ترجع إلى دليل بل إعانة لظلمة القسامين على أكل أموال الناس بالباطل ولقد تفاحش كثير من الحكام ونوابهم في هذا الأمر وصنعوا صنيع من لا يخشى تبعة في الدنيا والآخرة نسأل الله السلامة مع أن من كان منهم يأخذ مقررا من بيت المال لا يستحق على القسمة شيئا من الأجرة لأنه قد صار مستغرق المنافع فكما أنه لا يأخذ أجرة على قضائه كذلك لا يأخذ أجرة على القسمة لأن الكل من مصالح المسلمين التي أخذ نصيبا من بيت المال في مقابلة القيام بها بحسب طاقته   1مجلت يده إذا تخن جلدها وظهر فيها ما يشبه البئر من العمل في الأشياء الصلبة الخشنة قاله ابن الأثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 "وقد ورد النهي عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن"لحديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كسب الحجام ومهر البغي وثمن الكلب "أخرجه أحمد برجال الصحيح وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط ومثله من حديث رافع بن خديج عند أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي وصححه وهو أيضا في صحيح مسلم وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي مسعود البدري قال "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن " "وعسب الفحل"وقد تقدم الكلام على ثمن الكلب وعلى عسب الفحل في البيع والمراد بمهر البغي ما تأخذه الزانية على الزنا والمراد بحلوان الكاهن عطية الكاهن لأجل كهانته والحلوان بضم الحاء المهملة مصدر حلوته إذا أعطيته وقد استدل بما تقدم بعض أهل الحديث فقال: إنه يحرم كسب الحجام وقد ورد في معنى ما تقدم أحاديث وفي بعضها التصريح بأنه خبيث وأنه سحت وذهب الجمهور إلى أنه حلال لحديث أنس في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم حجمه أبو طيبة وأعطاه صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه "وفيهما أيضا من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره ولو كان سحتا لم يعطه "والأولى الجمع بين الأحاديث بأن كسب الحجام مكروه غير حرام إرشادا منه صلى الله عليه وسلم إلى معالي الأمور ويؤيد ذلك حديث محيصة ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه بإسناد رجاله ثقات "أنه كان له غلام حجام فزجره النبي صلى الله عليه وسلم عن كسبه فقال له: ألا أطعمه أيتاما لي؟ قال: لا قال: أفلا أتصدق به قال: لا فرخص له أن يعلفه ناضحه "فلو كان حراما بحتا لم يرخص له أن يعلفه ناضحه ويستفاد منه أن إعطاءه صلى الله عليه وسلم الحجام لا يستلزم أن يأكله أهله حتى تتعارض الأحاديث فقد يكون مكروها لهم ويكون وصفه بالسحت والخبث مبالغة في التنفير وقد يمكن الجمع بأن المنع عن مثل ما منع منه محيصة والإذن بمثل ما أذن له ورخص له فيه "وأجر المؤذن"لحديث عبادة بن الصامت "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان ابن أبي العاص: "واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا" وفي لفظ "لا تتخذ مؤذنا يأخذ على أذانه أجرا " والحديث في الصحيح1 "وقفير الطحان"لحديث   1ولكن هل هذا يدل على كراهة أخذ المؤذن الأجر لا أظن ذلك بل يدل عل يأن علي الإمام أن = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 أبي سعيد قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان "أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده هشام أبو كليب قيل: لا يعرف وقد أورده ابن حبان الثقات ووثقه مغلطاي وقفيز الطحان هو أن يطحن الطعام بجزء منه وقيل: المنهي عنه طحن الصبرة1 لا يعلم قدرها بجزء منها "ويجوز الاستئجار على تلاوة القرآن"لحديث ابن عباس عند البخاري وغيره "أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راق فإن في الماء رجلا لديغا أو سليما فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرا حتى قدموا المدينة فقالوا يارسول الله: أخذ على كتاب الله أجرا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله" "وفي لفظ من حديث أبي سعيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أصبتم اقتسموا واضربوا لي معكم سهما" وضحك النبي صلى الله عليه وسلم "والحديث في الصحيحين بألفاظ وفي حديث خارجة بن الصلت عن عمه في رقية المجنون بقاتحة الكتاب "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذها فلعمري من أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي "لا على تعليمه" لحديث أبي بن كعب قال: "علمت رجلا القرآن فأهدى لي قوسا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أخذتها أخذت قوسا من نار" فرددتها "أخرجه ابن ماجه والبيهقي وقد أعل بالانقطاع وتعقب وأعل أيضا بجهالة بعض رواته وتعقب وله شاهد عند الطبراني من حديث الطفيل بن عمر والدوسي قال: "أقرأني أبي بن كعب القرآن فأهديت إليه قوسا فغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقلدها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "تقلدها من جهنم " وعلى هذا يحمل حديث عبد الرحمن بن شبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقرؤا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به " أخرجه أحمد برجال الصحيح وأخرجه أيضا البزار وله شواهد وحديث عمران بن حصين "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقرؤا القرآن واسألوا الله به فإن من بعدكم "   = يبحث عمن لا يأخذ الجر ليكون اكثر ثوابا وأما المؤذن الأجر فلم يرد فيه نهي ويكون بمفهوم هذا الحديث خلاف الأولى. والأصل في الأشياء الإباحة وما سكت الله عنه فهو عفو كم في الحديث الصحيح. 1 هي الطعام المجتمع كالكومة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 قوما يقرؤون القرآن يسألون الناس به "أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وفي الباب أحاديث ووجه المنع من أخذ الأجرة على تعليمه أن ذلك من تبليغ الأحكام الشرعية وهو واجب وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل وأصحابه وأبو حنيفة وبه قال عطاء والضحاك والزهري وإسحق وعبد الله بن شقيق هذا وقد مال الماتن في حاشية الشفاء: إلى أن الجمع متقدم على الترجيح قال لأن حديث "أحق ما أخذتم عليه أجرا القرآن" عام يصدق على التعليم وأخذ الأجرة على التلاوة لمن طلب من القارىء ذلك وأخذ الأجرة على الرقية وأخذ ما يدفع إلى القارىء من العطاء لأجل كونه قارئا ونحو ذلك فيخص من هذا العموم تعليم المكلف ويبقى ما عداه داخلا تحت العموم وبعض أفراد العام فيه أدلة خاصة تدل على جوازه كما دل العام على ذلك فمن تلك الأفراد أخذ الأجرة على الرقية وتعليم المرأة في مقابلة مهرها فهكذا ينبغي تحرير الكلام في المقام والمصير إلى الترجيح من ضيق العطن ولا سيما لما لا مدخل له فيما نحن بصدده كما زعمه المصنف والمقبلي وبهذا تعلم أن ما ساقه في أدلة القائلين بجواز أخذ الأجرة على التعليم من حديث الرقية لا دلالة فيه على المطلوب "ويجوز أن يكري العين مدة معلومة بأجرة معلومة"لما ورد من إكراء الأراضي في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم كحديث رافع بن خديج في الصحيحين قال: "كنا أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما بالورق فلم ينهنا "وفي لفظ لمسلم وغيره "فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به "وسائر الأعيان لها حكم الأرض وفي شرح السنة: ذهب عامة أهل العلم إلى جواز كراء الأرض بالدراهم والدنانير وغيرها من صنوف الأموال سواء كان مما تنبت الأرض أولا تنبت إذا كان معلوما بالعيان أو بالوصف كما يجوز إجارة غير الأراضي من العبيد والدواب وغيرها وجملته أن ما جاز بيعه جاز أن يجعل أجرة قال محمد: لا بأس بكراء الأرض بالذهب والورق وبالحنطة كيلا معلوما وضربا معلوما ما لم يشترط ذلك مما يخرج منها فإن اشترط مما يخرج منها كيلا معلوما فلا خير فيه وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا "ومن ذلك الأرض لا بشطر ما يخرج منها"لأن أحاديث "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عامل أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 خيبر بشطر ما يخرج من تمر أو زرع "وإن كانت ثابتة في الصحيحين وغيرهما فهي منسوخة بمثل حديث رافع المتقدم وما ورد في معناه وفي المسألة مذاهب متنوعة وأدلة مختلفة واجتهادات مضطربة قد أوضحها الماتن في شرح المنتقى وفي رسالة مستقلة وذكرتها في مسك الختام ومن أصرح أحاديث النهي حديث جابر عند مسلم وغيره قال: "كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من القصري1 ومن كذا ومن كذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " من كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه وإلا فليدعها " وفي حديث سعد بن أبي وقاص "أنه نهاهم أن يكروا بذلك وقال: " أكروا بالذهب والفضة" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ورجاله ثقات وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة نحو حديث جابر وفي الحجة البالغة: اختلف الرواة في حديث رافع اختلافا فاحشا وكان وجوه التابعين يتعاملون بالمزارعة ويدل على الجواز حديث معاملة أهل خيبر وأحاديث النهي عنها محمولة على الإجارة بما على الماذيانات أو قطعة معينة وهو قول رافع أو على التنزيه والإرشاد وهو قول ابن عباس أو على مصلحة خاصة بذلك الوقت من جهة كثرة مناقشتهم في هذه المعاملة حينئذ وهو قول زيد رضي الله تعالى عنه والله تعالى أعلم والمزارعة أن يكون الأرض والبذر لواحد والعمل والبقر من الآخر والمخابرة أن يكون الأرض لواحد والبذر والبقر والعمل من الآخر ونوع آخر يكون العمل من أحدهما والباقي من الآخر انتهى "ومن أفسد ما استؤجر عليه أو أتلف ما استأجره ضمن"لمثل حديث "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي والحاكم وصححه وهو من حديث الحسن عن سمرة وفي سماعه منه كلام مشهور والمراد أن على اليد ضمان ما أخذت حتى تؤديه وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه والبزار من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن" وقد أخرجه النسائي مسندا منقطعا ويؤيده حديث عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز   1قوله القصري قال النووي في شرح مسلم هو بقاف مكسورة ثم صاد مهملة ساكنة ثم راء مكسورة ثم ياء مشددة على وزن القبطي هكذا ضبطناه وكذا ضبطه الجمهور وهو المشهور قال القاضي هكذا رويناه عن أكثرهم وعن الطبري بفتح القاف والراء مقصور وعن ابن الخزاعي ضم القاف مقصور وقال الصواب الأول وهو ما بقي من الحب في السنبل بعد الدباس اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 قال: حدثني بعض الوفد الذين قدموا على أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما طبيب تطبب على قوم لا يعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت1 فهو ضامن" أخرجه أبو داود فالمتطبب إنما ضمن لكونه أقدم على بدن المريض غير عالم بما يعلم به أهل هذه الصناعة فكان ضامنا وهكذا من استؤجر على عمل عين فأقدم على العمل فيها غير عالم بالصناعة وأفسدها لتعاطيه ضمن وهكذا من استأجر دابة ليركب عليها إلى مكان فسار بها سيرا غير معتاد فهلكت أو تركت علفها فماتت فإنه ضامن   1أي أضر المريض وأفسده. والعنت الفساد والغلط والخطأ والإعنات إدخال الضرر والإفساد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 "باب الإحياء والإقطاع" "من سبق إلى إحياء أرض لم يسبق إليها غيره فهو أحق بها وتكون ملكا له"لحديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضا ميتة فهي له" أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان وصححه الترمذي وفي لفظ "من أحاط حائطا على أرض فهي له" أخرجه أحمد وأبو داود وأخرج أحمد وأبو داود والطبراني والبيهقي وصححه ابن الجارود من حديث الحسن عن سمرة مرفوعا "من أحاط حائطا على أرض فهي له" وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي من حديث سعيد بن زيد قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق" وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها " وأخرج أبو داود من حديث أسمر بن مضرس قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فقال: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له" فخرج الناس يتعادون يتخاطبون "أي يجعلون في الأرض خطوطا علامة لما سبقوا إليه وصححه الضياء في المختارة في شرح السنة: من أحيا مواتا لم يجر عليه ملك أحد في الإسلام يملكه وإن لم يأذن السلطان وبه قال الشافعي وذهب بعضهم إلى أنه يحتاج إلى إذن السلطان وهو قول أبي حنيفة وخالفه صاحباه وقوله: "ليس لعرق ظالم حق" هو أن يغتصب أرض الغير فيغرس فيها أو يزرع فلا حق له ويقلع غراسه وزرعه وفي المنهاج: ولو سبق رجل إلى موضع من رباط مسبل أي وقف أو فقيه إلى مدرسة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 أو صوفي إلى خانقاه لم يزعج منه ولم يبطل حقه بخروجه لشراء حاجة ونحوه انتهى في الحجة البالغة: الأرض كلها بمنزلة مسجد أو رباط جعل وقفا على أبناء على أبناء السبيل وهم شركاء فيه فيقدم الأسبق فالأسبق ومعنى الملك في حق الآدمي كونه أحق كالإنتفاع من غير انتهى "ويجوز للإمام أن يقطع من في إقطاعه مصلحة شيئا من الأرض الميتة أو المعادن أو المياه"لما في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر "من أنها كانت تنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن عمر "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أقطع الزبير حضر1 فرسه وأجرى الفرس حتى قام ثم رمى بسوطه فقال: أقطعوه حيث بلغ السوط " وفي إسناده عبد الله بن عمر بن حفص وفيه مقال خفيف وأقطع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وائل بن حجر أرضا بحضرموت كما أخرجه الترمذي وأبو داود وابن حبان والبيهقي والطبراني والمنذري بإسناد حسن وصححه الترمذي وأخرجه أحمد من حديث عروة بن الزبير أن عبد الرحمن بن عوف قال: "أقطعني النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وعمر بن الخطاب أرض كذا وكذا "وأخرج البخاري وغيره من حديث أنس قال: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ليقطع لهم البحرين فقالوا يارسول الله: إن فعلت فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها فلم يكن ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن عباس قال: "أقطع النبي صلى الله عليه وسلم بلال بن الحرث المزني معادن القبلية جلسيّها وغوريّها2 "وأخرجاه أيضا من حديث عمرو بن عوف المزني وأخرج الترمذي وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي من حديث أبيض بن حمال "أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم استقطعه الملح فقطع له فلما أن ولى قال رجل من المجلس: أتدري ما أقطعت له إنما أقطعته الماء العد3 قال: فانتزعه منه "وفي الباب   1 الحضر بضم الحاء وإسكان الضاد العدو. 2 القبلية: بفتح القاف والباء ناحية من ساحل البحر وجلسيها وغوريها: بفتح فسكون فيهما: نسبة إلى جلس وغور بمعنى المرتفع والمنخفض أي إعطاء ما ارتفع منها وما انخفض. 3 العد بكسر العين الدائم الذي لا انقطاع له مثل ماء العين وماء البئر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 غير ذلك قال في المنهاج: المعدن الظاهر وهو ما يخرج بلا علاج لا يُملك بالإحياء ولا يثبت فيه اختصاص بتحجر ولا إقطاع والمعدن الباطن هو ما لا يخرج إلا بعلاج كذهب وفضة وحديد ونحاس لا يُملك بالحفر والعمل في الأظهر قال المحلي: والثاني يُملك بذلك وللسلطان إقطاعه على الملك وكذا على عدمه في الأظهر ولا يقطع إلا قدرا يتأتى في العمل عليه قال في الحجة البالغة: ولا شك أن المعدن الظاهر الذي لا يحتاج إلى كثير عمل إقطاعه لواحد من المسلمين إضرار بهم وتضييق عليهم إنتهى * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 كتابة الشَّركة "الناس شُركاء في الماء والنار والكلاء"لحديث أبي خراش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء والكلإ والنار" أخرجه أحمد وأبو داود وقد رواه أبو نعيم في الصحابة في ترجمة أبي خراش ولم يذكر الرجل وقد سئل أبو حاتم عنه فقال: أبو خراش لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن حجر: رجاله ثقات وقد أخرج الحديث ابن ماجه عن ابن عباس وفي إسناده عبد الله بن خراش وهو متروك وقد صححه ابن السكن وأخرج ابن ماجه أيضا من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُمنع الماء والنار والكلأ " قال ابن حجر: إسناده صحيح وأخرج الخطيب من حديث عمر نحو ما في الباب وزاد "والملح" وفيه عبد الحكيم بن مسرة ورواه الطبراني بسند حسن عن زيد بن جبير عن ابن عمر وله عنده طريق أخرى وأخرجه أبو داود من حديث بهيسة عن أبيها وأخرجه ابن ماجه من حديث عائشة "أنها قالت: يارسول الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال: "الملح والماء والنار" وإسناده ضعيف وأخرجه الطبراني عن أنس بلفظ "خصلتان لا يحل منعهما الماء والنار" وأخرجه العقيلي في الضعفاء من حديث عبد الله بن سرجس وأحاديث الباب تنتهض بمجموعها وقد خصص الحديث بما وقع من الإجماع على أن الماء المحرز في الجرار ملك قال في الحجة: يتأكد استحباب المواساة في هذه فيما كان مملوكا وما ليس بمملوك أمره ظاهر انتهى "وإذا تشاجر المستحقون للماء كان الأحق به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 الأعلى فالأعلى يمسكه إلى الكعبين ثم يرسله إلى من تحته"لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور1 أن يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل" أخرجه أبو داود وابن ماجه قال ابن حجر في الفتح: وإسناده حسن وأخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عائشة وصححه الحاكم وأعله الدارقطني بالوقف وأخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ثعلبة بن مالك وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث أبي حاتم القرظي عن أبيه عن جده وأخرج ابن ماجه والبيهقي والطبراني من حديث عبادة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في شرب النخل من السيل أن الأعلى يشرب قبل الأسفل ويترك الماء إلى الكعبين ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه وكذلك حتى تنقضي الحوائط أو يفنى الماء "وأحاديث الباب صالحة للاحتجاج بها قال في المنهاج: والمياه المباحة من الأودية والعيون والسيول والأمطار يستوي الناس فيها فإن أراد الناس سقي أرضهم منها فضاق سقى الأعلى فالأعلى وحبس كل واحد الماء حتى يبلغ الكعبين وقال محمد: بهذا نأخذ لأنه كان كذلك الصلح بينهم ولكل قوم ما اصطلحوا وأسلموا عليه من عيونهم وسيوليهم وأنهارهم وشربهم "ولا يجوز منع فضل الماء ليمنع به الكلأ"لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ " وفي لفظ مسلم "لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ " وفي لفظ للبخاري "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ "وفي الباب أحاديث وفي لفظ لأحمد "ولا يمنع فضل ماء بعد أن يستغنى عنه "وهو أن يتغلب رجل على عين أو واد فلا يدع أحد يسقي منه ماشية إلا بالأجر فإنه يفضي إلى بيع الكلإ المباح يعني يصير المرعى من ذلك بإزاء مال وهذا باطل لأن الماء والكلأ مباحان وقيل: يحرم بيع الماء الفاضل عن حاجته لمن أراد الشرب أو سقي الدواب وأما ماء البئر فلا يُمنع من أراد شربه أو سقي بهائمه كما في الموطإ من حديث عمرة بنت عبد الرحمن "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع نقع بئر" "أي فضل مائها قلت: وعليه أهل العلم في المنهاج وحافر بئر بموات للارتفاق أولى بمائها حتى يرتحل والمحفورة أي في أرض موات للتملك أو في   1 هو واد بالمدينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 ملك يتملك ماءها في الأصح وسواء ملكه أم لا لا يلزمه بذل مافضل عن حاجته لزرع ويجب لماشية قال المحلي: في المحفورة للارتفاق وقبل ارتحاله ليس له منع مافضل عنه عن محتاج إليه للشرب إذا استسقى بدلو نفسه ولا منع مواشيه وله منع غيره لسقي الزرع قال محمد: وبهذا نأخذ أيما رجل كانت له بئر فليس له أن يمنع الناس منها أن يستقوا منها بشفاههم أما لزرعهم ونخلهم فله أن يمنع ذلك وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا "وللإمام أن يحمي بعض المواضع لرعي دواب المسلمين في وقت الحاجة"لحديث ابن عمر عند أحمد وابن حبان "أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع1 للخيل خيل المسلمين" وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم من حديث الصعب بن جثامة2 وزاد "لاحمى إلا لله ورسوله "وهذه الزيادة في صحيح البخاري وفيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع وأن عمر حمى شرف والربذة3 "قلت: وعليه الشافعي في المنهاج: والأظهر أن للإمام أن يحمي بقعة موات لرعي نعم جزية وصدقة وضالة وضعيف من النجعة ولا يحمي لغير ذلك انتهى لأن الحمى تضييق على الناس وظلم عليهم وإضرار لهم "ويجوز الاشتراك في النقود والتجارات ويقسم الربح على ما تراضيا عليه"لحديث السائب بن أبي السائب "أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لاتداريني ولا تماريني "أخرجه أبو داود وابن ماجه والنسائي والحاكم وصححه وفي لفظ لأبي داود وابن ماجه "أن السائب المخزومي كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة فجاء يوم الفتح فقال: مرحبا بأخي وشريكي لا تداري ولا تماري "وله طرق غير هذه وأخرج البخاري عن أبي المنهال "أن زيد بن أرقع والبراء بن عازب كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهما أن ما كان يدا بيد فخذوه وما كان نسيئة فردوه "وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود قال: "اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم   1 موضع على عشرين فرسخا من المدينة وهو بالنون. 2 لعله سقط هنا لفظ "مثله". 3 شرف بفتح الشين المعجمة وفتح الراء ولفظ البخاري "الشرف"بالتعريف وهو والربذة موضعان بين مكة والمدينة ورواه بعضهم "سرف"بفتح السين المهملة وكسر الرء وهو موضع بقرب مكة ولا يدخل عليه الألف واللام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 بدر قال فجاء سعد بأسيرين ولم أجىء أنا وعمار بشئ "وفيه انقطاع وأخرج أحمد وأبو داود عن رويفع بن ثابت قال: "إن كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ نضو1 أخيه على أن له النصف مما يغنم ولنا النصف وإن كان أحدنا ليطير له النصل والريش وللآخر القدح2 "وأخرجه الدارقطني والبيهقي "وتجوز المضاربة"وهو في لغة أهل المدينة القراض والضرب بمعنى السفر والمضاربة المعاملة على السفر وأيضا الضرب بمعنى الشركة والمضاربة المعاملة على الشركة اتفق أهل العلم على جواز المضاربة ولا تجوز إلا على الدراهم والدنانير وهو أن يعطي شيئا منها لرجل ليعمل ويتجر فيما يحصل من الربح يكون بينهما مناصفة أو أثلاثا على ما يتشارطان "ما لم تشتمل على ما لا يحل"لما روي عن حكيم بن حزام "أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالا مقارضة يضرب له به أن لا يجعل مالي في كبد رطبة ولا يحمله في بحر ولا ينزل به بطن مسيل فإن فعلت شيئا من ذلك فقد ضمنت مالي "وقد قيل: إنه لم يصح في المضاربة شئ عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما فعلها الصحابة منهم حكيم المذكور ومنهم علي كما رواه عبد الرزاق ومنهم ابن مسعود كما رواه الشافعي ومنهم العباس كما رواه البيهقي ومنهم جابر كما رواه البيهقي أيضا ومنهم أبو موسى وابن عمر كما رواه في الموطإ والشافعي والدارقطني ومنهم عمر كما رواه الشافعي ومنهم عثمان كما رواه البيهقي وقد روي في ذلك من المرفوع ما أخرجه ابن ماجه من حديث صهيب قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاث فيهن البركة البيع إلى أجل والمقارضة وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع " ولكن في إسناده مجهولان. أقول: قد صرح جماعة من الحفاظ بأنه لم يثبت في هذا الباب أعني المضاربة شئ مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بل جميع ما فيه آثار عن الصحابة وقد وقع إجماع من بعدهم على جواز هذه المعاملة كما حكى ذلك غير واحد وصرح الحافظ ابن حجر بأنها كانت ثابتة في عصر النبوة فقال: والذي نقطع به أنها كانت ثابتة في عصر النبي   1 النضو بكسر النون وإسكان الضاد هو المهزول من افبل. 2 النصل حديدة السهم. والريش هو الذي يكون على السهم. والقدح بكسر القاف وإسكان الدال السهم قبل أن يراش وينصل, الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 صلى الله عليه وسلم يعلم بها وأقرها ولولا ذلك لما جازت البتة انتهى ولا يخفاك أن عدم الجواز الذي ذكره على فرض عدم ثبوتها في أيام النبوة مبني على أن الأصل عدم جواز كل معاملة لم يثبت فيها دليل وهو غير مسلم بل الأصل الجواز ما لم تكن على وجه يستلزم ما لا يحل شرعا وعندي أن المضاربة داخلة تحت قول الله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وتحت قوله تعالى: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} بل كل ما دل على جواز البيع وعلى جواز الإجارة وعلى جواز الوكالة دل عليها وبيان ذلك ان المالك للنقد إذا دفعه إلى آخر ووكله بالشراء له بنقده مارآه ووكله أيضا بيعه وجعل له أجرة على تولي البيع وتولي الشراء وهي ما سماه له من الربح فجواز البيع والشراء داخل تحت أدلة البيع والشراء وجواز التوكيل بهما داخل تحت أدلة الوكالة وجواز جعل جزء من الربح للوكيل داخل تحت أدلة الإجارة فعرفت بهذا أن القراض غير خال من دليل يدل عليه العموم بل الذي لم يثبت هو الدليل الذي يدل عليه بخصوصه فلا وجه لما قاله الحافظ ابن حجر: أنه لو لم تثبت هذه المعاملة بخصوصها في عصر النبوة لما جازت البتة1 واعلم أن هذه الأسامي التي وقعت في كتب الفروع لأنواع من الشركة كالمفاوضة والعنان والوجوه والأبدان لم تكن أسماء شرعية ولا لغوية بل اصطلاحات حادثة متجددة ولا مانع للرجلين أن يخلطا ماليهما ويتجرا كما هو معنى المفاوضة المصطلح عليها لأن للمالك أن يتصرف في ملكه كيف يشاء ما لم يستلزم ذلك التصرف محرما مما ورد الشرع بتحريمه وإنما الشأن في اشتراط استواء المالين وكونهما نقدا واشتراط العقد فهذا لم يرد ما يدل على اعتباره بل مجرد التراضي بجمع المالين والاتجار بهما كاف وكذلك لا مانع من أن يشترك الرجلان في شراء شئ بحيث يكون لكل واحد منهما نصيب منه بقدر نصيبه من الثمن كما هو معنى شركة العنان اصطلاحا وقد كانت هذه الشركة ثابتة في أيام النبوة ودخل فيها جماعة من الصحابة فكانوا يشتركون في شراء شئ من الأشياء ويدفع كل واحد منهم نصيبا من قيمته ويتولى الشراء أحدهما أو كلاهما وأما اشتراط العقد والخلط فلم يرد ما يدل على إعتباره   1 كيف هذا والأجرة إذا كانت مجهولة كانت غير جائوة والمضاربة إذا ربح الشريك فيها معينا كانت غير جائزة أيضا فغنها تكون ربا فلا يأتي ما قاسه الشارح وأراد به الرد على الحافظ ابن حجر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وكذلك لا بأس أن يوكل أحد الرجلين الآخر أن يستدين له مالا ويتجر فيه ويشتركا في الربح كما هو معنى شركة الوجوه اصطلاحا ولكن لا وجه لما ذكروه من الشروط وكذلك لا بأس بأن يوكل أحد الرجلين الآخر في أن يعمل عنه عملا استؤجر عليه كما هو معنى شركة الأبدان اصطلاحا ولا معنى لاشتراط شروط في ذلك. والحاصل: أن جميع هذه الأنواع يكفي في الدخول فيها مجرد التراضي لأن ما كان منها من التصرف في الملك فمناطه التراضي ولا يتحتم اعتبار غيره وما كان منها من باب الوكالة أو الإجارة فيكفي فيه ما يكفي فيهما فما هذه الأنواع التي نوعوها والشروط التي اشترطوها وأي دليل عقل أو نقل ألجأهم إلى ذلك فإن الأمر أيسر من هذا التهويل والتطويل لأن حاصل ما يستفاد من شركة المفاوضة والعنان والوجوه أنه يجوز للرجل أن يشترك هو وآخر في شراء شئ وبيعه ويكون الربح بينهما على مقدار نصيب كل واحد منهما من الثمن وهذا شئ واحد واضح المعنى يفهمه العامي فضلا عن العالم ويفتي بجوازه المقصر فضلا عن الكامل وهو أعم من أن يستوي ما يدفعه كل واحد منهما من الثمن أو يختلف وأعم من أن يكون المدفوع نقدا أو عرضا وأعم من أن يكون ما اتجرا به جميع مال كل واحد منهما أو بعضه وأعم من أن يكون المتولي للبيع والشراء أحدهما أو كل واحد منهما وهب أنهم جعلوا لك قسم من هذه الأقسام التي هي في الأصل شئ واحد اسما يخصه فلا مشاحة في الاصطلاحات لكن ما معنى اعتبارهم لتلك العبارات وتكلفهم لتلك الشروط وتطويل المسافة على طالب العلم وإتعابه بتدوين ما لا طائل تحته وأنت لو سألت حراثا أو بقالا عن جواز الإشتراك في شراء الشئ وفي ربحه لم يصعب عليه أن يقول نعم ولو قلت له هل يجوز العنان أو الوجوه أو الإيدان لحار في فهم معاني هذه الألفاظ بل قد شاهدنا كثيرا من المتبحرين في علم الفروع يلتبس عليه كثير من تفاصيل هذه الأنواع ويتلعثم إن أراد تمييز بعضها من بعض اللهم إلا أن يكون قريب عهد بحفظ مختصر من مختصرات الفقه فربما يسهل عليه ما يهتدي به إلى ذلك وليس المجتهد من وسع دائرة الآراء العاطلة عن الدليل وقبل كل ما يقف عليه من قال وقيل فإن ذلك هو دأب أسراء التقليد بل المجتهد من قرر الصواب وأبطل الباطل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 وفحص في كل مسألة عن وجوه الدلائل ولم يحل بينه وبين الصدع بالحق مخالفة من يخالفه ممن يعظم في صدور المقصرين فالحق لا يعرف بالرجال ولهذا المقصد سلكنا في هذه الأبحاث مسالك لا يعرف قدرها إلا من صغى فهمه عن التعصبات وأخلص ذهنه عن الاعتقادات المألوفات والله المستعان "وإذا تشاجر الشركاء في عرض الطريق كان سبعة أذرع"لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع" وأخرج معناه عبد الله بن أحمد في المسند والطبراني من حديث عبادة بن الصامت وأخرجه أيضا عبد الرزاق من حديث ابن عباس وأخرجه أيضا ابن عدي من حديث أنس "ولا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره" لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم " قال لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره" وروى نحوه أحمد وابن ماجه والبيهقي عن جماعة من الصحابة "ولا ضرر ولا ضرار بين الشركاء"لحديث ابن عباس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار وللرجل أن يضع خشبه في حائط جاره وإذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع" أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي والطبراني وعبد الرزاق قال ابن كثير: أما حديث " لا ضرر ولا ضرار" فرواه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت وروي من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري وهو حديث مشهور انتهى فحديث ابن عباس هو المذكور في الباب وحديث عبادة أخرجه أيضا البيهقي وحديث أبي سعيد أخرجه ابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي وقد رواه من حديث ثعلبة من مالك القرظي الطبراني في الكبير وأبو نعيم "ومن ضار شريكه كان للإمام عقوبته بقلع شجره أو بيع داره"لحديث "سمرة بن جندب أنه كان له عضد1 من نخل في حائط رجل من الأنصار قال: ومع الرجل أهله قال: وكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به الرجل ويشق عليه فطلب إليه أن يناقله فأبى فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى قال: فهبه لي ولك كذا وكذا أمر أرغبه فيه فأبى فقال: أنت مضار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 العضد من النخل الطريقة منه قال ابن الأثير: "إنما هو عضيد من نخل وإذا صار للنخلة جذع يتناول منه فهو عضيد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 للأنصاري: "ذهب فاقلع نخله" وهو من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن سمرة ولم يسمع منه وقد روى المحب الطبري في أحاديث الأحكام عن واسع بن حبان قال: "كان لأبي لبابة عذق1 في حائط رجل فكلمه "ثم ذكر نحو قصة سمرة   1 العذق بفتح العين وإسكان الذال النخلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 كتاب الرهن "يجوز رهن ما يملكه الراهن في دين عليه"الرهن جائز بالإجماع وقد نطق به الكتاب العزيز وتقييده بالسفر خرج مخرج الغالب كما ذهب إليه الجمهور وقال مجاهد والضحاك والظاهرية: لا يشرع إلا في السفر وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعا له عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله كما أخرجه البخاري وغيره من حديث أنس وهو في الصحيحين من حديث عائشة وأخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عباس وصححه الترمذي وصاحب الاقتراح وفي ذلك دليل على مشروعية الرهن في الحضر كما قال الجمهور "والظَّهر يُركب واللبن يُشرب بنفقة المرهون" لما أخرجه البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة" وللحديث ألفاظ والمراد أن المرتهن ينتفع بالرهن وينفق عليه وقد ذهب أحمد وإسحق والليث والحسن وغيرهم قال ابن القيم: وأخذ أحمد وغيره من أئمة الحديث بهذه الفتوى وهو الصواب وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وجمهور العلماء: لا ينتفع المرتهن من الرهن بشئ بل الفوائد للراهن والمؤمن عليه قالوا: والحديث ورد على خلاف القياس ويجاب بأن هذا القياس فاسد الاعتبار مبني على شفا جرف هار ولايصح الاحتجاج به لما ورد من النهي عن أن تحلب ماشية الرجل بغير إذنه كما في البخاري وغيره لأن العام لايرد به الخاص بل يبنى عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 وقال ابن القيم في إعلام الموقعين وهذا الحكم من أحسن الأحكام وأعدلها ولا يصلح للراهنين غيره وما عداه ففساده ظاهر فإن الراهن قد يغيب ويتعذر على المرتهن مطالبته بالنفقة التي تحفظ الرهن ويشق عليه أو يتعذر رفعه إلى الحاكم وإثبات الرهن وإثبات غيبة الراهن وإثبات أن قدر النفقة عليه قدر حلبه وركوبه وطلبه منه الحكم له بذلك في هذا من العسر والحرج والمشقة ما ينافي الحنيفية السمحة فشرع الشارع الحكم القيم بمصالح العباد وللمرتهن أن يشرب لبن الرهن ويركب ظهره وعليه نفقته وهذا محض القياس لو لم تأت به السنة الصحيحة انتهى ثم أطال في تخريج هذا القياس إلى مالا يسعه هذا القرطاس "ولا يُغلق الرهن بما فيه"لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يغلق1 الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه" أخرجه الشافعي والدارقطني والحاكم والبيهقي وابن حبان في صحيحه وحسن والدارقطني إسناده وقال الحافظ ابن حجز: في بلوغ المرام أن رجاله ثقات إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله وأخرجه ابن ماجه من طريق أخرى والرفع زيادة وقد خرجت من مخرج مقبول والمراد بالغلاق هنا استحقاق المرتهن له حيث لم يفكه الراهن في الوقت المشروط وروى عبد الرزاق عن معمر أنه فسر غلاق الرهن بما إذا قال الرجل إن لم آتك بمالك فالرهن لك قال: ثمن بلغني عنه أنه قال: إن هلك لم يذهب حق هذا إنما هلك من رب الرهن له غنمه وعليه غرمه وقد روي أن المرتهن في الجاهلية كان يتملك الرهن إذا لم يؤد الراهن إليه ما يستحقه في الوقت المضروب فأبطله الشارع والغنم والغرم هنا هو أعم مما تقدم من أن الظهر يركب بنفقة المرهون واللبن يشرب قال في الحجة البالغة: ومبنى الرهن على الاستيثاق وهو بالقبض فلذلك اشترط فيه ولا اختلاف عندي بين حديث "لا يغلق الرهن" وحديث "الظهر يركب" الخ لأن الأول هو الوظيفة لكن إذا امتنع الراهن من النفقة عليه وخيف الهلاك وأحياه المرتهن فعند ذلك ينتفع به بقدر ما يراه الناس   1قال ابن الثير: "يقال غلق. بكسر اللام. الرهن يغلق بفتحها. غلوقا إذا بقي في يد المرتهن لا يقدر راهنه على تخليصه والمعنى أنه لا يستحقه المرتهن إذا لم يستكفه صاحبه وكان هذا من فعل الجاهلية أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين ملك المرتهن الرهن فأبطله الإسلا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 عدلا انتهى. قلت: وعليه أهل العلم قال محمد: وبهذا نأخذ وتفسير قوله: "لا يغلق الرهن " أن الرجل كان يرهن الرهن أي المرهون عند الرجل فيقول: إن جئتك بمالك إلى كذا وكذار وإلا فالرهن لك بمالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يغلق الرهن ولا يكون للمرتهن بماله" وكذلك نقول: وهو قول أبي حنيفة وكذلك فسره مالك بن أنس وفي شرح السنة: معناه لا يستغلق بحيث لا يعود إلى الراهن بل متى أدى الحق المرهون به افتك وعاد إلى الراهن وروى الشافعي هذا الحديث مع زيادة ولفظه "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه" قال الشافعي: غنمه زيادته وغرمه هلالكه وفيه دليل على أنه إذا هلك في يد المرتهن يكون من ضمان الراهن ولا يسقط بهلاكه شئ من حق المرتهن وعليه الشافعي وقال أبو حنيفة: قيمته إن كانت قدر الحق يسقط بهلاكه الحق وإن كانت أقل من الحق يسقط بقدره وإن كان أكثر من الحق يسقط الحق وعند الشافعي: دوام القبض ليس بشرط في الرهن فيستعمل الدابة المرهونة بالنهار وترد إلى المرتهن بالليل ولا يسافر عليها ولم يجوزه أبو حنيفة. أقول: الحق أن الرهن إذا تلف في يد المرتهن بدون جنايته ولا تفريطه فهو غير مضمون عليه وإن كان بجنايته أو تفريطه ضمنه للجناية عليه أو التفريط لا لكونه مستحقا حبسه فإن الحبس للرهن بمجرده ليس بسبب للضمان والمدارك الشرعية واضحة المنار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 كتاب الوديعة والعارية أقول العارية من مكارم الأخلاق ومحاسن الطاعات وأفصل الصلات لأنها إباحة المالك لمنافع ملكه لمن له إليه حاجة ولا ريب أن هذا الفعل داخل تحت نصوص الكتاب والسنة فإن فيهما من الترغيب في ذلك ما لا يحيط به الحصر ومن جملة ذلك قوله تعالي: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وقوله: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} والحاصل: أن العارية في لسان العرب والشرع هي: إباحة المنافع بلا عوض فما وجد فيه هذا المعنى كان من العارية ومالا فلا "تجب على الوديع1 والمستعير تأدية الأمانة إلى من   1 لم أجد وجها لاستعمال هذا الحرف في المعنى المراد هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 ائتمنه ولا يخون من خانه" لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ولقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة وفي إسناده طلق ابن غنام عن شريك وقد استشهد له الحاكم بحديث أبي التياح عن أنس وفي إسناده أيوب بن سويد وهو مختلف فيه وقد تفرد به كما قال الطبراني وأخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية من حديث أبي بن كعب وفي إسناده من لا يعرف وأخرجه أيضا الدارقطني عنه وأخرجه البيهقي والطبراني عن أبي أمامة بسند ضعيف وأخرجه الدارقطني والطبراني والبيهقي وأبو نعيم من حديث أنس وأخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي عن رجل من الصحابة وفي إسناده مجهول غير الصحابي "ولا ضمان عليه إذا تلفت العين المستعارة أو المستودعة بدون جنايته وخيانته"لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضمان على مؤتمن" أخرجه الدارقطني وفي إسناده ضعف وقد وقع الإجماع على أن الوديع لا يضمن إلا لجناية منه على العين لما أخرجه الدارقطني في الحديث السابق من طريق أخرى بلفظ "ليس على المستعير غير المغل ضمان" والمغل هو الخائن والجاني خائن وأما المستعير فقد ذهب إلى أنه لا يضمن إلا لجناية أو خيانة الحنفية والمالكية وحكى في الفتح عن الجمهور: أن المستعير يضمنها إذا تلفت في يده إلا إذا كان التلف على الوجه المأذون فيه وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" وفي سماع الحسن عن سمرة مقال مشهور وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم من حديث صفوان بن أمية "أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدراعا فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة" قال الماتن في حاشية الشفاء: وجميع هذه الأسباب داخلة تحت قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "على اليد ما أخذت حتى تؤديه " إن كان المراد على اليد ضمان ما أخذت ولكن الظاهر أن المراد على اليد حفظ ما أخذت حتى تؤديه وذلك إنما يكون في الباقي وليس فيه دليل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 على ضمان التالف1 "ولا يجوز منع الماعون كالدلو والقدر"لحديث ابن مسعود قال: "كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو والقدر "أخرجه أبو داود وحسنه المنذري وروي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما فسرا قوله تعالي: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} أنه متاع البيت الذي يتعاطاه الناس بينهم من الفأس والدلو والحبل والقدر وما أشبه ذلك وعن عائشة الماعون الماء والنار والملح وقيل الماعون الزكاة "وإطراق الفحل وحلب المواشي لمن يحتاج ذلك والحمل عليها في سبيل الله"لما أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه ذات الظلف بظلفها وتنطحه ذات القرن بقرنها قلنا يار سول الله: وما حقها؟ قال: إطراق فحلها وإعارها دلوها ومنحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله" والمراد بإطراق فحلها عاريته من يحتاج أن يطرق به على ماشيته والمراد بمنحتها أن يعطي المحتاج لينتفع بجلبها ثم يردها وأما الحمل عليها في سبيل الله فإذا طلب ذلك من لا ماشية له من صاحب المواشي اليت فها زيادة على حاجته   1 بل الظاهر من الحديث ومن باقي الحاديث أن على المستعير أن يؤدي ما استعاره وأنه ضامن إلى ان أذمته بالأداء لأنه جعل الغاية لأداء ما زعمه الشارح أن على اليد حفظ ما أخذت لا دليل عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 كتاب الغصب "يأثم الغاصب"لأنه أكل مال غيره بالباطل أو استولى عليه عدوانا وقد قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه" أخرجه الدارقطني من طرق عن أنس مرفوعا وفي أسانيدها ضعف وأخرجه أحمد والدارقطني من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو متكلم عليه وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس وأخرجه الدارقطني عنه من طريق أخرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 وأخرجه البيهقي وابن حبان والحاكم في صحيحيهما من حديث أبي حميد الساعدي وقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه من حديث السائب بن يزيد عن أبيه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها عليه" "وحديث "إنما أموالكم ودماؤكم عليكم حرام" وهو ثابت في الصحيحين وغيرهما وهو مجمع على تحريم الغصب عند كافة المسلمين ومجمع على وجوب رد المغصوب إذا كان باقيا وعلى تسليم عوضه إن كان تالفا "ويجب عليه رد ما أخذ ولا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه"كما تقدم دليله "وليس لعرق ظالم حق ومن زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شئ ومن غرس في أرض غيره غرسا رفعه"لحديث رافع بن خديج "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شئ وله نفقته" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي والبيهقي والطبراني وابن أبي شيبة والطيالسي وأبو يعلى وحسنه البخاري1 وأخرج أبو داود والدارقطني من حديث عروة بن الزبير "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحيا أرضا فهي له وليس لعرق ظالم حق" قال: ولقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها قال: فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤس وإنها لنخل عم2 "وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وأخرجه البخاري تعليقا من حديث بن زيد قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق" أقول: الحق الحقيق بالقبول أن الزرع لمالك الأرض وعليه للغاصب ما أنفقه على الزرع كما ثبت ذلك عند أهل السنن ولفظه في رواية "أنه صلى الله عليه وسلم أتى بني حارثة فرأى زرعا في أرض ظهير فقال: ما أحسن زرع ظهير قيل: ليس لظهير قال: أليست أرض ظهير؟ قالوا: بلى ولكنه   1هذا حديث صحيح وضعفه بعضهم بشريك وزعم أنه انفرد به ولكن تابعه عليه قيس بن الربيع وضعفهما إنما من قبل حفظهما فاتفاقهما على روايته مؤذن بصحته. 2 العم بضم العين جمع عميمة وهي النخلة الطويلة التامة في طولها والتفافها وقيل هي القديمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 زرع فلان قال: فخذوا زرعكم وردوا عليه النفقة " الحديث "ولا يحل الانتفاع بالمغصوب"لما تقدم من الأدلة القاضية بأنه لا يحل مال الغير لا عينا ولا انتفاعا وقد ورد في غصب الأرض التي لا ثمرة لغصبها إلا الانتفاع بها بالزرع ونحوه أحاديث منها عن عائشة في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ظلم شبرا من الأرض طوقه الله من سبع أرضين" وفيهما أيضا من حديث أبي سعيد نحوه وفي البخاري وغيره من حديث ابن عمر نحوه أيضا وفي مسلم من حديث أبي هريرة نحوه أيضا "ومن أتلفه فعليه مثله أو قيمته"لحديث عائشة "أنه لما كسرت إناء صفية الذي أهدت فيه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: "إناء كإناء وطعام كطعام" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وحسنه الحافظ في الفتح وأخرج البخاري وغيره من حديث أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال: كلوا ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس المكسورة " ولفظ الترمذي قال: "أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعاما في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " طعام بطعام وإناء بإناء" وقد استدل بذلك من قال: إن القيمي يضمن يمثله ولا يضمن بالقيمة إلا عند عدم المثل وهو الشافعي والكوفيون وقال مالك: إن القيمي يضمن بقيمته مطلقا قيل: لا خلاف في أن المثلي يضمن بمثله ولكنه قد ورد في حديث المصراة الثابت في الصحيح ردها وصاعا من تمر واللبن مثلي والبحث مستوفى في مواطنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 كتاب العتق الترغيب في العتق قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم "من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو من عضوا من النار حتى فرجه بفرجه" وأخرج الترمذي وصححه من حديث أبي أمامة وغيره من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرىء مسلم أعتق أمرأ مسلما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 كان فكاكه من النار يجزي كل عضو منه عضوا منه وأيما امريء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزي كل عضو منهما عضوا منه "وفي لفظ "أيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار يجزي كل عضو من أعضائها عضوا من أعضائها" وإسناده صحيح وفي الباب أحاديث أفضل الرقاب أنفسها لما في الصحيحين من حديث أبي ذر قال: "قلت يارسول الله: أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله قال: قلت أي الرقاب أفضل؟ قال: "أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا" "ويجوز العتق بشرط الخدمة ونحوها"لحديث سفينة بن عبد الرحمن قال: أعتقتني أم سلمة وشرطت علي أن أخدم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما عاش" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه قال: لا بأس بإسناده وأخرجه الحاكم وفي إسناده سعيد ابن جهمان أبو حفص الأسلمي وقد وثقه ابن معين وغيره وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه ووجه الحجة من هذا أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لا يخفى عليه مثل ذلك وقد قيل إن تعليق العتق بشرط الخدمة يصح إجماعا "ومن ملك رحِمه عَتق عليه" لحديث سمرة عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: " من ملك ذا رحم محرم فهو حر" ولفظ أحمد "فهو عتيق "وهو من رواية الحسن عن سمرة وفي سماعه منه مقال مشهور وقال علي بن المديني: هو حديث منكر وقال البخاري: لا يصح وأخرج النسائي والترمذي والحاكم من حديث ابن عمر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ملك ذا رحم محرم فهو حر" وهو من رواية ضمرة عن الثوري عن عبد الله بن دينار عنه قال النسائي: حديث منكر ولا نعلم أحدا رواه عن سفيان غير ضمرة وقال الترمذي: لم يتابع ضمرة ابن ربيعة على هذا الحديث لكنه قد وثقه يحيى بن معين وغيره وحديثه في الصحيحين وقد صحح حديثه هذا ابن حزم وعبد الحق وابن القطان وأخرج أبو داود والنسائي عن عمر بن الخطاب موقوفا مثل حديث سمرة وهو من رواية قتادة عنه ولم يسمع منه. أقول: الحاصل أن جميع الأخبار الواردة في عتق ذي الرحم لا تخلو عن مقال ولكنها تنتهض بمجموعها للاستدلال ولا يعارضها حديث أبي هريرة الآتي عند مسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وقد ذهب إلى أن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم: إنه يعتق عليه الأولاد والآباء والأمهات ولا يعتق عليه غيرهم من قرابته وزاد مالك الإخوة ولا ينافي ما ذكرناه حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره قال: "قال رسول الله صلى عليه وسلم: "لا يجزي ولد عن والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" لأن إيقاع العتق تأكيدا لا ينافي وقوعه بالملك وزاد في حاشية الشفاء: لأن الإعتاق ههنا وإن كان ظاهرا في الإنشاء بعد الشراء فهو لا يسلتزم أن الشراء بنفسه لا يكون سببا انتهى وقد تمسك بحديث أبي هريرة الظاهرية فقالوا: لا يعتق أحد على أحد "ومن مثّل بمملوكه فعليه أن يعتقه"لحديث ابن عمر عند مسلم وغيره قال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لطم مملوكه أوضربه فكفارته أن يعتقه" وفي مسلم أيضا عن سويد بن مقرن قال: "كنا بني مقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعتقوها" وفي رواية "إذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها" وفي مسلم أيضا من حديث أبي مسعود البدري قال: "كنت أضرب غلاما بالسوط فسمعت صوتا من خلفي "إلى أن قال: "فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله أقدر منك على هذا الغلام " وفيه "قلت: يارسول الله هو حر لوجه الله فقال: "لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار " "وإلا أعتقه الإمام أو الحاكم"لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في المملوك الذي جب سيده مذاكيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علي بالرجل فلم يقدر عليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فأنت حر" أخرجه أبو داود وابن ماجه وقد أخرجه أحمد وفي إسناده الحجاج ابن أرطاة وهو ثقة ولكنه مدلس وبقية رجال أحمد ثقات وأخرجه أيضا الطبراني وقد حكى في البحر عن علي والشافعية والحنفية أنه لا يُعتق العبد بمجرد المثلة بل يؤمر السيد بالعتق فإن تمرد فالحاكم وقال مالك والليث وداود والأوزاعي: بل يعتق بمجردها قال النووي في شرح مسلم: إنه أجمع العلماء على أن ذلك العتيق ليس واجبا وإنما هو مندوب رجاء الكفارة وإزالة إثم اللطم وذكر من أدلتهم إذنه صلى الله عليه وسلم بأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 يستخدموها كما تقدم ودعوى الإجماع غير صحيحة وإذنه صلى الله عليه وسلم لا يدل على عدم الوجوب بل الأمر قد دل على الوجوب والإذن بالاستخدام دل على كونه وجوبا متراخيا إلى وقت الاستغناء عنها انتهى "ومن أعتق شركا له في عبد ضمن لشركائه نصيبهم بعد التقويم وإلا عتق نصيبه فقط واستُسعي العبد"لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه العبد قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عليه ما عتق" زاد الدارقطني "ورقّ ما بقي " وأخرج أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث أبي المليح عن أبيه "أن رجلا من قومه أعتق شقصا له من مملوك فرُفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل خلاصه عليه في ماله وقال ليس لله شريك "وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعتق شقيصا من مملوك فعليه خلاصه في ماله فإن لم يكن له مال قُوّم المملوك قيمة عدل ثم استُسعي في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه" ولا تنافي بين هذا وبين حديث ابن عمر بل الجمع ممكن وهو أن من أعتق شركا له في عبد ولا مال له لم يعتق إلا نصيبه ويبقى نصيب شريكه مملوكا فإن اختار العبد أن يستسعي لما بقي استُسعي وإلا كان بعضه حرا وبعضه عبدا وأخرج أحمد من حديث إسمعيل بن أمية عن أبيه عن جده قال: "كان لهم غلام يقال له طهمان أو ذكوان فأعتق جده نصفه فجاء العبد إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " تعتق في عتقك وترق في رقك" قال: فكان يخدم سيده حتى مات "ورجاله ثقات وأخرجه الطبراني قال في المسوى: قلت عليه الشافعي أن من أعتق نصيبه من عبد مشترك بينه وبين غيره وهو موسر بقيمة نصيب الشريك يعتق عليه ويكون ولاؤه كله للمعتق وإن كان معسرا عتق نصيبه ونصيب الشريك رقيق لا يكلف إعتاقه ولا يستسعى العبد في فكه قوله: "فأعطى شركاءه حصصهم "يحتمل معنيين: أحمدهما أنه لا يعتق نصيب الشريك بنفس اللفظ ما لم يؤد إليه قيمته وقال به الشافعي في القديم وثانيهما أنه يعتق كله عليه بنفس الإعتاق ولا يتوقف على أداء القيمة وذلك لأن إعطاء القيمة والعتق حكمان لمن أعتق شركا له في عبد يردان عليه جميعا وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 به الشافعي في الجديد وقال أبو حنيفة: إن كان المعتق موسرا فالذي لم يعتق بالخيار إن شاء أعتق نصيبه وإن شاء استسعى العبد في قيمة نصيبه فإذا أدى عتق فكان الولاء بينها وإن شاء ضمن المعتق قيمة نصيبه ثم شريكه بعد ما ضمن رجع على العبد استسعاه فإذا أداه عتق وولاؤه كله له وقال صاحباه: لا يعتق نصيب الشريك بنفس الإعتاق بل يُستسعى العبد فإذا أدى قيمة النصف الآخر عتق كله والولاء بينهما ومأخذ قولهم حديث أبي هريرة مرفوعا "من أعتق شقيصا في عبد عتق كله إن كان له مال وإلا يستسع غير مشقوق عليه " رواه الشيخان قوله: "غير مشقوق عليه "أي لا يستغلى عليه في الثمن وتأويل هذا الحديث على قول الشافعي: إن معنى يستسعى يستخدم لسيده الذي لم يعتق إن كان معسرا ومعنى غير مشقوق عليه أنه لا يحمل من الخدمة فوق ما يلزمه إنما يطالبه بقدر ما له فيه من الرق انتهى "ولا يصح شرط الولاء لغير من أعتق"لحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما "أنها جاءت إليها بريرة تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت فذكرت بربرة ذلك لأهلها فأبواها وقالوا: إن شاءت أن تعنست عليك فلنفعل ويكون لنا ولاؤك فذكرت ذلك بريرة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق" ثم قام فقال: ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة مرة شرط الله أحق وأوثق" وللحديث طرق وألفاظ قال ابن القيم رحمه الله: قال شيخنا الحديث على ظاهره ولم يأمرها النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم باشتراط الولاء تصحيحا لهذا الشرط ولا إباحة له ولكن عقوبة لمشترطه إذ أبى أن يبيع جارية للعتق إلا باشتراط ما يخالف حكم الله تعالى وشرعه فأمرها أن تدخل تحت شرطهم الباطل ليظهر به حكم الله ورسوله في أن الشروط الباطلة لا تغير شرعه وأن من شرط ما يخالف دينه لم يجبر أن يوفي له بشرطه ولا يبطل من البيع به وإن عرف فساد الشرط وشرطه إلغاء اشتراطه ولم يعتبر والله تعالى أعلم قلت: وعليه أهل العلم أن من أعتق عبدا يثبت له عليه الولاء ويرثه به ولا يثبت الولاء بالحلف والموالاة وبأن يسلم رجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 على يدي رجل لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أضاف الولاء إلى المعتق بالألف واللام فأوجب ذلك قطعه عن غيره كما يقال: الدار لزيد فيه إيجاب الملك فيها لزيد وقطعها عن غيره وعليه الشافعي وقال أبو حنيفة: يثبت الولاء بعقد الموالاة "ويجوز التدبير فيُعتق بموت مالكه وإذا احتاج المالك جاز له بيعه"لحديث جابر في الصحيحين وغيرهما "أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر فاحتاج فأخذه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: من يشتريه مني فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا فدفعه إليه "وأخرج البيهقي من حديث ابن عمر مرفوعا وموقوفا بلفظ "المدبر من الثلث " ورواه الدارقطني مرفوعا بلفظ "المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من الثلث" وفي إسناده عبيدة بن حسان1 وهو منكر الحديث وقد ذهب إلى جواز بيع المدبر للحاجة الشافعي وأهل الحديث ونقله البيهقي في المعرفة عن أكثر الفقهاء وحكى النووي عن الجمهور أنه لا يجوز بيع المدبر مطلقا وبه قال أبو حنيفة وتعقبه الشافعي بما روي عن جابر وتقدم وأجيب باحتمال أن يكون تدبيره مقيدا بشرط أو زمان ورد بأن اسم التدبير إذا أطلق فيفهم منه التدبير المطلق لا غير واتفقوا على جواز وطء المدبرة ومن أجاز بيعه قال يباع في الجناية. أقول: قد دل الحديث على جواز البيع للحاجة وليس فيه دلالة على عدم جوازه مع عدمها ولم يرد ما يدل على ذلك إلا ما يحتج بمثله فالقائل بالجواز واقف في موقف المنع وعلى مدعي عدمه بيان المانع فإن قال المانع العتق قلنا الناجز وأما المشروط بشرط لم يقع فممنوع كونه مانعا "ويجوز مُكاتبة المملوك على مال يؤديه"لقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} الآية وقد كانوا يكاتبون في الجاهلية فقرر ذلك الإسلام ولا أعرف خلافا في مشروعيتها قلت: وعليه أبو حنيفة وقال الشافعي أظهر معاني الخير في العبد بدلالة الكتاب الاكتساب مع الأمانة فأحب أن لا يمتنع من كتابته إذا كان هكذا "فيصير عند الوفاء حُراً ويُعتق منه بقدر ما سلم"لحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يودى2 المكاتب بحصة ما أدى دية الحر وما بقي دية العبد "أخرجه أحمد   1 عبيدة بفتح العين قال ابن حبان يروي الموضوعات عن الثقات اهـ. 2 أي إذا قيل خطأ كانت ديته بهذه الصفة فالوجه عدم همز الواو وكانت في الأصل مهموزة وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وأبو داود والنسائي والترمذي وأخرج أحمد وأبو داود نحوه من حديث علي وقد ذهب إلى هذا بعض أهل العلم وذهب آخرون إلى أن حكم المكاتب حكم العبد حتى يوفي مال الكتابة واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما عبد كوتب بمائة أوقية فأداها إلا عشر أوقيات فهو رقيق" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي والحاكم وصححه وفي لفظ لأبي داود "المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم " ولا يعارض هذا ما تقدم فالجمع ممكن بحمل هذا على ما لا يمكن تبعضه من الأحكام وفي حديث أم سلمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه "أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه فأثبت له ههنا حكم الحر لأن العبد يجوز له أن ينظر إلى مولاته لقوله تعالي: {وْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} قال في المسوى المكاتب عبد ما بقي عليه شئ وعليه أكثر أهل العلم فلا يرث من قريبه شيئا وإذا أصاب حدا ضرب حد العبد "وإذا عجز عن تسليم مال الكتابة عاد في الرق"لكون المالك لم يعتقه إلا بعوض وإذا لم يحصل العوض لم يحصل العتق وقد إاشترت عائشة بريرة بعد أن كاتبها أهلها كما تقدم "ومن استولد أمَته لم يحل له بيعها"لحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم "من وطيء أمته فولدت له فهي معتقة عن دبر منه" أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي وفي إسناده الحسين بن عبد الله الهاشمي وهو ضعيف وأخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: "ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعتقها ولدها "وأخرجه أيضا الدارقطني وفي إسناده الحسين بن عبد الله وهو ضعيف كما تقدم وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس أيضا أم الولد حرة وإن كان صدقا وإسناده ضعيف وأخرج البيهقي من حديث ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم إبراهيم: " أعتقك ولدك " وهو معضل وقال ابن حزم: صح هذا بسند رواته ثقات عن ابن عباس وأخرج الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد وقال: "لا يُبعن ولا يوهبن ولا يورثن يستمتع بها السيد ما دام حيا وإذا مات فهي حرة" وقد أخرجه مالك في الموطإ والدارقطني أيضا من قول ابن عمر وأخرجه البيهقي مرفوعا وموقوفا وهذه الأحاديث وإن كان في أسانيدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 ما تقدم فهي تنتهض للاحتجاج بها وقد أخذ بها الجمهور وذهب من عداهم إلى الجواز وتمسكوا بحديث جابر قال: "كنا نبيع سرارينا أمهات أولادنا على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبي بكر فلما كان عمر نهانا فانتهينا "أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان والحاكم وليس فيه أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم اطلع على ذلك والخلاف في المسألة بين الصحابة فمن بعدهم معروف مشهور "وعتقت بموت"أي سيدها الذي استولدها لقوله في الحديث المتقدم "فهي معتقة عن دبر منه "أي في دبر حياته "أو بتخبيره"أي تخيير مستولدها1 "لعتقها"لأن إيقاع العتق يوجب عتق من لم يوجد لعتقه سبب فمن قد وجد له سبب عتقه أولى بذلك ولا سيما بعد قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "أعتقها ولدها "فإنه يدل على أنه قد وقع العتق بالولادة ولكن بقي للسيد حق يوجب عليها بعض ما يجب على المملوك حتى يموت فإذا نجز العتق فقد رضي بإسقاط ذلك الحق   1 كذا في الأصل والصواب "أو بتنجيزه أي تجيز مستولدها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 كتاب الوقف قال في الحجة البالغة: وهو من التبرعات كان أهل الجاهلية لا يعرفونه فاستنبطه النبي صلى الله عليه وسلم لمصالح لا توجد في سائر الصدقات فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالا كثيرا ثم يفنى فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى وتجيء أقوام آخرون من الفقراء فيبقون محرومين فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شئ حبسا للفقراء وابن السبيل يُصرف عليهم منافعه ويبقى أصله على ملك الواقف انتهى "من حبَّس ملكه في سبيل الله صار محبّسا"قد ذهب إلى مشروعية الوقف ولزومه جمهور العلماء قال الترمذي: لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافا في جواز وقف الأرضين وجاء عن شريح أنه أنكره وقال أبو حنيفة: لا يلزم وخالفه جميع أصحابه إلا زفر وقد حكى الطحاوي عن أبي يوسف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 أنه قال: لو بلغ أبا حنيفة يعني الدليل لقال به وقال القرطبي: راد الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه ومما يدل على صحته ولزومه حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر "أن عمر أصاب أرضا بخيبر فقال: يارسول الله أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه فما تأمرني فقال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضعيف وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول "وأخرج النسائي والترمذي وحسنه والبخاري تعليقا من حديث عثمان "أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يتسعذب غير بئر رومة فقال: " من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة" فاشتريتها من صلب مالي "وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما خالد فقد حبس أدراعه وأعتده1 في سبيل الله " "وله أن يجعل غلاتِّه لأي مصرف شاء مما فيه قُربه"لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر في الحديث السابق "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" فإطلاق الصدقة يشعر بأن للواقف أن يتصدق بها كيف شاء فيما فيه قربة وقد فعل عمر ذلك فتصدق بها على الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل كما تقدم. والحاصل: أن الوقف الذي جاءت به الشريعة ورغب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله أصحابه هو الذي يُتقرب به إلى الله عز وجل حتى يكون من الصدقة الجارية التي لا ينقطع عن فاعلها ثوابها فلا يصح أن يكون مصرفه غير قربة لأن ذلك خلاف موضوع الوقف المشروع لكن القربة توجد في كل ما أثبت فيه الشرع أجرا لفاعله كائنا ما كان فمن وقف مثلا على إطعام نوع من أنواع الحيوانات المحترمة كان وقفه صحيحا لأنه قد ثبت في السنة الصحيحة "أن في كل كبد رطبة أجرا " ومثل هذا لو وقف على من يخرج القذارة من المسجد أو يرفع ما يؤذي المسلمين في طريقهم كان ذلك وقفا صحيحا   1 الأعتد بضم التاء وبكسرها – جمع للعتاد وهو ما أعده الرجل من السلاح والدواب وآلة الحرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 لورود الأدلة الدالة على ثبوت الأجر لفاعل ذلك فقس على هذا غيره مما هو مساوله في ثبوت الأجر لفاعله وما هو آكد منه في استحقاق الثواب "وللمتولي عليه أن يأكل منه بالمعروف"لما تقدم في وقف عمر الذي قرره النبي صلى الله عليه وسلم "وللواقف أن يجعل نفسه في وقفه كسائر المسلمين"لما تقدم في حديث عثمان من قوله صلى الله عليه وسلم: فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين" ومن وقف شيئا مضارة لوارثه كان وقفه باطلا" لأن ذلك مما لم يأذن به الله سبحانه بل لم يأذن إلا بما كان صدقة جارية ينتفع بها صاحبها لا بما كان إثما جاريا وعقابا مستمرا وقد نهى الله تعالى عن الضرار في كتابه العزيز عموما وخصوصا ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عموما كحديث "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وقد تقدم وخصوصا كما في ضرار الجار وضرار الوصية ونحوهما. والحاصل أن الأوقاف التي يراد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل ومخالفة فرائض الله عز وجل فهي باطلة من أصلها لا تنعقد بحال وذلك كمن يقف على ذكور أولاده دون إناثهم وما أشبه ذلك فإن هذا لم يرد التقرب إلى الله تعالى بل أراد المخالفة لأحكام الله عز وجل والمعاندة لما شرعه لعباده وجعل هذا الوقف الطاغوتي ذريعة إلى ذلك المقصد الشيطاني فليكن هذا منك على ذُكر فما أكثر وقوعه في هذه الأزمنة وهكذا وقف من لا يحمله على الوقف إلا محبة بقاء المال في ذريته وعدم خروجه عن أملاكهم فيقفه على ذريته فإن هذا إنما أراد المخالفة لحكم الله عز وجل وهو انتقال الملك بالميراث وتفويض الوارث في ميراثه يتصرف فيه كيف يشاء وليس أمر غنى الورثة أو فقرهم إلى هذا الواقف بل هو إلى الله عز وجل وقد توجد القربة في مثل هذا الوقف على الذرية نادرا بحسب اختلاف الأشخاص فعلى الناظر أن يمعن النظر في الأسباب المقتضية لذلك ومن هذا النادر أن يقف على من تمسك بالصلاح من ذريته أو اشتغل بطلب العلم فإن هذا الوقف ربما يكون المقصد فيه خالصا والقربة متحققة والأعمال بالنيات ولكن تفويض الأمر إلى ما حكم الله به بين عباده وارتضاه لهم أولى وأحق "ومن وضع مالا في مسجد أو مشهد لا ينتفع به أحد جاز صرفه في أصل الحاجات ومصالح المسلمين ومن ذلك ما يوضع في الكعبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 وفي مسجده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم"لحديث عائشة في صحيح مسلم وغيره قالت: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله" فهذا يدل على جواز إنفاق ما في الكعبة إذا زال المانع وهو حداثة عهد الناس بالكفر وقد زال ذلك واستقر أمر الإسلام وثبت قدمه في أيام الصحابة فضلا عن زمان من بعدهم وإذا كان هذا هو الحكم في الأموال التي في الكعبة فالأموال التي في غيرها من المساجد أولى بذلك بفحوى الخطاب فمن وقف على مسجده صلى الله تعالى عليه وسلم أو على الكعبة أو على سائر المساجد شيئا يبقى فيها لا ينتفع به أحد فهو ليس بمتقرب ولا واقف ولا متصدق بل كانز يدخل تحت قوله تعالي: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية ولا يعارض هذا ما روى أحمد والبخاري عن أبي وائل قال: "جلست إلى شيبة في هذا المسجد فقال: جلس إلي عمر في مجلسك هذا فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين قلت: ما أنت بفاعل قال: لم قلت لم يفعله صاحباك فقال: هما المرآن يُقتدى بهما " لأن هذا من عمر ومن شيبة بن عثمان بن طلحة اقتداء بما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وقد أبان حديث عائشة السبب الذي لأجله ترك صلى الله عليه وسلم ذلك أقول: وفي حاشية الشفاء: وأما أموال المساجد فإن كانت كالأموال التي يقفها الواقفون عليها ليحصل من غلاتها ما يحتاج إليه من عمارة ونحوها وما يقوم بمن يحييها بالصلاة والتلاوة وتدريس العلوم فلا شك أن هذا من أعظم القرب ولا يحل لمسلم أن يأخذ منه شيئا وإن كان ذلك من الأمور التي لمجرد الزخرفة التي هي من علامات القيامة ن أو للمباهاة والمكاثرة فهو من إضاعة المال بل من وضعه في معاصي الله فيكون أخذه وصرفه في مصالح المسلمين من باب القيام بواجبين: أحدهما النهي عن المنكر والثاني توقي إضاعة المال المنهي عنها بالدليل الصحيح وأما وضع الحلي في الكعبة والدراهم والدنانير والجواهر النفيسة فلا أستبعد أن يكون فاعله من الكانزين الذي قال الله عز وجل فيهم: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 أرى على من أخذها ليصرفها في مصالح المؤمنين أو يدفع بها مفاسدهم بأسا ولم يرد ما يدل على المنع انتهى وقد أوضح الماتن الكلام فيها في شرح المنتقى فليراجع "والوقف على القبول لرفع سُمكها أو تزيينها أو فعل ما يجلب على زائرها فتنة باطل" لأن رفعها قد ورد النهي عنه كما في حديث علي "أنه أمره صلى الله عليه وسلم أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه ولا تمثالا إلا طمسه "وهو في مسلم وغيره وكذلك تزيينها وأشد من ذلك ما يجلب الفتنة على زائرها كوضع الستور الفائقة والأحجار النفيسة ونحو ذلك فإن هذا مما يوجب أن يعظم صاحب ذلك القبر في صدر زائره من العوام فيعتقد فيه مالا يجوز وهكذا إذا وقف للنحر عند القبور ونحوه مما فيه مخالفة لما جاء عن الشارع أما إذا وقف على إطعام من يفد إلى ذلك القبر أو نحو ذلك فهذا هو وقف على الوافد لا على القبر وما صنع الواقف بوقفه على القبر إلا ما يعرضه للإثم فقد يكون ذلك سببا للاعتقادات الفاسدة. وبالجملة: فالوقف على القبور مفسدة عظيمة ومنكر كبير إلا أن يقف على القبر مثلا لإصلاح ما انهدم من عمارته التي لا إشراف فيها ولا رفع ولا تزيين فقد يكون لهذا وجه صحة وإن كان غير القبر أحوج إلى ذلك كما قال الصديق رضي الله تعالى عنه الحي أولى بالجديد من الأكفان أو كما قال* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 كتاب الهدايا جمع هدية قال في الحجة البالغة: إنما يبتغى بها إقامة الألفة فيما بين الناس ولا يتم هذا المقصود إلا بأن يرد إليه مثله فإن الهدية تحبب المهدي إلى المهدى له من غير عكس وأيضا فإن اليد العليا خير من اليد السفلى ولمن أعطى الطول على من أخذ فإن عجز فليشكره وليظهر نعمته فإن الثناء أول اعتداد بنعمته وإضمار لمحبته وأنه يفعل في إيراث الحب ما تفعل الهدية ومن كتم فقد خالف عليه ما أراده وناقض مصلحة الائتلاف وغمط حقه ومن أظهر ما ليس في الحقيقة فذلك كذب انتهى. يشرع قبولها ومكافأة فاعلها"لحديث أبي هريرة عند البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 قال: "لو دعيت إلى كراع أو ذراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت" وأخرج أحمد والترمذي وصححه نحوه من حديث أنس وأخرج الطبراني من حديث أم حكيم الخزاعية قالت: "قلت يارسول الله: تكره رد اللطف قال: ما أقبحه لو أهدي إلي كراع لقبلته" وأخرج أحمد برجال الصحيح من حديث خالد بن عدي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جاءه من أخيه معروف من غير إشراف ولا مسألة فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه" وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها "والأحاديث في قبول الهدية والمكافأة عليها وذلك معلوم منه صلى الله عليه وسلم "ويجوز بين المسلم والكافر" لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل هدايا الكفار ويهدي لهم كما أخرجه أحمد والترمذي والبزار من حديث علي قال: "أهدى كسرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل منه وأهدى له قيصر فقبل منه وأهدت له الملوك فقبل منها "وأخرج أبو داود من حديث بلال "أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم عظيم فدك "وفي الصحيحين من حديث أنس "أن أكيدر دومة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة سندس "وأخرج أبو داود من حديثه "أن ملك الروم أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستقة1 سندس فلبسها "وفيهما أيضا من حديث علي "أن أكيدر دومة الجندل2 أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير فأعطاه عليا فقال: شققه خمرا بين الفواطم " وأخرج البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: "أتتني أمي راغبة في عهد قريش وهي مشركة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أصلها قال نعم " قال ابن عبينة: فأنزل الله فيها: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} وقد أخرج أحمد والطبراني من حديث أم سلمة "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لها: إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من مسك ولا أرى النجاشي إلا قد   1 بضم الميم وإسكان السين المهملة وفتح التاء ويجوز أيضا فتح الميم هي فراء طوال الأكمام ومساتق وأصل الكلمة فارسي ووقع في الأصل بالشين المعحمة وهو خطأ. 2 دومة الجندل – بفتح الدال وضمها – حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبلي طئ. وأكيدر بالتصغير اسم ملكها وكان نصرانيا فأسلم وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ما في يده ثم نقض الصلح فأجلاه عمر وقيل إنه قتل في عهد أبي بكر قتله خالد بن الوليد وهو التصحيح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 مات ولا أرى هديتي إلا مردودة فإن ردت إلي فهي لك " وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وثقه يحيى بن معين وغيره وضعفه جماعة والأحاديث في قبوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لهدايا الكفار كثيرة جدا وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن خزيمة وصححاه من حديث عياض بن حمار "أنه أهدى للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هدية أو ناقة فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: أسلمت قال: لا قال: إني قد نهيت عن زبد المشركين" وأخرج موسى بن عقبة في المغازي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك "أن عامر بن مالك الذي يقال له ملاعب الأسنة قدم على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأهدى له فقال: "إني لا أقبل هدية مشرك" قال في الفتح: رجاله ثقات إلا أنه مرسل: قال الخطابي: يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخا وقيل: إنما رد ذلك إليهم لقصد الإغاظة أو لئلا يميل إليهم ولا يجوز الميل إلى المشركين وأما قبوله لهدية من تقدم ذكره فهو لكونهم قد صاروا من أهل الكتاب وقيل: إن الرد في حق من يريد بهديته التودد والموالاة والقبول في حق من يرجى بذلك تأنيسه وتأليفه ويمكن أن يكون النهي لمجرد الكراهة التي لا تنافي الجواز جمعا بين الأدلة وزبد المشركين هو بفتح الزاي وسكون الموحدة بعدها دال مهملة قال في الفتح: هو الرفد انتهى. ويحرم الرجوع فيها لكون الهدية هي هبة لغة وشرعا وقد ورد في ذلك حديث ابن عباس عند البخاري وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه" وهو في مسلم أيضا وفي لفظ للبخاري "ليس لنا مثل السوء" وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث ابن عمر وابن عباس رفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ومثل الرجل يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب أكل حتى إذا شبع قاء ثم رجع في قيئه "وقد دل قوله "لا يحل " على تحريم الرجوع من غير نظر إلى التمثيل الذي وقع الخلاف فيه هل يدل على الكراهة أو التحريم وقد ذهب إلى التحريم جمهور العلماء إلا هبة الوالد لولده كذا قال في الفتح "وتجب التسوية بين الأولاد"لحديث جابر عند مسلم وغيره قال: "قالت امرأة بشير انحل ابني غلاما وأشهد لي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي فقال: له إخوة؟ قال: نعم قال: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ قال: لا قال: فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق " وفي لفظ لأحمد من حديث النعمان بن بشير "لا تشهدني على جور إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم " وفي الصحيحين من حديثه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا فقال فأرجعه " وفي لفظ لمسلم من حديثه "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم" فرجع أبي في تلك الصدقة "وكذا في البخاري ولكنه بلفظ العطية وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديثه قال: "قال صلى الله عليه وسلم: " اعدلوا بين أبنائكم اعدلوا بين أبنائكم اعدلوا بين أبنائكم" وأخرج الطبراني والبيهقي وسعيد بن منصور من حديث ابن عباس بلفظ "سووا بين أولادكم في العطية ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء " وفي إسناده سعيد بن يوسف وفيه ضعف وقد حسن في الفتح إسناده وهذه الأحاديث تدل على وجوب التسوية وأن التفضيل باطل جور يجب على فاعله استرجاعه وبه قال طاوس والثوري وأحمد وإسحق وبعض المالكية وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة فقط وأجابوا عن الأحاديث بما لا ينبغي الالتفات إليه. والحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالتسوية بين الأولاد وقد تولى الله سبحانه كيفية ذلك في محكم كتابه وسمى التفضيل جورا فمن زعم أنه يجوز التفضيل لسبب من الأسباب كالبر ونحوه فعليه الدليل ولا ينفعه المجيء بما هو أعم من هذا الحديث المقتضي للأمر بالتسوية والمقام محتمل للتطويل والبسط وقد جمع الماتن رحمه الله فيه رسالة مستقلة وذكر في شرح المنتقى ما أجاب به القائلون بعد وجوب التسوية وهي وجوه عشرة وأجاب عن كل واحد منها وأوضحت المقام أيضا في كتابي دليل الطالب على أرجح المطالب فليراجع قال ابن القيم في حديث نعمان بن بشير المتقدم: هذا الحديث هو من تفاصيل العدل الذي أمر الله به في كتابه وقامت به السموات والأرض وأثبتت عليه الشريعة فهو أشد موافقة للقرآن من كل قياس على وجه الأرض وهو محكم الدلالة غاية الإحكام فرد بالمتشابه من قوله "كل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين "فكونه أحق به يقتضي جواز تصرفه فيه كما يشاء وبقياس متشابه على إعطاء الأجانب ومن المعلوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 بالضرورة أن هذا المتشابه من العموم والقياس لا يقاوم هذا المحكم المبين غاية البيان انتهى وفي شرح السنة: ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن تفضيل بعض الأولاد على بعض في النحل مكروه ولو فعل نفذ وقد فضل أبو بكر عائشة بجداد عشرين وسقا نحلها إياه دون سائر أولاده وفي الحديث دليل على أن الوالد إذا وهب لولده شيئا جاز له الرجوع فيه وكذلك الأمهات والأجداد وأما غير الوالدين فلا رجوع لهم فيما وهبوا وسلموا لقول النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "العائد في هبته كالعائد في قيئه" وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة: لا رجوع له فيما وهب لولده"والرد لغير مانع شرعي مكروه" لما قدمنا في أول البحث من الأدلة فإن كان ثم مانع شرعي من قبول الهدية لم يحل قبولها وذلك كالهدايا لأهل الولايات توصلا إلى أن يميلوا مع المهدي فإن ذلك رشوة وستأتي الأدلة الدالة على تحريمها وقد ورد في هدايا الأمراء ما يفيد أنها لا تحل وسيأتي الكلام على طرق حديث هدايا الأمراء في كتاب القضاء والعلة أنها تؤل إلى الرشوة إما في الحكم أو في شئ مما يجب قيام الأمراء به ومن ذلك الهدية إلى من يعلم المهدي القرآن وقد تقدم الدليل على ذلك في الإجازات وهكذا حلوان الكاهن ومهر البغي ونحوهما ومن ذلك الهدية لمن يقضي للمهدي حاجة لحديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من يشفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا" "أخرجه أبو داود من طريق القاسم بن عبد الرحمن الأموي مولاهم الشامي وفيه مقال وبالجملة فكل مانع شرعي قام الدليل على مانعيته من قبول الهدايا له حكم ما ذكرناه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 كتاب الهبات "إن كانت بغير عِوض فلها حكم الهدية في جميع ما سلف"لكون الهدية هبة لغة وشرعا والفرق بينهما إنما هو اصطلاح جديد فإن كانت الهبة بغير عوض كانت المكافأة عليها مشروعة وتجوز للكافر ومنه ولا يحل الرجوع فيها وتجب التسوية بين الأولاد ويكره الرد بغير مانع شرعي "وإن كانت بعوض فهي بيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 ولها حكمه"لأن المعتبر في التبايع إنما هو التراضي والتعاوض وهما حاصلان في الهبة بعوض إذا كان ذلك واقعا عند التواهب وأما إذا كان في الموهوب له مكافأة غير مرادة للواهب عند الهبة فهي كالهدية وبالجملة فتنطبق على الهبة بغير عوض الأدلة المتقدمة في الهدية وتنطبق على الهبة بعوض الأدلة المتقدمة في البيع وقد تقدمت فلا حاجة إلى إيرادها ههنا "والعمرى" بضم العين المهملة وسكون الميم مع القصر عند الأكثر وهي مأخوذة من العمر وهو الحياة سميت بذلك لأنهم كانوا في الجاهلية يعطي الرجل الرجل الدار ويقول له: أعمرتك إياها أي أبحتها لك مدة عمرك وحياتك فقيل لها عمرى لذلك. "والرقبى" بوزن العمرى مأخوذة من المراقبة لأن كل واحد منهما يرقب الآخر متى يموت لترجع إليه وكذا ورثته يقومون مقامه هذا أصلهما لغة "توجبان المُلك للمُعْمر والمُرقب ولعقبه من بعده لا رجوع فيهما"لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمرى ميراث لأهلها أو قال جائزة" وفيهما من حديث جابر قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وهبت له "وفي لفظ لمسلم "فمن أُعمر عمرى فهي للذي أعمر حيا وميتا ولعقبه " وفي لفظ لأحمد ومسلم وأبي داود "إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها "ولكن قد قيل إن ذلك من كلام أبي سلمة مدرج في حديث جابر فلا تقوم بهذه الرواية الحجة ولا تصلح لتقييد الأحاديث المطلقة كالحديثين المتقدمين وحديث زيد بن ثابت عند أحمد وأبي داود وابن ماجه وابن حبان قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أعمر عمرى فهي لمعمره حياته ومماته لا ترقبوا من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث" وأخرج أحمد والنسائي من حديث ابن عمر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو له حياته ومماته" ورجال إسناده ثقات وورد في محل النزاع ما أخرجه النسائي من حديث جابر بلفظ "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالعمرى أن يهب الرجل الرجل ولعقبه الهبة ويستثني إن حدث بك حدث ولعقبك فهي إلي وإلى عقبي أنها لمن أعطاها ولعقبه "وهكذا ما أخرجه أحمد من حديث جابر "أن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها فماتت فجاء إخوته فقالوا: نحن فيه شرع سواء قال: فأبى فاختصموا إلى النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 صلى الله عليه وسلم فقسمها بينهم ميراثا "ورجاله رجال الصحيح وقد أخرجه أيضا أبو داود فهذا وما قبله يفيد أنها تكون للوارث وإن لم يذكر بل ذكر الموروث بل وإن استثنى وقال: إن حدث بك حدث فهي إلي فإن ذلك لا يفيد بل يكون للمعمر والمرقب ولورثته من بعده وقد ذهب إلى هذا جماعة من الشافعية وذهب الجمهور إلى أنه قال: هي لك ما عشت فإذا مت رجعت إلي فهي عاريّة مؤقتة ترجع إلى المعمر عند موت المعمر وتمسكوا برواية جابر المتقدمة وقد قدمنا ما قيل فيها من الإدراج ثم اعلم أن الهبة تصح بمجرد الإيجاب ولا تفتقر إلى قبول ولكنها تبطل بالرد ومن زعم أنها لا تتم إلا بالقبول احتاج إلى الدليل ولا حجة لمن اشترط القبض في الهبة ومن كان له صبر على الفاقة وقلة ذات اليد فلا بأس بالتصديق بأكثر ماله أو بكله ومن كان يتكفف الناس إذا احتاج لم يحل له أن يتصدق بجميع ماله ولا بأكثره وهذا هو وجه الجمع بين الأحاديث الدالة على أن مجاوزة الثلث غير مشروعة وبين الأدلة التي دلت على مشروعية التصدق بزيادة على الثلث وأما رجوع الوالد في هبة الوالد فيستدل على ذلك بما أخرجه أهل السنن وصححه الترمذي من حديث ابن عمر وابن عباس قالا: "قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده " وظاهر الحديث تحريم الرجوع في الهبة مطلقا إلا ما تقدم تخصيصه إلا أن يصح ما أخرجه الحاكم من حديث الحسن عن سمرة مرفوعا بلفظ "إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع " ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس قال ابن الجوزي وهما ضعيفان وقال الحافظ في إسناد الثاني ضعف فإذا انتهضا للاحتجاج كانا مخصصين لذي الرحم من العموم وكذلك إذا صح حديث أبي هريرة الذي رواه ابن حزم مرفوعا بلفظ "الواهب أحق بهبته ما لم يثب فيها " وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عباس مرفوعا "من وهب هبة فهو أحق بها حتى يثاب عليها" وقد ضعف حديث أبي هريرة ابن الجوزي وصححه الحاكم من قول عمر فإن صح الحديثان أو أحدهما كانا مخصصين للهبة التي لم يثب عليها فيجوز الرجوع فيها وأما حديث الصحيحين بلفظ " العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه" وزاد البخاري "ليس لنا مثل السوء "وثبت بلفظ "لا يحل" كما في حديث ابن عمر وابن عباس والرواية التي فيها "كالكلب يعود في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 قيئه" ليست إلا المبالغة في الزجر وليس المراد بالحديث إلا تمثيل فعل الراجع في الهبة بالكلب العائد في قيئه وهذه صورة في غاية الشناعة والفظاعة وليس المراد بيان ما يجوز للكلب من الرجوع في قيئه وليس في الشرع ما يدل على ألفاظ مخصوصة ولا على مجلس ولا على قبض ومن زعم أن في الشريعة ما يدل على شئ من ذلك فهو مطالب بالدليل والفرق بين الحقوق والأملاك وجعل كل واحد منهما مختصا بشئ مما تحت يد الثابت عليه إنما هو مجرد اصطلاح من بعض أهل الفروع وإذا عرفت ذلك هان عليك الخطب ولم تحتج إلى الاشتغال بما في ذلك من التفاريع والتفاصيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 كتاب الأيمان "الحلف إنما يكون باسم"من أسماء "الله تعالى"وهو ظاهر "أو صفة له"من صفات ذاته لحلفه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بمقلب القلوب كما في حديث ابن عمر في صحيح البخاري وغيره وقال: "كان أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف لا ومقلب القلوب"وفي الصحيحين من حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في زيد بن حارثة: "وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة " وهكذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الحلف بقوله "والذي نفسي بيده" وهو في الصحيح وحكى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن جبرئيل عليه السلام أنه قال "وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها " يعني الجنة وهو في الصحيح أيضا والأحاديث في هذا كثير جدا"ويحرم بغير ذلك"أي بغير اسم الله تعالى وصفاته فإن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون في أناس أن أسماءهم مباركة معظمة وكانوا يعتقدون أن الحلف بأسمائهم على الكذب يستوجب حرما في ماله وأهله فلا يقدمون على ذلك ولذلك كانوا يستحلفون الخصوم بأسماء الشركاء بزعمهم فنهوا عن ذلك كما في حديث ابن عمر عند مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال: "إن الله نهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " وفي لفظ "ومن كان حالفا فلا يحلف إلا بالله" وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 والنسائي وابن حبان والبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون" وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم "من حلف بغير الله فقد كفر" وفي لفظ "فقد أشرك" وهو عند أحمد من هذا الوجه وفي لفظ للترمذي والحاكم "فقد كفر وأشرك" وفي الباب أحاديث قال في الحجة البالغة: وقد فسره بعض المحدثين على معنى التغليظ والتهديد ولا أقول بذلك وإنما المراد عندي اليمين المنعقدة واليمين الغموس باسم غير الله تعالى على اعتقاد ما ذكرنا وقال في المسوى: قال الشافعي من حلف بغير الله فهو يمين مكروهة وأخشى أن يكون معصية فإن قبل أليس قد أقسم الله ببعض مخلوقاته فقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الأعرابي: "أفلح وأبيه إن صدق " فالجواب يكون بوجهين: أحدهما أن فيه إضمارا معناه ورب السماء ورب الشمس ورب أبيه ونحو ذلك حيثما وقع وثانيهما وهو الأصح أن النهي إنما وقع عما كان على قصد التعظيم للمحلوف بإسمه كالحالف بالله يقصد بذكره التعظيم دون ما كانت العرب تستعمله تؤكد به كلامها من غير ذلك التعظيم. أقول: الحلف باسم غير الله تعالى على اعتقاد تعظيمه بحيث يكون الحنث مع ذكر اسمه موجبا عنده للعقوبة في الدنيا والآخرة شرك وبغير هذا التعظيم مكروه لأجل المشابهة مثل ما ذكروا من التفصيل في النهي عن القول يمطرنا بنوء كذا وكذا انتهى وفي حديث الصحيحين وغيرهما بلفظ "من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله " ولا ريب أن الإنسان إنما يحلف بما هو عظيم عنده ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحالف أن يحلف بالله أو يصمت فمن حلف باللات والعزى كان معظما لهما ومن عظمهما كفر ومن كفر لم يرجع إلى الإسلام إلا بكلمة الإسلام وهي لا إله إلا الله "ومن حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى ولا حِنْث عليه"لحديث أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث " أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي وابن حبان ولفظ ابن ماجه "فله ثنياه " ولفظ النسائي "فقد استثنى " وأخرجه الحاكم وقد صححه ابن حبان وأخرج أبو داود عن عكرمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لأغزون قريشا ثم قال: إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 شاء الله ثم قال: والله لأغزون قريشا ثم قال: إن شاء الله ثم قال: والله لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال: إن شاء الله ثم لم يغزهم "قال أبو داود: إنه قد أسنده غير واحد عن ابن عباس وقد رواه البيهقي موصولا ومرسلا ويؤيد أحاديث الباب ما في الصحيحين "أن سليمان بن داود قال: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة " الحديث وفيه "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قال إن شاء الله لم يحنث " وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وادعى ابن العربي الإجماع على ذلك فقال أجمع المسلمون على أن قوله إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا وفي الموطإ عن ابن عمر "من قال والله ثم قال إن شاء الله ثم لم يفعل الذي حلف عليه لم يحنث "قال مالك أحسن ما سمعت في الثنيا أنها لصاحبها ما لم يقطع كلامه وما كان من ذلك نسقا يتبع بعضه بعضا قبل أن يسكت فإذا سكت وقطع كلامه فلا ثنيا له قلت وعلى هذا أهل العلم أن الاستثناء إذا كان موصولا باليمين فلا حنث عليه. أقول: ثم اعلم أن اعتبار الأعراف في الأيمان لا بد منه فإن الحالف عند حلفه من شئ أو على شئ لا يخطر بباله غير العرف الذي غلب عليه في محاوراته فلو فرض أن عرفه فيما حلف عليه مخالف لاسمه اللغوي أو الشرعي كان العرف مقدما أما إذا كان ممن لا يعرف الشرع أو اللغة فظاهر وأما إذا كان ممن يعرفها فكذلك أيضا لأن خطورة المعنى العرفي أسبق من خطور غيره بالبال إلا أن يقول: أردت ذلك فإنه يقبل منه إن كان لا يتعلق بالمعنى العرفي حق للغير "ومن حلف على شئ فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفِّر عن يمينه" لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك " وفي لفظ " فكفر عن يمينك وات الذي هو خير " وفي لفظ للنسائي وأبي داود "فكفر عن يمينك ثم أت الذي هو خير " وأخرج مسلم وغيره من حديث عدي بن حاتم ومن حديث أبي هريرة نحوه وفي الصحيحين من حديث أبي موسى "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني " وفي الباب أحاديث قلت: قال الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} واختلفوا في وجه الجمع بينه وبين حديث أبي هريرة فقال أبو حنيفة: قوله تعالى مخصوص بما إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 كان المحلوف عليه معصية إذ من المعلوم أن الله تعالى لا يأمر بمعصية فمن حلف على معصية كترك الكلام مع أبيه حنث وكفر وقال الشافعي: مخصوص بما إذا حلف على معصية أو حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه لقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} أي مانعا لكم عن البر قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير "فقال أبو حنيفة: لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث فمعناه فليقصد أداء الكفارة كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} وقال الشافعي: يجوز تقديهما على الحنث يكفر بالصوم وعلى قياس هذا كل حق مالي تعلق بشيئين يجوز تقديمه على الشيئين كالزكاة إذا تم النصاب ولم يتم الحول "ومن أُكره على اليمين فهي غير لازمة ولا يأثم بالحنث فيها"لكون فعل المكره كلا فعل وقد رفع الله تعالى الخطاب به في التكلم بكلمة الكفر فقال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} ولحديث "رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وهو حديث فيه مقال طويل1 وتكليف الحالف بيمينه التي أكره عليها من تكليف مالا يطاق وهو باطل بالأدلة العقلية والنقلية "واليمين الغموس هي التي يعلم الحالف كذبها"لحديث ابن عمر قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر "فذكر الحديث "وفيه "اليمين الغموس " وفيه "قلت وما اليمين الغموس قال: التي يقتطع بها مال امرىء مسلم هو فيها كاذب" أخرجه البخاري قال مالك: وعقد اليمين أن يحلف الرجل أن لا يبيع ثوبه بعشرة دنانير ثم يبيعه بذلك أو يحلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه ونحو هذا فهذا الذي يكفر صاحبه عن يمينه وليس في اللغو كفارة وأما الذي يحلف على الشئ وهو يعلم أنه آثم ويحلف على الكذب وهو يعلم ليرضي به أحدا أو ليعتذر به إلى معتذر له أو ليقطع به مالا فهذا أعظم من أن يكون فيه كفارة قلت: الغموس هي الحلف على ما يعلم بطلانه لا على ما يظن صدقه فإنه خارج عن الأقسام الثلاثة والحلف على الظن لا يجوز لأن الله سبحانه قد نهى عن اتباع الظن والعمل به نهيا عاما مخصصا بأمور ليس الحلف منها ومن زعم أنه يجوز الحلف على الظن فهو مطالب بدليل صالح لتخصيص ذلك ولا نسلم صدق إسم   1 تفصيله في تلخيص الحبير ابن حجر المطبوع مع المجموع للنووي ج 4 ص 112. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 الاعتقاد على الظن بل هو أخص منه ولو سلم دخوله تحته بالمعنى العام فلا نسلم أن الاعتقاد الذي يكون مطابقته صدقا هو ذلك العام ولو سلمنا أنه العام فلا نسلم أن كل صدق بهذا المعنى يجوز الحلف عليه بل الذي يجوز الحلف عليه بل الذي يجوز الحلف عليه هو نوع من أنواع الصدق خاص وهو ما كان معلوما لا ما كان مظنونا ومن زعم غير هذا فعليه الدليل "ولا مؤاخذة باللغو"لقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وفي البخاري عن عائشة "أنها قالت: أنزلت هذه الآية {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} في قول الرجل لا والله بلى والله "وقد نقل ابن المنذر نحو هذا عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة وجماعة من التابعين وأخرج أبو داود عن عائشة قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله" وأخرج أبو داود عن عائشة قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله" وأخرجه أيضا البيهقي وابن حبان وصحح الدارقطني الوقف قال أبو داود رواه غير واحد عن عطاء عن عائشة موقوفا وذهبت الحنفية إلى أن لغو اليمين أن يحلف على الشئ يظنه ثم يظهر خلافه وبه قال جماعة وقيل أن يحلف وهو غضبان والخلاف في ذلك طويل وتفسير الصحابة الآية الكريمة مقدم على تفسير غيرهم قلت: الأيمان ثلاثة أقسام: لغو لا كفارة فيها ومنعقدة تجب فيه الكفارة إن حنث وغموس اختلفوا في كفارتها قالت عائشة: لغو اليمين قول الإنسان لا والله وقال مالك: أحسن ما سمعت في هذا أن اللغو حلف الإنسان على الشئ يستقين أنه كذلك ثم يوجد على غير ذلك فهو اللغو وذهب الشافعي في تفسير اللغو إلى قول عائشة وأبو حنيفة إلى ما حسنه مالك أقول: الأولى أن يقال إن اللغو لما وقعت في كتاب الله عز وجل مقابلة للمعقودة وقد تقرر أن تعقيد اليمين قصدها والمراد عقد القلب بها كما صرح به صاحب الكشاف فاللغو هي ما لم يقصد كقول الرجل: لا والله وبلى والله في محارواته من غير قصد لليمين سواء كان في حال اليمين أم لا فلو لم يرد في اللغو إلا وقوعها في القرآن مقابلة للمعقودة لكان القول بأنها ما ذكرناه متعينا فكيف وقد فسرت عائشة اللغو المذكور في القرآن بما قلنا "ومن حق المسلم على المسلم إبرار قَسَمه"لما ثبت في الصحيحين من أمره صلى الله عليه وسلم بذلك كما في حديث البراء وغيره. وأخرج أحمد من حديث أبي الزاهرية عن عائشة "أن امرأة أهدت إليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 تمرا فأكلت بعضه وبقي بعضه فقالت أقسمت عليك إلا أكلت بقيته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبريها فإن الإثم على المحنث" ورجاله رجال الصحيح "وكفارة اليمين هي ما ذكره الله في كتابه العزيز"وهو قوله تعالى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} قلت: ذهب ابن عمر إلى أن أو ههنا للتقسيم لا للتخيير وتعقبه عامة أهل العلم بالقياس الجلي على فدية الحلق في الإحرام فقالوا: يتخير الرجل بين أن يطعم عشرة من المساكين أو يكسوهم أو يتعتق رقبة فإن عجز عنها صام ثلاثة أيام وأما قدر الإطعام والكسوة فكان ابن عمر يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين لكل مسكين مد من حنطة مختصر وقال سليمان بن يسار: أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة بالمد الأصغر ورأوا ذلك مجزئا عنهم قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يكفر عن يمينه بالكسوة أنه إن كسا الرجال كساهم ثوبا وإن كسا النساء كساهن ثوبين ثوبين درعا وخمارا وذلك أدنى ما يجزىء كلا في صلاته قلت: على هذا الشافعي في الإطعام وقال في الكسوة أولا مثل ما قال مالك: ثم رجع وقال: إن اختار الكسوة فعليه لكل مسكين ثوب واحد من قميص أو سراويل أو مقنعة أو إزار يصلح لكبير أو صغير لصحة إطلاق الكسوة على كل ذلك سواء وقال أبو حنيفة: الإعتاق والإطعام كما مر في الظهار وأما الكسوة فلكل واحد ثوب يستر عامة بدنه فلا يجوز السراويل والإزار ونحوهما قال مالك: فأما التوكيد فهو حلف الإنسان في الشئ الواحد يردد فيه الأيمان يمينا كقوله: والله لا أنقصه من كذا وكذا يحلف بذلك مرارا ثلاثا أو أكثر من ذلك قال فكفارة ذلك واحدة مثل كفارة اليمين. أقول: الذي في القرآن الكريم إطعام عشرة مساكين ومعناه الحقيقي أن يجعل لهم طعاما يأكلونه مرة واحدة من غير تقدير بمقدار معين ولا على صفة معينة من اجتماعهم أو كونه في وقت مخصوص بل ما يصدق عليه مسمى إطعام العشرة لغة ولا ريب أنه يقال لمن أطعم عشرة ليلا أو نهارا مجتمعين أو مفترقين إنه مطعم لذلك القدر فما وقع الجزم به من اعتبار إطعام العشرة مرتين لا وجه له وأما الظن من حديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 كفارة الظهار فغير ظاهر فإنه وقع الاختلاف الطويل العريض في مقدار العرق من التمر أو المركتل وهل الإعانة منه صلى الله عليه وسلم فقط أو منه ومن المرأة ثم هو مهجور الظاهر فإنه أمر أوس بن الصامت أن ينفقه على نفسه كما ثبت في الصحيح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 كتاب النذر "إنما يصح إذا ابتغي به وجه الله فلا بد أن يكون قُربة ولا نذْر في معصية الله"لأنه قد ورد النهي عن النذر كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال: "إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من مال البخيل" وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة نحوه ثم ورد الإذن بالنذر في الطاعة والنهي عنه في المعصية كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه" وعلى ذلك يحمل قوله تعالى: {يوفون بالنذر} وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى: {يوفون بالنذر} قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله أبرارا وورد بلفظ الحصر أنه لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله كما أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله " وأخرج مسلم وغيره من حديث ابن عباس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين" وأخرج أحمد وأهل السنن من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" والأحاديث في هذا الباب كثيرة "ومن النذر في المعصية ما فيه مخالفة للتسوية بين الأولاد" لما قدمنا في كتاب الهدايا "أو مفاضلة بين الورثة مخالفة لما شرعه الله" لأن المخالفة لذلك معصية ولا نذر في معصية كما تقدم "ومنه النذر على القبور" لكون ذلك ليس من النذر في الطاعة ولا من النذر الذي يبتغى به وجه الله تعالى بل قد يكون من النذر في المعصية إذا كان يتسبب عنه اعتقاد باطل في صاحب القبر كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 يتفق ذلك كثيرا وقد أخرج أبو داود بإسناد صالح عن سعيد بن المسيب "أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك كفّر عن يمينك ولا تنذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك "وأخرج مالك والبيهقي بسند صحيح وصححه ابن السكن عن عائشة " أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة إن كلم ذا قرابة فقالت: يكفر عن اليمين" وإذا كان هذا في الكعبة فغيرها من المشاهد والقبور بالأولى قلت: اختلف أهل العلم في النذر إذا خرج مخرج اليمين مثل: أن يقول: إن كلمت فلانا فلله علي عتق رقبة أو إن دخلت الدار فلله علي أن أصوم أو أصلي فهذا نذر أخرج مخرج اليمين لأنه قصد به منع نفسه عن الفعل كالحالف يقصد بيمينه منع نفسه عن الفعل فأصح قولي الشافعي أنه بمنزلة اليمين عليه الكفارة إن حنث والمشهور من مذهب أبي حنيفة أن عليه الوفاء بما سمى الرتاج الباب وجعل ماله في رتاج الكعبة معناه جعله لها كنى عنها بالباب لأنه يدخل إليها منه "وعلى ما لم يأذن به الله" كالنذر على المساجد لتزخرف أو على أهل المعاصي ليستعينوا بذلك على معاصيهم فإن ذلك من النذر في المعصية وأقل الأحوال أن يكون النذر على ما لم يأذن به الله خارجا عن النذر الذي أذن الله به وهو النذر في الطاعة وما ابتغي به وجه الله فيشمل هذا كل نذر على مباح أو مكروه أو محرم "ومن أوجب على نفسه فعلا لم يشرعه الله لم يجب عليه" لحديث ابن عباس عند البخاري وغيره قال: "بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم وأن يصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مروه ليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه "وأخرج أحمد من حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه فيمن نذر أن لا يزال في الشمس حتى يفرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما النذر فيما ابتغي به وجه الله" قلت: وعلى هذا أهل العلم"وكذلك إن كان"النذر "مما شرعه الله وهو لا يطيقه" لم يجب عليه الوفاء به لحديث أنس في الصحيحين وغيرهما "أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يهادى1 بين ابنيه فقال: ما هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي قال: إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني وأمره أن يركب "زاد النسائي في رواية "نذر أن يمشي إلى بيت الله "وأخرج أبو داود بإسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين" وأخرجه أيضا ابن ماجه وزاد "من نذر نذرا أطاقه فليف به" ومن ذلك أمره صلى الله عليه وسلم لمن نذر أن يمشي إلى الكعبة بالركوب كما في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر وفي مسند أحمد وسنن أبي داود من حديث ابن عباس وفي مسند أحمد من حديث عقبة بن عامر قلت: ذهب أبو حنيفة والشافعي في أصح قوليه إلى أن عليه دم شاة وذهب بعضهم إلى أنه لا يجب إلا على وجه الاحتياط لحديث أنس في مثل هذه الصورة ولم يذكر هديا ولا قضاء. ومن نذر نذرا لم يُسمِّه أو كان معصية أولا يطيقه فعليه كفارة يمين لحديث عقبة ابن عامر عند ابن ماجه والترمذي وصححه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فارة النذر إذا لم يسمه كفارة يمين " هو في صحيح مسلم دون قوله: "إذا لم يسمه" وقد تقدم حديث ابن عباس قريبا فيمن نذر نذرا لم يسمه وأخرج مسلم من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين" كذا نسبه صاحب المنتقى إلى مسلم وفيه نظر وهو عند أبي داود وابن ماجه وأحمد وأخرج أحمد وأهل السنن "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" وفي إسناده مقال وأخرج أبو داود وابن ماجه بإسناد صحيح من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال "من نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين" "وهكذا أمر صلى الله عليه وسلم المرأة التي نذرت أن تمشي وهي لا تطيق بأن تكفر كما أخرجه أحمد وأبو داود. أقول: النذر بالمباح يصدق عليه مسمى النذر فيدخل تحت العمومات المتضمنة للأمر بالوفاء به ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود أن امرأة قالت يا رسول الله: إني نذرت إذا انصرفت من غزوتك سالما أن أضرب على رأسك بالدف فقال لها: " وفي بنذرك " وضرب الدف إذا لم يكن   1 أي يمشي بينهما معتمدا عليها من ضعفه وتمايله. قاله ابن الأثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 مباحا فهو إما مكروه أو أشد من المكروه ولا يكون قربة أبدا فإن كان مباحا فهو دليل على وجوب الوفاء بالمباح وإن كان مكروها فالإذن بالوفاء به يدل على الوفاء بالمباح بالأولى وكذلك إيجاب الكفارة على من نذر نذرا لم يسمه يدل على وجوب الكفارة بالأولى في المباح. فالحاصل: أن النذر بالمباح لا يخرج عن أحد القسمين إما وجوب الوفاء به أو وجوب الكفارة مع عدم الوفاء ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الإذن لمن نذرت أن تمشي إلى بيت الله حافية غير مختمرة بأن تختمر وتركب لأنه صلى الله عليه وسلم أمرها مع ذلك بصيام ثلاثة أيام وفي رواية أنه أمرها بأن تهدي بدنة ومثل ذلك حديث الشيخ الذي نذر أن يمشي فقال صلى الله عليه وسلم "إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه" فإنه لا يعارض ما قدمنا لوجهين: الأول أن عدم التصريح بوجوب الكفارة عليه لا ينافي الأحاديث المصرحة بوجوبها والثاني أنه رآه يضعف عن ذلك كما في الرواية أنه رآه يهادى بين ابنيه ولهذا قال: "إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه" ومحل النزاع من نذر بمباح مقدرو له من غير تعذيب لنفسه ثم تعذيب النفس إن كان من قبيل المعصية فقد ثبت أن في نذر المعصية كفارة يمين وإن كان لكونه يلحق بغير المقدور فقد ثبت أن من نذر فيما لا يملك فعليه كفارة يمين وما ليس بمقدور للإنسان داخل فيما لا يملكه وقد أخرج أبو داود حديثا وفيه "ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ". والحاصل: أن النذر إن كان بطاعة مقدورة وجب الوفاء به سواء كانت تلك الطاعة واجبة أو مندوبة وإن كان بغير طاعة فهو إما من المباح أو الحرام أو المكروه فإن كان من المباح فقد تقدم وإن كان من الحرام فقد ثبت وجوب الكفارة فيه مع المنع من الوفاء به وإن كان مكروها فهو إما أن يكون لاحقا بالحرام أو بالمباح إن كان الأول وجبت الكفارة ولم يجز الوفاء به وإن كان الثاني فقد تقدم هذا خلاصة الكلام في أنواع النذر ولا دليل بيد من لم يوجب الوفاء ولا الكفارة في المندوب والمباح "ومن نذر بقربة وهو مشرك ثم أسلم لزمه الوفاء"لحديث عمر في الصحيحين وغيرهما "أنه قال: قلت يارسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام فقال: "أوف بنذرك " وأخرج أحمد وابن ماجه عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 ميمونة بنت كردم1 "أن أباها سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إني نذرت أن أنحر ببوانة2 فقال: "أبها وثن أو طاغية؟ " قال لا قال: "أوف بنذرك" ورجال إسناده رجال الصحيح. وأخرج أبو داود نحوه من حديث ثابت بن الضحاك وإسناده صحيح "ولا ينفذ النذر إلا من الثلث" لحديث كعب بن مالك في الصحيحين أنه قال: "يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" وفي لفظ لأبي داود "إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة قال: لا قلت: فنصفه؟ قال: لا قلت: فثلثه؟ قال: نعم" وفي إسناده محمد بن إسحق وفي لفظ لأبي داود أنه قال له: "يجزي عنك الثلث" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر لما تاب الله عليه قال: "يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله فقال: "يجزي عنك الثلث" قلت: وهو قول أهل العلم في الجملة ولو حلف الرجل بصدقة ماله أو قال: مالي في سبيل الله فقال قوم: عليه كفارة يمين وهو من نذر اللجاج وعليه الشافعي وقال مالك: يخرج ثلث ماله لحديث أبي لبابة المذكور وقال أبو حنيفة: ينصرف ذلك إلى كل ما يجب فيه الزكاة من عينه من المال دون ما لا زكاة فيه من العقار والدواب ونحوها "وإذا مات الناذر بقربة ففعلها عنه ولده أجزأه ذلك لحديث ابن عباس أن سعد ابن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قضه عنها " أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح وأصل القصة في الصحيحين وفي البخاري "أن ابن عمر أمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء ثم ماتت أن تصلي عنها "وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس نحو ذلك بإسناد صحيح وقد روي عنهما خلاف ذلك قلت: هو القول القديم للشافعي أن من فاته شئ من رمضان وتمكن من قضائه ثم مات ولم يقض وكذا النذر والكفارة تدارك عنه   1 كردم بوزن جعفر: وميمونة هذه صحابية وحديثها في مسند أحمد ج 6 ص 366.وذكره ابن الأثير أسد الغابة 9 5 ص 552. وابن سعد في الطبقات ج 8 ص 222. وابن حجر في الإصابة ج 8 ص 195. ونسبه أيضا إلي سنن أبي داود. 2 بوانة بضم الباء وتخفيف الواو هضبة وراء ينبع قريبة من ساحل البحر كما في معجم البلدان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 وليه إما بالصوم عنه أو الإطعام من تركته قال النووي: القديم ههنا أظهر وقال محمد: ما كان من نذر أو صدقة أو حج قضاها الولي أجزأ ذلك إن شاء الله تعالى وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 كتاب الأطعمة الأصل في كل شئ الحل ولا يحرم إلا ما حرمه الله ورسوله وما سكتا عنه فهو عفو"لمثل قوله تعالي: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية فإن النكرة في سياق النفي تدل على العموم ولمثل حديث سلمان الفارسي قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا لكم" أخرجه ابن ماجه والترمذي وفي إسناد ابن ماجه سيف بن هرون البرجمي وهو ضعيف1 وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته " وفيهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذروني ماتركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وأخرج البزار وقال: سنده صالح والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء ورفعه بلفظ " ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى وتلا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} "وأخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها "وفي الكتاب والسنة مما يتقرر به هذا الأصل الكثير الطيب فيتوجه الاقتصار في رفع الحل على ماورد فيه دليل يخصه ومن التخصيص   1 قال الترمذي ج 1 ص 322 طبع بولاق "هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه"ورواه أيضا الحاكم في المستدرك ج 4 ص 115 شاهدا وفي إسناد الجميع سيف بن هرون البرجمي وقد ضعفه جماعة منهم ابن حبان ووثقه أبو نعيم وصحح الطبري حديثه في التهذيب وقال البخاري: مقارب الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 قوله تعالى في آخر تلك الآية: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} وكذلك قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى آخر الآية "فيحرم ما في الكتاب العزيز"وهو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} أي ما مات حتف أنفه {وَالدَّمَ} وهو المسفوح صرح بذلك في الآية الأخرى والمفسر قاض على المبهم وهذا مما ينقض به قول القائل المبهم على إبهامه والمفسر على تفسيره فإنهم اتفقوا في هذه الآية على التقييد {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} وكل شئ من الخنزيز حرام وتخصيص اللحم بالذكر لأنه يقصد في العادة والخنزير حيوان مسخ بصورته قوم ولم يزل نوح ومن بعده من الأنبياء يحرمون الخنزير ويأمرون بالتبعد عنه إلى تنزل عيسى عليه السلام فيقتله ويشبه أن الخنزير كان يأكله قوم فنطقت الشرائع بالنهي عنه وهجر أمره أشد ما يكون {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي ذكر اسم غير الله عند ذبحه {وَالْمُنْخَنِقَةُ} هي التي تختنق فتموت {وَالْمَوْقُوذَةُ} هي المقتولة بالعصا {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} هي التي تتردى من مكان عال فتموت {وَالنَّطِيحَةُ} هي التي تنطحها أخرى فتموت {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} يريد ما بقي مما أكل السبع لأنه ضبط المذبوح الطيب بما قصد إزهاق الروح باستعمال المحدد في حلفه أو لبته فجرّ ذلك إلى تحريم الأشياء {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} أي ما أدركتم من هذه الأشياء وفيه حياة مستقرة فذبحتموه أما ما صار إلى حالة المذبوح فهو في حكم الميتة {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} قيل: مفرد كعنق وقيل: جمع نصاب وهو الشئ المنصوب من حجر ونحوه أمارة للطاغوت والجمع بينه وبين ما أهل لغير الله به يدل على الفرق بينهما وذلك لأن المذبوح عند النصب قصد به تعظيم الطاغوت دلالة وإن لم يتلفظ باسمه فهو بمنزلة ما أهل الغير الله به {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} إلى قوله {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} قلت قد اتفق المسلمون على ذلك في الجملة وإن كان لهم في التفاصيل اختلاف "وكل ذي ناب من السباع"لخروج طبيعتها من الاعتدال وبشكاسة أخلاقها وقسوة قلوبها لحديث أبي ثعلبة الخشني عند مسلم ومالك وغيره "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كل ذي ناب من السباع فأكله حرام" وفي الباب أحاديث في الصحيحين وغيرهما والمراد بالناب السن الذي خلف الرباعية جمعه أنياب وكل ذي ناب يتقوى به ويصاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وقال في النهاية: هو ما يفترس الحيوان ويأكل قسرا كالأسد والذئب والنمر ونحوها قال في القاموس: السبع بضم الباء المفترس من الحيوان انتهى وأراد بذي ناب ما يعدو بنابه على الناس وأموالهم مثل: الذئب والأسد والكلب والفهد والنمر وعلى هذا أهل العلم إلى أن الشافعي ذهب إلى إباحة الضبع والثعلب وقال أبو حنيفة: هما حرامان كسائر السباع أقول: قد قيل إنه لا ناب للضبع وأن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس كذا قال ابن رسلان في شرح السنن وعلى تسليم أن لها نابا فيخصصها من حديث كل ذي ناب حديث جابر فإنه قيل له: "الضبع صيد قال: نعم فقال له السائل آكلها؟ قال نعم فقال له: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم " أخرجه أبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي وصححه وصححه أيضا البخاري وابن حبان وابن خزيمة والبيهقي ولا يعارض هذا الحديث الصحيح ما أخرجه الترمذي من حديث خزيمة بن جزء قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال: "أو يأكل الضبع أحد" وفي رواية "ومن يأكل الضبع" لأن في إسناده عبد الكريم أبا أمية وهو متفق على ضعفه والراوي عنه اسمعيل بن مسلم وهو ضعيف1 "وكل ذي مخلب من الطير"لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره قال: "نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير "والمخلب بكسر الميم وفتح اللام قال أهل اللغة: المراد به ما هو في الطير بمنزلة الظفر للإنسان ويباح منه الحمام والعصفور لأنهما من المستطاب "و"من ذلك "الحمر الإنسية"وكان كثير من أهل الطباع السليمة من العرب يحرمونه ويشبه الشياطين وهو يرى الشيطان فينهق وهو قوله صلى الله عليه وسلم "إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطانا " ويضرب به المثل في الحق والهوان وقد حرمه من العرب أذكاهم فطرة وأطيبهم نفسا كما في حديث البراء بن عازب في الصحيحين وغيرهما "أنه صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية "وفيهما من   1 الحديث في الترمذي 1 ص 331 وفي طبقات ابن سعد 7 قسم 1 ص 33. وعبد الكريم هو ابن أبي المخارق وكنيته أبو أمية ووقع في الأصل "عبد الكريم بن أمية" وهو خطأ والحديث ضعيف قال الترمذي""ليس إسناده بالقوي لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن مسلم عن عبد الكريم أبي أمية"ولم يخرجه أحمد في المسند على سعته وعظمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 حديث ابن عمر وأبي ثعلبة الخشني نحوه وفي الباب غير ذلك وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء قلت: وأما الحمار الوحشي فاتفقوا على إباحته كذا في المسوى وأهدي له صلى الله عليه وسلم الحمار الوحشي فأكله كذا في الحجة البالغة "و"من ذلك "الجلالة قبل الاستحالة"لحديث ابن عمر عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها "وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن دقيق العيد من حديث ابن عباس "النهي عن أكل الجلالة وشرب لبنها "وأخرج أحمد والنسائي والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحو ذلك وفي الباب غير ذلك وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل والثوري والشافعية وذهب بعض أهل العلم إلى الكراهة فقط وظاهر النهي التحريم والعلة تغير لحمها ولبنها فإذا زالت العلة بمنعها عن ذلك حتى يزول الأثر فلا وجه للتحريم لأنها حلال بيقين إنما حرمت لمانع وقد زال قال في الحجة البالغة: الجيفة وما تأثر منها خبيث في جميع الأمم والملل فإذا تميز الخبيث من غيره ألقي الخبيث وأكل الطيب وإن لم يكن التميز حرم أكله ودل الحديث على حرمة كل نجس ومتنجس ونهى صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها لأنها لما شربت أعضاؤها النجاسة وانتشرت في أجزائها كان حكمها حكم النجاسات أو حكم من يتعيش بالنجاسة أقول: الاستحالة مطهرة والأولى أن يقال في طهارة ما استحال إن العين التي حكم الشارع بنجاستها لم تبق اسما ولا صفة فإن حكمه بنجاسة العذرة مقيد بكونها عذرة فإذا صارت رمادا فليست بعذرة فمن ادعى بقاء النجاسة مع ذهاب الاسم والصفة فعليه الدليل "و"من ذلك "الكلاب"ولا خلاف في ذلك يعتد به وهو مستخبث وقد وقع الأمر بقتله عموما وخصوصا وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل ثمنه كما تقدم وسيأتي وتقدم أن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه وقد جعله بعضهم داخلا في ذوات الناب من السباع قال في الحجة البالغة: ويحرم الكلب والسنور لأنهما من السباع ويأكلان الجيف والكلب شيطان "و"من ذلك "الهر"لحديث جابر عن أبي داود وابن ماجه والترمذي "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الهر وأكل ثمنها "وفي إسناده عمر بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 زيد1 الصنعاني وهو ضعيف لكن يشد من عضده ما ثبت من النهي عن أكل ثمن الكلب والسنور وهو في الصحيح وقد تقدم ولا فرق بين الوحشي والأهلي وللشافعية وجه في حل الوحشي "و"من ذلك "ما كان مستخبثا" لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} فما استخبثه الناس من الحيوانات لا لعلة ولا لعدم اعتياد بل لمجرد الاستخباث فهو حرام وإن استخبثه البعض دون البعض كان الاعتبار بالأكثر كحشرات الأرض وكثير من الحيوانات التي ترك الناس أكلها ولم ينهض على تحريمها دليل يخصها فإن تركها لا يكون في الغالب إلا لكونها مستخبثة فتندرج تحت قوله {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وقد أخرج أبو داود عن ملقام بن تلب قال "صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرات الأرض تحريما "وقد قال البيهقي: إن إسناده غير قوي وقال النسائي: ينبغي أن يكون ملقام بن تلب ليس بالمشهور2 وهذا الحديث ليس فيه ما يخالف الآية وغايته عدم سماعه لشئ من النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يدل على العدم وقد أخرج ابن عدي والبيهقي من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن أكل الرخمة3 "وفي إسناده خارجة بن مصعب وهو ضعيف جدا فلا ينتهض للاحتجاج به وأخرج أحمد وأبو داود من حديث عيسى بن نميلة الفزازي عن أبيه قال "كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنقذ فتلا هذه الآية {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خبيثة من الخبائث فقال ابن عمر: إن كان قاله رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهو كما قال "وعيسى بن نميلة ضعيف4 فلا يصلح الحديث لتخصيص القنفذ من أدلة الحل العامة وقد قيل إن من أسباب التحريم الأمر بقتل الشئ كالخمس الفواسق   1 في الأصل "يزيد"وهو خطأ. 2 وقال ابن حزم مجهول. وقال ابن حجر في الإصابة "ذكره البخاري وغيره في التابعين"وأبوه صحابي لم يرو عنه غيره وحديثه رواه عن أيضا ابن سعد ج 7 قسم 1ص 28 وذكره ابن الأثير في أسد الغابة 1 ص 212 وفيهما أنه رواه عن أبيه. وملقام بكسر الميم ويقال بالهاء. 3 هي طائر أبقع على شكل النسر خلقة إلا أنه مبقع بسواد وبياض. قاله في اللسان. 4 لم أجد ضعف عيسى بن نميلة بل وثقه ابن حبان. وأبوه قال الذهبي لا يعرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 الوزغ ونحو ذلك والنهي عن قتله كالنملة والنحلة والهدهد والصرد والضفدع ونحو ذلك ولم يأت عن الشاعر ما يفيد تحريم أكل ما أمر بقتله أو نهي عن قتله حتى يكون الأمر والنهي دليلين على ذلك ولا ملازمة عقلية ولا عرفية فلا وجه لجعل ذلك أصلا من أصول التحريم بل إن كان المأمور بقلته أو المنهي عن قتله مما يدخل في الخبائب كان تحريمه بالآية الكريمة وإن لم يكن من ذلك كان حلالا عملا بما أسلفنا من أصالة الحل وقيام الأدلة الكلية على ذلك ولهذا قلنا "وما عدا ذلك فهو حلال"قال الشافعي: ما لم يرد فيه نص تحريم ولا تحليل ولا أمر بقتله ولا نهي عن قتله فالمرجع فيه إلى العرب من سكان البلاد والقرى دون أجلاف البوادي فإن استطابته العرب أو سمته باسم حيوان حلال فهو حلال وإن استخبثته أو سمته باسم حيوان حرام فهو حرام فأما ما أمر الشرع بقتله أو نهى عن قتله فلا يكون حلالا فقد قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "خمس يقتلن في الحل والحرم "الحديث وأمر بقتل الوزغ ونهى عن قتل أربعة من الدواب النملة والنحلة والصرد والهدهد وبالجملة: فتحل الطيبات وتحرم الخبائث لقوله تعالى {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} والطيبات ما تستطيبه العرب وتستلذه من غير أن ورد بتحريمه نص من كتاب أو سنة قال الماتن في حاشية الشفاء: إن القول بكراهية أكل الأرنب لا مستند له بخلاف الضب فإنه قد ورد النهي عن أكله كما أخرجه أبو داود وثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله غضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب ولا أدري لعل هذا منها" والنهي حقيقة في التحريم لولا ما ثبت في الصحيحين من حديث جماعة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم بأكل الضب فقال لهم "كلوه فإنه حلال ولكن ليس من طعامي" فإن هذا الحديث يصرف النهي عن حقيقته إلى مجازه وهو الكراهة وحديث تردده صلى الله عليه وسلم في كونه ممسوخا مؤيد لذلك وأما أكل التراب فلم يصح في المنع منه شئ لكنه من أسباب العلل الصعبة التي يتأثر عنها انحلال البنية وقد نهى الله سبحانه عن قتل الأنفس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 باب الصيد وكان الاصطياد ديدناً للعرب وسيرة فاشية فيهم حتى كان ذلك أحد المكاسب التي عليها معاشهم فأباحه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "ما صيد بالسلاح الجارح والجوارح كان حلالا إذا ذُكر اسم الله عليه"لحديث أبي ثعلبة الخشني في الصحيحين قال: "قلت يا رسول الله: إنا بأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي المعلم وبكلبي الذي ليس بمعلم فما يصلح لي؟ فقال: ماصدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك المعلّم فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكائه فكل " وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم قال: "قلت يارسول الله: إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن عليّ وأذكر اسم الله قال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها قال: قلت فإني أرمي بالمعراض1 الصيد فأصيد قال: إذا رميت بالمعراض فخزق2 فكل وإن أصابه بعرضه فلا تأكل " وفي رواية "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخْذ الكلب ذكاة" وفي لفظ من حديثه عند أحمد وأبي داود "قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل ولم يأكل منه شيئا فإنما أمسكه عليك "وفي الصحيحين من حديثه "فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه "وفي حديث ابن عباس عند أحمد قال: "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد فلا تأكل فإنما أمسكه على نفسه فإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل إنما أمسكه على صاحبه" وقد أخرج أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن عمر وأن أبا ثعلبة الخشبي قال: "يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها قال: " إن كانت لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكت عليك فقال يا رسول الله: ذكي وغير ذكي قال: ذكي وغير ذكي   1 بوزن مفتاح سهم لاريش له. 2 قال النووي في شرح مسلم وأما خزق فهو بالخاء المعجمة والزاي ومعناه نفذ اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 قال: وإن أكل منه قال يا رسول الله: أفتني في قوسي قال: "كل ما أمسك عليك قوسك" قال: ذكي وغير ذكي قال وغير ذكي قال: فإن تغيب عني قال: "وإن تغيب عنك ما لم يصل1" يعني يتغير أو تجد فيه أثر غير سهمك" وقد قال ابن حجر: إنه لا بأس بإسناده وفيه نظر لأن في إسناده داود بن عمر الأودي الدمشقي وفيه مقال وخلاف وقد أخرج نحو هذا الحديث أبو داود من حديث أبي ثعلبة نفسه ولا ينتهض هذا لمعارضة ما في الصحيحين من النهي عن أكل ما أكل منه الكلب وأخرج أحمد وأبو داود من حديث عدي بن حاتم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما علّمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك" وقد أكل صلى الله عليه وسلم من حمار الوحش الذي صاده أبو قتادة طعنا برمحه وهو في الصحيح وقد تقدم في الحج وقد ذكر الله في كتابه العزيز تحليل ما صيد بالجوارح فقال: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} الآية وأباح الأكل فقال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وقد دل ما ذكرناه من هذه الأدلة على ما اشتمل عليه المتن من أن ما صيد بالجارح والجوارح كان حلالا إذا ذُكر اسم الله عليه "وما صيد بغير ذلك فلا بد من التذكية"وقد نزّل صلى الله عليه وسلم المعراض إذا أصاب فخزق منزلة الجارح واعتبر مجرد الخزق كما في حديث عدي بن حاتم المذكور وفي لفظ لأحمد من حديث عدي قال: "قلت يارسول الله: إنا قوم نرمي فما يحل لنا قال: "يحل لكم ما ذكيتم وما ذكرتم اسم الله عليه فخرقتم فكلوا " فدل على أن المعتبر مجرد الخزق وإن كان القتل بمثقل فيحل ما صاده من يرمي بهذه البنادق الجديدة التي يُرمى بها بالبارود والرصاص لأن الرصاص تخزق خزقا زائدا على خزق السلاح فلها حكمه وإن لم يدرك الصائد بها ذكاة الصيد إذا ذكر اسم الله على ذلك وعبارة الماتن في حاشية الشفاء أقول: ومن جملة ما يحل الصيد به من الآلات هذه البنادق الجديدة التي يرمى بها بالبارود والرصاص فإن الرصاصة يحصل بها خزق زائد على خزق السهم والرمح والسيف ولها في ذلك عمل يفوق كل آلة ويظهر لك ذلك بأنك لو وضعت ريشا أو نحوه فوق رماد دقيق أو تراب دقيق وغرزت فيه شيئا يسيرا من أصلها ثم ضربتها بالسيف المحدد ونحو ذلك من الآلات   1صل اللحم يصل. بفتح الياء وكسر الصاد. وأصل أيضا أنتن مطبوخا كان أو نيئا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 لم يقطعها وهي على هذه الحالة ولو رميتها بهذه البنادق لقطعتها فلا وجه لجعلها قاتلة بالصدم لا من عقل ولا من نقل وما روي من النهي عن أكل ما رمي بالبندقة كما في رواية من حديث عدي بن حاتم عند أحمد بلفظ "ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت "فالمراد بالبندقة هنا هي التي تتخذ من طين فيرمي بها بعد أن تيبس وفي صحيح البخاري "قال ابن عمر في المقتولة بالبندقية تلك الموقوذة "وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن وهكذا ما صيد بحصى الخذف فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن المغفل "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف1 وقال: إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ2 عدوا لكنها تكسر السن وتفقأ العين "ومثل هذا ما قتل بالرمي بالحجارة غير المحدودة إذا لم تخزق فإنه وقيذ لا يحل وأما إذا خزقت حل قال في المسوى: يحل ما اصطاد بكلبه إذا ذُكر اسم الله عليه وعند إرساله وكان الكلب معلما قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} والتعليم هو أن يوجد فيه ثلاثة أشياء: إذا أُشليت استشلت3 وإذا أخذت الصيد أمسكت ولم تأكل فإذا وجد ذلك منها مرارا وأقله ثلاث مرات كانت معلمة يحل صيدها وعلى هذا كله أهل العلم في الجملة وأكثر أهل العلم على أن المراد بالجوارح الكواسب من سباع البهائم كالفهد والكلب ومن سباع الطير كالبازي والصقر مما يقبل التعليم فيحل صيد جميعها والمكلب هو الذي يغري الكلاب على الصيد ويعلمها {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ} أراد أن الجارحة المعلمة إذا جرحت بإرسال صاحبها فأخذت الصيد وقتلته كان حلالا قلت: وهذا هو مذهب مالك والقول القديم للشافعي ثم تعقبه الشافعي بحديث عدي ابن حاتم المذكور وهو مذهب أبي حنيفة وسمع مالك أهل العلم يقولون في البازي والعقاب والصقر وما أشبه ذلك إنه إذا كان معلما يفقه كما تفقه الكلاب المعلمة فلا بأس بأكل ما قتلوه مما صادت إذا ذكر اسم الله على إرسالها قال مالك: الأمر المجتمع عليه   1الخذف ريك بحصاة أو تأخذها بين سبابتيك أو تجعل مخذفة من خشب ترمي بها بين الإبهام والسبابة قال في اللسان. 