الكتاب: مذاهب فكرية معاصرة المؤلف: محمد بن قطب بن إبراهيم الناشر: دار الشروق الطبعة: الأولى 1403هـ-1983م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مذاهب فكرية معاصرة محمد قطب الكتاب: مذاهب فكرية معاصرة المؤلف: محمد بن قطب بن إبراهيم الناشر: دار الشروق الطبعة: الأولى 1403هـ-1983م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة : تسيطر اليوم أوروبا1 بكل قوتها على العالم كله. ومع السيطرة تتسرب مجموعة من الأفكار والمذاهب والمعتقدات، بل الخرافات كذلك -كخرافة الطبيعة الخالقة، والمادة الأزلية الأبدية المتطورة- فتنصب في أذهان الشعوب التي غلبت عليها أوروبا، إما عن طريق التسرب التلقائي الذي ينشأ من تقليد المغلوب للغالب، وإما عن طريق الغزو الفكري المتعمد، الذي يبثه الغالب في فكر المغلوب ليضمن تبعيته له وعدم خروجه على طاعته. ولم تكن سيطرة أوروبا -بكل قوتها- هي السبب الوحيد في الحقيقة لهذا التسرب التلقائي أو ذلك الغزو الفكري، إنما كان هناك سبب لا يقل أهمية عن هذه السيطرة إن لم يكن -في نظرنا- أهم، هو غياب البديل الذي يمكن أن يأخذ مكان هذه الأفكار والمذاهب والخرافات إذا تبين عدم جدارتها بالاتباع، بل الذي يحول أصلا دون التوجه إليها واتباعها في حالة وجوده، ونعني به الإسلام. ذلك أن غيابه يعطي هذه المذاهب والأفكار في نفوس الناس حجية الأمر الواقع وثقل الأمر الواقع, أي: إنها تصبح في حس الناس جديرة بالاتباع لا لجدارتها الذاتية، ولا لأنها في ذاتها صحيحة، ولكن فقط لأنها موجودة بالفعل، والبديل غير موجود!   1 ليس المقصود بأوروبا حدودها الجغرافية، إنما المقصود "الغرب" كله بامتداده الأمريكي والروسي على السواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ولن نتعرض في هذا الكتاب لأسباب غياب هذا البديل. ولا للنتائج الخطيرة التي نتجت عن غيابه بالنسبة للمسلمين وبالنسبة للعالم كله1. إنما أردنا في هذا الكتاب أن نتعرض لهذه الأفكار والمذاهب ذاتها، فنعرضها عرضا موضوعيا نبين فيه ما تحتوي عليه من حقائق وما تحتوي عليه من أباطيل، ونبين فيه أهم من ذلك الظروف التي أدت إلى نشأتها وتشكلها على هذه الصورة، فإن كثيرا من الناس الذين يأخذونها على أنها أمر واقع، لا يسألون أنفسهم كيف نشأت، وما الظروف التي جعلتها تأخذ هذه الصورة، كأنهم يعتقدون -من ثقلة الأمر الواقع على حسهم- أنها ذات وجود طبيعي، وأن الصورة التي هي عليها هي الصورة الطبيعية لهذا المذهب أو ذاك، ولا يضعون في حسابهم أن ظروفا محلية بحتة في أوروبا هي التي جعلت الفكر الأوروبي يتجه هذه المتجهات، ويسلك هذه المسالك، وأنه لو كانت هناك ظروف مختلفة، لاعتنقت أوروبا أفكارا أخرى ومذاهب من نوع آخر. بعبارة أخرى إن هذه الأفكار والمذاهب هي انعكاس لظروف محلية بحتة في أوروبا، وليست كما هي في حس الأوروبيين ومن يدور في فلكهم من الشعوب المغلوبة "قيما" قائمة بذاتها، ولا أفكارا "إنسانية" تنبع نبعا ذاتيا من كيان "الإنسان" بوصفه إنسانا. ولم يكن من الحتم أن تعتنقها أوروبا ذاتها -لو أتيحت لها ظروف أفضل- وليس من الحتم أن يعتنقها أحد في خارج أوروبا ما دامت ظروفه غير ظروف القوم هناك. وهذا الكتاب لم يكتب للمسلمين وحدهم، وإن كان المسلمون يستطيعون أن يفيدوا منه مزيدا من المعرفة بدينهم، على قول الفاروق عمر رضي الله عنه: "لا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية! " فمعرفة المسلمين بانحرافات الجاهلية المعاصرة تزيدهم معرفة بكمال الدين المنزل من عند الله. ولكني كتبته لكل من يرغب أن يعرف شيئا عن هذه المذاهب المنتشرة في الأرض اليوم، وأسباب نشأتها وتشكلها على هذه الصورة ولم أقصد به أن يكون دراسة متخصصة، ولكني حاولت أن أضع فيه القدر المناسب من المعلومات، الذي يلقي ضوءا معقولا على هذه المذاهب والأفكار.   1 في النية إصدار كتاب في هذا الموضوع بعنوان "واقعنا المعاصر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ولم أتحدث عن كل المذاهب المعاصرة، فلم يكن قصدي الاستقصاء، إنما عرضت لأبرز هذه المذاهب وأكثرها انتشارا في عالمنا المعاصر، فاخترت منها: الديمقراطية والشيوعية والعلمانية والعقلانية والقومية والوطنية والإنسانية والإلحاد. فإن كنت قد قصر فيما بذلت من الجهد فهذا هو العجز البشري. وإن كنت قد وفقت فمن الله التوفيق. محمد قطب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 التمهيد الأول: الدين والكنيسة نبذة تاريخية أولا: تحريف الدين لم تعرف أوروبا قط دين الله المنزل على حقيقته الربانية. إنما عرفت صورة محرفة من صنع الكنيسة الأوروبية لا صلة لها بالأصل المنزل، الذي أرسل المسيح ليبلغه لبني إسرائيل: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} 1. وإذا استثنينا أفرادا قلائل، متناثرين على طول التاريخ المسيحي من بعثة عيسى عليه السلام إلى بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن الجماهير الأوروبية ظلت تستقي دينها من رجال الدين من البابوات والكرادلة، ومن المجامع المقدسة وشراح الأناجيل المحرفة، وتعتبرهم مرجعا لا يرقى إليه الشك ولا يجوز أن يناقش! فاتخذوهم -على الحقيقة لا على المجاز- أربابا من دون الله. {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2.   1 سورة آل عمران "49". 2 سورة التوبة "31". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وفي القرون الثلاثة الأولى من ميلاد المسيح كان الأباطرة وثنيين لا يؤمنون بدين منزل، فكانوا يضطهدون النصارى من صح اعتقاده منهم ومن انحرف وحرف، يسومونهم سوء العذاب، ويشردونهم في الأرض، حتى اتخذ فريق منهم الأديرة والملاجئ في أطراف الأرض فرارا من العذاب. وفي القرن الرابع تغير الأمر حين اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية وفرضها على الإمبراطورية. ولكن الدين الذي فرضه قسطنطين هو -باعتراف المؤرخين والمفكرين الغربيين أنفسهم- شيء آخر غير الدين الذي بشر به المسيح. يقول درابر الأمريكي في كتابه "الدين والعلم". "ودخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين الذين تقلدوا وظائف خطيرة، ومناصب عالية في الدولة الرومية بتظاهرهم بالنصرانية. ولم يكونوا يحفلون بأمر الدين، ولم يخلصوا له يوما من الأيام. وكذلك كان قسطنطين. فقد قضى عمره في الظلم والفجور، ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلا في آخر عمره "سنة 337م". "إن الجماعة النصرانية، وإن كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك، ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية وتقتلع جرثومتها. وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت مبادئها، ونشأ من ذلك دين جديد، تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء. هنالك يختلف الإسلام عن النصرانية إذ قضى على منافسه "الوثنية" قضاء باتا، ونشر عقائده خالصة بغير غبش. "وإن هذا الإمبراطور الذي كان عبدا للدنيا، والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئا، رأى لمصلحته الشخصية، ولمصلحة الحزبين المتنافسين -النصراني والوثني- أن يوحدهما ويؤلف بينهما، حتى إن النصارى الراسخين أيضا لم ينكروا عليه هذه الخطة. ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة! وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها1. ويقول فشر المؤرخ الإنجليزي:   1 نقلا عن كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" للسيد أبي الحسن الندوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 "إن حكمة الكنيسة المسيحية هدت آباءها الأولين إلى قبول ما لم يستطيعوا له منعا من قديم العادات والتقاليد والمعتقدات"!! " بدليل استقبال الكنيسة لمبدأ تعدد الآلهة الراسخ بين شعوب البحر الأبيض المتوسط، وتطويع ذلك المبدأ لما تقتضيه عقائدها1. ويقول رينان الفيلسوف الفرنسي: "إنه ينبغي لفهم تعليم يسوع المسيح الحقيقي كما كان يفهمه هو أن نبحث في تلك التفاسير والشروح الكاذبة التي شوهت وجه التعليم المسيحي حتى أخفته عن الأبصار تحت طبقة كثيفة من الظلام. ويرجع بحثنا إلى أيام بولس الذي لم يفهم تعليم المسيح بل حمله على محمل آخر ثم مزجه بكثير من تقاليد الفريسيين وتعاليم العهد القديم. وبولس كما لا يخفى كان رسولا للأمم، أو رسول الجدال والمنازعات الدينية، وكان يميل إلى المظاهر الخارجية الدينية كالختان وغيره، فأدخل أمياله هذه على الدين المسيحي فأفسده. ومن عهد بولس ظهر التلمود المعروف بتعاليم الكنائس. وأما تعليم المسيح الأصلي الحقيقي فخسر صفته الإلهية الكمالية، بل أصبح إحدى حلقات سلسلة الوحي التي أولها منذ ابتداء العالم وآخرها في عصرنا الحالي، والمستمسكة بها جميع الكنائس، وإن أولئك الشراح والمفسرين يدعون المسيح إلها دون أن يقيموا على ذلك الحجة، ويستندون في دعواهم على أقوال وردت في خمسة أسفار: موسى والزبور، وأعمال الرسل ورسائلهم، وتآليف آباء الكنيسة، مع أن تلك الأقوال لا تدل أقل دلالة على أن المسيح هو الله2. ويقول برنتن: "إن المسيحية الظافرة في مجمع نيقية -وهي العقيدة الرسمية في أعظم إمبراطورية في العالم- مخالفة كل المخالفة لمسيحية المسيحيين في الجليل3 ولو أن المرء اعتبر العهد الجديد التعبير النهائي عن العقيدة المسيحية لخرج من ذلك قطعا لا بأن مسيحية القرن الرابع تختلف عن المسيحية الأولى فحسب، بل   1 تاريخ أوروبا في العصور الوسطى ج1 ص8. 2 عن "محاضرات في النصرانية" للشيخ محمد أبو زهرة ص215، وواضح أن رينان قد ركز على نقطة الفساد الحقيقية في تعاليم الكنيسة وهي تأليه المسيح، ولكنه خلط بها مسألة الختان وغيرها مما سماه "مظاهر خارجية" ولم تكن مسألة الختان التي عجزت الكنيسة عن تطبيقها هي التي أفسدت المسيحية -وهي من تعاليم إبراهيم عليه السلام التي تلقاها من الوحي- إنما كانت مسألة التثليث وتأليه عيسى عليه السلام. 3 أي: المسيحية الأولى كما جاء في كلام الكاتب بعد ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 بأن مسيحية القرن الرابع لم تكن مسيحية بتاتا1. ويقول المؤرخ الإنجليزي ويلز: "وظهر للوقت معلم آخر عظيم يعده كثير من الثقات العصريين المؤسس الحقيقي للمسيحية وهو شاول الطرسوسي أو بولس. والراجح أنه كان يهودي المولد، وإن كان بعض الكتاب اليهود ينكرون ذلك، ولا مراء في أنه تعلم على أساتذة من اليهود بيد أنه كان متبحرا في لاهوتيات الإسكندرية الهلينية. وهو متأثر بطرائق التعبير الفلسفي للمدارس الهلنستية، وبأساليب الرواقيين، كان صاحب نظرية دينية ومعلما يعلم الناس قبل أن يسمع بيسوع الناصري بزمن طويل. ومن الراجح جدا أنه تأثر بالمثرائية إذ هو يستعمل عبارات عجيبة الشبه بالعبارات المثرائية. ويتضح لكل من يقرأ رسائله المتنوعة جنبا إلى جنب مع الأناجيل أن ذهنه كان مشبعا بفكرة لا تظهر قط بارزة قوية فيما نقل عن يسوع من أقوال وتعليم، ألا وهي فكرة الشخص الضحية الذي يقدم قربانا لله كفارة عن الخطيئة. فما بشر به يسوع كان ميلادا جديدا للروح الإنسانية. أما ما علمه بولس فهو الديانة القديمة. ديانة الكاهن والمذبح وسفك الدماء لاسترضاء الإله2. ويقول أيضا: "وفي أثناء ذلك الأمد غير المحدد كان يحدث فيما يبدو قدر جسيم من ضرب بعينه من الثيوكرازيا "أي: التوحيد والمطابقة بين الآلهة المختلفة" بين النحلة المسيحية والعقيدة المثرائية التي تكاد تضارعها في سعة انتشارها بين سواد الشعب، ونحلة سيرابيس إيزيس حورس .... على أن ما أسهمت به نحلة الإسكندرية في الفكر المسيحي والطقوس المسيحية كان أعظم قدرا أو يكاد.. إذ كان طبيعيا أن يجد المسيحيون في شخصيته حورس "الذي كان ابنا لسيرابيس وهو سيرابيس في نفس الوقت" شبيها مرشدا لهم فيما يبذلون من جهود عنيفة لتفهم ما خلفه لهم القديس بولس من خفايا"3. وتكفينا هذه الشهادات من مؤرخي الغرب ومفكريه، لندرك مدى التحريف   1 كتاب "أفكار ورجال" تأليف جرين برنتن وترجمة محمود محمود ص207 من الترجمة العربية. 2 معالم تاريخ الإنسانية ج3 ص705. 3 المصدر السابق ج3 ص708, 709. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 والتشويه الذي أدخله بولس والمجامع المقدسة من بعده على العقيدة الصحيحة التي جاء بها رسول الله عيسى ابن مريم عليه السلام. {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1صدق الله العظيم. على أن التحريف الذي وقع في العقيدة من جعل الإله الواحد ثلاثة أقانيم، وتأليه عيسى عليه السلام وادعاء بنوته لله تعالى، وتأليه مريم وروح القدس جبريل عليه السلام، واختراع قصة الصلب والفداء، وعبادة الصليب وعبادة التماثيل والأوثان إلخ .... إلخ. هذا التحريف على بشاعته لم يكن هو التحريف الوحيد الذي أدخلته الكنيسة والمجامع المقدسة على دين الله المنزل، بل أضافت الكنيسة انحرافا آخر لا يقل سوءا ولا تشويها للدين المنزل من عند الله، وذلك بعزل العقيدة عن الشريعة واتخاذ الدين عقيدة فقط، وترك القانون الروماني يحكم الحياة. إن الدين المنزل من عند الله كان دائما عقيدة وشريعة في ذات الوقت: عقيدة في الله الواحد الفرد الصمد، الذي لا شريك له ولا ولد، وتنظيمات تنظم حياة الناس في الأرض في إطار أوامر الله ونواهيه. فأما العقيدة فقد جاءت واحدة في جميع الرسالات السماوية لأنها -بطبيعتها- غير قابلة للتغيير ولا التبديل. فالله سبحانه واحد. وكل الرسل المرسلين من عند الله جاءوا بعقيدة التوحيد -عقيدة الحق- فقالوا لأقوامهم كما يحكي القرآن الكريم عنهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أما الشريعة وما تحويه من تنظيمات فقد تغيرت -بحسب أحوال الأقوام الذين أرسل المرسلون إليهم، وانحرافاتهم الخاصة التي كانوا واقعين فيها حتى اكتمل الدين في الوحي المنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ   1 سورة المائدة: 116, 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} 1 ولكنها -أي: الشريعة- كانت دائما هناك! كانت موجودة في كل رسالة أنزلت على رسول من رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم جميعا. وقد أشار القرآن إلى بعض تفصيلاتها في مثل قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ، قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} 2, 3، 4. وقوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} 5. وقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} 6. وما كانت الرسالة المنزلة على عيسى ابن مريم بدعا من الرسالات في هذا الشأن. بل ينص القرآن الكريم نصا صريحا على أن عيسى ابن مريم جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة -وهي حافلة بالتشريعات التفصيلية في كثير من شئون الحياة- وليحل لبني إسرائيل بعض الذي كان قد حرم عليهم من باب العقوبة على ما اجترحوا من السيئات:   1 سورة المائدة: 3. 2 هذه خاصة بالعقيدة. 3 وهذه تتعلق بالشريعة وكلتاهما متصلة بالصلاة التي يصليها شعيب لله كما هو واضح من استنكار القوم. 4 سورة هود: 84-87. 5 سورة الشعراء: 123-131. 6 سورة الشعراء: 160-166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} 1. كما ينص على أن الله جعل لكل أمة شرعة ومنهاجا، وأمر كل قوم أن يحكموا بمقتضى الشرع الذي نزل عليهم وإلا فهم كافرون وظالمون وفاسقون، حتى يأتي الرسول الأخير -صلى الله عليه وسلم- فيحتكموا جميعا إلى شريعته. {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ؟! 2. ورغم أن وجوب تحاكم النصارى إلى ما جاء في التوراة والإنجيل من تشريعات واضح تمام الوضوح في الكتب المتداولة بين أيديهم بالرغم من كل ما حدث فيها من تحريف، فإن الكنيسة زعمت أن القانون الروماني -قانون قيصر- له شرعية تبيح اتباعه وهو يحكم بغير ما أنزل الله، ونسبت هذا الزعم   1 سورة آل عمران: 50. 2 سورة المائدة: 44-50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 إلى السيد المسيح، كما نسبت إليه من قبل أنه قال إنه إله وإنه ابن الله.. سواء بسواء! جاء في أناجيلهم هذه القصة: "ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه "أي: السيد المسيح" بكلمة، فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودوسيين قائلين: يا معلم! إنك صادق وتعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد؛ لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس فقل لنا ماذا تظن؟ أيجوز أن تعطي جزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم وقال: لماذا تجربونني يامراءون؟ أروني معاملة الجزية. فقدموا له دينارا فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر! فقال لهم: أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله! فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا"1. وليس لنا من سبيل إلى الجزم في أمر هذه القصة، هل حدثت بهذه الصورة أم بغيرها أم لم تحدث على الإطلاق. وإن كنا أقرب إلى الشك فيها منا إلى إثباتها. ولكنا نفترض جدلا أن القصة حدثت على هذا النحو، وأن المسيح تكلم بهذه الألفاظ، فهل يمكن أن يكون قصده منها هو إعطاء الشرعية لأمر قيصر الذي لا يؤمن بالله ورسوله ولا يتحاكم إلى شريعة الله، وقسمة شئون الحياة بين قيصر وبين الله سبحانه وتعالى بحيث يكون ليقصر نطاق يتصرف فيه على هواه ويطاع فيما يأمر به، وتكون بقية الشئون -التي لا يهتم بها القيصر- هي النطاق المتروك لله؟! وما الشرك إذن في أجلى صورة؟! إن هذا المعنى يستحيل أن يخطر في بال المؤمن العادي الذي يؤمن بلا إله إلا الله. فكيف بنبي مرسل من عند الله؟! إن أقصى ما يمكن أن تدل عليه القصة -على فرض صحتها جدلا- أن المسيح عليه السلام يقول لهم: إننا لم نؤمر الآن بقتال قيصر، فإذا فرض عليكم الجزية -ولا قبل لكم اليوم برد سطوته عنكم- فادفعوا له الجزية حتى يأتي اليوم الذي يؤذن لكم فيه بالقتال لإخضاع قيصر لشريعة الله. وهذا كما قيل للمؤمنين في مكة: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 2 حتى جاءهم الإذن بالقتال في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ   1 إنجيل متى 23: 14-23. 2 سورة النساء: 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 1 ثم جاء الأمر بالقتال لإخضاع الأرض كلها لشريعة الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} 2. ولكن الكنيسة حملت هذه القصة -على فرض صحتها- فوق ما تحتمل وزعمت أن معناها أن من حق قيصر أن يحكم عالم الأرض على أن يحكم الله عالم السماء، أو أن الأبدان لقيصر يفعل بها ما يشاء في الحياة الدنيا، ولله الأرواح في الآخرة! وهكذا سمحت للعالم المسيحي أن يحكمه القانون الروماني في كل شئونه ما عدا "الأحوال الشخصية" من زواج وطلاق.. إلخ. وأن ينحصر سلطان الله على عباده في مشاعر الخشوع والتقوى والشعائر التعبدية.. والأحوال الشخصية التي لا يهتم بها قيصر إذا ما تركت لشريعة الله! وتم بذلك فصل العقيدة عن الشريعة، وتم المسخ الكامل لدين الله! هذا الدين -بهذه الصورة- لم يكن صالحا للحياة. فما يصلح دين تشوه عقيدته على هذا النحو، ثم تفصل الشريعة فيه عن العقيدة وتحصر في أضيق نطاق. غن الدين يأتي لإصلاح الأرض وإقامة حياة الناس بالقسط. {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3. {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 4. {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} 5. وهذا الإصلاح الذي يقيمه الدين في الأرض ينشأ من انصياع الناس لحقيقة ضخمة هي حقيقة التوحيد، بكل أبعادها وكل مقتضياتها، فتنضبط بها حركة النفس وحركة الحياة البشرية على السواء.   1 سورة الحج: 39. 2 سورة الأنفال: 39. 3 سورة الأعراف: 85. 4 سورة الأعراف: 55, 56. 5 سورة الحديد: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 التوحيد هو "الميزان" الذي يضبط النفس والحياة. فالإنسان عابد بفطرته. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1. وقد تهتدي النفس بميثاق الفطرة وقد تضل عنه. ولكنها -بما أودع في فطرتها- تظل دائما تبحث عن الإله .... تبحث عن "المعبود"2. ومن ثم فإن الإنسان لا بد أن يعبد.. يعبد الله أو يعبد شيئا غير الله. وليس الفارق بين إنسان وإنسان أن هذا يعبد وهذا لا يعبد. إنما الفارق في المعبود: أهو الله سبحانه وتعالى، المستحق للعبادة، أم غيره من الآلهة التي لا واقع لها في الحقيقة. وتتعدد المعبودات من دون الله وتختلف باختلاف الزمان والمكان، واختلاف مبلغ الجاهلية من "العلم" الأرضي، وتتوحد عبادة الله فلا تتغير طبيعتها باختلاف الزمان والمكان3. كان الناس في جاهلياتهم المختلفة يعبدون "الأب" أو يعبدون "الطوطم" أو يعبدون "قوى الطبيعة" المختلفة من رعد وبرق وريح ومطر، ويعبدون الأفلاك من شمس وقمر ونجوم، أو يعبدون الأصنام والأوثان، أو يعبدون البشر من الأنبياء والقديسين والأحبار والرهبان، أو يعبدون الطبيعة ... ثم عبد الإنسان ذاته في الجاهلية المعاصرة، ثم تعددت المعبودات فصار اسمها الوطن أو الدولة أو القومية أو المذهب أو الحزب أو الزعيم. أو الجنس أو الإنتاج المادي أو الدولار4. كلها معبودات يتخذها الناس أربابا من دون الله، وتتحكم في حياتهم فيسيرون على مقتضى ما تأمرهم به في الوهم أو الحقيقة. وفي جميع تلك الأحوال يكون الناس عابدين لأربابهم وخاضعين لما تأمرهم به تلك الأرباب.   1 سورة الأعراف: 172. 2 في فصل "الإلحاد" فيما يلي من الكتاب حديث أكثر تفصيلا عن هذه النقطة. 3 يقول علم مقارنة الأديان: إن الدين قد "تطور" على مدى التاريخ؛ والحقيقة أن عقائد الجاهلية هي التي تطورت, أما عقيدة التوحيد فلم تتغير من لدن آدم إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها. 4 يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 أما في حالة الهدى فيعبد الناس الله وحده بلا شريك، ويتبعون أوامره ونواهيه، أي: يحكمون بما أنزل الله. ويختلف الأمر اختلافا بينا ما بين هذه العبادة وتلك, أمر النفس وأمر الحياة سواء. فأما النفس فما أبعد الفارق بين أن تعبد الوهم وأن تعبد الحقيقة! {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ، وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} 1. هل يستوي من يخبط في الظلمات خبط عشواء يبحث عن شيء يظنه ظنا ولا وجود له في الحقيقة، ومن يمشي على النور إلى وجهة يعلمها ويتوخاها ويسير قاصدا إليها؟. {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2. أيهما أضبط حركة وأيسر مسيرا؟! أيما أروح نفسا وأكثر طمأنينة؟! ثم إن النفس البشرية في رحلتها على الأرض لتواجه أسئلة ترد -لا محالة- على الفطرة وتطلب الجواب. من خالق هذا الكون؟ من أين جئنا؟ إلى أين نذهب بعد الموت؟ من يدير الكون وينشئ الأحداث؟ لأي شيء نعيش؟ أفمن يملك دليل الرحلة يدله إلى معالم الطريق أهدى أم من يخبط خبط عشواء بلا دليل؟ أيما أضبط حركة وأيهما أكثر أمنا وطمأنينة؟! ثم أيهما أضبط حركة وأكثر طمأنينة .... من له غاية موحدة يهدف إليها يحدوه حاد واحد إليها، أم من له غايات متعددة متضاربة يحدوه إليها حداة مختلفون كل يدعو إلى طريق؟   1 سورة فاطر: 19-22. 2 سورة الملك: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} 1. {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 2. ثم ... أيهما أكثر كرامة؟! من يعبد الله الحق، ويتحرر -من ثم- من عبادة الأرباب الزائفة كلها، ويستعلي عليها، ويحس بوجوده الإيجابي تجاهها، سواء كانت بشرا طاغين في الأرض بغير الحق، أو كانت "قوى" مادية أو معنوية، أو كانت "حتميات" زائفة كالحتمية المادية أو الحتمية الاقتصادية أو الحتمية التاريخية، أو كانت أهواء وشهوات ذاتية. أم من يعبد هذه الأرباب الزائفة المتفرقة ويخضع لسلطانها فتستعبده بذلك السلطان؟! ثم ... أيهما أكثر كرامة؟! من يعبد الإله الذي يكرمه ابتداء ويمنحه الوجود ويمنحه المكانة العالية. {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 3. أم من يعبد الآلهة التي تستعبد أصحابها فتذلها وتسلبها الإرادة وتسلبها الوجود؟ ذلك أمر "النفس" مع عقيدة التوحيد. الاستبصار والأمن والكرامة وتوحد الهدف وتوحد الطريق. وإن النفس التي تعبد الله الحق، وتطمئن بذكره وعبادته، وتعرف دليل رحلتها على الأرض، من أين وإلى أين، لتتوحد طاقتها وتترتب ذراتها كما تترتب ذرات الحديد في قطعة المغناطيس، فتصبح طاقة كونية هائلة بدلا من أن تصبح بددا ضائعا في التيه. أما الحياة البشرية -حياة المجموع البشرى- فميزانها كذلك هو التوحيد. من الذي يرسم للبشرية منهج الحياة؟ من الذي يقول هذا حلال وهذا حرام؟ هذا مباح وهذا غير مباح؟ هذا حسن وهذا قبيح؟ هذا طيب وهذا خبيث؟!   1 سورة الزمر: 29. 2 سورة يوسف: 39. 3 سورة الإسراء: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 إنه -من جهة- حق الإله الحقيقي على عباده، وليس حق الآلهة المدعاة، فبما أنه هو الخالق فهو -سبحانه- صاحب الأمر: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 1. ثم إنه -من جهة أخرى- حق العليم الخبير، وليس حق الجهال المحدودي الآفاق: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 2. وفي عقيدة التوحيد تكون الحاكمية- أي: حق التحليل والتحريم والإباحة والمنع- لله وحده ودون شريك. وفي الجاهلية تكون الحاكمية للبشر مع الله، بخلط شيء من التشريع الإلهي مع شيء من التشريع البشري، أو من دون الله، بنبذ التشريع الرباني جملة واتخاذ شرائع كلها من صنع البشر، سواء كان البشر فردا حاكما بأمره، أو فردا حاكما بمشورة طائفة غيره من البشر، أو كانوا كل البشر على السواء ... وكل ذلك إشراك مع الله وكفر بالله3. {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 4. {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} 5. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 6. ويختلف الأمر اختلافا بينا ما بين عقيدة التوحيد، التي تجعل الحاكمية لله، وعقائد الشرك والكفر التي تجعل الحاكمية للبشر مع الله أو من دون الله. يختلف أولا من ناحية الكرامة البشرية، ويختلف ثانيا من ناحية الواقع البشري. فأما من ناحية الكرامة البشرية ففي عقيدة التوحيد، التي تجعل الحاكمية لله، يكون الناس عبيدا لله وحده -وهو الكريم المكرم- متحررين من كل عبودية لغير الله، مستعلين بوجودهم على الطواغيت. وفي عقائد الشرك   1 سورة الأعراف: 54. 2 سورة البقرة: 216. 3 في ظل الإسلام يجتهد البشر "المؤمنون" فيما لا نص فيه. ولكن هذا ليس تشريعا من عند أنفسهم، فهم إنما يجتهدون فيما أذن الله لهم أن يجتهدوا فيه، ولولا إذن الله لهم ما كان لهم أن يجتهدوا ولا يضعوا الأحكام، فهم -بهذا الإذن- يضعون الأحكام ولكنهم لا يشاركون في الحاكمية التي هي حق التحليل والتحريم والإباحة والمنع، وفضلا عن ذلك فإن الاجتهاد محكوم بالأصول العامة للشريعة لا يخرج عن إطارها. 4 سورة الشورى: 21. 5 سورة الأعراف: 3. 6 سورة المائدة: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 والكفر، التي تجعل الحاكمية للبشر مع الله أو من دون الله. يكون بعض البشر أربابا وهم المالكون المسيطرون المشرعون، وبعضهم عبيدا لأولئك الأرباب، وهم الذين يقع عليهم سلطان الطواغيت. وأما من ناحية الواقع البشري فالعدل والرشد هو طابع الحياة في ظل عقيدة التوحيد التي تجعل الحاكمية لله، والظلم والتخبط هو طابع الحياة في ظل عقائد الشرك والكفر التي تجعل الحاكمية للبشر مع الله أو من دون الله. فأما الظلم فينشأ -دائما- في الجاهلية من كون الذين يشرعون سواء كانوا فردا أو طبقة1 يشرعون لمصلحتهم الخاصة على حساب مصالح الآخرين. وأما التخبط فينشأ من عجز البشر عن الإحاطة بالأمر من كل جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والمادية والروحية.. إلخ، وعن رؤية النتائج المستقبلة المترتبة على أعمالهم الحاضرة. فمهما قدروا وتخيلوا فإن الواقع العملي يأتي دائما مخالفا لما قدروه وتخيلوه في بعض جوانبه أو في كل جوانبه، وتنبت دائما مشاكل جديدة من الحلول المبتسرة التي يواجهون بها مشاكلهم، لم تكن في حسبان الذين وضعوا هذه الحلول. وهكذا تظل الحلقة المفرغة: مشكلات قائمة، وحلول مبتسرة تنبت منها مشكلات جديدة توضع لها حلول مبتسرة جديدة! وهذا إذا أحسنا الظن بواضعي الحلول وافترضنا أنهم مخلصون في وضع ما يضعون من حلول وأنهم لا يخططون لإيقاع البشرية في الخبال لغايات شريرة2. بينما تقوم شريعة الله على العدل؛ لأن الله -سبحانه- ليست له مصلحة ذاتية يطلبها من وراء تلك الشريعة، وهو الغني الحميد، مالك الملك كله الذي لا تنفد خزائنه. إنما يريد الله الخير لعباده والبر بهم والزكاة والطهر والنظافة والارتفاع. {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} 3. كما أن شريعة الله تتسم بالرشد؛ لأن منزلها -سبحانه وتعالى- هو اللطيف   1 لا يوجد في الواقع فرد واحد يحكم بمفرده، إنما يكون الحاكم دائما طبقة يمثلها فرد أو أفراد. 2 سيأتي فيما بعد حديث عن دور اليهود في إفساد أوروبا. 3 سورة النساء: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الخبير الذي يعلم حقيقة النفس البشرية التي خلقها {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1 ويعلم ما يصلحها وما يصلح لها، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة الذي لا يند عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، والذي يحيط علمه بالماضي والحاضر والمستقبل في كل لحظة من لحظات هذا الوجود كله، فينزل التشريعات التي يعلم -سبحانه- أنه يتحقق منها الخير ولا يقع منها الشر، والتي تكون في كل لحظة مناسبة لما نزلت من أجله. والتوحيد يشمل ذلك كله.. يشمل العقيدة التي تستقيم بها النفس، والشريعة التي تستقيم بها الحياة. إذ التوحيد -الذي يقوم عليه الدين المنزل من عند الله- هو توحيد الله في ذاته وتوحيده في صفاته وأفعاله. ومن صفاته التي ينفرد بها -سبحانه- أنه صاحب الخلق وصاحب الأمر كما مر بنا في آية الأعراف: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 2. وأن الحكم -أي: الحاكمية- له وحده في كل شيء. {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 3. أما الشرك -المقابل للتوحيد- فهو يقع إما في العبادة -بمعنى التوجه لغير الله بالشعائر التعبدية مع الله أو من دون الله -وإما في الاتباع- بمعنى التحريم والتحليل والمنع والإباحة من دون الله وبغير إذن من الله- أو فيهما جميعا كما في آية النحل: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 4. والتوحيد هو الذي يصلح الأرض، والشرك هو الذي يحدث الفساد الذي ينهى الله عباده عنه: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 5.   1 سورة الملك: 14. 2 سورة الأعراف: 54. 3 سورة يوسف: 40. 4 سورة النحل: 35. 5 سورة الأعراف: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 إذا علمنا ذلك كله، وهو من بديهيات الدين المنزل من عند الله، استطعنا أن ندرك مدى التحريف البشع الذي أحدثته الكنيسة في دين الله المنزل على عيسى ابن مريم، سواء في تشويه العقيدة بقضية التثليث وتأليه عيسى عليه السلام، أو بفضل العقيدة في ذلك الدين عن الشريعة، وتقديمه للناس عقيدة منفصلة خلوا من التشريع إلا القليل، واستطعنا أن ندرك مدى الشرك -في العقيدة والاتباع معا- الذي أدخلته الكنيسة على دين التوحيد الذي يلتقي فيه الرسل جميعا من أولهم إلى خاتمهم عليه الصلاة والسلام. {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1. ذلك الشرك الذي أشار القرآن إلى أحد طرفيه في هاتين الآيتين: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 2. {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} 3. وأشار إلى طرفيه معا في هاتين الآيتين: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4. وأخيرا نستطيع أن ندرك أن ذلك الدين -بصورته المشوهة تلك- لم يكن صالحا للحياة. ومع ذلك فإن الكنيسة ورجالها لم يكتفوا بهذه الخطيئة الكبرى في حق الدين السماوي، إنما أضافت إليها خطايا أخرى ومنكرات!   1 سورة الشورى: 13. 2 سورة المائدة: 72. 3 سورة المائدة: 73. 4 سورة التوبة:30, 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ثانيا: طغيان الكنيسة و رجال الدين مدخل ... ثانيا: طغيان الكنيسة ورجال الدين حولت الكنيسة دين الله المنزل إلى روحانيات صرفة أو روحانيات غالبة بقصره على شعائر التعبد ومشاعر التبتل والخشوع والتقوى، وإبعاد الجانب الذي يحكم الحياة العملية -أي: الشريعة- إلا قليلا منه، وترك هذا الجانب لقيصر يتصرف فيه بمقتضى القانون الروماني غير متقيد بما أنزل الله. وكان المظنون أن تكون مهمتها تعميق الجانب الروحي -الذي قصرت الدين عليه- وأن تكون وسيلتها إلى ذلك هي التربية الروحية التي تربط القلوب بالله، لتحبه وتخشاه. ولكن الكنيسة لم تكتف بهذا الجانب -المنطقي مع تصورها وتصويرها للدين -بل مارست سلطانا "دنيويا" هائلا يتنافى مع هذا التصور، ولا يفسره شيء في حقيقة الواقع إلا رغبة الطغيان! بل إنها -حتى في الجانب الروحي البحت- قد مارست طغيانها الهائل فأبت أن تتصل قلوب المؤمنين بربهم مباشرة بلا وسيط، وأصرت أن تكون هي وحدها -ولا سواها- الواسطة التي تتصل القلوب عن طريقها بالله! ويجدر بنا أن نفصل هذا الطغيان إلى أبوابه المختلفة التي مارستها الكنيسة على العقول والأرواح والأبدان، مستغلة سلطانها على القلوب، الذي يصاحب الجانب الروحي عادة في حياة الناس. ونحتاج في هذا الشأن أن نتحدث أولا عن " رجال الدين" ثم نتحدث بعد ذلك عن طغيان الكنيسة ورجال الدين، الذي اتخذ مظاهر متعددة أهمها: الطغيان الروحي. الطغيان العقلي والفكري. الطغيان المالي. الطغيان السياسي. الطغيان العلمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 1- رجال الدين : لكل دين -سماوي أو غير سماوي- رجال يقومون بتلقين الدين للناس، وتعليمهم إياه، ويكونون -في نظر الناس على الأقل- ألصق بأمور الدين وأعرف بها من سواد الناس الذين يكتفون -عادة- بممارسة ما يتلقونه من أولئك المعلمين دون تعمق فيه. وإذا كان هذا شأن كل دين -سماوي أو غير سماوي- فإن الدين المنزل من عند الله يفترق في هذا الشأن عن الأديان المصنوعة على يد البشر في خصلتين اثنتين على أقل تقدير. الأولى: أن يكون الذين يعلمون الدين للناس أقرب في سلوكهم إلى حقيقة هذا الدين ومقتضياته, أي: أكثر وعيا وأكثر إخلاصا وأقرب إلى الله، كما كان المهاجرون والأنصار بالنسبة للجيل الأول من المسلمين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والثانية: أن يكونوا متفقهين في أمر الدين ليجيبوا الناس على أسئلتهم التي تخطر لهم بشأنه، سواء في الجانب التعبدي المتصل بالعقيدة والشعائر، أو الجانب العملي المتصل بالشريعة. {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 1. وأمر طبيعي أن يكون مثل هؤلاء الرجال موضع التقدير والاحترام من بقية الناس، ولكنهم -بحكم طبيعة الدين المنزل من عند الله- لا يكونون موضع التقديس. أولا: لأنهم يعلمون الدين الحق، والدين الحق يجعل التقديس لله وحده وليس لأحد من البشر، وثانيا: لأنهم يعلمون الدين بجانبيه: ما يتعلق منه بالعقيدة والشعائر وما يتعلق بتنظيم أمور الحياة الدنيا بمقتضى الشرع الرباني فيخاطبون في الناس جانبهم الروحي وجانبهم العقلي والعملي التطبيقي، فيظل ارتباط الناس بهم ارتباطا واعيا لا سحر فيه ولا غموض ولا أسرار. ومن ثم لا يصبحون -في حس الناس- وسطاء بينهم وبين الله، وإنما وسطاء بينهم وبين المعرفة الصحيحة بأمور الدين. وفرق بين الوساطتين كبير! ومن ثم فلا يوجد في الدين المنزل من يطلق عليهم "رجال الدين" إنما يوجد رجال صالحون من جهة، وعلماء وفقهاء في الدين من جهة أخرى. وليس لهؤلاء ولا هؤلاء على الناس سلطان إلا سلطان المحبة والتقدير، ومكان القدوة الصالحة في النفوس. وحقيقة أن موسى عليه السلام -بوحي من ربه- قد ناط بكل سبط من أسباط   1 سورة التوبة: 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 بني إسرائيل الاثنى عشر أعمالا معينة يتوارثونها بينهم، ومن بينها إقامة الشعائر والنسك مما أوجد فيهم كهانة وكهانا.. ولكن هذا كان أمرا تنظيميا فيما بين الأسباط لربط بني إسرائيل بعضهم ببعض حتى لا يتفرقوا ولا يختلفوا فيما بينهم، ولم تكن كهانة للدين ذاته، أي: وساطة بين بني إسرائيل وبين الله. أما الأديان الموضوعة فلها شأن آخر.. إنها أولا: أديان موضوعة لا تعرف الله الحق ولا تعرف الناس به. ومن ثم فإن مفهومها الديني ليس هو المفهوم الصحيح، والقداسة فيها ليست وقفا على الله وحده كما ينبغي في الدين الحق. وهي ثانيا: تتكئ على الجانب الروحي: جانب العقيدة والشعائر والنسك، أكثر بكثير من الجانب العقلي والعملي. التطبيقي -إن اهتمت بهذا الأمر على الإطلاق- ومن ثم يصبح ارتباط الناس بهم ارتباطا روحيا ووجدانيا خاليا تقريبا من الوعي، أو -عند البسطاء من الجماهير- خاليا من الوعي على الإطلاق. ومن هنا يصبح في هذه الأديان كهان أو رجال دين يمارسون سلطانا روحيا هائلا على الجماهير، وتحيط بهم هالة من الغموض والأسرار.. ويصبحون هم الوسطاء بين الناس وإلههم الذي يعبدونه! وقد كان هذا هو شأن المسيحية المحرفة التي وضعتها الكنيسة الأوروبية. إنها دين وضعي وإن تمسح بالمسيح عيسى ابن مريم وبالوحي الرباني، وزعم أنه من عند الله. ومن ثم كانت له كهانة، وكان له رجال دين.. وكان هؤلاء الكهان -والبابا على رأسهم- وسطاء بين الناس وبين الله! لقد حاولت الكنيسة أن تسند وجودها وسلطانها إلى المسيح عليه السلام، إما بتأويل كلمات قالها بالفعل تأويلا يناسب أهدافها، وإما باختراع كلمات لم يقلها وإلصاقها به، كما فعلت في قضية البنوة والتأليه، وإعطاء قانون قيصر شرعية كشريعة الله. تزعم الكنيسة أن المسيح قال لبطرس كبير الحواريين: أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة ابْنِ كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السماوات، وكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات1 وأنه قال: "إني أهب سلطاني لكنيستي". ورتبت الكنيسة على هذا الزعم أن المكان الذي مات فيه بطرس -وهو روما- لا بد أن يكون مقرا للنفوذ الديني الذي يبسط ذراعيه على الأرض كلها ممثلا في الكنيسة، وأن ما تقوله الكنيسة -وعلى رأسها البابا- واجب الطاعة لأنه من أمر الله. ولكن القضية كلها قائمة على أساسين واهيين هاويين: قائمة على أساس أن المسيح عليه السلام ذو طبيعتين: إحداهما لاهوتية والأخرى ناسوتية، ومن ثم فهو إله وبشر في ذات الوقت، وهو على هذه الهيئة وسيط بين البشر ذوي الطبيعة الناسوتية الخالصة والإله ذي الطبيعة اللاهوتية الخالصة!! فهو ليس رسولا يبلغ وحي الله للناس -كما هو في الحقيقة- إنما هو حلقة وسيطة تمر بها مشاعر الناس وأعمالهم لكي تصل إلى الله، كما تمر من خلاله كلمة الله إلى الناس! وقائمة -من بعد- على أساس أن الكنيسة هي وريثة المسيح، ومن ثم فإن لها ذات الوضع وذات السلطان الذي كان للمسيح، فهي مقدسة، "وقداسة" البابا -ومن يكل الأمر إليهم من الكرادلة وغيرهم- هم الوسطاء الذين تمر بهم مشاعر الناس وأعمالهم لكي تصل إلى الله، كما تمر من خلالهم كلمة الله إلى الناس!! وكلا الأمرين لا يقوم على أساس في دين الله.. فالرسل في دين الله هم رسل فحسب. {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} 2. {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 3. {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 4. {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ   1 إنجيل متى، الإصحاح السادس عشر: 19, 20. 2 سورة الإسراء: 93. 3 سورة آل عمران: 144. 4 سورة الأنعام: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1. وعيسى ابن مريم عبد الله ورسوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا، لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} 2. إنما وقع الخلط عندهم من أنهم قالوا: "في البدء كان الكلمة. والكلمة كان الله". فجعلوا كلمة الله هي الله! وعلى هذا الأساس يمكن أن يكون آدم كذلك هو الله -نستغفر الله- لأنه كلمة الله: {قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3 ولأن الله نفخ فيه من روحه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 4. أما القولة التي نسبوها إلى المسيح وأولوها على هواهم فهي لا تعني أن تكون هناك كنيسة بالمعنى الذي صار إليه الأمر في الكنيسة الأوروبية ولا رجال دين لهم وجود متميز وسلطان على المؤمنين بذلك الدين. إنما هي على فرض صحتها لا تعني أكثر من قول الله عن المؤمنين بمحمد -صلى الله عليه وسلم: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} 5 فهي عزة يمنحها الله للمؤمنين بدينه، يعتزون بها في الأرض على الكفار والمنافقين، وليست سلطانا ذاتيا يمارسونه على المؤمنين! ولكن على هذا الفهم الخاطئ والتأويل المعوج سارت الأمور في المسيحية المحرفة فصار لها كنيسة ورجال دين6 يرأسهم "قداسة" البابا ويرسمهم ذلك الباب أي: يضعهم في مناصبهم، وصار لهم على الناس ذلك السلطان المعروف في التاريخ الأوروبي الذي لم يكن سلطانا عاديا، وإنما وصل إلى حد الطغيان المتعدد الألوان.   1 سورة الأعراف: 188. 2 سورة النساء: 171-173. 3 سورة آل عمران: 59. 4 سورة "ص": 72. 5 سورة المنافقون: 8. 6 مر بنا قول المؤرخ الإنجليزي "ويلز" فما بشر به يسوع كان ميلادا جديدا للروح الإنسانية. إما ما علمه بولس فهو الديانة القديمة، ديانة الكاهن والمذبح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 طغيان رجال الدين الطغيان الروحي ... 2- طغيان رجال الدين: أ- الطغيان الروحي: أشرنا من قبل إلى أن الطغيان الروحي هو من طبيعة الأديان الموضوعة التي تركز على الجانب الروحي. كذلك كان الأمر مع سحرة فرعون. وهم كهنته في ذات الوقت.. الذين يروي القرآن عنهم. {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} 1. وكذلك كان الأمر مع كهنة الديانات الوضعية القديمة كلها. فالكاهن محوط بالأسرار والغموض، على أساس أن له صلة خفية بالإله المعبود، ومن ثم ففيه عنصر إضافي غير بقية البشر العاديين يتيح له ذلك السلطان المرهوب على القلوب؛ لأنه يملك -في حسهم- أن يستنزل رضا الرب وغضبه على السواء ... وبعد قليل يصبح غضبه -في حسهم- كأنما هو غضب الرب، وكذلك رضاه! وإذا كان الأمر لم يصل في المسيحية المحرفة إلى صورة السحر المادي؛ لأن لها أصلا سماويا على أي حال، فقد كان دور رجال الدين فيها قريبا من دور الكهنة في الديانات الوثنية الخالصة2 وكان لهم سلطان روحي طاغ على الناس بوصفهم الوسطاء بينهم وبين الله. فالطفل لا يعد مسيحيا حتى يعمد. والتعميد لا يتم إلا على يد الكاهن. ومن ثم تبدأ حياة المسيحي بتلك الوساطة الكهنوتية التي تدخله -ابتداء- في الدين. ثم يظل حياته كلها مرتبطا بالكاهن. هو الذي يزوجه، وهو الذي يصلي به صلاة الأحد في الكنيسة، وهو الذي يتقبل اعترافه بخطاياه ويتقبل توبته "وإلا فلا توبة ومن ثم فلا غفران! " ثم هو الذي يصلي عليه في النهاية حين يموت. فهو من مولده إلى مماته مرتبط بالكاهن ذلك الرباط الذي يمثل في حسه الكوة المفتوحة على عالم الغيب، والصلة التي تصل قلبه   1 سورة الأعراف: 16. 2 من هنا قال من قال من كتابهم "وعلمائهم" الجاهلين: إن تاريخ البشرية قد مر في ثلاث مراحل: مرحلة السحر ومرحلة الدين ومرحلة العلم التي يتخلص الناس فيها من الدين. وهم يتكلمون عن جاهليتهم هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 بالله! ولا يستطيع مهما كانت حرارة وجدانه أن يعقد صلة مباشرة بالله بعيدة عن سلطان الكاهن أو غير معرضة لتدخله في أي وقت من الأوقات! فإذا كان هذا سلطان الشماس الصغير في القرية "الأبرشية" فما بالك بالأسقف وما بالك بالكردينال!؟ ثم ما بالك برئيس هؤلاء جميعا الذي يجلس على عرش البابوية هناك في مقر السلطان؟! أو تعجب إذن إذا قيل لك إنه "قداسة" -البابا- وإنه المتحدث باسم الرب الإله في الأرض.. وإنه مقدس الذات ومقدس الكلمات؟! ثم هل تعجب -من جهة أخرى- إذا رأيت رجال الدين قد طغوا في الأرض بغير الحق، وقد أوتوا على القلوب ذلك السلطان؟! إن السلطان بطبيعته يطغى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى} 1 ولا يحد من هذا الطغيان إلا تقوى الله وصدق الإيمان به: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 2. فإذا فرغت القلوب من التقوى.. فما الذي يمنع الطغيان؟ ولقد كانت قلوب أكثرهم خالية من التقوى كما يشهد كتابهم ومؤرخوهم. عباد دنيا.. عباد مال ونساء وشهوات.. لذلك كان الدين بالنسبة إليهم حرفة يحترفونها، وسبيلا يلجونه ليوصلهم إلى المناصب ذات المكانة الرفيعة في المجتمع وذات السلطان. ولذلك كان طغيانهم من أبشع ألوان الطغيان في التاريخ.. وكان حقا على أوروبا -حين تنورت- أن تخلع هذا السلطان الطاغي وتنسلخ منه، إحساسا بالكرامة وفرارا من الذل والهوان.. وإن كانت قد تحركت -في هذا الأمر وفي غيره- حركات هوجاء بعيدة عن المنطق والرشد، أخرجتها من ضلال إلى ضلال. يصف تشارلس ديكنز في قصة المدينتين التي يتحدث فيها -بطريقة روائية- عن مقدمات الثورة الفرنسية والأحوال التي هيأت لقيامها، مشهدا من مشاهد   1 سورة العلق: 6, 7. 2 سورة الحج: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ذلك الإذلال الروحي الذي كان يمارسه رجال الدين على الناس، أو الذل الروحي الذي كان يمارسه الناس لرجال الدين -وكلاهما سواء في دلالته- فيصف شارعا من شوارع باريس وهي يومئذ غيرها اليوم ... والمطر ينهمر بقوة، والشارع مملوء بالطين والأقذار والوحل، وموكب الكاردينال على حصانه يمر في الطريق، والناس محتشدة على الصفين ترقب ذلك المشهد بقلوب خائفة واجفة، وتنتظر اللحظة الهائلة التي يحاذي الموكب فيها رءوسهم، فتهوي هذه الرءوس خشوعا -أو مذلة!! - للموكب الموقر، وتظل تهوي حتى تلتصق بالأرض ... في الوحل والطين والقاذورات! بأبي أنت وأمي يا رسول الله! "لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم" 1. "إنما أنا ابن امرأة من مكة كانت تأكل القديد" 2. ولم يكن ذلك هو الباب الوحيد للطغيان الروحي الذي مارسته الكنيسة ورجال الدين.. ففي صلب العقيدة المسيحية كانت هناك أبواب للطغيان.. فهناك "الأسرار" التي لا يعلم تأويلها إلا الراسخون ... لا في العلم ولكن في الكهنوت! أسرار التثليث.. والعشاء الرباني الذي يتحول فيه جسد المسيح إلى خبز ودماؤه إلى خمر! وما إلى ذلك من معتقدات وطقوس. ولئن كانت هذه القضية داخلة في الطغيان العقلي والفكري -من حيث حظر التفكير فيها ومناقشتها، ووجوب التسليم الأعمى بها، وسنتكلم عنه بهذه الصفة هناك- فإننا نتحدث هنا عن جانبها الروحي. ذلك أنها عندهم من صلب العقيدة.. والمفروض في العقيدة أن تكون خالصة بين القلب البشري وبين الله لا يعترضها في الطريق معترض؛ لأنها هي الصلة المباشرة التي تربط قلب المؤمن بالله.. إنما ينزل الله كلماته على رسله لتبين للناس حقيقة الألوهية.. ثم ينعقد الإيمان في داخل القلب البشري فيتجه مباشرة إلى الله. وبصرف النظر عما في تلك "العقيدة" من زيف, ما أنزل الله به من سلطان، فإنها -عندهم- هي العقيدة! بل هي العقيدة الصحيحة التي لا يقبل من أحد   1 رواه البخاري. 2 رواه ابن ماجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 سواها! وليس المفروض في العقيدة الصحيحة أن تحتوي على أسرار مغلفة لا يعرف حقيقتها إلا فئة معينة من الناس محدودة العدد محدودة الذوات! إنما كان يحدث هذا في الديانات الوثنية السالفة، حيث الأوهام بديل من الحق، وحيث الأسرار تحيط بالأوهام، ليظل الناس خاضعين لها لا يفيقون من سحرها، ولا يتمردون على كهنتها الذين في أيديهم -وحدهم- وصل القلوب بالأسرار، بطريقة خفية لا تدركها الأفهام ولا الأبصار! وإذ كانت مسيحية الكنيسة في حقيقتها دينا من صنع الكنيسة، أو من صنع بولس الذي قدمها لأوروبا فقد احتوت شيئا من طبيعة تلك الديانات الوثنية التي وضعها البشر من قبل، فتضمنت تلك الأسرار التي لا يملك مفتاحها إلا أصحاب القداسة العليا.. أو هكذا يقولون للناس! فما يملك مفتاحها أحد في الحقيقة؛ لأنها وهم لا وجود له على الإطلاق؟ ومارست الكنيسة طغيانها الروحي كاملا في هذا الجانب، فقالت للناس: لن تؤمنوا بالله حتى تؤمنوا بتلك الأسرار.. ثم قالت لهم إن مفتاح تلك الأسرار عندنا نحن ولن نعطيه إلا لمن نختار!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ب- الطغيان العقلي والفكري : إذ عدنا لتلك الأسرار ذاتها، وموقف الكنيسة منها، وجدنا هذا الموقف ينطوي على لون آخر من الطغيان غير الطغيان الروحي.. مارسته الكنيسة لا على أرواح الناس هذه المرة ولكن على عقولهم وأفكارهم، حين فرضت عليهم هذه الأسرار فرضا ومنعتهم من مناقشتها، واعتبرت المناقش فيها أو الشاك في أمرها كافرا مهرطقا وجبت عليه اللعنة الأبدية.. وخرج من رضوان البابوية فخرج -من ثم- من رضوان الله! ولقد كانت تلك الأسرار كلها منافية للمنطق ومنافية للعقل. ولا شك أن واضعيها كانوا يعلمون ذلك أو يحسونه على أقل تقدير، ويحسون أنها لو نوقشت -بالعقل والمنطق- فلن تصمد للنقاش! وإذ كانوا يصرون عليها، وعلى أنها هي الحقيقة -تضليلا بوعي أو ضلالا منهم بغير وعي- فلم يكن أمامهم إلا أن يستخدموا سلطانهم الطاغي لمنع المناقشة في هذه الأمور لكي لا تنكشف عن وَهْم لا وجود له إلا في أذهان واضعيه أو لا وجود له حتى في أذهان واضعيه! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ويذكرني هذا بحق الاعتراض "الفيتو" الذي تمارسه الدول "الكبرى" في الجاهلية المعاصرة! فما إن تشعر إحدى تلك الدول أن نقاشا ما سيحرجها أو يكشف زيف موقفها وبعده عن الحق، حتى تبادر بإسكان الألسنة باستخدام "الفيتو" فيسكت المناقشون صاغرين! ولئن كان هذا طغيانا تمارسه القوى الطغيانية التي تسمي نفسها الدول العظمى في الجاهلية المعاصرة فقد كان طغيان الكنيسة في جاهلية القرون الوسطى -المظلمة في أوروبا1- أنكى وأشد، فقد كانت تمارسه في أمر يمس العقيدة وهي ضرورة بشرية لا غنى عنها للبشر الذين خلقوا -بفطرتهم- عابدين، والذين تظل فطرتهم -بما أودع الله فيها- تبحث عن الله لتتجه إليه بالعبادة وتقدسه في علاه. وحين كان أي عقل مفكر يتجرأ فيسأل -مجرد سؤال- عن ماهية هذه الأسرار، ولو كان سؤاله من أجل الإيمان أو الاطمئنان الذي يزيد الإيمان، كانت الكنيسة تسارع إلى زجره عن هذا الإثم الذي يهم به والذي يوقعه لا شك في المهالك! وتقول له إن هذا أمر خارج عن نطاق العقل. إنما يسلم المؤمن به تسليما بغير نقاش! وهنا وقفة ربما كانت ضرورية في هذا الشأن. فقد يخطر على البال قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 2 وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله" 3. وقد تعرض هذه القضية من أساسها: هل الدين من شأن العقل أم من شأن الوجدان؟ وما دور العقل فيه إن كان له دور على الإطلاق؟ وهل عليه -من أجل الإيمان- أن يسلم تسليما أعمى بكل ما يأتيه عن طريق "الدين" أم له أن يناقش ويطلب الدليل؟   1 كانت القرون الوسطى مظلمة بالنسبة لأوروبا فهم صادقون في تسميتها كذلك بالنسبة إليهم ولكن كتابا "مسلمين! " يستخدمونها على أنها صفة شاملة للعالم كله في تلك القرون وقد حوت تلك الفترة أشد القرون نورا.. تلك التي استضاءت بالإسلام! 2 سورة آل عمران: 7. 3 عن ابن عباس رضي الله عنهما رواه أبو نعيم "انظر صحيح الجامع الصغير"، الشيخ ناصر الدين الألباني 3/ 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ونبدأ أولا بالنص القرآني فنجد فيه إشارة إلى المحكم والمتشابه. ويجمع المفسرون والعلماء على أن أصول العقيدة -وكذلك أحكام الشريعة- هي من المحكم الذي لا يدخل التشابه فيه, وأن الأمور المتشابهة -التي لم تحددها الآية، والتي اختلف المفسرون في تحديدها، والتي منها على سبيل المثال الصورة المفصلة لأحوال الجنة وأحوال النار، وصفة العرش وما إلى ذلك من الأمور- ليست من الأصول التي يكفر المختلفون في تأويلها، ثم إن الراسخين في العلم -وهم ليسوا فئة محددة كفئة رجال الكهنوت- لا يزعمون أن عندهم تأويلها، ولا أن تأويلها سر خاص بهم يحتجزونه عن الناس ثم يطالبونهم بالإيمان به بلا دليل. بل تنص الآية على أن الله وحده هو الذي يعلم تأويلها -أي: حقيقتها- لأنه -سبحانه- هو العليم الخبير الذي يعلم كل شيء على إطلاقه، إنما الراسخون في العلم يسلمون فقط بأن الآيات كلها -محكمها ومتشابهها- من عند الله، ويعلمون أن علم هذه المتشابهات هو عند الله وحده فيؤمنون بها على إطلاقها؛ لأنها منزلة من عند الله، ولكنهم لا يزعمون لأنفسهم خصوصية في التأويل، ولا يحتجزون لأنفسهم شيئا من العلم يحجبونه عن الناس. وهذا أمر يختلف تمام الاختلاف عن موقف الكنيسة الأوروبية في قضايا العقيدة. فقد جعلت تلك الأسرار من أصول العقيدة، ثم زعمت أن عندها وحدها مفاتيحها.. ثم قالت للناس: لن نعطيكم المفتاح! ولكن عليكم أن تؤمنوا بها كما نقدمها لكم دون سؤال ولا نقاش! وإلا فأنتم زائغو العقيدة مهرطقون.. وعليكم اللعنة إلى يوم الدين! إن الكنيسة هنا وضعت نفسها في موضع الإله، بل افترضت لنفسها على الناس ما لم يشأ الله سبحانه وتعالى أن يفترضه لنفسه على عباده رحمة بالناس! فالله -وحده- هو الذي يحق له أن يتعبد عباده بأمور ليس من الضروري أن يدركوا حكمتها، ليعلم -سبحانه- من يطيعه بالغيب. ولكنه -من رحمته- قد جعل ذلك في أمور التعبد وليس في أمور العقيدة التي جعلها الله سهلة وميسرة ومفتوحة بلا ألغاز ولا غموض، ليستوعبها كل قلب ويطمئن إليها كل قلب. أما الكنيسة فجعلت ذلك في أمور العقيدة، وجعلت لنفسها حقوقا أكثر مما افترض الله على العباد! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ثم نعرج على الحديث الشريف فنجد أن فيه نصيحة للبشر أن يتعرفوا على الله سبحانه من خلال آياته الدالة على وحدانيته، والدالة على تفرده في كل شيء بلا شريك. وألا يحاولوا أن يتفكروا في ذات الله لكيلا يضلوا ولا يهلكوا. هل هو حجر على العقل البشري أن يبحث وأن يناقش وأن يعرف؟ كلا! فالدعوة إلى التفكر واردة في أول الحديث. "تفكروا في آيات الله" إنما هو بيان للمنهج الصحيح للتفكير، ودعوة إلى صيانة العقل البشري أن تتبدد طاقته فيما لا طائل وراءه! فماذا يملك العقل البشري أن يحيط به من ذات الله التي لا يحدها زمان ولا مكان ولا بدء ولا انتهاء؟ وإلى أي شيء وصل العقل البشري في أمر الذات الإلهية حين خالف النصيحة ومضى يخبط في الظلمات؟ إلى أي شيء وصلت الفلسفة في القديم أو الحديث، وإلى أي شيء وصل علم الكلام بعد المعاظلات الذهنية التي لا تؤدي إلى شيء إلا إجهاد الذهن بلا نتيجة؟! إن العقل ليعجز عن إدراك "الكنه" حتى في أمور الكون المادي، فيكتفي بتسجيل الظواهر دون الدخول في الكنه، فكيف بالخالق الذي لا تحده الحدود؟ كلا! إنها الصيانة وليست الحجر.. ومن خالف النصيحة فليضرب في التيه! أما العقيدة فمن ذا الذي حَرَّج على العقل أن يدلي فيها بدلوه ويكون فيها له نصيب؟ فأما الإسلام فقد دعا العقل دعوة صريحة إلى التفكر والتدبر ليصل في أمر العقيدة إلى اليقين.. بل نعى على الذين يرفضون التفكير، اتباعا للهوى، أو اتباعا لما ورثوه من عقائد الآباء والأجداد، أو إغلاقا للحس والبصيرة، عن التأمل والتفكير: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ   1 سورة الروم: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} 1. وجاء في وصف عباد الرحمن نفي للصفة الذميمة عنهم وهي إغلاق الحس والبصيرة عن التفكير. {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} 2 أي: لم يوصدوا عقولهم عن التفكير الذي يؤدي إلى معرفة الحق. كذلك يوصف المؤمنون بأنهم "أولو الألباب" وأنهم هم الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض فيهديهم التفكير إلى الإيمان بالله واليوم الآخر وخلق السموات والأرض بالحق لا بالباطل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 3. كما ينعي على الذين لا يتدبرون القرآن ولا يتفكرون فيما يحويه من الآيات: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} 4. {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 5. والأدلة العقلية والجدل العقلي كثير في القرآن: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 6. {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 7. {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 8. ويشهد التاريخ أن "العقل" في ظل الإسلام قد قام بنشاط فكري ضخم في كل اتجاه، ولكننا نعود فنسأل، لنحدد بالضبط جريمة الكنيسة الأوروبية في   1 سورة البقرة: 170. 2 سورة الفرقان: 73. 3 سورة آل عمران: 190, 191. 4 سورة النساء: 82. 5 سورة محمد: 24. 6 سورة الأنبياء: 22. 7 سورة المؤمنون: 91. 8 سورة الطور: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الحجر على الفكر البشري: ما دور الوجدان وما دور العقل في قضية الإيمان؟ وهل هناك أمور يختص بها الوجدان وليس للعقل فيها إلا التسليم؟ إن الدين -كما نعرف صورته في الوحي المنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخاطب الإنسان كله: وجدانه وعقله في آن. وقد يكون الوجدان أوسع الأوعية البشرية التي تستوعب أمر العقيدة وقضية الإيمان. ولذلك فإن الخطاب الوجداني هو الغالب في السور المكية التي يتركز الحديث فيها على العقيدة. والقرآن يستثير الوجدان البشري بالطرق على جميع نوافذ القلب والتوقيع على جميع أوتاره، ثم -بعد استثارته- يلقي إليه الحقيقة المتعلقة بالعقيدة، فينفعل بها القلب، وتصل منه إلى القرار ... ويكفينا مثال واحد من سورة الأنعام: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1. ولكن هذا ليس معناه أن الوجدان يستقل بأمر العقيدة.. وليس معناه أن الدين يفرض على العقل -في شأن العقيدة- أمورا لا يستسيغها ولا يتقبلها، ويطلب منه أن يسلم بها تسليما أعمى بلا دليل. فأما ما يتصل بالذات الإلهية فنعم ... لا يملك العقل أن يستوعب. والوجدان أقدر على الاستيعاب من العقل المقيد في تصوره بحدود الزمان والمكان والبدء والانتهاء. ولكن الدين لم يطالب الإنسان -من أجل أن يؤمن بالله- أن يتفكر في الذات الإلهية التي يعجز عن الإحاطة بها، إنما طالبه بالتفكر في آيات الله التي   1 سورة الأنعام: 95-99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 تستجيش النفس بدلالاتها الواضحة على تفرد الله سبحانه وتعالى بالألوهية والربوبية، فيؤمن الإنسان بالله الواحد الذي لا شريك له. ثم تستقيم حياته بمقتضى ذلك الإيمان. ومن ثم يشترك العقل والوجدان معا في أمر العقيدة، كل يؤدي دوره على طريقته.. وفي النهاية يستقر الإيمان في القلب، ويصبح حقيقة واقعة في كيان الإنسان تتبدى في فكره وشعوره وسلوكه على السواء. وإذن فادعاء الكنيسة أن العقل لا ينبغي له أن يسأل وأن يناقش في أمر العقيدة، وإنما عليه أن يسلم تسليما أعمى ويترك الأمر للوجدان. هو ادعاء ليس من طبيعة "الدين" كما أنزل الله. إنما كان هذا من مستلزمات الأديان الوثنية التي تحوي أوهاما لا يمكن أن يسيغها العقل لو فكر فيها، فتسكت صوت العقل وتمنعه من التفكير، بالسحر تارة، وبالتهديد بغضب الآلهة المدعاة تارات؟ وإذا كان هذا الأمر -وهو إسكات صوت العقل ومنعه من التفكير- غير مستساغ حتى في بداوة الإنسان أو ضلالة البشرية. فهو من باب أولى غير مستساغ في دين تزعم الكنيسة أنه هو الدين المنزل من عند الله، وأنه يمثل مرحلة راشدة في تاريخ البشرية! ولو كانت هذه الأسرار من الدين حقا، ولو كان من أمور العقيدة التي يلزم الإيمان بها، ما منع الله الناس أن يناقشوها بعقولهم ليتبينوا ما فيها من الحق ويؤمنوا به! فإن الله لا يقول للناس -في وحيه المنزل- أمنوا بي دون أن تفكروا وتعقلوا. ولا يقول لهم: إني سأضع لكم الألغاز التي لا تسيغها عقولكم ثم أطالبكم أن تخروا عليها صما وعميانا لا تتفكرون، وإلا طردتكم من رحمتي! إنما يقول الله للناس من خلال القول الموجه للرسول -صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 1، ويندد بهم حين لا يتفكرون ولا يتدبرون: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 2. ويناقش شبهاتهم، ويطالبهم بوضعها على محك المنطق السليم, وأن يأتوا عليها بالبرهان.. حتى يتحصل لهم من الوعي ما ينفي كل شبهة ويجعل العقيدة   1 سورة سبأ: 46. 2 سورة محمد: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 مستقرة على يقين لا مجال فيه للتردد ولا للشك: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1. ويرتب الإيمان على مجيء "البينات" وهي الأدلة الواضحة التي تبين الحق وتزيل الشك: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} 2. ويقيم الحجة على الناس قبل أن يطالبهم بالإيمان: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 3. كلا! لا يطلب الله من عباده التسليم الأعمى، إنما يطلب منهم التسليم البصير: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 4. إنما كان الأرباب المزيفون -في المجامع المقدسة وعلى "عرش" البابوية هم الذين حرموا على العقل أن يفكر، وفرضوا عليه أن يسلم تسليمًا أعمى بأمور لا يستسيغها ولا يعقلها، وإلا كان من الكافرين! ولم يكن للناس بد تحت هذا التهديد الطاغي ممن في أيديهم -وحدهم- الوساطة بين الله وعباده -كما يزعمون! - أن يسلموا تسليمًا أعمى بأسطورة التثليث وأسطورة العشاء الرباني وأسطورة الأب الذي صلب ولده فداء لخطيئة آدم.. وغيرها من الأساطير المفروضة عليهم، لكي يأمنوا غضب الوسطاء، المؤدي -في وهمهم- إلى غضب الله، وأن يلتزموا بهذا الحجر البشع على العقول والأفكار عدة قرون ولكن.. هل كان من الممكن أن يستمر ذلك إلى الأبد دون أن تتمرد العقول المكبوتة وتدعو إلى حرية التفكير؟!   1 سورة النمل: 59-64. 2 سورة غافر: 66. 3 سورة النساء: 165. 4 سورة يوسف: 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 جـ- الطغيان المالي : لم يكن "رجال الدين" من أهل التقوى والزهد كما يتوقع من القوم الذين حولوا الدين إلى روحانية غالبة ورهبانية وأمروا الناس أن يكتفوا بعيش الكفاف لكي يدخلوا الجنة ويجلسوا عن يمين الرب في الآخرة! وأبلغتهم أنه "من أراد الملكوت فخبز الشعير والنوم في المزابل مع الكلاب كثير عليه" وأن "مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله"1 وأن "لا تقتنوا ذهبًا ولا فضة ولا نحاسًا في مناطقكم، ولا فرودا للطريق، ولا ثوبين2 ولا أحذية ولا عصا3". إنما كانت الكثرة منهم ممن فتنوا بالدنيا ونسوا الآخرة. يقول "كرسون" في كتاب "المشكلة الأخلاقية". "كانت الفضائل المسيحية كالفقر والتواضع والقناعة والصوم والورع والرحمة، كل ذلك كان خيرًا للمؤمنين وللقسيسين وللقديسين وللخطب والمواعظ. أما أساقفة البلاط والشخصيات الكهنوتية الكبيرة فقد كان لهم شيء آخر: البذخ والأحاديث المتأنقة مع النساء والشهرة في المجالس الخاصة والعجلات والخدم والأرباح الجسيمة والموارد والمناصب4". ويقول "ول ديورانت": "أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضي وأكبر السادة الإقطاعيين في أوروبا. فقد كان دير "فلدا" مثلًا يمتلك خمسة عشر ألف قصر صغير، وكان دير "سانت جول" يملك ألفين من رقيق الأرض، وكان "ألكوين فيتور"5 سيدا لعشرين ألفا من أرقاء الأرض، وكان الملك هو الذي يعين رؤساء الأساقفة والأديرة وكانوا يقسمون يمين الولاء كغيرهم من الملاك الإقطاعيين، ويلقبون   1 إنجيل مرقص: 10-22. 2 أي: إنه يكفي ثوب واحد. 3 إنجيل مرقص: 10, 11. 4 المشكلة الأخلاقية ص167. 5 أحد رجال الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 بالدوق والكونت وغيرها من الألقاب الإقطاعية.. وهكذا أصبحت الكنيسة جزءًا من النظام الإقطاعي". "وكانت أملاكها الزمنية، أي: المادية، وحقوقها والتزاماتها الإقطاعية مما يجلل بالعار كل مسيحي متمسك بدينه، وسخرية تلوكها ألسنة الخارجين على الدين، ومصدرًا للجدل والعنف بين الأباطرة والبابوات"1. وكانت مصادر تلك الأملاك متعددة، فمنها الأوقاف، ومنها العشور، ومنها الهبات ومنها الضرائب، ومنها السخرة. فأما الأوقاف فقد كانت الكنيسة تستولي على أراض زراعية واسعة وتوقفها على نفسها لتنفق منها على الأديرة والكنائس وتجهيز الجيوش للحروب الصليبية أو الحروب التأديبية التي تقوم بها ضد الملوك والأباطرة الخارجين على سلطانها. وفي ذلك يقول ويكلف وهو من أوائل الذين ثاروا على الفساد الكنسي وطالبوا بالإصلاح الشامل: "إن الكنيسة تملك ثلث أراضي إنجلترا وتأخذ الضرائب الباهظة من الباقي"2. كما فرضت الكنيسة على أتباعها أن يدفعوا إليها عشر أموالهم ضريبة سنوية لا يملكون التملص منها تحت وطأة لتهديد بالحرمان وغضب الرب! يقول ويلز: "كانت الكنيسة تجبي الضرائب. ولم يكن لها ممتلكات فسيحة ولا دخل عظيم من الرسوم فحسب، بل فرضت ضريبة العشور على رعاياها، وهي لم تدع إلى هذا الأمر بوصفه عملًا من أعمال الإحسان والبر، بل طالبت به كحق3! وفرض الباب يوحنا الثاني والعشرون بالإضافة إلى ذلك ضريبة جديدة سميت "ضريبة السنة الأولى" وهي دخل السنة الأولى لأية وظيفة من الوظائف الدينية أو الإقطاعية يدفع إلى الكنيسة بطريق الإجبار! أما الهبات فهي هبات في ظاهر الأمر فقط! ولكنها تؤخذ بالإحراج والتوريط، والترغيب والترهيب! وخاصة الهبات التي تمنح للكنيسة في الوصايا التي   1 قصة الحضارة ج14 ص425. 2 فشر: تاريخ أوروبا ج2، ص362. 3 معالم تاريخ الإنسانية ج3 ص895. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 يكتبها الناس قبل موتهم. فقد فرضت الكنيسة على الناس ألا يكتبوا وصاياهم إلا على يد القسيس! وما دام القسيس حاضرًا وقت كتابة الوصية فقد أصبح الواجب -من باب "المجاملة" على الأقل- أن يهب الوصي شيئًا من ماله للكنيسة حتى لا يكون مجافيًا للذوق! أو حتى يتحاشى ما هو أخطر من ذلك: غضب الأرباب المؤدي إلى غضب رب الأرباب!! أما السخرة فقد كانت الكنيسة تفرضها على رعاياها بالعمل يومًا واحدًا في الأسبوع بالمجان في أراضي الكنيسة الواسعة. فيعمل التعساء ستة أيام في الأسبوع ليجدوا خبز الكفاف لهم ولأسرهم، ثم يعملون اليوم السابع -يوم الراحة- سخرة في أراضي الكنيسة لكي توفر الأخيرة أجور العمال التي كان المفروض أن تدفعها لقاء زراعة إقطاعياتها الواسعة وجني حاصلاتها وتزداد بذلك اكتنازًا وضراوة في طلب المزيد من المال! لقد كان من السهل على الكنيسة أن تمارس ذلك الطغيان المالي وهي تملك ذلك النفوذ الطاغي على أرواح الناس وعقولهم. فما هي إلا أن تصدر الأمر فيطيع العبيد صاغرين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 د- الطغيان السياسي : زعمت الكنيسة أن المسيح عليه السلام قد أعطى قيصر وحكمه شرعية الوجود، حين وضعت على لسانه هذه الكلمات: "إذن أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" وفسرتها -عمليا- بترك القانون الروماني يحكم العالم المسيحي بدلًا من شريعة الله. ورغم أن هذا تفسير خاطئ لدين الله المنزل على عيسى ابن مريم رسول الله، فقد كان مقتضاه -المنطقي- أن تتفرغ الكنيسة لشئون الآخرة وشئون الروح، وتترك قيصر يحكم عالم الأرض وعالم الأبدان. ولكنها لم تكن في شيء من سلوكها العملي منطقية مع الذي تقوله بأفواهها أو تعلنه من مبادئها. فقد ادعت لنفسها سلطة دنيوية "أو زمنية Temporal كما يسمونها في التاريخ الأوروبي" نازعت بها الأباطرة والملوك وأخضعتهم لسلطانها. ونحن المسلمين لا ننكر -من حيث المبدأ- أن يكون لمن يقوم على أمر الدين في الأرض سلطان على الأباطرة والملوك، وإن كنا لا نعرف -في الإسلام- شيئًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 يمكن أن يسمى "الكنيسة" ولا شيئًا يمكن أن يسمى "رجال الدين" إنما هم علماء الدين وفقهاؤه. إنما نقصد أننا لا ننكر على الذين يقع على عاتقهم مراقبة إقامة الدين في الأرض أن يكون لهم على ذوي السلطان سلطة النصيحة والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن ... لأي شيء تكون هذه السلطة وعلى أي شيء تدور؟! إنها -في دين الله المنزل- تكون لتنفيذ شريعة الله ومراقبة الأمور كلها لكي تكون خاضعة لشريعة الله. فهل من أجل هذا طابت الكنيسة بأن يكون لها على الأباطرة والملوك سلطان؟! بل ذلك أبعد شيء عن الحقيقة. إن الكنيسة -وهي تطالب بسلطانها الطاغي على الأباطرة والملوك- أو حين مارست هذا السلطان بالفعل لم تطالبهم قط بالانصياع إلى شريعة الله وتطبيق أحكامها على الناس "فيما عدا قانون الأحوال الشخصية الذي لم يجد معارضة من الحكام من قبل! " إنما كانت تطلب -وتمارس- سلطانًا شخصيا بحتًا، وأرضيا بحتًا، هو أن يطأطئ الملوك والأباطرة لها الرءوس وأن يعلنوا أنهم خاضعون لسلطانها! إن الكنيسة -بذلك- قد أجرمت في حق دين الله جريمتين مزدوجتين: الأولى أنها عزفت عن تطبيق شريعة الله، واجبها الأول، والمبرر الأكبر لوجودها إن كان لوجودها مبرر على الإطلاق، بينما كانت تملك سلطة تطبيق هذه الشريعة بما كان لها على قلوب الجماهير من سلطان من جهة، وبما صار لها من سلطان على الملوك والأباطرة فيما بعد ... والثانية أنها استخدمت سلطانها الذي حاربت من أجل الحصول عليه وأراقت الدماء في إخضاع الناس جميعًا، ملوكهم ورعاعهم، لهواها هي، وجبروتها هي، فجعلت من رجالها أربابًا من دون الله، وعبدت الناس لهم من دون الله حتى حق عليهم قول الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1. إنها جريمة بشعة -أو جرائم بشعة متراكب بعضها على بعض, من أي زاوية نظرت إليها.   1 سورة التوبة: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 فمن ناحية الدين المنزل شوهته بفصل العقيدة عن الشريعة وتقديمه للناس عقيدة صرفًا بلا تشريع أي: مسخًا مشوهًا لا يمثل دين الله الحقيقي ... ثم ادعت للناس أن هذا هو الدين! وزرعت في عقول الناس تصورا خاطئًا بأن الدين علاقة خاصة بين العبد والرب، محلها القلب، ولا علاقة له بواقع الأرض ... فسهلت على الشياطين -فيما بعد- اقتلاع آثاره من واقع الحياة؛ لأنه لم يكن عميق الجذور في واقع الحياة! "1. ومن ناحية الواقع أسهمت في إفساد الأرض بتعطيل شريعة الله، والسماح للجاهلية الرومانية أن تحكم العالم المسيحي -في صورة قوانين وتنظيمات- ومنعت الإصلاح الذي أراده الله للناس حين نزل عليهم الدين، فنشأت عن ذلك مظالم سياسية واقتصادية واجتماعية تمثلت في نظام الإقطاع الذي ساد العالم الأوروبي -في ظل الكنيسة- أكثر من عشرة قرون! وسهل على الشياطين -فيما بعد- اقتلاع آثار الدين وتحطيمه باسم الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي! فضلًا عما أثارته من المنازعات مع الأباطرة والملوك، مما أدى بهم -فيما بعد- إلى الانسلاخ من سلطان الكنيسة الذي يحمل عنوان الدين بالحق أو بالباطل، وتعميق مفهوم الفصل بين الدين والسياسة الذي كان قائمًا من قبل بالفعل بتعطيل شريعة الله، ليصبح عداء كاملًا بين الدين والسياسة في أي صورة من صور السياسة وأي صورة من صور الدين! يروي التاريخ الكثير عن قصة النزاع بين الكنيسة وبين الأباطرة والملوك. أصدر البابا "نقولا الأول" بيانا قال فيه: "إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها. وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن الباب ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين، حكامًا كانوا أو محكومين"2. وفي القرون الوسطى مارست الكنيسة ذلك السلطان بالفعل على الحكام والمحكومين، مع وجود فترات من الصراع المتبادل، حيث يتمرد بعض الملوك   1 سنتحدث عن ذلك في التمهيد الثاني "دور اليهود في إفساد أوروبا". 2 قصة الحضارة لول ديورانت ج14 ص352. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 والأمراء على سلطة البابا. ويشتد آخرون في حربهم للبابوات, حتى إنهم ليعزلون البابا أو ينفونه أو يسجنونه! ولكن السلطة الغالبة كانت للكنيسة، تستمدها من سلطانها الروحي الطاغي على قلوب الناس، ومن جيوشها الكثيفة ومن أموالها التي تضارع ما يملكه الملوك وأمراء الإقطاع! يروي "فيشر" قصة الصراع بين الباب هلدبراند وهنري الرابع إمبراطور ألمانيا فيقول: ".. ذلك أن خلافًا نشب بينهما "بين الباب والإمبراطور" حول مسألة "التعيينات" أو ما يسمى "التقليد العلماني" فحاول الإمبراطور أن يخلع البابا ورد البابا بخلع الإمبراطور وحرمه وأحل أتباعه والأمراء من ولائهم له وألبهم عليه، فعقد الأمراء مجمعًا قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الإمبراطور على المغفرة لدى وصول الباب إلى ألمانيا فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد، فوجد الإمبراطور نفسه كالأجرب بين رعيته، ولم يكن في وسعه أن ينتظر وصول البابا، فضرب بكبريائه عرض الحائط واستجمع شجاعته وسافر مجتازًا جبال الألب والشتاء على أشده، يبتغي المثول بين يدي البابا بمرتفعات كانوسا في تسكانيا، وظل واقفًا في الثلج في فناء القلعة ثلاثًة أيام وهو في لباس الرهبان متدثرا بالخيش حافي القدمين عاري الرأس يحمل عكازه مظهرًا كل علامات الندم وأمارات التوبة حتى تمكن من الظفر بالمغفرة والحصول على رضا البابا العظيم"1. كما يروي التاريخ قصة مماثلة عن ملك إنجلترا هنري الثاني الذي أصدر دستورًا يلغي فيه كثيرًا من إمتيازات رجال الدين، الذين كانوا يملكون الكثير، ولا يدفعون شيئًا من الضرائب التي يدفعها الشعب، بل يفرضون هم لأنفسهم ضرائب خاصة.. فحرمته الكنيسة فأصبح غريبًا في وسط شعبه لا يطاع له أمر.. فأعلن ندمه وتوبته، وسار إلى مقر رئيس الأساقفة في كنتر بري يسترضيه، ومشي على الأرض الصلبة الثلاثة الأميال الأخيرة من رحلته حافي القدمين حتى نزف الدم منهما، وطلب من الرهبان -وقد استلقى على الأرض- أن يضربوه بالسياط حتى يرضى عنه الغاضبون! ولكن سلطان الكنيسة ظل يتداعى في نهاية القرون الوسطى حتى قام الملوك يعلنون أنهم هم الحكام في الأرض بمقتضى "الحق الإلهي المقدس" وأنه ليس   1 فيشر -تاريخ أوروبا ج1- ص260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 للبابوات عليهم سلطان إلا السلطان الروحي وحده. فاستبدلت أوروبا في الحقيقة طغيانًا بطغيان مع فارق واحد، أن الطغيان الجديد يبعد تدريجيا ويبعد الناس معه عن سلطان الدين! وفضلًا عن ذلك فقد كان انشقاق الملوك عن سلطان الباب يتخذ شكلًا قوميا متزايدًا، تسانده العوامل الأخرى -السياسية والاقتصادية- التي أحاطت بأوروبا وشجعت على ظهور القوميات، التي كان لها دور كبير في بروز الصراعات الحادة في أوروبا أولًا، ثم في العالم كله في صورة حروب استعمارية فيما بعد، بالإضافة إلى ما أثبتناه من قبل من تعميق الفصل بين السياسة والدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 هـ- الطغيان العلمي : كان المفروض أن يأتي الحديث عن الطغيان العلمي بعد الحديث عن الطغيان العقلي والفكري فإنه وثيق الصلة به. ولكنا أخرنا الحديث عنه باعتبارين: الأول: أنه جاء متأخرًا في الترتيب الزمني إذ حدث في القرن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين بينما كانت ألوان الطغيان الروحي والعقلي والمالي والسياسي قائمة في العالم المسيحي قبل ذلك بعدة قرون، والثاني أنه في الحقيقة لون جديد من الطغيان غير الطغيان العقلي الذي كان سائدًا من قبل بمنع المناقشة والتفكير في أمر الأسرار المقدسة المتصلة بالعقيدة، فقد كان هذا الطغيان الجديد يفرض على العقول ألا تفكر في أمور الكون المادي بما تقتضيه الملاحظات والمشاهدات العلمية، وأن تلتزم بالتفسيرات الكنسية لما جاء من إشارات في التوراة عن شكل الأرض وعمر الإنسان، ولو خالفت هذه التفسيرات كل حقائق العلم النظرية والعملية على السواء! بدأت القصة، أو بدأت الزوبعة حين قال العلماء إن الأرض كروية وإنها ليست مركز الكون! ويعرف التاريخ الأوروبي من أبطالها ثلاثة أسماء شهيرة غير الأسماء الأخرى التي لم تلمع على صفحات التاريخ، وهؤلاء هم: كوبرنيكوس وجردانوبرونو وجاليليو. الأول: عالم فلكي بولندي ما بين 1473 و1543م. والثاني: فيسلوف إيطالي عاش ما بين 1548 و1600م. والثالث: عالم فلكي إيطالي عاش ما بين 1564 و1642م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وقد قامت قيامة الكنيسة عليهم وعلى غيرهم فأحرقت من أحرقت، وعذبت من عذبت، وهددت من هددت بالتعذيب والحرق في النار إن لم يكفوا عن هذه "الهرطقة" التي تقول إن الأرض كروية وإنها ليست مركز الكون! 1 بحجة أن التوراة قالت إن الأرض مستوية "أي: مسطحة" وإنها هي مركز الكون، والإنسان مركز الوجود! ويقول التاريخ الأوروبي: إن الكنيسة قد فزعت فزعتها تلك حفاظًا على كيانها، الذي يقوم على الخرافة ويستند إلى انتشار الجهل بين الجماهير وإنها خشيت على هذا الكيان أن يتصدع وينهار إذا انتشر العلم، وتبين الناس أن ما تقوله الكنيسة ليس هو الحقيقة المطلقة في كل شيء. ولا شك أن هذا -في جملته- صحيح. ولكن هذه المقالة تغفل شيئين مهمين في هذا الشأن: أولهما؛ عن غفلة والثاني؛ عن قصد! أما الأول: فهو أن آباء الكنيسة ورجالها كانوا مخلصين في صيحتهم -في أول الأمر على الأقل- لأنهم كانوا يتصورون أن ما جاء في التوراة حقيقة، وأن تفسيرهم له هو الصحيح. وسبب ذلك هو الجهالة التي كانت مخيمة على أوروبا كلها، وعلى رجال الدين فيها بصفة خاصة، فقد كانوا من أقل الناس ثقافة ومن أبعدهم عن تعلم العلم الصحيح -إن وجد- اكتفاء بالمجد الروحي والسلطان الطاغي والأموال الطائلة التي يتمتعون بها بوصفهم "رجال الدين"! إنما يجوز بالفعل أن يكونوا قد استمروا في حرب العلم -عن وعي وعمد- فيما بعد خوفا على سلطانهم أن يتصدع حين يكتشف الناس أن شيئًا مما يقولونه كاذب لا أساس له، فيكون وجودهم كله عرضة لأن يوضع موضع التساؤل والمساءلة.. فينهار! أما الأمر الثاني: الذي يغفله المؤرخون الأوروبيون عن عمد -رغم ظهوره- فهو أن هذا العلم الذي قامت الكنيسة بحربه كان آتيا من مصادر إسلامية، وكان يحمل معه خطر انتشار الإسلام في أوروبا ومن ثم انهيار الكنيسة ذاتها حين ينهار الدين الذي تمثله وتدعي حمايته!   1 مات كوبر نيكوس قبل أن يقع في قبضة محاكم التفتيش, أما جوردانوبرونو فقد أحرق حيا, وأما جاليليلو فقد سجن حتى أشرف على الهلاك فتراجع -ظاهريا- عن متقداته وإن ظل مقتنعًا بها في الحقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 يقول "ألفارو Alvaro" وهو كات مسيحي أسباني عاش في القرن التاسع الميلادي: "يطرب إخواني المسيحيون لأشعار العرب وقصصهم، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رشيق. فأين تجد اليوم علمانيا يقرأ التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل؟ واأسفا! إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب، ليسوا على علم بأي أدب ولا لغة غير العربية، فهم يقرءون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة، وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب. وإنك لتراهم من الناحية الأخرى يحتجون في زراية -إذا ذكرت الكتب المسيحية- بأن تلك المؤلفات غير جديرة باحترامهم"1. وظاهر من هذا النص إلى أي مدى كان تأثير الإسلام على المسيحيين من أهل الأندلس، ونستطيع أن ندرك منه كذلك كيف كان تأثير الإسلام على المبتعثين الأوروبيين إلى بلاد الإسلام. ذلك أنه حين استيقظت أوروبا وبدأت تنهض كان لا بد لها أن تتعلم. ولم يكن ثمت علم إلا ما كان عند المسلمين، وفي مدارسهم.. ومن ثم أرسلت أوروبا أبناءها ليتعلموا في مدارس المسلمين في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها من أماكن العلم.. فتعلموا هناك الطب والهندسة والرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء على أيدي الأساتذة المسلمين فتأثروا بهم، وتأثروا بالإسلام كذلك، فجن جنون الكنيسة من تأثير الإسلام الزاحف على أوروبا مع حركة العلم.. ومن ثم قامت تضع السدود بين الإسلام وبين أوروبا، وكلفت كتابها أن يهاجموا الإسلام ويشوهوا صورته في نفوس الأوروبيين، وأن يهاجموا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وينعتوه بكل نعت قبيح، لمقاومة ذلك "الغزو الفكري" المتسرب من المبتعثين العائدين من بلاد الإسلام. وكذلك كانت الحرب المعلنة ضد العلم، "المستورد" من البلاد الإسلامية جزءًا من هذه الحرب الشاملة ضد الإسلام وإن كانت قد خصت قضية كروية الأرض بأشد الحرب؛ لأنها وجدت نصا مقدسًا في التوراة تستطيع أن تصعد به المعركة إلى حد الحرق والتعذيب!   1 عن كتاب "حضارة الإسلام" لفون جرونيباوم ص81, 82 من الترجمة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وأيا كان السبب فقد وقفت الكنيسة من العلم والعلماء ذلك الموقف الشائن الذي ترتبت عليه -ككل خطايا الكنيسة وأخطائها- نتائج بعيدة المدى في الحياة الأوروبية حتى اللحظة الراهنة.. فقد بدأ منذ تلك اللحظة الفصام الأحمق بين العلم والدين الذي ما يزال يغشى بدخانه الأسود حياة أوروبا حتى اليوم. إن جريمة الكنيسة -فوق تشويه صورة الدين وتنفير الناس منه، الذي تلتقي عنده وتنتهي إليه كل جرائمها- أنها تفصل بين نزعتين فطريتين سويتين متكاملتين -نزعة التعلم ونزعة العبادة- وتنشئ بينهما عداوة لا وجود لها في أصل الفطرة، وصداما لا ينبغي أن يوجد في النفس السوية، فتمزق النفس الواحدة مزقًا وتثير في داخلها القلق والاضطراب. لقد خلق الله الإنسان مفطورًا على حب المعرفة كما خلقه مفطورًا على العبادة: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1. {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 2. {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ, الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ, عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 3. وفي النفس السوية تتجاور النزعتان وتتكاملان بلا تصادم ولا تضاد. فالفطرة تتطلع إلى ربها لتعبده، والفطرة تتطلع إلى الكون من حولها تحب أن تتعرف عليه، وأدواتها هي الحس والعقل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 4. وتلتقي نزعة الإيمان بالغيب والإيمان بما تدركه الحواس، وتؤديان مهمتهما معًا في تشكيل إنسانية الإنسان على الصورة التي أرادها الله له، وكرمه بها وفضله على كثير من الخلق. ولكن الكنيسة بموقفها الأحمق -أيا كانت الأسباب التي دفعتها إليه- راحت   1 سورة الأعراف: 172. 2 سورة البقرة: 31. 3 سورة العلق: 3-5. 4 سورة النحل: 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 تفصل بين هاتين النزعتين الفطريتين المتكاملتين وتقول للناس: إن أردتم الدين فاتركوا العلم.. ومن أراد العلم فقد خرج على الدين! فتخير الناس بين حاجتين فطريتين لا تغني إحداهما غناء الأخرى، ولا يسد إشباع أيهما جوعة الثانية! وهل كانت هناك نتيجة منتظرة من هذا الموقف إلا أن يترك الناس ذلك الدين الذي يحجبهم عن العلم ويحجر عليه، وأن يسيروا مع العلم في تياره الزاخر الذي يأتي كل يوم بجديد، وإن كانوا مع ذلك لا ينجون من القلق والاضطراب؟!! على أن الشر لم يقف عند هذا الحد -وهو بشع في ذاته- لم يقف عند هجر الدين من أجل العلم، بل وصل إلى كراهية الدين والنفور منه، ونفيه نفيًا باتا من مجال البحث العلمي على وجه الخصوص. لا تجد في الجاهلية المعاصرة حقيقة علمية واحدة تسند بإرجاعها إلى أصل ديني! بل على العكس. مجرد ذكر الدين أو الله -سبحانه وتعالى- في مجال البحث العلمي كفيل -عندهم- بالشك في الحقيقة العلمية، أو باستهجان المنهج على الأقل؛ لأنه منهج غير علمي!! كفيل بإثارة الامتعاض في جميع الأحوال! وصدق الله العظيم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 1. وإقامة التصور -في أي مجال من مجالات البحث- على أساس المفهوم الديني هو عندهم هدم للمنهج العلمي وتشويه له، وإعطاء حصيلة محوطة بالشك ولو كانت كل الأدلة تؤيدها! وخذ مثالًا لهذا الموقف المعادي للدين ولو كانت الحقائق العلمية متفقة معه ومؤكدة له قول جوليان هكسلي في كتاب "الإنسان في العالم الحديث": Man in the Modern World "وهكذا يضع العلم الحديث الإنسان في مركز مماثل لما أنعم به عليه كسيد المخلوقات كما تقول الأديان.. ولم تكن وجهة النظر الدينية صحيحة في تفاصيلها أو في كثير مما تضمنته.. ولكن كان لها أساس جيولوجي متين"2!   1 سورة الزمر: 45. 2 من فصل "تفرد الإنسان" ص36 من الترجمة العربية لحسن خطاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 كذلك نفى القصد والغاية من أي شيء في هذا الكون نفيًا "علميا"!! وراح "العلماء"! يتذرعون بشتى الذرائع لإبعاد الحديث عن القصد والغاية من مجال البحث العلمي كقولهم إن هذا من شأن الفلسفة، أما العلم فمهمته تسجيل "الحقائق! " كما هي دون إعطاء تفسير مسبق لها. أو قولهم إن هذا شأن "الميتافيزيقا" "أي: ما وراء الطبيعة" ولكن العلم محصور في ظواهر الطبيعة يسجلها ويحاول أن يفسرها تفسيرًا "علميا! " أي: في حدود ما تدركه الحواس.. والحقيقة من وراء ذلك هي إبعاد كل ظل للدين من البحث العلمي انتقامًا من موقف الكنيسة التي حاربت العلم باسم الدين!! ذلك أن الحديث عن "الغاية" هو حديث عن الله سبحانه وتعالى وغايته من خلق هذا الكون على الصورة التي خلقه عليها. ثم إنه يتضمن التزامًا معينًا تجاه الله سبحانه وتعالى، هو التزام الغاية التي من أجلها خلق الله الإنسان في هذا الكون.. والعلم الذي نشأ في ظل العداء مع الدين لا يريد أن يلتزم بشيء ألبتة تجاه الدين وتجاه الله؛ لأن الالتزام -عندهم- لا يجري إلا من خلال الكنيسة، والكنيسة هي الطغيان! بل بلغ الأمر إلى نفي القصد لا إبعاده عن مجال البحث العلمي فحسب! وخرجت نظريات "علمية!! " تقول إن الكون وجد بالصدفة! وإن الحياة ظهرت على سطح الأرض بالصدفة! بل حين أسند الخلق إلى "الطبيعة" بدلًا من الله نفى القصد عن الطبيعة وقال قائلهم "دارون" إن الطبيعة تخبط خبط عشواء! Nature woks haphazadly. وهذه "الطبيعة" ذاتها، وتأليهها ونسبة الخلق إليها.. لقد كانت إحدى الخطايا المترتبة على الخطيئة التي اقترفتها الكنيسة من قبل بوقوفوها موقف العداء من العلم والعلماء.. إن تأليه الطبيعة -سواء في مجال العلم أو الفن أو أي مجال آخر- لهو المهرب الوجداني الذي لجأت إليه أوروبا لتهرب من إله الكنيسة الذي تستعبد الناس باسمه في كل مجالات الحياة: الروحية والفكرية والمالية والسياسية والعلمية.. إلخ، وتخترع إلها آخر له معظم صفات الله الخالق البارئ المصور، ولكن ليست له كنيسة وليست له التزامات! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وإلا فما "الطبيعة" في مجال البحث العلمي على الخصوص؟ ومن أين لها صفة الخلق؟ والخلق بهذه الدقة المعجزة التي يتحدثون عنها سواء في الفلك أو الكيمياء أو الفيزياء أو الطب أو علم وظائف الأعضاء أو علم الحياة؟! ثم إذا كانت -كما يقول دارون- تخلق دون قصد معين ولا تدبير، فكيف خلقت الإنسان الذي يتصف بالقصد والتدبير؟ أي: بعبارة أخرى: كيف يخلق الخالق من هو أعلى منه وأكمل وأدق؟! ألا إنها أسطورة "علمية! " ضخمة في عصر العلم! ومع ذلك فهي العملة السارية في كل كتب العلم الغربي بلا استثناء! اقرأ في أي كتاب علمي تجد "الطبيعة" Nature مشارًا إليها على أنها الخالق الفعال لما يريد، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون! إنها المهرب الوجداني الذي لجأت إليه أوروبا لتهرب من إله الكنيسة وتجد ما تتعبده في ذات الوقت، إذ الإنسان مفطور على العبادة سواء في ضلاله أو هداه.. أما أن يتحدث عنها الذين يسمون أنفسهم "علماء! " وبصيغة الجد لا الهزل. فمهزلة لا يفسرها شيء إلا حقيقة واحدة، هي أن الإنسان حين ينتكس في جاهليته -بعيدًا عن الهدي الرباني- يمكن أن يصدر عنه أي شيء على الإطلاق.. مهما كان بعيدًا عن المنطق وبعيدًا عن المعقول. ولكن الجريمة الكبرى في هذا الشأن تقع على عاتق الكنيسة بادئ ذي بدء، التي أقامت ذلك الحاجز من العداء بين الدين والعلم، الذي ظل يتفاقم حتى وصل -على يد الشياطين- إلى استخدام العلم ذريعة إلى القضاء على الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ثالثًا: فساد رجال الدين المفروض في "رجال الدين" إن كان ثمة مبرر لوجود رجال دين على الإطلاق أن يكونوا قدوة صالحة للمؤمنين بالدين، ونموذجًا يحتذى في الفكر والشعور والسلوك. ولكن رجال الدين الكنسي في أوروبا البابوية لم يكونوا يؤمنون بشيء من ذلك ولا يحتفلون به! بل كانت حياة الغالبية منهم حياة ترف وملذات وشهوات! يقول الله ليحذر المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} 1. كبر مقتًا لأنه صد عن سبيل الله.. وأي جريمة أكبر من الصد عن سبيل الله؟ إن الناس قد يتقبلون من الشخص العادي أن يكذب أو يغش أو يلتوي في سلوكه.. أو يقع فريسة للشهوات. أما أن يقع ذلك ممن ينصب نفسه قدوة للناس، أو ممن يدعو الناس إلى التمسك بالفضيلة والبعد عن الرذيلة.. فهذا الذي لا يستسيغه الناس من جهة، والذي يصدهم عن القيم الرفيعة من جهة أخرى؛ لأنه ييئسهم من قيام تلك القيم في عالم الواقع، ويشعرهم أنها مجرد شعارات معلقة في الفضاء. ويهون لهم من جهة أخرى ارتكاب الرذيلة بكل أنواعها؛ لأنه إذا كان دعاة الفضيلة يفعلون ذلك، فما بالهم هم، الذين لم يزعموا لأنفسهم ذات يوم أنهم من أصحاب الفضيلة؟! لذلك كبر مقتا عند الله أن يقول المؤمنون بألسنتهم ما يخالفونه في سلوكهم الواقعي. وهذا الذي كبر مقتًا عند الله كان هو السلوك الغالب على رجال الدين الكنسي في أوروبا البابوية! مما أدى -كما أدت خطايا الكنيسة كلها- إلى نبذ الدين في النهاية والانسلاخ منه. يقول "ول ديورانت" في فصل بعنوان "أخلاق رجال الدين" من كتاب "قصة الحضارة" "ج21 ص83-86": "لقد كان يسع الكنيسة أن تحتفظ بحقوقها القدسية المستمدة من الكتب المقدسة العبرية والتقاليد المسيحية لو أن رجالها تمسكوا بأهداب الفضيلة والورع.. ولكن كثرتهم الغالبة ارتضت ما في أخلاق زمانها من شر وخير، وكانوا هم أنفسهم مرآة ينعكس عليها ما في سيرة غير رجال الدين من أضداد. فقد كان قس الأبرشية خادمًا ساذجًا، لم يؤت في العادة إلا قسطًا ضئيلًا من التعليم، ولكنه غالبًا ما يعيش معيشة يقتدى بها "وإن خالفنا في هذا رأي الراهب الصالح أنطونينو" لا يعبأ به رجال الفكر، ولكن يرحب به الشعب.   1 سورة الصف: 2، 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وكان بين الأساقفة ورؤساء الأديرة بعض من يحيون حياة منعمة، ولكن كان منهم كثيرون من الرجال الصالحين، ولعل نصف مجمع الكرادلة كانوا يسلكون مسلك أتقياء المسيحيين المتدينين الذي يخزي مسلك زملائهم الدنيوي المرح. "وانتشرت في جميع أنحاء إيطاليا المستشفيات وملاجئ اليتامى، والمدارس وبيوت الصدقات، ومكاتب القرض وغيرها من المؤسسات الخيرية يديرها رجال الدين. واشتهر الرهبان البندكتيون، والفرنسيس المتشددون، والكرثوزيون بمستوى حياتهم الخلقي الرفيع إذا قيس إلى أخلاق أهل زمنهم.. وواجه المبشرون مئات الأخطار وهم يعملون لنشر الدين في أراضي "الكفار" وبين الوثنيين المقيمين في العالم المسيحي. واختفى المتصوفة عن أعين الناس وابتعدوا عما كان في زمانهم من عنف، وأخذوا يعملون للاتصال القريب بالخالق جل وعلا". "وكان بين هذا التُّقى والورع كثير من التراخي في الأخلاق بين رجال الدين, نستطيع أن نثبته بما نضربه من مئات الأمثال: فها هو ذا بترارك نفسه الذي بقي مخلصًا لدين المسيح إلى آخر حياته، والذي صور ما في دير الكرثوزيين، الذي كان يعيش فيه أخوه، من نظام وتقى في صورة طيبة مستحبة، ها هو ذا يندد أكثر من مرة بأخلاق رجال الدين المقيمين في أفنيون. وأن الحياة الخليعة التي كان يحياها رجال الدين الإيطاليون والتي نقرأ عنها في روايات بوكاتشيو المكتوبة في القرن الرابع عشر إلى روايات ماستشيو في القرن الخامس عشر، إلى روايات بنديتلو في القرن السادس عشر، إن هذه الحياة الخليعة موضوع يتكرر وصفه في الأدب الإيطالي، فبوكاتشيو يتحدث عما في حياة رجال الدين من دعارة وقذارة ومن انغماس في الملذات طبيعية كانت أو غير طبيعية. ووصف ماستشيو الرهبان والإخوان بأنهم "خدم الشيطان" منغمسون في الفسق واللواط، والشره، وبيع الوظائف الدينية، والخروج على الدين، ويقر بأنه وجد رجال الجيش أرقى خلقًا من رجال الدين". "وها هو ذا أريتينو الذي لم يتورع عن أية قذارة يسخر من الطابعين بقوله: إن أخطاءهم لا تقل عن خطايا رجال الدين، ويزيد على ذلك قوله: "والحق إنه لأسهل على الإنسان أن يعثر على رومة مستفيقة عفيفة من أن يعثر على كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 صحيح" ويكاد بجيو يفرغ كل ما عرفه من ألفاظ السباب في التشنيع على فساد أخلاق الرهبان والقسيسين، ونفاقهم، وشرههم، وجهلهم، وغطرستهم، ويقص فولينجو في كتاب أرلندينو هذه القصة نفسها، ويبدو أن الراهبات ملائكة الرحمة في هذه الأيام كان لهن نصيب في هذا المرح، وأنهن كن مرحات رشيقات في البندقية بنوع خاص حيث كانت أديرة الرجال والنساء متقاربة قربًا يسمح لمن فيها بالاشتراك من حين إلى حين في فراش واحد. وتحتوي سجلات الأديرة على عشرين مجلدًا من المحاكمات بسبب الاتصال الجنسي بين الرهبان والراهبات. ويتحدث أريتينو عن راهبات البندقية حديثًا لا تطاوع الإنسان نفسه على أن ينطق به. وجوتشيارديني الرجل الرزين المعتدل عادة يخرج عن طوره ويفقد اتزانه حين يصف رومة فيقول: "أما بلاط رومة فإن المرء لا يستطيع أن يصفه بما يستحق من القسوة، فهو العار الذي لا ينمحي أبد الدهر، وهي مضرب المثل في كل ما هو خسيس مخجل في العالم". ويبدو أن هذه شهادات مبالغ فيها، وقد تكون غير نزيهة، ولكن استمعوا إلى قول القديسة كترين السينائية: "إنك أينما وليت وجهك -سواء نحو القساوسة أو الأساقفة أو غيرهم من رجال الدين أو الطوائف الدينية المختلفة، أو الأحبار من الطبقات الدنيا أو العليا، سواء كانوا صغارًا في السن أو كبارًا لم تر إلا شرا ورذيلة، تزكم أنفك رائحة الخطايا الآدمية البشعة.. إنهم كلهم ضيقوا العقل، شرهون، بخلاء.. تخلوا عن رعاية الأرواح.. اتخذوا بطونهم إلها لهم، يأكلون ويشربون في الولائم الصاخبة حيث يتمرغون في الأقذار ويقضون حياتهم في الفسق والفجور. ويطعمون أبناءهم من مال الفقراء.. ويفرون من الخدمات الدينية فرارهم من السجون". "وهنا أيضًا يجب أن نسقط ما يحتويه هذا الوصف من مبالغة، إذ ليس في وسع الإنسان أن يثق بأن الولي الصالح يتحدث عن سلوك الآدميين وهو غير غاضب.. ولكن في وسعنا أن نصدق هذه الخلاصة التي يعرضها مؤرخ كاثوليكي صريح. "وإذا كانت هذه هي حال الطبقات العليا من رجال الدين فإن المرء لا يعجب إذا كان من دونهم من الطبقات ومن القساوسة قد انتشرت بينهم الرذيلة على اختلاف أنواعها وأخذ انتشارها يزداد على مدى الأيام. إلا أن الحياء قد زال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 من العالم.. ولقد كان أمثال أولئك القساوسة هم الذين دفعوا إرزمس ولوثر إلى وصفهما المبالغ فيه لرجال الدين حين زارا رومة في أيام يوليوس الثاني. غير أن من الخطأ أن يظن المرء أن القساوسة كانوا في رومة أكثر فسادًا منهم في غيرها من المدن. ذلك أن لدينا من الوثائق ما يثبت بالدليل القاطع فساد أخلاق القسيسين في كل مدينة تقريبًا من مدن شبه الجزيرة الإيطالية. بل إن الحال في كثير من الأماكن -كالبندقية مثلًا- كانت أسوأ كثيرًا منها في رومة. فلا عجب والحالة هذه إذا تضاءل نفوذ رجال الدين كما يشهد بذلك مع الأسف الشديد الكتاب المعاصرون، وإذا كان المرء لا يكاد يجد في كثير من الأماكن أي احترام يظهره الشعب للقسيسين. ذلك أن الفساد قد استشرى بينهم إلى حد بدأنا نسمع معه آراء تحبذ زواجهم.. ولقد كان الكثير من الأديرة في حال يرثى لها. وأغفلت في بعضها الأيمان الثلاث الأساسية بالتزام الفقر، والعفة، والطاعة إغفالًا يكاد يكون تاما.. ولم يكن النظام في كثير من أديرة النساء أقل من هذا فسادًا". ويقول أيضًا في مكان آخر: " ... وظل كرسي البابوية عدة سنين بعد ذلك لا ينال إلا بالرشا أو القتل أو رغبات النساء ذوات المقام السامي والخلق الدنيء. وبقيت أسرة بثوفيلاكت أحد كبار الموظفين في قصر البابا ترفع البابوات إلى كراسيهم وتنزلهم عنها كما يحلو لها. واستطاعت ابنته مريوزًا أن تنجح في اختيار عشيقها سرجيوس الثالث لكرسي البابوية "904-911" كما أفلحت زوجته ثيودورا في تنصيب البابا يوحنا العاشر "914-928" وقد اتهم يوحنا هذا بأنه عشيق ثيودورا ولكن هذا الاتهام لا يقوم على دليل قاطع". ".. وظلت مريوزا تستمتع بعدد من العشاق واحدًا بعد واحد حتى تزوجت جيدو دوق تسكانيا وأخذا يأتمران لخلع يوحنا. ثم رفعت مريوزا في عام 931 يوحنا الحادي عشر "931-935" إلى كرسي البابوية وكان الشائع على الألسنة أن يوحنا هذا ابن لها غير شرعي من سرجيوس الثالث "ص378 - ج14"". ".. وعرف آتو الأول إمبراطور ألمانيا عن قرب ما وصلت إليه البابوية من انحطاط بعد أن توجه يوحنا الثاني عشر إمبراطورًا في عام 962، فلما عاد إلى روما في عام 963 بتأييد رجال الدين فيما وراء رجال الألب دعا يوحنا إلى لمحاكمة أمام مجلس كنسي.. واتهم الكرادلة يوحنا بأنه حصل على رشا نظير تنصيب الأساقفة وأنه عين غلامًا في العاشرة من عمره أسقفًا، وأنه زنى بخليلة أبيه وضاجع أرملته وإبنة أخيها وأنه حول قصر البابا إلى ماخور للدعارة "ص379 - ج14"". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 رابعًا: الرهبانية وفضائح الأديرة {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 1. يروى عن السيد المسيح أنه قال: "من أراد ملكوت الرب فليترك ماله وأهله وليتبعني" وأنه قال: "من أراد الملكوت فخبز الشعير والنوم في المزابل مع الكلاب كثير عليه". وسواء صحت هذه النصوص أم كانت ألفاظها قد حرفت أو زيد عليها، فلا شك أن المسيح دعا إلى الزهادة والارتفاع عن متاع الأرض كما دعا كل نبي قبله، وكما قال -صلى الله عليه وسلم- من بعده: "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه" 2. ولكن دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم تنشأ عنها رهبانية، بل لم يتقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرهبانية حين جنح إليها بعض المسلمين كما يتضح من الواقعة الآتية: "ذهب ثلاثة رهط إلى بيت من بيوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألوا عن عبادته -صلى الله عليه وسلم- فلما أخبروا كأنهم تقالوها! فقال أحدهم: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثاني: وأما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء. فلما أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى بهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأعبدكم وأخشاكم لله ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني" 3. ولكن شيئًا ما -في دعوة السيد المسيح- قد شجعت على ابتداع الرهبانية   1 سورة الحديد: 27. 2 رواه أحمد والترمذي. 3 رواه الشيخان والنسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فيما يبدو. فقد بعث السيد المسيح إلى بني إسرائيل وقد غلبت عليهم مادية كافرة، يعبدون الذهب ويعيشون للحياة الدنيا، ولا ظل في حياتهم للإيمان باليوم الآخر ولا حساب له في قلوبهم. جفت أرواحهم فلم تعد فيها نداوة الحب ولا إشراقة النور التي تصاحب الإيمان بالله. من أجل ذلك كانت الروحانية هي السمة الغالبة على دعوة السيد المسيح، وكان الإكثار من الحديث عن الزهد والارتفاع على شهوات الأرض، لعل الدعوة على هذا النحو تلين القلوب القاسية التي قال الله عنها: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 1. وهل أدل على هذه القسوة من أن تبيح لهم وحشيتهم أن يقتلوا "الأمميين" في عيد الفصح ليعجنوا بدمائهم فطيرة "مقدسة! " ثم يأكلوها ابتهاجًا بالعيد؟! وفُجر بنو إسرائيل فلم يستجيبوا لهذه الدعوة المترفعة التي دعاهم إليها السيد المسيح، بل سعوا إلى إثارة الحاكم الروماني "بيلاطس" ليحكم عليه بالقتل صلبًا.. لولا أن الله نجاه منهم ورفعه إليه فلم يقتلوه ولم يصلبوه. وقال الله عنهم: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} 2. ولكن الدعوة المترفعة التي أعرض عنها قساة القلوب تسربت -بقدر من الله- إلى قلوب أخرى اعتنقتها وآمنت بها وتلقت روحانيتها الندية بالترحيب: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} 3. وهؤلاء هم الذين ابتدعوا الرهبانية. {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} . وسواء كان الاستثناء في الآية منقطعًا بمعنى: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ولكن كتبنا عليهم أن يبتغوا رضوان الله "فابتغوا ذلك عن طريق الرهبانية   1 سورة البقرة: 74. 2 سورة البقرة: 87. 3 سورة الحديد: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 التي ابتدعوها" أو متصلًا بمعنى: ما كتبناها عليهم إلا لأنهم ابتغوا بها رضوان الله.. فإن الآية تسجل عليهم أنهم هم الذين ابتدعوها وليس الله هو الذي كتبها عليهم بادئ ذي بدء، أي: إن عيسى عليه السلام لم يأمرهم بها ولم يقل لهم إن الله يريدها منهم. ولكنهم هم تطوعوا بها -متأثرين بتعاليم المسيح أو مؤولين لها على هذا النحو- فقبل الله منهم ما تطووا به ما داموا قد ابتغوا به رضوان الله. ولكن أيا كان الدافع لهم على ابتداع الرهبانية: التأثر بتعاليم السيد المسيح أو تأويلها على نحو معين كما أول الصوفية الآيات والأحاديث الواردة في ذم الدنيا فجعلوها ذما مطلقًا وفي كل الحالات، بينما هي واردة في ذم الدنيا حين تصد عن الإيمان بالله أو تصد عن الجهاد في سبيل الله.. نقول أيا كان الدافع، فإن الرهبانية مضادة لدفعة الحياة السوية التي خلقها الله لتعمل لا لتكبت وتحجز عن الحركة والنشاط. فقد جعل الله الإنسان خليفة في الأرض وكلفه عمارتها: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} 1. ومن أجل القيام بأمر الخلافة أي: الهيمنة والإشراف والتمكن، ومن أجل القيام بعمارة الأرض، أودع الله الفطرة مجموعة من الدوافع المحركة إلى العمل والنشاط.. {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 2. وصحيح أن الله سبحانه وتعالى لا يحب لعباده أن ينطلقوا إلى آخر المدى مع هذه الشهوات؛ لأنها عندئذ لا تكون معينًا على الخلافة الراشدة ولا على عمارة الأرض على النحو اللائق بالإنسان، بل تكون شاغلًا من الارتفاع وداعيًا إلى الهبوط إلى مستوى الحيوان، وعندئذ يكون الإنسان أضل من الحيوان: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 3. وصحيح أن الله أحب لعباده أن يتخففوا من متاع الأرض ليفرغوا إلى القيم العليا الجديرة بالإنسان، ووعدهم على ذلك الجنة، وجعل ذلك هو الابتلاء الذي   1 سورة هود: 61. 2 سورة آل عمران: 14. 3 سورة الأعراف: 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 يخوضه الإنسان في الأرض: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} 1. {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 2. كل ذلك صحيح. ولكن الله لم يحرم متاع الأرض: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 3. إنما وضع حدودًا لذلك المتاع يباح في داخلها ويكون محرمًا في خارجها: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} 4. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} 5. وتلك الحدود هي التي يعلم سبحانه أنها تعين على أمر الخلافة وعمارة الأرض على المستوى اللائق بالإنسان، دون أن ينشغل الإنسان بها عن قيمه وأهدافه العليا كما بينها الله له على يد رسله وأنبيائه، وفي الوقت ذاته تعطي قسطًا معقولًا من المتاع لكيلا ينشغل الإنسان عن الحركة والعمل بلذع الحرمان. وهناك أفراد -أفذاذ- يستطيعون أن يتخففوا من متاع الأرض إلى أقصى حد دون أن يشغلهم الشعور بالحرمان عن الحركة والنشاط والعمل بإيجابية كاملة، أولئك هم الزهاد على بصيرة. وقد كان محمد -صلى الله عليه وسلم- إمام الزاهدين، وهو أكبر طاقة إيجابية حركية عرفتها البشرية.. ولكن الرهبانية ليست كذلك.. إنها اعتزال.. إنها ترك للحياة الواقعية بكل ما فيها ولياذ بالأديرة المنقطعة عن تيار الحياة. ولقد يتربى الراهب على تعود الحرمان حتى لا يعود يحسن بلذع الحرمان.. نعم.. ولكنه في الوقت ذاته يفقد   1 سورة آل عمران: 14-17. 2 سورة الكهف: 7. 3 سورة الأعراف: 32. 4 سورة البقرة: 229. 5 سورة البقرة: 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 إيجابيته الفاعلة في واقع الأرض ويتخلى عن دوره في عمارتها، ويلغي طاقات كيانه فلا يتزوج ولا يعمر وجه الأرض بالنسل ولا ينتج.. إلا مشاعر ذاتية في طي الكتمان. لذلك نقول إن الرهبانية مضادة لدفعة الحياة السوية كما خلقها الله. وإذا كان الله قد قبلها منهم -لفترة معينة- هي المحدودة بمجيء الرسول -صلى الله عليه وسلم- مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه، وناسخًا ما شاء الله أن ينسخ من الشرائع -المحلية- السابقة، لينشر في الناس كلمة الله الأخيرة وشريعته الباقية.. إذا كان الله قد قبلها منهم لتلك الفترة المحدودة فإنهم وهم مبتدعوها والمتطوعون بها من عند أنفسهم لم يرعوها حق رعايتها! {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} 1. ولقد كان المتوقع ألا يرعوها حق رعايتها.. أي: لا يصبروا على تكاليفها. فهي سباحة دائمة ضد التيار.. تيار الحياة.. وجهد مجهد لا يصبر عليه كثيرون.. أما أن تنقلب -وهي المنوطة بالتقوى والزهد والتعفف والارتفاع عن الشهوات- إلى مباءة للقذارة الحسية والمعنوية يتعفف عنها الرجل العادي أو الفتاة العادية.. فهذا الذي لا يمكن أن يتوقع على الإطلاق! فإذا كانوا لا يصبرون على تكاليفها فما الذي يجبرهم على المضي فيها وهي تطوع غير مفروض؟! أما أن يستمروا فيها عنوانًا ولافتة، ومظهرًا خادعًا من الخارج، ثم يحولوها إلى حانات للخمر ومواخير للفساد، ومباءة للشذوذ الجنسي بين الرجال والرجال والنساء والنساء، بالإضافة إلى ما يحدث من العلاقات السرية بين أديرة الرجال وأديرة النساء.. فهذا أمر يشده الحس ويبعث على التقزز والنفور. يقول أصدق القائلين جل وعلا: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَاحَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 1، فاسقون. بكل معاني الفسق التي تخطر والتي لا تخطر على البال!   1 سورة الحديد: 27. 2 سورة الحديد: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 خامسًا: مهزلة صكوك الغفران لم يكف الكنيسة ورجال دينها هذا الفساد كله، فأضافوا إليه مهزلة من أكبر مهازل التاريخ. تلك هي مهزلة صكوك الغفران. فقد أصدر مجمع لاتيران سنة 1215 القرار التالي لتقرير أن الكنيسة تملك حق الغفران للمذنبين: "إن يسوع المسيح، لما كان قد قلد الكنيسة سلطان منح الغفرانات، وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلا منذ الأيام الأولى، فقد أعلم المجمع المقدس وأمر بأن تحفظ للكنيسة في الكنيسة هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي والمثبتة بسلطان المجامع، ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون أن الغفرانات غير مفيدة أو ينكرون على الكنيسة سلطان منحها. غير أنه قد رغب في أن يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراز حسب العادة المحفوظة قديمًا والمثبتة في الكنيسة لئلا يمس التهذيب الكنسي تراخ بفرط التساهل"1 ولكن الكنيسة لم ترع ذلك التحفظ الوارد في القرار، وهو "استخدام هذا السلطان باعتدال واحتراز" فقد كانت راغبة في زيادة سلطانها -وزيادة أموالها كذلك! - فعمدت إلى منح المغفرة بصكوك تباع بالمال في الأسواق! يقول الصك: "ربنا يسوع يرحمك يا ... 2يشملك باستحقاقات الأمة الكلية القدسية, وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحلك من جميع القصاصات والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها، وأيضًا من جميع الإفراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة، ومن كل علة وإن كانت محفوظة لأبينا الأقدس الباب والكرسي الرسولي، وأمحو جميع أقذار الذنب وكل علامات الملامة التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة وأرفع   1محاضرات في النصرانية ص194. 2 يترك فراغ يكتب فيه اسم "المغفور له" كما تملأ الاستمارات في المصالح والدواوين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 القصاصات التي كانت تلتزم بمكابدتها في المطهر، وأردك حديثًا إلى الشركة في أسرار الكنيسة، وأقرنك في شركة القديسين، أردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا لك عند معموديتك، حتى إنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطاة إلى محل العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح. وإن لم تمت سنين مستطيلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة حتى تأتي ساعتك الأخيرة باسم الأب والابن والروح القدس"1. وإنها -والحق يقال- لمهزلة فريدة في التاريخ! فقد عرفت الديانات الوثنية -من قبل ومن بعد- عملية إرضاء الكاهن ابتغاء رضوان الإله المعبود، باعتبار أن الكاهن هو الوسيط بين العبد والرب، وأن رضاه يؤدي -في وهمهم- إلى رضا الإله، وغضبه يؤدي إلى غضب الإله. والنذور للأوثان أمر معروف في التاريخ.. وكان العرب في الجاهلية يؤدون الشعائر والنسك للأوثان -ومن بينها تقديم النذور- ليقربوهم إلى الله زلفى. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. ويجيء الدين المنزل ليصحح العقيدة ويصحح السلوك، فيجعل الشعائر والنسك لله وحده، وبين العبد وربه مباشرة بلا وسيط: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} 3. ويكون للرسل -في حياتهم- خصيصة يختصون بها هي أن دعاءهم يستجاب عند الله حين يدعون بالصلاح أو البركة أو المغفرة لمن يستحق ذلك عند الله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 4. أما لمن لا يستحق فالدعاء -حتى من الرسل- غير مستجاب:   1 كتاب المسيحية تأليف أحمد شلبي ص214. 2 سورة الزمر: 3. 3 سورة البقرة: 270. 4 سورة التوبة: 102-104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 1. فإذا كان هذا شأن الرسل -بل شأن سيد الرسل صلى الله عليه وسلم- فما بالك بالبابا الذي لا حظوة له عند ربه ولا إذن له من الله بقبول الغفران؟! بل ما بالك حين يكون الأمر لا عن نية حقيقية في التوبة يعلمها البابا -تقدس سره! - بل من مبلغ من المال؟! بل ما بالك والمال -في أكثر الأحيان- ليس مدفوعًا لله على سبيل الصدقة للفقراء والمساكين، مما يقبله الله من المؤمنين ويحط به من خطاياهم، وإنما هو لشراء الصك كما تشتري أي سلعة معروضة في الأسواق، والمال يذهب إلى خزائن البابوات والكرادلة حتى يكتنزوا بالذهب والفضة التي يكنزونها، ولا يذهب إلى مستحقيه من الفقراء والمساكين؟! ولا نشك في أن المهزلة في بادئ الأمر كانت جادة! أي: إن الذي يشتري الصك كان راغبًا في التوبة، ظانا أن هذا السبيل يؤدي بالفعل إلى التوبة والمغفرة ورضوان الله، وكان المال المدفوع يأخذ في حس صاحبه مكان الصدقة المرفوعة إلى الله. كما أن الكنيسة استخدمت صكوك الغفران لتشجيع المقاتلين على خوض المعارك الصليبية ضد المسلمين فكانت تمنح الصك لمن ينخرط في سلك الجيوش الصليبية فتحمله الرغبة في الفردوس الموعود أن يلقي بنفسه في أتون الحرب التي يرجع منها أو لا يرجع.. وهو غالبًا لا يرجع! ولكن الجد في هذا الأمر الهازل لا يمكن أن يستمر! ولئن استمر البسطاء مخدوعين في قداسة البابا وقدرته على محو الذنوب من صحيفة الأعمال بما له عند الله من الوساطة والحظوة و"القداسة".. فقد انكشف الأمر عند العقلاء ولا شك عن أن قداسة البابا قد أصبح تاجرًا كبيرًا، وأنه على نسق معظم التجار الكبار مدلس غشاش!! يبيع بضاعة لا يملكها ويقبض الثمن لنفسه ليثرى الثراء الفاحش، ثم ينفق هذا الكسب الحرام في المتاع الدنس ويغرق به في الشهوات! ومع أنها مهزلة مضحكة -ومكشوفة- فقد ظلت قائمة في المجتمع   1 سورة التوبة: 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الأوروبي -مجتمع الظلمات- فترة غير قصيرة من الوقت، واتسع نطاقها وكثرت أرباحها حتى فاضت عن مطامع قداسة البابا، فتنازل عن شيء من الفائض لكبار أعوانه، فصرح لهم بإصدار صكوك لحسابهم، استرضاء لهم، واستعانة منه بهم في "جلائل الأعمال"! ولكنها كانت لا بد مؤدية إلى نتائجها الطبيعية، وهي النفور من الدين في النهاية والنفور من رجال الدين. فحين يرى الناس الحصيلة المتحصلة من الصكوك تذهب إلى الترف الماجن والمتاع الفاجر الذي يغرق فيه معظم البابوات وكبار رجال الدين، وحين يرون نفرا من أصحاب الصكوك -وقد ضمنوا مغفرة ما تقدم من ذنبهم وما تأخر- غارقين في الفساد اتكالا على أن ذنوبهم تمحى أولًا بأول بسحر الصك الذي ابتاعوه، وحين يرون السلطان الطاغي الذي تحصل عليه الكنيسة بأموالها المكدسة التي أصبحت بها أغنى من الملوك وأمراء الإقطاع ينصرف إلى مزيد من الطغيان ومزيد من الظلم ومزيد من التحكم في رقاب العباد وعقولهم وأفكارهم.. حين يرون ذلك كله فلا شك أنهم ينفرون في النهاية وينسلخون من الدين الذي ينتج كل تلك الأفاعيل! يقول ويلز في كتاب "معالم تاريخ الإنسانية". "ولقد قضت "أي: الكنيسة" على هيبتها بعدم مراعاتها لتعاليمها ذاتها الداعية إلى الصلاح والبر. وقد سبق أن تكلمنا عن نظام التحلة1، وكان خاتمة حماقاتها في القرن السادس عشر بيع "صكوك الغفران" التي بها يمكن افتداء الروح من عذاب المطهر بدفعة مالية. على أن الروح التي دفعتها "أي: دفعت الكنيسة" آخر الأمر إلى هذه الفعلة المتبجحة التي كانت نكبة عليها، كانت واضحة ملحوظة من قبل في القرنين الثاني عشر والثالث عشر"2.   1 نظام التحلة نظام كان البابا بمقتضاه يعفي نفسه من التزام الأوامر والنواهي التي تفرضها الكنيسة ذاتها على رعاياها! وقد أشار إليه ويلز في فصل سابق فقال "ص896": وثمة دعوى أخرى ادعتها الكنيسة كانت هي أيضًا أكثر سرفًا وبعدًا عن الحكمة هي قولها بأن لها "حق التحلة". ومعنى ذلك أن البابا كان يستطيع في كثير من الأحيان أن يهمل قوانين الكنيسة في حالات فردية خاصة..". 2 ج3، ص905, 906. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 سادسًا: محاكم التفتيش يقول "ول ديورانت" بعد أن يعدد مباذل البابوات وانحرافات رجال الدين في النص الذي أشرنا إليه آنفًا: "وإذا ما عفونا عن بعض هذا الشذوذ الجنسي والانهماك في ملاذ المأكل والمشرب فإننا لا نستطيع أن نعفو عن أعمال محاكم التفتيش"1.. ولهذه الشهادة دلالتها في استفظاع تلك الأعمال التي كانت تقوم بها محاكم التفتيش، ذلك أن الأعمال التي سمح "ول ديورانت" لنفسه أن يعفو عنها هي في الحقيقة أعمال لا تغتفر من الرجال الذين -في زعمهم- وهبوا أنفسهم لنشر العقيدة التي يؤمنون بها وتثبيت أركانها في الأرض.. فكيف بالأعمال التي لم يجد في نفسه القدرة على العفو عنها، وهو بهذه الدرجة من التساهل فيما وقع من رجال الدين من انحرافات؟! الحقيقة أنها كانت أبشع من أن يعفو عنها أحد في قلبه ذرة من مشاعر الإنسانية. يقول ويلز: "شهد القرن الثالث عشر تطور منظمة جديدة في الكنيسة هي محكمة التفتيش البابوية. ذلك أنه جرت عادة الباب قبل ذلك الزمان بأن يقوم في بعض الأحيان بتحقيقات أو استعلامات عن الإلحاد في هذا الإقليم أو ذاك، ولكن "إنوسنت الثالث" وجد الآن في عقد الرهبان الدومينيسكيين الجديد أداة قوية للقمع، ومن ثم نظمت محاكم التفتيش كأداة تحقيق مستديمة تحت إدارتهم. وبهذه الأداة نصبت الكنيسة نفسها لمهاجمة الضمير الإنساني بالنار والعذاب، وعملت على إضعافه مع أنه مناط أملها الوحيد في السيادة على العالم.. وقبل القرن الثالث عشر لم تنزل عقوبة الإعدام إلا نادرًا بالملاحدة والكفار. فأما الآن فإن كبار رجال الكنيسة كانوا يقفون في مائة ساحة من ساحات الأسواق في أوروبا ليراقبوا أجسام أعدائها -وهم في غالبية الأمر قوم فقراء لا وزن لهم- تحترق بالنار وتخمد أنفاسهم بحالة محزنة، وتحترق وتخمد معهم في نفس الحين الرسالة العظمى لرجال الكنيسة إلى البشرية فتصبح رمادًا تذروه الرياح"2.   1 قصة الحضارة ج "ص86". 2 معالم تاريخ الإنسانية ج3- ص908, 909. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وينبغي أن نلاحظ هنا أن الكاتب الذي ينفطر قلبه أسى على ضحايا محاكم التفتيش من المسيحيين لا يذكر كلمة واحدة عن الفظائع البشعة التي ارتكبتها محاكم التفتيش في الأندلس وهي تطارد المسلمين لتطرد الإسلام نهائيا من أسبانيا. وقد كانت تلك الفظائع أفظع ما عرفه التاريخ كله من ألوان الوحشية البربرية، التي تعد أعمال محاكم التفتيش في أوروبا المسيحية -على شناعتها- هينة لينة بالنسبة إليها، وبالنسبة لأدوات التعذيب الخاصة التي استخدمت فيها، في الوقت الذي كانت أوروبا تعلم أنها مدينة للأندلس الإسلامية بكل ما كان في حوزتها يومئذ من علم يعتد به، بل مدينة بنهضتها كلها إلى القيم والمبادئ الحضارية التي تعلمتها من هناك. ونعود بعد هذه الملاحظة إلى ويلز، ليشرح لنا العوامل التي حدت بالكنيسة إلى اتخاذ العنف ضد أعدائها: "فأصبح قساوستها وأساقفتها على التدريج رجالًا مكيفين وفق مذاهب اعتقاديات حتمية واجراءات مقررة وثابتة.. ولم تعد لهم بعد رغبة في رؤية مملكة الرب موطدة في قلوب الناس. فقد نسوا ذلك الأمر، وأصبحوا يرغبون في رؤية قوة الكنيسة التي هي قوتهم هم، متسلطة على شئون البشر. ونظرًا لأن كثيرًا منهم كانوا على الأرجح يسرون الريبة في سلامة بنيان مبادئهم الضخم المحكم وصحته المطلقة لم يسمحوا بأية مناقشة فيه. كانوا لا يحتملون أسئلة ولا يتسامحون في مخالفة، لا لأنهم على ثقة من عقيدتهم، بل لأنهم كانوا غير واثقين فيها.. "وقد تجلى في الكنيسة عندما وافى القرن الثالث عشر ما يساورها من قلق قاتل حول الشكوك الشديدة التي تنخر بناء مدعياتها بأكمله، وقد تجعله أثرًا بعد عين. فلم تكن تستشعر أي اطمئنان نفسي. وكانت تتصيد الهراطقة في كل مكان، كما تبحث العجائز الخائفات -فيما يقال- عن اللصوص تحت الأسرة وفي الدواليب قبل الهجوع في فراشهن"1. بهذا الهزال المتفشي في كيانها، والقلق المستسر في أعماقها من بدء يقظة العقل بعد طول سبات راحت تكيل الضربات المجنونة لكل من يسألها ويناقشها، أو من يخيل إليها أنه سيسألها ويناقشها، لتحاول أن تدفع عن   1 المصدر السابق "ص902, 903". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 نفسها المصير الأسود الذي كان ينتظرها على بعد خطوات من الزمن غير بعيد.. وينبغي أن نقرر هنا ما كان للإسلام من أثر عميق في تلك اليقظة التي فزعت منها الكنيسة، فما كان أي عقل يقترب من الثقافة الإسلامية والحياة الفكرية الإسلامية ليرضى أن يظل عبدا لذلك الطغيان الفكرى والروحي الذي تمارسه الكنيسة أو يتقبل ترهاتها بلا مناقشة. وسواء اعترف المؤرخون الأوربيون بهذا الأثر أم لم يعترفوا "والمنصفون -وهم قلة- يعترفون" فلنعد إلى ويلز مرة أخرى يفسر لنا تلك الحالة النفسية التي ساورت الكنيسة ضد أي لون من المعرفة يأتي من مصدر غير مصادرها. "كان هذا التعصب الأسود القاسي روحًا خبيثًا لا يجوز أن يخالط مشروع حكم الله في الأرض. وإنه لروح يتعارض تمامًا مع روح يسوع الناصري، فما سمعنا قط أنه لطم الوجوه أو خلع المعاصم لتلاميذه المخالفين له أو غير المستجيبين لدعوته، ولكن البابوات كانوا طوال قرون سلطانهم في حنق مقيم ضد من تحدثه نفسه بأهون تأمل في كفاية الكنيسة الذهنية. "ولم يقتصر تعصب الكنيسة على الأمور الدينية وحدها. فإن الشيوخ الحصفاء المولعين بالأبهة السريعي الهياج الحقودين، الذين من الجلي أنهم كانوا الأغلبية المتسلطة في مجالس الكنيسة، كانوا يضيقون ذرعًا بأية معرفة عدا معرفتهم، ولا يثقون بأي فكر لم يصححوه ويراقبوه، فنصبوا أنفسهم للحد من العلم، الذي كانت غيرتهم منه بادية للعيان، وكان أي نشاط عقلي عدا نشاطهم يعد في نظرهم نشاطًا وقحًا"1. وأيا كانت الأسباب فقد كانت محاكم التفتيش وما صحبها من الفظائع عميقة الأثر في الحس الأوروبي، وسيئة النتائج بالنسبة للحضارة الجاهلية التي انبثقت في أوروبا منذ عهد النهضة.. لقد أصبح عداء "الدين" المتمثل هناك في الكنيسة ورجالها أمرًا "لازمًا" لكل صاحب فكر حر أو ضمير حي.. لأن هذا العداء هو أبسط تعبير عن الثورة ضد الذل والمهانة التي تفرضها الكنيسة على الكرامة الإنسانية كما تفرضها على العقل الذي خلقه الله ليفكر لا ليمتهن بالحبس في داخل سدود وقيود ما أنزل الله بها من سلطان، إنما هي من صنع بشر يبدو للعقول المفكرة مدى تفاهة تفكيرهم وعجزهم، وغطرستهم الطاغية في ذات الوقت. ولئن كان كل ما ارتكبته الكنيسة من الخطايا كان جريمة في حق الدين، فإن هذه الخطيئة البشعة كانت ولا شك من كبريات الجرائم التي سجلها التاريخ.   1 المصدر السابق ص905. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 سابعا: مساندة الكنيسة للظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتمثل في الإقطاع أصبحت الكنيسة -بفضل الهبات والإتاوات والعشور والهدايا والغصب والنهب والتدليس وغير ذلك من الوسائل- أصبحت من ذوات الإقطاع. بل كانت أملاكها في بعض الأوقات تفوق أملاك الأباطرة وأمراء الإقطاع. ومن ثم فقد تحدد موقفها من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فوقفت في صف الظلم تسانده وتذود عنه وتحارب حركات الإصلاح! وكانت في ذلك منطقية مع وضعها باعتبارها من كبار الملاك! فهل كان يمكن -عقلًا- أن تحارب الإقطاع وهي جزء منه، بل من أكبر ممثليه؟! ولقد بدأت أوروبا تتململ من رقدتها -بعد احتكاكها بالعالم الإسلامي- وتطلب الإصلاح. وقد كان احتكاكها بالعالم الإسلامي عن طريقين عظيمين وشديدي التأثير: أحدهما الاحتكاك السلمي بطلب العلم في مدارس المسلمين في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها من الأماكن القريبة من أوروبا، والآخر الاحتكاك الحربي في الحروب الصليبية في المشرق الإسلامي. وفي كلا الاحتكاكين تفتحت عيون أوروبا على عالم مختلف كل الاختلاف عن عالمها، لا من ناحية العلم والحضارة فقط، بل من حيث القيم والمبادئ وآفاق الحياة وآفاق التفكير. فأما العلم فمعروف أن أوروبا بدأت نهضتها بالتتلمذ على علوم المسلمين.. ودعك من المكابرة الأوروبية المغرورة التي تقول إن المسلمين لم يكن لهم فضل في ذلك إلا الاحتفاظ بعلوم الإغريق في الفترة التي غفلت فيها أوروبا عنها في عصورها المظلمة، فلما استيقظت أوروبا -كأنما استيقظت من ذات نفسها!! - استردت بضاعتها القديمة وانطلقت -منها- تبني حضارتها! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 دعك من هذه المكابرة؛ لأن الواقع لا يسندها. وتكفي شهادة "روجر بيكون" التي قال فيها: "من أراد أن يتعلم، فليتعلم العربية"1! ولو كان كل فضل المسلمين أنهم احتفظوا بعلوم الإغريق وثقافتهم ما احتاجت أوروبا أن تتعلم العربية، فقد كان يكفيها أن ترجع إلى أصولها الإغريقية باللغة الإغريقية، وهي لغة لم ينقطع العلم بها حتى في العصور المظلمة، فقد كانت إحدى اللغات "المقدسة"، لغات الكتاب المقدس. وقد يكون هذا الوصف صادقًا على ما يسمى "الفلسفة الإسلامية" فقد كانت إغريقية حقا وإن لبست ملابس المسلمين! فقد كان منهج التفكير فيها إغريقيا وإن تناولت موضوعات إسلامية. وهذه -في رأيي- هي أضعف نقاط الثقافة الإسلامية على الإطلاق. أما أن توصف الحركة العلمية والفكرية الإسلامية كلها بأنها إغريقية، لمجرد أنها استمدت من الثقافة الإغريقية عند البدء فمغالطة متبجحة لا يسندها الواقع، كما لو قلنا إن العلم الحاضر إسلامي كله ولا فضل لأوروبا فيه، لمجرد أنه استمد أصوله كلها من المسلمين! وهذه مغالطة لا يقولها أحد منا -ولو قالها لكانت مضحكة غير مقبولة- لأن الله أمرنا -إذا قلنا- أن نعدل.. ولو كان ذا قربى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 2. {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 3. إن أهم ما أخذته أوروبا عن المسلمين كما يعترف المنصفون منهم -وما أقلهم! - لم يكن العلوم في ذاتها، وإن كانت هذه تستحق أن يشار إليها ويشاد بها، خاصة في الكيمياء والفيزياء والطب والفلك والرياضيات، إنما كان المنهج التجريبي في البحث العلمي، وهذا هو الذي يرد إليه -بحق- كل التقدم الذي أحرزته أوروبا في ميدان العلوم فيما بعد؛ لأنه شيء جديد لم تكن تحسنه من قبل؛ ولأن التقدم العلمي كان مستحيلًا بدونه.. ويبقى لأوروبا فضلها -بعد ذلك- في المثابرة والصبر والمتابعة، بينما ركن المسلمون إلى سبات عميق.   1 انظر كتاب "تجديد الفكر الديني في الإسلام" تأليف محمد إقبال ترجمة عباس محمود ص148 من الترجمة العربية. 2 سورة الأنعام: 152. 3 سورة المائدة: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وأما الحضارة بصورها المادية وقيمها ومبادئها فهذا الذي أيقظ أوروبا من سباتها ودفعها إلى طلب الإصلاح للواقع الفاسد الآسن المنتن الذي كانت تعيش فيه. ويكفي أن نقول بالنسبة للصور المادية للحضارة إن أوروبا -لوقت احتكاكها مع المسلمين- لم تكن تعرف الحمامات الخاصة داخل البيوت! إنما كانت منذ العهد الروماني تستخدم الحمامات العامة سواء في تنظيف ملابسها أو تنظيف أجسادها.. إلى حد أن محاكم التفتيش التي أنشئت لمطاردة الإسلام في الأندلس بأفظع وحشية عرفها التاريخ، كانت تتعرف على بيوت المسلمين الذين تنصروا ظاهرا للفرار من التعذيب بإحدى وسيلتين: الهينمة الخافتة في جنح الليل التي كانت تدلهم على قراءة القرآن، أو العثور على حمام خاص في البيت، وكانت هذه علامة مميزة قاطعة، فما يرتكب هذه الجريمة -جريمة وجود حمام خاص في البيت- إلا المسلمون!! أما من ناحية القيم والمبادئ فهذا -في الواقع- أهم ما أيقظ أوروبا من سباتها. كانت أوروبا تعيش في ظلمات الإقطاع.. وما أدراك ما ظلمات الإقطاع! أمير الإقطاعية هو الحاكم المطلق في إقطاعيته.. لا قانون إلا قانونه.. هو السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية كلها في آن. هو المالك لكل شيء والباقون عبيد.. إما عبيد السيد وإما عبيد الأرض يورثون ويباعون ويشترون، وينتقلون -مع الأرض- من سيد إلى سيد، لا يملكون حق الانتقال من إقطاعية إلى إقطاعية ولو كان يفصل بينهما سور واحد! عليهم كل ثقيل من التبعات وليس لهم شيء يذكر من الحقوق! فأما الحقوق السياسية فلا نصيب لهم منها على الإطلاق ولا يفكر أحد ولا يتصور أحد، أن يكون لهم مشاركة في السياسة من قريب ولا من بعيد.. وكيف يشاركون؟ وأين هم حتى يشاركوا؟! إنهم قابعون هناك -في الإقطاعية- في بيوتهم الريفية القذرة، على استعداد أبدا لخدمة سيدهم أمير الإقطاعية، والشرف لأحدهم أن يندبه الأمير لخدمة خاصة غير بقية الأصفار الآدمية التي تمتلئ بها الإقطاعية، فذلك تمييز وتكريم أي تكريم! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وكان الإقطاعي بدوره يقوم "برعاية" هذه القطع الآدمية المتناثرة في أرضه! فهو يشهد أفراح زفافهم ويستخدم -في كثير من الأحيان- حق الليلة الأولى، أي: حق الخلوة بالعروس ليلة عرسها، قبل أن يتسلمها زوجها! وبذلك يعيش هو في عرس دائم متجدد ويتسلم العبيد فضلاته! وهو يطحن لهم غلالهم في مطحنه وهو المطحن الوحيد المصرح به في القرية، لقاء آجر يحدده هو على مزاجه، وكذلك يعصر لهم كرومهم في معصرته، ليشربوا ... وينسوا! كما أنه يدافع عنهم ضد أي هجوم من أمير آخر -وما أكثر ما يحدث الهجوم- وذلك بتجنيدهم ودفعهم إلى القتال.. ليموتوا! كما يفرض عليهم من الضرائب ما يرتاح إليه ضميره، وما يستريح ضميره حتى تمتلئ خزائنه، وما تمتلئ حتى تفرغ من جديد! وهكذا تتنوع ألوان "الرعاية" التي يقدمها لهم.. له منها كل حلوة ولهم العذاب.. وحين كانوا في هذه الظلمات، احتكوا بالمسلمين، سواء الاحتكاك الحربي أو السلمي الذي استمر عدة قرون. وجدوا عند المسلمين "دولة" منظمة، يحكمها حاكم يعاونه معاونوه ويخضع الناس لحكمه سواسية على درجة واحدة من الخضوع. وكان هذا شيئًا جديدًا عليهم، فقد كانت لديهم "دولة" نعم ولكنهم لا يتصلون بها -وأنى لهم؟ - ولا تتصل هي بهم إلا من خلال أمراء الإقطاع، وأمراء الإقطاع هم حكامهم الحقيقيون المباشرون، وليس لرئيس الدولة سلطان عليهم فيما يفعلون في إقطاعياتهم، إنما سلطانه عليهم محصور في المال الذي يطلبه منهم -فيأخذونه هم من دماء فلاحيهم، وتبقى خزائنهم الخاصة لا تمس- وفي المجندين الذين يطلبهم منهم إذا قامت الحرب -وكثيرًا ما تقوم- فيقدم الإقطاعي ما استطاع من دماء فلاحيه لكي يرضى الملك أو الإمبراطور عنه، ويدع يده مطلقة بعد ذلك يفعل بعبيده وأقنانه1 ما يشاء. ووجدوا قضاء منظمًا.. أي: قضاة يحكمون بين الناس فيما شجر بينهم،   1 القن هو عبد الأرض، تحرر من عبودية السيد ولكنه ما زال عبدًا للأرض لا يملك مغادرتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 يعامل الناس أمامهم على السوية، ويملك الإنسان إذا شاء أن يختصم إلى ذلك القضاء مع واليه أو رئيسه أو من يكون من خصمائه فيحكم القاضي بما يرضي ضميره هو لا بهوى السلطان. ووجدوا شريعة حاكمة.. شريعة ليست هي هوى الإقطاعي.. إنما هي شرائع ثابتة يضبطها الكتاب الذي أنزلت به ويضبطها اجتهاد فقهاء الأمة -وهم ليسوا طرفًا في خصومة مع أحد بعينه، وليسوا حكامًا يجورون. بالسلطان- وإنما هم مجتهدون يفسرون النص القرآني ويستنبطون الأحكام منه، أو يقيسون عليه، أو يبحثون عن المصلحة "العامة" لا الخاصة فيما يجتهدون به من الأحكام. باختصار وجدوا الإسلام.. وقد كان كل شيء وجدوه جديدًا بالمرة عليهم، فقد كان الذي يعرفونه من قبل هو ذلك الطاغوت الذي يحكمهم فيكون هو الخصم والحكم وهو المشرع والقاضي والمنفذ.. وهو الذي يتصرف فيهم بلا مراجع.. لا يسأل عما يفعل وهم يسألون! كان ذلك هو الذي استجاش أوروبا لتتمرد على هذا الظلام الشامل أو الفساد الشامل الذي تعيش فيه.. وتطلب الإصلاح. وكان الإقطاع -بكل ما يشتمل عليه من ظلم سياسي واقتصادي واجتماعي- هو الهدف الأول لمحاولات الإصلاح. وإن كان طلب الإصلاح الذي نشأ من الاحتكاك بالمسلمين شاملًا في الحقيقة كل ميادين الحياة. عندئذ بدأت أصوات المصلحين تتتابع، ثم بدأت أنات خافتة تسمع من أفواه "الكادحين". فكيف كان موقف الكنيسة الغارقة في الإقطاع وفي الطغيان؟! لقد وقفت تتهدد الثائرين على الظلم، المتمردين على الطواغيت بأنهم مارقون من الدين، وأنهم ملعونون عند الله! ووقفت تحاول تخدير الثائرين على الظلم، بأن الرضا بالظلم في الحياة الدنيا هو مفتاح الرضوان في الآخرة.. فأما العبيد الثائرون والأقنان فقالت لهم إن السيد المسيح يقول: "من خدم سيدين في الدنيا خير ممن خدم سيدًا واحدًا".. وأما المظلومون عامة فقالت لهم: إن من احتمل عذاب الدنيا فسيعوضه الله بالجنة في الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ومن هنا قال ماركس قولته الشهيرة: الدين أفيون الشعوب! وهي قولة صادقة كل الصدق على دين الكنيسة المحرف، ولكنها كاذبة كل الكذب حين تطلق على الدين المنزل من عند الله. لقد كانت خطيئة الكنيسة هنا خطيئة مثلثة. فهي أولا: لم تسع قط منذ تسلمها السلطة إلى تحكيم شريعة الله المنزلة عليهم في التوراة والإنجيل: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1. والسلطان الذي نازعت فيه الملوك والأباطرة وغلبتهم عليه فترة من الوقت كان -كما أشرنا من قبل- فرصة مهيأة لفرض شريعة الله على أولئك الملوك والأباطرة، وإزالة الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتمثل في القانون الروماني من جهة، والإقطاع من جهة أخرى.. كما فعل الإسلام في الأرض التي حررها من السيطرة الرومانية -والسيطرة الفارسية كذلك- فألغى فيها حكم الجاهلية إلغاء كاملًا، وحكم فيها شريعة الله، فعاشت في ظلال العدل الرباني عدة قرون، سواء دخل أهلها في الإسلام أو بقوا على دينهم الذي كانوا عليه قبل الفتح الإسلامي. ولكن البابوات الذين نازعوا الأباطرة سلطانهم -وغلبوهم عليه- لم يفكروا أبدًا في تحكيم شريعة التوراة والإنجيل الواجبة التنفيذ -في إبانها- حتى ينزل الله شريعته الأخيرة فتصبح هي الواجبة التنفيذ.. إنما استخدموا سلطانهم السياسي "أو الدنيوي" كله في إخضاع الأباطرة لنفوذهم الشخصي وأهوائهم الشخصية، وأذلوهم بها أيما إذلال! والخطيئة الثانية هي: صد أوروبا عن الإسلام حين بدأت تتفتح له عن طريق التأثير المصاحب للمبتعثين الأوروبيين العائدين من أرض الإسلام، وموقفها المتعصب الأحمق ضد الدين السماوي المنزل للبشر كافة، وتكليف كتابها بتشويه صورة هذا الدين وتشويه صورة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بتصويره   1 سورة المائدة: 46, 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 بأنه ساحر وأنه كذاب، وأنه همجي وشهواني وسفاك دماء ... إلخ مما لا تزال أوروبا تلوكه بغير وعي إلى هذه اللحظة! والخطيئة الثالثة: أنها لم تكتف بذلك كله بل وقفت موقفًا صريحًا إلى جانب الطواغيت -وهي ممثلة الدين السماوي، دين الرحمة والرأفة- وهددت الثائرين على الظلم باللعنة الأبدية وغضب الرب واتهمتهم بالمروق من الدين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الخلاصة : حين يستعرض الإنسان هذا التاريخ الحافل بالمخازي والخطايا والأخطاء.. من طغيان روحي وفكري ومالي وسياسي وعلمي، وفساد خلقي، وانحراف فكري وسلوكي، ومساندة للظلم في جميع ألوانه، وتخذيل للمصلحين وتخدير للمظلومين، وصد عن سبيل الله، وتشويه لصورة الدين.. هل نعجب من النهاية التي وصلت الأمور إليها من انسلاخ الناس في أوروبا من ذلك الدين ونفورهم منه، وثورتهم على رجاله وإبعادهم له عن كل مجالات الحياة؟ إن الفطرة البشرية لتثور على الظلم وتمجه ولو احتملته عدة قرون! وهذا البطء في قيام رد الفعل هو الذي يغري الطغاة بالاستمرار في طغيانهم، ظانين أن الأمور ستظل في أيديهم أبدًا، وأنها غير قابلة للتغيير. ولكن عبرة التاريخ قائمة لمن يريد أن يعتبر.. وما يعتبر إلا أولو الألباب. أما الطغاة مطموسو البصيرة فأنى لهم أن يعتبروا؟! {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} 1. {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ، وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} 2. وهذا البطء في قيام رد الفعل هو الذي أغرى كذلك بعض "العلماء" أن يقولوا إنه لا توجد فطرة للإنسان! وإن الإنسان ليس له قالب محدد. وإنما هو يصب في أي قالب يراد له فيتشكل بشكله، ويظل قابعًا فيه حتى يصب في قالب جديد3.   1 سورة يونس: 101. 2 سورة إبراهيم: 45، 46. 3 سنناقش هذا الزعم فيما بعد، عند الحديث عن التفسير المادي للتاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ولله في خلقه شئون. وتركيبه للنفس الإنسانية على الصورة التي ركبها عليها فيه حكمة ولا شك.. ولكنا نتحدث هنا عن الواقع التاريخي ودلالاته. إن النفوس تخضع لجبروت الطغيان خوفًا وطمعًا في أول الأمر؛ لأن الطغاة يحمون جبروتهم بشتى وسائل الحماية من ترغيب وترهيب.. ثم تتبلد النفوس من جهة، ويأخذ الطغيان صورة الأمر الواقع من جهة، فيستقر في الأرض فترة تطول أو تقصر، هي التي يتخيل الطغاة فيها أنهم باقون أبدًا، مسيطرون أبدًا، لا يمكن زحزحتهم ولا تبديل الأحوال التي مكنت لهم في الأرض. ثم تبدأ نفوس تتململ.. هي أكثر وعيًا وأكثر حساسية أو أصلب عودا أو أكثر مخاطرة.. أو ما يكون من الأسباب. وهنا يلجأ الطغاة إلى جبروتهم مرة أخرى، ويستخدمون وسائل الإرهاب لوقف هذه الظاهرة "المنكرة" عن الانتشار، وتأديب الخارجين لكي يكونوا عبرة للآخرين. ثم يكون هذا ذاته هو بدء النهاية! يشتد الجبروت وتتولد مقاومة متزايدة له في داخل النفوس بمقدار ما يشتد ويمعن في الطغيان. وفي لحظة معينة يحدث الانفجار.. ويكون كالطوفان! {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 1. ولقد بدأت نذر الثورة على الكنيسة ورجال الدين، وعلى الدين المزيف الذي تقدمه الكنيسة، بدأت منذ عصر النهضة. وبدأ الكتاب يتمردون على سلطان الكنيسة الطاغي ويهاجمون رجال الدين، بل يهاجمون كذلك خرافات هذا الدين الكنسي ومعمياته. ولكنها كانت أصواتًا متناثرة، فظن القوم أنهم قادرون عليها وعلى إسكاتها. ولكن سنة من سنن الله كانت تجري، وما يستطيع أحد أن يوقف سنة الله عن الجريان. كانت هذه الأصوات تهز النائمين ليصحوا.. تزيل عنهم تبلد نفوسهم.. وتزيل ثقلة "الأمر الواقع" من حسهم، وتشعرهم أن التغيير ممكن، وأن هذا   1 سورة الرعد: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الأمر الواقع ليست له صفة الخلود، ولا هو كذلك في منعة من النقد والتجريح. وبذلت الكنيسة جهدها في محاولة إسكات هذه الأصوات، مستخدمة في ذلك نفوذها على قلوب الناس وعقولهم وأرواحهم، وسلطانها "التقليدي" الذي كانت تأمر به فتطاع، وينظر إلى كلمتها على أنها موضع التقديس.. لأنها مرتبطة في حس الجماهير بالدين.. وما أعظم سلطان الدين على النفوس. كما استخدمت محاكم التفتيش حين اشتد فزعها وخافت على ما في يدها من السلطان. ولكن رويدًا رويدًا زادت الأصوات عددًا، وزادت جرأة، وزادت استخفافًا بالجبروت. علماء.. ومفكرون.. وفلاسفة.. ومصلحون.. وحاقدون! حاقدون على سلطان الكنيسة الطاغي وما تتمتع به من المزايا بغير استحقاق.. وكانت العملية بطيئة.. بطيئة.. بطيئة..!! فقد كان حجم الطغيان هائلًا مخيفًا، وكان له في الأرض تمكن طويل يبلغ عدة قرون. ولكن في النهاية حدث الانفجار! وكان بشعًا في شدة انفجاره، بشعًا في سرعة اكتساحه، بشعًا في قسوة الحمم الذي تفجر من بركانه. كانت الثورة الفرنسية بكل ما تضمنت من ألوان العنف والبطش والقتل وإسالة الدماء.. واكتسحت الثورة الفرنسية في طريقها ما كان قد تراكم من المظالم خلال ألف وأربعمائة عام! وأزالت الطبقتين الحاكمتين الطاغيتين المتحالفتين! رجال الإقطاع "الأشراف! " ورجال الدين! ومع ذلك فإن الأمور -في تلك الثورة- لم تسر في مسارها الطبيعي.. فعلى الرغم من كل الظلم المتراكم أكثر من ألف عام، من الإقطاعيين ورجال الدين سواء، وعلى الرغم من كل الحقد المشحون في الصدور تجاه هاتين الطبقتين، وعلى الرغم من وحشية الجماهير حين تتولى هي القيادة. على الرغم من ذلك كله فقد كان يمكن أن تسير الثورة في تمردها وقضائها على الظالمين مسارًا آخر.. لولا أن يدا خبيثة تدخلت لتتجه بالثورة في مسار معين، يخدم أغراضها هي قبل كل شيء آخر. سواء خدم أو لم يخدم أهداف الآخرين! تلك هي يد اليهود.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 التمهيد الثاني: دور اليهود في إفساد أوربا مدخل ... التمهيد الثاني: دور اليهود في إفساد أوروبا اليهود لا ينشئون الأحداث كما يزعمون لأنفسهم وكما يتوهم الذين تبهرهم سيطرة اليهود في الوقت الحاضر. ولكن لا شك أنهم يجيدون انتهاز الفرص واستغلالها لتنفيذ مخططهم الشرير. ولحكمة ما أخرج الله هذه الأمة وناط بها دورًا تؤديه في التاريخ. ومشكلة هذه الأمة كامنة في جبلتها المنحرفة التي لا تستجيب لدواعي الخير ولا تستقيم على الهدى ولا تشرق روحها ببارقة من نور.. جحدوا فضل الله عليهم، وجحدوا أنبياءهم، وجحدوا كل فضل قدمه إليهم أحد من البشر.. وقابلوا كل ذلك بإنكار الجميل أو الطمع والجشع والحسد وقساوة القلب. كرهتهم كل الأمم لخصالهم تلك، فانطووا على أنفسهم، يملأ نفوسهم الحقد الدفين على الأمم كلها، يريدون أن يقضوا على كل شعوب الأرض ليبقوا هم وحدهم، أو يريدون أن يستعبدوا الأمم كلها ويسخروها لمصالحهم. وعقدتهم الكبرى أنهم شعب الله المختار، ومن ثم فينبغي أن يكون بقية البشر خدمًا وعبيدًا لهم، ويكونوا وحدهم هم المسيطرين. ولقد اختارهم الله حقا ذات يوم وكانوا شعب الله المختار. {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} 1.   1 سورة الدخان: 30-33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ولكنهم عند الابتلاء سقطوا، وجحدوا تلك النعمة الهائلة فلم يرعوها حق رعايتها، بل لم يرعوها بشيء على الإطلاق! {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1. فهل ذكروا؟! {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} 2. {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا، وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا، فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا، وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا، فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} 3. تلك صفحتهم السوداء التي أدت إلى نزع العهد منهم ورفع الاختيار عنهم ومنحه لأمة سواهم. ولقد كان هذا الأمر واضحا ومقررا في أمنية إبراهيم عليه السلام ورد الله عز وجل عليه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا   1 سورة البقرة: 47. 2 سورة البقرة: 87. 3 سورة النساء: 153-161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 1. فقد ابتلى الله إبراهيم جملة ابتلاءات كان أشقها وأصعبها أمره له أن يذبح ولده الحبيب إسماعيل، واستجابته هو وولده للابتلاء العظيم: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} 2. فلما أتم إبراهيم الابتلاء وجازه بنجاح كبير كافأه الله على ذلك بجعله إماما للناس. وهنا تحركت في إبراهيم عليه السلام رغبته البشرية في أن يكون هذا الفضل مستمرا في عقبه، وأن يكون العهد باقيا في ذريته لا ينقطع، فهل جامله الله سبحانه وتعالى وهو يصطفيه ويقربه ويجعله خليلا له، بأن أجابه إلى طلبه على إطلاقه؟! كلا! بل جاء الرد حاسما قاطعا، وكان المعنى به هم بنو إسرائيل بالذات: {قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} . فلما اختار الله بني إسرائيل فقد اختارهم للابتلاء: {وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} 3 فكانت نتيجة الابتلاء هي هذا التاريخ الأسود الذي اقترفوه في الأرض، والظلم الذي أنذرهم الله أن يرفع عنهم العهد بسببه ولا يبقيه في أيديهم.. ونزع العهد منهم بالفعل تحقيقا لوعد الله لإبراهيم، وتحقيقا لسنة الله الجارية التي لا تتغير ولا تتبدل ولا تحابي أحدا من البشر. نزع العهد عن "شعب الله المختار" فلم يعد مختارا بعد، ومنح الله فضله ونعمته لأمة أخرى هي التي قال لها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 4 وقال عنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 5.   1 سورة البقرة: 124. 2 سورة الصافات: 99-111. 3 سورة الدخان: 33. 4 سورة المائدة: 3. 5 سورة آل عمران: 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 واشتد الحسد والحقد منذ ذلك الحين. {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} 1. ولقد جهدوا جهدهم كله لمحاولة القضاء على الأمة الإسلامية في مهدها، حتى يئسوا فانكمشوا إلى حين: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} 2. ولكن حقدهم ظل معهم، بل ظل يتزايد على طول الزمان وزاد تصميمهم الخبيث على نشر الشر في الأرض وسحق كل أمة عداهم.. حتى واتتهم الفرصة السانحة في العهد الأخير.. وهنا يخطر السؤال: أليس الله سبحانه وتعالى قد تكفل بقهرهم وتسليط العذاب عليهم إلى قيام الساعة جزاء كفرهم وتبجحهم؟ {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} 3. بلى! ولكن هناك حالات استثنائية في تاريخهم يشير إليها كتاب الله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} 4. بحبل من الله وحبل من الناس ترتفع عنهم الذلة -مؤقتا- ويمكنون في الأرض، لحكمة وغاية يريدها الله.. ثم يعودون إلى الوعد المستمر: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} ، {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} والآن هم في هذه الفترة الاستثنائية التي أشارت إليها الآية الكريمة من سورة آل عمران. ولئن كان مخططهم هو استعباد البشرية كلها وسحقها تحت أقدامهم، ولئن كان الإسلام عدوهم الأول الذي يحقدون عليه الحقد الأشد، فما كانوا -حين بدءوا ينشطون نشاطهم الضاري في التاريخ الحديث- ما كانوا يجدون   1 سورة البقرة: 109. 2 سورة المائدة: 3. 3 سورة الأعراف: 167. 4 سورة آل عمران: 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الفرصة السانحة للانقضاض على الإسلام، فبدءوا بأوروبا، إذ وجدوها أيسر منالا لما كان في حياتهم من الثغرات التي أحدثتها الكنيسة بحماقاتها وخطاياها، فيسرت لليهود أن يخرجوا من أجحارهم ويعيثوا فسادا في الأرض. والآن فلننظر كيف تحرك اليهود لتنفيذ مخططهم الشرير، انتهازا للفرصة السانحة واستغلالا للأحداث الجارية، لا إنشاء للأحداث كما يدعون عن أنفسهم، وكما يرسمهم من يهول من مقدرتهم الشريرة من أمثال "وليم كار" مؤلف الكتاب الشهير "أحجار على رقعة الشطرنج" الذي ينسب فيه كل أحداث التاريخ لفعل اليهود! يقول التلمود1 لليهود: الأمميون "أي: كل الأمم غير اليهود" هم الحمير "دواب الحمل" الذين خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار, وكلما نفق منهم حمار ركبنا حمارا آخر ... وبصرف النظر عن وقاحة التعبير وغلظته فهو واضح الدلالة على هذا الكبر الذي وصفه الله فيهم: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ... } فانهم إذا كانوا يستكبرون على الرسل فكيف يكون استكبارهم وغطرستهم وصلفهم على البشر من غير الأنبياء؟! ثم يصف لهم التلمود كيف ينبغي لشعب الله المختار أن يعامل الأمميين! "اقتل الصالح من غير الإسرائيليين. ومحرم على اليهودي أن ينجي أحدا من باقي الأمم من هلاك أو يخرجه من حفرة يقع فيها؛ لأنه بذلك يكون حفظ حياة أحد الوثنيين"2. "إذا سرق أولاد نوح -أي: غير اليهود- شيئا ولو كانت قيمته طفيفة جدا يستحقون الموت؛ لأنهم خالفوا الوصايا التي أعطاها الله لهم، أما اليهود فمصرح لهم أن يضروا الأمي"3. "إن تجارة البغاء بالأجنبي والأجنبية ليست إثما؛ لأن الشريعة براء منها"4.   1 التلمود هو كتاب اليهود "المقدس" غير المنزل، إنما هو من تأليف حكمائهم وله عندهم قداسة أكثر من الكتاب المنزل!! 2 الكنز المرصود ص 84, 85. د. روهلنج وآخر، ترجمة يوسف حنا نصر الله، بيروت. 3 الكنز المرصود، ص 72, 73. 4 همجية التعاليم الصهيونية، بولس حنا سعد، دار الكتاب العربي، بيروت، ص173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وهذه التعاليم أكثر قداسة عندهم من التعاليم الواردة في كتاب الله المنزل، التي تدعو إلى البر والخير الذي لم يطيقوه أبدا ولم يطبقوه في حياتهم أبدا، إلا قليل منهم، وهذا هو الذي أشار إليه القرآن الكريم: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1. فهم يدعون على الله أنه أذن لهم أن يعاملوا الأميين "وهم الأمميون في التعبير الآخر" على هذا النحو, وهم يعلمون أنهم يكذبون على الله، ثم يطيعون الكذب الذي يعلمون كذبه، ويعرضون عن الصدق الذي يعلمون أنه الحق! وإذ كان مخططهم هو استعباد البشرية و"استحمارها" وتسخيرها لمصالحهم، فقد علموا أن أنجح الوسائل لذلك هي نزع عقائد الأممين وإفساد أخلاقهم. يقول القرآن عنهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 2. ورغم أن هذا القول نازل فيهم، فقد وعوه وطبقوه على غيرهم! إن العبرة في الآية الكريمة أن الأمة التي أنزل الله كتابا من عنده لتحكمه في شئون حياتها وتجري حياتها بمقتضاه ثم أعرضت عنه ونبذته، تفقد آدميتها وتتحول إلى دواب كالحمير، وهو نفس المعنى الذي تحمله الآية: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 3. وإذ وعى اليهود هذه الحكمة من قديم -وإن كانوا يستثنون منها أنفسهم باعتبارهم شعب الله المختار! - فهم يسعون أبدا إلى نشر الفساد في الأرض، الفساد العقيدي والفساد الخلقي.. وكل أنواع الفساد: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 4. تقول البروتوكولات:   1 سورة آل عمران: 75. 2 سورة الجمعة: 5. 3 سورة الأعراف: 179. 4 سورة المائدة: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 "يجب علينا أن ننزع فكرة الله ذاتها من عقول غير اليهود، وأن نضع مكانها عمليات حسابية وضرورات مادية"1. "ومن المسيحيين أناس قد أضلتهم الخمر وانقلب شبابهم مجانين بالكلاسيكيات والمجون المبكر الذي أغراهم به وكلاؤنا ومعلمونا وخدمنا، ونساؤنا في أماكن لهوهم والراغبات من زملائهن في الفساد والترف"2. وهذا هو المخطط الشرير. ولقد ظل اليهود قرونا طويلة يسعون إلى تحقيق هذا المخطط ويحلمون باليوم الذي يجردون فيه الأمم كلها من دينها، ليبقى شعب الله المختار وحده هو صاحب الكتاب وصاحب الدين.. وعندئذ يتحقق الوعد المزعوم ويحكمون كل البشرية! ولكن هذا السعي ظل خائبا عدة قرون سواء في العالم الإسلامي أو العالم المسيحي -رغم كل محاولاتهم الشريرة في القضاء عليهما- حتى سنحت الفرصة الكبرى أمامهم حين أخذت أوروبا تنسلخ من دينها وتسعى إلى "التحرر" من ذلك الدين. هناك واتت الفرصة المرتقبة منذ قرون. لا لأن اليهود دبروا الأحداث -كما يزعمون في البروتوكولات- ولا لأن تراكم التخطيط عبر القرون قد آتى ثماره آخر الأمر كما يرى أمثال وليم كار في كتاب الأحجار.. ولكن لأن أوروبا هي التي "استحمرت" نفسها لشعب الله المختار حين فرت من الدين {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} 3. لو ظلت أوروبا ذات دين وعقيدة ما استطاع اليهود أن يصنعوا ما صنعوا ولا أن يفسدوا ما أفسدوا. صحيح أن العقيدة التي قدمتها الكنيسة -أو قدمها بولس اليهودي الأصل- إلى أوروبا كانت فاسدة منذ أول لحظة، وأن الدين الذي نشرته الكنيسة لم يكن هو دين الله المنزل.. وأنه منذ اللحظة الأولى كان يحمل الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها أولياء الشيطان. ولكن شدة تمسك أوروبا بعقيدتها -رغم فسادها- قد جمد محاولات اليهود لتنفيذ الخطط الشريرة فترة طويلة، رغم أنهم لم يكفوا عن المحاولة خلال تلك القرون كما يقول -بحق- وليم كار في   1 البروتوكول الرابع. 2 سورة المدثر: 50, 51. 3 البروتوكول الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 كتاب "أحجار على رقعة الشطرنج". لقد كانت العقيدة فاسدة نعم ولكنها كانت تدعو الناس إلى الفضيلة وتحذرهم من حبائل الشيطان وتحذرهم من فتنة الجنس خاصة، وتصل بهم إلى درجة التزمت والرهبانية، والجنس من أشد أدوات اليهود فعالية في إفساد الأمميين! كانت الأسرة متماسكة والشباب -في الغالب- يتزوج مبكرا والاختلاط محدود، ودواعي الجريمة محدودة، والحياة بسيطة أقرب إلى الشظف وعيش الكفاف ... وفي مثل هذا الجو ماذا يملك اليهود مهما كانت براعتهم في الشر؟! لقد كان أقصى ما يفعلون هو جمع المال، وإقراضه بالربا الفاحش للمحتاجين، وإيقاع أمراء الإقطاع في الدين ليستولوا في النهاية على ثرواتهم. ولكن تأثيرهم في مجموع الناس كان معدوما أو ضئيلا إلى أقصى حد، خاصة واليهود في أوروبا في ذلك الحين محتقرون مهينون, فوق البغضاء الموجهة إليهم والاضطهاد الحائق بهم على أساس أنهم قتلة المسيح كما يعتقد المسيحيون! ولكن الحماقات المتوالية للكنيسة والخطايا التي ارتكبتها في حق الدين وحق الناس هي التي صدعت الكيان الديني في النهاية وأوجدت الثغرات الواسعة التي نفذ منها الشريرون. منذ بدء "النهضة" وجدت الثغرات التي تمناها اليهود وجلسوا في انتظارها عدة قرون. فقد قامت تلك النهضة منذ مبدئها على أسس إغريقية رومانية غير مسيحية، بل إنها في الواقع قامت على أسس مضادة للمسيحية معادية لها، وإن كانت لم تستطع أن تخوض المعركة الحاسمة مع المسيحية إلا بعد ذلك بأجيال، ظلت الكنيسة خلالها ذات نفوذ واسع على الجماهير على أقل تقدير. ويوما بعد يوم كانت تقترب اللحظة التي يمكن أن ينهار فيها سلطان الكنيسة ويصبح دينها الذي فرضته على الناس عديم السلطان أو ضعيف التأثير. وفي الثورة الفرنسية وقع ذلك الانفجار الحاد، الذي دوى في أرجاء أوروبا كلها فأودى بالإقطاع وزلزل كيان الدين. ومع ذلك فقد كان من الممكن أن تسير الثورة في مسار آخر لو لم يتدخل ذلك العنصر الشرير في توجيه الأحداث وجهة معينة تخدم أهدافه الخاصة بصرف النظر عن أهداف الثائرين! كانت أهداف الثائرين هي القضاء على ذينك الحليفين الطاغيين المستبدين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 رجال الإقطاع "الأشراف! " ورجال الدين. وكان الإقطاع شرا خالصا فكان ينبغي أن يزول، وكان الدين الذي تقدمه الكنيسة وتطغى به على الناس يحوي بعض الحقائق وكثيرا من الأباطيل، فكان يمكن أن تصحح أباطيله، ويستبدل به الدين الحق، الخالي أساسا من الأباطيل. ولكن اليهود حين دخلوا في الأمر لم يدعوا الفرصة لتصحيح الدين.. وإنما اهتبلوها فرصة سانحة لتحطيم الدين! وهذا هو الدور الحقيقي الذي لعبوه في الثورة الفرنسية، لا أنهم هم الذين أنشئوها كما يزعمون في البروتوكولات، ويتابعهم في زعمهم وليم كار في كتاب الأحجار. حقيقة إن المحافل الماسونية المنتشرة في فرنسا في ذلك الوقت هي التي قامت بالتحضير للثورة، وهي التي رفعت شعاراتها الخاصة -الحرية والإخاء والمساواة- شعارات للثورة الفرنسية، على غير وعي من "الأمميين" الذين قاموا بها! وإن بعض الخطباء من اليهود اشتركوا في إلهاب حماسة الجماهير وتفجير الغضب المكبوت.. ولكن هل كان في طوق اليهود -مهما فعلوا، ومهما تكن براعتهم الشريرة- أن يشعلوا الثورة لو لم تكن خاماتها موجودة في النفوس ومستعدة للاشتعال؟! أما دخول اليهود في الثورة فقد كان لتحقيق هدفين كبيرين من أهدافهم الخاصة: أحدهما كانت الثورة تتجه إليه من تلقاء ذاتها، والثاني كانت وجهة الثورة فيه تيسر لهم الوصول إلى هدفهم الخاص حين يستغلون الأحداث على طريقتهم الشريرة في استغلال الأحداث. فأما الهدف الأول فقد كان تحطيم الإقطاع وهذا كان يوافق هدفا مرحليا خاصا لليهود. وأما الهدف الثاني فقد كان تحطيم نفوذ الكنيسة ورجال الدين، وهذا الذي حوله اليهود -لحسابهم الخاص- إلى تحطيم لذات الدين. كان لليهود أكثر من مصلحة في تحطيم الإقطاع، فلا عجب أن يدخلوا في الثورة التي رأوها متجهة -من تلقاء نفسها- إلى تحطيمه. كانت الثورة الصناعية تدق الأبواب.. وكان اليهود يقدرون لأنفسهم فيها أرباحا طائلة عن طريق الإقراض بالربا. فمنذ مولدها واحتياجها إلى المال لتمويل الصناعة الناشئة، سقطت فريسة في يد اليهود. وما تزال حتى هذه اللحظة في أيديهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 كان المال الوفير الذي يصلح لتمويل الثورة الصناعية في يد طائفتين اثنتين في ذلك الحين: طائفة أمراء الإقطاع وطائفة المرابين من اليهود. فأما أمراء الإقطاع فقد رفضوا تمويل الصناعة الناشئة وأبوا أن ينقلوا أموالهم من دورتها الزراعية المألوفة لديهم، والمضمونة الربح لهم، إلى عملية جديدة لا يعرفونها، ولا يطمئنون إليها لعدم تمرسهم بها، خاصة وأن كثيرا من العمليات الصناعية كان يفلس في مبدأ الأمر بسبب نفص الخبرة أو عدم توفر الأسواق أو عدم وجود المواصلات الميسرة؛ أو عدم إقبال الناس على الأشياء المصنوعة بالآلة وتفضيل المصنوعات اليدوية عليها بحكم الألفة الطويلة، وعلى أساس أن استخدام المصنوعات الآلية سيمحق البركة من حياتهم؛ لأن فيه أصبعا من أصابع الشيطان! عندئذ تقدم اليهود لتمويل تلك الصناعات مرحبين؛ لأنهم -على طريقتهم- لا يخسرون شيئا سواء ربحت الصناعة أو خسرت أو أفلست إفلاسا كاملا، ذلك أنهم لا يشتركون اشتراكا مباشرا برءوس أموالهم، وإنما يقرضون أصحاب الصناعات بالربا الفاحش مقابل ضمانات تضمن لهم رجوع أموالهم إليهم مع الفوائد المضاعفة دون أن يتعرضوا للخسائر التي كانت تتعرض لها الصناعة الناشئة في ذلك الوقت في كثير من الأحيان. وفكرة المصرف "البنك" فكرة يهودية بحتة، تقوم على تشجيع الناس على إيداع أموالهم -أو ارتهانها- لديهم مقابل إعطائهم صكوكا بها، بينما يشغلون هم هذه الأموال في عمليات إقراض ربوية يربحون عن طريقها الكثير، فيعطون المودعين جزءا من هذه الأرباح ويستأثرون هم بمعظمها دون مخاطرة ولا جهد يذكر! وهكذا أصبحت لليهود مصلحة أكيدة في قيام الثورة الصناعية لما تدره عليهم من أرباح لم يكونوا ليحصلوا على مثلها من قبل من أمراء الإقطاع، بالإضافة إلى الجلوس في مقعد السيطرة بدلا من الذل المهين الذي كانوا يعاملون به في عهد الإقطاع حتى وهم يقومون بإقراض المال للطالبين! واقراء إن شئت وصفا قصصيا لهذه الأوضاع في قصة "الزنبقة القرمزية" تأليف البارونة أورتسى حيث يطلب أمير الإقطاعية قرضا من المرابي اليهودي، فإذا جاء هذا يسلمه القرض المطلوب وهو ينحني أمامه في ذلة "ولا ضير عندهم في التذلل ما دام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وراءه ربح! " إذا الإقطاعي ينهره؛ لأنه يمد يده إليه بالمال، ويقول له: لا تدنس يدي بلمسها بيدك! ضع المال هنا "مشيرا إلى مكان معين" وسأستلمه أنا من ذلك المكان بعد انصرافك أيها اللعين!! ولكن العقبة أمام الصناعة الناشئة لم تكن عقبة التمويل فحسب، وهي بالنسبة لهم لم تكن عقبة بل كانت مصدر ربح وفير، إنما كانت العقبة الكبرى هي توفير العمال اللازمين للصناعة.. فقد كان العمال في الريف يحتجزهم الإقطاع، سواء كانوا عبيدا للسيد أو عبيدا للأرض، أو من العمال الزراعيين الأحرار وهم قلة قليلة إلى جوار العبيد والأقنان، وكلهم لا يمكلون الانتقال إلى حيث تقوم الصناعات -بالضرورة- في المدينة، حيث توجد الأسواق المعقولة لتصريف المنتجات الصناعية. ومن ثم كان لا بد من تحطيم الإقطاع لتحرير العبيد -عبيد السيد وعبيد الأرض- وتقرير "حق الانتقال" لكل من يريد، وهو حق لم يكن قائما في ظل الإقطاع. وهذا الهدف -وهو تحرير العبيد لتوفير العمال اللازمين للصناعة في المدن- لم يكن في حساب الثائرين ولا شك يوم قاموا بثورتهم العنيفة ضد مظالم الإقطاع، ولكنه كان هدفا واعيا للرأسمالية القائمة في أحضان اليهود منذ أول لحظة، أي: إنه كان هدفا واعيا في تخطيط اليهود، ومن أجله شاركوا في الثورة الفرنسية وقامت مؤسساتهم الماسونية لها بدور التحضير، أو التفجير! 1 أما الدين فلم تكن قصته كذلك. كان الثوار ينقمون على رجال الدين طغيانهم الذي أذلوا به الناس عبر القرون، كما كانوا ينقمون عليهم مساندتهم لأمراء الإقطاع ضد دعوات التحرير من الظلم، وكانوا يريدون أن يتحرروا من ذلك الطغيان ومن تلك المساندة الظالمة للطغاة ولكنهم لو تركوا لأنفسهم دون تدخل الأشرار لتوجيه الثورة لحسابهم الخاص، فلربما اكتفوا بقتل من قتلوا من رجال الدين دون التوجه لقتل الدين ذاته، أو لربما طالبوا بالإصلاح الديني الذي يدع الناس أحرارا في عبادتهم ويزيل عن البابا ورجال الدين قداستهم ويصحح العقيدة من انحرافها وينفي الأباطيل والمعميات عنها.   1 أشرنا من قبل أكثر من مرة إلى أن مشاركة اليهود في الثورة أو تحريكها للتفجر ليس معناه أنهم هم الذين أنشئوها إنشاءكما يزعمون؛ لأنهم ما كانوا ليستطيعوا إيجادها من العدم، ولا كانوا يستطيعون إشعالها لو لم تكن هي من ذاتها قابلة للاشتعال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ولكن التدبير اليهودي كان يسعى إلى تحطيم الدين في أوروبا جملة لتحقيق مرحلة من مراحل المخطط الشرير الذي يهدف إلى تجريد "الأمميين" جميعا من عقائدهم وأخلاقهم، لأجل "استحمارهم" والسيطرة عليهم، وتسخيرهم لشعب الله المختار. بالإضافة2 إلى الانتقال الشخصي من الدين الذي اضطهدهم واستذلهم على اعتبار أنهم قتلوا "الرب" المعبود في ذلك الدين وصلبوه! لذلك سعوا بجمعياتهم الماسونية المنبثة في أنحاء فرنسا، وبخطبائهم وكتابهم إلى توجيه غضب الجماهير المجنونة نحو الدين ذاته لا نحو رجاله فحسب ... وكان أن أعلنت في "فرنسا الثورة" أول حكومة لا دينية في العالم المسيحي لا تجعل الدين أساسا لأي شيء في حياة الناس. وكانت خطوة جريئة وجبارة بلا شك، جلس اليهود يفركون أيديهم سرورا بها في غفلة من الأمميين، الملتهين -حسبما تقرر البروتوكولات- بشعارات "الحرية والإخاء والمساواة" والغارقين في شرب الكأس حتى الثمالة، المنتشين بما صار في أيديهم -فجأة- من سلطان يقتلون به الملوك والأشراف ورجال الدين، وكل من حامت حوله شبهة من قريب أو من بعيد، أو أشارت إليه الجماهير المجنونة بأصبعها: خائن! أو جاسوس! وهكذا خرج "الأمميون" الثائرون بشيء من النفع المشوب بكثير من الشر، بينما خرج اليهود بتحقيق أهدافهم كاملة سواء في تحطيم الإقطاع لترسيخ قدم الرأسمالية المولودة في أيديهم، أو تحطيم الدين تمهيدا "لاستحمار" أوروبا وتسخيرها لمصلحة اليهود. كانت الثورة الفرنسية حدثا ضخما في حياة أوروبا دون شك، لا للأسباب التي يدرسونها للأولاد في المدارس، ولكن لأسباب أخرى أخطر وأهم.. فقد أطلقت يد اليهود لتحقيق مخططاتهم الشريرة بصورة لم تكن متاحة لهم من قبل في عهد الإقطاع.. فقد ولد من جراء الثورة الفرنسية والثورة الصناعية التي كانت الأولى تحضيرا وتمهيدا لها، مجتمع جديد كل الجدة عن المجتمع الإقطاعي، استطاع اليهود أن يعيثوا فيه فسادا بكل قوتهم؛ لأنه ولد في أيديهم من اللحظة الأولى فاستطاعوا أن يشكلوه على النحو الذي يريدون، إذ كانوا هم -عن طريق البنوك والإقراض بالربا- ممولي الرأسمالية وسادتها المسيطرين عليها، والمسيطرين -من خلالها- على صياغة المجتمع الجديد بكل ما فيه من عقائد وتصورات وأفكار وسلوك.. وإذ كان "الأمميون" في أوروبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قد بدءوا ينسلخون من دينهم ويسلمون قيادهم للشيطان! وسنتحدث فيما بعد عن "الحتميات" التي زعمها التفسير المادي للتاريخ لتفسير الانتقال من طور في حياة البشرية إلى طور, وخاصة الانتقال من الطور الزراعي إلى الطور الصناعي، وسنرى عند الحديث عنها أنها حتميات زائفة، وأنها ليست هي -أو ليست هي وحدها- التي تحرك حياة البشر على الأرض، وتنقل خطاها من طور إلى طور، وأنه لم يكن من الحتم على الإطلاق أن تكون صورة المجتمع الرأسمالي الصناعي هي الصورة التي كان عليها بالفعل لولا التخطيط الشرير الذي شكلها على هذه الصورة1. استطاع اليهود -بعبقريتهم الشريرة- أن يتسلموا قياد المجتمع الأوروبي الآخذ في الانسلاخ من دينه بتأثير انحرافات الكنيسة الأوروبية وجرائمها وخطاياها فينشئوا على أنقاض المجتمع الإقطاعي المنهار مجتمعا جديدا بلا دين ولا أخلاق ولا تقاليد.. وقد سلطوا على هذا المجتمع كل قواهم الشريرة لينشئوه على هذه الصورة، فوضعوه بين ذراعي كماشة هائلة تعصره عصرا وتفتت كيانه وتحيله كيانا ممسوخا مشوها بلا قوام! إحدى ذراعي الكماشة كانت نظريات "علمية! " زائفة، تحارب الدين والأخلاق والتقاليد من كل زاوية مستطاعة، تحتوي -لا شك- على شيء من الحق، ولكنها تلبس الحق بالباطل على ديدن يهود من أول التاريخ: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3 وكان أبرز "الأبطال" في هذه المعركة ثلاثة من "أساطين" اليهود هم ماركس وفرويد ودركايم..   1 الحتمية الوحيدة في هذا الوجود كله هي حتمية السنن الربانية. وما حدث بالفعل في هذا الكون فقد كان محتم الوقوع في قدر الله، ولكن قدر الله يجري في الأرض من خلال أعمال البشر إن خيرا فخير وإن شرا فشر: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم: 41] ولكن قدر الله لا يفرض الفساد على الناس، إنما يرتب على الفساد نتائجه وعلى الصلاح نتائجه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [سورة المائدة: 65, 66] {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف: 96] . 2 سورة البقرة: 42. 3 سورة آل عمران: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وأما الذراع الأخرى للكماشة فكانت واقعا فعليا يقوم من أول لحظة على عداء مع الدين والأخلاق والتقاليد، ويظل ينزلق خطوة خطوة، كل خطوة تؤدي إلى ما بعدها كأنما بصورة تلقائية "ومن طبيعة المنزلق أن يهوي بصاحبه إلى الهاوية ما دام قد سار فيه" وتؤدي في النهاية إلى الانسلاخ الكامل من كل مقومات الدين. وكان اللاعب الأكبر في هذه العملية الضخمة هو المرأة "المتحررة" اقتصاديا، والمتحللة في ذات الوقت من سلطان الدين والأخلاق والتقاليد.. وفيما يلي نتحدث عن كل من الذراعين الشريرتين، وآثارها في إفساد المجتمع الأوروبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 3- النظريات العلمية : دارون ونظرية التطور : ليس دارون يهوديا، فقد ولد لأبوين مسيحيين، ولكن اليهود استغلوا نظريته على نطاق واسع وعملوا على نشرها في الأرض لما رأوه من إمكان الاستفادة بها في تحطيم عقائد الأمميين كما تقول البروتوكولات: لقد رتبنا نجاح نيتشه ودارون وإن تأثير أفكارهما على عقائد الأمميين واضح لنا بكل تأكيد. فلا عجب إذن أن تجد نظريته تدرس في معظم مدارس الأرض لا على أنها فرض علمي "كما هي في حقيقتها" ولا حتى على أساس أنها "نظرية" علمية "أي: لم تثبت ثبوتا قاطعا يرشحها لأن تكون حقيقة علمية" بل على أنها حقائق نهائية في علم الحياة! ولد دارون في بريطانيا عام 1809، وفي سنة 1859 أصدر كتابه في "أصل الأنواع". وقد كان متخصصا في علم الحياة، وأدت به ملاحظاته العلمية إلى أن يكتشف أنه يمكن عن طريق "الانتخاب الصناعي" تأكيد صفات معينة أو إضعافها في النسل الناتج من زوجين منتخبين بصفات معينة، وأنه يحدث مثل ذلك في "الطبيعة" عن طريق الانتخاب الطبيعي, أي: التزاوج الحر بين الكائنات الحية.. وأن التغيير الناشئ من هذا الانتخاب يمكن أن يصل إلى حد استحداث صفات جديدة لم تكن في أي من الأبوين كطول المنقار في بعض الطيور، أو الألوان الزاهية في بعضها الآخر أو غير ذلك من الصفات.. فافترض أن مثل هذه التغيرات قد حدثت في "الطبيعة" من قبل خلال ملايين السنين من عمر الحياة على سطح الأرض، مما أدى على الدوام إلى ظهور "أنواع" جديدة وأدى كذلك -بتراكم التغيرات- إلى ظهور "أجناس" جديدة لم يكن لها وجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 من قبل ... ثم تصور أنه من خلال هذه العملية التي سماها عملية "التطور" سارت الحياة في سلسلة طويلة من الرقي التدريجي بدأت بالكائن الوحيد الخلية وانتهت بالإنسان على النحو التالي "باختصار كثير من التفصيلات". كائن وحيد الخلية "كالأميبا", فطريات متعددة الخلايا, نبات, نبات يشبه الحيوان "كالهيدرا", حيوان يشبه النبات "كالمرجان", حيوانات لا فقارية, حيوانات فقارية دنيا "كالأسماك والطيور", حيوانات فقارية أرقى "كالثدييات الدنيا", الثدييات العليا, القردة الدنيا, القردة العليا "الغوريلا والأورانج أوتانج "إنسان الغاب" والشمبانزي والجبيبون", الحلقة المفقودة "القرد الشبيه بالإنسان أو الإنسان الشبيه بالقردة العليا", الإنسان. وقال دارون -فيما قال وهو يشرح نظريته: إن الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق Nature creates everything and there is no limit to its creativity. وقال كذلك: "إن الطبيعة تخبط خبط عشواء". nature works haphazardly. وبصرف النظر عن صحة المعلومات الواردة في نظريته وصحة تفسيراته لها أو عدم صحتها1، فقد أنشأت رجة كبيرة في المجتمع الغربي، اهتزت لها الكنيسة من جهة2 والدوائر العلمية من جهة أخرى والجماهير من جهة ثالثة. فأما الكنيسة فقد كفرت دارون ابتداء, وقالت عنه إنه زنديق مهرطق مارق من الدين؛ لأنه ينفي الخلق المباشر من الله للإنسان على صورته "تفسير الكنيسة كلمة "على صورته" الواردة في التوراة على أن الله قد خلق الإنسان على صورة نفسه -تعالى- أي: على صورة الله" بل ينفي يد الله من عملية والخلق كله كما ينفي الغاية   1 لا ندخل في نقاش مع نظرية دارون فهذا مجاله الكتب العلمية المتخصصة في علم الحياة وتفسير الظواهر المتصلة بالكائنات الحية، ولكنا نذكر فقط أن هناك علماء آخرين لهم قدم راسخة في مجال البحث العلمي يعارضون دارون معارضة تامة في تفسيره لظاهرة نشوء الحياة وتطورها. كما أن علم "الجينات" "المورثات" يميل إلى اعتبار الصفات الخاصة بكل جنس ثابتة وغير قابلة للنقص أو الزيادة مما يعارض فكرة نشوء الأجناس الجديدة من الأنواع المتطورة بتغير صفاتها الوراثية تغيرا جذريا ينقلها إلى جنس جديد "كنشأة الفقاريات من اللافقاريات أو نشأة القرود من الثدييات العليا أو نشأة الإنسان من القردة العليا" كما أن "الدروينية الحديثة New Darwinism ذاتها تقرر تفرد الإنسان عن بقية الحيوانات تفردا جوهريا. 2 إذا كانت الثورة الفرنسية قد قضت على نفوذ رجال الدين في فرنسا فليس معنى هذا أن الكنيسة قد فقدت وجودها تماما في ذلك الحين وخاصة خارج فرنسا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 والقصد لأنه يقرر أن الحياة قد وجدت على الأرض بالصدفة في ظروف معينة "لم تتكرر مرة أخرى"! وأن تفسير الحياة وتطورها بإرجاعها للإرادة الإلهية يكون بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت! this would be to introduce a supernatural element in a completely mechanical position. وقد جاوبها دارون من ناحيته باتهامها بالجهل والتخريف ومحاربة العلم بحقائقه ونظرياته. وأما العلماء فقد انقسموا إلى ثلاث فرق: فرقة تؤيد دارون وتتحمس له، وفرقة تعارضه وتندد به، وفرقة تحاول التوفيق بين ما تقوله النظرية وما يقوله الدين! وأما الجماهير فقد وقفت في مبدأ الأمر موقفا حاسما مع الكنيسة ضد دارون! فقد عز عليها أن يسلبها دارون إنسانيتها ويردها إلى أصل حيواني، وينفي التكريم الرباني الذي كرم به الله الإنسان حين خلقه على صورته، وزينه بالعقل وميزه بالقدرة على النطق.. ولكنها رويدا رويدا بدأت تغير موقفها، وتعتنق أفكار دارون، وتتغاضى عن مسبة الحيوانية التي ألحقها بها في نظريته، بل بدأت تهاجم الكنيسة لموقفها من دارون وترى في نظريته معولا هداما يهدم ما بقي لها عليهم من سلطان؟ هل تم هذا التحول في موقف الجماهير تلقائيا أم كان وراءه ذلك العنصر الشرير؟ وهل كان يمكن -لولا ذلك التدخل الشرير- أن يتغاضى الناس عن إنسانيتهم المسلوبة وعن كرامتهم الملغاة، ويعتنقوا نظرية تقرر صراحة أن الإنسان إن هو إلا امتداد لسلسلة التطور الحيواني، لا قصد من خلقه ولا غاية، وما يزيد عن القردة إلا ما أضافه التطور خلال مئات الألوف من السنين من تغير عشوائي غير مقصود؟! حقيقة أن "العلماء" هم الذين بدءوا باعتناق نظرية دارون، ثم تبعتهم الجماهير. ولكن هؤلاء وهؤلاء ما كانوا ليفعلوا ذلك لولا عنصران قائمان في الموقف، عنصران غير "علميين": أحدهما موقف الكنيسة الطغياني من الأمور كلها ومن العلم والعلماء خاصة، والآخر هو الدعاية الضخمة التي قام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 بها اليهود للنظرية ولإيحاءاتها المصادمة للعقيدة بصفة خاصة. ومرة أخرى لا نتعرض هنا للنظرية بالنقد. وإن كنا سنشير فيما بعد إلى آراء الدارونية الحديثة نفسها في هذا الأمر، بعد ما تقدم العلم كثيرا عما كان عليه أيام دارون، وكشف عن أشياء لم تكن مكشوفة له في ذلك الحين، إنما نتكلم عن إيحاءاتها المصادمة للعقيدة. إن النظرية -بصرف النظر عن صحتها أو عدم صحتها من الوجهة العلمية البحتة- لم يكن من الحتم أن تصاغ بالطريقة التي تصادم العقيدة لولا ذلك الصراع القديم الذي قام بين الكنيسة والعلماء واستمر إلى وقت دارون وما بعده، وجعل "العلماء" يتعمدون تجريح الدين ورجاله انتقاما مما فعلته الكنيسة من قبل، كما جعل أوروبا تهرب من إله الكنيسة وتضع "الطبيعة" إلها بدلا منه! لو قال دارون إن الله حين خلق الحياة على الأرض هيأ لها ظروفا معنية تساعد على وجود الخلية الحية ونموها واستمرارها، ثم نوع الله الخلائق على نسق معين بدءا من الكائن الوحيد الخلية إلى أكثر الخلائق رقيا وتعقيدا وهو الإنسان، وإن قمة الإعجاز في الخلق -والخلق كله معجز- هو خلق الإنسان على هذه الصورة وإمداده بالمزايا التي تؤهله للقيام بدوره على الأرض1. لو قال هذا، ثم أورد كل ما أورده من التفصيلات العلمية التي أتى بها في نظريته -بصرف النظر عن صحتها أو خطئها من الناحية العلمية- فماذا كان يمكن أن يحدث؟! كانت النظرية تظل موضع أخذ ورد بين العلماء للاستيثاق من صحة تلك التفصيلات، كما يحدث مع أي فرض علمي أو نظرية علمية، حتى تمحص وتثبت حقيقتها ولكن دون رجة ولا ضجة ولا هزات. ولكنه -لأمر ما- لم يقل ذلك ولم يرد أن يقوله!   1 هذا الذي أثبتته الداروينية الحديثة فيما بعد، وإن كانت ما تزال في خصامها التقليدي مع الدين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 إنما قال بدلا منه إن "الطبيعة" هي التي خلقت. وقال إنها تخبط خبط عشواء. وقال إنه يرفض تفسير نشوء الحياة وتطورها بإرجاع ذلك إلى الإرادة الإلهية؛ لأن ذلك خلط علمي غير جائز، وإنه بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت! ثم تحايل على الحرج الذي يواجهه ويواجه كل منكر للإرادة الإلهية في قضية الخلق كله، وخلق الحياة أول مرة من الموات، والذي يوجه إليه هذا التحدي: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 1 تحايل على ذلك تحايلا سخيفا -من وجهة النظر العلمية البحتة- فقال إن الحياة نشأت صدفة على الأرض!! ومن ثم وجدت فيه اليهودية المتربصة فرصة سانحة لتقويض عقائد "الأمميين" وإزالة ما بقي من أثر للدين في حياة الناس! وينبغي -لكي ندرك دور اليهود في إفساد أوروبا دون تهويل في تقدير مقدرتهم الشريرة كما فعل وليم كار, أن نقول إن عالما سابقا هو "لامارك" la marke كان قد قال شيئا قريبا مما قال دارون، ولكن اليهود لم يستطيعوا استغلال نظريته لتقويض عقائد الأمميين كما فعلوا بنظرية دارون؛ لأن الحدث العظيم الذي رج المجتمع الأوروبي كله -وهو الثورة الفرنسية- لم يكن قد وقع بعد، وكان المجتمع -على كل ما كان يحمل من الفساد والظلم- ما يزال متماسكا بالصورة التي لا تدع لليهود فرصة الدخول، فعجزوا يومئذ عن الدخول! ولكن الرجة التي أحدثتها الثورة الفرنسية -التي اشتركوا هم في توجيهها وجهة معينة- هي التي قربت الهدف وأحدثت الثغرات التي يمكن أن ينفذوا منها. فلما قام دارون تلقفوه وأمسكوا به معولا هائلا لتحطيم كل القيم في حياة البشرية. أيا كان القول في نظرية دارون من الوجهة العلمية، فقد كانت نظرية محصورة في "علم الحياة" تحاول أن تفسر نشأة الحياة وتطورها، فلم تكن نظرية فلسفية، ولا سياسية، ولا اقتصادية، ولا اجتماعية، ولا نفسية ...   1 سورة الطور: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ولكنها انقلبت -في فترة وجيزة من الزمن- فأصبحت كل هؤلاء! وحقيقة أن من أراد يستخرج منها إيحاءات فلسفية أو غير فلسفية فإنه يستطيع.. فالنظرية التي تقرر حيوانية الإنسان وماديته "بمعنى أن الظروف المادية المحيطة به هي التي أثرت في "تطوره" وإعطائه صورته" والتي تنفي القصد والغاية من خلقه، وتنفي التكريم الرباني له بإفراده بين الكائنات الأخرى بالعقل والقدرة على الاختيار والقدرة على التمييز فضلا عن المزايا الأخرى "الإنسانية". إن نظرية كهذه يمكن أن تعطي إيحاءات خطيرة في كل اتجاه.. فحين يكون الإنسان حيوانا أو امتدادا لسلسلة التطور الحيواني فأين مكان العقيدة في تركيبه، وأين مكان الأخلاق وأين مكان التقاليد الفكرية والروحية والأخلاقية والاجتماعية.. إلخ؟! وحين يكون حيوانا. أو امتدادا لسلسلة التطور الحيواني، فما مقياس الخطأ والصواب في أعماله؟ وكيف يقال عن عمل من أعماله إنه حسن أو قبيح، جائز أو غير جائز.. بعبارة أخرى كيف يمكن إعطاء قيمة أخلاقية لأعماله؟ وحين يكون حيوانا أو امتدادا لسلسلة التطور الحيواني فما معنى "الضوابط" المفروضة على سلوكه؟ وما معنى وجود الضوابط على الإطلاق1؟ كل تلك إيحاءات يمكن أن تستخرج من النظرية لمن أراد أن يصطاد في الماء العكر! ولكننا إذا نظرنا إلى الواقع وجدنا أن أحدا لم يصنع ذلك سوى اليهود!! هم الذين استخرجوا هذه الإيحاءات كلها التي لم يقلها دارون، وربما لم يفكر فيها أبدا، ولكنهم أسرعوا إلى اقتناصها، وأنشئوا منها نظريات "علمية" اقتصادية ونفسية واجتماعية ... إلخ موجهة كلها لمحاربة الدين والأخلاق والتقاليد. وكانت فكرة "التطور" ذاتها من أشد ما لعب به اليهود لزلزلة عقائد "الأممين" وتقويضها. فقد ضخموا تلك الفكرة أي تضخيم وصنعوا منها   1 قالت الداروينية الحديثة -فيما بعد- إن الضوابط موجودة في الكيان "البيولوجي" للإنسان، في تركيب مخه وجهازه العصبي، وإنه متفرد بهذا عن الحيوان! ومع ذلك يرفضون الدين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 قذائف يطلقونها على كل معنى "ثابت" في حياة البشرية من دين أو قيم أو أخلاق. والحق -مرة أخرى- أنهم لا ينشئون الأحداث ولكنهم يتحينون الفرص ويستغلون الأحداث. لقد كان الخلل الفكري في حياة أوروبا في ظل سيطرة الكنيسة الفكرية هو الذي رشح للهزة التي أصابت هذا الفكر يوم أطلقت عليه فكرة التطور، فقد كان كل شيء في حس أوروبا المسيحية الكنسية ثابتا منذ الأزل وسيظل ثابتا إلى الأبد.. ليست فكرة الألوهية فقط هي التي ينطبق عليها تصور الثبات، ولا القيم الدينية والأخلاقية وحدها. ولكن الجبال والشجر والحيوان والطير. والأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. وكل شيء في الحياة. البابا هو البابا ذو القداسة، يذهب واحد ويجيء الآخر، ولكن البابوية ذاتها وقداستها أمر ثابت لا يتغير. الملوك والأباطرة هم الملوك والأباطرة.. يذهب منهم من يذهب ويجيء من يجيء.. ولكن الملكية ذاتها أمر ثابت لا يتغير. الإقطاع هو الإقطاع.. يذهب أمير ويجئ أمير.. بنفس الصورة، ونفس المعاملة، نفس السيادة من جهة والعبودية من الجهة الأخرى.. وكلها أمور ثابتة لا تتغير.. من ثم غلب على الفكر الأوروبي المسيحي الكنسي تصور الثبات في كل شيء. فلما وقعت الثورة الفرنسية وأزالت الإقطاع والملكية وزلزلت نفوذ الكنيسة كان ذلك حدثا حادا في تاريخ أوروبا أثر تأثيرا عميقا في كل اتجاه، ولكنه كان قمينا -بعد فترة من الزمن- أن يفقد حدته، ويستقر على صورة فيها لون من "الثبات". ولكن دارون جاء فأطلق قذيفته على أمر لم تهزه حتى الثورة الفرنسية ذاتها، التي زلزلت كثيرا من الأوضاع في أوروبا، فقال إن الخلق ذاته غير ثابت، وإن الإنسان لم يكن إنسانا حين وجد أول مرة بل كان شبيها بالحيوان! وبين الشد والجذب الذي تعرضت له النظرية أمسك اليهود بالخيط فجذبوه بعيدا بعيدا في كل اتجاه لكي لا يعود! وبسرعة -شريرة- وجهوا القذيفة إلى فكرة "الثبات" ذاتها وقالوا -من طريق استخدام فكرة "التطور"- إنه لا شيء ثابت على الإطلاق. وإن طلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الثبات في أي شيء: الدين أو الأخلاق أو التقاليد.. إلخ, هو في ذاته فكرة خاطئة! فكرة غير علمية! فكرة مخالفة لطبيعة الأشياء. ثم ظلوا يرددون هذه الأقاويل وينشرونها ويؤكدون عليها، حتى صارت هي الصبغة المسيطرة على الفكر "الأممي" لا يقبلون فيها جدلا ولا مناقشة.. ومن ناقش فهو "الرجعي" "المتزمت" "الجامد" "المتأخر" الذي يريد أن يرجع عقارب الساعة إلى الوراء.. وعقارب الساعة لا ترجع أبدا إلى الوراء!! وستسحقه عجلة "التطور" التي لا تبقي ولا تذر!! من بين الأسماء "اللامعة! " التى شكلت الفكر الأوروبي الحديث ثلاثة أسماء على الأقل من "كبار" اليهود: ماركس وفرويد ودركايم، Marx, Frued, Durkheim كل منهم قام بدوره في زلزلة الفكر الأممي وإعادة تشكيله على النحو المطلوب.. وكل منهم قام بدوره في تحطيم الأعداء الألداء للمخطط اليهودي: الدين والأخلاق والتقاليد.. وكل منهم بنى أفكاره "العلمية! " على أساس النظرية الداروينية من هنا أو من هناك.. فأما ماركس فقد أنشأ نظرية اقتصادية أو قل فلسفة مادية كاملة، بناها على فكرة التطور من جهة وفكرة حيوانية الإنسان وماديته من جهة أخرى. وأما فرويد فقد أنشأ نظرية نفسية لتفسير تركيب النفس الإنسانية ونشاطاتها، بناها على فكرة حيوانية الإنسان. وأما دركايم فقد أنشأ نظرية اجتماعية لتفسير الظواهر الاجتماعية بناها على حيوانية الإنسان وغلبة نزعة القطيع الحيوانية عليه من جهة، وعلى انعدام الثبات في القيم الاجتماعية من جهة أخرى. كلهم -كما ترى- "خدم" الفكر الدارويني وأوصله إلى أبعاد لم تخطر على بال دارون على الإطلاق. ونعرض هنا عرضا سريعا لأفكار كل من ماركس وفرويد ودركايم دون مناقشة تذكر، لنبين فقط طبيعة الذراع التى حملت اسم العلم والنظريات العلمية من تلك الكماشة الرهيبة التى أحاطت بالأمميين في أوروبا -وبالعالم كله من بعد عن طريق السيطرة الأوروبية- فذللت الأممين لركوب شعب الله المختار! فأما ماركس فسنعود بإذن الله إلى مناقشة تفصيلية لأفكاره ونحن نتحدث عن الشيوعية والمادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ. وأما فرويد ودركايم فيكفينا أن نعرض أفكارهما بغير تفصيل بالقدر الذى يبين أثرها في تشكيل الفكر الأوروبي تجاه الدين والأخلاق والتقاليد. وقد ناقشت فرويد -من قبل- في أكثر من كتاب وبخاصة في كتاب "الإنسان بين المادية والإسلام" وناقشت دركايم في كتاب "التطور والثبات في حياة البشرية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ماركس : ماركس أبو الشيوعية والمادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ وهو صاحب القولة الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" وهو يهودي ألماني ولد عام 1812 ومات عام 1883. أخذ ماركس جوهر النظرية الداروينية وأنشأ على أساسه نظرية اقتصادية وتفسيرا للحياة البشرية يحصر الإنسان في عالم المادة والتطور المادي ويجعل قوانين المادة منطبقة على عالم البشر!! كما يجعل أمور الحياة كلها، من عقائد ومشاعر وأفكار وأنماط سلوكية ومنظمات ومؤسسات.. إلخ تبعا للطور الاقتصادي وللأوضاع المادية التي يعيش فيها الإنسان ومجرد انعكاس لها، لا تسبقها، ولا تخرج عنها، ولا دور للإنسان فيها إلا أن يدور مع الطور الاقتصادي ومقتضياته.. لأنها "حتميات". وقسم الحياة البشرية بمقتضى هذا التصور إلى خمس مراحل حتمية: هى الشيوعية الأولى والرق والإقطاع والرأسمالية والشيوعية الثانية والأخيرة. وجعل الانتقال من كل طور من هذه الأطوار إلى الطور اللاحق له حتميا من جهة، ومردودا إلى أسباب مادية واقتصادية من جهة أخرى. فالشيوعية الأولى هى الأصل الذي عاشت عليه البشرية الأولى في بداوتها، وجوهرها المميز هو عدم وجود ملكية فردية لشيء على الإطلاق، قال: ولا النساء أيضا، فقد كان الجنس يمارس على المشاع، كل النساء لكل الرجال على السواء، والأرض ملك للقبيلة بأكملها، والطعام يتناوله الجميع معا والسلاح مملوك للقبيلة سواء سلاح الصيد أو الحرب.. والحياة ملائكية شعارها التعاون والحب والتناسق والانسجام! ثم اكتشف الإنسان الزراعة فأدى هذا الأمر المادي البحت إلى الانتقال إلى طور اقتصادي جديد تبدل فيه كل شيء تبدلا كاملا فراحت القبائل القوية تقاتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 القبائل الضعيفة وتسترقها وتشغلها في فلاحة الأرض فنشأ الرق ونشأت الملكية الفردية, وانتهت الفترة الملائكية التى عاشتها البشرية في فترتها الأولى. ثم اخترع الإنسان المحراث ومرة أخرى أدى هذا الأمر المادي البحت إلى الانتقال إلى طور اقتصادي جديد، فقد اكتشف الإنسان أنه يستطيع أن يزرع -بهذه الآلة الجديدة- مساحة أوسع بكثير مما كان يمكن زرعه بالآلات السابقة. فنشأ الإقطاع.. ونشأت معه أفكار وعقائد ونظم ومؤسسات جديدة مختلفة تماما عن السابقة. ثم اخترع الإنسان الآلة فنشأت الرأسمالية -بسبب مادى بحت- وانتقلت صورة الملكية الفردية من ملكية زراعية إقطاعية إلى ملكية صناعية رأسمالية، ونشأت أوضاع فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية جديدة بالمرة، فتغيرت الطبقة ذات السيادة فلم تعد هي طبقة الأشراف "أمراء الإقطاع" إنما أصبحت طبقة الرأسماليين أصحاب المصانع وأصحاب رءوس الأموال، ولم يعد الشعب في مجموعه فلاحين إنما صار عمالا صناعيين، وتغيرت مفاهيم هؤلاء وهؤلاء وتغيرت نظرتهم إلى كل القيم التي كانت سائدة من قبل في المجتمع الزراعي. ثم نشأ الصراع بين العمال وأصحاب رءوس الأموال فنشأت الشيوعية لا لأسباب مادية في هذه المرة إنما لأسباب اقتصادية -وهي صنو الأسباب المادية في نقل الناس من طور إلى طور- ولكن في هذه المرة لا يحدث تطور ينقل الناس إلى طور جديد بعد الشيوعية، إذ الشيوعية هى المستقر الأخير للبشرية كما كانت بدايتها هي الشيوعية. وتحدث في داخل الشيوعية تغيرات ولكنها لا تغير المبدأ الرئيسي لها، وهو إلغاء الملكية الفردية وإقامة الملكية الجماعية بدلا منها.. وفي النهاية -نهاية كل تطور وتغير- تلغى الدولة لانتفاء الحاجة إليها، ويزيد الإنتاج بالدرجة التى تسمح بتطبيق مبدأ "من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته" ويزول الصراع نهائيا من حياة البشر، ويعيشون في حالة من الملائكية كالتي بدءوا بها حياتهم أول مرة. ويركز ماركس في كلامه من مراحل التطور الحتمية وأسبابها المادية والاقتصادية على الانتقال من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الرأسمالية؛ لأن هذا هو الطور الذي كان قائما في وقته؛ ولأنه هو الذي وقع فيه التغيير الضخم الذي أحدثه اليهود في المجتمع الأوروبي، فيقول: إن من سمات المجتمع الإقطاعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الزراعي: التدين، وترابط الأسرة، وسيطرة الرجل على الأسرة بكل أعضائها، أي: على الزوجة والأولاد، ويرد هذا كله إلى أسباب مادية واقتصادية فلا يقول إنه يرجع إلى قيم معنوية، ولا يقول إن هذا -في ذاته- أمر طيب وفاضل ومستحب أو واجب، إنما هو انعكاس لأوضاع مادية واقتصادية. فالفلاح -وهو المنتج الرئيسي في المجتمع الزراعى- يضع البذرة في الأرض، ثم لا يستطيع أن يسيطر عليها ولا أن يستعجلها عن موعدها، ولا أن يقيها من الآفات والتأثيرات الجوية المختلفة، ومن ثم "يفترض! " وجود قوة غيبية، يكل إليها هذا الأمر كله، الذي يعجز عن التحكم فيه والسيطرة عليه، ويروح يترضى هذه القوة الغيبية بالعبادات، والنسك والقرابين، لكي ترضى عنه وتبارك زرعه، ولكي يتقي غضبها عليه وانتقامها منه.. ومن ثم يكون التدين قويا ويكون سمة بارزة للمجتمع الزراعي. ثم إن الرجل في المجتمع الزراعي هو المتكسب، وهو الذي ينفق على الزوجة والأولاد، ومن ثم يسيطر عليهم ويبسط سلطانه. ويكون سلطانه أشد ما يكون على الزوجة، فيفرض عليها أن تكون له وحده، ومن ثم تصبح قضية العفة والمحافظة على العرض ذات قيمة كبيرة في المجتمع الزراعي، ويفرض على المرأة أن تحافظ على عرضها "إرضاء لأنانية الرجل المتكسب المنفق" ويضفي على ذلك ثوب الدين والأخلاق، فتصبح قضية العفة قضية دينية وأخلاقية في حين أنها مجرد انعكاس لوضع اقتصادى معين يكون الرجل فيه هو المتكسب دون المرأة. فإذا تحول الناس إلى المجتمع الصناعي المتطور تغير الأمر بالكلية. فالعامل هنا غير محتاج "لافتراض! " القوة الغيبية التي كان يلجأ إليها العامل الزراعي؛ لأنه يتولى عملية الإنتاج بنفسه. فهو الذي يعالج المادة الخامة ويشكلها كما يريد.. ومن ثم يقل التدين إلى أقصى حد في المجتمع الصناعي. ومن جانب آخر فإن المرأة تستقل اقتصاديا؛ لأنها تعمل وتتكسب ولا تعود عالة على الرجل كما كانت في المجتمع الزراعي "المتأخر" ومن ثم يفقد الرجل سيطرته عليها ولا يعود في إمكانه أن يفرض عليها أن تكون له وحده، كما كان يفرض عليها في المجتمع الزراعى.. فتتحرر من القيود، وتفقد قضية العفة أهميتها في المجتمع الصناعى المتطور؛ لأنه أصبح من حق المرأة أن تهب نفسها لمن تشاء دون سيطرة للرجل عليها.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وكما أن الوضع في المجتمع الزراعي لم يكن فضيلة ولا شيئا مرغوبا في ذاته، إنما مجرد انعكاس للطور الاقتصادي فكذلك لا يعد "الانحلال" في المجتمع الصناعى رذيلة، إنما هذه وتلك هى السمات المصاحبة لهذا الطور وذاك، لا توصف في أي الحالين بأنها فضيلة أو رذيلة. إنما كل شيء في إبانه هو الصواب؛ لأنه هو الانعكاس الطبيعي للطور الاقتصادي الذي يقرر -وحده- كل العقائد والقيم والمبادئ فإذا تغير الطور لم يعد صوابا ما كان صوابا من قبل، إنما يكون استمراره ظاهرة مرضية ينبغي أن تقاوم وأن تزال. فالتدين أمر طبيعي في المجتمع الزراعي، لا يعيبه أحد ولا يستغربه أحد. ولكنه علامة مرضية في المجتمع الصناعي لا ينبغي أن توجد، وإن وجدت فلا بد أن تحارب؛ لأنها استبقاء لانعكاسات طور لم يعد قائما، ومن ثم فلا بد من إزالتها. والحفاظ على العرض أمر طبيعى في المجتمع الزراعي كذلك, تفرضه الطبيعة الاقتصادية للطور الزراعي، ومن ثم لا يستغربه أحد ولا يعترض عليه أحد، فإذا انتقلنا إلى المجتمع الصناعى فقدت القضية أهميتها نتيجة تحرر المرأة اقتصاديا وإنفاقها على نفسها. ومن ثم يصبح من يحافظ على أهمية العفة أو يطالب بالمحافظة عليها "رجعيا" لأنه يريد أن "يرجع" إلى القيم التي كانت مصاحبة لطور اقتصادي سابق، انتهى عهده، وصرنا إلى ما هو "أرقى" منه حسب سنة التطور الدائم إلى أعلى! وهذا سخف لا ينبغي أن يتصف به إنسان "متطور"! فضلا عن أنه مستحيل.. لأن عقارب الساعة لا يمكن أن ترجع إلى الوراء ولأن عجلة التطور ستسحق كل من يقف أمامها وتخمد صوته إلى الأبد! وكذلك الأمر بالنسبة لترابط الأسرة.. فمن طبيعة المجتمع الزراعي أن تتكاثر الأسرة وهي في البيت الواحد أو في بيوت متلاصقة متقاربة، لا لأن ذلك فضيلة في ذاته أو شيء مستحسن، لكن لأن ذلك من طبيعة الطور الاقتصادي ومستلزماته؛ لأن رجال الأسرة كلها يتعاونون في الزراعة، وكلما كثر أفراد الأسرة زاد إنتاجها الزراعي، فيحقق ذلك مصلحة اقتصادية للأسرة. أما في المجتمع الصناعى فكل عامل شخصيته مستقلة لا ارتباط بينه وبين غيره من الناحية الاقتصادية، ومن ثم تستقل كل أسرة صغيرة -أي: الأب والأم والأولاد- ببيت مستقل، وكلما كبر أحد الأولاد وتزوج استقل بأسرته الصغيرة في بيت خاص. وتفقد الأسرة الكبيرة ترابطها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ولا يعد ذلك عيبا ولا رذيلة؛ لأنه هو الانعكاس الطبيعى للطور الاقتصادي القائم. بل إن الأسرة الصغيرة ذاتها تتفكك روابطها بسبب العمل، عمل الرجل والمرأة كليهما، كل في مكان، وعدم ارتباط الزوجة بالبيت وتربية النشء، ولا يعد ذلك عيبا كذلك ولا رذيلة؛ لأنه لا توجد قيم ثابتة في حياة البشرية. لا توجد فضيلة ثابتة ولا رذيلة ثاتبة إنما الفضيلة ما يوافق الطور الاقتصادي القائم والرذيلة ما لا يوافقه. فكما كانت العفة هي الفضيلة في المجتمع الزراعي يصبح التحلل هو الفضيلة في الطور الصناعى أو هو الأمر الطبيعى على أقل تقدير. وكما كانت سيطرة الأب هي الفضيلة في المجتمع الزراعي يصبح فقدان سيطرة الأب هو فضيلة المجتمع الصناعي أو هو سمته الطبيعية. وكذلك كانت الأسرة المترابطة قيمة من القيم الاجتماعية المستحسنة في المجتمع الزراعى، وتصبح الأسرة المفككة -حتى على النطاق الصغير- هي القيمة الاجتماعية المستحسنة في المجتمع الصناعى أو هي السمة الطبيعية على أقل تقدير! فإذا جاءت الشيوعية -وهي المرحلة الحتمية الأخيرة في حياة البشرية- فلسنا في حاجة إلى تعديل جذري في القيم والعقائد والأفكار.. لأنه هكذا طيب!! تتغير فقط الصورة الاقتصادية فتلغي الملكية الفردية إلغاء كاملا وتصبح الدولة هي المالك الوحيد.. ولكن القيم المباركة التى أنشأها المجتمع الصناعي تظل قائمة ويزاد فيها فقط حتى تصل إلى نهايتها. فالدين يلغى إلغاء كاملا، ويقضى على البقية الضعيفة الباقية منه في المجتمع الرأسمالي؛ لأن مهمته التي يقوم بها هناك -وهي تخدير الكادحين ليرضوا بالظلم الواقع عليهم- تنتهي في المجتمع الشيوعي الملائكي الخالي من الظلم، فلا يعود للدين حاجة ألبتة. وتفكك الأسرة تفكيكا كاملا؛ لأنها بقية -سخيفة- من بقايا العهود الرجعية التي كانت تمارس فيها الملكية الفردية فتتربى الأثرة في نفوس الأبوين رغبة في توريث أبنائهم.. فالآن وقد ألغيت الملكية الفردية فالأسرة نشاز في المجتمع الجديد "المتطور" والأولاد ملك الدولة، هى التي تملكهم -ملكية جماعية! - وهي التي تنشئهم التنشئة الصحيحة، وليس لأبويهم إلا ولادتهم لحساب الدولة.. وأما العلاقات الجنسية فهى حرة حرية كاملة؛ لأننا عدنا -عودا على بدء- إلى الشيوعية، إلى تناول حاجات الحياة كلها على المشاع.. وهنا تصل البشرية إلى قمة التطور الذي ليس بعده شيء! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الهدف واضح ولا شك.. فالنظرية "العلمية! " تدور كلها حول هذه القيم: الدين والأخلاق والتقاليد.. لتسخيفها وتسخيف المتمسكين بها ووسمهم بالرجعية والجمود والتأخر والوقوف في وجه عجلة التطور التي ستسحقهم.. إنها تركز كما قلنا على عملية الانتقال من المرحلة الإقطاعية إلى المرحلة الرأسمالية -التي صاغها اليهود، كما سنرى، حسب مخططاتهم الشريرة بلا دين ولا أخلاق ولا تقاليد مستمدة من القيم الدينية- فتقول أولا إنه تطور "حتمي" وما دام حتميا فمن ذا الذي يستطيع أن يقف في طريقه رضي أم أبى؟! وتحسر على الأيام الخالية والقيم الدارسة أم تسخط عليها؟! ثم تقول ثانيا إنه تقدم إلى الأمام.. تقدم إلى أعلى.. حسب سنة التطور التي تدفع بالكائن الحي دائما إلى الرقي! فمن كانت في نفسه حسرة على ما فات، أو ضيق "بالتطور" فليعدل من ذات نفسه وليتمش مع التطور، ولينطلق مع التيار، فذلك أروح للنفس والأعصاب! إنها تتناول بالذات عمليات التحطيم التي قام بها اليهود في المجتمع الجديد الذي ولد بين أيديهم فشكلوه على هواهم، فتبارك هذه العمليات بالذات.. قام اليهود بتحطيم الدين، فيجىء فيلسوفهم -ماركس- فيقول -بصورة "علمية"- إن الدين قد باد تلقائيا من جراء التطور الحتمى الناشئ من الانتقال من طور اقتصادي متأخر إلى طور متقدم! وإن الدين خرافة لا تليق بالإنسان " الصناعي" المتطور! وإنه قد أخلى مكانه لما هو خير منه وهو "العلم"! وإن التمسك به, أو الرجوع إليه, أو الدعوة إليه, نشاز غير متجانس مع "طبيعة" المرحلة التطورية التي قطعها الإنسان إلى الأمام.. وذلك فضلا عن تشويه صورة الدين بأنه مخدر يستخدمه الإقطاعيون والرأسماليون لتخدير الجماهير الكادحة عن المطالبة بحقوقها والقيام بالثورة المقدسة، مستغلا في ذلك واقع الدين الكنسي ومعمما إياه على كل "الدين". وقام اليهود بتحطيم الأخلاق -أخلاق الجنس بصفة خاصة- وأشاعوا الفوضى الجنسية والانحلال، وحاربوا قيد "العفة" الذي يحول بينهم وبين تنفيذ مخططاتهم الواسعة لتحويل الآدميين إلى دواب تدور في طاحونتهم، فيجيء فيلسوفهم فيقول إن قضية العفة إنما أخذت أهميتها من أنانية الرجل في المجتمع الزراعي "المتأخر" باعتباره هو المتكسب والمنفق، ثم وضع عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وسم الدين والأخلاق ليعطيها أهمية زائدة، وخدمة لأنانيته، وإنها فقدت أهميتها -الزائفة بالطبع! - بصورة تلقائية نتيجة التطور الحتمى، وحلت محلها "فضيلة" من نوع آخر في المجتمع المتطور، هى فضيلة "تحرر" المرأة. وقام اليهود بتحطيم الأسرة؛ لأن الأسرة أحد القيود التي تمنع التحلل الخلقي أو تبطئ عجلته، وتبطئ بالتالى عملية استحمار الأمميين وتسخيرهم لشعب الله المختار، فيجيء فيلسوفهم فيقول: إن ترابط الأسرة كان مجرد انعكاس لوضع اقتصادى متأخر هو الوضع الزراعي الإقطاعي، وإنها فقدت ترابطها -تلقائيا- من التطور الحتمي الدافع إلى الأمام، ومن ثم لا تستحق البكاء عليها ولا التحسر، إنما الأولى السير مع عجلة التطور والرضا بالطور الموجود. وهكذا تتلخص المهمة "العلمية" للفيلسوف الكبير في "تغطية" الدور الخطير الذي تقوم به العصابة المفسدة في الأرض، في ثوب "علمي" تتلهى به عقول الحمير الذين خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فرويد : لا يقل فرويد "عبقرية" عن ماركس ولا خطورة في أداء الدور المطلوب. ولئن كان دوره الآن قد انتهى1 لأنه تم! بينما لم ينته بعد دور ماركس؛ لأنه لم يتم بعد! فليس معنى ذلك أنه لم يعد له أثر في المجتمع المعاصر بل العكس هو الصحيح. فقد تم دوره؛ لأنه أعطى تأثيره الكامل في المجتمع، بحيث لم يعد ذلك المجتمع في حاجة إلى المزيد! ولأن الجرعة التي تشربها ذلك المجتمع من "علمه! " -أو من سمومه- تكفيه عدة قرون!! هو يهودي نمساوي، كان يعمل طبيبا ثم تخصص في معالجة الأمراض العصبية والنفسية, وأنشأ عيادة خاصة للإشراف على علاج مرضاه ودراسة أحوالهم عن كثب، ثم استنبط من دراساته تصورا خاصا للنفس البشرية   1 انتهى في أوروبا وأمريكا، ولكنه -عندنا- لم ينته بعد! فما تزال معاهد التربية عندنا تقدمه على أنه إمام من أئمة الباحثين في النفس الإنسانية! وعندما يسافر مبعوثونا إلى أوروبا وأمريكا يعودون حاملين أفكاره لينشروها هنا مع أن القوم قد تجاوزوها هناك! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وتركيبها وتفسيرا لنشاطاتها المختلفة، تفرد به بين كل "المفكرين" إلى ذلك الحين وربما إلى الوقت الحاضر بصرف النظر عن تلاميذه الناقلين عنه. ولد عام 1856 وعمر طويلا حتى مات في عام 1938، وألف نحو ثلاثين كتابا في الدراسات النفسية من أشهرها: الذات والذات السفلى The Ego and The Id والطواطم والمحرمات Totem and Taboo وتفسير الأحلام Interpertation of Dreams وثلاث مقالات في النظرية الجنسية Three Contributionts to the Sexual Theory والأمراض النفسية المنتشرة في الحياة اليومية Psycho Pathology of Every Day Life وكلها تدور -من زوايا مختلفة- حول موضوع واحد مكرر فيها جميعا هو التفسير الجنسي للسلوك البشري. خلاصة هذا التفسير أن الطاقة الجنسية هي الطاقة العظمى في الكائن البشري، وهي المسيطرة على طاقاته جميعا، والموجهة لها، والمسخرة لها كلها لحسابها الخاص! يولد الطفل بطاقة جنسية وتسيطر عليه -منذ لحظة مولده- تلك الطاقة الجنسية التي ولد بها، فيرضع ثدي أمه بلذة جنسية ويتبول ويتبرز بلذة جنسية، ويمص إبهامه بلذة جنسية، ويحرك أعضاءه بلذة جنسية.. ثم ينمو الصبي فيحس تلقاء أمه بشهوة جنسية "كما تحس الصبية بالشهوة الجنسية تلقاء والدها" ولكنه يجد أباه حائلا بينه وبين الاستيلاء على الأم التي يشعر نحوها بتلك الشهوة الجنسية، فيكره أباه الذي يحبه في ذات الوقت ويصطرع الحب والكره اللذان يحس بهما في آن واحد تجاه الأب، فيكبت الكره في اللاشعور، الذي تدفن فيه -ظاهريا- كل الرغبات المكبوتة والمخاوف المكبوتة ولكنها تبقى حية فاعلة مؤثرة موجهة لسلوك الإنسان دون وعي، ويظهر الحب وحده على السطح؛ لأن ذلك هو الذي يعجب المجتمع! "أي: نفاقا! " ولكن القضية لا تنتهي عند هذا الحد ولا على هذه الصورة. فإن الصبي يأخذ في حس نفسه مكان والده، تعويضا عن عجزه عن الاستيلاء على الأم بسبب قيام والده حاجزا بينه وبينها، فيروح ينهى نفسه ويأمرها كما ينهاه أبوه ويأمره، فينشأ الضمير، وتنشأ -في نفس الطفل- القيم الأخلاقية التي يتعاطاها المجتمع ويرضى عنها، كما ينشأ الدين من ذات العقدة التي سماها عقدة أوديب "ويقابلها عقدة إليكترا عند البنت" وهى العقدة الناشئة من الكبت الجنسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 لشهوة الصبى الجنسية نحو أمه "وشهوة البنت الجنسية نحو أبيها". وهكذا تنشأ القيم العليا كلها: الدين والأخلاق والتقاليد المستمدة من الدين، من تلك العقدة الناشئة من الكبت الجنسي. وتتركب النفس الإنسانية من طبقات ثلاث: الطبقة الشهوانية -التي تسيطر عليها الشهوة الجنسية وتوجهها- وتسمى -عنده- الذات السفلي The Id وهي طبقة لا شعورية, والذات The Ego وهي الطبقة الوسطى التي يتمثل فيها الوعي وتصدر عنها كل التصرفات الواعية للإنسان، والذات العليا Super Ego التي تتمثل فيها الضوابط1 الناشئة من الدين والأخلاق والتقاليد المتداولة في المجتمع، وهى لا شعورية أيضا، وتنشأ من الكبت الواقع على الذات السفلى الشهوانية. ومهمة الذات هي التحايل الدائم على الذات السفلى لإقناعها بأوامر الذات العليا، وإن كانت هى شخصيا لا تؤمن بها! يقول فرويد: "إن مهمة الذات بين الضغط الواقع عليها من الذات العليا والذات السفلى معا تصبح كمهمة السياسى الذي يعرف الحقائق ولكنه يداور ويناور إرضاء للجماهير!! ". ويتحدث فرويد -كثيرا- عن القيم العليا.. عن الدين والأخلاق والتقاليد. يقول في كتاب "الطواطم والمحرمات Totem and Taboo": إنه حدثت في البشرية الأولى حادثة هائلة ما تزال تؤثر في حياة البشرية إلى هذه اللحظة. ذلك أن "الأولاد" شعروا بالرغبة الجنسية تجاه أمهم، فوجدوا أباهم حائلا بينهم وبين الاستيلاء على الأم فقتلوه! وكانت تلك أول جريمة ترتكب في البشرية الأولى "وليست هى قتل أحد الأخوين لأخيه كما جاء في الرسالات السماوية"2. ثم أحسوا بالندم على قتل أبيهم فقدسوا ذكراه، فنشأت أول عبادة عرفتها البشرية وهي عبادة الأب "وليس عبادة الله كما جاء في الرسالات السماوية"3.   1 هذه تسميتنا نحن، أما هو فيسميها الكوابت! 2 {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [سورة المائدة: 27] . 3 {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [سورة طه: 122] {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الأعراف: 23] {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة: 37] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ثم وجدوا أنهم لو تقاتلوا بينهم للاستيلاء على الأم فسيقتل بعضهم بعضا فاتفقوا على ألا يقربها أحد منهم فنشأ أول تحريم في العلاقات الجنسية وهو تحريم الأم "وليس لأن الله هو الذي حرمها كما جاء في الرسالات السماوية"1 يقول: وكل الديانات التالية والحضارات قد نشأت من ذلك الحدث الخطير الذي لم يدع للبشرية منذ وقوعه فرصة للراحة!! فإذا سألته عن سنده في هذه القصة التي يبنى عليها تفسيرا كاملا للحياة البشرية بأديانها وحضاراتها من أول التاريخ إلى آخر التاريخ..فإنه يجيب.. ولا تحسبه عاجزا عن الإجابة! يقول: إن دارون يقول: إنه في عالم البقر تتجه الثيران الشابة إلى الأم لمواقعتها، فتدور بينهم معركة رهيبة، يفوز فيها أقوى الثيران وأصلبهم عودا، فيستولي وحده على الأم ويندحر الباقون! وبتعديل بسيط -أو بتحريف بسيط! - تنقل القصة من عالم البقر إلى عالم البشر، ويقوم عليها تفسير شامل للحياة البشرية! ويقول عن الأخلاق في كتاب "الذات والذات السفلى The Ego and the Id": إنها كوابت تكبت المنطلق الطبيعى للطاقة الجنسية، ويقول إنها تتسم بطابع القسوة حتى في صورتها العادية! ويقول عن التسامي Sublimation في كتاب "ثلاث مقالات في النظرية الجنسية Three Contributions to the Sexual Theory إنه نوع من أنواع الشذوذ! "فأما ثالث أنواع الشذوذ فإنه يحدث نتيجة عملية التسامي، حيث تصرف الطاقة الشهوية الصادرة من منابع جنسية فردية في مجالات أخرى وينتفع بها في تلك المجالات، وبذلك يكتسب الإنسان قوة نفسية كبيرة من استعداد نفسى هو في ذاته خطير! ". ويقول عن العلاقات البشرية في كتاب الطواطم والمحرمات Totem and Taboo: إن الازدواج العاطفى Ambivilence أي: الشعور بالحب والكره في آن واحد تجاه الشخص الواحد.. وكبت الكره في اللاشعور وإظهار الحب على   1 {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [سورة النساء: 23] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 السطح لإرضاء المجتمع، هو الطابع العام للعواطف البشرية، فالولد يحب أباه ويكرهه، ويحب أمه ويكرهها، والأخ يحب أخاه ويكرهه، والزوجة تحب زوجها وتكرهه.. والصياح الذي يصيحه الناس على ميتهم هو لإخفاء الفرحة الداخلية التي ملأت نفوسهم لموته!! ويشرح هذه الظاهرة العجيبة Ambivilence فيقول إنها تتم بطريقة لا شعورية وإنه لا تدخل فيها الحالات التي يتوجه فيها الإنسان بالحب لشخص معين ثم يكرهه لأسباب واعية معلومة, إنما هو كره لا شعوري تلقائي, ينشأ في ذات اللحظة التي ينشأ فيها الحب، ثم يكبت في اللاشعور ويظل يعمل من داخل اللاشعور! ويقول في كتاب الطواطم والمحرمات Totem, Taboo: إن الكبت هو طابع الحياة البشرية بسبب وجود الدين والأخلاق والمجتمع وسلطة الأب.. وما إلى ذلك من القوى القاهرة.. وكلها تتجه إلى كبت الطاقة الجنسية فتنشأ العقد النفسية والاضطرابات العصبية التي لا تترك صاحبها في راحة. ويقول في معظم كتبه: إن كل الأطفال "الذكور" يصابون بعقدة أوديب في أول طفولتهم. ويقول في كتاب "ثلاث مقالات Three Contributions": نحن جميعا مصابون بالهستريا إلى حد ما. تلك خلاصة آرائه وأفكاره عن النفس البشرية والعلاقات الإنسانية.. ولن نتعرض لها هنا بالمناقشة..1. إنما نحن هنا نستعرض مكانها من المخطط الشرير، كما استعرضنا مكان ماركس من قبل. يريد اليهود أن يشكلوا المجتمع الجديد الذي وقع في قبضتهم من أول لحظة على أساس أن يكون مجتمعا بلا دين ولا أخلاق ولا تقاليد مستمدة من القيم الدينية.. فيجيء عالمهم النفساني الكبير ليمسخ الدين والأخلاق والتقاليد بطريقة "علمية"! فالدين نابع من الجنس.. من عقدة أوديب.. من كبت الشهوة الجنسية التي يحسها الطفل الذكر نحو أمه!   1 سبق لي مناقشتها في كتاب "الإنسان بين المادية والإسلام" في فصلي "فرويد" و"القيم العليا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ويجب -لكى نفهم اللعبة كاملة- أن نتذكر كيف كان إحساس أوروبا بالجنس لنعلم رد الفعل الأوروبي حين يقول لهم فرويد إن الدين نابع من الجنس! كان الجنس في حسن أوروبا أمرا مستقذرا إلى أقصى حد، بسبب تزمت الكنيسة في تفسير تعاليم السيد المسيح، وبسبب الدعوة إلى الرهبانية. وكانت أعلى درجات التقى والورع تتمثل -ابتداء- في الابتعاد عن الجنس، المباح منه وغير المباح، وذلك أبرز ما في الرهبانية. ويصل الأمر في حسهم إلى اعتبار المرأة في ذاتها دنسا لا يجوز أن يمس، إلى حد أن واحدا من كتابهم ينصح الناس فيقول: إذا لقيت امرأة في الطريق فلا تسلم عليها ولو كانت أمك! وفي هذا الجو يجيء "العالم النفساني الكبير! " فيقول: إن الدين نابع من الجنس! فأي هوة مستقذرة يهبط فيها الدين من عليائه؟! وهب أن الناس جميعا لم يصدقوا فرويد في ادعاءاته "العلمية! " "وإن كانت دعاية اليهود له وترويجهم المدبر لآرائه1 قد جعل بعض الناس يصدقون، بل يتحمسون في التصديق! " فإن شيئا ما يحدث في النفس من قراءة فرويد هو -على الأقل- إزالة القداسة عن الدين! إنما تأتي قداسة الدين في النفوس من أنه شيء منزل من عند الله، وأنه هو الصلة بين القلب البشري والإله المعبود، تلك الصلة العلوية التي ترفع النفس إلى الآفاق العليا، وتطلق الأرواح ترفرف في عالم النور. فإذا جاء "عالم" يقول، ويظل يلح في القول، وتظل الدعاية تلح على قوله: إن الدين أمر أرضي بحت، ومصنوع في داخل النفس لا علاقة له بالله ولا برفرفة الأرواح في الآفاق العليا.. وأكثر من ذلك أنه "معجون" بماء الجنس المستقذر يومئذ في حس الناس.. فهل تتوقع أن تبقى للدين قداسة في النفوس؟! يقول "يونج Jung" أحد تلميذي فرويد المقربين "والآخر هو أدلر Adler" في كتاب سماه "ذكرياتي عن فرويد Memorials of Fruesd" صدر في الستينات: "لقد قال لى فرويد إننا ينبغي أن نحطم كل العقائد الدينية: We nust abolish all dogmas" وقال لى: ينبغي أن نجعل من الجنس عقيدة We must make ser a dogma".   1 انظر البروتوكول الثاني من بروتوكولات حكماء صهيون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ولا تحتاج هذه الشهادة إلى تعليق! فالدين ذو القداسة يلقى به في دنس الجنس، والجنس المستقذر يرفع إلى مقام الدين!! ويريد اليهود أن يحطموا الأخلاق وينشئوا مجتمعا منحلا يسهل فيه تسخير "الحمير" لشعب الله المختار. فأي معول أشد تحطيما للأخلاق من دعوة "العالم النفسانى الكبير" للأولاد والبنات أن ينطلقوا لتلبية نداء الجنس أنى شاءوا بلا حواجز ولا قيود؟! ومن ادعائه أن الدين الذي يأمرهم بوضع الضوابط لطاقة الجنس هو أمر سخيف لا يستحق الاحترام؟! ومن وصفه للأخلاق بأنها تتسم بطابع القسوة حتى في صورتها العادية؟! ومن دعواه بأن أي قيد على الإطلاق يوضع في طريق الطاقة الجنسية يورث الكبت ويكون العقد النفسية والاضطرابات العصبية؟! وأن التسامي نوع من الشذوذ؟! لقد آتت هذه الدعوة ثمارها بالفعل، وكانت أكبر مشجع للأولاد والبنات أن ينطلقوا مع دافع الجنس بلا حواجز خوفا من الكبت والعقد النفسية! وأن ينظروا إلى الدين -الذي يحجزهم- على أنه قيد مناف للعلم، لا يستحق الإصغاء إليه كما قام علم التحليل النفسي الذي أنشأه فرويد لأهدافه الخاصة1 بعملية التبرير الضخمة للفساد الخلقي الذي حدث بالفعل! يقول الكاتب الإنجليزي "ألدوس هكسلي Aldous Huxley" في كتابه "Texts and Pretexts" إن المحلل النفسي يقف -لا محالة- إلى جانب المجرم الأخلاقي: The psycho-analyst is inevitably on the side of the immoralist وليست هناك حتمية في الحقيقة، ولكن هذا هو التحليل النفسي على طريقة العالم اليهودي الكبير! ويريد اليهود أن ينشئوا مجتمعا متفككا لا روابط فيه، ذلك أن الروابط -من أي نوع- تبطئ عملية التحلل، وتبطئ تحويل الأمميين إلى دواب الحمل التي يركبها بنو إسرائيل ويسخرونها لمصالحهم.. فيجئ العالم النفساني الكبير فيقول بطريقة "علمية" إنه لا توجد في حقيقة الأمر روابط بين البشر! لا بين الولد وأمه، ولا بين الولد وأبيه، ولا بين الزوج وزوجته، ولا بين الأخ وأخيه   1 من عجيب "المصادفات!! " أن معظم القائمين بالتحليل النفسي في "العيادات النفسية" هم من اليهود! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فضلا عن أن تكون هناك روابط بين الغرباء الذين لا تصل بينهم صلة القربى إنما كل إنسان في الأرض يكره الإنسان الآخر في قرارة نفسه ويتمنى له الزوال! باختصار لقد كانت مهمة "العالم النفساني" هي تغطية الفساد الضخم الذي تدبره العصابة الشريرة في الأرض، بإعطائه "التبرير العلمى"! الذي يجعله أمرا طبيعيا لا يستنكر! ويصبح المنكر عليه هو الرجعي المتأخر الذي يصدر عن الجهل بحقائق العلم، والتمسك بالخرافات السخيفة، أو المثاليات التي لا تقل عنها سخفا ولا مكان لها في واقع الحياة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 دور كايم : إميل دور كايم "دورك هايم أو دورك حاييم! " يهودي فرنسي ولد عام 1858 ومات عام 1917 وتخصص في علم الاجتماع وله فيه كتب من أشهرها "مقدمة في علم الاجتماع". وقد لا تكون له شهرة عند الجماهير كماركس وفرويد، ولكن له شهرته الواسعة بين "علماء الاجتماع" ويتتلمذ عليه -أو على فكره- كل من يقوم بتدريس علم الاجتماع في الجامعات والمدارس في عالم الأمميين إلا من رحم ربك! وعلى أى حال فقد أدى "مهمته" في الميدان الذي تخصص فيه، ووجه حملته -مع زملائه الآخرين من كبار "المفكرين" اليهود- إلى تحطيم الدين والأخلاق والتقاليد. أخذ دور كايم عن دارون التفسير الحيواني للإنسان، ومدده ليغطي ميدان العلاقات الاجتماعية. ولقد أسلفنا أن دارون نفسه لم يكن عالم اجتماع ولا اقتصاد ولا علم نفس، إنما كان متخصصا في علم الحياة، أي: في مظاهر الحياة في "أجسام" الكائنات الحية. وحين وصل -في سلسلة التطور الحيواني- إلى الإنسان، وألحقه بعالم الحيوان، كان يدرس مظاهر الحياة في "جسم" الإنسان ووظائف أعضائه، دون أن يتعرض للجوانب الأخرى التي ليست من اختصاصه. ولكنا قلنا إن نظريته -بالصورة التي قدمها بها، لا بما تحويه من معلومات علمية بصرف النظر عن صحتها أو عدم صحتها من الوجهة العلمية-كانت تحوى إيحاءات معينة لمن أراد أن يستخلصها ويستخدمها، مبنية كلها على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فكرة حيوانية الإنسان وماديته. وإن أحدا لم يستخلصها ويستخدمها في الحقيقة إلا اليهود. ودور كايم واحد ممن فعلوا ذلك في ميدان تخصصه وهو علم الاجتماع. وخلاصة آرائه أن الكائن البشري محكوم "بنزعة القطيع" التي تحكم عالم الحيوان وتسيره دون وعي منه ولا إرادة. ولئن كان فرويد قد قالها دون مداراة، حين زعم أن البشرية الأولى قتلت أباها لتستولي على الأم، مستندا إلى أن دارون قد قال مثل ذلك عن عالم البقر، فإن دور كايم لم يشأ أن يستخدم المصطلح الحيواني مباشرة، فلم يسمها -في عالم الإنسان- "نزعة القطيع" وإنما سماها "العقل الجمعي"، ونسب إليها في عالم الإنسان كل ما ينسب في عالم الحيوان إلى نزعة القطيع. وبعض كلامه عن العقل الجمعي معقول، وتكلم عنه كثير غيره من العلماء والمفكرين وسموه "المشاركة الوجدانية" وهي حقيقة واقعة في عالم البشر. ولكنه لم يرد أن يستخدم هذا المصللح؛ لأنه لا يخدمه فيما كان يهدف إليه، ذلك أن للمشاركة الوجدانية حدودا معروفة تقف عندها، وصورة أو صورا معينة تمارس في نطاقها، لا تلغي شخصية الفرد الإيجابية ولا إرادته؛ لأنها تصدر عن "الذات" ولا تلغيها، وقد تكون في كثير من الأحيان غير إرادية ولكنها لا تلغي الإرادة. إنما هي تأثر معين من شيء خارجي، يستتبع مشاعر معينة أو أعمالا معينة يقوم بها الإنسان لمشاركة الآخرين فيما يراه من أحوالهم، ولكنه يظل شاعرا أنه "هو" الذي يقوم بها، وأنه يقوم بها؛ لأنه يريد -ولو إرادة مؤقتة- أن يشارك الآخرين فيما هم فيه. أما الصورة التي يريد دور كايم أن يرسمها للبشرية فهي صورة مختلفة، يريد أن يلغي فيها شخصية الفرد إلغاء كاملا ويلغي إرادته، ليتقبل ما يلقيه إليه "العقل الجمعي" من أوامر وتوجيهات بلا وعي منه ولا إرادة! يستمد دور كايم أمثلته وقواعده مما قام به "الغوغاء" في الثورة الفرنسية من قتل وتحطيم وتخريب وقع من أناس "عاديين" لم يحدث منهم القتل والتخريب من قبل، ولو طلب منهم أفرادا لامتنعوا عنه، ولكنهم قاموا به في سرور بالغ بل في نشوة وحشية وهم في وسط "المجموع". وبصرف النظر عن يد اليهود الخفية في توجيه الثورة وجهات معينة، فإن هذه -في ذاتها- حقيقة: أن "الغوغاء" تقوم بمثل هذه الأعمال حين توجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 إليها، بينما معظم الأفراد من هذه الغوغاء لو طلب منهم أن يقوموا بها أفرادا لامتنعوا واستنكروا. وكثير من المفكرين لفتتهم هذه الظاهرة، وردوها إلى "المشاركة الوجدانية" أو إلى نزعة "مكبوتة" إلى التخريب والتحطيم ينفلت قيادتها حين يوجه الغوغاء إلى ذلك فينطلقون -وقد انحلت العقدة- يفعلون ما يخطر على بالهم من وحى اللحظة، متشجعين على الشر بكونهم كثرة غالبة والواقف في طريقهم قلة مغلوبة.. بل ردها بعضهم إلى "نزعة القطيع" مباشرة، على أساس أن هذا القطيع البشري في حالته الجنونية التي يكون عليها، بلا عقل ولا وعي، هو أشبه بالحيوان تحركه بالفعل نوازع الحيوان ما دام قد غاب عنه العقل الذي "يعقل" تصرفاته "أي: يقيدها". وأيا كان الرأي فقد نظر المفكرون إلى هذه المظاهر على أنها حالة خاصة تصيب الجماهير حين تجتمع في حالة غضب أو استثارة. ولكن دوركايم جعلها قاعدة الحياة البشرية كلها، والأساس الذي تنبني عليه كل تصرفاتها، مستندا إلى الحالتين اللتين يكون الوعي والإرادة فيهما مفقودين تماما أو شبه مفقودين، وهما حالة الطفل وحالة الغوغاء. فأما الغوغاء فأمرها معروف، وأما الطفل فإنه يولد ولا حول ولا قوة، فيتلقى الأوامر والتوجيهات من أبويه ومن المجتمع المحيط به، فيتشكل من صغره بالطابع الذي عليه المجتمع، فتصاغ له أفكاره ومعتقداته وأنماط سلوكه دون أن تكون له إرادة في ذلك ولا رغبة ذاتية، ولا مشاركة إيجابية في صياغة تلك الأفكار والمعتقدات وأنماط السلوك.. وهكذا تخرج البشرية جيلا وراء جيل. ولكنه يلحظ -بل يؤكد لغاية معينة في نفسه- أن الأفكار والمعتقدات وأنماط السلوك تتغير من جيل إلى جيل.. وهنا يقتنص الخيط الذي يريده فيقول إن هذا يحدث من تأثير العقل الجمعي، الذي يتغير على الدوام ولا يثبت على حال! ويعرف العقل الجمعي بأنه شيء كائن خارج عقول الأفراد ليس هو مجموع عقولهم، ولا يشترط أن يكون موافقا لعقل أحد منهم ولا لمزاجه الخاص "عقل من هو إذن؟! " وأنه يؤثر في عقول جميع الأفراد من خارج كيانهم ولا يملكون إلا أن يطيعوه ولو على غير إرادة منهم! ثم يقول إنه دائم التغير.. يحل اليوم ما حرمه الأمس.. ويحرم غدا ما أحله اليوم.. بلا ضابط ولا منطق معقول! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ويقول -وهو بيت القصيد- إنه لا يمكن من ثم تصور ثبات شيء من القيم على الإطلاق: لا الدين ولا الأخلاق ولا التقاليد! وإن النظر إلى هذه الأمور على أنها أمور قائمة بذاتها هو تفكير غير معقول على الإطلاق! يقول: كان المظنون أن الدين والزواج والأسرة هي أشياء من الفطرة ولكن التاريخ يوقفنا على أن هذه النزعات ليست فطرية في الإنسان! أرأيت إلى العالم الكبير! إنها ليست فطرية في الإنسان! وبكلمات قليلة معدودة يلغي العالم الكبير كل مقدسات البشرية! أما الفرد الممتاز، نبيا كان أو مصلحا أو قائدا، الذي يقف في وجه المجموع ويغير اتجاهه.. فهذا ملغي إلغاء كاملا من حساب دور كايم -مهما قالت وقائع التاريخ! - لأنه لا يخدم أهدافه! لأنه -من ناحية- يلغي أسطورة "العقل الجمعي" الذي يحكم الناس من خارج كيانهم دون أن يملك أحد الوقوف في طريقه، ولأنه -من ناحية أخرى- يشير إلى "قيم ثابتة" في حياة البشرية منها الدين والأخلاق والزواج والأسرة؛ لأن كل الأنبياء والمصلحين دعوا إليها, وكانوا دعائم في تثبيتها خلال القرون الطويلة التي عاشتها البشرية قبل أن يأتي القرن اليهودي الذي يعيث فيه اليهود مفسدين في الأرض, ويحطمون كل القيم الثابتة في حياة البشرية! والإنسان كذلك في عرف دور كايم شيء لا كيان له ولا فطرة ولا سمات محددة! لأن "الكيان" أو "الفطرة" يشيران إلى شيء "ثابت" لا يمكن تغييره أو "لا يجوز" تغييره.. وهذا أمر لا يخدم أهدافه ولا أهداف قومه الذين يريدون مسخ الفطر البشرية لأمر في نفوسهم. إنما الإنسان وعاء يتشكل بالشكل الذي يراد له، والمريد، الفعال لما يريد عند دور كايم، هو العقل الجمعي الذي يتغير على الدوام ولا يثبت على صورة ولا يثبت على حال! ولسنا هنا نناقش دور كايم فقد ناقشناه في غير هذا الكتاب، إنما نحن هنا نفسره. لقد أراد اليهود -ونفذوا بالفعل- إنشاء مجتمع تنعدم فيه "القيم الثابتة". مجتمع بلا دين ولا أخلاق ولا زواج ولا أسرة ولا تقاليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وهنا يأتي "عالم الاجتماع الكبير" للتغطية الكاملة على دور اليهود في تحطيم هذه القيم. فأولا: ليس الذي يقوم بتحطيم القيم وإفساد المجتمع فئة محددة من البشر يمكن الإشارة إليهم بأعيانهم, ويمكن محاسبتهم على ما اقترفت أيديهم، إنما هو العقل الجمعي! وأنى لك أن تمسك بالعقل الجمعي وتحاسبه، وهو الذي لا يمكن الإمساك به؛ لأنه ليس له مكان محدد ولا كيان محدد، ثم إنه لا يسأل عما يفعل؛ لأنه هو القاهر فوق العباد!! وثانيا: فإن الذي يقوم به العقل الجمعي "الذي صنعه اليهود بأنفسهم! " ليس "تحطيما" للقيم، وإنما هو مجرد "تغيير" على سنة العقل الجمعي في التغير الدائم وعدم الثبوت على حال! و"القيم الثابتة" إن هي إلا أسطورة توهمها الناس في جهالتهم قبل أن يجيء العالم الكبير لتنويرهم.. وقد قال لهم العالم الكبير إنها ليست فطرية في الإنسان! وثالثا: إنه لا قبل للناس بوقف التغيير! لأنه يحدث من خارج كيانهم! "وقد كان من خارج كيانهم بالفعل! ولكن لا لأنه "عقل جمعي" ولكن لأنهم تركوا الدين فركبهم الشيطان: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} 1 {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا، لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ} 2..! وهكذا قام العالم الكبير بالتغطية على دور اليهود في الإفساد في الأرض في صورة "علم" يدرس في كل جامعات الأرض، ويتربى عليه "علماء" من الأمميين يتعصبون له كأنما هم واضعوه، أو كأنما هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!   1 سورة النحل: 99, 100. 2 سورة النساء: 117-119, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 2- واقع المجتمع الصناعى: لئن كان "علماء" اليهود قد أدوا دورهم "العلمي" في توهين عرى الدين والأخلاق والتقاليد، والقول بكل طريقة ومن كل زاوية بأنها سخف لا ينبغي للإنسان المتحضر أن يتمسك به، وأوهام لا ينبغي الاحتفاظ بها في عصر العلم، وقيود تعوق الانطلاق، وصناعة بشرية بحتة من حق البشرية أن تراجعها وتعدلها أو تلغيها أو تعمل بعكسها1. لئن كان "العلماء" قد قاموا بهذا الدور فقد كانت عصابات أخرى تقوم في ذات الوقت بعملية لا تقل خطورة -بل قد تكون أشد خطورة- هي إقامة مجتمع في عالم الواقع، منسلخ من الدين والأخلاق والتقاليد، قائم على غير أساس منها.. وهكذا تجتمع النظريات والواقع على هدف محدد، يساند بعضها بعضا ويساعد بعضها بعضا، فالنظريات تمهد للواقع وتسنده، والواقع يشهد للنظريات ويؤكدها! وبين ذراعي الكماشة الشريرة يقع "الأمميون" في أوروبا أولا، وفي الأرض كلها بعد ذلك، تعصرهم عصرا وتمسخهم مسخا! قلنا من قبل إن المجتمع الصناعي قد وقع في قبضة اليهود منذ اللحظة الأولى بسبب قيام اليهود المرابين بتمويل الصناعة الناشئة عن طريق الإقراض بالربا، فأصبح في مُكْنتهم السيطرة على هذا المجتمع وتشكيله على الصورة التي يرغبونها؛ لأن في يدهم أداة السيطرة الكبرى على ذلك المجتمع وهي رأس المال. ونريد هنا أن نفصل هذا القول شيئا من التفصيل مستندين إلى وقائع التاريخ.   1 من الأسماء الهامة في هذا الشأن "فريزر Frazer" واضع البذرة الأولى لعلم مقارنة الأديان وصاحب الكتاب الشهير "الغصن الذهبي The Golden Bough" الذي قال فيه صراحة: إن الدين بضاعة أرضية بحتة من صنع البشر، وإن العقيدة قد تطورت على مر الأزمان، ما بين عبادة الأب، إلى عبادة الطوطم إلى عبادة قوى الطبيعة، إلى عبادة الافلاك، إلى عبادة الأصنام.. إلى عبادة التوحيد.. وأعطى الإيحاء بأن عبادة التوحيد -بوصفها صناعة بشرية- هي مجرد مرحلة على الطريق.. وأن العلم -في العالم المتحضر- يحل في النهاية محل الدين. وكانت أبحاثه منصبة على القبائل المنعزلة المتأخرة في إفريقيا وآسيا واستراليا ليستخدمها وسيلة للقول بأن الأديان "السماوية" المتأخرة إن هي إلا امتداد للديانات الوحشية التي عرفتها القبائل الأولى في بداوتها وخاصة فيما يتعلق بالمحرمات و"بأسطورة! " الطوفان، التي قال إنها وجدت عند أكثر القبائل انعزالا وأشدها بعدا عن الاتصال بالعالم "المتحضر! " ومع ذلك قلب دلالتها قلبا كاملا، فبدلا من أن يقول إن ذلك دليل أكيد على صدقها التاريخي، قال إنها أسطورة أخذتها الأديان المتأخرة من الأديان السابقة!! والغالب أنه -كدارون- لم يكن يهوديا، ولكن اليهود استغلوا "علمه" استغلالا واسعا كما صنعوا مع دارون.. وسيأتي الحديث عنه عند مناقشة التفسير المادي للتاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 كانت الثورة الفرنسية -التي كسب فيها الأمميون شيئا من الكسب مشوبا بكثير من الخسران، وكسب فيها اليهود كسبا خالصا لمخططهم الشرير- أول معول في تحطيم الإقطاع والتمهيد للثورة الصناعية. ومن فرنسا انتشرت "مبادئ" الثورة الفرنسية وشعاراتها التي وضعها لها الماسونيون اليهود: "الحرية والإخاء والمساواة" فعمت أوروبا كلها وحطمت أسس الإقطاع فيها، وحررت "العبيد" ليكونوا غذاء للثورة الصناعية, ووقودا لها كذلك! وفرح العبيد المحررون فرحة عظيمة, ولا شك بتلك الحرية فالحرية دائما محببة إلى النفوس, والقيد بغيض ولو تبلدت النفوس عليه عدة قرون! وانطلقوا إلى المدن في هيئة عمال في المصانع. وكانت المدينة في ذاتها سحرا هائلا في أنفسهم, فهكذا ينظر أهل الريف دائما إلى المدينة, ولو كانوا فيها غرباء .... أما هؤلاء فقد كانت الغربة بالنسبة إليهم عارضا زائلا, فسرعان ما أصبحوا سكانا فيها أصلاء. ولقد كانت حرية التنقل في ذاتها كسبا ضخما طربت له نفوس العمال بعد أن كانوا مقيدين بالأرض مشدودين إليها لا يملكون مغادرتها ولو إلى الأرض الملاصقة لإقطاعيتهم. ثم لقد أصبحوا أجراء "أحرارا" بعد أن كانوا من العبيد ... صاروا يعملون ويقبضون في نهاية الأسبوع أجرا نقديا يمسكون به في أيديهم وينفقونه كيف شاءوا ليس لأحد عليهم سلطان. وكان لكل هذا نشوة تطرب لها النفوس. ولكن هذه النشوة لم تدم طويلا على أي حال, فقد انكشف الواقع الجديد عن صعوبات لم تكن مقدرة حق قدرها في بادئ الأمر ... فساعات العمل طويلة ومضنية والأجر مع ذلك قليل إذا قيس بمطالب المدينة وارتفاع أسعار الحاجيات فيها, ففي الريف لم يكن يدفع الناس أجرا للمسكن سواء كانوا أجراء أحرارا أو أقنانا يعملون في الأرض، فمساكن القرية تورث جيلا بعد جيل يتربى فيها كل جيل جديد لا يدفع فيها أجرا حتى ولو لم يشعر بملكية حقيقية لها؛ لأنها ملك للسيد الذي يملك الأرض بما عليها ومن عليها ملكية حقيقية أو معنوية ... وفي الريف لا يتكلف الناس لطعامهم وشرابهم كثيرا من المال، فمن منتجات الألبان ومنتجات الدواجن يأخذون اللبن والزبد والبيض واللحم "في المواسم على الأقل" ومما يزرعون يأخذون خبزهم وبقولهم وخضرهم فلا يكادون يحسون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 أنهم دفعوا فيها شيئا يذكر، وإن كانوا في الحقيقة يدفعون جهدهم كله في عمل مضن طوال العام، ويدفعون من كرامتهم وإنسانيتهم. والآن تغير الحال ... كثيرا. لم تعد وطأة "السيد" ذات وقع حسي مباشر كما كانت في ظل الإقطاع، وإن كانت الوطأة المعنوية قائمة ولا شك. قائمة في حاجة العمال إلى العمل من أجل الحياة، وغطرسة صاحب المصنع وتكبره وتجبره وتقتيره في الأجور. ثم إن العمل ذاته له وطأة؛ وهي وطأة حسية إلى جانب السطوة المعنوية لصاحب العمل. فهو عمل متواصل في إدارة الآلات -وكانت في مبدأ الأمر تحتاج إلى جهد بدني كبير في إدارتها- وليس من نوع العمل الريفي الذي كان مضنيا -نعم- ولكنه مرن في أدائه إلى حد ما. فأنت في الحقل حر -نسبيا- في أن تشغل المحراث ثلاث ساعات متوالية أو تشغله ساعة بعد ساعة بعد ساعة! وحر -نسبيا- في أن تجمع المحصول اليوم أو تجمعه غدا. وحقيقة إن "السيد" دائما هناك ووكيله الذي يشرف على عمل الفلاحين قاعد بالمرصاد يؤز الفلاحين للعمل أزا ولا يتركهم في راحة, ولكنه لا يستطيع أن يقف طيلة النهار على رءوسهم, ومن ثم يتنفسون بين الحين والحين، في حديث خاطف أو قصة مروية. أما السيد الجديد فلا يتيح شيئا من ذلك. صحيح أنه ليس له سوط يمسك به هو أو عامله "وكيله Steward" ليهوي به على ظهور العمال إن توانوا عن العمل، ولكن في يده سوطا معنويا لا يقل إيذاء وهو الخصم من الأجر أو الطرد من العمل! ثم إن الأجر -حتى إن سلم من هاتين الآفتين جميعا- ضئيل بالنسبة لمطالب الحياة. صحيح أنه -من حيث الكم- أضعاف ما كان يحصل عليه في الريف، ولكنه إذا وزع على المسكن والملبس والمطعم والمشرب لم يكد يفي بكل ذلك ولو على مستوى الكفاف. ثم إن هناك أمرا هاما جدا في هذه الحياة الجديدة كان له خطره البعيد في تشكيل صورة المجتمع الصناعي الناشئ وإعطائه الطابع الذي يوافق هوى الشياطين ... فإن الأجر الضئيل الذي يتناوله العامل ولا يكاد يفي بحاجته لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 يكن يسمح بحال بإنشاء أسرة في المدينة ذات التكاليف ومن ثم جاء العمال عزابا إلى المدينة -وهم في سن الشباب والفتوة- أو إن كانوا متزوجين تركوا أسرهم في الريف وعاشوا في المدينة كالعزاب. وأضيفت إلى متاعب الحياة في المدينة جوعة الجنس، وهي جوعة ليست باليسيرة بالنسبة للشباب في مثل هذه السن، وما كان يفد للعمل إلى المدينة إلا الأقوياء ذووا الأجساد. هل كان ذلك كله من تدبير اليهود أم هم استغلوه؟! يستويان. والأغلب أنه لم يكن من تخطيط اليهود، إنما هو من جشع أصحاب الأموال وأصحاب الصناعات يهودا وغير يهود. ولكن المؤكد أن "الحل" الذي قدم لهذه الأزمة كان هو الحل اليهودي الخالص الذي يعمل فيه اليهود من قديم. كان الحل هو البغاء! لم يكن هو بغاء "السادة" الذي تعرفه "المدينة" من قديم, فالمدينة الأوروبية كانت دائما تعرف ذلك اللون من البغاء الذي ينفق فيه السادة أموالهم الحرام -المغتصبة من دماء الفلاحين والعبيد- في طلب اللذة المحرمة، وكان اليهود ذوي صلة تاريخية بذلك البغاء يوقعون في حبائله السادة من "النبلاء"! ويسلبون به ما يقدرون على سلبه من أموالهم، حتى يلجئوهم إلى الاستدانة منهم بالربا ذي الأضعاف المضاعفة، ويفلس منهم في النهاية من يفلس وتئول أمواله إليهم! ولكن هذا البغا الجديد كان بغاء "شعبيا" خالصا لقاء دراهم معدودات! وفرك اليهود أيديهم سرورا فقد أمسكوا بأول الخيط! الخيط الذي يجر "الأممين" إلى حيث يريد لهم الشيطان. وجاءت الخطوة التالية. فقد بدأ العمال يضربون عن العمل جماعات ... يطلبون تخفيض ساعات العمل وزيادة الأجور. وفي دستور الرأسمالية -غير المكتوب- أنها ينبغي أن تحتفظ دائما بجيش من العاطلين تستخدمهم حين يضرب العمال العاملون حتى لا يتوقف العمل من جهة، وحتى يضربوا حركات الإضراب من جهة أخرى فيضطر العمال إلى الرجوع إلى أعمالهم صاغرين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ولأمر ما استخدمت الرأسمالية المرأة العاملة لتضرب بها حركات العاملين من الذكور.. وأعطتها نصف الأجر، وهي تعمل ذات القدر من العمل وذات العدد من الساعات!! هل كان هذا من تدبير اليهود أم هم استغلوه؟! الأغلب أنه لم يكن من تدبيرهم، وإن كان أشبه بتفكيرهم الشيطاني. ولكن المؤكد أنهم استغلوه إلى أقصى طاقة الاستغلال وجعلوه أداة لتنفيذ كل مخططهم الشرير. لم يقدم على العمل في بادئ الأمر إلا أفقر الفقيرات, فقد كان عمل المرأة في المصنع عارا هائلا جدا في حس المجتمع الخارج لتوه من الإقطاع، لم ينسلخ بعد انسلاخا كاملا من كل قيمه ومثله وأخلاقياته وتقاليده. كانت المرأة في الريف تعمل -بالطبيعة- في بيتها، فتربي الدواجن وتستخرج من اللبن منتجاته، وتنسج على المنسج اليدوي وما إلى ذلك من الأعمال كما كانت تساعد زوجها في أعمال الحقل في حدود معينة. وكان الريف متعارفا على هذا الأمر من قديم، وكان يحوط عمل المرأة بسياج معين من الأخلاق، والتقاليد المستمدة من الدين، فلا يحدث الاختلاط بالغرباء في غير ضرورة، ولا تحدث الفاحشة إلا شذوذا مستنكرا أشد الاستنكار في ذلك المجتمع المحافظ إلى درجة التزمت. والزواج المبكر يغني الشباب من الجنسين عن الصلات المحرمة، ويقيم الأسرة على أساس من القيم المتوارثة النابعة كلها من الدين. ولكن المرأة التي تركها عائلها وذهب "متحررا" إلى المدينة، ولم يعد لها عائل غيره، كانت مضطرة إلى العمل وإلا ماتت جوعا على الحقيقة لا على المجاز! فما كانت الجاهلية الأوروبية التي لا تطبق شريعة الله تعرف ما تصون به المرأة من الجوع والآثار المترتبة على الجوع! إن شريعة الله قد صانت المرأة في جميع أحوالها أما وبنتا وزوجة وأختا، فرتبت لها عائلا يعولها في جميع حالاتها سواء كان ولدا أو والدا أو زوجا أو أخا أو قريبا من الأقرباء يكلف تكليفا بإعالتها وصيانتها، ويكون مسئولا عن ذلك أمام الله وأمام شريعة الله، بحيث يؤخذ من ماله قسرا إن كان ذا مال وحجبه عن الإنفاق! فإن لم يكن لها أحد يعولها بالمرة -وهو أمر نادر في مجريات الحياة العادية- فبيت المال في الإسلام يكفل من لا عائل له، رجلا أو طفلا أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 امرأة. وهكذا لا توجد امرأة في المجتمع الاسلامي الذي تحكمه شريعة الله تضطر إلى العمل لكي تعول نفسها فضلا عن أن تعول سواها كما حدث في المجتع الصناعي "المتطور"! أما في تلك الجاهلية فقد وجد في الريف نساء كثيرات بغير عائل؛ لأن عائلهن تركهن وذهب إلى المدينة ثم عجز عن الإنفاق عليهن أو شغله البغاء عن بناء أسرة وتحمل تكاليفها. وشيئا فشيئا اضطر هؤلاء النساء إلى الهجرة إلى المدينة للعمل هناك، حيث التقطهن أصحاب المصانع يضربون بهن حركات العمال المطالبة بتخفيض ساعات العمل وزيادة الأجور, وعاملتهن الجاهلية بتلك الفظاظة الفذة، فأعطتهن نصف الأجر على نفس العمل ونفس الساعات! ولكن الأمر لم يقف مع الجاهلية عند هذا الحد, فالمرأة دائما "صيد" والمرأة المحتاجة صيد ميسر! وساومها "الرجل" الذي تعمل عنده.. إما أن تفرط في عرضها وإما أن تعود إلى الجوع الذي فرت منه! ولم تكن الجوعة في الحقيقة هي جوعة المعدة فحسب، وإن كات هذه كافية للسقوط! إنما كان إلى جانبها الحاجة الفطرية الطبيعية إلى الجنس، والحاجة إلى اللباس والزينة وهي بالنسبة للمرأة ليست كلها كماليات! وسقط من "الرعيل" الأول من العاملات من سقط, وفتحن الطريق! ووجد اليهود صيدا سهلا يشغلونه في صناعتهم العتيقة "العريقة" صناعة البغاء. وكتبت الصحافة الأوروبية كثيرا وكثيرا جدا عن البغاء باعتباره "ضرورة اجتماعية"! وأنه ينبغي أن يكون رسميا وأن يكون تحت إشراف الدولة!! وإذا علمنا -كما سنذكر فيما بعد- أن الصحافة الأوروبية كانت -وما تزال- تحت سيطرة اليهود، علمنا لحساب من كانت تكتب هذه الصحافة عن البغاء و"تزكيه"! ولو أن هؤلاء "الأممين" في أوروبا كانت لديهم ذرة من تفكير لعجبوا على الأقل -ولا نقول استنكروا ورفضوا- أن "الدولة" هي حارسة البغاء وحاميته وراعية شئونه! أي سخرية سخرها اليهود من الأممين، وهم يلعبون بهم على هذا النحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الشائن؟! وهم يشربون السم الذي يقدمونه لهم بلا روية, سم يمسخ الأرواح ويذهب بالعقول. وأيا كانت التعللات التي قدمت لتبرير البغاء، وتبرير إشراف الدولة عليه ورعايته، فهي سخرية المساخر في الجاهلية المعاصرة، وقمة من قمم التمكن اليهودي من "الحمير الذين خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار"! ورويدا رويدا أصبح البغاء الرسمي وغير الرسمي حقيقة واقعة في المجتمع له صفة "الشرعية" الكاملة، وتتحدث عن "تنظيمه" القوانين. وأصبح الذي يستنكر هذه الأوضاع رجعيا متزمتا، أو جاهلا مخرفا, أو منافقا تافها، أو "مثاليا" يعيش في الأوهام! وأصبحت هذه هي "الواقعية" الجديدة التي يدافع عنها الكتاب والخطباء والصحفيون والقصصيون والروائيون. والمحللون النفسانيون!! غير أن المسألة لم تقف عند هذا الحد، وإنما "تطورت" كثيرا فقد كثر العاملات في المصانع، اللواتي يقمن بنفس العمل ويتناولن نصف الأجر، بسبب استمرار هجرة العمال إلى المدينة وترك أسرهم بلا عائل, فأصبحت لهن "قضية" قضية المساواة في الأجر مع الرجل, وهي قضية عادلة دون شك، أيا كانت الظروف التي أدت إليها والملابسات التي أحاطت بها والنتائج التي ترتبت عليها فحين يعمل الرجل والمرأة نفس العمل، ويقومان بنفس الجهد، فأي مبرر في الأرض يبرر أن يأخذ أحدهما نصف الآخر1. ولكن الجاهلية الأوروبية التي لم تحكم قط بما أنزل الله قد ارتضت هذا الأمر، ورأت فيه شيئا طبيعيا لا يبعث على الاستنكار! ولكن النساء اللواتي وقع عليهن الغبن رأين -أو رؤي لهن- أن يطالبن بحقوقهن المسلوبة نقول: رؤي لهن؛ لأن التاريخ يشهد أنه كان هناك دائما محرك يحرك الأمور. وسواء كان اليهود هم الذين حركوا "القضية" أم قوم طيبون أخذتهم الشفقة بالمظلومات فطالبوا لهن بحقوقهن، فلا شك أن اليهود استغلوا الظروف لصالح مخططاتهم، وشدوا الخيط إلى أقصى ما يمكن أن ينشد.   1 ترث المرأة المسلمة نصف ميراث الرجل بمقتضى قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [سورة النساء: 11] ولكن هذا يجري في المال الموروث فقط. وحكمته أن الرجل يكلف من ميراث تكاليف لا تكلفها المرأة من ميراثها. أما المال المكتسب فالأصل الطبيعي فيه هو المساواة، وعلى ذلك تجري أحكام الإسلام في التجارة والزراعة والبيع والشراء والرهن والإجارة وسائر المعاملات المالية التي لا يختلف فيها مقدار الكسب باختلاف الجنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وسارت القضية في خطوات متتابعة، كل خطوة تؤدي إلى تاليتها بصورة تبدو طبيعية ومنطقية وتلقائية, وما كانت في الواقع تلقائية إنما كان ينفخ فيها الشياطين بصورة تظهرها في هذا الوضع. طالبت المرأة بالمساواة مع الرجل في الأجر فرفضت الرأسمالية الناشئة وأصرت على الرفض، كأنها تحافظ على وضع طبيعي لا يجوز تغييره ولا الخروج عليه! ورفض "الرجل" كذلك! كأن طلبها عدوان على حقوقه الشخصية أو عدوان على كيانه الذاتي! ولم تعد القضية مجرد المطالبة بالمساواة مع الرجل في الأجر، بل أصبحت -في ذات الوقت- قضية ضد "الرجل" الذي يرفض إعطاءها مالها من حقوق في عنجهية وغطرسة, وظل هذا الأمر يتسع كلما سارت القضية في مسارها خطوة، حتى أصبح في النهاية كأنه هو القضية! وانقلب الأمر بين شقي النفس الواحدة اللذين خلقهما الله ليكونا سكنا ومودة: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 1 {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 2 فأصبحت العلاقة هي العداء والصراع والمنافسة. وفرك الشياطين أيديهم سرورا بذلك "التطور" فأي شيء أفعل في فك روابط الأسرة وتقطيع أوصالها من إثارة الصراع والشقاق بين ركنيها الأساسيين؟! وما نريد أن نتعجل الأحداث! رفض أصحاب المصانع قضية المساواة في الأجر ورفضها الرجل كذلك، فطالبت المرأة -أو طولب لها في الحقيقة- بأن يكون لها حق الانتخاب حتى يكون لها -كما قيل- تأثير في اختيار المرشحين للمجالس النيابية فيدافعوا عن حقوقها المسلوبة حين يصلون إلى البرلمان، وكان الرجل قد نال هذا الحق "حق الانتخاب" قبل ذلك مع نمو الديمقراطية ونمو الحقوق السياسية للشعب3. ورفض الرجل إعطاءها هذا الحق، ولم يعترف أصلا بأن ذلك حق من حقوقها أو أمر جائز بالنسبة إليها.   1 سورة النساء: 1. 2 سورة الروم: 21. 3 سنتكلم عن الديمقراطية فيما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وتكفل رجال بالدفاع عن "قضية المرأة": محامون وكتاب وخطباء وصحفيون.. بينما ظل أغلبية الرجال يرفضون في إصرار, ولكن رويدا رويدا أخذت المعارضة تلين -أو في الحقيقة تلين- بالدق المستمر عليها بكل وسائل الأعلام المتاحة في ذلك الحين، وفي مقدمتها الصحافة, ومن بينها الخطابة والمحاضرة والتأليف. وظاهرة لين المعارضة بعد اشتدادها في أول الأمر تكررت في كل مرحلة من مراحل "القضية" بصورة واحدة تقريبا.. يبدأ "المدافعون" بإثارة القضية فتنهال المعارضة من كل جانب, وتحتد غضبات "الرجال" إلى حد يخيل للرائي أن الأمر قد انتهى إلى الأبد، وأن القضية فاشلة لا محالة! ورويدا رويدا تأخذ الأصوات المعارضة تخفت، والأصوات المدافعة تعنف وتشتد، حتى يأتي يوم لا يجرؤ فيه أحد على المعارضة؛ لأنه يصبح ضد التيار، ويصبح كلامه مستهجنا ويقابل بالاستنكار؛ لأنه رجعي متخلف، يريد أن يرجع عقارب الساعة إلى الوراء ويريد أن يقف عجلة التطور الساحقة التي تسحق كل من يقف في سبيلها!! كيف يتم الأمر على هذه الصورة؟! هل هي صورة طبيعية وتلقائية؟ أم تدخل فيها أصابع الشياطين؟! أما أنها طبيعية -من جانب- فنعم! فما كان المعارضون يعارضون عن إيمان حقيقي بقيم معينة، إنما هي عنجهية الرجل من جهة، وكون ذلك من "التقاليد" الموروثة من جهة أخرى, والتقاليد إذا فقدت الروح وفقدت المبدأ وفقدت الإيمان، لم تعد قادرة على الصمود في المعركة، خاصة إذا كانت معاول الهدم حادة، وكان المهاجمون أذكياء بل شريرين. ولكنها من جانب آخر لم تكن طبيعية. فلو تركت الأمور دون تدخل ودون توجيه، فلربما كانت التقاليد الموروثة تتغلب، أو ربما كانت عنجهية الرجل التقليدية تتغلب ... ولكن الذين بيدهم التوجيه الشيطاني كانوا -في كل مرة- يحولون دون أن تنتهي الأمور إلى هذه النتيجة التي لا تخدم أهدافهم، وتعطل مجيء اليوم الذي يركب فيه شعب الله المختار على ظهور الأمميين ويلهبها بالسياط! ولا نتحدث هنا عن العدالة في أي الجانبين كانت، ففي الجاهلية لا توجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 عدالة ... والمتصارعون كلهم كانوا يعيشون في جاهلية ترفض أن تحكم شريعة الله. وقد تكون بعض الأمور أو بعض الوجهات في هذه الجاهلية أعدل من بعضها الآخر، ولكنها في النهاية تبتعد عن حقيقة العدل؛ لأنها تصلح داء بداء آخر، وتعالج مرضا فتحدث عدة أمراض! فلئن كان المدافعون عن "حقوق المرأة" يبدون أكثر عدلا من الذين يحتقرونها ويهينونها ويستكثرون عليها أي حق من الحقوق، فإن الصورة التي نالت بها حقوقها قد أحدثت من الفساد والظلم ما لم يكن يخطر على بال! ومرة أخرى لا نحب أن نتعجل الأحداث! طالبت المرأة بحق الانتخاب الذي كان الرجل قد حصل عليه, ومن ثم أصبح للقضية بعد جديد -بعد سياسي- بعد أن كانت مجرد قضية مساواة في الأجر. ورفض طلبها بشدة في أول الأمر، ثم عادت المعارضة فلانت، وحصلت المرأة في معظم دول أوروبا على حق الانتخاب. ولكنها وجدت أن الأصوات الضئيلة التي تدلي بها في الانتخابات ليس لها وزن حقيقي في المعركة الانتخابية، وحتى إن أثرت تأثيرا جزئيا طفيفا في إنجاح مرشح معين، ممن يتعهدون -أو يكونون معروفين- بالتحمس لقضية المرأة والدفاع عنها في المجالس النيابية، فسرعان ما ينسى المرشح وعوده حين يصل إلى البرلمان، أو تضيع صيحته في زحمة الأعمال وزحمة الخطب والكلمات! عندئذ رؤي لها أن تطالب بحق الترشيح ودخول البرلمان, لكي تسمع صوتها بنفسها للذين يصنعون القوانين "كأنهم لم يكونوا سامعين من قبل" وتشارك بنفسها في إعداد التشريع فتضمنه ما يحفظ للمرأة حقوقها. وقامت قيامة المعارضة كما يحدث في كل مرة، واشتدت حتى ليظن الرائي أن الأمر لن يتم أبدا.. ثم ظلت أصوات المعارضة تخفت تدريجيا وتلين, حتى نالت المرأة حق الترشيح ودخلت البرلمان! ويجدر بنا أن نلاحظ ظاهرة "فنية! " في إدارة المعركة. لقد كانت الصحافة دائما من أوسع المجالات التي تدور فيها المعركة إن لم تكن أوسعها جميعا, والصحافة في أوروبا كانت -وما تزال- في أيدي اليهود، الذين يوجهون المعركة كلها لحسابهم الخاص. ومع رغبتهم الشديدة في أن تصل الأمور إلى إخفات صوت المعارضة نهائيا، وعدم السماح لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 بالظهور، فقد كانوا -في كل مرة يدعون الصحف تفسح صدرها للرأي المعارض مهما كانت شدة لهجته وقساوة عباراته! وهذا "فن" بارع ولا شك! فمن ناحية لم تكن الصحافة هي المجال الوحيد لأداء الرأي، بل كان إلى جانبه الخطابة والمحاضرة والتأليف. "ولم تكن وسائل الإعلام الأخرى قد اخترعت بعد، من إذاعة وسينما وتليفزيون.. إلخ" فلو أن الصحافة أغلقت أبوابها دون الرأي المعارض -وهو في حدته- لانكشف للناس تحيزها. وانكشف اللاعبون من ورائها، وفشلت اللعبة من أولها! بل ينبغي أن تبقى الصحافة "حرة! " في ظاهرها حتى يطمئن الناس إليها وتصبح أداة جبارة لتشكيل "الرأي" العام على النحو المطلوب. ومن ناحية أخرى فإن المعارضة والشد والجذب بين الرأي المعارض والرأي المؤيد، مطلوبان -لذاتهما- من أجل إنجاح المعركة والوصول بها -في النهاية- إلى الهدف المطلوب! هب أن الرأي المطلوب إرساء قواعده -وهو إعطاء المرأة حق الانتخاب مثلا- قد ألقى في الصحف أو في أي مجال من مجالات الإعلام فلم يأبه بمعارضته أحد ولم يتقدم لمناقشته وتفنيده أحد, أتراه ينجح أو يصل إلى هدفه؟ كلا! إنما يموت لتوه ويغطيه النسيان! ويكون في حس الناس أن مجنونا أخرق تقدم برأي شاذ فلم يأبه به أحد! أما حين تدور المعركة, بالمعارضة، وإن اشتدت في بادئ الأمر، فهذا هو الضمان أن ينشغل الناس بالقضية ويولونها اهتمامهم، وهذه هي الخطوة الأولى في طريق النجاح! ويكفي -في مبدأ الأمر- أن تدور المعركة حول الرأي! فمعنى ذلك أن الموضوع قابل للمناقشة, وأن هناك وجهات نظر مختلفة فيه -ولو كان بعضها ضعيفا غاية الضعف- وأن الأوضاع القائمة "المراد إزالتها" ليست حقيقة نهائية مقررة لا تقبل النقاش!. وما دام قد تقرر المبدأ، وهو أن الأمر قابل للنقاش وليس حقيقة نهائية فمن باب "الحرية! " ينبغي أن يسمح لكل الناس بإبداء آرائهم سواء كانوا مؤيدين أو معارضين، ليتاح "للرأي العام" أن يحكم على الأمر! عندئذ تأتي الخطوة "الفنية" التالية، وهي الإلحاح المستمر على وجهة النظر المطلوبة، والتقليل التدريجي من الرأي المعارض، مهما كان قويا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 حقيقته في الواقع الخارجي "أي: خارج دائرة الصحافة"، حتى يخيل للقارئ أن الرأي المعارض قد خفت بالفعل، وأن الرأي "المطلوب" أصبح هو الرأي الغالب. وعندئذ تخفت المعارضة بالفعل بتأثير هذا الإيحاء ويتغلب الرأي المطلوب، ويقال إن "الرأي العام! " قد اقتنع بالقضية وأصبح من المتحمسين لها! وترفع المرآة الزائفة أمام الناس فيظن كل واحد أن الآخرين كلهم قد اقتنعوا ولم يبق مترددا أو معارضا إلا هو! فيقتنع هو الآخر بالإيحاء! وتبقى -دائما بطبيعة الحال- قلة صلبة في معارضتها تأبى أن تذوب سواء كانت معارضتها ناشئة عن إيمان حقيقي بمبدأ معين أو حقيقة معينة، أو لأي سبب آخر, وهذه يجري التخلص منها بصورة من الصور، إما بمحاولة الشراء، وإما بتشويه السمعة, وإما بالتصفية البدنية إذا لم تفلح جميع الوسائل في ثنيها عن موقفها! وهكذا ارتفعت صيحات المعارضة في كل مرة طولب للمرأة فيها بحقوق جديدة، ثم لانت المعارضة أو لينت، وخفتت الأصوات بعد حين، وبقي الرأي "المطلوب" وحده مرتفع الراية في الآفاق، وقيل إنه "التطور الحتمي" الذي لا بد أن يأخذ مجراه، وإن عجلة التطور ستسحق كل من يقف لها في الطريق! دخلت المرأة البرلمان لعبة مسلية أكثر مما هي واقع جدي! ولم يتغير كثيرا حال المرأة بهذه اللعبة من ناحية "الحقوق" المطلوبة، ولكنها -من وجوه أخرى- تغيرت كثيرا ولا شك! كانت "القضية" في أثناء ذلك قد سارت مسارات شتى، وطرقت أبوابا جديدة. طالبت المرأة -أو طولب لها- بحق التعليم. وقد كان تعليم المرأة في المجتمع الجاهلي الأوروبي يتم في أضيق الحدود. فأما أصحاب القصور فيعلمون بناتهم في داخل قصورهم فيأتي المربون والمربيات والمعلمون والمعلمات إلى داخل القصر فيعلمون البنات تعليما "أرستقراطيا" يصنع منهن "سيدات قصور"! وأما "الشعب" فلا يكاد يعرف هذه القضية، قضية تعليم البنات, فإنما يتعلمن -داخل البيوت- إدارة البيوت وفنون الطهي وتربية النشء، وتربية الدواجن والماشية والغزل والنسيج اليدوي وما إلى ذلك من فنون المعاش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وقليل قليل من يتعلمن في المدارس، أكثرهن يتوقفن عند مرحلة ابتدائية. وقليلات يتعلمن فن التدريس أو فن التمريض. أما التعليم بمعناه العام فلم يكن يخطر على بال أحد من الرجال -ولا النساء- يومئذ أنه في يوم من الأيام يكون! وما حاجة المرأة إلى التعليم؟ وما حاجتها إلى العلم؟ إنما هي لتتزوج وتحمل وتلد وترضع، وتكون ربة بيت1. ولكن "القضية" المشتعلة مدت لسانا من اللهيب نحو هذا الميدان فاشتعل بنيران المعركة، واتسعت القضية -التي كانت في أساسها قضية المساواة مع الرجل في الأجر- فشملت في كل يوم أبعادا جديدة لم تكن لها من قبل، وترتب على هذه التوسعة الجديدة آثار خطيرة لم تكن في بال أحد من قبل على الإطلاق. هل كان في بال المخططين أنفسهم كل هذه الأبعاد وما يترتب عليها من آثار؟! ربما لم يكن ذلك كذلك! ولكن كل خطوة كانت تقربهم إلى أفق جديد يكتشفون أنهم يستطيعون منه إحكام الرمي، أما الهدف فواضح لهم من أول لحظة، وهو تحطيم الدين والأخلاق والتقاليد، وأما الوسائل فهي كل الوسائل المتاحة في كل لحظة، حتى تتاح وسائل جديدة فتستخدم على التو! ولقد أتاح لهم استخدام قضية التعليم وسائل هائلة جدا لتحقيق الهدف المطلوب، ربما لم تكن كلها في حسبانهم يوم بدءوا "اللعبة" ولكن كل خطوة كانت تكشف لهم الإمكانيات المتاحة للخطوة التالية فيسارعون إلى التحضير لها حتى إذا جاءت كانوا هم حاضرين! كانت قضية التعليم من أشد القضايا إثارة للمعارضة في المجتمع الأوروبي الجاهلي.. وكانت عنجهية الرجل فيها على أشدها, فقد كان التعليم خلال قرون طويلة حقا للرجل وحده، لا تنازعه فيه المرأة ولا ينبغي لها أن تنازعه فيه. وصيغت خلال القرون "نظريات" حول عقل المرأة وقابليتها للتعلم، خلاصتها أن المرأة لا يمكن أن تتعلم! هكذا خلقها الله! لا تصلح أساسا للتعليم! لا تفهم! إلا تلك الأشياء الصغيرة التافهة التي تناسب عقليتها   1 يلاحظ أن المجتمع الإسلامي انحدر إلى هذه النظرة في القرون الأخيرة حين بعد عن حقيقة الإسلام، فأوجد أمام الشياطين ذات الثغرة التي نفذوا منها لإفساد المرأة في أوروبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وطبيعتها من رعاية النشء "لأن عقلها صغير كعقل الأطفال فهي أقرب إلى مستواهم ومن ثم فهي أصلح لتربيتهم في سنواتهم الأولى حتى "يعقلوا" فيتولاهم الرجال" وإدارة شئون المنزل والغزل اليدوي والنسيج اليدوي وما أشبه ذلك من الفنون. أما العلم فلا! تلك مزية الرجل التي حباه الله بها فاختص بها خلال القرون. أوتجيء المرأة اليوم فتنازعه هذا الاختصاص؟! وأنى لها وهي لم تهيأ أصلا لتلقي التعليم؟ وماذا تفعل بالتعليم بعد أن تتزوج وتصبح ربة بيت؟ فعندئذ تستوي المتعلمة والجاهلة، إذ إن هذا أمر تقوم به الجاهلة خير قيام ولا يلزمها من أجله العلم، ولن تقوم به المتعلمة خيرا منها، بل قد تتفوق الجاهلة عليها؛ لأنها نالت من الدربة والخبرة فيه ما لا يتاح للمتعلمة التي تقضي شطر وقتها بعيدا عن البيت، وهو الميدان الأصلي للتدريب. ولقد كان في هذا الكلام كثير من الأباطيل ولا شك، وكان متأثرا تأثرا شديدا بالنظرة الكنسية المتزمتة إلى الجنس وإلى المرأة التي يتمثل فيها الجنس بالنسبة إلى الرجل، تلك النظرة التي وصلت إلى حد أن "فلاسفة" في القرن السابع عشر كانت "تتفلسف" في هذا الشأن فتتساءل: هل للمرأة روح أم ليس لها روح؟ وإذا كان لها روح فهل هي روح إنسانية أم روح حيوانية؟ وإذا كانت روحا إنسانية فهل هي من جنس روح الرجل أم من درجة أدنى؟! ولكن وجها واحدا للحق كان قائما في هذا الكلام كله المحتوي على كل تلك الأباطيل، هو أن التعليم -على النحو الذي كان يراد ويخطط له- كان يشغل المرأة عن وظيفتها الأساسية ويحولها إلى وجهات أخرى تتلقفها فيها الشياطين! هل اليهود ينشئون الأحداث على هواهم بتدبيرهم الماكر كما يقول وليم كار؟! كلا! إنما هم يستغلون الأحداث، ويتربصون لينفذوا من أي ثغرة تعرض لهم في حياة "الأمميين" ولكنهم لا ينشئون الأحداث من عند أنفسهم مهما خططوا ومهما دبروا مئات من السنين أو ألوفا من السنين! فلولا أن الجاهلية الأوروبية شغلت المرأة بنصف أجر الرجل، فمن أين كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 لليهود أن ينشئوا للمرأة قضية؟ ولولا أن تلك الجاهلية حرمتها من التعليم تحقيرا وامتهانا لها فمن أين كان لليهود أن يوسعوا القضية حتى تشمل تعليم المرأة، ثم يحدثوا عن طريق تعليمها كل ما أحدثوا من الفساد؟! كلا! إن "الأمميين" هم الذين يتيحون الفرصة -بأعمالهم- ليستحمرهم شعب الله المختار ويركب ظهورهم، ولولا أعمالهم الخطائة تلك ما استطاع شعب اله المختار أن يركب, مهما كان في قلبه من الغل، ومهما كان في عقله من التدبير. ونمضي مع قصة تعليم المرأة فنجد المعارضة الثائرة في أول الأمر، ثم نجد هذه المعارضة تخفت رويدا رويدا ويمضي ما كان يبدو مستحيلا في مبدأ الطريق! عند بدء المعركة طالب المطالبون بإنشاء تعليم لا يبعد المرأة إبعادا كاملا عن وظيفتها، وإن كان يبعدها -دون شك- إلى حد غير قليل! فقد أنشئ لها تعليم "نسوي" يحوي العلوم التي تعطى للأولاد، مضافا إليها دروس في تدبير المنزل ورعاية النشء وبعض الفنون النسوية كشغل الإبرة والتفصيل والخياطة.. إلخ، وكان هذا مجرد خطوة في الطرق، حتى يحين الوقت الذي تلغى فيه المواد النسوية إلغاء كاملا ويتم "ترجيل" المرأة. كذلك طالب المطالبون بتوفير الصيانة الخلقية التامة للفتاة التي تذهب إلى المدرسة، فتذهب وتعود في سيارة مقفلة مغطاة بالستائر، أو يذهب معها ذووها ويعودون بها بحيث لا تتعرض للفتنة في الطريق! والحكمة في هذا وذاك واضحة! فلو أن المخططين كشفوا عن وجوههم دفعة واحدة، ودفعوا الفتاة الذاهبة إلى المدرسة للتبرج من أول لحظة، أو دفعوها للانسلاخ الكامل من أنوثتها فأي أب كان يبعث بابنته إلى المدرسة، والتيار المعارض جارف والحملة ضد تعليم المرأة قائمة على قدم وساق؟! لا بد من طمأنة أولياء الأمور طمأنة كاملة في مبدأ الطريق، حتى يرسلوا ببناتهم إلى المدرسة وعندئذ -بعد أن يذهبن بالفعل- يكون لنا معهن دور أي دور! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ورويدا رويدا على مدى طويل بطيء1 ظلت المواد النسوية تتضاءل، بحجة عدم الإثقال على الفتاة, أو بأية حجة أخرى! وتقترب المناهج بين البنات والبنين حتى صارت متطابقة تماما في آخر الأمر. مناهج رجالية كاملة!! ورويدا رويدا كذلك وبنفس البطء بدأت فتاة المدرسة تتحلل من القيود الصارمة التي فرضت عليها -بعناية- في مبدأ الأمر! فلم تعد السيارة مغطاة بالستائر، ولم يعد ذووها يوصلونها إلى المدرسة أو يعودون بها إلى البيت! وجاء الوقت الذي تقدمت فيه الفتيات إلى الشهادة الثانوية على مناهج البنين كاملة بلا زيادة ولا نقصان، وحدثت "المعجزة" فنجحت الفتيات في الامتحان الموضوع أصلا للبنين، بل تفوقن عليهم في غير قليل من الحالات! وحدثت ضجة هائلة -في الصحافة بصفة خاصة- لم تهدأ من قريب! ها هي ذي الفتاة التي قلتم عنها إنها لا تفهم ولا تستطيع أن تتعلم, ها هي ذي التي قلتم عنها إنها أقل ذكاء من الفتى, وأقل قدرة على الاستيعاب, ها هي ذي التي قلتم عنها إنها لا تصلح -إن صلحت على الإطلاق- إلا للمناهج النسوية الخالصة, ها هي ذي تدخل ذات الامتحان مع الفتى فتجاريه بل تتفوق عليه! أرأيتم أيها الرجعيون؟! أرأيتم أيها الظالمون؟! أرأيتم يا جنس الرجال؟ أيها المغرورون أيها المتعصبون. ولئن كان نجاح الفتاة قد قوبل بالاستغراب الكامل في الغرب، فما ينبغي أن يستغرب في الحقيقة، فقدرة الفتاة على التحصيل العلمي لا تفترق عن قدرة الفتى حين تتخصص لها وتوليها جهدها ... أما تفوق الفتاة أحيانا فقد كان مرجعه إلى روح التحدي من جهة، وانقطاع الفتاة للاستذكار في المنزل بينما الأولاد مشغولون -في الشارع- بألوان من النشاط لا تمارسها الفتيات في ذلك الحين! وليست القضية -كما أثارتها الجاهلية من جانبيها، جانب المعارضة وجانب التأييد- هي القدرة على التحصيل على ذات المستوى عند كل من الجنسين، إنما القضية هي الإعداد المناسب لوظيفة كل من الجنسين   1 هناك مثل إنجليزي يقول: بطيء ولكنه أكيد المفعول Slow but sure، وعلى ذات الحكمة يسير اليهود في تنفيذ مخططاتهم حتى لا يتنبه الأمميون من غفلتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 واستعداده النفسي بصرف النظر عن قدرته العقلية. يقول الدكتور ألكسيس كاريل في كتاب "الإنسان ذلك المجهول L'Homme cet unconnu "ص108, 109 من الطبعة الثالثة من الترجمة العربية لشفيق أسعد". "إن الاختلافات الموجودة بين الرجل والمرأة لا تأتي من الشكل الخاص للأعضاء التناسلية، ومن وجود الرحم والحمل، أو من طريقة التعليم. إذ إنها ذات طبيعة أكثر أهمية من ذلك. إنها تنشأ من تكوين الأنسجة ذاتها, ومن تلقيح الجسم كله بمواد كيمائية محددة يفرزها المبيض, ولقد أدى الجهل بهذه الحقائق الجوهرية بالمدافعين عن الأنوثة إلى الاعتقاد بأنه يجب أن يتلقى الجنسان تعليما واحدا، وأن يمنحا قوى واحدة ومسئوليات متشابهة. والحقيقة أن المرأة تختلف اختلافا كبيرا عن الرجل, فكل خلية من خلايا جسمها تحمل طابع جنسها, والأمر نفسه صحيح بالنسبة لأعضائها, وفوق كل شيء بالنسبة لجهازها العصبي, فالقوانين الفسيولوجية غير قابلة للين مثل قوانين العالم الكوكبي. فليس في الإمكان إحلال الرغبات الإنسانية محلها. ومن ثم فنحن مضطرون إلى قبولها كما هي. فعلى النساء أن ينمين أهليتهن تبعا لطبيعتهن ولا يحاولن تقليد الذكور، فإن دورهن في تقدم الحضارة أسمى من دور الرجال، فيجب عليهن ألا يتخلين عن وظائفهن المحددة". ولكن الجاهلية -من جانبيها كما قلنا- ركزت على المقدرة العقلية أكثر من أي شيء آخر، فخسر المعارضون حين نجحت الفتاة بل تفوقت أحيانا على الولد، وهلل المدافعون وأمعنوا في إثارة الضجة حول قدرة الفتاة التي لا تقف عند حد، ومساواتها التامة للرجل في كل شيء! حقيقة إن قضية الوظيفة والاستعداد النفسي قد أثيرت من جانب المعارضين، ولكنها أثيرت بروح التحقير والامتهان، لا على أساس توزيع الوظائف والتكاليف على شقي النفس الواحدة مع المساواة في الإنسانية كما قال رب العالمين ورسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 1.   1 سورة النساء: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} 1. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. "إنما النساء شقائق الرجال" 3. لذلك كانت موضع الرفض الكامل من الفريق الذي تصدى للدفاع عن المرأة، وكانت موضعا لتنديدهم بعنجهية الرجل المتغطرس على غير أساس! وما نقول إن إثارتها على النحو الصحيح كما شرعها الله كانت ستجدي شيئا في الدوامة التي أثيرت حول "قضية المرأة" ووجهت توجيها معينا منذ البدء يخدم أغراض الشياطين، إنما نقول إنه لو كانت الحياة في المجتمع الأوروبي قد سارت منذ البدء على هدى المنهج الرباني لما وجد الشياطين قضية يثيرونها ويلعبون بها على النحو الخطير الذي فعلوه. وحين نجحت الفتاة في الدراسة وساوت الولد أو تفوقت عليه أحيانا فهل كان هناك شك في الخطوة التالية؟! طالبت -أو طولب لها- بدخول الجامعة! ويبدو الأمر طبيعيا جدا ومنطقيا جدا ... بينما تبدو المعارضة قائمة على غير أساس! وعلى أي حال فقد قامت المعركة المعتادة كما قامت من قبل مع كل خطوة سابقة وكما قامت من بعد في كل خطوة لاحقة. قال المعارضون: إن نجاحها في المرحلة الثانوية لا يعتبر دليلا على مقدرتها على الدراسة الجامعية، فالجامعة شيء آخر غير الدراسة الثانوية! وقالوا: إن التعليم الجامعي لا يناسب طبيعتها "وهي هنا الطبيعة الرقيقة اللطيفة" فهو تعليم جاف لا يناسب إلا الذكور! وقالوا: إن مكان الفتاة الطبيعي هو البيت، لتكون زوجة وأما وراعية أطفال، وليس هو الجامعة البعيدة كل البعد عن طبيعتها والمعطلة لها عن وظيفتها طوال مدة الدراسة. وقالوا: إنها ماذا تفعل بالدراسة الجامعية؟ وما حاجتها إليها حين تصبح ربة بيت وزوجة وأم أطفال؟!   1 سورة آل عمران: 195. 2 سورة النحل: 97. 3 رواه الترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وقالوا: إنها تتزوج -عادة- في السادسة عشرة أو السابعة عشرة.. فمتى تذهب إلى الجامعة؟! وقالوا: إن ذلك يخالف التقاليد. وصمد "المدافعون عن حقوق المرأة" لهذه الهجمات كلها, وكأنهم -الآن- قد أصبحوا يعرفون النتيجة! إنها مسألة وقت فحسب! أما المخططون فما كانوا ليكشفوا أوراقهم كاملة من أول لحظة فذلك ينافي "فن" اللعب، كما أنه قمين بإفساد اللعبة بكاملها. أيقولون للناس الآن ماذا يريدون أن يفعلوا بقضية المرأة في المستقبل فيحجم الآباء عن إرسال فتياتهم إلى الجامعة، بل تحجم الفتيات أنفسهن بالبقية الباقية فيهن من الدين والأخلاق والتقاليد ... والحياء! الحياء الأنثوي الفطري الذي خلقه الله، والذي يخطط لإفساده شعب الله المختار! كلا! إنما يترك ذلك للتخطيط البطيء.. بطيء ولكنه أكيد المفعول! قال المدافعون: إن الفتاة ستثبت جدارتها في التعليم الجامعي كما أثبتت جدارتها من قبل في التعليم الثانوي. وكنتم أيها الرجعيون المتزمتون تشككون في قدرتها على تلقي علوم الأولاد في المرحلة الثانوية ونجاحها فيها فهزمكم الواقع وأسقط حجتكم وألجم أفواهكم! وسيتبين لكم غدا أنكم كنتم واهمين بالنسبة للتعليم الجامعي كما كنتم واهمين من قبل بالنسبة للعليم الثانوي.. فقط اتركوا لها الفرصة لتثبت مقدرتها! كيف تحكمون على شيء لم تجربوه بعد؟! وقالوا: إن الرجل يخشى المنافسة! يخشى على مكانته "التقليدية" أن تنافسه فيها المرأة فيفقد هذه المكانة! إنها عقدة النقص! لو كان الرجل واثقا من نفسه ما خشي المنافسة! إنه يلجأ إلى "التقاليد" ليحمي امتيازاته! تلك التقاليد البالية المتعفنة التي ينبغي أن تزول! التقاليد التي تحتقر المرأة وتمتهنها وتجعلها مستعبدة للرجل! لا عبودية بعد اليوم! وقالوا: إن الدراسة الجامعية لا تمنع المرأة عن وظيفتها, فما الذي يمنعها أن تتزوج؟ فقط تؤجل الزواج بضع سنوات! ومن أرادت أن تتزوج وتترك الدراسة الجامعية فمن يمنعها! وقالوا: إن الدراسة الجامعية -على العكس- توسع مداركها وتوسع آفاقها فتعينها على أداء وظيفتها! أتريدون أن تكون أمهات أطفالكم جاهلات؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 أوليس الخير لكم أن تكون الأم متعلمة فتحسن تربية أولادها؟! وقالوا: إن الفتاة يمكن أن تختار من الدراسات الجامعية ما يناسب طبيعتها "الرقيقة اللطيفة" فتدرس الأدب في كلية الآداب. أليست الفتاة رقيقة المشاعر رقيقة المزاج؟ أوليس الشعر والأدب يرقق المشاعر ويوسع الخيال؟! فأي مانع لديكم؟! وتدرس الطب لتطبب النساء, أي مانع لديكم؟! وتتخرج مدرسة لتعليم البنات, أي مانع لديكم؟! ولكن بقيت -مع كل ذلك- عقبة غير ذلول. التعليم الجامعي معناه الاختلاط.. اختلاط الفتيات بالشبان في الجامعة.. ودون ذلك يحول الدين والأخلاق والتقاليد "ولم يفكر أحد -من طرفي الجاهلية: المؤيدين والمعارضين- في عمل جامعات نسوية خاصة بالفتيات". وكانت تلك العقبة هي البندقة الصعبة الكسر كما يقولون في أمثالهم ... فقد تشبث المعارضون بالتعلق بالدين والأخلاق والتقاليد في وجه قضية الاختلاط. واحتال المدافعون لتزيين الاختلاط في بادئ الأمر، ثم لجئوا في النهاية إلى الكشف عن وجوههم جهرة، ومهاجمة الدين والأخلاق والتقاليد مهاجمة صريحة حين أصبح ذلك -بالدق المستمر- أمرا في حيز الإمكان. قالوا: لا تخافوا! لن يحدث شيء على الإطلاق! إنها لا تختلط به في رقص ولا لهو! إنها تختلط به اختلاطا "بريئا" في جو علمي خالص, تحت إشراف الأستاذ وسمعه وبصره, الأستاذ هو الوالد والمربي والموجه لكلا الشاب والفتاة في قاعة الدرس، وتحت إشرافه التربوي التوجيهي يجلس الفتى والفتاة ساعة من الوقت يتلقون العلم, ويتناقشون في قضايا علمية وإنسانية واجتماعية وفكرية, فأي جو أطهر من هذا الجو وأقدر على رفع المشاعر وتهذيب الأخلاق؟! من ذا الذي يخطر له -في هذا الجو- أن يسيء الأدب أو يسيء إلى الأخلاق أو تخطر في باله خاطرة من خواطر الفساد؟! بل إن الاختلاط ذاته أداة للتهذيب! ألا ترون إلى الشبان في مجتمعاتهم كيف تجري بينهم الألفاظ الخشنة والألفاظ الخارجة .... أيجرؤ أحدهم -في حضرة الفتيات- أن يتلفظ بلفظ خارج؟ بل إن الاختلاط أداة لنفي خواطر الجنس! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ألا ترون أن صورة المرأة في حس الرجل -لأنها بعيدة عنه- هي صورة الجنس؟ وأن صورة الرجل في حس المرأة -لأنه بعيد عنها- هي صورة الجنس؟ فإذا التقيا في هذا الجو الطاهر البريء.. جو العلم والقضايا الفكرية والإنسانية والاجتماعية، كف الرجل عن النظر إلى المرأة على أنها "أنثى" وفكر فيها على أنها "امرأة" أنها إنسانة.. أنها شريكة في أمور الحياة, وكفت المرأة كذلك عن التفكير في الرجل على أساس الجنس والعلاقات الجنسية، ورأت فيه الزميل والشريك والإنسان. أي تهذيب للجنس أشد من ذلك التهذيب؟! وابتلع "الأمميون" الكأس المسمومة ... وشربوها حتى الثمالة!. ولا شك أن الأمميين ما كانوا ليدركوا أبعاد اللعبة بكاملها.. وإلا فإن البقية الباقية من الدين والأخلاق والتقاليد كانت قمينة أن تردهم عن الخوض في المستنقع الآسن لو رأوه على حقيقته منذ أول خطوة، مع كل المعركة القائمة ضد الكنيسة, ومع كل الوهن الذي أصاب الدين في نفوسهم, فإن الفطرة ذاتها لتنفر من المستنقع الآسن حين تكون فيها بقية من بقايا السلامة أيا كان مقدارها ... ولكنها لا تعود تنفر منه، بل تستعذب البقاء فيه إذا غرقت فيه بالفعل وفقدت كل سلامتها ولم يبق لها منها شيء، وتصبح كدودة الأرض التي تعيش في الطين العفن, إذا أمسكت بها لتخرجها أفلتت منك وزادت لصوقا بالطين! وكذلك سار الشياطين بالأمميين، يجرونهم خطوة خطوة حتى أغرقوهم في المستنقع الآسن وجعلوهم يستعذبون البقاء فيه! احتدمت المعركة كثيرا بالنسبة لدخول الفتيات في الجامعة ... ولكن النهاية كانت كما كان متوقعا -من سير الأحداث- أن تكون. دخلت فتيات قليلات في مبدأ الأمر إلى الجامعات معظمهن في كليات الآداب ... وكن بلا شك هن أجرأ الفتيات في ذلك الحين. وسارت الأمور سيرا "طبيعيا" لفترة من الوقت، فما كان من الممكن تحطيم التقاليد دفعة واحدة، وما كان المخططون أنفسهم يرغبون في العجلة -مع لهفتهم الأكيدة في الوصول إلى النتيجة- فقد كانوا يعلمون أن العجلة تفسد اللعبة بأكملها، وتثير التوجس، وتصدق ظنون المتشككين، وتؤيد دعاوى "المتزمتين" الذين قالوا من أول لحظة إن دخول الفتاة الجامعة نذير شر عظيم يحل بالمجتمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وكان للفتيات حجرة خاصة من أجل راحتهن وزينتهن وخلوتهن.. وكن يهرعن إليها فيما بين المحاضرات لكي لا ينفردن بالطلاب في غيبة الأستاذ الذي يتم في حضوره "الاختلاط البريء"! ولكن الأمور لم تظل على هذه الصورة، وليس من شأنها أن تظل.. وكان المخططون يعلمون أنها لن تظل! رويدا رويدا بدأت "أجرأ" الفتيات تتلكأ فلا تذهب إلى حجرتها فيما بين المحاضرات.. وبدأ أجرأ الفتيان يلقي إليها بتحية.. ثم حديث.. وجاءت ثانية وثالثة.. وصار من المعتاد أن يبقى الفتيات في الحجرة لا يغادرنها بين الدرس والدرس.. وصار من المعتاد أن تجري التحية ويجري الحديث.. وكان حديثا "بريئا" دون شك! فمن ذا الذي يملك أن يتحدث في ذلك الحين حديثا غير بريء؟ وأى فتاة مهما يكن من "جرأتها" تستطيع -في ذلك الوقت- أن تتلقى حديثا غير بريء وتتقبله أمام الآخرين؟! بقية من الحياء، إن لم يكن هناك دين ولا أخلاق ولا تقاليد! وهذه البقية من الحياء هى التي عمل الشياطين على قتلها والقضاء عليها، فما تصلح الخطة كلها إن بقي عند الفتاة شيء من هذا الحياء الفطري الذى خلقه الله في الفطرة السليمة سياجا يحمي الفتاة من السقوط والتبذل، وميز به أنثى الإنسان عن إناث الحيوان1، كما جعل للعفة علامة حسية في جسدها ميزها بها عن إناث الحيوان، فجعل أخلاق الجنس جزءا لا من التكوين النفسي وحده، ولكن من التكوين البيولوجي والفسيولوجي كذلك لأنثى الإنسان. ولكن الجاهلية المعاصرة التي يقودها اليهود ويقودون الناس إليها تأبى هذا التميز الفطري عن الحيوان، سواء في قضية العفة أو في قضية الحياء.. لأن شعب الله المختار لا يريد أن يبقي على شيء من آدمية الآدميين؛ لأنهم حينئذ سيرفضون أن يركبهم الشعب المختار ويسخرهم لمصالحه.. سيرفضون أن يكونوا الحمير التي تركبها الشياطين. لذلك جردوا حملاتهم على الفتاة لتكون قليلة الحياء!   