2الرواية بالهمز تنكي بكسر الكاف بدون همزة قال الشوكاني "قال ابن سيده نكى العدو نكاية أصاب منه ثم قال: "نكأت العدو أنكؤهم لغة في نكيتهم فظهر أن الرواية صحيحة ولا معنى لتخطئتها" 3 أشلى الكلب إذا دعاه باسمه وأشلاه على الصيد دعاه فأرسله عليه لكن حذف فأرسله تخفيفا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 عندنا أن المسلم إذا أرسل كلب المجوسي الضاري فصاد أو قتل أنه إذا كان معلما فأكْل ذلك الصيد حلال لا بأس به وإن لم يذكه المسلم وإنما مثل ذلك مثل المسلم يذبح بشفرة المجوسي أو يرمي بقوسه أو بنبله فيقتل بها فصيده ذلك وذبيحته حلال لا بأس بأكله قال مالك: إذا أرسل المجوسي كلب المسلم الضاري على صيد فأخذه فإنه لا يؤكل ذلك الصيد إلا أن يذكى وإنما مثل ذلك قوس المسلم ونبله يأخذها المجوسي فيرمي بها الصيد فيقتله وبمنزلة شفرة المسلم يذبح به المجوسي فلا يحل أكل شئ من ذلك انتهى "وإذا شارك الكلب المعلَّم كلب آخر لم يحل صيدهما" لما تقدم في حديث عدي من قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " ما لم يشركها كلب ليس معها " وفي لفظ له في الصحيحين قال: "قلت يا رسول الله إني أرسل كلبي وأسمي قال: "إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فكل وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه" قلت: إني أرسل كلبي أجد معه كلبا لا أدري أيهما أخذه قال فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره "وفي لفظ له "فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله" وإذا أكل الكلب المعلَّم ونحوه من الصيد لم يحل فإنما أمسك على نفسه لما تقدم من الأدلة على ذلك وتقدم أيضا ترجيحها على حديث عبد الله بن عمرو "وإذا وجد الصيد بعد وقوع الرمية فيه ميتا ولو بعد أيام في غيرماء كان حلالا ما لم يُنتن أو يعلم أن الذي قتله غير سهمه"لحديث أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إذا رميت سهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته فكله ما لم ينتن" أخرجه مسلم وغيره وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم قال "سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الصيد قال: " إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله فإن وجدته قد قتل فكل إلا أن تجده قد وقع في ماء فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" وفي لفظ من حديثه لأحمد والبخاري عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل " وفي لفظ لمسلم نحوه وفي لفظ للبخاري من حديثه "إنا نرمي الصيد فنقتفي أثره اليومين والثلاثة ثم نجده ميتا وفيه سهمه قال: يأكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 إن شاء " وفي لفظ للترمذي وصححه قال: "قلت يارسول الله: أرمي الصيد فأجد فيه سهمي من الغد قال: إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكل" قلت: وعلى هذا أهل العلم في الجملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 " باب الذبح " "هو ما أنهر الدم"أي أساله "وفرى"أي قطع "الأوداج"وهما عرقان بينهما الحلقوم "وذُكر اسم الله عليه ولو بحجر أو نحوه"كخشب وغيره "ما لم يكن سنا أو ظفرا"لحديث رافع بن خديج في الصحيحين وغيرهما قال: "قلت يارسول الله: إنا نلقى العدو غدا وليس معنا مدى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنا أو ظفرا سأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة" وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس وأبي هريرة قالا: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأوداج "وفي إسناده عمرو بن عبد الله الصنعاني وهو ضعيف وأخرج أحمد والبخاري من حديث كعب بن مالك "أنها كانت لهم غنم ترعى بسلع فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا فكسرت حجرا فذبحتها فقال لهم لا تأكلوا حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أرسل إليه من يسأله عن ذلك وأنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك أو أرسل غليه فأمره بأكلها "وفيه دليل على أن ذبح النساء والرقيق جائز وعليه أهل العلم وأخرج أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت "أن ذئبا نيّب في شاة فذبحوها بمروة فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكلها "وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان من حديث عدي بن حاتم قال: "قلت يا رسول الله: إنا نصيد الصيد فلا نجد سكينا إلا الظرار وشقة العصا فقال صلى الله عليه وسلم: أمرّ الدم بما شئت واذكر اسم الله عليه " والظرار1 الحجر أو المدر وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة "أن قوما قالوا يارسول الله:   1هو بالظاء ااالمشالة قال في القاموس في فصل الظاء الظر بالكسر والظرر والظررة الحجر والمدر المحدد منه اهـ المراد منه وضبط بالقلم الظرر والظررة بضم ففتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا فقال: سموا عليه أنتم وكلوا قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر "وهذا لا ينافي وجوب التسمية على الذابح بل فيه الترخيص لغير الذابح إذا شك في اللحم هل ذكر عليه اسم الله عند الذبح أم لا فإنه يجوز له أن يسمي ويأكل وأما استقبال القبلة فليس في السنة ما يدل على هذا فإن كان الدال على استقبال القبلة هو قوله في الحديث "فما وجههما "فليس فيه أنه وجههما إلى القبلة بل المراد وجههما للذبح وقد تقرر أن حذف المتعلق مشعر بالعموم وإن كان الاستدلال بقوله "وجهت وجهي "فكذلك أيضا ليس فيه دلالة على ذلك ولا أعلم دليلا على مشروعية1 الاستقبال حال الذبح قال الماتن في السيل الجرار: ليس على هذا دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس وما قيل من أن القول بندب الاستقبال في الذبح قياس على الأضحية فليس بصحيح لأنه لا دليل على الأصل حتى يصلح للقياس عليه بل النزاع فيه كائن كما هو كائن في الفرع والندب حكم من أحكام الشرع فلا يجوز إثباته إلا بدليل تقوم به الحجة انتهى "ويحرم تعذيب الذبيحة"لحديث شداد بن أوس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحكم شفرته وليرح ذبيحته" أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه وأخرج أحمد وابن ماجه من حديث ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار وأن توارى عن البهائم وقال: إذا ذبح أحدكم فليجهز "أي يتمها وفي إسناده ابن ليهعة وفيه مقال معروف قلت في اختيار أقرب طريق لإزهاق الروح اتباع داعية الرحمة وهي خلة يرضى بها رب العالمين ويتوقف عليها أكثر المصالح المنزلية والمدنية "والمثلة بها"لما ورد في تحريمها من الأحاديث الثابتة في الصحيح وغيره وهي عامة "و"تحريم "ذبحها لغير الله"لما ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من لعن من ذبح لغير الله كما في صحيح مسلم وغيره ولقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} وكان أهل الجاهلية يتقربون إلى الأصنام والنجوم بالذبح لأجلهم   1التعبير بالمشروعية غير دقيق فإنه لا خلاف في مشروعيته ولم يقل أحد إنه مكروه أو حرام. وإنما الخلاف في استحبابه فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 إما بالإهلال عند الذبح بأسمائهم وإما بالذبح على الأنصاب المخصوصة لهم فنهوا عن ذلك وهذا أحد مظان الشرك وأما الذبح للسطان وهل هو داخل في عموم ما أهل به لغير الله أم لا؟ فقد أجاب الماتن رحمه الله في بحث له على ذلك بما لفظه: اعلم أن الأصل الحل كا صرحت به العمومات القرآنية والحديثية فلا يحكم بتحريم فرد من الأفراد أو نوع من الأنواع إلا بدليل ينقل ذلك الأصل المعلوم من الشريعة المطهرة مثل: تحريم ما ذبح على النصب والميتة والمتردية والنطيحة والموقوذة وما أهل به لغير الله ولحم الخنزيز وكل شئ خرج من ذلك الأصل بدليل من الكتاب أو السنة المطهرة كتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وتحريم الحمر الإنسية وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن أصول التحريم الكتاب والسنة والإجماع والقياس أو وقوع الأمر بالقتل أو النهي عنه أو الاستخباث أو التحريم على الأمم السالفة إذا لم ينسخ فلا بد للقائل بتحريم فرد من الأفراد أو نوع من الأنواع من اندراجه تحت أصل من هذه الأصول فإن تعذر عليه ذلك فليس له أن يتقول على الله ما لم يقل فإن من حرم ما أحله الله كمن حلل ما حرم الله لا فرق بينهما وفي ذلك من الإثم ما لا يخفى على عارف ولا شك أن البراءة الأصلية بمجردها كافية على ما هو الحق فكيف إذا انضم إليها من العمومات مثل: قوله تعالي: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية وقوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وقوله: {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} وقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} والحاصل أن الواجب وقف التحريم على المنصوص على حرمته والتحليل على ما عداه وقد صرح بذلك حديث سلمان عند الترمذي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" وأخرج أبو داود عن ابن عباس موقوفا "كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله تعالى نبيه وأنزل كتابه فأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو وتلا {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وأخرج الترمذي وأبو داود من حديث قبيصة بن هلب عن أبيه1 قال "سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد قال له رجل إن من الطعام طعاما أتحرج منه فقال ضارعت النصرانية لا يختلجن في نفسك شئ "إذا تقرر هذا فمسألة السؤال أعني ما ذبح من الأنعام لقدوم السلطان والاستدلال على تحريم ذلك بقول تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِالله} فاسد فإن الإهلال رفع الصوت للصنم ونحوه وذلك قول أهل الجاهلية باسم اللات والعزى كذا قال الزمحشري في الكشاف والذابح عند قدوم السلطان لا يقول عند ذبحه باسم السلطان ولو فرض وقوع ذلك كان محرما بلا نزاع ولكنه يقول باسم الله وقد استدل على ذلك بما رواه أحمد ومسلم والنسائي من حديث أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه "أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لعن الله من ذبح لغير الله" الحديث وليس ذلك الاستدلال بصحيح فإن الذبح لغير الله كما بينه شراح هذا الحديث من العلماء أن يذبح باسم غير الله كمن ذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسى أو للكعبة أو نحو ذلك فكل هذا حرام ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلما أو يهوديا أو نصرانيا كما نص على ذلك الشافعي وأصحابه قال النووي في شرح مسلم: فإن قصد الذابح مع ذلك تعظيم المذبوح له وكان غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفرا فإن كان الذابح مسلما قبل ذلك صار بالذبح مرتدا انتهى وهذا إذا كان الذبح باسم أمر من تلك الأمور لا إذا كان لله وقصد به الإكرام لمن يجوز إكرامه فإنه لا وجه لتحريم الذبيحة ههنا كما سلف وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحاب الشافعي أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله قال الرافعي: هذا إنما يذبحونه استبشارا بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة المولود ومثل هذا لا يوجب التحريم انتهى وهذا هو الصواب وفي روضة الإمام النووي من ذبح للكعبة تعظيما لها لكونها بين الله أو لرسول الله لأنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهذا   1في الأصل بحذف "عن أبيه"وصححناه من سنن أبي داود بشرح عون المعبود ج 3 ص 412 وقبيصة تابعي وأبوه صحابي والحديث حسنه الترمذي كما قال المنذري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 لا يمنع الذبيحة بل تحل قال: ومن هذا القبيل الذبح الذي يذبح عند استقبال السلطان استبشارا بقدومه فإنه نازل منزلة الذبح للعقيقة لولادة انتهى وقد أشعر أول كلامه أن من ذبح للسلطان تعظيما له لكونه سلطان الإسلام كان ذلك جائزا مثل: الذبح له لأجل الاستبشار بقدومه إذ لا فرق بين ذلك وبين الذبح للكعبة تعظيما لها لكونها بيت الله وقد ذكر الدواري أن من ذبح للجن وقصد به التقرب إلى الله تعالى ليصرف عنه شرهم فهو حلال وإن قصد الذبح لهم فهو حرام انتهى وهذا يستفاد منه حل ما ذبح لإ كرام السلطان بالأولى وذلك هو الحق لما أسلفناه من أن الأصل الحل وأن الأدلة العامة قد دلت عليه وعدم وجود ناقل عن ذلك الأصل ولا مخصص لذلك العموم والله أعلم انتهى كلام الشوكاني وفيه دليل على التفرقة بين ما يذبح للتقرب إلى غير الله تعالى وبين ما يذبح لغيره من الاستبشار ونحوه كالذبح للعقيقة والوليمة والضيافة ونحوها فالأول يحرم والثاني يحل قال ابن حجر المكي في الزواجر: وجعل أصحابنا مما يحرم الذبيحة أن يقول باسم الله واسم محمد أو محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بجر اسم الثاني أو محمد إن عرف النحو فيما يظهر أو أن يذبح كتابي لكنيسة أو لصليب أو لموسى أو لعيسى ومسلم للكعبة أو لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أو تقربا لسلطان أو غيره أو للجن فهذا كله يحرم المذبوح وهو كبيرة قال: ومعنى ما أهل به لغير الله ما ذبح للطواغيت والأصنام قاله جمع وقال آخرون: يعني ما ذكر عليه غير اسم الله قال الفخر الرازي: وهذا القول أولى لأنه أشد مطابقة للفظ الآية قال العلماء: لو ذبح مسلما ذبيحة وقصد بذبحه التقرب بها إلى غير الله تعالى صار مرتدا وذبيحته ذبيحة مرتد انتهى كلام الزواجر وقال صاحب الروض: إن المسلم إذا ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم كفر انتهى قال الشوكاني في الدر النضيد: وهذا القائل من أئمة الشافعية وإذا كان الذبح لسيد الرسل صلى الله عليه وسلم كفرا عنده فكيف الذبح لسائر الأموات انتهى قال الشيخ الفاضل مفتي الديار النجدية عبد الرحمن بن حسن بن محمد عبد الوهاب بن سليمان بن علي في كتابه فتح المجيد شرح كتاب التوحيد في باب ما جاء في الذبح لغير الله: قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} إن الظاهر أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقال: هذا ذبيحة لكذا وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة وقصد به ذلك أولى فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربا إليه يحرم وإن قال فيه باسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين قد يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكونه يجتمع في الذبيحة ما نعان: الأول أنه مما أهل لغير الله به والثاني أنها ذبيحة مرتد ومن هذا الباب ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبائح الجن انتهى قال الزمخشري: كانوا إذا اشتروا دارا أو بنوها أو استخرجوا عينا ذبحوا ذبيحة خوفا أن تصيبهم الجن فأضيفت إليهم الذبائح لذلك انتهى كلام فتح المجيد وقد نقل الشوكاني أيضا العبارة المتقدمة لشيخ الإسلام في رسالته الدر النضيد واستدل به على تحريم ما ذبح لغير الله تعالى سواء لفظ به الذابح عن الذبح أو لم يلفظ وهذا هو الحق "وإذا تعذر الذبح لوجه جاز الطعن والرمي وكان ذلك كالذبح"لحديث أبي العشراء عن أبيه "قلت يا رسول الله: أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة قال: "لو طعنت في فخذها لا جزأك" أخرجه أحمد وأهل السنن وفي إسناده مجهولون وأبو العشراء لا يعرف من أبوه ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة فهو مجهول فلا تقوم الحجة بروايته والذي يصلح للاستدلال به حديث رافع بن خديج في الصحيحين وغيرهما قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فند1 بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل فرماه رجل بسهم فحبسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لهذه البهائم أوابد كأوابد2 الوحش فما فعل منها هذا فافعلوا به هكذا""وذكاة الجنين ذكاة أمه"لحديث أبي سعيد عند أحمد وابن ماجه وأبي داود والترمذي والدارقطني   1 ند البعير إذا شرد وذهب على وجهه. 2 الأوابد جمع آبد وهي التي قد توحشت ونفرت من الإنس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وابن حبان وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الجنين: "ذكاته ذكاة أمه " وللحديث طرق يقوي بعضها بعضا وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة تشهد له قلت: وعليه الشافعي ووافقه محمد بن الحسن وقال أبو حنيفة: لا يجوز حتى يخرج حيا فيذكى. أقول: وأما التمسك بالآية الكريمة فلا يخفى أنه من معارضة الخاص بالعام وقد تقرر أن الخاص مقدم على العام وقد قال ابن المنذر إنه لم يرو عن أحمد من الصحابة ولا من العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه إلا ماروي عن أبي حنيفة رحمه الله قال ابن القيم: وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة بأن ذكاة الجنين ذكاة أمه بأنها خلاف الأصول وهو تحريم الميتة فيقال الذي جاء على لسانه تحريم الميتة استثنى السمك والجراد من الميتة فكيف وليست بميتة فإنها جزء من أجزاء الأم والذكاة قد أتت على جميع أعضائها فلا يحتاج أن يفرد كل جزء منها بذكاة والجنين تابع للأم جزء منها فهذا هو مقتضى الأصول الصحيحة ولو لم ترد السنة بالإباحة فكيف وقد ورد بالإباحة الموافقة للقياس والأصول فقد اتفق النص والأصل والقياس ولله الحمد "وما أُبِين من الحي فهو ميتة"لحديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما قطع من بهيمة وهي حية فما قطع منها فهو ميتة" أخرجه ابن ماجه والبزار والطبراني وقد قيل: إنه مرسل هذا يدل على تحريم الأكل ولا ملازمة بينه وبين النجاسة كما عرفت غير مرة وأخرج أحمد والترمذي وأبو داود والدارمي من حديث أبي واكد الليثي عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قطع من البهيمة وهي حية فهو مية" وأخرج ابن ماجه والطبراني وابن عدي نحوه من حديث تميم الداري قلت: وكان أهل الجاهلية يجبون أسنمة الإبل ويقطعون أليات الغنم فنهوا عن ذلك لأنه فيه تعذيبا ومناقضة لما شرع الله تعالى من الذبح "وتحل ميتتان ودمان السمك والجراد"وعليه أهل العلم "والكبد والطحال"وهما عضوان من أعضاء بدن البهيمة لكنهما يشبهان الدم فأزاح النبي صلى الله عليه وسلم الشبهة فيهما وليس في الحوت والجراد دم مسفوح فلذلك لم يشرع فيهما الذبح ووجهه حديث ابن عمر عند أحمد وابن ماجه والدارقطني والشافعي والبيهقي قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحل لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال" وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 أسلم وهو ضعيف وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن أبي أوفى قال "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد "وفيهما أيضا من حديث جابر "أن البحر ألقى حوتا ميتا فأكل منه الجيش فلما قدموا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا رزقا أخرج الله لكم أطعمونا منه إن كان معكم فأتاه بعضهم بشئ "وفي البخاري عن عمر في قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر} قال: صيده مااصطيد وطعامه ما رمى به وفيه عن ابن عباس قال طعامه ميتته إلا ما قذرت منها وفيه قال ابن عباس كل من صيد البحر صيد يهودي أو نصراني أو مجوسي انتهى وإلى هذا ذهب الجمهور فقالوا: ميتة البحر حلال سواء ماتت بنفسها أو بالاصطياد وذهبت الحنفية إلى أنه لا يحل إلا ما مات بسبب آدمي أو بإلقاء الماء له أو جزره عنه وأما ما مات أو قتله حيوان غير آدمي فلا يحل واستدلوا بما أخرجه أبو داود من حديث جابر مرفوعا بلفظ "ما ألقاء البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه " وفي إسناده يحيى بن سليم وهو ضعيف الحفظ وقد روي من غير هذا الوجه وفيه ضعف قلت: ظاهر القرآن والحديث إباحة ميتات البحر كلها والمراد منها كل ما يعيش في البحر فإذا أخرج منه كان عيشه عيش المذبوح كالسمك فكل ذلك حلال بأنواعه ولاحاجة إلى ذبحه سواء يؤكل مثله في البر كالبقر والغنم أولا يؤكل كالكلب والخنزير والكل سمك وإن اختلفت الصور بخلاف ما يعيش في الماء فإذا أخرج دام حيا فإن كان طائرا كالبط فذبح فحلال ولا يحل ميتتها وإن كان غيرها كالضفدع والسرطان والسلحفاة وذوات السموم كالحية والعقرب فحرام وعليه الشافعي. أقول وعلى هذا فقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} المراد منه ما يصطاد بالقصد والاختيار وقوله: {وَطَعَامُهُ} المراد منه ميتات البحر مما لم يصد بالاختيار كنى به عن الميتة كراهية لذكر الميتة في مقام التحليل وقوله: {مَتَاعاً لَكُمْ} إباحته لأهل الحضر وقوله: {وَلِلسَّيَّارَةِ} المراد منه إباحته لأهل السفر وقال أبو حنيفة: جميع حيوانات البحر حرام إلا السمك المعروف أقول: الحق أن كل حيوان بحري حلال على أي صورة كان {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} " هو الطهور ماؤه والحل ميتته "فمن جاءنا بدليل يصلح لتخصيص هذا العموم قبلناه "وتحل الميتة للمضطر"لقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وقد ثبت تحليل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 الميتة عن الجوع من حديث أبي وافد الليني عند أحمد والطبراني برجال ثقات ومن حديث جابر بن سمرة عند أحمد وأبي داود بإسناد لا مطعن فيه ومن حديث الفجيع العامري عند أبي داود وقد اختلف في المقدار الذي يحل تناوله وظاهر الآية أنه يحل ما يدفع الضرورة لأن من اندفعت ضرورته فليس بمضطر قال في المستوى: أما ذبائح أهل الكتاب فتحل بنص الكتاب {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} أقول: معنى الآية باتفاق المفسرين ذبائح اليهود والنصارى حلال لكم وذبائحكم حلال لهم قيل: أي فائدة في الحل لهم وهم كفار ليسوا من أهل الشرع فقال الزجاج: معناه حلال لكم أن تطعموهم وأقول معناه: حلال لهم إذا التزموا شريعتنا أكلوها وكان اليهود يزعمون أن بني إسرائيل لا يحل لهم ذبائح العرب فبين الله تعالى أن الأحكام الشرعية لا تتفاوت بالنسبة إلى قوم دون قوم وعليه أهل العلم أن ذبائح اليهود والنصارى حلال لنا وذبائح المجوس لا تحل وفي الموطإ سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا بأس بها وتلا هذه الآية {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} قلت عليه أبو حنيفة وقال الشافعي: لا تحل ذبيحة المنتصر بعد التحريف والنسخ والمشكوك فيه. أقول: ذبائح جميع المسلمين على اختلاف نحلهم وتباين طرائقهم حلال لأن الله جل جلاله إنما نهانا عن أكل ما لم يذكر عليه اسمه وكل مسلم لا يذبح إلا ذاكرا لاسم الله تحقيقا أو تقديرا على أي مذهب كان وذبائح أهل الكتاب تابعة لتحليل أطعمتهم إما لصدق اسم الطعام عليها أو لأنها من الإدام اللاحق للطعام ويؤيده أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي أهدتها له اليهودية من خيبر بعد طبخها لها ولا نسلم أن ذبائحهم مما لم يذكر عليه اسم الله فإنهم يذبحون لله وليسوا كأهل الكفر من غيرهم. فالحاصل: أن الذبح الذي تحل به الذبيحة ما في حديث رافع بن خديج بلفظ "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا " أخرجه الجماعة كلهم وذبيحة المسلم على أي مذهب كان وفي أي بدعة وقع هي مما يذكر عليه اسم الله ومع الالتباس هل وقعت التسمية من المسلم أولا قد دل الدليل على الحل لما أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة "قالت يا رسول الله: إن قوما حديثو عهد بجاهلية يأتوننا باللحمان لا ندري أذكروا اسم الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 عليها أم لم يذكروا أنأكل منها أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذكروا اسم الله وكلوا " فأمره صلى الله عليه وسلم بإعادة التسمية مشعر بأن ذبيحة من لم يسم سواء كان مسلما أو غيره مسلم حلال ويحمل قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} على عدم الذكر الكلي عند الذبح وعند الأكل وهو الظاهر من نفي ذكر اسم الله فاللحم إذا سمى عليه الآكل عند الأكل والذابح كافر لم يسم يكون مما ذكر عليه اسم الله تعالى وهذا من الوضوح بمكان ولا عبرة بخصوص السبب وهو كون عائشة كان سؤالها عن اللحمان التي يأتي بها من المسلمين من كان حديث عهد بالجاهلية بل الاعتبار بعموم اللفظ كما تقرر في الأصول والحق أن ذبيحة الكافر حلال إذا ذكر عليها اسم الله ولم يهل بها لغير الله كالذبح للأوثان ونحوها فإن قلت الكافر لا يذكر اسم الله على الذبيحة وقد قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وقال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه" قلت: هذا لا يتم إلا بعد العلم بأن الكافر لا يذكر اسم الله على ذبيحته وأما الاحتجاج لعدم اشتراط التسمية بحديث اللحمان المتقدم فليس فيه دليل على عدم اشتراط التسمية مطلقا بل عدم اشتراطها عند الذبح وأما حديث "ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر " فهو إما مرسل أو موقوف فكيف ينتهض لمعارضة الكتاب العزيز ثم هو خاص بالمسلم والنزاع في الكافر وكذلك الحديث الأول خاص بالمسلم لقوله: "إن قوما حديثو عهد بالجاهلية "فلا يتم الاستدلال به على عدم التسمية مطلقا. وحاصل البحث: أنه إذا ذبح الكافر ذاكرا لاسم الله عز وجل غير ذابح لغير الله وأنهر الدم وفرى الأوداج فليس في الآية ما يدل على تحريم هذه الذبيحة الواقعة على هذه الصفة فمن زعم أن الكافر خارج من ذلك بعد أن ذبح لله تعالى وسمى فالدليل عليه وأما ذبح الكافر لغير الله فهذه الذبيحة حرام ولو كانت من مسلم وهكذا إذا ذبح غير ذاكر لاسم الله عز وجل فإن إهمال التسمية منه كإهمال التسمية من مسلم حيث ذبحا جميعا لله عز وجل وإذا عرفت هذا لاح لك أن الدليل على من قال باشتراط إسلام الذابح لا على من قال بأنه لا يسقط فلا حاجة إلى الاستدلال على عدم الاشتراط بما لا دلالة فيه على المطلوب كالاحتجاج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 بقوله1 صلى الله عليه وسلم "لم ينه عن ذبائح المنافقين "فإن المنافقين كان يعاملهم صلى الله عليه وسلم معاملة المسلمين في جميع الأحكام عملا بما أظهروه من الإسلام وجريا على الظاهر وأما ما يقال من حكاية الإجماع على عدم حل ذبيحة الكافر فدعوى الإجماع غير مسلمة وعلى تقدير أن لها وجه صحة فلا بد من حملها على ذبيحة كافر ذبح لغير الله أو لم يذكر اسم الله تعالى وأما ذبيحة أهل الذمة فقد دل على حلها القرآن الكريم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ومن قال إن اللحم لا يتناوله الطعام فقد قصر في البحث ولم ينظر في كتب اللغة ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل ذبائح أهل الكتاب كما في أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سما والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلى بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع فإن قلت قد يذبحونه لغير الله أو بغير تسمية أو على غير الصفة المشروعة في الذبح قلت: إن صح شئ من هذا فالكلام في ذبيحته كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على أحد هذه الوجوه وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابي مانعا لا كونه أخذ بشرط معتبر انتهى   1 لعل صوابه "بأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه"الخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 باب الضيافة "يجب على من وجد ما يقري به من نزل من الضيوف أن يفعل ذلك وحد الضيافة إلى ثلاثة أيام وما كان وراء ذلك فصدقة ولا يحل للضيف أن يثوي عنده حتى يخرجه وإذا لم يفعل القادر على الضيافة ما يجب عليه كان للضيف أن يأخذ من ماله بقدر قراه"لحديث عقبة بن عامر في الصحيحين قال: "قلت يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا فما ترى؟ قال: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم" وفيهما من حديث أبي شريح الخزاعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته" قال: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يُحْرجه" أي يضيق صدره وأخرج أحمد وأبو دادو من حديث المقدام "أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليلة الضيف واجبة على كل مسلم فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا له عليه إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه" وإسناده صحيح وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة نحوه وإسناده صحيح وفي الباب أحاديث وقد ذهب الجمهور إلى أن الضيافة مندوبة لا واجبة واستدلوا بقوله "فليكرمه ضيفه جائزته" قالوا: والجائزة هي العطية والصلة وأصلها الندب ولا يخفى أن هذا اللفظ لا ينافي الوجوب وأدلة الباب مقتضية لذلك لأن التغريم لا يكون للإخلال بأمر مندوب وكذلك قوله "واجبة " فإنه نص في محل النزاع وكذلك قوله "فما كان وراء ذلك فهو صدقة " قال في المسوى: وفي قوله "جائزته" قولان: أحدهما يتكلف له في اليوم الأول بما اتسع له ويقدم له في اليوم الثاني والثالث ما كان بحضرته ولا يزيد على عادته وما كان بعد الثلاثة فهو صدقة ومعروف إن شاء فعل وإن شاء ترك والثاني أن جائزته أن يعطيه ما يجوز به مسافر يوما وليلة "ويَحْرم أكل طعام الغير بغير إذنه"لقوله تعالى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وكل مادل على تحريم مال الغير دل على ذلك لأنه مال وإنما خص منه ما ورد فيه دليل يخصه كالضيف إذا حرمه من يجب عليه ضيافته كما مر "ومن ذلك حلْب ماشيته وأخْذ ثمرته وزرعه لا يجوز إلا بإذنه إلى أن يكون محتاجا إلى ذلك فلْيُناد صاحب الإبل أو الحائط فإن أجابه وإلا فليشرب وليأكل غير متخذ خبنة"للأدلة العامة والخاصة أما العامة فظاهر كالآية الكريمة وحديث خطبة الوداع ونحو ذلك وأما الأدلة الخاصة فمثل: حديث ابن عمر في الصحيحين "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحلبن أحدكم ماشية أحد إلا بإذنه أيحب أحدكم أن يؤتى مشربته فينتثل1 طعامه وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه " وأخرج أحمد من حديث عمير مولى آبي اللحم قال: "أقبلت مع سادتي نريد الهجرة حتى إذا دنونا من المدينة قال: فدخلوا وخلفوني في   1 إنتثله أي استخرجه وأخذه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 ظهرهم فأصابتني مجاعة شديدة قال: فمر بي بعض من يخرج من المدينة فقالوا: لو دخلت المدينة فأصبت من تمر حوائطها قال: فدخلت حائطا فقطعت منه قنوين فأتاني صاحب الحائط وأتى بي رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأخبره خبري وعلي ثوبان فقال لي: أيهما أفضل؟ فأشرت إلى أحدهما فقال: خذه وأعط صاحب الحائط الآخر فخلى سبيلي "وفي إسناده ابن لهيعة وله طريق أخرى عند أحمد وفي إسناده أيضا أبو بكر بن يزيد بن المهاجر غير معروف الحال وقد أعل هذا الحديث بأن في إسناده عبد الرحمن بن اسحق عن محمد بن زيد وهو ضعيف وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يدخل الحائط فقال: " يأكل غير متخذ خبنة " وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث سمرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاث فإن أجابه أحد فليستأذنه فإن لم يجبه أحد فليحتلب وليشرب ولا يحمل" وهو من سماع الحسن عن سمرة وفيه مقال معروف وأخرج أحمد وابن ماجه وأبو يعلى وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتى أحدكم حائطا فأراد أن يأكل فليناد صاحب الحائط ثلاثا فإن أجابه وإلا فليأكل وإذا مر أحدكم بإبل فأراد أن يشرب من ألبانها فليناد يا صاحب الإبل أو يا راعي الغنم فإن أجابه وإلا فليشرب" وأخرج الترمذي وأبو داود من حديث رافع قال: "كنت أرمي نخل الأنصار فأخذوني فذهبوا بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارافع لم ترمي نخلهم؟ قال: قلت يا رسول الله: الجوع قال: لا ترم وكل ما وقع أشبعك الله وأرواك " وأخرج أبو داود والنسائي من حديث شرحبيل بن عباد في قصة مثل قصة رافع وفيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب الحائط: "ما علمت إذا كان جاهلا ولا أطعمت إذا كان جائعا " والمراد بالخبنة ما يحمله الإنسان في حضنه وهي بضم الخاء المعجمة وسكون الباء الموحدة وبعدها نون ويمكن الجمع بين الأحاديث بأن تغريم النبي صلى الله عليه وسلم لآبي اللحم لعدم المناداة منه ولو فرضنا عدم صحة الجمع بهذا كانت أحاديث الإذن عند الحاجة مع المناداة أرجح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 "باب آداب الأكل" فقد علّم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم آدابا يتأدبون بها في الطعام كما ستأتي "تُشرع للآكل التسمية"لحديث عائشة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والنسائي والترمذي وصححه قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أكل أحدكم طعاما فليقل بسم الله فإن نسي في أوله فليقل بسم الله على أوله وآخره " وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر "سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت فإذا لم يذكر الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء " وأخرج مسلم وغيره من حديث حذيفة بن اليمان قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليستحل الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه " الحديث وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعاما في ستة من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه لو سمى لكفى لكم" وقال حسن صحيح وفي الباب أحاديث قلت وعليه أهل العلم قال النووي: الأفضل أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم فإن قال بسم الله حصلت السنة "والأكل باليمين"لحديث ابن عمر عند مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله" قلت: وعليه أهل العلم "ومن حافتي الطعام لا من وسطه"لحديث ابن عباس عند أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البركة تنزل في وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه" وأخرجه أبو داود بلفظ "إذا أكل أحدكم طعاما فلا يأكل من أعلى الصحفة ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاه " "ومما يليه"لحديث عمر بن أبي سلمة في الصحيحين وغيرهما قال: "كنت غلاما في حِجر النبي صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي:" يا غلام سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك " "ويلعق أصابعه والصحفة"لحديث أنس عند مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طعم طعاما لعق أصابعه الثلاث وقال: "إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 للشيطان وأمرنا أن نسلت1 القصعة وقال: إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة" وفي الصحيحين من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذ أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده حتى يُلعقها" وأخرج مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: "إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة" قال في الحجة البالغة وقد اتفق لنا أنه زارنا ذات يوم رجل من أصحابنا فقربنا إليه شيئا فبينا يأكل إذا سقطت كسرة من يديه وتدهدهت في الأرض فجعل يتبعها وجعلت تتباعد عنه حتى تعجب الحاضرون بعض العجب وكابد هو في تتبعها بعض الجهد ثم إنه أخذها فأكلها فلما كان بعد أيام تخبط الشيطان إنسانا وتكلم على لسانه فكان فيما تكلم إني مررت بفلان وهو يأكل فأعجبني ذلك الطعام فلم يطعمني منه شيئا فخطفته من يده فنازعني حتى أخذه مني وبينا يأكل أهل بيتنا أصول الجزر إذ تدهده بعضها فوثب إليه إنسان فأخذه وأكله فأصابه وجع في صدره ومعدته ثم تخبطه الشيطان فأخبر على لسانه أنه كان أخذ ذلك المتدهده وقد قرع أسماعنا شئ كثير من هذا النوع حتى علمنا أن هذه الأحاديث ليست من باب إرادة المجاز وإنما أريد به حقيقتها فمن العلم الذي أعطاه الله نبيه صلى الله عليه وسلم حال الملائكة والشياطين وانتشارهم في الأرض انتهى "والحمد عند الفراغ والدعاء"لحديث أبي أمامة عند البخاري وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: "الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا" وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي والبخاري في التاريخ من حديث أبي سعيد قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل وشرب قال "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين" وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث معاذ بن أنس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أكل طعاما فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه " وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه وإذا سقي لنبا فليقل "اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شئ يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن"   1 سلت القصعة من الثريد إذا مسحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وأخرجه الترمذي بنحوه وحسنه ولكن في إسناده علي بن زيد بن جدعان وفيه ضعف وقد رواه عن محمد بن حرملة قال أبو حاتم بصري لا أعرفه "ولا يأكل متكئا "لحديث أبي جحيفة عند البخاري وغيره قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أما أنا فلا آكل متكئا " قلت: لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بُعث في العرب وعاداتهم أوسط العادات ولم يكونوا يتكلفون تكلف العجم والأخذ بها أحسن ولا أحسن لأصحاب الملة من أن يتبعوا سيرة إمامها في كل نقير وقطمير وما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق ولا رأى شاة سميطا بعينه قط وما رأى منخلا كانوا يأكلون الشعير غير منخول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 كتاب الأشربة "كل مسكر حرام" لما أخرجه مسلم وغيره من حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " فيشمل ذلك جميع أنواع الخمر من الشجرتين وغيرهما فيتناوله قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية وفي لفظ لمسلم "كل مسكر خمر وكل خمر حرام " وفي الصحيحين من حديث عائشة قالت: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه فقال صلى الله عليه وسلم: "كل شراب أسكر فهو حرام" وفيهما نحوه من حديث أبي موسى وفي الباب أحاديث قال في الحجة البالغة: وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحاديث كثيرة من طرق لا تحصى وعبارات مختلفة فقال: "الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة " وكذلك اتفق جميع الملل والنحل على قبحه بالمرة وليس الأمر كما يظنه من لا بصيرة له من أنه حسن بالنظر إلى الحكمة العملية لما فيه من تقوية الطبيعة فإن هذا الظن من باب اشتباه الحكمة الطبية بالحكمة العملية والحق أنهما متغايرتان وقد نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل والخمر ما خامر العقل وقال: لقد حرمت الخمر حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا وعامة خمرنا البسر والتمر وكسر وادنان الفضيخ حين نزلت وهو يقتضيه قوانين التشريع فإنه لا معنى لخصوصية العنب وإنما المؤثر في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 التحريم كونه مزيلا للعقل يدعو قليله إلى كثيره فيجب به القول ولا يجوز لأحد اليوم أن يذهب إلى تحليل ما اتخذ من غير العنب واستعمل أقل من حد الإسكار نعم كان ناس من الصحابة والتابعين لم يبلغهم الحديث في أول الأمر فكانوا معذورين ولما استفاض الحديث وظهر الأمر كرابعة النهار صح حديث "ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها " لم يبق عذر أعاذنا الله تعالى والمسلمين من ذلك انتهى وتمام هذا البحث في مسك الختام فليرجع إليه "وما أسكر كثيره فقليله حرام" لحديث عائشة عند أحمد وأبي داود والترمذي وحسنه وابن حبان والدارقطني وأعله بالوقوف قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " كل مسكر حرام ما أسكر الفرق1 منه فملء الكف منه حرام " ورجاله رجال الصحيح إلا عمرو بن سالم الأنصاري مولاهم المدني قال المنذري: لم أر أحدا قال فيه كلاما وقال الحاكم: هو معروف بكنيته يعني أبا عثمان وأخرج أحمد وابن ماجه والدارقطني وصححه من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وأخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وقال ابن حجر: رجاله ثقات من حديث جابر وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفي الباب أحاديث قال المسوى: وعليه الشافعي وأبو حنيفة إلا أن الشافعي يقول: كل ما خامر العقل فهو خمر قليله وكثيره حرام يجب منه الحد سواء كان من عنب أو تمر أو عسل أو غير ذلك وسواء كان نيئا أو مطبوخا وفي مذهب أبي حنيفة النيء من ماء العنب إذا اشتد هو الخمر والمسكر من فضيخ التمر حرام يحد منه دون سائر المسكرات انتهى "ويجوز الانتباذ في جميع الآنية"لما أخرجه مسلم وغيره من حديث بريدة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم2 فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا" وفي لفظ المسلم أيضا وغيره "نهيتكم عن الظروف وإن ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرمه وكل مسكر حرام " وفي الباب أحاديث مصرحة بنسخ ما قد كان وقع منه صلى الله عليه وسلم من النهي عن الانتباذ في الدباء والنقير والمزفت والحنتم ونحوها كما هو   1بفتح الفاء وإسكان الراء هو مائة وعشرون رطلا ويقال بفتح الراء وهو مكيال يسع تسعة عشر رطلا والأول هو الذي اعتمده اللسان وشراح الحديث. 2 الادم الجلد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 مذكور في الأحاديث المروية في الصحيحين وغيرهما وذهب قوم إلى بقاء الحظر فيها وبه قال مالك وأحمد "ولا يجوز انتباذ جنسين مختلطين"لحديث جابر في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "أنه نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعا ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعا "وفيهما من حديث أبي قتادة نحوه ولمسلم نحوه من حديث أبي سعيد وله أيضا نحوه من حديث أبي هريرة وفي الباب أحاديث ووجه النهي عن انتباذ الخليطين أن الإسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط فيظن المنتبذ أنه لم يبلغ حد الإسكار وقد بلغه قال النووي ومذهب الجمهور: أن النهي في ذلك للتنزيه لا للتحريم وإنما يحرم إذا صار مسكرا ولا تخفى علامته وقال بعض المالكية: هو للتحريم وقد ورد ما يدل على منع انتباذ جنسين سواء كان مما ذكر في الأحاديث السابقة أم لا وهو ما أخرجه النسائي وأحمد من حديث أنس قال: "نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: أن يجمع بين شيئين فيُنبذا يبغي أحدهما على صاحبه "ورجال إسناده ثقات قال في المسوى: اختلف أهل العلم فذهب جماعة إلى تحريمه وإن لم يكن الشراب المتخذ منه مسكرا لظاهر الحديث وبه قال مالك وأحمد وقال الأكثرون هو حرام إذا كان مشتدا ومسكرا إذ المعنى فيه الإسكار وإنما خص ذكره لأنه كان من عادتهم اتخاذ النبيذ المسكر بذلك وقال الليث إنما جاءت الكراهة أن ينبذا جميعا لأن أحدهما يشد صاحبه "ويحرم تخليل الخمر"لحديث أنس عند أحمد وأبي داود والترمذي وصححه "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سئل عن الخمر يتخذ خلا فقال لا " وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي من حديثه أيضا "أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن أيتام ورثوا خمرا فقال: أهرقها قال: أفلا نجعلها؟ خلا قال لا " وقد عزاه المنذري في مختصر السنن إلى مسلم وله حديث ثالث نحوه أخرجه الدارقطني وأخرج أحمد من حديث أبي سعيد نحوه قال ابن القيم: وفي الباب عن أبي الزبير وجابر وصح ذلك عن عمر بن الخطاب ولا نعلم له في الصحابة مخالفا ولم يزل أهل المدينة ينكرون ذلك قال الحاكم سمعت أبا الحسن علي بن عيسى الحبري يقول سمعت محمد بن إسحق يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: قدمت المدينة أيام مالك فتقدمت إلى قاض فقلت: عندك خل خمر فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 سبحان الله في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم قدمت بعد موت مالك فذكرت ذلك لهم فلم ينكر علي أحد وأما ما روي عن علي من اصطناعه الخمر وعن عائشة أنه لا بأس به فهو خل الخمر إذا تخللت بنفسها لا بإتخادها اهـ وفي الحجة البالغة: سئل عن الخمر يتخذ خلا قال: لا قيل إنما أصنعها للدواء فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء. أقول: لما كان الناس مولعين بالخمر وكانوا يتحيلون لها حيلا لم تتم المصلحة إلا بالنهي عنها على كل حال لئلا يبقى عذر لأحد ولا حيلة انتهى "ويجوز شرب العصير والنبيذ قبل غليانه"لحديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وابن ماجه قال: "علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فإذا هو ينش1 فقال: اضرب بهذا الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر " وأخرج أحمد عن ابن عمر في العصير قال: اشربه ما لم يأخذه شيطانه قيل: وفي كم يأخذه شيطانه قال: في ثلاث وأخرج مسلم وغيره من حديث ابن عباس "أنه كان يُنقع للنبي صلى الله عليه وسلم الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقي الخادم أو يهراق "قال أبو داود ومعنى يسقي الخادم يبادر به الفساد "ومظِنّة ذلك ما زاد على ثلاثة أيام"لحديث ابن عباس المذكور وقد أخرج مسلم وغيره من حديث عائشة "أنها كانت تنتبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غدوة فإذا كان من العشي فتعشى شرب على عشائه وإن فضل شئ صبته أو أفرغته ثم تنتبذ له بالليل فإذا أصبح تغدى فشرب على غدائه قالت: نغسل السقاء غدوة وعشية "وهو لا ينافي حديث ابن عباس المتقدم أنه كان يشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة لأن الثلاث مشتملة على زيادة غير منافية والكل في الصحيح "وآداب الشرب أن يكون ثلاثة أنفاس"لحديث أنس في الصحيحين "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثا "وفي لفظ لمسلم "أنه كان يتنفس في الشراب ثلاثا ويقول: إنه أروى وأمرأ " والمراد أنه كان يتنفس بين كل شربتين في غير الإناء وأما التنفس في الإناء فمنهي عنه لحديث أبي قتادة في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم   1 قوله فتحينت بالتاء والحاء كما هو كذلك في أبي داود وغيره أي ترقبت وقت إفطاره. وقوله ينش أي يغلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 قال: "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نهى أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه "وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي سعيد "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نهى عن النفخ في الشراب فقال: الرجل القذاة أراها في الشراب فقال: أرقها فقال إني لا أروى من نفس واحد قال: فأبِن القدح إذاً عن فيك" قلت: وعلى هذا أهل العلم والنهي عن التنفس فيه من أجل ما يخاف أن يبرز شئ من ريقه أو مخاطه فيقع في الماء وقد تكون النكهة من بعض من يشرب متغيرة فتتعلق الرائحة بالماء لرقته ولطفه ثم إنه من فعل الدواب إذا كرعت في الأواني كرعت ثم تنفست فيها ثم عادت فشربت فيكون الأحسن في الأدب أن يتنفس بعد إبانة الإناء عن فمه والنفخ فيه يكون لأحد معنيين فإن كان من حرارة الشراب فليصبر حتى يبرد وإن كان من أجل قذى فليمطه بأصبع أو خلال وإن تعذر فليرقها كما جاء في الحديث "وباليمين"لما تقدم في آداب الأكل "ومن قعود"لأن الشرب قاعدا من الهيئات الفاضلة وأقرب لجموم النفس والري وأن تصرف الطبيعة الماء في محله لحديث أبي سعيد عند مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما "وأخرج مسلم أيضا من حديث أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يشربن أحدكم قائما فمن نسي فليستقي " ولا يعارض هذا حديث ابن عباس في الصحيحين "أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم قائما "ولا ما أخرج البخاري وغيره من حديث علي "أنه شرب وهو قائم ثم قال: إن ناسا يكرهون الشرب قائما وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت "ولا ما أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث ابن عمر قال: "كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام "لأنه يمكن الجمع بأن الكراهة للتنزيه وإن كان قوله "فمن نسي فليستقيء " يشعر بعدم الجواز في حق من قصد مخالفة السنة على أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة ويخصص القول الشامل له وللأمة فيكون الفعل خاصا به كما تقرر في الأصول قلت: وعليه أكثر أهل العلم رأوا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 قائما نهي أدب وإرفاق ليكون تناوله على سكون وطمأنينة فيكون أبعد من أن يكون منه فساد في المعدة كالكباد وغيره "وتقديم الأيمن فالأيمن"لحديث أنس في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بلبن قد شيب بماء وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال "الأيمن فالأيمن" وفيهما من حديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فقال للغلام "أتأذن لي أن أعطي هؤلاء فقال الغلام: والله يارسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدا فتله أي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده"قال في الحجة البالغة: أراد بذلك قطع المنازعة فإنه لو كانت السنة تقديم الأفضل ربما لم يكن الفضل مسلّما بينهم وربما يجدون في أنفسهم من تقديم غيرهم حاجة اهـ "ويكون الساقي آخرهم شربا" لحديث أبي قتادة عند ابن ماجه وأبي داود والترمذي وصححه وقال المنذري: رجال إسناده ثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ساقي القوم آخرهم شربا " وقد أخرجه أيضا مسلم بلفظ"قلت لا أشرب حتى يشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الساقي آخرهم شُرباً" "ويسمِّي في أوله ويحمد في آخره" لحديث ابن عباس عند الترمذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشربوا نفسا واحدا كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث وسموا الله إذا أنتم شربتم واحمدوا الله إذا إنتم رفعتم" أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي والبخاري في التاريخ من حديث أبي سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل وشرب قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين" "ويُكره التنفس في السِّقاء والنفخ فيه"وقد تقدمت أدلة ذلك في الشرب ثلاثة أنفاس "والشرب من فمه"لأنه إذا ثنى فم القربة فشرب منه فإن الماء يتدفق وينصب في حقه دفعة وهو يورث الكباد ويضر بالمعدة ولا يتميز عنده في دفق الماء وانصبابه القذاة ونحوها ودليله حديث أبي سعيد في الصحيحين قال: "نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن اختناث الأسقية أن يشرب من أفواهها "وفي رواية لهما "واختناثها أن يقلب رأسها ثم يشرب منه "وفي البخاري من حديث أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب منه "وفي البخاري من حديث أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب من في السقاء "وزاد أحمد "قال أيوب فأنبئت أن رجلا شرب من في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 السقاء فخرجت حية "وزاد في الحجة البالغة: "فدخلت في جوفه "وفي البخاري وغيره من حديث ابن عباس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء "وهذا لا يعارضه مارواه ابن ماجة والترمذي وصححه من حديث كبشة قالت: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة قائما فقمت إلى فيها فقطعته "وأخرج أحمد وابن شاهين والترمذي في الشمائل والطبراني والطحاوي من حديث أم سليم ونحوه وأخرج أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن بسر نحوه أيضا لأنه فعله صلى الله عليه وسلم قد يكون لبيان الجواز فتحمل أحاديث النهي على الكراهة لا على التحريم وقد يكون ما فعله صلى الله عليه وسلم لعذر فتحمل أحاديث النهي على عدم العذر وقد جزم ابن حزم بالتحريم وروي عن أحمد أن أحاديث النهي ناسخة "وإذا وقعت النجاسة في شئ من المائعات لم يحل شربه وإن كان جامدا أُلقيت وما حولها"لحديث ميمونة عند البخاري وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال: "لقوها وما حولها وكلوا سمنكم" وأخرج أبو داود في لفظ لهما من هذا الحديث "أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سئل عن الفأرة تقع في السمن فقال: إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه " وصححه ابن حبان وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة قال: "سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال: "إن كان جامدا فخذوها وما حولها ثم كلوا ما بقي وإن كان مائعا فلا تقربوه" وقد أخرجه أيضا النسائي وحكم غير الفأرة مما هو مثلها في النجاسة والاستقذار حكمها إذا وقع في سمن أو نحوه قلت: وعليه أهل العلم ومعناه عندهم إذا كان جامدا فإن كان مائعا تنجس كله فلا يجوز أكله بالاتفاق وجوز أبو حنيفة بيعه ولم يجوزه الشافعي "ويحرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة"لحديث حذيفة في الصحيحين وغيرهما قال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" وفيهما أيضا من حديث أم سلمة "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "إن الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " ولفظ مسلم "إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة" وأخرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 مسلم من حديث البراء بن عازب قال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب في الفضة فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة "وأخرج أحمد وابن ماجه من حديث عائشة نحو حديث أم سلمة قلت: الجرجرة صوت وقوع الماء في الجوف وعليه أهل العلم وفي حكمها الذهب ورخص الشافعي في تضبيب الإناء بقليل من الفضة عند الحاجة لحديث أنس أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة "قال الشيخ محي الدين بن إبراهيم النحاس في تنبيه الغافلين: ومنها استعمال أواني الذهب والفضة للرجال والنساء في الأكل والشرب والادهان والاكتحال ونحو ذلك كذا قال الشيخ شمس الدين ابن القيم وغيره ولا فرق بين أن تكون الآنية كبيرة كالصحن والزبدية ونحوهما أو صغيرة كالمكحلة والميل والإبرة ونحوها وكما يحرم استعمال أواني الذهب والفضة يحرم اتخاذها لغير استعمال على الرجال والنساء ويحرم على الصائغ عملها ومن قدم إليه طعام في آنية ذهب أو فضة ولم يستطع الإنكار فطريقه أن يأخذ الطعام من الآنية ويضعه في وعاء آخر أو على الخبز أو في يده الشمال ثم يأكل منه لأن ذلك ليس بأكل فيها وكذلك إذا أردا الاكتحال من كحل في مكحلة فضة أفرغ منه في شئ ثم اكتحل منه والله تعالى أعلم 1هـ أقول استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب فيها لم يرد ما يدل على المنع منه ولم يثبت إلا المنع من الأكل والشرب فيها فقط ومن زعم تحريم غيرهما لم يقبل إلا بدليل لأن الأصل الحل فلا ينقل عنه إلا بناقل وأما التحلي بهما فلم يرد ما يمنع من ذلك إلا في الذهب وأما الفضة فلم يرد شئ بل قال صلى الله عليه وسلم "عليكم بالفضة فالعبوا بها كيف شئتم1" هذا خلاصة ما ينبغي القول به في الاستعمال والتحلي وللماتن رحمه الله تعالى أبحاث جليلة المقدار راجحة الأنظار في ذلك فلتراجع   1الحديث رواه أبببو داود في سننه في باب ما جلء في الذهب للنساء عن أبي هريرة مطولا وهذا بعضه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 كتاب اللباس "ستر العورة واجب في الملأ والخلاء"لحديث حكيم بن حزام عن أبيه عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه قال: "قلت يا رسول الله عوارتنا ماء نأتي منها وما نذر فقال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال: إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها فقلت: فإذا كان أحدنا خاليا قال: فالله تبارك وتعالى أحق أن يُستحيا منه " وقد اختلف أهل العلم في حد العورة وكذلك اختلفت الأدلة وقد استوفاها الماتن في شرح المنتقى "ولا يلبس الرجل الخالص من الحرير"لحديث عمر في الصحيحين وغيرهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " وفيهما نحوه من حديث أنس وفيهما وغيرهما من حديث ابن عمر " أنه رأى عمر حلة من إستبرق فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ابتع هذه فتجمل بها للعيد وللوفود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هذه لباس من لا خلاق له" وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها " وفي إسناده سعيد بن أبي هند عن أبي موسى قال أبو حاتم: إنه لم يلقه وقد صححه أيضا ابن حزم وروي من حديث علي عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حريرا فجعله في يمينه وأخذ ذهبا فجعله في شماله ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي " زاد ابن ماجه "حل لإناثهم " وهو حديث حسن وأخرج البيقهي بإسناد حسن نحوه وأخرج البزار من حديث عمر بن جرير البجلي1 نحوه   1هنا خطأ غريب فإن عبارة نيل الأوطار نصها: "وعن عمر. يعني في الباب عند البزار والطبراني وفيه عمرو بن البجلي قال البزار لين الحديث"وهذا هو الصواب لأنه ليس في الصحابة من اسمه عمر بن جرير البجلي. بل عمرو بن جرير أبو سعيد البجلي يروي عن إسماعيل بن أبي خالد كذبه أبو حاتم وقال الدارقطني متروك الحديث وله ترجمة في لسان الميزان ج 4 ص 358.وقيس بن أبي حازم الذي أعل به الشارح الحديث اعتباطا تابعي جليل ثقة إمام روى له الشيخان وغيرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 أيضا وفي إسناده قيس بن أبي حازم وفي الباب أحاديث وقد ذكر المهدي في البحر أنه مجمع على تحريم الحرير للرجال وقال فيه إنه خالف في ذلك ابن علية وانعقد الإجماع بعده على التحريم وقال القاضي عياض: إنه حكي عن قوم إباحته وقال أبو داود: إنه لبس الحرير عشرون نفسا من الصحابة وقد اختلف أهل العلم في الحرير المشوب بغيره واستدل المانعون من لبسه بما ورد من منعه صلى الله عليه وسلم للبس حلة السيراء كما في الصحيحين من حديث علي ولكنه قد وقع الخلاف في تفسير حلة السيراء ما هي فقيل إنها ذات الخطوط وقيل المختلفة الألوان وهذان التفسيران لا يدلان على مطلوب من استدل بذلك على المنع من لبس المشوب على أنه قد قيل إنه الحرير المحض واستدل من لم يقل بتحريم المشوب بل حرم الخالص فقط بمثل حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود قال: "إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من قز "وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن وفيه ضعف والمصمت بضم الميم الأولى وفتح الثانية المخففة وهو الذي جميعه حرير لا يخالطه قطن ولا غيره وهذا البحث طويل الذيول أقول مسألة تحريم مشوب الحرير من المعارك التي تحتمل البسط قال الماتن في حاشية الشفاء: وقد طالت المراجعة فيها بيني وبين شيخي المجتهد المطلق السيد عبد القادر بن أحمد الكوكباني رحمه الله أيام قراءتي عليه فكان جميع ما حرره وحررته نحو سبع رسائل وقد لخصت ما ظهر لي في المسألة في شرح المنتقى باختصار فليرجع إليه قلت: وحاصله ترجيح التحريم كما قررته في هداية السائل إلى أدلة المسائل فليراجع قال في المسوي: الحلة السيراء التي فيها خطوط كالسيور وهي برود من الحرير أو الغالب فيها الحرير والقسي ثياب مضلعة من الحرير أي منقوشة بصورة الضلاع وأشباهه قيل نسبة إلى قس قرية بساحل البحر وقيل إلى القز بالزاي فأبدل من الزاي السين وعلى هذا أهل العلم أن الحرير حرام على الرجال دون النساء ويرخص في موضع إصبع أو إصبعين أو ثلاث أو أربع من أعلام الحرير ورخص بعضهم في لبسه لأجل الحكة والقمل اهـ. وفي حديث علي عند مالك "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي "وعليه أهل العلم وفي الأنوار يجوز لبس الكتان والقطن والصوف والخزوان كانت نفيسة "إذا كان فوق أربع أصابع"لحديث عمر في الصحيحين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وغيرهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير إلا هكذا ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه الوسطى والسبابة وضمهما "وفي لفظ لمسلم وغيره "نهى عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة "قال في الحجة البالغة: لأنه ليس من باب اللباس وربما تقع الحاجة إلى ذلك ونهى عن لبس الحرير والديباج والقسي والمياثر والأرجوان اهـ. "إلا للتداوي"لحديث أنس في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن ابن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما "قال في الحجة البالغة: لأنه لم يقصد حينئذ به الإرفاه وإنما قصد به الاستشفاء "ولا يفترشه"أي الحرير لحديث حذيفة عند البخاري قال "نهانا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه وقال: "هو لهم في الدنيا ولنا في الآخرة" وفي معنى ذلك أحاديث وهذا نص في محل النزاع وأما الاسترواح بالقياس على جواز افتراش ما فيه تصاوير فقياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار قال ابن القيم: ولو لم يأت هذا النص لكان النهي عن لبسه متناولا لافتراشه كما هو متناول للالتحاف به وذلك لبس لغة وشرعا كما قال أنس: "قمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس "ولو لم يأت اللفظ العام المتناول لافتراشه بالنهي لكان القياس المحض موجبا لتحريمه إما قياس المثل أو قياس الأولى فقد دل على تحريم الافتراش النص الخاص واللفظ العام والقياس الصحيح ولا يجوز رد ذلك كله بالمتشابه من قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} ومن القياس على ما إذا كان الحرير بطانة الفراش دون ظهارته فإن الحكم في ذلك التحريم على أصح القولين والفرق على القول الآخر مباشرة الحرير وعدمها كحشو الفراش فإن صح الفرق بطل القياس وإن بطل الفرق منع الحكم وقد تمسك بعموم النهي عن افتراش الحرير طائفة من الفقهاء فحرموه على الرجال والنساء وهذه طريقة الخراسانيين من أصحاب الشافعي وقابهم من أباحه بنوعين والصواب التفصيل وأن من أبيح له لبسه أبيح له افتراشه ومن حرم عليه حرم عليه وهذا قول الأكثرين وهي طريقة العراقيين من الشافعية اهـ وفي تنبيه الغافلين الجلوس على الحرير والالتحاف به حرام على الرجال وصحح الرافعي تحريم افتراشه على النساء وخالفه النووي في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 ذلك وحكى ابن الرفعة عن بعض العلماء أنه لا ينعقد النكاح بحضور الجالس على الحرير واستبعد وحكم القز في التحريم حكم الحرير على الأصح إذا كان على صبي غير بالغ ثوب حرير قال الغزالي: الصحيح أن ذلك منكر يجب نزعه عنه إن كان مميزا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "هذان حرامان على ذكور أمتي" وكما يجب منع الصبي عن شرب الخمر لكونه مكلفا ولكن لكونه يأنس به فإذا بلغ عسر عليه الصبر عنه كذلك شهوة التزين بالحرير وأما الصبي الذي لا تمييز له فيضعف - يعني - التحريم في حقه ولا تخلو عن احتمال والعلم فيه عند الله تعالى هذا كلام الغزالي وصحح النووي الجواز مطلقا والله تعالى أعلم اهـ وروي عن ابن عباس وأنس أنه يجوز افتراش الحرير وإليه ذهب الحنفية واستدل لهم بأن افتراش الحرير إهانة وليس هذا مما يستدل به عى المسائل الشرعية على فرض عدم المعارض فكيف وقد عارضه الدليل الصحيح الصريح "ولا المصبوغ بالعصفر"لحديث عبد الله بن عمرو عند مسلم وغيره قال: "رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عليّ ثوبين معصفرين فقال "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها " وأخرج مسلم وغيره أيضا من حديث علي قال: "نهاني رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن التختم بالذهب وعن لباس القسي وعن القراءة في الركوع والسجود وعن لباس المعصفر "وفي الباب أحاديث والعصفر يصبغ الثوب صبغا أحمر على هيئة مخصوصة فلا يعارضه مارود في لبس مطلق الأحمر كما في الصحيحين من حديث البراء قال: "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مربوعا بعيد ما بين المنكبين له شعر يبلغ شحمة أذنيه رأيته في حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه "وفي الباب أحاديث يجمع بينهما بأن الممنوع منه هو الأحمر الذي صبغ بالعصفر والمباح هو الأحمر الذي لم يصبغ به "ولا ثوب شهرة"لحديث ابن عمر "من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه ورجال إسناده ثقات والمراد به الثوب الذي يشهر لابسه بين الناس ويلحق بالثوب غيره من الملبوس ونحوه مما يشهر به اللابس له لوجود العلة "ولا ما يختص بالنساء ولا العكس"لحديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود والنسائي "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن الرجل يلبس لبس المرأة والمرأة تلبس لبس الرجل " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وفي صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عباس قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهات من السناء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء"وفي الباب أحاديث "ويحرم على الرجال التحلي بالذهب لا بغيره"لما تقدم من الأحاديث الواردة في تحريم الذهب وهو لا يكون إلا حلية إذ لا يمكن لبسه وأما ما يخلط في بعض الثياب بالحرير أو بغيره فهو فضة لا ذهب وإن سماه الناس ذهبا ومن الأدلة على ذلك ما ورد في المنع من خاتم الذهب وما ورد فيمن حلى جيبا له ولو بخر بصيصة1 وقد جمع الماتن رسالة مستقلة في تحريم التحلي بقليل الذهب وكثيره وجمع أيضا رسالة مستقلة في تحلي النساء بالذهب وهل يجوز ذلك أم لا فليرجع إليهما قال المجد في القاموس جربصيصة: أي شئ من الحلي ونحوه في تاج اللغات وفي نهاية الحديث الجربصيصة الهنة التي تتراءى في الرمل لها بصيص كأنها عين جرادة قال في الحجة البالغة: ومن تلك الرؤس الحلي المترفة وهنا أصلان: أحدهما أن الذهب هو الذي يفاخر به العجم ويفضي جريان الرسم بالتحلي به إلى الإكثار من طلب الدنيا دون الفضة ولذلك شدد النبي صلى الله عليه وسلم في الذهب وقال: "ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها " والثاني أن النساء أحوج إلى التزين ليرغب فيهن أزواجهن ولذلك جرت عادة العرب والعجم جميعا بأن يكون تزينهن أكثر من تزينهم فوجب أن يرخص لهن أكثر مما يرخص لهم ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها وقال صلى الله عليه وسلم في خاتم ذهب في يد رجل: " يعمد أحدكم إلى جمر من نار فيجعله في يده" ورخص عليه السلام في خاتم الفضة لا سيما لذي سلطان وقال: "ولا تتمه مثقالا" ونهى النساء عن غير المقطع من الذهب وهو ما كان قطعة واحدة كبيرة قال: "من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فيحلقه من ذهب" وذكر على هذا الأسلوب الطوق والسوار وكذا جاء التصريح بقلادة من ذهب وسلسلة من ذهب وبين المعنى في هذا الحكم حيث قال:   1الخر بصيصة بفتح الخاء المعجمة وإسكان الراء وفتح الباء وصادين مهملتين بينهما ياء مثناة هي الهنة تتراآي في الرمل بصيص كأنها عين جرادة. والمراد هنا الشئ الحقير من الحلي وقع في الصل بالجيم بدل الخاء وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 "أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهبا تظهره إلا عذبت به" وكان لأم سلمة أوضاح من ذهب والظاهر أنها كانت مقطعة وقال صلى الله عليه وسلم: "أحل الذهب للإناث" معناه الحل في الجملة هذا الحل في الجملة هذا ما يوجبه مفهوم هذه الأحاديث ولم أجد لها معارضا ومذهب الفقهاء في ذلك معلوم ومشهور وهو التحليل مطلقا بلا فرق بين المقطع وغيره والله تعالى أعلم بحقيقة الحال أقول: وأما التختم فقد أخرج أبو داود من حديث عمر والنسائي من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختم في يساره"وأخرج أبو داود والنسائي من حديث علي والترمذي والنسائي أيضا من حديث أبي رافع "أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يتختم في يمينه "فالكل جائز بدون كراهة ولم يرد النهي إلا عن التختم في السبابة والوسطى كما أخرجه مسلم وأهل السنن من حديث علي بلفظ "نهاني أن أجعل الخاتم في هذه أو في التي تليها وأشار إلى السبابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 كتاب الأضحية مشروعيتها ... كتاب الأُضحية "تُشرع لأهل كل بيت" لحديث أبي أيوب الأنصاري قال: "كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته" أخرجه ابن ماجه والترمذي وصححه وأخرج نحو ابن ماجه من حديث أبي شريحة بإسناد صحيح وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث مخنف1 بن سليم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ياأيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية" وفي إسناده أبو رملة واسمه عامر قال الخطابي مجهول وقد اختلف في وجوب الأضحية فذهب الجمهور إلى أنها سنة غير واجبة وبه قال مالك وقال: لا أحب لأحد ممن قوي على ثمنها أن يتكرها وعليه الشافعي وذهب ربيعة والأوزاعي وأبو حنيفة والليث وبعض المالكية إلى أنها واجبة على الموسر وحكي عن مالك والنخمي وتمسك القائلون بالوجوب بمثل حديث "على كل أهل بيت أضحية " المتقدم وبمثل حديث أبي هريرة عند أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم وقال ابن حجر في الفتح رجاله ثقات لكن اختلف في رفعه   1بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح النون. ووقع في الأصل بالحاء المهملة وهو خطأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 ووقفه والموقوف أشبه بالصواب قاله الطحاوي وغيره قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا " ومن أدلة الموجبين قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} والأمر للوجوب وقد قيل إن المراد تخصيص الرب بالنحر لا للأصنام ومن ذلك حديث جندب بن سفيان البجلي في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله" ومن حديث جابر نحوه وجعل الجمهور حديث "أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ضحى عمن لم يضح من أمته بكبش "كما في حديث جابر عند أحمد وأبي داود والترمذي وأخرج نحوه أحمد والطبراني والبزار من حديث أبي رافع بإسناد حسن قرينة صارفة لما تفيده أدلة الموجبين ولا يخفى أنه يمكن الجمع بأنه ضحى عن غير الواجدين من أمته كما يفيده قوله: "من لم يضح من أمته "مع قوله "على كل أهل بيت أضحية" وأما مثل حديث "أمرت بالأضحى ولم يكتب عليكم " ونحوه فلا تقوم بذلك الحجة لأن في أسانيدها من رمي بالكذب ومن هو ضعيف بمرة "وأقلها شاة" لما تقدم وقال المحلي: البعير والبقرة تجزيء عن سبعة والشاة تجزيء عن الواحد وإن كان له أهل بيت حصلت بجميعهم وكذا يقال في كل واحد من السبعة يعني المشتركين في البدنة والبقرة فالتضحية سنة كفاية لك أهل بيت وسنة عين لمن ليس له بيت وعند الحنفية الشاة لا تجزي إلا عن واحد والبقرة والبدنة لا تجزئان إلى عن سبعة سبعة ولم يفرقوا بين أهل البيت وغيره وتأويل الحديث عندهم أن الأضحية لا تجب إلى على غني ولم يكن الغني في ذلك الزمان غالبا إلا صاحب البيت ونسبت إلى أهل بيته على معنى أنهم يساعدونه في التضحية ويأكلون لحمها وينتفعون بها ويصح اشتراك سبعة في بدنة أو بقرة وإن كانوا أهل بيوت شتى وهو قول العلماء وقاسوا الأضحية على الهدي ولا أضحية عن الجنين وهو قول العلماء "ووقتها بعد صلاة عيد النحر" لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "من كان ذبح قبل أن نصلي فليذبح مكانها أخرى ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله" وهو في الصحيحين كما تقدم قريبا وفي الصحيحين من حديث أنس عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "من كان ذبح قبل الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 فليعد " قال ابن القيم: ولا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أبو بردة بن نيار عن شاة ذبحها يوم العيد فقال: "أقبل الصلاة؟ قال: نعم قال: تلك شاة لحم" الحديث قال: وهو صحيح صريح في أن الذبح قبل الصلاة لا يجزي سواء دخل وقتها أو لم يدخل وهذا الذي ندين الله به قطعا ولا يجوز غيره اهـ وفي الباب أحاديث وفيها التصريح بأن المعتبر صلاة الإمام ويمتد "إلى آخر أيام التشريق" لحديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل أيام التشريق ذبح " أخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي وله طرق يقوي بعضها بعضا وقد روي أيضا من حديث جابر وغيره وقد روي ذلك عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم والخلاف في المسألة معروف وفي الموطأ عن ابن عمر الأضحى يومان بعد يوم الأضحى مثل ذلك عن علي بن أبي طالب وعليه الحنفية ومذهب الشافعية أنه يمتد وقته إلى غروب الشمس من آخر أيام التشريق لحديث الحاكم الدال على ذلك "وأفضلها" أي الضحايا "أسمنها" لحديث أبي رافع "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين "الحديث وهوعند أحمد وغيره بإسناد حسن وأخرج البخاري من حديث أبي أمامة بن سهل قال: "كنا نسمن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون " أقول: الحق أن أفضل الأضحية الكبش الأقرن كما ورد الحديث بذلك عن عبادة بن الصامت عند أبي داود وابن ماجه والحاكم والبيهقي مرفوعا بلفظ "خير الأضحية الكبش الأقرن " وأخرجه الترمذي وأخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي من حديث أبي أمامة وفي إسناده عفير بن معدان وهو ضعيف والأضحية هي غير الهدي وقد ورد النص فيها فوجب تقديمه على القياس وحديث الكبش الأقرن نص في محل النزاع فإن كان خاصا بالفحل فظاهر وإن كان شاملا له وللخصي فالأفضلية لا تختص بالخصي وتضحية النبي صلى الله عليه وسلم بالخصي لا تستلزم أن يكون أفضل من غيره بل غاية ما هناك أن الخصي يجزيء "ولا يجزيء ما دون الجذع من الضأن" لحديث جابر عند مسلم وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" وأخرج أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم أو نعمت الأضحية الجذع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 من الضأن "وأخرج أحمد وابن ماجه والبيهقي والطبراني من حديث أم بلال بنت هلال عن أبيها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يجوز الجذع من الضأن ضحية "وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر قال "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحايا بين أصحابه فصارت لعقبة جذعة فقلت: يا رسول الله أصابني جذع فقال ضح به "وقد ذهب إلى أنه يجزيء الجذع من الشأن الجمهور ومن زعم أن الشاة لا تجزيء إلى عن واحد أو عن ثلاثة فقط أو زعم أن غيرها أفضل منها فعليه الدليل ولا يفيده ما ورد في الهدي فذلك باب آخر "و" لا يجزيء دون "الثني من المعز" وهو ما استكمل سنتين وطعن في الثالثة لحديث أبي بردة في الصحيحين وغيرهما أنه قال: يا رسول الله إن عندي داجنا جذعة من المعز فقال: "اذبحها ولا تصلح لغيرك" وأما ما روي في الصحيحين وغيرهما من حديث عقبة "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ضح به أنت " والعتود من ولد المعز ما أتى عليه حول فقد أخرج البيهقي عنه بإسناد صحيح أنه قال: أعطاني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غنما أقسمها ضحايا بين أصحابي فبقي عتود منها فقال: " ضح به أنت ولا رخصة لأحد فيه بعدك " وقد حكى النووي الاتفاق على أنه لا يجزيء الجذع من المعز قلت: اتفقوا على أنه لا يجوز من الإبل والبقر والمعز دون الثني والجذع من الضأن يجزيء عندهم ولا تجزيء مقطوعة الأذن إلا أن أبا حنيفة قال: إن كان المقطوع أقل من النصف فيجوز "ولا الأعور والمريض والأعرج والأعجف1 وأعضب القرن والأذن2" لحديث البراء عند أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها3 والكسير التي لا تنقي4 أي التي لا مخ لها "   1 الأعجف الهزيل. وشاة عجفاء هزيلة. وجمع الأعجف علي غير قياس. 2 هو ما ذهب نصف قرنه أو أذنه. 3 الضلع بفتح الضاد واللام الميل والإعوجاج. 4 الكسير فعيل بمعنى مفعول. وفي الصل التكسيره بالهاء وهو خطأ. هب المنكسرة الرجل التي لا تقدر على المشي. بمعني ومعني لا تنفي بضم التاء وإسكان النون وكسر القاف. أنها لا نقئ بكسر النون واسكان القاف. والنقئ المخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وقد وقع في رواية العجفاء بدل الكسيرة وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي من حديث علي قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن "قال قتادة: العضب النصف فأكثر من ذلك وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم والبخاري في تاريخه1 قال: "إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسيرة فالمصفرة التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها والمستأصلة التي ذهب قرنها من أصله والبخقاء التي تبخق عينها2 والمشيعة التي لا تتبع الغنم عجفا وضعفا والكسيرة التي لا تنقي"وهذا التفسير هو أصل الرواية وفي الباب أحاديث وأما مسلوبة الألية فأخرج أحمد وابن ماجه والبيهقي من حديث أبي سعيد: "اشتريت كبشا أضحي به فعدا الذئب فأخذ الألية فسألت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: " ضح به" وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف جدا ويتصدق منها ويأكل ويدخر لحديث عائشة "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: " كلوا وادخروا وتصدقوا " وهو في الصحيحين وفي الباب أحاديث والذبح في المصلى أفضل إظهارا لشعائر الدين لحديث ابن عمر عند البخاري عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "أنه كان يذبح وينحر بالمصلى" "ولا يأخذ من له أُضحية من شعره وظفره بعد دخول عشر ذي الحجة حتى يُضحِّي" لحديث أم سلمة عند مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره" وفي لفظ المسلم وغيره أيضا"من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي "وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب سعيد بن المسيب وربيعة وأحمد واسحق وداود وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه يحرم عليه أخذ شئ من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية وقال الشافعي وأصحابه وهو مكروه كراهة تنزيه وحكى المهدي في البحر عن الشافعي وغيره أن ترك الحلق والتقصير لمن أراد التضحية مستحب وقال أبو حنيفة: لا يكره   1 يعني من حديث عتبة ابن عبد السلمي. 2 قوله عينها قال في القاموس البخق محركة أقبح العور وأكثره غمصا أو أن لا يلتقي شفر عينه علي حدقته بحق كفرح ونصر والعين البخقاء والباخقة والبخيق والبخيقة العوراء اهـ المراد منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 باب الوليمة "هي مشروعة" لحديث أنس في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن عوف: "أوْلم ولو بشاة" وقد أولم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على نسائه فأولم على صفية بتمر وسويق كما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان من حديث أنس وأخرج مسلم وغيره من حديثه "أنه جعل وليمتها التمر والأقط والسمن"وهو في الصحيحين بنحو هذا وفيه التصريح بأنه ما كان فيها من خبز ولا لحم وفي الصحيحين أيضا "أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أولم على شئ من نسائه ما أولم على زينب أولم بشاة"وقد قال بوجوب وليمة العرس مالك وقيل إن المشهور عنه أنها مندوبة وروي الوجوب عن أحمد وبعض الشافعية وأهل الظاهر وهو الحق ولم يأت في الأحاديث ما يشعر بصرف الأوامر بالوليمة عن المعنى الحقيق وأما كونها بشاة فأكثر فيمكن أن يكون فعله صلى الله عليه وسلم صارفا للوجوب على فرض عدم الاختصاص به ويمكن أن يكون الأمر بالشاة فما فوقها مقيدا بالتمكن من ذلك فيكون واجبا مع التمكن وذهب الجمهور إلى أنها سنة غير واجبة "ويجب الإجابة إليها" لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما "شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله" وفيهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها" وفي لفظ لهما من حديثه "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها" وفي آخر لمسلم وغيره من حديثه "من دعي فلم يجب فقد عصي الله ورسوله" وفي مسلم وغيره من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك" وفي لفظ من حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره "إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائما فليصل وإن كان مفطرا فليطعم" وقد نقل ابن عبد البر والقاضي عياض والنووي الاتفاق على وجوب الإجابة إلى وليمة العرس قال في الفتح: وفيه نظر نعم المشهور من أقول العلماء الوجوب وصرح جمهور الشافعية والحنابلة بأنها فرض عين ونص عليه مالك وعن بعض الشافعية والحنابلة أنها مستحبة وحكى في البحر عن الشافعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 أن الإجابة إلى وليمة العرس مستحبة كغيرها والأدلة المذكورة تدل على الوجوب لا سيما بعد التصريح بأن من لم يجب فقد عصى الله ورسوله أقول: أحاديث الأمر بإجابة دعوة الوليمة معناها حقيقة الوجوب مقيدة بعدم المانع من منكر أو مباهاة أو حضور الأغنياء فقط أو نحو ذلك ولم يأت ما يدل على صرف تلك الأوامر عن معناها الحقيقي ووقع الخلاف في إجابة دعوة غير العرس هل تجب أم لا؟ فمن قال بالوجوب استدل بالرواية المطلقة المذكورة ومن قال بعدم الوجوب قال المطلقة محمولة على المقيدة وقد أوضح الماتن ما هو الحق في شرح المنتقى قال البغوي: من كان له عذرا وكان الطريق بعيدا يلحقه المشقة فلا بأس أن يتخلف وفي الأنوار من شروط وجوب الإجابة إلى الوليمة أن يعم عشيرته أو جيرانه أو أهل حرفته أغنياءهم وفقرءاهم فإن خص الأغنياء فلا يجب ولو دعا أهل حرفته وهم أغنياء لزمتهم الإجابة قال في المسوى: في كونه شرطا لوجوب الإجابة نظر لأن معنى كلام أبي هريرة إثبات الشرية لهذا الطعام بوجه من الوجوه وإثبات المعصية لمن لم يأتها وذلك صادق بأن يكون تخصيص الأغنياء مكروها للداعي ولا يكون مانعا لتأكد الإجابة ويقدَّم السابق ثم الأقرب بابا لحديث حمد بن عبد الرحمن الحميري عن رجل من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اجتمع الداعيان فأجب أقربهما بابا فإن أقربهما بابا أقربهما جوارا وإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق" أخرجه أحمد وأبو داود وفي إسناده زيد بن عبد الرحمن الدالاني وقد وثقه أبو حاتم وضعفه ابن حبان وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة أنها سألت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقالت: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي فقال: إلى أقربهما منك بابا" فهذا يشعر باعتبار القرب في الباب "ولايجوز حضورها إذا اشتملت على معصية" لحديث علي عند ابن ماجه بإسناد رجاله رجال الصحيح قال: "صنعت طعاما فدعوت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع" وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم من حديث ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن مطعمين عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر وأن يأكل وهو منبطح على بطنه" وفي إسناده انقطاع وقد ورد النهي عن القعود على المائدة التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 تدار عليها الخمر من حديث عمر عند أحمد بإسناد ضعيف ومن حديث جابر عند الترمذي وحسنه وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والترمذي والحاكم من حديثه مرفوعا وفي الباب غير ذلك ويؤيده أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن ذلك "من رأى منكم منكرا فيلغيره بيده فإن لم يتسطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه" وهو في الصحيحين وغيرهما "فصل والعقيقة مستحبة" يدل على مشروعيتها حديث سلمان بن عامر الضبي عند البخاري وغيره قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى" وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي والحاكم وعبد الحق من حديث الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كل غلام رهينة بعقيقته يذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه" وقد قيل إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا هذا الحديث وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن العقيقة فقال: "لا أحب العقوق" وكأنه كره الاسم فقالوا يا رسول الله: إنما نسألك عن أحدنا يولد له قال: من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة فكان هذا الحديث دليلا على أن الأحاديث الواردة في رهن الغلام بعقيقته ليست على الوجوب بل للاستحباب فقط ولو كان واجبا لم يكن مفوضا إلى الإرادة ولما قال لمن أحب أن ينسك والأولى في تفسير قوله "مرتهن بعتيقته" أن العقيقة لما كانت لازمة شبهت باعتبار لزومها للمولود بالرهن باعتبار لزومه وقيل: إن معنى كونه مرهونا بعقيقته أنه لا يسمى ولا يحلق شعره إلا بعد ذبحها وبه صرح صابح المشارق والنهاية وقال أحمد بن حنبل: إن معناه إذا مات وهو طفل ولم يعق عنه لم يشفع لأبويه قلت: العقيقة سنة عند أكثر أهل العلم إلا عند أبي حنيفة فإنه قال ليست بسنة "وهي شاتان عن الذكر وشاة عن الأنثى" وبذلك قال الشافعي لحديث عمرو بن شعيب المذكور ولحديث عائشة عند أحمد والترمذي وابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 حبان والبيهقي وصححه الترمذي قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة" وأخرج نحوه أحمد والنسائي والترمذي والحاكم والدارقطني وصححه الترمذي من حديث أمر كرز الكعبية والمراد بقوله "مكافأتان" المستويتان أو المتقاربتان ولا يعارض هذه الأحاديث ما أخرجه أبو داود والنسائي وصححه عبد الحق وابن دقيق العيد من حديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا" لأن الأحاديث المتقدمة متضمنة للزيادة وهي أيضا خطاب مع الأمة فلا يعارضها فعله صلى الله عليه وسلم كما تقرر في الأصول والزيادة مقبولة إذا كانت غير منافية فلا يكون الفاعل للعقيقة متسننا إلا إذا ذبح عن الذكر شاتين لا شاة واحدة وقد وقع الإجماع على أن العقيقة عن الأنثى شاة وأما الذكر فذهب الجمهور إلى أن العقيقة عنه شاتان وقال مالك شاة. وقال المحلي: يحصل أصل السنة في عقيقة الذكر بشاة وكمال السنة شاتان وقال الشافعي: العقيقة في الأكل والتصدق كالأضحية ويسن طبخها ولا يكسر عظمها اهـ. أقول: ليس على شئ مما ذكروه من عدم الكسر والفصل من المفاصل وجمع العظام ودفنها وغير ذلك من كتاب ولا سنة ولا من عقل بل هذه الأمور خيالات شبيهة بما يقع من النساء ونحوهن من العوام مما لا يعود على فاعله بنفع دنيوي ولا ديني "يوم سابع المولود" لحديث سمرة المتقدم ولأنه لا بد من فصل بين الولادة والعقيقة فإن أهله مشغولون بإصلاح الوالدة والولد في أول الأمر فلا يكلفون حينئذ بما يضاعف شغلهم وايضاً فرب إنسان لا يجد شاة إلا بسعي فلو سن كونها في أول يوم لضاق الأمر عليهم والسبعة أيام مدة صالحة للفصل المعتد به غير الكثير "وفيه يسمى" وأحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن كما في الحديث لأنهما أشهر الأسماء ولا يطلقان على غيره تعالى بخلاف غيرهما وأنت تستطيع أن تعلم من هذا سر استحباب تسمية المولود بمحمد وأحمد فإن طوائف الناس أولعوا بتسمية أولادهم بأسماء أسلافهم المعظمين عندهم وكان يكون ذلك تنويها بالدين وبمنزلة الإقرار بأنه من أهله وأصدق الأسماء همام وحارث وأخناها ملك الأملاك "ويحلق رأسه" وإماطة الأذى للتشبيه بالحاج وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة والسر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 فيه أن الأذان من شعائر الإسلام وأعلام الدين المحمدي ومن خاصية الأذان أن الشيطان يفر منه الشيطان يؤذي الولد في أول نشأته حتى ورد في الحديث أن استهلاله لذلك "ويُتصدق بوزنه ذهبا أو فضة" لأمره صلى الله عليه وسلم لفاطمة الزهراء عليها السلام أن تحلق شعر رأس الحسن وتتصدق بوزنه من الورق أخرجه أحمد والبيقهي وفي إسناده ابن عقيل وفيه مقال ويشهد له ما أخرجه مالك وأبو داود في المراسيل والبيهقي من حديث جعفر ابن محمد زاد البيهقي عن أبيه عن جده "أن فاطمة وزنت شعر الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم فتصدقت بوزنه فضة "وأخرج الترمذي والحاكم من حديث علي قال: "عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن شاة وقال: "يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة" فوزناه فكان وزنه درهما أوبعض درهم" وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: "سبعة من السنة في الصبي يوم السابع يسمى ويختن ويماط عنه الأذى ويثقب أذنه ويعق عنه ويحلق رأسه ويلطخ بدم عقيقته ويُتصدق بوزنه ذهبا أو فضة"وفي إسناده رواد بن الجراح وهو ضعيف وبقية رجاله ثقات وفي لفظه ما ينكر وهو ثقب الأذن والتلطخ بدم العقيقة وقد أخرج أبو داود والنسائي بإسناد صحيح من حديث بريدة الأسلمي قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران. وقد أخرج نحوه ابن حبان وابن السكن وصححاه من حديث عائشة وقد ذهب الظاهرية والحسن البصري إلى وجوب العقيقة وذهب الجمهور إلى أنها سنة وذهب أبو حنيفة إلى أنها ليست فرضا ولا سنة وقيل إنها عنده تطوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 كتاب الطب حقيقة الطب ... كتاب الطب وحقيقته التمسك بطبائع الأدوية الحيوانية والنباتية أو المعدنية والتصرف في الأخلاط نقصا وزيادة والقواعد الملية تصححه إذ ليس فيه شائبة شرك ولا فساد في الدين والدنيا بل فيه نفع كثير وجمع لشمل الناس "ويجوز التداوي" لما أخرجه مسلم وغيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 من حديث جابر أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء بريء بإذن الله" وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه أيضا ابن خزيمة والحاكم من حديث أسامة "قالت الأعراب يا رسول الله: ألا نتداوى؟ قال: "نعم عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدا" قالوا يا رسول الله ما هو؟ قال: "الهرم" وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث أبي خزامة قال: "قلت يارسول الله: أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله" قلت: وعلى هذا اتفق المسلمون لا يرون به بأسا "والتفويض أفضل لمن يقدر على الصبر" لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته امرأة سوداء فقالت: إني أصرع وإني أنكشف فادع الله لي قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك" قالت: أصبر" وفي الصحيحين أيضا من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب هم الذي لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون" ولا يخالف هذا ما تقدم من الأمر بالتداوي فالجمع ممكن بأن التفويض أفضل مع الاقتدار على الصبر كما يفيده قوله: "إن شئت صبرت" وأما مع عدم الصبر على المرض وصدور الحرج والحرد وضيق الصدر من المرض فالتداوي أفضل لأن فضيلة التفويض قد ذهبت بعدم الصبر1 "ويحرم بالمحرمات" لحديث أبو هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدواء الخبيث" أخرجه ومسلم وغيره وأخرج أبو داود من حديث أبو داود من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الله أنزل الداء والدواء   1خالف الشارح ما سار عليه في كتابه من أوله وهو إبقاء العام على عمومه وأن الأمر للوجوب إلا إن دل علي دليل على صرفه عنه وهذا هو الحق عند الأصوليين والمحدثين والفقهاء وجمع بين أحاديث الأمر بالتداوي وبين الأحاديث الأخري يجمع غير منطق على القواعد الصحيحة. والحق أن التداوي واجب وتركه حرام لورود الأمر به صريحا في غير ما حديث وأن الكي بالنار وهو نوع منه جائز وتركه أفضل للأحاديث الأخرى الدالة الترغيب في تركه. وأما الرقى والدعاء فليس من أنواع الدواء فمن فعلهما على طريقهما الشرعي فحسن ومن تركهما فهو أفضل له وبذلك يظهر أن لا تعارض بين الأحاديث أصلا والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام" وفي إسناده إسمعيل بن عياش وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن التداوي بالخمر كما في صحيح مسلم وغيره وفي البخاري عن ابن مسعود أنه قال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" وقد ذهب إلى تحريم التداوي بالأدوية النجسة والمحرمة الجمهور ولا يعارض هذا إذنه صلى الله عليه وسلم بالتداوي بأبوال الإبل كما في الصحيح لأنها لم تكن نجسة ولا محرمة ولو سلمنا تحريمها لكان الجمع ممكنا ببناء العام على الخاص قال في المسوى: اختلف أهل العلم في التداوي بالشئ النجس فأباح كثير منهم التداوي به إلا الخمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للرهط العرنيين شرب أبوال الإبل وأما الخمر فقال: "إنها ليست بدواء ولكنها داء" وقال بعضهم: لا يجوز التداوي بالنجس لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث والمراد به خبث النجاسة وقال آخرون المراد به الخبيث من جهة الطعم اهـ وفي الحجة البالغة: إلا المداواة بالخمر إذ للخمر ضراوة لاتنقطع والمداواة بالخبيث أي السم ما أمكن العلاج بغيره فإنه ربما يفضي إلى القتل والمداواة بالكي ما أمكن بغيره لأن الحرق بالنار أحد الأسباب التي تنفر منها الملائكة اهـ وقد استوفيت الكلام على هذه المسألة في كتابي دليل الطالب أرحج المطالب "ويكره الاكتواء" لحديث ابن عباس عند البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفاء في ثلاثة في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار وأنهى أمتي عن الكي" وفي لفظ "وما أحب أن أكتوي" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة الترمذي وصححه من حديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا وقد ورد ما يدل على أن النهي عن الكي للتنزيه لا للتحريم كما في حديث جابر عند مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ في أكحله مرتين" وأخرج الترمذي وحسنه من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن زرارة من الشوكة"ووجه الكراهة أن في ذلك تعذيبا بالنار ولا يجوز أن يعذب بالنار إلا رب النار وقد قيل إن وجه الكراهة غير ذلك وقد جمع بين الأحاديث بمجموعات غير ما ذكرنا "ولا بأس بالحجامة" لحديث جابر في الصحيحين وغيرهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن كان في شئ من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة نار توافق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 الداء وما أحب أن أكتوي"وقد تقدم حديث ابن عباس مثله وقد ثبت من حديث أنس عند الترمذي وأبي داود بإسناد صحيح قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل1 وكان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين"وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان شفاء من كل داء" ولا بأس بإسناده وفي الباب أحاديث متضمنة لذكر الأيام التي ينبغي فيها الحجامة وليس المراد هنا إلا الاستدلال على جوازها قلت: وعلى هذا عمل المسلمين "و" لا بأس "بالرقية" وحقيقتها تمسك بكلمات لها تحقق في المثال وأثر القواعد الملية لا تدفعها ما لم يكن فيها شرك ولا سيما إذا كان من القرآن أو السنة أو ما يشبهما من التضرعات إلى الله تعالى وكل حديث فيه نهي عن الرقي والتمائم والتولة2 فمحمول على ما فيه شرك أو انهماك في التسبب بحيث يغفل عن الباري جل شأنه وفي المسوى اختلفت الأحاديث في الاسترقاء ووجه الجمع أن تحمل على الأحوال المتغايرة فالمنهي من الرقى ما كان فيه شرك أو كان يذكر فيه مردة الشياطين أو ما كان منها بغير لسان العرب ولا يدرى ما هو ولعله يدخل فيه سحر أو كفر وأما ما كان بالقرآن وبذكر الله تعالى فإنه مستحب ثم للرقية أنواع بعضها مأثور عن السلف فقد روي عن عائشة أنها كانت لا ترى بأسا أن يعوذ في الماء أي يقرأ التعوذ وينفث في الماء ثم يعالج به المريض وقال مجاهد: لا بأس أن يكتب القرآن ويغسله ويسقيه المريض وأمر ابن عباس رجلا أن يكتب لامرأة تعسر عليها الولادة آيتين من القرآن وكلمات ثم يغسل وتسقى وسئل سعيد بن المسيب عن الصحف الصغار يكتب فيها القرآن تعلق على النساء والصبيان فقال: لا بأس بذلك إذا جعل في كبر من ورق أو شئ من الأديم أو يخرز عليه وقد روي النفث في الأحاديث المرفوعة "بما يجوز من العين وغيرها" لحديث أنس عند مسلم وغيره قال: "رخص رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الرقية من العين والحمة3 والنملة"والمراد بالحمة السم من ذوات السموم وبالنملة   1 الأخدعان عرقان في جانب العنق والكاهل ما بين الكتفين. 2 التولة بكسر التاء المثناة وفتح الواو ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره. 3 بضم الحاء وفتح الميم المخففة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 القروح تخرج من الجنب وأخرج مسلم وغيره من حديث عوف بن مالك قال: "كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يارسول الله كيف ترى في ذلك فقال: اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك" وفي صحيح مسلم من حديث جابر قال: "نهى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الرقى" فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يارسول الله: إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب وإنك نهيت عن الرقى قال: فعرضوها عليه فقال: "ما أرى بأسا فمن استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه" وفي الصحيحين من حديث عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه لأنها أعظم بركة من يدي" وما ورد من الأدلة الدالة على النهي عن الرقى وأنها من الشرك فهي محمولة على الرقية بما لا يجوز كالتي تكون بأسماء الشياطين والطواغيث ونحو ذلك وكذلك يحمل على هذا ما ورد في حديث المغيرة بن شعبة عند أحمد وابن ماجه وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اكتوى أو استرقى فقد برىء من التوكل" وقد ورد في الصحيحين من حديث عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أسترقي من العين" وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وصححه من حديث أسماء بنت عميس" أنها قالت: يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفنسترقي لهم؟ قال: "نعم فلو كان شئ سابق القدر سبقته العين" وأخرج نحوه مسلم وغيره من حديث ابن عباس وفي الباب أحاديث وفيها ذكر إستغسال من العين أي غسل وجه العائن وبدنه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره في قدح ثم يصب الماء على من أصيب بالعين على رأسه وظهره من خلفه أخرج ذلك أحمد ومالك في الموطأ والنسائي وصححه ابن حبان قال الزهري: يؤتى الرجل العائن بقدح فيدخل كفه فيه فيمضمض ثم يمجه في القدح ثم يغسل وجهه في القدح ثم يدخل يده اليسرى فيصب على كفه اليمنى في القدح ثم يدخل يده اليمنى فيصب على يده اليسرى ثم يدخل اليسرى فيصب على مرفقه الأيمن ثم يدخل يده اليمنى فيصب على مرفقه الأيسر ثم يدخل يده اليسرى فيصب على قدمه اليمنى ثم يدخل يده اليمنى فيصب على قدمه اليسرى ثم يدخل يده اليسرى فيصب على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 ركبة اليمنى ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبة اليسرى ثم يدخل داخلة إزاره ولا يوضع القدح في الأرض ثم يصب على رأس الرجل الذي أصيب بالعين من خلفه صبة واحدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 كتاب الوكالة حكم الوكالة ... كتاب الوكالة هي أن يكون أحدهما يعقد العقود لصاحبه "يجوز لجائز التصرف أن يُوكَّل غيره في كل شئ مالم يمنع منه مانع" لأنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم التوكيل في قضاء الدين كما في حديث أبي رافع" أنه أمره صلى الله عليه وسلم أن يقضي الرجل بكره" وقد تقدم وثبت عنه صلى الله عليه وسلم التوكيل في استيفاء الحد كما في حديث" واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وهو في الصحيح وسيأتي وثبت عنه التوكيل في القيام على بدنة وتقسيم جلالها وجلودها وهو في الصحيح وثبت عنه صلى الله عليه وسلم التوكيل في حفظ زكاة رمضان كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة وثبت عنه صلى الله عليه وسلم "أنه أعطى عقبة بن عامر غنما يقسمها بين أصحابه" وقد تقدم في الضحايا وثبت عنه صلى الله عليه وسلم "أنه وكل أبا رافع ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة" وقد تقدم وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابر: "إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا" كما أخرجه أبو داود والدارقطني وفي الباب أحاديث كثيرة فيها ما يفيد جواز الوكالة فلا يخرج عن ذلك إلا ما منع منه مانع وذلك كالتوكيل في شئ لا يجوز للموكل أن يفعله ويجوز للوكيل كتوكيل المسلم للذمي في بيع الخمر أو الخنزير أو نحو ذلك فإن ذلك لا يجوز ولا يكون محللا للثمن لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم "إ ن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه" وقد تقدم وقد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على جواز التوكيل كقوله تعالى {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} وقوله {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} وقد أورد البخاري في الوكالة ستة وعشرين حديثا ستة معلقة والباقية موصولة وقد قام الإجماع على مشروعيتها "وإذا باع الوكيل بزيادة على ما رسمه موكِّله كانت الزيادة للموكل" لما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث عروة البارقي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 دينارا ليشتري به له شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاء بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه فكان لو اشترى التراب لربح فيه"وأخرج الترمذي من حديث حكيم بن حزام" أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ليشتري له أضحية بدينا" فذكر نحو حديث عروة البارقي وفي إسناده انقطاع لأنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن حكيم ولم يسمع منه وأخرج أبو داود من حديث أبي حصين عن شيخ من أهل المدينة عن حيكم نحو ذلك وفيه هذا الشيخ المذكور وقد ذهب إلى ما ذكرناه الجمهور وقال الشافعي في الجديد وأصحابه: إن العقد باطل أي عقد البيع الواقع من الوكيل في مثل الصورة المذكورة لأنه لم يأمره الموكل بذلك "وإذا خالفه إلى ما هو أنفع أو إلى غيره ورضي به صح" لكون الرضا مناطا مسوغا لذلك ومجوزا له وإذا لم يرض لم يلزمه ما وقع من الوكيل مخالفا لما رسمه له المناط المعتبر وقد ثبت في البخاري وغيره من حديث معن بن يزيد قال "كان أبي خرج بدنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فأتيته بها فقال: والله ما إياك أردت بها فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لك ما نويت يا يزيد ولك يا معن ما أخذت "ولعل هذه الصدقة صدقة تطوع لا صدقة فرض فقد وقع الإجماع على أنه لا تجزيء في الولد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 كتاب الضمانة "يجب على من ضمن على حي أو ميت تسليم مال أن يغرمه عند الطلب" لما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الزعيم غارم1 " وفي إسناده إسمعيل بن عياش ولكنه ثقة في الشاميين وقد رواه هنا عن شامي وهو شرحبيل بن مسلم فيم يصب ابن حزم في تضعيف الحديث بإسمعيل بن عياش وقد أخرجه النسائي من طريقين إحداهما من طريق أبي عامر   1 الزعيم الكفيل الغارم الضامن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 الوصابي1 والأخرى من طريق حاتم بن حريث كلاهما عن أبي أمامة وقد صححه ابن حبان من طريق حاتم هذه وحاتم قد وثقه الدارمي وقد أخرج الحديث ابن ماجه والطبراني من طريق سعيد بن أبي سعيد عن أنس وأخرجه ابن عدي من حديث ابن عباس وضعفه باسمعيل بن زياد السكوني ورواه أبو موسى المدنبي في الصحابة من طريق سويد بن جبلة قال الدارقطني: لا تصح له صحبة وحديثه مرسل قال: وبعضهم يقول له صحبة ورواه الخطيب في التلخيص من طريق ابن لهيعة عن عبد الله بن حبان2 الليثي عن رجل عن آخر منهم وأخرج البخاري وغيره من حديث سلمة بن الأكوع "أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من الصلاة على من عليه الدين فقال أبو قتادة: صل عليه يارسول الله وعلي دينه فصلى عليه"وأخرج هذه القصة الترمذي من حديث أبي قتادة وصححه وأخرج هذه القصة الترمذي من حديث أبي قتادة وصححه وأخرجها أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والدارقطني والحاكم من حديث جابر وفي لفظ من حديث جابر هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي قتادة: "قد أوفى الله حق الغريم وبرىء منه الميت قال نعم فصلى عليه فلما قضاها قال له النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: الآن بردت عليه جلده" أخرج ذلك أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني وصححه ابن حبان والحاكم "ويُرجع على المضمون عنه إن كان مأمورا من جهته" لكون الدين عليه والأمر منه للضمين بالضمانة كالأمر له بالتسليم فيرجع عليه لذلك "ومن ضمن بإحضار شخص وجب عليه إحضاره وإلا غرم ما عليه" لعموم قوله صلى الله عليه وسلم "الزعيم غارم" والخلاف في الضمانة معروف وهذا خلاصة ما ورد به الشرع   1هو أبو عامر لقمان عامر الوصابي الحمصي. ووقع في الأصل " عامر الوصالي" وهو خطأ من وجهين في الاسم والنسبة " الوصابي" بفتح الواو وتشديد الصاد والمهملة وآخره باء نسبة إلى "وصاب" بطن من حمير كذا ضبطه الذهبي في المشتبه والسمعاني في الأنساب والوبيدي في شرح القاموس وضبطه ابن حجر في التقريب بتخفيف الصاد وهو خطأ. 2حبان هنا في الأصل بالباء الموحدة وفي تلخيص الحبير ص 250 بالياء المثناة ولم أجد له ترجمة ولم أصل إلى تصحيح اسمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 كتاب الصلح حكم الصلح ... كتاب الصلح "هو جائز بين المسلمين" لقوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} "إلا صُلحاً أحل حراما أو حرم حلالا" لحديث عمرو ابن عوف عند أبي داود وابن ماجه والترمذي والحاكم وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صُلحاً حرم حلالا أو أحل حراما" وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه وهو ضعيف جدا وقد صحح الحديث الترمذي فلم يصب وقد اعتذر له ابن حجر فقال: كأنه اعتبر بكثرة طرقه وذلك لأنه رواه أبو داود والحاكم من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال الحاكم: على شرطهما وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي وأخرجه أيضا الحاكم من حديث أنس ومن حديث عائشة أخرجه الدارقطني "ويجوز عن المعلوم والمجهول بمعلوم وبمجهول" لحديث أم سلمة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه قالت جاء رجلان إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلى رسول الله وإنما أنا بشر ولعل بعضكم ألحن1 بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاما2 في عنقه يوم القيامة" فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما3 ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه" وفي إسناد هذا الحديث أسامة بن زيد بن أسلم المدني وفيه مقال ولكن أصل الحديث في الصحيحين وقد استدل به على جواز الصلح   1 في النهاية: "أراد أن بعضكم يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره". 2 الاإسطام والسطام بكسر أولهما – الحديدة التي تحرك بها النار وتسعر أي اقطع له ما يسعر به النار على نفسه. قاله ابن الأثير. 3 توخى الحق قصده وتعمد فعله. والمعنى اذهبا فاقصدا الحق فيما تصنعانه من القسمة واقترفا ليظهر سهم كل واحد منكما وليأخذ ما تخرجه القرعة من القسمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 والإبراء من المجهول وأخرج البخاري من حديث جابر أن أباه قُتل يوم أحد شهيداً وعليه دَين فاشتد الغرماء في حقوقهم قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي فأبوا فلم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطي وقال "سنغدوا عليك" فغدا علينا حين أصبح فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة فجددتها1 فقضيتها وبقي لنا من ثمرها وفيه جواز الصلح عن معلوم بمجهول أقول: إسقاط الشئ فرع العلم به فمن جهل ما يريد إسقاطه فإما أن يعلمه بوجه من الوجوه أو بجهله من جميع الوجوه فإن علمه بوجه من الوجوه على صورة تتميز عنده بعض تميز بحيث يغلب في ظنه أنه من الجنس الفلاني وأن مقداره لا يجاوز كذا فهذا يصح إسقاطه وإن كان مجهولا من جميع الوجوه بحيث لا يعرف جنسه ولا مقداره كيفا ولا كما فهذا لا يصح إسقاطه لأنه قد يكون على صفة لو علم بها لم تطب نفسه بالإسقاط "وعن الدم كالمال بأقل من الدية أو أكثر" لكون اللازم في الدم مع عدم القصاص هو المال فهو صلح بمال عن مال يدخل تحت عموم قوله تعالي: {أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وتحت قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز" وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل متعمدا دُفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤا قتلوا وإن شاؤا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وذلك عقل العمد وما صولحوا عليه فهو وذلك تشديد العقل" وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وفيه مقال "لو عن إنكار" لعموم الأدلة واندراج الصلح عن إنكار تحتها ولم يأت من منعه ببرهان وقد ذهب إلى جوازه الجمهور وحكى في البحر عن الشافعي وابن أبي ليلى أنه لا يصح الصلح عن إنكار وقد ثبت في الصحيح عن كعب في قصة المتخاصمين في المسجد في دين فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحب الدَّين أن يضع شطر دينه ويتعجل الباقي وهو دليل على جواز الصلح مع الخصام ووضع واستيفاء البعض قال في الحجة البالغة ومنه وضع جزء من الدين كقصة ابن أبي حدرد2 وهذا الحديث أحد الأصول في باب المعاملات أقول: الظاهر أنها تجوز المصالحة عن إنكار نحو أن يدعى   1 جده جدا من باب قتل قطعه فهو جديد فعيل بمعنى مفعول والجداد بفتح الجيم وكسرها صرام النخل وهو قطع ثمرتها. 2 ستأتي في كتاب القضاء في الكلام على جواز الشفاعة من القاضي للإصلاح بين الخصمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 رجل على آخر مائة دينار فينكره في جميعها فيصالحه على النصف من ذلك المقدار لأن مناط الصلح التراضي والمنكر قد رضي بأن يكون عليه بعض ما أنكره وأي مقتض يمنع هذا وإن كان مثل حديث "لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه" هذا قد سلم بعضا مما أنكره طيبة به نفسه وإن كان غير ذلك فما هو؟ ثم حديث كعب المتقدم المشتمل على وقوع التنازع بين الرجلين إن كان التنازع بينهما في المقدار فهو أيضا صلح عن إنكار وقد جوزه الشارع وإن كان التنازع بينهما في التعجيل والتأجيل فهو أيضا صلح عن إنكار لأن منكر الأجل قد صولح على أن يتعجل البعض من دينه ويسقط الباقي إلى مقابل دعوى صاحبه للأجل * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 كتاب الحوالة حكم الحوالة ... كتاب الحوالة وهي جائزة وعليه أهل العلم "من أُحيل على مليء فليحتل" ويقبل ذلك لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مطل الغني ظلم ومن أحيل على مليء فليحتل" وفي لفظ لهما "وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع" وقد أخرج نحوه ابن ماجه وأحمد والترمذي من حديث ابن عمر وفي إسناد ابن ماجة إسمعيل بن توبة1 وهو صدوق وبقية رجاله رجال الصحيح وفي شرح السنة قوله: "أتبع أحدكم" بالتخفيف معناه: إذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع أي فليحتل أي فليقبل الحوالة يقال: أتبعت غريمي على فلان فتبعه أي أحلته فاحتال وقوله: "فليتبع " ليس ذلك على طريق الوجوب بل على طريق الإباحة أي الندب إن اختار قبل الحوالة وإن شاء لم يقبل انتهى وقد قيل: إنه يشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف والمحتال عند الأكثر والمحال عليه عند بعض أهل العلم قال في الحجة: هذا أمر استحباب لأن فيه قطع المناقشة "وإذا مطل المُحال عليه أو أفلس كان للمُحال أن يُطالب المحيل بدينه" لكون الدين باقيا بذمة المحيل لا يسقط عنه إلا بتسليمه إلى المحتال من المحال عليه فإذا لم يحصل التسليم كان دينه باقيا كما كان قبل   1قال الخلي: كان عالما كبيرا مشهورا. وقال ابن حبان في الثقات: مستقبم المر في الحديث اه تهذيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 الحوالة ويستفاد ذلك من قوله: "على مليء" فإن من مطل أو أفلس ليس بالمليء الذي أرشد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم صاحب الدين أن يقبل الحوالة عليه قال يحيى سمعت مالكا يقول: الأمرعندنا في الرجل يحيل الرجل على الرجل بدين له عليه إن أفلس الذي أحيل عليه أو مات ولم يدّع وفاء فليس للمحتال على الذي أحاله شئ وأنه لا يرجع على صاحبه الأول قال مالك: وهذا الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا فأما الرجل يتحمل له الرجل بدين له على رجل آخر ثم يهلك المتحمل أو يفلس فإن الذي تحمل له يرجع على غريمه الأول كذا في الموطأ قلت: وعليه الشافعي وفي شرح السنة إذا قبل الحوالة تحول الدين من المحيل إلى ذمة المحال عليه ولا رجوع للمحتال على المحيل من غير عذر فإن أفلس المحال عليه أو مات ولم يترك وفاء قال الشافعي: لا رجوع له على المحيل بحال وقال أبو حنيفة: يرجع إذا أفلس أو مات ولم يترك وفاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 كتاب المفلس "يجوز لأهل الدَّيْن أن يأخذوا جميع ما يجدونه معه" أي مع المفلس "إلا ما كان لا يُستغنى عنه وهو المنزل وستر العورة وما يقيه البرد ويسد رمقه ومن يعول" لحديث أبي سعيد عند مسلم وغيره قال: "أصيب رجل على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال: تصدقوا عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" وأخرج الدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه من حديث كعب بن مالك "أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه"وأخرج سعيد بن منصور وأبو داود وعبد الرزاق من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك مرسلا قال: كان معاذ بن جبل شابا سخيا وكان لا يمسك شيئا فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه فلوا تركوا لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ماله حتى قام معاذ بغير شئ قال عبد الحق: المرسل أصح وقال ابن الطلاع في الأحكام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 هو حديث ثابت فأفاد ما ذكرناه أن أهل الدين يأخذون جميع ما يجدونه مع المفلس لكنه لم يثبت أنهم أخذوا ثيابه التي عليه أو أخرجوه من منزله أو تركوه هو ومن يعول لا يجدون ما لا بد لهم منه ولهذا ذكرنا أنه يستثنى له ذلك "ومن وجد ماله عنده بعينه فهو أحق به" لأنه كان في الأصل ماله من غير مزاحمة ثم باعه ولم يرض في بيعه بخروجه من يده إلا بالثمن فكان البيع إنما هو بشرط إيفاء الثمن فلما لم يؤد كان له نقضه ما دام المبيع قائما بعينه فإذا فات المبيع لم يمكن أن يرد البيع فصار دينه كسائر الديون ودليله حديث حسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وجد متاعه عند مفلس بعينه فهو أحق به" أخرجه أحمد وأبو داود وقال ابن حجر في الفتح: إسناده حسن ولكن سماع الحسن عن سمرة فيه مقال معروف وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره" وفي لفظ لمسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال في الرجل الذي يعدم: "إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه أنه لصاحبه الذي باعه" وفي لفظ لأحمد "أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده ماله ولم يكن اقتضى من ماله شيئا فهو له" وأخرج الشافعي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة أنه قال في مفلس أتوه به: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من أفلس أو مات فوجد الرجل متاعه بعينه فهو أحق به وأخرج مالك في الموطأ وأبو داود من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام مرسلا أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: " أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقتض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجد متاعه بعينه فهو أحق به وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء" وقد وصله أبو داود فقال عن أبي هريرة وفي إسناده إسمعيل بن عياش ولكنه ههنا روى عن الحرث الزبيدي وهو شامي وهو قوي في الشاميين وقد ذهب إلى أن البائع أولى بعين ماله الموجود عند المفلس الجمهور وخالفت في ذلك الحنفية فقالوا: لا يكون أولى به والحديث يرد عليهم وقد ذهب الجمهور أيضا إلى أن المشتري إذا كان قد قضى بعض الثمن لم يكن البائع أولى بما لم يسلم المشتري ثمنه بل يكون أسوة الغرماء كما أفاده ما تقدم في الرواية من قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 "ولم يكن اتقضى من ماله شيئا"وقال الشافعي: إن البائع أولى به وهكذا إذا مات المشتري والسلعة قائمة فذهب مالك وأحمد إلى أنها تكون أسوة الغرماء وقال الشافعي: البائع أولى بها "وإذا نقص مال المفلس عن الوفاء بجميع ديْنه كان الموجود أسوة الغرماء" لأن ذلك هو العدل لأن الديون اللازمة مستوية في استحقاق قضائها من مال المفلس وليس بعضها بأولى به من بعض إلا لمخصص ولا مخصص ههنا وقد أشار إلى هذا ما تقدم في الرواية من قوله: "فصاحب المتاع أُسوة الغُرماء" "وإذا تبين إفلاسه فلا يجوز حبسه" لأنه خلاف حكم الله سبحانه قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} "و" لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم "ليّ الواجد1 ظلم" وهو حديث صحيح قد تقدم في الباب الذي قبل هذا والمفلس ليس بواجد "يحل عرضه وعقوبته" وأما إذا لم يتبين إفلاسه ولا كونه واجدا فهذا محل اللبس والواجب البحث عن حاله بحسب الإمكان حتى يتبين كونه واجدا فيعاقب بالحبس أو نحوه كما دل عليه حديث "مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته" وفي لفظ "لي الواجد ظلم" والكل في الصحيح أو تبين كونه غير واجد فينظر إلى ميسرة وأما حبس من تبين إفلاسه فلا يحل بوجه فإنه ظلم بحت قال في الحجة البالغة: ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته أقول: هو أن يغلظ له في القول ويحبس ويجيرعلى البيع إن لم يكن له مال غيره وفي شرح السنة وهذا قول أهل العلم: إن مال المفلس يقسم بين غرمائه على قدر ديونهم فإن نفذ ماله وفضل الدين ينظر إلى الميسرة قال مالك: إذا كان على رجل مال وله عبد لا شئ له غيره فأعتقه لم يجز عتقه وعند الشافعي تصرف المديون نافذ ما لم يحجر عليه القاضي ثم بعد الحجر لا ينفذ تصرفه في ماله وفي شرح السنة أيضا أما المعسر فلا حبس عليه بل ينظر فإنه غير ظالم بالتأخير وهذا قول مالك والشافعي فإن كان له مال يخفيه حبس وعزر حتى يظهر ماله وذهب شريح إلى أن المعسر يحبس وهو قول أهل الرأي "ويجوز للحاكم أن يحجزه عن التصرف في ماله ويبيعه لقضاء دينه" لحجره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على معاذ كما تقدم وكذلك يبيع الحاكم   1 اللي المطل والواجد القادر على قضاء دينه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 مال المفلس لقضاء دينه كما فعله صلى الله عليه وسلم في مال معاذ "وكذلك يجوز له الحجر على المبذِّر ومن لا يحسن التصرف" لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} قال في الكشاف: السفهاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا يد بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها والخطاب للأولياء وأضاف الأموال إليهم لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم كما قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وقال: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} ومما يدل على ذلك عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم على قرابة حبان أن يحجر عليه إن صح ذلك ويدل على ذلك رده صلى الله عليه وسلم للبيضة التي تصدق بها من لا مال له كما أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث جابر وكذلك رده صلى الله عليه وسلم صدقة الرجل الذي تصدق بأحد ثوبيه كما أخرجه أهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان من حديث أبي سعيد وكذلك رده صلى الله عليه وسلم عتق من أعتق عبدا له عن دبر ولا مال له غيره كما أشار إلى ذلك البخاري وترجم عليه "باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإمام "وأخرج الشافعي في مسنده والبيهقي عن عروة بن الزبير قال: ابتاع عبد الله بن جعفر بيعا فقال علي رضي الله عنه لآتين عثمان فلأحجرن عليه فأعلم ذلك ابن جعفر الزبير فقال: أنا شريكك في بيعتك فأتى عثمان فقال: احجر على هذا فقال الزبير: أنا شريكه فقال عثمان: إحجر على رجل شريكه الزبير ففي هذه القصة دليل على أن الحجر كان عندهم أمرا معروفا ثابتا في الشريعة لولا ذلك لأنكره بعض من اطلع على هذه القصة ولكان الجواب من عثمان على علي بأن هذا غير جائز وكذلك الزبير وعبد الله بن جعفر لو كان مثل هذا الأمر غير جائز لكان لهما عن تلك الشركة مندوحة وقد ذهب إلى جواز الحجر على السفيه الجمهور وعليه أهل العلم وفي الوقاية الحجر منع نفاذ تصرف قولي وسببه الصغر والجنون والرق فإن أتلفوا شيئا ضمنوا وفي المنهاج ولا يصح من المحجور عليه بسفه بيع ولا شراء ولا عتاق وهبة ونكاح بغير إذن وليه ويصح بإذن الولي نكاحه لا التصرف المالي في الأصح "ولا يمكن اليتيم من التصرف في ماله حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 يؤنس منه الرشد" لقوله تعالى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} في المنهاج حجر الصبي يرتفع ببلوغه رشيدا فلو بلغ غير رشيد دام الحجر وفي الوقاية: فإن بلغ غير رشيد لم يسلم إليه ماله حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة وصح تصرفه قبله وبعده يسلم إليه ولو بلا رشد "ويجوز لوليه أن يأكل من ماله بالمعروف" لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: "نزلت هذه الآية في ولي اليتيم إذا كان فقيرا أنه يأكل منه بالمعروف وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: إني فقير وليس لي شئ ولي يتيم فقال: "كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل1" والمراد بقوله ولا مبادر ما في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} أي مسرفين ومبادرين كبر الأيتام فهذه الآية والحديث مخصصان لقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا} في شرح السنة اختلفوا في ذلك فذهب قوم إلى أنه يأكل ولا يقضي وعليه أحمد وآخرون إلى أنه يأكل ويرد مثله إذا كبر أقول: اختاره محمد بن الحسن والولي يتجر في أموال اليتامى ويضارب ويفعل ما فيه الغبطة قال مالك قال عمر بن الخطاب: "اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة "وكانت عائشة تعطي أموال اليتامى من يتجر لهم فيها قال مالك: لا بأس بالتجارة في أموال اليتامى لهم إذا كان الولي مأمونا فلا أرى عليه ضمانا قلت: وعليه الشافعي في المنهاج وله أي للولي بيع ماله بقرض ونسيئة للمصلحة ويزكي ماله وينفق عليه بالمعروف.   1 أي جامع يقال مال مؤثل ومجد مؤثل أي مجموع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 كتاب اللُّقطة "من وجد لُقطة فليعرف عفاصها" وهو الوعاء الذي تكون فيه من جلد أو خرقة أو غير ذلك من العفص وهو الثني والعطف وبه سمي الجلد الذي يكون على رأس القارورة "ووكاءها" وهو الخيط الذي يشد به الوعاء قيل: فائدة المعرفة أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 لو ادعاها أحد ووصفها إليه وقيل: أن لا تختلط بماله اختلاطا لا يمكن معه التمييز إذا جاء مالكها في شرح السنة قال الشافعي: إذا عرف الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن ووقع في نفسه أنه صادق فله أن يعطيه ولا أجبره عليه إلا ببينة لأنه قد يصيب الصفة بأن يسمع الملتقط يصفها وفي الهداية فإن أعطى علامتها حل للملقتط أن يدفعها إليه ولا يجبر على ذلك في القضاء انتهى "فإن جاء صاحبها دفعها إليه" لحديث عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل أو ليحفظ عفاصها ووكاءها فإن جاء صاحبها فلا يكتم فهو أحق بها وإن لم يجيء صاحبها فهو مال الله يؤتيه من يشاء" أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود والنسائي وابن حبان وفي الصحيحين من حديث زيد بن خالد قال: "سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن لقطة الذهب والورق فقال: اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه وسأله عن ضالة الإبل فقال مالك: ولها دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها وسأله عن الشاة فقال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب " وفي لفظ لمسلم "فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك" وفي مسلم وغيره من حديث أبي بن كعب "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "عرفها فإن جاء أحد يخبرك بعدتها ووعائها ووكائها فأعطها إياه وإلا فاستمتع بها " فدل ما ذكرنا على أنه إذا جاء صاحبها دفعها إليه وفي إعلام الموقعين "قال يا رسول الله: فاللقطة يجدها في سبيل العامرة قال: عرفها حولا فإن وجدت باغيها فأدها إليه وإلا فهي لك قال: ما يوجد في الخراب قال: فيه وفي الركاز الخمس" ذكره أحمد وأهل السنن قال ابن القيم: والإفتاء بما فيه متعين وإن خالفه من خالفه فإنه لم يعارضه ما يوجب تركه انتهى "وإلا عرف بها حولا وبعد ذلك يجوز له صرفها ولو في نفسه ويضمن مع مجيء صاحبها" يعني إن جاء صاحبها بعد ذلك عرفها له إن كان قد أتلفها وأرجعها بعينها إن كانت باقية كما يفيده قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه" وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب التعريف بعد الحول وقد ورد في لفظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 للبخاري من حديث أبيّ ما يدل على أن التعريف يجب بعد الحول ولفظه قال: وجدت صرة فيها مائة دينار فأتيت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: "عرفها حولا" فعرفتها فلم أجد من يعرفها ثم أتيته ثانيا فقال: "عرفها حولا" فلم أجد ثم أتيته ثالثا فقال: "احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فاستمتعت بها فلقيته بعد بمكة" وقد وقع الاختلاف بين الحفاظ في هذه الرواية فعن بعضهم أن الزيادة على العام غلط كما جزم بذلك ابن حزم قال ابن الجوزي: والذي يظهر لي أن سلمة أخطأ فيها ثم ثبت واستمر على عام واحد وجمع بعضهم بأن الزيادة على العام محمولة على مزيد الورع والكلام في ذلك يطول والمراد بقوله في الحديث "ولتكن وديعة عندك" أنه يجب ردها فتجوز بذكر الوديعة عن وجوب الرد لعوضها بعد الاستنفاق بها قال في المسوى: قوله "عرف سنة "عليه الشافعي وأبو حنيفة وخص منه الحقير لحديث علي أنه التقط دينارا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعرفه وفي المنهاج والأصح أن الحقير لا يعرف سنة بل زمنا يظن أن صاحبه يعرضه عنه غالبا وفي الوقاية عرفت مدة لا تطلب بعدها ولقطة مكة المكرمة زادها الله شرفا أشد تعريفا من غيرها لما ثبت في الصحيح أنها لا تحل لقطة مكة إلا لمعرف مع أن التعريف لا بد منه في لقطة مكة وغيرها فحمل ذلك على المبالغة في التعريف لأن الحاج قد يرجع إلى بلده ولا يعود فاحتاج الملتقط لها إلى المبالغة في التعريف وقد قيل في التعريف وقد قيل غير ذلك ولا بأس بأن ينتفع المُلتقط بالشئ الحقير كالعصا والسوط ونحوهما بعد التعريف به ثلاثا " لما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث جابر قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به وفي إسناده المغيرة بن زياد وفيه مقال وقد وثقه وكيع وابن معين وابن عدي وفي الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق فقال: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها" وقد أخرج أحمد والطبراني والبيهقي من حديث يعلى بن مرة مرفوعا "من التقط لقطة يسيرة حبلا أو درهما أو شبه ذلك فليعرفها ثلاثة أيام فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام" زاد الطبراني "فإن جاء صاحبها وإلا فليتصدق بها" وفي إسناده عمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 بن عبد الله بن يعلى وهو ضعيف وأخرج عبد الرزاق من حديث أبي سعيد "أن عليا جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بدينار وجده في السوق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عرفه ثلاثا ففعل فلم يجد أحدا يعرفه فقال كله " وأما إذا كان الشئ مأكولا فلا يجب التعريف به بل يجوز أكله في الحال لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في التمرة "وتُلتقط ضالة الدواب إلا الإبل" للحديث المتقدم عن زيد بن خالد وإلحاق سائر الدواب بالشاة لكونها مثلها في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" ولا يخرج من ذلك إلا الإبل كما صرح به صلى الله عليه وسلم ومما يفيد ذلك ما أخرجه مسلم من حديث زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأوي الضالة إلا ضال ما لم يعرفها" فإن الضالة تصدق على الشاة وغيرها وقد قيد ذلك بالتعريف فدل على جواز الالتقاط وخرجت الإبل بالحديث الآخر في المنهاج والحيوان الممتنع من صغار السباع بقوة أو بعدو أو طيران إن وجد بمفازة فللقاضي التقاطه ويحرم التقاطه للتملك وإن وجد بقرية فالأصح جواز التقاطه للتملك وما لا يمتنع منها كشاة يجوز التقاطه في القرية والمفازة ولا فرق عند أبي حنيفة بين أن يكون بهيمة أو غيرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 كتاب القضاء من يصح منه القضاء ... كتاب القضاء "إنما يصح قضاء من كان مجتهدا" لما في الكتاب العزيز من الأمر بالقضاء بالعدل والقسط وبما أراه الله ولا يعرف العدل إلا من كان عارفا بما في الكتاب والسنة من الأحكام ولا يعرف ذلك إلا المجتهد لأن المقلد إنما يعرف قوله إمامه دون حجته وهكذا لا يحكم بما أراه الله إلا من كان مجتهدا لا من كان مقلدا فما أراه الله شيئا بل أراه إمامه ما يختاره لنفسه ومما يدل على اعتبار الاجتهاد حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" أخرجه ابن ماجه وأبو داود والنسائي والترمذي والحاكم وصححه وقد جمع ابن حجر طرقه في جزء مفرد ووجه الدلالة منه أنه لا يعرف الحق إلا من كان مجتهدا وأما المقلد فهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 يحكم بما قال إمامه ولا يدري أحق هو أم باطل فهو القاضي للناس على جهل وهو أحد قاضيي النار ومن الأدلة على اشتراط الاجتهاد قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ} ولا يحكم بما أنزل الله إلا من يعرف التنزيل والتأويل ومما يدل على ذلك حديث معاذ لما بعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال له: "بما تقضي" قال: بكتاب الله قال: "فإن لم تجد" قال: فبسنة رسول الله قال: "فإن لم تجد" قال فبرأيي قال الماتن: وهو حديث مشهور قد بينت طرقه ومن خرجه في بحث مستقل ومعلوم أن المقلد لا يعرف كتابا ولا سنة ولا رأي له بل لا يدري بأن الحكم موجود في الكتاب أو السنة فيقضي به أو ليس بموجود فيجتهد برأيه فإذا ادعى المقلد أن حكم برأيه فهو يعلم أنه يكذب على نفسه لاعترافه بأنه لايعرف كتابا ولاسنة فإذا زعم أنه حكم برأيه فقد أقر على نفسه أنه حكم بالطاغوت وللسيد العلامة محمد بن إسمعيل الأمير رسالة مستقلة في تيسير الاجتهاد سماها إرشاد النقاد فليرجع إليها1 أقول الحاصل أن المقلد ليس ممن يعقل حجج الله إذا جاءته فضلا عن أن يعرف الحق من الباطل والصواب من الخطأ والراجح من المرجوح لا ينبغي أن ينسب المقلد إلى العلم مطلقا ولهذا نقل عضد الدين الإجماع على أنه لا يسم المقلد عالما وأما ما صار يستروح إليه من جوز قضاء المقلد من قلة المجتهدين في الأزمنة الأخيرة وأنه لو لم يل القضاء إلا من كان مجتهدا لتعطلت الأحكام فكلام في غاية السقوط فالمجتهدون في كل قطر ولكنهم في زمان غربة فمنهم من يخفي اجتهاده مخافة صولة المقصرين ومنهم من يحتقره المقلدون عن أن يكون مجتهدا لضيق إعطائهم وحقارة عرفانهم وتبلد أذهانهم وجمود قرائحهم وخمود أفكارهم ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهله ولقد عرفت مشايخي الذين أخذت عنهم العلم فأكثرهم مجتهدون وفي مدينة صنعاء من المجتهدين من يستغنى به عن القضاة المقلدين في جميع الأقطار اليمنية مع أنه لا يسلم لهم الاجتهاد إلا من كان مثلهم أو مقاربا لهم وأما أسراء التقليد فهيهات أن يذعن واحد واحد منهم لأحد بالاجتهاد مع أن العلوم المعتبرة في الاجتهاد عند هؤلاء المقلدين هي العلوم الخمسة المذكورة في كتب أصول الفقه وهي بالنسبة إلى ما يحفظ من وصفناه من المجتهدين شيء يسير قال الماتن رحمه الله: ومن غريب ما أحكيه لك أنه لما كثر الخلط من قضاة حضرة الخلافة استأذنت الخليفة   1 وقد وفقنا الله إلي طبعها في مجموعة الرسائل المنبرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 حفظه الله في جمعهم لقصد ترغيبهم في العدل وترهيبهم عن الجور فاجتمع منهم نحو أربعين قاضيا فسألتهم عن شئ مما يتعلق بشروط القضاء المدونة في كتب الفروع فلم يهتد أحد منهم إلى الجواب على وجه الصواب بل اعترفوا جمعيا بالقصور عن فهم دقائق التقليد فضلا عن معرفة علوم الاجتهاد أو بعضها وليت أنهم إذا قصروا لم يقصروا في الورع فإن الورع يردع صاحبه عن المجازفة ويرشده إلى أن شفاء العي السؤال ويكفه عن التسلق لأموال المسلمين ويرده عن التسرع إليها بأدنى شبهة ولعمري أن القاضي إذا جمع بين الجهل وعدم الورع أشد على عباد الله من الشيطان لأنه يقضي بين الناس بالطاغوت موهما لهم أنه إنما يقضي بينهم بالشريعة المطهرة ثم ينصب الجبائل لاقتناص أموالهم ويأكلها بالباطل ولا سيما أموال اليتامى والنساء اللهم أصلح عبادك وتداركهم من كل ما لا يرضيك انتهى فإن قلت حديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعث عليا إلى اليمن قاضيا فقال يا رسول الله: بعثتني بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء قال: فضرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في صدري وقال: اللهم اهده وثبت لسانه قال علي فوالذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين" أخرجه أهل السنن وغيرهم هل يدل على جواز قضاء من ليس بمجتهد لقوله "أنا شاب ولا أدي ما القضاء" قلت من تمسك بهذا فليأتنا برجل يدعو للقاضي الذي لا علم له بالقضاء بمثل هذه الدعوة النبوية حتى لا يشك بعدها كما لم يشك علي كرم الله وجهه بعد تلك الدعوة فإذا فعل هذا لنحن لا نخالفه والكلام على هذه المسألة يحتمل البسط وقد قضينا عنها الوطر في كتابنا ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي فليراجع فإن فيه ما يشفي العليل ويهد إلى سواء السبيل "متورِّعاً عن أموال الناس عادلا في القضية حاكما بالسوية" لكون من لم يتورع عن أموال الناس لا يتورع عن الرشوة وهي تحول بينه وبين الحق كما سيأتي وهكذا من لم يكن عادلا لجرأة فيه أو مداهنة أو محاباة فهو يترك الحق وهو يعلم به فهو أحد قضاة النار لأنه عرف الحق وجار في الحكم قال في الحجة البالغة: أقول لا يستوجب القضاء إلا من كان عدلا بريئا من الجور والميل وقد عرف منه ذلك وعالما يعرف الحق لا سيما في مسائل القضاء والسر في ذلك واضح فإنه لا يتصور وجود المصلحة المقصودة إلا بها أقول: وأما توليه القضاء من جهة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 الظلمة فالسلطان الذي أوجب الله طاعته في كتابه العزيز وتوافرت الأحاديث الصحيحة بذلك هو من كان مسلما لم يفعل ما يوجب كفرا بواحا1 وكان مقيما لأعظم أركان الإسلام وأجل شعائره وهو الصلاة فهذا هو السلطان الذي تجب على الناس طاعته وامتثال أوامره ويحرم عليهم أن ينزعوا أيديهم في طاعته ولكن بشرط أن لا يكون ما يأمر به معصية لما ثبت "أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" وأن الطاعة في المعروف فإذا أمر بما هو من الطاعة وجب الامتثال وأمره للعالم بأن يكون قاضيا هو أمر بطاعة يجب امتثاله بنص الكتاب والسنة ولا يقدح في ذلك كونه مرتكبا لشئ مما لا يحل له أو يظلم الرعية في بعض ما لا يحل له فإن ذلك أمر آخر لا يوجب سقوط طاعته ونعم القدوة السلف الصالح فقد كانوا يعملون لسلاطين بني أمية الأعمال ويلون لهم القضاء مع كونهم في العلم والعمل بمكان لا يجهله أحد وسلاطين تلك الأزمنة فيهم من يستحل الدماء بغير حقها والأموال بدون حلها نعم القضاء قد ورد فيه ما يدل على الترغيب تارة والترهيب أخرى بل ورد في الإمارة التي هي أعم من القضاء ما يشعر بأن تجنبها أولى والجمع بين الأحاديث فيما يظهر لي يرجع إلى الأشخاص فمن علم من نفسه القيام بالحق والصدع به وعدم الضعف في الأمر وقوة الصلابة في القضاء والعفة عن الأموال والتسوية بين القوي والضعيف فالدخول في القضاء أولى له إن لم يكن واجبا عليه بشرط أن يكون في العلم على الصفة التي قدمنا ذكرها ومن كان يضعف عن هذه الأوصاف فالترك أولى به وقد يجب عليه الترك ومما يرشد إلى هذا قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأبي ذر: "إني أراك ضعيفا" ثم أرشده إلى عدم الدخول في الإمارة كما ثبت ذلك في الحديث المشهور وقد أوضحت المقام في رسالتي في القضاء وبسطت المقال على مسائل الإمامة في كتابي إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة وهما هما في هذين البابين والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهو المستعان وبه التوفيق ويحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه لحديث عبد الرحمن بن سمرة في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي   1 بفتح الباء والواو أي جهارا من باح بالشئ إذا أعلنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وحسنه من حديث أنس قال: "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن جبر عليه ينزل عليه ملك يسدده " وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة" ولا ينافي هذه الأحاديث ما أخرجه أبو داود بإسناد لا مطعن فيه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله النار" لأن إثم الطلب قد لزمه بالطلب وحصل له الثواب بعد ذلك بالعدل الغالب على الجور قال الماتن في نيل الأوطار: وقد كثر التتابع من الجهلة في هذا المنصب الشريف واشتروه بالأموال ممن هو أجهل منهم حتى عمت البلوى بهم جميع الأقطار اليمنية اهـ قلت: ومثل ذلك وقع في الحرمين الشريفين من جهة الترك فإنا لله وإنا إليه راجعون "ولا يحل للإمام تولية من كان كذلك" أي حريصا على القضاء أو طالبا له لحديث أبي موسى في الصحيحين قال: "دخلت على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال: أحدهما يارسول الله أمِّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل وقال الآخر مثل ذلك فقال: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا يسأله أو أحدا يحرص عليه" والسر فيه أن الطالب لا يخلو غالبا من داعية نفسانية من مال أو جاه أو التمكن من انتقام عدو ونحو ذلك فلا يتحقق منه خلوص النية الذي هو سبب نزول البركات. أقول: وأما أخذ الرزق على القضاء فمال الله موضوع لمصالح المسلمين ولهذا قيل له بيت مال المسلمين ومن أعظم مصالح دينهم ودنياهم القاضي العادل في أحكامه العارف من الشريعة المطهرة بما يحتاج إليه في حله وإبرامه بل ذلك هو المصلحة التي لا توازنها مصلحة لأنه يرشدهم إلى مناهج الشرع ويفصل خصوماتهم بأحكام الله فهو المحتمل لأعباء الدين المترجم عنه لمن يحتاج إليه من المسلمين فرزقه من بيت المال من أهم الأمور ولا سيما إذا استغرق أوقاته في فصل خصوماتهم فقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدون ومن بعدهم من السلف الصالح يقسمون أموال الله بين المسلمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 ويجعلون للعلماء نصيبا موفرا فالقاضي إذا كان متورعا عن أموال العباد قائما بمصالح الحاضر منهم والباد فقد استحق ما يكفيه من بيت المال من جهات منها كونه من المسلمين ومنها كونه عالما ومنها كونه قاضيا وأما ما اعتاده جماعة من القضاة من أخذ الأجرة من الخصوم على الرقوم فمن كان مكفيا من بيت مال المسلمين لا يحل له ذلك لأنه قد قبض أجرته من بيت المال وإن أظهر من يأتيه أن نفسه طيبة به فالذي أوجب طيبها كونه قاضيا وكون الأعراف قد جرت بمثل ذلك وإلا فهو لا يسمح له بماله لو لم يكن كذلك وهذا مما لا شك فيه ولا شبهة وأما إذا لم يكن مكفيا من بيت المال فشرط الحل أن يأخذ مقدار أجرته بطيبة من نفس من يقصده ويكون كالأجير له حكمه لكونه غير مؤجر من بيت مال المسلمين "ومن كان متأهِّلاً للقضاء فهو على خطر عظيم" لحديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي والحاكم والبيهقي والدارقطني وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين" قال في الحجة البالغة: هذا بيان أن القضاء حمل ثقيل وأن الإقدام عليه مظنة للهلاك إلا أن يشاء الله انتهى وأخرج أحمد وابن ماجه والبيهقي من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "ما من حكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيام وملك آخذ بقفاه حتى يقف به على جهنم ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل فإن قال ألقه ألقاه في مهوي فهوى أربعين خريفا" وفي إسناده عثمان بن محمد الأخنسي وفيه مقال1 وأخرج ابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم في المستدرك وابن حبان من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار وكله إلى نفسه" وفي لفظ الترمذي: "فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان" وفي الباب أحاديث مشتملة على الترهيب وأحاديث مشتملة على الترغيب وقد استوفاها الماتن في شرح المنتقى "وله مع الإصابة أجران ومع الخطأ أجر إن لم يأل جهدا في البحث" يعني بذل طاقته في اتباع الدليل وذلك لأن التكليف بقدر الوسع وإنما وسع الإنسان أن يجتهد وليس في وسعه أن يصيب الحق البتة ودليله حديث عمرو بن العاصي الثابت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم "إذا اجتهد الحاكم فأصاب"   1 وثقه ابن معين والبخاري وابن حبان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " وقد ورد في روايات "أنه إذا أصاب فله عشرة أجور" وتحرم عليه الرشوة" وفي الأنوار في تفسير الرشوة وجهان: الأول أن الرشوة هي التي يشترط على قابلها الحكم بغير الحق أو الامتناع عن الحكم بالحق والثاني بذل المال لأحد ليتوسل بجاهه إلى أغراضه إذا كان جاهه بالقضاء والعمل فذلك هو الرشوة ويحرم على الرعية إعطاء الرشوة للحكام ليتوسلوا بذلك إلى ظلم ويحرم على الحكام أخذها قال الله تعالى: {َلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} كذا في المسوى وروى مالك بإسناده أن عبد الله بن رواحة قال: ليهود خيبر: "فأما ما عرضتم من الرشوة فإنما هي سحت وإنا لا نأكلها "والهدية التي أُهديت إليه لأجل كونه قاضيا" لحديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه وابن حبان والطبراني والدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو كحديث أبي هريرة وأخرج أحمد والحاكم من حديث ثوبان قال: "لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي والرائش" يعني الذي يمشي بينهما وفي إسناد ليث بن أبي سليم قال البزار: إنه تفرد به وفي إسناده أيضا أبو الخطاب قيل: وهو مجهول وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف عند الحاكم وعن عائشة وأم سلمة أشار إليهما الترمذي وقد أجمع أهل العلم على تحريم الرشوة وقد استدل على تحريم الرشوة بقوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} كما روي عن الحسن وسعيد بن جبير أنهما فسرا الآية بذلك وحكي عن مسروق عن ابن مسعود أنه لما سئل عن السحت أهو الرشوة فقال: لا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ} ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمته فيهدي لك فإن أهدى لك فلا تقبل "وقد سبق حديث في هذا المعنى في كتاب الهدايا ويدل على تحريم الهدية التي أهديت للقاضي لأجل كونه قاضيا حديث "هدايا الأمراء غلول" أخرجه البيهقي وابن عدي من حديث ابن حميد قال ابن حجر: وإسناده ضعيف ولعل وجه الضعف أنه من رواية اسمعيل بن عياش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 عن أهل الحجاز وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة قال ابن حجر: وإسناده أشد ضعفا وأخرجه سنيد بن داود في تفسيره من حديث جابر وفي إسناده إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف وأخرجه الخطيب في تلخيص المتشابه من حديث أنس بلفظ "هدايا العمال سحت" وأخرج أبو داود من حديث بريدة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بلفظ "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول" وقد بوب البخاري في أبواب القضاء باب هدايا العمال وذكر فيه حديث ابن اللتبية المشهور1 ومما يؤيد ذلك أن الهدية للقاضي لأجل كونه قاضيا نوع من الرشوة عاجلا أو آجلا قال ابن القيم: أما الهدية للقاضي ففيها تفصيل فإن كانت بغير سبب الفتوى كم عادته يهاديه أو من لا يعرف أنه مفت فلا بأس بقبولها والأولى أن يكافىء عليها وإن كانت بسبب الفتوى فإن كانت سببا إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له لم يجز له قبول هديته لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء وأما أخذ الرزق من بيت المال فإن كان محتاجا إليه جاز له ذلك وإن كان غنيا عنه ففيه وجهان: وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة وعامل اليتيم فمن ألحقه بعامل الزكاة قال النفع فيه عام فله الأخذ ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ وحكم القاضي في ذلك حكم المفتي بل القاضي أولى بالمنع وأما أخذ الأجرة فلا يجوز لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله فلا تجوز المعارضة عليه كما لو قال: لا أعلمك الإسلام والوضوء والصلاة إلا بأجرة أو سئل عن حلال أو حرام فقال للسائل: لا أجيبك عنه إلا بأجرة فهذا حرام قطعا ويلزمه رد العوض ولا يملكه انتهي "ولا يجوز له الحكم حال الغضب" لحديث أبي بكرة في الصحيحين وغيرهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان" ولا يعارض هذا حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه في الصحيحين وغيرهما "أنه اختصم هو وأنصاري فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى أخيك" فغضب الأنصاري ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" لأن   1 انظر فتح الباري 13 ص 132 – 125. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 النبي صلى الله عليه وسلم معصوم في غضبه ورضائه بخلاف غيره فإن الغضب يحول بينه وبين الحق ويختلط حال الغضب ويتشوش خاطره ويتكدر ذهنه ويذهل عن الصواب فلا يصلح الاستدلال بقضائه صلى الله عليه وسلم حال غضبه لهذا الفرق فالحق أن حكم الحاكم حال الغضب حرام وأما كونه يصح أو لا يصح فينبغي النظر في نفس الحكم فإن كان واقعا على الصواب فالاعتبار بذلك ومجرد صدوره حال الغضب لا يوجب بطلانه وهو صواب وإن كان واقعا على خلاف الصواب فهو باطل وإذا التبس الأمر هل هو صواب أو خطأ كما يحصل الاشتباه في كثير من مسائل الخلاف فالاعتبار بما رآه الحاكم صوابا لأنه متعبد باجتهاده فإن وجد حكمه الواقع حال الغضب بعد سكون غضبه صحيحا موافقا لما يعتقده حقا فهو صحيح لازم للمحكوم عليه وإن كان آثما بإيقاع الحكم حال الغضب كما تقدم فلا ملازمة بين الإثم وبطلان الحكم ثم ظاهر النهي التحريم وقد ذهب الجمهور إلى أنه يصح حكم الغضبان أن وافق الحق قال ابن القيم: ليس للمفتي الفتوى في حال غضب شديد أو جوع مفرط أو هم مقلق أو خوف مزعج أو نعاس غالب أو شغل قلب مستول عليه أو حال مدافعة الأخبثين بل متى أحس منه نفسه شيئا من ذلك يخرجه عن حال اعتداله وكمال نيته وبنيته أمسك عن الفتوى فإن أفتى في هذه الحال بالصواب صحت فتياه ولو حكم في هذه الحال فهل ينفذ حكمه أولا ينفذ فيه ثلاثة أقوال: النفوذ وعدمه والفرق بين أن يعرض له الغضب بعد فهم الحكومة فينفذ وبين أن يكون سابقا على فهم الحكومة فلا ينفذ في مذهب الإمام أحمد "وعليه التسوية بين الخصمين إلا إذا كان أحدهما كافرا" لحديث علي عند أبي أحمد الحاكم في الكنى أنه جلس بجنب شريح في خصومة له مع يهودي فقال: لو كان خصمي مسلما جلست معه بين يديك ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تساووهم في المجالس" وقد قال أبو أحمد الحاكم بعد إخراجه إنه منكر وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه وقال: لا يصح ورواه البيهقي من وجه آخر من طريق جابر الجعفي عن الشعبي قال: خرج علي إلى السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعا فعرف علي الدرع وذكر الحديث وفي إسناده عمرو بن سمرة عن جابر الجعفي وهما ضعيفان وأخرج أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه من حديث عبد الله بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 الزبير قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم" وفي إسناده مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير وهو ضعيف "والسماع منهما قبل القضاء" لحديث علي عند أحمد وأبي داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء " وللحديث طرق "و" يجب عليه "تسهيل الحجاب" لحديث عمرو بن مرة عند أحمد والترمذي والحاكم والبزار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة1 والمسكنة إلا غلق الله باب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته" وأخرج أبو داود والترمذي من حديث أبي مريم الأزدي مرفوعا بلفظ "من تولى شيئا من أمر المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته" قال ابن حجر في الفتح: إن سنده جيد وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس بلفظ "أيما أمير احتجب عن الناس فأهمهم احتجب الله عنه يوم القيامة" قال ابن أبي حاتم هو حديث منكر "بحسب الإمكان" لأنه لنفسه عليه حقا ولأهله عليه حقا فلا يلزمه استيعاب كل أوقاته فإن ذلك يكدر ذهنه ويشوش فهمه ولا يحتجب كل أوقاته فإن ذلك ظلم لأهل الخصومات وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أنه كان بوابا للنبي صلى الله عليه وسلم لما جلس على قف2 البئر وثبت في الصحيح أيضا في قصة حلفه أن لا يدخل على نسائه شهرا "أن عمر استأذن له الأسود لما قال له يا رباح استأذن لي "وقد ثبت في الصحيح أيضا "أنه كان لعمر حاجب يقال له يرفأ "ويجوز له اتخاذ الأعوان مع الحاجة" لما ثبت في البخاري من حديث أنس "أن قيس بن سعد كان يكون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير "وقد يجب عليه ذلك إذا كان لا يمكنه إنفاذ الحق ودفع الباطل إلا بهم "و" يجوز للحاكم "الشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح" لحديث كعب بن مالك في الصحيحين وغيرهما "أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما"   1 الخلة بفتح الىلخاء الحاجة والفقر 2 قف البئر – بببضم القاف – هو الدكة التي تجعل حولها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى يا كعب فقال: لبيك يارسول الله قال: ضع من دينك هذا وأومأ إليه أي الشطر قال: قد فعلت يا رسول الله قال: قم فاقضه " وهذا الحديث فيه دليل على ما ذكرناه من الشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح لأنه شفاعة بمن عليه الدين باستيضاع من له الدين بعضه وفيه إرشاد إلى الصلح أيضا وقد سبق في كتاب الصلح ما يدل على مشروعيته من الكتاب والسنة والقاضي داخل في عموم الأدلة "وحكمه ينفذ ظاهرا فقط" لحديث أم سلمة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ فإنما أقطع له قطعة من النار" وقد حكى الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام قال النووي: والقول أن حكم الحاكم يحلل ظاهرا وباطنا مخالف لهذا الحديث الصحيح وللإجماع المذكور وبالجملة فلا وجه لما ذهبت إليه الحنفية من أن حكم الحاكم ينفذ ظاهرا وباطنا ويحلل الحرام وقد جاؤا في هذا المقام بما لا يتفق على من له في العلم قدم وتفصيل ذلك في نيل الأوطار ومسك الختام واللحن مفتوحة الحاء الفطنة يقال: لحنت للشئ بكسر الحاء ألحن له لحنا أي فطنت وأما اللحن بسكون الحاء فهو الخطأ قال في المسوى: اتفق أهل العلم على أن القضاء في الدماء والأملاك المطلقة لا ينفذ إلا ظاهرا واختلفوا في العقود والفسوخ فذهب أبو حنيفة إلى أنه ينفذ القضاء فيها ظاهرا وباطنا حتى لو شهد شاهدان زورا أن فلانا طلق امرأته فقضى به القاضي وقعت الفرقة بينهما بقضائه ويجوز لكل من الشاهدين أن ينكحها وقال الشافعي لا ينفذ باطنا وأما المسائل المختلف فيها مثل أن يقضي حنفي بشعفة الجار لرجل لا يعتقد ثبوتها أو مات رجل عن جد وأخ فقضى القاضي بالميراث للجد على مذهب الصديق رضي الله تعالى عنه والمحكوم له يرى رأي زيد أو مات رجل عن خال لا يرى توريث ذوي الأرحام فقضى له القاضي بالمال فأكثر أصحاب الشافعي على أنه ينفذ ظاهرا وباطنا لأنه أمر مجتهد فيه لا يتصور ظهور الخطأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 موضوع عن الآخر لكونه معذورا فيه وعليه أكثر أهل العلم وفي الحديث دليل على أن بينة المدعي مسموعة بعد يمين المدعى عليه وعليه الشافعي1 انتهى "فمن قضي له بشئ فلا يحل له إلا إذا كان الحكم مطابقا للواقع" لما تقرر أن حكم الحاكم ظني سواء تعلق بمحكوم فيه قطعي أو ظني في إيقاع أو وقوع فلا ينفذ إلا ظاهرا لا باطنا فلا يحل به الحرام ولا يحرم به الحلال للمحكوم له والمحكوم عليه ولكنه يجب امتثاله بحكم الشرع ويجبر من امتنع منه فإن كان المحكوم له يعلم بأن الحكم له بباطل لم يحلل له قبوله ولا يجوز له استحلاله بمجرد حكم الحاكم من غير فرق ومن قال ينفذ حكم الحاكم ظاهرا وباطنا فمقالته باطلة وشبهتها داحضة وقد دفعها الله عز وجل في كتابه العزيز بقوله {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ودفعها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقوله: "فمن قضيت له بشئ من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" هذا على تقرير أنهم يعممون المسألة في الأموال وغيرها والذي في كتبهم تخصيص ذلك بما عدا الأموال ولا يختلف في هذا من يقول بأن كل مجتهد مصيب ومن لا يقول بذلك لأن القائل بالتصويب لا يريد بذلك أن المجتهد قد أصاب ما في نفس الأمر وما هو الحكم عند الله عز وجل وإنما يريد أن حكمه في المسألة هو الذي كلف به وإن كان خطأ في الواقع ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن اجتهد فأصاب فله أجران" فجعله مصيبا تارة ومخطئا أخرى ولو كان مصيبا دائما لم يصح هذا التقسيم النبوي وبهذا نعرف أن المراد بقول من قال: كل مجتهد مصيب أنه أراد من الصواب الذي لا ينافي الخطأ لا من الإصابة التي تنافيه والله أعلم.   1 أين الاستدلال على هذا في الحديث الذي سبق. وسيأتي في آخر كتاب الخصومة اختيار المصنف والشارح عدم قبول البينة بعد اليمين ولم يأت هناك بشئ من الأحاديث للاستدلال على أحد القولين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 كتاب الخصومة "على المُدَّعي البيِّنة" لقوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه" كما في الصحيحين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 من حديث الأشعث بن قيس وأخرج مسلم من حديث وائل بن حُجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للكندي: "ألك بينة؟ " قال: لا قال: "فلك يمينه" "وعلى المنكر اليمين" لحديث ابن عباس في الصحيحين "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه"وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح بلفظ "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وأخرج ابن حبان من حديث ابن عمر نحوه وأخرج الترمذي من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده نحوه وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وروي عن مالك أنه لا يتوجه اليمين إلا على من يبنه وبين المدعي اختلاط لئلا يبتذل أهل السفه أهل الفضل وهو رد للرواية بمحض الرأي "ويحكم الحاكم بالإقرار" وليس في ذلك خلاف ودلالة الكتاب العزيز على لزوم حكم الإقرار للمقر وفيه من ذلك الكثير الطيب فإن الله سبحانه رتب في كتابه العزيز أحكاما وعقوبات على حصول أمور هي إقرارات وإن لم يذكر فيها لفظ الإقرار وهو أقوى مستندات الحكم إذا لم يكن معلوم البطلان ولزوم المقر لما أقر به وجواز الحكم للحاكم بإقراره لا يحتاج إلى إيراد الأدلة عليه فقد كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يسفك به الدماء ويقيم الحدود ويقطع الأموال بل اكتفى به في أعظم الأمور وهو الرجم كما وقع من المقر عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كما في حديث "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وهو في الصحيح كما سيأتي فكيف بالإقرار فيما هو أخف من الرجم "و" الحكم "بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين" لنص القرآن الكريم وليس في ذلك خلاف إذا كان الشهود مرضيين كما قال تعالى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} أو رجل ويمين المدعي" لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد"وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي والبيهقي من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد"وهو من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وقد روي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق"أخرجه أحمد والدارقطني وقد صحح حديث جابر أبو عوانة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وابن خزيمة وأخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث أبي هريرة قال:" قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد"ورجال إسناده ثقات وصححه أبو حاتم وأبو زرعة وأخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث سرق ورجاله رجال الصحيح إلا الراوي له عن سرق فإنه مجهول وقد ذكر ابن الجوزي في التحقيق عدد من روى هذا الحديث يعني حكمه صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين من الصحابة فزاد على عشرين صحابيا وإليه ذهب الجمهور من الصحابة فمن بعدهم ويروى عن زيد بن علي والزهري والنخعي وابن شبرمة والحنفية أنه لا يجوز الحكم بشاهد ويمين وأحاديث هذا الباب ترد عليهم قلت: قال مالك في الموطأ مضت السنة في القضاء باليمين مع الشاهد الواحد يحلف صاحب الحق مع شاهده ويستحق حقه فإن نكل أو أبى أن يحلف أُحلف المطلوب فإن حلف سقط عنه ذلك الحق وإن أبى أن يحلف ثبت عليه الحق لصاحبه قال مالك: وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة ولا يقع ذلك في شئ من الحدود ولا في نكاح ولا في طلاق ولا في عتاقة ولا في سرقة ولا في فرية قال مالك: ومن الناس من يقول لا يكون اليمين مع الشاهد الواحد ويحتج بقول الله تبارك وتعالى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} يقول: فإن لم يأت برجل وامرأتين فلا شئ له ولا يحلف مع شاهده قال مالك: فمن الحجة على من قال ذلك القول أن يقال له أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل مالا أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه فإن حلف بطل ذلك عنه وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق إن حقه لحق وثبت حقه على صاحبه فهذا مالا اختلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلدان فبأي شئ أخذ هذا وفي أي كتاب الله وجده فإذا أقر بهذا فليقر باليمين مع الشاهد وإن لم يكن ذلك في كتاب الله وإنه ليكفي ذلك ما مضى من السنة ولكن المرء قد يحب أن يعرف وجه الصواب وموقع الحجة ففي هذا يجيء بيان إن شاء الله تعالى قال في المسوى: وعلى هذا أهل العلم إلا مسألة القضاء بالشاهد الواحد مع يمين المدعي في الأموال خاصة قال الشافعي: يجوز ذلك وقال أبو حنيفة: لا يجوز وقد قال تعالى في حد القذف: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وقال في الطلاق: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقال في الدَّين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو عامل على الكوفة أن اقض باليمين مع الشاهد وإن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار سئلا هل يقضى باليمين مع الشاهد فقالا نعم. والحاصل أن شهود الزنا أربعة وشهود سائر الحقوق اثنان وشهود الأموال رجلان أو رجل وامرأتان فإن لم يتيسر قضي بيمين المدعي مع الشاهد الواحد أقول: الحق أن الحكم بالشاهد العدل واليمين واجب وقد ثبت ذلك في السنة ثبوتا لا ينكره إلا من لا يعرف السنة وجملة من رواه من الصحابة زيادة على عشرين رجلا وللمانعين من ذلك أجوبة خارجة عن الإنصاف وأشف ما تمسكوا به أن الله تعالى أمر بإشهاد رجلين وقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "شاهداك أو يمينه " ولا يخفاك أنه ليس في ذلك ما يفيد الحصر بل غاية ما فيه أن مفهومه يدل على عدم قبول الشاهد الواحد مع اليمين ولا حكم لهذا المفهوم مع وجود المنطوق وهو القضاء بالشاهد واليمين مع أن هذا المفهوم هو مفهوم لقب وهو مما لا يعمل به نحارير الأصول كما ذلك معروف وقد استوفى الماتن حجج الجميع في شرح المنتقى فليرجع إليه "و" يجوز الحكم "بيمين المنكر" لما قدمنا من أن اليمين على المنكر وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث وائل بن حُجر أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال للكندي: "ألك بينة" قال: لا قال: "فلك يمينه" فقال: يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شئ فقال "ليس لك منه إلا ذلك" "ويجوز الحكم بيمين الرد" لأن من عليه الحق قد رضي بها سواء قلنا إنها تجب على المدعي عند ردها من المنكر أم لا وقد استدل من لم يجعلها مستندا بمفهوم الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن اليمين على المدعي عليه" كما في بعض ألفاظ حديث ابن عباس عند مسلم وغيره ولقوله في حديث وائل: "ليس لك منه إلا ذلك"ولكن هذا إنما يفيد أنها لا تجب على المدعي إذا ردها المنكر وأما أنه يفيد عدم جواز الحكم بيمين الرد إذا طلبها المنكر ورضي بها وقبل ذلك المدعي فحلف فلا وأما ما رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 فلو صح لكان صالحا لتخصيص ما تقدم ولكن في إسناده محمد بن مسروق وهو غير معروف وفي إسناده أيضا اسحق بن الفرات وفيه مقال وقد أشار القرآن الكريم إلى رد اليمين بقوله: {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} ولكن فيه احتمال إذ يمكن أن يكون المراد برد اليمين عدم قبولها وأما النكول فلا يجوز الحكم به لأن غاية ما فيه أن من عليه اليمين بحكم الشرع لم يقبلها ويفعلها وعدم فعله لها ليس بإقرار بالحق بل ترك لما جعله الشارع عليه بقوله "ولكن اليمين على المدعى عليه" فعلى القاضي أن يلزمه بعد النكول عن اليمين بأحد الأمرين: إما اليمين التي نكل عنها أو الإقرار بما ادعاه المدعي وأيهما وقع كان صالحا للحكم به كما مر "و" يجوز الحكم "بعلمه" لأن ذلك من العدل والحق اللذين أمر الله بالحكم بهما وليس في الأدلة ما يدل على المنع من ذلك وحديث "شاهداك أو يمينه" لا حصر فيه ومما يؤيده جواز الحكم بعلم الحاكم ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم للمدعي "ألك بينة" فإن البينة ما يتبين به الأمر وليس بعد العلم بيان بل هو أعلى أنواع البيان فإنه لا يحصل من سائر المستندات للحكم به إلا مجرد الظن بأن المقر صادق في إقراره والحالف بار في يمينه والشاهد صادق في شهادته وإذا جاز الحكم بمستند لا يفيد إلا الظن فكيف لا يجوز الحكم بالعلم واليقين وفي هذه المسألة مذاهب مختلفة وقد احتج أهل كل مذهب بحجج لا تصلح ولا تنطبق على محل النزاع وأقربها ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم من حديث أبي هريرة قال: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للمدعي: "أقم البينة" فلم يقمها فقال للآخر: "احلف" فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عنده شئ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد فعلت ولكن غفر لك بإخلاص لا إله إلا الله" وفي رواية الحاكم "بل هو عندك ادفع إليه حقه" وأما أقوال الصحابة فلا تقوم بها الحجة إلا إذا أجمعوا على ذلك عند من يقول بحجية الإجماع أقول: حكم القاضي بعلمه هذا هو الحق ومن منع من ذلك لم يأت بحجة واضحة وليس في الأدلة المقتضية لوجوب الشاهدين أو اليمين أو ما يقوم مقام أحدهما دليل يدل على انحصار مستند الحكم فيها ولا ريب أن الحاصل عن مثل الشهادة من عدلين أو يمين من ثقة أو نكول أو إقرار هو مجرد الظن للحاكم فقط لأن من الجائز أن يكذب الشاهدان ويفجر الحالف في يمينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 ويكذب المقر في إقراره وأما العلم فلا يكون إلا عن مشاهدة أو ما يقوم مقامها وهو أولى من الظن بلا نزاع وقد تقرر في الأصول أن فحوى الخطاب معمول به عند جميع المحققين وهذا منه فإن العلم أولى من الظن عقلا وشرعا ووجدانا والأدلة العامة شاملة له كالآيات التي ذكروها وتخصيص الحدود بقول عمر مما لا يرتضيه الإنصاف لأن المقام من مجالات الاجتهاد واجتهاده ليس بحجة علىغيره ودعوى الإجماع هي من تلك الدعاوى التي قد عرفناك بها غير مرة وقد حقق الماتن هذا البحث في شرح المنتقى بما لم أجده لغيره ولا تُقبل شهادة من ليس بعدل لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} الآية: وقد حكى في البحر الإجماع على أنها لا تصح شهادة فاسق قلت: شرط الشاهد كونه مسلما حرا مكلفا أي عاقلا بالغا ضابطا ناطقا عدلا ذا مروءة ليست به تهمة وعليه أكثر أهل العلم في الجملة غير أنهم اختلفوا في بعض التفاصيل فشهادة الذمي لا تقبل عند الشافعي على الإطلاق وقال أبو حنيفة: شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض جائزة وإن اختلفت مللهم وشهادة الصبيان لا تقبل عند الأكثرين إلا عند مالك في الجراح فيما بينهم خاصة مالم يصلوا إلى أهل بيتهم وأثر عبد الله بن الزبير أنه كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح معارض بقول ابن عباس إنها لا تجوز لأن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وحد العدالة أن يكون محترزا عن الكبائر غير مصر على الصغائر والمروءة هي ما تتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء وهي حسن الهيئة والسيرة والعشرة والصناعة فإذا كان الرجل يظهر من نفسه شيئا مما يستحيي أمثاله من إظهاره في الأغلب يعلم به قلة مروءته وترد شهادته وإن كان ذلك مباحا "ولا" تقبل شهادة الخائن ولا ذي العداوة وإن كان مقبول الشهادة على غيره لأنه متهم في حق عدوه ولا يؤمن أن تحمله عداوته على إلحاق ضرر به فإن شهد لعدوه تقبل إذا لم يظهر في عداوته فسق "والمتهم والقانع لأهل البيت" لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن أحمد وأبي داود والبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت ولأبي داود في رواية "ولا زان ولا زانية" قال ابن حجر في التلخيص: وسنده قوي والغمر بكسر المعجمة وسكون الميم بعدها راء مهملة الحقد أي لا تقبل شهادة العدو على العدو وأخرج الترمذي والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة مرفوعا بلفظ "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر لأخيه ولا ظنين1 ولا قرابة" وفي إسناده يزيد بن زياد الشافعي وهو ضعيف وقد أخرج الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر نحوه وفي إسناده عبد الأعلى وشيخه يحيى بن سعيد الفارسي وهما ضعيفان وأخرج أبو داود في المراسيل من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعث مناديا أنها لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين"ورواه البيهقي من طريق الأعرج مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة2 يعني الذي بينك وبينه عداوة"ورواه الحاكم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه مثله قال ابن حجر: وفي إسناده نظر والمراد بالمتهم هو من يظن به أنه يشهد زورا لمن يحابيه كالقانع والعبد لسيده وقد حكى في البحر الإجماع على عدم قبول شهادة العبد لسيده قال في المسوى: ولا تجوز شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده ويجوز عليهما وكذا لا تقبل شهادة من جر إلى نفسه نفعا كمن شهد لرجل بشراء دار وهو شفيعها أو شهد للمفلس واحد من غرمائه بدين على رجل أو شهد على رجل أنه قتل مورثه فهذه كلها مواضع التهمة واتفقوا على قبول شهادة الأخ للأخ وسائر الأقارب واختلفوا في شهادة أحد الزوجين لصاحبه فلم يجزها أبو حنيفة وأجازها الشافعي أقول: الحق أن القرابة بمجردها ليست بمانعة سواء كانت قريبة أو بعيدة إنما المانع التهمة فإذا كان القريب ممن تأخذه حمية الجاهلية ولا يردعه عن العصبية دين ولا حياء فشهادته غير مقبولة وإن كان على العكس من ذلك فشهادته مقبولة والأصل في المنع من قبول شهادة المتهم حديث "لا تقبل شهادة ذي الظنة والحنة" والظنة هي التهمة ولم يرد ما يدل على منع شهادة القريب لأجل القرابة "والقاذف" لقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ   1الظنين المتهم بمعني مفعول من الظن – بكسر الظاء – وهي التهمة والشك. 2 الحنة بكسر الحاء وفتح النون المخففة – العاوة وهي لغة قليلة في الإحنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 شَهَادَةً أَبَداً} بعد قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} وقد وقع الخلاف في كتب التفسير والأصول في حكم التوبة المذكورة في آخر الآية قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن الذي يجلد الجلد ثم تاب وأصلح تجوز شهادته وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك قلت: وعليه الشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أن شهادة القاذف لا ترد بالقذف فإذا حد فيه ردت شهادته على التأبيد وإن تاب وأصل المسألة أن الاستثناء يعود إلى الفسق فقط في قول أهل العراق وإلى الفسق وعدم قبول الشهادة جميعا في قول أهل الحجاز وقال الشافعي: هو قبل أن يحد شر منه حين يحد لأن الحدود كفارات فكيف ترودنها في أحسن حاليه وتقبلونها في شر حاليه وإذا قبلتم توبة الكافر والقاتل عمدا كيف لاتقبلون توبة القاذف وهو أيسر ذنبا قيل: معنى قول أبي حنيفة أن القاذف ما لم يحد يحتمل أن يكون صادقا وأن يكون معه شهود تشهد بالزنا فإذا لم يأت بالشهداء وأقيم عليه الحد صار مكذبا بحكم الشرع لقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فوجب رد شهادته ثم رد شهادة المحدود في القذف تأبيدي عنده لقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} والتأبيد ينافي التعليق فلا يجري فيه القياس وقال الواحدي: أبد كل إنسان مقدار مدته فيما يتصل بقصته يقال: الكافر لا يقبل منه شئ أبدا معناه ما دام كافرا كذلك القاذف لا تقبل شهادته أبدا ما دام قاذفا فإذا زال عنه الكفر أبده وإذا زال عنه الفسق زال أبده لا فرق بينهما في ذلك "ولا" تقبل شهادة "بدوي على صاحب قرية" لحديث أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لاتجوز شهادة بدوي على صاحب قرية " أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي قال المنذري: رجال إسناده احتج بهم مسلم في صحيحه قال في النهاية: إنما كره شهادة البدوي لما فيه من الخفاء في الدين والجهالة بأحكام الشرع ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها وبنحو هذا قال الخطابي وروي نحوه عن أحمد بن حنبل وذهب إلى ذلك جماعة من أصحاب أحمد وبه قال مالك وأبو عبيد وذهب الأكثر إلى القبول قال ابن رسلان: وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو والغالب أنهم لا تعرف عدالتهم انتهى. وهذا توجيه قوي ومحمل سوي "وتجوز شهادة من يشهد على تقرير فعله أو قوله إذا انتفت التهمة" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 لأنه لم يرد ما يمنع من ذلك حتى يخصصه من عموم الأدلة وأيضا حديث قبول خبر المرضعة وقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعد خبرها "كيف وقد قيل "ورتب على خبرها التحريم وقد تقدم في الرضاع وهي شهدت على تقرير فعلها كما لا يخفى ولم يستدل المانع إلا على1 أن الشاهد إذا شهد على تقرير قوله أو فعله لم يخل من تهمة وقد قيدنا ذلك بانتفاء التهمة وأما تحليف الشهود عند الريبة فالظاهر أنه من جملة التثبيت المأمور به ولا سيما مع فساد الزمان وتواثب كثير من الناس على شهادة الزور وكثيرا ما يتحرج بعض المتساهلين في الشهادة عن اليمين الفاجرة والبعض بالعكس من ذلك ولم يرد ذلك على المنع من تحليف الشهود وأما الاستدلال بقوله تعالى {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} ففي انطباقه على محل النزاع خلاف وأما تفريق الشهود فهو من أعظم ما يستعان به على الفرق بين صدقة الشهادة وكذبها ولا سيما إذا سألهم الحاكم عن بعض الأحوال التي تجوز تواطؤهم عليها قال الماتن رحمه الله في حاشية الشفاء: ولقد انتفعت بتفريق الشهود وتنويع سؤالهم وقل ما تصح شهادة بعد ذلك والحاكم لا يحل له التساهل بل يجب عليه إكمال البحث عن كل ما يتوصل به إلى كشف الحقيقة وهذا منه "وشهادة الزور من أكبر الكبائر" لحديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال: ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: "الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين" وقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو قال شهادة الزور" وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" قلنا بلى يارسول قال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين" وكان متكئا فجلس وقال: "ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت" ثم أقول: المراد بالشهادة الإخبار بما يعلمه الشاهد عند التحاكم بأي لفظ كان وعلى أي صفة وقع ولا يعتبر إلا أن يأتي بكلام مفهوم يفهمه سامعه فإذا قال مثلا رأيت كذا وكذا أو سمعت كذا وكذا فهذه شهادة شرعية وقد أحسن المحقق ابن القيم رحمه الله حيث قال في فوائده: ليس مع من اشترط لفظ الشهادة فيها دليل لا من كتاب ولا من   1 لعل صوابه "بأن الشاهد" الخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح انتهى وقد تقرر في محله أن اشتراط الألفاظ إنما هو صنيع من لم يمعن النظر في حقائق الأشياء ولا وصل إلى أن يعقل أن الألفاظ غير مرادة لذاتها وإنما هي قوالب للمعاني تؤدى بها فإذا قد حصلت التأدية للمعنى المراد فاشتراط زيادة على ذلك لم تدل عليه رواية ولا دراية "وإذا تعارض البيِّنتان ولم يوجد وجه ترجيح قسم المدعى" لحديث أبي موسى عند أبي داود والحاكم والبيهقي "أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فبعث كل واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بينهما نصفين"وقد أخرج نحوه ابن حبان من حديث أبي هريرة وصححه وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث تميم بن طرفة ووصله الطبراني عن جابر بن سمرة وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قسمة المدعى إذا لم يكن للخمصين بينة فأخرج أحمد وابن ماجه والنسائي من حديث أبي موسى "أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابة ليس لواحد منهما بينة فجعلها بينهما نصفين"وثبتت قسمة المدعى عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى المذكور أولا بزيادة ذكرها النسائي فقال: "ادعيا دابة وجداها عند رجل فأقام كل منهما شاهدين فلما أقام كل واحد منهما شاهدين نزعت من يد الثالث أو دفعت إليهما" "وإذا لم يكن للمُدعِّي بينة فليس له إلا يمين صاحبه ولو كان فاجرا" لحديث الأشعت بن قيس في الصحيحين وغيرهما قال: "كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال "شاهداك أو يمينه فقلت: إنه إذن يحلف ولا يبالي فقال: من حلف على يمين يقتطع بها مال أمريء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " وأخرج مسلم وغيره من حديث وائل بن حجر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للكندي: "ألك بينة" قال: لا قال: "فلك يمينه" فقال يارسول الله: الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شئ فقال: "ليس لك منه إلا ذلك" "ولا تُقبل البينة بعد اليمين" لما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم "شاهداك أو يمينه " فاليمين إذا كانت تطلب من المدعي فهي مستند للحكم صحيح ولا يقبل المستند المخالف لها بعد فعلها لأنه لا يحصل بكل واحد منهما إلا مجرد ظن ولا ينقض الظن بالظن وقد ذهب إلى هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 بعض أهل العلم والخلاف معروف "ومن أقر بشئ عاقلا بالغا غير هازل ولا بمحال عقلا أو عادة لزمه ما أقر به كائنا ما كان" لما تقدم وأما تقييده بكون المقر عاقلا بالغا فلأن المجنون والصبي ليسا بمكلفين فلا حكم لإقرارهما وأما تقييده بكونه غير هازل فلكون إقرار الهازل ليس هو القرار الذي يجوز أخذه به وهكذا إذا أقر بما يحيله العقل أو العادة لأن كذبه معلوم ولا يجوز الحكم بالكذب "ويكفي مرة واحدة من غير فرق بين موجبات الحدود وغيرها كما سيأتي" لكون المقر بالشئ على نفسه قد لزمه إقراره واعتبار التكرار في الحدود سيأتي أنه لم يثبت عليه يوجب المصير إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 كتاب الحدود باب حد الزنا ... كتاب الحدود "باب حد الزاني" والزنا من أكبر الكبائر في جميع الأديان قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} وعلى هذا اتفق المسلمون وإن كان لهم في حد الزنا اختلاف "إن كان بكرا حرا جلد مائة جلدة" لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وفي قوله: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} نهي عن تعطيل الحدود وقيل نهي عن تخفيف الضرب بحيث لا يحصل وجع معتد به وقوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} قيل: يجب حضور ثلاثة فما فوقهم وقيل: أربعة بعد شهود الزنا وقال أبو حنيفة الإمام والشهود إن ثبت الزنا بالشهود والأحاديث في هذا الباب كثيرة "وبعد الجلد يغرب عاما" لحديث أبي هريرة وزيد بن خالد في الصحيحين وغيرهما "أن رجلا من الأعراب أُتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: يارسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله وقال الخصم الآخر وهو أفقه منه نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "قل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 قال إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة الغنم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد ياأنيس لرجل من أسلم إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" قال فغدا عليها فاعترفت فأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فرجمت قال مالك العسيف الأجير وفي البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه وأخرج مسلم وغيره من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" وقد ذهب إلى تغريب الزاني الذي لم يحصن الجمهور حتى ادعى محمد بن نصر في كتاب الإجماع الاتفاق على نفي الزاني البكر إلا عن الكوفيين وقد حكى ابن المنذر أنه عمل بالتغريب الخلفاء الراشدون ولم ينكره أحد فكان إجماعا ولم يأت من لم يقل بالتغريب بحجة نيرة وغاية ما تمسكوا به عدم ذكره في بعض الأحاديث وذلك لا يستلزم العدم واختلف من أثبت التغريب هل تغرب المرأة أم لا فقال مالك والأوزاعي: لا تغرب المرأة لأنه عورة وظاهر الأدلة عدم الفرق قلت: والتغريب من جملة الإيذاء الذي أمر به القرآن قال: {فَآذُوهُمَا} وعليه الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يغرب "وإن كان ثيبا جلد كما يجلد البكر" بما تقدم من الأدلة وبغيرها كرجمه صلى الله عليه وسلم لماعز ورجمه صلى الله عليه وسلم لليهودي واليهودية ورجمه للغامدية1 والكل في الصحيح "ثم يرجم حتى يموت" والرجم كان متلوا ثم نسخت تلاوته وأيضا يتناوله الإيذاء وعلى هذا أكثر أهل العلم وتكلموا في ترتيب هذه الدلائل مع حديث عبادة "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم"وجمع علي كرم الله وجهه بين الرجم والجلد فقالوا: الجلد منسوخ فيمن وجب عليه الرجم لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية واليهوديين   1قصة ماعز واللليهوديين والغامدية لم يذكر لم فيها الجلد وإنما اقتصر الرواة فيها على حكاية الرحيم فكيف يستدل بها الشارح على وجوب الحلد لا أدري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 ولم يجلد واحدا منهم وقال لأنيس الأسلمي "فإن اعترفت فارجمها" ولم يأمر بالجلد وهذا آخر الأمرين لأن أبا هريرة قد رواه وهو متأخر الإسلام فيكون ناسخا لما سبق من الحدين الجلد والرجم ثم رجم الشيخان أبو بكر وعمر في خلافتهما ولم يجمعا بين الرجم والجلد قال في المسوى: في حديث عبادة ما يدل على أنه من آخر أحكام النبي صلى الله عليه وسلم لأن لفظه "خذوا عني "إلخ فيه إشارة إلى قوله تعالى {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} فهو متأخر عن هذه الآية وهذه الآية في سورة النساء وهي من آخر ما نزل فلا تدل رواية أبي هريرة إياه على النسخ بل الظاهر عندي أنه يجوز للإمام أن يجمع بين الجلد والرجم ويستحب له أن يقتصر على الرجم لاقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الرجم والحكمة في ذلك أن الرجم عقوبة تأتي على النفس فأصل الرجم المطلوب حاصل به والجلد زيادة عقوبة رخص في تركها فهذا وجه الاقتصار على الرجم عندي والعلم عند الله تعالى "ويكفي إقراره وما ورد من التكرار في وقائع الأعيان فلقصد الاستثباث" لأن أخذ المقر بإقراره هو الثابت في الشريعة فمن أوجب تكرار الأقراب في فرد من أفراد الشريعة كان الدليل عليه ولا دليل ههنا بيد من أوجب تربيع الإقرار إلا مجرد ما وقع من ماعز من تكرار الإقرار ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمره أو أمر غيره بأن يكرر الإقرار ولا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن إقرار الزنا لا يصح إلا إذا كان أربع مرات وإنما لم يقم على ماعز الحد بعد الإقرار الأول لقصد التثبت في أمره ولهذا قال له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أبك جنون" ووقع منه صلى الله عليه وسلم السؤال لقوم ماعز عن عقله وقد اكتفى صلى الله عليه وسلم بالإقرار مرة واحدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رجم الغامدية ولم تقر إلا مرة واحدة كما في صحيح مسلم وغيره وكما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم رجلا أقر مرة واحدة" ومن ذلك حديث الرجل الذي ادعت المرأة أنه وقع عليها فأمر برجمه ثم قام آخر فاعترف أنه الفاعل فرجمه وفي رواية أنه عفا عنه والحديث في سنن النسائي والترمذي ومن ذلك رجم اليهودي واليهودية فإنه لم ينقل أنهما كررا الإقرار فلو كان الإقرار أربع مرات شرطا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 في حد الزاني لما وقع منه صلى الله عليه وسلم المخالفة له في عدة قضايا فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في ثوب العقل وعدمه والصحو والسكر ونحو ذلك وأحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة على من كان معروفا بحصة العقل ونحوه وأما اعتبار كون الشهود أربعة فذلك لمزيد الاحتياط في الحدود لكونها تسقط بالشبهة ولا وجه للاحتياط بعد الإقرار فإن إقرار الرجل على نفسه لا يبقى بعده ريبة بخلاف شهادة الشهود عليه وهذا أمر واضح وقد ذهب إلى ما ذكرنا جماعة من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم وحكاه صاحب البحر عن أبي بكر وعمر والحسن البصري ومالك وحماد وأبي ثور والبتي والشافعي وذهب الجمهور إلى التربيع في الإقرار أقول: هذه المسألة من المعارك والحق أن الإقرار الذي يستباح به الجلد والرجم لا يشترط فيه أن يكون على مرة وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رجم وأمر بالرجم وجلد بمجرد الإقزاز مرة واحدة كما ثبت ذلك في عدة أحاديث وأما سكوته صلى الله عليه وسلم في مثل قضية ماعز حتى أقر أربعا فليس فيها أن ذلك شرط بل غاية ما فيها أن الإمام إذا تثبت في بعض الأحوال حتى يقع الإقرار مرات كان له ذلك وقد بسط الماتن المسألة في شرح المنتقى فليرجع إليه فالمقام حقيق بالتحقيق "وأما الشهادة فلا بد من أربعة" ولا أعلم في ذلك خلافاً وقد دل على هذا الكتاب والسنة قال في المسوى: يثبت الزنا بالإقرار وبأربعة شهداء قال الله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} قلت: على هذا أهل العلم "ولا بد أن يتضمن الإقرار والشهادة التصريح بإيلاج الفرج في الفرج" لقوله صلى الله عليه وسلم لماعز: "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت" فقال: لا يارسول الله قال: "أفنكتها؟ " لا يكني قال: نعم فعند ذلك أمر برجمهأخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عباس وأخرج أبو داود والنسائي والدارقطني من حديث أبي هريرة قال: جاء الأسلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات كل ذلك يعرض عنه فأقبل عليه في الخامسة فقال: "أنكتها قال: نعم قال: كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر قال نعم" الحديث وفي إسناده ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 الهضهاض1 قال البخاري: حديثه في أهل الحجار ليس يعرف إلا هذا الواحد2 وقد وقع من عمر بمحضر من الصحابة في استفصال شهود المغيرة بنحو هذا والقصة معروفة "ويسقط" الحد "بالشبهات المحتملة" لحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤا الحدود على المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطيء في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" أخرجه الترمذي وقد رواه الترمذي أيضا من حديث الزهري عن عروة عن عائشة وقد أعل الحديث بالوقف وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ "ادفعوا الحدود ماوجدتم لها مدفعا" وقد روي من حديث علي مرفوعا "ادرؤا الحدود بالشبهات" وروي نحوه عن عمر وابن مسعود بإسناد صحيح وفي الباب من الروايات ما يعضد بعضه ويقويه ومما يؤيد ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "لو كنت راجما أحداً بغير بينة لرجمتها" يعني امرأة العجلاني كما في الصحيحين من حديث ابن عباس "وبالرجوع عن الإقرار" لحديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي "أن ماعزا لما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحي3 جمل فضربه به وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: "هلا تركتموه" قال الترمذي: إنه حديث حسن وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة انتهى ورجال إسناده ثقات وأخرج أبو داود والنسائي من حديث جابر نحوه وزاد "أنه لما وجد مس الحجارة صرخ يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي فلم ننزع عنه حتى قتلناه فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه قال: "فهلا تركتموه وجئتموني به" وقد أخرج البخاري ومسلم طرفا من هذا الحديث وفي الباب روايات وقد ذهب إلى ذلك أحمد والشافعية والحنيفة وهو مروي عن مالك في قول له وقد ذهب ابن أبي ليلى والبتي وأبو ثور ورواية عن مالك وقول للشافعي أن لا يقبل منه الرجوع عن   1 اسمه عبد الرحمن بن الصامت. ووقع هنا وفي شرح أبي داود ج 4 ص 256 بالصاد المهملة وهو خطأ صوابه بالضاد المعجمة كما في التهذيب والتقريب والخلاصة. 2 صوابه: إلا بهذا الواحد. كما في شرح أبي داود والتهذيبب. 3 اللحي عظم الحنك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 الإقرار "وبكون المرأة عذراء أو رتقاء1 وبكون الرجل محجوبا أو عنينا" لكون المانع موجودا فتبطل به الشهادة أو الإقرار لأنه قد علم كذب ذلك قطعا وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا لقتل رجل كان يدخل على مارية القبطية فذهب فوجده يغتسل في ماء فأخذ بيده فأخرجه من الماء ليقتله فرآه مجبوبا فتركه ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك والقصة مشهورة وهذا معناه قلت وقد أخرج مسلم وغيره ما حكاه الماتن وذكره جمع من أهل السير "وتحرم الشفاعة في الحدود" لما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد الله في أمره" وفي الصحيحين من حديث عائشة في قصة المرأة المخزومية التي سرقت لما شفع فيها أسامة بن زيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: "أتشفع في حد من حدود الله" وفي لفظ "لا أراك تشفع في حد من حدود الله" وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الحاكم وابن الجارود2 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه: "هلا كان قبل أن تأتيني به" وفي الباب أحاديث "ويحفر للمرجوم إلى الصدر" لكونه صلى الله عليه وسلم أمر بأن يحفر للغامدية إلى صدرها وهو في صحيح مسلم وغيره "أنه حفر لماعز حفرة ثم أمر به فرجم" كما في حديث عبد الله بن بريدة في قصة ماعز وأخرجها أحمد وزاد "فحفر له حفرة فجعل فيها إلى صدره" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من"حديث خالد بن اللجلاج عن أبيه أنه اعترف رجل بالزنا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحصنت قال نعم فأمر برجمه فذهبنا فحفرنا له حتى أمكننا ورميناه بالحجارة حتى هدأ" وقد ثبت في مسلم وغيره من حديث أبي سعيد قال: "لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه"ويؤيد هذا ما وقع في حديث غيره أنه هرب كما تقدم ولكن ترك الحفر له لا ينافي ثبوت مشروعية الحفر قال ابن القيم: بعد تخريج حديث ماعز المتقدم بألفاظ وكل هذه الألفاظ صحيحة وفي بعضها أنه أمر   1الرتق ضد الفتق والرتقاء المرأة التي التصق ختانها فلا يصل الرجل لشدة انضمام فرجها 2 يعني من حديث صفوان بن أمية وسيأتي في أول باب الرقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 فحفرت له حفيرة ذكرها مسلم وهي غلط من رواية بشير بن المهاجر وإن كان مسلم روى له في الصحيح فالثقة قد يغلط على أن أحمد وأبا حاتم قد تكلما فيه وإنما حصل الوهم من حفرة الغامدية فسرى إلى ماعز والله تعالى أعلم انتهى أقول: وجمع بين الحديثين بأنه فد كان حفر له حفرة صغيرة ثم خرج منها ورجموه وهو قائم كما تدل عليه رواية أبي سعيد وأما الحفر للمرأة فثابت وقد اختلف في مشروعيته والحق أنه مشروع "ولا ترجم الحبلى حتى تضع وترضع ولدها إن لم يوجد من يرضعه" لحديث سليمان بن بريدة عن أبيه عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم جاءته امرأة من غامد من الأزد فقال طهرني يارسول الله فقال: "ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه" فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك قال: "وما ذاك" قالت: إني حبلى من الزنا قال: أنت؟ " قالت: نعم فقال لها "حتى تضعي ما في بطنك" قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: قد وضعت الغامدية فقال: "إذن لا نرجمها وندع ولدها صغير السن ليس له من يرضعه" فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله قال "فارجمها" وأخرج مسلم وغيره من حديث عمران ابن حصين "أن امرأة جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا فقالت: يارسول الله أصبت حدا فأقمه علي فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها فقال: "أحسن إليها فإذا وضعت فأتني" ففعل فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت" الحديث وقد رويت هذه القصة من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وابن عباس وأحاديثهم عند مسلم وقد اختلفت الروايات ففي بعضها ما تقدم في حديث بريدة وفي بعضها "أن النبي صلى الله تعالى عليها وآله وسلم أخر رجمها إلى الفطام فجاءت بعد ذلك فرجمت"وقد جمع بينهما مجموعات "ويجوز الجلد حال المرض بعثكال ونحوه1" لحديث أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: "كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وكان ذلك الرجل مسلما فقال: اضربوه حده قالوا يا رسول الله:   1 العثكال العذق من أعذاق النخل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائة قتلناه فقال: خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ1 ثم اضربوه به ضربة واحدة قال: ففعلوا "وراه أحمد وابن ماجه والشافعي والبيهقي ورواه الدارقطني عن فليح عن أبي سالم عن سهل بن سعد ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة بن سهل عن أبي سعيد الخدري ورواه أبو داود من حديث رجل من الأنصار وأخرجه النسائي من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه وإسناد الحديث حسن وقد أخرج مسلم وغيره من حديث علي قال: إن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت أن أجلدها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنت اتركها حتى تماثل" وقد جمع بين هذا الحديث والحديث الأول بأن المريض إذا كان مرضه مرجوا أمهل كما في الحديث الآخر وإن كان مأيوسا جلد كما في الحديث الأول وقد حكى في البحر الإجماع على أنه تمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد والمرض المرجو فإن كان مأيوسا فقال أصحاب الشافعي: إنه يضرب بعثكول إن احتمله "ومن لاط بذكر قتل ولو كان بكرا وكذلك المفعول به إذا كان مختارا" لحديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي والحاكم والبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" قال ابن حجر: رجاله موثقون إلا أن فيه اختلافا وأخرج ابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أولم يحصنا" وإسناده ضعيف قال ابن الطلاع في أحكامه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط ولا أنه حكم فيه وثبت عنه أنه قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به" رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة انتهى وأخرج البيهقي عن علي "أنه رجم لوطيا" قال الشافعي: وبهذا نأخذ نرجم اللوطي محصنا كان أو غير محصن وأخرج البيهقي أيضا عن أبي بكر أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكان من أشدهم يومئذ قولا علي ابن أبي طالب   1 الشمراخ الغصن من أغصان العثكال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 قال: هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم نرى أنه نحرقه بالنار فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أن يحرقه بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار وأخرج أبو داود عن سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية يرجم وأخرج البيهقي عن ابن عباس أيضا "أنه سئل عن حد اللوطي فقال: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منسكا ثم يتبع الحجارة" وقد اختلف أهل العلم في عقوبة اللواط بعد اتفاقهم على تحريمه وأنه من الكبائر فذهب من تقدم من الصحابة إلى أن حده القتل ولو كان بكرا سواء كان فاعلا أو مفعولا به وإليه ذهب الشافعي وحكى صاحب شفاء الأوام إجماع الصحابة على القتل وحكى البغوي عن الشعبي والزهري ومالك وأحمد وإسحق أنه يرجم محصنا كان أو غير محصن وروي عن النخعي أنه قال لو كان يستقيم أن يرجم الزاني مرتين لرجم اللوطي وقال المنذري حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعلي وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك وذهب من عدا من تقدم إلى أن حد اللوطي حد الزاني وقال الشافعي في الأظهر أن حد الفاعل حد الزنا إن كان محصنا رجم وإلا جلد وغرب وحد المفعول به الجلد والتغريب وفي قول كالفاعل وفي قول يقتل الفاعل والمفعول به وقال أبو حنيفة: يعزر باللواط ولا يجلد ولا يرجم أقول: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتل الفاعل والمفعول به وصح عن الصحابة امتثال هذا الأمر وقتلهم لمن ارتكب هذه الفاحشة العظيمة من غير فرق بين بكر وثيب ووقع ذلك في عصرهم مرات ولم يظهر في ذلك خلاف من أحد منهم مع أن السكوت في مثل إراقة دم امرىء مسلم لا يسوغ لأحد من المسلمين وكان في ذلك الزمن الحق مقبول من كل من جاء به كائنا من كان فإن اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزاني فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل سواء كان محصنا أو غير محصن وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنا ففي أدلته الخاصة له ما يشفي ويكفي "ويعزر من نكح بهيمة" لكون1 الحديث المروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة" أخرجه أحمد   1 لعل خير "كون" سقط من الأصل والمراد واضح وهو أن الحديث ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه فقد روى الترمذي وأبو داود من حديث أبي رزين عن ابن عباس أنه قال: "من أتى بهيمة فلا حد عليه" وقال: إنه أصح من الحديث الأول قال: والعمل على هذا عند أهل العلم وقد روى أبو يعلى الموصلي من حديث أبي هريرة نحو حديث ابن عباس في القتل ولكن في إسناده عبد الغفار1 قال ابن عدي: إنه رجع عنه وذكر أنهم كانوا لقنوه وقد وقع الإجماع على تحريم إتيان البهيمة كما حكى ذلك صاحب البحر ووقع الخلاف بين أهل العلم فقيل: يحد الزاني وقيل: يعزر فقط إذ ليس بزنا وقيل يقتل ووجه ما ذكرنا من التعزير أنه فعل محرما مجمعا عليه فاستحق العقوبة بالتعزير وهذا أقل ما يفعل به والحاصل: أن من وقع على بهيمة فقد ورد ما يدل على أنه يقتل ولكن لم يثبت ثبوتا تقوم به الحجة ولا وقع من الصحابة مثل ما وقع في اللواط وفي النفس شئ من دخوله تحت أدلة الزنا العامة فالظاهر التعزير فقط من غير فرق بين بكر وثيب "ويجلد المملوك نصف جلد الحر" لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ولا قائل بالفرق بين الأمة والعبد كما حكى ذلك صاحب البحر وقد أخرج عبد الله بن أحمد في المسند من "حديث علي قال: أرسلني رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد فوجدتها في دمها فأخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين" وهو في صحيح مسلم كما تقدم بدون ذكر الخمسين وأخرج مالك في الموطإ عن عبد الله بن عياش المخزومي2 قال: "أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا"وذهب ابن عباس إلى أنه لا حد على مملوك حتى يتزوج تمسكا بقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} الآية وأجيب بأن المراد بالإحصان هنا الإسلام قلت الإحصان في كلام العرب المنع ويقع في القرآن والسنة على الإسلام والحرية والعفاف والتزوج لأن الإسلام يمنعه عما لا يباح له وكذلك الحرية والعفاف والتزوج وقوله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء} أراد المزوجات وقوله تعالى: {أنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ   1هو عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير ولم أجد له ترجمة. انظر تلخيص الحبير ص 352. 2 عياش بالياء والشين المعجمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أراد به الحرائر وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أراد العفاف وقوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أراد المتزوجين وقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي تزوجن وعلى هذا أهل العلم "ويحده سيده أو الإمام" لعموم الأدلة الواردة في مطلق الحد ولحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب1 عليها ثم إن زنت فليجدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحل من شعر" وقد ذهب إلى أن السيد يجلد مملوكه جماعة من السلف قال الشافعي: للسيد إقامة الحد على مملوكه دون السلطان وقال أبو حنيفة: يرفعه المولى إلى السلطان ولا يقيمه بنفسه   1 أي لا بوبخها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 باب السرقة "من سرق مكلفا مختارا" وقد تقدم وجه اشتراط التكليف والاختيار "من حرز" أي مال محرز واستدل على ذلك بما أخرجه أبو داود2 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل عن الحريسة التي تؤخذ من مراتعها قال: "فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن" قال يا رسول الله: فالثمار وما أخذ منها في أكمامها قال: "من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شئ ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن" وقد أخرجه أيضا أحمد والنسائي والحاكم وصححه وحسنه الترمذي والحريسة3 التي ترعى وعليها حرس وكذا حديث "لا قطع في ثمر ولا كثر4"   1 أي لا بوبخها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب. 2 هذه الرواية ليست رواية أبي داود بل نسيها صاحب المنتقي لمسند أحمد وسنن النسائي وهي سنن النسائي بلفظ قريب من هذا اللفظ ج 2 ص 261. 3 الحريسة هي ما يحرس بالجبل. وفي الأصل الحرسية وهو خطأ انظر النسائي ج 2 ص 261 والشوكاني ج 7 ص 300. 4 الكثر بفتح الكاف والثاء جمار النخل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 عند أحمد وأهل السنن والحاكم وصححه ابن حبان والبيهقي من حديث رافع بن خديج وقد ذهب إلى اعتبار الحرز الأكثر وذهب أحمد وإسحق والظاهرية وطائفة من أهل الحديث إلى عدم اعتباره واستدلوا على عدم الاعتبار وإن كان قيامهم مقام المنع يكفيهم بما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي ومالك في الموطإ والشافعي والحاكم وصححه1 من حديث صفوان بن أمية قال: "كنت نائما في المسجد على خميصة لي فسرقت فأخذنا السارق فرفعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه فقلت يارسول الله: أفي خميصة ثمن ثلاثين درهما أنا أهبها له قال: "فهلا كان قبل أن تأتيني به" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق سرق برنسا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم"وقد أخرج مسلم معناه وقد روي نحو حديث صفوان من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وضعف إسناده ابن حجر ويجاب عن الاستدلال بهذه الأحاديث على عدم اعتبار الحرز بأن المساجد حرز لما دخل إليها ولو كان على صاحبه فيكون الحرز أعم مما وقع تبيينه في كتب الفقه ولكنه يشكل على من اعتبر الحرز حديث قطع جاحد الوديعة وسيأتي ويمكن أن يكون ذلك خاصا بما ورد فيه فلا يعارض ما ورد في اعتبار الحرز في غيره قال في المسوى: ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا قطع في سرقة شئ من الفواكه الرطبة ولا الخشب ولا الحشيش عملا بعموم حديث رافع وتأوله الشافعي على معنى اشتراط الحرز وقال: نخيل المدينة لا حوائط لأكثرها فلا تكون محرزة وإنما خرج الحديث مخرج العادة يوضح ذلك حديث الجرين2 وقطع عثمان في أترجة قال في الحجة البالغة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن" أقول: أفهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرز شرط القطع وسبب ذلك أن غير المحرز يقال فيه الالتقاط فيجب الاحتراز عنه قلت والحرز ما يعده الناس حرزا لمثل ذلك المال فالمتبن حرز للتبن والإصطبل للدواب والمراح للغنم والجرين للثمار وأما إذا كان المال في صحراء أو في مسجد فإنما حرزه أن يكون له ناظر بحسب ما جرت العادة من النظر وعليه أهل العلم في الجملة "ربع دينار فصاعدا" لحديث عائشة   1 في المستدرك ج 4 ص 380 ولم نر فيه تصحيحه له 2 هو موضع تجفيف التمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 في الصحيحين وغيرهما قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا"وفي رواية لمسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا" وفي لفظ لأحمد "اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا في ماهو أدنى من ذلك" وكان ربع الدينار يؤمنذ ثلاثة دراهم والدينار اثني عشر درهما"وفي رواية للنسائي قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن" قيل لعائشة ما ثمن المجن؟ قالت: ربع ديناروفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال: "قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجن ثمنه ثلاث دراهم" وقد عرفت أن الثلاث الدراهم هي صرف ربع دينار كما تقدم في رواية أحمد قال الشافعي: وربع الدينار موافق لرواية ثلاثة دراهم وذلك أن الصرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر دراهما بدينار وهو موافق لما في تقدير الديات من الذهب بألف دينار ومن الفضة باثني عشر ألف درهم وقد ذهب إلى كون نصاب القطع ربع دينار أو ثلاثة دراهم الجمهور من السلف والخلف ومنهم الخلفاء الأربعة وفي المسألة اثنا عشر مذهبا قد أوضحها الماتن في شرح المنتقى وأما ماروي من حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" فقد قال الأعمش: كانوا يرون أنه بيض الحديد والحبل كانوا يرون أن منها مايساوي ثلاثة دراهم كذا في البخاري وغيره قال الحجة البالغة الحاصل: أن هذه التقديرات الثلاث كانت منطبقة على شئ واحد في زمانه صلى الله عليه وسلم ثم اختلف بعده ولم يصلح المجن للاعتبار لعدم انضباطه فاختلف المسلمون في الحديثين الأخيرين فقيل: ربع دينار وقيل ثلاثة دراهم وقيل: بلوغ المال إلى أحد القدرين وهو الأظهر عندي وهذا شرعه النبي صلى الله عليه وسلم فرقا بين التافه وغيره لأنه لا يصلح للتقدير جنس دون جنس لاختلاف الأسعار في البلدان واختلاف الأجناس نفاسة وخساسة بحسب اختلاف البلاد فمباح قوم وتافههم مال عزيز عند آخرين فوجب أن يعتبر التقدير في الثمن وقيل لا يعتبر فيها وأن الحطب وإن كان قيمته عشرة دراهم لا يقطع فيه قال في المسوى: ذهب الشافعي إلى حديث عائشة أن نصاب السرقة ربع دينار وذهب مالك إلى حديث ابن عمر والجواب من قبل الشافعي عن حديث ابن عمر أن الشئ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 التافه قد جرت العادة بتقويمه بالدراهم وكانت الثلاثة دراهم تبليغ قيمتها ربع دينار يوضح ذلك حديث عثمان فإنه يدل على أن العبرة بالذهب ومن أجل ذلك ردت قيمة الدراهم إليه بعد ما قومت الأترجة بالدراهم ويوضح ذلك أيضا وقوع اثني عشر ألف درهم موضع ألف دينار في الدية وقال أبو حنيفة: لا تقطع في أقل من عشرة دراهم أقول: أصح ما روي أن ثمن المجن ثلاثة دراهم وهي ربع دينار وقد ورد التقدير بربع دينار في الروايات الصحيحة والنهي عن القطع فيما دونه فنصاب السرقة إما ثلاثة دراهم أو ربع دينار هذا هو الحق وما روي من زيادة ثمن المجن فقد بين سقوط الاستدلال به في شرح المنتقى قطعت كفه اليمنى لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} قلت: اتفق أهل العلم على أن السارق إذا سرق أول مرة تقطع يده اليمنى ثم إذا سرق ثانيا تقطع رجله اليسرى واختلفوا فما إذا سرق ثالثا بعد قطع يده ورجله فذهب أكثرهم إلى أنه تقطع يده اليسرى ثم إذا سرق أيضا تقطع رجله اليمنى ثم إذا سرق أيضا يعزر ويحبس وعليه الشافعي وقال أبو حنيفة: لا تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى ولكن يعزر ويحبس "ويكفي الإقرار مرة واحدة" لما قدمنا في الباب الأول وقد قطع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يد سارق المجن وسارق رداء صفوان ولم ينقل أنه أمره بتكرار الإقرار وأما ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من قوله:"للسارق الذي اعترف بالسرق "ما إخالك سرقت" قال: بلى مرتين أو ثلاث" فهذا هو من باب الاستثبات كما تقدم وقد ذهب إلى أنه يكفي الإقرار مرة واحدة مالك والشافعية والحنفية وذهب ابن أبي ليلى وأحمد وإسحق إلى اعتبار المرتين والحق هو الأول "أو شهادة عدلين" لكون السرقة مندرجة تحت ما ورد من أدلة الكتاب والسنة في اعتبار الشاهدين "ويندب تلقين المسقط" لحديث أبي أمية المخزومي عند أحمد وأبي داود والنسائي بإسناد رجاله ثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلص اعترف اعترافا ولم يوجد معه متاع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما إخالك سرقت" قال: بلى مرتين أو ثلاثا وقد روي عن عطاء أنه قال: كان من مضى يؤتى إليهم بالسارق فيقول: أسرقت قل: لا وسمى أبا بكر وعمر" أخرجه عبد الرزاق وفي الباب عن جماعة من الصحابة "ويحسم موضع القطع" لئلا يسري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 فيهلك فإن الحسم سبب عدم السراية لما أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة فقالوا يا رسول الله: إن هذا قد سرق فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ما إخاله سرق" فقال السارق بلى يا رسول الله فقال: "اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به" فقطع فأتي به فقال: "تب إلى الله" فقال: قد تبت إلى الله قال "تاب الله عليك" "وتعلق اليد في عنق السارق" لما أخرجه أهل السنن وحسنه الترمذي من حديث فضالة ابن عبيد قال: "أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه"وفي إسناده الحجاج بن أرطاة قال النسائي: هو ضعيف لا يحتج بحديثه قال في الحجة البالغة: إنما فعل هذا للتشهير وليعلم الناس أنه سارق وفرقا بين ما يقطع اليد ظلما وبين ما يقطع حدا "ويسقط بعفو المسروق عليه قبل البلوغ إلى السلطان لا بعده فقد وجب" لحديث صفوان المتقدم وأخرج النسائي وأبو داود والحاكم وصححه من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" قلت: وعليه أهل العلم ويحرم الشفاعة للسارق إذا بلغ أمره السلطان أن لا يقطع يده "ولا قطع في ثمر ولا كثر ما لم يؤوه الجرين إذا أكل ولم يتخذ خبنة1 وإلا كان عليه ثمن ما حمله مرتين وضرب نكال" لحديث عمرو بن شعيب ورافع بن خديج المتقدمين في أول الباب والكثر جمار النخل أو طلعها وإلزامه بالثمن مرتين تأديب له بالمال ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بذلك بل قال "وضرب نكال" ليجمع له بين عقوبة المال والبدن والخبنة ما يحمله الإنسان في حضنه وقد تقدم ضبطها وتفسيرها" وليس على الخائن والمنتهب والمختلس قطع" لحديث جابر عند أحمد وأهل السنن والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن حبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع" وأخرج ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف بنحو حديث جابر وأخرج ابن ماجه أيضا والطبراني من   1الخبنة – الخاء وإسكان الباء – معطف الإزار وطرف الثوب أي لا يأخذ منه في ثوبه قاله ابن الأثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 حديث أنس نحوه قلت وعلى هذا أهل العلم "وقد ثبت القطع في جحد العارية" لما أخرجه مسلم وغيره من حديث عائشة قالت: "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقطع يدها"وأخرج أحمد والنسائي وأبو داود وأبو عوانة في صحيحه من حديث ابن عمر مثل حديث عائشة وقد ذهب إلى قطع جاحد العارية من لم يشترط الحرز وهم من تقدم وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع يد جاحد العارية قالوا: لأن الجاحد للعارية ليس بسارق لغة وإنما ورد الكتاب والسنة بقطع السارق ويرد بأن الجاحد إذا لم يكن سارقا لغة فهو سارق شرعا والشرع مقدم على اللغة وقد ثبت الحديث من طريق عائشة وابن عمر كما تقدم وكذا من حديث جابر وابن مسعود وغير هؤلاء وقد وقع في رواية من حديث ابن مسعود عند ابن ماجه والحاكم وصححه "أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "ووقع في مراسيل حبيب بن أبي ثابت "أنها سرقت حليا "فيمكن أن تكون هذه المخزومية قد جمعت بين السرقة وجحد العارية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 " باب حد القذف " رمي المحصنات بالزنا كبيرة قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} واتفق على ذلك المسلمون "من رمى غيره بالزنا وجب عليه حد القذف ثمانين جلدة" لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وقد أجمع أهل العلم على ذلك واختلفوا هل ينصف للعبد أم لا فذهب الأكثر إلى الأول وروى مالك عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: "أدركت عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والخلفاء هلم جرا فما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين "وذهب ابن مسعود والليث والزهري والأوزاعي وعمر بن عبد العزيز وابن حزم إلى أنه لا ينصف لعموم الآية. أقول: الآية الكريمة عامة يدخل تحتها الحر والعبد والغضاضة بقذف العبد للحر أشد منها بقذف الحر للحر وليس في حد القذف ما يدل على تنصيفه للعبد لا من الكتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 ولا من السنة ومعظم ما وقع التعويل عليه هو قوله تعالى في حد الزنا: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ولا يخفى أن ذلك في حد آخر غير حد القذف فإلحاق أحد الحدين بالآخر فيه إشكال لا سيما مع اختلاف العلة وكون أحدهما حقا لله محضا والآخر مشوبا بحق آدمي قال في المسوى: من رمى إنسانا بالزنا فإن كان المقذوف محصنا يجب على القاذف جلد ثمانين إن كان حرا فإن كان عبدا فجلد أربعين فإن كان المقذوف غير محصن فعلى قاذفه التعزير وكذا لا حد في النسبة إلى غير الزنا إنما فيه التعزير وشرائط الإحصان خمسة: الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا حتى إن من زنى في أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته وامتد عمره فقذفه قاذف لا حد عليه وعلى هذا أهل العلم وإذا عفا المقذوف لم يجلد قاذفه وإذا قذف أبوا رجل وقد هلكا فله المطالبة بالحد وفي الأنوار حد القاذف وتعزيره حق الآدمي يورث عنه ويسقط بعفوه وعفو وارثه إن مات أو قذف ميتا وهو حق جميع الورثة وفي الهداية لا يصح عفو المقذوف عندنا وفيها لو قال يا ابن الزانية وأمه ميتة محصنة فطالب الابن بحد القذف حد القاذف لأنه قذف محصنة ولا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه وهو الوالد والولد ومذهب الشافعية والحنفية أن الوالد لا يجلد بقذفه ولده وإذا قذف جماعة جلد حدا واحدا وعليه أبو حنيفة وقال الشافعي: إذا اختلف المقذوف فلا تداخل والتعريض الظاهر ملحق بالصريح وعليه مالك وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يلحق به ولا يحد إلى بالصريح أقول: التحقيق أن المراد من رمي المحصنات المذكور في كتاب الله عز وجل هو أن يأتي القاذف بلفظ يدل لغة أوشرعا أو عرفا على الرمي بالزنا ويظهر من قرائن الأحوال أن المتكلم لم يرد إلا ذلك ولم يأت بتأويل مقبول يصح حمل الكلام عليه فهذا يوجب حد القذف بلا شك ولا شبهة وكذلك لو جاء بلفظ لا يحتمل الزنا أو يحتمله احتمالا مرجوحا وأقر أنه أراد الرمي بالزنا فإنه يجب عليه الحد وأما إذا عرض بلفظ محتمل ولم تدل قرينة حال ولا مقال على أنه قصد الرمي بالزنا فلا شئ عليه لأنه لا يسوغ إيلامه بمجرد الاحتمال "ويثبت ذلك بإقراره مرة" لكون إقرار المرء لازما له ومن ادعى أنه يشترط التكرار مرتين فعليه الدليل ولم يأت في ذلك دليل من كتاب ولا سنة "أو بشهادة عدلين" كسائر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 ما تعتبر فيه الشهادة كما أطلقه الكتاب العزيز "وإذا لم يتب لم تقبل شهادته" لقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} ثم ذكر بعد ذلك التوبة "فإن جاء بعد القذف بأربعة شهود" يشهدون على المقذوف بأنه زنى "سقط عنه الحد" لأن القاذف لم يكن حينئذ قاذفا بل قد تقرر صدور الزنا بشهادة الأربعة فيقام الحد على الزاني "وهكذا إذا أقر المقذوف بالزنا" فلا حد على من رماه به بل يحد المقر بالزنا وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه جلد أهل الإفك كما في مسند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه وأشار إلى ذلك البخاري في صحيحه فثبت حد القذف بالسنة كما ثبت بالقرآن ووقع في أيام الصحابة جلد من شهد على المغيرة بالزنا حيث لم تكمل الشهادة وذلك معروف ثابت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 " باب حد الشرب " شرب الخمر كبيرة وعليه أهل العلم "من شرب مسكرا مكلفا مختارا" وقد تقدم دليله "جلد على ما يراه الإمام إما أربعين جلدة أو أقل أو أكثر ولو بالنعال" لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين"وفي مسلم من حديثه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلد بجريدتين نحو أربعين" قال: وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر وفي البخاري وغيره من حديث عقبة بن الحرث قال: جيء بالنعيمان أو ابن النعيمان شاربا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان في البيت أن يضربوه فكنت فيمن ضربه بالنعال والجريد وفيه أيضا من حديث السائب بن يزيد قال: "كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إمرة أبي بكر وصدرا من إمرة عمر فنقوم إليه نضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان صدرا من إمرة عمر فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين1"   1عتوا من العتو وهو التجبر والمراد هنا أنهما كهم في الطغيان والمبالغة فلي الفساد في شرب الخمر قاله ابن حجر "ج 12 ص 59" ولفظ الحديث الذي هنا ليس لفظ البخاري ل لفظ أحمد في المسند ج 3 ص 449. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 وفيه أيضا من حديث أبي هريرة نحوه وفي الباب أحاديث يستفاد مجموعها أن حد السكر لم يثبت تقديره عن الشارع وأنه كان يقام بين يديه على صورة مختلفة بحسب ما يقتضيه الحال فالحق أن جلد الشرب غير مقدر بل الذي يجب فعله هو إما الضرب باليد أو العصا أو النعل أو الثوب على مقدار يراه الإمام من قليل أو كثير فيكون على هذا من جملة أنواع التعزير وفي الصحيحين عن علي أنه قال: "ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت وأجد في نفسي شيئا إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه" قلت: وعليه أهل العلم إلا أن الشافعي يقول: أصل حد الخمر أربعون وما زاده عمر على الأربعين كان تعزيرا لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بشارب فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب فلما كان أبو بكر سأل من حضر ذلك المضروب فقومه أربعين فضرب أربعين حياته ثم عمر حتى تتابع الناس فاستشار عمر فضرب ثمانين ثم قال علي: حين أقام الحد على وليد بن عقبة لما بلغ أربعين حسبك جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي" قال في الحجة البالغة: ثم قال أي النبي صلى الله عليه وسلم: "بكتوه فأقبلوا عليه يقولون ما اتقيت الله ما خشيت الله ما استحييت من رسول الله" وروي أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أخذ ترابا من الأرض فرمى به وجهه انتهى وروى مالك عن ابن شهاب أنه سئل عن حد العبد في الخمر فقال: بلغني أن عليه نصف الحد في الحر وأن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر قد جلدوا عبيدهم نصف حد الحر في الخمر ولا يجوز للإمام أن يعفو عن حد قال سعيد بن المسيب: ما من شئ إلا يحب الله أن يعفو عنه ما لم يكن حدا قلت: وعليه أهل العلم "ويكفي إقراره مرة أو شهادة عدلين" لمثل ما تقدم ولعدم وجود دليل يدل على اعتبار التكرار "ولو على القيء" لكون خروجها من جوفه يفيد القطع بأنه شربها والأصل عدم المسقط ولهذا حد الصحابة الوليد بن عقبة لما شهد عليه رجلان أحدهما أنه شربها والآخر أنه تقيأها فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها كما في مسلم وغيره "وقتله في الرابعة منسوخ" لما رواه الترمذي والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة فضربه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 ولم يقتله"ومثله أخرج أبو داود والترمذي من حديث قبيصة بن ذؤيب وفيه "ثم أتي به يعني في الرابعة فجلده ورفع القتل" وفي رواية لأحمد من حديث أبي هريرة "فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكران في الرابعة فخلى سبيله" أقول: قد وردت الأحاديث بالقتل في الثالثة في بعض الروايات وفي الرابعة في بعض وفي الخامسة في بعض وورد ما يدل على النسخ من فعله صلى الله عليه وسلم وأنه رفع القتل عن الشارب وأجمع على ذلك جيمع أهل العلم وخالف فيه بعض أهل الظاهر. "فصل والتعزير في المعاصي التي لا توجب حدا ثابت بحبس أو ضرب أو نحوهما ولا يجاوز عشرة أسواط" لحديث أبي بردة بن نيار في الصحيحين وغيرهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه وقال الحاكم: صحيح الإسناد من حديث بهز بن حكيم "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم حبس رجلا في تهمة يوما وليلة" وقد ثبت أن عمر أمر أبا عبيدة بن الجراح أن يربط خالد بن الوليد بعمامته لما عزله عن إمارة الجيش كما في كتب السير وسبب ذلك أنه استنكر منه إعطاء شئ من أموال الله وتقدم في باب السرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وضرب نكال " أقول: هذا الفصل يراد به كل عقوبة ليست بحد من الحدود المتقدمة والآتية فمنها الضرب ولكن يكون عشرة أسواط فما دون لحديث أبي بردة المتقدم ولا تجوز الزيادة على ذلك ولكن ليس في هذا الحديث مايدل على وجوب التعزيز بل غاية ما فيه الجواز فقط وقد اطلع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على جماعة ارتكبوا ذنوبا لا توجب حدا فلم يضربهم ولا حبسهم ولا نعى ذلك عليهم كالمجامع في نهار رمضان والذي لقي امرأة فأصاب منها ما يصب الرجل من زوجته غير أنه لم يجامعها وغير ذلك كثير ومن أنواع التعزير الحبس ويجوز الحبس مع التهمة وهكذا يجوز حبس من كان يخشى على المسلمين معرته وإضراره بهم لو كان مطلقا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بقد الإمكان ولا يمكن القيام بهما في حق من عرف بذلك إلا بالحيلولة بينه وبين الناس بالحبس ومنها النفي كما فعله صلى الله عليه وسلم بجماعة من المخنثين. ومنها ترك المكلمة كما فعله صلى الله عليه وسلم بالثلاثة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 الذين تخلفوا عنه حتى ضافت عليهم الأرض بما رحبت ومنها الشتم الذي لا فحش فيه كقول الله تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ومن ذلك قول يوسف عليه السلام لإخوته: {أنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} لما نسبوه إلى السرقة وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "إنك امرؤ فيك جاهلية" كما في البخاري لما سمعه صلى الله عليه وسلم يسب امرأة وفي مسلم "أن رجلا أكل بشماله عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كل بيمينك" فقال: لا أستطيع فقال: "لا استطعت ما منعه إلا الكبر" قال: فما رفعها إلى فيه" وفي مسلم " من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا" وفي مسلم أيضا "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "لا وجدت" وفي الترمذي "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك" وقال صلى الله عليه وسلم للخطيب: "بئس خطيب القوم أنت" أخرجه مسلم وغيره ووقع منه صلى الله عليه وسلم من هذا الجنس شئ كثير وكذلك وقع من الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح من ذلك ما يرشد إلى جوازه إذا ظن فاعله تأثيره في المرتكب للذنب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 " باب حد المحارب " "هو أحد الأنواع المذكورة في القرآن القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خلاف أو نفي من الأرض" لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قلت: أكثر أهل العلم على أن هذه الآية نزلت في أهل الإسلام لا الكفار بدليل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} والإسلام يحقن الدم سواء أسلم قبل القدرة عليه أو بعدها وإنما أضاف الحرب إلى الله ورسوله إيذانا بأن حرب المسلمين كأنه حرب الله تعالى ورسوله أقول: ظاهر القرآن الكريم أن من صدق عليه أنه محارب لله ورسوله ساع في الأرض فسادا فإن عقوبته إما القتل أو الصلب أو القطع من خلاف أو النفي من الأرض من غير فرق بين كونه قتل أو لم يقتل والظاهر أنه لا يجمع له بين هذه الأنواع ولا بين اثنين منها ولا يجوز تركه عن أحدها هذا معنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 النظم القرآني فإن قلت: كيف عقوبة الصلب هل يفعل به ما يصدق عليه مسمى الصلب ولو كان قليلا قلت يفعل به ما يصدق عليه أنه صلب عند أهل اللغة فإن كان الصلب عندهم هو الذي يفضي إلى الموت فذاك وإن كان أعم منه فالامتثال يحصل بفرد من أفراده وقال الشافعي: المكابرون في الأمصار قطاع وقال أبو حنيفة: لا وظاهر مذهب الشافعي في صفة الصلب أنه يقتل ويغسل ويصلى عليه ثم يصلب ثلاثا ثم ينزل ويدفن وقيل يصلب حيا ثم يطعن حتى يموت مصلوبا وقال أبو حنيفة: لا يغسل ولا يصلى على قاطع الطريق ومعنى النفي عند الحنفية الحبس حتى يرى عليه أثر الصلاح وعند الشافعي للإمام أن يحبس أو يغرب أو يطلبه للتعزيز والطلب نفي أيضا لأنه حامل على هربه "يفعل الإمام منها مارأى فيه صلاحا لكل من قطع طريقا ولو في المصر إذا كان قد سعى في الأرض فسادا" هذا ظاهر ما دل عليه الكتاب العزيز من غير نظر إلى ما حدث من المذاهب فإن الله سبحانه قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} فضم إلى محاربة الله ورسوله أي معصيتهما السعي في الأرض فسادا فكان ذلك دليلا على أن من عصى الله ورسوله بالسعي في الأرض فسادا كان حده ما ذكره الله في الآية ولما كانت الآية الكريمة نازلة في قطاع الطريق وهم العرنيون كان دخول من قطع طريقا تحت عموم الآية دخولا أوليا ثم حصر الجزاء في قوله: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} فخير بين هذا الأنواع فكان للإمام أن يختار ما رأى فيه صلاحا منها فإن لم يكن إمام فمن يقوم مقامه في ذلك من أهل الولايات فهذا ما يقتضيه نظم القرآن الكريم ولم يأت من الأدلة النبوية ما يصرف ما يدل عليه القرآن الكريم عن معناه الذي تقتضيه لغة العرب وأما ما روي عن ابن عباس كما أخرجه الشافعي في مسنده أنه قال في قطاع الطريق: "إذا قتلوا وأخذوا الأموال صلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض "فليس هذا الاجتهاد مما تقوم به الحجة على أحد ولو فرضنا أنه في حكم التفسير للآية وإن كان مخالفا لها غاية المخالفة ففي إسناده ابن أبي يحيى وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 ضعيف جدا لا تقوم بمثله الحجة وأما ما روي عن ابن عباس أيضا "أن الآية نزلت في المشركين"كما أخرجه أبو داود والنسائي عنه فذلك مدفوع بأنها نزلت في العرنيين وقد كانوا أسلموا كما في الأمهات ولو سلمنا ما روي عن ابن عباس لم تقم به حجة من قال باختصاص ما في الآية بالمشركين لما تقرر من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على أن في إسناد ذلك علي بن الحسين بن واقد وهو ضعيف وقد ذهب إلى مثل ما ذهبنا إليه جماعة من السلف كالحسن البصري وابن المسيب ومجاهد وأسعد الناس بالحق من كان معه كتاب الله وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرنيين أنه فعل بهم أحد الأنواع المذكورة في الآية وهو القطع كما في الصحيحين وغيرها من حديث أنس والمراد بالصلب المذكور في الآية هو الصلب على الجذوع أو نحوها حتى يموت إذا رأى الإمام ذلك أو يصلبه صلبا لا يموت فيه فإن اسم الصلب يصدق على الصلب المفضي إلى الموت والصلب الذي لا يفضي إلى الموت ولو فرضنا أنه يختص بالصلب المفضي إلى الموت لم يكن في ذلك تكرار بعد ذكر القتل لأن الصلب هو قتل خاص وأما النفي من الأرض فهو طرده من الأرض التي أفسد فيها وقد قيل إنه الحبس وهو خلاف المعنى العربي "فإن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ذلك" لنص القرآن بذلك وهو قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قلت: معناه عند الشافعي إذا تاب قاطع الطريق قبل القدرة عليه يسقط عنه من العقوبة ما يختص بقطع الطريق فإن كان قتل يسقط تحتم القتل ويبقى عليه القصاص فالولي فيه بالخيار إن شاء استوفاه وإن شاء عفا عنه وإن كان قد أخذ المال سقط عنه قطع اليد والرجل وقيل في سقوط قطع اليد حكمه حكم السارق في البلد إذا تاب وإن كان قد قتل وأخذ المال سقط عنه تحتم القتل والصلب وإذا تاب بعد القدرة لا يسقط عنه شئ من العقوبات ولا يسقط سائر الحدود بالتوبة قبل القدرة عليه وهذا أظهر قولي الشافعي والقول الثاني: أن كل عقوبة تجب حقا لله تعالى مثل عقوبات قاطع الطريق وقطع السرقة وحد الزنا والشرب تسقط بالتوبة لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وأقول: الآية ليس فيها إلى الإشارة إلى عفو الله ورحمته لمن تاب قبل القدرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 وليس فيها القطع بحصول المغفرة والرحمة لمن تاب ولو سلم القطع فذلك في الذنوب التي أمرها إلى الله فيسقط بالتوبة الخطاب الأخروي والحد الذي شرعه الله وأما الحقوق التي للآدميين من دم أو مال أو عرض فليس في الآية ما يدل على سقوطها ومن زعم أن ثم دليلا يدل على السقوط فما الدليل على هذا الزعم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 " باب من يستحق القتل حدا " "هو الحربي" ولا خلاف في ذلك لأوامر الله عز وجل بقتل المشركين في مواضع من كتابه العزيز ولما ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثبوتا متواترا من قتالهم وأنه كان يدعوهم إلى ثلاث ويأمر بذلك من يبعثه للقتال والمرتد لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" وهو للبخاري وغيره من حديث ابن عباس وحديث "لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان" الحديث وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود وحديث أبي موسى في الصحيحين أيضا "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال له: "اذهب إلى اليمن" ثم أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى له وسادة وقال: انزل وإذا جاء رجل عنده موثق قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء لله ورسوله "قال في المسوى: من ارتد عن الإسلام إن كان في منعة من قومه جمع الإمام المسلمين وقاتلهم قال تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} وفي هذا الآية إخبار عما علم الله تعالى وقوعه وقد ارتد أكثر العرب في زمن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فبعث إليهم المسلمين وقاتلهم حتى رجعوا وعلى هذا أهل العلم ومن ارتد عن الإسلام وليس له منعة قتل وعليه أهل العلم وإذا كان المرتد رجلا واختلفوا في المرتدة قال الشافعي: تقتل وقال أبو حنيفة: لا تقتل ولكن تحبس حتى تسلم أقول: الأدلة الدالة على قتل المرتد عامة ولم يرد ما يقتضي تخصيصها وأما حديث النهي عن قتل النساء فذلك إنما هو في حال الحرب فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 النساء المشركات لا يقتلن وليس ذلك محل النزاع ثم قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قتل عدة نساء كاللاتي أمر بقتلهن يوم الفتح لما كان يقع منهن السب له وكذلك قتل امرأتين من بني قريظة وغير ذلك ثم ليس النهي عن قتل النساء مستلزما لتركهن على الكفر إذا امتنعن من الإسلام والجزية فإنه لا يجوز التقرير على الكفر فإذا قالت امرأة لا أسلم أبدا ولا أعطي الجزية وصممت على ذلك كان تركها حينئذ كافرة غير جائز لأحد من المسلمين ومن ههنا يلوح لك أن النهي عن قتل النساء إنما هو لأجل كونهن مستضعفات يحصل منهن الانقياد للإسلام بدون ذلك وليس عندهن غناء في القتال ولهذا كان سبب النهي عن قتلهن أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة فقال: "ما كانت هذه لتقاتل ثم نهى عن قتلهن" فانظر كيف جعل النهي عن قتلهن معللا بعدم المقاتلة وأما قول بعض أهل العلم إن المتأول كالمرتد فههنا تسكب العبرات ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا بسنة ولا قرآن ولا لبيان من الله ولا لبرهان بل لما غلت مراجل العصبية في الدين وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقنهم الزمان بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب في البقعية1 فيالله وللمسلمين من هذه الفاقرة2 التي هي أعظم فواقر الدين والرزية التي ما رزيء بمثلها سبيل المؤمنين وأنت إن بقي فيك نصيب من عقل وبقية من مراقبة الله عز وجل وحصة من الغيرة الإسلامية علمت وعلم كل من له علم بهذا الدين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام قال في بيان حقيقته وإيضاح مفهومه إنه: "إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" والأحاديث بهذا المعنى متواترة فمن جاء جاء بهذه الأركان الخمسة وقام بها حق القيام فهو المسلم على رغم أنف من أبى ذلك كائنا من كان فمن جاءك بما يخالف هذا من ساقط القول وزائف العلم بالجهل فاضرب به في وجهه وقل له قد تقدم هذيانك هذا   1 كذا في الصل وصوابه القيعة "جمع قاع كاجيرة جمع جار والقاع ما انبسط من الأرض واتسع وفيه يكون السراب" 2 الفاقرة الداهية التي تكسر الظهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 برهان محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر وكما أنه تقدم الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قام بهذه الأركان الخمسة بالإسلام فقد حكم لمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره بالإيمان وهذا منقول عنه نقلا متواترا فمن كان هكذا فهو المؤمن حقا وقد ورد من الأدلة المشتملة على الترهيب العظيم من تكفير المسلمين والأدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه ما يدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح فكيف بإخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية فإن هذه جناية لا تعد لها جناية وجرأة لا تماثلها جرأة وأين هذا المجترىء على تكفير أخيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الصحيح أيضا "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الصحيح أيضا "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" وهو أيضا في الصحيح وكم يعد العاد من الأحاديث الصحيحة والآيات القرآنية والهداية بيد الله عز وجل {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} هذا ما أفاده الماتن العلامة في السيل وقال أيضا: اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن "من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما" هكذا في الصحيح وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما "من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه"أي رجع وفي لفظ في الصحيح "فقد كفر أحدهما" ففي هذه الأحاديث وما ورد مرودها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن السراع في التكفير وقد قال عز وجل: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر ولا اعتبار بلفظ يلفظ به المسلم يدل على الكفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 وهو لا يعتقد معناه فإن قلت قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلما كما تقدم وورد في السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلا يخالف الشرع كما في حديث "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" ونحوه مما ورد مورده وكل ذلك يفيد أن صدور شئ من هذه الأمور يوجب الكفر وإن لم يرد قائله أو فاعله به الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر قلت: إذا ضاقت عليك سبل التأويل ولم تجد طريقا تسلكها في مثل هذه الأحاديث فعليك أن تقرها كما وردت وتقول من أطلق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم الكفر فهو كما قال ولا يجوز إطلاقه على غير من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين كافرا إلا من شرح بالكفر صدرا فحينئذ تنجو من معرة الخطر وتسلم من الوقوع في المحنة فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح على دينه ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولاعائدة فكيف إذا كان على نفسه إذا أخطأ أن يكون في عداد من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرا أفهذا يقود إليه العقل فضلا عن الشرع ومع هذا فالجمع بين أدلة الكتاب والسنة واجب وقد أمكن هنا بما ذكرناه فتعين المصير إليه فحتم على كل مسلم أن لا يطلق كلمة الكفر إلا على من شرح به صدرا ويقصر ماورد مما تقدم مورده وهذا الحق ليس به خفاء ... فدعني عن بنيات1 الطريق ويأبى2 الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح وكيف يحكم بالكفر على من حكى قولا كفريا صدر من كافر فإن القرآن الكريم قد اشتمل على ما يأبى عنه الحصر من حكاية ما هو كفر بواح من أقوال الكفار وهكذا لا يحكم بكفر من كفر مكرها فقد استثناه القرآن الكريم بقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} وكفى به اهـ. "والساحر" لكون عمل السحر نوعا من الكفر ففاعله مرتد يستحق ما يستحقه المرتد وقد روى الترمذي والدارقطني والبيهقي والحاكم من حديث جندب قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "حد الساحر   1 بنيات الطريق – بالتصغير – هي الطرق الصغار التي تتشعب من الجادة. 2 ويأبي الواو للعطف وووليست من البيت اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 ضربة بالسيف" قال الترمذي: والصحيح عن جندب موقوفا قال: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وغيرهم وهو قول مالك بن أنس وقال الشافعي: إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ به الكفر فإذا عمل عملا دون الكفر لم نر عليه قتلا اهـ. وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف وأخرج أحمد وعبد الرزاق والبيهقي "أن عمر بن الخطاب كتب قبل موته بشهر أن اقتلوا كل ساحر وساحرة"والأرجح ما قاله الشافعي لأن الساحر إنما يقتل لكفره فلا بد أن يكون ما عمله من السحر موجبا للكفر قال في المسوى: السحر كبيرة قال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} واختلف في ذلك أهل العلم فقال مالك وأحمد: يقتل الساحر وقال الشافعي: ما تقدم ولو قتل الساحر رجلا بسحره وأقر إني سحرته وسحري يقتل غالبا يجب عليه القود عند الشافعي ولا يجب عند أبي حنيفة ولو قال سحري قد يقتل وقد لا يقتل فهو شبه عمد ولو قال أخطأت إليه من غيره فهو خطأ تجب فيه الدية المخففة وتكون في ماله لأنه ثبت باعترافه إلا أن تصدقه العاقلة فتكون عليهم أقول: لا شك أن من تعلم السحر بعد إسلامه كان بفعل السحر كافرا مرتدا وحدّه حد المرتد وقد تقدم وقد ورد في الساحر بخصوصه أن حده القتل ولا يعارض ذلك ترك النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لقتل لبيد بن الأعصم الذي سحره فقد يكون ذلك قبل أن يثبت أن حد الساحر القتل وقد يكون ذلك لأجل خشية معرة اليهود وقد كانوا أهل شوكة حتى أبادهم الله وفل شوكتهم وأقلهم وأذلهم وقد عمل الخلفاء الراشدون على قتل السحرة وشاع ذلك وذاع ولم ينكره أحد "والكاهن" لكون الكهانة نوعا من الكفر فلا بد أن يعمل من كهانته ما يوجب الكفر وقد ورد أن تصديق الكاهن كفر فبالأولى الكاهن إذا كان معتقدا بصحة الكهانة ومن ذلك حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهنا أوعرافا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم" وفي الباب أحاديث "والساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة والطاعن في الدين" وكل هذه الأفعال موجبة للكفر الصريح ففاعلها مرتد حده حده وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 أخرج أبو داود من حديث علي "أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها" ولكنه من رواية الشعبي عن علي وقد قيل إنه ما سمع منه وأخرج أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس "أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقتلها فأهدر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دمها" ورجال إسناده ثقات وأخرج أبو داود والنسائي عن أبي برزة قال: "كنت عند أبي بكر فتغيظ علي رجل فاشتد غضبه فقلت: أتأذن لي يا خليفة رسول الله أن أضرب عنقه قال: فأذهبت كلمتي غضبه فقام فدخل فأرسل إلي فقال: ما الذي قلت آنفا قلت: ائذن لي أضرب عنقه قال: أكنت فاعلا لو أمرتك قلت نعم قال: لا والله ما كان لبشر بعد محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم" وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن من سب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وجب قتله ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم بما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء فلو تاب لم يسقط عنه القتل لأن حد قذفه القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة وخالفه القفال فقال: كفر بالسب فيسقط القتل بالإسلام قال الخطابي: لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما اهـ وإذا ثبت ما ذكرنا في سب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فبالأولى من سب الله تبارك وتعالى أو سب كتابه أو الإسلام أو طعن في دينه وكفر من فعل هذا لا يحتاج إلى برهان أقول: وقريب من هذا من جعل سب الصحابة شعاره ودثاره فإنه لا مقتضى لسبهم قط ولا حامل عليه أصلا إلا غش الدين في قلب فاعله وكراهة الإسلام وأهله فإن هؤلاء هم أهله على الحقيقة أقاموه بسيوفهم وحفظوا هذه الشريعة المطهرة ونقلوها إلينا كما هي فرضي الله عنهم وأرضاهم وأقمأ1 المشتغلين بثلبهم وتمزيق أعراضهم المصونة وقد رأينا في التواريخ ما صار يفعله أهل الشام والمغرب من قتل من كان كذلك بعد مرافعته إلى حكام الشريعة وحكمهم بسفك دمائهم وهذا وإن كان عندنا غير جائز لما عرفناك من عصمة دم المسلم حتى يقوم الدليل الدال على جواز سفكه ولكن فيه القيام التام بحقوق أساطين الإسلام "والزنديق" وهو الذي يظهر   1 القماءة الذلة والصغار. وأقمأه صغره وذلله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 الإسلام ويبطن الكفر ويعتقد بطلان الشرائع فهذا كافر بالله وبدينه مرتد عن الإسلام أقبح ردة إذا ظهر منه ذلك بقول أو فعل وقد اختلف أهل العلم هل تقبل توبته أم لا والحق قبول التوبة قال في المسوى: في باب حكم الخوارج والقدرية وأشباههم قال الشافعي: ولو أن قوما أظهروا رأي الخوارج وتجنبوا الجماعات وأكفروهم لم يحل بذلك قتالهم بلغنا أن عليا رضي الله تعالى عنه سمع رجلا يقول لا حكم إلا لله في ناحية المسجد فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل لكم علينا ثلاث لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ولا نبدؤكم بقتال وقال أهل الحديث من الحنابلة يجوز قتلهم أقول: الظاهر عندي دراية ورواية قول أهل الحديث أما رواية فلقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "فأين لقيتموهم فاقتلوهم" وأما قول علي فمعناه أن الإنكار على الإمام والطعن فيه لا يوجب قتلا حتى ينزع يده من الطاعة فيكون. باغيا أو قاطع طريق وإذا أنكر ضروريا من ضروريات الدين يقتل لذلك لا للإنكار على الإمام بيان ذلك أن المفتي إذا سئل عن بعض أفعال زيد حكم بالجواز وإذا سئل عن بعضها الآخر حكم بالفسق ثم إذا سئل عن بعضها الآخر حكم بالكفر فههنا لم يظهر هذا الرجل عنده إلا الإنكار في مسألة التحكيم فحكم حسبما أظهر ولو أنه أظهر إنكار الشفاعة يوم القيامة أو إنكار مسألة التحريم فحكم حسبما أظهر ولو أنه أظهر إنكار الشفاعة يوم القيامة أو إنكار الحوض الكوثر وما يجري مجرى ذلك من الثابت في الدين بالضرورة لحكم بالكفر وأما حديث "أولئك الذين نهاني الله عنهم" ففي المنافقين دون الزنادقة بيان ذلك أن المخالف للدين الحق إن لم يعترف به ولم يذعن له لا ظاهرا ولا باطنا فهو الكافر وإن اعترف بلسانه وقلبه على الكفر فهو المنافق وإن اعترف به ظاهرا وباطنا لكنه يفسر بعض ما ثبت من الدين ضرورة بخلاف ما فسره الصحابة والتابعون وأجمعت عليه الأمة فهو الزنديق كما إذا اعترف بأن القرآن حق وما فيه من ذكر الجنة والنار حق لكن المراد بالجنة الابتهاج الذي يحصل بسبب الملكات المحمودة والمراد بالنار هي الندامة التي تحصل بسبب الملكات المذمومة وليس في الخارج جنة ولا نار فهو الزنديق قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "أولئك الذين نهاني الله عنهم" في المنافقين دون الزنادقة وأما دراية فلأن الشرع كما نصب القتل جزاء للارتداد ليكون مزجرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 للمرتدين وذبا عن الملة التي ارتضاها فكذلك نصب القتل في هذا الحديث وأمثاله جزاء للزندقة ليكون مزجرة للزنادقة وذبا عن تأويل فاسد في الدين لا يصح القول به ثم التأويل تأويلان: تأويل لا يخالف قاطعا من الكتاب والسنة واتفاق الأمة وتأويل يصادم ما يثبت بقاطع فذلك الزندقة فكل من أنكر الشفاعة أو أنكر رؤية الله يوم القيامة أو أنكر عذاب القبر وسؤال منكر ونكير أو أنكر الصراط والحساب سواء قال لا أثق بهؤلاء الرواة أو قال أثق بهم لكن الحديث مؤول ثم ذكر تأويلا فاسدا لم يسمع ممن قبله فهو الزنديق وكذلك من قال في الشيخين أبي بكر وعمر مثلا: ليسا من أهل الجنة مع تواتر الحديث في بشارتهما أو قال إن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة ولكن معنى هذا الكلام أنه لا يجوز أن يسمى بعده أحد بالنبي وأما معنى النبوة وهو كون الإنسان مبعوثا من الله تعالى إلى الخلق مفترض الطاعة معصوما من الذنوب ومن البقاء على الخطإ فيما يرى فهو موجود في الأئمة بعده فذلك هو الزنديق وقد اتفق جماهير المتأخرين من الحنفية والشافعية على قتل من يجري هذا المجرى والله تعالى أعلم اهـ. "بعد استتابتهم" لحديث جابر عند الدارقطني والبيهقي "أن امرأة يقال لها أم رومان ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه تعالى عليه وآله وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت"وله طريقان ضعفهما ابن حجر وأخرج البيهقي من وجه آخر ضعيف عن عائشة "أن امرأة ارتدت يوم أحد فأمر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت" وأخرج أبو الشيخ في كتاب الحدود عن جابر "أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم استتاب رجلا أربع مرات" وفي إسناده العلاء بن هلال وهو متروك وأخرجه البيهقي من وجه آخر وأخرج الدارقطني والبيهقي "أن أبا بكر استتاب امرأة يقال لها أم قرفة كفرت بعد إسلامها فلم تتب فقتلها"قال ابن حجر: وفي السير أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قتل أم قرفة1 يوم قريظة وهي غير تلك وأخرج مالك في الموطأ والشافعي "أن رجلا قدم على عمر بن الخطاب من قبل أبي موسى فسأله عن الناس فأخبره فقال: هل من   1أم فرقة في الزورقائي على المواهب بكسر القاف وسكون الراء وتأتي تأنيث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 مغربة خبر1 قال نعم: رجل كفر بعد إسلامه قال: فما فعلتم به قال: قربناه فضربنا عنقه فقال عمر: هلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله إني لم أحضر ولم أرض إذا بلغني" وقد اختلف أهل العلم في وجوب الاستتابة ثم كيفيتها والظاهر أنه يجب تقديم الدعاء إلى الإسلام قبل السيف كما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يدعو أهل الشرك ويأمر بدعائهم إلى إحدى ثلاث خصال ولا يقاتلهم حتى يدعوهم فهذا ثبت في كل كافر فيقال للمرتد إن رجعت إلى الإسلام وإلا قتلناك وللساحر والكاهن والساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة أو للطاعن في الدين أو الزنديق قد كفرت بعد إسلامك فإن رجعت إلى الإسلام وإلا قتلناك فهذه هي الاستتابة وهي واجبة كما وجب دعاء الحربي إلى الإسلام وأما كونه يقال للمرتد بأي نوع من تلك الأنواع مرتين أو ثلاثة أو في ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر فلم يأت ما تقوم به الحجة في ذلك بل يقال لكل واحد من هؤلاء ارجع إلى الإسلام فإن أبى قتل مكانه قال في المسوى: اختلفت الروايات عن أبي حنيفة والشافعي في ذلك وفي المنهاج ويجب استتابة المرتد والمرتدة وفي قول يستحب وهي في الحال وفي قول ثلاثة أيام فإن أصرّا قتلا وفي الهداية إذا ارتد المسلم عن الإسلام عرض عليه الإسلام فإن كانت له شبهة كشفت عنه ويحبس ثلاثة أيام فإن أسلم وإلا قتل وفي الجامع الصغير يعرض عليه الإسلام فإن أبى قتل قيل تأويل الأول أنه إن استمهل يمهل ثلاثة أيام وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يستحب أن يؤجله طلب ذلك أو لم يطلب اهـ. أقول: الأدلة الصحيحة المصرحة بقتل المرتد لم يثبت في شئ منها الاستتابة بل فيها الأمر القتل للفور وما ورد عن بعض الصحابة من إنكار قتل المرتدين قبل الاستتابة فليس بحجة ولا يصلح لتقييد ما ثبت عن الشارع ودعوى أن ذلك إجماع بواسطة عدم الإنكار دعوى باطلة فالحق أن المرتد يقال له ارجع إلى الإسلام فإن أجاب وجب حقن دمه وإن لم يجب تعين قتله   1مغربة بضم الميم وفتح الغين وتشديد الراء المكسورة. أي من خبر جديد جاء من بلد بعيد قاله في اللسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 في ذلك الوقت وقد حصل الدعاء المشروع بمجرد قولنا له ارجع إلى الإسلام "والزاني المحصن واللوطي مطلقا والمحارب" وقد تقدم الكلام فيهم وأما الديوث فلم يصح في قتله شئ وأصل دم المسلم العصمة وليس كل معصية مبيحة للقتل بل معاصي مخصوصة ورد الشرع بها ولا سيما بعد ورود الحصر في حديث "لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث" وليس هذا منها. فالحاصل: أن الديوث من أعظم العصاة مع ما في ذلك من الهجنة المنافية للدين والمروءة وأما أنه يقتل فلا ولا كرامة وأما قتل الباطنية فالحق أنهم مع تسترهم بالكفر لا يحل قتل أحد منهم إلا بعد أن يفعل أو يقول ما هو كفر بدون تأويل ولا سيما والمشهور عنهم أنهم يظهرون لعوامهم الإسلام والصلاح ويوهمونهم أنهم على الحق فإن صح هذا فجميع عوامهم لا يعلمون أنهم على الكفر بل يعتقدون أنه على الحق فهم إلى تعريفهم بالحق أحوج منه إلى القتل فلا يجوز قتل أحد من الباطنية وهم البواهر في أرض الهند إلا بعد أن يظهر منه كفر بواح لأن كلمتهم إسلامية ودعوتهم نبوية وإن كانوا على شفا جرف هار من أمور الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 كتاب القصاص وجوب القصاص ... كتاب القصاص ووجوبه بنص الكتاب العزيز {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} وبمواتر السنة كحديث "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث" منها {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود وفي مسلم وغيره من حديث عائشة وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفتدي وإما أن يقتل" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو فإن أراد رابعة فخذوا على يده" وفي إسناده سفيان بن أبي العوجاء السلمي وفيه مقال وفيه أيضا محمد بن إسحق وقد عنعن وقد أخرج البخاري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 وغيره من حديث ابن عباس قال: "كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية" فقال الله تعالى لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} الآية {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} قال: فالعفو أن يقبل في العمد الدية والاتباع بالمعروف أن يتبع الطالب بمعروف ويؤدي إليه المطلوب بإحسان {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} فيما كتب على من كان قبلكم "ولا خلاف بين أهل الإسلام في وجوب القصاص عند وجود المقتضي وانتفاء المانع "يجب على المكلف المختار" وقد تقدم وجهه العامد لما أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه من حديث عائشة بلفظ "لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال: زان محصن فيرجم ورجل يقتل مسلما متعمدا ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض" وأخرج الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ "من قتل متعمدا أسلم إلى أولياء المقتول فإن أحبوا قتلوا" الحديث وهو معلوم بالأدلة والإجماع من أهل الإسلام أن القصاص لا يجب إلا مع العمد ولا بد أن يكون عدوانا لأن من قتل عمدا مقتولا يستحق القتل شرعا لم يجب القصاص عليه قلت: عند الشافعي القتل على ثلاثة أنواع: عمد محض وهو أن يقصد قتل إنسان بما يقصد به القتل غالبا سواء كان بمحدد أو مثقل فيجب فيه القصاص عند وجود المكافىء أو الدية مغلظة في مال الجاني حالة والثاني شبه العمد وهو أن يقصد ضربه بما لا يموت مثله من مثل ذلك الضرب غالبا بأن ضربه بعصا خفيفة أو حجر صغير ضربة أو ضربتين فمات فلا يجب فيه القصاص ويجب به الدية مغلظة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين فإن كان المضروب صغيرا أو مريضا يموت منه غالبا أو كان قويا غير أن الضارب والى عليه بالضرب حتى مات يجب القود والثالث الخطأ المحض وهو أن لا يقصد ضربه وإنما قصد غيره فأصابه أو حفر بئرا فتردى فيه إنسان أو نصب شبكة حيث لا يجوز فتعلق بها رجل ومات فلا قود عليه وتجب الدية مخففة على العاقلة في ثلاث سنين ثم القتل ينقسم باعتبار المقتولين إلى أقسام ولكل قسم حكم يخصه إما في القود وإما في الدية وإما فيهما جميعا قتل الحر وقتل العبد وقتل الذكر وقتل الأنثى وقت المسلم وقتل الكفار وقتل الجنين ولا اعتبار لكون المقتول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 شريفا أو وضيعا جميلا أو دميما صغيرا أو كبيرا غنيا أو فقيرا وإذا وجب القود على إنسان فترك له شئ من الدم بأن عفا أحد الورثة صار موجبه الدية للآخرين وسيأتي تفصيلها وأما إنكار القصاص في دار الحرب مطلقا فلا وجه له من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع فإن أحكام الشرع لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية أو لبعضها فما أوجبه الله تعالى على المسلمين من القصاص ثبت في دار الحرب كما هو ثابت في غيرها مهما وجدنا إلى ذلك سبيلا ولا فرق بين القصاص وثبوت الأرش إلا مجرد الخيار المبني على الهباء فإن كل واحد منهما حق لآدمي محض يجب الحكم له به على خصمه وهو مفوض إلى اختياره وغاية ما ثبت في هذا ما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من وضع الدماء التي وقعت في أيام الجاهلية وليس في هذا تعرض لدماء المسلمين فهي على ما ورد فيها من أحكام الإسلام ولا يرفع شيئا من هذه الأحكام إلا دليل يصلح للنقل وإلا وجب البقاء على الثابت في الشرع من لزوم القصاص ولزوم الأرش "إن اختار ذلك الورثة وإلا فلهم طلب الدية" لما تقدم من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين" "وتقتل المرأة بالرجل والعكس والعبد بالحر والكافر بالمسلم" لما أخرجه مالك والشافعي من حديث عمرو بن حزم "أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه إلى أهل اليمن أن الذكر يقتل بالأنثى" ورواه أبو داود والنسائي من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري مرسلا ورواه النسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي موصولا مطولا من حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده وفي هذا الحديث كلام طويل وقد صححه ابن حبان والحاكم والبيهقي وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم يستغنى بشهرته عن الإسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابا أصح من كتاب عمر بن حزم هذا فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وأما عصره الزهري بالصحة لهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 الكتاب1 ومما استدل به على ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس "أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين فقيل لها من فعل بك هذا فلان أو فلان حتى سمي اليهودي فأومأت برأسها فجيء به فاعترف فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فرضّ رأسه بين حجرين"وقد استوفى الماتن ذلك البحث في شرح المنتقى وإلى ذلك ذهب الجمهور واختلفوا هل تستوفي ورثة الرجل من ورثة المرأة نصف الدية أم لا وقد حكى ابن المنذر الإجماع على قتل الرجل بالمرأة إلا رواية عن علي وعن الحسن وعطاء ورواه البخاري عن أهل العلم هذا في قتل الرجل بالمرأة وأما قتل المرأة بالرجل فالأمر واضح وهكذا قتل العبد بالحر والكافر بالمسلم والفرع بالأصل وليس في ذلك خلاف وأما العكس من هذه الصور الثلاث فقد قيل: إنه يقتل الحر بالعبد وهو محكي عن الحنفية وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والثوري هذا إذا كان العبد مملوكا لغير القاتل وأما إذا كان مملوكا له فقد حكى في البحر الإجماع على أنه يقتل السيد بعبده إلا عن النخعي وهكذا حكى الخلاف عن النخعي وبعض التابعين الترمذي واستدل المثبتون بما أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي من حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عبده قتلناه ومن جدع2 عبده جدعناه"وفي إسناده ضعف لأنه من رواية الحسن عن سمرة وفي سماعه منه خلاف مشهور واستدل المانعون بقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وفي الاستدلال بالآية إشكال كالإشكال في استدلال من استدل بقوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} واستدلوا أيضا بما أخرجه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقد به وأمره أن يعتق رقبة"وفي إسناده إسمعيل بن عياش ولكنه رواه عن الأوزاعي وهو شامي وإسمعيل قوي في الشاميين وفي إسناده أيضا محمد بن عبد العزيز الشامي وهو ضعيف وأخرج البيهقي وابن عدي من حديث عمر   1 لم أجده مطولا في النسائي كما قال الشارح إلا أن يكون في السنن الكبرى اانسائي ولم نرها وهو في مستدرك الحاكم مطولا "ج 1 ص 395" 2 الجدع قطع الأنف والأذن والشفة وهو بالأنف أخص فإذا أطلق غلب عليه. قاله ابن الأثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده" وفي إسناده عمر بن عيسى الأسلمي وهو منكر الحديث كما قال البخاري وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا "لا يقتل حر بعبد" وفي إسناده جويبر وغيره من المتروكين وأخرج البيهقي عن علي قال: "من السنة لا يقتل حر بعبد" وفي إسناده جابر الجعفي وهو متروك وأخرج البيهقي من حديث علي نحو حديث عمرو بن شعيب وفي الباب أحاديث تشهد لهذه وتقويها "لا العكس" أي لا يقتل مؤمن بكافر لحديث علي أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "ألا لا يقتل مؤمن بكافر" وأخرجه أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم وصححه وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر وأخرج البخاري وغيره عن علي "أنه قال له أبو جحيفة1: هل عندكم شئ من الوحي ما ليس في القرآن فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت: وما في هذه الصحيفة قال: المؤمنون تتكافأ دماؤهم وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر "وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يقتل المسلم بالكافر الحربي وأما بالذمي فذهب إلى ذلك الجمهور وبه قال أبو حنيفة ولم يأت من ذهب إلى قتل المسلم بالذمي بما يصلح للاستدلال به قال مالك: الأمر عندنا أن لا يقتل مسلم بكافر إلا أن يقتله قتل غيلة فيقتل به قلت: وعليه الشافعي إلا أنه أسقط هذا الاستثناء لأن الأحاديث الصحيحة في هذا الباب مثل حديث علي وعبد الله بن عمر ساكتة عنه "والفرع بالأصل لا العكس" أي لا يقتل الأصل بالفرع لحديث "لا يقتل الوالد بالولد" أخرجه الترمذي من حديث عمر وفي إسناده الحجاج بن أرطاة ولكن له طريق أخرى عند أحمد والبيهقي والدارقطني ورجال إسناده ثقات وأخرج نحوه الترمذي أيضا من حديث سراقة وفي إسنادها ضعف وأخرج أيضا من حديث ابن عباس وقد أجمع أهل العلم على ذلك لم يخالف فيه إلا البتي ورواية عن مالك "ويثبت القصاص في الأعضاء ونحوها والجروح مع الإمكان"   1 قوله أبو جحيفة بتقديم الجيم على الحاء اهـ. من هامش الصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وهي وإن كانت حكاية عن بني إسرائيل فقد قرر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس في الصحيحين وغيرهما "أن الربيع كسرت ثنية جارية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص" وأما تقييد ذلك بالإمكان فلكون بعض الجروح قد يتعذر الاقتصاص فيها كعدم إمكان الاقتصار على مثل ما في المجني عليه وخطاب الشرع محمول على الإمكان من دون مجاوزة للمقدار الكائن في الجني عليه فإذا كان لا يمكن بمجاوزة للمقدار أو بمخاطرة وإضرار فالأدلة الدالة عليى تحريم دم المسلم وتحرم الإضرار به بما هو خارج عن القصاص مخصصة لدليل الاقتصاص قلت: إن كل طرف له مفصل معلوم فقطعه ظالم من مفصله من إنسان اقتص منه كالإصبع يقطعها من أصلها أو اليد يقطعها من الكوع أو من المرفق أو الرجل يقطعها من المفصل يقتص منه وكذلك لو قلع سنه أو قطع أنفه أو أذنه أو فقأ عينه أو جب ذكره أو قطع أنثييه يقتص منه وكذلك لو شجه موضحة1 في رأسه أو وجهه يقتص منه ولو جرح رأسه دون الموضحة أو جرح موضعا آخر من بدنه أو هشم العظم فلا قود فيه لأنه لا يمكن مراعاة المماثلة فيه وكذلك لو قطع يده من نصف الساعد فليس له أن يقطع يده من ذلك الموضع وله أن يقتص من الكوع ويأخذ حكومة لنصف الساعد وعلى هذا أكثر أهل العلم في الجملة وفي التفاصيل لهم اختلاف "ويسقط بإبراء أحد الورثة ويلزن نصيب الآخرين من الدية" لما تقدم من كونه أمر القصاص والدية إلى الورثة وأنهم بخير النظرين فإذا أبرؤا من القصاص سقط وإن أبرأ أحدهم سقط لأنه لا تبعض ويستوفي الورثة نصيبهم من الدية وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة" وأراد بالمقتتلين أولياء المقتول وينحجزوا أي ينكفوا عن القود بعفو أحدهم ولو كانت امرأة وقوله: "الأول فالأول" أي الأقرب فالأقرب هكذا فسر الحديث أبو داود وفي إسناده حصن بن عبد الرحمن ويقال ابن محصن أبو حذيفة   1 من أوضحت الشجة بالرأس فهمي موضحه يعني كشف العظم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 الدمشقي قال أبو حاتم الرازي: لا أعلم من روى عنه غير الأوزاعي ولا أعلم أحد نسبه1 وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن يعقل2 عن المرأة عصبتها من كانوا ولا يرثون منها إلا ما فضل عن ورثتها وإن قتلت فعقلها بين ورثتها وهو يقتلون قاتلها" وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي وقد وثقه غير واحد وتكلم فيه غير واحد فقوله: "وهم يقتلون قاتلها" يفيد أن ذلك حق لهم يسقط بإسقاطهم أو إسقاط بعضهم وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه "فإذا كان فيهم صغير ينتظر في القصاص بلوغه" دليله ما قدمنا من أن ذلك حق لجميع الورثة ولا اختيار للصبي قبل بلوغه3" ويهدر ما سببه من المجني عليه" لحديث عمران بن حصين في الصحيحين وغيرهما "أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيتاه فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال "يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل لا دية لك" وفيهما أيضا من حديث يعلى بن أمية4 وإلى ذلك ذهب الجمهور" وإذا أمسك رجل وقتل آخر قتل القاتل وحبس الممسك" لحديث ابن عمر عند الدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك" وهو من طريق الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر ورواه معمر وغيره عن اسمعيل قال الدارقطني والإرسال أكثر وأخرجه أيضا البيهقي ورجح المرسل وقال أنه موصول غير محفوظ قال ابن حجر ورجاله ثقات وصححه ابن القطان وأخرج الشافعي عن علي "أنه قضى في رجل قتل رجلا متعمدا وأمسكه آخر قال: يقتل القاتل ويحبس الآخر في السجن حتى يموت "وقد ذهب إلى ذلك الحنفية والشافعية ويؤيده قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وبالجملة: فقتل القاتل مندرج تحت الأدلة المثبتة للقصاص وأما حبس الممسك فذلك نوع من التعزير استحقه بسبب إمساكه للمقتول وقد روي   1 وذكره ابن حبان في الثقات. 2 العقل هو الدية وأصله أن القاتل كان إذا قتل قتيلا جمع الدية من الإبل فعقلها بفناء ألياء المقتول أي شدها في عقلها ليسلمها إليهم. قاله ابن الأثير. 3 هي خلافية ةةوالخلاف مفصل في بداية المجتهد لابن رشد "ج 2 ص 336 – 337" 4 يعني نحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 عن النخعي ومالك والليث أنه يقتل الممسك كالمباشر للقتل لأنهما شريكان وفي الموطإ "أن عمر بن الخطاب قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه قتل غيلة وقال عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا "قال مالك: الأمر عندنا أنه يقتل في العمد الرجال الأحرار بالرجل الحر الواحد والنساء بالمرأة كذلك والعبيد1 بالعبد كذلك أيضا في المسوى: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم قالوا: إذا اجتمع جماعة على قتل واحد يقتلون به قصاصا اهـ. أقول: إذا اشترك جماعة من الرجال أو الرجال والنساء في قتل رجل عمدا بغير حق قتلوا به كلهم وهذا هو الحق لأن الأدلة القرآنية والحديثية لم تفرق بين كون القاتل واحد اأو جماعة والحكمة التي تشرع القصاص لأجلها وهي حقن الدماء وحفظ النفوس مقتضية لذلك ولم يأت من قال بعدم جواز قتل الجماعة بالواحد بحجة شرعية بل غاية ما استدلوا به على المنع تدقيقات ساقطة ليست من الشرع في قبيل ولا دبير2 كما فعله الجلال في ضوء النهار والمقبلى وقد نقض الماتن ذلك في أبحاث أجاب بها على بعض علماء العصر واستوفى جميع الحجج وقوله: "قتلوه غيلة "أي حيلة يقال: اغتالني فلان إذا احتال حيلة يتلف بها ماله ويقال الغيلة هي أن يخدعه حتى يخرجه إلى موضع يخفى فيه ثم يقتله "تمالأ عليه أهل صنعاء "أي تعاونوا عليه واجتمعوا إليه قال في الهدي: وعلى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا فلا يسقط العفو ولا نعتبر فيه المكافأة وهذا مذهب أهل المدينة وأحد الوجهين في مذهب أحمد اختاره شيخنا وأفتى به اهـ وقال قبل هذا ما لفظه وعلى أن حكم ردء المحاربين حكم مباشرتهم فإنه من المعلوم أن كل واحد منهم يعني العرنيين لم يباشر القتل بنفسه ولا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن ذلك اهـ. وفي قتل الخطإ الدية والكفارة لنص الكتاب العزيز على ما في النظم القرآني من القيود والتفاصيل وقد وقع الإجماع على وجوب الدية والكفارة في الجملة وإن وقع   1 في الأصل "بالعبيد" وهو خطأ صححناه من الموطأ "ص 342" طيع الهند. 