1 أشرت في الجزء الثاني من منهج التربية الإسلامية إلى قصة كانت مشهورة في النصف الأول من هذا القرن، حيث عثر على فتاة كانت تعيش منذ طفولتها حتى السابعة عشرة من عمرها مع الغزلان، عارية تماما بغير حياء، فاستأنسها العلماء، وظلوا يستردونها إلى الإنسانية خطوة خطوة، فلما بلغت مدى معينا من الحس البشري أحست -تلقائيا- بحياء الأنثى الفطري، وتغير سلوكها عما كانت عليه من قبل وهي تعيش في عالم الحيوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 إنها حبيسة التقاليد! إنها حبيسة القيود الطويلة التى غللتها خلال القرون! إنها ما تزال غير واثقة في نفسها، من تأثير السلطان الطويل الذي مارسه الرجل عليها وأذل به كرامتها! إنها خائفة.. لأنها متأثرة بتقاليد المجتمع الزراعي المتأخر! إنها لا تريد أن تعيش عصرها، الذى حررها من القيود وجعلها مساوية للرجل..إنها.. إنها.. إنها..! وفي الوقت ذاته جردوا حملات التشجيع لكل فتاة خلعت حياءها وأصبحت قليلة الحياء.. فالمجلات تنشر الصور، وتشيد "بالتحرر" وتكتب التعليقات التي تجعل كل فتاة تتمنى أن لو استطاعت من لحظتها أن تتجرد من حيائها كله لتصبح شهيرة ومعروفة وموضع حديث بين الناس.. والشهرة شهوة لا ينجو من جذبها أحد من البشر -رجالا أو نساء- إلا من رحم ربك، وقليل ما هم! وبصفة خاصة شهوة نشر الصورة بوسيلة من وسائل الإعلام.. فكيف إذا كانت الفتاة جميلة؟ والشياطين يبدءون دائما بالجميلات! ومع كل ذلك فقد استغرق الشياطين قرابة نصف قرن حتى أذابوا أو أزالوا البقية الباقية من الحياء، كما أزالوا البقية الباقية من الدين والأخلاق والتقاليد. امتد الاختلاط البريء كما كان متوقعا من حجرة الدرس إلى فناء الجامعة. على استحياء أول الأمر.. لا تنفرد فيه فتاة وحدها مع فتى بمفرده، حتى لا تضيع سمعتها بين الفتيات أنفسهن قبل الشبان.. ثم تقدمت "أجرأ" الفتيات، أي: أقلهن حياء فقبلت دعوة أجرأ الشبان إلى الوقوف أو المسير معها لحظة منفردين في الفناء, ولكن في غير عزلة عن الجموع، وفي أدب ظاهر للجميع. وما هى إلا أن يتعود الطلاب المنظر -والنفس تتبلد على المنظر المكرور حتى تفقد حساسيتها له, ما لم تكن تصدر عن عقيدة حية وإيمان حي بقيم ومثل مضادة- ما هي إلا أن يتعود الطلاب حتى يتكرر المنظر بين أزواج متعددين من أجرأ الفتيات وأجرأ الفتيان، حتى يصبح الأمر عاديا وميسرا لا يحتاج إلى "جرأة" فيقتحمه كل فتى وتقتحمه كل فتاة! وحين يصبح الجميع كذلك أو الأغلبية فلا بد -في طبائع الأشياء- أن يخطو الأمر خطوة جديدة إلى "الأمام"! إنه -لهذا- جعل الله معيار الخيرية في أية أمة هو الأمر بالمعروف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 والنهي عن المنكر، ومثار اللعنة على أية أمة ألا يتناهى فيها عن المنكر ولا يؤمر بالمعروف. {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1. {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 2. لأن المنكر إذا نهي عنه تَوّ حدوثه يتوقف فلا يمتد ولا يتوسع.. أما إذا سكت عنه فإنه يزداد، ويظل في ازدياد حتى يصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا، وعندئذ تفسد الحياة، وتحل اللعنة التي كتبها الله.. ولقد أصبح من الأمور المعتادة أن ينتحي فتى وفتاة جانبا من الفناء ليتناجيا لا ليتحدثا حديثا عاما بصوت مسموع! وتبدأ -بطبيعة الحال- قلوب تكون أميل إلى قلوب.. ويكون حديث النجوى هو حديث هذه العواطف التي تتجاوب بها القلوب! والعواطف -حتى الآن- "بريئة"! لا لأنها في طبيعتها بريئة.. ولكن لأنها -حتى الآن- محصورة في داخل الجامعة لا تستطيع أن تخرج إلى الطريق.. لأن المجتمع لم يتعود بعد أن يرى الاختلاط في قارعة الطريق.. لقد كانت هناك طبقة فاسدة -دائما- في المجتمع هي طبقة "الأرستقراطيين" أصحاب القصور، وهذه يعرف عنها الاختلاط "غير البريء" وتنشر فضائحها على المجتمع وتتناقلها أفواه الناس.. ولا تبالي! لأنها -دائما- بتأثير الترف الفاجر الذي تغرق فيه ضعيفة الإحساس بالقيم والمبادئ، والقيم الخلقية بصفة خاصة.. وانظر إلى امرأة العزيز في مجتمع آخر وزمان آخر مختلف كل الاختلاف ولكنه يلتقي في هذه النقطة مع كل مجتمع مترف في التاريخ.. انظر إليها كيف تصارح نساء طبقتها بالفاحشة ولا تبالي أن يتحدث المجتمع عن "فضيحتها".. إنما تغضب غضبا "طبقيا" فقط؛ لأن ألسنة النسوة تستنكر منها أن تتجه بنزوتها إلى عبد مملوك لها، وإن كانت   1 سورة آل عمران: 110. 2 سورة المائدة: 78, 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 لا تستنكر النزوة في ذاتها، ولا تعترض عليها لو كانت مع رجل أو شاب من "طبقتها"1! {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكًَا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ، قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} 2! ولقد كانت هذه الطبقة في أوروبا تحت تسلط اليهود من قديم كما مر بنا من قبل، ييسرون لها البغاء المترف في المدينة، ويوقعونها في الدين والربا ذي الأضعاف المضاعفة، ويسلبون ثرواتهم عن هذا الطريق. ثم سنحت لهم الفرصة لإفساد طبقة أخرى من طبقات المجتمع حين تحرر عبيد الإقطاع وجاءوا إلى المدينة شبابا فارها بلا أسر، فيسرت لهم البغاء الشعبي ووضعت "الدولة" حارسة أمينة عليه! وزادت الفرصة سنوحا لإفساد هذه الطبقة -طبقة العمال- حين بدأت المرأة التى هجرها عائلها في الريف تفد للعمل في المصانع, وتفرط في عرضها لقاء لقمة الخبز، فصار الفساد في داخل الطبقة قريب المنال. ولكن هذا وذاك لم يكن كافيا، ولم يكن ليحقق مطامع اليهود في المجتمع الجديد "المجتمع الصناعي المتطور". إن "الأرستقراطية" -سواء الأرستقراطية الإقطاعية البائدة أو الأرستقراطية الرأسمالية الناشئة- لا تستطيع -بفسادها- أن تفسد المجتمع كله، لأنها -دائما- معزولة في قصورها وحفلاتها الماجنة الخاصة، تحتمي في داخل تلك القصور من العيون المتطلعة، وتمنع عدواها في الوقت ذاته عن الناس؛ لأن جرثومتها "طبقية" لا تعمل إلا داخل القصور ولا تعدي إلا أصحاب القصور! أما إفساد طبقة العمال -وإن كانوا عددا غير قليل ويتزايد على الدوام- فلم يكن يومئذ ليفسد المجتمع الجديد؛ لأنهم -بعد- طبقة محتقرة   1 انظر تفسير الآيات في "ظلال القرآن". 2 سورة يوسف: 30-32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 مزدراة، تنظر إليها كلتا الطبقتين العلويتين: الطبقة الوسطى والطبقة الأرستقراطية نظرة ازدراء وتعال فلا تنتقل منها العدوى إلى غيرها مهما بلغت هي في ذاتها من التبذل والفساد.. ولقد كان المطلوب بالذات هو إفساد الطبقة الجديدة الناشئة في المجتمع الرأسمالي، التي تسير الأمور -ظاهريا على الأقل- في ذلك المجتمع الجديد، وهى الطبقة المتوسطة. لقد كانت الديمقراطية الناشئة في المجتمع الرأسمالي الناشئ تنمو تدريجيا، وكانت في أثناء نموها تبرز بصورة متزايدة هذه الطبقة الجديدة: الطبقة المتوسطة، التي لم يكن لها وجود في المجتمع الإقطاعى، أو كان وجودها ضعيفا لا يؤبه به. وفي ظل الديمقراطية كانت هذه الطبقة الجديدة تناضل لكي تصبح هي الطبقة الحاكمة، وتنزع السلطان من الذين استقلوا به من قبل, وطغوا به على "الشعب" وهو الأغنياء أصحاب الأموال1. كانت المجالس النيابية تتجه رويدا رويدا أن تكون غالبيتها من هذه الطبقة، وكان منها معظم موظفي الدولة في صورتها الجديدة، من الموظف الناشئ إلى وكلاء الوزارات والوزراء، وكان منها بصفة عامة الطبقة المثقفة التى توجه أفكار المجتمع وتحدد له اهتماماته واتجاهاته الفكرية والسياسية والخلقية والفنية.. إلخ2، وكان منها بصفة خاصة مدرسو المدارس وأساتذة الجامعات، أي: جهاز التربية والتشكيل للمجتمع الجديد.. باختصار كانت هي الأداة الجديدة للحكم في ظل الديمقراطية الرأسمالية، أيا كان المستفيد الحقيقي من هذه الأداة. لذلك كان لا بد في تخطيط المخططين من إفساد هذه الطبقة بالذات، فإن فساد الطبقة الأرستقراطية وطبقة العمال -مع فائدته التي لا شك فيها بالنسبة لليهود- لم يكن ليؤدي الدور المطلوب في إفساد المجتمع الجديد الذي   1 سنرى من بحثنا للديمقراطية فيما بعد أن الطبقة المتوسطة نالت حقوقا كثيرة لم يكن لها وجود من قبل، ولكن السلطان الحقيقي ظل في يد الرأسمالية الحاكمة من وراء الستار. 2 لا ينفي هذا سيطرة اليهود على تشكيل الأفكار في المجتمع من وراء الستار، ذلك أن اليهود استخدموا هذه الطبقة المثقفة في توجه الشعب إلى الوجهة التي يريدونها هم, بعد أن سمموا أفكارها على يد علمائهم الكبار في جميع الاتجاهات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 يراد إفساده بأكمله، حتى تفسد الطبقة المتوسطة التي تقوم بالدور الأكبر والأخطر في رسم الصورة الظاهرة لهذا المجتمع، والتي في يدها -في ظاهر الأمر على الأقل- مقاليد السلطان. والجامعة هي المكان الرئيسي لتخريج الكثير من أفراد هذه الطبقة، أو البارزين منهم على أقل تقدير. لذلك كان التركيز على أن يبدأ الفساد من هناك.. ومن هناك ينتشر في جميع الأرجاء. كان الاختلاط "البريء" ما يزال يجري داخل أسوار الجامعة، ولكنه كان يحمل في أطوائه الجرثومة التي تقضي في النهاية على براءته. فقد بدأت "العلاقات الخاصة" تنمو بين أزواج من الفتيان والفتيات كما لا بد أن يكون.. وبدأت هذه العلاقات الخاصة تضيق بالانحصار داخل الأسوار، التي تفرض البراءة المصطنعة على وضع هو بطبيعته غير بريء. وكان لا بد أن "يتفجر" الوضع ويخرج إلى الطريق.. وأخذ المجتمع يتعود أن يرى أزواجا من البنين والبنات يخرجون من بناء الجامعة مصطحبين، في أدب ظاهر أول الأمر، ثم يخف الأدب ويقل الحياء بالتدريج.. وأيا كان رأى ذلك المجتمع في هذه البدعة الجديدة فإنه سرعان ما تبلد حسه عليها فلم تعد تثير انتباهه، إلا أن يرى حركة مستهجنة "أي: كانت في ذلك الوقت مستهجنة" كضحكة أو لفتة أو نظرة أو لمسة مما كان -يومئذ- أمرا غير لائق في الطريق! ولكنه عاد فتبلد حسه حتى على الحركات التى كان يستهجنها من قبل، وعزاها -ببساطة- إلى أن هذا الجيل الجديد جيل فاسد لا يرجى منه خير، وألقى القضية من حسه، وتركها لتصبح أمرا واقعا في المجتمع "الجديد"! وملأت "الصداقات" المجتمع.. الصداقات بين الفتيان والفتيات.. صداقات بريئة, هل في ذلك شك؟! زميل وزميلة.. أحس كل منهما بالميل إلى الآخر والراحة إليه.. ويلكم أيها المتزمتون! أليس لكم هم إلا الاعتراض على الأمور التي لا تستوجب الاعتراض؟! ألا تريدون أن يبنى البيت السعيد على المودة والحب؟ هذان فتى وفتاة سيجمع بينهما الزواج السعيد عما قريب! أليس من الأفضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 أن يتعارفا لتدوم المودة؟ أم تريدون أن يؤتى له بفتاة لم يرها قط إلا ليلة الزفاف، رأتها أمه أو أخته، فأعجبتها، أما هو فلا يعرف شيئا عن شكلها ولا طباعها ولا ثقافتها ولا نظرتها للأمور؟! وهي؟ أليس من حقها أن تعرف شريك حياتها وتشارك في اختياره؟ أليس من الظلم أن تباع بيعا إلى رجل لا تعرفه قبل اللحظة؛ لأنه أعجب أباها أو أخاها، أو كان صاحب مال وجاه، وقد يكون فظا قاسيا لا قلب له؟ أليس من الأفضل أن تتعرف إليه عن طريق الصداقة.. الصداقة البريئة.. التي تكشف عن الطبائع وتؤلف الطباع؟! ثم بدأت" البراءة" تذهب رويدا رويدا عن الاختلاط. بدأت تقع حوادث مشينة.. أي: كان ينظر إليها في ذلك الحين على أنها مشينة! وانبرى المدافعون يدافعون عن الاختلاط. إنه ليس هو السبب فيما حدث! إنما هي التجربة الجديدة لا بد أن يكون لها ضحايا! إنها تجربة "التحرر".. تحرر الفتى والفتاة كليهما من القيود العتيقة والتقاليد البالية.. والفتاة بصفة أخص، فقد كانت هى التي يقع عليها عبء هذه التقاليد البالية.. فإذا وقعت هنا أو هناك حادثة مشينة فذلك رد الفعل للكبت الطويل الذي كان الشباب يعيش فيه، وللقيود الظالمة التي كانت تعيش فيها الفتاة بصفة خاصة، فلا ترفعوا عقيرتكم أيها المتزمتون تستغلون هذه الحوادث الفردية وتضخمونها فوق حقيقتها! إنها نزوات طارئة، وسرعان ما تهدأ الأمور وتستقيم حين يصبح الاختلاط شيئا عاديا في المجتمع، وتزول آثار الكبت الماضية، وآثار التقاليد البالية التي سجنت الفتاة طويلا داخل الجدران، وجعلت التجربة الجديدة -تجربة التحرر- تبهرها فتزل من أجل ذلك بعض الأقدام! لا بد أن نرعى التجربة الجديدة، ونوجهها بالحسنى إلى الطريق القويم، بدلا من هذا الصياح الفارغ الذي يتصايح به المتزمتون! ويمضي الزمن في طريقه فتتكاثر الحوادث المشينة، ويخفت صوت المدافعين عن الاختلاط البريء، فَقَدْ فَقَدَ براءته ولم يعد من المقبول ادعاؤها ولا من الممكن تصديقها! ولكن.. فلتذهب تلك البراءة إلى غير رجعة! هل كنا نريدها حقيقة أو ندافع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 عنها مخلصين! إنما كانت هي الطعم المزيف الذي وضعناه ليأتي الصيد.. وقد جاء.. فما حاجتنا بعد للتزييف1؟! ولكن "تطورات" كثيرة كانت تحدث في تلك الأثناء.. كانت ألسنة اللهب تمد مدا لتحرق أشياء جديدة في مجالات جديدة.. طالبت المرأة -أو طولب لها- بحق العمل بعد حق التعليم. وهل كان في ذلك شك لم يرقب سير الأمور؟ هذه هى الفتاة قد تعلمت على خط الرجل تماما من الألف إلى الياء.. من التعليم الابتدائي حتى الجامعة.. و"أثبتت جدارتها" في كل مرحلة من هذه المراحل بل تفوقت على الرجل في كثير من الأحيان.. فلماذا لا تعمل كما يعمل؟! ما الذي يمنع؟! الدين؟ الأخلاق؟ التقاليد؟! لقد رفع "الرجل" هذه الشعارات كلها في وجه المرأة ليصدها عن السير في هذا الطريق.. وقال المدافعون كما قالوا كل مرة: إن الرجل يخشى على مكانته التقليدية وتميزه التقليدي، ويخشى منافسة المرأة له في ميدانه الوحيد المتبقى له بعد أن تخلى عن تفرده في جميع الميادين بفعل الكفاح "المر" الذي خاضته المرأة لنيل حقوقها.. وسيتخلى عن هذا الميدان رضي أم أبى.. لأن خطى "التطور الحتمي" ستجبره في النهاية على التسليم. ولكن الرجل لم يتنازل عن تفرده في هذا المجال بسهولة، وظل يرفع تلك الشعارات يحاول بها أن يصد المرأة عن اللحاق به في هذا الميدان.. هل كان يؤمن حقيقة بالدين والأخلاق والتقاليد؟ كلا! إنما هو مجرد سلاح يستخدمه في المعركة حين يظن أنه سلاح مفيد! ولكن الشياطين دخلوا مرة أخرى يستغلون الفرصة السانحة أقصى ما يستطيعون من استغلال. دخلوا ليثيروا في قلب المرأة حقدا جارفا على الدين والأخلاق والتقاليد.. على أساس أن كل ما تطالب به المرأة هو حقوقها المشروعة، وأن الذي يقف في سبيل نيلها لهذه الحقوق هو هؤلاء الأعداء الثلاثة: الدين والأخلاق والتقاليد..   1 رغم أن أسطوانة "الاختلاط البريء" قد بليت تماما في أوروبا وألقيت جانبا، فقد استخدمت هي هي في الشرق الاسلامي فيما بعد! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فلتذهب جميعها إذن إلى غير رجعة، لتنال المرأة حقوقها وتستريح. وكان هذا لأمر يراد.. كان يراد إحراج صدرها ضد الدين والأخلاق والتقاليد لتنسلخ هى منها أولا، ثم لا تربي أبناءها عليها فيما بعد؛ لأن ذلك هو الضمان الوحيد لإفساد المجتمع فسادا لا رجعة فيه! لقد جرب المخططون من قبل محاولة إفساد المجتمع عن طريق إفساد الرجل وحده فلم تنجح التجربة بالصورة المطلوبة.. إن الشاب مهما فسد في فترة شبابه فإنه يعود إلى ما لقنته له أمه في طفولته من مبادئ الدين والأخلاق والتقاليد، حتى إذا أخذ يؤسس أسرة أسسها على تلك القيم التى تلقاها من قبل، ولم تفلح الفترة التى انفلت فيها في شبابه في تحويله إلى المسار الجديد.. وعندئذ أدركوا أنه لا بد من إفساد الأم ذاتها لكي لا تلقن أطفالها تلك "المبادئ" التى تعرقل خطوات الشياطين.. وساروا بها تلك المسيرة الطويلة في طريق الفساد، ولكن الحواجز -أو بقايا الحواجز- ما تزال تمنعها أو تبطئ خطواتها على الطريق.. فلتكن المعركة إذن حامية بين المرأة وبين الدين والأخلاق والتقاليد، لكي تحطمها بنفسها، ولكي تكون في مناعة كاملة منها حين تصبح أما ذات أطفال.. فلا تبذر في نفوسهم تلك البذور السامة التي يكرهها -أشد ما يكره على الإطلاق- شعب الله المختار. لقد كانت مسألة إقحام المرأة في ميدان العمل جزءا رئيسيا من الخطة الشريرة. فإخراجها من البيت لتتعلم، وإشاعة الاختلاط والصداقات بين فتيان الجامعة وفتياتها، وتعويد المجتمع على قدر من الفساد الخلقي، وتحطيم التقاليد التي كانت تمنع ذلك كله.. كل ذلك مفيد ولا شك، ولكنه ليس كفاية! ما زالت المرأة -بقدر ما- خاضعة للرجل في الأسرة والمجتمع، وما زال هذا القدر من الخضوع -على ضآلته بالنسبة لما كان من قبل- عائقا يعوق المرأة عن مزيد من الفساد؛ لأن الرجل -بأنانيته كما يقولون، أو بشيء من التعقل والتفكير وعدم الاندفاع- يعارض في توسيع مجالات المرأة ويريد أن يربطها بوظيفتها وببيتها وأولادها، وذلك كله يعوق خطوات الشياطين. لذلك كان لا بد من إخراج المرأة نهائيا من سيطرة الرجل، ليتم للمخططين كل ما يريدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وهل من وسيلة لكسر هذه السيطرة أفعل من أن تعمل المرأة و"تستقل" اقتصاديا عن الرجل؟ لقد عملت المرأة من قبل في المصانع، ولكن الطبقة العاملة كما قلنا لم يكن لها وزن في توجيه المجتمع.. والفساد الخلقي في هذه الطبقة -رغم فائدته الجزئية للمخططين- لا يكفي وحده ولا يؤتي الثمرة المطلوبة، إنما لا بد كما أسلفنا من إفساد الطبقة الوسطى، أداة التوجيه الجديدة في المجتمع الجديد. ولم يقل المخططون للأمميين بطبيعة الحال إنهم يريدون أن يثيروا الخبال في صفوفهم -بتشغيل المرأة المتعلمة وإبعادها عن بيتها وعن وظيفتها- وما كان من الممكن أن يكشفوا لهم عن لعبتهم ليوقظوهم من غفلتهم، إنما قالوا لهم إنه "التطور"! وإنه تطور "حتمي" وإنه لا بد أن يأخذ سبيله رضيه الناس أم أبوه! أما المرأة فقد قالوا لها إن هذا حقها "الطبيعي" وإنها ينبغي أن تتشبث به ولا تتنازل عنه ولا تتخاذل في الكفاح من أجله. وأغريت المرأة بكل وسائل الإغراء لكي تهجر بيتها وتخرج إلى "المجتمع"! قيل لها إن حبسها على وظيفة الزوجية والأمومة ورعاية النشء هو امتهان لها, وإهدار لكرامتها وتعطيل لطاقتها، وهو في الوقت نفسه تعطيل للمجتمع عن التقدم، فما يستطيع المجتمع أن يتقدم ونصفه حبيس وراء الجدران! وقيل لها إن الرجل هو الذي حبسها على هذه الوظائف أنانية منه، لتقوم على خدمته، ولينفرد هو بأمور "المجتمع"! وإنها منذ هذه اللحظة ينبغي أن تثور على هذا الوضع المهين، وتقف الرجل عند حده، وتفرض عليه احترامها، وتفرض عليه المشاركة في أمور المجتمع.. وإن الوسيلة لهذا كله هو أن تعمل، فإنها حين تعمل تصبح مثله تماما في كل شيء، فيتنازل عن أنانيته وغطرسته ويحترمها! ولما قيل إن الدين -لا الرجل- هو الذي خصص للمرأة هذه الوظائف ثارت ثائرتها على الدين، وتمنت في قرارة نفسها أن يزول سلطانه على النفوس، لتتحرر هي وتأخذ مكانتها التي تصبو إليها.. وبذلك جندها الشياطين لمحاربة الدين، تحاربه لحسابها الخاص، فتحاربه بحماسة، وتحاربه بإخلاص! فيتحقق للشياطين ما يريدون من إبعاد "الأم" عن الدين، لضمان تنشئة الأجيال المقبلة بعيدا عن حماه.. وفعلت اللعبة الخبيثة فعلها، وسرت كالسم في دماء الأمميين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 استقلت المرأة اقتصاديا وتمردت على قوامة الرجل، كما تمردت على الدين والأخلاق والتقاليد.. وانفلتت -كما أريد لها- بلا ضوابط ولا قيود. وسارع الشياطين إلى انتهاز الفرصة المتاحة من كل جوانبها. فالآن فلتنشط بيوت الأزياء وبيوت الزينة، بعد أن انحلت العقدة الكبرى التى كانت تبطئ خطى الفساد1. ولقد كانت الملابس من قبل طويلة وساترة إلى حد ما -برغم ما فيها من زينة- لا تبرز "مفاتن" المرأة بشكل مفضوح. فالآن وقد سنحت الفرصة فلتنشط بيوت الأزياء في إخراج "المودات" التى تكشف رويدا رويدا عن هذه "المفاتن" ولتنشط معها الصحافة لنشر الأمر على أوسع نطاق. فلتكن هناك مجلات خاصة بالمرأة، وركن خاص بالمرأة في الصحف والمجلات غير المتخصصة، وليكن حديثها عن "المودة" مغريا إلى الحد الذي لا تفلح الضوابط في مقاومة إغرائه، خاصة وقد انحلت عقدة الحياء. ولا شك أن الأحاديث الأولى كانت مهذبة جدا ومتحفظة جدا حتى لا تثير ثائرة المتزمتين من الرجال.. ماذا لو قلنا مثلا: كيف تحافظين على محبة زوجك؟ كيف تبدين أنيقة في نظر زوجك؟ وأرفقنا بالرسوم التى تبعث على الفتنة مجموعة من النصائح للمرأة المتزوجة لكي تحافظ على أناقتها ورشاقتها لكي تحتفظ بحب زوجها ولا تجعله يشرد عنها؟ وهل يكره الرجل أن تتجمل زوجته من أجله؟! ثم.. فلنحذف لفظ الزوج.. فهو لفظ ثقيل استخدمناه للتغطية فقط في مبدأ الأمر.. وما نريد أن يكون له نصيب أصلا في هذا المجال.. ثم إنه لم يعد اليوم هو المسيطر.. لقد استقلت المرأة اقتصاديا.. وتستطيع -من كسبها الخاص - أن تنفق ما تنفق على اللباس والزينة، لا أحد يحرج عليها، ولا أحد يتحكم -بماله- في تصرفاتها! فلنقل فقط: كيف تحافظين على أناقتك.. كيف تبدين جميلة.. ولينظر إليها من ينظر! زوجها أو غير زوجها! إنها سائرة بأناقتها ورشاقتها في الطريق، ومن شاء فلينظر ومن شاء فليعرض.. إننا نحث فقط على الأناقة والجمال! ثم فلنكن أكثر صراحة.. فلنقل: كيف تجذبين نظر "الرجل" أي رجل! نعم! وماذا فيها؟   1 بيوت الأزياء الكبرى كلها يهودية وكذلك بيوت الزينة، واليهود يكسبون منها كسبا مضاعفا، يكسبون أرباحا خيالية لا تدرها الصناعات الأخرى ويكسبون سريان الفساد كالسم في مجتمع الأمميين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ألا ينبغي أن "ينجذب" نظر الرجل ليختار من بين العابرات الرشيقات المتأنقات واحدة ربما تكون شريكة حياته؟! ثم.. فلنكن أكثر صراحة.. فنحن الآن في وضع يمكننا من أن نقول كل ما نريد.. وبغير ستار.. فلنقل -صراحة- هذا فستان يكشف جمال الساق.. وهذا فستان يكشف مفاتن الصدر1 وليمت بغيظه كمدا من أراد أن يموت من الرجعيين المتزمتين الذين يريدون أن يرجعوا عقارب الساعة إلى الوراء! وخرجت المرأة فتنة هائجة في الطريق! كأن مهمتها الأولى هي أن تبرز مفاتنها لكل عين منهومة في الطريق! واتسع نطاق "الصداقات" في المجتمع، فلم يعد مقصورا على طلاب الجامعة وطالباتها كما كان في أول الأمر، فإنما كانت هذه مجرد خطوة على الطريق.. أما اليوم وقد استقلت المرأة اقتصاديا فأي حاجز بقي؟! قيل في البدء إن الصداقة هى مقدمة الزواج.. وإنها ينبغي أن تباح -بصرف النظر عن براءتها أو عدم براءتها- لضمان قيام الزوجية على أسس ركينة فلا تتزعزع فيما بعد! ثم انجلت الحقيقة عن أنه لا زواج! فلا الزواج في نية الفتى العابث ولا في نية الفتاة! الصداقة من أجل الصداقة لا من أجل الزواج.. من أجل المتعة.. من أجل قضاء "وقت طيب" في هذه الحياة! إن المخططين لا يريدون أن يكون الزواج هو الذى يحكم علاقة الرجل والمرأة، أو -على الأقل- لا يريدون أن يكون الزواج هو الصورة الوحيدة لهذه العلاقة إن لم يستطيعوا -الآن- أن يقضوا قضاء مبرما على الزواج. ألم تسمع إلى قول دوركايم: كان المظنون أن الدين والزواج والأسرة هي أشياء من الفطرة.. ولكن التاريخ يوقفنا أن هذه النزعات ليست فطرية في الإنسان! لقد كان "العالم الكبير" يقوم بدوره -على طريقته- في تحطيم الزواج والأسرة، والآن تقوم العصابة الأخرى -على طريقتها- بذات الدور.   1 هذه العبارات وأمثالها عبارات واقعية ترد في المجلات التي تتحدث عن "المودة" وعن أزياء النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ينبغى أن تحل "الصداقة" محل الزواج، ولم يتم فيها كل ما يتم في الزواج ولكن دون رباط مقدس ولا أسرة ولا أولاد! تحتجون أيها المتزمتون؟! أما قرأتم فرويد؟ أما قرأتم ما قاله عن الكبت؟ أتريدون أن تتلفوا أعصاب الشباب وتصيبوه بالعقد النفسية والاضطرابات العصبية. أو.. قولوا لنا ماذا يفعل الشباب بطاقته الجنسية الفوارة؟ يتزوج؟ قولوا لنا كيف يتزوج؟ تعالوا معنا نناقش الواقع! كم سنة يقضي الشاب في التعليم حتى يتخرج من الجامعة؟ وحين يتخرج كم يكون راتبه؟ أيكفي هذا الراتب الهزيل لتكوين أسرة والإنفاق عليها؟ إن أمامه على الأقل عشر سنوات حتى يصبح راتبه كافيا -مع ارتفاع تكاليف المعيشة- للزواج وتكوين الأسرة.. فماذا يفعل في تلك الأثناء؟ تريدون أن تحرقوا أعصابه أيها الرجعيون باسم الدين والأخلاق والتقاليد؟! يقول "ول ديورانت" الفيلسوف الأمريكي في كتابه "مباهج الفلسفة" "ص126, 127 من الترجمة العربية". "فحياة المدينة تفضي إلى كل مثبط عن الزواج، في الوقت الذي تقدم فيه إلى الناس كل باعث على الصلة الجنسية وكل سبيل يسهل أداءها. ولكن النمو الجنسي يتم مبكرا عما كان من قبل، كما يتأخر النمو الاقتصادي. فإذا كان قمع الرغبة شيئا عمليا ومعقولا في ظل النظام الاقتصادي الزراعي فإنه الآن يبدو أمرا عسيرا وغير طبيعي في حضارة صناعية أجلت الزواج حتى بالنسبة للرجال حتى لقد يصل إلى سن الثلاثين، ولا مفر من أن يأخذ الجسم في الثورة، وأن تضعف القوة على ضبط النفس عما كان في الزمن القديم، وتصبح العفة التي كانت فضيلة موضعا للسخرية، ويختفي الحياء الذي كان يضفي على الجمال جمالا، ويفاخر الرجال بتعداد خطاياهم، وتطالب النساء بحقها في مغامرات غير محدودة على قدم المساواة مع الرجال، ويصبح الاتصال قبل الزواج أمرا مألوفا، وتختفي البغايا من الشوارع بمنافسة الهاويات لا برقابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 البوليس. لقد تمزقت أوصال القانون الأخلاقي الزراعي، ولم يعد العالم المدني يحكم به1. ولا يناقش "ول ديورانت" تلك الأسباب التي قال إنها تعطل الشباب عن الزواج الباكر، إنما يأخذها أمرا واقعا وقضية مسلمة وينظر إلى آثارها كذلك على أنها أمر واقع لا حيلة فيه أكثر من كلمة أسى عابرة يقولها ويدعها تمضي تصيب من تصيب! ولكن! أهي حقا كذلك؟ أهي أمر لا مفرد منه؟ من الذي وضع العوائق في طريق الزواج، ثم وضع الصداقة "أو البغاء! " بديلا من الزواج، ثم زعم أنه تطور حتمي جاء به الطور الاقتصادي الجديد؟! إنهم -كلهم- يهود! ثم سمموا أفكار الأمميين، فأصبحوا يرددون وراءهم ما يقولون! لو بقيت الأسرة الكبيرة على ترابطها وظل الأب ينفق على أولاده حتى يتكسبوا "وهم ينفقون عليه في كبرته إذا احتاج" وظلت أسعار الحاجيات في النطاق المعقول، وجعلت رواتب الخريجين بحيث تكفي لتكوين أسرة أو أعطي الراغبون في الزواج منحة تمكنهم من إنشاء الأسرة.. فأي حتمية كانت تقف في طريق ذلك كله وتمنع تنفيذه؟ كلا! إن القضية كلها أن الشياطين لا يريدون! لا يريدون أن يظل للأمميين دين ولا أخلاق ولا أسرة ولا زواج؛ لأن هذه كلها" عوائق" تمنع دوران العجلة الشريرة التى تنشر الفساد! لذلك أنشئوا الواقع على هذه الصورة وزعموا أنه التطور الحتمي. وأن عجلته ستسحق كل من يقف في الطريق! ودارت العجلة دورتها فأحدثت كثيرا من الشر. ولندع ول ديورانت نفسه يصف جانبا من هذا الشر، كما وجده في بلاده في أوائل هذا القرن، وكما تخيل نتائجه المقبلة. وإن كان الواقع الذي حدث بالفعل أفظع بكثير مما تخيله في ذلك الحين:   1 يلجأ "ول ديورانت" إلى التفسير المادي للتاريخ يفسر به اختفاء العفة من المجتمع الصناعي وانتشار الفاحشة فيه حتى تصبح هي الأصل المعترف به وتصبح العفة مثار السخرية. وليس هذا هو التفسير الحقيقي لذلك التحلل الخلقي الذي حدث في المجتمع الصناعي، إنما هو راجع -كما رأينا في هذا الفصل- إلى ذلك المخطط الشرير الذي يهدف إلى إفساد البشرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 "ولسنا ندري مقدار الشر الاجتماعي الذي يمكن أن نجعل تأخير الزواج مسئولا عنه. ولا في أن بعض هذا الشر يرجع إلى ما فينا من رغبة في التعدد لم تهذب؛ لأن الطبيعة لم تهيئنا للاقتصار على زوجة واحدة. ويرجع بعضها الآخر إلى ولاء المتزوجين الذين يؤثرون شراء متعة جنسية جديدة على الملال الذي يحسونه في حصار قلعة مستسلمة. ولكن معظم هذا الشر يرجع في أكبر الظن في عصرنا الحاضر إلى التأجيل غير الطبيعي للحياة الزوجية. وما يحدث من إباحة بعد الزواج فهو في الغالب ثمرة التعود قبله. وقد نحاول فهم العلل الحيوية والاجتماعية في هذه الصناعة المزدهرة، وقد نتجاوز عنها باعتبار أنها أمر لا مفر منه في عالم خلقه الإنسان. وهذا هو الرأي الشائع لمعظم المفكرين في الوقت الحاضر. غير أنه من المخجل أن نرضى في سرور عن صورة نصف مليون فتاة أمريكية يقدمن أنفسهن ضحايا على مذبح الإباحية وهى تعرض علينا في المسارح وكتب الأدب المكشوف، تلك التي تحاول كسب المال باستثارة الرغبة الجنسبة في الرجال والنساء المحرومين، وهم في حمى الفوضى الصناعية، من حمى الزواج ورعايته للصحة. "ولا يقل الجانب الآخر من الصورة كآبة؛ لأن كل رجل حين يؤجل الزواج يصاحب فتيات الشوارع ممن يتسكعن في ابتذال ظاهر. ويجد الرجل لإرضاء غرائزة الخاصة في هذه الفترة من التأجيل نظاما دوليا مجهزا بأحدث التحسينات ومنظما بأسمى ضروب الإدارة العلمية.. ويبدو أن العالم قد ابتدع كل طريقة يمكن تصورها لإثارة الرغبات وإشباعها".. "وأكبر الظن أن هذا التجدد في الإقبال على اللذة، قد تعاون أكثر مما نظن مع هجوم دارون على المعتقدات الدينية. وحين اكتشف الشبان والفتيات -وقد أكسبهم المال جرأة- أن الدين يشهر بملاذهم التمسوا في العلم ألف سبب وسبب للتشهير بالدين. وأدى التزمت في حجب الحياة الجنسية والزهد فيها إلى رد فعل في الأدب وعلم النفس صوَّر الجنس مرادفا للحياة. وقد كان علماء اللاهوت قديما يتجادلون في مسألة لمس يد الفتاة أيكون ذنبا؟ أما الآن فلنا أن ندهش ونقول: أليس من الإجرام أن نرى تلك اليد ولا نقبلها؟ لقد فقد الناس الإيمان وأخذوا يتجهون نحو الفرار من الحذر القديم إلى التجربة الطائشة".. "وكانت الحرب العظمى الأولى آخر عامل في هذا التغيير. ذلك أن تلك الحرب قوضت تقاليد التعاون والسلام المتكونين في ظل الصناعة والتجارة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وعَوَّدت الجنود الوحشية والإباحية، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها عاد آلاف منهم إلى بلادهم فكانوا بؤرة للفساد الخلقي. وأدت تلك الحرب إلى رخض قيمة الحياة بكثرة ما أطاحت من رءوس، ومهدت إلى ظهور العصابات والجرائم القائمة على الاضطرابات النفسية، وحطمت الإيمان بالعناية الإلهية، وانتزعت من الضمير سند العقيدة الدينية. وبعد انتهاء معركة الخير والشر بما فيها من مثالية ووحدة، ظهر جيل مخدوع, وألقى بنفسه في أحضان الاستهتار والفردية والانحلال الخلقي. وأصبحت الحكومات في واد والشعب في واد آخر، واستأنفت الطبقات الصراع فيما بينها. واستهدفت الصناعات الربح بصرف النظر عن الصالح العام، وتجنب الرجال الزواج خشية مسئوليته، وانتهى الأمر بالنساء إلى عبودية خاملة أو إلى طفيليات فاسدة. ورأى الشباب نفسه وقد منح حريات جديدة تحميه الاختراعات من نتائج المغامرات النسائية في الماضي1 وتحوطه من كل جانب ملايين المؤثرات الجنسية في الفن والحياة".. "لما كان اليوم هو عصر الآلة، فلا بد أن يتغير كل شيء, فقد قل أمن الفرد في الوقت الذي نما فيه الأمن الاجتماعي. وإذا كانت الحياة الجسمانية أعظم أمنا مما كانت فالحياة الاقتصادية مثقلة بألف مشكلة معقدة مما يجعل الخطر جاثما كل لحظة. أما الشباب الذى أصبح أكثر إقداما وأشد غرورا من قبل فهو عاجز ماديا وجاهل اقتصاديا إلى حد لم يسبق له مثيل. ويقبل الحب فلا يجرؤ الشباب على الزواج وجيبه صفر من المال. ثم يطرق الحب مرة أخرى باب القلب أكثر ضعفا "وقد مرت السنوات" ومع ذلك لم تمتلئ الجيوب بما يكفي للزواج. ثم يقبل الحب مرة أخرى أضعف حيوية وقوة عما كان من قبل "وقد مرت سنوات" فيجد الجيوب عامرة فيحتفل الزواج بموت الحب. "حتى إذا سئمت فتاة المدينة الانتظار اندفعت بما لم يسبق له مثيل في تيار المغامرات الواهية. فهى واقعة تحت تأثير إغراء مخيف من الغزل والتسلية وهدايا من الجوارب وحفلات من الشمبانيا في نظير الاستمتاع بالمباهج الجنسية. وقد ترجع حرية سلوكها في بعض الأحيان إلى انعكاس حريتها   1 يشير إلى وسائل منع الحمل والوقاية من الأمراض السرية, الأمران اللذان وفرتهما الحضارة! وإن كانت التقارير الأخيرة تشير إلى أن هذه الأمراض لم يمكن القضاء عليها رغم كل المحاولات المبذولة, بل إنها آخذة في الانتشار الذريع! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الاقتصادية. فلم تعد تعتمد على الرجل في معاشها، وقد لا يقبل الرجل على الزواج من امرأة برعت مثله في فنون الحب، فقدرتها على كسب دخل حسن هو الذي يجعل الزوج المنتظر مترددا، إذ كيف يمكن أن يكفي أجره المتواضع للإنفاق عليهما معا في مستواهما الحاضر من المعيشة؟ "وأخيرا تجد الرفيق الذى يطلب يدها للزواج، ويعقد عليها لا في كنيسة؛ لأنهما من أحرار الفكر الذين ألحدوا عن الدين، ولم يعد للقانون الخلقي الذي ظل جاثما على إيمانهما المهجور أثر في قلبيهما، إنهما يتزوجان في قبو المكتب البلدي "الذي يفوح منه عبير السياسة" ويستمعان إلى تعاويذ العمدة. إنهما لا يرتبطان بكلمة الشرف، بل بعقد من المصلحة، لهما الحرية في أي وقت في التحلل منه. فلا مراسيم مهيبة، ولا خطبة عظيمة، ولا موسيقى رائعة، ولا عمق ولا نشوة في الانفعال تحيل ألفاظ وعودهم إلى ذكريات لا تمحى من صفحة الذهن. ثم يقبل أحدهما صاحبه ضاحكا، ويتوجهان إلى البيت في صخب. "إنه ليس بيتا! فليس ثمة كوخ ينتظر الترحيب بهما أنشئ وسط الحشائش النضرة والأشجار الظليلة، ولا حديقة تنبت لهما الزهور والخضروات التى يشعران بأنها أبهى وأحلى؛ لأنها من زرع أيديهما. بل يجب أن يخفيا أنفسهما خجلا كأنهما في زنزانة سجن في حجرات ضيقة لا يمكن أن تستبقيهما فيها طويلا، ولا يعنيان بتحسينها وتزيينها بما يعبر عن شخصيتهما. ليس هذا المسكن شيئا روحيا كالبيت الذى كان يتخذ مظهرا ويكسب روحا قبل ذلك بعشرين عاما "الكتاب مكتوب سنة 1929" بل مجرد شيء مادي فيه من الجفاف والبرودة ما تجده في مارستان. فهو يقوم وسط الضوضاء والحجارة والحديد حيث لا ينفذ إليه ربيع، ولا ينبت لهما الصيف الزرع النضر بل سيلا من المطر.. ولا يريان مع ورود الخريف قوس قزح في السماء, أو أي ألوان على أوراق الشجر بل المتاعب والذكريات الحزينة". "وتصاب المرأة بخيبة أمل، فهي لا تجد في هذا البيت شيئا يجعل جدرانه تحتمل في الليل والنهار، ولا تلبث إلا قليلا حتى تهجره في كل مناسبة ولا تعود إليه إلا قبل مطلع الفجر.. ويخيب أمل الرجل، فهو لا يستطيع أن يتجول في أنحاء هذا البيت يعزي شعوره ببنائه وإصلاحه ما تصاب به أصابعه من دق المطارق.. ويكتشف بعد قليل أن هذه الحجرات تشبه تمام الشبه تلك التي كان يعيش فيها وهو أعزب، وأن علاقاته مع زوجته تشبه شبها عاديا تلك العلاقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 غير البريئة التى كان يعقدها مع المستهترات من النساء. فلا جديد في هذا البيت، وليس فيه ما ينمو، ولا يمزق سكون الليل صوت الرضيع, ولا يملأ مرح الأطفال النهار بهجة ولا أذرع بضة تستقبل الزوج عند عودته من العمل وتخفف عنه وطأته. إذ أين يمكن أن يلعب الطفل؟ وكيف يمكن للزوجين تخصيص حجرة أخرى للأطفال وتوفير العناية بهم وتعليمهم سنين طويلة في المدينة؟ والفطنة فيما يظنان أفضل جوانب الحب.. فيعتزمان منع النسل.. إلى أن يقع بينهما الطلاق"! "ولما كان زواجهما ليس زواجا بالمعنى الصحيح؛ لأنه صلة جنسية لا رباط أبوة فإنه يفسد لفقدانه الأساس الذي يقوم عليه، ومقومات الحياة. يموت هذا الزواج لانفصاله عن الحياة وعن النوع. وينكمش الزوجان في نفسيهما وحيدين كأنهما قطعتان منفصلتان، وتنتهي الغيرية الموجودة في الحب إلى فردية يبعثها ضغط حياة المساخر، وتعود إلى الرجل رغبته الطبيعية في التنويع، حين تؤدي الألفة إلى الاستخفاف، فليس عند المرأة جديد تبذله أكثر مما بذلته". "ولندع غيرنا من الذين يعرفون يخبرونا عن نتائج تجاربنا. أكبر الظن أنها لن تكون شيئا نرغب فيه أو نريده.. فنحن غارقون في تيار من التغيير، سيحملنا بلا ريب إلى نهايات محتومة لا حيلة لنا في اختيارها. وأي شيء قد يحدث مع ها الفيضان الجارف من العادات والتقاليد والنظم. فالآن وقد أخذ البيت في مدننا الكبرى في الاختفاء فَقَدْ فَقَدَ الزواج القاصر على واحدة جاذبيته الهامة. ولا ريب أن زواج المتعة سيظفر بتأييد أكثر فأكثر حيث لا يكون النسل مقصودا وسيزداد الزواج الحر، مباحا كان أم غير مباح. ومع أن حريتهما إلى جانب الرجل أميل فسوف تعتبر المرأة هذا الزواج أقل شرا من عزلة عقيمة تقضيها في أيام لا يغازلها أحد. سينهار "المستوى المزدوج" وستحث المرأة الرجل بعد تقليده في كل شيء على التجرية قبل الزواج. سينمو الطلاق، وتزدحم المدن بضحايا الزيجات المحطمة ثم يصاغ نظام الزواج بأسره في صور جديدة أكثر سماحة، وعندما يتم تصنيع المرأة، ويصبح ضبط الحمل سرا شائعا في كل طبقة يضحى الحمل أمرا عارضا في حياة المرأة، أو تحل نظم الدولة الخاصة بتربية الأطفال محل عناية البيت.. وهذا كل شيء! "1   1 مقتطفات من كتاب "مباهج الفلسفة من ص126-236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 إن إخراج المرأة من البيت ودفعها إلى العمل في الخارج -أيا كانت الدوافع التي أدت إليه, وأيا كانت النوايا الكامنة وراء ذلك- قد أحدث دمارا عنيفا في المجتمع، لا يمكن الإحاطة بكل أبعاده؛ لأنه ما زال يلد شرورا جديدة حتى هذه اللحظة. إن تخصيص المرأة للبيت لوظيفة الأمومة ورعاية النشء لم يكن ظلما للمرأة، ولا تحقيرا لها، ولكن الجاهلية هي التي جعلته كذلك حين عيرت المرأة بأنها تحمل وتلد ولا تصنع غير ذلك! والجاهلية -دائما- تظلم المرأة وتقسو عليها وتهينها وتعيرها، ولا ينقذها من ذلك شيء إلا شرع الله ومنهجه المنزل لإصلاح البشرية, وإقامة العدل في الأرض. {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} 1. كل جاهلية من جاهليات التاريخ عيرت المرأة بوظيفتها وجعلتها تشعر أنها دون الرجل من أجل هذه الوظيفة.. بينما يقول الوحي المنزل من عند الله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} 2. فالوصية هي بالوالدين كليهما، ولكن التكريم الأكبر هو للأم التى حملته وهنا على وهن. ويسأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم: من أولى الناس بحسن صحابتي قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك": قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك"! 3 والحديث واضح الدلالة على تكريم الأم ووظيفة الأمومة. أما وهي زوجة فهذا هو المنهج الرباني: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} 4.   1 سورة الحديد: 25. 2 سورة لقمان: 14. 3 متفق عليه. 4 سورة النساء: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" 1. فالمنهج الرباني الذي خصص المرأة لوظيفتها لم يعيرها بها, ويجعلها مهينة من أجلها، بل كرمها من أجل تلك الوظيفة وأكرمها وهي تقوم بها، وقال لها إن قيامها بهذه الوظيفة هو سبيلها إلى رضوان الله والجنة، كما أن القتال في سبيل الله هو طريق الرجل إلى رضوان الله والجنة, فجعل هذه مكافئة لتلك؛ لأن الله يعلم سبحانه أن هذا هو الميزان الصحيح الذي يقيم الحياة البشرية بالقسط، ويعلم خطورة الدور الذي تقوم به المرأة في رعاية البيت وتنشئة النشء، ويعلم كذلك مدى الفساد الذي يمكن أن ينشأ حين تهجر المرأة وظيفتها من أجل أي شيء آخر في هذا الوجود، فضلا عن أن يكون هذا الشيء هو مجرد اللهو والعبث والفساد الخلقي! ولكن الجاهلية التي يسيطر عليها اليهود ويوجهونها قد ضربت بالمنهج الرباني عرض الحائط.. واتبعت وحي الشياطين فأي شيء أصابها حين فعلت ذلك وأي خبال؟! فأما الفساد الخلقي فحدث عنه ولا حرج! لقد ظل الرجل "يكافح" ضد "حقوق المرأة" ردحا من الزمن غير قليل ويعارض -بالذات- مزاحمتها له في ميدان العمل. ولكنه أخيرا لان في معارضته، بل كف عنها نهائيا وتحمس لمشاركة المرأة له في جميع الأعمال! فهل تغير الرجل حقيقة في تلك الجاهلية فأصبح -فجأة- مؤثرا عادلا بعد أن كان ظالما مستأثرا يستأثر لنفسه بالمكانة السامية والمنزلة الرفيعة؟! أو أن المرأة أجبرته بالفعل على احترامها كما زعمت الجاهلية وهى تزين للمرأة أن تقحم نفسها في كل ميدان كان الرجل يستأثر به من قبل حتى ميدان الفساد الخلقي؟! كلا! إنما حسب الحسبة فوجدها رابحة! وأربح ما فيها سهولة الحصول على المرأة في المكتب والمصنع والنادي والشارع والمرقص والملعب.. في كل مكان! لم يعد يتعب في الحصول على لذائذ الجنس! فهى متاحة له أبدا في كل   1 رواه الترمذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 لحظة! بإشارة ومن غير إشارة! فالمرأة العارية المتبرجة المبرزة "لمفاتنها" أمامه حيث ذهب، يلقاها حيث توجه.. لا واحدة ولا عشر ولا مئات! كلهن! من فيهن بغير تبرج ولا زينة ولا تفتن في "جذب" الرجل إليها؟! فإن كان دنيء الحس حيوانا فالبغاء الرسمي وغير الرسمي ميسر، والمحترفات كثير! وإن كان مهذبا! "متحضرا" "مترفعا! " فهناك "الصداقة" وهي متاحة أبدا بحكم الزمالة والاختلاط المستمر، وفي الصداقة يقضي حاجة الجنس كلها، ومعها "تقدير" المجتمع لتهذبه وتحضره وترفعه، وقضائه حاجة الجنس مع الهاويات لا مع المحترفات. أما هي فقد رضيت بتلقي "عواطف" الرجل ومغازلاته وإطرائه "لجمالها" و"فتنتها" و"رشاقتها" و"جاذبيتها".. ورضيت كذلك بتلقي نزوات جسده؛ لأنها هي أيضا تطلب الجنس! أما قرأت فرويد؟! ألم يقل لك فرويد في التفسير الجنسي للسلوك البشري إن الإنسان كله طاقة جنس متحركة تسعى لإثبات الذات عن طريق ممارسة الجنس؟ وإن التحقيق الأكبر للذات هو الذي يتم عن طريق الجنس؟! ألم يقل إن أي حاجز يوضع أمام طاقة الجنس فمعناه الكبت والعقد النفسية والاضطرابات العصبية؟ وهي أيضا لا تريد لنفسها الكبت ولا العقد ولا الاضطرابات! إنها تبحث عن "الصحة النفسية" وهذا حقها الطبيعي.. والصحة النفسية لا تتحقق -كما قال فرويد- إذا كان هناك حاجز يقف في طريق الإشباع الجنسي! فلما قيل لها كما قيل في كل مرة، الدين.. والأخلاق.. والتقاليد.. لعنت كل أولئك وطالبت "بحقها"! حقها في إبداء عواطفها! حقها في أن تهب نفسها لمن تشاء.. فهذا هو التحرر! هذا هو التحرر! ألم يقل ماركس إن المرأة في المجتمع الصناعي تتحرر؛ لأنها تستقل اقتصاديا عن الرجل فتتحرر من سلطانه فتفقد قضية العفة أهميتها؟! ما قيمة العفة؟ من ذا الذي يحرص اليوم عليها؟ 1 إن الرجل ذاته قد تبلد حسه، وفَقَدَ عرضه، ولم يعد يهتم! بل إنه في سبيل لذاته الحيوانية الهابطة قد رحب كثيرا بهذا التطور الذي يسر له تحقيق رغباته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 دون تحمل أي مسئولية على الإطلاق.. لا مسئولية مخالفة قواعد الأخلاق ومجافاة التقاليد.. فقد ذهبت الأخلاق والتقاليد، ولا مسئولية تحمل أعباء أسرة في مقابل الإشباع الجنسي، فالإشباع قد أصبح بهذا "التطور" متاحا بغير مقابل، ولا المسئولية "الجنائية" "فالصداقة" تمنع الجزاء! وأما هي فما الذي يمنعها؟ الحياء؟! وماذا كان يفعل الشياطين طوال كل هذه السنوات إلا قتل هذا "العدو" الفطري وإنشاء فتاة "جديدة" "متطورة" قليلة الحياء؟! من أجل ذلك "طفح" الجنس.. في الشارع والغابة والنادي والملعب والمرقص، والقصة والمسرح "والسينما فيما بعد" وفي المجلة والصحيفة اليومية فضلا عن المجلة المخصصة للصورة العارية والإثارة الجنسية، ووصل إلى درجة التهتك والحيوانية التي يتعفف عنها بعض أنواع الحيوان! وبمناسبة ذكر السينما فهي في أصلها مؤسسة يهودية خالصة فكرة ومالا وتخطيطا وتوجيها.. هدفها العمل السريع على إفساد الأمميين بما للصورة المتحركة من سحر وقدرة على التأثير. وإذا كان الأمميون اليوم "يتنافسون" في مجال السينما، ويتسابقون في تحويلها إلى ماخور كبير، فعن رضا كامل من الشياطين وتشجيع! فما أشد ابتهاجهم بهذا التنافس والتسابق، وما أشد فرحتهم وهم يرون اللعبة المسمومة سارية المفعول، لا ينجو منها فتى ولا فتاة ولا شيخ ولا شيخة ولا طفل ولا طفلة إلا من رحم ربك! أما التلفزيون -آخر المستحدثات- فلا يحتاج إلى حديث: فالخلاصة أن وسائل الإعلام كلها قد استخدمت على نطاق واسع لإشاعة الفساد الخلقي والتفاهة والتميع والانحلال في كل بلاد الأرض.. والشياطين يتفرجون! وأما تفكك الأسرة فحدث عنه كذلك ولا حرج! لقد كان البيت سكينة وسكنا بالزوجة التي تعمره والأم ترعى أطفاله: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1. وقد جعلها الله آية يتفكر فيها الناس ويتدبرون حكمتها.   1 سورة الروم: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 إنه هكذا في الفطرة التي فطرها الله يخرج الرجل ليكدح في خارج البيت، ثم يعود فيجد السكن والسكينة والراحة الجسدية والعصبية والنفسية التي تمحو عنه آثار الكدح، وتعده في الصباح لكدح جديد.. ويجيء الأطفال فيجدون أما ترعاهم بحنانها الفطري وجهدها الدءوب الذي يتسع لمطالبهم المتغيرة المتجددة التي لا تكف.. ويتعلمون في حضنها معنى الحب، تتغذى به أرواحهم الغضة فيوازن في نفوسهم -فيما بعد- مشاعر الصراع التي يثيرها الكدح لإشباع النوازع والرغبات.. ويجدون أبا يحيط هذه الأسرة كلها برعايته وحبه وتوجيهه وقيادته فيتعلمون تحت قيادته الانضباط والاستقامة على النهج كما يتعلمون من الأبوين معا معنى التعاون والتراحم والمودة وكل المعاني "الإنسانية" التي تصنع ذلك "الإنسان". ولكن الفطرة -بصورتها تلك- هي العدو الأكبر للذين يسعون فسادا في الأرض: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1. إنها هي التي تسد في وجوههم الثغرات بما تحكم من إقامة السدود والحواجز أمام الشيطان بقدر ما تركز في نفوس الأطفال من الدين والأخلاق والتقاليد المستمدة من مبادئ الدين.. أفلا يكون تحطيم الأسرة إذن فرحا عظيما للشياطين؟ وكان إخراج المرأة للعمل هو المعول الأكبر لتحطيم الأسرة وإن لم يكن هو المعول الوحيد. فبادئ ذي بدء فَقَدَ البيت سكنه وسكينته وأصبح كما قلا "ول ديورانت" بحق أشبه بالفندق الذي يأوي إليه المكدودون ليقضوا فيه فترة الليل ثم ينطلقون منه في الصباح كل إلى طريق. وفَقَدَ الأطفال الأم.. الأم المتخصصة لرعايتهم التي يجدون عندها الحنان الفطري والرعاية اللازمة، فحين تعود الأم العاملة مكدودة كما يعود الرجل، فإنها لا تجد في نفسها ولا أعصابها فضلة تمنحها للبيت، لا للزوج ولا للأطفال. وعبثا تحاول الجاهلية -أو يحاول الشياطين- أن يقولوا إن الأم الصناعية   1 سورة المائدة: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 في المحضن تغني عن الأم الحقيقية في البيت، فالواقع هو الذي يكذب الدعاوي الكاذبة كلها ويفندها1. ولم يكن غياب الأم عن البيت هو العامل الوحيد في تحطيم الأسرة وتشريد الأطفال.. فهناك عنصر آخر لا يقل خطورة هو غياب "سيطرة الأب". إن وجود "القوامة" في البيت أمر قرره الله {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 2 والذي أودع في الفطرة البشرية سماتها ونوازعها وهو العليم الخبير، الذي يعلم ما يصلح لهذه الفطرة وما يصلحها. ومن توفيقاته -سبحانه- أن أوجد في نفس الرجل السوي القدرة على القوامة والرغبة إليها، كما أوجد في نفس المرأة السوية الرغبة في قوامة الرجل والاطمئنان إليها: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} 3 ولكن الشياطين أرادوا أن يلغوا هذا كله؛ لأن وجوده على هذه الصورة "مفسد" لمخططاتهم وعائق ضخم في سبيل الفساد الذي يسعون إليه. لذلك قال "علماؤهم" إنه ليست هناك فطرة! وإن قوامة الرجل ليست أصلا من الأصول الثابتة في الحياة البشرية. إنما هي انعكاس لوضع اقتصادي معين، يتغير ويتبدل حين يتغير الطور الاقتصادي ويدخل الناس في طور جديد. وجاءت بقية العصابة -بكل وسائل الإعلام التي تملكها- فنفخت في المرأة روح التمرد على القوامة، بدعوى المساواة الكاملة في كل شيء. فهي تقبل الرجل "زميلا" و"صديقا" تمنحه جسدها ويعطيها الإشباع الجنسي. ولكنها لا تقبله قيما في البيت ولا في المجتمع ولا في شأن من شئون الحياة! ومن ثم لم يعد للرجل في الأسرة ذلك السلطان، إنما أصبح السلطان إما للمرأة التي تريد أن تثبت شخصيتها، وإما منازعة دائمة بين الرجل والمرأة في البيت، كل يريد أن يثبت أنه هو صاحب السلطان! وكلا الحالين مفسد لترابط الأسرة ومفسد للأطفال. وأخيرا جدا اعترضت المؤتمرات التي تنعقد لدراسة مشكلة الأطفال الجانحين ويشترك فيها علماء من كل نوع، في علم النفس وعلم الاجتماع وعلم   1 اقرأ بشأن أطفال المحاضن كتاب "أنا فرويد": "أطفال بلا أسر". 2 سورة طه: 50. 3 سورة الملك: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الجريمة والقانون.. إلخ. اعترفوا بأن غياب سلطة الأب في البيت والمجتمع سبب من الأسباب الرئيسية في تشرد الأطفال من ناحية. وزيادة نسبة الشذوذ الجنسي من ناحية أخرى!! ومع ذلك فليس عمل المرأة ولا الشقاق الدائم في البيت ولا غياب سلطة الأب هي الأسباب الوحيدة لتحطيم الأسرة! فهي -قبل ذلك- محاربة الميل الفطري إلى تكوين الأسرة من منبعه! ألم يقل عالمهم دوركايم: كان المظنون أن الدين والزواج والأسرة هي أشياء من الفطرة ولكن التاريخ يوقفنا على أن هذه النزعات ليست فطرية في الإنسان؟! ثم جاءت بقية العصابة فوضعت كما قال: "ول ديورانت" كل المعوقات في طريق الزواج وكل المرغبات في الإباحية الجنسية. ولقد كانت "الصداقة" بين الرجل والمرأة هي الأداة الكبرى في يد العصابة لتحويل الفطرة عن مسارها.. ففي تلك "الصداقة" يجد الرجل والمرأة المنحرفي الفطرة كل مطالبهما! يجد الرجل -المنحرف- متعة الجنس بلا تكاليف. لا التكاليف النفسية ولا العصبة ولا المادية.. فهو يقضي رغبته بلا معقبات.. لا زوجة يتحمل تبعتها ونفقاتها، ولا بيت مؤثث بما يناسب الأسرة ولا أطفال يحتاجون إلى الرعاية وتتزايد مطالبهم على الدوام، ولا التزام كذلك أن "يخلص" لرباط الزوجية لا يتعداه! وتجد المرأة -المنحرفة- كذلك متعة الجنس بلا تكاليف، لا حمل يرهقها ويفسد "رشاقتها" ولا رضاعة ولا رعاية أطفال، ولا مسئولية إدارة بيت متعدد التبعات، وتجد بالإضافة إلى ذلك "زميلا" لا يطالبها بشيء على الإطلاق، فلا هو يطلب القوامة عليها، ولا هي مكلفة تجاهه بالخضوع لتلك القوامة التي تبغضها نفسها ولا تحب أن تدخل فيها.. ولا هي كذلك مكلفة بأن تكون له وحده كما تقتضي شرعة الزواج! 1. فإذا كانت الأمور كذلك فلماذا الأسرة "ووجع الدماغ"؟! فأما إن حدث الزواج بعد ذلك كله.. فهناك البيت المفكك وهناك نسبة الطلاق   1 الواقع أن الإخلاص للزوجية لم يعد له وجود من الطرفين! ولم يعد الزوج ولا الزوجة يجدان حرجا في "التغيير" بين الحين والحين، ويتم ذلك بمقتضى "دستور" غير مكتوب عنوانه "متع نفسك" أو "متع نفسك Enjoy yourself". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 المتزايدة1 وهناك تشرد الأطفال! وأما عن القلق النفسي والعصبي فتلك تقاريرهم تغني عن الحديث.. يصيب الجنون من أفراد الشعب الأمريكي أكثر من المصابين بأي مرض آخر من الأمراض الفتاكة.. والعيادات النفسية منتشرة في غرب أوروبا وأمريكا بدرجة ملحوظة، ومن "الروتين" المعتاد في الحياة الغربية أن يذهب الإنسان إلى العيادة النفسية مرة على الأقل كل شهر إن لم يكن مرة كل أسبوع لمعالجة القلق النفسي والاضطرابات العصبية! 2 وحوادث الانتحار كثيرة كثرة تلفت النظر. والإدمان على الخمر والمخدرات في زيادة مستمرة رغم كل المحاولات التي تبذل للحد من الإدمان. والدلالة واضحة ولا شك، فلو أن الحياة سعيدة ومستقرة ما كان هناك دافع للهروب منها بالخمر والمخدر. إنما يلجأ إلى هذه "المغيبات" من يريد أن يفر من واقع ملا لا يستطيع مواجهته ولا يستطيع تغييره، فيهرب منه في خيالات مفتعلة تنسيه مرارته لحظات.. ثم يعود أسوأ مما كان فيهرب من جديد! والجريمة -بجميع أنواعها- في تزايد مستمر. ووجود الجريمة ذاته له دلالة، فإذا زادت حتى أصبحت أصلا من أصول المجتمع بحيث لا يأمن الناس على أنفسهم أن تقع عليهم في أية لحظة جريمة خطف أو سرقة أو قتل أو أغتصاب، ويحتاجون دائما إلى إجراءات غير عادية لوقايتهم من الجريمة.. فإنها تعني عندئذ أن الروابط "الإنسانية" منحلة في هذا المجتمع، وأنه مجتمع مفكك في حقيقته، مهما وضع من الروابط السطحية المصطنعة على واجهته الخارجية! وجرائم الأحداث أمر أسوأ دلالة وأشد خطورة.. وقد صارت مشكلة الأحداث الجانحين مشغلة دائمة للمجتمع الغربي. تجتمع لها المؤتمرات كل عام.. ثم تتزايد كل عام. إنهم الأطفال المشردون الذين تركتهم أمهاتهم من أجل العمل في المكاتب   1 بلغت نسبة الطلاق في بعض الولايات الأمريكية 40% من عدد المتزوجين وهذا غير حالات الهرب من بيت الزوجية وحالات الخيانة مع استمرار الزواج الصوري. 2 أشرنا من قبل إلى أن القائمين على العيادات النفسية معظمهم من اليهود، وهم يعالجون الأمراض النفسية بمزيد من الخلل في النفوس ومزيد من الإباحة الجنسية! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 والمصانع والمتاجر، وللهو والعبث في الليل، والذين فقدوا توجيه الأب الحازم؛ لأن الأب ذاته قد فَقَدَ كيانه في معركته مع "المرأة المتحررة" والذين علمتهم السينما والتليفزيون كيف يصبحون مجرمين! وهذا كله غير ألوان الميوعة والتفاهة التي يعيشها الشباب، الذي كل همه أن يكسب النقود في النهار لينفقها في اللهو والمجون في الليل، وغير ألوان "الجنون" العامة التي استولت على حياة الأمميين: جنون السينما، وجنون التلفزيون، وجنون الكرة، وجنون الجنس، وجنون "المودة" وجنون العري، وجنون السرعة، وجنون التقاليع.. إلخ. كيف استطاع اليهود أن يحدثوا هذا الشر كله في الأرض؟! إنهم -في الواقع- لم يكتفوا بإفساد أوروبا وإنما هم فقط بدءوا جولتهم من هناك.. ولكن هدفهم لم يكن مقصورا على أوروبا، ونشاطهم الشرير لم يقتصر على الغرب، إنما هم نشروا الفساد في الأرض كلها عن طريق أوروبا بعد إفسادها! ففي خلال القرون الثلاثة الأخيرة كانت القوة السياسية والعسكرية والعلمية والمادية لأوروبا في تزايد مستمر، وكانت أوروبا تغلب بقوتها على العالم كله، والعالم الإسلامي بصفة خاصة، ومن خلال غلبة أوروبا على الأرض كلها، وعلى العالم الإسلامي، نشر اليهود سمومهم فشملت "الأمميين" جميعا -إلا من رحم ربك- وأدخلتهم في المخطط الشرير الذي يحدد التلمود هدفه ووسائله: "الأمميون هم الحمير الذين خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار". فيكف استطاع اليهود أن يحدثوا هذا الشر كله في الأرض؟! هل هم أولئك: "الجبابرة" الذين يصورهم وليم كار في كتاب "الأحجار"؟! هل هم أولئك العباقرة -كما يصورون أنفسهم- الذين لا يقف أمام عبقريتهم شيء ولا يحول دونهم حاجز؟! هل هم أولئك المخططون العتاة الذين يخططون لألف عام ولمائة عام ولكل يوم من الأيام، كما يتصورهم المهزومون من الأمميين الذين يقرءون أمثال "البروتوكولات" و"أحجار على رقعة الشطرنج" وغيرها من الكتب التي كان يخفيها اليهود عن العيون فيما مضى -قبل أن تنضج اللعبة وتستوي- وصاروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 هم اليوم الذين ينشرونها على نطاق واسع ليرعبوا بها الأمميين ويوهموهم أنهم يقولون للشيء كن فيكون.. يقرءونها وهم بغير رصيد من عقيدة تحميهم أو قوة تدفع عنهم، فيقولون لأنفسهم: وماذا نصنع نحن أمام هذا المكر الماكر والتدبير الخبيث؟! كلا! ليس اليهود شيئا من ذلك كله! لا هم أولئك الجبابرة، ولا هم أولئك العباقرة، ولا هم أولئك المخططون العتاة! ولقد خططوا ودبروا وحاولوا خلال ألفي عام أو أكثر فلم يصلوا إلى شيء مما يريدون.. إنما الذي جعلهم يقدرون في القرون الثلاثة الأخيرة هم الأمميون أنفسهم، بما أتاحوا لهم من ثغرات ينفذون منها، وما أتاحوا لهم من فرص للإفساد. اليهود لا ينشئون الأحداث ولكنهم يجيدون استغلال الأحداث. وأحوال الأمميين في القرون الثلاثة أو الأربعة الأخيرة هي التي مكنت لليهود كل هذا التمكين.. يقول الله تعالى عن اليهود في كتابه الكريم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} 1. فالقاعدة الدائمة بالنسبة لهم هي الذلة المضروبة عليهم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} 2. والاستثناء هو التمكين. وهم اليوم في قمة الاستثناء.. بحبل من الله وحبل من الناس. فأما الحبل من الله فهو مشيئته سبحانه، التي يجري بمقتضاها كل ما يجري من أمور هذا الكون.. فلو لم يشأ الله لليهود أن يتمكنوا اليوم من رقاب الأمميين ما تمكنوا، ولكنه شاء ذلك سبحانه لحكمة ربما استطعنا فهمها إذا تدبرنا كتابه المنزل، الذي يحوي تفسير مجريات الأمور كلها في الحياة البشرية ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وأما الحبل من الناس فهذا الذي ينبغي أن نتدبره جيدا لنعرف الحجم الحقيقي للقوة الموهومة "لشعب الله المختار". قلنا في التمهيد الأول إن الكنيسة الأوروبية أفسدت فحوى "الدين"   1 سورة آل عمران: 112. 2 سورة الأعراف: 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 بالنسبة لأوروبا فشوهت العقيدة أولا، وفصلت العقيدة عن الشريعة ثانيا، وقدمت الدين عقيدة خلوا من الشريعة إلا القليل. فضلا عما اقترفت الكنيسة من الخطايا التي تنفر الناس من الدين. وينبغي أن ندرك جيدا أن هذه هي نقطة البدء، التي أتاحت لليهود أن يفعلوا كل ما فعلوه, وإن كان ذلك قد استغرق عدة قرون! فيجب أن نلاحظ أولا أن اليهود لم يبدءوا بالعمل في العالم الإسلامي إنما في العالم المسيحي. وهذا الأمر له دلالته التي لا يجوز إغفالها، فقد حاربوا الإسلام حربا شعواء في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحاولوا -بكل "عبقريتهم" الشريرة وبكل "جبروتهم" وبكل "تخطيطهم" وتدبيرهم وبكل مكرهم ودهائهم- أن يقضوا على هذه العقيدة وعلى الدولة التي انبثقت عنها فلم يستطيعوا، ورد الله كيدهم في نحورهم، وقال جل شأنه في هذا الصدد: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} 1، {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} 2. وقال في شأنهم وشأن غيرهم جميعا: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 3. وظل كيدهم ضد الإسلام خلال قرون طويلة محصورا في استحداث فرق باطنية تتظاهر بالإسلام وهي بعيدة كل البعد عنه، ولكن هذه الفرق لم تخدع المسلمين، ولم تستطع الحياة بينهم، وظلت منبوذة مبعدة لا تؤثر في جسم الأمة المسلمة ولا في عقائدها ولا في خط سيرها، وظلت الشريعة الإسلامية مطبقة في الأرض الإسلامية ما يزيد على اثني عشر قرنا من الزمان. أما في أوروبا المسيحية فقد كان الوضع مخلخلا مليئا بالثغرات التي يستطيع اليهود أن ينفذوا منها ويفسدوا من خلالها. والثغرة الكبرى كما أسلفنا كانت تحريف الدين وتشويهه على يد الكنيسة.   1 سورة آل عمران: 111. 2 سورة آل عمران: 119, 120. 3 سورة المائدة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 إنه حين يكون للأمة دين حقيقي، معمول به في واقع الأرض، فإن اليهود -بكل قدرتهم على الشر- لا يستطيعون أن يصنعوا شيئا ضد هذه الأمة مهما حاولوا. والتعبير القرآني في آية آل عمران يلفت النظر: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} . أي: لن يضروكم في عقيدتكم، ولن يؤثروا في دينكم، ولا في قيام حياتكم على مقتضى هذا الدين. إنما يؤذونكم فقط بأي نوع من الإيذاء، وفرق بين أن يؤذوا أشخاصكم وأن يضروا دينكم, أي: مقومات حياتكم. فإن القتال نوع من الإيذاء. والسباب نوع من الإيذاء. وتأليب الأعداء نوع من الإيذاء كما حدث ما بين اليهود وقريش. والعدوان على بعض الأفراد نوع من الإيذاء. ولكن تبقى الأمة سليمة ما بقي لها دينها، أي: المنهج الذي تقوم حياتها عليه وتستقيم. أما في أوروبا حيث لم يكن هنالك دين حقيقي، فقد استطاع اليهود أن يضروا -لا بالإيذاء فقط- ولكن بتغيير قواعد الحياة كلها، بل بمسخ الفطرة البشرية ذاتها، وتحويل الناس إلى دواب يركبهم الشعب الشرير. ومع ذلك فإن اليهود لم يتقدموا للعمل الجاد في إفساد أوروبا إلا حين بدأت أوروبا تتخلى عن كل القيم المستمدة من الدين. لقد كان الدين مشوها نعم، وليس هو الدين المنزل من عند الله. ولكنه كانت يحمل شيئا من آثار الدين السماوي. {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} 1. نسوا حظا ولكنهم لم ينسوه كله. وهذا الجزء الباقي الذي لم يكونوا قد نسوه هو الذي حال بين اليهود وبين أن يعيثوا فسادا في أوروبا بضعة قرون. كانت هناك الأخلاق، كانت هناك الأسرة المتينة الرباط، كان هناك النفور من الفاحشة والحياء الأنثوي الفطري اللائق بأنثى الإنسان والذي يميزها عن إناث الحيوان. وكان هناك الحفاظ الشديد على العفة وصيانة العرض، وكان هناك تحريم الربا فيما بين المسيحيين بعضهم وبعض، إلا من وقع في قبضة   1 سورة المائدة: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 المرابين اليهود، وكان هناك الزهد في متاع الحياة الدنيا التطلع إلى الآخرة.. وكان.. وكان. ذلك كله حظ من دين الله المنزل لم يكن قد نسي في "القرون الوسطى المظلمة" في أوروبا. ورغم أنه لا ينفع عند الله ولا يشفع لهم يوم القيامة؛ لأن الله لا يرضى بتجزئة دينه أجزاء يؤمن الناس ببعضها ويكفرون ببعضها الآخر على هواهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} 1. رغم ذلك فإنه -بالنسبة لليهود- كان حاجزا منعهم من القيام بنشاطهم المفسد على نطاق واسع عدة قرون. فلما أمعنت الكنيسة في الفساد والإفساد.. لما طغت كل طغيانها الذي تحدثنا عنه، وحاربت العلم, وحاربت حركات الإصلاح، ووقفت مع الطغاة ضد المظلمون.. وحين فسدت أخلاق رجال الدين فصاروا -بوضعهم ذلك- يصدون عن سبيل الله: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 2. حين حدث ذلك كله أخذ الناس في أوروبا ينفرون من الدين وينسلخون منه، لا يفرقون بين ما قدمته لهم الكنيسة من الأباطيل وما أنزله الله من الحق.. ولا يسعون في الوقت ذاته إلى اعتناق الدين الصحيح.. عندئذ وجدت الفرصة التي يترقبها اليهود ليعيثوا فسادا في الأرض، وبدءوا ينشطون نشاطهم الشرير الذي ظل يتصاعد من القرن الثامن عشر -على الأقل- إلى القرن العشرين. مخطط اليهود -كما جاء في التلمود- أن يستحمروا الأمميين ليركبوهم ويسخروهم لمصالحهم، فهل استطاعوا -قط- أن يستحمروهم وهم آدميون أي: لهم دين يلوذون به من كيد الشيطان أو حتى آثار من الدين؟ كلا! إنما الذي حدث بالضبط أن الأممين في أوروبا -بابتعادهم عن الدين وانسلاخهم منه- هم الذين استحمروا أنفسهم للشعب الشيطاني ودعوه أن   1 سورة البقرة: 85. 2 سورة التوبة: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 يركب فوق ظهورهم ليوجههم كيف يشاء! ولنتتبع أحوال أوروبا خطوة خطوة لنرى من أين نفذ اليهود. لو بقيت أوروبا على بقايا دينها, ولا نقول اعتنقت الدين الصحيح الذي حاربته تلك الحرب المتعصبة الحمقاء, فمن أين كان ينفذ اليهود؟ لو بقيت الأسرة مترابطة متماسكة تقوم على عفة المرأة وقوامة الرجل على البيت فمن أين كان ينفذ اليهود؟ لو بقي عامة الناس غير مفتونين بالحياة الدنيا ناظرين إلى الآخرة فمن أين كان ينفذ اليهود؟ لو قام العلم على غير عداء وصراع مع الدين، فمن أين كان ينفذ اليهود؟ لو بقي الناس يحرمون التعامل بالربا ويرفضون أن تقوم حياتهم عليه، فمن أين كان ينفذ اليهود؟ ثم.. حين قامت الصناعة بعد اختراع الآلة.. لو كانت هناك دولة تحكم بما أنزل الله, وتطبق منهجه في الحياة، وترفض أكل مال الأجير وتحرص على توفيته حقه، وحقه هو الذي يكفيه للحياة الكريمة هو وأسرته.. فمن أين كان ينفذ اليهود بنشر البغاء "الشعبي" والدفاع عنه وتولية الدولة حارسة عليه وراعية له! وقد فعلوا ذلك كله استغلالا لوجود الشباب الفاره من العمال بلا أسر في المدينة؟! لو كانت هناك دولة تحكم بما أنزل الله، وتقيم لكل امرأة كفيلا يكفلها من ذوي قرباها، أو من بيت المال حين تفقد كل الكفلاء، فمن أين كان ينفذ اليهود الذين نفذوا من خلال اضطرار المرأة إلى الهجرة من الريف والعمل في المدينة، واضطرارها إلى التخلي عن عرضها في كثير من الأحيان؟ وحتى حين اضطرت المرأة للعمل.. لو كانت هناك دولة تحكم بما أنزل الله ولم تبح تلك التفرقة الظالمة في الأجر بين الرجل والمرأة التي تقوم بنفس العمل، فمن أين كان ينفذ اليهود الذين لعبوا لعبتهم الكبرى بقضية المرأة ودمروا بها المجتمع البشري كله؟ لو كانت المرأة غير مضطهدة ولا محتقرة ولا مهينة ولا منبوذة فمن أين كان ينفذ اليهود الذين استغلوا هذا الواقع السيئ لينفخوا في قضية المرأة ويمدوها إلى الأبعاد التي وصلت إليها في كل اتجاه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 لو كانت المرأة تنال حقها من التعليم، على الأصول الصحيحة التي لا تفسد أنوثة المرأة، ولا تبعدها عن وظيفتها، ومع ذلك تعلمها وتثقفها وتجعل منها إنسانة فاضلة متنورة، فمن أين كان ينفذ اليهود الذين لعبوا بقضية تعليم المرأة وأفسدوا بها المرأة والرجل كليهما إلى أبعد حدود الفساد من أول الاختلاط إلى إباحية الجنس إلى تحطيم الأسرة وتشريد الأطفال.. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} 2. نعم.. لو أنهم آمنوا واتقوا ما استطاع اليهود أن يلعبوا بهم ويستحمروهم لخدمة مصالحهم. "الناس" هم الذين أمدوا اليهود بالحبل الذي مكن لهم في الأرض في الوقت الحاضر.. السينما مؤسسة يهودية أقامها اليهود للإفساد في الأرض، فكل فتى أو فتاة أصابه جنون السينما فهو "حبل من الناس" يمد اليهود.. ويمدهم بالمال الذي يربحونه من هذه التجارة النافقة، ويمدهم بالفساد في ذات نفسه فيحقق لهم مخططهم الشرير. بيوت الزينة والأزياء يهودية.. فكل فتاة أصابها جنون الزينة وجنون "المودة" هي "حبل من الناس" تمد اليهود، تمدهم بالمال من ناحية -وصناعة أدوات الزينة من أربح الصناعات على الإطلاق- وتمدهم بالفساد في ذات نفسها وفي الشباب الذي تتولى فتنته بتبرجها فيحققان لهم مخططهم الشرير. جنون الجنس أطلقه اليهود على البشرية، فكل فتى أو فتاة أصابه جنون الجنس فهو "حبل من الناس" يمدهم باستعباد نفسه للشهوات التي تهبط به عن آدميته فيصبح في متناول مخططهم الشرير. جنون الكرة من أنواع الجنون التي أطلقها اليهود على البشرية, فكل فتى   1 سورة الأعراف: 96. 2 سورة المائدة: 65, 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 "أو فتاة! " أصابه جنون الكرة فهو "حبل من الناس" يمد اليهود، يمدهم بتفاهة اهتماماته وانصرافه عن معالي الأمور إلى سفسافها1 وانصرافه عن الاهتمامات الجادة والنظر فيما يحيط به من أحوال، فييسر لليهود أن يعبثوا عبثهم العالمي والأولاد "والبنات! " مشغولون بالفريق الذي أخفق والفريق الذي فاز! الربا من أفتك أدوات اليهود وأفعلها في التخريب. فكل صاحب مال أودعه عند اليهود في مصارفهم ومؤسساتهم فهو "حبل من الناس" يمد اليهود، يمدهم بأرباح طائلة يقوون بها أنفسهم ويتحكمون بها في اقتصاد العالم كله، وبالخبال الذي يصيب حياته من الربا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} 2. وهذا كله بصرف النظر عن المدد الذي يأتيهم من دول كأمريكا أو روسيا، فإن الآية لا تشير إلى دول بعينها ولا إلى "بعض" الناس إنما تشير إلى "الناس" والحاصل اليوم أن المدد يأتي من "جميع الناس".. إلا من رحم ربك! الأمميون" هم الذين استحمروا أنفسهم "لشعب الله المختار". وذلك بتخليهم عن الوقاية الطبيعية التي تحميهم من كيد الشيطان. {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} 3. والكنيسة -بالنسبة لأوروبا- هي المجرم الأكبر الذي أتاح لليهود أن يتلفوا أوروبا ويشيعوا فيها من ألوان الفساد: الفكري والروحي والخلقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي ما لم يجتمع بهذا الحجم وهذه الصورة في التاريخ: مسخ كامل للفطرة البشرية ونكسة لم تنتكسها البشرية في تاريخها كله، رغم كل الإمكانيات المادية والعلمية المتاحة للبشر، والتي كانت حرية أن ترتفع "بالإنسان" إلى الآفاق العليا بعد أن يفرغ من قضاء ضروراته الجسدية فإذا هي تغرقه في عالم الضرورة وتحبس روحه بل تطمسها وتهبط بالإنسان إلى درك من الحيوانية يتعفف عنه الحيوان.   1 قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها" رواه الطبراني. 2 سورة البقرة: 275. 3 سورة النحل: 99, 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ولكن هناك مسئولية أكبر في الحقيقة تقع على الأمة المسلمة. هذه الأمة التي أخرجت "للناس" لتكون خير أمة في التاريخ. {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1. وكلفها أن تكون شاهدة ورائدة لكل البشرية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 2. هذه الأمة أين ذهبت وأين مضى بها التيار؟! في غير هذا الكتاب نتحدث عن خط الانحراف الذي انحرف بهذه الأمة عن خطها السوي وأنساها رسالتها. ولكنا نقول هنا -بصدد تحديد مسئولية "الأمميين" عما أصابهم من الخبال على يد اليهود- إن الأمة الإسلامية لم تكلف -كالأمم المؤمنة السابقة- أن تؤمن في حدود نفسها وتستقيم لذات نفسها فحسب، إنما كلفت -فوق ذلك- أن تهدي البشرية كلها إلى النور الرباني، وأن تسعى -بجهدها وجهادها- إلى إقامة دين الله في الأرض كلها، دون إكراه للناس على اعتناق عقيدة الإسلام، إنما تحكم شريعة الله في كل الأرض، ويخضع الناس جميعا للعدل الرباني المتمثل في شريعته: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 3. {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 4. وقد ظلت هذه الأمة قائمة برسالتها لنفسها وللبشرية عدة قرون، كانت فيها ممكنة في الأرض، وكانت هي موئل الهداية والنور، ولم يكن يبرم أمر في الأرض إلا بإذنها أو برضاها.. وإلا فالحرب قائمة لتأديب المعتدين.. ويومئذ لم يكن لليهود في الأرض سلطان. ولكن الأمة التي اختارها الله لتكون شاهدة ورائدة للبشرية ظلت تتراجع حتى أهملت رسالتها العالمية، بل شغلت عن رسالتها لذات نفسها، وعندئذ برزت أوروبا إلى الوجود قوة ممكنة في الأرض، فملأت الفراغ الذي خلفته الأمة الإسلامية بتخليها عن رسالتها، حسب السنن الربانية التي يدبر الله بها أمور البشر في الأرض.   1 سورة آل عمران: 110. 2 سورة البقرة: 143. 3 سورة البقرة: 256. 4 سورة الأنفال: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وحين برزت أوروبا فقد برزت بكل جاهليتها، وبكل الفساد الذي كانت تحمله في أطوائها نتيجة إفساد الكنيسة لدين الله المنزل، فأتاحت للشعب الشرير المتربص للإفساد أن يركب وأن يلهب ظهورها بالسوط ليقودها في طريق الشيطان. وزاد الأمر سوءا حين زاد تفريط هذه الأمة في دينها حتى لم تعد تؤدي شيئا يذكر من رسالتها لذات نفسها، فضلا عن رسالتها العالمية بطبيعة الحال، وحينئذ أتيحت الفرصة لأوروبا الصليبية أن تقهر العالم الإسلامي وأن تدخل أرض الإسلام لتدك حصونها من الداخل، وأتيح لليهود -من خلال الحملة الصليبية الغازية- أن ينشروا سمومهم في العالم الإسلامي ذاته، بنفس الوسائل التي نشروا بها سمومهم في العالم الإسلامي ذاته، بنفس الوسائل التي نشروا بها سمومهم في أوروبا، سواء كان ذلك بأيديهم مباشرة أو بأيدي الصليبيين الذين يقومون بذات الدور ضد الإسلام لحسابهم الخاص! ومن ثم دخل "الأمميون" المسلمون في ذات الدوامة، وصاروا هم أنفسهم -إلا من رحم ربك- يمدون الحبل لليهود! وتم لليهود ذلك السلطان الذي أشارت إليه الآية الكريمة على سبيل الاستثناء من الذلة الدائمة المفروضة عليهم: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} 1. الأمة المسلمة إذن هي المسئول الأكبر عما أصاب البشرية كلها من الخبال على يد اليهود. فقد أنزل الله إليها النور، وأنزل إليها الرسالة الخاتمة وشرفها بخاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم, لا لتتلهى بذلك كله, وإنما لتكون -بكل ثقلها، وبكل فاعليتها- جهدا، دائما وحركة دائمة لنشر النور والهداية في الأرض. فإذا تخلت فمن يحمل الرسالة؟! وإذا تخلت فأي شيء في الأرض يحول دون الشعب الشرير المتربص للإفساد؟! وإذا كان تخلي الأمة المسلمة عن رسالتها هو الذي أتاح الفرصة لليهود ليحدثوا في الأرض كل هذا الشر عن طريق الأمة الجاهلية التي تولت السلطان حين تخلى المسلمون.. فإن عودة المسلمين إلى الإسلام هي التي تنهي دور اليهود في الأرض وتعيدهم إلى حجمهم الطبيعي:   1 سورة آل عمران: 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} 1. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} 2. {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 3. ولقد نتساءل عن حكمة الله سبحانه وتعالى في تمكين اليهود من "الأمميين" في هذه الفترة الاستثنائية التي تعيشها البشرية اليوم. فنقول بادئ ذي بدء إن الله سبحانه وتعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} 4.. {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 5، فلا نسألة تعالى لماذا لم يجعل الذلة على هذا الشعب دائمة لا استثناء فيها وهم يستحقون -بصحيفتهم السوداء- أن تكتب عليهم الذلة إلى يوم القيامة. ولكنا نلمح جانبا من حكمة الله في قوله تعالى مخاطبا الكفار: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} 6. والبشرية اليوم قد كفرت كما لم تكفر في تاريخها كله، فأنكرت وجود الله جهرة، ومنعت منهجه أن يحكم حياة الناس في الأرض، فاختار الله شر خلقه -اليهود- ليذيق البشرية كلها بأسهم جزاء وفاقا على هذا الكفر الذي ليس له مثيل في نوعه ولا في حجمه في التاريخ ... ولنذكر أن دارون ليس يهوديا.. وهو الذي قال: الطبيعية تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق.. الطبيعة تخبط خبط عشواء. إن تفسير النشوء والارتقاء بأنه صادر من الإرادة الإلهية يكون بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت!! فوضع بذلك أسسا "علمية" للفساد الذي يملأ الأرض اليوم! والله يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي   1 سورة البقرة: 61. 2 سورة الأعراف: 167. 3 سورة المائدة: 64. 4 سورة الأنبياء: 23. 5 سورة البقرة: 117. 6 سورة الأنعام: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 1. ومن هنا نرى أن تسليط اليهود على "الأمميين" اليوم ليس خارجا عن سنن الله ووعده ووعيده كما جاءت في كتابه الكريم. كما نستطيع أن نحكم -من كتاب الله- أنها فترة استثنائية يعودون بعدها فيدخلون في الأجحار.. حين يعود المسلمون إلى الإسلام. ويسأل بعض الناس: أليس اليهود هم أنفسهم فاسدين ومنحلي الأخلاق؟ وكل الشرور التي أذاعوها في البشرية ليحكموهم بها هي ذائعة فيهم؟! نقول: بلى!! إنهم كذلك! ولن يهربوا هم من سنة الله التي تكتب الدمار على الناس حين يلجون في الغواية ويصرون على الفساد. نعم ولكن لهم دورا -قدره الله- في إذاقة البشرية الخبال جزاء كفرها وتبجحها بالكفر، دورا يؤدونه قبل أن يصيبهم الدمار بحكم السنن الربانية، وقبل أن يرجعوا إلى الذلة والمسكنة كما توعدهم الله إلى يوم القيامة. إنهم فاسدون نعم، ولكنهم -بحكم ظروفهم التاريخية- يخططون بوعي حين يجدون الفرصة السانحة للتخريب، بينما الأمميون يفسدون فقط ... يفسدون بلا تخطيط! اليهودية لا عرض لها، ولكنها إذ تبيع جسدها تمتص أموال الأمميين وتسرق أسرارهم لتعطيها "لشعب الله المختار" ليستفيد بها في تخطيطه الخبيث. أما الأممية فحين تفسد فإنها لا تفسد لهدف معين.. تفسد من جل الفساد فحسب. وحين يوضع الأمر على هذا الصورة تكون الغلبة لا شك للفريق الأكثر وعيا، والذي تربط بينه -رغم فساده- عوامل تاريخية تمنعه من الذوبان السريع. أما النتيجة الأخيرة فقد بينها كتاب الله. تنتهي الفترة الاستثنائية -لأنها استثنائية- ويعود القدر المضروب يحكم اليهود: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} 2.   1 سورة الروم: 41. 2 سورة الأعراف: 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الديموقراطية مدخل ... الديمقراطية: الديمقراطية Democracy كلمة مشتقة من لفظتين يونانيتين Demos "الشعب" و Kratos "سلطة" ومعناها الحكم الذي تكون فيه السلطة للشعب. وتطلق على نظام الحكم الذي يكون الشعب فيه رقيبا على أعمال الحكومة بواسطة المجالس النيابية، ويكون لنواب الأمة سلطة إصدار القوانين. وأول من مارس الديمقراطية هم الإغريق في مدينتي أثينا وإسبرطة، حيث كانت تقوم في كل من المدينتين حكومة "يطلق عليها اصطلاحا اسم "حكومة المدينة" أي: الحكومة التي تقوم في مدينة واحدة مفردة" وكان كل أفراد الشعب من الرجال في كل من المدينتين يشاركون في حكم المدينة، فيجتمعون في هيئة "جمعية عمومية" فيتشاورون في كل أمور الحكم، فينتخبون الحاكم ويصدرون القوانين ويشرفون على تنفيذها ويضعون العقوبات على المخالفين. فكان "حكم الشعب" مطبقا بصورة مباشرة في كل من المدينتين، وكانت التسمية منطبقة على الواقع انطباقا كاملا. ولكن هذه الصورة من صور الديمقراطية انتهت بانتهاء "حكومة المدينة" في كل من أثينا وإسبرطة، وإن ظلت محفوظة في ذاكرة أوروبا ككثير من الأفكار. والقيم والمبادئ الإغريقية التي بقيت كامنة في الفترة التى غلبت المسيحية فيها على أوروبا، ثم عادت إلى الظهور بعد قيام "النهضة" على التراث الإغريقي الممتزج بالتراث الروماني، الذي يطلقون عليه في اصطلاحاتهم Greco- Roman أي: إغريقي روماني ولقد ظل الإقطاع يحكم أوروبا أكثر من ألف عام في ظل الإمبراطورية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الرومانية والقانون الروماني. ولم تغير المسيحية شيئا من سماته في هذه الناحية؛ لأن الكنيسة لم تحاول تطبيق شريعة الله، وتركت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية تجري على ما كانت عليه في ظل الإمبراطورية الرومانية دون تعديل يذكر، وحين نازعت الملوك والأباطرة سلطانهم لم يكن ذلك -كما أسلفنا- من أجل إلزامهم بتحكيم شريعة الله، كما فعل المسلمون في الأرض التى حرروها من قبضة الرومان في مصر والشام والشمال الإفريقي.. إلخ, إنما كان من أجل إلزامهم بالخضوع لهواها هي وسلطانها الشخصي. وفي ظل الإقطاع لم يكن "للشعب" وجود إلا بوصفه قطعا آدمية لاصقة بالطين، لا كرامة لها ولا حقوق.. كان هناك ملوك مستبدون بالحكم يحكمون بمقتضى "الحق الإلهي المقدس" باعتبارهم "ظل الله في الأرض" فكلامهم أمر، وأمرهم مقدس، وما عنّ لهم من أهواء فهي أوامر واجبة التنفيذ. ويعاونهم في تثبيت سلطانهم وتوكيده في الأرض أمراء الإقطاعيات الواقعة في ملكهم، مقابل إطلاق يد هؤلاء الأمراء "الذين يُسمون: النبلاء أو الأشراف" في إقطاعياتهم، يتصرفون فيها كيف شاءوا دون مراجعة ولا رقابة تضبط تصرفاتهم؛ لأن الذين يعيشون على أرض الإقطاعية هم إما عبيد وإما في حكم العبيد، وسلطان "الشريف" عليهم سلطان مطلق بحكم "القانون" فهو بالنسبة لهم يمثل السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية جميعا في آن واحد، وليس للملك على الإقطاعي إلا ما يفرضه عليه من الأموال "بمقدار ما يشبع نهمه ومطالبه" وتلك يستخرجها أمير الإقطاع من فلاحيه بالقوة الجبرية، وإلا "الأنفار" الذين يطلب الملك تجنيدهم في جيوشه ليموتوا من أجل تحقيق أهوائه ومطامعه.. أي: إن سلطة الملك في النهاية واقعة على أولئك العبيد من خلال سلطة أمراء الإقطاع، كما تقع عليهم السلطة المباشرة من أمراء الإقطاع لحساب هؤلاء الخاص.. وفي جميع الحالات يكون أولئك العبيد -وهم في النهاية طبقة "الشعب"- بغير سلطان وبغير حقوق، واقعة عليهم كل الواجبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وإلى جانب الملوك والنبلاء كانت سلطة الكنيسة ورجال الدين، وكانت منصبة في النهاية كذلك على الشعب. فإلى جانب الخضوع المذل لرجال الدين -وهو حق "مقدس" لهم- كانت هناك الإتاوات والعشور، والسخرة المجانية في أرض الكنيسة, والتجنيد في جيوش الكنيسة التي كانت توجهها لتأديب الخارجين على سلطانها من الأباطرة والملوك. وهذه المظالم المتراكمة هي التي تفجرت في الثورة الفرنسية، بعد أن هيأ لها في نفوس الأوروبيين الاحتكاك بالمسلمين في الحروب الصليبية وفي اللقاء السلمي بين المسلمين وبين المبتعثين من بلاد أوروبا لتلقي العلم في بلاد الإسلام. ولكن أوروبا حين تفجرت ثورتها لم تكن في وضع يسمح لها أن تستبدل بالجاهلية التي ثارت عليها دين الله الحق، وشريعته العادلة التي كانت تحكم الأرض من حولها من الشرق والغرب والجنوب؛ لأن الحروب الصليبية وحملات التنفير الديني والثقافي التي قامت بها الكنيسة ضد الإسلام وقفت حاجزا بينها وبين اتخاذ الإسلام عقيدة وشريعة، فارتدت إلى تراثها الإغريقي الروماني تبحث فيه عن حلول مشكلاتها؛ بدلا من أن تلجأ إلى الإسلام1. ووقع اختيار أوروبا على "الديمقراطية" بديلا من الإقطاع، وكانت هناك عوامل كثيرة ترشح لهذا الاختيار. فطبقة "الشعب" هي الطبقة المكبوتة المسحوقة، وهي الطبقة الثائرة التي تسعى إلى المشاركة في السلطان ... والطبقة الرأسمالية هي الطبقة الجديدة التي صار المال في يدها بدلا من طبقة الإقطاعيين بسبب انتقال الإنتاج -تدريجيا ولا شك- من إنتاج زراعي إلى إنتاج صناعي بعد اختراع الآلة.. وهذه الطبقة الجديدة تريد أن تنتزع السلطان انتزاعا من الطبقة المالكة السابقة التي كان في يدها السلطان. لذلك كانت الديمقراطية هي اللعبة المناسبة التي توفق   1 الواقع أنها لم تستطع أن تتخلص من الضغط العلمي والثقافي والحضاري للإسلام وإن كانت ازوّرت عن العقيدة الإسلامية وحاربت الإسلام بلا هوادة، فالقانون المدني الفرنسي الذي وضع بعد الثورة الفرنسية أخذ أشياء كثيرة من الفقه المالكي الذي كان سائدا في الشمال الإفريقي، أقرب بلاد المسلمين إلى فرنسا، والعلوم الإسلامية ظلت تدرس في الجامعات الأوروبية فترة طويلة بعد ترجمتها من العربية إلى لغات أوروبا، كذلك أثرت الحضارة الإسلامية كثيرا في الحياة الأوروبية "اقرأ إن شئت كتاب "شمس الله تسطع فوق الغرب" للكاتبة الألمانية "زيجريد هونكه" المترجم بعنوان "شمس العرب تسطع على الغرب" ترجمة فاروق بيضون وزميليه، بيروت 1969م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 بين رغبة الطبقتين الساعيتين إلى السلطة، إحداهما وهي الطبقة الرأسمالية تملك السلطان الحقيقي، والثانية وهي طبقة الشعب تشارك -بقدر- في السلطان1، وذلك فضلا عن عنصرين آخرين أحدهما إيحاء الفكر الإغريقي القديم وتأثيره على المفكريين الغربيين منذ عصر النهضة، وهو فكر يحمل صورة "تذكارية" للدميقراطية من أيام أثينا وإسبرطة، والثاني هو الشعارات التي وضعتها الماسونية اليهودية للثورة الفرنسية وهي: الحرية والإخاء والمساواة، والديمقراطية هي المنطلق الأنسب لهذه الشعارات، ومن ورائها يحقق اليهود ما يحلو لهم من أهداف. لذلك كله كانت الديقراطية هي الإطار المناسب للعناصر المتفاعلة في أوروبا في ذلك الحين ... في ظل الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية القائمة في تلك الفترة من الزمان. ولم يكن الأمر سهلا مع ذلك ولا ميسرا للراغبين.. فقد احتاج إلى صراع طويل مرير حتى استوى على صورته الحالية. وكانت "المكاسب الديمقراطية" تأتي متقطعة وجزئية، ولا تأتي إلا بعد معارضة طويلة من الذين في أيديهم السلطان ولا يرغبون في التنازل عنه، وبعد قيام "الشعب" بالإضراب والعصيان والتمرد، وتعرض دعاة الحرية إلى السجن والاعتقال والتشريد، بتهمة إثارة الشغب والتحريض على الإخلال بالنظام. وبعد نضال وكفاح استمر قرابة قرن من الزمان استقرت الديمقراطية في صورتها الحالية التي تراها في دول غرب أوروبا وأمريكا، على اختلاف بينها في الجزئيات لا يؤثر في صورتها العامة ومبادئها الرئيسية. كانت نقطة الانطلاق، أو نقطتا الانطلاق في الحقيقة أولا: وجوب إشراف الشعب على أعمال الحكومة, أي: إلغاء "الحق الإلهي المقدس" وإخضاع الحكومة لرقابة الشعب على تصرفاتها، وفصل السلطات وجعل الحكومة سلطة تنفيذية فحسب، لا سلطة تشريعية.. وثانيا إعطاء الشعب حقوقه "الإنسانية" التي حرم منها أكثر من ألف عام في ظل نظام الإقطاع.   