2 القبيل ما وليك والدبير ما خالفك. ويقال القبيل فتل القطن والدبير فتل الكتان والصوف ومعنى قولهم " ما يعرف قبيله من دبيره" ما يدري شيئا. ملخص من اللسان وجعله الزمخشري من المجاز وهو ظاهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 الخلاف في بعض الصور كوجوب الكفارة من مال الصغير إذا قتل لأن عمده خطأ والخلاف في وجوب الكفارة من ماله معروف فمن لم يوجبها جعل إيجابها من باب التكليف فقال: لا تجب إلا على مكلف ومن أوجبها جعله من خطاب الوضع وهكذا المجنون والكفارة هي ما ذكر الله سبحانه من تحرير الرقبة وما بعده من الإطعام والصوم وأما الدية فسيأتي بيانها وبيان الخطإ المحض والخطإ الذي هو شبه العمد "وهو ما ليس بعمد أو من صبي أو مجنون" قال مالك في الموطإ: الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا قود بين الصبيان وأن عمدهم خطأ ما لم تجب عليهم الحدود ويبلغوا الحلم وأن قتل الصبي لا يكون إلا خطأ قلت: وعلى هذا أكثر أهل العلم "وهي على العاقلة وهم العصبة" لحديث أبي هريرة في الصحيحين قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها" وفي لفظ لهما "وقضى بدية المرأة على عاقلتها" وفي مسلم وغيره من حديث جابر قال: "كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقولة1" وأخرج أبو داود وابن ماجه2 "أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الآخرى ولك واحدة منها زوج وولد فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها قال: فقال عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ميراثها لزوجها وولدها" وصححه النووي وفي إسناده مجالد وهو ضعيف وقد تقدم حديث عمرو بن شعيب قريبا وفيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن تعقل عن المرأة عصبتها" الحديث وقد أجمع العلماء على ثبوت العقل وإنما اختلفوا في التفاصيل وفي مقدار ما يلزم كل واحد من العاقلة أقول: الأدلة قد وردت بما يستفاد منه أن القبيلة تعقل عن الجاني منها وأن البطن يعقل عن الجاني منه والقرابة يعقلون عن القريب الجاني ولا منافاة بين هذه الأحاديث بل يجمع بينها بأن القرابة إذا قدروا على تسليم ما لزم فهم أخص من غيرهم وإن احتاج اللازم إلى زيادة عليهم ولم يقدروا على الوفاء لزم البطن ثم القبيلة وبمجموع ما ورد في العقل يرد على من قال إنه غير ثابت في الشريعة مستدلا بمثل   1 بضم العين وإنما دخلت الهاء لإفادة المرة الواحدة. قله الشوكاني. 2 يعني من حديث جابر ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 قوله تعالي: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجني جان إلا على نفسه" لأن أدلة العقل أخص مطلقا فالعمل بها واجب والظاهر أن العقل لازم في كل جنايات الخطإ من غير فرق بين الموضحة وما دونها وما فوقها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 كتاب الديات الأصل في الدية أنها تجب أن تكون مالا عظيما يغلبهم وينقص من مالهم ويجدون له ألما عندهم ويكون بحيث يؤدونه بعد مقاساة الضيق ليحصل الزجر وهذا القدر يختلف باختلاف الأشخاص "ودية الرجل المسلم مائة من الإبل أو مائتا بقرة أو ألف شاة أو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم أو مائتا حلة" تقدير الدية بذلك لحديث عطاء بن أبي رباح عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية عطاء عن جابر عن النبي صلى عليه وسلم قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة" رواه أبو داود مسندا ومرسلا وفيه عنعنة محمد بن إسحق وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من كان عقله في البقر على أهل البقر مائتي بقرة ومن كان عقله في الشاء ألفي شاة" وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المحكولي وقد تكلم فيه غير واحد ووثقه جماعة وفي حديث عمرو بن حزم "أن في النفس الدية مائة من الإبل" وهو حديث صحيح قد تقدم تخريجه في قتل الرجل بالمرأة وفيه أيضا "وعلى أهل الذهب ألف دينار" وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس "أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا" وأخرجه الترمذي مرفوعا ومرسلا وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار أو ثمانية آلالف درهم ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين قال: فكان كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال: ألا إن الإبل قد غلت قال ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 الورق اثني عشر ألف درهم وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة" ولا يخفى أن هذا لا يعارض ما تقدم فقد وقع التصريح فيه برفع ذلك إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد اختلف أهل العلم في مقادير الدية والحق ما ثبت من تقدير الشارع كما ذكرناه وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم "قال مالك: فأهل الذهب أهل الشام وأهل مصر وأهل الورق أهل العراق قلت: عليه مالك وهو القول القديم للشافعي إلا أنه قال يقدر بتقدير عمر بن الخطاب عند إعواز الإبل والإبل هي الأصل في باب الديات ثم رجع وقال: الأصل فيها الإبل فإذا أعوزت تجب قيمتها بالغة ما بلغت وتأول حديث عمر على أن قيمة الإبل كانت قد بلغت في زمانه اثني عشر ألف درهم أو ألف دينار لحديث عمرو بن شعيب المتقدم وقال أبو حنيفة: الدية مائة من الإبل أو ألف دينار أوعشرة آلاف درهم وقال صاحباه: على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل الذهب والورق ألف دينار أوعشرة آلاف درهم وعلى أهل البقر مائتا بقرة وعلى أهل الشاء ألفا شاة وعلى أهل الحلل ألف حلة "وتغلظ دية العمد وشبهه" واتفقوا على أن التغليظ لا يعتبر إلا في الإبل دون الذهب والورق أقول: قد اختلفت الأحاديث في الديات تغليظا وتخفيفا ولكل قسم فالدية المغلظة في الخطأ الذي هو شبه العمد والدية المخففة في الخطأ المحض والأحاديث مصرحة بذلك فليرجع إليها والمذاهب مختلفة وليس الحجة إلا في الدليل لا في القال والقليل "بأن يكون المائة من الإبل في بطون أربعين منها أولادها" لحديث عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: "ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه دية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون ثنية إلى بازل عامها كلهن خلفة1"أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبخاري في تاريخه وساق اختلاف الرواة فيه وأخرجه أيضا   1الثنية من الإبل ما دخل في السادسة والبازل الذي أتم ثماني سنين ودخل في التاسعة وحينئذ يطلع نابه وتكمل قوته ثم يقال له بعد ذلك بازل عام وبازل عامين والخلفة بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام الحامل من النوق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 الدارقطني وأخرج أحمد وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عقل شبه العمد مغلظ كعقل العمد ولا يقتل صاحبه وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبخاري في التاريخ والدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط أو العصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" وصححه ابن حبان وابن القطان وأخرج هذا الحديث من تقدم ذكره من حديث ابن عمر وفي الباب أحاديث وقد ذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن القتل على ثلاثة أضرب: عمد خطأ وشبه عمد ففي العمد القصاص وفي الخطأ الدية وفي شبه العمد وهو ما كان بما مثله لا يقتل في العادة كالعصا والسوط والإبرة مع كونه قاصدا للقتل دية مغلظة وهي مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها وممن ذهب إلى هذا زيد بن علي والشافعية والحنفية وأحمد وإسحق وقال مالك والليث: إن القتل ضربان: عمد وخطأ فالخطأ ما وقع بسبب من الأسباب أو غير مكلف أو غير قاصد للمقتول ونحوه أو للقتل بما مثله لا يقتل في العادة والعمد ما عداه والأول لا قود فيه وقد حكى صاحب البحر الإجماع على هذا مع كون مذهب الجمهور على خلافه "ودية الذمي نصف دية المسلم" لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عقل الكافر نصف دية المسلم" أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وابن الجارود وصححه وأخرجه أيضا ابن ماجه بنحوه وأخرج ابن حزم من حديث عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دية المجوسي ثمانمائة درهم" وأخرجه أيضا الطحاوي والبيهقي وابن عدي وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف وأخرج الشافعي والدارقطني والبيهقي عن سعيد بن المسبب قال: كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ودية المجوسي ثمانمائة "وقد ذهب إلى كون دية الذمي نصف دية المسلم مالك وقال الشافعي: إن دية الكافر أربعة آلاف درهم كذا روي عنه والذي في منهاج النووي أن دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم" قال شارحه المحلي: إنه قال بذلك عمر وعثمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وابن مسعود وحكى في البحر عن زيد بن علي وأبي حنيفة أن دية المجوسي كالذمي وذهب الثوري والزهري وزيد بن علي وأبو حنيفة إلى أن دية الذمي كذية المسلم وروي عن أحمد أن ديته مثل دية المسلم إن قتل عمدا وإلا فنصف الدية احتج القائلون بتنصيف دية الذمي بالنسبة إلى دية المسلم بما تقدم واحتج القائلون بأنها كدية المسلم بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ويجاب بأن هذا الإطلاق مقيد بما ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من كونها على النصف من دية المسلم وعند الترمذي "عقل الكافر نصف عقل المؤمن" "قال ابن القيم: هذا حديث حسن يصحح مثله أكثر أهل الحديث وعند أبي داود "كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلم فلما كان عمر رفع دية المسلمين وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما من الدية" انتهى "ودية المرأة نصف دية الرجل والأطراف وغيرها كذلك في الزائد على الثلث" لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديته" أخرجه النسائي والدارقطني وصححه ابن خزيمة وأخرج البيهقي من حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دية المرأة نصف دية الرجل" قال البيهقي: إسناده لا يثبت مثله وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن علي أنه قال: "دية المرأة على النصف من دية الرجل في الكل" وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة عن عمر وقد أفاد الحديث المذكور أن دية المرأة على النصف من دية الرجل وأن أرشها1 إلى الثلث من الدية مثل أرش الرجل وقد وقع الخلاف في ذلك بين السلف والخلف وأخرج مالك في الموطأ والبيهقي عن ربيعة بن عبد الرحمن أنه قال: سألت سعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة قال: عشر من الإبل قلت: فكم في إصبعين قال: عشرون من الإبل قلت: فكم في ثلاث أصابع قال: ثلاثون من الإبل قلت: فكم في أربع قال: عشرون من الإبل قلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها قال سعيد: أعراقي أنت؟ قلت: بل عالم متثبت أو جاهل متعلم قال:   1قال أبو منصور: أصل الأرش الخدش ثم قيل لما يؤخذ دية لها أرش. نقله في اللسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 هي السنة يا ابن أخي. "وتجب الدية كاملة في العينين والشفتين واليدين والرجلين والبيضتين وفي الواحدة منها نصفها وكذلك تجب كاملة في الأنف واللسان والذكر والصلب وأرش المأمومة والجائفة ثلث دية المجني عليه وفي المنقلة عشر الدية ونصف الدية ونصف عشرها وفي الهاشمة1 عشرها وفي كل سن نصف عشرها وكذا في الموضحة" لحديث عمرو بن حزم الذي تقدم تخريجه وتصحيحه وفيه "أن في الأنف إذا أوعب جدعة الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرِّجل الواحدة نصف الدية وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل "وأخرج أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الأنف إذا جدع كله بالعقل كاملا وإذا جدعت أرنبته فنصف العقل وقضى في العين نصف العقل والرّجل نصف العقل واليد نصف العقل والمأمومة ثلث العقل والمنقلة خمسة عشر من الإبل" وقد أخرجه أبو داود وابن ماجه بدون ذكر العين والمنقلة وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي وقد تكلم فيه جماعة ووثقه جماعة2 وأخرج الترمذي وصححه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دية أصابع اليدين والرجلين سواء عشر من الإبل لكل أصبع" وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي موسى وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في كل أصبع عشر من الإبل وفي كل سن خمس من الإبل والأصابع سواء والأسنان سواء" وأخرج أحمد وأهل السنن وابن خزيمة وابن الجارود وصححاه من حديث عمرو بن شعيب أيضا عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "في المواضح خمس من الإبل" وفي البخاري وغيره من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله تعالى عليه   1 المأمومة هي الجناية البالغة الدماغ. والجائفة هي الطعنة التي تبلغ الجوف التي تنقل العظم أو تكسره. والهاشمة هي الشجة التي تهشم العظم. 2 والحق أنه ثقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 وآله وسلم قال: "هذه وهذه يعني الخنصر والإبهام سواء" وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأسنان سواء الثنية والضرس سواء" والمراد بالمأمومة الجناية التي بلغت أم الدماغ أو الجلدة الرقيقة التي عليه وإلى إيجاب ثلث الدية فيها ذهب علي وعمر والحنفية والشافعية والمراد بالجائفة الجناية التي تبلغ الجوف وإلى إيجاب ثلث الدية فيها ذهب الجمهور والمراد بالمنقلة الجناية التي تنقل العظام عن أماكنها وقد ذهب إلى إيجاب خمسة عشر ناقة فيها علي وزيد بن ثابت والشافعية والحنفية والمراد بالهاشمة التي تهشم العظم وقد أخرج الدارقطني والبيهقي وعبد الرزاق من حديث زيد بن ثابت "أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب في الهاشمة عشرا من الإبل" وقد قيل: إنه موقوف لكن لذلك حكم الرفع في المقادير والمراد بالموضحة التي تبلغ العظم ولا تهشم وقد اختلف في المنقلة والهاشمة والموضحة هل هذا الأرش هو بالنسبة إلى الرأس فقط أم الرأس وغيره والظاهر أن عدم الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقام كما تقرر في الأصول" وما عدا هذه المسماة فيكون أرشه بمقدار نسبته إلى أحدها تقريبا لأن الجناية قد لزم أرشها بلا شك إذ لا يهدر دم المجني عليه بدون سبب ومع عدم ورود الشرع بتقدير الأرش لم يبق إلا التقدير بالقياس على تقدير الشارع وبيان ذلك أن الموضحة إذا كان أرشها نصف عشر الدية كما ثبت عن الشارع نظرنا إلى ما هو دون الموضحة من الجنايات فإن أخذت الجناية نصف اللحم وبقي نصفه إلى العظم كان أرش هذه الجناية نصف أرش الموضحة وإن أخذت ثلثه كان الأرش ثلث أرش الموضحة ثم هكذا وكذلك إذا كان المأخوذ بعض الأصبع كان أرشه بنسبة ما أخذ من الأصبع إلى جميعها فأرش نصف الأصبع نصف عشر الدية ثم كذلك وهكذا الأسنان إذا ذهب نصف السن كان أرشه نصف أرش السن ويسلك هذا في الأمور التي تلزم فيها الدية كاملة كالأنف فإذا كان الذاهب نصفه ففيه نصف الدية والذكر ونحو ذلك فهذا أقرب المسالك إلى الحق ومطابقة العدل وموافقة الشرع. أقول: اعلم أن كل جناية فيها أرش مقدر من الشارع كالجنايات التي في حديث عمرو بن حزم الطويل وفي غيره مما ورد في معناه فالواجب الاقتصار في المقدار على الوارد في النص وكل جناية ليس فيها أرش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 من الشارع بل ورد تقدير أرشها عن صحابي أو تابعي أو من بعدهما فليس في ذلك حجة على أحد بل المرجع في ذلك نظر المجتهد وعليه أن ينظر في مقدار نسبتها من نسبة الجناية التي ورد فيها أرش مقدر من الشارع فإذا غلب في طنه مقدار النسبة جعل لها من الأرش مقدار نسبتها مثلا الموضحة ورد في الشرع تقدير أرشها فإذا كانت الجناية دون الموضحة كالسِّمحاق والمتلاحمة والباضعة والدامية1 فعليه أن ينظر مثلا مقدار ما بقي من اللحم إلى العظم فإن وجده مقدار الخمس والجناية قد قطعت من اللحم أربعة أخماس جعل في الجناية أربعا من الإبل أو أربعين مثقالا لأن مجموع أرش الموضحة خمس من الإبل أو خمسون مثقالا وإن وجد الباقي من اللحم ثلثا جعل أرش الجناية بمقدار الثلثين من أرش الموضحة ثم كذلك إذا بقي النصف أو الربع أو الخمس أو العشر وهكذا في سائر الجنايات التي لم يرد تقدير أرشها فإنه ينبغي النسبة بينها وبين ما ورد تقدير أرشه من جنسها وحينئذ لا يحتاج الحاكم العالم إلى تقليد غيره من المجتهد كائنا من كان ولا يبقى تقسيم للجناية إلى ما يجب فيه أرش مقدر وما تجب فيه حكومة "وفي الجنين إذا خرج ميتا الغرة" لحديث أبي هريرة في الصحيحين "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة" وهو ثابت في الصحيحين بنحو هذا من حديث المغيرة ومحمد بن مسلمة والغرة بضم المعجمة وتشديد الراء أصلها البياض في وجه الفرس وهنا هي2 العبد أو الأمة كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله وأما إذا خرج الجنين حيا ثم مات من الجناية ففيه الدية أو القود وهذا إنما هو في الجنين الحر والخلاف في الغرة طويل قد استوفاه الماتن في شرح المنتقى "وفي العبد قميته وأرشه بحسبها" لاخلاف في ذلك وإنما اختلفوا إذا جاوزت قيمته دية الحر هل تلزم الزيادة أم لا؟ والأولى اللزوم وأرش الجناية عليه منسوب من قيمته فما كان فيه في الحر نصف الدية أو ثلثها أو عشرها أو نحو ذلك ففيه في العبد نصف القيمة أو ثلثها أو عشرها أو نحو ذلك أقول: وجه   1السمحاق جلده ورقيقه فوق قحف الرأس إذا انتهت إليها الشجة سميت سمحاقا. والمتلاحمة هي التي أخذت في اللحم ولم تبلغ السمحاق. والباضعة هي التي تقطع الجلد وتشق اللحم وتدمي إلا أنه لا يسيل الدم. فإن سال فهي الدامية. 2 في الأصل "في" وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 قول من قال إنها تجب قيمة العبد وإن جاوزت دية الحر أن العبد عين من الأعيان التي يصح تملكها فكما يجب على متلف العين قيمتها وإن جاوزت دية الحر كذلك يجب على متلف العبد ووجه قول من قال إنه لا يلزم ما زاد على دية الحر أن العبد من نوع الإنسان وهو دون الحر في جميع الصفات المعتبرة فغاية ما ينتهي إليه أن يكون إنسانا حرا في الكمال فتجب فيه الدية وأما الزيادة على ذلك فلا لأن دية الحر هي نهاية ما يجب في الفرد من هذا النوع الإنساني والأول أرجح من حيث الرأي وأما من طريق الرواية فلم يصح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك شئ وقد روي عن علي مثل القول الأول وروي عنه مثل القول الثاني وأما الدابة إذا قتلها قاتل ففيها قيمتها وإذا جنى عليها كان الأرش مقدار نقص قيمتها بالجناية وهذا وإن لم يقم عليه دليل بخصوصه فهو معلوم من الأدلة الكلية لأن العبد وسائر الدواب من جملة ما يملكه الناس فمن أتلفه كان الواجب عليه قيمته ومن جنى عليه جناية تنقصه كان الواجب عليه أرش النقص كما لو جنى على عين مملوكة من غير الحيوانات وكان الأولى أن يكون المملوك كسائر الدواب يجب في الجناية عليه نقص القيمة * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 " باب القسامة " صورة القسامة أن يوجد قتيل وادعى وليه على رجل أو على جماعة وعليهم لوث ظاهر واللوث ما يغلب على القلب صدق المدعي بأن وجد فيما بين قوم أعداء لا يخالطهم غيرهم كقتيل خيبر وجد بينهم والعداوة بين الأنصار وبين أهل خيبر ظاهرة أو اجتمع جماعة في بيت أو صحراء وتفرقوا عن قتيل أو وجد في ناحية قتيل وثم رجل مختضب بدمه أو يشهد عدل واحد على أن فلانا قتله أو قاله جماعة من العبيد والنسوان جاؤا متفرقين بحيث يؤمن تواطؤهم1 ونحو ذلك من أنواع الموت فيبدأ بيمين المدعي فيحلف خمسين يمينا ويستحق دعواه فإن نكل المدعي عن   1هذا بناء على ما شاع وفهمه الفقهاء قديما وحديثا من أن اليبنة هي شهادة شاهدين حرين ذكرين عدلين. ولسنا نرى هذا رأيا صحيحا ولا دليل عليه لديهم بل البينة كل ما بين الحق وأظهره فإذا شهد جماعة من العبيد أو النساء متفرقين وأمن تواطؤهم وتبين صدقهم فشهادتهم بينة صحيحه يجب الحكم بالقصاص عندها وهذا هو الحق الواضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 اليمين ردت إلى المدعى عليه فيحلف خمسين يمينا على نفي القتل ويجب بها الدية المغلظة فإن لم يكن لوث فالقول قول المدعى عليه مع يمينه كما في سائر الدعاوى ثم يحلف يمينا واحدا أو خمسين يمينا قولان: أصحهما الأول فإن كان المدعون جماعة توزع الأيمان عليهم على قدر مواريثهم على أصح القولين ويجبر الكسر والقول الثاني كل واحد منهم خمسين يمينا وإن كان المدعى عليهم جماعة ووزع على عدد رؤسهم على أصح القولين إن كان الدعوى في الأطراف سواء كان اللوث أو لم يكن فالقول قول المدعى عليه مع يمينه هذا كله بيان مذهب الشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يبدأ بيمين المدعي بل يحلف المدعى عليه وقال إذا وجد قتيل في محلة يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهلها ويحلفهم على أنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلا ثم يأخذ الدية من أرباب الخطة فإن لم يعرفوا فمن سكانها أقول: اعلم أن هذا الباب قد وقع فيه لكثير من أهل العلم مسائل عاطلة عن الدلائل ولم يثبت في حديث صحيح ولا حسن قط ما يقتضي الجمع بين الأيمان والدية بل بعض الأحاديث مصرح بوجوب الأيمان فقط وبعضها مصرح بوجوب الدية فقط والحاصل: أنه قد كثر الخبط والخلط في هذا الباب إلى غاية ولم يتعبدنا الله بإثبات الأحكام العاطلة عن الدلائل ولا سيما إذا خالفت ما هو شرع ثابت وكانت تستلزم أخذ المال الذي هو معصوم إلا بحقه ولهذا ذهب جماعة من السلف منهم أبو قلابة وسالم بن عبد الله والحكم بن عتيبة وقتادة وسليمان بن يسار وإبراهيم بن علية ومسلم بن خالد وعمر بن عبد العزيز إلى أن القسامة غير ثابتة لمخالفتها لأصول الشريعة من وجوه قد ذكرها الماتن رحمه الله في شرح المنتقى وذكر ما أجيب به عنها من طريق الجمهور فليراجع "إذا كان القاتل من جماعة محصورين ثبتت وهي خمسون يمينا" لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "فتبرئكم اليهود بخمسين يمينا" وهو في الصحيحين من حديث سهل بن أبي حثمة "يختارهم ولي القتيل والدية إن نكلوا عليهم وإن حلفوا سقطت" لما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية" وقد ثبت أنهم في الجاهلية كانوا يخيرون المدعى عليهم بين أن يحلفوا خمسين يمينا أو يسلموا الدية كما في القسامة التي كانت في بني هاشم كما أخرجه البخاري والنسائي من حديث ابن عباس وهي قصة طويلة وفيها "أن القاتل كان معينا وأن أبا طالب قال له اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله فإن أبيت قتلناك به فأتى قومه فأخبرهم فقالوا: نحلف فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم كانت قد ولدت منه فقالت يا أبا طالب: أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر1 يمينه حيث تصبر الأيمان ففعل فأتاه رجل منهم فقال يا أبا طالب: أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان الإبل فيصيب كل رجل منهم بعيران هذان البعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف" "وإن التبس الأمر كانت من بيت المال" لحديث سهل بن أبي حثمة قال: "انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل وحيصة وحويصة أبناء مسعود إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال "كبر كبر وهو أحدث القوم فسكت فتكلما فقال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم فقالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر قال: فتبرئكم اليهود بخمسين يمينا فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده" وهو في الصحيحين وغيرهما وفي لفظ "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة" وقد اختلف أهل العلم في كيفية القسامة اختلافا كثيرا وما ذكره الماتن هو أقرب إلى الحق وأوفق لقواعد الشريعة المطهرة وقد وقع في رواية من حديث سهل المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع   1 الصبر في الأصل الحبس واليمين والمصبورة المحبوسة وقبل لها ذلك وغن كان صاحبها في الحقيقة هو المصبور – لأنه لزم بها وحبس عليها وكانت لازمة له من جهة الحكم – لأنه إنما صبر أي حبس من أجلها فوضعت بذلك مجازا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 برمته فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف" وقد أخرج أحمد والبيهقي عن أبي سعيد قال: "وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيلا بين قريتين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فذرع ما بينهما فوجد أقرب إلى أحد الجانبين بشبر فألقى ديته عليهم" قال البيهقي تفرد به أبو إسرائيل عن عطية ولا يحتج بهما وقال العقيلي هذا الحديث ليس له أصل وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عن الشعبي "أن قتيلا وجد بين وداعة وشاكر فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب فأحلفهم خمسين يمينا كل رجل ما قتلته ولا علمت قاتلا ثم أغرمهم الدية فقالوا: يا أمير المؤمنين لا أيماننا دفعت عن أموالنا ولا أموالنا دفعت عن أيماننا فقال عمر: كذلك الحق" وأخرج نحوه الدارقطني والبيهقي عند سعيد بن المسيب وفيه "أن عمر قال: إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم صلى الله عليه وسلم" قال البيهقي: رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم منكر وفيه عمر بن صبيح1 أجمعوا على تركه وقال الشافعي: ليس بثابت إنما رواه الشعبي عن الحرث الأعور وهذا لا تقوم به حجة لضعف إسناده على فرض رفعه وأما مع عدم الرفع فليس في ذلك حجة سواء ورد بإسناد صحيح أو غير صحيح والرجوع إلى قسامة الجاهلية التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم هو الصواب وقد تقدم ذكرها وقد أخرج أبو داود من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: "وبدأ بهم يحلف منكم خمسون رجلا فأبوا فقال للأنصار: استحقوا فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم" وهذا إذا صح لا يخالف ما ذكرناه من وجوب الدية على المتهمين إذا لم يحلفوا ولكنه مخالف لما ثبت في الصحيحين إن كانت هذه القصة هي تلك القصة وقد قال بعض أهل العلم إن هذا الحديث ضعيف لا يلتفت إليه   1صبيح بالتصغير كذا هو في التقريب وفي التهذيب "صبح" بإسكان الباء وضبطه بذلك الخزرجي في الخلاصة والحديث في سنن الدارقطني "ص 359" وفيه عن عمر بن صبيح كما هنا وعمر هذا كذاب يضع الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 كتاب الوصية على من تجب الوصية ... كتاب الوصية "تجب على من له ما يوصي فيه" لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امريء مسلم يبيت ليلتين وله شئ يريد أن يوشي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه" وقد ذهب إلى الوجوب عطاء والزهري وأبو مجاز وطلحة بن مصرف وآخرون وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم وبه قال اسحق وداود وأبو عوانة وابن جرير وذهب الجمهور إلى أن الوصية مندوبة وليست بواجبة ويجاب عنه بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين لا يستلزم نسخ وجوبها في غير ذلك ويجاب عنه أيضا بحديث الباب فإنه يفيد الوجوب قال في المسوى: وعليه أهل العلم قال محمد: وبهذا نأخذ هذا حسن جميل قال النووي: قال الشافعي معنى الحديث الجزم والاحتياط وأن المستحب تعجيل الوصية وأن يكتبها في صحته "ولا تصح ضرار" لحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار" ثم قرأ أبو هريرة {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} إلى قوله: {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} "أخرجه أبو داود والترمذي وأخرج أحمد وابن ماجه معناه وقالا: فيه "سبعين سنة "وقد حسنه الترمذي وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه مقال وقد وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأخرج ابن منصور موقوفا بإسناد صحيح عن ابن عباس "الإضرار في الوصية من الكبائر" وأخرجه النسائي مرفوعا بإسناد رجاله ثقات والآية الكريمة مغنية عن غيرها ففيها تقييد الوصية المأذون بها بعدم الضرار وقد روى جماعة من الأئمة الإجماع على بطلان وصية الضرار والحاصل: أن وصية الضرار ممنوعة بالكتاب والسنة ومن جملة أنواع الضرار تفضيل بعض الورثة على بعض فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك جورا كما في حديث النعمان بن بشير الصحيح ومن جملتها أن تكون لإخراج المال مضارة للورثة فإن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 أوصى بماله أو بجزء منه لقربة من القرب مريدا بذلك إحرام الورثة جميع ميراثهم أو بعضه فوصيته باطلة لأنه مضار وظاهر الأدلة أنه لا ينفذ من وصية الضرار شئ سواء كانت بالثلث أو بما دونه أو بما فوقه بل هي رد على فاعلها فتكون أحاديث الإذن بالثلث مقيدة بعد الضرار وقد جمع الماتن رحمه الله في هذا رسالة مختصرة "ولا" تصح "لوارث" لحديث عمرو بن خارجة "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" أخرجه أحمد وابن ماجة والنسائي والترمذي والدارقطني والبيقهي وصححه الترمذي وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث أبي أمامة وفي إسناده إسمعيل بن عياش وهو قوي إذا روى عن الشاميين وهذا الحديث من روايته عنهم لأنه رواه عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة وقد حسنه الحافظ أيضا وأخرجه أيضا الدارقطني من حديث ابن عباس قال ابن حجر: رجاله ثقات ولفظه "لا تجوز وصية لوارث إلا أن تشاء الورثة" وأخرج الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة" قال في التلخيص: إسناده واه وفي الباب عن أنس عند ابن ماجه وعن جابر عند الدارقطني وعن علي عنده أيضا وقد قال الشافعي: إن هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: "لا وصية لوراث" ويأثرونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى من نقل واحد انتهى فيكون هذا الحديث مقيدا لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا} وقد ذهب إلى ذلك الجمهور قال مالك في الموطأ: السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها أنه لا يجوز وصية لوارث إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت قلت: وعليه أهل العلم "ولا" تصح "في معصية" لحديث أبي الدرداء عند أحمد والدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم" وأخرجه ابن ماجه والبزار والبيهقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعف وأخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي من حديث أبي أمامة وإسناده ضعيف وأخرجه العقيلي في الضعفاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 من حديث أبي بكر الصديق وفيه متروك وأخرج ابن السكن وابن قانع وأبو نعيم والطبراني من حديث خالد بن عبد الله السلمي وهو مختلف في صحبته وهي تنتهض بمجموعها وقد دلت على أن الإذن بالوصية بالثلث إنما هو لزيادة الحسنات والوصية في المعصية معصية قد نهى الله عباده عن معاصيه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فلو لم يرد ما يدل على تقييد الوصية بغير المعصية لكانت الأدلة الدالة على المنع من معصية الله مفيدة للمنع من الوصية في المعصية "وهي في القرب من الثلث" لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما قال: "لو أن الناس غضوا من الثلث فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "الثلث والثلث كثير" ومثله حديث سعد بن أبي وقاص "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال له: "الثلث والثلث كثير أو كبير لما قال: أتصدق بثلثي مالي قال: لا قال: فالشطر قال: لا قال: فالثلث قال: الثلث والثلث كثير أو كبير لما قال: أتصدق بثلثي مالي قال: لا قال: فالشطر قلا: لا: فالثلث قال: الثلث والثلث كثير أو كبير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" وهو في الصحيحين وغيرهما وقد ذهب الجمهور إلى المنع من الزيادة على الثلث ولو لم يكن للموصي وارث وجوز الزيادة مع عدم الوارث الحنفية واسحق وشريك وأحمد في رواية وهو قول علي وابن مسعود واحتجوا بأن الوصية مطلقة في الآية فقيدتها السنة بمن له وارث فبقي من لا وارث له على الإطلاق وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي زيد الأنصاري "أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال غيرهم فأقرع بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتق اثنين وأرق أربعة" وفي لفظ لأبي داود أنه قال صلى الله عليه وسلم "لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين" وقد أخرج الحديث مسلم وغيره من حديث عمران بن حصين وفي لفظ لأحمد "أنه جاء ورثته من الأعراب فأخبروا رسول الله صلى اله عليه وسلم بما صنع فقال أو فعل ذلك! لو علمنا إن شاء الله ما صلينا عليه" اعلم أن الثلث المأذون به لكل واحد باعتبار ما يفعله الميت لنفسه من القرب المقربة التي لم تكن قد وجبت عليه بإيجاب الله تعالى فما كان من هذا القبيل فهو من الثلث المأذون به وأما ما كان قد تقدم له وجوب على الميت سواء كان حقا لله عز وجل كالزكارة والكفارات التي يعتقد الميت وجوبها والحج أو حق الآدمي كالديون فإنه يجب إخراجه من رأس المال قبل كل شئ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 ولا وجه للتفصيل الذي ذكروه بين ما يتعلق بالمال ابتداء وما يتعلق به انتهاء فإن ذلك لا تأثير له أصلا فالحاصل: أن الميت إذا مات وجب إخراج ما قد وجب عليه من حقوق الله وحقوق الآدميين من رأس تركته ثم ينظر فيما بقي فإن كان الميت قد أوصى بقرب لم يتقدم لها وجوب عليه بل أراد التقرب بها وجب إخراجها من ثلث الباقي لأن الله سبحانه قد أذن له أن يتصرف بثلث ماله كيف شاء بشرط عدم الضرار كتفضيل بعض الورثة على بعض أو إخراج المال عنه لا لمقصد ديني بل لمجرد إحرامهم ثم ينظر في تلك القرب التي جعلها الميت لنفسه عند الموت فإن استغرقت ثلث الباقي من دون زيادة ولا نقصان فإنفاذها واجب وإن زادت لم ينفذ الزائد إلا بإذن من الورثة فإذا أذنوا فقد رضوا على أنفسهم بخروج جزء مما يملكونه سواء كان قليلا أو كثيرا وإن نقصت عن استغراق الثلث كان الفاضل من الثلث للورثة فهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه وأما جعل بعض حقوق الله الواجبة من الثلث وبعضها من رأس المال فلا أصل لذلك إلى مجرد خيالات مختلة ثم اعلم أن الظاهر عندي أنه لا فرق بين حقوق الله الواجبة وحقوق الآدميين في مخرجها من التركة وأنه لا يجب تقديم حقوق الآدمي على حقوق الله بل جميعها مستوية في ذلك لأنها قد اشتركت في وجوبها على الميت ولا فرق بين واجب وواجب ومن زعم أن بعضها أقدم من بعض فعليه الدليل على أنه لو قال قائل: إن حقوق الله أقدم من حقوق بني آدم مستدلا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم "فدين الله أحق أن يقضى" لم يكن بعيدا من الصواب لولا أن المراد بقوله: "يقضى" أي يفعله الفاعل كالقريب يحج عن قريبه ويصوم عنه لا أن المراد أنه يدفع المال ليفعل ذلك فاعل آخر فإن ذلك يحتاج إلى دليل يدل على أنه يصح فضلا عن أنه يجب "ويجب تقدم قضاء الديون" لحديث سعد الأطول1 عند أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله ورجال الصحيح "أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالا قال: فأردت   1 كذا بالأصل تبعا للشوكاني والصواب: "سعد بن الأطول"كما في جميع كتب التراجم وفي النسخة صحيحة مخطوطة عتيقة من المنتقى وكذا في مسند أحمد "ج 4 ص 136 وج 5 ص 7" وفي طبقات ابن سعد "ج 7 قسم 1 ص 39". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 أن أنفقها على عياله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه" فقال: يا رسول الله قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة قال "فأعطها فإنها محقة" وليس في ذلك خلاف وقد دل عليه قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} "ومن لم يترك ما يقضي دينه قضاه السلطان من بيت المال" لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما "أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: "من خلف مالا أو حقا فلورثته ومن خلف كلا1 أو دينا فكله إلي ودينه علي" وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والدارقطني من حديث جابر وأخرجه أيضا البيهقي والدارقطني من حديث أبي سعيد وأخرجه أيضا الطبراني من حديث سليمان وأخرجه ابن حبان في ثقاته من حديث أبي أمامة.   1 الكل بفتح الكاف العيال والثقل من كل ما يتكلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 كتاب المواريث "هي مفضلة في الكتاب العزيز" ومعلومة لأهل العلم والتمييز قال الماتن: لم نتعرض ههنا لذكرها واقتصرنا على ذكر ما ثبت في السنة أو الإجماع ولم نذكر ما كان لا مستند له إلا محض الرأي كما جرت به عادتنا في هذا الكتاب فليس مجرد الرأي مستحقا للتدوين فلكل عالم رأيه واجتهاده مع عدم الدليل ولا حجة في اجتهاد بعض أهل العلم على البعض الآخر وإذا عرفت هذا اجتمع له مما في الكتاب العزيز وما ذكرناه ههنا جميع علم الفرائض الثابت بالكتاب والسنة فإن عرض لك من المواريث ما لم يكن فيهما فاجتهد فيه برأيك عملا بحديث معاذ المشهور انتهى "ويجب الابتداء بذوي الفروض القدرة وما بقي فللعصبة" لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي لأولى رجل ذكر" والمراد بالفرائض هنا الأنصباء المقدرة وأهلها هم المستحقون لها بالنص وما بقي بعد إعطاء ذوي الفرائض فرائضهم فهو لأولى رجل ذكر "والأخوات مع البنات عصبة" أي يأخذن ما بقي من غير تقدير كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 يأخذه الرجل بعد فروض أهل الفروض" لحديث ابن مسعود عند البخاري وغيره "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت بأن للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت" وقد أفاد هذا أن لبنت الابن مع البنت السدس تكملة الثلثين "ولبنت الابن مع البنت السدس تكملة الثلثين" وقد قيل: إن ذلك مجمع عليه "وكذا الأخت لأب مع الأخت لأبوين وللجدة أو الجدات السدس مع عدم الأم" لحديث قبيصة بن ذؤيب عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وصححه وابن حبان والحاكم قال: "جاءت الجدة إلى أبي بكر فسألته ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله شئ وما علمت لك في سنة رسول الله شيئا فارجعي حتى أسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعطاها السدس فقال: هل معك غيرك فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال: مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر قال: ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر فسألته ميراثها فقال: مالك في كتاب الله شئ ولكن هو ذاك السدس فإن اجتمعتما فهو بينكما وأيكما خلت به فهو لها "قال ابن حجر: وإسناده صحيح لثقة رجاله إلا أن صورته مرسل فإن قبيصة لا يصح سماعه من الصديق ولا يمكن شهوده القصة قاله ابن عبد البر وقد اختلف في مولده والصحيح أنه ولد عام الفتح فيبعد شهوده القصة وأخرج عبد الله بن أحمد في مسند أبيه وابن منده في مستخرجه والطبراني في الكبير من حديث عبادة بن الصامت "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قضى للجدتين من الميراث بالسدس بينهما" وهو من رواية إسحق بن يحيى عن عبادة ولم يسمع منه وأخرج أبو داود والنسائي من حديث بريدة "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم" وصححه ابن السكن وابن خزيمة وابن الجارود وقواه ابن عدي وفي إسناده عبيد الله العتكي وهو مختلف فيه وأخرج الدارقطني عن عبد الرحمن ابن يزيد مرسلا قال: "أعطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث جدات السدس ثنتين من قبل الأب وواحدة من قبل الأم" وأخرجه أيضا أبو داود في المراسيل عن إبراهيم النخعي وأخرجه أيضا البيهقي من مرسل الحسن. وأخرجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 الدارقطني من طرق عن زيد بن ثابت وفي الباب آثار غير ما ذكر قال في البحر: مسألة فرضهن يعني الجدات السدس وإن كثرن إذا استوين وتستوي أم الأم وأم الأب لا فضل بينهما فإن اختلفن سقط الأبعد بالأقرب ولا يسقطهن إلا الأمهات والأب يسقط الجدات من جهة والأم من الطرفين أقول: التفاصيل والتفاريع المذكورة في الكتب ينبغي إمعان النظر في مستنداتها ومجرد اجتهاد فرد من أفراد الصحابة ليس بحجة على أحد وكذلك اجتهاد جماعة منهم لم يبلغوا حد الإجماع "وهو للجد مع من لا يسقطه" لحديث عمران بن حصين "أن رجلا أتى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه؟ قال: لك السدس فلما أدبر دعاه قال: لك سدس آخر فلما أدبر دعاه فقال: إن السدس الآخر طعمة" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن الحسن "أن عمر سأل عن فريضة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد فقام معقل بن يسار المزني فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ماذا قال السدس قال مع من قال لا أدري قال: لا دريت فما تغني إذن" وهو منقطع لأن الحسن لم يسمع من عمر وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث الحسن عن معقل وقد اختلف الصحابة فمن بعدهم اختلافا كثيرا ورويت عنهم قضايا متعددة وقد دل الدليل على أنه يستحق السدس وأنه فرضه فإذا صار إليه زيادة فهو طعمة وذلك كما في حديث عمران وإنما قيدنا استحقاقه للسدس بعدم المسقط لأنه إذا كان معه من يسقطه كالأب فلا شئ له وهكذا إذا كان مع الجد من يسقطه الجد فله الميراث كله أقول: ليس في الأحاديث المتقدمة ذكر من كان معه من الورثة ولم يبق بعد ذلك إلا مجرد روايات من علماء الصحابة ومن بعدهم وتمثيلات وتشبيهات ليست من الحجة في شئ ولا يبعد أن يقال: بأنه أحق بالميراث من الأخوة والأخوات مطلقا لأنه إن لم يكن والدا حقيقة فهو بمنزلة الوالد والأب يسقط الأخوة والأخوات مطلقا ومن زعم أنه وجد في الأب من المزايا ما لا يشاركه فيها الجد فعليه الدليل ومن قال إن ثم دليلا يقتضي أن الجد يقاسم الأخوة ويأخذ الباقي بعد الأخوات فعليه أيضا الدليل "ولا ميراث للإخوة والأخوات مطلقا الابن أو ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 الابن أو الأب" ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم "وفي ميراثهم مع الجد خلاف" لعدم ورود الدليل الذي تقوم به الحجة فذهب جماعة من الصحابة منهم أبو بكر وعمرإلى أن الجد أولى من الإخوة وذهب جماعة منهم علي وابن مسعود وزيد بن ثابت إلى أن الجد يقاسم الإخوة والخلاف في المسألة يطول فمن قال إنه يسقط الإخوة قال: إنه يصدق عليه اسم الأب وأجاب الآخرون بأنه مجاز لا تقوم به الحجة ووقع الخلاف في كيفية المقاسمة كما هو مبين في كتب الفرائض "ويرثون" أي الأخوة مع البنات إلا الإخوة لأم لحديث جابر عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم قال: "جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد فقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا بمال فقال: يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميرات فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: "أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك" فهذا دليل على ميراث الإخوة مع البنات وأما الإخوة لأم فلا يرثون مع البنت لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} الآية هي في الإخوة لأم كما في بعض القراآت "ويسقط الأخ لأب مع الأخ لأبوين" لحديث علي قال: "إنكم تقرؤن هذه الآية {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} "وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه" أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي والحاكم وفي إسناده الحرث الأعور ولكنه قد وقع الإجماع على ذلك والمراد بالأعيان الإخوة لأبوين والمراد ببني العلات الإخوة لأب ويقال للإخوة لأم الأخياف "وأولو الأرحام يتوارثون وهم أقدم من بيت المال" لقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فإنها تفيد أنه إذا مات ميت ولا وارث له إلا من هو من ذوي أرحامه وهو من عدا العصبات وذوي السهام في مصطلح أهل الفرائض فإنه يرثه وقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} ولفظ الرجال والنساء والأقربين يشمل ذوي الأرحام ومما يؤيد ذلك حديث المقدام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 بن معد يكرب عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والنسائي والحاكم وابن حبان وصححاه عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "من ترك مالا فلورثته وأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه" وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بلفظ "والخال وارث من لا وارث له" وأخرجه بهذا اللفظ من حديث عائشة الترمذي والنسائي والدارقطني وحسنه الترمذي وأعله الدارقطني بالاضطراب وأخرجه عبد الرزاق عن رجل من أهل المدينة وأخرجه العقيلي وابن عساكر عن أبي الدرداء وأخرجه ابن النجار عن أبي هريرة كلها مرفوعة وهو حديث له طرق أقل أحواله أن يكون حسنا لغيره ومن ذلك حديث "ابن أخت القوم منهم" وهو حديث صحيح ومن ذلك ما ثبت من جعله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ميراث ابن الملاعنة لورثة ابن الملاعنة لورثة أمه وهم لا يكونون إلا ذوي الأرحام والكلام على هذه الأحاديث مبسوط في شرح المنتقى ويمكن أن يقال إن حديث "فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر "يدل على أن الذكور من ذوي الأرحام أولى من الإناث فيكون حديث نفي ميراث العمة والخالة مفيدا لهذا المعنى ومقويا له مع حديث "الخال وارث" وبذلك يجمع بين الأحاديث وقد قال بمثل ذلك أبو حنيفة وقد اختلف في ذلك الصحابة فمن بعدهم وإلى توريث ذوي الأرحام ذهب الجمهور وهذه الأدلة كما تفيد إثبات التوارث بين ذوي الأرحام تفيد تقديمهم على بيت المال ومما يؤيد ذلك حديث عائشة عند أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي "أن مولى للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم خر من عذق نخلة فمات فأتي به النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: هل له من نسب أو رحم قالوا: لا قال: أعطوا ميراثه بعض أهل قريته "فقوله: أو رحم فيه دليل على تقديم ميراث ذوي الأرحام على الصرف إلى بيت مال المسلمين وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال: "كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما الآخر فنسخ ذلك آية الأنفال فقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال وأخرجه أيضا الدارقطني وأخرج نحوه ابن سعد عن أبي الزبير وفي ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 دليل على أن الآية في توريث ذوي الأرحام محكمة وبها نسخ ما كان من الميراث بالمخالفة فإن تزاحمت الفرائض فالعول وذلك هو الحق الذي لا يمكن الوفاء بما أمر الله به إلا بالمصير وقد أوضح الماتن ذلك في رسالة مستقلة سماها إيضاح القول في إثبات مسألة العول ودفع جميع ما قاله النافون للعول وقد أوضحت المقام في دليل الطالب على أرجح المطالب فليراجع ولا يرث ولد الملاعنة والزانية إلى من أمه وقرابتها والعكس لحديث سهل بن سعد في الصحيحين وغيرهما في حديث الملاعنة "أن ابنها كان ينسب إلى أمه فجرت السنة أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها "وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم"أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها" وفي إسناده ابن لهيعة وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث وائلة بن الأسقع "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إن المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عنه" قال الترمذي حسن غريب وفي إسناده عمر بن روبة1 التغلبي وفيه مقال وقد صحح هذا الحديث الحاكم: وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا مساعاة2 في الإسلام من ساعى في الجاهلية فقد ألحقته بعصبته ومن ادعى ولدا من غير رشدة3 فلا يرث ولا يورث" وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أيما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث" وفي إسناده أبو محمد عيسى بن موسى القرشي الدمشقي قال البيهقي: ليس بمشهور4 وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب أيضا عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قضى أن كل مستلحق ولد وزنا لأهل أمه من كانوا حرة أو أمة وذلك فيما استلحق في   1في الصل "رويبة" وهو خطأ وصوابه "روبة" بضم الراء وسكون الواو كما ضبطه ابن حجر في التقريب والحديث رواه الحاكم في المستدرك وصححه "ج 4 ص 341". 2 المساعاة الزنا يقال ساعت الأمة إذا فجرت وساعاها فلان إذا فجر بها. 3 رشدة بكسر الراء وإسكان الشين يقال: هذا ولد رشدة إذا كان لنكاح صحيح ويجوز فتح الراء أيضا 4 وثقة دحيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 أول الإسلام" وفي إسناده محمد بن راشد المكحولي الشامي وفيه مقال وقد أجمع العلماء على أن ولد الملاعنة وولد الزنا لا يرثان من الأب ولا من قرابته ولا يرثونهما وأن ميراثهما يكون لأمهما ولقرابتهما وهما يرثان منهم "ولا يرث المولود إلا إذ استهل" لحديث أبي هريرة عند أبي داود عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إذا استهل المولود ورث" وفي إسناده محمد بن إسحق وفيه مقال معروف وقد روي عن ابن حبان تصحيحه وأخرج أحمد في رواية ابنه عبد الله في المسند عن المسور بن مخرمة وجابر بن عبد الله قالا: "قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لا يرث الصبي حتى يستهل" وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي بلفظ "إذا استهل السقط صلي عليه وورث" وفي إسناده إسمعيل بن مسلم وهو ضعيف قال الترمذي: وروي مرفوعا والموقوف أصح وبه جزم النسائي وقال الدارقطني في العلل: لا يصح رفعه والمراد بالاستهلال صدور ما يدل على حياة المولود من صياح أو بكاء أو نحوهما ولا خلاف بين أهل العلم في اعتبار الاستهلال في الإرث وميراث العتيق لمعتقه ويسقط بالعصبات وله الباقي بعد ذوي السهام لحديث "الولاء لمن أعتق" وهو ثابت في الصحيح وأخرج أحمد عن قتادة عن سلمى بنت حمزة "أن مولاها مات وترك ابنته فورث النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ابنته النصف وورث يعلى النصف وكان ابن سلمى" ورجال أحمد رجال الصحيح ولكن قتادة لم يسمع من سلمى بنت حمزة وأخرجه أيضا الطبراني وأخرج الدارقطني من حديث ابن عباس "أن مولى لحمزة توفي وترك ابنته وابنة حمزة فأعطى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ابنته النصف وابنة حمزة النصف" وأخرج ابن ماجة ونحوه من حديث ابنة حمزة وكذلك أخرجه النسائي وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف وقد وقع الاختلاف في اسم ابنة حمزة فقيل: سلمى وقيل: فاطمة وفي الحديثين دليل على أن لذوي سهام العتيق سهامهم والباقي للمعتق أو لعصبته وقد وقع الخلاف فيمن ترك ذوي أرحامه ومعتقه فروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس أن مولى العتاق لا يرث إلا بعد ذوي الأرحام وذهب غيرهم إلى أنه يقدم على ذوي الأرحام ويأخذ الباقي بعض ذوي السهام ويسقط بالعصبات وقد روي أن المولى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 كان لحمزة واستدل به من قال: إنه يكون لذوي سهام المعتق الباقي بعد ذوي سهام العتيق والصحيح أنه مولى ابنة حمزة وقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إن ميراث الولاء للأكبر من الذكور ولا ترث النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن أو أعتقه من أعتقن" وأخرج البيهقي عن علي وعمر وزيد بن ثابت "أنهم كانوا لا يورثون النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن "وأخرج البرقاني على شرط الصحيح عن هذيل بن شرحبيل قال "جاء رجل إلى عبد الله بن الزبير فقال: إني أعتقت عبدا لي وجعلته سائبة فمات وترك مالا ولم يدع وارثا فقال عبد الله: إن أهل الإسلام لا يسيبون وإنما كان أهل الجاهلية يسيبون وأنت ولي نعمته فلك ميراثه وإن تأثمت وتحرجت في شيء فنحن نقلبه ونجعله في بيت المال" "ويحرم بيع الولاء وهبته" لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "أنه نهى عن بيع الولاء وهبته" وفي الباب أحاديث قد تقدم بعضها منها حديث "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب" وقد صححه ابن حبان والبيهقي من حديث ابن عمر أيضا وقد ذهب الجمهور إلى عدم جواز بيع الولاء وهبته وخالف في ذلك مالك وتقدمه بعض الصحابة ولا توارث بين أهل ملتين لما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارقطني وابن السكن من حديث عبد الله ابن عمرو "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" وأخرج الترمذي من حديث جابر مثله بدون لفظ "شتى1" وفي إسناده ابن أبي ليلى وأخرج البخاري وغيره من حديث أسامة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: قال "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" وهو أيضا في مسلم وأخرج البخاري وغيره حديث "وهل ترك لنا عقيل من رباع" وكان عقيل   1في الصل "شيئا" وهو يوافق بعض نسخ أبي داود ولكن الصحيح "شتى" وهو الذي شرح عليه الشارحون وهو الموفق لنسخة التحقيق لابن الجوزي العتيقة الصحيحة التي بدار الكتب المصرية انظر عون المعبود "3: 85" ويوافق رواية الدارقطني "457": "لا يتوارث أهل ماتين شتى مختلفتين" فهذا اللفظ يؤكد أن الرواية "شتى" للوصف بالاختلاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 وطالب كافرين وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يرث المسلم من الكافر ولا الكافر من المسلم والخلاف في توارث الملل الكفرية المختلفة وعموم حديث عبد الله بن عمرو وجابر يقتضي عدم التوارث قال في المسوى: والكفر ملة واحدة يرث اليهودي من النصراني وبالعكس. أقول: وأما المرتد فكافر ليس من أهل ملة الإسلام فقد شملته الأحاديث المتقدمة فمن زعم أنه يرث مال المرتد قرابته المسلمون فعليه الدليل الصالح للتخصيص "ولا يرث القاتل من المقتول" لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا يرث القاتل شيئا" وأخرجه أبو داود1 والنسائي وأعله الدارقطني وقواه ابن عبد البر وأخرج مالك في الموطأ وأحمد وابن ماجه والنسائي والشافعي وعبد الرزاق والبيهقي عن عمر بن الخطاب قال: "سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "ليس لقاتل ميراث" وفيه انقطاع وأخرج الدارقطني من حديث ابن عباس مرفوعا "لا يرث القاتل شيئا" وفي إسناده كثير بن سليم2 وهو ضعيف وأخرج البيهقي عنه حديثا آخر بلفظ "من قتل قتيلا فإنه لا يرثه وإن لم يكن له وارث غيره" وفي لفظ " وإن كان والده أو ولده" وفي إسناده عمرو بن برق3 وهو ضعيف وأخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ "القاتل لا يرث" وفي إسناده إسحق بن عبد الله بن أبي فروة وهو ضعيف وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا وهي تدل على أنه لا يرث القاتل من غير فرق بين العامد والخاطئ وبين الدية وغيرها من مال المقتول وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم وقال مالك والنخعي: إن قاتل الخطأ يرث من المال دون الدية وهو تخصيص بغير مخصص4 ويرده على الخصوص ما أخرجه الطبراني "أن عمر بن   1 أنا في شك كثير من نسبة هذا الحديث لأبي داود لأني لم أجده في السنن ولم ينسبه ابن حجر في التخيص إليه. والشوكاني إنما يأخذ من التلخيص. والله أعلم. 2 في الأصل "مسلم" وهو خطأ صححناه من تلخيص الحبير ومن كتب التراجم. 3 لم أجد له ترجمة ولكن نقل تضعيفه ابن حجر في التلخيص ص "265" ويفهم تضعيفه أيضا من كلام لأحمد وعبد الرزاق نقله البخاري في التاريخ الصغير ص "214". 4 بل استدلوا بحديث فيه التفرقة بين قتل الخطإ والعمد وفيه كلام طويل والظاهر أنه ضعيف انظر نصب الرواية للزيلعي "2: 334 – 335". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 شيبة1 قتل امرأته خطأ فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أعقلها ولا ترثها" وما أخرجه البيهقي "أن عديا الجذامي2 كان له امرأتان اقتتلتا فرمى إحداهما فماتت فلما قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أتاه فذكر ذلك له فقال له" "أعقلها ولا ترثها" وأخرج البيهقي أيضا "أن رجلا رمى بحجر فأصاب أمه فطالب في ميراثها فقال له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "حقك من ميراثها الحجر وأغرمه الدية ولم يعطه من ميراثها شيئا" وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة مصرحة بذلك ساقها البيهقي وغيره قلت: وعليه عامة أهل العلم أن من قتل مورثه لا يرثه عمدا كان القتل أو خطأ: إلا أن أبا حنيفة قال: قتل الصبي لا يمنع الميراث كذا في المسوى وأما إرث المماليك من بعضهم البعض أو من مواليهم فقد قيل: إنه وقع الإجماع على أن الرق من موانع الإرث وفي دعوى الإجماع نظر فإن الخلاف في كون العبد يملك أو لا يملك معروف ومقتضى ذلك إثبات الميراث وليس في المقام ما يدل على عدم الإرث وقد ورد من حديث ابن عباس "أن رجلا مات على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولم يترك وارثا إلا عبدا فأعطاه ميراثه "أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي وقد قيل: إنه صرف إليه ذلك صرفا وهو خلاف الظاهر   1ليس في الصحابة من هذا اسمه وغنما تبع المؤلف الشوكاني تبع نسخة التلخيص وفيها خطأ من الناسح وصوابه "عمر بن شيبة بن أبي كثير الأشجعي عن أبيه" وأبوه هذا اختلف في اسمه كثير وفي إسناد الحديث إليه ونقل ابن الأثير عن سعيد القرشي قال: "ما أرى له صحبة"انظر أسد الغابة "3" 8" والإصابة "3: 218 – 219". 2 عدي هذا مختلف في إسناد الحديث إليه انظر أسد الغابة "3: 391 – 394" والإصابة "4: 233". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 كتاب الجهاد والسير فضل الجهاد ... كتاب الجهاد والسير "الجهاد" قد ورد في فضله والترغيب فيه من الكتاب والسنة ما هو معروف وقد أفرد ذلك بالتأليف جماعة من أهل العلم وحررت فيه كتاب العبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة وهو أجمع ما جمع في ذلك في هذا القطر والعصر وقد أمر الله بالجهاد بالأنفس والأموال وأوجب على عباده أن ينفروا إليه وحرم عليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 التثاقل عنه وصح عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "لغدوة1 أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها " وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الجنة تحت ظلال السيوف" كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى وابن أبي أوفى وثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار" وثبت عنه صلى الله عليه وسلم قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها" كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد وأخرج أهل السنن وصححه الترمذي من حديث معاذ بن جبل "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قاتل في سبيل الله2 فواق ناقة وجبت له الجنة" فناهيك بعمل يوجب الله لصاحبه الجنة ويحرمه على النار ويكون مجرد الغدو إليه أو الرواح منه خيرا من الدنيا وما فيها "فرض كفاية" لما أخرجه أبو داود عن ابن عباس قال: " {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} و {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} إلى قوله {يَعْمَلُونَ} نسختها الآية التي تليها {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ} وقد حسنه ابن حجر قال الطبري يجوز أن يكون {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} خاصا والمراد به من استنفره النبي صلى الله عليه وسلم فامتنع قال ابن حجر: والذي يظهر لي أنها مخصوصة وليست بمنسوخة وقد وافق ابن عباس على دعوى النسخ عكرمة والحسن البصري كما روى ذلك الطبري عنهما ومن الأدلة الدالة على أنه فرض كفاية أنه كان صلى الله عليه وسلم يغزو تارة بنفسه وتارة يرسل غيره ويكتفي ببعض المسلمين وقد كانت سراياه وبعوثه متعاقبة والمسلمون بعضهم في الغزو وبعضهم في أهله وإلى كونه فرض كفاية ذهب الجمهور وقال الماوردي إنه كان فرض عين على المهاجرين دون غيرهم وقال السهيلي كان عينا على الأنصار وقال ابن المسيب: إنه فرض عين وقال قوم إنه كان فرض عين في زمن الصحابة أقول: الأدلة الواردة في فرضية الجهاد كتابا وسنة أكثر من أن تكتب ههنا ولكن لا يجب ذلك إلا على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين وقبل أن يقوم به البعض هو فرض عين على كل مكلف وهكذا يجب على من استنفره الإمام أن ينفر ويتعين ذلك عليه ولهذا توعد الله سبحانه من لم ينفر مع   1 الغدوة المرة من الغدو وكذلك الروحة المرة من الروح 2 بفتح الفاء وضمها ما بين الحلبتين من الراحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على عدم وجوب الجهاد على الجميع قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} فتحمل هذه الآية على أنه قد قام بالجهاد من المسلمين من يكفي وأن الإمام لم يستنفر غير من قد خرج للجهاد وبهذا تعرف أن الجمع بين هذه الآيات ممكن فلا يصار إلى القول بالترجيح أو النسخ وأما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية أو القتل فهو معلوم من الضرورة الدينية ولأجله بعث الله تعالى رسله وأنزل كتبه وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله سبحانه إلى أن قبضه إليه جاعلا هذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شؤنه وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام ولا لبعضها وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ باتفاق المسلمين بما ورد من إيجاب المقاتلة لهم على كل حال مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم إلى ديارهم وأما غزو البغاة إلى ديارهم فإن كان ضررهم يتعدى إلى أحد من أهل الإسلام إذا ترك المسلمون غزوهم إلى ديارهم فذلك واجب دفعا لضررهم وإن كان ضررهم لا يتعدى فقد أخلوا بواجب الطاعة للإمام والدخول فيما دخل فيه سائر المسلمين ولا شك أن لك معصية عظيمة لكن إذا كانوا مع هذا مسلّمين للواجبات غير ممتنعين من تأدية ما يجب تأديته عليهم تركوا وشأنهم مع تكرير الموعظة لهم وإقامة الحجة عليهم وأما إذا امتنعوا من ذلك فقد تظاهروا بالبغي وجاهروا بالمعصية وقد قال الله عز وجل: {إِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وقد أجمع الصحابة على العزيمة التي عزمها أبو بكر الصديق رضي الله عنه من المقاتلة لمن فرق بين الصلاة والزكاة وسيأتي الكلام على صفة مقاتلة البغاة في الفصل الذي عقده الماتن لذلك "مع كل بر وفاجر" لأن الأدلة الدالة على وجوب الجهاد من الكتاب والسنة وعلى فضيلته والترغيب فيه وردت غير مقيدة بكون السلطان أو أمير الجيش عادلا بل هذه فريضة من فرائض الدين أوجبها الله تعالى على عباده المسلمين من غير تقييد بزمن أو مكان أو شخص أو عدل أو جور فتخصيص وجوب الجهاد بكون السلطان عادلا ليس عليه أثارة من علم وقد يبلي الرجل الفاجر في الجهاد ما لا يبليه البار العادل وقد وجد بهذا الشرع كما هو معروف وأخرج أحمد في المسند من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 رواية ابنه عبد الله1 وأبو داود وسعيد بن منصور من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال لا إله إلا الله لا تكفره بذنب ولا تخرجه عن الإسلام بعمل والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل" ولا يعتبر في الجهاد إلا أن يقصد المجاهد بجهاده أن تكون كلمة الله هي العليا كما ثبت في حديث أبي موسى في الصحيحين وغيرهما قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية يقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" "إذا أذن الأبوان" لحديث عبد الله بن عمرو قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: "أحي والدك؟ قال نعم قال: ففيهما فجاهد" وفي رواية لأحمد وأبي داود وابن ماجه "قال يا رسول الله إني جئت أريد الجهاد معك ولقد أتيت وإن والدي يبكيان قال: "فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما" وقد أخرج هذا الحديث مسلم من وجه آخر وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد "أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من اليمن فقال: "هل لك أحد باليمن؟ " فقال أبواي فقال: "أذنا لك؟ " فقال: لا فقال: "ارجع إليهما واستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما" وصححه ابن حبان وأخرج أحمد والنسائي والبيهقي من حديث معاوية بن جاهمة السلمي "أن جاهمة أتى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله أردت الغرو وجئتك أستشيرك فقال: "هل لك من أم" قال نعم فقال: "الزمها فإن الجنة عند رجليها" وقد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجب استئذان الأبوين في الجهاد ويحرم إذا لم يأذنا أو أحدهما لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية قالوا: وإذا تعين الجهاد فلا إذن ويدل على ذلك ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمر قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فسأله عن أفضل الأعمال قال: "الصلاة" قال ثم مه قال: "الجهاد" قال فإن لي والدين قال: "آمرك بوالديك خيرا" فقال: والذي   1 الأحسن التعبير بأن يقول "وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد مسند أبيه" لأن أحمد لم يرو عن ابنه زاد بل عبد الله روى عن أبيه المسند وروى في أثنائه بعض أحاديثه عن غير أبيه وقد كثر للشارح هذ للتعبير وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 بعثك نبيا لأجاهدن ولأتركنهما قال: "فأنت أعلم" قالوا: وهو محمول على جهاد فرض العين أي حيث يتعين على من له أبوان أو إحداهما توفيقا بين الحديثين1 "وهو مع إخلاص النية يكفر الخطايا إلا الدين" لحديث أبي قتادة عند مسلم وغيره "أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله يكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك" وأخرج مثله أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة وأخرج مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدَّين فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك" وأخرج الترمذي وحسنه من حديث أنس نحوه "ويلحق به" أي بالدين كل "حقوق الآدميين" من غير فرق بين دم أو عرض أو مال إذ لا فرق بينها "ولا يستعان فيه" أي في الجهاد "بالمشركين إلا لضرورة" لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لمن أراد الجهاد معه من المشركين: "ارجع فلن أستعين بمشرك" فلما أسلم استعان به وهو في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة وأخرج أحمد والشافعي والبيهقي والطبراني نحوه من حديث حبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده ورجال إسناده ثقات وأخرج أحمد والنسائي من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تستضيئوا بنار المشركين" وفي إسناده أزهر بن راشد وهو ضعيف وبقية إسناده ثقات وقد أخرج الشافعي من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود يوم خيبر" وأخرجه أبو داود في مراسيله من حديث الزهري وأخرجه أيضا الترمذي مرسلا وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث ذي مخبر2 قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستصالحون الروم صلحا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم" وقد ذهب جماعة من العلماء إلى عدم جواز الاستعانة بالمشركين وذهب   1 ولعل الأحسن في التوفيق بين الحديثين أان يجعل ذلك إلى رأي الإمام والمكلف فإن كانت المصلحة تنفي بأحدهما وجب تقديمه. وقد كان المهاجرون والأنصار يجاهدون ولم نر في شئ من الروايات أنهم كانوا يلتزمون استئذان الوالدين في كل غزو. 2 بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الباء. ويقال بميم مفتوحة بدل الباء وهو ابن أخي الجاشي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 آخرون إلى جوازها وقد استعان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالمنافقين في يوم أحد وانخزل1 عنه عبد الله بن أبي بأصحابه وكذلك استعان بجماعة منهم في يوم حنين وقد ثبت في السير أن رجلا يقال له قزمان خرج مع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثة من بني عبد الدار حملة لواء المشركين حتى قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليأزر2 هذا الدين بالرجل الفاجر" وخرجت خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على قريش عام الفتح وهم مشركون فيجمع بين الأحاديث بأن الاستعانة بالمشركين لا تجوز إلا لضرورة لا إذا لم تكن ثم ضرورة "وتجب على الجيش طاعة أميرهم إلا في معصية الله" لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني" وعن ابن عباس في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: "نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في سرية" أخرجه أحمد وأبو داود وهو في الصحيحين وفيهما أيضا من حديث علي قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فعصوه في شئ فقال: اجمعوا لي حطبا فجمعوا ثم قال: أوقدوا نارا فأوقدوا ثم قال ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا وتطيعوا فقالوا: بلى قال: فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدا" وقال: "لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف" والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفيها التصريح بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وإنما تجب طاعة الأمراء ما لم يأمروا بمعصية الله "وعليه" أي على الأمير "مشاورتهم والرفق بهم وكفهم عن الحرام" لدخول ذلك تحت قوله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وقد كان   1 انخزل بالزاي أي انفرد. 