1 للشيوعيين دعوى تقول: إن طبقة الشعب ظلت مسحوقة ومستعبدة في ظل النظام الرأسمالي -رغم الحرية الصورية- وإن الكاسب الحقيقي والأوحد في ظل هذا النظام هو الرأسماليون. وما نحب هنا أن نتعجل الحديث، فسيأتي مناقشة ذلك كله فيما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وفي كلا الميدانين أحرزت الديمقراطية تقدما ضخما بالنسبة لما كان في عهد الإقطاع وعهد الحكم بمقتضى الحق الإلهي المقدس. فقد أصبحت رقابة المجالس النيابية كاملة على تصرفات الحكومة الرئيسية وبصفة خاصة "الميزانية" التي تمثل موارد الدولة ومصارفها، والتي كانت من أكبر أبواب المظالم الواقعة على "الشعب" حيث كان الحاكم يفرض من الضرائب ما يحلو له، بمقدار ما يروي نهمه إلى المال الذي كان معظمه ينفق على بذخ الملوك والحكام, وأقله يصرف على الصالح العام. لم يعد من حق الحكومة أن تفرض ضريبة -أي ضريبة- إلا بموافقة المجالس النيابية، ولم يعد من حقها أن تصرف حصيلة مواردها إلا في الأبواب التي توافق المجالس النيابية عليها، ومن ثم أمسكت تلك المجالس بالزمام بعد أن كانت الحكومات مطلقة اليد في التصرف, وكثيرا ما كنت تسمع -وما تزال- كلمة "دافعي الضرائب" تتردد في أروقة "البرلمانات" على ألسنة النواب، يستصرخون الرحمة على الفقراء دافعي الضرائب ويطلبون التخفيف عنهم، أو يطالبون أن تنفق الأموال لمصلحة دافعي الضرائب؛ لأنهم هم الذين ينبغي أن يستفيدوا قبل أي أحد آخر بحصيلة الضرائب التي يدفعونها. ومن ثم ظلت الضرائب -خلال نمو الديمقراطية- تخفف تدريجيا عن الفقراء وتزاد على الأغنياء بعد أن كان الحادث هو العكس تماما حيث كان الأغنياء يستمتعون بالثروات الطائلة ولا يدفعون عنها ضرائب على الإطلاق أو يدفعون ضرائب تافهة لا تكاد تذكر، ولا تؤثر أي تأثير على ثرواتهم الضخمة، بينما الفقراء هم الذين يتحملون عبء الضرائب الأكبر! كما وجه الصرف من موارد الدولة -وأهمها الضرائب بطبيعة الحال- على المشروعات العامة التي تصل فائدتها لأكبر عدد من الناس الذين يوصفون بصفة خاصة بأنهم دافعو الضرائب، فزاد الإنفاق تدريجيا على التعليم، وعلى الصحة العامة، وعلى المرافق العامة من طرق وجسور وخدمات، وقل الإنفاق في ذات الوقت على مشروعات الترف التي لا تفيد إلا القلة المترفة من الشعب بعد أن كانت مثل هذه المشروعات هي الشغل الأول للحكومات السالفة وتنفق فيها الأموال الطائلة. ولم تمر قضية الضرائب سهلة حتى فيما يسمى "المجالس النيابية" فقد كانت تلك المجالس في أول عهدها تمثل الأغنياء أكثر مما تمثل الفقراء أو تمثلهم دون الفقراء في كثير من الأحوال، إذ كانت شروط الترشيح إلى المجالس النيابية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ذاتها موضوعة بحيث لا يمر منها إلا أصحاب الثروات ويعجز عنها الفقراء. لكي يمنعوا منعا من الدخول إلى البرلمانات وإزعاج أصحاب الأموال بصيحاتهم الكريهة إليهم! ولم ينل الفقراء حق الترشيح إلا بعد جهاد طويل ومرير، فاستطاعوا -بعد دخولهم- أن يعدلوا نظم الضرائب في بلادهم، ويحققوا قسطا من العدالة في المغانم والمغارم سواء. ولم تكن المجالس النيابية هي وحدها التي تدور فيها المعركة حول الضرائب, فقد كانت الصحافة والخطابة والكتب المؤلفة تشارك جميعا في النقاش والحوار والهجوم والدفاع. وكان من أهم ما قيل في هذا الصدد إن توحيد نسبة الضريبة على الشيء الواحد بين الفقراء والأغنياء هو ظلم بَيّن على الفقراء؛ لأنهم يدفعون الضريبة من قوتهم الضروري الذي لا تقوم حياتهم بغيره، بينما الأغنياء يدفعون من فائض أموالهم، أو من فائض الفائض المتراكم عاما بعد عام! لذلك استحدث في الأخير نظام الضرائب التصاعدية التي تزيد فيها نسبة الضريبة زيادة مطردة كلما زاد الدخل ... فالألف الأولى غير الألف الثانية، والثانية غير العاشرة, فإذا كانت الأولى يخصم منها عشرها ضرائب "عل سبيل المثال" فالعاشرة قد يخصم نصفها أو ثلاثة أخماسها وهكذا. أما الضرائب غير المباشرة، أي: الضرائب المفروضة على الأشياء المشتراة أو المستخدمة لا على الدخل، فقد كانت وما تزال موضع النقاش في البلاد الديمقراطية؛ لأنه لا يمكن التمييز فيها بين الأغنياء والفقراء لا يمكن مثلا أن يقال: إذا اشترى الغني رغيف الخبز فعليه أن يدفع له ثمنا أكبر مما يدفع الفقير فيه! إنما يقال في الحوار إنه ينبغي إلغاء الضرائب أو تخفيفها عن "الضروريات" ورفعها على "الكماليات" ثم يظل النزاع قائما في تعريف ما هو ضروري وما هو كمالي من الأشياء. ولكن الاتجاه على كل حال يظل مائلا إلى التخفيف عن الفقراء والزيادة على الأغنياء. وبالنسبة للإنفاق كذلك لم تكن المعركة يسيرة حتى في المجالس النيابية ذاتها. فحين كانت تلك المجالس ممثلة للأغنياء دون الفقراء لم تكن قضايا مثل التعليم الإلزامي ومجانية التعليم تمر على الإطلاق! بل كان "نواب الشعب" "هكذا كان اسمهم على الدوام من البدء إلى الختام" كانوا يعارضون في نشر التعليم حتى يشمل الفقراء من أبناء الشعب, وكانت تدور مناقشات حادة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 البرلمانات، يقال فيها إنه لا يجوز تعليم كل الناس، وإلا فمن أين نأتي بعمال يعملون في المصانع؟! فإن ابن العامل إذا تعلم سيستنكف أن يعمل بيديه كما كان يعمل أبوه! وسيطالب بوظيفة وأنى لنا أن ندبر وظيفة لكل متعلم, ثم من أين نحصل على الخدم, فسوف يستكبر المتعلمون وسيرفضون الخدمة في البيوت فتفسد حياتنا وتتعطل مصالحنا. وكذلك قضايا الصحة والمرافق العامة! كان النواب المحترمون يعارضون في تعميمها حتى يستفيد منها الفقراء.. ويقولون إن هذه ليست مسئولية الحكومة, إنما كل واحد يدبر لنفسه، وكل واحد حر فيما يصنع لنفسه! وهكذا ... وهكذا في كل القضايا "العامة" التي يعود النفع فيها على الشعب "دافع الضرائب". وإنما تغير الحال بعد جهاد طويل، حين ألغيت أو خففت القيود المفروضة على دخول المجالس النيابية فصار هناك من يدافع عن مصالح الفقراء ويطالب لهم بالتعليم الإلزامي المجاني وبتوفير العلاج والرعاية الصحية، وتيسير الخدمات العامة، وأصبحت هذه نقطة بارزة من نقاط الديمقراطية. كذلك شملت الرقابة البرلمانية أعمال الحكومة الأخرى غير الميزانية بمواردها ومصارفها -وإن ظلت هذه أهم نقاطها- فقد كفت المجالس النيابة يد الحكومة تدريجيا عن "الأفراد" أفراد "الشعب"، فزادت بذلك من "حرية" أولئك الأفراد. لقد كان الأغنياء -بحكم أموالهم ومكانتهم في الدولة- في حصانة من سلطان القانون وإن كانت الدساتير لا تقول ذلك بصفة رسمية. وقد كان القانون الروماني -الشهير بعدالته- ينص صراحة على التفرقة القانونية بين السيد والعبد، فيحيط الأول بضمانات وحقوق كثيرة, ويخفف عنه العقوبة إذا أجرم، بينما يحيط الأخير بكثير من القيود، ويشدد عليه العقوبات على أقل هفوة تصدر عنه. وألغت الديمقراطيات هذه التفرقة في نصوصها المكتوبة، ولكنها ظلت قائمة في عالم الواقع فترة غير قصيرة، حتى تراجعت عنها الحكومات خطوة خطوة بجهاد طويل وكفاح قامت به الشعوب، فأخذت الضمانات والحقوق تتسع لتشمل فئات جديدة من "الشعب" حتى صارت تشمله كله في نهاية المطاف. ويمكن تلخيص هذه الحقوق والضمانات فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 حق الانتقال : لم يكن حق التنقل من مكان إلى مكان مكفولا في ظل الإقطاع، فقد كان معظم الناس عبيدا أو في حكم العبيد، وكان هذا من المظالم التي قامت الثورة الفرنسية لتحطيمها وإن تكن الرأسمالية الناشئة كانت ذات مصلحة خاصة -في نفس الوقت- في تحطيم هذا القيد, لتحصل على العمال اللازمين للصناعة, والذين كانت قيود الإقطاع تحجزهم في الريف وتمنعهم من الوصول إلى المدينة. ولكن الأمر لم يتم في يوم وليلة، فقد ظل "الفقراء" خاضعين لكثير من القيود في تنقلاتهم، تطاردهم الشرطة وتتهمهم بالتشرد وتطالبهم بإثبات أنهم ليسوا مجرمين! وبإيجاد مبرر مقبول لوجودهم حيث هم موجودون! بينما الأغنياء يذهبون حيث يشاءون لمجرد أنهم أغنياء، ومن ثم فهم غير مشبوهين. ورويدا رويدا أخذت تلك القيود المفروضة على حرية التنقل تذوب، وأصبح كل إنسان -مهما يكن عمله أو مكانه في المجتمع- حرا في أن يتنقل داخل الدولة الواحدة ما دام "مواطنا" في تلك الدولة. وكانت كلمة المواطن ذاتها من المعاني التي استحدثتها الديمقراطية فأصبح المواطنون جميعا متساوين -نظريا- في جميع الحقوق والواجبات بحكم أنهم جميعا مواطنون في وطن واحد، وأصبحوا بالفعل متساوين في كثير من الحقوق. أما المساواة التامة فلنا مراجعة بشأنها فيما بعد. ونلحظ من لفظة "المواطن" في اللغات الأوروبية "Citizen" أنها نبعت من المدينة "City" فمن هناك بدأت حركة المطالبة بالمساواة، ومن هناك طالب المطالبون بأن يتساوى كل السكان -أي: سكان المدينة- في الحقوق والواجبات، وبعد أن نالت المدينة حقوقها عمم ذلك على جميع السكان في الوطن كله، ولكن اللفظة الأوروبية لم تتغير، وظل اشتقاقها من المدينة باقيا حتى بعد أن اتسع مدلولها فشملت كل السكان ... أما اللفظة العربية فقد ترجمت متأخرة، حين بدأت الأفكار الديمقراطية تصبح موضع حديث في البلاد الإسلامية الناطقة بالعربية فأخذت المدلول الأخير للكلمة، المتصل "بالوطن" كله لا بالمدينة فحسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 حق العمل : فرق بين أن يعمل بعض الناس في الأعمال التي يستطيعون الحصول عليها وبين أن يكون حق العمل مقررا بمعنى أن كل طالب عمل ينبغي أن ييسر له الحصول على العمل الذي يصلح له. ولم يكن هذا الحق مقررا من قبل، واحتاج تقريره إلى جهاد طويل لكي يتقرر نظريا في مبدأ الأمر ثم عمليا بعد ذلك ... وإن كان من الوجهة العملية لم يتقرر كاملا إلى هذه اللحظة في الديقراطيات الرأسمالية لأسباب سنشرحها بعد قليل. في ظل الإقطاع الذي عاشت فيه أوروبا أكثر من ألف عام لم يكن "حق العمل" شيئا معروفا ولا كان هناك مجال للحديث فيه. فقد كانت الزراعة هي العمل الرئيسي للمجتمع الإقطاعي، وسكان القرية أو الإقطاعية يعملون بحكم الأمر الواقع في أرض الإقطاعية التي يعيشون فيها، قلوا أو كثروا، وقلّت الأرض أو كثرت، فالأرض ومن عليها ملك للإقطاعي يعملون في حقوله ويوزع بعض الأرض عليهم مقابل جعل معين ليزرعوها لأنفسهم إن أمكنهم أن يوفوا بالجعل المتفق عليه، والذي يحدده الإقطاعي حسب هواه دون ضابط معين. فكل من كبر من الأولاد الذكور من سكان القرية فهو يعمل تلقائيا في الأرض يعاون أباه وأسرته ويسكن في بيت الأسرة، ويأكل من طعامها قل أو كثر، ويلبس ما تتيح له الظروف أن يلبس من المنسوجات اليدوية التي تنتجها القرية، والحياة قليلة التكاليف وإن كان الكل يعيشون عيشة الفقر المدقع ولا يجدون غير الكفاف. أما في المدينة فقد كان يسكن فريق من موظفي الدولة وهم قليلون، وفريق من أصحاب الصناعات اليدوية -وهي الصناعات الوحيدة يومئذ- وفريق من التجار، وفريق من أصحاب الحوانيت التي تبيع الحاجيات للناس، وأصحاب المقاهي والنزول "الفنادق الصغيرة" وفريق من المرابين اليهود، وفريق من أصحاب الثروات من الإقطاعيين الذين يتنقلون دائما ما بين المدينة وبين بيوتهم -أو قلاعهم- في داخل إقطاعياتهم، وفريق من البغايا اللواتي يعشن على بيع أجسادهن لمن أراد من كل هؤلاء وبصفة خاصة أصحاب الثروات. خلاصة القول أن كل واحد من سكان المدينة له عمله الذي يعيش منه، أوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ثروته التي تكفل له الحياة هناك بلا عمل. ولا يتكلم أحد عن حق العمل في الريف ولا في المدينة؛ لأن الحاجة إليه لم تكن قد برزت بعد في ذلك المجتمع في ذلك الحين. ولكن الثورة الصناعية قلبت هذه الأوضاع كلها وغيرتها، حين توافد إلى المدينة أعداد هائلة من العبيد المحررين من الإقطاع بعد تحطيمه يبحثون عن العمل في المدينة، ولم تكن الصناعات الناشئة تستوعب ذلك العدد كله وقتئذ. ولا كانت هذه الصناعات مستقرة ومتمكنة، فقد كان كثير منها يفلس لأسباب مختلفة وتقوم مقامها مشروعات جديدة وهكذا. ومن طبيعة العامل الذي نزح من الريف إلى المدينة ألا يحب الرجوع إلى الريف ولا بقي عاطلا في المدينة, فإنه بعد أن يعيش في المدينة الفسيحة المتعددة جوانب النشاط ويتعود -في حدوده الضيقة- على ألوان من المدنية، لا وجود لها في الريف، ويحس "بالحرية" حريته في أن يتصرف في أموره الشخصية كيف يشاء دون تدخل أو تحريج من مجتمع المدينة، بينما مجتمع الريف محكوم أبدا بتقاليده وبالتعارف الشخصي بين كل أفراده مما يضيق مجال تلك الحرية. بعد ذلك كله لا يحب أن يرجع إلى الريف الذي "تحرر" منه، ويفضل أن يبقى متسكعا في المدينة ولو ضاقت به سبل العيش. ولكن القضية لم تكن قضية هذا الفرد أو ذاك، إنما صارت قضية ألوف من هؤلاء العمال وألوف تجتذبهم المدينة والبحث عن فرص العمل فيها، ثم لا تتسع لهم، وهي في الوقت ذاته تكبل أقدامهم "بسحرها" الخاص فلا يفارقونها. وأصبحت القضية في حاجة إلى حل ... إلى تقرير "حق العمل" للألوف العاطلين في المدينة وإيجاد أعمال تستوعبهم. ولم يكن ذلك يسيرا في مبدأ الأمر, ولا تزال كل الحلول التي تقدمها الرأسمالية غير حاسمة تماما في هذه النقطة، وإن كان قد حدث تقدم ضخم في هذا الاتجاه من خلال المعارك التي قامت من أجل الحل، وتعرض فيها ألوف من العمال للسجن والتشريد والموت جوعا على الأرصفة بلا مأوى، والموت بالسل وغيره من أمراض سوء التغذية وسوء التهوية وسوء التدفئة في صقيع أوروبا البارد في الشتاء. لم يكن الحل سهلا لأكثر من سبب في آن واحد. ففكرة المسئولية غير قائمة أصلا في ذهن أحد على الإطلاق فالدولة لم تمارس هذه المسئولية من قبل أبدا، ولا تحسن أنها ملزمة بممارستها! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 لقد كانت الدولة دائما هي دولة الأغنياء, تحس بالمسئولية الكاملة عن راحة الأغنياء ورفاهيتهم وصياغة الأمور كلها بحيث تستجيب لمطالبهم وتحقق لهم رغائبهم. أما ذلك الهمل من القطع الآدمية الملقاة هنا وهناك فهؤلاء يتحملون مسئولية أنفسهم! عليهم هم أن يبحثوا عن حكمة وجودهم وأن يدبروا أمورهم بأنفسهم! فإن ماتوا جوعا فهذا قدرهم, مع التظاهر بالعطف على هؤلاء "المساكين" الذين قدر الله لهم الفقر والجوع والمرض والهلاك، أو مع الشماتة فيهم؛ لأنهم لا يستحقون الوجود أصلا ويستحقون كل ما يحدث لهم. وكانت المعركة مع "ضمير" دولة الأغنياء طويلة ومريرة حتى تزحزحت عن موقفها العنيد تدريجيا، ورضيت بأن تتحمل المسئولية عن هؤلاء الفقراء، وإن كانت المسئولية الكاملة لم تتخذ بعد في أية دولة من الدول الديمقراطية الرأسمالية. أما أصحاب المصانع فقد كانوا أبعد عن تحمل المسئولية وأقسى في معاملة أولئك الفقراء. إن فكرة المسئولية بعيدة عن ضمائرهم بعدا كاملا، وقد قاموا منذ أول لحظة على غير أساس إنساني. إنما قاموا على أساس تحقيق أكبر قدر من الربح، بأية وسيلة تحقق ذلك الربح, وكانت الوسيلة القريبة إلى أيديهم هي تطويل ساعات العمل وخفض الأجور إلى أقصى حد مستطاع1. وبصرف النظر عن تأثر الرأسمالية كلها بأخلاق اليهود الذين أشرفوا عليها من بدايتها -واليهود هم عبدة العجل الذهبي من قديم- فإن الرأسمالية جاهلية في حد ذاتها. ومن طبيعة الجاهلية أن تظلم المستضعفين وأن يطغى فيها أصحاب السلطان على من لا سلطان لهم، إلا أن يحجزهم عن الظلم حاجز قهري لا يملكون قهره بجبروتهم. ولقد استخدم العمال سلاح الإضراب ضد جشع الرأسماليين فكانوا   1 تقول الشيوعية: إن هذا من طبيعة الرأسمالية ذاتها، ولا علاقة له "بالأخلاق" لأن الرأسمالي بطبعه محب للربح, ساع إليه كما تسعى القطة إلى أكل الفأر. ونقول نحن إنه ليس من طبيعة الرأسمالية، إنما هو من طبيعة "الإنسان" حين يطغى أي: حين لا يلتزم بشرع الله ومنهجه، فقد كان الإقطاع على نفس الوجهة من قبل مع اختلاف الصورة الظاهرية، فكان الإقطاعي يسعى إلى الربح على حساب إنسانية العبيد وكرامتهم وجهدهم. يقول رب العالمين: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6, 7] . ويقول: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات: 6-8] . أما المؤمنون فلهم صفات أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 يضربون عن العمل ويطالبون بخفض ساعات العمل ورفع الأجور1 وهنا تلجأ الرأسمالية إلى "جيش العاطلين" تشغلهم بدريهمات قليلة مستغلة جوعهم وحاجتهم القاسية إلى المال، لتضغط بهم على العمال المضربين حتى يعودوا إلى أعمالهم صاغرين "ومن هنا كان تشغيل المرأة بنصف أجر، الذي بدأت منه "قضية المرأة" بادئ ذي بدء ثم استفحلت فصارت قضية مساواة كاملة في كل شي". لذلك كان الجو من أول لحظة بين الرأسماليين والعمال هو جو العداء والصراع لا جو المودة والتراحم، فلم يكن من المتصور أن يتحرك ضميرهم بالشعور بالمسئولية تجاه أولئك "الأعداء" الذين يريدون أن ينقصوا من أرباحهم بالمطالبة بخفض ساعات العمل ورفع الأجور تارة، وبالإضراب عن العمل وتعطيله تارة أخرى!. ولم يشعروا بهذه المسئولية عن طيب خاطر أبدا في يوم من الأيام إنما كانوا يتراجعون عن مواقعهم خطوة خطوة تحت تأثير التهديد المستمر. وكل ما قامت به الرأسمالية من ضمانات للعاطلين إنما كان تحت تهديدين عظيمين: تهديد الإضراب الذي يصيبهم بقدر من الخسائر أكبر مما يتنازلون عنه من فائض أرباحهم للعمال، وتهديد الشيوعية. وشيئا فشيئا أخذت هذه الجاهلية تعدل مواقفها من "حق العمل" سواء على مستوى الدولة أو مستوى الرأسمالية الحرة، حتى قبلت أخيرا مبدأ المسئولية وإن لم تقم به كاملا إلى هذه اللحظة. وثمة صعوبة أخرى تقف أمام حق العمل الشامل في الرأسمالية هو أن الأعمال -بالطريقة التي تقوم بها الرأسمالية- لا تتسع لكل الأيدي الراغبة في العمل أو القادرة عليه، خاصة وأن التقدم "التكنولوجي" يزيد باستمرار من قدرة الآلة على الإنتاج ويخفض من عدد الأيدي اللازمة لإدارتها، فتحدث زيادة مستمرة في الأيدي العاملة عن الحجم الذي يحتاج العمل إليه، وتتعقد المشكلة باستمرار2. ومهما يكن من أمر فقد قامت الديمقراطية التي تمثل في الواقع محاولة   1 ما زالوا يطالبون إلى هذه اللحظة. 2 من الحلول التي قامت بها بعض الدول المتقدمة صناعيا منح يومين عطلة بأجر بدلا من يوم واحد في الأسبوع مع التخفيض المتزايد في ساعات العمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 التوفيق بين الطبقتين المتصارعتين في المجتمع الرأسمالي وهما: طبقة العمال "أي: الشعب" وطبقة الرأسماليين، قامت بجهد متواصل حتى قررت حق العمل من حيث المبدأ وجعلت الدولة ترضى بتحمل مسئوليتها في هذا الشأن. وحين نقول "الديمقراطية" فنحن نقصد في الواقع كفاح الطبقة المظلومة المضغوطة للحصول على حقوقها, ولا نقصد أن الديمقراطية من ذات نفسها تمنح الحقوق للراغبين. وإلا فإن النظام البرلماني في ذاته -وهو أداة الحكم في الديمقراطيات- لم يتسع لحقوق الفقراء إلا تحت القهر والضغط, فإذا كانت هذه الحقوق قد أصبحت اليوم سمة من سمات الديمقراطية؛ فليس لأن الديقراطية ولدت على هذه الصورة، أو أنها يمكن أن توجد تلقائيا في أي بلد على هذه الصورة, ولكن لأن صراعا حادا نشب، هو الذي أعطى الأوضاع صورتها الراهنة، ولو لم يقع ذلك الصراع لبقيت الديمقراطية كما كانت حكما صرفا للأغنياء دون الفقراء!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 حق التعليم : لم يصبح التعليم حقا "للشعب" في أوروبا إلا بعد كفاح مرير. ففي ظل الإقطاع لم يكن للتعليم كله شأن يذكر. ولكن السادة على أي حال كانوا يتعلمون في القصور ما يليق بهم من العلم في ذلك الحين. يتعلمون اللاتينية والإغريقية والشعر والأدب ونصوصا من الكتاب المقدس وشيئا من الحساب وما شابه ذلك. أما أبناء الشعب فإن تعلموا شيئا من الكتاب المقدس على يد راعي الأبرشية فذلك حسبهم وزيادة, فما الذي يصنعون بالعلم وهم في داخل سياج القرية أو الإقطاعية, قد لا يفارقها الواحد منهم طيلة حياته. إنما يتلقى الصبي منهم "ثقافته" من أحاديث الكبار التي يرددون فيها خبراتهم التافهة عن الأرض والمحاصيل والضرائب والواجبات المفروضة عليهم، وزواج فلان من أهل القرية أو موت فلان, وأقاصيص الثراء في قصر "النبيل" صاحب الإقطاعية وما يقيم في قصره من مآدب وولائم، وما يقع منه ومن وكيله من مظالم على العباد. لذلك كانت الأمية هي الغالبة على "الشعب" وكان المتعلمون قلة نادرة في كل أبواب التعليم، معظمهم بطبيعة الحال من أهل المدن، حيث توجد المدارس، وحيث أهل المدينة يحتملون نفقات التعليم. ثم جاءت الثورة الفرنسية ثم الثورة الصناعية فرجتا المجتمع رجا, وبدلتا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 كثيرا من أوضاعه، ومن بين ما تبدل من هذه الأوضاع تدفق النازحين إلى المدينة من الريف وإقامتهم الدائمة هناك. وبدأ الطلب على التعليم يتزايد؛ لأنه كان ظاهرا أن للتعليم مهمة يؤديها في المجتمع الجديد، وأنه يؤدي إلى تحسين مستوى المعيشة بالنسبة للمتعلمين. حيث يستطيعون أن يعملوا في غير الأعمال اليدوية التي تركت للجهلة من العمال الذين لا يحتاجون في عملهم إلى ثقافة ولا تعليم. وبدأت صيحات المصلحين تطالب بتعميم التعليم وتوسيع دائرته حتى يشمل عددا أكبر من التلاميذ والطلاب، وثارت ثائرة "المحافظين" في المجتمع وفي المجالس النيابية ذاتها، لماذا نتوسع في التعليم حتى يشمل أبناء الشعب؟ إن التعليم حق لعلية القوم لمكانتهم في المجتمع، فهم الذين يقودون ويوجهون ويتحملون المسئولية عن الشعب كله.. ثم إنهم هم القادرون على دفع نفقات التعليم، فلا يكلفون الدولة في تعليمهم إلا القليل. أما الفقراء فلماذا يتعلمون؟ ما حاجتهم إلى العلم؟ ومن أين لهم النفقات التي يتطلبها التعليم؟ وما نتيجة تعليمهم وما انعكاسها على المجتمع؟ إنهم إن تعلموا فسيستنكفون أن يعملوا بأيديهم والمجتمع في حاجة إلى من يعمل بيديه, فمن أين نأتي بهم إن علمنا أبناء الفقراء؟!. ثم إن العلم يحتاج إلى أخلاق, وأبناء الفقراء لا أخلاق لهم. وسيهبط المستوى الخلقي في المدارس بسبب دخول أبناء الفقراء، فلا يصبح لائقا بأبناء العلية الذين يتعلمون -وحدهم تقريبا في ذلك الحين- فكيف يتلقى أبناء العلية حظهم الضروري من العلم إذا فتحت المدارس "للغوغاء"؟ وحتى المستوى العقلي لا يمكن أن يكون واحدا بين أبناء الأغنياء وأبناء الفقراء، وسيهبط المستوى التعليمي بسبب دخول أبناء الفقراء الذين يتسمون بالغباء والتخلف العقلي؛ لأنهم من الطبقة الدنيا, ولو كانوا أذكياء ما بقوا في تلك الطبقة.. إنما هم بقوا هناك لعجزهم العقلي والنفسي الذي لا يمكن شفاؤه. وشيئا فشيئا تراجعت "الأرستقراطية" عن أفكارها ومواقفها ووافقت على توسيع دائرة التعليم حتى يتسع لعدد أكبر من أبناء الشعب، وإن كانت عقبة التمويل ظلت توضع أمام كل مطالب بتوسيع التعليم لكي يكف عن المطالبة التي تقلق بال الأرستقراطية وتهددها بأن تنزع منها تفردها وتميزها. وجاء اليوم الذي طالب فيه المطالبون بجعل التعليم إجباريا على نفقة الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 واحتدمت معركة حامية حول هذا الشأن لم تهدأ من قريب. اعترض بعضهم بأن الميزانية لا يمكن أن تكفي ولو حولت كلها للتعليم!. واعترض بعضهم بأنه لا توجد المباني الكافية ولا المدرسون اللازمون. واعترض آخرون بأن مستوى التعليم سيهبط لا محالة؛ لأن الفصول ستكتظ بالتلاميذ فلا يمكن توجيه العناية اللازمة إليهم. واعترضت الأرستقراطية بأنها لن تجد الخدم بعد اليوم, ولن تجد العمال الذين يعملون بأيديهم، وسيعود هذا بالوبال على المجتمع كله. ولكن دفعة الجماهير والمدافعين عن حقوقهم كانت من القوة بحيث تغلبت على جميع الاعتراضات, وتقرر حق التعليم بعد صراع مرير، وبعد جهد جهيد بذل في التغلب على العقبات الحقيقية كقلة موارد الميزانية, وقلة المباني وقلة المدرسين. واختلفت البلاد في تحديد مرحلة الإلزام التي تتحمل الدولة كل نفقاتها، هل تكون بسنوات محددة من العمر، والتلميذ يحصل ما يحصل في تلك الفترة بحسب قدرته على التحصيل؟ أم تكون بمستوى تعليمي معين أيا كانت السنوات التي يقضيها التلميذ فيها حتى يكملها؟ وهل تكون هي المرحلة الابتدائية وحدها؟ أم الإعدادية أم الثانوية؟ "ولم تدخل المرحلة الجامعية في هذا النطاق" كما اختلفت فيما يفعل بالطالب الذي يتكرر رسوبه، هل يفصل؟ وإذا فصل أين يذهب؟ أم يحول إلى تعليم آخر يتناسب مع مقدرته العقلية ... إلخ.. إلخ. ولكن مبدأ التعليم العام الذي تنفق عليه الدولة تقرر على أي حال. وحين كانت هذه المعركة على أشدها كانت معركة المرأة تلاحقها. فحين تقرر مبدأ التعليم العام كان الحديث فيه عن الأولاد فقط أما البنات فيتعلمن -نعم- إن شئن لكن على نفقة آبائهن، ولا تتحمل الدولة نفقات تعليمهن كلهن! ولكن المطالبين بحقوق المرأة كانوا لا يتوانون عن الملاحقة، وعن طلب المساواة مع الرجل في كل شيء!. ومن ثم فقد شمل التعليم العام البنات في آخر الأمر، ووضع لهن ذات المناهج المعدة للبنين، وكان بعد ذلك ما كان من دخول الجامعة والاختلاط والمطالبة بحق العمل كالرجال سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وأيا يكن الأمر فقد اتسمت الديمقراطية بتلك السمة وأصبح التعليم العام المجاني معلما من معالم الديقراطية، ولكن ينبغي أن نذكر في كل مرة أن صراع الجماهير وضغطهم المستمر هو الذي وسم الديمقراطية بتلك السمة في النهاية، ولم تكن كذلك من مبدئها، ولا كان في نية القائمين عليها أن تصبح كذلك في نهاية الطريق!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الحقوق السياسية : حق الانتخاب, حق الترشيح, حرية الكلام, حرية الاجتماع, حق الاحتجاج. مع نمو الديمقراطية نمت الحقوق السياسية للشعب، بل إن الحقوق السياسية هي في الواقع أبرز سمات الديمقراطية في صورتها النهائية التي استقرت عليها. وخلاصة الحقوق السياسية أن يكون للشعب حق الإشراف على الحكومة وتوجيهها وحق نقدها والاعتراض على أعمالها ... ويتخذ ذلك صورتين متكاملتين: إحداهما هي التمثيل النيابي ويحوي حق الانتخاب وحق الترشيح لدخول البرلمان، والثانية حق الاجتماع وإبداء الرأي خارج البرلمان, ويشمل الصحافة والاجتماعات السياسية والمظاهرات السلمية التي تقام للمطالبة بأمر معين أو الاحتجاج على أمر معين. وكل هذه الأمور لم يكن للشعب منها نصيب على الإطلاق قبل الديمقراطية، وحتى حين بدأت الديمقراطية تتخذ شكل التمثيل النيابي فإن "الشعب" لم يكن ممثلا هناك ولا كان مسموحا له أن يلج هذا الميدان رغم ما كان مكتوبا في ديباجات الدساتير من عبارات "الحرية والإخاء والمساواة" إنما نال الشعب كل ذلك بالعرق والدماء والدموع! بالسجن والتشريد والاضطهاد, وجميع ألوان المحاربة والمعارضة, فلما ثبت المطالبون وألحوا في الطلب وصمدوا أمام الضغط أخذوا يحصلون رويدا رويدا على كل هذه الحقوق، حتى أصبحت اليوم أمرا مقررا في الديمقراطية، بل أصبحت هي السمة البارزة لهذا اللون من الحكم. وفي ابتداء الديمقراطية كانت العملية كلها تكاد تكون وقفا على الأغنياء, فقد كان ينص نصا صريحا على أن المرشح ينبغي أن يكون مالكا لنصاب مالي معين, وأن يثبت ذلك بإثباتات رسمية حتى يباح له أن يدخل المعركة الانتخابية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وفضلا عن ذلك فإن نفقات الدعاية الانتخابية كانت -وما زالت- في طوق الأغنياء وحدهم دون الفقراء. كما أن الناخبين أنفسهم كانوا خاضعين لقيود تجعل عددهم ضئيلا وفرصة التأثير عليهم بشى الوسائل "حتى شراء الأصوات بالمال" فرصة كبيرة. لذلك كان "نواب الأمة" أبعد ما يكونون عن تمثيل الأمة في حقيقة الأمر1. ورويدا رويدا -تحت تأثير الاحتجاج المستمر من "الشعب" بكل وسائل الاحتجاج- خففت القيود على الناخبين والمرشحين كليهما، فظل النصاب المالي يخفف عن المرشحين وألغي إلغاء كاملا عن الناخبين مع تخفيض السن التي يجوز فيها الترشيح, والتي يجوز فيها الانتخاب حتى صارت الآن إحدى وعشرين سنة لهذا وذاك في معظم بلاد الأرض. وقد استغرق هذا زمنا طويلا حتى تقرر، كما احتاج إلى نضال مستمر، مع التعرض الدائم للمتاعب حتى أصبح اليوم من البديهيات المقررة التي لا تحتاج إلى ذكر. فأصبح من حق أي إنسان بلغ إحدى وعشرين سنة أن يكون له صوت انتخابي بشرطين اثنين: الأول أن يكون مقيدا في الدائرة التي يريد أن يدلي فيها بصوته, والثاني ألا يكون قد صدر ضده حكم في قضية مخلة بالشرف "والشرف في عرفهم لا يتعارض مع الإباحية الجنسية بطبيعة الحال ولا مع العربدة والمجون! إنما يتعارض فقط مع الاغتصاب ومع السكر الذي تصحبه جريمة! كما تعتبر السرقة والغش والاحتيال.. إلخ جرائم مخلة بالشرف" كما أصبح من حق أي إنسان بلغ هذه السن ويجيد القراءة والكتابة ولم يصدر ضده حكم في قضية مخلة بالشرف أن يرشح نفسه للبرلمان "ولا ننسى أن المرأة ظلت تلاحق الرجل في هذه الحقوق حتى نالتها في كثير من الديمقراطيات في الفترة الأخيرة". وفي داخل البرلمان توضع كل الضمانات التي تتيح للعضو أن يعبر عن رأيه, وأن ينتقد الحكومة سواء أعضاؤها أو رئيسها بما شاء من وسائل النقد وعباراته إلا أن يكون سبا شخصيا صريحا, ويحاط العضو "بالحصانة البرلمانية" التي تكفل عدم محاسبته على أي عبارة يتفوه بها داخل البرلمان "ما لم تكن سبا شخصيا كما قلنا" وإن كان يحق للحكومة أن تطلب من البرلمان   1 سنناقش مدى التمثيل الحقيقي للأمة في هذا الفصل فيما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 رفع الحصانة البرلمانية عن أحد الأعضاء إذا رأت أنه تجاوز الحرية المباحة له, وعندئذ يقدم للمحاكمة إذا وافق البرلمان على رفع الحصانة عنه "وقد يكتفى بتأديبه بمنعه من حضور عدد من الجلسات, أو يطرد نهائيا من البرلمان وتخلو دائرته للانتخاب فيها من جديد". وبهذه الضمانات يملك العضو -نظريا على الأقل- حرية واسعة وإمكانية ضخمة لتوجيه الحكومة إلى الطريق الذي يرى أنه هو الصواب، ويملك البرلمان في مجموعه -نظريا كذلك على الأقل- سلطة توجيه الحكومة وتقييد تصرفاتها, وجعل الشعب حارسا على هذه التصرفات. أما في خارج البرلمان فالحقوق السياسية تتضمن حرية التعبير عن الرأي -بكل وسائل التعبير- وحرية النقد وحرية الاحتجاج. فأما التعبير عن الرأي سواء بالتأييد أو المعارضة فيأخذ صورة الانتماء الحزبي, أي: حرية أي إنسان في الانتماء إلى أي حزب من الأحزاب القائمة -ما دامت ليست محظورة بأمر القانون- والكتابة في الصحف "ووسائل الإعلام الأخرى في البلاد التي تكون الإذاعة والتلفزيون فيها مملوكين لشركات وهيئات وليسا مملوكين للحكومة كانجلترا وفرنسا وأمريكا" والخطابة في المنتديات العامة والخاصة، والاشتراك في مظاهرة سلمية بعد الحصول على إذن من السلطات بقيام المظاهرة "وكثيرا ما تقوم المظاهرات بغير إذن وعندئذ تتصرف السلطة بما تراه مناسبا: إما أن تعترف بالأمر الواقع إذا رأت أنه لا ضرر من المظاهرة, وإما أن تصطدم بها وتفرقها وتقبض على بعض زعمائها وتقدمهم للمحاكمة". وأما الاحتجاج فيأخذ صورة الإضراب عن العمل وتشكيل المظاهرات وهو نوع من التعبير عن الرأي على أي حال, وإن كان أكثر خشونة من سابقه؛ لأنه يتجاوز النقد إلى الاحتجاج. ويشمل هذا وذاك حرية الاجتماع, أي: حق الناس في أن يجتمعوا في أي مكان ليتدارسوا أمرا معينا أو ليبدوا رأيهم في موضوع معين, أو لينتقدوا تصرفا معينا من تصرفات الحكومة, أو ليحتجوا على شيء من ذلك كله. وتكون الاجتماعات عادة في مقار الأحزاب، وهذه لا تحتاج عادة إلى طلب تصريح من السلطة ما دام الحزب مصرحا به أصلا، إلا أن يكون دعوة عامة إلى مؤتمر أو اجتماعا مكثفا في مكان غير مقر الحزب، أو أوسع من المقر بحيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 يشمله ويشمل امتدادا له في الطريق العام. أو تكون في الجامعات أو في قاعات المحاضرات العامة. أو في الطريق العام، وهذه تحتاج إلى تصريح مسبق من السلطات. وكل هذه الحريات، التي أصبحت اليوم من البديهيات المقررة في الديمقراطية لم تكن كذلك يوم بدأت الديمقراطية في الظهور، بل كانت القيود شديدة جدا والحريات ضئيلة. فلا الصحافة كانت تملك الحرية الواسعة في النقد، ولا حرية الاجتماع كانت قائمة, ولا حرية الاحتجاج، إنما فرض "الشعب" كل ذلك فرضا على الحكومات بالضغط المستمر والإلحاح الدائب، والتعرض للسجن والاعتقال والتشريد. ويحفل التاريخ "الديمقراطي" بألوان من الاضطهاد ذاقها المدافعون عن هذه الحقوق حتى أصبحت أمرا مقررا و"تقاليد" مرعية في الديمقراطيات. وإلا فقد كان كل نقد حاد في الصحف يعتبر خروجا على القانون تصادر الصحيفة من أجله ويمنع صدورها ويحبس محرر المقال, والمسئولون عن الصحيفة بسببه، وكان كل اجتماع يعتبر شغبا ويفرق بالقوة، وكانت المظاهرات تعتبر عملا غير مشروع يعاقب عليه بالسجن أو الاعتقال أي مدة من الزمن دون محاكمة!. واحتاج الأمر إلى ضغط البرلمانات وضغط الخطباء والكتاب لتعديل القوانين التي تبيح ذلك كله، وتقييد يد الحكومة في التنكيل بأعدائها السياسيين أو بالشعب عامة، حتى "تعودت" الحكومات أن تستمع للنقد وهي ساكتة، وأن تترك للمحتجين على تصرفاتها حرية الاحتجاج دون أن تتحرك لمطاردتهم أو كفهم عن الاحتجاج والاعتراض. وإذا قلنا إن مائة سنة على الأقل من النضال المستمر قد استغرقت حتى وصلت بالأمر إلى صورته الحالية لا نكون مبالغين في ذلك، فإننا ما نزال نرى ذيولا للمعركة حتى وقتنا الحاضر رغم كل ما قررته الديمقراطيات من الحريات، كان آخرها مظاهرات العنف في فرنسا منذ سنوات، وما تقوم به الأحزاب الشيوعية من المعارضة العنيفة في كل بلد ديمقراطي سمح للأحزاب الشيوعية فيه بالنشاط. وبصرف النظر عن اتجاه الحرية في البلاد الديمقراطية1 فلا شك أن   1 سنتكلم عن "اتجاه الحرية" حين نناقش الوجه الآخر للديمقراطية فيما يلي من هذا الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الحرية السياسية من أبرز ما تشتمل عليه الديمقراطيات ومن أهم ما تشتمل عليه. أما الضمانات التي كسبها الشعب في ظل الديمقراطية فهي ضمانات الاتهام، وضمانات التحقيق، وضمانات الحكم، وضمانات التنفيذ. ولنقل كلمة سريعة عن كل منها لنصف بعد ذلك موقف الديمقراطية منها. أما ضمانة الاتهام فمقتضاها ألا يؤخذ الناس بالظنة, وأنهم لا يحبسون ولا يعتقلون إلا بمقتضى تهمة حقيقية تستوجب ذلك. وليس معناها بطبيعة الحال أن كل من اعتقل أو حبس لا بد أن يكون مجرما بالفعل فقد يظهر التحقيق براءته فيفرج عنه، إنما معناها فقط أنه لا بد أن تكون هناك قرينة أو شبهة حقيقية على الأقل في أنه ارتكب محرما بنص القانون، وليس لمجرد أنه "ضايق" الحكومة بعمل من الأعمال فتنتقم منه بالحبس أو الاعتقال. وأما ضمانة التحقيق فمقتضاها ألا تستخدم مع المتهم أية وسيلة من وسائل الضغط لحمله على الاعتراف بما لا يريد أن يعترف به, سواء كان الضغط بالتهديد أو بالإغراء "كأن يقال له: إذا اعترفت فسنخفف عنك العقوبة أو سنطلق سراحك، ويكون هذا للإيقاع به أو لاستخلاص معلومات معينة منه" وأما ضمانة الحكم فهي أن يحكم على المتهم بالعقوبة التي يقررها القانون بلا زيادة، ويكون للمحكوم عليه حق استئناف الحكم ونقضه إذا رأى أنه مجحف به. وأما ضمانة التنفيذ فهي أن تنفذ العقوبة التي قررتها المحكمة بلا زيادة، ويكون للمحكوم عليه حق الاحتجاج على أي زيادة يرى أنها وقعت عليه بغير وجه حق. وككل شيء في الديمقراطية لم يحصل الشعب على هذه الضمانات في يسر ولا كانت من مقررات الديمقراطية حين قامت في البدء. فقد كانت الديمقراطية قائمة -في أول عهدها- والشعب مطارد مضطهد بلا ضمانات تحميه! كان من حق الشرطة أن تقبض على أي إنسان وتودعه السجن، وكان ذلك في الغالب لإحدى "جريمتين": الفقر أو معارضة الحكومة, فأما الفقر فقد كان يبيح للشرطة القبض على أي إنسان بتهمة "التشرد" وعليه هو أن يثبت ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 يخالف ذلك وليس على الشرطة أن تثبت "الجريمة" فالشبهة كافية والقانون -الذي وضعه الأغنياء- يوافق على ذلك, ويجعل الناس متهمين حتى تثبت براءتهم، وذلك حتى يكون "الفقراء" تحت تهديد دائم يمنعهم من الخروج على الأدب اللائق في حق الأغنياء. وأما معارضة الحكومة فيالها من جريمة تبيح السجن والاعتقال والتشريد, وما أيسر التهمة, التحريض على قلب نظام الحكم, أو التحريض على كراهية النظام، أو العيب في أي ذات من الذوات "المقدسة" التي لا يجوز العيب فيها. وجاهد الشعب وجاهد أحرار الفكر جهادا طويلا مضنيا من أجل تغيير هذه الأوضاع كلها، حتى تقرر في الدساتير أولا ثم في الواقع العملي بعد ذلك أن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" وليس مدينا حتى تثبت براءته كما كان الحال من قبل ... وسعى المجاهدون إلى إبطال حق الحكومة في القبض والاعتقال دون سبب ظاهر، وأصبح من المقرر الآن أنه في خلال مدة محددة من الاعتقال تتراوح بين يوم واحد وأربعة أيام في بعض البلاد لا بد أن يقدم المتهم للتحقيق بتهمة واضحة محددة. وحينئذ تحوطه ضمانات التحقيق وهي تشتمل على حقه في أن يطلب حضور محام عنه أثناء التحقيق لضمان عدم الضغط عليه بالتهديد أو الإغراء. وحقه في ألا يرد على سؤال المحقق دون أن يتعرض من أجل ذلك للتعذيب، وحق المحامي في أن ينبه المتهم في أثناء استجوابه إلى عدم الرد على سؤال معين باعتبار أن المحامي أدرى منه بالمزالق القانونية التي يمكن أن يستدرجه المحقق إليها دون أن يلتفت إلى خطورتها عليه, وباختصار أن تكون الأدلة المادية أو القرائن هي عماد التحقيق، وليس سحب الاعترافات من المتهم عن أي طريق. وتعتبر هذه الضمانات اليوم من مقاييس التحضر الإنساني، وهي جديرة بأن تكون كذلك، فإن معاملة المتهم تكشف عن مدى احترام إنسانية الإنسان، وليس مقياس الإنسانية هو معاملة السيد للسيد أو الند للند, فهنا تتحكم عوامل أخرى غير احترام الإنسانية في ذاتها. إنما معاملة "الضعيف" أيا كان سبب ضعفه، وسواء كان ضعفه عارضا -كالمتهم- أو دائما كالفقير والمسكين واليتيم ... إلخ، هي التي تكشف؛ لأن القوة هنا تغري بالاستبداد بالضعف. فإذا امتنع القوي -أيا كان سبب قوته، وسواء كانت قوته عارضة- من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 جاه المنصب -أو دائمة بسبب آخر- إذا امتنع عن إيذاء الضعيف واضطهاده وإذلاله، فلن يمنعه إلا الشعور "الإنساني" وإلا احترام إنسانية الإنسان. فإذا كان الذي يمنعه فقط هو القانون، فالقانون إذن يحمل في طياته احترام إنسانية الإنسان، حتى لو كان الذين ينفذونه يفتقرون إلى الشعور بالإنسانية, ومعاملة المتهم بالذات قد تكون أكثر دلالة من غيرها؛ لأن الضعيف البريء الذي لا ذنب له قد يجد من براءته سندا للعطف عليه عند ذوي القلوب الرحيمة، أما المتهم فشبهة الإدانة تحوطه، وشبهة استحقاقه للعقوبة قائمة، فإذا وجدت النفس الشريرة، المتجبرة بالقوة وبالسلطان، وإذا وجد الحقد الشخصي بالإضافة إلى ذلك، كان الانزلاق إلى الإيذاء والتعذيب هو الأكثر توقعا. وكذلك كان الحال في التاريخ كله في عهود الاستبداد, المتهم يؤخذ بالشبهة ثم ينكل به تنكيلا دون مبرر حقيقي إلا لذة الاستبداد. والشبهة هي مجرد خوف "السادة" على سيادتهم، ورغبتهم في إحاطة أنفسهم بسياج يحفظ لهم هذه السيادة, يستوي في ذلك أن يكونوا حكاما "فتكون القضية سياسية" أو أغنياء فقط "فتكون القضية جنائية عادية". فوضع القيد الذي يقيد السادة فيمتنعون أو يمنعون عن تعذيب المتهم والتنكيل به، هو تقرير لجانب من جوانب إنسانية الإنسان، يحسب لا شك في الميزان، لكن الذي ينبغي أن ندركه هو أن السادة لم يضعوا هذا القيد من تلقاء أنفسهم، إنما أكرهوا على قبوله إكراها بالضغط المستمر عليهم، والإلحاح في المطالبة، والإلحاح في كشف خبيئة نفوسهم الخبيثة، بصورة تهدد سلطانهم على الناس, فإن السلطان -حتى سلطان الجبابرة- يقوم دائما على قدر من الاحترام, فإذا ذهب الاحترام من النفوس صعب أو استحال استمرار السادة في سيادتهم وطغيانهم مهما كان لهم من جبروت. والذي فجرته الثورة -التي انطلق فيها رد الفعل عن المظالم التي استمرت أكثر من ألف عام- كان هو إزالة القداسة عن ذوي القداسة، سواء من رجال الإقطاع أو من رجال الدين. فلما جاءت الطبقة "المقدسة" الجديدة وهي الطبقة الرأسمالية لم تجد الطريق ممهدا على نفس الصورة التي كان عليها الإقطاع من قبل، بل وجدت الثوار -سواء بأفكارهم أو بأعمالهم- يقفون لها بالمرصاد، ويثيرون السخرية من أعمالها في النفوس، فتنازلت شيئا فشيئا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 عن كثير من مظاهر قداستها "وإن كانت ما تزال بعد تملك الكثير! "1. أما ضمانات المحاكمة -بعد ضمانات الاتهام والتحقيق- فهي حق المتهم في إقامة محام يقوم بالدفاع عنه أمام المحكمة، يختاره بنفسه إذا كان يملك دفع "أتعابه" "أي: الأجر الذي يتقاضاه مقابل الدفاع عن المتهم" أو تنتدبه له المحكمة مجانًا إذا كان فقيرًا لا يملك دفع الأتعاب. وحقه في الامتناع عن الرد على أي سؤال توجهه المحكمة إليه، وحق المحامي في منعه من الإجابة على أي سؤال يرى من معرفته بالقانون أن الإجابة عليه تضر بالمتهم، وحقه في استدعاء الشهود الذين يرى أن شهادتهم تنفعه في قضيته، وحق المحامي في طلب التأجيل للاستعداد أو لمزيد من الدراسة أو لتقديم أدلة جديدة. ثم حق المتهم في استئناف الحكم إذا رأى أنه جار عليه أو أوقع عليه جزاء لا يستحقه "ويقابله حق النيابة في استنئاف الحكم إذا رأت أنه أقل مما يستحقه المتهم". وأما ضمانات التنفيذ فهي أولًا تنفيذ العقوبة التي قررتها المحكمة دون زيادة عليها، وثانيًا حسن معاملة المجرم داخل السجن في فترة العقوبة، فلا توقع عليه عقوبة بدنية ولا إهانة إلا نتيجة إخلاله بنظام السجن، الذي تتضمنه لائحة معينة تحدد علاقة السجين بسجانيه، وتوفر له الرعاية الطبية إذا مرض، ويكون من حقه الشكوى من إدارة السجن إلى النيابة العامة، ومقابلة محاميه في السجن إذا عنّ له ما يستدعي ذلك، وزيارة أهله له زيارة دورية. وتطور الأمر الآن في بعض السجون إلى السماح للسجين بزيارة أهله في منزله في فترات محددة، حيث يقضي ساعات بين زوجته وأطفاله -تحت الحراسة- ثم يعود إلى السجن! تلك خلاصة الحقوق والضمانات التي منحتها الديمقراطية للشعب، أو بالأحرى استخلصها الشعب لنفسه في ظل الديمقراطية، والتي أصبحت اليوم هي مضمون الديمقراطية في نظر الغرب2. وإذا نظرنا إلى حال "الشعب" في ظل الإقطاع فلا شك أن الديمقراطية -بالصورة التي صارت إليها- كانت نقلة كبيرة رفعت الشعب من حضيض "اللاشيئية" و"اللاإنسانية" إلى أن يصبح له اعتبار، ويعامل -في جانب من جوانب الحياة- معاملة الإنسان.   1 سنتكلم عن ذلك في مناقشة الديمقراطية. 2 سنتكلم عن مضمون الديمقراطية في نظر الشيوعيين حين نستعرض الشيوعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وأي مقارنة بين الحالين ستثبت على الفور هذه النقلة، وستثبت أن الإنسان الأوروبي، الخارج من ظلمات الإقطاع، قد استمتع في ظل الديمقراطية بجوانب مضيئة ما كانت لتخطر على باله من قبل، وما كان يتصور وجودها إلا في أحلام الفلاسفة الحالمين! ولكن هذه الصفحة المضيئة ليست هي الصفحة الوحيدة للديمقراطية "الليبرالية" كما تُسمى ديمقراطية الغرب، أي: التي تقوم على حرية الفرد في أن يعمل ما يشاء، تحقيقًا للشعار الشهير الذي أطلقته الرأسمالية في نشأتها "دعه يعمل ما يشاء Laissez Faire، دعه يمر من حيث يشاء Laissez Passer والتي صورتها العامة هي الحرية السياسية وتعدد الأحزاب1. إنما الصفحة القاتمة شديدة القتام بمقدار ما تتلألأ هذه الصفحة بالنور. والتطبيق الواقعي للديمقراطية الليبرالية هو الذي يكشف سوآتها ويحدد وزنها الحقيقي في ميزان الحق. حين نزلت الآية الكريمة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} قال -صلى الله عليه وسلم: "ما صدقتا إلا في هذه! " أي: صدقت كل واحدة فيما تقول عن الأخرى، وإن كذبت فيما تدعيه لنفسها من فضائل وحسنات. ويصدق هذا الأمر فيما بين الديمقراطية والشيوعية، فإن كلا منهما تصدق فيما تقوله عن الأخرى وإن كذبت فيما تدعيه لنفسها من حسنات. والشيوعية تقول في هذا الصدد إن "الذي يملك هو الذي يحكم" وإن "الطبقة" التي تملك وتحكم تضع التشريعات لحسابها الخاص على حساب الطبقات الأخرى. وإنه في الديمقراطية الليبرالية يكون المال في يد الطبقة الرأسمالية فهي التي تملك، ومن ثم فهي التي تحكم، وهي التي تضع التشريعات التي تحمي مصالحها ضد مصالح الطبقة الكادحة. وهذه القولة صادقة إلى حد كبير.. وتوشك أن تكون صادقة كل الصدق لولا   1 حين يطلق الشيوعيون على الديمقراطية الغربية وصف "الليبرالية" فهم يقصدون به الذم لا المدح. ويعنون به الديمقراطية التي يتمتع فيها الرأسماليون بحرية استغلال الطبقة الكادحة. وسنناقش هذه النقطة بعد قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 أن الطبقة الكادحة لم تستسلم تمامًا كما كانت قبل ثورتها على الإقطاع، بل قاومت وقاومت وقاومت.. وحصيلة مقاومتها هي التي أحدثت الفرق بين الصدق الكامل والصدق إلى حد كبير! ولكن تعال ننظر -رغم ذلك- إلى حقيقة الواقع، ونسأل -بموضوعية كاملة- لصالح من تجري الحياة في ظل الديمقراطية الليبرالية، ومن هو المستفيد الأكبر، ولا نقول كما تقول الشيوعية إنه المستفيد الوحيد. لا شك أن الأمور تجري -في عمومها- لمصلحة الرأسماليين! ورغم كل التنازلات التي أكرهت الرأسمالية على تقديمها للشعب فما زال الغنم الأكبر في أيديهم، والفتات في يد الجماهير. لا نقول -كما تقول الشيوعية- إن المنتج الحقيقي هو العامل, وإنه هو الذي يستحق وحده حصيلة الإنتاج، فتلك مغالطة سنناقشها حين نناقش الشيوعية في الفصل القادم. ولا نقول كذلك -كما تقول الشيوعية- إن أصحاب رءوس الأموال هم قوم لا عمل لهم إلا التطفل على دماء الكادحين، بينما هم لا يستحقون منها شيئًا على الإطلاق؛ لأنهم لا يعملون بأيديهم.. لا نقول هذا ولا ذاك.. ومع ذلك فلننظر إلى الفارق الضخم الذي يفرق بين دخول الرأسماليين ودخول العمال.. هل هو فارق طبيعي؟ هل هو فارق عادل؟ هل هو فارق لا يؤثر في القيم والمبادئ المتعلقة بإنسانية الإنسان؟! كيف جاء هذا الفارق بادئ ذي بدء؟ هل هو حقيقة نتيجة العبقرية الفذة التي خص الله بها الرأسماليين وحرم منها بقية عباد الله؟! أم هي مغتصبة اغتصابًا بوسائل غير مشروعة؟! هل كانت الرأسمالية عادلة منذ البدء في تحديد أجور العمال؟ أم كان تحديدها قائمًا على أسوأ نوع من أنواع الاستغلال؟ وحتى حين خفضت ساعات العمل ورفعت الأجور بعد الصراع المرير الذي قام به العمال، فهل حدثت العدالة الإنسانية الواجبة؟ إن تضخم رءوس الأموال ينشأ ابتداء من امتصاص دماء العمال وعدم توفيتهم أجورهم.. وقد يكون تحديد الأجر مسألة اجتهادية تختلف من وقت إلى وقت ومن حال إلى حال. ولكن له حدودًا عامة لا ينبغي أن يخرج عنها، وهي توفير "الحياة الكريمة" للإنسان الذي يبذل جهده ليعيش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ويجيء تضخم رءوس الأموال كذلك من إقامة الحياة كلها على الأساس الربوي الذي يمقته الله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} 1. والذي قال عنه الدكتور "شاخت" الألماني في تقرير أعده في الأربعينات من هذا القرن إن نتيجته الحتمية هي تزايد رءوس الأموال في يد فئة يتناقص عددها على الدوام وزيادة الفقر في عدد متزايد من الناس! ويجيء تضخم رءوس الأموال أيضًا من إنشاء صناعات تافهة لا يحتاج إليها الإنسان الجاد الذي يعيش لأهداف جادة، بل هي تفسد الأخلاق وتميع الطباع وتشغل الناس بالتفاهات بدلًا من شغلهم بآفاق الحياة العليا.. وكل ذلك لأنها أكثر ربحًا.. ولأن دورة المال فيها أسرع بكثير من دورته في الصناعات الحقيقية التي تؤدي هدفًا جادا في حياة الإنسان.. كصناعة السينما وصناعة أدوات الزينة والتفنن في "المودات" سواء مودات الملابس أو مودات الأثاث في البيوت أو مودات السيارات في الطريق. تلك أدوات التضخم الرأسمالي أو هذه أبرزها.. فأيها أدوات طبيعية؟ وأيها أدوات عادلة؟ وأيها أدوات لا تؤثر في إنسانية الإنسان؟ ولا يقولن أحد: هذه هي الرأسمالية، ولكننا نتكلم عن الديمقراطية! فالواقع أنه لا يمكن فصل هذه عن تلك! إن هذه الديمقراطية -بمجالسها النيابية، بممثلي الشعب فيها- هي التي تصدر القوانين التي تبيح للرأسمالية أن تتصرف على هذا النحو دون أن تتدخل فيها، بل -في الحقيقة- دون أن تجرؤ على التدخل فيها! ومن ناحية أخرى فإن الرأسمالية هي الوجه الاقتصادي للديمقراطية الليبرالية كما أن الديمقراطية الليبرالية هي الوجه السياسي للرأسمالية! ولسنا نقول -كما تقول الشيوعية- إن الوضع الاقتصادي هو الذي   1 سورة البقرة: 275، 276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 يشكل الأفكار والعقائد والنظم والمؤسسات التي تتمشى معه وتخدم أهدافه. وإنما نقول -ونراه أدنى إلى الصواب- إن الوضع الاقتصادي والوضع السياسي "والوضع الاجتماعي كذلك كما سيجيء" كلها أوجه متناسقة مع النظام أو الفكرة التي تقوم عليها، وكلها منبثقة من أصل واحد مشترك هو "الإنسان" مستقيمًا أو منحرفًا، وعلى أي نحو هو منحرف. فأما إن كان مستقيمًا "أي: على النهج الرباني" فهو يصوغ حياته: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية والروحية.. إلخ على مقتضى المنهج الرباني، وهو منهج متناسق في جميع وجوهه ومتكامل بعضه مع بعض. وأما إن كان منحرفًا فبحسب نوع انحرافه تكون أوضاعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية والروحية.. إلخ، وتكون متناسقة مع لون الانحراف الذي يقع فيه ذلك "الإنسان". فليس الاقتصاد هو الذي يصوغ السياسة ولا السياسة هي التي تصوغ الاقتصاد، إنما هما معًا -ومعهما بقية وجوه الحياة- يصوغها الإنسان متأثرًا بنوع انحرافه. والانحراف الذي يتخذ الرأسمالية وجهه الاقتصادي، والديمقراطية الليبرالية وجهه السياسي، والتفكك الاجتماعي "كما سيجيء" وجهه الاجتماعي، هو أولًا انحراف عن شريعة الله ومنهجه المنزل لإصلاح الحياة وإقامتها بالقسط، وهو من جهة أخرى انحراف الفردية الجامحة التي تريد أن تفعل ما تشاء Laissez Faire, Laissez Passer دعه يفعل ما يشاء، دعه يمر من حيث يشاء! هذه الفردية الجامحة تأخذ في الاقتصاد صورة الرأسمالية، وتأخذ في الاجتماع صورة المجتمع المفكك الروابط المنحل الأخلاق. وهي انحرافات متناسقة بعضها مع بعض، متكاملة بعضها مع بعض، ولا يمكن فصل بعضها عن بعض! فالذين يقولون نأخذ الديمقراطية صورة سياسية وليس من الضروري أن نأخذ معها الرأسمالية الجامحة هم واهمون في محاولة فصل وجه من هذا النظام عن وجه آخر.. أو هم يتحدثون عن شيء آخر غير الديمقراطية الليبرالية لا نعلم صورته على وجه التحديد! ومهما يكن من أمر فإن الديمقراطية الليبرالية -الموجودة بالفعل، لا المتخيلة في الأذهان- هي هذه التي تحتمي بها الرأسمالية وتلعب لعبتها من خلالها. وسنتكلم في الصفحات القادمة عن أبعاد اللعبة كلها التي تتم من وراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الصورة السياسية المتمثلة في الديمقراطية الليبرالية، ولكننا نقرر هنا حقيقتين. تبدوان متناقضتين في الظاهر ولكنهما في الحقيقة غير متناقضتين إذا أنعمنا النظر فيهما: الأولى: أنه من خلال النظام الديمقراطي نال "الشعب" ما ناله من حقوق وضمانات. والثانية: أن الرأسمالية هي صاحبة الهيمنة وصاحبة التشريع من وراء اللعبة الديمقراطية بأكملها. ولإزالة التناقض الظاهري بين الحقيقتين نقول أولًا: إن الشعب نال ما ناله من الحقوق من خلال صراعه وكفاحه ودأبه في إحراج الرأسمالية واقتناص الحقوق والضمانات منها، فهو ينتزعها منها انتزاعًا وهي تتنازل عنها كارهة ومكرهة. وإن يقظة الشعب بدأت منذ ثار على الإقطاع وليس منذ اتخذ الديمقراطية! بل الديمقراطية هي ثمرة ثورته فهي نتيجة لا سبب. ونقول ثانيا: إنه على الرغم من ذلك فقد تركت الرأسمالية الثوب -ثوب الديمقراطية- يلبسه الشعب، ونفذت هي إلى مصالحها من خلاله، فنالت كل ما تريد من تشريعات تحمي مصالحها وتتيح لها أن تقوم بكل مظالمها! فإذا كانت قد اضطرت للتنازل عن بعض المصالح تحت ضغط الشعب، فهي من جهة قد تنازلت عن فتات لا يؤثر تأثيرًا حقيقيا في مصالحها، فما تنازلت عنه هو قطرات من فائض أرباحها، وما تزال أرباحها تتزايد بصورة جنونية! وهي من جهة أخرى قد تنازلت عن هذا الفتات؛ لأنها لم تأمن على نفسها إذا ظلت في موقف التصلب أن تفقد ثروتها كلها وكيانها كله! ففي نظرها هي أنها ألقت للكلاب الجائعة بلقيمات تلهيها بها خوفًا من أن تأكلها الكلاب! فخوفًا من الشيوعية تنازلت الرأسمالية الغربية عما تنازلت عنه، وخوفًا من أن تدمر الاضطرابات كل الأرباح! فلا تناقض إذن بين الحقيقتين، والرأسمالية هي صاحبة النظام كله وهي المستفيد الأول منه، ولا عليها أن يتزيا الشعب بزي الحرية.. أو الحرية والإخاء والمساواة1!   1 يقول البروتوكول الأول: "إن هتافنا بكلمات "الحرية والمساواة والإخاء" مع جهود دعاتنا المسخرين اجتذب في كل أنحاء العالم جيوشًا جرارة من البشر حملت أعلامنا بكل فخر وحماسة في حين أن هذه الكلمات الساحرة كانت سوسا ينخر في كيان سعادة الأمميين. ومعول هدم للأمن والسلام والوحدة لديهم" "تعريب أحمد عبد الغفور عطار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ولننظر في هذه الحرية على حقيقتها.. لا شك أن الفرد في الديمقراطية الليبرالية حر حرية كاملة كما يبدو "في الظاهر" في أن يتخذ قراره دون ضغط من أحد، وأن يعبر عن رأيه بحرية، وأن يدعو لرأيه بكل وسائل الدعاية، وأن يختار المرشح الذي يمثله في البرلمان والذي يشرف على أعمال الحكومة ويهيمن على تصرفاتها.. ولكن دعنا نتأمل الحقيقة الكامنة وراء هذا الظاهر.. فمن الذي يصوغ لهذا الفرد أفكاره، أو -من زاوية أخرى- من الذي يشكل "الرأي العام" الذي يوجه هذا الفرد لاتخاذ قراراه! إنها وسائل الإعلام! الصحافة والإذاعة والسينما والتليفزيون والخطبة والمحاضرة والكتاب. ودعك -مؤقتًا- من أن وسائل الإعلام تشرف عليها اليهودية العالمية وتوجهها الوجهة التي تخدم مصالحها، فلنا عود إلى هذه النقطة في مكان آخر من هذا الفصل. إنما نقول -مؤقتًا- إن الذي يملك وسائل الإعلام هو الرأسمالية "بصرف النظر عن ملتها! ". إن الصحافة -وقد كانت وما تزال من أشد وسائل التأثير- لا تستطيع أن تعيش بلا معونة خارجية. فهي تتكلف بالفعل أضعاف الثمن الذي تباع به للجمهور. والثمن الذي تباع به للجمهور لا يصل كله إلى أصحاب الصحيفة فهناك في الوسط وسيطان اثنان على أقل تقدير هما الموزع العام الذي يتكفل بأخذ مجموع النسخ المطبوعة وبيعه للبائع الصغير "أي: الذي يبيع مجموعة صغيرة من النسخ"، ثم هذا الموزع الصغير الذي يبيع للجمهور.. فإذا تصورنا جدلًا أن ثمن النسخة للجمهور هو مائة وحدة فإن خمسين وحدة على الأقل إن لم يكن أكثر يتقاسمها هذان الوسيطان، والباقي هو الذي يرد إلى الصحيفة مع "المرجوع" أي: النسخ التي لم يتم توزيعها ولا عائد لها على الإطلاق.. فكيف تغطي الصحافة تكاليفها ثم تربح فوق ذلك أرباحًا طائلة؟ إنها تعتمد -أساسًا- على الإعلانات ثم على الإعانات من أي طريق تجيء. والإعلانات -بطبيعة الحال- في يد الشركات والمؤسسات الصناعية, أي: في يد الرأسمالية. ومن ثم فإنه يكفي لقتل أي صحيفة "حرة" أي: طويلة اللسان تتجرأ على المصالح الحقيقية للرأسمالية، أن تمنع عنها الإعلانات فتسقط في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 هاوية الإفلاس! ولا ضير في الوقت ذاته على الرأسمالية من مناوشات سطحية في الصحف تنتقد كما تشاء دون أن تصيب الجذور! بل هو أمر في صالح اللعبة في نهاية المطاف! فإذا كانت الصحافة -التي تؤثر التأثير الأكبر على "الرأي العام"- واقعة في قبضة الرأسمالية إلى هذا الحد، فلنا أن نتوقع أن تكون الأفكار التي تصوغها وتنشرها هي ما تريده الرأسمالية، أو في القليل هي ما لا يتعارض مع المصالح الحقيقية للرأسمالية, ومثل الصحافة بقية وسائل الإعلام فهي واقعة بصورة أو بأخرى في ذات القبضة الشريرة التي توجه الأفكار وتشكل المواقف للناس! ولنأخذ ثلاثة نماذج مختلفة من طريقة تشكيل "الرأي العام" في مسألة سياسية، ومسألة اجتماعية، ومسألة اقتصادية تخدم كلها مصالح الرأسمالية ويبدو فيها "الرأي العام" كأنما تشكل من تلقاء نفسه, واتجه إلى الوجهة التي اتجه إليها! لنفرض أن المطلوب هو إشعال حرب في مكان ما على سطح الأرض. وهو أمر يهم الرأسمالية من جميع الوجوه المتخيلة! وأولها بيع السلاح الذي يدر على صانعيه أرباحًا خيالية "ونصرف النظر -مؤقتًا- عن أن تجار السلاح في العالم من قديم الزمان هم اليهود"1! فكيف يهيأ "الرأي العام" لتقبل الحرب أولًا، ثم التحمس لها ثانيًا، ثم المطالبة بها أخيرًا! تبدأ الصحف -وكذلك وسائل الإعلام- في نشر أخبار قصيرة مثيرة تثير عند الغافلين -والرأي العام دائما غافل- نوعًا من التطلع والانتباه. ثم يزاد في طول الخبر ويؤتى بمزيد من التفاصيل.. ثم يصبح الموضوع هو الحديث اليومي في الصحافة والإذاعة والتليفزيون.. ثم يزاد في نغمة الإثارة حتى تشحن النفوس بالوقود. ثم تأخذ الصحافة في استطلاع "الرأي العام" "كأنما لم تكن هي التي وجهته" فإذا الرأي العام متحمس! إذن لا بد من مطالبة الحكومة بالتحرك! وإذن تبدأ الحكومة في الإعداد.. ثم تنطلق شرارة الحرب، ويباع السلاح، وتتحقق الأهداف المطلوبة من وراء "المشروع"!   1 من أجل ذلك هم دعاة الحروب دائمًا.. يقول سبحانه وتعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [سورة المائدة: 64] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ففي الحرب العالمية الثانية التي امتدت فشملت معظم أرجاء الأرض، وقتل فيها أربعون مليونًا من الشباب في ميادين القتال غير الذين قتلوا من الرجال والنساء والأطفال بعيدًا عن ميادين الحرب بالقنابل المدمرة، وغير الذين قتلوا بتأثير القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا في نجازاكي وهيروشيما.. بدأت صحافة الحلفاء "أي: الديمقراطيات في غرب أوروبا وفي أمريكا" تتكلم عن هتلر واستعداداته الحربية والأزمات التي يثيرها "وخاصة أزمة ممر دانزج التي اعتبرت الشرارة الأولى للحرب". وبدأت تكتب عن النازية وعن النظم الدكتاتورية وعداوتها للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. وأن على الديمقراطيات التي تشكل "العالم الحر" أن تؤدب هذا الطاغية الذي ينذر بشر مستطير لجميع البشرية! وما نريد أن نتحدث هنا عن "الحق" في أي جانب كان.. فقد كان كل ما تقوله صحافة "العالم الحر" عن هتلر والنازية والدكتاتورية حقا، وكان هتلر بالفعل طاغية جبارًا يريد إذلال العالم وإخضاعه لسلطانه، ويصدر عن جنون عنصري مرتكز على أفضلية الجنس الآري وجدارته بأن يحكم العالم كله! ولكن ما فضل "الحلفاء" عليه؟ أليسوا هم مثله طواغيت -كانوا- يحكمون العالم كله يومئذ ويذلونه باسم حضارة "الرجل الأبيض" وجدارته أن يحكم كل شعوب الأرض؟ وماذا يملك الرجل الأبيض من المقومات الحقيقية التي تؤهله لذلك السلطان وتجعله وقفًا عليه وحده لا يشاركه أحد فيه؟ فقد كان إذن ما تقوله صحافة الحلفاء "وإذاعتهم" حقا بالنسبة للنازية وهتلر، أما ما كانوا يدعونه لأنفسهم من أنهم هم حماة الحرية وحماة حقوق الإنسان، فقد تبين كذبه كله عقب الحرب مباشرة حين خرج الحلفاء منتصرين من الحرب فضربوا بكل وعودهم للشعوب عرض الحائط، بل قالوا لهم في تبجح: لقد حميناكم من النازية فادفعوا ثمن الحماية.. وثمنها أن يكونوا خاضعين لهم يدورون في فلكهم ويخدمون مصالحهم. على أي حال فنحن نتتبع معالجة الصحافة والإذاعة للأمر.. لقد كان المطلوب تهيئة "الرأي العام" للحرب، ولأمر آخر لا يقل خطرًا.. هو إنشاء دولة إسرائيل.. فلتكتب الصحافة إذن -وجميع وسائل الإعلام المتاحة- عن طغيان هتلر، وعن وحشيته في إبادة اليهود وتعذيبهم.. حتى يشحن "الرأي العام" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ويصبح مستعدا للحرب بعد إذ كان نافرًا منها أشد النفور.. وحتى يعطف على قضية اليهود بعد إذ كان كارها لهم أشد الكره! وشيئًا فشيئًا يصبح حديث الحرب أمرًا عاديًا، بل يتحمس الناس للحرب ويضغطون على حكوماتهم أن تدخل الحرب تأديبًا للطاغية الذي يستحق التأديب، والذي إذا ترك وشأنه خرب الأرض ودمر مقومات الحضارة! وشيئًا فشيئًا يتعاطف الناس مع اليهود الذين يعذبهم النازي ويحرقهم أحياء في الأفران1! ويصبح "الرأي العام العالمي" مهيأ للدعوة التي تجيء بعد ذلك بضرورة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين2! ثم يشتد الحماس حتى تدخل كل دول الغرب في الحرب، ويشتد التعاطف مع اليهود حتى يصبح العرب في نظر العالم مجرمين, إذا أبوا أن يتنازلوا عن أرضهم وديارهم لشعب الله المختار! ولنفرض أن المطلوب هو تفكيك روابط الأسرة ونشر الفساد الخلقي وتحريض المرأة ضد قوامة الرجل عليها. تبدأ الصحافة بمهاجمة الزواج المبكر وذكر مضاره! إن كلا من الزوجين يكون قليل الخبرة بالجنس الآخر نتيجة عدم الاختلاط، ثم قليل الخبرة بالحياة لصغر السن وقلة التجربة، ثم قليل الخبرة بتربية الأولاد.. الذين يجيئون في أول عهد الزواج فتسوء تربيتهم! لذلك يلزم تأخير سن الزواج مع إباحة الاختلاط حتى يتحقق التعارف بين الجنسين واكتساب الخبرة اللازمة للزواج، ويتأخر مجيء الأولاد حتى تزداد الخبرة فتحسن تربيتهم! ثم يظل الحديث عن ضرورة الاختلاط يلح على الناس حتى يتكون "رأي عام" موافق على الاختلاط بعد إذا كان معارضًا له، ثم يظل الحديث يلح على الناس حتى يتحمسوا له، ثم يظل الحديث يلح على الناس حتى يبلغ الحماس للاختلاط أن يتهموا كل معارض له بالرجعية والتخلف والجمود والتأخر   1 اتضح فيما بعد أن حوادث التعذيب كانت قليلة جدا، وأن الصحافة الغربية هولت فيها تهويلًا ضخمًا مقصودًا لخدمة أهداف معينة بل تقول كاتبة ألمانية من أصل يهودي: إن اليهود هم الذين دفعوا هتلر دفعًا إلى إيقاع هذا التعذيب عليهم ليستغلوه في الدعاية لقضيتهم وهي الاستيلاء على فلسطين بحجة أنهم شعب مشرد مضطهد ولا بد له من وطن. 2 يقول وليم كار في كتاب الأحجار: إن اليهود أججوا الحرب كلها من أجل إنشاء وطن لهم وكلامه في هذه النقطة فيه حق كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ويهددوه بأن عجلة التطور ستسحقه وتقضي عليه! ثم يقال للمرأة إن الزواج الباكر والإنجاب الكثير يفسد رشاقتها! ويقتل حيويتها! ويمنعها من مشاركة الرجل في إدارة شئون المجتمع! وتظل الصحافة "ووسائل الإعلام الأخرى" تلح على هذا الأمر حتى تخرج المرأة من فطرتها وتنظر إلى الزواج على أنه قيد يعوقها! وإلى الإنجاب على أنه عدو يفسد جمالها ورشاقتها، وإلى البيت والانشغال به على أنه إهدار لطاقتها بل إهدار لكرامتها! وبعد أن كانت -كما هو مركوز في فطرتها- تفرح بصيحة الطفل؛ لأنها تحقيق لرسالتها وإثبات لأنوثتها المتمثلة في الاستعداد للحمل والإنجاب، صارت تمقت صيحة الطفل، وتكره البيت، وحتى إن تزوجت تستخدم موانع الحمل لتحافظ على رشاقتها. ثم يظل تأثير الصحافة ووسائل الإعلام عليها حتى ترى أن من حقها أن "تستمتع" بالحاية استمتاعًا حرا دون أن يفرض على استمتاعها قيد خلقي أو اجتماعي أو من أي نوع. فمن حقها أن تمارس الجنس في حدود الصداقة مع الرجل دون أن ينشأ عن ذلك بالضرورة زواج أو أسرة.. ومن حقها أن تؤخر الزواج حتى تشبع من الاستمتاع الحر.. ومن حقها أن تؤخر الإنجاب حتى تشبع من العمل خارج البيت ومن الرشاقة في الحفلات وحلبات الرقص. ويصبح ذلك كله من مقررات "الرأي العام" النسائي على الأقل، بل النسائي والرجالي كذلك.. "أي: من مقررات العقل الجمعي"! ويصبح المعارض لذلك هو المجنون الأبله، وهو المتحجر على أوضاع عفى الزمن عليها ولا يمكن أن تعود! ولنفرض أن المطلوب هو ترويج عملية ربوية كعملية التأمين على الحياة. تظل الصحافة -ووسائل الإعلام الأخرى- تقص القصص عن أحوال الأسر التي تصيبها كوارث، حتى توقظ مشاعر الناس لهذه الحالة المنتشرة في المجتمع "ولا يذكر بطبيعة الحال أن تفكيك الأسرة وتفكيك روابط المجتمع في المجتمع الصناعي الرأسمالي كانت هي السبب في وجود هذه الحالة وانتشارها، لكي لا يتنبه الناس إلى المكر الماكر المحيط بهذا الشأن من أوله إلى آخره. ولكي لا يتنبهوا أن الحل الحقيقي هو إيجاد التكافل الاجتماعي سواء داخل الأسرة أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 داخل المجتمع أو بتكليف الدولة أن تقوم بكفالة من لا كافل له"1 ثم تروج الصحافة من جانب آخر لشركات التأمين و"الخدمات الجليلة" التي تقوم بها، وعن حالة الأسر التي أخذ عائلها بنظام التأمين، فصارت مستقرة لا تهزها الأعاصير! ويظل إلحاح الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى حتى يصبح الأمر حقيقة منتهية لا جدال فيها، أن التأمين لدى شركات التأمين واجب على كل إنسان بعيد النظر، وأنه ضرورة لا غنى عنها في العالم الحديث! ولا يتحدث أحد عن الأرباح الخيالية التي تربحها شركات التأمين الربوية من الناس! ولا يتحدثون عن الأقساط الربوية التي يدفعها المؤَمَّنون.. ويصبح ذلك كله أمرًا واقعًا في المجتمع، بل يصبح أمرًا "روتينيا" يأتيه كل إنسان دون أن يفكر على الإطلاق أنه كان يمكن أن يكون هناك بديل، أو أنه يجب أن يكون هناك بديل.. ويكون هذا هو "الرأي العام" في هذه القضية أو هو العقل الجمعي الذي يضع للناس مقررات الحياة2! إذا كانت هذه هي طريقة تشكيل "الرأي العام" الذي تعتمد عليه الديمقراطية -في ظاهرها على الأقل- فكيف تكون الديمقراطية هي حكم الشعب على الحقيقة؟! إن الرجل العادي -الذي يسمونه "رجل الشارع" كأنه لا بيت له ولا انتماء له- مشغول بأحواله المعيشية الخاصة عن النظر الحقيقي في الأمور العامة, وتكوين رأي مستقل فيها. وذلك لسببين: أحدهما عام لا يختص ببيئة معينة ولا زمن معين، هو أن الأغلبية الكبرى من الناس لا تحب أن تشغل نفسها بالأمور العامة ولا تصبر على التعمق فيها, وليس عندها الأدوات المعينة على ذلك من تفقه وتدبر وبعد نظر وإحاطة بالأسباب والنتائج، فتحب أن تترك هذه الأمور لفئة معينة من الناس، تثق فيها وتكل إليها هذه المهمة الخطيرة. والسبب الثاني خاص بهذه الديمقراطية الليبرالية بالذات، أو هو في الحقيقة خاص بالجاهليات جميعًا ولكنه في هذه الجاهلية التي يشرف اليهود على   1 هذا هو النظام الرباني الكفيل بالمحافظة على ترابط الأسرة وترابط المجتمع، والذي يقيم "بيت مال" للمسلمين يكفل من كان منهم في حاجة إلى كفيل. 2 إلى حد أنه في العالم الإسلامي ذاته يحارب من يقول إن التأمين -بصورته الربوية الحالية- حرام في دين الله! ويتهم بالجهل أو الجمود! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 توجيهها أشد، وهو التلهية الدائمة لرجل الشارع هذا عن أن يلتفت إلى الأمور العامة بنظر مستقل وفكر متفحص، عن طريق شغله بأمور معاشه من جهة وأمور لهوه و"استمتاعه" من جهة أخرى. نقول إن هذا موجود في الجاهليات جميعًا، حتى يتفرغ أصحاب السلطان لسلطانهم دون تدخل من يقظة الجماهير، التي قد تتيقظ فتطالب بحقوقها المسلوبة، التي يعيش -من سلبها- أصحاب السلطان! ولكنه في هذه الجاهلية أشد؛ لأن اليهودية -أو إن شئت قل الرأسمالية- تشغل الناس شغلًا دائمًا بأمور المعاش لكي تربح هي ربحها الفاحش، فاليوم الثلاجة وغدًا السيارة وبعد غد تغيير السيارة؛ لأن الجديدة أكثر أناقة أو فيها زر إضافي ليس في السابقة! كما تشغلهم باللهو الدائم فاليوم السينما وغدا المسرح وبعد غد حلبة الرقص وبعده النزهة الخلوية ... والليلة موعد مع الصديقة وبعدها صديقة أخرى أو حفل جنسي صاخب.. وهكذا، لتربح الرأسمالية -أو قل اليهودية- أرباحًا مركبة: ربح المال، وربح إفساد الأمميين، وربح تلهيتهم عما يدور حولهم من أمور، ليخطط المخططون وهم في مأمن كامل من يقظة الجماهير! إذا كان الحال كذلك على الحقيقة فأين هو "الرأي العام" الحقيقي الذي يوجه السياسة في الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية؟! إنه في الحقيقة أصحاب رءوس الأموال.. هم الذين يرسمون السياسة، وهم الذين يشكلون "الرأي العام" عن طريق الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى، فيصوغونه على النحو الذي يريدون.. النحو الذي يحقق مصالحهم في النهاية، ولا بأس أن يترك شيئًا من الفتات "للشعب" حتى لا يتحول إلى كلاب جائعة تهدد المكتنزين! حقيقة إن هناك نوابًا وتمثيلًا نيابيا وهناك برلمان يقول فيه من أراد كل ما يريد أن يقول. ولكن من هم النواب في حقيقة الواقع؟ هل يتاح لأي إنسان أن يصل إلى البرلمان ويوجه الأمور من هناك، كما هي الصورة النظرية للديمقراطية؟ إن المعركة الانتخابية في حاجة إلى تكاليف لا يقدر عليها إلا الأغنياء من الناس، ومتى كان هو من طبقة الأغنياء فما الذي يجعله يفكر في "طبقة" المساكين؟ إنهم ليسوا في نظره مساكين! إنهم من جهة أولئك "الأعداء" الحاسدون لما في يده من النعمة، الطامعون، الذين يريدون أن ينهبوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وينتقصوا أرباحه! وهم من جهة أخرى أولئك "الطفيليون" الذين لا يحسنون شيئًا ويطمعون في كل شيء، "الأغبياء" الذين وقف بهم غباؤهم عن أن يصعدوا إلى القمم التي وصلوا هم إليها.. وحقيقة إن هناك من الفقراء ومتوسطي الحال من يرشحون أنفسهم وينجحون في الانتخابات.. ولكن كيف يصلون إلى هناك؟ إنه لا بد من أحزاب تحملهم وتحمل عنهم عبء المعركة الانتخابية وهو عبء باهظ. فإذا دخل الإنسان الحزب فقد تغيرت أحواله كلها وأصبح إنسانًا آخر.. أصبح "محترفًا" في عالم السياسة، وهو وحزبه في أحد حالين لا ثالث لهما، وفي أحد موقفين: إما أن يكون حزبه في الحكم فهو ملتزم بتأييد الحكومة في كل ما تصنع، سواء كان في دخيلة نفسه مقتنعًا بما تفعل أو غير مقتنع. وإما أن يكون حزبه في المعارضة -أي: خارج الحكم- فهو ملتزم بمعارضة الحكومة القائمة في كل ما تصنع "إلا أن تكون "مصلحة عامة" أي: يستفيد منها الرأسماليون جميعًا! " سواء كان في دخيلة نفسه مقتنعًا بالمعارضة أو غير مقتنع! وهكذا تسمع صيحات: العدل. والقيم. والمبادئ. والإنسانية. إلخ. من الحزب المعارض طالما هو في المعارضة، فإذا وصل إلى الحكم سلك ذات السلوك الذي كان ينتقده ويندد به من قبل! وصار الدور على الحزب المعارض -الذي كان في الحكم من قبل- لينتقد من الحكومة القائمة ذات الأعمال التي كان يسوغها لنفسه وهو في الحكم ويتصايح بدعاوى الإنسانية والعدالة والقيم والمبادئ! ومن الأمثلة الواقعية -المضحكة- أن حزب العمال في بريطانيا ظل وهو في المعارضة ينادي بضرورة زيادة أجور العمال، فلما وصل إلى الحكم رفض أن ينفذ ما كان يدعو إليه وهو في المعارضة -أو عجز عن تنفيذه! - وسلك ذات السلوك الذي كان يعيبه من قبل على حزب المحافظين وهو تجميد الأجور خوفًا من التضخم! وصحيح أن هناك "أحرارًا" يصلون إلى البرلمان، ويقولون قولة الحق، وينتقدون بجرأة, ويطالبون بحقوق أصحاب الحقوق، ولكن كم عدد هؤلاء؟ وما وزنهم في المجالس النيابية؟ إن القرارات تؤخذ بالأصوات. ولا ضير في المبدأ في ذاته فهو مبدأ عادل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ولكنه صالح حين يكون أصحاب الأصوات من العدول لا حين يكونون من أصحاب الأهواء، فأما حين يكونون من أصحاب الأهواء، الملتزمين بالمعارضة أو الملتزمين بالتأييد بحكم موقف الحزب الذي يتبعونه، فعندئذ تضيع أصوات القلة من الأحرار في وسط أصوات الكثرة من المزيفين! وتنفذ مصالح الرأسمالية كلها من خلال اللعبة الهائلة، لعبة الحرية والديمقراطية والتمثيل النيابي والبرلمان! إلا الفتات الذي يتساقط في الطريق، أو يسقط عمدًا للتلهية، أو يسقط تحت الضغط الشديد! أما "الحرية" الحقيقية التي تتيحها الديمقراطية وكأنما أنشئت من أجلها فهي "الحرية الشخصية": حرية الإلحاد وحرية الفساد الخلقي! هنا يلتقي الجميع: المعارضون والمؤيدون والشعب والرأسماليون، والحكام والمحكومون! إن الديمقراطية الليبرالية تقيد الحرية حيث ينبغي أن توسع، وتوسعها حيث ينبغي أن تضيق! فحين تمس مصالح الرأسمالية فلا حرية على الإطلاق! ويذكر الناس جميعًا قصة مقتل كنيدي رئيس جمهورية الولايات المتحدة، حين قتل في عام 1963م لأنه وقف في طريق مصلحة من مصالح الرأسمالية، ثم لعب بقضيته لعبًا بحيث لا تنكشف الحقيقة ولا يوقع على المجرمين الجزاء! فقد كانت سياسة الرأسمالية يومئذ -أو قل سياسة اليهود المشرفين على توجيه الجاهلية المعاصرة- هي وضع العالم على "حافة الحرب" من أجل تنشيط صناعة السلاح وبيعه، وهي -كما قلنا- من أربح الصناعات بالنسبة إليهم. ولكن كنيدي كانت له نظرة أخرى مختلفة، ينطلق فيها من مصلحة الولايات المتحدة التي هو رئيسها المنتخب لتحقيق مصالحها.. فقد كان رأي كنيدي أن المصلحة القومية للولايات المتحدة تقتضي تهدئة الأحوال العالمية، لكي يوجه الإنفاق إلى رفاهية الشعب الأمريكي بدلًا من توجيهه إلى صناعة الحرب التي لا عائد منها على الشعب.. لذلك سعى إلى مصالحة الاتحاد السوفيتي والاتفاق معه على تهدئة الأحوال العالمية، وخطا بالفعل خطوة نحو إشاعة السلام، فمد يده إلى خروشوف الزعيم الروسي القائم بالحكم يومئذ لفتح باب المحادثات التي تؤدي إلى توطيد السلام، وخطا خروشوف من جانبه خطوة فقبل أن يدخل في محادثات السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ورغم أن هذا كان تصرفًا حكيمًا من وجهة النظر الأمريكية البحتة، فضلًا عما فيه من إراحة أعصاب العالم من الخوف الدائم من نشوب الحرب، فإن الرأسمالية الأمريكية ذاتها "أو قل اليهودية" لم توافق عليه؛ لأنه ضد مصالحها الذاتية. لذلك أنشأت إضرابًا طويلًا في مصانع الصلب على سبيل الإنذار "مع أن هذا الإضراب يضر المصالح المؤقتة للرأسمالية, ولكنه يؤدي إلى كسب أكبر بالضغط على كنيدي ليترك سياسة التهدئة التي كان يقوم بها بالاتفاق مع خروشوف" فلما لم يأبه كنيدي بالإنذار ومضى في سياسته هددوه مرة ثانية بإضراب آخر في مصانع الصلب استمر مدة أطول من الأولى! ولما لم يرضخ بعد هذا الإنذار الشديد وأصر على السياسة التي رآها أكثر تحقيقًا لصالح الشعب الأمريكي -فضلًا عن إراحة العالم من الخوف- قرروا أنه لا بد من التخلص منه بإجراء أشد، فقتلوه! قتلوه وهو ليس فردًا عاديًا من أفراد الشعب، بل هو رئيس الجمهورية المنتخب برضا الشعب، والمسئول عن مصالح الشعب الأمريكي كله! قتلوه ثم لعبوا بالتحقيق، فلم يجد رئيس الجمهورية المقتول ضمانات التحقيق التي تحفظ حقه -وإن كان قتيلًا- في أن يؤخذ له القصاص من قاتله! ولم تجد الديمقراطية كلها نفعًا في إقامة العدل في قضية من القضايا الخطيرة في التاريخ الحديث.. ومضت القصة كلها كأنها حادث عادي لا يثير الانتباه ولا يستحق الاهتمام! وطوي التحقيق.. ولما تصل العدالة إلى غايتها حتى اليوم, وقد مضى قرابة عشرين عامًا على الحادث العجيب! وتلك هي الديمقراطية حين تمس المصالح المباشرة للرأسمالية. وما كانت مصالح مشروعة حتى نقول إن الذي وقف في سبيلها كان يستحق الانتقام منه بأية صورة من الصور، إنما كانت مصالح جشعة مجرمة، تريد أن تضع العالم كله على حافة الحرب لكي تربح هي من وراء ذلك الربح الحرام.. وفي سبيل ذلك تلغي كل ضمانات الديمقراطية وكل "الحرية" الزائفة التي يتغنى بها الديمقراطيون! أما حين يكون الأمر مختصا بالفساد فهنا الحرية بلا ضابط ولا حساب! حرية الإنسان في أن يلحد حرية مكفولة بالقانون! فرغم أن الدولار الأمريكي مكتوب عليه "ثقتنا في الله In God We Trust! " إلا أن القانون ينص على حرية العقيدة. والحرية معناها أن من شاء أن يلحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ويعلن إلحاده على الناس ويدعو إلى الإلحاد ويسخر من القيم الدينية كلها ومن عقيدة الألوهية ذاتها فمن حقه أن يفعل.. لا تحريج عليه على الإطلاق! وحرية الإنسان في أن يفسد حرية مكفولة بالقانون! فالسلوك الجنسي مسألة خاصة إلى أبعد حدود الخصوصية لا يتدخل القانون بشأنها أي تدخل إلا في حالة واحدة هي جريمة الاغتصاب؛ لأنها تقع بالإكراه لا بالاتفاق. أما أي علاقة -على الإطلاق- تقع بالاتفاق فلا دخل للقانون بها, ولا دخل للمجتمع ولا دخل لأحد من الناس.. فسواء كانت هذه العلاقة سوية أو شاذة، وسواء كانت مع فتاة لم تتزوج أو مع امرأة متزوجة، فهذا شأن الأطراف أصحاب العلاقة وليس شأن أحد آخر.. والغابات والحدائق العامة مسرح لكل ألوان السلوك الجنسي فضلًا عن النوادي والبيوت.. كلها ماخور كبير يعج بالفساد الذي يحميه القانون.. قانون الديمقراطية! ومن سنوات عقد في الكنيسة الهولندية عقد "شرعي! " بين فتى وفتى على يد القسيس! ومن سنوات اجتمع البرلمان الإنجليزي "الموقر! " لينظر في أمر العلاقات الجنسية الشاذة، ثم قرر أنها علاقات حرة لا ينبغي التدخل في شأنها، كما أعلن أسقف كانتربري وهو رئيس الأساقفة في بريطانيا أنها علاقات مشروعة!! ومن سنوات كذلك عرض على المسرح الأمريكي -وفي التليفزيون- مسرحية تشكل العملية الجنسية بكاملها جزءًا منها، ورأى المشاهدون -أو هم ذهبوا ليروا- رجلًا وامرأة يقومان بالعملية الجنسية أمام أعينهم، ونقلت الصورة -حية- على شاشة التلفزيون. ومن سنوات كذلك قام في التلفزيون البريطاني حوار جنسي اشترك فيه عشرات من الفتيات الصغار، وكان موضوع الحوار هو سؤالهن عن الوضع الذي يفضلنه في العملية الجنسية، وأجابت الفتيات بصراحة وقحة يقشعر منها أبدان الذين في نفوسهم أي قدر من الحياء الفطري.. أما "المرأة" فهي تتحدث دون حياء! ولا يقولن أحد إن هذه هي المخططات اليهودية, ونحن إنما نتحدث عن الديمقراطية! إنه لا انفصال بين هذه وتلك! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الديمقراطية بتمثيلها البرلماني بوسائل إعلامها بقواعد "الحرية" التي تقوم عليها، هي التي تبيح ذلك كله، وتجعله ضمن دائرة الحرية الشخصية، وتحميه بكل وسائل الحماية، وتعطيه الشرعية الكاملة. فمن أراد نظامًا ليس فيه هذا كله فهو على وجه اليقين يريد شيئًا غير الديمقراطية الليبرالية كما هي مطبقة في عالم الواقع، يريد شيئًا لا واقع له بعد ولا نعلم على وجه اليقين كيف يكون! إن الحرية التي تمنحها الديمقراطية الليبرالية هي حرية الحيوان لا حرية الإنسان1. ولقد أراد "الثوار" الذين ثاروا في وجه الطغيان الإقطاعي أن يحرروا "الإنسان" من العبودية التي كانت تستذله وتهبط به عن الوضع الذي يليق بالإنسان. ولكن اليهودية العالمية التي سيطرت على المجتمع الصناعي منذ مولده أرادت شيئًا غير ذلك. "فالإنسان" بالذات هو عدوها الذي ترهبه، وعدوها الذي تريد أن تقضي عليه. وسنحت لها الفرصة فحققت حلمها القديم في استحمار الأمميين وتسخيرهم لشعب الله المختار.. فمسخت آدمية أولئك الآدميين وحولتهم إلى أولئك الحمير.. فما الإنسان بغير عقيدة؟ وما الإنسان بغير أخلاق؟ فأما بغير عقيدة فقد قال عنهم الخالق تبارك اسمه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 2. وأما بغير أخلاق ولا قيم خلقية، فالحيوان وحده هو الذي يعيش بغير قيم خلقية؛ لأنه ليس له إلا طريق واحد لا اختيار له فيه، فلا يوصف عمله بأنه أخلاقي أو غير أخلاقي، إنما يوصف بأنه عمل غريزي، فإذا أكلت القطة الفأر أو أتى الكلب أنثاه في الطريق فلا أحد يقول إن هذه أعمال غير أخلاقية! أما   1 سنتكلم في الفصل التالي عن الشيوعية وسنرى أنها منحت الناس هذه الحرية بالذات في حين حرمت كل الحريات. 2 سورة الأعراف: 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الإنسان الذي كرمه ربه بالإنسانية وجعل له طريقين اثنين لا طريقا واحدا، وأعطاه القدرة على التمييز بين الطريقين واختيار واحد منهما: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 1، فإنه حين يرفض القيم الخلقية، ويقول عن إقامة الرأسمالية على أساس الربح بصرف النظر عن كون هذا الربح حلالا أو حراما، جائزا أو غير جائز، يقول إن هذه مسألة اقتصادية لا علاقة لها بالأخلاق ويقول عن تحويل المجتمع كله إلى ماخور كبير إن الجنس مسألة "بيولوجية" لا علاقة لها بالأخلاق, حين يفعل ذلك فإنه يفقد آدميته بالطبع ويصبح من الدواب, بالضبط كما يريد له شعب الله المختار. ولقد كانت الديمقراطية وشعارات الحرية هي اللعبة الكبرى التي نفذت اليهودية العالمية عن طريقها مخططها كله2 واستحمرت بها الأمميين في الغرب لحساب الشعب الشيطان. ولا ينفي ذلك كله ما كسبته الشعوب في ظل الديمقراطية من حقوق وضمانات تحدثنا عنها من قبل وقلنا إنها -في هذا الجانب- تكريم للإنسان وتحقيق لصفة الإنسانية فيه. فقد قلنا إن الشعوب قد نالت ذلك بنضالها لا بالديمقراطية في ذاتها، بل كانت الديقراطية ذاتها في جانبها السياسي ثمرة ذلك النضال، لكن الذي نقوله هنا إن الشياطين -مع سماحهم راضين أو مكرهين بهذه الحقوق وتلك الضمانات- قد أفسدوا إنسانية الإنسان من جانب آخر أو من جوانب أخرى بحيث أصبحت الخسارة في النهاية أفظع بكثير من كل كسب كسبته الشعوب. ولسنا نقول إن الإنسان كان أحسن حالا في ظل الإقطاع قبل أن يحصل على هذه الحقوق والضمانات في ظل الديمقراطية.. فالجاهلية كلها انحراف وكلها خبال سواء في ذلك الطور أو ذاك.. ولكنا نقول إن الخير الجزئي الذي أتت به الجاهلية الجديدة قد أفسدت مقابله كثيرا من الخير الكامن في الإنسان, بحيث يضيع ذلك الخير الجزئي في محيط الفساد الواسع الذي ليس له قرار. ولسنا نقول كذلك إن هذه الحقوق والضمانات ينبغي أو يجوز أن تلغى في مقابل استرداد الإنسان ما فقد من إنسانيته بفساد العقيدة وفساد الأخلاق.   1 سورة الشمس: 7-10. 2 لا يمنع هذا -كما سنرى في الفصل القادم- أن اليهود استخدموا الشيوعية كذلك فيما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 كلا فإنه إن فقد هذه الحقوق وهذه الضمانات فما يمكن أن يحافظ على إنسانيته ولو كان على شيء من عقيدة ولو كان على شيء من أخلاق! كلا إن إنسانية الإنسان مفقودة في الحالين, وما يكون الإنسان في الجاهلية إنسانا بحال من الأحوال. ولكنا هنا على أي حال نقّوم الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية كما هي مطبقة في عالم الواقع، فنقول ما لها وما عليها ... فنقول إنها ليست صفحة بيضاء خالصة كما يظن الذين ينظرون من بعيد ولا ينعمون النظر ولا يرون ما وراء الأستار. ثم نقول إن الصفحة السوداء فيها قاتمة السواد أكثر بكثير مما يظن الذين يأخذون الأمور من سطوحها فيحسبون الفساد جزئيا قابلا للإصلاح وقابلا للتعديل بوضع بعض الضوابط هنا وبعض القيم هناك. إنها من جهة مسرحية ضخمة تمثلها الرأسمالية وتضع لها أدوارها وتوهم المشاهدين أن الممثلين يتحركون على المسرح من ذوات أنفسهم وبمقتضى إرادة ذاتية لهم، بينما هم -كأي ممثلين في مسرحية- يتحركون بمقتضى الدور المعطى لهم وفي حدوده المرسومة، لا يملكون أن يتجاوزوا المسرح أو يتجاوزوا دورهم في المسرحية المعروضة عليه ... وإلا طردوا بتهمة الإفساد! أو عوقبوا عقابا صارما ليكونوا عبرة للآخرين. كما يطارد دعاة الحرية الحقيقيون بتهمة الشغب والخروج على القانون وتعريض الأمن القومي للخطر, وكما قتل كنيدي حين تجرأ جرأة لا تليق "بموظف" مسئول في حضن الرأسمالية. وهي من جهة أخرى أداة ضخمة لإتلاف إنسانية الإنسان بإعطاء الفساد الديني والفساد الخلقي شرعية كاملة، وجعل ذلك جزءا أصيلا من مفهوم الديمقراطية ومفهوم الحرية. فتحت هذا الشعار -شعار الحرية- ظل "الإنسان" الأوروبي يجد التشجيع المستمر على التحلل من دينه وعقيدته بوصف أن هذه أمور خاصة يتصرف فيها الإنسان على مزاجه الخاص، فمن شاء أن يبقى على عقيدة ودين فليبق، على مسئوليته الخاصة، وليتلق السخرية الدائمة من المجتمع ومن الكتاب والمفكرين وأهل "الفن" من قصاصين ومسرحيين وإذاعيين وتلفزيونيين ورسامي "الكاريكاتير" فضلا عن المخذلات الدائمة من حوله، التي تتفنن في صرفه عن الدين والعقيدة. ومن شاء أن يلحد فليلحد, ولن يقف في سبيله أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ولن يخرج عليه أحد فتلك حريته الشخصية، ولن يجد السخرية حتى من رجال الدين! إنما يجد منهم "لطيفة" للتفاهم معه ومحاولة "فاترة" لرده إلى الإيمان1 بينما يجد التشجيع من جهات كثيرة في الأرض! وتحت هذا الشعار كذلك ظل يجد التشجيع المستمر على التحلل من أخلاقه وتقاليده، بوصفها كذلك أمورا شخصية.. فمن شاء أن تكون له أخلاق -في مسائل الجنس بصفة خاصة- فهو حر -على مسئوليته الخاصة- وليتلق النقد اللاذع من المجتمع كله، الذي يعتبره حالة شاذة تحتاج إلى علاج2! ومن شاء أن يتحلل فنعم الرأي له ونعم المسلك! وسيجد التشجيع الحافل من المجتمع والكتاب والمفكرين وأهل الفن وأصحاب السينما وأصحاب المسرح وأصحاب الإذاعة وأصحاب التلفزيون وأصحاب النوادي وأصحاب المواخير ... هذا بينما توضع الضوابط -الصارمة أحيانًا- على سلوك الإنسان في كل اتجاه إلا هذين الاتجاهين بالذات! ومن جهة ثالثة فهي لعبة اليهودية الكبرى لتنفيذ مخططاتها كلها مع إيهام الناس أنهم يتصرفون من تلقاء أنفسهم وحسب رغباتهم الخاصة! فأما المصالح الرأسمالية اليهودية فتسخر لها الأحزاب السياسية والبرلمانات و"نواب الأمة" ووسائل الإعلام التي تشكل الرأي العام وتقوم بعملية التزييف الكبرى لأفكار الناس واهتماماتهم بما يحقق تلك المصالح في نهاية المطاف، ويحقق انسياب الذهب -معبود اليهود القديم- إلى جيوبهم وقلوبهم ويتفننون به في زيادة سيطرتهم على الأمميين. وأما "المصالح" اليهودية الأخرى المتمثلة في إفساد عقائد الناس وأخلاقهم ليسهل استحمارهم وتسخيرهم لمصالح الشعب الشرير فهي تتم كاملة من وراء شعار "الحرية" الذي تحدثنا عنه ومن خلال شعور الناس أن "هذه" هي الديمقراطية! وهكذا يضيع الخير الضئيل الذي كسبته "الشعوب" بالحقوق والضمانات   1 لسنا هنا نعيب على "رجال الدين" بقدر ما نعيب على النظام الذي وضعهم في موضع الضعف والاستجداء! والذي شجع الإلحاد وأعطاه من الشرعية ما يجعل المطالبين بالدين يشعرون أن دعوتهم هي التي ليس لها صفة الشرعية فيتحدثون إلى الناس على استحياء! ولسنا نرى مع ذلك أن الحل هو أن يعود "لرجال الدين" سلطانهم الكنسي المقيت، لكن الحل أن يؤمن الناس بدين الله ويحكم الحكام بشريعة الله فيكون كل شيء في وضعه الصحيح! 2 الفتاة التي تبلغ الرابعة عشرة في أمريكا وليس لها صديق تعتبر حالة مرضية يجتمع مجلس العائلة للنظر فيها ويستدعي لها الطبيب النفسي للعلاج!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 في وسط هذا الشر الهائل الذي يحققه الأشرار من وراء هذا النظام المخلخل المليء بالعيوب، والمليء بالثقوب! فإذا عرضنا الأمر على الإسلام فهناك قضيتان رئيسيتان من وجهة النظر الإسلامية هما محور الارتكاز في الموضوع كله وهما أداة التقويم بالنسبة للديمقراطية أو أي مذهب آخر من المذاهب التي نناقشها في هذا الكتاب. هاتان القضيتان هما: أولا: من المعبود؟ ثانيا: إنسانية الإنسان. وقد وهّنت الجاهلية المعاصرة التي يوجهها اليهود كلتا القضيتين -والأولى بصفة خاصة- لغاية في نفوسهم، وزعمت -بالنسبة للقضية الأولى بصفة خاصة- أنها ليست محور الحياة الإنسانية ولا مقياسها، بل العكس -في زعمها- هو الصحيح! فالإنسان أرقى كلما بعد عن الدين، وأكثر تأخرا ورجعية كلما اقترب منه، على أساس أن حياة الناس قد مرت بثلاث مراحل هي السحر والتدين والعلم، وأن الدين -الذي يمثل المرحلة الوسطية من حياة البشرية- قد أخلى -أو ينبغي أن يخلي- مكانه للعلم من أجل تقدم الإنسان ورقيه وتحضره! وأما القضية الثانية فقد زعمت الجاهلية المعاصرة أنه ليس لها مقياس ثابت! وأن الإنسان ليس له كيان ثابت أو صورة مثلى يُقوَّم بمقتضاها، إنما كل عصر له مقياسه، ومقياسه هو الأمر الواقع في ذلك العصر! والإنسان دائم التشكل على الصورة التي يقتضيها -أو يرتضيها- العصر بلا زيادة! ومن ثم فإنسانية الإنسان أمر لا يمكن أن يوضع له ميزان ثابت! ولكن الإسلام يقوِّم الأمور بميزان الله سبحانه وتعالى، الذي أنزله ليقوم الناس بالقسط. {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} 1. وميزان الله -وهو الحق- يقول إن قضية "من المعبود؟ " هي أهم قضية بالنسبة للحياة البشرية كلها في تاريخها كله، وإن كل شيء في الحياة الدنيا   1 سورة الحديد: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 -فضلا عن الآخرة- يتوقف على جواب هذه القضية وهي كون المعبود هو الله أم شيئا آخر مع الله أو من دون الله ... والجاهلية المعاصرة تغفل الحياة الأخرى عن عمد وتبرز الحياة الدنيا وحدها وتجعلها مجال الاهتمام وموضع التقويم1؛ لأنها لو وضعت اليوم الآخر في الميزان فقد حسمت القضية, وانتهت من أول لحظة.. فلن يقول أحد إن الدار الآخرة ستكون للملحدين الذين ينكرون وجود الله، أو ينكرون شريعته، أو يكرهون هذه الشريعة ويرفضون تحكيمها في أمور حياتهم! لذلك فإن الجاهلية المعاصرة لا تتكلم أبدا عن اليوم الآخر وما فيه من بعث ونشور وحشر وحساب وثواب وعقاب! وإن تحدثت عنه فعلى أنه وهم لا حقيقة له، أو قضية "غيبية" لا ينبغي أن يشغل بها نفسه الإنسان المتحضر أو الإنسان الواقعي، أو الإنسان الذي يحترم عقله، أو الإنسان الذي يحترم العلم ويعيش بروح علمية!! فإذا أصبحت الحياة الدنيا هي مبلغ الناس من العلمو وهي التي يتجه إليها الاهتمام كله ضمن المخططون الشريرون أن تسير الأمور كما يشتهون وأن تسير السائمة من الأمميين في الطريق الذي رسمه شعب الشيطان المختار. {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} 2. {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ، لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 3. {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 4.   1 بعض الكتاب يستعمل كلمة "التقييم" بدلا من التقويم ليميز بين التقويم بمعنى تقدير القيمة والتقويم بمعنى إصلاح المعوج, والصواب أن الفعل واوي في كلا المعنيين. 2 سورة النجم: 29-31. 3 سورة النحل: 106-108. 4 سورة الأعراف: 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وإذا كان الهدف الأخير للشعب الشرير هو استحمار الأمميين وتسخيرهم لمصالحهم وللعبودية لهم، فقد وجب أن يبعدوهم بعدا كاملا عن ذكر الآخرة ليكونوا كالأنعام، ويجعلوا الدنيا هي مبلغ علمهم وغاية همهم1 ليسهل تسخيرهم من جانب العبودية للشهوات، وهي مصير كل إنسان يعيش بعيدا عن الآخرة وقيمها المؤدية إليها. {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} 2. وإذا كانت الجاهلية المعاصرة قد أغفلت ذكر اليوم الآخر لغاية في نفسها وأبرزة الحياة الدنيا وحدها وجعلتها غاية كل شيء ومقياس كل شيء، فنحن لا نجاري تلك الجاهلية فيما اتجهت إليه، ولا نقرها على تعبيد الناس للحياة الدنيا، ولكنا نقول إن قضية "من المعبود"؟ ليست متعلقة بالآخرة وحدها ولكنها من صميم قضايا الحياة الدنيا، وإن الجواب على هذه القضية لا يتوقف عليه مصير الإنسان في الآخرة وحدها، بل يتوقف عليه مصيره هنا في الحياة الدنيا, وبدرجة أكبر بكثير وأخطر بكثير مما يظن المستعبدون للمخطط الشرير من الأمميين المسخرين كالحمير! إنه بصرف النظر -مؤقتا- عن القيم المتعلقة بالدين، المستمدة من كون المعبود الواجب العبادة هو الله سبحانه وتعالى وحده بلا شريك "ولنا عود إليها بعد قليل" فإن الجواب على هذا السؤال الخطير: "من المعبود؟ " يترتب عليه في الوقت ذاته إجابة على سؤال مهم في حياة البشر على الأرض وهو: "من المشرع؟..". يقول التفسير المادي للتاريخ، وهو هنا على حق فيما يقول: إن الذي يملك هو الذي يحكم، وإن الطبقة التي تحكم تضع التشريعات التي تحفظ مصالحها، ويكون ذلك على حساب الطبقات الأخرى.   1 من دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم: "اللهم لاتجعل الدنيا مبلغ علمنا ولا غاية همنا" رواه الترمذي. 2 سورة آل عمران: 14-17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 لذلك فإن قضية "من المشرع؟ " قضية مهمة بالنسبة للناس على الأرض. وليست قضية جانبية أو ثانوية يمكن التغاضي عنها لقاء بعض المتاع الأرضي الزائد عن الحد، كمتاع الجنس المجنون، أو "متاع" التبذل في الأرض بلا أخلاق، الذي قال عنه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} 1. فهو متاع الحيوان لا متاع الإنسان. وقضية "من المشرع؟ " هي التي قامت من أجلها الثورات التاريخية كلها حتى هذه اللحظة بسبب المظالم التي تقع من المشرعين الذين يشرعون لصالحهم وصالح الطبقة التي ينتمون إليها. فيثور المظلومون ليرفعوا هذا الظلم أو ليحاولوا رفعه على أقل تقدير. فإذا كانت القضية على هذا القدر من الأهمية، وكان لها كل هذا الأثر في حياة الناس على الأرض -بصرف النظر عن مصيرهم بعد ذلك- فلننظر من المشرع الحقيقي في الديمقراطية الليبرالية أو في الحقيقة في أي جاهلية لا تحكم بما أنزل الله. إنهم بادئ ذي بدء بشر، ثم هم بعد ذلك طبقة معينة لها مصالح معينة لا تتحقق بصورتها التي يريدونها إلا على حساب الآخرين. كان الحاكم في الإقطاع هو أمير الإقطاعية الذي يملك ويحكم، ولا معقب من البشر لحكمه؛ لأنه هو السلطة الوحيدة ولا أحد غيره يملك شيئا من السلطان. والحاكم في الديمقراطية الليبرالية هو الرأسمالية التي تملك وتحكم ولا معقب من البشر لحكمها، وإن كان التشريع -نظريا- من حق الشعب، والتعقيب نظريا في يد الشعب! الرأسمالية -يهودية أو غير يهودية- هي التي تدير المسرحية كلها، وهي التي تضع التشريعات للمحافظة على مصالحها على حساب مصالح "الشعب" الذي يقع عليه الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي في كل جاهلية من جاهليات التاريخ. ولا ينبغي أن تخدعنا الصيحات والشعارات عن حقيقة الواقع، ولا ينبغي   1 سورة محمد: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 كذلك أن يخدعنا وجود بعض الأصوات "الحرة" في المجالس النيابية أو في الصحافة ووسائل الإعلام فهذا ذاته جزء من "فن" المسرحية كما أشرنا من قبل؛ لأن الرأسمالية التي بيدها السلطان -يهودية أو غير يهودية- تعلم أن هذه الأصوات المتناثرة لن تغير شيئا من الواقع ولن تحدث تعديلا حقيقيا في أدوار المسرحية المرسومة، وهي في الوقت ذاته دعاية ضخمة للديمقراطية التي من خلالها تتحقق كل مصالح الرأسمالية! فكلما ارتفعت هذه الأصوات "الحرة" اطمأنت الجماهير إلى اللعبة الدائرة واستنامت لها، وتركت أصحاب السلطان ينفذون من خلال اللعبة إلى كل ما يريدون! أما الحقوق والضمانات التي نالها الشعب فقد كانت -كما قلنا أكثر من مرة- ثمرة نضال الجماهير ولم تكن ثمرة الديمقراطية! وإذا كانت الرأسمالية قد تنازلت -مكرهة- عن بعض الفتات خوفا من ضياع الأصل كله، فلم يكن ذلك بفضل النظام البرلماني ذاته بقدر ما كان ذلك راجعا إلى نظام الرأسمالية "الحرة" واعتمادها على العامل الذي يتمتع بقسط محدود من الحرية لكي تتمكن هي من تحقيق الأرباح الفاحشة التي تحققها.. ولا تستطيع الرأسمالية الحرة أن تزيد سلطانها أكثر مما هو واقع في أيديها ... وإلا لفعلت! لأن الدكتاتورية التي تلزم العمال بالعمل تحت ضغط الحديد والنار لا يمكن أن تتم بصورة جماعية "أي: باجتماع الرأسماليين كلهم بعضهم مع بعض" لأنها تحتاج بطبيعتها إلى تركيز السلطة في يد فئة محدودة جدا من الناس. وعندئذ لا يستطيع الرأسماليون ذاتهم أن يوجدوا ولا أن يكون لهم سلطان وهم ألوف ومئات الألوف.. ومن هنا تجد الرأسمالية نفسها مكرهة -للمحافظة على وجودها ذاته- أن تسمح بهذا الفتات المتناثر للشعب، ويتم ذلك عن طريق هذه اللعبة الطريفة، لعبة الديمقراطية، تحقق بها الرأسمالية أكبر قدر متاح من الربح، وتترك للشعب كثيرا من المظالم وشيئا من الفتات! الظلم هو طابع الجاهلية التي يشرع فيها البشر للبشر بدلا من أن يتحاكم البشر كلهم إلى شريعة الله! إن المجتمع الجاهلي لا بد أن ينقسم بطبيعته إلى فئتين اثنتين: سادة وعبيد سادة في يدهم السلطان وفي يدهم التشريع وعبيد يقع عليهم السلطان ويقع عليهم التشريع. وأيا تكن طرافة اللعبة الديمقراطية فهي لا تستطيع أن تخفي هذه الحقيقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وهي أن الرأسماليين هم السادة، هم المشرعون، وأن الشعب هو العبيد الذين يقع عليهم عبء التشريع. حقيقة إن "العبيد" في ظل الديمقراطية الليبرالية هم في أفضل وضع وجد فيه العبيد في أية جاهلية من جاهليات التاريخ "بسبب طبيعة الرأسمالية الحرة -كما أسلفنا- وعجزها عن تحقيق الربح إلا عن طريق العامل الذي يتمتع بقسط محدود من الحرية" إلا أن هذا لا يغير حقيقة وضعهم، وهو أنهم عبيد.. عبيد مهما امتلكوا -في المسرحية الطريفة- من "مظاهر" الحرية! إن الحرية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق في أية جاهلية تحكم بغير ما أنزل الله1؛ لأن الحكم بغير ما أنزل الله هو الذي يقسم الناس إلى "أرباب" و"عبيد". أرباب يشرعون وعبيد ينفذون، ولا يملك العبيد حرية حقيقية إزاء الأرباب! إن رد "الحاكمية" لله، أي: التحاكم إلى شريعة الله وعدم التحاكم إلى أي شريعة أخرى غير شريعة الله، فضلا عن كونه من حق الله على عباده؛ لأنه من الخصائص الخالصة للألوهية: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 2 فإنه في الوقت ذاته هو الضمان الحقيقي لحرية البشر في الأرض، وعدم تحويل بعضهم إلى أرباب وأكثريتهم إلى عبيد لأولئك الأرباب. إن إخلاص العبودية لله وحده -سواء في إفراده بشعائر التعبد أو إفراده بالحاكمية- هو الذي يلغي في التو وجود الأرباب ويحرر الناس في الأرض من عبادتهم. فما دام الله وحده هو المعبود -سواء بتقديم الشعائر له وحده أو بتنفيذ شريعته دون كل الشرائع- فمن أين يوجد الأرباب الذين يتعبدون العبيد؟! كلا! لا يتحرر الناس الحرية الحقيقية في الأرض إلا حين يكون الله وحده هو المعبود، والناس كلهم- حكاما ومحكومين- عبيدا لله وحده دون شريك. عندئذ فقط يولد الناس أحرارًا ويظلون أحرارا إلى أن تنتهي آجالهم على الأرض، وعندئذ فقط يشعر الناس بالاستعلاء -استعلاء الإيمان- على كل قوة   1 الجاهلية -كما جاء استعمال اللفظ في القرآن الكريم -تنشأ أصلا من عبادة غير الله ومن الحكم بغير ما أنزل الله، ويجيء حكم الجاهلية مقابلا لحكم الله في مثل قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ؟! [المائدة: 50] . 2 سورة الأعراف: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 في الأرض بشرية كانت هذه القوة أو مادية أو اقتصادية؛ لأنهم يستمدون وجودهم وقوتهم من الله، والله أكبر.. أكبر من كل قوة في الوجود. عندئذ يحدث ما حدث في صدر الإسلام والعبودية خالصة لله وحده في كل مجال من مجالات الوجود. يقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقول: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا. فيقف له سلمان الفارسي يقول: لا سمع لك علينا اليوم ولا طاعة حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به! ويتحاكم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى القاضي شريح مع اليهودي الذي سرق درعه فيسأله القاضي: يا أمير المؤمنين! هل من بينة؟! فيقول علي كرم الله وجهه: صدق شريح! ما لي بينة! فيحكم القاضي بالدرع لليهودي تنفيذا لشريعة الله! ويستمتع بهذا العدل -الذي يولد الشعور بالحرية- حتى الذين لم يؤمنوا بهذا الدين, ولكنهم استظلوا بظله واستظلوا بعدالته، فيرحل القبطي من مصر إلى المدينة ليشكوا إلى عمر رضي الله عنه ضربة عصا لحقت بظهر ولده من ابن عمرو بن العاص حين غلبه الشاب القبطي في السباق ... وهو الذي كان إلى عهد جد قريب تلهب ظهره سياط الرومان فلا يحس بآدميته المسلوبة ولا يتحرك للشكوى ... ولمن يشكو حتى إذا أراد؟! ولكن العدل الرباني المتمثل في شريعة الله هو الذي جعل ضربة العصا توجع الكرامة وتحرك الرجل ألوف الأميال طلبا للنصفة ورفعا للظلم ... ويجاب الرجل إلى حقه تحقيقا لشريعة الله. كلا! لا تتحقق الحرية الحقيقية ولا المساواة الحقيقية ولا الإخاء الحقيقي إلا حين يكون الله وحده هو المشرع، ولا يكون للبشر حق التشريع من عند أنفسهم1. وكل ما ترفعه الديمقراطية من شعارات "الحرية والإخاء والمساواة" إن هو إلا شعارات! شعارات غير قابلة للتحقيق في عالم الواقع ما دام بعض البشر يشرعون وبعضهم الآخر -وهم أكثرية الناس- يخضعون للتشريع، وما دامت الأقلية التي تشرع إنما تشرع لمصالحها الخاصة على حساب الآخرين.   1 أشرنا من قبل أن اجتهاد المجتهدين في استنباط الأحكام فيما لا نص فيه يتم بإذن من الله, وهذا هو الذي يعطيه شرعيته فلا يعتبر تشريعا يشرعه الناس من عند أنفسهم كما تفعل الجاهليات، فضلا عن كونه محكوما بالأصول العامة للشريعة لا يخرج عن إطارها فلا يحل حراما حرمه الله ولا يحرم حلالا أحله الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وهب كل الناس شرعوا كما تزعم الديمقراطية في أقوالها النظرية، وهب كل الناس استطاعوا أن يوفقوا -في التشريعات التي يضعونها بأنفسهم- بين مصالح الحاكمين والمحكومين فزال الظلم، وزالت عبودية بعض البشر لبعض، وهو فرض جدلي بحت لا يمكن أن يتحقق ولم يتحقق في أي جاهلية من جاهليات التاريخ التي تحكم بغير ما أنزل الله، فهل تستقيم الحياة في الأرض على صورة صحيحة حين يكون البشر هم المشرعين؟! أليس البشر -كلهم في هذه المرة- هم الذين شرعوا فوضى الجنس؟! ودعك الآن من أن اليهودية الشريرة هي التي أوحت لأولئك البشر فشرعوا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} 1. دعك من هذه القضية؛ لأن خضوع الديمقراطية لليهودية الشريرة ليس عذرا لها فيما تفعل بل هو عيب رئيسي من عيوبها، ولكن خذ الصورة الظاهرة وهي أن هذه الفوضى تمر بالموافقة الإجماعية من الناس، سواء في المجالس النيابية أو في وسائل الإعلام أو في واقع الحياة ... فهل تستقيم الحياة بتلك الفوضى الجنسية التي شرعها البشر؟! أليس البشر -كلهم في الديمقراطية- هم الذين شرعوا الربا؟! ودعك مرة أخرى من أن اليهودية الشريرة هي التي دفعت الناس دفعا إلى تشريع الربا.. فخضوع الناس في هذا الأمر لليهودية العالمية ليس عذرا لهم بل هو وزر يحملونه أمام الله يوم القيامة، وهو -أو مثله- الذي قال الله فيه عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2. أي: أطاعوهم في التحليل والتحريم بغير ما أنزل الله كما قال العلماء والمفسرون في تفسير هذه الآية3. دعك من هذا وخذ واقع الحياة في الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية، تجد أن الربا يمر بموافقة إجماعية بغير اعتراض.. فهل استقامت الحياة بالربا الذي أحله البشر؟! أليس البشر -كلهم في الديمقراطية- هم الذين وافقوا على "تحرير" المرأة؟!.   1 سورة الأنعام: 112. 2 سورة التوبة: 31. 3 انظر ابن كثير والطبري والقرطبي وابن تيمية وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ودعك مرة ثالثة من أن اليهودية الشريرة هي التي وسعت تلك القضية ولعبت بها لإفساد المجتمع البشري كله، فإن اليهودية الشريرة ما استطاعت أن تفعل ذلك إلا في مجتمع متفسخ أدار ظهره للهدي الرباني فركبته الشياطين.. وخذ الصورة الظاهرة وهي أن "المرأة المتحررة" ... المتحررة من الدين والأخلاق والتقاليد بل من الحياء الفطري ذاته، تمر بموافقة البشر كلهم ورضاهم وطلبهم للمزيد من "التحرر"!.. فهل استقامت الحياة حين تحررت المرأة على هذه الصورة التي شرعها البشر؟! وخذ مئات من التشريعات التي شرعها البشر -كلهم في الجاهلية المعاصرة- وانظر آثارها في حياتهم، الجنون والقلق والأمراض النفسية والعصبية والانتحار وإدمان الخمر والمخدرات والجريمة وتشرد الأطفال وجنوحهم ... إلى جانب الفردية الجامحة، وتفكك الأسرة وتفكك المجتمع وقتل المشاعر الإنسانية وتحويل الإنسان إلى حيوان آلي، تدير الآلة نصف حياته وتدير بقيتها الشهوات! ذلك كله حين يشرع البشر لأنفسهم، ولو شرعوا كلهم مجتمعين متناسقين بلا تظالم ولا صراع! ذلك أن البشر -بطبيعتهم- يتصفون بالقصور والجهل والعجز عن الإحاطة والعجز عن رؤية النتائج الكاملة المترتبة في المستقبل على أعمالهم الحاضرة، فحين يتجاوزون الاجتهاد فيما أذن الله بالاجتهاد فيه1, ويحلون ويحرمون بغير ما أنزل الله, تقع تلك الفوضى الضاربة أطنابها، ويقع ذلك الشقاء المرير الذي يملأ وجه الأرض.. وهكذا يتبين لنا أن قضية "من المعبود؟ " ليست قضية غيبية خاصة بالآخرة كما يصورها الجاهليون المحدثون، ولكنها -بالإضافة إلى كونها متعلقة بالآخرة- قضية من صميم هذه الحياة الدنيا؛ لأنه يترتب عليها تقرير "من المشرع؟ " أي: من واضع منهج الحياة للناس.. وأنه حين لا يكون الله هو المعبود وحده بلا شريك تختل الحياة الدنيا بجملتها ويقع الناس في الخبال. فإذا قومنا الديمقراطية بهذا الميزان فكيف تكون النتيجة؟! الله هو المعبود في الديمقراطية الليبرالية وحده دون شريك؟! أم هناك   1 أذن الله بالاجتهاد للمؤمنين فقط؛ لأنهم أهل لذلك بإيمانهم وتوقيرهم لله وتحكيمهم لشريعته، أما غير المؤمنين فلا إذن لهم؛ لأنهم لا يعترفون أصلا بشريعة الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 عشرات من الآلهة الزائفة تعبد مع الله أو من دون الله؟ وكلاهما سواء، فإن عبدت مع الله فهو الشرك، وإن عبدت من دون الله فهو الكفر ... والشرك والكفر كلاهما كفر! حقا إن هناك ألوفا من الكنائس تفتح أبوابها يوم الأحد لتستقبل المصلين, ودع الآن جانبا ما في العقيدة الكنسية من التحريف، ودع جانبا كذلك مئات الملايين الذين لا يذهبون إلى الصلاة أصلا ولا يعترفون بوجوبها عليهم.. وانظر إلى هذا المصلي الذي جاء يحضر الصلاة بدافع من "التدين" ما رأيه في الربا؟! ماذا لو قام أحد يخبره أن الربا حرام، ويدعوه إلى استنقاذ أمواله من الربا وعدم التعامل به في الأخذ والعطاء؟ كم تكون سخريته؟ وكيف يكون جوابه؟ إن الجواب الوحيد الذي يرد به الغربي على هذه الدعوى هو أن الربا مسألة اقتصادية بحتة والدين لا علاقة له بالاقتصاد. وما رأيه في علاقات الجنس؟ ماذا لو قال له أحد الناس إن هذه العلاقات كلها حرام إلا الزواج الشرعي، ودعاه ليعدل سلوكه ويعدل عن "الصداقات" التي يمارسها ... فماذا يكون جوابه..أو جوابها لو كانت فتاة؟! إن الفتاة الأمريكية تقول بملء فيها إن الجنس مسألة "بيولوجية" لا علاقة لها بالدين ولا علاقة لها بالأخلاق! الله هو المعبود في الديمقراطية الليبرالية؟ أم عشرات من الآلهة المزيفة تحكم حياة الناس وتتحكم فيها؟ الدولار إله1 والإنتاج إله. والصالح القومي إله، والمجتمع إله. و"الرأي العام" إله، العقل إله, والعلم إله، والإنسان إله. والآلة إله. و"المودة" إله. والشهوات إله. والهوى إله2. كلها تعبد مع الله أو من دون الله، وكلها تعطي إجابة حاسمة بالنسبة للقضية الكبرى في حياة الإنسان، قضية المعبود: هل هو الله أم شيء آخر غير الله.. كلها تقول إن المعبود في الديمقراطية الليبرالية ليس هو الله. أما القضية الثانية فهي قضية إنسانية الإنسان ...   1 يقول صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدنيار"، والناس اليوم في كثير من أقطار الأرض عبيد للدولار. 2 يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [سورة الجاثية: 23] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وكما ألغت الجاهلية المعاصرة اليوم الآخر من حس الناس لكيلا تفقد شرعية وجودها من أول لحظة، وألغت الإيمان بالله لكي لا يعوق "مصالحها" ومخططاتها.. فكذلك ألغت كل معيار حقيقي لإنسانية الإنسان لذات الدوافع وذات الأسباب! لو أقرت الجاهلية المعاصرة أن الإنسان يختلف عن الحيوان منذ البدء في أن له عقيدة واعية في الله، وقدرة على الإيمان بما لا تدركه الحواس "أي: الإيمان بالغيب" وأن أعماله -كلها- تحمل قيمة خلقية ناشئة من أن له طريقين لا طريقا واحدا كالحيوان، وقدرة على التمييز بين الطريقين وقدرة على الاختيار، ومن ثم يوصف علمه بأنه خير أو شرير، بينما لا يوصف بذلك عمل الحيوان.. لو أقرت بذلك فكيف تبرر كل ممارساتها التي تقيمها على أساس حيوانية الإنسان؟ ولو أقرت بذلك فكيف تفعل بمخططاتها ومصالحها؟! كيف يتحقق للرأسمالية ربحها الحرام، القائم أساسا على الفصل الكامل بين العمليات الاقتصادية وبين الدين والأخلاق؟ وكيف يتحقق لليهودية مخططها في استحمار الأمميين وتسخيرهم لشعب الله المختار؟ كيف يتحقق للرأسمالية ربحها من الربا، ومن الصناعات التافهة التي تميع الطباع وتفسد الأخلاق، ومن الحروب التي تثيرها من أجل إيجاد أسواق لتصريف فائض الإنتاج. وكيف يتحقق لليهودية مخططها في إفساد الرجل والمرأة وشغلهما بمقاذر الجنس عن تنشئة أطفال صالحين يقومون في شبابهم بإرساء قواعد الحق والعدل وإرساء قواعد الأخلاق؟ وكيف تقوم بتفكيك روابط الأسرة والمجتمع، وشغل البشرية كلها بجنون الجنس وجنون السينما وجنون التليفزيون وجنون الكرة وجنون "المودة" وجنون "التقاليع"..؟ كلا! إنها لا يمكن أن تقر بذلك؛ لا لأنه ليس حقيقة في ذاته؛ ولكن لأن الإقرار به يفقدها شرعية وجودها على التو، ويضر أيما إضرار بمخططاتها ومصالحها. وإذن فلتقل أي شيء تميع به القضية وتبعد حقيقتها عن الأذهان. فلتقل إن الحضارة المادية هي مقياس إنسانية الإنسان! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 فلتقل إن مقدار استهلاك الإنسان للكهرباء هو مقياس إنسانية الإنسان1. فلتقل إن "حرية" الإنسان في أن يفعل كل ما بدا له هو مقياس إنسانية الإنسان! أو فلتقل إنه لا يوجد مقياس ثابت لقياس إنسانية الإنسان. أو فلتقل صراحة إن الإنسان ليس بإنسان. المهم أن تكتم الحقيقة عن الناس حتى لا يستيقظوا لحقيقتهم: أنهم فقدوا إنسانيتهم بالفعل، وأصبحوا أولئك الحمير الذين يريدهم -ليركبهم- شعب الله المختار! ولكن الإسلام -دين الله الحق- يقرر الحقيقة ويبرزها ويؤكد عليها: أن الإنسان خلق إنسانا من أول لحظة. وكلف تكاليف الإنسان، فحمل "الأمانة" التي أشفقت من حملها السموات والأرض والجبال، وأنه يحافظ على إنسانيته طالما ظل حاملا للأمانة، ويفقدها حين يتخلى عن حملها. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 2. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} 3. {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} 4. {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} 5. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 6. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 7! {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ   1 في كتاب: "في النفس والمجتمع" فصل بعنوان "حضارة الكيلو واط"! 2 سورة البقرة: 30. 3 سورة ص: 71-72. 4 سورة هود: 61. 5 سورة الأحزاب: 72. 6 سورة الذاريات: 56. 7 سورة الأعراف: 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1. {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 2. {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} 3. {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} 4. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 5. {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} 6. {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} 7. {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ} 8. هذا هو الإنسان، وهذا مقياس إنسانيته. إنه ليس حيوانا، إنما هو إنسان من أول لحظة، ومهمته محددة من أول   1 سورة البقرة: 38, 39. 2 سورة الشمس: 7-10. 3 سورة النساء: 36. 4 سورة آل عمران: 17. 5 سورة المؤمنون: 1-11. 6 سورة الشورى: 37-39. 7 سورة الرعد: 20, 21. 8 سورة الأنعام: 162, 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 لحظة. إنه الخليفة في الأرض، المسيطر فيها، والمهيمن عليها، القائم بعمارتها، ولكن بمقتضى المنهج الرباني المستمد من الهدي الذي يتنزل من عند الله لتنظيم حياة البشر على الأرضو وضبطها بالضوابط الصحيحة لتستقيم. وتلك هي"الأمانة" التي حملها الإنسان وأشفقت من حملها بقية الخلائق التي تخضع لأمر الله بالقهر ولا تقوم بعمل إرادي، أما الإنسان الذي وهب الإرادة والإدراك والقدرة على العمل والإنشاء والتعمير، والقدرة على الاختيار، فمهمته -أو الأمانة الملقاة على عاتقه- هي عبادة الله طوعا, وتعمير الأرض بمقتضى منهج الله، وهو "إنسان" طالما هو قائم بهذه الأمانة، أي: عابد لله وحده بلا شريك، ومعمر للأرض بمقتضى المنهج الرباني المتمثل في الحكم بما أنزل الله، والالتزام بما جاء من عند الله. ومواصفاته -أو ضوابط إنسانيته ومعاييرها- هي هذه الصفات الواردة في الآيات من خشوع في الصلاة وإعراض عن اللغو، وأداء للزكاة، وضبط لشهوة الجنس، ورعاية للأمانة والعهد، وصبر وصدق وقنوت وإنفاق واستغفار, ومغفرة عند الغضب، وقتال ضد البغي ... إلخ.. إلخ. هذا مقياس ثابت لإنسانية الإنسان لا يطرأ عليه التغيير. وكحقيقة إن هناك متغيرات كثيرة في حياة البشرية تنشأ من التفاعل الدائم بين العقل البشري والكون المادي، واستخلاص طاقات الكون وتسخيرها لمصلحة الإنسان، ولكن هذه المتغيرات كلها لا تغير القيم الثابتة التي تحكم حياة الإنسان، بل ينبغي أن يحكم الثابت المتغير لكي تستقيم الحياة على الأرض ولا تنفلت الأمور من عقالها فيصيب البشرية الخبل والاضطراب. فهذه الطاقات أولا مسخرة من عند الله للإنسان. {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 1. والجهد الذي يقوم به الإنسان لتحقيق هذا التسخير والأدوات التي يستخدمها، هي من عند الله كذلك: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2.   1 سورة الجاثية: 13. 2 سورة النحل: 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 والشكر يقتضي استخدام هذه الطاقات كلها بمقتضى أوامر المنعم الوهاب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن استخدام هذه الطاقات يغير "الصورة" التي يحيا بها الإنسان على الأرض ولكنه لا يغير "الجوهر" الإنساني من حيث تكوينه الأصيل ولا من حيث مهمته في الأرض. ومن ثم لا تتحكم الصورة المتغيرة في الجوهر الثابت، إنما يتحكم الجوهر الثابت في الصورة المتغيرة على الدوام1. يقول "رينيه دوبو" في كتاب "إنسانية الإنسان": "عاش رجل "كروماجنون Cro-Magnon" في أكثر أنحاء أوروبا قبل حوالي ثلاثين ألف سنة، قبل قيام الزراعة وحياة القرية بفترة طويلة، ومع أنه كان صيادا بصورة رئيسية فقد كان -على ما يظهر- مشابها لنا جسما وعقلا. فأدواته وأسلحته تناسب حجم أيدينا الآن، وفنه في كهوفه يثير مشاعرنا، والعناية التي كان يوليها لدفن موتاه تكشف أنه شاركنا بشكل ما في الاهتمام بنهاية الإنسان وآخرته، وكل أثر مدون من آثار إنسان ما قبل التاريخ يوفر شواهد أخرى للفكرة القائلة إن الخواص الأساسية للجنس البشري لم تتغير منذ العصر الحجري2. وهكذا لا يتغير جوهر الإنسان بتغير الصورة التي تكون عليها حياته، ومن ثم لا تتغير كذلك ضوابطه ومعاييره. وحقيقة إن التقدم العلمي والمادي والتكنولوجي هو ذاته معيار من معايير "الإنسان" فقد أنشأ الله الإنسان ليعمر الأرض وسخر له ما في السموات وما في الأرض ليقوم بعملية التعمير، فإن توانى في ذلك أو تقاعس فهو مقصر في جنب من جوانب إنسانيته، ولكن هذا المعيار ليس هو المعيار الأوحد، ولا هو المعيار الأول، وإنما يأتي في مكانه الطبيعي بعد تقرير المبادئ والقيم التي تتوقف عليها إنسانية الإنسان. والفارق بينه وبين المعايير الأخرى -معايير القيم والمبادئ- أن القيم والمبادئ يمكن أن تشكل إنسانا ولو كان ناقصا في جانب التقدم العلمي والمادي والتكنولوجي، فهو "إنسان" ولكن ينقصه جانب   1 انظر -إن شئت- تفصيلا لهذه القضية في كتاب "التطور والثبات في حياة البشرية". 2 ص71 من الترجمة العربية، تعريب الدكتور نبيل صبحي الطويل، الطبعة الأولى عام 1399هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، و"رينيه دوبو" أستاذ بجامعة روكفلر بنيويورك متخصص في علم الحياة، حصل على جائزة نوبل في العلوم عام 1976، والذي يعطي شهادته وقيمتها أنه يدلي بها من زاوية علمية بحتة، لا فلسفية ولا أدبية ولا دينية!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 من الجوانب ينبغي عليه استكماله ليستكمل إنسانيته، أما التقدم العلمي والمادي والتكنولوجي -بغير قيم ومبادئ- فلا يشكل إنسانا على الإطلاق! ومصداق ذلك هو "إنسان" القرن العشرين! الذي هو أقرب شيء إلى "إنسان الغاب"1. إنه في قمة التقدم العلمي والمادي والتكنولوجي ... ولكنه بمقياس الإنسانية هابط إلى الحضيض. إذا قومنا الديمقراطية الليبرالية بالمعيارين اللذين يقوّم بهما الإسلام حياة البشر على الأرض، وهما قضية العبادة وقضية إنسانية الإنسان، فماذا تكون يا ترى حصيلتها في الميزان؟! فأما العبادة فقد تبين لنا أنه ليس الله هو المعبود في تلك الديمقراطية إنما هو الشيطان، وحيثما لا يكون الله هو المعبود فالمعبود هو الشيطان, وإن تعددت السبل وتعددت المسميات. {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 2. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 3. {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} 4. والطاغوت هو كل شيء أو شخص أو نظام يعبد الناس لغير الله، أو يتعبده الناس من دون الله، وعبادته فرع من عبادة الشيطان. وأما إنسانية الإنسان فأين هي على وجه التحديد في الدوامة الوحشية التي يعيش فيها الإنسان الجاهلي المعاصر؟ أهي في مباءة الجنس المتدنية إلى أدنى من بعض أنواع الحيوان؟ 5.   1 إنسان الغاب اسم اصطلاحي لنوع من القردة يعرف علميا باسم "الأورانج أوتان" وسمي إنسان الغاب؛ لأنه يستطيع أن يقف مددا طويلة منتصب القامة كالإنسان ولكنه قرد وليس بإنسان! 2 سورة يس: 60, 61. 3 سورة الأنعام: 153. 4 سورة البقرة: 257. 5 بعض أنواع الحيوان -كالجمال- تأبى ممارسة الجنس في مكان مكشوف، بينما يقع ذلك من "الإنسان" في الجاهلية المعاصرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 أهي في إدمان الخمر والمخدرات؟ أهي في الجريمة التي تتزايد نسبتها على الداوم؟ أهي في تفاهة الاهتمامات والبحث الدائم عن المتاع الحسي الغليظ؟ أهي في العبودية للآلة التي أصبحت هي التي تتحكم في حياة الإنسان؟ أهي في شريعة الغاب: القوة هي الحق، والقوي يأكل الضعيف؟ أهي في المواثيق التي تبرم لتنقض والعهود القائمة على الخداع؟ أهي في هذا المسخ المشوه الذي فقد إشراقة الروح وعاطفة الإنسان؟! حقا.. هناك الضمانات والحقوق التي ترتبط اليوم بالديمقراطية وتشكل جانبا بارزا من جوانبها ... ولا شك -كما قلنا- أنها تمثل نقلة كبيرة انتقلها "الإنسان" في مسيرته التاريخية على الأرض، ولكن الشر الذي يحيط بهذا الخير الجزئي, هو في الديمقراطية الليبرالية من الضخامة بحيث يذهب في النهاية بكثير من نفع هذا الخير؛ لأنه يدمر "الإنسان" كله في نهاية المطاف، فلا يجدي -حين يسقط الإنسان كله إلى الحضيض- أننا كنا قد رفعنا جانبا من حياته إلى المستوى اللائق بالإنسان! وليس معنى ذلك أننا ننقص من قيمة تلك الضمانات والحقوق بحال من الأحوال، إنما الذي نعنيه أنها تكون في وضعها الطبيعي، وتتحول إلى خير شامل، حين يكون الإنسان بكامله على مستوى الإنسان.. وهو ما عجزت تلك الديمقراطية عجزا فاضحا عن تحقيقه، أو قل إن شئت إنه لم يُرد لها أن تحققه منذ البدء؛ لأن تحقيقه لا يُمَكِّن الجاهلية الرأسمالية من الوجود فضلا عن التضخم، ولا يمكن شعب الله المختار من ركوب الأمميين كما يشتهون! هناك وضع واحد تتحقق فيه كل الضمانات والحقوق التي جاءت بها الديمقراطية على المستوى الأرفع، مع المحافظة الكاملة على إنسانية الإنسان ... ذلك حين يكون الإنسان عابدا لله، مطبقا لشريعة الله، أي: حين يحقق الإنسان الإسلام! عندئذ تتحقق الكرامة الحقيقية للإنسان، وتتحقق له كل الحقوق والضمانات التي وهبها الله للإنسان لتحقق له كرامته في واقع الأرض. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1.   1 سورة الإسراء: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ... " 1. فيقرر الله أصل الكرامة لبني آدم، ويقرر الرسول -صلى الله عليه وسلم- حرمة الدماء والأموال والأعراض تحقيقا لتلك الكرامة في عالم الواقع، في التعامل الذي يجري بين الناس، ثم تتوالى التوجيهات الربانية وتوجيهات الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتحديد مجالات تلك الكرامة على أوسع نطاق عرفته البشرية في تاريخها. يأمر الله ألا تنتهك حرية المسكن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} 2. والتجسس كذلك حرام. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا ... } 3. ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة ... " 4. وعن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة5. ولا يجوز استراق السمع على الشخص أو مسكنه أو أحاديثه أو كشف سر من أسراره أو الاطلاع على رسائله بغير أذنه. يقول صلى الله عليه وسلم: "لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته   1 رواه الشيخان. 2 سورة النور: 27, 28. 3 سورة الحجرات: 12. 4 رواه البخاري وغيره. 5 رواه البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح" 1. ويقول صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه: لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته فيفضحه ولو في داخل بيته" 2. ولذلك ذكر بعض الفقهاء، أنه لا يجوز التجسس على الإنسان ولا متابعته للكشف عن أسراره ولا دخول مسكنه لتفتيشه إلا بتوفر شرطين: الأول: ظهور أدلة وعلامات وقرائن على وجود جريمة معينة. الثاني: أن يكون في ترك البحث والكشف ودخول المنزل انتهاك حرمة يفوت استدراكها، كأن يأتي الخبر بأن رجلا خلا برجل ليقتله, أو بامرأة ليرتكب فاحشة، فإذا لم يكن الأمر بحيث يفوت استدراكه فلا يجوز البحث والكشف ودخول المنزل. وفضلا عن ذلك فإن الناس لا يؤخذون بالظنة، دون وجود تهمة جادة من مصدر موثوق به، لقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 3 كما لا يؤخذ إنسان بجريرة غيره لقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 4, وتقييد حرية الإنسان غير جائز إلا بحكم شرعي يصدره القاضي. فالأصل في الإنسان ضمان حريته في السكن والحركة والتنقل لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} 5. وتقييد الحرية بغير حكم شرعي -أي: بما يسمى الاعتقال أو الحبس الاحتياطي- غير جائز في الإسلام على خلاف بين الفقهاء بالنسبة لبعض أنواع المتهمين. فالمتهمون في عرف الفقهاء ثلاثة أنواع: النوع الأول: متهم معروف بالتقوى والبر يبعد أن يكون من أهل تلك التهمة فلا يجوز حبسه من أجل التهمة، بل ذهب كثير من العلماء إلى أن المدعى عليه   1 رواه النسائي. 2 رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه. 3 سورة الحجرات: 6. 4 سورة فاطر: 18. 5 سورة الملك: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 إن ظهر كذب دعواه يعاقب سواء قصد أذاه أو لم يقصد، وذلك منعا لتسلط أهل الشر والعدوان، والسفهاء على أعراض أهل البر والصلاح. النوع الثاني: المتهم المجهول الحال الذي لا يعرف ببر ولا فجور، وهذا اختلف العلماء في سجنه احتياطيا عند وجود تهمة موجهة له، فرأى الجمهور جواز حبسه حتى ينكشف أمره، ورأى البعض عدم جواز حبسه، فأما الذين يرون جواز حبسه فقد قيدوا ذلك بالضرورة، وبوجود أسباب قوية تدعو إلى ذلك، ثم اختلفوا في مدة الحبس فحددها بعضهم بيوم وبعضهم بيومين وبعضهم بثلاثة أيام.. وأوصلها بعضهم إلى شهر كحد أعلى مع التقييد بالضرورة. النوع الثالث: المتهم المعروف بالفجور والفساد والسيرة الإجرامية، وهذا يرى جمهور الفقهاء أن يحبس حبسا احتياطيا حتى تثبت براءته إن كان بريئا، وإن كان بعض الفقهاء كابن حزم لا يرى جواز حبس أي إنسان على الإطلاق بناء على مجرد الاتهام؛ لأن الأصل في الإنسان براءة الذمة. ولأن الأصل براءة الذمة لا يحلف المتهم في القضايا الجنائية المتعلقة بحق الله تعالى، بل يذهب بعض العلماء على عدم تحليف المتهم في القضايا الجنائية المتعلقة بحق العبد "انظر مثلا الطرق الحكمية لابن القيم، ط. دار الكتب العلمية ببيروت، ص100-104". أما الإكراه على الاعتراف فغير جائز بحال. ولا خلاف بين الفقهاء في أن الضرب والتعذيب والحبس والقيد داخله كلها في الإكراه، وإن اختلفوا في التهديد والوعيد فرأى الجمهور أنه داخل في الإكراه، ورأى البعض أنه لا يكون إكراها إلا إذا صدر من قادر على تنفيذه، وغلب على ظن المتهم وقوع ما هدد به إذا لم يقر، وكان المهدد به ضارا بحيث يعدم الرضا أو يفسده، وكون المتهم عاجزا عن مقاومته. ولا يعتبر إقرار المكره صحيحا لقوله -صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" , ولقول عمر رضي الله عنه: "ليس الرجل بأمين على نفسه إذا جوعته أو ضربته أو أوثقته" "انظر المغني والشرح الكبير ج8/ ص260-262، ج10 ص172 طباعة دار الكتاب العربي ببيروت 1392هـ -1972م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 تلك ضمانات الاتهام وضمانات التحقيق في الإسلام1. أما ضمانات المحاكمة فقد قررها الإسلام قبل أربعة عشر قرنا. الضمانة الأولى والكبرى هي: الحكم بشريعة الله التي يتمثل فيها العدل الرباني الشامل {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 2. ولا يقضي القاضي بالحد إلا إذا استوثق تماما أن المتهم غير معذور في الجرم الذي ارتكبه، وإلا فالحكم هو درء الحد بالشبهة لقوله -صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات" 3. "سرق غلمان لابن حاطب ابن أبي بلتعة ناقة لرجل مزني فأتى بهم عمر فأقروا فأمر كثير ابن الصلت بقطع أيديهم، فلما ولى رده، وقال لابن حاطب: والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم فتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه، لحل له، لقطعت أيديهم، فإذ لم أفعل فلأغرمنك غرامة توجعك.. ثم التفت إلى المزني فقال: يا مزني! بكم أريدت منك ناقتك؟ قال بأربعمائة، قال عمر لابن حاطب: اذهب فأعطه ثمانمائة! "4. فحكم عمر رضي الله عنه أولا بدرء الحد لقيام شبهة الجوع دافعا للسرقة. وحكم ثانيا بعقاب "الفاعل الأصلي" وهو صاحب الغلمان الذي استخدمهم ولم يشبعهم فدفعهم الجوع إلى السرقة، فغرمه ضعف ثمن الناقة. كما أوقف عمر حد السرقة عام الجوع تطبيقا للمبدأ ذاته: "ادرءوا الحدود بالشبهات". ومن الضمانات أن القاضي لا يقضي بعلمه, وإنما بالقرائن والأدلة وشهادة الشهود العدول. ولا يقضي القاضي وهو غضبان، ولا يقضي وهو معرض لأي عارض يؤثر في قدرته على الحكم الصحيح. وكذلك ضمانات التنفيذ قررها الإسلام، وزاد فيها ضمانة لم يتضمنها أي قانون أرضي حتى هذه اللحظة وهي رد الاعتبار الكامل للمجرم بعد تطبيق الحد عليه. فأما في التنفيذ فلا يجوز تعدي العقوبات المقررة شرعا، قال صلى الله عليه   1 رجعت في الكلام عن ضمانات الاتهام وضمانات التحقيق إلى بحث لم ينشر للدكتور محمد سعد الرشيد الأستاذ بقسم القضاء بجامعة أم القرى بعنون "حقوق الإنسان في الإسلام". 2 سورة المائدة: 44. 3 رواه عبد الله بن عباس.. ورد في كتاب الكامل لابن عدي وفي مسند الإمام أبي حنيفة للحارثي. 4 رواه الطبراني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وسلم: "من جلد حدا في غير حد فهو من المعتدين" 1. وأما فيما بعد التنفيذ فيكفي هذان المثالان لتقرير تكريم الإسلام للإنسان وإن هبط في لحظة عابرة ما دام قد كفر عنها بالعقوبة التي وقعت عليه وبالتوبة إلى الله. "حدثنا قتيبة بن سعيد.. عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أترى برجل قد شرب فقال: "اضربواه"، قال أبو هريرة: فما الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان" 2. وجاء في قصة ماعز بن مالك: "فأمر به فرجم، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه الخبيثة حتى رجم رجم الكلب.. فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجليه، فقال: "أين فلان وفلان؟ " , فقالا: نحن ذان يا رسول الله. قال: "انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار"! فقالا: يا نبي الله من يأكل من هذا؟! قال: "فما نلتما من أخيكما آنفا أشد من أكل منه". تلك ضمانات الإسلام التي سبق بها الديمقراطية بأكثر من ألف عام. وأما الحقوق فقد قررها الإسلام كذلك في وقت مبكر كانت أوروبا والعالم كله يعيش في الظلمات. فأما الحقوق السياسية التي تفاخر بها الديمقراطية فقد كان الإسلام أول من أزال "القداسة" عن الحاكم بإفراد الله بالألوهية والربوبية، فلا يعبد إلا الله ولا تطبق شريعة إلا شريعة الله. جاء الإسلام والحكام ذوو قداسة حقيقية لا مجازية، بعضهم توجه إليه شعائر التعبد كقيصر وكسرى، وكلهم يشرعون فتسري شريعتهم في الرعية أمرا غير مردود. وجاء الإسلام ليقول: لا إله إلا الله. ولا معبود إلا الله ولا حاكم له حق التشريع إلا الله. وعندئذ تقررت الحرية السياسية الحقيقية للناس.   1 رواه الطبراني. 2 رواه الطبراني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ليست الحرية كامنة في مجلس نيابي أو عملية تصويت شعبية، إذا كان نتيجة ذلك كله أن تتحكم فئة معينة من الناس في رقاب بقية الناس، إنما الحرية الحقيقية مرتبطة بتحديد من له حق التشريع.. فإذا كان البشر هم الذين يشرعون فلا حرية في الحقيقة إنما عبودية مقنعة من جانب وربوبية زائفة من جانب.. وإذا كانت الحاكمية لله فهنا يتجرد الحكام من الربوبية ويصبحون عبيدا لله كبقية العباد. إن الذي جاء به الإسلام أعظم بكثير في تقرير حرية الإنسان من كل ما أتت به الديمقراطية بعد الصراع الممتد الذي قامت به الشعوب لاستخلاص حقوقها من الطغاة، فما زال الحكام في الديمقراطية -من وراء ستار- يشرعون، فيشرعون لمصالحهم على حساب الآخرين، من خلال المسرحية الطريفة المتمثلة في حق الانتخاب وحق الترشيح ووجود نواب وبرلمانات. إن الذي صنعه الإسلام هو سلب الحكام أصلا حق التشريع، وبذلك وحده تكف أيديهم عن إيقاع الظلم بالمحكومين، وبذلك وحده يتحرر الناس فيشعرون بالعزة الحقيقية إزاء الحكام. لقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 1. فقال أبو بكر الخليفة الأول رضي الله عنه: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم, فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم" وقال مثل ذلك عمر رضي الله عنه. ووقف عمر رضي الله عنه يخطب الناس فقال: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا، فقال له سلمان الفارسي: لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة! فلم يغضب عمر العربي القرشي أمير المؤمنين لهذه المقالة من سلمان الفارسي. ولم يأمر بالقبض عليه واعتقاله، إنما قال له: ولمه؟ قال سلمان: حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به وأنت رجل طوال لا يكفيك البرد الذي نالك كبقية المسلمين! فلا يغضب عمر العربي القرشي أمير المؤمنين مرة أخرى من هذه المقالة من سلمان، إنما ينادي ابنه عبد الله فيقول له: ناشدتك الله هذا البرد الذي ائتزرت به أهو بردك؟ فيقول: نعم! ثم يقول موجها خطابه للناس: إن   1 سورة النساء: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 أبي رجل طوال لا يكفيه البرد الذي ناله كبقية المسلمين، فأعطيته بردي ليأتزر به! عندئذ يقول سلمان: الآن مر نسمع ونطع! ولم يكن سلمان متمردا على السمع والطاعة الواجبة للحاكم المسلم، إنما كان يريد فقط أن يستوثق -لله- من كون عمر رضي الله عنه قائما بتنفيذ شريعة الله على الوجه الأكمل, وكان عمر يعلم دافع سلمان إلى مساءلته فيرضى -لله- بهذه المساءلة التي لم يقبلها على نفسه حاكم في الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية ولا في غيرها من نظم الحكم على الإطلاق! ويقول عمر: إذا أحسنت فأعينوني، وإذا أسأت فقومني! فيقول له سلمان: والله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيف، فيقول عمر -راضيا لله- الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقومه بحد السيف!! تلك هي الحرية السياسية في الإسلام! منشؤها عبادة الله وحده دون شريك، التي يترتب عليها نزع القداسة عن الحكام في الأرض. كما يترتب عليها نزع حق التشريع من الحكام بستار أو بغير ستار.. فيحس المؤمن الذي يعبد الله حق عبادته بعزة الاستعلاء التي تسنده أمام الحكام. خطب عمر الناس فقال: لا تغالوا في المهور. فقامت له امرأة من عامة المسلمين فقالت: يوسع الله وتحرج أنت؟! إن الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} ! قال عمر: أخطا عمر وأصابت امرأة! وصحيح أن الله قد ترك أمورا للاجتهاد البشري، يضع البشر فيها تشريعات تلائم ما يجد من الأحوال، ولكن هذه أولا محكومة بالأصول العامة للشريعة وليست متروكة للهوى البشري كما يحدث في الديمقراطيات.. وهي ثانيا اجتهادات يقوم بها أولو العلم من فقهاء الأمة الذين يقر الناس لهم بالقدرة على الاجتهاد، وليست لأي إنسان يفتي فيها بعلم أو بغير علم كما يحث في البرلمانات عند التصويت على أي قرار، إذ تؤخذ القرارات بأغلبية الأصوات، وتتكافأ أصوات الذين يعلمون والذين لا يعلمون! وتبقى الأمور الجارية التي تدخل في باب "السياسة" وهذه يلزم الحاكم أن يستشير فيها ثم يتحمل مسئوليته بعدالاستشارة؛ بشرط ألا يخالف نصا من الكتاب والسنة أو ما أجمع عليه العلماء، ولا يصادم أصلا من أصول الشريعة العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أما حق التعليم فقد نص عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نصا، بل جعله فريضة: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" 1 "وعلى كل مسلمة؛ لأنها داخلة في النص" ودون الدخول في تفصيل ما يكون من العلم فرض عين وما يكون فرض كفاية، فإن التعليم لم تكن له مشكلة في العالم الإسلامي، إلا في العصور المتأخرة حين بعد الناس عن حقيقة الإسلام. أما في عصور الازدهار فقد كان الإقبال شديدا على التعليم، وكانت الدولة والمجتمع والأفراد يتعاونون في توفير العلم لكل راغب مجانا، بلا تكاليف، بل كانت الدولة تجري المعاشات للطلاب لتعينهم على طلب العلم دون مشغلة بأمر القوت، وكانت أوقاف المسلمين الذين يقفون أموالهم على التعليم تكفل المأوى والملبس والمطعم للطلاب فضلا عن التعليم2. أما حق العمل أو الإعاشة الذي أكرهت الدول الديمقراطية عليه إكراها بسبب المطالبة المستمرة من العمال, وبسبب الخوف من الشيوعية، فقد قرره الإسلام ابتداء دون مطالبة من أحد، ودون صراعات في المجتمع. وضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- قواعد مسئولية الدولة عن جميع رعاياها إما بإعطائهم فرصة كريمة للعمل، وإما بإعالتهم من بيت المال. جاءه رجل يسأله فأعطاه دراهم, وقال له: "اذهب فاشتر حبلا وفأسا واحتطب وبع ما تحتطب للناس". ثم أمره أن يعود إليه ليخبره بما كان من أمره. وكان يوزع أموال الزكاة والغنائم والفيء على المحتاجين بمقتضى قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} 3. {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 4. {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 5.   1 رواه ابن ماجه. 2 ظل الأزهر يفتح أبوابه لطلاب العلم ألف سنة كاملة معتمدا على أوقاف المسلمين ومثل الأزهر كثير من الجامعات الإسلامية القديمة في العالم الإسلام كله. 3 سورة التوبة: 60. 4 سورة الأنفال: 41. 5 سورة الحشر: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ورغم قلة الموارد في أول أيام الدولة الإسلامية فإن المبدأ قد تقرر واضحا محددا وهو أن الدولة مسئولة عن جميع رعاياها بقدر ما تسمح مواردها، وعلى الرغم من أن التكافل في الإسلام ليس مهمة الدولة وحدها، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بالتكافل في داخل الأسرة وحدد لذلك نظاما دقيقا توزع التركات بمقتضاه، كما وزع التكاليف داخل الأسرة بحيث تشمل مجموع أفرادها، كما أمر بالتكافل في داخل المجتمع، وحض القادرين على كفالة غير القادرين.. على الرغم من ذلك فإن مسئولية الدولة ظلت قائمة، لا يسقطها عنها وجود التكافل في داخل الأسرة وفي داخل المجتمع، بل تصل الحساسية في قلب عمر رضي الله عنه أن يقرر مسئولية الدولة لا عن الآدميين الذين يستظلون بظلها فحسب، بل عن كل كائن حي، فيقول قولته الشهيرة: لو عثرت بغلة بالعراق "أو قال بصنعاء" لكنت مسئولا عنها لِم لم أسو لها الطريق! ثم يصل الأمر في أيام عمر بن عبد العزيز أن يقول يحيى بن سعيد: بعثني عمر على صدقات إفريقية فاجتبيتها بحثت عن فقراء أعطيها لهم فلم أجد فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس! فاشتريت بها عبيدا فأعتقتهم! وجاء في كتاب "الأموال" للإمام الحافظ أبي عبيد القاسم بن سلام المتوفى عام 224هـ "ص357, 358" وحدثي سعيد بن أبي مريم عن عبد الله بن عمر العمري عن سهيل بن أبي صالح عن رجل من الأنصار قال: كتب عمر بن العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن -وهو بالعراق- "أن أخرج للناس أعطياتهم" فكتب إليه عبد الحميد، "إني قد أخرجت للناس أعطياتهم وقد بقي في بيت مال المسلمين مال" فكتب إليه: "أن انظر كل بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه" فكتب إليه: "إني قد زوجت كل من وجدت وقد بقي في بيت مال المسلمين مال" فكتب إليه بعد مخرج هذا: "أن انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين". وجاء فيه "ص738": "قال: حدثني يحيى بن بكير قال: سمعت الليث بن سعد يقول: كتب عمر بن عبد العزيز: "أن اقضوا عن الغارمين". فكتب إليه: "إنا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس والأثاث" فكتب عمر: "إنه لا بد للمرء المسلم من مسكن يسكنه وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، ومن أن يكون له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الأثاث في بيته، نعم! فاقضوا عنه فإنه غارم! ". إلى هذه الدرجة العجيبة يصل الإسلام في تقرير مبدأ مسئولية الدولة عن جميع أفرادها، ويصل التنفيذ العملي في صدر الإسلام لهذا المبدأ قبل أن يثور الثائرون ويطالبوا بهذه الحقوق بأكثر من ألف عام، وما تزال الديمقراطيات -رغم كل خوفها من الشيوعية، وكل خوفها من تمرد العمال- لا تصل إلى تقرير هذا الحق كاملا كما قرره الإسلام. وأما حق التعبير عن الرأي فإن الإسلام لم يكفله حقا للناس على حكامهم بل جعله واجبا على الناس لله! يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ورسوله وخاصة المسلمين وعامتهم" 1 فجعل إبداء النصيحة واجبا. وإبداء النصحية هو التوجيه إلى الصواب والنهي عن الخطأ أيا كان الذي وقع الخطأ منه حاكما أو محكوما، وهذا -في صورته الدينية- هو هو التعبير عن الرأي الذي سعت الشعوب لانتزاعه انتزاعا من قبضة الحكام الكارهين، مع فارق رئيسي, أنه هنا إبداء الرأي مخلصا لله، لتقويم ما اعوج من أحوال المجتمع، لا احترافا للتأييد أو احترافا للمعارضة بحسب موقع الحزب الذي ينتمي الإنسان إليه من الحكم! ولا لهوى شخصي أو بغض شخصي. ويطلب الإسلام من كل مسلم أن يكون له موقف ويكون له رأي، ليتمكن مجموع الأمة من القيام بأخطر مهمة تقوم عليها خيرية الأمة واستحقاقها للوجود وللفلاح، بينما تقع اللعنة على الأمة إن أهملتها، ألا وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 2. {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3. وفي الجانب الآخر:   1 رواه مسلم. 2 سورة آل عمران: 110. 3 سورة آل عمران: 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 1. ولذلك يطلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المسلم ألا يكون إمعة، لا رأي له ولا موقف سوى مجاراة "الرأي العام"!! يقول عليه الصلاة والسلام: "لا يكن أحدكم إمعة، يقول إذا أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسنوا أو أساءوا ألا تظلموا" 2. وهذا كله بطبيعة الحال ضد مصلحة "الحكام" ما لم يستقيموا على النهج! فليس من مصلحة الحكام أن تكون شعوبهم متيقظة لأعمالهم، مبادرة بنقد الخاطئ منها عن طريق "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ولكن الإسلام لا يعمل لمصلحة الحكام كما تعمل الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية لصالح الرأسمالية رغم كل المسرحية الطريفة -مسرحية الحرية- إنما يعمل الإسلام لمصلحة كل الناس؛ لأنه نزل لهداية كل الناس، وليقوم الناس كلهم بالقسط: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} 3. بل يشدد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شأن توجيه النصح للحكام -لا مجرد إبداء الرأي من أجل إبداء الرأي فحسب كما تصنع الديمقراطية في أكثر أحوالها -فيقول صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا.." 4. ويقول صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" 5. وهكذا يتبين أن ما جعلته الديمقراطية حقا مكتسبا وناضلت الشعوب من أجله، جعله الإسلام واجبا، وقرره قبل الديمقراطية بأكثر من ألف عام، وقرره على طريقة أفضل وأصدق وأعمق ... كل شيء قرره الإسلام.   1 سورة المائدة: 87-79. 2 رواه الترمذي. 3 سورة الحديد: 25. 4 رواه أبو داود والترمذي. 5 رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ولكن الإسلام أعطى هذه الضمانات والحقوق كلها مع المحافظة التامة على إنسانية الإنسان. وهنا مفرق الطريق بين الإسلام والجاهليات جميعا، ومن بينها هذه الديمقراطيات! لقد كرم الله الإنسان ابتداء كما أسلفنا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1. وكل ما فرضه الإسلام من الفرائض والتكاليف، وكل ما قرره من الحقوق والواجبات منظور فيه إلى "تزكية" الإنسان، وهي جزء من التكريم المراد للإنسان، بل هي قمة ذلك التكريم. فعبادة الله وحده دون شريك -فضلا عن كونها حقا لله على عباده- هي في الوقت ذاته تزكية للإنسان وتكريم، فالإنسان كما قلنا آنفا عابد بطبعه لابد أن يعبد، ولا يوجد إنسان لا يعبد، إنما الفارق بين إنسان وإنسان يأتي من توجيه العبادة إلى الله الحق، أو توجيهها إلى إله زائف لا يستحق أن توجه العبادة إليه. والإنسان في أعلى حالاته وأكرم حالاته حين يكون عابدا لله الحق، وهو أسفل سافلين حين ينتكس من عبادة الله إلى عبادة غير الله من الآلهة المدعاة، التي تهبط بالإنسان من إنسانيته المكرمة، فيصبح كالدابة التي لا تعي، بل يصبح أسوأ وأضل: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} 2. فعبادة الله الواحد، وإفراده بالألوهية والربوبية التي يفرضها الإسلام حقا خالصا لله تعالى، هي في الوقت ذاته رفعة للإنسان وتكريم، وفلاح في الدنيا والآخرة سواء، وتزكية ترفع الإنسان إلى عليين: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} 3. {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي   1 سورة الإسراء: 70. 2 سورة الأعراف: 179. 3 سورة البقرة: 257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 1. {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 2. {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ..} 3. فمن باب رفع الإنسان إلى مقام الإنسانية الكريمة يربط الإسلام قلوب المؤمنين بالله، ويججعل صيانة العقيدة والمحافظة عليها أول واجبات الإمام المسلم والدولة المسلمة. ومن باب رفع الإنسان إلى مقام الإنسانية الكريمة كذلك يربي الإسلام المسلمين على الأخلاق الفاضلة التي تنظف المشاعر وتنظف السلوك، وتنفي عن النفس خبثها، وتصونها عن التردي إلى مستوى الحيوان، فيفرض النظافة في الأعمال كلها: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته"4. فإذا كان الأمر أمر عبادة موجهة إلى الله فالإسلام يطهرها من الرياء والنفاق، وإن كان أمر معاملات تجري بين الناس بعضهم وبعض فقد فرض الإسلام فيها النظافة الكاملة في كل شيء. وفي التعامل المالي حرم الربا والاحتكار والسرقة والغصب والنهب والسلب والغش والخديعة وأكل مال الأجير، كما لعن السرف والترف وكنز المال5.. في التعامل السياسي حرم الظلم الناشئ أصلا من قيام البشر بالتشريع لأنفسهم، كما حرم كل تعامل لا يقوم على العدل. في التعامل الاجتماعي حرم الغيبة والنميمة والغمز واللمز والتجسس، كما بغض في الفرقة والتباغض والتحاسد، واهتمام كل إنسان بنفسه وعدم المبالاة بالآخرين6.   1 سورة الأنعام: 122. 2 سورة العصر. 3 سورة المعارج: 19-22. 4 انظر فصلا بعنوان "وليرح ذبيحته" في كتاب "قبسات من الرسول". 5 هذه كلها هي أدوات الرأسمالية في التضخم. 6 هذه الأخيرة هي سمة الحياة الغربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" 1 "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" 2. "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" 3. في التعامل الجنسي حرم الفاحشة بجميع أنواعها وحرم ما يؤدي إلى الفاحشة من خلوة أو تبرج أو تكسر أو خلاعة أو اختلاط بغير موجب. في كل شيء هناك أخلاق.. وهذا هو اللائق بالإنسان. وحين يكرم الإسلام الإنسان على هذا النحو، وينظف مشاعره وسلوكه على هذه الصورة، فإنه يعطيه ما أعطاه من حقوق وضمانات، فتكون في مكانها الطبيعي، تكملة للتكريم، وتوكيدا للتكريم، لا كالذي تصنعه الديمقراطية الليبرالية، التي تعطي بالفعل الضمانات والحقوق ولكنها تدمر الإنسان كله في نهاية المطاف. هذا هو الإسلام، وهذه هي الديمقراطية في نظر الإسلام. ومن ثم فلا سبيل إلى مزج الإسلام بالمديمقراطية، ولا سبيل إلى القول بأن الإسلام نظام ديمقراطي! أو أنه يتقبل النظام الديمقراطي أو يسايره، لمجرد وجود شبه عارض في بعض النقاط! إن هذا الالتقاء العارض بين الديمقراطية والإسلام في الحقوق والضمانات وفي مبدأ الشورى لا يجوز أن ينسينا حقيقتين مهمتين: الحقيقة الأولى: أنه لا ينبغي لنا -من الوجهة العقيدية- أن نقرن النظام الرباني إلى نظام جاهلي، فضلا عن أن نحاول سند النظام الرباني بنسبته إلى النظام الجاهلي، أو أن نتصور أننا نمتدح النظام الرباني بأن نقول إنه يحمل نقط التقاء مع النظام الجاهلي! إنها الهزيمة الداخلية تَنْدَس إلى أفهامنا دون أن نحس، وتجعلنا نعتقد أن النظام الرباني في حاجة إلى دفاعنا نحن عنه وتبريره! كما تجعلنا نعتقد أننا نمتدح النظام الرباني بأن نقول للناس إنه يحتوي على الفضائل التي تحتوي عليها النظم السائدة اليوم!   1 رواه الحاكم والطبراني. 2 رواه الشيخان. 3 متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 إنها الهزيمة التي أصابت المسلمين في مواجهة الغرب الظافر المتغلب، الذي غلب على بلاد الإسلام، وما كانت لتوجد في نفوسنا لو أننا واثقون في أنفسنا مستعلون بالإيمان كما وجهنا الله. {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. الهزيمة التي نشأت في الحقيقة من الخواء الذي أصاب المسلمين في القرون الأخيرة ... الخواء من حقيقة الإسلام ... فلما جاءت الهزيمة العسكرية أمام الغرب كانت كالضربة القاضية التي بهرت المهزومين وهزتهم من الأعماق. وما كانوا لينبهروا -رغم الهزيمة العسكرية- لولا ذلك الخواء الداخلي من حقيقة الإسلام2. إنه لا ينبغي لنا من الوجهة العقيدية أن نقرن الإسلام إلى الجاهلية في أي صورة من صورها، إلا إذا قلنا كما قال الله في كتابه المنزل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 3. والحقيقة الثانية: أن هذا الشبه العارض في بعض النقاط لا يجوز أن ينسينا الفارق الضخم في القاعدة، إن القاعدة التي يقوم عليها الإسلام تختلف اختلافا جذريا عن القاعدة التي تقوم عليها الديمقراطية. في الإسلام يُعبد الله وحده دون شريك، وتحكم شريعة الله عنوانا على التوحيد، وتحقيقا له في عالم الواقع، وفي الديمقراطية يعبد غير الله، وتحكم شرائع البشر عنوانا على عبادة غير الله وتوكيدا لها في عالم الواقع. وفي الإسلام يزكى الإنسان ليحتفظ بإنسانيته في أحسن تقويم وفي الديمقراطية ينكس الإنسان فيهبط أسفل سافلين. تلكفروق جوهرية في القاعدة، فما قيمة اللقاء العارض في بعض النقاط أيا كانت القمية الذاتية لتلك النقاط؟! على أننا -من الوجهة التاريخية البحتة- لا يجوز أن نقرن الإسلام إلى الديمقراطية وهو سابق على تلك الديمقراطية بأكثر من ألف عام! إنما ينبغي   1 سورة آل عمران: 139. 2 سنتحدث عن أسباب هذا الانبهار في كتاب لاحق بعنوان "واقعنا المعاصر" نتحدث فيه عن أسباب انتشار المذاهب الهدامة في العالم الإسلامي. 3 سورة المائدة: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 -إن أردنا! - أن نقول إن الديمقراطية هي التي تحمل بعض المشابه من الإسلام في بعض النقاط، لا إن الإسلام هو الذي يحمل مشابه من الديمقراطية, فاللاحق هو الذي يلحق بالسابق في عرف التاريخ! وفي العالم الإسلامي كتاب ومفكرون ودعاة مخلصون مخدعون في الديمقراطية، يقولون نأخذ ما فيها من خير ونترك ما فيها من شرور. يقولون نقيدها بما أنزل الله، ولا نبيح الإلحاد ولا نبيح التحلل الخلقي والفوضى الجنسية. إنها إذن لن تكون الديمقراطية..إنما ستكون الإسلام!! إن الديمقراطية هي حكم الشعب بواسطة الشعب، إنها تولي الشعب سلطة التشريع، فإذا ألغي هذا الأمر أو قيد بأي قيد فلن تكون هي الديمقراطية التي تقوم اليوم بهذا الاسم. واسألوا الديمقراطيين! قولوا لهم. نريد أن نحكم بما أنزل الله، ولا يكون للشعب ولا ممثليه حق وضع القوانين إلا فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة ولا إجماع من علماء المسلمين. قولوا لهم: نريد أن ننفذ حكم الله في المرتد عن دينه، وحكم الله في الزاني والسارق وشارب الخمر ... قولوا لهم: نريد أن نلزم المرأة بالحجاب، ونمنع التبرج ونمنع العري على الشواطئ وفي الطرقات، وفي الوقت ذاته أن نكون ديمقراطيين! اسألوهم وانظروا ماذا يقولون! سيقولون على الفور: إن هذه ليست الديمقراطية التي نعرفها.. ففي الديمقراطية يشرع الناس في جميع الأمور لا يلتزمون في شيء منها بغير ما يريده الشعب "نظريا على الأقل, وإن كانت الحقيقة كما أسلفنا أن الرأسماليين هم الذين يشرعون من وراء الستار! " سيقولون إن الديمقراطية لا تتدخل في "الحرية الشخصية" للأفراد! فمن شاء أن يرتد عن دينه فهو حر! ومن شاء أن يتخذ صديقة أو خليلة فهو حر. ومن شاءت أن تكشف عن صدرها أو ظهرها أو ساقيها فهي حرة! ومن شاءت أن تخون زوجها فهي حرة ما لم يشتك الزوج! سيقولون: ابحثوا عن اسم آخر لما تريدون..اسم غير الديمقراطية! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 فإذا كان كذلك لماذا نُصِرُّ نحن على تسمية نظامنا الذي نريده باسم الديمقراطية؟! لماذا لا نسميه الإسلام؟! ويقول بعض الناس مخلصين: إنما نريد أن يلتزم الحاكم -المسلم- برأي الشعب فيما ليس فيه نص ... وهذا هو لب الديمقراطية الذي نريد أن نطعم به الحكم الإسلامي، لنمنع طغيان الحكام! وما نريد هنا أن ندخل في الخلاف الفقهي القائم حول الشورى في الإسلام وهل هي ملزمة لولي الأمر أم غير ملزمة.. فهذا يخرج بنا عن موضوع الكتاب ... إنما نقول فقط إن هذا أمر اجتهادي ليس فيه نص.. فالنص يلزم بالشورى ذاتها، ولكن لا يوجد نص يقول إن الشورى ملزمة أو غير ملزمة. ولذلك اختلف الفقهاء. وما دام الأمر اجتهاديا فمن حق أي جيل من أجيال المسلمين أن ينظر فيه، وينظر في وجه المصلحة فيه ... فيوم نكون جادين في تطبيق الإسلام، فعندئذ يجتمع علماء الأمة وينظرون في الأمر، ويقررون على ضوء الظروف القائمة وقتها إن كانت المصلحة تقتضي جعل الشورى ملزمة أو غير ملزمة ... وتلتزم الأمة وحكامها بما يراه علماؤها المجتهدون، فإذا رأى علماء الأمة أن المصلحة تتحقق بالتزام الحاكم بنتيجة الشورى كان هذا الاجتهاد ملزما لأولياء الأمور. أما أن نستعير "ترسا" من آلة أجنبية عن الإسلام لنركبه في النظام الإسلامي لمجرد ظننا أنه صالح ومفيد، فليس هذا هو التفكير السديد، إن الإسلام نظام متكامل. وحاجات المسلمين ومصالحهم تتحقق من داخل النظام لا من خارجه، فلنعزم أولا أن نكون مسلمين حقا، ملتزمين بما أنزل الله، ثم لننظر بعد ذلك ما يفتح الله به علينا من الحلول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 1. وينظر أناس إلى البغي والطغيان القائم في بلاد الإسلام فيقولون: أليست الديمقراطية خيرا من البغي؟ على الأقل نستطيع أن نتنفس ونحن آمنون! لا يجيء حاكم فيعتقل من يعتقل، ويعذب من يعذب، ويقتل من يقتل دون أن   1 سورة العنكبوت: 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 يجرؤ أحد على معارضته بسبب عدم وجود نظام ديمقراطي، فلو أننا اتخذنا الديمقراطية -مع تحكيم شريعة الله- أمنا من طغيان الحكام. ويبدو هذا القول وجيها لأول وهلة.. ففي النظم الديمقراطية القائمة في الغرب لا يطغى الحكام بهذه الصورة، ولا يعتقلون الناس بعشرات الألوف، ولا يعذبونهم في السجون، ولا يقتلون أحدا بالتعذيب داخل الأسوار، مما تعرض له الدعاة المسلمون في أكثر من مكان من العالم الإسلامي. ولكن القضية إذا أنعمنا النظر فيها لا تبدو بهذه الوجاهة التي تبدو عليها للوهلة الأولى. فلا يوجد نظام في الأرض -حتى النظام الرباني- يعمل من تلقاء نفسه دون قيام البشر على حراسته، أو يعطي الضمانات للناس دون أن يحرص الناس على التمسك بهذه الضمانات. والديمقراطية ليست نظاما آليا يحمل ضماناته في طياته ويطبقها من ذات نفسه! إنما هي -ككل نظام- تعتمد على البشر الذين يقومون بالتطبيق. وانظر إلى تاريخ الديمقراطية في بلادها التي تطبقها وتتمتع بضماناتها. إنه تاريخ نضال مستمر وثورات ودماء! والذي أعطى الضمانات -كما أشرنا أكثر من مرة في هذا الفصل- لم يكن هو الديمقراطية في ذاتها، إنما كان نضال الشعب وثورته على الظلم، وتحمله التضحيات والضحايا في سبيل الحصول على حقوقه، وبهذا النضال نال الشعب ما نال من حقوق وضمانات. ولكن تعال الآن فحاول تطبيق الديمقراطية في بلاد لم تناضل ولم تتجه للنضال من أجل الحريات والضمانات والحقوق، فماذا تفعل الديمقراطية للناس؟! هل تصون لهم حقوقهم وتعطيهم ضماناتهم؟ إن الديمقراطية ليس ثوبا يشترى جاهزا ويلبس، إنما ينبغي أن يفصل تفصيلا على قد لابسه! لا بد من "المعاناة" التي تعطي ثمرة التجربة! حين ثار المصريون ثورتهم "الوطنية"1 عام 1919، كان تشرشل وزيرا في وزارة المحافظين القائمة يومئذ في بريطانيا، فجاءت أخبار الثورة في الصحف فسأل تشرشل: ماذا يريدون؟ "يعني المصريين" قالوا له: يريدون دستورا وبرلمانا! فقال تشرشل: أعطوهم لعبة يتلهون بها Give them a toy   1 كانت ثورة إسلامية في منشئها ولكن سعد زغلول حولها إلى ثورة وطنية "انظر فصل "القومية والوطنية" فيما يلي من الكتاب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 to play with وكانت كلمة صادقة من ذلك الداهية الساخر المتغطرس الخبيث. ولست أقول إن النظم الطغيانية التي حلت محل تلك الديمقراطيات المزيفة هي خير منها! كلا! وألف مرة كلا! فالطغيان الذي يعتقل عشرات الألوف ويعذبهم أبشع تعذيب عرفته البشرية، ويقتل منهم من يقتل في محاكمات صورية أو داخل الأسوار بالتعذيب، هو شر خالص لا خير فيه. ولكني أقول فقط إن البديل ليس هو الديمقراطية إنما هو الإسلام! فإذا كانت العودة إلى الإسلام اليوم تحتاج إلى جهاد طويل وتضحيات، وإلى تربية جادة على حقائق الإسلام, فإن الديمقراطية كذلك! إنها لن تعطي ثمارها -في الجانب الخير منها- إلا بجهاد وتضحيات، وتربية جادة تربي جيلا من الناس يحرص على حريات الديمقراطية وضماناتها، ويأبى أن تزيف إرادته التزييف الغليظ الذي كان يحدث باسم الديمقراطية في بلادنا، وإلا فستظل لعبة يتلهى بها الناس كما قال ذلك الخبيث. فإذا كان لا بد من التربية في الحالتين, ولا بد من الجهاد والتضحيات في الحالتين، أفليس الأولى أن يكون الجهد في سبيل الخير الحقيقي، الخير الذي لا يعود على المسلمين وحدهم إنما يعود على البشرية جمعاء، وهو خير الدنيا والآخرة في ذات الوقت؟! ولقائل أن يقول، إن التاريخ السياسي الإسلامي مليء بالمظالم، وهو يحمل اسم الإسلام. ونقول نعم! إن هذا صحيح! ولكن ما سببه على وجه التحديد؟! ظلم من الحكام.. نعم ... ولكن أين كانت الأمة الإسلامية؟ ولماذا سكتت على الظلم، ولم تأطر حكامها على الحق أطرا كما أمرها زعيمها وقائدها صلى الله عليه وسلم؟ إنها استنامت للظلم تفريطا في حقوقها وواجباتها التي قررها الإسلام.. أفلو كانت الديمقراطية هي الحاكمة بدلا من الإسلام كان المفرطون لا يفرطون؟! وهل الأمة التي ضيعت الإسلام كانت ستحافظ على الديمقراطية؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 إن القضية أن هذه الأمة تحتاج أن تربى من جديد على حقيقة الإسلام.. وبغير ذلك لا ينصلح حالها ولا يستقيم. ومن كان يرى أن مشوار الإسلام مشوار طويل، وأن مشوار الديمقراطية أقصر منه وأيسر، فنحن نقول له إن الديمقراطيات ذاتها في سبيلها إلى الانهيار، بما تحمل في طياتها من عوج وانحراف قائم في أصل النظام. وسيبقى الإسلام. سيبقى لأنه دين الحق ... ولأن الله تكفل بحفظه.. ولأنه هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذ البشرية كلها من ضلالها البعيد الذي لجت فيه ... ولأن هناك مؤمنين بهذا الدين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا، والله هو الذي وعدهم بالتمكين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} 1.   1 سورة النور: 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الشيوعية مدخل ... تمهيد: ليست الشيوعية مذهبا اقتصاديا بحتا كما يتبادر إلى ذهن كثير من الناس حين يسمعون لفظة الشيوعية، وإن كان لها ولا شك مذهب اقتصادي محدد متميز، إنما هي تصور شامل للكون والحياة والإنسان ولقضية الألوهية كذلك، وعن هذا التصور الشامل ينبثق المذهب الاقتصادي، ثم إنها من جهة أخرى مذهب اقتصادي واجتماعي وسياسي وفكري مترابط متشابك لا يمكن فصل بعضه عن بعض. ومن ثم فلا يمكن عزل المذهب الاقتصادي وحده بعيدا عن التصور الشامل الذي ينبثق عنه، أو بعيدا عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والفكرية المصاحبة له. وسواء كان التصور الذي تنبثق عنه هذه الأوضاع جميعا سليما في ذاته أو غير سليم.. وسواء كان الوضع الاقتصادي وحده هو الأصل الأصيل والأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية المصاحبة له مجرد انعكاس له كما تقول النظرية الشيوعية، أم كانت الأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية أصيلة في صدورها عن التصور الشامل كأصالة الوضع الاقتصادي كما نزعم نحن.. ففي جميع الحالات لا يمكن فصل المذهب الاقتصادي وحده، وعزله عن التصور الشامل الذي انبثق عنه، ولا عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والفكرية المصاحبة له، كما أنه لا يمكن تركيبه على تصور آخر، ولا على أوضاع سياسية واجتماعية وفكرية مغايرة، وليس هذا خاصا بالشيوعية إنما هو من طبيعة كل تصور, وكل أوضاع ناشئة عن ذلك التصور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وليس معنى هذا أن التصور الواحد لا يمكن أن ينبثق عنه إلا صورة اقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية واحدة محددة السمات والتفصيلات. فسوف نرى في أثناء العرض والمناقشة أن ذلك غير صحيح، ولكن الذي نعنيه أن هناك اتجاهات عامة تربط بين المذهب الاقتصادي السياسي الاجتماعي الفكري وبين التصور الذي ينبثق عنه ذلك المذهب. وأن هذه الاتجاهات العامة لا بد أن توجد في كل صورة من الصور الاجتماعية السياسية الاقتصادية الفكرية التي يمكن أن تنبثق عن ذلك التصور, وإن اختلفت فيما بينها في الدرجة أو في التفصيلات والسمات الخاصة. وبديهي أن التصور الشيوعي للألوهية والكون والحياة والإنسان هو تصور مادي بحت.. فهم يسمون نظريتهم العامة "المادية الجدلية" ويسمون تفسيرهم للتاريخ "التفسير المادي للتاريخ" ومن أقوالهم: لا إله. والكون مادة. وحدة العالم تنحصر في ماديته. المادة سابقة في الوجود على الفكر. لم يكن هناك وقت لم تكن المادة موجودة فيه، وليس هناك وقت لا تكون المادة موجودة فيه ... الإنسان نتاج المادة. الفكر نتاج الدماغ والدماغ مادة ... إلخ. وحين نتكلم عن الشيوعية فلا بد أن نتكلم عن أمور ثلاثة رئيسية هي: المادية الجدلية والمادية التاريخية، والمذاهب الاقتصادي الشيوعي مع الأوضاع السياسية والاجتماعية المصاحبة له. ولكنا نحب أن نشير في هذا التمهيد إلى أن ماركس -أو الشيوعيين بصفة عامة- ليسوا هم الذين ابتدعوا الاتجاه المادي، وإنما الحق أنهم قمته ومنتهاه. وليسوا هم الذين ابتدعوا "الجدلية" تفسيرا للحياة البشرية أو الوجود عامة بما فيه الكون المادي والحياة البشرية، إنما "الجدلية المادية" أو "المادية الجدلية" هي التي يمكن أن تعتبر ابتداعهم الخاص. الاتجاه المادي قديم في الحياة الأوروبية قدم النهضة الأوروبية إن لم نقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 إن له جذورا أعمق من ذلك في بعض اتجاهات الفلسفة الإغريقية القديمة واتجاهات الحياة الرومانية قبل المسيحية. وقد قامت النهضة الأوروبية كما سبق أن بينا على أساس معاد للدين.. كما أنها رجعت إلى الأصول الإغريقية الرومانية تستمد منها، بدلا من الأصول الدينية المسيحية التي كانت منسلخة منها منقلبة عليها. وحين قامت النهضة انقلب اتجاه التفكير في أوروبا من ناحيتين اثنتين على الأقل، كلتاهما تعضد الأخرى, فقد كان الفكر الأوروبي في فترة المسيحية الكنسية قائما على أصول دينة -بصرف النظر عما وقع فيها من تحريف عن الأصل الصحيح- أي: إن مصدرها -في حسهم- هو الله والوحي الرباني؛ ثم إن هذا الفكر كان متجها إلى الآخرة على أساس أن الخلاص الحقيقي هناك. وأنه لا خلاص في الحياة الدنيا ... أما فكر النهضة فقد كان "إنسانيا" من جهة، وموجها إلى الحياة الدنيا من جهة أخرى. إنساني لا بمعنى أنه مشغول بالقيم العليا الإنسانية أو "بالإنسان" كما ينبغي أن يكون في صورته الكريمة اللائقة بإنسانيته، ولكن بمعنى أن الإنسان -وليس الله- هو الذي ينبغي أن يكون مصدر المعرفة، وأن الفكر الإنساني -لا الوحي الرباني- هو المرجع الذي يرجع إليه الإنسان في النظر إلى أمور حياته ومتطلباتها، وفي الوقت ذاته كان هذا الفكر موجها إلى النظر في الحياة الدنيا ومقتضياتها لا إلى الآخرة ومقتضياتها. يقول رايوبرث عن عصر النهضة: "وامتاز ذلك العصر بشعور الإنسان فيه بشخصيته المطلقة وبمعارضته للسلطة وذويها، وذهابه شوطا بعيدا في اعتبار العالم كله وطنا له.. وقد أعلت النهضة شأن الطبيعة الإنسانية والحياة الدنيوية مخالفة في ذلك طريقة التفكير في القرون الوسطى.. ولذلك يسمى العلماء الذين خصصوا أنفسهم لدراسة آداب اليونان والرومان والعلوم عند القدماء "الإنسانيين" ... وكان من خير ما أحدثه هؤلاء الإنسانيون "نمو الفردية" أعني الرأي القائل بأن الإنسان ينبغي أن يفكر بنفسه لنفسه، وهو رأي كان قد أهمل في عصر عبودية العقل1.   1 كتاب مبادئ الفلسفة، ترجمة محمد أمين - دار الكتاب العربي بيروت ص119, 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ويقول جرين برينتون عن الحركة الإنسانية وفنونها: "إنه طالما كانت العصور الوسطى في الواقع عصورا دينية، وطالما أن عصر النهضة يعني على الأقل محاولة العودة إلى الوثنية اللادينية إن لم نقل الزندقة. فإن فن العصور الوسطى يرتبط بالكنسية، أما فن عصر النهضة فيتمتع بحرية بوهيمية.."1. وهذا الاتجاه المنسلخ من الدين، المتجه إلى المادية، لم يقفز دفعة واحدة من الروحانية الدينية إلى المادية اللادينية، ولا استقام نحو هدفه في طريق واحد خال من الذبذبات. ولكنه كان في كل قفزة يتجه إلى المادية أكثر، ويبعد عن الله أكثر، وإن عاد فهي عودة مؤقتة سرعان ما يتخلص منها ويمضي مبعدا في الطريق المنسلخ عن الدين. فقد انفصلت الفلسفة عن الدين بادئ ذي بدء ونبذت البحث فيما "وراء الطبيعة" كما كانوا يطلقون على أمور الغيب المتعلقة بالله سبحانه وتعالى وخلقه لهذا الكون، والغاية من هذا الخلق، والوحي الرباني المتضمن للقيم الدينية التي ينبغي أن يتبعها الإنسان من أجل الخلاص في الآخرة, واتجهت الفلسفة إلى دراسة "الطبيعة" والكون المادي، والإنسان باعتباره كائنا موجودا في الطبيعة، لا بوصفه كائنا قد خلقه الله لغاية معينة وهدف يؤديه، وكان التقدم العلمي الذي حدث منذ بدء النهضة أحد العوامل الهامة التي ساعدت على اتجاه الفكر الأوروبي ذلك الاتجاه من خلال المذهب العقلي والتجريبي. يقول برينتون عن المذهب العقلي: "فالمذهب العقلي يتجه إلى إزالة الله وما فوق الطبيعة من الكون ومن الوجهة التاريخية، فإن نمو المعرفة العلمية وازدياد الاستخدام البارع للأساليب العلمية يرتبط بشدة مع نمو الوضع العقلي نحو الكون2. ويقول الدكتور محمد البهي عن المذهب التجريبي: "إن تحصيل الإنسان للحقائق الكونية ومعرفته بها لا يكون إلا بالتجربة الحسية وحدها، ومعنى ذلك أن الحس المشاهد لا غيره هو مصدر المعرفة الحقيقية اليقينية، ففي العالم الحسي تكمن حقائق الأشياء، أما انتزاع المعرفة   1 كتاب منشأ الفكر الحديث - ترجمة عبد الرحمن مراد ص27. 2 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 مما وراء الظواهر الطبيعية الحسية، والبحث عن العلة في هذا المجال، فأمر يجب أن يرفض، ولهذا تكون كل نظرية أو كل فكرة عن وجود له طابع الحقيقة فيما وراء الحس نظرية أو فكرة مستحيلة"1. وهكذا يتفق المذهب العقلي مع المذهب التجريبي في البعد عن الله وتجنب البحث عن الغاية من الخلق، والنظر في "الطبيعة" بدلا من النظر فيما وراء الطبيعة, أي: في عالم الحس بدلا من عالم الغيب. ثم كان نيوتن ونظرياته خطوة دافعة على الطريق! فقد اكتشف نيوتن بعض ما سمي عندهم "قوانين الطبيعة" التي يجري الكون المادي بمقتضاها، وكشف عما يسمى عندهم "قانون السببية" أي: القانون الذي يفسر ظواهر الطبيعة بردها إلى أسبابها الظاهرة، وقد كان هذا في أوروبا ذريعة لنفي الأسباب غير الظاهرة وغير المحسوسة. أي: نفي الأسباب الغيبية2. يقول برينتون: "إن السببية تهدم كل ما بنته الخرافات والإلهامات والمعتقدات الخاطئة في هذا العالم" ويمضي فيقول: "الإله في عرف نيوتن أشبه بصانع الساعة. ولكن صانع هذه الساعة الكونية -ونعني بها الكون- لم يلبث أن شد على رباطها إلى الأبد، فبإمكانه أن يجعلها تعمل حتى الأبد، أما الرجال على هذا الأرض فقد صممهم الإله كأجزاء من آلته الضخمة هذه ليجروا عليها، وإن ليبدو أن ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذه الساعة الكونية الضخمة، الذي لا يستطيع إذا ما أراد التدخل في شئون عمله"3!! ويقول: "ولكن ثمة أناس ذهبوا إلى أبعد من ذلك واعتبروا فكرة الإله فكرة شريرة, وخاصة إذا ما كان إله الكنيسة الكاثوليكية, وأطلقوا على أنفسهم بكل فخر اسم الملحدين، وهم يعتقدون أن ليس ثمة وجود لمسيح أو لإله المسيحية، ويقولون إن الكون ليس إلا مجموعة متحركة ذات نظام معين يمكن فهمه باللجوء إلى السببية المعتمدة على أسس العلوم الطبيعية"4.   1 الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ص279. 2 انظر حديثنا عن السببية ودورها في الفكر الأوروبي في فصل "العقلانية" من هذا الكتاب. 3 منشأ الفكر الحديث ص151. 4 المصدر السابق 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ويقول راندال: "إن لأقرب إلى الطبيعي والمعقول أن نشتق من صور المادة كل شيء موجود؛ لأن كل حاسة من حواسنا تبرهن على وجودها، ونختبر كل لحظة نتائجها بأنفسنا، ونراها فاعلة متحركة، تنقل الحركة وتولد القوة دون انقطاع، من أن نعزو تكون الأشياء لقوة مجهولة ولكائن روحي لا يستطيع أن يخرج من طبيعته ما ليس هو بذاته، كائن يعجز بحكم الجوهر المنسوب إليه أن يفعل أي شيء أو أن يحرك أي شيء1!! هكذا سار الاتجاه المادي الملحد بخطوات حثيثة حتى جاء القرن التاسع عشر، فظهرت الفلسفة الوضعية التي تقول بسيادة الطبيعة على الدين والعقل، واعتبارها هي الأصل الذي ينبثق عنه كل شيء.. والذي يبعث الأفكار في العقل البشري، وكان من أهم فلاسفتها "أوجست كومت" و"فرباخ". ويذكر الدكتور محمد البهي في تلخيصه الجيد للفكر الغربي في تلك الفترة في كتابه "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" أن هذه الفلسفة التي تدعو إلى سيادة الطبيعة، إن لم نقل عبادتها، قد قامت في جو معين حيث تولدت الرغبة في نفوس كثير من العلماء والفلاسفة لمعارضة الكنسية التي كانت تملك نوعا خاصا من المعرفة تستغله في معارضة خصومها وهي المعرفة الدينية، فقام هذا الفريق من العلماء والفلاسفة بالهجوم الشديد عليها باسم العلم، وقامت هذه الفلسفة الوضعية على أساس تقدير الطبيعة وحدها مصدرا للمعرفة اليقينية.. ثم يقول: "ومعنى تقديرها للطبيعة على هذا النحو أن الطبيعة في نظرها هي التي تنقش الحقيقة في ذهن الإنسان، وهي التي توحي بها وترسم معالمها ... هي التي تكون عقل الإنسان، والإنسان -لهذا- لا يملى عليه من خارج الطبيعة، أي: لا يملي عليه مما وراءها، كما لا يملى عليه من ذاته الخاصة..إذ ما يأتي من "ما رواء الطبيعة" خداع للحقيقة وليس حقيقة!! وكذا ما يتصوره العقل من نفسه وَهْم وتخيل للحقيقة وليس حقيقة أيضًا". "وبناء على ذلك يكون "الدين" وهو وحي "أي: ما بعد الطبيعة" خداع! هو وحي ذلك الموجود الذي لا يحدده ولا يمثله كائن من كائنات الطبيعة". "وهي وحي لله الخارج عن هذه الطبيعة الكلية، وكذلك "المثالية العقلية" وهم لا يتصل بحقيقة هذا الوجود الطبيعي، إذ هي تصورات الإنسان من نفسه من   1 تكوين العقل الحديث ج1، ص439. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 غير أن يستلهم فيها الطبيعة المنثورة التي يعيش فيها وتدور حوله"1. "إن عقل الإنسان في منطق هذه الفسلفة -أي: ما فيه من معرفة- وليد الطبيعة التي تتمثل في الوراثة والبيئة والحياة الاقتصادية والاجتماعية ... إنه مخلوق، ولكن خالقه هو الوجود الحسي. إنه يفكر، ولكن عن تفاعل مع الوجود المحيط به، إنه مقيد مجبر، وصانع القيد والجبر هو حياته المادية. ليس هناك عقل سابق على الوجود المادي، كما أنه ليست هناك معرفة سابقة للإنسان عن طريق الوحي.. عقل الإنسان ومعرفته يوجدان تبعا لوجود الإنسان المادي, هما انطباع لحياته الحسية المادية التي يتنفسها"2. أما الجدلية فقد سبق إليها "فيشته" و"هيجل". وقد كان الأصل في التفكير الجدلي "الديالكتيكي" هو البحث عن تصور فلسفي يسمح بوجود المتناقضات في الكون والحياة ويفسرها. ذلك أن المنطق اليوناني القديم "الذي يسمى المنطق الصوري Formal logic" ينفي وجود التناقض في الكون والحياة، ويقيم تفكيره على أساس أن الشيء ونقيضه لا يمكن أن يجتمعا بل لا يمكن أن يوجدا أصلا، فوجود أي شيء هو ذاته نفي قاطع لوجود نقيضه. ولكن الفكر الأوروبي منذ عصر النهضة -وإن كان قد رجع إلى الفكر الإغريقي يستمد منه- كانت له التفاتات مختلفة عنه في مجالات متعددة، حتى إذا كان النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي عصر سيادة العقل في الفكر الأوروبي المسمى عندهم "بعصر التنوير" قام فلاسفة يشيرون إلى وجود التناقض في الكون والحياة ويحاولون تفسيره، من أبرزهم "فيشته" و"هيجل" فأما فيشته "1762-1814م" -كما يقول الدكتور محمد البهي في كتابه السابق الذكر- فقد استخدم مبدأ النقيض كي يدعم سيادة العقل كمصدر للمعرفة مقابل الدين والطبيعة3.. وأما "هيجل" "1770-1831" فيستخدم مبدأ النقيض لتأكيد قيمة العقل من جهة، ثم   1 الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي الطبعة الثامنة، ص298, 299. 2 المصدر السابق ص299. 3 كان هذا قبل ظهور الفلسفة الوضعية المادية التي قالت بسيادة الطبيعة مقابل العقل والدين، والواقع أن الفلسفة الوضعية قامت ردا على الفلسفة العقلية التي سادت في عصر التنوير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 لدعم فكرة الألوهية من جديد وتأكيد الوحي كمصدر أخير للمعرفة، لأنه يعتبر الله سبحانه عقلا1. واستخدم هيجل مصطلحات خاصة به, هي الدعوى ومقابل الدعوى وجامع الدعوى ومقابلها، وتصور أن هناك فكرة مطلقة أطلق عليها اسم العقل المطلق -وهو الله عنده- انبثقت عنه الطبيعة وهي تغايره تماما؛ لأنها مقيدة ومتفرقة وهي عنده العقل المقيد، ثم انتقلت الفكرة من الطبيعة أو العقل المقيد إلى جامع يلتقي فيه الشيء ونقيضه وهو العقل المجرد الذي هو نهاية الطبيعة المحدودة وغايتها، وهو جامع الدعوى ومقابلها. وهذا العقل المجرد يتمثل في القانون والأخلاق، وفي الفن والدين والدولة والجماعة والفلسفة. إذن فالعقل المجرد الذي يتحقق في أي وحدة من هذه القيم العاملة المذكورة جامع للمتقابلين: جامع للفكرة في العقل المطلق وهو الله، وللفكرة في العقل المقيد وهو الطبيعة.. ذلك أنه ليس له إطلاق العقل المطلق ولا تحديد عقل الطبيعة، بل فيه إطلاق بالنسبة إلى الطبيعة وتقييد بالنسبة للعقل المطلق, ولذا يعتبر جامع الدعوى ومقابل الدعوى2. وأما المنبع الثالث فكر ماركس بعد الجدلية التي أخذها من هيجل، والمادية التي أخذها من كومت فهو دارون ونظرية التطور. جاء دارون يؤله الطبيعة ويقول عنها إنها تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق، ويؤكد أن الإنسان هو نهاية سلسلة التطور الحيوانية، وأن التطور ذاته -الذي أنشا الحياة في المادة الميتة أول مرة، ثم تدرج بها من الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان- هو نتيجة أسباب مادية بحتة، وأنه يتم مستقلا عن إرادة الكائن الحي، وبصورة حتمية لا يملك الكائن الحي الخروج عليها ولا معارضتها ولا الوقوف في طريقها. ماذا بقي من فكر ماركس لم يسبق إليه؟! ومع ذلك فلم يكن عمل ماركس هو مجرد التجميع للأفكار السابقة والمعاصرة3 فلقد أنشأ فلسفة مترابطة متكاملة -أيا كانت مصادرها الأولية- تشمل كل   1 عن الفكر الإسلامي الحديث ص289 بتصرف. 2 عن المصدر السابق ص290, 291 بتصرف. 3 هيجل وكومت سابقان عليه ودارون معاصر له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 القضايا المحيطة بالإنسان، وتشملها جملة وتفصيلا عن نحو غير مسبوق. وليس هنا مجال تقويم هذه الفلسفة في جملتها وتفصيلاتها1 ولا مجال السؤال عن كونها- في صورتها التي قدمها بها ماركس- كانت قمينة أن يلتفت إليها ويحتفي بها، أم تترك "لتمر" كما مرت فلسفات كثيرة من قبل، لتصبح فيما بعد "كلاما" يدرسه طلاب الفلسفة في الجامعات، أم تهاجم الهجوم الذي يقضي عليها ويجبها من منبتها.. ولولا ذلك السند الضخم الذي لقيته من العناصر التي سعت لإقامة الشيوعية في الأرض والدعاية لها في الآفاق2. إنما نحن هنا في مجال تقديم الشيوعية كما قدمها أصحابها، ومن خلال الموضوعات الثلاثة الرئيسية: المادية الجدلية والمادية التاريخية والمذهب الاقتصادي بين النظرية والتطبيق.   1 سيأتي تقويم النظرية تاليا في هذا الفصل، بعد عرض خطوطها العريضة كما يقدمها أصحابها. 2 سيأتي الرد على هذا السؤال ضمنا في أثناء مناقشة النظرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 أولا: المادية الجدلية مدخل ... أولا: المادية الجدلية المادية الجدلية تصور خاص لقضايا الألوهية والكون والحياة والإنسان يقوم على أساس مادي بحت، على أساس أن المادة هي الشيء الوحيد الأصيل في هذا الكون، وأن كل ما في الكون ومن فيه منبثق من المادة ومحكوم بقوانين المادة, ولا وجود له خارج نطاق المادة، كما يقوم هذا التصور من جهة أخرى على أساس وجود التناقض في طبيعة المادة، ومن ثم في كل ما ينبثق عنها من مخلوقات ومن كيانات بما في ذلك الكيان الإنساني، فهو كيان مادي من جهة، ومحكوم بصراع المتناقضات من جهة أخرى، وتلك هي حقيقة كل أفكاره ومشاعره، وكل نظمه ومؤسساته، وكل قيمه ومبادئه، وكل حركته خلال التاريخ. وقد قلنا في التمهيد السابق إن ماركس لم يكن هو مبتدع الجدلية أو التفكير الجدلي على العموم، فقد أخذ هذا التفكير عن هيجل، ولكنه خالفه فيه مخالفة أساسية، إذ قال هيجل إن الفكرة هي الأصل وهي سابقة في وجودها على المادة ومسيطرة عليها، وقال ماركس إن المادة هي الأصل وهي سابقة على الفكرة ومسيطرة عليها. يقول ماركس: "لا يختلف منهجي الجدلي في الأساس عن منهج هيجل فقط، بل هو نقيضه تماما، إذ يعتقد هيجل أن حركة الفكر التي يجسدها باسم الفكرة، هي مبدعة الواقع الذي ليس سوى الصورة الظاهرية للفكرة, أما أنا فأعتقد على العكس، أن حركة الفكر ليست سوى انعكاس حركة الواقع وقد انتقلت إلى ذهن الإنسان"1. ومن ثم سميت جدلية هيجل الجدلية المثالية وجدلية ماركس الجدلية المادية أو المادية الجدلية. أما أصل التسمية -في لغتها الأصلية- فهي مأخوذة عن الإغريقية، ومستمدة من الحوار الفلسفي الإغريقي Dialogos الذي كان يمثل وجهتي نظر مختلفتين تتجادلان حتى تتبين الحقيقة من خلال الجدل، وغالبا ما تكون الحقيقة مزيجا من وجهتي النظر المختلفتين، ولكن يظهر جليا في أثناء الحوار   1 أصول الفلسفة الماركسية تأليف جورج بوليتزر وآخرين تعريب شعبان بركات، ج1 ص36 نقلا عن رأس المال لماركس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 "أو الجدل" إن إحدى وجهتي النظر تأخذ في التراجع المؤدي إلى التسليم، بينما تأخذ وجهة النظر الأخرى في التفوق حتى تتغلب في نهاية الأمر، وإن كانت في غلبتها لا تلغي الأخرى تماما بل تبقى منها بقايا تظهر في الحقيقة النهائية. والمادية الجدلية -كما سنبين فيما بعد- تتصور الأحداث -سواء كانت طبيعة "مادية" أو بشرية- على هذا النحو ذاته، حيث تكون هناك قوة في اتجاه معين وقوة أخرى مناقضة لها في الاتجاه المضاد، ثم يحدث الصراع الذي ينتهي بانهزام القوة الأولى -وإن كانت لا تزول تماما- وتغلب القوة الثانية وإن كانت غلبتها ليس تامة. ومن ثم فإن استعارة "الجدل" من ذلك الحوار الفلسفي مناسبة لذلك التصور ومعبرة عنه. يقول ستالين في تعريف الجدلية "الديالكتيك". "أخذت كلمة "ديالكتيك"، ومن الكلمة اليونانية "دياليجو" ومعناها المحادثة والمجادلة، وكان الديالكتيك يعني في عهد الأولين: فن الوصول إلى الحقيقة باكتشاف المتناقضات التي يتضمنها استدلال الخصم، وبالتغلب عليها، وكان بعض الفلاسفة الأولين يعتبرون أن اكتشاف تناقضات الفكر والمصادمة بين الآراء هما خير وسيلة لاكتشاف الحقيقة فهذا الأسلوب الديالكتيكي في التفكير، الذي طبق فيما بعد على حوادث الطبيعة، أصبح هو الطريقة الديالكتيكية لمعرفة الطبيعة. "إن حوادث الطبيعة بموجب هذه النظرية هي متحركة متغيرة دائما وأبدا، وتطور الطبيعة هو نتيجة تطور تناقضات الطبيعة نتيجة القوى المتضادة في الطبيعة"1. ويقول كاريوهنت: "الجدلية إذن هي فكر ونقيضها، ثم تآلف النقيضين، فالفكرة تؤيد القضية، والنقيض ينكرها، أو بتعبير هيجل ينفيها. أما تآلف النقيضين فيحتضن ما هو حقيقي: الفكرة ونقيضها، وبهذا يقربنا خطوة نحو الحقيقة، ولكن حالما يتعرض تآلف النقيضين إلى فحص أدق، نجدها هي أيضا ناقصة، وهكذا تعود العملية فتبدأ من جديد بفكرة أخرى بنفيها ونقيضها, ثم يجري التوفيق بينها بتآلف جديد للنقيضين. "وبهذه الطريقة المثلثة يمضي الفكر حتى يصل في النهاية إلى المطلق.   1 المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية لستالين ص14, 15 من الترجمة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وعندئذ يمكننا أن نواصل التفكير إلا ما لا نهاية دون أن نشهد أي تناقض وعلى هذا يطلق اصطلاح الجدلية على عملية التنازع والتوفيق التي تجري ضمن الواقع ذاته داخل الفكر البشري بشأن الواقع"1. وسنعرض هنا الخطوط العريضة للمادية الجدلية كما قدمها أصحابها من خلال النقطتين التاليتين: أولا: المادة: أزليتها وأبديتها وأسبقيتها في الوجود على الفكر. ثانيا: قوانين المادة التي تحكم "الطبيعة" وتحكم الحياة البشرية كذلك.   1 الشيوعية نظريا وعمليا لكاريوهنت ص28 من الترجمة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 أولا: المادة أزليتها وأبديتها، وأسبقيتها في الوجود على الفكر جاء في كتاب "أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية لسبركين وياخوت" "ترجمة محمد الجندي ص39 من الترجمة العربية". " ... فليس للكون نهاية وحدود: العالم أبدي وليس له أي بداية ولن يكون له أي نهاية1 ومن هنا فأي عالم "غيبي" غير مادي غير موجود ولا يمكن أن يوجد. وفي واقع الأمر إنه إذا لم يوجد شيء غير المادة فلا يوجد غير عالم مادي واحد. وهذا يعني أنه عند الأشياء والظواهر المختلفة في العالم المحيط بنا، هناك خاصية واحدة توحدها هي ماديتها". ويقول ستالين في كتابه "المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" "ص29 من الترجمة العربية". "وتقوم المادية الفلسفية على مبدأ آخر، وهو أن المادة والطبيعة والكائن, هي حقيقة موضوعية موجودة خارج الإدراك أو الشعور وبصورة مستقلة عنه. وأن المادة هي عنصر أول؛ لأنها منبع الإحساسات والتصور والإدراك, بينما الإدراك هو عنصر ثان مشتق؛ لأنه انعكاس المادة؛ انعكاس الكائن، وأن الفكر هو نتاج المادة لما بلغت في تطورها درجة عالية من الكمال، أو بتعبير أدق: إن الفكر نهو نتاج الدماغ، والدماغ هو عضو التفكير، فلا يمكن بالتالي فصل الفكر عن المادة دون الوقوع في خطأ كبير".   1يقصد أنه أزلي أبدي وليس أبديا فقط كما جاء في التعبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وجاء كذلك في كتاب "أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" "ص43 من الترجمة العربية": "وجدت الطبيعة ليس فقط قبل الناس وإنما عموما قبل الكائنات الحية، وبالتالي مستقلة عن الإدراك، وهي الأولية، أما الإدراك فلم يستطع التواجد قبل الطبيعة فهو ثانوي". وجاء فيه كذلك "ص30, 31 من الترجمة العربية": "يقول لوموسوف: إنه في الطبيعة لا ينشأ شيء من لا شيء. ولا يختفي أبدا بلا أثر, ولكن إذا كان الأمر كذلك فإن المادة "الطبيعة" قد وجدت دائما؛ لأننا إذا سلمنا بأنه في وقت من الأوقات لم يكن هناك شيء في العالم، أي: لم تكن توجد مادة فمن أين لها أن تنشأ؟ ولكن ما إن توجد المادة فهذا يعني أنها لم تنشأ في أي وقت من الأوقات، بل وجدت دائما وستوجد دائما. فهي أبدية وخالدة. ولهذا لم يمكن أن تخلق فلا يمكن أن يخلق ما لا يمكن إفناؤه، وبذلك فالمادة لم تنشأ أبدا بل وجدت دائما وستوجد دائما فهي أبدية"1. وجاء في كتاب "المادية التاريخية" تأليف ف. كليل م. كوفاللزون" ترجمة أحمد داود ومراجعة الدكتور بدر الدين السباعي "طبع دار الجماهير بدمشق 1970م، ص500 من الترجمة العربية": "ثم إن العلم إذا يكشف عن الصلات الطبيعية بين ظواهر الطبيعة، يطرد في تطوره الإله من الطبيعة ويدحض خطل المثالية، ويؤيد صحة النظرة المادية إلى العالم، والعلم يتفق مع المادية في بحثه عن الحقيقة في الحياة ذاتها وفي الطبيعة، ويفسر ظواهر الطبيعة والمجتمع معتمدا على القوانين الموضوعية، وهذا ما يدل على أن العلم الحقيقي ذو طابع مادي، إن العلم مادي بطبيعته وبجوهره، والمثالية غريبة عنه وعدوة له". وجاء في كتاب "أصول الفلسفة الماركسية" "تأليف جورج بولتيرز وآخرين، تعريب شعبان بركات، إصدار المكتبة العصرية ببيروت، ج1 ص206 من الترجمة العربية": "ولقد أثارت النزعة المادية الجدلية هذه الصعوبات، وفقدت فكرة "الله" كل محتواها، ولم يعد النقاش حول وجود الله أو عدم وجوده -ذلك النقاش   1 يقصد أنها أزلية أبدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الذي أثار النزعة الإلحادية الساذجة غير الماركسية- يثار كما أثير سابقا, لقد أصبح الله كما قال لابلاس: فرضية لا نفع فيها. "ولا شك في أن فكرة الله والعواطف الدينية موجودة، وهي تتطلب تفسيرا، وبدلا من القول بأن الإنسان كائن "إلهي" يجمع في ذاته العنصر الطبيعي"1 والعنصر الإلهي، كما يجمع عنصر الموت والخلود في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى, يجب القول بأن "الله" و"الديانة" هما ظاهرتان إنسانيتان؛ لأن العنصر الإلهي هو من إبداع الإنسان وليس الإنسان هو من إبداع الله. ويقول ماركس في كتاب "بؤس الفلسفة" "ترجمة أندريه يازجي، طبع دار اليقظة العربية بسوريا ومكتبة الحياة بلبنان ص123, 124 من الترجمة العربية": "إن العزة الإلهية والهدف الإلهي هي الكلمة الكبيرة المستعملة اليوم لتشرح حركة التاريخ، والواقع أن هذه الكلمة لا تشرح شيئا". ويقول إنجلز في كتابه "لود فيج فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" "إصدار دار التقدم بموسكو ص16 من الترجمة العربية": "فالطبيعة توجد مستقلة عن كل فلسفة فهي الأساس الذي نمونا عليه، نحن الناس نتاجها أيضا. وخارج الطبيعة والإنسان لا يوجد شيء، أما الكائنات العلوية التي ولدت في مخيلتنا الدينية فليست سوى انعكاس خيالي لوجودنا نحن". تكفينا هذه النصوص2 لبيان الفكرة. فواضح منها أنهم يعتبرون المادة هي الأصل الذي انبثقت منه كل الكائنات، الحية منها وغير الحية، بما في ذلك الإنسان، وأنها جميعا قد انبثقت عنها بطريق الخلق. أي: إن المادة هي الخالق الذي أنشأ الحياة وأنشأ الإنسان، وأنشأ كل ما يحتوي عليه عالم الإنسان من أفكار ومشاعر. أما المادة ذاتها فلم تخلق، إنما كانت دائما موجودة وستظل دائما موجودة. أي: إنها أزلية أبدية، موجودة بذاتها ومنشئة لغيرها. وأما الله -الأزلي الأبدي الخالق البارئ المصور المريد الفعال لما يريد- فهو عندهم خرافة ابتدعها خيال الإنسان، والحقيقة الوحيدة هي المادة، والوحدة التي تجمع الكون هي ماديته.   1 يقصدون المادي. 2 قام بجهد تجميع هذه النصوص وغيرها مما جاء في هذا الفصل "أحمد العوايشة" في رسالته للماجستير بعنوان موقف الإسلام من نظرية ماركس للتفسير المادي للتاريخ، بإشرافي وإشراف الأستاذ عبد الرحمن حبنكة الميداني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ثانيا: قوانين المادة التي تحكم الطبيعة وتحكم الحياة البشرية كذلك الترابط في الطبيعة ... ثانيا: قوانين المادة التي تحكم الطبيعة وتحكم الحياة البشرية كذلك للمادة عند الماديين قوانين ثابتة تحكمها هي: الترابط والحركة والتطور والتناقض. 1- الترابط في الطبيعة: يقول ستالين في كتاب "المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" "ص15, 16 من الترجمة العربية": "إن الديالكتيك -خلافا للميتافيزقية- لا يعتبر الطبيعة تراكما فرضيا للأشياء، أو حوادث بعضها منفصل عن بعض، أو أحدها مستقل عن الآخر، بل يعتبر الطبيعة كلا واحدا, ومتماسكا ترتبط فيه الأشياء والحوادث فيما بينها ارتباطا عضويا, ويتعلق أحدها بالآخر ويكون بعضها شرطا لبعض بصورة متقابلة". "لذلك تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن أي حادث من حوادث الطبيعة لا يمكن فهمه إذا نظر إليه منفردا بمعزل عن الحوادث المحيطة به، إذ إن أي حادث في أي ميدان من ميادين الطبيعة، يمكن أن ينقلب إلى عبث فارغ لا معنى له إذا نظر إليه بمعزل عن الشروط التي تكتنفه، وعلى العكس، يمكن فيهم أي حادث من الحوادث وتبريره إذا نظر إليه من حيث ارتباطه ارتباطا لا ينفصم بالحوادث المحيطة به، أي: إذا نظر إليه كما تحدده وتكيفه الحوادث التي تحيط به". "ويلاحظ من كلام ستالين في تعرضه للميتافزيقا أن الميتافيزيقا التي كانت عندهم -والتي كانوا يواجهونها بالمادية الجدلية- كانت تفترض أن كل شيء من الأشياء قائم بذاته ولا صلة له بغيره من الأشياء، وأنه لا ترابط في النظام الكوني بين أجزائه المختلفة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 2- الحركة في الطبيعة : جاء في كتاب "أصول الفلسفة الماركسية" ج1 ص49 من الترجمة العربية": "وفي الطبيعة لا يعلب الكون الدور الحاسم رغم أنه موجود وإنما تلعب هذا الدور الحركة والتطور والتغير، هذه الحركة ملازمة داخليا للمادة كخاصة جذرية لا تنفصل عنها، ولا داعي لوضع السؤال التالي: من أين حصلت المادة على هذه الحركة؟ لأنها موجودة منذ الأزل، ولهذا لا داعي للسؤال الذي يقول: من الذي أكسب المادة الحركة، ما دامت لا تنفصل عنها، وتعتبر شكلا من أشكال وجودها". وجاء في كتاب "أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" "ص34 من الترجمة العربية". "ما قيل يعني أنه لا يوجد في العالم ظاهرة واحدة لم تكن نتيجة لحركة المادة وتطورها، فهي تشمل كل شيء، وفي كل مكان يمتد فعلها، ولا يوجد شيء غير المادة المتحركة المتطورة، وما يتولد عنها، ولا يمكن أن يوجد، وهذا يعني أنه لا يوجد غير عالم مادي واحد، ولهذا بالتحديد يشير إنجلز إلى أن وحدة العالم تنحصر في ماديته، وبعبارة أخرى أن العالم واحد لأنه مادي". ويقول ستالين في كتاب "المادية الديالكتيكية" "ص16 من الترجمة العربية": "إنا لديالكتيك -خلافا للميتافيزيقا- لا يعتبر الطبيعة حالة سكون وجمود، حالة ركود واستقرار. بل يعتبرها حالة حركة وتغير دائمين. حالة تجدد وتطور لا ينقطعان ففيها دائما شيء يولد ويتطور وشيء ينحل ويضمحل". ويستشهد ستالين "ص17 من الترجمة العربية من الكتاب السابق" بإنجلز حيث يقول الأخير: "إن الطبيعة من أضأل الأجزاء إلى أكبر الأجسام: من حبة الرمل إلى الشمس، من البروتوزوا "الخلية الحية الابتدائية" إلى الإنسان، هي في حركة دائمة من النشوء والاضمحلال، هي في مد لا ينقطع. في حركة وتغير مستمرين وأبديين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 3- التطور في الطبيعة : يقول ستالين "ص18 من الترجمة العربية لكتاب المادية الديالكتيكية": "إن الديالكتيك -خلفا للميتافيزيقية- لا يتعتبر حركة التطور حركة نمو بسيطة، لا تؤدي التغيرت الكمية فيها إلى تغيرات كيفية، بل يعتبرها تطورا ينتقل من تغييرات كمية ضئيلة وخفية إلى تغييرات ظاهرة وأساسية, أي: إلى تغييرات كيفية. وهذه التغييرات الكيفية ليست تدريجية بل هي سريعة فجائية، وتحدث بقفزات من حالة إلى أخرى، وليست هذ التغييرات جائزة الوقوع, بل هي ضرورية, هي نتيجة تراكم تغيرات كمية غير محسوسة وتدريجية، ولذلك تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن من الواجب فهم حركة التطور، لا من حيث هي حركة دائرية، أو تكرار بسيط للطريق نفسه، بل من حيث هي حركة تقدمية صاعدة وانتقال من الحالة الكيفية القديمة إلى حالة كيفية جديدة، وتطور ينتقل من البسيط إلى المركب، من الأدنى إلى الأعلى". ويستشهد ستالين "ص20, 21 من الترجمة العربية من الكتاب السالف الذكر" يقول إنجلز: "يمكن القول إن الكيمياء هي علم التغيرات الكيفية الناشئة في الأجسام عن تغييرات كمية، وكان هيجل نفسه يعرف ذلك في عهده, لنأخذ الأوكسجين فإذا جمعنا في جزيئه ثلاث ذرات عوضا عن اثنين كالعادة حصلنا على جسم جديد هو "الأوزن" الذي يختلف اختلافا بينا برائحته وبتأثيراته عن الأوكسجين العادي، وماذا نقول عن مختلف تراكيب الأوكسجين مع الأوزت أو مع الكبريت؟ إن كل تركيب منها يعطي جسما مختلفا من حيث الكيفية عن جميع الأجسام التي تعطيها التراكيب الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 4- التناقض في الطبيعة : يقول ستالين "ص22 من الترجمة العربية من الكتاب السابق ذكره": "إن نقطة الابتداء في الديالكتيك -خلافا للميتافيزيقا- هي وجهة النظر القائمة على أن كل أشياء الطبيعة وحوادثها تحوي تناقضات داخلية؛ لأن لها جميعها جانبا سلبيا وإيجابيا، ماضيا وحاضرا، وفيها جميعا عناصر تضمحل أو تتطور، فنضال هذه المتضادات، أي: النضال بين القديم والجديد، بين ما يموت وما يولد، بين ما يفنى وما يتطور، هو المحتوى الداخلي لحركة التطور. هو المحتوى الداخلي لتحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية، ولذلك تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن حركة التطور من الأدنى إلى الأعلى لا تجري بتطور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الحوادث تطورا تدريجيا متناسقا، بل بظهور التناقضات الملازمة للأشياء والحوادث، بنضال الاتجاهات المضادة التي تعمل على أساس هذه التناقضات". وجاء في كتاب "أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" لسبركين وياخوت "ص72 من الترجمة العربية". "فينحصر جوهر قانون وحدة صراع الأضداد في أن جميع الأشياء والعمليات تلازمها جوانب داخلية متناقضة، موجودة في وحدة لا تنفصم، وفي صراع مستمر في نفس الوقت، وصراع الأضداد هو بالتحديد المصدر الداخلي والقوة المحركة للتطور". وجاء في ص71 من الترجمة العربية: "نأخذ مجال الطبيعة الحية. هنا نرى بوضوح دور التناقض الجدلي كمصدر للتطور، من لا يعرف أن الأطفال يشبهون الآباء ولكنهم ليسوا نسخة منهم تماما، فالنمطية والجمود مع ذلك لا وجود لهما، يرجع هذا أولا وقبل كل شيء إلى أن قانون الوراثة يعمل إلى جانب نقيضه -قانون التغير- وهو يضمن "عدم تشابه" و"عدم تكرار" وتغير كل الأجسام وتطورها، والوراثة بدورها تثبت هذه الخواص في السلالة، بخلاف ذلك يمكن أن تختفي التغييرات. وهكذا يسوق الصراع الأبدي بين القوتين المتضادتين: القابلية للتغير والوراثة، عملية تطور الطبيعة الحية، ويحدث اختيار طبيعي نتيجة للصراع بين هذين الضدين. تولد القابلية للتغير قسمات جدية مفيدة، أما الوراثة فتجمعها في السلالة. ونتيجة لذلك تتولد أنواع جديدة من الكائنات الحية. وليست القوة الخارجية ولا الرب، إنما التناقضات الداخلية الطبيعية هي المصدر والمحرك الداخلي لعملية تطور الطبيعة الحية". تلك هي قوانين المادة ... وليس بنا -سواء هنا في مجال العرض أو في مجال المناقشة التي تتلوه -أن نتعرض لهذه القوانين ومدى صحتها من الوجهة العلمية، إنما الجانب الذي يهمنا أكثر من أي شيء آخر في مجال بحثنا هو قولهم إن قوانين المادة بحذافيرها تحكم الحياة البشرية في جميع أشكالها وشتى ألوان النشاط فيها. فأما عن الترابط فقد قالوا إن هناك ارتباطا لا ينفصم بين الأفكار والمشاعر وبين الأوضاع والتغيرات المادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 يقول ستالين "ص23 وما بعدها من الترجمة العربية لكتاب المادية الديالكتيكية": "فإذا صح أن ليس في العالم حوادث منعزلة، إذا صح أن كل الحوادث مترابطة فيما بينها ويكيف بعضها البعض الآخر بصورة متبادلة، فمن الواضح أن كل نظام اجتماعي وكل حركة اجتماعية في التاريخ لا ينبغي الحكم عليها من ناحية "العدالة الأبدية" أو من ناحية أية فكرة أخرى مقررة سلفا، كما يفعل المؤرخون على الغالب، بل ينبغي لنا أن نبني حكمنا على أساس الظروف التي ولدت هذا النظام وهذه الحركة الاجتماعية المرتبطتين بها. إن نظام الرق يكون في الظروف الحاضرة خرقا وبدعة مضادة للطبيعة، ولكن نظام الرق في ظروف المشاعية البدائية الآخذة بالانحلال، هو حادث مفهوم ومنطقي؛ لأنه يعني خطوة إلى الأمام بالنسبة لنظام المشاعية البدائية. "إن المطالبة بإقامة الديمقراطية البرجوازية في ظروف القيصرية والمجتمع البورجوازي مثلا في روسيا سنة 1905 كانت شيئا مفهوما وصحيحا وثوريا تماما؛ لأن الجمهورية البرجوازية كانت تعني إذ ذاك خطوة إلى الأمام.. ولكن المطالبة بإقامة الجمهورية الديمقراطية البرجوازية في ظروف الاتحاد السوفياتي الحاضر، تكون خرقا، وشيئا رجعيا ومضادا للثورة؛ لأن الجمهورية البرجوازية هي خطوة إلى الوراء بالنسبة إلى الجمهورية السوفياتية، كل شيء يتعلق بالظروف، بالمكان والزمان. "ومن الواضح أن وجود علم تاريخي وتطور هذا العلم شيئان مستحيلان بدون هذا الفهم التاريخي للحوادث الاجتماعية، فمثل هذا الفهم يمنع علم التاريخ من أن يصبح فوضى احتمالات وكوم أخطاء سخيفة". ويقول ماركس "ج1 ص30 من الترجمة العربية لكتابه الأيدلوجية الألمانية": "إن نتاج الأفكار والتصورات والوعي مختلط بادئ الأمر -بصورة مباشرة ووثيقة- بالنشاط المادي والتعامل المادي بين البشر، فهو لغة الحياة الواقعية، إن التصورات والفكر والتعامل الذهني بين البشر تبدو هنا على اعتبارها إصرارا مباشرا لسولكهم المادي، ينطبق الأمر نفسه على الإنتاج الفكري كما يمثل في لغة السياسة ولغة القوانين والأخلاق والدين والميتافيزيقا.. إلخ عند شعب بكامله، فالبشر هم منتجو تصوراتهم وأفكارهم ... حتى الأشباح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 في العقل البشري هي تصعيدات ناتجة بالضرورة عن تطور حياتهم المادية، التي يمكن التحقق منها تجريبيا والتي تعتمد على قواعد مادية، ومن جراء ذلك فإن الأخلاق والميتافزياء وكل البقية الباقية من الأيدلوجية، وكذلك أشكال الوعي التي تقابلها، تفقد في الحال كل مظهر من مظاهر الاستقلال الذاتي فهي لا تملك تاريخها، وليس لها أي تطور، إن الأمر على النقيض من ذلك، فالبشر إذ يطورون إنتاجهم المادي وعلاقاتهم المادية، هم الذين يحولون فكرهم ومنتجات فكرهم على السواء مع الواقع الذي هو خاصتهم. فليس الوعي هو الذي يعين الحياة، بل الحياة هي التي تعين الوعي". ويقول إنجلز "ص321 من الترجمة العربية لكتابه أنتي دوهرنج": "فإنه ينبغي البحث عن الأسباب الأخيرة لسائر التبدلات الاجتماعية والثورات السياسية ليس في أدمغة البشر, ليس في فهمهم النامي للحقيقة والعدالة الأبديتين. بل في التبادلات الطارئة على أساليب الإنتاج والمبادلة". وأما عن الحركة فقد قالوا إن الحياة البشرية تتحرك؛ لأنها من أشكال المال: يقول مؤلفا كتاب "المادة التاريخية "ص11 من الترجمة العربية": "والمادية التاريخية -خلافا للعلوم الأخرى- لا تدرس فقط هذه القوانين الخاصة أو تلك من قوانين تطور أشكال معينة لحركة المادة، وإنما هي تدرس القوانين العامة الشاملة للحركة المادية، والمجتمع هو أيضا شكل لحركة المادة". أما التطور الذي قالوا إنه يحدث في المادة فقد بنوا عليه تطورا حتميا في المجتمع البشري، ومن ثم نفوا الثبات في أي وضع من الأوضاع ولا قيمة من القيم: يقول ستالين في كتابه "المادية الديالكتيكية" "ص25 من الترجمة العربية": "وبعد إذا صح أن العالم يتحرك ويتطور دائما وأبدا، إذا صح أن اختفاء القديم ونشوء الجديد هما قانون للتطور، أصبح من الواضح أن ليست هناك أنظمة اجتماعية ثابتة "غير قابلة للتغير" ولا مبادئ أبدية للملكية الخاصة والاستثمار! وليست هناك "أفكار أبدية" عن خضوع الفلاحين لكبار ملاكي الأرض، والعمال للرأسماليين". ويقول "ص26, 27 من الترجمة العربية لكتابه المادية الديالكتيكية": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 "وبعد، إذا صح أن الانتقال من التغيرات الكمية البطيئة إلى تغيرات كيفية وفجائية وسريعة هو قانون للتطور فمن الواضح أن الثورات التي تقوم بها الطبقات المضطهدة هي حادث طبيعي تماما ولا مناص عنه. "وبالتالي فالانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية وتحرر الطبقة العاملة من النير الرأسمالي يمكن تحقيقها لا بتغيرات بسيطة بطيئة، ولا بإصلاحات، بل فقط بتغير كيفي للنظام الرأسمالي؛ أي: بالثورة". ويقول موريس كورنفورث في كتاب "مدخل إلى المادية الجدلية" "ص107 من الترجمة العربية لمحمد مستجير مصطفى". ونجد هذا القانون عن تحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية في المجتمع كذلك، فقبل أن يوجد نظام الرأسمالية الصناعية حدثت عملية من تراكم الثروة في شكل نقود في أيدي قلة "عن طريق نهب المستعمرات أساسا" ومن تكون بروليتاريا لا تملك شيئا عن طريق تسييج الأرض وطرد الفلاحين، وعند نقطة معينة من هذه العملية، حين تراكمت النقود الكافية لتزويد المنشآت الصناعية برأس المال, وحين تحول عدد كاف من الناس إلى بروليتاريا لتقديم العمل اللازم، نضجت الظروف لتطور الرأسمالية الصناعية, عند هذه النقطة ولد التراكم في التغيرات الكمية مرحلة كيفية جديدة في تطور المجتمع. "وتحدث التغيرات الكيفية عموما بفجائية نسبية بوثبة. إن شيئا جديدا يولد فجأة، رغم أن إمكانياته كانت تحويها عملية التحول التدريجي للتغيرات الكمية المستمرة التي حدثت من قبل". أما التناقض فقد أثبتوه من قبل للمادة، وحيث إن حركة المجتمع البشري جزء من حركة المادة فقد احتوت على التناقض بداهة من منشئها المادي التاريخي، وجرى التناقض في كل حركة من حركات البشر على الأرض في صورة صراع طبقي: يقول ستالين "ص27 من الترجمة العربية لكتاب المادية الديالكتيكية": "إذا صح أن التطور يجري بانبثاق التناقضات الداخلية وبالنزاع بين القوى المتضادة على أساس هذه التناقضات، وأن غاية هذا النزاع هي قهر هذه التناقضات، والتغلب عليها، فمن الواضح أن اتصال البروليتاريا الطبقي هو حادث طبيعي تماما ولا مناص منه. "وبالتالي لا ينبغي إخفاء تناقضات النظام الرأسمالي بل ينبغي إبرازها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وعرضها، ولا ينبغي خنق النضال الطبقي بل ينبغي القيام به إلى النهاية". "وإذن لأجل اجتناب الخطأ في السياسة ينبغي اتباع سياسة بروليتارية طبقية حازمة، لا سياسة إصلاحية تقول بالتناسق بين مصالح البروليتاريا ومصالح البرجوازية، ولا سياسة تفاهمية تقول بإدماج "الرأسمالية في الاشتراكية" وهذا ما تقول به الطريقة الديالكتيكية الماركسية لدى تطبيقها على الحياة الاجتماعية، على تاريخ المجتمع". إلى هنا كنا نتناول المادية الجدلية، وقد أوردنا من كلامهم ما يبين وجهة نظرهم بالقدر الذي يكفي للتتبع المناقشة التي ستأتي فيما بعد. والآن ننتقل إلى الكلام عن المادية التاريخية، والحقيقة أن هناك ارتباطا وثيقا بين المادية الجدلية والمادية التاريخية بحيث يصعب الفصل بينهما، وهم أنفسهم يقولون ذلك. جاء في كتاب "المادية التاريخية" "ص12 من الترجمة العربية": "إن المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية تظهران كعلم واحد، وكفلسفة متكاملة، فلا المادية التاريخية معقولة بدون المادية الديالكتيكية، ولا المادية الديالكتيكية ممكنة بدون المادية التاريخية، فبماذا نفسر ذلك؟ ". "أولا: بأنه لا يمكن وضع نظرة مادية ديالكتيكية عن العالم ككل، إذا لم يتوفر التفسير المادي للحياة الاجتماعية، إذا لم يكن قد اكتشف أن المجتمع هو أيضا شكل لحركة المادة وخاضع في تطوره لقوانين موضوعية كقوانين الطبيعة المادية والديالكتيكية غير ممكنة بدون المادية التاريخية". "ثانيا: لأن الإجابة الصحيحة عن المسألة الأساسية في الفلسفة حول أولوية المادة وثانوية الوعي غير ممكنة بدورها بدون توضيح سبب وكيفية ظهور الوعي الإنساني والدور الذي لعبه في ذلك التطبيق العملي الاجتماعي التاريخي للناس، إذ إن الإجابة عن هذا السؤال تقدمها المادية التاريخية". وجاء في نفس الكتاب "ص13, 14" من الترجمة العربية". "إن تحريف المادية الديالكيتكية يؤدي حتما إلى تشويه المادية التاريخية، إن المادية التاريخية لا تتوافق مع أية فلسفة أخرى غير المادية الديالكتيكية، إن الاعتراف بالمادية التاريخية مع نكران المادية الديالكتيكية ليس إلا زيفا خالصا وسفسطة مقززة1.   1 في الترجمة كلمة "مقرفة" بدلا من "مقززة" وقد رأينا هذه أنسب! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ثانيا: المادية التاريخية مدخل ... ثانيا: المادية التاريخية المادية التاريخية كما هو واضح من التسمية, محاولة لتفسير التاريخ البشري على الأسس المادية التي أوردناها في شرح المادية الجدلية، أي: على أساس أن المادة أزلية أبدية وأنها هي الخالقة لكل ما في الكون من مخلوقات: وأن الإنسان نتاج المادة، والفكر نتاج المادة، وأن قوانين المادة هي بذاتها التي تحكم حياة البشر الاجتماعية، وأن الوضع المادي والاقتصادي هو الذي يكيف شكل الحياة البشرية في أي وقت من أوقاتها وفي أي طور من أطوارها، وأنه هو الأصل الذي تنبثق منه الأفكار والمشاعر والمؤسسات والنظم التي ينشئها البشر في حياتهم، وأنه يأتي دائما سابقا لها ولا تجيء هي سابقة له بحال من الأحوال؛ لأن المادة تسبق الوعي ولا يمكن للوعي أن يسبق المادة, وأن الوضع المادي والاقتصادي في تطور دائم، ومن ثم فإن الأفكار والمشاعر والمؤسسات والنظم التي تنبثق عنه دائمة التطور كذلك، بحكم ارتباطها بالوضع المادي والاقتصادي وانبثاقها عنه. وربما يحق لنا أن نبدأ الحديث عن المادية التاريخية من نقطة صلتها بالداروينية ونظرية التطور؛ لأن ذلك قد يلقي الضوء على بعض مفاهيمها. قدم دارون تفسيرا معينا لتطور "الحياة" من الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان، قرر فيه جملة "مبادئ" تأثرت بها المادية الجدلية والمادية التاريخية, كان من جملتها: أن "الطبيعة" تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق. وأن الطبيعة تخبط خبط عشواء، أي: إنه ليس لها مقصد معين من الخلق ولا غاية. وأن الظروف المادية المحيطة بالكائن الحي هي التي تحكم حياته كما تحكم تطوره. وإن الكائن الحي ليس حرا في اختيار طريقة حياته ولا طريقة تطوره وإنما ذلك مفروض عليه من خارج كيانه من الظروف المادية المحيطة به. وأن الإنسان ليس خلقا قائما بذاته إنما هو نهاية سلسلة التطور الحيواني السابق لوجوده. وأنه في "تطوره" الأول الذي أوصله إلى حالته الراهنة كان محكوما بذات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الظروف المادية التي حكمت خط التطور السابق له. وأنه لا وجود لشيء "ثابت" في عالم الأحياء؛ لأن قانون "التطور" هو الذي يحكم الحياة والأحياء، يحكمها من خارج كيانها ودون خضوع لإراداتها، وبصورة حتمية. ولعله قد اتضح الآن كم أخذت المادية الجدلية والمادية التاريخية من الداروينية ونظرية التطور ولكن فلننظر في أقوالهم هم لنرى ماذا يقولون في هذا الشأن. يقول كورنفورث "ص21 من الترجمة العربية لكتاب "مدخل إلى المادية التاريخية". "وتقدم المادية التاريخية أساسا للعلم الاجتماعي بنفس الطريقة التي تقدم بها نظرية التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي أساسا للعلم البيولوجي، فأيا كان النوع الذي يدرس فإنه قد تطور عن طريق الانتقاء الطبيعي وهذا يحدد كل طبيعته، وبالمثل، أيا كان المجتمع الذي يدرس فإنه أصبح ما هو عليه بتكيف علاقات الإنتاج مع الإنتاج، والأفكار والمؤسسات مع علاقات الإنتاج". وجاء في كتاب أصول الفلسفة الماركسية "ج1 ص27 من الترجمة العربية". "وكان للاكتشافات الثلاثة التالية أثر كبير في ذلك: 1- اكتشاف الخلية الحية التي تتطور عنها الأجسام المعقدة. 2- اكتشاف تحول الطاقة من حرارة وكهرباء ومغناطيس وطاقة كيميائية. فهي صورة مختلفة نوعيا لحقيقة مادية واحدة. 3- نظرية التحول عند دارون فلقد أظهرت هذه النظرية اعتمادا على الحفريات، وعلم تربية الحيوان، أن جميع الكائنات الحية "ومنها الإنسان" هي ثمرات التطور الطبيعي". وجاء في كتاب "أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" "ص16 من الترجمة العربية". "وبذلك أعد تطور العلم -وخصوصا الاكتشافات الثلاثة في العلم الطبيعي: قانون حفظ الطاقة، ونظرية التكوين الخلوي للكائنات الحية ونظرية التطور لداروين- المقدمات العلمية لانتصار النظرية المادية الجدلية عن العلم، التي وضعها كارل ماركس وفردريك إنلجز". وسيتناول حدثنا عن المادية التاريخية أمرين: التفسير المادي للتاريخ، والتفسير المادي للدين والأخلاق والأسرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 أولا: التفسير المادي للتاريخ من الطبيعي أن تكون الفلسفة التي يقوم عليها التفسير المادي للتاريخ فلسفة مادية بحتة، سواء في نظرتها إلى "الإنسان" الذي تؤرخ له أو حركة هذا الإنسان على الأرض خلال التاريخ، والعوامل التي تؤثر في هذه الحركة. والحق أن التفسير المادي للتاريخ لا ينكر وجود "القيم" في الحياة البشرية ولا يفسر الحياة طعاما وشرابا وملبسا ومسكنا وجنسا فقط.. لكن الحق إلى جانب ذلك أنه ينفي نفيا قاطعا -كما ورد من كلامهم فيما سبق- أن تكون هذه القيم ثابتة، أو أن تكون قائمة بذاتها، أو أن تكون سابقة في وجودها على الأوضاع المادية والاقتصادية، أو أن تكون في أي وقت من الأوقات منشئة لأوضاع مادية واقتصادية لم تكن قائمة من قبل.. تبدأ النظرية من أن الإنتاج المادي هو أساس الحياة البشرية كلها وأساس التاريخ البشري: يقول ماركس "ص37 من الترجمة العربية لكتابه "الأيدلوجية الألمانية"". "وليس لنا بد مع الألمان المجردين عن أية مقدمات من أن نبدأ بتقرير المقدمة الأولى للوجود البشري بكامله وبالتالي للتاريخ بأسره، ألا وهي المقدمة التي تنص على أنه لا بد للبشر من أن يكونوا في مركز يمكنهم من العيش, كما يكون في مقدورهم أن يصنعوا التاريخ. بيد أن الحياة تشتمل قبل كل شيء على المأكل والمشرب والمسكن والملبس وأشياء عديدة أخرى. وهكذا فإن العمل التاريخي هو إنتاج الوسائط القمينة بسد هذه الحاجات. إنتاج الحياة المادية بالذات.. وبالفعل فإن هذا العمل عمل تاريخي، شرط أساسي للتاريخ بكامله، لا بد في اليوم الحاضر مثلما كانت الحال قبل آلاف السنين من تحقيقه يوما فيوما، وساعة فساعة لمجرد الإبقاء على الحياة الإنسانية". وقوى الإنتاج المادي من ثم هي أهم عنصر في الحياة ... وهي المقياس الذي يقاس به كل شيء. جاء في كتاب "أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" "ص151 من الترجمة العربية": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 "وهكذا فإن القوى المنتجة تعبر عن علاقات مادية بين المجتمع والطبيعة. ومستوى تطور هذه القوى دليل على درجة سيطرة البشرية على قوى الطبيعة، وبدوره يتحدد المستوى نفسه قبل كل شيء بأدوات العمل وتزويد الإنتاج بالطاقة وتنظيم التكنولوجيا العملية الإنتاجية وتطور العلم، وكذلك بمستوى استخدام المنتجين المباشرين للقيم المادية للمنجزات العملية". والعمل -العمل الذي يؤدي إلى الإنتاج المادي- هو محور الحياة. يقول إنجلز: "يقول الاقتصاديون إن العمل هو مصدر كل ثروة، وإنه لكذلك فعلا. مع الطبيعة التي تقدم له المادة التي يحولها إلى ثروة, ولكنه أكثر من ذلك أيضا إلى ما لا نهاية. إنه الشرط الأساسي الأول لكل حياة بشرية، وإنه لكذلك إلى درجة ينبغي علينا معها -بمعنى ما- أن نقول: "إن العمل قد خلق الإنسان ذاته" "عن كتاب: نصوص مختارة، فردريك إنجلز ص123 من الترجمة العربية". وعلاقات الإنتاج هي التي تصور شكل الحياة البشرية في أي طور من أطوارها. جاء في كتاب "المادية التاريخية" "ص60 من الترجمة العربية": "بما أن أسلوب الإنتاج هو الذي يحدد نمط حياة الناس في هذا المجتمع أو ذاك فإن جميع ظواهر الحياة الأخرى تتعلق بأسلوب الإنتاج وتكون نابعة منه ومشروطة به". ويقول ماركس في كتاب "بؤس الفلسفة" "ص112, 113 من الترجمة العربية": "ترتبط العلاقات الاجتماعية وتتعلق بالقوى الإنتاجية، ولدى تحقيقنا لقوى إنتاجية جديدة يغير الناس نوع الإنتاج، وعند تغييرهم لنوع إنتاجهم، وعند تغيير طريقة كسبهم لمعيشتهم، فإنهم يغيرون كل العلاقات الاجتماعية. إن الطاحونة التي تدار باليد تمثل لك مجتمعا يتحكم فيه السيد الإقطاعي، وتمثل الطاحونة البخارية مجتمعا تتحكم فيه الصناعة الرأسمالية. "إن نفس الذين يؤسسون علاقاتهم الاجتماعية لتطابق إنتاجهم المادي، تراهم ينتجون أيضا المبادئ والأفكار واللوائح لكي تطابق علاقاتهم الاجتماعية، وهكذا فإن هذه الأفكار وهذه اللوائح ليست أبدية كالعلاقات التي تعبر عنها، إنها إنتاج تاريخي وفترة انتقال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ويقول ستالين في كتاب "المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" "ص49, 50 من الترجمة العربية": "الخاصية الأولى للإنتاج أنه لا يقف أبدا مدة معينة فهو دائما في حالة تغير ونمو، وعلاوة على ذلك فإن أسلوب الإنتاج يؤدي بصورة حتمية إلى تغير النظام الاجتماعي بأسره وتغير الأفكار الاجتماعية والآراء والمؤسسات السياسية. "إن المجتمع ذاته وأفكاره ونظرياته، وآراءه ومؤسساته السياسية تتعلق من حيث الأساس بأسلوب الإنتاج في المجتمع أو -بعبارة أبسط- كل نمط من المعيشة يطابقه نمط من التفكير. "ومعنى هذا أن تاريخ تطور المجتمع هو قبل كل شيء تاريخ تطور الإنتاج وتاريخ أساليب الإنتاج التي تتعاقب خلال العصور. تاريخ تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج بين الناس". ويقول ماركس في كتابه "الأيدلوجية الألمانية" "ج1 ص39 من الترجمة العربية": "وهكذا فإنه من الجلي تماما مذ البداية أن ثمة رابطة مادية تجمع البشر بعضهم بعضا، تتحدد بحاجتهم ونمط إنتاجهم، وهي قديمة قدم البشر أنفسهم، وإن هذه الرابطة لتتخذ على الدوام أشكالا جديدة، وبذلك تمثل "تاريخا" حتى دون أن يوجد بعد أي هراء سياسي أو ديني يحقق -علاوة على ذلك- التماسك بين البشر". ينقسم التاريخ البشري -بناء على القواعد السالفة الذكر- إلى خمسة أطوار رئيسية: المشاعية الابتدائية، والرق، والإقطاع، والرأسمالية، ثم الاشتراكية الممهدة للشيوعية. فبالنسبة للمشاعية الابتدائية: جاء في كتاب المادية التاريخية "ص235 من الترجمة العربية": "وهكذا فقد كان القطيع البدائي أول شكل انتقالي للمجتمع الذي حدث فيه تكوين الإنسان، ولقد ظهر هذا القطيع عندما انفصل الإنسان عن عالم الحيوان, وبدأ بإنتاج أدوات العمل، وما زال باقيا "يقصد وظل باقيا" إلى أن تكونت ملامح الإنسان الحديث نتيجة لتطورها التدريجي البطيء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ويقول سيجال في كتاب "لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ" "ص8, 9 من الترجمة العربية": "لقد كان هذا النظام المشاعي البدائي ضروريا للمجتمع الإنساني في تلك الرحلة من التطور. فلقد كان من المستحيل على المجتمع لو عاش أفراده حياة منعزلة مبعثرة أن يخترع الأسلحة والأدوات البدائية, وأن يحسنها فيما بعد. ولم يستطع الناس أن يحرزوا انتصاراتهم الأولى في ميدان الكفاح ضد الطبيعة إلا بفضل حياتهم التعاونية، لقد كان اتحادهم في بطن مشاعي هو قوتهم الرئيسية". ويقول "ص15 من الترجمة العربية": "ولا تزال بقايا المشاعية البدائية موجودة حتى أيامنا هذه الدى عدد من الشعوب في شكل مشاعية بدائية تملك الجماعات الزراعية فيها الأرض ملكا مشتركا، وتوزع حصصا منها على أعضائها للتصرف فيها بصورة مؤقتة. وليس يمكن بعد هذا أن يوضع موضع الشك وجود المشاعية البدائية كنقطة بدء في تطور الشعوب كلها". ويقول "ص9 من الترجمة العربية": "لقد كان تطور مستوى قوى المجتمع المنتجة هو الذي يحدد ظروف النظام المشاعي البدائي. ومن الخطأ التصور أن الناس البدائيين هم الذين أوجدوا هذا النظام عن وعي منهم فلقد تشكل وتطور بصورة طبيعية ودون علاقة بإرادة الناس ووعيهم". ثم انحل هذا الطور وانتهى بصورة حتمية. جاء في كتاب "المادية التاريخية" "ص161 من الترجمة العربية": "ومع ظهور الإنتاج الفردي ظهر التناقض بين الملكية الاجتماعية والطابع الفردي لعملية الإنتاج، هذا التناقض الذي يحل عن طريق القضاء على الملكية الاجتماعية وظهور الملكية الخاصة لوسائل ومواد الإنتاج، وهذه هي الأسباب الرئيسية التي أدت إلى القضاء على النظام البدائي كحتمية طبيعية". وحين انحلت المشاعية البدائية بظهور الزراعة وجدت الطبقات، ووجد صراع الطبقات، الذي هو صراع على المصالح المادية: يقول كورنفورث في كتاب "مدخل إلى المادية التاريخية" "ص30, 31 من الترجمة العربية": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 "إنما صار تاريخ الإنسان فقط هو تاريخ الصراع الطبقي لتغير ظروف الإنتاج مع نشوء الزراعة، ثم التغير الهائل في المجتمعات الرأسمالية". وجاء في كتاب" "أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" "ص162 من الترجمة العربية": "والمصالح الأساسية للفئات الاجتماعية والطبقات البشرية هي أولا وقبل كل شيء مصالح مادية اقتصادية تحدد في نهاية الأمر المصالح السياسية والقانونية والأخلاقية والدينية والجمالية والعلمية والفلسفية وغيرها". ويقول ماركس في كتاب "الأيديولوجية الألمانية" "ص56 من الترجمة العربية": "إن أفكار الطبقة السائدة هي في كل عصر الأفكار السائدة أيضا. يعني أن الطبقة التي هي القوة المادية السائدة في المجتمع هي في الوقت ذاته القوة الفكرية السائدة. إن الطبقة التي تتصرف بوسائل الإنتاج المادي تملك في الوقت ذاته الإشراف على وسائل الإنتاج الفكري بحيث إن أفكار أولئك الذين يفتقرون إلى وسائل الإنتاج الذهني تخضع من جراء ذلك لهذه الطبقة السائدة". من المشاعية البدائية انتقل الناس إلى الرق: يقول إنجلز في كتاب أنتي دوهرنج "ص217 من الترجمة العربية": "وإن تطبيق العبودية في الظروف التي كانت سائدة في ذلك الحين قد كان خطوة كبرى إلى الأمام"1. ذلك أنه من الحقائق الواقعة أن الإنسان قد انبثق من الحيوان، وبالتالي فلم يكن له بد من استخدام وسائل بربرية تكاد أن تكون وحشية من أجل تخليص نفسه من البربرية"! 2. ونشأ الرق من منبعين أساسيين: الحرب والدَّيْن ذلك أن المدين الذي يعجز عن السداد كان يتحول إلى رقيق. يقول ماركس: "كان الصراع الطبقي في المجتمع القديم -وبالدرجة الأولى- صراعا بين الدائنين والمدينين، وقد انتهى في روما إلى زوال المدين من طبقة العامة وتحوله إلى عبد "نقلا من كتاب لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ ص17 من الترجمة العربية".   1، 2 التعجب من عندنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وفي مجتمع الرق ظهرت الدولة ونمت الثقافة وظهرت الفلسفة وتقدمت البشرية تقدما كبيرا يعزوه الماديون إلى الصراع الطبقي! جاء في كتاب المادية التاريخية "ص163 من الترجمة العربية": "إن تطور الصراع الطبقي والمعارف النظرية أدى إلى ظهور الفلسفة, وحدثت اختلافات مهمة على صعيد الدين، الذي تحول تدريجيا إلى أداة روحية لاستعباد الجماهير، وبهذا فإن انقسام المجتمع إلى طبقات يحدث انقلابا جذريا في البنيان الفوقي وفي حياة المجتمع الروحية كلها، وفي المجتمع العبودي بالذات ظهرت لأول مرة كل الأشكال الراهنة للوضع الاجتماعي". وكانت معاملة الرقيق في أوروبا بالبشاعة التي يعرفها التاريخ، ولم تفلح ثورات العبيد في تحسين أحوالهم ولا رفع الرق عنهم، ولكن لأسباب مادية واقتصادية بحتة بدأ عهد الرق ينهار. يقول إنجلز في كتاب "أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة" "ص236, 237 من الترجمة العربية": "ولكن هذه العبودية المشرفة على الموت كانت لا تزال من القوة بحيث تجعل كل عمل من أعمال الإنتاج يبدو وكأنه عمل عبودي وضيع لا يليق بمقام الرومان الأحرار ... إن المسيحية ليس مسئولة قط عن هذا الزوال التدريجي للعبودية القديمة, إذ هي قد جنت من ثمار العبودية في الإمبراطورية الرومانية خلال قرون من الزمن، ولم تفعل فيما بعد شيئا لا لمنع المسيحيين من المتاجرة بالرقيق -سواء الألمان في الشمال أو تجار البندقية على البحر الأبيض المتوسط- ولا لحظر التجارة بالرقيق الزنوج في السنين الأخيرة، وإنما زالت العبودية؛ لأنها لم تعد تدر ربحا قط، لكنها بزوالها خلفت وراءها لسعتها السامة وذلك بوسمها عمل الأحرار في الإنتاج بميسم الضعة، فكان ذلك بمثابة الزقاق المسدود الذي وجد العالم الروماني نفسه فيه، كان العبودية مستحيلة من الناحية الاقتصادية, وكان عمل الأحرار مستهجنا من الناحية الأخلاقية, لم يعد في وسع الأول أن يظل أساس الإنتاج الاجتماعي, وكان الأخير لا يزال غير قادر على أن يكون أساسا لهذا الإنتاج، لم يكن ينفع في هذا الحال سوى ثورة كاملة"1.   1 لم يقل لنا كيف كانت هذه الثورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 هذا من جهة.. ومن جهة أخرى كان اختراع المحراث الحديدي أهم تحول أدى إلى ظهور الإقطاع. يقول سيجال في كتابه "لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ "ص21 من الترجمة العربية": "كان نظام الرق شكلا اجتماعيا ضروريا من أشكال تطور القوى المنتجة في مرحلة من مراحل التاريخ, ولكن هذا التطور كان بدوره سببا لانحطاط هذا النظام". جاء الإقطاع بصورته الأوروبية المعروفة، وكانت الطبقتان المسيطرتان فيه هما: طبقة كبار الملاك وطبقة رجال الدين، وبقية الشعب مسخر لصالح كلتا الطبقتين.. وأخذ الإقطاع جولته التاريخية "الحتمية" حتى تطورت أدوات الإنتاج باختراع الآلة وتعقدت علاقات الإنتاج القائمة وصارت غير مناسبة للمرحلة الاقتصادية الجديدة. جاء الإقطاع نتيجة ظروف مادية واقتصادية، فمن الناحية الماديةكان اختراع المحراث الحديدي وتطور زراعة الأرض نتيجة إدخال أدوات جديدة أكثر صلاحية من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور الإقطاع، ومن الناحية الاقتصادية كان لا بد من تغيير علاقات الإنتاج بعد أن أصبح الرقيق -بحالته التي كان عليها- عاجزا عن الإنتاج أو بعبارة أخرى عاجزا عن تلبية مصالح السيد الاقتصادية، لكثرة تمرده وهربه نتيجة المعاملة البشعة التي كان يتلقاها من السيد أو وكيله. وفي النظام الإقطاعي يملك السيد الأرض ولكن الفلاح الذي يعمل لحساب السيد يمكن أن يمتلك قطعة صغيرة من الأرض -بالقدر الذي يسمح به الإقطاعي- وله نصيب من الإنتاج -يحدده الإقطاعي كذلك- يعيش منه هو وأسرته. ولكن نصيب الفلاح -في مجموعه- كان أضأل من أن يوفر له الحياة الكريمة أو الحياة الصحية، وكان هو وأسرته يعيشون في حالة من الضنك الشديد، وكثيرا ما كان الفلاحون يموتون بالمئات والألوف نتيجة الجوع أو الإصابة بالسل أو نتيجة الأوبئة الفتاكة. وبدأ نضال الفلاحين ضد الإقطاعيين لرفع الظلم الفاحش الواقع عليهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ولكنهم كانوا أضعف من أن ينالوا شيئا من الإقطاعيين المحصنيين بقلاعهم المزودين بجيوش تحميهم، كما أنه لم يكن للفلاحين تجمع ذو هدف محدد يخوض معركة منظمة ضد الإقطاعيين، لذلك باءت ثوراتهم بالإخفاق، ولكن من خلال التطور المادي والاقتصادي أخذ الإقطاع ينهار لتحل محله الرأسمالية. نشأت الرأسمالية "التي يسميها الشيوعيون البرجوازية لنشأتها في المدينة Bourjois نتيجة عدة عوامل أهمها اختراع الآلة التي أخذت تحل بالتدريج محل الإنتاج اليدوي، كما اتسعت الكشوف الجغرافية وزاد حجم التجارة الأوروبية"1، كما أن ظاهرة العمل المأجور -أي: تأجير العامل جهد يده من أجل الحصول على مطالب الحياة- كانت قد بدأت توجد في المدن وإن كان حجمها في بادئ الأمر لم يكن كافيا لتشغيل الحركة الصناعية الناشئة فقامت الثورة التي أدت إلى تحطيم الإقطاع. يقول سيجال في كتاب: "لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ" "ص33 من الترجمة العربية": "وهكذا نرى أن الإقطاعية التي كات متوافقة عند نشأتها مع مستوى القوى المنتجة في المجتمع صارت متناقضة مع القوى المنتجة المتنامية، وصار إلغاؤها ضرورة تاريخية". وفي ظل الرأسمالية حدث تقدم عظيم في مجالات كثيرة منها المجال العلمي والمجال التكنولوجي؛ لأن الرأسمالية تسعى دائما لزيادة الإنتاج من أجل الربح. كما نشأ تنظيم جديد للعمل يتعاون فيه مجموعة كبيرة من الناس في العمل الواحد بدلا من العمل الفردي، ونشأ تحسين للطرق والمواصلات من أجل تصريف الإنتاج الصناعي في داخل البلاد وخارجها، كما كان الاستعمار وسيلة للحصول على موارد رخيصة ومجالا لتصريف فائض الإنتاج، ونشأت   1 نحن هنا -كما سبقت الإشارة- نعرض الأفكار ولا نناقشها، ولكن لا بد لنا هنا من تعليق بمناسبة الكشوف الجغرافية وزيادة حجم التجارة الأوروبية يغفله المؤرخون الأوروبيون عامدين، ويستغل إغفالهم ذلك كل الذين يحبون طمس العنصر الديني وآثاره في التاريخ البشري، فإن الحقيقة أن الحروب الصليبية الحديثة التي بدأت بعد طرد المسيحيين للمسلمين من الأندلس، وملاحقتهم لمحاولة القضاء عليهم فيما وراء الأندلس، كانت هي السبب الحقيقي للكشوف الجغرافية، وأشهر مثال على ذلك أن فاسكوداجاما -الذي كشف لأوروبا طريق رأس الرجاء الصالح- قال عند وصوله إلى جزر الهند الشرقية "الآن طوقنا رقبة الإسلام ولم يبق إلا جذب الحبل ليختنق فيموت" وقد كان الاستعمار الصليبي لبلاد الإسلام أهم العوامل في تنشيط التجارة الأوروبية وإتاحة الفرصة للرأسمالية النامية لتستكمل نموها الظالم الجبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 "الأمم" في أوروبا وحل الحكم الدستوري محل الحكم الملكي المطلق. ولكن هذا كله كان على حساب طبقة العمال المضطهدة، التي تبذل الجهد الحقيقي في عملية الإنتاج ولا تنال إلا أقل القليل. يقول إنجلز في كتاب "أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة" "ص279 من الترجمة العربية": "ولما كان استغلال طبقة من قبل طبقة أخرى هو أساس الحضارة، فإن نموها كله يسير في تناقض مستمر، كل خطوة إلى الأمام في الإنتاج هي في الوقت ذاته خطوة إلى الوراء في أحوال الطبقة المضطهدة أي الأكثرية العظمى، كل ما هو خير للبعض لا بد أن يكون شرا للآخرين، كل تحرر جديد لإحدى الطبقات يعني دائما اضطهاد جديدا لطبقة أخرى، وأعظم دليل على هذا نجده في إدخال الآلة "يقصد الرأسمالية" التي يعرف العالم بأسره آثارها الآن". ويقول كور نفورث في كتاب "مدخل إلى المادية التاريخية" "ج1 - ص73 من الترجمة العربية": "والسمة الأساسية لزيادة قوى الإنتاج التي نشأت في إطار الرأسمالية هي تشريك العمل "يقصد جعله مشتركا بدلا من أن يكون فرديا" فلقد حلت محل الإنتاج الفردي الصغير قوة العمل الاجتماعي الذي يتعاون الناس فيه معا في منشآت إنتاجية كبيرة تستخدم آلات تعمل بالطاقة. لكن هذه السمة تعوقها علاقات الإنتاج الرأسمالية التي تجعل التاريخ ملكا للرأسماليين، وتجبر الإنتاج الاجتماعي على أن يخدم الربح الخاص". وجاء في كتاب "المادية التاريخية" "ص174 من الترجمة العربية": "إن تغيير علاقات الإنتاج الإقطاعية إلى علاقات رأسمالية يؤدي إلى إعادة تركيب البناء الفوقي الذي يؤدي بدوره مع ملاءمته للقاعدة الجديدة إلى تغيير وجه المجتمع كله". وجاء فيه أيضا "ص341, 342 من الترجمة العربية": "إن عصر الرأسمالية الصاعدة هو عصر نشوء الأمم. والماركسيون يذهبون إلى أن الأمة لم توجد قبل الرأسمالية؛ لأن الشروط الاقتصادية اللازمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 لنشوئها كانت لا تزال معدومة1 إن تَكَوّن الشعب من اختلاط مجموعات جغرافية مختلفة اتحدت في الأرض واللغة والثقافة كان المنطلق لتكوين الأمة. مع أنه ليس ضروريا أن تتألف الأمة من شعب واحد، فكل الأمم الحديثة نشأت وتنشأ نتيجة لاتحاد الشعوب المختلفة. وهكذا فإن الأمة كشكل لتجمع الناس نشأت من متطلبات الإنتاج الرأسمالي وتنشأ على أساسه، وهي تنشأ؛ لأنها ضرورية من أجل تطور الإنتاج الرأسمالي الضخم"2. وتأخذ الرأسمالية دورها ثم يجيء التطور الحتمي ... يقول سيجال في كتابه "لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ" "ص36, 37 من الترجمة العربية": "غير أن الرأسمالية -عندما تتطور قوى المجتمع المنتجة - تبدو يوما فيوما أقل قدرة على السيطرة عليها. وأجدى برهان على ذلك هو تلك الأزمات التي تأتي على نحو دوري فتزعزع النظام الرأسمالي وتدمر جزءا من القوى المنتجة، وهكذا تصبح الرأسمالية أكثر فأكثر عائقا في طريق تطور هذه القوى التي ولدتها هي ذاتها، ومن هنا يتبين أن إلغاء الرأسمالية بالطرق الثورية واستبدالها بالشيوعية "يقصد استبدال الشيوعية بها؛ لأن الباء تدخل على المتروك" أي: بمجتمع دون طبقات تكون وسائل الإنتاج فيه ملكا مشتركا يصبح ضرورة تاريخية". والسبب الرئيسي في ذلك هو التناقض المتزايد بين مصالح الرأسمالية ومصالح العمال "طبقة البروليتاريا" الذي يؤدي في النهاية إلى ثورة طبقة البروليتاريا على طبقة الرأسماليين لنزع السلطة منها وإنشاء مجتمع بلا طبقات، وتوزيع الإنتاج على الجميع دون استغلال طبقة لطبقة. ولا يتم ذلك دفعة واحدة. فهناك مرحلة انتقالية ينتقل فيها الناس من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ثم إن المرحلة الاشتراكية تمهد للمرحلة الأخيرة وهي الشيوعية حيث يتحقق مبدأ "من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته". تنقضي المرحلة الأولى في الكفاح لإزالة الطبقة المستغلة والقضاء عليها، حتى يمكن تأصيل المبادئ الجديدة المبنية على إزالة الطبقات وتحويل الملكية من ملكية فردية إلى ملكية جماعية. والعمل على زيادة الإنتاج لكي تتحقق المرحلة الأخيرة التي لا يمكن الوصول إليها إلا بزيادة هائلة في الإنتاج تمكن كل إنسان أن يأخذ بحسب حاجته في الوقت الذي يعمل حسب طاقته.   1، 2 نقول دون مناقشة للفكرة -ولكن للتذكرة فقط- إن هذا قد يكون صادقا على نشأة الأمم في أوروبا مع الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر الميلادي، ولكن قبل ذلك بأحد عشر قرنا برزت إلى الوجود أمة قال عنها خالقها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وانظر المناقشة في مكانها فيما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ثانيا: التفسير المادي للدين و الأخلاق والأسرة الدين ... ثانيا: التفسير المادي للدين والأخلاق والأسرة يقصد بالتفسير المادي للدين والأخلاق والأسرة أمران في آن واحد: الأول: أنها ليست "قيما" قائمة بذاتها، ولا يمكن النظر إليها على هذا النحو، ومن ثم فليس لها ثبات ولا قدسية، والثاني: أنها في ذات الوقت انعكاس للأحوال المادية والاقتصادية القائمة في أي وقت من الأوقات، وكل وضع مادي أو اقتصادي قائم هو الذي ينشئ "الأفكار" المتعلقة بالدين والأخلاق والأسرة، وتتغير هذه الأفكار تغيرا حتميا كلما تغير الوضع المادي أو الاقتصادي، وإليك أقوالهم في كل أمر من هذه الأمور الثلاثة: 1- الدين: يقول إنجلز "ص381 من الترجمة العربية لكتاب أنتي دوهرنج": "ومهما يكن من شيء فليس الدين إلا الانعكاس الوهمي في أذهان البشر لتلك القوى الخارجية التي تسيطر على حياتهم اليومية، وهو انعكاس تتخذ فيه القوى الأرضية شكل قوى فوق طبيعية". ويقول كذلك "ص382 من نفس الكتاب": "من الأزمنة الموغلة في القدم -إذ وصل الفكر بالناس وهم بعد في جهل تام ببنياتهم الجسدية الخاصة، وتحت تأثير أحلامهم، إلى القول بأن أفكارهم وأحاسيسهم ليست من فعل أجسادهم ذاتها، بل من فعل روح خاصة تسكن هذا الجسد وتفارقه لحظة الموت- منذ ذلك الحين اضطروا لأن يصطنعوا لأنفسهم أفكارا عن علاقات هذه الروح مع العالم الخارجي". "وعلى هذا النحو تماما -عن طريق تشخيص القوى الطبيعية- ولدت الآلهة الأولى التي اتخذت خلال التطور اللاحق شكلا غير أرضي أكثر فأكثر، إلى أن حدث أخيرا عملية تجريد ... فنشأ على نحو طبيعي خلال التطور العقلي أن تولدت في عقل الناس من الآلهة المتعددين ذوي السلطة الضعيفة والمقيدة بعضهم حيال بعض، فكرة الإله الواحد المنفرد في الديانات التوحيدية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ويستشهد مؤلفو كتاب "أصول الفلسفة الماركسية "ج1، ص296, 297 من الترجمة العربية" بهذه القولة لإنجلز: "إن الدين يولد من نظريات الإنسان المحدودة، وهذه النظريات محدودة بعجز الناس البدائيين المطلق تقريبا أمام الطبيعة المعادية، التي كانوا لا يفهمونها، وهي محدودة من ناحية ثانية بتعلقهم الأعمى بالمجتمع الذي لا يفهمونه، والذي كان يبدو لهم أنه تعبير عن إرادة سامية، وهكذا كانت الآلهة -وهي الكائنات المهمة الجبارة المسيطرة على الطبيعة والمجتمع- انعكاسا ذاتيا لعجز الناس الموضوعي أمام الطبيعة والمجتمع، وكان على تقدم العلوم الطبيعية والاجتماعية أن يظهر طابع المعتقدات الوهمي: الاعتقاد بوجود آلهة. متعددة، ثم الاعتقاد بوجود إله واحد". وجاء في كتاب "نصوص مختارة، فردريك إنجلز" "جمع جان كانابا، ترجمة وصفي البنا، ص177, 178" من الترجمة العربية": "أما المجالات الأيدلوجية التي تحوم أعلى في الفضاء كالدين والفلسفة ... إلخ، فإنها مؤلفة من بقية -تعود إلى ما قبل التاريخ وقد وجدها العهد التاريخي أمامه فالتقطها- لما نسميه اليوم غباء. إن هذه التصورات المختلفة الخاطئة عن الطبيعة، وعن تكوين الإنسان ذاته، وعن الأرواح، وعن القوى السحرية، ليس لها في الغالب إلا أساس اقتصادي سلبي، فالتطور الاقتصادي الضعيف لعهد ما قبل التاريخ تكون فيه كتكملة -ولكن كذلك عل نحو جزئي كشرط أو حتى كسبب- تصورات خاطئة عن الطبيعة". هذا عن نشأة الدين "أي: في فترة الشيوعية البدائية" أما عن تطوره نتيجة تغير الأوضاع المادية والاقتصادية فإنه في عهد الرق والإقطاع استغل لتخدير الكادحين حتى لا يشعروا بالظلم الواقع عليهم، ولتمنيتهم بنعيم الجنة تعويضا عن عذاب الدنيا. جاء في كتاب أصول الفلسفة الماركسية "ج2، ص106, 107 من الترجمة العربية". "لم تحرم الكنيسة الكثوليكية الرق، ولذلك وجد رقيق في أوروبا في العصر الوسيط، ولقد علمت الكنيسة الأرقاء أن يطيعوا سيدهم، واضطرت الأسياد المحاربين حقا إلى احترام "هدنة الله" وهددتهم بالنار الأبدية، ولكنها بهذا الإجراء قد أنقذت قبل كل شيء المزروعات الضرورية لحياة المجتمع، كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 حفظة الإنتاج وأمنت تفشي المجاعة واندلاع نار الثورة، وهكذا تحمي في النهاية الإقطاعية ضد تصرفات الإقطاعيين المغالية"1. ويقو موريس كورنفورث "ص117, 118 من الترجمة العربية لكتابه: "مدخل إلى المادية التاريخية"". "وفي أوج الإقطاع في أوروبا الغربية كانت للكنيسة الكاثوليكية مكانة هائلة, وسادت العقيدة الكاثوليكية الفلسفة والأدب والفنون، ولقيت هذه العقيدة مساندة السلطة الزمنية -مساندة الحكام الإقطاعيين ودولهم والقوانين- ولا يمكن تفسير الحماس القاسي الذي كانت الكنيسة تلاحق به الهراطقة وتلقى فيه مساندة الحكام بمجرد الهوس الديني فلماذا وجد هذا الهوس؟ لقد استقرت العقيدة الكاثوليكية كجزء أساسي في النظام الاجتماعي وأحست الكنيسة عن حق -كمالك كبير للأرض إلى جانب كبار ملاك الأرض الآخرين- بخطر التمزق الاجتماعي الكامن خلف كل هرطقة". ويقول إنجلز عن الحروب الدينية التي سادت في العصور الوسطى "ص169, 170 من الترجمة العربية لكتاب المادية التاريخية": "إن ما يسمى بالحروب الدينية ... كانت تتضمن مصالح طبقية مادية إيجابية، فقد كانت هذه الحروب حروبا طبقية تماما ... ورغم أن الصراعات الطبقية كانت عندئذ مغلفة بشعارات دينية، ورغم أن مصالح وحاجات ومطالب مختلف الطبقات كانت مختفية خلف شعار ديني، فلم يبدل هذا شيئا من الأمر، ويمكن تفسيره ببساطة من واقع ظروف تلك الأيام". أما في عصر الرأسمالية فقد ضعف الدين في أوروبا، وهذا تفسيرهم لهذه الظاهرة: يقول جورج سول في كتاب "المذاهب الاقتصادية الكبرى" "ترجمة الدكتور راشد البراوي، ص49, 51 من الترجمة العربية": "فإذا كانت المصادر القديمة قد أخطأت في نظراتها إلى العالم الطبيعي أما كانت كذلك مخطئة في نظراتها إلى السلوك البشري؟ أصبح كل شيء موضع التساؤل والشك، وعلى ذلك سمي العلم فلسفة، ولم يعد هناك تمييز بين   1 يفهم من هذا النص أن الكنيسة قامت بدور مزدوج: إخضاع الرقيق للسادة من جهة، ومنع السادة من إساءة معاملة الرقيق من جهة أخرى. لكن الغالب في كلام الشيوعيين أن يؤكدوا الدور الأول ولا يشيروا إلى الدور الآخر، وعلى أي حال فقد ربط النص عملية تعميق الدين في النفوس بأسباب وغايات اقتصادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الميادين التي عني كل منهما بفتحصها، وأخذ الكتاب والمتفلسفون يعيدون البحث في النظم البشرية تماما كما كانوا يفعلون بالنسبة إلى الأشياء غير البشرية، وهم في تصرفهم هذا كانوا يسلمون بأن الإنسان جزء من الطبيعة وليس كائنا منفصلا عن بقية المخلوقات, أوجدته العناية الإلهية وتولت رعايته. "وأصبح البحث ينصب على تفسير النتائج والأسباب بالنسبة إلى السلوك البشري -سواء أكان مرغوبا فيها أم غير مرغوب- عن طريق قوانين الطبيعة، بدلا من البحث عنها في إرادة الله كما قالت الكتب المقدسة أو المذاهب الكنسية، ومعنى هذا -بتعبير آخر- أن علينا أن نسترشد في أعمالنا وتصرفاتنا بالعقل دون سلطة القدامى". "وصار لزاما على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك ووجدوه في الطبيعة، أما الذين ظلوا على استمساكهم بالدين ولو باللسان -وإن لم كن في الواقع كما هو أغلبهم- فقد اعتقدوا أن الله يعبر عن إرادته عن طريق الطبيعة وقوانينها، وليس بوسيلة مباشرة، وبذلك لم تعد الطبيعة مجرد شيء له وجود فحسب، وإنما هو شيء ينبغي أن يطاع، وصارت مخالفتها دليلا على نقص التقوى والأخلاق". ويقول كورنفورث "ج2 ص107" من الترجمة العربية لكتاب أصول الفلسفة الماركسية": "ومع ظهور البرجوازية برزت أفكار دينية وفلسفية جديدة، ففي مجال الدين بدأ التأكيد على ضمير الفرد وعلاقة الفرد المباشرة بالله، ودعا الفلاسفة إلى سيادة العلم والعقل، ومن هذه الزاوية أخضعوا الأفكار الإقطاعية للنقد المدمر، ودرسوا من جديد أسس المعرفة، وحاولوا أن يبينوا كيف يمكن توسيع المعرفة ووضع الإنسانية في طريق التقدم، وكانوا في ذلك يخدمون البرجوازية الجديدة في التخلص من الإقطاع ودعم الرأسمالية". ولكن البرجوازية أحست بأن نبذها للدين خطر عليها فعادت إلى احتضان الدين وتسخيره لمصالحها. يقول كورنفورث "ج2، ص107, 108 من الترجمة العربية": "ولهذا رأينا البرجوازية حينما شعرت بالتهديد، أعادت الدين عن قصد وتبنته -بعد أن سخرته لخدمة حاجاتها- فقوته ودعمته وجعلته جزءا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 لا يتجزأ من البناء الفوقي الرأسمالي، ثم أعلنت أن التعليم الديني والتعليم العلماني يتمم كل منهما الآخر"1. أما الشيوعية فموقفها من الدين واضح. جاء في كتاب "المادية التاريخية" "ص80 من الترجمة العربية": "إن الدين لا يتولد من القاعدة في الظروف الاشتراكية، وإنما يوجد كجزء من مخلفات القديم، كبقية من البنيان الفوقي للتشكيلات السابقة, سوف يتم القضاء عليها في عملية بناء الشيوعية، ويتضمن البرنامج الجديد للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي تأكيدا على ضرورة استخدام مختلف وسائل التأثير الفكري للقضاء على الخرافات الدينية، ومن أجل نشر تربية علمية". وجاء في كتاب: "أصول الفلسفة الماركسية" "ج1 ص297 من الترجمة العربية": "ولهذا كان الفلاح في روسيا القديمة -وقد أرهقه الفقر وفقد كل أمل في المستقبل- يستسلم للإرادة الإلهية، ولقد جاءت الثورة الاشتراكية فوضعت في يد المجتمع السيطرة على قوى الإنتاج، ومكنته في نفس الوقت من إدارة المجتمع بصورة علمية، كما زادت سيطرته على الطبيعة، فوجدت عندئذ الظروف الموضوعية لتنمحي من وعي الناس الأفكار الدينية التي ولدتها ظروف موضوعية أخرى". "وأخيرا يقول ماركس قولته الشهيرة" "الدين أفيون الشعوب".   1 قد يكون هذا حقا بالنسبة "للتخطيط" الرأسمالي، ولكننا لا نرى له أثرا واقعيا في المجتمع الغربي المتحلل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 2- الأخلاق : يقول إنجلز "ص114, 115من الترجمة العربية لكتابه أنتي دوهرنج": "وهكذا فإننا نرفض كل محاولة لإلزامنا بأية عقيدة أخلاقية مهما كانت على اعتبارها شريعة أخلاقية أبدية، ونهائية، وثابتة أبدًا، بحجة أن للعالم الأخلاقي أيضا مبادئه الدائمة التي تنهض فوق التاريخ وفوق الفوارق بين الأمم ... إننا ننادي على النقيض من ذلك بأن سائر النظريات الأخلاقية قد كانت حتى هذا التاريخ، في آخر تحليل، نتاجا لأوضاع المجتمع الاقتصادية السائدة في زمانها". ويقول "ص115": "وما دام المجتمع قد تطور حتى الوقت الحاضر ضمن التضادات الطبقية، فإن الأخلاق كانت على الدوام أخلاقا طبقية، فهي إما أن تبرر سلطة الطبقة الحاكمة ومصالحها، وإما أن تمثل -حالما تحوز الطبقة المضطهدة ما يكفي من القوة- التمرد على تلك العقيدة، ومصالح المضطهدين المقبلة في الوقت نفسه". وفي مجال التطور الأخلاقي المرتبط بتطور الأوضاع الاقتصادية تجيء مثل هذه الأقوال: جاء في كتاب "النظرية الماركسية اللينينية: في المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" تأليف إيرزرين ورفيقه "ترجمة خيري الضامن، ص439 من الترجمة العربية": "ولقد ولدت علاقات الإنتاج الجماعية في النظام المشاعي البدائي عادات وتقاليد جماعية وأخلاقا جماعية عند الناس البدائيين، وعندما واجه الناس في مجرى تطور القوى المنتجة علاقات أصبح فيها التمتع الشخصي ببعض الأشياء أكثر سهولة لعملية الإنتاج، تغيرت آراء الناس أيضا، وأصبحت الملكية الشخصية لبعض الأشياء.. وهي الملكية التي كانت تعتبر في المراحل السابقة لا أخلاقية، أو غير طبيعية وغير معتادة على أقل تقدير، أمرا لا ضير فيه، ولا يتعارض مع المصلحة العامة". وجاء في كتاب المادية التاريخية "ص457 من الترجمة العربية": "إن أخلاق مجتمع عهد الرق هي أول شكل للأخلاق الطبقية، فقد كانت أخلاق مالكي الأرقاء هي السائدة في ذلك المجتمع، وهي إذ نشأت على أساس العلاقات الاقتصادية للنظام الرِّقِّي، كانت تعكس العلاقات القائمة بين الأرقاء ومالكيهم بالدرجة الأولى، إن الخاصية المميزة لهذه الأخلاق هي أنها كانت لا تعترف بالعلاقات الإنسانية إلا بين الأحرار من الناس، لقد كان الرقيق خارج الأخلاق، وهو سلعة وشيء، وأداة ناطقة.. ولهذا فقد كانت الأخلاق تسمح بظلمه وجلده وقتله، ولم تكن تلك المعاملة الوحشية للرقيق لتوقظ أي "تأنيب ضمير" لدى مالكه، وكانت الأخلاق تبررها، لكن هنا التبرير لم يكن إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ضرورة اقتصادية أملتها العلاقات الرقية لذلك العصر1. وجاء في نفس الكتاب "ص457, 458 من الترجمة العربية": "ومع الانتقال إلى الإقطاعية صارت الأخلاق الإقطاعية هي السائدة، فهي لا تنظر إلى القن كشيء، وإنما كإنسان من الدرك الأسفل "العظم الأسود" بينما كانت تنظر إلى ممثلي الطبقة السائدة كبشر من الصنف الممتاز "العظم الأبيض" وإلى جانب هذا فقد كانت الأخلاق الإقطاعية تخفي ظلم الإقطاعيين الوحشي للفلاحين وتقنع الشكل الإقطاعي للاستغلال، ولقد كانت تصور بنفاق كبير علاقة السيد بفلاحيه كعلاقة الأب ببنيه، يوجههم ويرعاهم ويتحمل المسئولية عنهم". "إن دين المجتمع الإقطاعي قام بتفسير الأخلاق السائدة وبوضع الأسس لها، إذ صور مطالبها وحدودها التي تعبر في الواقع عن مصالح المستغلين كأوامر إلهية، والأخلاق الإقطاعية التي ارتكزت على الدين ساعدت على كبح جماح جماهير الفلاحين المسحوقة السوداء"2. أما في ظل الرأسمالية فقد حدث تقدم ظاهري يخفي المضمون الحقيقي للأخلاق الطبقية الاستغلالية. جاء في نفس الكتاب "ص458, 459 من الترجمة العربية": "ومع هذا فقد أحرز التقدم الاجتماعي خطوة إلى الأمام على صعيد الأخلاق، فالأيديولوجيون البرجوازيون إذ يناضلون ضد الأيديولوجية والأخلاق الإقطاعيتين، ناضلوا في سبيل حرية الفكر، وحرية النشاط من أجل تحرير الفرد من كل القيود الإقطاعية الممكنة، ولكنه مع انتصار الرأسمالية يتكشف المضمون الحقيقي لأفكار الحرية والمساواة والإنسانية البرجوازية. فالمساواة البرجوازية شكلية، وهي تخفي تبعية العامل للرأسمالي، والاستغلال الشديد الوطأة للمنتج المباشر، المقيد اقتصاديا من قبل الرأسماليين بقيود أقوى من أية قيود حديدية أخرى. إن الحرية البرجوازية هي تمتع الرأسماليين   1 هذا الكلام صادق ولا شك, ومع أننا هنا في مجال العرض لا في مجال المناقشة فإننا نشير فقط مجرد إشارة -ضرورية في هذا الموضع- إلى أن الأخلاق التي يتحدث عنها الماديون هذا الحديث هي الأخلاق الجاهلية أي: غير المستمدة من المصدر الرباني, وهذه يصدق عليها ما يقال عنها في الغالب، ولكنهم في كلامهم لا يفرقون بين الأخلاق الجاهلية والأخلاق الربانية. 2 هذا أيضا صحيح ولكننا نشير فقط إلى أن "الدين" الذي ارتكزت عليه الأخلاق الإقطاعية لم يكن هو الدين المنزل من عند الله، كما سبق بيان ذلك في التمهيد الأول من هذا الكتاب، إنما كان دينا جاهليا من صنع الكنيسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 بحرية نشاط المؤسسة، وفي الاستيلاء على عمل الآخرين، وهي بالنسبة للبروليتاري بيع قوة عمله أو الموت جوعا، والإنسانية البرجوازية أيضا هي إنسانية مجردة. فالرأسمالية في الواقع لا تخلق الشروط الواقعية لتطور وازدهار الشخصية، وأكثر من ذلك فهي تحول كرامة الإنسان إلى قيمة تبادلية، والعلاقات بين الناس إلى علاقات نقدية، قاضية على أي نوع من الصلات بين الناس إلا صلة المصلحة المكشوفة، صلة الدفع الخالي من العلاقات الإنسانية". "إن مبدأ الفردية هو السائد في سلوك البرجوازي إلا أنه ليس من مصلحة البرجوازية أن تعلن عن مصالحها الجشعة بصورة سافرة ومكشوفة, إن البرجوازي يسعى لتبرير أنانيته وفرديته في الوعي الأخلاقي، إذ يصور السعي لبلوغ أهدافه الجشعة كاهتمام بالمصلحة العامة، وهنا تتجلى الفردية الحيوانية "كحرية الفرد" ويتجلى استعمار العمال "كإنقاذ للمحرومين من الجوع" و"كتقديم الخبز للجائعين" ويتجلى إنتاج السلع من جل الحصول على الأرباح "كتأمين المواد الضرورية للمجتمع" ويتبدى استعباد الشعوب الأخرى كعملية "تمدين" لها". "ولهذا فإن ما يميز الأخلاق البرجوازية هو طابعها المنافق عندما تتقنع شريعة الغاب في عالم الملكية الخاصة بستار من تعاليم الأيدلوجيين البرجوازيين"1. وأما أخلاق الشيوعية فلندعهم هم يصفونها بأقلامهم. جاء في نفس الكتاب "ص471, 472 من الترجمة العربية": "إن الماركسية تنتقد دونما تحفظ محاولات علماء الاجتماع البرجوازيين، والبرجوازيين الصغار، لجعل الاشتراكية قائمة على "أساس أخلاقي" أي: بناء نظرية الاشتراكية على أساس المبادئ الخلقية المجردة كالعدالة الخالدة والحق المطلق وغيرهما، دون أن ينطلقوا من القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي. وبهذا المعنى في الواقع ليس في الماركسية مثقال ذرة من الأخلاق كما يقول لينين: "إن الظلم وغيره من وجهة النظر الماركسية ليس أساسيا وإنما هو نتيجة   1 هذا أيضا صحيح، وواضح -كما أشرنا في فصل "الديمقراطية"- أن الرأسمالية نظام جاهلي بحت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 للرأسمالية، والاشتراكية لا تحتاج إلى أساس أخلاقي، وإنما إلى أساس علمي".. وجاء فيه أيضا "ص465-476": "إن أهم مبادئ الأخلاق الشيوعية هي العلاقة الشيوعية نحو العمل، والاهتمام برعاية وزيادة الأموال الاجتماعية، وفي العلاقة نحو العمل بالذات وقبل كل شيء، يتجلى الإطار الروحي الجديد للناس الذين تربوا في المجتمع الاشتراكي، وتتلاءم مع الأخلاق الشيوعية تلك العلاقة الشريفة الطيبة نحو العمل, العلاقة نحو العمل كإبداع وكأسمى واجب للفرد تجاه المجتمع". "إن الأخلاق الشيوعية تدين المهملين والمتقاعسين والطفيليين، إن إرادة العيش على حساب الآخرين تتناقض مع أساس المجتمع الاشتراكي، ومع أخلاقه". ومن ناحية أخرى يقول إنجلز: "إن الأخلاق التي نؤمن بها هي كل عمل يؤدي إلى انتصار مبادئنا مهما كان هذا العمل منافيا للأخلاق المعمول بها"1. ويقول لينين: "يجب على المناضل الشيوعي الحق أن يتمرس بشتى ضروب الخداع والغش والتضليل، فالكفاح من أجل الشيوعية يبارك كل وسيلة تحقق الشيوعية"2. ويقول أيضا: "إذا لم يكن المناضل الشيوعي قادرا على أن يغير أخلاقه وسلوكه وفقا للظروف مهما تطلب ذلك من كذب وتضليل وخداع فإنه لن يكون مناضلا ثوريا حقيقيا"3.   1، 2 عن كتاب "اشتراكيتهم وإسلامنا، تأليف بشير العوف ص36, 37. 3 المصدر السابق "ص37". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 3 - الأسرة : لا يختلف تفسيرهم للأسرة عن تفسيرهم للدين والأخلاق من حيث إنها انعكاس للأوضاع المادية والاقتصادية، ومن حيث إنها متطورة على الداوم، وليست "قيمة" ثابتة ولا قائمة بذاتها. قول جان فريفيل في كتاب "المرأة والاشتراكية" ترجمة جورج طرابيشي "ص17 من الترجمة العربية": "لا تشكل الأسرة كيانا اجتماعيا خالدا، ولقد طرأت عليها تبدلات عديدة عبر القرون، وهذا التطور يتحدد في التحليل الأخير بالعامل الاقتصادي". ثم يرسمون خطا تطوريا للأسرة يعتمد في مراحله الأولى على ما اكتشف من أحوال القبائل المتأخرة في مختلف قارات الأرض، أو ما يتصورونه من أحوالها في بعض الأحيان "كحديثهم عن أسرة الجيل". ويقسمون أطوار الأسرة إلى: أسرة الجيل، وأسرة الشركاء، والأسرة الزوجية والأسرة الوحدانية. فأما أسرة الجيل "التي يتصورونها تصورا" فقد كانت العلاقات الجنسية مباحة فيها بين جمع أبناء الجيل الواحد, أي: بين الأخوة والأخوات، ومحرمة في ما دون ذلك, أي: بين جيل الآباء وجيل الأبناء. يقول إنجلز في كتاب "أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة": ترجمة أديب يوسف ص56, 57 من الترجمة العربية": "في هذه المرحلة "أسرة الجيل" تصنف المجموعات الزواجية تبعا للأجيال, جميع الأجداد والجدات ضمن حدود الأسرة هم أزواج وزوجات بالتبادل، وكذلك الأمر في أولادهم: الآباء والأمهات، كما أن أولاد هؤلاء يؤلفون هم أيضا حلقة ثالثة من الأزواج والزوجات المشتركين، ويؤلف أولاد هؤلاء أعني أولاد الأحفاد للأجداد والجدات حلقة رابعة، وهكذا: في هذا الشكل من الأسرة يحرم السلف والخلف فقط -الآباء والآولاد- من حقوق وواجبات زواج أحدهم بالآخر". "إن أسرة الجيل قد انقرضت وحتى أخشن الشعوب التي يتحدث عنها التاريخ لا تمدنا بأمثلة على هذا الشكل يمكن التثبت عنها"1. ويقول "ص53, 54 من الترجمة العربية": "ولئن كان ثمة أمير أكيد فهو أن الغيرة عاطفة نشأت في عهد متأخر نسبيا، وهذا يصدق على مفهوم "المحرم" لأن الأخ والأخت لم يكونا وحدهما يعيشان في الأصل كما يعيش الزوج والزوجة، بل إن العلاقات الجنسية بين الأباء   1 كيف نتثبت إذن؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 والأولاد مسموح بها أيضا لدى شعوب عديدة حتى اليوم1. وقبل اختراع المحارم "لأن المحارم اختراع حقا، بل اختراع ثمين جدا" لم يكن الوصال الجنسي بين الأباء والأبناء ليثير من الاشمئزاز أكثر مما يثيره الوصال بين أشخاص من أجيال مختلفة -كذلك الذي يحدث فعلا اليوم حتى في أكثر البلاد تظاهرا بالتزمت- من دون أن يثير النفرة الشديدة". ثم يقول "ص58 وما بعدها": "إذا كان التقدم الأول يتألف من حرمان الآباء والأولاد من العلاقات الجنسية المتبادلة، فإن التقدم الثاني يتألف من حرمان الأخوة والأخوات منها.. وقد حدثت هذه الخطوة بالتدريج، مبتدئة في أقرب الاحتمالات2 بحرمان الأخوة والاخوات الطبعيين "أيك من جهة الأم" من العلاقات الجنسية، وذلك في حالات متفردة في أول الأمر، ثم أصبح حرمانهم بالتدريج هو القاعدة، وتنتهي هذه الخطوة بتحريم الزواج حتى بين الأخوة والأخوات الأباعد". "في جميع أشكال الأسرة الجماعية لا يعرف من هو والد الولد معرفة أكيدة أما والدته فتعرف معرفة أكيدة". "وفي أغلبية الحالات يبدو3 أن مؤسسة العشيرة قد انبثقت مباشرة من أسرة الشركاء". ويقول عن المرحلة التالية، مرحلة الأسرة الزوجية "ص72, 73 من الترجمة العربية". "في هذه المرحلة يعيش الرجل الواحد مع امرأة واحدة. لكن تعدد الزوجات والخيانة الزوجية يظلان من امتيازات الرجال، وإن لم يكن تعدد الزوجات يمارس إلا نادرا لأسباب اقتصادية فقط، وفي الوقت ذاته يطلب من المرأة الإخلاص التام طوال فترة العيشة المشتركة، فإذا زنت عوقبت بقسوة.. غير أن رباط الزيجة يمكن حله من قبل أي الطرفين، فيرجع الأولاد إلى أمهم كما كان الأمر في السابق". ثم يقول عن المرحلة الأخيرة -وهي الأسرة الوحدانية- "مقتطفات من ص95-102 من الترجمة العربية":   1 لا تعرف مدى صحة هذا الكلام من الناحية العلمية. 2 الأمر إذن أمر احتمالات. 3 يبدو ... يعني أنه ليس مؤكدا!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 "إن الأسرة الوحدانية مبنية على سيطرة الرجل، وهدفها الصريح إنتاج أولاد لا يشك في صحة أبوتهم، وهذه الأبوة التي لا بد منها لكي يرث الأولاد في يوم ما ثروة أبيهم، بوصفهم ورثته الطبيعيين1 وتختلف الأسرة الوحدانية عن الأسرة الزوجية في أن رباط الزواج أمتن جدا منها، ولا يعود حله الآن رهنا برضى أي من الطرفين بل يصبح الرجل -كقاعدة عامة- هو وحده الذي يستطيع الآن حل هذا الرباط وتسريح زوجته". "كانت الزيجة الوحدانية تقدما تاريخيا عظيما، لكنها في الوقت ذاته دشنت هي والرق والثروة الخاصة "يقصد الملكية الفردية" ذلك العهد القائم إلى اليوم، الذي يكون فيه كل تقدم تقهقرا نسبيا أيضا, العهد الذي يدرك فيه بعض الناس مصلحتهم وتطورهم بشقاء الناس الآخرين واضطهادهم". "كانت الزيجة الوحدانية أول شكل للأسرة مبني لا على أحوال طبيعية "يقصد كتلك التي كانت أيام الشيوعية الجنسية" بل على أحوال اقتصادية، أي: على انتصار الملكية الخاصة على الملكية العامة البدائية، الطبيعية النشأة". أما الأسرة في ظل الشيوعية، فهي كالدين والأخلاق.. جاء في كتاب "المرأة والاشتراكية" "ص51 من الترجمة العربية": "يقول إنجلز" إن العلاقات بين الجنسين ستصبح مسألة خاصة لا تعني إلا الأشخاص المعنيين والمجتمع لن يتدخل فيها، وهذا سيكون ممكنا بفضل إلغاء الملكية الخاصة، وبفضل تربية الأولاد على نفقة المجتمع، وبنتيجة ذلك يكون أساسا الزواج الراهنان قد ألغيا. فالمرأة لن تعود تابعة لزوجها ولا الأولاد لأهلهم، هذه التبعية التي ما تزال موجودة بفضل الملكية الخاصة". ويقول إنجلز في كتابه "أصل الأسرة" "ص118 من الترجمة العربية": "فبانتقال وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة لا تبقى الأسرة الفردية هي الوحدة الاقتصادية للمجتمع، وينقلب الاقتصاد البيتي الخاص إلى صناعة اجتماعية،   1 يقول الماديون إن الوراثة والنسب قبل ذلك كانت عن طريق الأم، وإن الرجل -حين زادت ثروته وزاد نفوذه- قام بانقلاب تاريخي، فحول الوراثة والنسب إلى طريق الأب، ليورث ثروته لأبنائه، فلزمه أن يتأكد من بنوة أبنائه له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وتصبح العناية بالأطفال وتربيتهم من الشئون العامة. فيعنى المجتمع عناية متساوية بجميع الأطفال سواء كانوا شرعيين أم طبيعيين، وبذلك يختفي القلق الذي يستحوذ على قلب الفتاة من جراء "العواقب" التي هي في زماننا أهم حافز اجتماعي -اقتصادي وخلقي- يعوقها عن تقديم نفسها بلا حرج لمن تحب. أفلن يكون هذا سببا كافيا لازدياد حرية الوصال الجنسي شيئا فشيئا، ومن ثم لنشوء رأي عام أكثر تساهلا فيما يتعلق بشرف العذارى وعار النساء؟! كلام صريح لا يحتاج إلى تعليق! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 تقويم النظرية المادية مدخل ... تقويم النظرية المادية: المادية الجدلية والمادية التاريخية كما تبين من العرض السابق شيئان مترابطان في الفكر الشيوعي لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ولا يفهم أحدهما فهما صحيحا بمعزل عن الآخر ... والحقيقة أن المادية الجدلية هي القاعدة التي تقوم عليها المادية التاريخية، والمادية التاريخية هي التطبيق التفصيلي للمادية الجدلية، أو أن العلاقة بينهما تشبه العلاقة بين العظام والأنسجة الحية في الكائن الحي.. لذلك يجدر بنا أن نناقشهما معا مجتمعين، بدلا من أن نناقش كلا على حدته، فنضطر إلى التكرار في أكثر من موضع من مواضع الحديث. وإذا أخذنا ننقاش المادية الجدلية والمادية التاريخية فيجدر بنا أن نركز الحديث على قضايا أساسية معينة، تندرج تحتها القضايا الأخرى كلها. وهذه القضايا الرئيسية هي: التفسير المادي للخالق، والتفسير المادي للإنسان، والتفسير المادي للقيم المحيطة بحياة الإنسان في الأرض. فإذا اتضح لنا وجه الحق في هذه القضايا الرئيسية فإن القضايا الفرعية المترتبة عليها تكون أيسر فهما وأقل حاجة إلى النقاش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 أولا: التفسير المادي للخالق المادة أزلية أبدية: "لم يكن هناك وقت لم تكن المادة فيه موجودة. ولا يجيء وقت لا تكون فيه موجودة". والمادة هي الخالق. هي التي خلقت الحياة والإنسان: "الإنسان نتاج المادة". أي شيء من صفات الله لم يلحق بالمادة؟ إلا القصد والتدبير والحكمة وإلههم الذي يدعونه لا حكمة له ولا قصد ولا تدبير! لا شك أن ماركس وإنجلز وأضرابهما لم يكونوا أول الملحدين في أوروبا، فقد كانت موجة الإلحاد قد تفشت من قبل بين العلماء والمفكرين من جراء مفاسد الكنيسة وعبثها بدين الله. ومن قبل قال دارون: إن الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق. وقال: إن الطبيعة تخبط خبط عشواء! ومذهب عبادة الطبيعة -لا يزيد كما أشرنا من قبل- على أن يكون مهربا وجدانيا من إله الكنيسة الذي تستعبد الناس باسمه وتستذلهم وتبتز أموالهم وتحجر على عقولهم وأفكارهم، إلى إله آخر له معظم خصائص الإله الأول، ولكن ليست له كنيسة ولا التزامات. وعباده أحرار فيما يصنعون بأنفسهم لا سلطان لأحد عليهم، إلا الهوى والشهوات! ولكن "الطبيعة" على أي حال كانت تمثل في وجدان عبادها شيئا حيا، مبهما غير محدد السمات، يرون "مظاهره" في الجبال والأنهار والأشجار والأزهار والمطر والرياح والبرق والرعد والإنسان والحيوان.. أما القدرة على الخلق وإعطاء كل شيء صورته التي هو عليها، وتنسيق وظائف كل كائن بما يلائم ظروفه..إلى آخر تلك الصفات التي هي في حقيقتها صفات الخالق {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 1 فقد كانت تضفي على الطبيعة بصورة أقرب إلى خيال الفن منها إلى واقعية الفكر فضلا عن واقعية العلم.. صورة سحرية مبهمة غامضة لا تستطيع أن تمسك بها أو تحددها، وكلما حاولت تحديدها أفلتت منك؛ لأنها بطبيعة الحال وهم لا حقيقة له، وعبادها أنفسهم لم يخرجوها من دائرة الوهم إلى نور الفكر المحدد للسمات والصفات. ورغم أن الكلمة جرت على ألسنة العلماء كأنها حقيقة فلا شك أنها كانت عندهم -كما كانت عند غيرهم- مهربا وجدانيا أكثر مما هي عقيدة حقيقية. كانت وثنا يلجئون إليه؛ يلقون إليه بحيرتهم ودهشتم كلما فاجأهم سر من أسرار الكون العجيبة التي تشهد أن لا إله إلا الله ... فيهربون عنده من الإقرار   1 سورة طه: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 بما يجول في صدورهم لا يريدون الإقرار به حتى في سرهم وخلوتهم مخافة أن تحلق بهم الكنيسة فتوقعهم في قبضتها! ويحسبون أن الاحتماء بهذا الوثن سيخلصهم من حيرتهم وينقذهم منها وهيهات! {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} 1. ولو أنهم كاشفوا أنفسهم بدلا من مغالطة أنفسهم بالوهم، لسألوا أنفسهم هذا السؤال البدهي القريب: ما الطبيعة على وجه التحديد؟ وأين تكمن قدرتها على الخلق؟ في أي مكان منها؟ أم ليس لهذه القدرة مكان ولا حيز؟ فإذا لم تكن محسوسة ولم يكن يحدها المكان ولا الحيز، وكانت "غيبا" لا تدركه الأبصار، إنما تدرك آثاره فقط ومظاهره، فما الذي يبرر في منطق العقل أن نعدل عن الاسم الحقيقي، اسم الله، ونلجأ إلى مسميات ما أنزل الله بها من سلطان؟ أو -إن كان الله في منطق الإلحاد لا حقيقة له- فما الذي يبرر -في منطق العقل أو منطق العلم- أن يقول قائل إنه ليس حقيقة حين يكون اسمه الله جلال جلاله، ثم يكون هو ذاته حقيقة حين يكون اسمه "الطبيعة"؟! أهو الخوف من الكنيسة وطغيانها؟ أو هو البغض لها والحقد عليها؟ فليكن! فلنهجر الكنيسة ونفر منها إلى الله الحق، وهو إله لا كنيسة له في الحقيقة ولا رجال دين! ولكن أوروبا الجاهلية لم ترد أن تدخل في الإسلام، ففرت من جاهلية الكنيسة إلى جاهلية لا تقل سوءا ولا انحرافا ... إن لم تكن أشد! هذه هي الطبيعة التي "تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق"، والتي "تخبط خبط عشواء" لم تكن قط في يوم من الأيام "حقيقة علمية" إنما كانت مهربا من أزمة فكرية روحية في ذات الوقت. واجهت أوروبا وحدها -لظروف محلية عندها- ولم تواجه الفكر البشري في مجموعه ولا الضمير البشري! أما المادة الأزلية الأبدية الخالقة فما قصتها؟ وكيف نناقشها مناقشة "علمية"؟! دع جانبا ما صار يعلمه صغار الطلاب في المدارس من أن القول بأن "المادة   1 سورة النمل: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 لا تفنى ولا تستحدث" لم يعد صحيحا من الوجهة العلمية، وهو القول الذي تصيدوه تصيدا في نهاية القرن الماضي ليبنوا عليه تفسيرا "علميا! " للكون والحياة والإنسان، ولقضية الألوهية كذلك! ودع جانبا ما صار يعلمه طلاب الجامعات من البحوث الجيولوجية والفيزيائية من أن الكون المادي "حدث" ذات يوم ولم يكن موجودا من قل، وأن عمر هذا الكون المادي في سبيله أن يحدد تحديدا علميا دقيقا على ضوء المعلومات التي ترسلها الأقمار الصناعية التي تدور حول الشمس وغيرها من الأفلاك. دع ذلك جانبا، فلم يكن ماركس وإنجلز ولينين مطالبين بثقافة علمية أكبر من ثقافة عصرهم الذي وجدوا فيه1. ولكنهم مسئولون ولا شك مسئولية كاملة عن تلك الفرية التي لا يقوم عليها أي دليل علمي، وهي أن المادة هي التي تخلق، وأن من بين خلقها الإنسان! ما الدليل العلمي على هذه الفرية؟ متى شوهدت المادة وهي تخلق؟ وكيف تخلق؟! يقول جورج إيرل دافز عالم الطبيعة: "فالمنطق الذي نستطيع أن نأخذ به, والذي لا يمكن أن يتطرق إليه الشك هو أنه ليس هنالك شيء مادي يستطيع أن يخلق نفسه"2. إن المؤمنين بالله ورسوله يقولون: إن الله ينشئ الخلق من العدم، وإنه يقول للشيء كن فيكون، وهم لا يزعمون أنهم يدركون الكيفية التي يخلق الله بها الخلق، ولكنهم لا يقولون إن الله مادة، وإن المادة تخلق المادة؛ لأن هذا خبل لا يقوله عاقل. إن المؤمنين بالله ورسله لم يروا الله جهر؛ لأنه سبحانه وتعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 3 ولكنهم رأوا من آثار قدرته ما يدل عليه: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ   1 العجيب هو إصرار أتباعهم على الأقوال المزيفة بعد أن أثبت العلم بطلانها! 2 من كتاب "الله يتجلى في عصر العلم"ص41. 3 سورة الأنعام: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1. {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2. ورأوا من آثار هذه القدرة ما يدلهم على أنه إله مقتدر، حكيم مدبر، لا يخلق شيئا عبثا، ولا يخلق شيئا بالباطل ... {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} 3. {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} 4. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} 5. {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 6. والشيوعيون لا يؤمنون بذلك كله, فلا نحاسبهم بمنطق الإيمان لكنا نحاسبهم بمنطق "العلم" الذي يزعمون أنهم يقيمون عليه نظرياتهم وتطبيقاتهم كلها جميعا!! أي منطق وأي علم يقول إن المادة يمكن أن تخلق المادة؟   1 سورة الأنعام: 95-99. 2 سورة النمل: 60-64. 3 سورة الملك: 3. 4 سورة الرعد: 8. 5 سورة ص: 24. 6 سورة المؤمنون: 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 بل أي منطق وأي علم يقول إن الخالق -أيا كان هو- يمكن أن يخلق ما هو أرقى منه؟ وكيف يسيطر المخلوق على الخالق؟! يقولون إن الإنسان نتاج المادة! فكيف نتج عن المادة؟ من الذي أنتجه؟ وكيف استطاع -وهو ناتج عن المادة- أن يسيطر عليها ويتحكم فيها؟! وإذا قلنا إن المادة "تطورت" فأصبحت مادة حية، ثم تطورت فصارت إنسانا، فهل هذا يحل الإشكال من الوجهة العلمية؟! كيف تطورت؟! ما الذي جد على طبيعتها -فجأة- فتطورت إلى مادة حية بينما هي كانت -في زعمهم- موجودة على صورتها منذ الأزل؟! وحين تطورت فلماذا لم تتطور كلها إلى مادة حية، لماذا بقيت كميات هائلة من المادة لم تتطور من قبل ومن بعد؟! ولماذا حدث التطور في اتجاه الحياة بالذات؟ ولماذا حدث مرة واحدة ثم توقف، فلم تعد ذرة واحدة من المادة الجامدة تتحول إلى خلية حية مهما بذل معها من التجارب ومهما تغيرت من حولها الظروف؟ وحين تطورت المادة الحية -تلقائيا! - فأصبحت -في أعلى حالات تطورها- إنسانا فلماذا توقفت في التطور عند الإنسان ولم تتطور إلى ما هو أعلى منه، مع أن التطور -في زعمهم- قانون من قوانين المادة، والقوانين لا تتوقف عن العمل، وإلا فهي ليست قوانين. ومن ناحية أخرى كيف تسنى للمادة المتطورة -التي هي الإنسان- أن تسيطر وتتحكم في المادة التي نتجت عنها مع أن هذا ليس من قوانين المادة! فالقانون -المزعوم- هو تطور المادة وليس سيطرة المتطور من المادة على غير المتطور منها! وهكذا نصل -علميا- إلى ذات الطريق المسدود سواء سرنا مع المادة الأزلية الأبدية عن طريق الخلق أو طريق التطور الذاتي، ولا نجد هذا "العلم" يفسر لنا شيئا على الإطلاق! إننا لن نستطيع -مهما حاولنا- أن نمسك بهذا الهراء لنضعه على مائدة البحث العلمي؛ لأنه لا يتماسك حتى يوضع على مائدة البحث! وإنما نستطيع أن نفهمه في حالة واحدة. إذا أخرجناه تماما من دائرة العلم، ونظرنا إليه من زاوية الهدف المقصود منه، وسنجد أن هذه هي الوسيلة الصحيحة والميسرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 لفهم كل "معطيات" المادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ، إنها -في الغالبية العظمى منها- ليست منطقية في ذاتها ولكنها منطقية مع الهدف المقصود منها. أي: إن النتيجة المطلوبة توضع أولا، ثم تساق الأدلة إليها سوقا وتحشر إلى جانب بعضها البعض حشرا، سواء كانت متناسقة أو متنافرة، وسواء كانت مؤدية بالفعل إلى النتائج المطلوبة أم غير مؤدية! إنما تلوى رقاب الأدلة ليا لتؤدي -بالقوة- إلى الهدف المطلوب، ثم يقال للناس إنها نظرية "علمية" وتفسير "علمي"! المطلوب أولا هو نشر الإلحاد الكامل الذي لا رجعة منه، وإزالة أي أثر من آثار الدين الذي يمكن أن يكون مندسا هنا أو هناك، وإزالة أي أثر لتوقير "الخالق" من النفوس. فحتى تسمية الخالق بالطبيعة -وهو المهرب الذي هربت به أوروبا من إله الكنيسة كما أشرنا من قبل- لم يبد كافيا في نظر المخططين لاستحمار الأمميين، وكان في حاجة إلى خطوة "تقدمية" أخرى تتقدم به نحو الهدف المطلوب. فمع الإلحاد المتمثل في نفي الخلق عن الله ونسبته إلى الطبيعة كانت ما تزال هناك "وجدانات" تنبض تجاه ذلك الخالق تخرج أحيان في صورة فن، وأحيانا في صورة توقيرة لقوة أعلى من الإنسان. ويخشى إذا بقيت الأمور عند هذا الحد أن تتعقل البشرية ذات يوم وتكف عن مغالطة نفسها، وتعود إلى الله1. ولكن يراد إزالة هذه البقية الباقية تماما ... فيتحول الخالق إلى مادة ... ويقال للناس: لا إله! والكون مادة! فإذا انتفى وجود الله تماما -بزعمهم- ولم يعد هناك إلى المادة فالمادة لا تثير الوجدان ولا تستحق التوقير، ومن ثم يتخلصون من ذلك العدو المرهوب، الذي لا يخافون من شيء على الإطلاق خيفتهم منه.. ألا وهو الدين! والمطلوب ثانيا -كما سنرى في الحديث عن القضية الثانية- هو تحقير الإنسان وإزالة الكرامة عنه، فإنه إذا أحس بكرامته فسيصعب ركوبه كما تركب الحمير؛ لأنه سيكون معتزا بإنسانيته غير قابل للانسياق كالدواب. ووسائل التحقير كثيرة كما سنراها في القضية الخاصة بالتفسير المادي   1 عاد بعض علماء الجاهلية المعاصرة بالفعل كما سيجئ بعد قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 للإنسان.. ولكن في مقدمتها جميعا نفي الخلق عن الله سبحانه وتعالى -ونفي وجود الله في الحقيقة- وجعل "الخالق" أو "المنتج" للإنسان هو المادة. إن الإنسان يستمد وجوده من إلهه وخالقه، ويستمد قدره من قدر ذلك الإله. فحين يكون الخالق المعبود هو الله الحكيم المقتدر يكون الإنسان رفيع القدر بتكريم الخالق له -سبحانه- ومستعليا بالإيمان بخالقه العلي العظيم، أما حين يتدنى الخالق حتى يصبح هو المادة، فإن الإنسان يتدنى معه حتى يصل أسفل سافلين! وقد هبطت البشرية هبوطا مستمرا منذ تفلتت من عبادة إلهها وخالقها، وكانت -حين نفت الخالق عن الله ونسبته إلى الطبيعة- قد بلغت مستوى كبيرا من الهبوط، ولكنه لم يكن كافيا في نظر المخططين بكل ما فيه من حيوانية وتبذل خلقي؛ فأرادوا له مزيدا من الهبوط، فهبطوا بالإله الخالق دركات حتى جعلوه هو المادة، وجعلوا الإنسان نتاج تلك المادة، فأي كرامة تبقى لهذا المخلوق -حتى في حس نفسه- حين يعرف أنه من نتاج المادة أو أنه نتاج تطور المادة؟ لا كرامة ولا آدمية ... وهذا هو المطلوب! ولسنا نحن بحمد الله في حاجة إلى أقوال البشر نستدل بها على وجود الله وعلى وحدانيته، فعندنا كتابنا الذي نؤمن به، هو حسبنا في كل قضية من قضايا الحياة، وقد بسط القرآن قضية الألوهية بسطا لا يحتاج إلى تدبره بعقل مفتوح وقلب مفتوح. ولكنا مع ذلك نأخذ شهادة على البشرية الضالة من علمائها في هذا القرن الذي نعيش فيه. يقول: "رسل تشارلز إرنست" أستاذ الأحياء والنبات بجامعة فرنكفورت بألمانيا: "لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات، فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين، أو من الفيروس أو تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة، وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات.. ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 على المادة الحية من غير الحية قد باءت بفشل وخذلان ذريعين.. ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع، على أن مجرد تجمع الذرات والجزئيات من طريق المصادفة. يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية. وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة. فهذا شأنه وحده! ولكنه إذ يفعل ذلك، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازًا أو صعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله، الذي خلق الأشياء ودبرها. "إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقيد درجة يعصب علينا فهمها، وأن ملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق، ولذلك فإنني أؤمن بوجود الله إيمانا راسخًا"1. ويقول: "إيرفنج وليام" "دكتوراه من جامعة أيووا وإخصائي وراثة النباتات، وأستاذ العلوم الطبيعية بجامعة ميتشجان": "إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها، والتي لا يحصيها عد، وهي التي تتكون منها جميع المواد، كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا -بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها- كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكون الحياة ... "2. ويقول: "ألبرت ماكومب ونشستر" المتخصص في علم الأحياء: "ولقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء، وهو من الميادين العلمية الفسيحة التي تهتم بدراسة الحياة، وليس بين مخلوقات الله أروع من الأحياء التي تسكن هذا الكون. "انظر إلى نبات برسيم ضئيل وقد نما على أحد جوانب الطريق، فهل تستطيع أن تجد له نظيرا في روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة؟ إنه آلة حية تقوم بصورة دائبة لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار، بآلاف من التفاعلات الكيماوية والطبيعية، ويتم ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم وهو المادة التي تدخل في تركيب جميع الكائنات الحية. "فمن أين جاءت هذه الآلة الحية المعقدة؟ إن الله لم يصنعها هكذا وحدها. ولكنه خلق الحياة، وجعلها قادرة على صيانة نفسها، وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل، مع الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التي تعيننا على التمييز بين نبات وآخر ... إن دراسة التكاثر في الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الأحياء وأكثرها إظهارًا لقدرة الله"3.   1 من مقال "الخلايا الحية تؤدي رسالتها" من كتاب "الله يتجلى في عصر العلم" ص77. 2 ص52 من كتاب "الله يتجلى في عصر العلم". 