2 يقال أزرا وآزره إذا أعانه ابن عامر "فآزره فاستغلظ" علي فعله وقرأ الباقون "فاآزره". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور الغزاة معه في كل ما ينو به ووقع منه ذلك في غير موطن وأخرج مسلم وغيره من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان" والقصة مشهورة وأجاب عليه سعد بن عبادة بقوله: "والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها "وأخرج أحمد والشافعي من حديث أبي هريرة قال: "ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج مسلم وغيره من حديث عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" وأخرج مسلم أيضا من حديث معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة" وأخرج أبو داود من حديث جابر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير فيرجي الضعيف ويردف ويدعو لهم" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث سهل بن معاذ عن أبيه قال "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا فضيق الناس الطريق فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى من ضيق منزلا أو قطع طريقا فلا جهاد له" وفي إسناده إسمعيل بن عياش وسهل بن معاذ ضعيف وقد جاءت الأدلة المفيدة للقطع بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحق الناس بذلك الأمير "ويشرع للإمام إذا أراد غزوا أن يوري بغير ما يريده" لحديث كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها" وهو في الصحيحين وغيرهما "و" يشرع له أن "يذكي العيون ويستطلع الأخبار" لحديث جابر في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: "من يأتيني بخبر القوم قال الزبير أنا" الحديث وثبت في صحيح مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عينا ينظر عير أبي سفيان "وثبت" أنه بعث من يأتيه بمقدار جيش المشركين يوم بدر وغيره" وكان يأمر من يستطلع أخبار العدو ويقف في المواضع التي بينه وبينهم وذلك مدون في الكتب الموضوعة في السيرة والغزوات "و" يشرع له أن "يرتب الجيوش ويتخذ الرايات والألوية" وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم من ترتيب جيوشه عند ملاقاته للعدو ما هو مشهور وكان يأمر بعضا يقف في هذا المكان وآخرين في المكان الآخر وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 للرماة يوم أحد إنهم يقفون حيث عينه لهم ولا يفارقوا ذلك المكان ولو تخطفه هو ومن معه الطير وقد كانت له رايات كما في حديث ابن عباس عند الترمذي وأبي داود قال: "كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض" وأخرج أبو داود من حديث سماك بن حرب عن رجل من قومه عن آخر منهم قال: "رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء" وفي إسناده مجهول وأخرج أهل السنن والحاكم وابن حبان من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض" وفي حديث الحرث بن حسان "أنه رأى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم رايات سودا" أخرجه الترمذي وابن ماجه ورجاله رجال الصحيح وفي الباب أحاديث "وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال إما الإسلام أو الجزية أو السيف" لحديث سليمان بن بريدة عن أبيه عند مسلم وغيره قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: "اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري على المسلمين ولا يكون لهم في الفئ والغنيمة شئ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم" الحديث وفي الباب أحاديث وقد ذهب الجمهور إلى وجوب الدعوة لمن لم تبغلهم الدعوة ولا تجب لمن قد بلغتهم وذهب قوم إلى الوجوب مطلقا وقوم إلى عدم الوجوب مطلقا "ويحرم قتل النساء والأطفال والشيوخ إلا" أن يقاتلوا فيدفعوا بالقتل "لضرورة" لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال: "وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان" وأخرج أبو داود من حديث أنس "أن رسول الله قال: "لا تقتلوا شيخا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 فانيا ولا صغيرا ولا امرأة" وفي إسناده خالد بن الفرز1 وفيه مقال وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث رباح2 بن ربيع أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا" والعسيف الأجير وأخرج أحمد من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" وفي إسناده إبراهيم بن إسمعيل بن أبي حبيبة وهو ضعيف وقد وثقه أحمد وأخرج أحمد أيضا والإسماعيلي في مستخرجه من حديث كعب3 بن مالك عن عمه "أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان" ورجاله رجال الصحيح وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث سمرة مرفوعا بلفظ "اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم4" وقد قيل: إنه وقع الاتفاق على المنع عن قتل النساء والصبيان إلا إذا كان ذلك لضرورة كأن يتترس بهم لمقاتلة أو يقاتلون وقد أخرج أبو داود في المراسيل عن عكرمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال: "من قتل هذه؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله غنمتها وأردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها" فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " ووصله الطبراني في الكبير قلت: قال الشافعي: النهي عن قتل نسائهم وصبيانهم إنما هو في حال التميز والتفرد وأما البيات فيجوز وإن كان فيه إصابة ذراريهم ونسائهم "والمثلة" لما تقدم قريبا في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه عن جده وفيه "ولا تمثلوا " وأخرج نحو ذلك أحمد وابن ماجه من حديث صفوان بن عسال وأحاديث النهي عن المثلة كثيرة "والإحراق بالنار" لحديث أبي هريرة عند البخاري وغيره قال:   1 الفرز بكسر الفاء وفتحها وسكون الراء وآخره زاي. 2 اختلف في اسمه هل هو "رباح" بفتح الراء والباء أو رباح بكسر الراء والباء المثناة والراجح الثاني وبه جزم البخاري وابن حبان والدارقطني وابن عبد البر وغيرهم. 3 كذا في الأصل. وفي نيل الأوطار "ابن كعب بن مالك عن عمه" وكلاهما مشكل ولم استطيع العثور على الحديث في مسند أحمد ولم أعرف من "ابن كعب" هذا فإنه إن كان المراد به أحد أبناء كعب بن مالك الأنصاري السلمي الشاعر – وهو أحد ثلاثة الذين تاب الله عليهم – فقد نص ابن حجر في الإصابة على أنه ليس له أخ فلا يكون إذن لابنه عم وإن كان غيره فلا أدري من هو والعم عبد الله. 4 الشرخ الشاب. قال أحمد بن حنبل: "الشيخ لا يكاد يسلم والشاب أقرب إلى الإسلام". نقله ابن حجر في تلخيص "370" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: "إن وجدتم فلانا وفلانا لرجلين فاحرقوهما بالنار" ثم قال حين أردنا الخروج: " إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتوهما فاقتلوهما" وأما تحريق الشجر والأصنام والمتاع فقد ثبت الإذن بذلك عن الشارع إذا كان فيه مصلحة "و" يحرم "الفرار من الزحف إلا إلى فئة" وقد نطق بذلك القرآن الكريم قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} وثبت في الصحيحين وغيرهما أن الفرار من الزحف هو من السبع الموبقات ولا خلاف في ذلك وفي الجملة وإن اختلفوا في مسوغات الفرار وقد جوز الله تعالى الفرار إلى الفئة وأما التحرف للقتال فهو وإن كان فيه تولية الدبر لكنه ليس بفرار على الحقيقة قال في المسوى: قوله {إلَّا مُتَحَرِّفاً} هو أن ينصرف من ضيق إلى سعة أو من سفل إلى علو أو من مكان منكشف إلى مستتر ونحو ذلك مما هو أمكن له في القتال قوله: {أوْ مُتَحَيِّزاً} أي يصير إلى حيز فئة من المسلمين يستنجدهم ويقاتل معهم وبالجملة يجب ثبات المسلمين يوم الزحف في مقابلة زحفهم من الكفار والفرار حينئذ كبيرة "ويجوز تبييت الكفار" لحديث الصعب ابن جثامة في الصحيحين وغيرهما "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم ثم قال: "هم منهم" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث سلمة بن الأكوع قال: بيتنا هوازن مع أبي بكر الصديق وكان أمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والبيات هو الغارة بالليل قال الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم في الغارة بالليل وأن يبيتوا وكرهه بعضهم قال أحمد وإسحق: لا بأس به أن يبيت العدو ليلا "والكذب في الحرب" لما ثبت عند مسلم وغيره من حديث جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف قال يا رسول الله: فأذن لي فأقول قال: " قد فعلت" يعني يأذن له بأن يخدعه بمقال ولو كان كذبا كما وقع منه في هذه القصة وهي أيضا في البخاري وأخرج مسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة قالت: لم أسمع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يرخص في شيء من الكذب مما يقول الناس إلا في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 المرأة زوجها. وهذا الكذب المذكور هنا هو التعريض والتلويج بوجه من الوجوه ليخرج عن الكذب الصراح كما قاله جماعة من أهل العلم "والخداع" في الحرب لما في الصحيحين من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة1" وفيهما من حديث "أبي هريرة قال: سمى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الحرب خدعة" قال النووي: واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد. "فصل وما غنمه الجيش كان لهم أربعة أخماسه وخمسه يصرفه الإمام في مصارفه" لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} قلت: اتفق أهل العلم على أن الغنيمة تخمس فالخمس للأصناف التي ذكرت في القرآن وأربعة أخماسها للغانمين وقوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ذهب عامة أهل العلم إلى أن ذكر الله تعالى للتبرك به وإضافة هذا المال إليه لشرفه ثم بعد ما أضاف جميع الخمس إلى نفسه بين مصارفها واختلفوا في سهم ذوي القربى قال أبو حنيفة: إنما يعطون لفقرهم وقال الشافعي: لقرابتهم مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كالميراث غير أنه أعطى القريب والبعيد من ذوي القربى ولا يفضل عنده فقير على غني ويعطى الرجل سهمين والمرأة سهما ومن ذلك ما ورد في القرآن في الفئ والغنيمة وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عمرو بن عبسة قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: "ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود فيكم " وأخرج نحوه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت وحسنه ابن حجر وأخرج نحوه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي ومالك والشافعي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحسنه أيضا ابن حجر وروي نحو ذلك أيضا من حديث جبير بن مطعم والعرباض بن سارية "ويأخذ الفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم والراجل سهما" لما ورد في ذلك من الأحاديث منها حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما وله ألفاظ فيها التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم "أسهم   1 بفتح الخاء وإسكان الدال وهي أفصح الروايات واصحها ابن الأثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 للفارس وفرسه ثلاثة أسهم وللراجل سهما" وفيهما معنى ذلك من حديث أنس ومن حديث عروة البارقي ومنها حديث الزبير بنحو ذلك عند أحمد ورجاله رجال الصحيح وحديث أبي رهم عند الدارقطني وأبي يعلى والطبراني وحديث أبي هريرة عند الترمذي والنسائي وحديث جرير عند مسلم وغيره وحديث عتبة بن عبد عند أبي داود وحديث جابر وأسماء بنت يزيد عند أحمد وفي الباب أحاديث وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الفارس يأخذ له ولفرسه سهمين والراجل سهما وتمسكوا بحديث مجمع بن جارية عند أحمد وأبي داود وقال: "قسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة فيهم ثلثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما" وهذا الحديث في إسناده ضعف وقال أبو داود إن فيه وهما وإنه قال ثلثمائة فارس وإنهم كانوا مائتين "ويستوي في ذلك القوي والضعيف ومن قاتل ومن لم يقاتل" لحديث ابن عباس عند أبي داود والحاكم وصححه أبو الفتح في الاقتراح على شرط البخاري "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قسم غنائم بدر بالسوي بعد وقوع الخصام بين من قاتل ومن لم يقاتل "ونزول قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} وأخرج نحوه أحمد برجال الصحيح من حديث عبادة بن الصامت وأخرج أحمد من حديث سعد بن مالك قال: "قلت يا رسول الله: الرجل يكون حامية القوم ويكون سهمه وسهم غيره سواء قال "ثكلتك أمك ابن أم سعد وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم " وأخرجه البخاري أيضا والنسائي عن مصعب بن سعد قال: "رأى سعد أن له فضلا على من دونه فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم " وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه قال في الحجة البالغة: ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش كالبريد والطليعة والجاسوس يسهم له وإن لم يحضر الواقعة كما كان لعثمان يوم بدر "ويجوز تنفيل بعض الجيش" لما أخرجه مسلم وغيره "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعطى سلمة بن الأكوع سهم الفارس وسهم الراجل جمعهما له "وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وعزاه المنذري في مختصر السنن إلى مسلم "أن النبي صلى الله تعالى عليه آله وسلم نفل سعد بن أبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 وقاص يوم بدر سيفا" وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وحكى بعض أهل العلم الإجماع عليه واختلف العلماء هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس وقد ورد في تنفيل السرية حديث حبيب بن مسلمة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه وصححه ابن الجارود وابن حبان والحاكم "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نفل الربع بعد الخمس في بدأته الثلث بعد الخمس في رجعته "وأخرج نحوه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ابن حبان من حديث عبادة بن الصامت وأخرج أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي من حديث معن بن يزيد قال: "سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: " لا نفل إلا بعد الخمس" وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش والخمس في ذلك كله "وفيهما "أنه نفل بعض السرايا بعيرا بعيرا "وفي الباب أحاديث قال في الحجة البالغة: وعندي إن رأى الإمام أن يزيد لركبان الإبل أو للرماة شيئا أو يفضل العراب على البراذين لشئ دون السهم فله ذلك بعد أن يشاور أهل الرأي ويكون أمرا لا يختلف عليه لأجله وبه يجمع اختلاف سير النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه في الباب "وللإمام الصفي وسهمه كأحد الجيش" لحديث يزيد بن عبد الله بن الشخير عند أبي داود والنسائي وسكت عنه أبو داود والمنذري قال: "كنا بالمربد1 إذ دخل رجل معه قطعة أديم فقرأناها فإذا فيها من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش2 إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسهم الصفي فأنتم آمنون بأمان لله ورسوله فقلنا: من كتب لك هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال المنذري: ورواه بعضهم عن يزيد بن عبد الله وسمى الرجل النمر بن تولب وأخرج أبو داود عن الشعبي مرسلا قال: "كان للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا وإن شاء أمة وإن شاء فرسا يختاره قبل الخمس" وأخرج أبو داود أيضا من حديث ابن عون مرسلا نحوه وأخرج أحمد   1 بكسر الميم وإسكان الراء وفتح الباء محلو بالبصرة من أشهر محالها وأطيبها. 2 بضم الهمزة وفتح القاف وإسكان الياء وآخره شين معجمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 والترمذي وحسنه من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر" وأخرج أبو داود من حديث عائشة قالت: "كانت صفية من الصفي" وأخرج أبو داود أيضا من حديث أنس نحوه ويعارضه ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أيضا قال: "صارت صفية لدحية الكلبي ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية إنه اشتراها منه بسبعة أروس "ويرضخ من الغنيمة لمن حضر" لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره "أنه سأله سائل عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضر الناس فأجاب أنه لم يكن لهما سهم معلوم إلا أن يحذيا1 من غنائم القوم "وفي لفظ "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو بالنساء فيدواين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما يسهم2 فلم يضرب لهن" وأخرج أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عمير مولى آبي اللحم "أنه شهد خيبر مع مواليه فأمر له صلى الله عليه وسلم بشئ من خرثي3 المتاع" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه "أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر سادسة ست نسوة فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال: مع من خرجتن وبإذن من خرجتن فقلنا يا رسول الله: خرجنا نغزل الشعر ونعين في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول السهم ونسقي السويق فقال قمن فانصرفن4 حتى إذا فتح الله عليه خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال قال: فقلت لها يا جدة وما كان ذلك؟ قالت: تمرا" وفي إسناده رجل مجهول وهو حشرج وقال الخطابي إسناده ضعيف لا تقوم به الحجة وأخرج الترمذي عن الأوزاعي مرسلا قال: "أسهم النبي صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر" وحديث حشرج كما عرفت ضعيف وهذا مرسل فلا ينتهضان لمعارضة ما تقدم وحمل الإسهام هنا على الرضخ   1 حذاه حذور أعطاه وأحذيته من الغنيمة أحذيته أعطيته منها والحذوة بكسر الحاء وضمها مع إسكان الذال فيها العطية. 2 في الأصل "وأما السهم" وصححناه من صحيح مسلم "5: 197" ونيل الأوطار "8: 113" وفي رواية الترمذي "1: 294" "يسهم بالياء مضارع أسهم. 3 الخرثي بضم الخاء المعجمة وإسكان الراء وكثر الثاء وتشديد الياء أردأ المتاع والغنائم وهي سقط المتاع. 4 لفظ الحديث كله هنا هو لفظ أبي داود "3: 26" إلا قوله "فانصرفن" فإنه ليس فيه بل هو في رواية مسند أحمد بن حنبل "5: 271". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 جمعا بين الأحاديث وقد اختلف أهل العلم في ذلك فذهب الجمهور إلى أنه لا يسهم للنساء والصبيان بل يرضخ لهم فقط إن رأى الإمام ذلك "ويؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك صلاحا" لحديث أنس في البخاري وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم في أشراف قريش تأليفا لهم وترك الأنصار والمهاجرين" وهكذا ثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود وغيره" أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى أناسا من أشراف العرب" والقصة مشهورة مذكورة في كتب السير بطولها والمراد بأشراف قريش أكابر مسلمة الفتح كأبي سفيان بن حرب وسهل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وصفوان بن أمية "وإذا رجع ما أخذه الكفار من المسلمين كان لمالكه" لحديث عمران بن حصين عند مسلم وغيره "أن العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيبت فركبتها امرأة من المسلمين ورجعت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد كانت نذرت أن تنحرها إن نجاها الله عليها فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد" وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمر "أنه ذهب فرس له فأخذه العدو فظهر عليهم المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبق عبد له فلحق بأرض الروم وظهر عليه المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية لأبي داود "أن غلاما لابن عمر أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر ولم يقسم" وقد ذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم إلى أن أهل الحرب لا يملكون بالغلبة شيئا من أموال المسلمين ولصاحبه أخذه قبل الغنيمة وبعدها وروي عن علي والزهري وعمرو بن دينار والحسن أنه لا يرد أصلا ويختص به أهل المغانم وروي عن عمر وسليمان بن ربيعة وعطاء والليث ومالك وأحمد وآخرين إن وجده صاحبه قبل القسمة فهو أحق به وإن وجده بعد القسمة فلا يأخذه إلا بالقيمة وقد روي عن ابن عباس الدارقطني مثل هذا التفصيل مرفوعا وإسناده ضعيف جدا وروي عن الفقهاء السبعة قال في المسوى: وعليه أكثر أهل العلم في الجملة ولهم في التفاصيل اختلاف "ويحرم الإنتفاع بشئ من الغنيمة قبل القسمة إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 الطعام والعلف" لحديث رويفع ابن ثابت عند أحمد وأبي داود والدارمي والطحاوي وابن حبان "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتناول مغنما حتى يقسم ولا يلبس ثوبا من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه ولا أن يركب دابة من فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه" وفي إسناده محمد بن إسحق وفيه مقال معروف وقال ابن حجر: إن رجال إسناده ثقات وقال أيضا: إن إسناده حسن وأخرج البخاري من حديث ابن عمر قال: "كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه" زاد أبو داود "فلم يؤخذ منهما الخمس" وصحح هذه الزيادة ابن حبان وأخرج أبو داود والبيهقي وصححه من حديث ابن عمر أيضا "أن جيشا غنموا في زمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم طعاما وعسلا فلم يأخذوا منهم الخمس" وأخرج مسلم وغيره من حديث عبد الله ابن مغفل قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم متبسما وأخرج أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث ابن أبي أوفى قال: "أصبنا طعاما يوم خيبر وكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينطلق" وأخرج أبو داود من حديث القاسم مولى عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا مملوءة منه" وقد تكلم في القاسم غير واحد وقد ذهب إلى جواز الانتفاع بالطعام والعلف للدواب بغير قسمة الجمهور سواء أذن الإمام أو لم يأذن وقال الزهري: لا يأخذ شيئا من الطعام ولا غيره وقال سليمان بن موسى يأخذ إلا أن ينهى الإمام قال مالك في الموطأ: لا أرى بأسا أن يأكل المسلمون إذا دخلوا أرض العدو من طعامهم ما وجدوا من ذلك كله قبل أن تقع في المقاسم وقال أيضا: أنا أرى الإبل والبقر والغنم بمنزلة الطعام يأكل منه المسلمون إذا دخلوا أرض العدو كما يأكلون من الطعام وقال: ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يحضر الناس المقاسم ويقسم بينهم أضر ذلك بالجيوش قال: فلا أرى بأسا بما أكل من ذلك كله على وجه المعروف والحاجة إليه ولا أرى أن يدخر ذلك شيئا يرجع به إلى أهله قلت: وعليه أهل العلم "ويحرم الغلول" لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما في قصة العبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 الذي أصابه سهم فقال الصحابة: هنيئا له الشهادة يا رسول الله فقال: "كلا والذي نفس محمد بيده إن الشعلة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم قال: ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال يا رسول الله: أصبت هذا يوم خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شراك من نار أو شراكان من نار" وأخرج مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: "لما كان يوم خيبر قتل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة" وأخرج البخاري وغيره من حديث ابن عمر قال: "كان على ثقل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم رجل يقال له كركرة1 فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها" وقد قال الله سبحانه {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس على رقبته شاة" الحديث وقد نقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر وقد ورد في تحريق متاع الغال ما أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه" وفي إسناده زهير بن محمد الخرساني2 وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم والبيقهي من حديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجدتم الغال قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه" وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة تكلم فيه غير واحد3 "ومن جملة الغنيمة الأسرى" ولا خلاف   1اختلف في ضبطه فقيل بفتح الكافين وقيل بكسرهما وقال النووي: إنما اختلف في كافه الأولى وأما الثانية فهي مكسورة اتفاقا. 2زهير ثقة وإنما أنكروا عليه بعض أحاديث وقد روى له الجماعة كلهم وإنما شك في هذا الحديث البيهقي فقد ظن أن زهيرا هنا غير زهير بن محمد الخراساني التميمي وزعم أنه مجهول ولكن الحديث ثابت عن الخراساني. انظر عون المعبود"3: 22"والجوهر النقي في الرد على البيهقي ج 2ص 20. 3 وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال البخاري: هو باطل ليس بشئ. وقال الدارقطني أنكروا هذا الحديث على صالح بت محمد وهذا حديث لم يتابع عليه ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر المستدرك "ج 2: 127" وعون المعبود "ج 3" 21". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 في ذلك "ويجوز القتل أو الفداء أو المن" لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} وقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل للأسرى وأخذ الفداء منهم والمن عليهم ثبوتا متواترا في وقائع ففي يوم بدر قتل بعضهم وأخذ الفداء من غالبهم وأخرج البخاري من حديث جبير بن مطعم "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: "لو كان مطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له" وفي مسلم من حديث أنس "أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الثمانين النفر الذي هبطوا عليه وأصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم ثم إن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعتقهم فأنزل الله عز وجل {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} الآية" وقد ذهب الجمهور إلى أن الإمام يفعل ما هو الأحوط للإسلام والمسلمين في الأسارى فيقتل أو يأخذ الفداء أو يمن وقال الزهري ومجاهد وطائفة لا يجوز أخذ الفداء من أسرى الكفار أصلا وعن الحسن وعطاء لا يقتل الأسير بل يتخير بين المن والفداء وعن مالك لا يجوز المن بغير فداء وعن الحنفية لا يجوز المن أصلا لا بفداء ولا بغيره. "فصل ويجوز استرقاق العرب" لأن الأدلة الصحيحة قد دلت على جواز استرقاق الكفار من غير فرق بين عربي وعجمي وذكر وأنثى ولم يقم دليل يصلح للتمسك قط في تخصيص أسر العرب بعدم جواز استرقاقهم بل الأدلة قائمة متكاثرة على أن حكمهم حكم سائر المشركين منها حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما "أنها كانت عند عائشة سبية من بني تميم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: أعتقيها فإنها من ولد إسمعيل" وأخرج البخاري وغيره "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: حين جاء وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد عليهم أموالهم وسبيهم فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال" الحديث وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر "أن جويرية بنت الحرث من سبي بني المصطلق كاتبت عن نفسها ثم تزوجها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أن يقضي كتابتها فلما تزوجها قال الناس أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 من السبي" وأخرجه أحمد من حديث عائشة وقد ذهب إلى جواز استرقاق العرب الجمهور وحكى في البحر عن الحنفية أنه لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف واستدل بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية ولا يخفى أنه لا دليل في الآية على المطلوب ولو سلم ذلك كان ما وقع منه صلى الله عليه وسلم مخصصا لذلك وقد صرح القرآن الكريم بالتخيير بين المن والفداء فقال: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ولم يفرق بين عربي وعجمي واستدلوا أيضا بما أخرجه الشافعي والبيهقي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين لو كان الاسترقاق جائزا على العرب لكان اليوم إنما هو أسرى "وفي إسناده الواقدي وهو ضعيف جدا ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها يزيد بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي وقد أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الفدية من ذكور العرب في بدر وهو فرع الاسترقاق أقول: قد سبى صلى الله عليه وسلم جماعة من بني تميم وأمر عائشة أن تعتق منهم كما تقدم وبالغ صلى الله عليه وسلم فقال: من فعل كذا فكأنما أعتق رقبة من ولد إسمعيل وقال لأهل مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" والحاصل: أن الواجب الوقوف على ما دلت عليه الأدلة الكثيرة الصحيحة من التخيير في كل مشرك بين القتل والمن والفداء والاسترقاق فمن ادعى تخصيص نوع منهم أو فرد من أفرادهم فهو مطالب بالدليل وأما أسر نساء العرب فالأمر أظهر من أن يذكر والوقائع في ذلك ثابتة في كتب الحديث الصحيحين وغيرهما وفي كتب السير جميعها "وقتل الجاسوس" لحديث سلمة بن الأكوع عند البخاري وغيره قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين وهو في سفر فجلس عند بعض أصحابه يتحدث ثم انسل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اطلبوه فاقتلوه" فسبقتهم إليه فقتلته فنفلني سلبه. وهو متفق على قتل الجاسوس الحربي وأما المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي: ينتقض عهده بذلك وأخرج أحمد وأبو داود عن فرات بن حيان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله وكان عينا لأبي سفيان وحليفا لرجل من الأنصار فمر بحلقة من الأنصار فقال: إني مسلم فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله إنه يقول إنه مسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان" وفي إسناده أبو همام الدلال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 محمد بن محبب ولا يحتج بحديثه1 وهو يرويه عن سفيان ولكنه قد روى الحديث المذكور عن سفيان بشر بن السري البصري وهو ممن اتفق على الاحتجاج به البخاري ومسلم2 ورواه عن الثوري أيضا عباد بن موسى الأزرق العباداني وهو ثقة "وإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه أحرز أمواله" لحديث صخر بن عيلة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله" أخرجه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات وفي لفظ "إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم "وأخرج أبو يعلى من حديث أبي هريرة مرفوعا "من أسلم على شئ فهو له" وضعفه ابن عدي بياسين الزيات الراوي له عن أبي هريرة قال البيهقي: وإنما يروى عن ابن أبي مليكة وعن عروة مرسلا وقد أخرجه عن عروة مرسلا سعيد بن منصور برجال ثقات "أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فأسلم ثعلبة وأسيد ابن سعيه3 فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار "ومما يدل على ذلك الحديث الصحيح الثابت من طرق أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " وقد ذهب الجمهور إلى أن الحربي إذا أسلم طوعا كانت جميع أمواله في ملكه ولا فرق بين من أسلم في دار الحرب أو دار الإسلام "وإذا أسلم عبد الكافر صار حرا" لحديث ابن عباس عند أحمد وابن أبي شيبة قال: "أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف من خرج إليه من عبيد المشركين" وأخرجه أيضا سعيد بن منصور مرسلا قصة أبي بكرة في تدليه من حصن الطائف مذكورة في صحيح البخاري ورواها أبو داود عن الشعبي عن رجل من ثقيف قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إلينا أبا بكرة وكان مملوكنا فأسلم قبلنا فقال: "لا هو طليق الله ثم طليق رسوله" وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث علي قال: "خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه   1 أبو همام وثقه أبو حاتم وأبو داود والحاكم والبغوي. وإنما زعم ذلك المنذري. 2 رواية بشر رواها في مسنده عن علي بن المديني عن بشر "ج 4: 336" وإسناده صحيح جدا. 3 أسيد بفتح الهمزة وكسر السين ويروى "أسد" بالتكبير. ورواه ابن اسحاق في السيرة "أسد" بالتصغير وخطأه الذهبي في المشتبه. و"سعيه" بفتح السين وإسكان العين وفتح الياء المثناة وآخره هاء. وقيل "سعنة" بالنون وهو خطأ وثعلبة أخو أسيد فصواب العبارة "فأسلم ثعلبة وأسيد ابنا سعية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 مواليهم فقالوا: ولله يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هربا من الرق فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا وأبى أن يردهم وقال: هم عتقاء الله عز وجل" وأخرج أحمد عن أبي سعيد الأعشم قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد إذا جاء فأسلم ثم جاء مولاه فأسلم أنه حر وإذا جاء المولى ثم جاء العبد بعد ما أسلم مولاه فهو أحق به" وهو مرسل والأرض المغنومة أمرها إلى الإمام فيفعل الأصلح من قسمتها أو تركها مشتركة بين الغانمين أو بين جميع المسلمين لأن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قسم أرض قريظة والنضير بين الغانمين وقسم نصف أرض خيبر بين المسلمين وجعل النصف الآخر لمن ينزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث بشير ابن يسار عن رجال من الصحابة وأخرج نحوه أيضا أبو داود من حديث سهل بن أبي حثمة وقد ترك الصحابة ما غنموه من الأراضي مشتركة بين جميع المسلمين يقسمون خراجها بينهم وقد ذهب إلى ما ذكرناه جمهور الصحابة ومن بعدهم وعمل عليه الخلفاء الراشدون وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها فسهمكم فيها وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسوله ثم هي لكم" أقول: قسمة الأموال المجتمعة للمسلمين من خراج ومعاملة وجزية وصلح وغير ذلك ينبغي تفويض قسمتها إلى الإمام العادل الذي يمحض النصح لرعيته ويبذل جهده في مصالحهم فيقسم بينهم ما يقوم بكفايتهم ويدخر لحوادثهم ما يقوم بدفعها ولا يلزمه في ذلك سلوك طريق معينة سلكها السلف الصالح فإن الأحوال تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فإن رأى الصلاح في تقسيم ما حصل في بيت المال في كل عام فعل وإن رأى الصلاح في تقسيمه في الشهر أو الأسبوع أو اليوم فعل ثم إذا فاض من بيت مال المسلمين على ما يقوم بكفايتهم وما يدخر لدفع ما ينوبهم جعل ذلك في مناجزة الكفرة وفتح ديارهم وتكثير جهات المسلمين وفي تكثير الجيوش والخيل والسلاح فإن تقوية جيوش المسلمين هي الأصل الأصيل في دفع المفاسد والخيل والسلاح وجلب المصالح ومن أعظم موجبات تكثير بيت المال وتوسيع دائرته العدل في الرعية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 وعدم الجور عليهم والقبول من محسنهم والتجاوز عن مسيئهم هذا معلوم بالاستقراء في جميع دول الإسلام والكفر فما عدل ملك في رعيته إلا ونال بعدله أضعاف أضعاف ما يناله الجائر يحوره مع ما في العدل من السلامة من انتقام الرب عز وجل في هذه الدار أو في دار الآخرة فإنها جرت عادة الله سبحانه بمحق نظام الظلم وخراب بنيانه وهدم أساسه حتى صارت دول الظلمة من أعظم العبر للمعتبرين فإنه لا بد أن يحل بهم من نكال الله وسخطه ما يعرفه من له فطنة واعتبار وتفكر ومن نظر في تواريخ الدول رأى من هذا ما يقضي منه العجب. فالحاصل: أن الظالم ممن خسر الدنيا والآخرة أما خسران الآخرة فواضح معلوم من هذه الشريعة بالضرورة وأما خسران الدنيا فهو وإن تم له منها نصيب نزر فهو على كدر وتخوف ونغص وتحيل ووحشة من رعيته فلا يزال متوقعا لزوال ملكه في كل وقت بسبب ما قد فعله بهم وهم مع ذلك على بغضه وهو منطو على بغضهم وينضم إلى ذلك كله تناقص الأمر وخراب البلاد وهلاك الرعية وفقر أغنيائهم ففي كل عام هو في نقص مع ما جرت به عادة الله عز وجل من قصم الظلمة وهلاكهم في أيسر مدة فأقل الملوك مدة أشدهم بطشا وأكثرهم ظلما وهذا هو الغالب وما خالفه فنادر فأين حال هؤلاء الظلمة في الدين والدنيا من حال الملوك العادلين بالرعية المحبوبين عندهم الممتعين بلذة العدل مع لذة العيش الصافي عن كدر المخاوف التي لا يأمن الظلمة هجومها عليهم في كل وقت ولو لم يكن من ذلك كله إلا الأمن من عقاب الله وانتقامه بل الرجاء في ثوابه وجزيل إفضاله وما وعد به العادلين في الآخرة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لكان مغنيا "ومن أمنه أحد المسلمين صار آمنا" لحديث علي عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ "يد المسلمين على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم" وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر مطولا وأخرجه ابن ماجه من حديث معقل بن يسار مختصرا بلفظ "المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة مختصرا أيضا وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أيضا بلفظ "إن ذمة المسلمين واحدة فمن أحقر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وهو في الصحيحين من حديث علي وأخرجه البخاري من حديث أنس وفي الباب أحاديث وقد أجمع أهل العلم على أن من أمنه أحد المسلمين صار آمنا قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة انتهى وأما العبد فأجاز أمانه الجمهور وأما الصبي فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن أمان الصبي غير جائز انتهى وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف قلت: إنما يصح الأمان من آحاد المسلمين إذا أمن واحد أو اثنين فأما عقد الأمان لأهل ناحية على العموم فلا يصح إلا من الإمام على سبيل الاجتهاد وتحري المصلحة كعقد الذمة ولو جعل ذلك آحاد الناس صار ذريعة إلى إبطال الجهاد "والرسول كالمؤمن لحديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لرسولي مسلمة: "لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لهما: "والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما" وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان وصححه "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لأبي رافع لما بعثه قريش إليه فقال: يا رسول الله لا أرجع إليهم فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن يعني الإسلام فارجع " "وتجوز مهادنة الكفار" وملوكهم وقبائلهم إذا اجتهد الإمام وذوو الرأي من المسلمين فعرفوا نفع المسلمين في ذلك ولم يخافوا من الكفار مكيدة "ولو بشرط وإلى أجل أكثره عشر سنين" لحديث أنس عند مسلم وغيره "أن قريشا صالحوا النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاشترطوا عليه أن من جاء منكم لا نرده عليكم ومن جاء منا رددتموه علينا فقالوا يا رسول الله: أنكتب1 هذا؟ قال: "نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاء منهم سيجعل   1 بالنون كما في صحيح مسلم طبع الآستانة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 الله له فرجا ومخرجا" وهو في البخاري وغيره من حديث المسور بن مخرمة ومروان مطولا وفيه أن مدة الصلح بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش عشر سنين وقد اختلف أهل العلم في جواز مصالحة الكفار على رد من جاء منهم مسلما وفعله صلى الله عليه وسلم قد دل على جواز ذلك ولم يثبت ما يقتضي نسخه وأما قدر مدة الصلح فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يكون أكثر من عشر سنين لأن الله سبحانه قد أمرنا بمقاتلة الكفار في كتابه العزيز فلا يجوز مصالحتهم بدون شئ من جزية أو نحوها ولكنه لما وقع ذلك من النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان دليلا على الجواز إلى المدة التي وقع الصلح عليها ولا تجوز الزيادة عليها رجوعا إلى الأصل وهو وجوب مقاتلة الكفار ومناجزتهم الحرب وقد قيل إنها لا تجوز مجاوزة أربع سنين وقيل ثلاث سنين وقيل لا تجوز مجاوزة سنتين "ويجوز تأييد المهادنة بالجزية" لما تقدم من أمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بدعاء الكفار إلى إحدى ثلاث خصال منها الجزية وحديث عمرو بن عوف الأنصاري في الصحيحين وغيرهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي" وأخرج أبو عبيد عن الزهري مرسلا قال: "قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا" وأخرج أبو داود من حديث أنس "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعث خالدا إلى أكيد ردومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية" وأخرج أبو عبيد في كتاب الأموال عن الزهري "أن أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى" وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم على أهل اليمن على كل حالم دينارا كل سنة أو قيمته من المعافري يعني أهل الذمة منهم رواه الشافعي في مسنده عن عمر بن عبد العزيز وهو ثابت في حديث معاذ المشهور عند أبي داود وأخرج البخاري وغيره من حديث المغيرة بن شعبة" أنه قال لعامل كسرى أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية" وأخرج البخاري عن ابن أبي نجيح قال: قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال جعل ذلك من قبيل اليسار وقد وقع الاتفاق على أنها تقبل الجزية من كفار العجم من اليهود والنصارى والمجوس قال مالك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 والأوزاعي وفقهاء الشام: إنها تقبل من جميع الكفار من العرب وغيرهم وقال الشافعي: إن الجزية تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ويلحق بهم المجوس في ذلك وقد استدل من لم يجوز أخذها إلا من العجم فقط بما وقع في حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي وحسنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقريش: "أنه يريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب ويؤدي إليهم بها العجم الجزية" يعني كلمة الشهادة وليس هذا مما ينفي أخذ الجزية من العرب ولا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سليمان بن بريدة المتقدم "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال" وفيها الجزية قال في المسوى في باب أخذ الجزية من أهل الكتاب: قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} قلت: عليه أهل العلم في الجملة وقال الشافعي: الجزية على الأديان لا على الأنساب فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ولا تؤخذ من أهل الأوثان والمجوس لهم شبهة كتاب وقال أبو حنيفة: لا يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف وفي حديث ابن شهاب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين وأن عمر بن الخطاب أخذها من البربر" وفي حديث جعفر بن علي بن محمد بن أبيه "أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: سنوا بهم سنة أهل الكتاب" قلت: وعليه أهل العلم قال مالك: مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم وأن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال الذين قد بلغوا الحلم قلت وعليه أهل العلم وأما قدرها فضرب عمر بن الخطاب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام قلت: قد صح من حديث معاذ "بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا" فاختلفوا في الجمع بينه وبين حديث عمر فقال الشافعي: أقل الجزية دينار على كل بالغ في كل سنة ويستحب للإمام المماكسة ليزداد ولا يجوز أن ينقص من دينار وأن الدينار مقبول من الغني والمتوسط والفقير وتأول أبو حنيفة حديث عمر على الموسرين وحديث معاذ على الفقراء لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 أهل اليمن أكثرهم فقراء فقال: على موسر أربعة دنانير وعلى كل متوسط ديناران وعلى كل فقير دينار وعن عمر بن عبد العزيز من مر بك من أهل الذمة فخذ بما يديرون به من التجارات من كل عشرين دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئا واكتب لهم بما تأخذ منهم كتابا إلى مثله من الحول قلت: عليه أبو حنيفة وقال الشافعي: الذي يلزم اليهود والنصارى من العشور هو ما صولحوا وقت عقد الذمة وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن أسلم من أهل الجزية حين يسلمون قلت عليه أبو حنيفة وقال الشافعي: لا تسقط بالإسلام ولا بالموت لأنه دين حل عليه كسائر الديون انتهى "ويمنع المشركون وأهل الذمة من السكون من1 جزيرة العرب" لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أوصى عند موته بثلاث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة" والشك من سليمان الأحول وأخرج مسلم وغيره من حديث عمر "أنه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما" وأخرج أحمد من حديث عائشة "أن آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: " لا يترك بجزيرة العرب دينان" وهو من رواية ابن إسحق قال: حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنها والأدلة هذه قد دلت على إخراج كل مشرك من جزيرة العرب سواء كان ذميا أو غير ذمي وقيل إنما يمنعون من الحجاز فقط استدلالا بما أخرجه أحمد والبيهقي من حديث أبي عبيدة بن الجراح قال: "آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب" وهذا لا يصلح لتخصيص العام لما تقرر في الأصول من أن التخصيص بموافق العام لا يصح وقد حكى ابن حجر في فتح الباري عن الجمهور أن الذي تمنع منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة قال: وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم الجزيرة وعن الحنفية يجوز مطلقا إلا المسجد الحرام وعن مالك يجوز دخولهم الحرم للتجارة   1 سكن يتعدي بنفسه وبالباء وبفي وأما بمن فلم أره ولا أظنه صحيحا بل هو استعمال ينبو عن كلام الفصحاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلا إلا بإذن الإمام أقول: الأحاديث مصرحة بإخراج اليهود من جزيرة العرب وذكر الحجاز هو من التنصيص على بعض أفراد العام لا من تخصيصه لأنه قد تقرر في الأصول أن مفاهيم اللقب لا يجوز العمل بها إجماعا إلا عند الدقاق ولفظ الحجاز يدل على أن غيره من موضع الجزيرة يخالفه بمفهوم لقبه هذا هو الصواب الذي ينبغي التعويل عليه وقد جمع المغربي مؤلف شرح بلوغ المرام رسالة رجح فيها التخصيص وقد دفعها الماتن رحمه الله بأبحاث ليس هذا موضع ذكرها قال في المسوى في باب لا يدخل المسجد الحرام كافر: قال الله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قلت: قوله {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} معناه المسجد الحرام وما حوله من الحرم يدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} وعليه أهل العلم قالوا لا يجوز لكافر أن يدخل الحرم بحال سواء كان ذميا أو لم يكن وإذا جاء رسول من دار الكفر إلى الإمام وهو في الحرم فلا يأذن في دخوله بل يخرج الإمام إليه أو يبعث من يسمع رسالته قلت: قد صح في غير حديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أدخل الكفار في مسجده من ذلك ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري المسجد فقال الشافعي: لا يدخلون المسجد إلا بإذن مسلم وقال آخرون يجوز له الدخول ولو بغير إذن وتأويل الآية على قولهم أنهم أخيفوا بالجزية أقول: لا ريب أن مواطن العبادة المعدة للمسلمين ينبغي تنزيهها من أدران المشركين فهم الذين لا يتطهرون من جنابة ولا يغتسلون من نجاسة فإن كان تلويثهم لمساجد المسلمين بالنجاسات او استهزاؤهم بالعبادة مظنونا فذلك مفسدة وكل مفسدة ممنوعة ما لم يعارضها مظنة إسلام من دخل منهم المسجد لما يسمعه ويراه من المسلمين فإن تلك المفسدة مغتفرة بجنب هذه المصلحة التي لا يقادر قدرها وأما إذا كان تلويثهم المسجد غير مظنون فلا وجه للمنع ولا سيما قد تقرر أنه صلى الله عليه وسلم كان ينزل كثيرا من وفود المشركين مسجده الشريف وهو أفضل من غيره من المساجد غير المسجد الحرام ثم قال في المسوى: قال مالك قال ابن شهاب: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى يهود خيبر" قال مالك: وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران وفدك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 فأما يهود خيبر فخرجوا منها ليس لهم من الثمر ولا من الأرض شئ وأما يهود فدك فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صالحهم على نصف الثمر ونصف الأرض فأقام لهم عمر بن الخطاب نصف الثمر ونصف الأرض قيمته من ذهب وورق وإبل وحبال وأقتاب ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم منها قلت: عليه أهل العلم قالوا الحجاز يجوز للكافر دخولها بالإذن ولا يقيم بها أكثر من مقام السفر فإن عمر رضي الله تعالى عنه لما أجلاهم أجل لمن يقدم منهم تاجرا ثلاثا انتهى. "فصل ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق" لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فأوجب الله سبحانه قتال الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله ولا فرق بين أن يكون البغي من بعض المسلمين على إمامهم أو على طائفة منهم قال في المسوى: قال الواحدي والبغوي وغيرهما: نزلت هذه الآية في ضرب كان بينهم بالجريد والأيدي والنعال فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم والظاهر أنها في قتال ومضاربة يكون في الغضب بين المسلمين حيث يكون حكم الله تعالى معلوما لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وليست في البغاة وهم الذين لهم منعة وشبهة فنصّبوا رئيسا وخرجوا على الإمام العدل إذ ليس هناك قاطع يطلب منهم الفيء إليه بل كل فرقة منهما تدعي أن ما ذهبت إليه هو الحق الموافق لكتاب الله وإنما يستفاد حكم البغاة من آثار علي رضي الله تعالى عنه حين قاتل أهل البصرة وأهل الشام وأهل النهروان وهذا أحسن ما فهمت في هذه الآية والعلم عند الله تعالى انتهى أقول: اعلم أن هذا الفصل مستفاد من اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم وأكثر من روي عنه في ذلك علي كرم الله وجهه ولم يثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شئ إلا حديث ابن مسعود الآتي وقد ضعفه جماعة من المسلمين وقد أجمع المسلمون على بعض الأحكام كعدم جواز سبي البغاة. والحاصل: أن أصل دم المسلم وماله العصمة ولم يأذن الله عز وجل بسوى قتال الطائفة الباغية حتى تفيء فيجب الاقتصار على هذا ويكون الجائز قتال من لم يحصل منه الفيء وإن كان جريحا أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 منهزما من غير فرق بين من له فئة ومن لا فئة له ما دام مصرا على بغيه وأما المال فلا يجوز أخذ شئ منه هذا ما عندي في ذلك فإن ثبت ما يخالفه فالثابت شرعا أولى بالاتباع "ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا تغنم أموالهم" لما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لابن مسعود: " يا ابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتي قال: الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم" وفي لفظ "ولا يذفف على جريحهم ولا يغنم منهم" سكت عنه الحاكم وقال ابن عدي: هذا الحديث غير محفوظ وقال البيهقي: ضعيف وقال صاحب بلوغ المرام إن الحاكم صححه فوهم لأن في إسناده كوثر بن حكيم وهو متروك1 وصح عن علي من طرق نحوه موقوفا والصحيح أنه نادى بذلك منادي علي يوم صفين ولم يثبت الرفع وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي من طريق عبد خير عن علي بلفظ "نادى منادي علي يوم الجمل ألا لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم" وأخرج سعيد بن منصور عن مروان بن الحكم قال: "صرخ صارخ لعلي يوم الجمل لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن" وأخرج أحمد في رواية الأثرم واحتج به عن الزهري قال: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أن لا يقاد أحد ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه" وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال:" شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا" وأخرج البيهقي عن علي أنه قال يوم الجمل: "إن ظفرتم على القوم فلا تطلبوا مدبرا ولا تجيزوا على جريح وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آلة فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثتهم" قال البيهقي: هذا منقطع والصحيح أنه لم يأخذ شيئا ولم يسلب قتيلا ويؤيد جميع هذه الآثار أن الأصل في دماء المسلمين وأموالهم الحرمة فلا يحل شئ منها إلا بدليل شرعي والمراد بالإجازة على الجريح والإجهاز والتذفيف   1وكذلك قال الذهبي في مختصر المستدرك انظر المستدرك "ج 2ص 155". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 أن يتمم قتله ويسرع فيه وما حكاه الزهري من الإجماع على عدم القود يدل على أنه لا قصاص في أيام الفتنة وقد أخرج هذا الأثر عن الزهري البيهقي بلفظ "هاجت الفتنة الأولى فأدركت يعني الفتنة رجالا ذوي عدد من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ممن شهد معه بدرا وبلغنا أنهم يرون أن هذا أمر الفتنة لا يقام فيها على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل ولا حد في سبي امرأة سبيت ولا يرى عليها حد ولا بينهما وبين زوجها ملاعنة ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد ويرى أن ترد إلى زوجها الأول بعد أن تعتد عدتها من زوجها الآخر ويرى أن يرثها زوجها الأول" انتهى قال في البحر: ولا يجوز سبيهم ولا اغتنام ما لم يجلبوا به إجماعا لبقائهم على الملة وحكى عن النفس الزاكية والحنفية والشافعية أنه لا يغنم منهم شئ أقول: وأما الكلام فيمن حارب عليا كرم الله وجهه فلا شك ولا شبهة أن الحق بيده في جميع مواطنه أما طلحة والزبير ومن معهم فلأنهم قد كانوا بايعوه فنكثوا بيعته بغيا عليه وخرجوا في جيوش من المسلمين فوجب عليه قتالهم وأما قتاله للخوراج فلا ريب في ذلك والأحاديث المتواترة قد دلت على أنه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وأما أهل صفين فبغيهم ظاهر لو لم يكن في ذلك إلا قوله صلى الله عليه وسلم لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" لكان ذلك مفيدا للمطلوب ثم ليس معاوية ممن يصلح لمعارضة علي ولكنه أراد طلب الرياسة والدنيا بين قوم أغتام1 لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فخادعهم بأنه طلب بدم عثمان فنفق ذلك عليهم وبذلوا بين يديه دمائهم وأموالهم ونصحوا له حتى كان يقول علي لأهل العراق أنه يود أن يصرف العشرة منهم بواحد من أهل الشام صرف الدراهم بالدينار وليس العجب من مثل عوام الشام إنما العجب ممن له بصيرة ودين كبعض الصحابة المائلين إليه وبعض فضلاء التابعين فليت شعري أي أمر اشتبه عليهم في ذلك الأمر حتى نصروا المبطلين وخذلوا المحقين وقد سمعوا قول الله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وسمعوا الأحاديث المتواترة في تحريم عصيان الأئمة ما لم يروا كفرا بواحا وسمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: "أنه تقتله الفئة الباغية"   1الغتمة بضم الغين المعجمة وإسكان التء عجمة في المنطق. وؤجل أغتم لا يفصح شيئا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 ولولا عظيم قدر الصحابة ورفيع فضل خير القرون لقلت: حب الشرف والمال قد فتن سلف هذه الأئمة كما فتن خلفها اللهم1 غفرا ثم اعلم أنه قد جاء القرآن والسنة بتسمية من قاتل المحقين باغيا كما في الآية المتقدمة وحديث عمار بن ياسر المتقدم فالباغي مؤمن يخرج عن طاعة الإمام التي أوجبها الله تعالى على عباده ويقدح عليه في القيام بمصالح المسلمين ودفع مفاسدهم من غير بصيرة ولا على وجه المناصحة فإن انضم إلى ذلك المحاربة وله القيام في وجهه فقد تم البغي وبلغ إلى غايته وصار كل فرد من أفراد المسلمين مطالبا بمقاتلته لقوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} الآية وليس القعود عن نصرة الحق من الورع بعد قوله الله عز وجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} والحاصل: أنه إذا تبين الباغي ولم يلتبس ولا دخل في الصلح كان القعود عن مقاتلته خلاف ما أمر الله به وأما مع اللبس فلا وجوب حتى يتبين المحق من المبطل لكن يجب السعي في الصلح كما أمر الله به وليس من البغي إظهار كون الإمام سلك في اجتهاده في مسألة أو مسائل طريق مخالفة لما يقتضيه الدليل فإنه ما زال المجتهدون هكذا ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله ولا يجوز الخروج على الأئمة وإن بلغوا في الظلم أي مبلغ ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح والأحاديث الواردة بهذا المعنى متواترة ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله ويعصيه في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد ابتلي علي رضي الله عنه بقتال البغاة على اختلاف أنواعهم وإذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم فحكم   1دخل الشارح في مأزق لا قبل له به ولا قوة فيه فماله ومال الصحابة ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه. والحض يري مالا يرى الغائب وهذه الفتن قد تنسي الحليم حلمه. والذكي عقله فلا ندري عذر من كان مع معاوية من الصحابة رضي الله عنهم وقد غلب على الشارح ما يغلب على الأعجام من القذف المزري بأهل الأنصاف وظهور الحجة وتمام الأدلة على أن الحق بجانب علي لا يسيغ لنا أن نحكم بالبغي على الصحابة الذين خالفوه فقد تكون لهم أعذار لا نعلمها ومآل الجميع إلى مولاهم يحاسبهم ويقضي بينهم يوم الفصل والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعة في وقت واحد فليس أحدهما أولى من الآخر بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في أحدهما فإن استمرا على التخالف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين ولا تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره أو أقطاره التي رجعت إلى ولايته فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين وتجب الطاعة لكن واحد منهم بعد البيعة على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه وكذلك صاحب القطر الآخر فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب ولا يجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يدري من قام منهم أو مات فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته وهكذا العكس وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن وهكذا العكس فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما يدل عليه الأدلة ودع عنك ما يقال في مخالفته فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها والله المستعان "فصل وطاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله" باتفاق السلف الصالح لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وللأحاديث المتواترة في وجوب طاعة الأئمة منها: ما أخرجه البخاري من حديث أنس مرفوعا "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله" وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني" وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا "ولا يجوز الخروج" بعد ما حصل الاتفاق عليهم ما أقام الصلاة ولم يظهروا كفرا بواحا لحديث عوف بن مالك عند مسلم وغيره قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنوهم ويلعنونكم قال قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية ولا ينزعن يدا عن طاعة" وأخرج مسلم أيضا وغيره من حديث حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسان" قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك قال: "تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع" وأخرج مسلم أيضا وغيرهم من حديث عرفجة الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه" وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان" والبواح بالموحدة والمهملة قال الخطابي: معنى قوله بواحا يريد ظاهرا وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم "من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية" وأخرج نحوه أيضا عن ابن عمر وفي الصحيحين من حديث ابن عمر "من حمل علينا السلاح فليس منا" وأخرجاه أيضا من حديث أبي موسى وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وسلمة بن الأكوع والأحاديث في هذا الباب لا يتسع المقام لبسطها وقد ذهب إلى ما ذكرناه جمهور أهل العلم وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الخروج على الظلمة أو وجوبه تمسكا بأحاديث الأمر بالمعروف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 والنهي عن المنكر وهي أعم مطلقا من أحاديث الباب ولا تعارض بين عام وخاص ويحمل ما وقع من جماعة أفاضل السلف على اجتهاد منهم وهو أتقى لله وأطوع لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ممن جاء بعدهم من أهل العلم قال في الحجة البالغة: ثم إن استولى من لم يجمع الشروط لا ينبغي أن يبادر إلى المخالفة لأن خلعه لا يتصور غالبا إلا بحروب ومضايقات وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة وبالجملة فإذا كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين حل قتاله بل وجب وإلا لا وذلك حينئذ فاتت مصلحة نصبه بل يخاف مفسدته على القوم فكان قتاله من الجهاد في سبيل الله انتهى "ويجب الصبر على جورهم" لما تقدم من الأحاديث وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية" وفيها من حديث أبي هريرة مرفوعا "أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم" وأخرج أحمد من حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر كيف بك عند ولاة يستأثرون عليكم بهذا الفيء قال والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي وأضرب حتى ألحقك قال: أولا أدلك على ما هو خير لك من ذلك تصبر حتى تلحقني" وفي الباب أحاديث كثيرة "وبذل النصحية لهم" لما ثبت في الصحيح من أن "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين" من حديث تميم الداري بهذا اللفظ والأحاديث الواردة في مطلق النصيحة متواترة وأحق الناس بها الا "وعليهم" أي على الأئمة "الذب عن المسلمين وكف يد الظالم وحفظ ثغورهم وتدبيرهم بالشرع في الأبدان والأديان والأموال وتفريق أموال الله في مصارفها وعدم الاستئثار بما فوق الكفاية بالمعروف والمبالغة في إصلاح السيرة والسريرة" وذلك معلوم من أدلة الكتابة والسنة التي لا يتسع المقام لبسطها ولا خلاف في وجوبها جميعا على الإمام وهذه الأمور هي التي شرع الله تعالى نصب الأئمة لها فمن أخل من الأئمة والسلاطين بشئ منها فهو غير مجتهد لرعيته ولا ناصح لهم بل غاش خائن وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلى حرم الله عليه الجنة" وفي لفظ لمسلم "ما من أمير يلي أمور المسلمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة" وأخرج مسلم وغيره من حديث عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" وبالجملة فعلى الإمام والسلطان أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالخلفاء الراشدين في جميع ما يأتي ويذر فإنه إن فعل ذلك كان له ما لأئمة العدل من الترغيبات الثابتة في الكتاب والسنة وحاصلها الفوز بنعيم الدنيا والآخرة وآخر دعوانا أن الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. "تم والحمد لله رب العالمين الجزء الثاني من الروضة الندية شرح الدرر البهية للصديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري ملك بهو بال وبه ينتهي الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365