3 ص105, 106 من المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 ثانيا: التفسير المادي للإنسان بعد أن فرغنا من قضية مادية الخالق نتحدث عن قضية مادية الإنسان، وذلك لازم لنا قبل أن نناقش التفسير المادي لمختلف نواحي النشاط الإنساني ومجالات حياته، كالدين، والأسرة, والقيم المعنوية، والمبادئ الفكرية, والنظم والمؤسسات. ولا شك أن الماديين قد تأثروا بالداروينية في تصويرها المادي الحيواني للإنسان، أو هم في الحقيقة قد استغلوا النظرية -إذ وجدوها صالحة للاستغلال- في تشويه صورة الإنسان الكريمة العالية الوضيئة المشرقة، وتصويره في صورة هابطة تخدم أغراض المخطط الشرير، إذ تحجب عن الإنسان مجالات رفعته وإشراقه، وتوحي إليه بالهبوط فيهبط، وتنطمس بصيرته فيصبح كما يريدون. ولكن الحقيقة أن دارون نفسه -رغم نفيه الخلق المباشر للإنسان على صورته الإنسانية، وإلحاقه إياه بسلسلة التطور الحيواني- لم يهبط به إلى المستوى الذي وضعته فيه المادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ، وأن هذا التفسير إنما هو خطوة "تقدمية" في المخطط الهادف إلى استحمار البشرية كلها للشعب المختار! كان الإنسان عند دارون كائنا حيا تطور عن القردة العليا مع فاصل تطوري تصوره ولم يعثر عليه فسماه الحلقة المفقودة، وهي الحلقة الوسيطة بين القرد والإنسان، كما كان الإنسان عنده متأثرا بالبيئة المادية في تطوره من الحالة القردية إلى الحالة الإنسانية؛ لأن ظروف البيئة المادية هي التي أحدثت سلسلة التطور من أول الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 لكنه لم يكن قط في التصور الدارويني مادة، ولا كانت قوانين المادة منطبقة عليه، فمنذ تحولت المادة الميتة إلى مادة حية -بصورة لم يشأ دارون أن يتعرض لها، بل تهرب منها لكيلا تلجئه إلى الاعتراف بالإرادة الإلهية في إخراج الحي من الميت- منذ ذلك الحين صارت لها قوانين خاصة تحكمها غير قوانين المادة الميتة، هي قوانين الحياة. وكانت تلك بديهية عند دارون وعند الناس جميعا، لا يخالجهم فيها شك؛ لأنها أوضح من أن يثور فيها الشك، ولئن كان دارون قد رد الإنسان إلى المرتبة الحيوانية "على أساس جسده" مغفلا تفرد الإنسان1 فإنه على أي حال قد ارتفع بالكائنات الحية جميعا بما فيها الإنسان -بل في قمتها- عن مجال المادة، وجعل مجال الحديث عنها هو علم "الحياة" الذي يختلف اختلافا بينا عن علم "المادة". أما التفسير المادي للتاريخ فلم يشأ أن يقف بالإنسان -في الهبوط- عند مرحلة الحيوانية التي أوقفه فيها دارون، إنما دفعه دفعات أخرى إلى أسفل، ليتردى في مهاوي المادية الحالكة حيث يعود إلى التراب، صرفا بغير روح ويصبح قانونه هو قانون التراب. حقيقة العالم تنحصر في ماديته, والإنسان نتاج المادة، فإذا قيل وما الفكر؟ فالفكر نتاج الدماغ، والدماغ مادة!! منطق "علمي" عجيب, غاية في العجب في الحقيقة! فلتكن حقيقة العالم منحصرة في ماديته كما كان العلم الناقص يقول على أيام ماركس وإنجلز ولنين قبل تفجير الذرة واستخلاص "الطاقة" من داخلها ... فما صلة ذلك بالإنسان؟! الكون المادي مادة, والحياة حياة, والإنسان إنسان! وليكن الدماغ مادة ... فهل كل مادة تنتج الفكر؟! وإذا كان الأصل في الفكر هو مادة الدماغ، فهل يختلف مخ الطفل الوليد عن مخ الإنسان الناضج، من حيث تركيبه "المادي"؟! فلماذا لا يفكر الطفل بينما يفكر الإنسان الناضج؟ ولماذا يفكر الطفل -حين يبدأ يفكر- على نحو مختلف عن تفكير الإنسان الناضج من جميع الوجوه؟ هل هناك عناصر "مادية" تضاف   1 أثبتت الداروينية الحديثة Neo-Darwinism "كما سيجيء في أثناء المناقشة تفرد الإنسان حتى من الناحية البيولوجية البحتة التي خدعت دارون فجعلته يلحق الإنسان بعالم الحيوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 إلى مخ الطفل فيصبح مخ إنسان ناضج؟ وما تلك العناصر على وجه التحديد؟! وأمخاخ الناس جميعهم -من حيث التركيب المادي- متشابهة إن لم تكن متماثلة ... فلماذا يختلف تفكير شخص عن شخص آخر اختلافا تاما مع عدم وجود اختلاف في "المادة" التي يصدر عنها هذا الفكر وذاك؟! وحين يكون الإنسان متدينا ثم يصبح شيوعيا -مثلا- فهل تتغير "مادة" مخه، بحيث لو كشفنا على مخه لأبصرنا تغيرا معينا ملموسا طرأ عليه فاسود -مثلا- بعد ابيضاض، أو زادت فيه كمية النحاس ونقصت كمية الفسفور؟! أي سخف في هذا "العلم" يبعث الغثيان! والشيوعية تقول إن الإنسان سيد هذا الكون1، فكيف يخلق الكون سيده كما تساءلنا من قبل، ثم كيف يكون السيد من نفس مادة المسود بلا زيادة؟! ما الذي يجعله سيدا إذن إذا كان من نفس التركيب؟! إن المؤمنين بالله ورسله يؤمنون بأن الإنسان من مادة هذا الكون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} 2. {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} 3. ولكنهم يؤمنون بأن هناك شيئا آخر غير الطين هو الذي جعل الإنسان إنسانا وميزه على بقية الخلق. ذلك هو النفخة العلوية فيه: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 4. فإذا جرده الشيوعيون من نفخة الروح وجعلوه طينا فحسب، فكيف يفسرون سيادة الطين على الطين، أو سيادة جزء من المادة على بقية المادة المماثلة لها تماما في التركيب؟! وكيف يكون هذا منطقا "علميا" تبنى عليه نظرية علمية وتفسير علمي للحياة البشرية؟!   1 يقول الشيوعيون ذلك لا إيمانا حقيقيا بتلك الحقيقة، ولكن لينفوا فقط ألوهية الله لهذا الكون وكل ما فيه بما في ذلك الإنسان، فإذا أخرجوا الإنسان -بزعمهم- من مجال العبودية الله بقولهم إن الإنسان سيد هذا الكون، عادوا فردوه أسفل سافلين، تحكمه "الحتميات" وتمرغه المادة في الوحل! ولكننا نأخذهم بكلامهم على أي حال! 2 سورة الحجر: 26. 3 سورة ص: 71. 4 سورة ص: 71, 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وهل حدث خلاف ألوف الملايين من السنين أن خرجت قطعة من المادة فسودت نفسها أو زعمت لنفسها سيادة على بقية المادة المتفقة معها في جوهرها وأعراضها؟ أم لا بد بداهة أن تكون قطعة المادة التي سودت نفسها أو منحت السيادة على بقية المادة, متميزة في تركيبها عن بقية المادة وزائدة عنها بنوع من الزيادة أيا كان؟ فإذا كان ذلك كذلك فكيف تكون قوانين المادة العادية منطبقة بحذافيرها على قطعة المادة التي تميزت عنها في تكريبها وزادت عليها زيادات؟ أليست الزيادة التي اقتضت التميز والسيادة -أيا كان نوعها- تقتضي أن يكون لها معاييرها الخاصة وقوانينها الخاصة؟ وهل يكفي أن يقول الإنسان بلسانه -كما يقول التفسير المادي للتاريخ- إن الإنسان هو أعلى "تطور" حدث في عالم المادة، إذا كان سيعود فيلغي هذا "التطور" ويعامل الإنسان بقانون المادة البحت بلا تغيير؟ ما قيمة التطور إذن -إذا سلمنا جدلا بأن الإنسان مادة متطورة- بل ما قيمة "أعلى درجات التطور" إذا كنا سنعود فنعامل المادة المتطورة بقوانين المادة غير المتطورة؟ وما هذه الحيرة والبلبلة: مرة نعامل الإنسان على أنه أعلى درجات التطور في عالم المادة، ومرة نعامله بقوانين الطين مجردة عن كل زيادة. أم هذا هو "الإنسان الطيني" الذي يصفه ويتكلم عنه التفسير المادي للتاريخ! انطباق قوانين المادة الجامدة على الإنسان أسطورة "علمية" غير مسبوقة في تاريخ الفكر البشري، تسجل "براءة" اختراعها والحق يقال للماديين الشيوعيين، وإن كانت لا تحمل "براءة" على الإطلاق! إنها مجرد هراء يتلبس بزي علمي مزيف، لا يمكن تفسيره إلا إذا أخرجناه تماما من دائرة العلم, ونظرنا إليه من زاوية الهدف المقصود منه كما أسلفنا من قبل ونحن نتحدث عن التفسير المادي للخالق. والمقصود -من ناحية- هو مسخ الإنسان وتشويهه والهبوط به إلى الدرك الأسفل -أسفل درك يمكن أن يصل إليه- ليتحقق المخطط الكبير، مخطط استحمار الأمميين لحساب الشعب المختار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 والمقصود -من ناحية أخرى- هو القول بأن هناك متناقضات متصارعة في حياة البشر على الأرض، وأن صراع المتناقضات سيؤدي في النهاية -عن طريق التطور الحتمي- إلى الشيوعية "وهي آخر مخترعات المخطط اليهودي بعد الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية لاستحمار الأمميين ووضعهم بصورة نهائية في قبضة الشعب المختار". فإذا كان هذا هو المقصود، فلنقل إذن إن الإنسان مادة، وإن التناقض والتطور من قوانين المادة، وإن قوانين المادة تنطبق على الإنسان، وإن التناقض وصراع المتناقضات حادث في عالم الإنسان، ومؤد في النهاية -عن طريق التطور الحتمي- إلى الشيوعية! وهي كما ترى لفة طويلة ما كان الشيوعيون أنفسهم في حاجة إليها -حتى وهم يريدون أن يسوقوا الناس سوقا إلى الشيوعية- فقد كان يكفيهم لهدفهم الأخير أن يقولوا إن الحياة البشرية مليئة بالمتناقضات التي يصارع بعضها بعضا، وإن هذا الصراع لا بد أن يؤدي في نهاية المطاف إلى غلبة الشيوعية وتحول البشرية كلها إليها. كان هذا يكفي ... لولا أن الهدف الأول -كما قلنا- هو مسخ الإنسان والهبوط به إلى الدرك الأسفل, فلزم أن يلحق الإنسان بالمادة ويرتبط بقوانين المادة خشية أن ينفلت ذات يوم من القبضة الشريرة إذا بقيت له صفة الآدمية، ومن صفات الآدمية حرية الاختيار, ولا حتى لا يرتفع رأس واحد من بين الأمميين يقول "أنا إنسان"! وهذا هو المنطق الحقيقي الذي يفسر التفسير المادي للتاريخ، حيث يعجز أي تفسير علمي عن تفسير هذا التفسير! إذا فهمنا ذلك "السر" لم يعد يكرثنا كثيرا أن نناقش قضية التفسير المادي "للإنسان" مناقشة موضوعية مطولة. لكنا نقول فقط إن "إنسانية" الإنسان لا ماديته ولا حيوانيته، أظهر من أن يجادل فيها المجادلون ... ولكنه الهوى الذي يتخذ الزي العلمي المزيف: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 1. ولقد كان دارون هو الذي وجه اللطمة الكبرى لإنسانية الإنسان حين زعم   1 سورة المؤمنون: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 إنه حيوان، وأنه نهاية سلسلة التطور الحيواني بلا زيادة، فاليوم ينقض العلم الدارويني ذاته مقالة دارون، ويؤكد على إنسانية الإنسان. يقول "جوليان هكسلي" وهو عالم دارويني ملحد متبجح بالكفر، في كتابه "الإنسان في العالم الحديث Man in the Modern World". وبعد نظرية دارون لم يعد الإنسان مستطيعا تجنب اعتبار نفسه حيوانا، ولكنه بدأ يرى نفسه حيوانا غريبا جدا. وفي حالات كثيرة لا مثيل له، ولا يزال تحليل تفرد الإنسان من الناحية البيولوجية غير تام. "وأولى خواص الإنسان الفذة وأعظمها وضوحا، قدرته على التفكير التصويري، وإذا كنت تفضل استخدام عبارات موضوعية، فقل: استخدامه الكلام الواضح.. "ولقد كان لهذه الخاصية الأساسية في الإنسان نتائج كثيرة، وكان أهمها نمو التقاليد المتزايدة". "ومن أهم نتائج تزايد التقاليد -أو إذا شئت- من أهم مظاهره الحقيقية ما يقوم به الإنسان من تحسين فيما لديه من عِدد وآلات..". "وإن التقاليد والعدد لهي الخواص التي هيأت للإنسان مركز السيادة بين الكائنات الحية ... وهذه السيادة البيولوجية في الوقت الحاضر خاصية أخرى من خواص الإنسان الفذة.. ولم يتكاثر الإنسان فحسب، بل تطور، ومد نفوذه، وزاد من تنوع سبله في الحياة". "وهكذا يضع علم الحياة الإنسان في مركز مماثل لما أنعم به عليه كسيد المخلوقات، كما تقول الأديان. ومع ذلك هناك فروق، وفروق هامة الشيء، بالنسبة لنظريتنا العامة، فمن وجهة النظر البيولوجية لم تخلق الحيوانات الأخرى لخدمة الإنسان, ولكن الإنسان تطور بصورة مكنته من التخلص من بعض الأنواع المنافسة، ومن استعباد أنواع أخرى بالاستئناس، ومن تعديل الأحوال الطبيعية والبيولوجية في معظم أجزاء اليابس من الكرة الأرضية، ولم تكن وجهة النظر الدينية صحيحة في تفاصيلها أو في كثير مما تضمنته ولكن كان لها أساس جيولوجي متين"1.   1 جوليان هكسلي عالم ملحد، لا يقر بوجود الله! وهو يرى الحق أمامه ويكاد يسلم به، ولكن تأخذه العزة بالإثم فيحاول النكوص عما يفرضه الحق الواضح المبين ... ولكن يكفي على أي حال أن يقر بأن وجهة النظر الدينية لها أساس جيولوجي متين: فما ينتظر من رجل ملحد أن يذهب إلى أبعد من هذا المدى في الاعتراف بحقائق الدين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 "ولقد أدى الكلام والتقاليد والعدد إلى كثير من خواص الإنسان الأخرى، التي لا مثيل لها بين المخلوقات الأخرى ... ومعظمها واضح معروف. ولذلك أرى عدم التعرض لها حتى أنتهي من التحدث عن الخواص غير المعروفة كثيرا؛ لأن الجنس البشري -كنوع- فريد في صفاته البيولوجية الخالصة، ولم تلق تلك الصفات من العناية ما تستحق سواء من وجهة نظر علم الحيوان. أو من وجهة نظر علم الاجتماع". " ... وأخيرا فإن الإنسان لا مثيل له بين الحيوانات الراقية في طريقة تطوره". " ... وإن خاصية الإنسان الجوهرية ككائن حي مسيطر لهي التفكير المعنوي". " ... يجب ألا يعزب عن بالنا أن الفرق بين الإنسان والحيوان في العقل أعظم بكثير مما يظن عادة". " ... ولهذه الزيادة في المرونة نتائج أخرى -سيكولوجية- يتناساها رجال الفلسفة العقلية ... والإنسان فريد أيضا في بعضها، وقد أدت هذه المرونة مثلا إلى حقيقة إن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي لا بد أن يتعرض للصراع النفسي". " ... وفي الحقيقة إن منع النزاع بين طرق العمل المتعارضة لظاهرة عامة جدا، وذات منفعة بيولوجية، وهي ليست إلا خاصية العقل البشري الذي مكن الإنسان من التخلص من هذا النزاع". " ... وعندما نصل إلى المستوى الإنساني نجد تعقيدات جديدة؛ لأن من خصائص الإنسان كما رأينا التغلب على شدة الغريزة..". " ... وهذه الخواص التي امتاز بها الإنسان -والتي يمكن تسميتها نفسية أكثر منها بيولوجية- تنشأ من خاصة أو أكثر من الخواص الثلاث الآتية: الأولى: قدرته على التفكير الخاص والعام. الثانية: التوحيد النسبي لعملياته العقلية بعكس انقسام العقل والسلوك عند الحيوان. الثالثة: وجود الوحدات الاجتماعية مثل القبيلة والأمة والحزب والكنيسة "الجماعة الدينية" وتمسك كل منها بتقاليدها وثقافتها". " ... ولكن لا يكفي هنا أن نحصي بعض أوجه النشاط ... ففي الحقيقة أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 معظم أوجه نشاط الإنسان وخواصه نتائج ثانوية لخواصه الأصلية، ولذلك فهي مثلها فذة من الناحية البيولوجية". "ثم إن التخاطب والألعاب المنظمة والتعليم والعمل بأجر وفلاحة البساتين والمسرح والضمير والواجب والخطيئة والذلة والرذيلة والندم. كلها نتائج ثانوية "لخصائصه الأصلية" والصعوبة في الواقع هي إيجاد نشاط للإنسان لا يكون فريدا. بل إن الصفات الأساسية البيولوجية مثل الأكل والنوم والاختلاط الجنسي زينها الإنسان بكل المحسنات الفريدة". "وقد يكون لتفرد الإنسان نتائج ثانوية أخرى لم تستغل بعد.. وبذلك قد يكون الإنسان فريدا في أحواله أكثر مما نظن الآن"1. ويقول رينيه دوبو في كتابه: "إنسانية الإنسان" "ترجمة نبيل صبحي الطويل ص138, 139 من الترجمة العربية". "وأكثر السلوك في الحيوانات بما فيها العليا غريزي لا صلة له بالعقل والحجى، ومن النادر -إن لم يكن من المستحيل- أن تجد هذا السلوك متوجها نحو المستقبل البعيد الذي يحاول الحيوان التكهن به والسعي لإيجاده، وبالمقابل فإن ردود فعل الإنسان لأكثر الإشارات المحيطية تتأثر بعمق بتكهناته عن المستقبل، سواء كانت هذه التكهنات مبنية على الخوف أو الحقائق المعلومة أو الرغبة في الإنجاز، أو فقط على الآمال الحالمة، والحقيقة أن ميل الإنسان لتخيل الأشياء التي لم توجد بعد، أو التي لن تقع بدون إرادة وعمل حر يقوم به، هي الناحية البارزة التي تميزه بوضوح تام عن الحيوان، وهي التي تسهم كثيرا في تعقيد بنيته النفسية التي أعيت الأطباء". "ومن أبرز النواحي المميزة للإنسان ميله للسمو على الدوافع البيولوجية البسيطة، فعنده الاستعداد لتحويل العمليات العادية في وجوده إلى أعمال وأعراض ومطامح ليس لها ضرورات بيولوجية وربما تكون متعارضة مع استمرار حياته، أكثر من ذلك أن الإنسان يميل ليرمز لكل شيء يحدث له ثم يتفاعل مع هذه الرموز كما لو أنها إثارات محيطية حقيقية، فرد فعل شخص معين على عامل محيطي، مشروط فيزيولوجيا ونفسيا بتجاربه الذاتية الماضية".   1 ترجمة حسن خطاب ومراجعة الدكتور عبد الحليم منتصر - مقتطفات متفرقة من ص1, ص36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 ويقول "ص140 من الترجمة العربية": "ويتمتع الإنسان بقد ركبير من الحرية في الاختيار والتقرير، فهو المتميز في كونه قادرا على الاختيار والتمحيص والتنظيم ... ومن هذه يأتي الإبداع" ويقول "ص164 من الترجمة العربية": "ومن الممعروف أن كل مظاهر الحياة مشروطة بالوراثة وتجارب الماضي عوامل البيئة، إلا أنه من المعروف أيضا أن الإرادة الحرة تمكن البشر من السمو على ضوابطه "التحديدية البيولوجية" فالقدرة على الاختيار بين الأفكار وأساليب الأفعال المختلفة يمكن أن تكون أهم صفات الإنسان، لقد كانت في الغالب -ولا تزال- محددا هاما في تطور الإنسان، وأكثر ما يستنكر في علوم الحياة كما تدرس الآن هو أنها تجاهلت متعمدة أهم ظاهرة في حياة الإنسان.. ألا وهي الحرية". ويقول "ص169 من الترجمة العربية": "حرية الإنسان تعني -من ضمن ما تعنيه- قدرته على التعبير عن إمكانياته الكامنة وقدرته على الاختيار واستعداده لقبول المسئوليات، كل هذه وأمثالها من النشاطات التي تضم الاختيار والتقرير لتسمو على التحديدية الجبرية التي تَسِم عمليات الآلة". ويقول "ص262 من الترجمة العربية": "ويدرك البشر العالم بحواسهم، ومن التناقض أن كثيرا مما يقدرونه في العالم من حولهم لا يعتمد على هذا الإدراك الحسي، والواقع أن كثيرا من بني الإنسان ضحوا بوجودهم المادي على مذبح قيم غير مادية تدركها الروح ولا يحسها جسم اللحم والدم". فأي هاوية سحيقة تلك التي يهوي بالإنسان إليها ذلك التفسير المادي للإنسان، حين ينزع عنه مقومات إنسانيته الأصيلة، ويرده إلى المادة، ويجعل قوانينها هي قوانينه؟! أي إلغاء لحرية الإنسان وكرامته ... وأي تحقير له أشد من هذا التحقير؟! فإذا علمنا أن هذا هو المطلوب ... إلغاء الحرية لكي لا يختار الأمميون لأنفسهم طريقا غير الذي يرسمه لهم شعب الله المختار.. وإلغاء الكرامة لكي لا يستنكفوا من العبودية التي يريد أن يفرضها عليهم ذلك الشعب، والتحقير لكي لا يرفعوا رءوسهم بالتمرد على التسخير الذي يسخرهم إياه. إذا علمنا أن هذا هو المطلوب، أدركنا الهدف "الضخم" الذي يحققه التفسير المادي للإنسان! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ثالثا: التفسير المادي للقيم الإنسانية منذ جعل الإنسان مادة فقد ألغيت في الحقيقة كل القيم على الفور، ولم يعد لها مكان في حياة الإنسان، فأنى للمادة -مهما تطورت- أن يكون لها قيم: روحية أو نفسية أو خلقية؟! ولكن الشيوعية ما كانت تملك أن تتجاهل وجود القيم في التاريخ البشري، فكان لا بد من أن تعطيها تفسيرا ما.. يفسدها ويشوهها ليقضي عليها في النهاية، والتفسير المادي للقيم هو الأداة التي اختارتها الشيوعية لأداء جريمتها الكبرى، فهي تتظاهر بإعطاء تفسير لتلك القيم، بينما ذلك التفسير في الحقيقة يلغي القيم إلغاء باتا ويقضي عليها من منبتها! ومع ذلك فسنتجاهل هذه الحقيقة، ونأخذ الأمر كأنه جاد، ونستعرض التفسير المادي للقيم الإنسانية ونناقشه مناقشة موضوعية! يتمثل التفسير المادي للقيم الإنسانية في مجموعة من الخطوات أو مجموعة من النقاط نجملها فيما يلي: 1- تضخيم العامل المادي والاقتصادي وجعله أساس كل شيء في حياة الإنسان. 2- اعتبار القيم المعنوية كلها مجرد انعكاس للوضع المادي والاقتصادي. 3- نفي وجود قيم ثابتة بحكم التطور الذي يغير القيم كلها كلما تغير الوضع المادي والاقتصادي. 4 السخرية بالدين وتسخيفه وتهوين شأنه ورده إلى أسباب مادية واقتصادية. 5 السخرية بالحق والعدل الأزليين، والقول بخضوع الناس للحتميات المادية والاقتصادية والتاريخية. ولنأخذ في شيء من التفصيل لكل نقطة من هذه النقاط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 1- تضخيم العامل المادي والاقتصادي: يتبين لنا من العرض الذي عرضناه من أقوال المفكرين الشيوعيين والمؤسسين للفكر المادي إلى أي مدى يعتبر أولئك المفكرون العامل المادي والاقتصادي أساسا لكل شيء في حياة الإنسان، ويكفينا أن نعود إلى قولتي ماركس وإنجلز في هذا الشأن: "في الإنتاج الاجتماعي الذي يزاوله الناس تراهم يقيمون علاقات محدودة لا غنى لهم عنها. وهي مستقلة عن إرادتهم. فأسلوب الإنتاج في الحياة المادية هو الذي يحدد صورة العمليات الاجتماعية والسياسية والمعنوية في الحياة ... ليس شعور الناس هو الذي يعين وجودهم، بل إن وجودهم هو الذي يعين مشاعرهم" "كارل ماركس". "تبدأ النظرية المادية من المبدأ الآتي: وهو أن الإنتاج وما يصاحبه من تبادل المنتجات هو الأساس الذي يقوم عليه كل نظام اجتماعي، فحسب هذه النظرية نجد أن الأسباب النهائية لكافة التغيرات أو التحولات الأساسية لا يجوز البحث عنها في عقول الناس، أو في سعيهم وراء الحق والعدل الأزليين، وإنما في التغييرات التي تطرأ على أسلوب الإنتاج والتبادل" "فردريك إنجلز". وهما قولتان واضحتا الدلالة في أن الأصل في اعتبارهم ليس هو "إنسانية" الإنسان، ولا القيم المعنوية التي ينبغي أن تقوم عليها حياته، إنما هو الوضع المادي والاقتصادي الذي يكون الناس عليه؛ لأن هذا الوضع هو الذي يحدد مشاعر الناس وأفكارهم وعقائدهم، كما يحدد نوع المؤسسات التي تقوم في حياتهم ووظيفة كل واحدة من هذه المؤسسات. ومن خلال تفسيرهم للتاريخ البشري يتبدى مدى تعمق هذه الفكرة في تصورهم. فالشيوعية الأولى -كما يصفونها1- حالة من الهدوء والاستقرار والسعادة والتعاون الأخوي، وهي كلها قيم معنوية سببها الوحيد هو عدم وجود ملكية فردية، وقيام الحياة على الملكية الجماعية أو المشاعية، وهو سبب اقتصادي بحت. وتحول نظام الأسرة من التبعية للأم إلى التبعية للأدب، ومن ثم سيطرة الأب على الأسرة بجميع أفرادها من زوجة وأطفال، يرجع إلى سبب اقتصادي مادي بحت هو ظهور الملكية الفردية مع اكتشاف الزراعة واكتشاف الرجل أنه يمكن أن يورث أبناءه مما يملكه!   1 سنتحدث عن الشيوعية الأولى فيما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وتحول البشرية من حالة الشيوعية الأولى إلى الرق يرجع إلى ذات السبب الاقتصادي المادي وهو اكتشاف الزراعة ونشأة الملكية الفردية، فعندئذ استرقت القبائل القوية القبائل الضعيفة وأجبرتها على العمل في الأرض لحسابها. وتحول الناس من الرق إلى الإقطاع سببه هو اكتشاف المحراث -وهو سبب مادي ترتبت عليه نتائج اقتصادية- إذ اكتشف الإنسان أنه يستطيع باستخدام المحراث أن يزرع مساحة أكبر بكثير مما كان يزرعه بالأدوات البدائية السابقة, فنشأت المزارع الكبيرة التي يستخدم فيها رجل واحد مجموعة كبيرة من البشر عبيدا للأرض أو أجراء يعملون لحسابه ويكونون تحت سيطرته. وتحول الناس من الإقطاع للرأسمالية سببه هو اختراع الآلة -وهو كذلك سبب مادي ترتبت عليه نتائج اقتصادية- فقد تحولت الملكية من ملكية زراعية إلى ملكية رأسمالية، وصار صاحب رأس المال يستخدم مجموعة كبيرة من البشر أجراء - بأجر ضئيل- يعملون لحسابه، وينتجون إنتاجا يستولي عليه هو ويربح من بيعه أرباحا طائلة يزيد بها رأس ماله وقدرته على استخدام الأجراء لحسابه. وتحول الناس أخيرا إلى الشيوعية سببه الصراع بين العمال وأصحاب رءوس الأموال على ملكية الإنتاج -وهو سبب اقتصادي بحت- وينتهي ذلك الصراع بالقضاء على طبقة الرأسماليين وحلول العمال محلهم في الملكية والسيطرة جميعا. وبالإضافة إلى هذه الخطوط العريضة في حياة البشرية، التي ترجع كلها -في اعتبارهم- إلى أسباب مادية واقتصادية بحتة، فإن الخطوط الأكثر دقة ترجع كلها كذلك إلى أسباب مادية واقتصادية. فوجود الدين في المرحلة الإقطاعية وضعفه وتقلصه في المرحلة الرأسمالية والشيوعية سببه أن طبيعة الإنتاج في العهد الإقطاعي -أي: الإنتاج الزراعي- تجعل الإنسان متدينا؛ لأن الإنسان لا يملك -في العملية الزراعية- إلا وضع البذور في الأرض وتغذيتها بالماء والأسمدة، ولكنه لا يملك إنبات البذرة ولا استعجال نموها ولا حماية المحاصيل من عوارض الجو والآفات، فيتوهم -أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 يفترض- وجود قوة خفية "غيبية" ينسب إليها القدرة على كل العمليات التي لا يقدر هو عليها من إنبات وإنماء وحماية، ويروح يتعبدها ويتقرب إليها بالقرابين لكي ترضى عنه وتحفظ له محصوله الذي يعيش عليه، بينما لا تحتاج طبيعة الإنتاج في المرحلة الرأسمالية والشيوعية إلى افتراض تلك القوة الخفية الغيبية؛ لأنه إنتاج صناعي، يسيطر العامل فيه على عملية الإنتاج من أولها إلى آخرها، وليس فيها جانب خفي كعملية الإنبات والإنماء، ولا جانب خارج عن قدرة العامل كالعوارض الجوية والآفات، ومن ثم لا يحتاج الإنسان إلى عبادة شيء خارج عن نطاق الإنسان. فيتضاءل وجود الدين حتى ينتهي تماما في النهاية. ووجود أخلاقيات الجنس في العهد الزراعي، والحفاظ الشديد على العرض. وإعطاء العفة الجنسية أهمية بالغة، ووجود الغيرة في نفس الرجل على زوجته، كل ذلك راجع إلى سبب اقتصادي بحت، هو أن الرجل في المجتمع الزراعي هو المنتج الأصلي وهو المتكسب وحده وهو الذي ينفق على زوجته وأسرته، ومن ثم تدعوه سيطرته -الاقتصادية الأصل والمظهر- إلى التحكم في المرأة وفرض أخلاقيات الجنس عليها، فيفرض عليها العفة قبل الزواج وبعده، ويفرض عليها أن تكون له وحده حين يتزوج، ومن ثم تصبح العفة فضيلة خلقية واجتماعية يحرص المجتمع عليها ويشدد في شأنها ويعطيها تلك الأهمية البالغة، بينما تفقد العفة وأخلاقيات الجنس قيمتها -ووجودها- في المجتمع الصناعي لسبب اقتصادي كذلك، وهو تحرر المرأة اقتصاديا ومشاركتها للرجل في العمل وتكسبها بنفسها، وذلك يحررها من كونها عالة على الرجل.. فيفقد الرجل سيطرته عليها، ولا يعود يحق له أن يطالبها بالعفة قبل الزواج ولا بعده، ولا أن يطالبها بأن تكون له وحده بعد زواجها -تلك المطالبة التي كانت قائمة على أسباب اقتصادية بحتة- ومن ثم لا تعود العفة تعتبر فضيلة في المجتمع الصناعي، ولا يهتم الناس بوجودها، وتصبح حرية المرأة في أن تتصرف في نفسها هي الأمر الشائع في المجتمع. كذلك الأمر مع الأسرة.. فوجود الأسرة الكبيرة المترابطة في المجتمع الزراعي هو ظاهرة اقتصادية بحتة، سببها حاجة العمل الزراعي إلى تكاتف الأيدي العاملة وتعاونها، وترتب زيادة الربح على زيادة الأيدي العاملة التي تعمل في وحدة متجانسة، بينما يرجع تفكك الأسرة في المجتمع الصناعي إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فردية الإنتاج وفردية الإنفاق، فأسلوب العمل ذاته يجعل كل فرد يعمل مستقلا عن الآخرين، ثم إن كل عامل يعمل يتناول أجره بمفرده مستقلا عن الآخرين ... ومن ثم لا تؤدي الأسرة الكبيرة مهمة اقتصادية في حياة المجتمع الصناعي، فتتفتت وتحل محلها الأسرة الصغيرة المكونة من الأب والأم، والأطفال ... ثم تتفتت هذه بدورها لأسباب اقتصادية كذلك، وهي عمل المرأة في المصانع والوظائف وغير ذلك، فيصبح رباط الزواج ذاته واهيا يمكن أن ينحل في أية لحظة، بل يمكن أن يلغى إلغاء كاملا في أي وقت، وتحل محله العلاقات الجنسية الحرية، وتصبح هي الأساس في المجتمع الجديد. 2- اعتبار القيم المعنوية كلها مجرد انعكاس للوضع المادي والاقتصادي: هذه النقطة في الحقيقة تحصيل حاصل بالنسبة للنقطة السابقة، فحين نقول إنهم يضخمون العامل المادي والاقتصادي ويجعلونه أساس كل شيء، فمعنى ذلك من جهة أنهم يصغرون من القيم الأخرى -غير المادية- ولا يعطونها المكانة اللائقة، ومن جهة أخرى أنهم يعتبرونها نابعة من القيم المادية ومترتبة عليها. ولكنا نريد أن نلفت النظر في هذه النقطة إلى مزيد من تحقير القيم المعنوية ينشأ من القول بأنها مجرد انعكاس للوضع المادي والاقتصادي، فمعلوم أن البشرية قد تعلقت -منذ مولدها- بالقيم العليا من صدق وعدل وخير وفضيلة وأمانة ونظافة سلوك ... إلخ.. وسواء مارس الناس هذه القيم والفضائل بالفعل أم بعدوا عنها في سلوكهم العملي كل البعد أو ناقضوها مناقضة صريحة، فإنهم يتغنون بها في فنونهم وآدابهم، ويعجبون بها إذا رأوها ممثلة في سلوك واقعي، ما لم يكونوا مرضى القلوب بصورة غير معتادة، ينفرون من الخير ويهشون للرذيلة والانتكاس؛ لأن رؤية الخير تذكرهم بانتكاسهم فيكرهونه، ورؤية الرذيلة تغطي مواقفهم فيهشون لها، كالذين قال الله فيهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} 1. وتعلق البشرية بالقيم العليا -ولو لم تمارسها بالفعل في سلوكها الشخصي   1 سورة النساء: 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 - يعتبر في ذاته عقبة في سبيل استحمار الأمميين وتسخيرهم لما يراد تسخيرهم له.. ولم يكتف المخططون بإبعاد البشرية عن هذه القيم في عالم الواقع، ولهم الحق ألا يكتفوا! فمادام هذا التعلق باقيا في النفوس فهي عرضة أن تعتدل من انتكاستها في أية لحظة وتحول هذا التعلق النظري -أو المتمنى- إلى تعلق واقعي يتخذ صورة سلوكية مطبقة في عالم الواقع، وعندئذ يفسد المخطط كله، ويضيع التعب الذي بذل فيه! لذلك ينبغي أن يزال تعلق البشرية بتلك القيم بكل وسيلة ممكنة، ومن بين الوسائل المؤدية إلى ذلك أن يقال إنها ليست قيما قائمة بذاتها، إنما هي مجرد انعكاس لقيم أخرى أو أوضاع أخرى هي وحدها صاحبة الأصالة وهي وحدها الجديرة بالاهتمام. هنا يذكرنا ماركس بفرويد! ففرويد -في اختصاصه- يهدف إلى ذات الهدف الذي يسعى إليه ماركس! ويريد -مثله- أن يصرف الناس عن التمسك بالقيم العليا؛ لأنها عدو مشترك لكل من يسعى لإفساد البشرية واستعبادها لشعب الله المختار ... ومن ثم ينفي أنها قيم قائمة بذاتهاو ويقول إنها انعكاس لشيء آخر! فالدين ناشئ عن عقدة جنسية هي عقدة أوديب، والتسامي ناشئ عن الكبت، كما أنه لون من ألوان الشذوذ! وإذا كان فرويد قد رد القيم كلها إلى الجنس ليحقرها ويذهب عنها ما لها في نفوس الناس من توقير وإعجاب وتطلع، فإن ماركس وأصحابه قد ردوها إلى القيم المادية والأوضاع الاقتصادية لذات الغاية ... فمعلوم أن الناس تحتقر القيم المادية ولو شغلت بها في حياتها الواقعية مشغلة كاملة! فيجيء ماركس فيرد إليها القيم العليا كلها فيذهب التوقير عنها في التو ويذهب الإعجاب والتطلع، وتفرغ من مضمونها الحقيقي وتصبح صورة شاحبة لا يتعلق بها قلب ولا ترتبط بها مشاعر! ويصبح التوقير والتعلق كله موجها إلى القيم المادية والأوضاع المادية، وما أضيق النفس حين تنحصر في هذا المحيط الضيق، وما أخسرها حين تغلق كل منافذ النور، وتفتح ذلك المنفذ الواحد الذي يتعامل مع الإنسان الطيني وحده، ولا يتعامل مع الإنسان المتكامل الذي خلقه الله من قبضة من طين الأرض، ثم سواه ونفخ فيه من روحه لتسجد له الملائكة الأطهار! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 3- نفي وجود قيم ثابتة بحكم التطور الذي يغير القيم كلها كلما تغير الوضع المادي والاقتصادي: لم يكتف الماديون في تحقير القيم الإنسانية بقولتهم السابقة, التي تنفي الأصالة عنها وتجعلها مجرد انعكاس لقيم أخرى -مادية- بل مضوا شوطا آخر في تحقيرها فقالوا إنها ليست ثابتة، إنما هي دائمة التغير كلما تغير الوضع المادي والاقتصادي! بمعنى آخر: يا أيها المثاليون المغفلون1 إنكم تبحثون عن سراب لا وجود له في الحقيقة، حين تتكلمون عن الحق، والعدل، والخير، والفضيلة، والجمال، والصدق، والأمانة ... إلخ. إنها كلمات جوفاء يملؤها كل جيل بما يحلو له، ولكنها هي في ذاتها ليست شيئا ثابتا محددا يمكن التعرف عليه! هنا يذكرنا ماركس بدوركايم! العقل الجمعي هو الذي يضع القيم والنظم والتقاليد والأخلاق.. وهو لا يثبت على حال، يحل اليوم ما حرمه بالأمس، ويحرم غدا ما يحله اليوم! نفس الهدف ونفس الوسيلة ... كل في اختصاص من اختصاصات "العلم". فالعلم الماركسي يقول إنه كلما تغير الوضع المادي أو الاقتصادي تغيرت معه جميع القيم وجميع المعايير. تغيرت صورة الملكية من ملكية جماعية في الشيوعية الأولى إلى ملكية فردية، فنشأ الرق ثم الإقطاع ثم الرأسمالية، وكان كل منها -في حينه- صوابا! لأنه هو الاستجابة الطبيعية للوضع المادي والاقتصادي.. الاستجابة التي لا يمكن أن يوجد غيرها؛ لأنها انعكاس "حتمي" للأوضاع، ومن ثم فلا ينبغي أن توصف بالخير أو الشر، ولا ينبغي أن ينظر إليها أصلا من زاوية خلقية ولا بمعيار خلقي ثابت! إنما مقياس كل شيء هو ذاته.. ووجود الشيء بالفعل هو مبرر وجوده! ثم يتغير كل شيء حين يتغير الوضع المادي والاقتصادي فيصبح الوضع السابق خطأ بعد أن كان صوابا! وتصبح محاربته واجبة بعد أن كانت قبل ذلك غير ذات موضوع!   1 يستخدم الماديون كلمة المثالية في الذم لا في المديح، ويقصدون بها الأشياء التي لا يمكن تحقيقها في الواقع ومن ثم فهي سخف لا ينبغي أن يؤبه له! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وأخلاقيات الإقطاع -مثلا- من التدين وسيطرة الأب على الأسرة، والمحافظة على العفة والغيرة على العرض، وترابط الأسرة، والتعاون الجماعي، كلها أخلاقيات نابعة من الوضع المادي والاقتصادي ومتناسبة معه، ولكنها ليست قيما قائمة بذاتها توصف بأنها خير ويوصف عكسها بأنه شر.. إنما هي فقط صواب في وقتها؛ لأنها هي الاستجابة الطبيعية للوضع المادي والاقتصادي ... ثم إنها تصبح بعد ذلك خطأ، أو تصبح غير ذات موضوع حين تجيء الرأسمالية ويتكون المجتمع الصناعي "المتطور"! بل تصبح رجعية وجمودا وتأخرا تنبغي محاربته والتحرر منه؛ لأنها لم تعد تستجيب للأوضاع الاقتصادية الجديدة، التي هي المعيار الوحيد الذي تقاس إليه الأمور. ومحاولة القول بأن الدين قيمة ذاتية فينبغي أن يوجد على الدوام، أو أن العفة قيمة ذاتية ينبغي أن تظل قائمة في كل مجتمع هي سذاجة وغفلة ومثالية من جهة، ومن جهة أخرى هي مخالفة لما هو كائن ولما ينبغي أن يكون؛ لأنه لا وجود لمثل هذه القيم "في ذاتها" إنما تستمد وجودها من الباعث الذي ينشئها وهو الوجود المادي والاقتصادي ... وهذا الباعث دائم التغير لم يثبت -ولا يمكن أن يثبت- على حال، فكيف يثبت ما ينشأ عنه من قيم وأخلاقيات ومعايير؟! 4- السخرية بالدين: من بين كل القيم يحظى الدين بالقسط الأكبر من سخرية الماديين الشيوعيين، ويبدو حنقهم منه واضحا وثورتهم عليه عظيمة، ورغبتهم في تحطيمه والقضاء عليه شديدة إلى أقصى حد. فأما أسبابه وبواعثه فهي مادية واقتصادية بحتة: الجهل بطبيعة الكون المادي، والعجز عن السيطرة على البيئة، لذلك كان موجودا طوال فترة الشيوعية الأولى والرق والإقطاع، ثم خفت حدته في المجتمع الصناعي الرأسمالي لولا أن الرأسماليين -بعد الإقطاعيين- يستخدمونه مخدرا للجماهير الكادحة لكيلا تتيقظ إلى حقيقة الظلم والهوان الذي تعانيه وتتمرد عليه وتثور من أجل حقوقها المسلوبة. ولقد كان "واجب الزوال" منذ بداية العهد الصناعي لزوال بواعثه المادية والاقتصادية، فمن جهة كان العلم قد بدأ يتقدم ويكشف كثيرا من مجاهيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الكون المادي التي كانت تلجئ الناس من قبل إلى افتراض وجود إله! فأما بعد اكتشاف "قوانين الطبيعة" فلم يعد هناك مبرر للدين، فقد حل محله العلم. ومن جهة أخرى فإن الوضع الاقتصادي الذي كان ينبعث منه سيطرة الأب في الأسرة وسيطرة السيد في المجتمع كان يتناسب كذلك مع سيطرة الرب الإله في الكون والحياة، فإذا زال هذا الوضع فينبغي أن تزول كل آثاره ومن بينها الدين. وعلي أي حال فإذا كانت حاجة الرأسماليين إلى تخدير الجماهير الكادحة قد عوقت زوال الدين فترة من الوقت، فقد جاءت الشيوعية فألغت الرأسمالية وألغت المهمة الأخيرة التي كانت باقية للدين -وهي مهمة التخدير- فأصبح -من جميع الوجوه- غير ذي موضوع، تقدم العلم، وزادت السيطرة على البيئة، ولم يعد الناس في حاجة إلى مخدر ... فلماذا يبقى الدين؟! يذكرنا هذا بقولة مماثلة: "لجوليان هكسلي" في كتاب "الإنسان في العالم الحديث": كان الجهل والعجز هما السبب في وجود الدين. وقد تعلم الإنسان اليوم وسيطر على البيئة، فآن له أن يحمل على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل -في عصر الجهل والعجز- على عاتق الله، ومن ثم يصبح هو الله! والحق أن الدين عدو لدود للمخططين، كما أنه عدو لدود للماديين الشيوعيين. فأما عداوة المخططين له فأمرها ظاهر. فالعقبة الكبرى في سبيل استحمار الأمميين هي أن يكونوا ذوي عقيدة وأخلاق مستمدة من الدين، ولقد عرف اليهود ذلك خلال القرون الطويلة من حربهم الدائمة للبشرية وتربصهم بها، وعرفوا -بالتجربة- أنه طالما كان للأمميين عقيدة وأخلاق فلا نتيجة لكل ما يبذلونه من جهد وكل ما يضعونه من تخطيط، وعرفوا أن نجاح مخططاتهم كلها مرهون بمدى نجاحهم في القضاء على هذا العدو المرهوب. وأما عداوة الماديين الشيوعيين "وهم جزء من المخطط الكبير" فقد نشأت -إلى جانب اشتراكهم في السبب السابق باعتبارهم جزءا من المخطط الكبير- من تجربتهم الخاصة، أن الدين -مع أنه في أوروبا بقايا دين محرف من كل زواياه- يعوق تكوين "الحقد الطبقي" الذي هو عمادهم الأول في تحويل الناس إلى الشيوعية! فقد عانوا في زحفهم على أوروبا من أن الفلاحين بصفة خاصة لا يستجيبون لهم بالسرعة الكافية حين يحاولون تحريك "الحقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الطبقي "في نفوسهم" وذلك من آثار بقايا الدين في نفوسهم، وأن الكنيسة -ممثلة الدين- وقفت في صف الإقطاعيين والرأسماليين ضد الدعوة الشيوعية، ومستعينة بالدين في "تخدير" الجماهير عن الثورة، وإزالة الحقد الطبقي أو تأخير تجمعه في النفوس ليكون وقودا للثورة. من أجل ذلك "يتفنون" في محاربة الدين بكل وسائل الحرب, ومن بين وسائل الحرب التسخيف والتهوين والتحقير. 5- السخرية بالحق والعدل الأزليين: والقول بخضوع الناس للحتميات المادية والاقتصادية والتاريخية: كما يسخر الماديون بالدين ويسعون إلى تحقيره بكل الوسائل، يسخرون كذلك "بالحق والعدل الأزليين" كما يسميهما فردريك إنجلز، ويقولون إنهما من المثاليات التي لا وجود لها ولا تأثير لها في عالم الواقع، وإن البشرية لم تقم قط عليهما ولا يمكن أن تقوم عليهما في يوم من الأيام! إنما الذي يسير حياة البشرية من مبدئها إلى منتهاها هو "الحتميات" المادية والاقتصادية والتاريخية، التي لا توصف بأنها حق ولا عدل -ولا خلاف ذلك- إنما توصف -كما أسلفنا- بأنها صواب ما دامت في موضعها التاريخي الصحيح. ويكره الشيوعيون كراهية شديدة أن تنتقد مراحل الرق والإقطاع والرأسمالية من جهة أنها "ظلم" مخالف للحق والعدل، أي: أن تنتقد من منطلق أخلاقي أو أي منطلق قائم على القيم العنوية.. ويصرون على أن ينتقد الإقطاع والرأسمالية من الزاوية الاقتصادية ومن زاوية الحتمية التاريخية. ويعجب الإنسان أشد العجب من هذا الموقف الغريب. فهم يشنون هجوما حادا على الإقطاع والرأسمالية بصفة خاصة، فإذا أنت شاركتهم في شن الحملة عليهما من زاويتك الخاصة "الدينية والأخلاقية" رفضوا رفضا باتا وجاهروك بالإنكار! ولكن العجب يزول إذا علمنا السر في رفضهم وإبائهم، فهم بادئ ذي بدء يريدون القضاء على القيم المعنوية من منبتها، وبخاصة القيم الدينية، فكيف يقبلون منك موقفا -ولو كان في صفهم- يرتكز على تلك القيم ويحييها في النفوس!! إن مجرد قبوله معناه أن لهذا المنطلق شرعية الوجود، ومعناه الاعتراف بأنه منطلق صحيح؛ لأنه يهاجم الظلم ويقف منه موقف المعاداة ... وأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 شيء يمكن أن يقبله المخططون إلا هذا! لأن معناه أن يوافقوا على إحياء ذات الشيء الذي يسعون إلى قتله جاهدين! ثم إن هناك أمرا آخر لا يقل أهمية.. إذا أنت جعلت المحك الذي تقيس إليه الإقطاع والرأسمالية هو الحق والعدل، فماذا يكون موقفك من الشيوعية؟ ألست قمينا أن تضعها على ذات المحك فترى أنها تخالف الحق والعدل كذلك؟ فتروح تبحث عن حل آخر يقوم على الحق والعدل؟! الأولى إذن أن يقفلوا عليك الطريق من أوله، ويسخفوا لك الحق والعدل "الأزليين"، ويقولوا لك إنه لا وجود لهما ولا أثر لهما على الإطلاق في حياة البشرية.. إنما الذي يسير حياة البشرية هو "الحتميات" وهذه تؤدي إلى الشيوعية المطلوبة في نهاية المطاف! ليس الأمر إذن أمر حقائق علمية أو تاريخية تقول إن الحق والعدل لا وجود لهما في حياة البشرية، وإنه ينبغي أن يسخفا ويسخر منهما! بدليل أنهم حين يتحدثون عن الشيوعية يقولون إنها هي الحق وهي العدل! وهي التي ينبغي أن تسود البشرية! فهم إذن يثبتونهما ولكن بشرط أن يكونا خاليين من الدين والأخلاق ... أي: في الحقيقة خاليين من الحق والعدل! أما "الحتميات" فهي جوهر المادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ. فالمراحل الخمسة التي تمر بها البشرية وهي الشيوعية الأولى، ثم الرق، ثم الإقطاع، ثم الرأسمالية، ثم الشيوعية الثانية والأخيرة ... هذه المراحل حتمية! والانتقال من مرحلة إلى تاليتها هو انتقال حتمي كذلك، وعلى ذات الترتيب الذي رسمه التفسير المادي للتاريخ، لا تسبق أمة مرحلتها ولا تتأخر عنها؛ لأنها قدر حتمي! وتغير القيم والمعايير والعقائد والأفكار والمشاعر مع تغير الطور الاقتصادي هو تغير حتمي، لا يمكن الوقوف في طريقه ولا تغيير مساره ولا تعديله، بحكم أن القيم والمعايير والعقائد والأفكار والمشاعر هي مجرد انعكاس للوضع المادي والاقتصادي وليست شيئا قائما بذاته، والانعكاس لا بد أن يتغير حتما إذا تغير المعكوس! ومن بين الحتميات كذلك قيام الصراع الطبقي ما دامت هناك ملكية فردية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 فحين كانت الشيوعية الأولى قائمة لم يكن هناك صراع بين البشر، ومنذ وجدت الملكية الفردية نشب الصراع، وظل قائما في مرحلة الرق والإقطاع والرأسمالية، حتى إذا جاءت الشيوعية الثانية والأخيرة وألغيت الملكية الفردية زال الصراع إلى الأبد وحل محله الحب والوفاق والوئام وعاد البشر إلى الحالة الملائكية التي كانوا عليها أول مرة. تلك خلاصة دعاواهم في التفسير المادي للقيم الإنسانية. فإذا وضعنا هذه الدعاوى على مائدة البحث وجدنا فيها قليلا من الحق وكثيرا من المغالطات. فأما أهمية العامل الاقتصادي في حياة الناس فأمر لا ينبغي لعاقل أن ينكره، أما إفراده بالأهمية، وجعله أساس كل شيء، وجعل كل شيء مجرد انعكاس له، والقول بأنه هو المحرك الوحيد -أو حتى المحرك الأساسي- لحياة البشر، فأمر مبالغ فيه إلى حد الاعتساف الذي يجعل جانب الحق الضئيل يضيع في وسط الأضاليل. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} 1. أيك تقوم حياتكم عليها.. والتشريعات التي تنظم تداول المال في القرآن والأحاديث النبوية كثيرة بصورة ملحوظة، توحي بأهمية الحياة الاقتصادية وأهمية تنظيم العلاقات المتعلقة بالمال. وحين دخل الرسول -صلى الله عليه وسلم- المدينة أمر ببناء المسجد ثم أمر ببناء السوق، وفي ذلك دلالة واضحة كذلك على أهمية الحياة الاقتصادية في حياة الأمة، وأنها أمر من أمور العبادة كبناء المسجد سواء. ولكن المبالغة في تقدير أهميتها أمر لا يستند أولا إلى حقيقة علمية، ثم هو مفسد للتصور وللسلوك على السواء. فقد احتاج الماديون -من أجل إعطاء الجانب المادي والاقتصادي أهمية مبالغا فيها- إلى مجموعة من المغالطات والافتراءات لا تقوم على أي دليل علمي، أولها مادية الخالق وثانيها مادية الإنسان   1 سورة النساء: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 فإذا ثبت علميا -كما ثبت اليوم- أن المادة حدثت ولم تكن موجودة من قبل، وأنها ليست أزلية أبدية كما زعم التفسير المادي للتاريخ، فقد انهار الأساس الأول الذي افترى افتراء من أجل إقامة التفسير المادي للقيم الإنسانية. وإذا ثبت علميا -كما هو ثابت منذ قيام شيء اسمه العلم في حياة الإنسان- أن الكائن الحي -كل كائن حي بله الإنسان- يسير على نمط مخالف للمادة غير الحية، وإذا ثبت علميا كذلك -كما هو ثابت من أبحاث الداروينية الحديثة ذاتها- أن الإنسان متفرد عن الحيوان حتى في كيانه الحيوي "البيولوجي" البحت، فضلا عن كيانه العقلي وكيانه النفسي وكيانه الروحي وكل شيء فيه، فقد انهار الأساس الآخر الذي افترى افتراء من أجل الهدف ذاته. وإذا علمنا أن قصة "تطور" المادة إن هي إلا مهرب -غير علمي- يهرب به الماديون من مواجهة قضية خلق الحياة من الموات، فضلا عما أثبته العلم من أن الموات ذاته مخلوق، وأن الكون المادي قد أنشئ من غير وجود سابق، أي: أنشئ من العدم. إذا علمنا ذلك فقد انهارت كل "مقومات" التفسير المادي للقيم الإنسانية القائمة على أساس أن المادة أزلية أبدية خالقة "أو متطورة ينتج من تطورها النبات والحيوان والإنسان" وأن الإنسان هو نتاج المادة فحسب. والتفسير الأصوب فيما يتعلق بالقيم الإنسانية والحياة الإنسانية بأسرها هو أن نرجع فيها إلى "الإنسان". إلى النفس الإنسانية التي هي محور النشاط كله الذي يقوم به الإنسان. فإذا رجعنا إلى الإنسان كما نراه في عالم الواقع لا في صورته المفتراة بغير دليل علمي، فسنجد للجانب الاقتصادي مكانا واسعا في حياته، ولكنا سنجد في ساحة نفسه مساحات أخرى واسعة لا يشغلها الاقتصاد، وإنما تشغلها قيم أخرى أصيلة أصالة المادة وأصالة الاقتصاد، وسنجد كذلك ظاهرة أخرى لا تقل عن ذلك أهمية، هي أن الإنسان وحدة متكاملة، تتفاعل فيها كل العناصر والمكونات لتعطي في النهاية تعبيرا شاملا هو محصلة العناصر جميعا والمكونات جميعا. وأن أي محاولة لتفسير الإنسان بعنصر واحد من عناصره، أو على ضوء عنصر واحد من عناصره، هي محاولة ساذجة جدا لا تليق بأي "نظرية" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 تتعرض لتفسير السلوك البشري، وأن "العلماء" الذي يستحقون هذا الوصف ينبغي أن يكونوا أثقل وزنا وأكثر أمانة من أن يعطوا هذه التفسيرات الساذجة، مهما تكن الأغراض الخفية الكامنة وراء هذه التفسيرات. وسواء كان العنصر الواحد هو الاقتصاد كما قال ماركس. أو هو الجنس كما قال فرويد، أو العقل الجمعي المسيطر على الأفراد من خارج كيانهم كما قال دوركايم، فكلها أضأل وأكذب من أن تفسر الحياة الإنسانية الواسعة الجوانب المتعددة ألوان النشاط. ويكفي أن نجمع هذه التفسيرات الثلاثة بعضها إلى جانب بعض ليتضح لنا أن دعوى كل واحد منهم أن تفسيره هو التفسير "العلمي" الصحيح هي دعوى كاذبة وإن اشتملت على شيء من الحق, فالاقتصاد جانب مهم، والجنس جانب مهم، وخضوع الفرد للتيارات الجماعية جانب مهم، ولكن أيا منها لا يستقل وحده بتوجيه "الإنسان" ووضع معاييره وقيمه كلها جميعا. وأن التفسير الحق للإنسان ونشاطه وقيمه يشمل هذه الأمور الثلاثة كلها، ويشمل غيرها مما أغفله -عمدا- كل واحد من "المفسرين" الثلاثة العظام! وأننا -لكي ننشئ تفسيرا حقيقيا للحياة الإنسانية- لا ينبغي أن نغفل شيئا من مكونات الإنسان على الإطلاق، أو أن نفسر شيئا أصيلا في حياة الإنسان من خلال شيء آخر. ماذا لو فسرنا الجنس -مثلا- من خلال الاقتصاد، فعزونا المشاعر الجنسية إلى عوامل اقتصادية؟! أي تفسير مضحك يكون هذا التفسير؟! كذلك لو فسرنا الاقتصاد من خلال الجنس، فقلنا إن الدافع الجنسي هو السبب في جميع العمليات الاقتصادية التي يقوم بها الإنسان؟! أي تفسير مضحك يكون هذا التفسير؟! والسبب في كونه مضحكا وساذجا ومرفوضا بادئ ذي بدء هو أن كلا من الاقتصاد والجنس عنصر أصيل في كيان الإنسان على ذات الدرجة من الأصالة، فنفي أصالة أيهما وتفسيره من خلال الآخر هو الذي ينشئ تلك السذاجة المضحكة، مع أن هناك ترابطا وتشابكا لا شك فيه بين الاقتصاد والجنس في حياة الإنسان، ذلك أنهما -مع أصالة كل منهما- يصبان في المجرى الكبير الذي يشكل في النهاية حياة الإنسان، ولكن ترابطهما وتشابكهما في المجرى الكبير لا ينفي أن كلا منهما رافد مستقل ذو سمات قائمة بذاتها وذو دفعات قائمة بذاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 كذلك -على نفس المستوى -تكون محاولتنا تفسير الدين والقيم العليا كلها على أسس مادية اقتصادية كما يقول ماركس، أو أسس جنسية كما يقول فرويد، أو أسس من العقل الجمعي المستقل عن كيان الأفراد والمغاير لكيان الأفراد كما يقول دوركايم. هي محاولة ساذجة مضحكة ولو ألف فيها ألف كتاب. ولو قامت الأبواق اليهودية تروج لها من خلال ألوف الأفواه! "النفس الإنسانية" هي الأصل الذي نرجع إليه في تفسير الوجود الإنساني والحياة الإنسانية. وكون هذه "النفس" قابلة للتشكل في أشكال شتى لا يعني أنه ليس لها كيان محدد، ولا حدود تقف عندها في تشكلها، إنما هذه المرونة في قابليتها للتشكل هي ذاتها جزء من مقومات الخلافة التي خلق الله الإنسان ليقوم بها في الأرض. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . فقد علم الخالق اللطيف الخبير الحكيم المدبر -لا ذلك الخالق الأصم الذي يدعيه الماديون، ولا ذلك الذي يخبط خبط عشواء الذي يدعيه دارون- أن تفاعل هذه النفس البشرية مع الكون المادي سينشئ أشكالا مختلفة من الحياة في الأرض، بحسب درجة علم الإنسان بهذا الكون المادي ودرجة سيطرته عليه وقدرته على استخراج طاقاته واستخدامها في عمارة الأرض، لذلك جعل -بحكمته- هذه النفس قابلة للتشكل لتوائم تلك الأشكال المتغيرة، بينما الحيوان والنبات أقل قدرة بكثير على التشكل؛ لأنه لا يحمل أمانة ولا يقوم بخلافة ولا عمارة. أفينقلب هذا التكريم الرباني والتفضيل إلى نقيصة يوصم بها الإنسان في التفسير المادي للتاريخ فيقال إنه لا "كيان" لهذه النفس البشرية ولا سمات محددة، وإنها تأخذ سمتها وسماتها من الوضع المادي الذي تكون فيه؟ إن الحمار لا يمكن إلا أن يكون حمارا مهما أوقعت عليه من الضغوط لتغيير طبيعته! أفيكون الإنسان أقل أصالة من الحمار في عرف التفسير المادي للتاريخ، في الوقت الذي يزعمون فيه أنه "أعلى تطور في عالم المادة"؟! إن قضية أصالة "الإنسان"، ووجود سمات أصيلة فيه تحدد طبيعته "الإنسانية" هي قضية فوق الشك، أيا كان المدخل الذي ندخل إليها منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ولكنا نختار ثلاثة مداخل رئيسية مما يناسب هذا البحث: أولا: هل التغير الذي يحدث في حياة الإنسان حين تتغير أوضاعه المادية والاقتصادية هو تغير في "القشرة" السياسية والاقتصادية والاجتماعية أم تغير في "جوهر" الإنسان؟. ثانيا: لماذا يثور الإنسان بين الحين والحين؟ وعلى أي شيء يثور؟ وإلى أي شيء يهدف من ثورته؟ ثالثا: لماذا تظهر عليه أعراض المرض النفسي حين يتناول غذاء "حضاريا" لا يناسب طبيعته؟ فبالنسبة للقضية الأولى نجد بادئ ذي بدء أن دواعي التغيير المادي ذاتها نابعة من "نفس" الإنسان وليست نابعة من المادة المحيطة بالإنسان، فهذه المادة -بمعنى الكون المادي على اتساعه وبمعنى البيئة القريبة المحيطة- موجودة بالنسبة للحيوان كوجودها بالنسبة للإنسان على السواء، فلماذا لا تثير بالنسبة للحيوان الرغبة في التعرف على خواص المادة والرغبة في استخدام حصيلة المعرفة في تغيير البيئة المحيطة، بينما تثير هاتين الرغبتين بالنسبة للإنسان؟! هل الفرق كائن في المادة أم إنه كائن في الإنسان؟! وإذا كان كائنا في الإنسان كما هو بدهي، أفليس هذا خطا ثابتا من خطوط النفس البشرية يحدد سمة من سماتها الأصيلة التي لا تتغير بتغير "القشرة" الخارجية ولا بتغير الظروف المادية والاقتصادية؟ صحيح أن حصيلة التفاعل المستمر بين الإنسان والمادة المحيطة به تحدث تغييرا في البيئة وتغييرا في صورة الإنتاج فيصبح رعويا أو زراعيا أو صناعيا أو..؟ ولكن كم يغير هذا التغيير من طبيعة الإنسان الأصيلة؟. نترك مؤقتا قضية الملكية الفردية؛ لأننا سنفردها بحديث خاص، نثبت فيه من واقع التطبيق الشيوعي ذاته أن نزعة الملكية الفردية لم تمت في نفوس الناس ولا أمكن إحلال الملكية الجماعية محلها.. ونشير إلى بقية الدوافع: هل تغيرت دوافع الإنسان الأصيلة؟ حبه للحياة.. رغبته في المتاع.. رغبته في الجنس.. رغبته في البروز وإثبات الذات ... رغبته في المعرفة.. رغبته في إطالة عمره على الأرض.. رغبته في السيطرة على البيئة ... رغبته في الاجتماع بالآخرين ... رغبته في الانتماء ... رغبته في التحسين المستمر لأحواله ... رغبته في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الأمن.. رغبته في الاستقرار.. رغبته في الذرية.. نعم، تغيرت الصورة التي يحقق بها هذه الدوافع، ولكن هل تغيرت طبيعة الدافع؟ إنه من السذاجة غير "العلمية" أن ينظر الإنسان إلى تغير الصورة فينسى ثابت الجوهر1. ونعود إلى النص الذي نقلناه عن رينيه دوبو في كتاب "إنسانية الإنسان" ص71 من الترجمة العربية: "عاش رجل "كروماغنون Cro-Magnon" في أكثر أنحاء أوروبا قبل حوالي ثلاثين ألف سنة، قبل قيام الزراعة وحياة القرية بفترة طويلة، ومع أنه كان صيادا بصورة رئيسية كان -على ما يظهر- مشابها لنا جسما وعقلا، فأدواته وأسلحته تناسب حجم أيدينا الآن، وفنه في كهوفه يثير مشاعرنا، والعناية التي كان يوليها لدفن موتاه تكشف أنه شاركنا بشكل ما بالاهتمام بنهاية الإنسان وآخرته، وكل أثر مدون من آثار إنسان ما قبل التاريخ يوفر شواهد أخرى للفكرة القائلة أن الخواص الأساسية للجنس البشري لم تتغير منذ العصر الحجري"2. فتغير "القشرة" السياسية والاقتصادية والاجتماعية للإنسان -حتى إن سلمنا جدلا أنه ينبع من التغير المادي وحده، ونحن لا نسلم بذلك- لا يعني أنه أصبح إنسانا آخر. ولا يعني أن الإنسان الرعوي غير الإنسان الزراعي غير الإنسان الصناعي من حيث الجوهر. وليس معنى ذلك -من جهة أخرى- أن أي نظام مثل أي نظام آخر، وأنه لا يختلف حال الإنسان أي اختلاف بتغير النظم عليه. كلا! ما نقصد ذلك. ولكنا نريد أن نؤكد أنه ليس الوضع المادي هو الذي يحدث التغيير الجوهري في حياة الإنسان، أو هو المعيار الذي تقوم به حياته. إنما يحدث تغير جوهري في حياة الإنسان بحسب معيار آخر مختلف تماما، هو نوع العبادة التي يعبدها، ونوع التشريع الذي ينظم حياته، هل يعبد الله الحق أم يعبد آلهة زائفة، وهل يتحاكم إلى شريعة الله أم إلى شرائع جاهلية من صنع البشر.   1 انظر -إن شئت- حديثا مفصلا في هذا الموضوع في كتاب "التطور والثبات في حياة البشرية". 2 ترجمة الدكتور نبيل صبحي الطويل طبع مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الأولى سنة 1979. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 ذلك هو الذي يحدث التغيير الجوهري في حياته، سواء كان في الحالة الرعوية أو الحالة الزراعية أو الحالة الصناعية أو الحالة الذرية "إن كانت هذه تعتبر تحولا في طريقة الإنتاج على المدى البعيد! " أو في أي حالة من الحالات المادية على الإطلاق، والسبب في ذلك أن الإنسان -بخلقته- ذو طريقين مختلفين كل الاختلاف من حيث الأسباب والنتائج والوسائل والأهداف. {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 1. {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 2. {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} 3. وهو في الوضع السوي حين يعبد الله وحده ويحكم شريعته، وفي الوضع المقلوب حين يعبد غير الله ويحكم شريعة غير شريعة الله، ولا يستوي الوضع السوي بطبيعة الحال مع الوضع المقلوب، والفارق بينهما فارق جذري وجوهري، أما التغيرات المادية والاقتصادية فهي تغير الصورة نعم، ولكنها لا تغير الجوهر. ومن هنا يكون للبشرية -في كل أوضاعها المادية والاقتصادية- حالتان اثنتان فحسب: إما سوية معتدلة وإما مقلوبة، بصرف النظر عن الوضع المادي والاقتصادي ذاته. أي: إنه يكون رعويا في حالة اعتدال أو رعويا على الوضع المقلوب، ويكون زراعيا في حالة اعتدال أو زراعيا على الوضع المقلوب, ويكون صناعيا في حالة اعتدال أو صناعيا على الوضع المقلوب, ويكون ما شاء الله له أن يكون من الأوضاع المادية والاقتصادية على حالتين اثنتين: مهتديا فتستقيم حياته، أو ضالا فتضطرب حياته وتختل. والذي درسته المادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ هو خط الضلال البشري من الشيوعية الأولى إلى الرق إلى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الشيوعية الثانية -كما سنشير فيما بعد- ولم يدرس قط خط الإيمان التاريخي سواء عن عمد أو غير عمد4, لذلك التفت التفسير المادي للتاريخ إلى التغيرات الجزئية التي حدثت في الانتقال من كل طور اقتصادي إلى الطور الذي تلاه،   1 سورة الشمس: 7-10. 2 سورة البلد: 10. 3 سورة الإنسان: 3. 4 نقول نحن إنه عن عمد. ولكن يستوي في النتائج أن يكون عن جهل أو عن عمد! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 وركز عليها، وضخمها، حتى بدت اختلافات جوهرية في حياة الإنسان! والسبب في ذلك أنه لم يقارن أبدا بين الصورتين المتغايرتين تغايرا جوهريا: صورة الإيمان وصورة الضلال على جميع الأطوار المادية والاقتصادية، إذن لتبين له أن الفوارق الحقيقية ليست قائمة بين الاقتصاد الرعوي والاقتصاد الزراعي والاقتصاد الصناعي، إنما هي بين الاقتصاد الرعوي -والحياة الرعوية بجملتها- على خط الإيمان وعلى خط الضلال، والاقتصاد الصناعي -والحياة الصناعية بجملتها- على خط الإيمان وعلى خط الضلال، ولتبين له كذلك أن الحياة بجملتها على خط الإيمان -في الحالة الرعوية والحالة الزراعية والحالة الصناعية- ذات سمات أساسية مشتركة هي قيامها على الحق والعدل والترابط الإنساني والأخوة وغلبة المحبة على الصراع "مهما يكن في داخلها من هزات واضطرابات ناشئة من إخفاق الناس في تطبيق المنهج الرباني بالصورة الواجبة" وأن الحياة بجملتها على خط الضلال -في الحالة الرعوية والحالة الزراعية والحالة الصناعية- ذات سمات أساسية مشتركة هي قيامها على الظلم والطغيان والصراع على متاع الأرض القريب. القضية الثانية: أو المدخل الثاني لقضية أصالة الإنسان ووجود سمات جوهرية أصيلة فيه لا تتغير بتغير الوضع المادي والاقتصادي هو ظاهرة الثورات في التاريخ البشري. لماذا يثور الإنسان إذا لم يكن له كيان أصيل ينبغي أن يكون عليه؟ بعبارة أخرى: إذا كان الإنسان قابلا للتشكل الدائم بحسب الوضع المادي والاقتصادي دون أن يكون له شكل ثابت أو حدود ثابتة يرجع إليها فلماذا يثور على أي وضع من الأوضاع يكون قد تشكل به في أثناء رحلته التاريخية على الأرض؟ يقول التفسير المادي للتاريخ -ويحسب أنه قد حل القضية بذلك- إن الحتمية المادية والحتمية الاقتصادية والحتمية التاريخية هي الجواب! هي التي تفسر سبب الثورات. فإنه إذا انتهى الدور التاريخي لأي طور من الأطوار الاقتصادية ووصل الصراع الطبقي إلى درجة "النضوج" حسب الحتمية التاريخية والحتمية المادية والاقتصادية، أي: بمقتضى الحركة التاريخية للمادية الجدلية ... إذا حدث ذلك كله حدثت الثورة التي تهدم النظام المنهزم -ماديا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 واقتصاديا وتاريخيا- وتشيد النظام المنتصر -ماديا واقتصاديا وتاريخيا- وتمكن له في الأرض. وببساطة نقول: إن هذا لا يفسر كل الثورات التي حدثت في التاريخ. ودع جانبا الآن ظهور الإسلام وتمكنه في رقعة فسيحة من الأرض ورقعة فسيحة من التاريخ، فسنفرد له حديثا خاصا في الرد على التفسير المادي للتاريخ بجملته، ولكنا نستشهد عليهم من نظريتهم! فهم يقولون إن الثورات الناجحة هي التي توافق سير الحتمية التاريخية فتأتي في إبانها الصحيح، وتكون متوافقة مع الظروف -أو الحتميات- المادية والاقتصادية ويكون الصراع الطبقي فيها قد نضج إلى حد الذي ينجح الثورة، أما الثورات التي لا توافق خط سير هذه الحتميات، ولا يكون الصراع الطبقي فيها قد نضج إلى الحد المعقول، فإنها تفشل مهما بذل فيها من الضحايا! يا سبحان الله! إذن فليس السبب في قيام الثورات هو هذه الحتميات! إنما التوافق مع هذه الحتميات -كما يقولون- هو الذي يؤدي إلى نجاح الثورة. أما قيامها فلا بد أن يكون له سبب آخر أغفله -عامدا- التفسير المادي للتاريخ!. لا بد أن يكون السبب كامنا في "الإنسان"! في كيانه الأصيل. في كراهيته للظلم، وتطلعه إلى الحق والعدل الأزليين، سواء تحقق العدل في عالم الواقع أم لم يتحقق لسبب من الأسباب! القضية الثالثة أو المدخل الثالث هو ظهور الأعراض المرضية في حياة الإنسان حين تكون "الحضارة" التي يعيش فيها غير مناسبة لكيانه السوي. والشاهد الحي على ذلك هو المجتمع الأوروبي في الجاهلية المعاصرة. لقد زعم التفسير المادي للتاريخ أن أخلاقيات المجتمع الزراعي من شدة "التدين" إلى سيطرة الأب في الأسرة والحفاظ على العرض والاهتمام بالعفة الجنسية والترابط التعاوني ... إلخ كانت مجرد انعكاس للوضع الاقتصادي في الطور الزراعي، وليست قيما أصيلة قائمة بذاتها، وأنه حين تغير الطور الاقتصادي ودخل الناس في العصر الصناعي فإن من طبيعة الطور الاقتصادي الجديد أن يضعف التدين, وتزول سيطرة الرجل بسبب تحرر المرأة اقتصاديا، وتزول غيرته على عرضه، وتفقد قضية العفة أهميتها، وتتفكك الأسرة.. إلخ. ويكون هذا كله هو الانعكاس الطبيعي للوضع الاقتصادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الجديد ... ومن ثم تكون "الأخلاقيات" الجديدة المضادة تماما للأخلاقيات الزراعية هي المناسبة للوضع الجديد، وينشئ الطور الجديد عقائده وأفكاره وأخلاقياته فتستجيب لها النفوس وتتكيف معها بصورة طبيعية! ولكن هذا الذي يقوله التفسير المادي للتاريخ يكذبه الواقع أشد التكذيب. فأما ضعف المشاعر الدينية. وزوال سيطرة الأب، وفقدان قضية العفة أهميتها، وتفكك الأسرة، وممارسة الحرية الكاملة في علاقات الجنس فقد حدثت حقا، سواء كان سبب ذلك هو "التطور الحتمي" المصاحب لتغير الطور الاقتصادي كما يقول التفسير المادي للتاريخ, أم كان سببه التخطيط الشرير الهادف إلى إفساد البشرية لاستحمارها واستعبادها كما نزعم نحن.. أما الاستجابة "الطبيعية" فلم تحدث على الإطلاق! إن رد الفعل الذي حدث من ذلك كله هو انتشار القلق والجنون والانتحار والأمراض النفسية والاضطرابات العصبية وإدمان الخمر والمخدرات واتساع نطاق الجريمة وجنوح الأحداث والشذوذ الجنسي. ومؤتمراتهم وإحصائياتهم هي الشاهد على ذلك. ودلالة ذلك واضحة ... فلو أن النفس البشرية ليس لها كيان محدد ولا صورة ينبغي لها أن تكون عليها، ما حدث رد الفعل المرضي الذي حدث بالفعل في حياة الناس ولاستجابت استجابة "طبيعية" للشكل الذي شكلت به، سواء كان الذي حدد الشكل هو التطور الحتمي أو التخطيط الشرير ... إنما هذه الاستجابة المرضية معناها أن الحضارة التي قدمت للناس -تحت أي ظل وأي عنوان- هي حضارة لا تناسب الكيان البشري السوي، لا تناسب مقومات النفس البشرية الأصيلة، لا تناسب الوضع السليم الذي ينبغي أن يكون عليه الإنسان، لمفارقتها للقيم الإنسانية الصحيحة. وإذن فهناك قيم معينة، أصيلة وثابتة، ينبغي أن تكون قائمة في حياة الناس أيا كان الطور الاقتصادي الذي يعيشون فيه، وحين تخالف هذه القيم فإن الحياة تضطرب وتختل ولا يعود لها ميزان. ويكفينا هذا لإثبات أن القيم العليا هي أشياء قائمة بذاتها، ومطلوب وجودها في الحياة البشرية؛ لأن هذه الحياة لا تستقيم بدونها، كما يكفينا هذا لنفي تلك الأسطورة القائلة بأن الوضع الاقتصادي هو الأصل الوحيد الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 تنشأ منه كل القيم وكل الأخلاق! وإن كنا نقرر من باب إحقاق الحق أن الوضع الاقتصادي يتخذ أهمية بالغة في كل جاهليات التاريخ، بحيث يبدو أنه هو المسيطر. وأنه هو الأساس، إذ تتوارى القيم الأخرى كلها وتحتجب، فتبرز القيم المادية وتصبح هي الأساس، ولو أن التفسير المادي للتاريخ اكتفى بأن يقول إنه يفسر الجاهليات البشرية لكان أقرب إلى الصواب، أما أن يزعم أنه يفسر "التاريخ" ... كل التاريخ.. فزعم واسع يكذبه التاريخ! ومع ذلك فالجاهليات ذاتها -كما سنبين- لا يستوعبها استيعابا كاملا ذلك التفسير الجاهلي للتاريخ! إذا اكتفينا بهذا القدر في مناقشة القضايا الرئيسية في التفسير المادي للتاريخ، وهي قضية مادية الخالق وقضية مادية الإنسان وقضية مادية القيم الإنسانية، فلا بأس أن نستعرض بعض القضايا المترتبة عليها، ونختار من بينها قضية "الدين" وقضية "الأسرة" وقضية "الشيوعية الأولى" وقضية "الملكية الفردية" وقضية "التطور" وقضية "الحتميات" وكلها من القضايا ذات الأهمية الخاصة في التفسير المادي للتاريخ. 1- التفسير المادي للدين: يقول التفسير المادي للتاريخ إن الإنسان الأول تدين؛ لأنه كان جاهلا بقوانين الطبيعة من حوله، فصنع من قوى الطبيعة آلهة، فالبرق إله والرعد إله والريح إله والمطر إله ... إلخ؛ ولأنه كان جاهلا بالبيئة وغير قادر على السيطرة عليها، فجعل من أشجارها وحيوانها آلهة معبودة يستمطر رضاها ويتوقى غضبها، ويقدم لها الصلوات والقرابين. ومصدرهم في كثير من هذه الأمور هو "فريزر" في كتاب "الغصن الذهبي" الذي استغلوه استغلالا كاملا كما استغلوا دارون من قبل، وإن كانوا هم يشيرون إلى أبحاث "مورجان"1 ولا يشيرون إلى فريزر! أما في العهد الإقطاعي -أو الزراعي- فالناس متدينون؛ لأن عملية الإنتاج تشتمل على جانب لا يملك الإنسان السيطرة عليه، وهو جانب الإنبات والإنماء   1 مورجان باحث أمريكي تخصص في دراسة أحوال القبائل الأمريكية البدائية وهو متأخر عن ماركس ولذلك يشيرون إليه على اعتبار أن أبحاثه أيدت أقوال ماركس التي قالها غير متأثر بأحد!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 والآفات والعوارض الجوية فيتخيل قوى غيبية يسند إليها إخراج الزرع من الأرض وإنضاجه وحمايته، فيتعبدها ويسترضيها لتحفظ له المحصول الذي تقوم حياته عليه. ثم يزول الجهل والعجز بالتقدم العلمي والتكنولوجي فيتعرف الإنسان رويدا رويدا على قوانين الطبيعة، ويسيطر تدريجيا على البيئة، فتقل حاجته إلى "افتراض" القوى الغيبية، وحين تصبح عملية الإنتاج مادية بحتة في العصر الصناعي ويسيطر العامل على كل خطواتها من أول استخراج المادة الخامة إلى تشكيلها في صورتها النهائية ... فعندئذ تزول الحاجة إلى التدين نهائيا وينتهي دور الدين في حياة البشرية. ومن جانب آخر فإن الطبقة الحاكمة سواء في الإقطاع أو في الرأسمالية تستخدم الدين -الذي هو أسطورة لا حقيقة لها- في تخدير الجماهير الكادحة لترضى بالظلم في الأرض طمعا في الجنة في الآخرة. ونقول بادئ ذي بدء إنه من التعسف تفسير ظاهرة وجدت في جميع العصور وجميع الأجيال بتفسير خاص في كل جيل من الأجيال! إنما ينبغي -من الوجهة العلمية البحتة- أن نبحث عن أسبابها في الأصول الثابتة لا في المتغيرات! إن دلالة خمسين قرنا -على الأقل- من تاريخ البشرية المكتوب، فضلا عن قرون أخرى غير مكتوبة لا يعلم عددها إلا الله، لا يمكن أن تلغى بجرة قلم مهما يكن جبروت هذا القلم وطغيانه! ولا يمكن أن تلغى لأن جيلا واحدا أو جيلين قد تنكرا للدين لأسباب معروفة ومرئية وغير خافية على الذين يبحثون عن الحق ويحبون أن يهتدوا إليه! في كل تلك القرون التي لا يعلم عددها إلا الله كانت ظاهرة التدين قائمة, فلماذا نقول إن سببها في الجيل الفلاني كان كذا وفي الجيل الفلاني كان كذا وفي الجيل الآخر كان أمرا آخر؟! أهذه هي طريقة "البحث العلمي الموضوعي" وتلك هي مناهجه؟! هل يمكن مثلا أن نرد الدافع الجنسي إلى أسباب مادية أو إلى أسباب تختلف في جيل عنها في جيل آخر؟ أليس وجود هذا الدافع على مدى التاريخ البشري يجعلنا نقول إنه في أصل الفطرة لا هو مكتسب ولا هو راجع إلى أسباب خارجية في البيئة المحيطة بالإنسان؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 فلماذا نقول عن التدين -الذي وجد على مدى التاريخ البشري- إنه راجع إلى البيئة وإلى أسباب متغيرة، وليس أصلا من أصول الفطرة؟ أمن أجل أن جيلا من البشر أو جيلين قد تفشى فيهما الإلحاد؟! لقد تفشت الرهبانية في المجتمع المسيحي عدة قرون، وكان ينظر إلى التخلص من الدافع الجنسي أو كبته أو قهره على أنه قمة الارتفاع النفسي والروحي، فهل يلغي هذا العارض الذي تفشى في مجتمع معين لفترة معينة كل دلالة التاريخ، ويجعلنا نقول إن أسبابا معينة في البيئة هي التي توجد دافع الجنس وإنه يمكن أن يزول من الوجود في يوم من الأيام؟! لماذا إذن نفرق بين ظاهرتين متشابهتين بل متماثلتين فنعطي إحداهما تفسيرا ونأبى على الأخرى ذلك التفسير؟ كلا! إن الهدف واضح، وهو أن الشيوعية -اليهودية المنشأ- تريد أن تقيم مجتمعا بشريا على الإلحاد الكامل والبعد الكامل عن الدين، فتروح تزعم أن الدين ليس من الفطرة، وأن أسبابا معينة في البيئة أو في موقف الإنسان من البيئة هي التي أنشأت ظاهرة التدين فيما مضى من التاريخ، وأن هذه الأسباب الآن قد زالت فينبغي للدين أن يزول! إن وجود عوامل خارجية في الكون المادي وفي البيئة المحيطة بالإنسان تبعث مشاعر التدين في الإنسان أمر نعلمه ونقره.. إنها ذلك الكون ذاته بضخامته المعجزة ودقته المعجزة. إنها ظاهرة الحياة والموت التي تبهر حس الإنسان وتثير عجبه وتطلعه. إنها ظاهرة حدوث الأحداث وجريانها من ليل ونهار ونور وظلمة وولادة وموت وصحة ومرض وغنى وفقر واجتماع وافتراق ... إلخ. إنها ظاهرة عجز الإنسان عن السيطرة الكاملة على الكون مهما بلغ من سيطرة، وعن الإحاطة الكاملة بأسراره مهما بلغ من علمه، وعجزه الكامل عن الخلق والإنشاء من العدم1. إنها هي التي نبه إليها رب العالمين في كتابه الكريم ليوقظ وجدان البشر إلى تفرد الله بالألوهية والربوبية ووجوب إفراده بالعبادة والنسك وتحكيم شريعته في الأرض:   1 سنعاود الحديث عن هذا الموضوع بتفصيل أكثر عند الحديث عن الإلحاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2. {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 3. {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 4. {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ   1 سورة البقرة: 163, 164. 2 سورة غافر: 68. 3 سورة آل عمران: 26, 27. 4 سورة النحل: 10-18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} 1. {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} ؟! 2. نعم ... هناك عوامل خارجية في الكون المادي وفي البيئة المحيطة بالإنسان تبعث مشاعر التدين وتوقظها، ولكنها لا تنشئها من العدم، إنما هي موجودة هناك في أعماق الفطرة، وهذه العوامل توقظها فقط؛ لأن الله جعل الفطرة هكذا بحيث تستيقيظ حين تتلقى إيقاعات الكون المادي وإيقاعات الأحداث الجارية في محيط الإنسان، فتمضي تبحث عن الخالق سواء اهتدت في بحثها أم ضلت عن السبيل. ودليلنا على ذلك هو التاريخ البشري كله، لا ينقص من دلالته وجود جيل أو جيلين نافرين جاحدين شذا عن الطريق. ودليلنا من العالم الشيوعي ذاته هو جاجارين رائد الفضاء الأول، الذي ولد في الشيوعية تربى فيها على الإلحاد الكامل وإنكار وجود الله، فلما صعد إلى الفضاء هزته روعة الكون، فكان تصريحه الأول للصحفيين عند هبوطه إلى الأض: "عندما صعدت إلى الفضاء أخذتني روعة الكون فمضيت أبحث عن الله"3! ودلينا عليه من الجاهلية المعاصرة كذلك أولئك العلماء الذين تعمقوا في دراسة أسرار الكون فهداهم علمهم إلى أنه لا يمكن تفسير عجائب الكون إلا بالتسليم بوجود الله، مما نقلنا فقرات منه في هذا الفصل من قبل ونحن نتحدث عن التفسير المادي للخالق. الدين إذن مركوز في الفطرة: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 4.   1 سورة الواقعة: 58-74. 2 سورة الطور: 35-37. 3 زيفت الدولة تصريحه فيما بعد ولكن العبرة بتصريحه الأول. 4 سورة الأعراف: 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 والعوامل التي توقظ الفطرة فتبعثها تبحث عن الله باقية ما بقي الإنسان في الأرض، لا تتغير مهما بلغ من علم الإنسان أو سيطرته على البيئة. ومن أجل ذلك بقيت ظاهرة التدين قائمة خلال التاريخ البشري كله، بصرف النظر عن هذا الجيل الممسوخ الذي دفعته عوامل معينة -معروفة- إلى مغالبة الفطرة والتبجح بإنكار وجود الله. والذي ألغاه تعلم الإنسان وسيطرته على البيئة لم يكن هو الدين الصحيح، إنما كان بعض انحرافات الجاهلية وتصوراتها الساذجة، فحين توهم البشر -في بعض جاهليتهم- أن المطر إله والريح إله والرعد إله والبرق إله. وأن وجه الأرض مملوء بالأرواح الشريرة التي يؤثر فيها السحر، أو حين توهموا -في طور آخر- أن بعض الحيوانات آلهة تعبد -كبقرة الهند والعجل أبيس في مصر الفرعونية وغيرها- أو حين توهموا في طور ثالث أن بعض الأجرام السماوية آلهة كالشمس والقمر والنجوم ... كانت هذه كلها أوهاما ساذجة يمكن أن يمحوها العلم أو يمحوها زيادة سيطرة الإنسان على البيئة. أما الدين الصحيح -وهو عبادة الله الخالق وحده بلا شريك- فقد وجد منذ بدء البشرية وظل قائما إلى هذه الساعة لم يؤثر فيه العلم ولا سيطرة الإنسان على البيئة؛ لأنه لم ينشأ من الجهل العارض أو العجز العارض كما يزعم التفسير المادي للتاريخ ومن لف لفه من الملحدين، إنما نشأ من حقيقة أزلية هي وجود الله الخالق البارئ المصور، وكون الإنسان مخلوقا خلقه الله، وأودع في فطرته أن يتوجه لعبادة الله، وإن كان قد أودع في فطرته في الوقت ذاته قدرة على الاختيار بين طريق الهدى وطريق الضلال. وفي عهود البشرية السحيقة حين كانت أقوام تعبد الأب، أو تعبد الطوطم، أو تعبد قوى الطبيعة، أو تعبد الأفلاك، أو تعبد الأصنام كان هناك مؤمنون يعبدون الله وحده بلا شريك، فيتقدمون إليه وحده بالعبادة والنسك، ويطبقون شريعته في واقع حياتهم. فإذا كان نمو العلم ونمو سيطرة الإنسان على البيئة قمينا بأن يلغي أساطير الجاهليات المختلفة في أمر الدين، فليس من شأنه أن يلغي الدين ذاته، المركوز في الفطرة، الذي ينبثق حتى في الجاهلية المعاصرة الملحدة الكافرة، فيعلن صوت الفطرة رغم كل الحواجز التي تريد أن تخنق ذلك الصوت. وأما كون الإقطاع والرأسمالية يستخدمان الدين مخدرا للجماهير لترضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 بذل العبودية في الارض طمعا في جنة الله في الآخرة، فتلك كانت حقيقة واقعة في الجاهلية الأوروبية الحديثة، وقامت الكنيسة ذاتها بجزء من المؤامرة التي تهدف إلى تخدير الجماهير لكيلا يثوروا على الظالمين ... ولكن ما علاقة ذلك بحقيقة الدين؟ إنا الدين -ككل شيء آخر في عالم البشر- يمكن أن تشوه صورته وأن يساء استغلاله. فهل نلغي الدين الصحيح من أجل الصورة الزائفة، أو من أجل سوء الاستغلال؟ أم نحاول تصحيح الصورة ومنع الاستغلال؟ ثم ما الحيلة إذا كان الإنسان عابدا بطبعه، فإن لم يعبد الله عبد من هو دونه، وهبط نتيجة لذلك أسفل سافلين؟! كلا! ليس التفسير المادي للدين حقيقة "علمية" ولا يمت بأية صلة للعلم أو النظر العلمي، إنما هو "شهوة" قائمة على غير دليل، شهوة بعض الناس في نشر الإلحاد في الأرض لغاية في نفوس الشياطين! 1. 2- قضية الأسرة: كل الذين يتكلمون ضد الدين والأخلاق يتكلمون ضد الأسرة كذلك. والعلاقة واضحة، فالدين والأخلاق والأسرة كلها من "الضوابط" التي تقف في سبيل المخططات الرامية إلى إفساد البشرية واستحمارها: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} 2. إن الأسرة هي الضابط الطبيعي ضد فوضى الجنس، والذين يريدون إفساد البشرية لا يريدون أن يكون هناك ضابط للفوضى الجنسية سواء كان هذا الضابط هو الدين والأخلاق، أو كان هو التنظيم الطبيعي الذي تنشئه الأسرة بنوع علاقاتها ونوع مسئولياتها. والشيوعيون- بصفة خاصة- لهم حقد خاص على الأسرة لأكثر من سبب في وقت واحد. فالأسرة -كما يقولون- تثير مشاعر الأثرة في الوالدين، وتقوي نزعة الملكية الفردية من أجل توريث الأولاد ما يملكه الوالدان، وهم يريدون القضاء على   1 سنتحدث عن هذه الغاية مرة أخرى في فصل "الإلحاد". 2 سورة النساء: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 الملكية الفردية، فيكرهون -بالتالي- كل نظام أو فكرة يقف في طريق القضاء عليها. ثم إن النظام الشيوعي -كما سنرى ونحن نناقش المذهب الاقتصادي في صورته التطبيقية- يريد أن يجعل الولاء للدولة وحدها دون أحد آخر، ويريد من الأفراد أن يذوبوا ذوبانا كاملا في "النظام" و"الدولة" و"الحزب" و"الزعيم" فلا يكون لهم ارتباط بشيء آخر خلاف هذه الولاءات الضرورية للنظام، ومن ثم فإنهم يكرهون الأسرة؛ لأنها -بداهة- ارتباط قائم بذاته مستقل عن الدولة ولو كان مواليا لها في ظاهر الأمر أو تحت الضغط البوليسي للدولة. فإذا كان النظام الشيوعي -بالإضافة إلى ذلك- يصل إلى حد تجنيد الشعب كله في التجسس بعضه على بعض ليأمن قيام أي تجمع مضاد، أدركنا أن حنقه على الأسرة لا بد أن يكون أشد؛ لأن الولاء الفطري داخل الأسرة هو نوع من التجمع، مهما يكن صغيرا فإنه يمكن أن يكون نواة لتجمع أكبر، وهو في جميع الأحوال حائل دون الجاسوسية الدقيقة على كل فرد من أفراد الشعب. وبالإضافة إلى ذلك كله فإن من الضمانات التي يعتمد عليها النظام الشيوعي تربية الأولاد منذ نعومة أظفارهم على الولاء الكامل للنظام والدولة والحزب والزعيم.. وهذا يقتضي الإشراف الكامل عليهم منذ ولادتهم حتى لا توجد "جرثومة" واحدة مفردة يمكن أن تنشر العدوى في نطاق أوسع، والأسرة -أو مشاعر الارتباط الأبوي- عائق من عوائق هذا الإشراف الدقيق الذي يعتمد عليه النظام؛ لأنها تجعل ولاء الأطفال -أو جزءًا منه على الأقل- مرتبطا بأعضاء الأسرة من الآباء والأخوة. لذلك كله تكره الشيوعية الأسرة كراهية خاصة مركزة وسط الكراهية العامة التي يتوجه بها إلى الأسرة ذلك المخطط الشرير الذي يهدف إلى إفساد البشرية واستحمارها. ولكن أصحاب المخطط يحبون -دائما- أن يغلفوا مخططهم بالعلم والنظريات العلمية ليكون ذلك أدعى إلى تقبل الناس له وعدم اعتراضهم عليه، و"العلم" في الجاهلية المعاصرة يقوم مقام "السحر" في الجاهليات البدائية التي كانت تؤمن وتتعامل معه، ويدخل النفوس بسهولة ويتمكن منها في لحظات ... ولو كان قائما على غير أساس! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 و"العلم" الذي يحارب الماديون به الأسرة يأخذ البشرية بطولها من أولها إلى آخرها! ففي البدء كانت الشيوعية الجنسية فلم تكن هناك "أسرة" بالمعنى المتعارف عليه. وفي بقية التاريخ كانت الأسرة قائمة لأسباب اقتصادية ومتوافقة مع تلك الأسباب الاقتصادية. وفي نهاية التاريخ -التي يريدونها أو يتخيلونها أو يخيلونها للناس- تنتهي مهمة الأسرة وتزول من الوجود، على أسس "علمية"! فأما الشيوعية الجنسية فسنتحدث عنها في الفقرة القادمة، ولكنا نقول هنا إن كل ما قالوه في وصفها لا يستند إلى دليل علمي حقيقي, إنما هو استنباطات مغرضة من أحوال القبائل المتأخرة التي عثر عليها في آسيا وأفريقيا وأستراليا في القرنين السابقين. وأما قيامها لأسباب اقتصادية فيكفينا أن نشير فيه إلى ما شرحناه من قبل في مناقشة التفسير المادي للقيم الإنسانية من أن الاقتصاد والأوضاع الاقتصادية جانب مهم في حياة الإنسان، ومؤثر من المؤثرات القوية فيها، ولكن هذه الحياة أوسع وأشمل من أن تفسر بجانب واحد أو عامل واحد مهما يكن من سعته وقوة تأثيره، إنما المؤثرات كلها -على اختلاف كل منها عن الآخر وأصالته الذاتية- روافد تصب في المجرى الكبير الذي يشكل حياة البشرية, والاقتصاد واحد من هذه المؤثرات ورافد من الروافد، ولكنه ليس وحده الذي يتحكم في حياة الناس، وليس هو الذي يفسرها, إنما التفسير الأشمل والأصح أن النفس البشرية بكاملها هي التفسير الصحيح للحياة البشرية بكاملها. والنفس تحوي -ولا شك- عناصر كثيرة غير العناصر المادية حتى في ضلالها وجاهليتها! يقول خالق هذه النفس سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1. هذا السكن وهذه السكينة عنصر عام في نشأة الأسرة واستمرارها مدى التاريخ البشري كله، وهو سبب نابع من "الفطرة" التي تحب هذا السكن   1 سورة الروم: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وهذه السكينة بصرف النظر عن الدافع الجنسي الذي يمكن أن يتحقق بأية وسيلة. ولا يتنافى هذا مع كون الأسرة تكوِّن ترابطا اقتصاديا من نوع ما، فليس هناك في النفس البشرية تناقض ولا تنافر بين عناصرها المختلفة، ولا يلزم من وجود أحدها نفي الآخر ولا نبذه كما تقول التفسيرات الضيقة المتعسفة, ولا يلزم من قوة أحدها أن يكون سائرها تابعا له أو نابعا منه كما تقول تلك التفسيرات، إنما توجد كلها -مع قوتها وأصالتها- جنبا إلى جنب، متفاعلا بعضها مع بعض في الكيان البشري الكبير, الذي كرمه الله بعوامل شتى، وهذا التعدد وهذه السعة هي ذاتها من عوامل التكريم؛ لأننا لا نجدها -بهذه الصورة- في الكائنات الأدنى من الإنسان. والأسرة -كما ثبت من التجارب غير المتحيزة- ضرورة لتنشئة الأطفال الأصحاء من الوجهة النفسية، ومهما حاولت المحاضن أن تدعي أنها تقوم مقام الأسرة الطبيعية في هذا الشأن فهي واهمة في ذلك أو مغالطة، فإن في مقدور المحاضن أن تعطي رعاية صحية كاملة "للجسد" وتوجيها عقليا مبنيا على قواعد العلم "أيا كان مبلغ هذا العلم من الصحة" ولكنها لا تستطيع قط أن تعطي الرعاية النفسية المطلوبة للتنشئة الصحيحة للأطفال, بسبب غياب الأم المتخصصة التي يشعر الطفل بملكيتها -وحده- ملكية كاملة1. ولسنا نقول مع ذلك إن الإنسان لجأ إلى تكوين الأسرة؛ لأنه وجد فيها نوعا من التنظيم الاقتصادي أو وجد أنها الطريقة المثلى لتنشئة الأطفال. إنما نقول إن الله العليم الخبير الذي يعلم أن الأسرة هي التي تحقق التنشئة السليمة للأطفال حين تتخصص الأم فيها لهذه المهمة الخطيرة، قد جعل الحنين إلى تكوين الأسرة جزءا من الفطرة، تشعر فيها بالسكن والسكينة، وتشعر في خارجها بالقلق وفقدان السكينة ولو حققت كل مطالب الجنس وكل الاكتفاء الاقتصادي، ثم نظم سبحانه وتعالى العلاقات الاقتصادية داخل الأسرة بحيث تكون المرأة مكفولة كفالة كاملة دون أن تحتاج إلى العمل خارج البيت لكي تستطيع التفرغ لمهمتها الأصلية, فكلف الرجل بإعالتها -لا تفضلا ولكن تكليفا- وكلفها هي رعاية شئون البيت والأطفال، ثم جعل في فطرة كل   1 انظر كتاب "أطفال بلا أسر" لأنا فرويد، وانظر نتائج المؤتمرات التي تعقد في أمريكا وغرب أوروبا لدراسة ظاهرة جنوح الأحداث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 منهما وتركيبه العصبي والنفسي ميلا لهذا التكليف وقدرة عليه، وشعورا بتحقيق الذات عن طريقه. ذلك هو الوضع السليم للأسرة كما أنشأها الله. فأما الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق فيكرهون أن يستمعوا لهذا القول ويشمئزون منه بدعوى أنه كلام غير علمي! {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 1. فيقول دوركايم: "ومن هذا القبيل أن بعض هؤلاء العلماء يقول بوجود عاطفة دينية فطرية لدى الإنسان، وبأن هذا الأخير مزود بحد أدنى من الغيرة الجنسية والبر بالوالدين ومحبة الأبناء، وغير ذلك من العواطف، وقد أراد بعضهم تفسير نشأة كل من الدين والزواج والأسرة على هذا النحو، ولكن التاريخ يوقفنا على أن هذه هذه النزعات ليست فطرية في الإنسان"2. متى أوقفنا التاريخ على أن هذه النزعات ليست فطرية في الإنسان، وكيف أوقفنا على ذلك؟! أم لهم تاريخ سري غير التاريخ العلني الذي يعرفه جميع الناس، ويعرفون فيه أن هذه الأشياء كلها مركوزة في الفطرة؟! ويقول التفسير المادي للتاريخ إن الأسرة بحجمها وتبعاتها ووظائفها وعلاقاتها هي مجرد انعكاس للوضع الاقتصادي، ومن ثم فهي "تتطور" تطورا حتميا يمكن أن يفضي بها إلى الزوال! والتجربة الواقعية تغنينا عن الخوض في النظريات، فالنظريات تظل نظريات حتى يصدقها الواقع أو يكذبها. وما يقوله دوركايم أو التفسير المادي للتاريخ أقل في الحقيقة من أن يسمى نظرية؛ لأنه فرض معتسف لا دليل عليه من الواقع، ولكن حتى لو كان يرتقي إلى حد أن يكون نظرية فهذا هو واقع الجاهلية المعاصر يكذبه. فالرجل والمرأة كلاهما في الجاهلية المعاصرة يحققان كل ما يخطر على بالهما من متاع الجنس بلا قيود، لا قيود خلقية ولا قيود اجتماعية ولا قيود قانونية ولا قيود فكرية, ثم إنهما يحققان وجودهما الاقتصادي كل على حدته، فالرجل   1 سورة الزمر: 45. 2 كتاب "قواعد المنهج في علم الاجتماع" ترجمة الدكتور محمود قاسم ومراجعة الدكتور السيد محمد بدوي الطبعة الثانية ص173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 يتكسب والمرأة تتكسب، ويتولى كل منهما الإنفاق على نفسه وعلى بهيمية الجنس التي يمارسها من كسبه الخاص دون حاجة إلى المعونة الاقتصادية من الآخر، ومن ثم يتأخران كثيرا جدا في الزواج وتكوين الأسرة، أو يلغيان ذلك من حسابهما إلغاء كاملا، ويعيشان في حالة "صداقة" مستمرة, أي: في حالة مخادنة غير مقيدة بالرباط المقدس، أو في حالة فوضى جنسية لا ترتبط حتى برباط المخادنة غير المقدس. فلماذا لا يستريح الرجل ولا المرأة إلى هذه الأوضاع التي تحقق كل مطالب الجنس وكل مطالب الاقتصاد؟! بل لماذا يشقى الرجل والمرأة كلاهما ويبدو الشقاء في صورة الاضطرابات العصبية والنفسية والقلق والجنون والانتحار وإدمان الخمر وإدمان المخدرات؟ الجواب عندنا هو أن الرجل والمرأة كليهما قد فقدا السكن والسكينة اللذين جعلهما الله في الأسرة ولم يجعلهما في أية علاقة خارج الأسرة ولو حققت كل مطالب الجنس وكل مطالب الاقتصاد. فمن لم يعجبه هذا الجواب واشمأزت نفسه منه؛ لأنه يذكر الله وحده وفطرة الله وحدها ومنهج الله وحده، فليأت من عنده بالجواب الذي يريد، ولكن عليه بالبرهان، لا أن يطلق الدعوى بلا دليل، على طريقة دور كايم أو على طريقة التفسير المادي للتاريخ! {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} 1. {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2. فهذا -وحده- هو المنهج العلمي الصحيح. 3- الشيوعية الأولى: يزعم التفسير المادي للتاريخ أن الشيوعية كانت هي الطور الأول للبشرية، وأنها كانت شيوعية شاملة، تشمل كل نواحي الحياة البشرية بما في ذلك الجنس، فكانت القبائل البشرية الأولى تعيش في حالة من المشاعية الجنسية الكاملة, مع مشاعية الأرض ومشاعية الطعام ... إلخ. ودليلهم على وجود الشيوعية الأولى -بهذه الصورة- هو ما اكتشف في   1 سورة الأنعام: 148. 2 سورة البقرة: 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 القرنين الماضيين من أحوال القبائل البدائية التي كانت تعيش في إفريقيا وآسيا وأستراليا منعزلة تماما عن تيار المدينة لا يعرفون شيئا عن العالم من حولهم، ولا يعرف العالم شيئا عنهم. فقد وجدوا تلك القبائل تعيش عيشة جماعية..أرض القبيلة ملك مشترك لها جميعا لا ينفرد فيها أحد بملكية خاصة، والطعام مشترك بينهم سواء كان صيدا بريا أو بحريا أو غير ذلك، يطهى للقبيلة كلها وتأكل منه القبيل كها دفعة واحدة. وأسلحة الصيد والحرب ملك للقبيلة كلها كذلك. وقال فريزر -وهو مرجعهم الأكبر فيما زعموا من أحوال البشرية الأولى- إنه اكتشفت بعض القبائل تمارس ألوانا من الشيوعية الجنسية, إما كل النساء لكل الرجال على المشاع، وإما مجموعة معينة من النساء لمجموعة معينة من الرجال داخل القبيلة الواحدة. ونستطيع أن نتصور بالفعل -على ضوء أحوال هذه القبائل التي اكتشفت في القرنين الأخيرين- أن حياة القبائل الأولى كان فيها قدر كبير من المشاركة الجماعية في المسكن والمطعم وأدوات الصيد وأدوات الحرب. ففي النظام القبلي تكون القبيلة هي "الوحدة" التي يعيش الأفراد في داخلها، ويمارسون الحياة من خلالها، وفي وقت متأخر جدا من بداوة البشرية -وقت كانت قد قامت فيه "حضارات" كثيرة في بقاع مختلفة من الأرض- كان الشاعر العربي يقول: وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت، وإن ترشد غزية أرشد! فيعبر بذلك عن انسياحه الكامل في القبيلة وعدم استقلاله بذاتيته حتى مع علمه أن قبيلته تكون أحيانا على الرشد وأحيانا على الغي، وليست راشدة في جميع أحوالها. فإذا كان هذا في حياة العرب قبيل الإسلام، فلنا أن نتصور أن القبائل التي وجدت في تاريخ سابق على ذلك كثيرا كانت على ذات الصورة من التمركز في القبيلة, وانسياج كيان الأفراد في كيان القبيلة الكلي في السلم والحرب والرشد والغي على السواء! فإذا أضفنا إلى ذلك أنه في بداوة البشرية الأولى لم يكن هناك شيء يمتلك -إلا القليل النادر- أمكننا أن نتصور كذلك أن الملكية الفردية لم تكن قائمة في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 العهد السحيق على صورتها التي قامت فيما بعد. فالخيام -إن كانوا من ساكني الخيام- يسكنها مجموعة أفراد القبيلة ويتعارفون فيما بينهم على أن فلانا يسكن في هذه الخيمة وفلانا الآخر يسكن في تلك، ولكن شعور كل فرد من أفراد القبيلة لا يتجه إلى ملكيته الخاصة للخيمة، إنما يتجه إلى اعتبار مجموع الخيام كلها ملكا للقبيلة بأجمعها، فيقول في نفسه: هذه خيام قبيلتي؛ لأن الوحدة يومئذ ليست هي الفرد إنما هي القبيلة، والفرد لا يمارس حياته فردا إنما يمارسها من خلال القبيلة، فيتحدث -حين يتحدث- بضمير الجمع، فيقول: ذهبنا وجئنا وصنعنا كذا وكذا.. لأن هذه الأعمال كلها تتم بالفعل بصورة جماعية. كذلك الطعام لا تتصور فيه الملكية الفردية في ذلك العهد السحيق. فالطعام في غالبيته صيد، سواء كان صيد بر أو بحر، والصيد يحتاج إلى مجموعة من الأفراد تقوم به -من الشباب بصفة خاصة- ولا يقدر عليه فرد واحد، فإذا جاء الصيد وتم طهيه على يد المختصين -أو المختصات- في القبيلة، فعندئذ تتجمع الوحدة التي يمارس الأفراد من خلالها وجودهم فتتناول وجبة الطعام الجماعية، ثم يلقى الباقي -إن بقي منه شيء- لأنه إن بقي ينتن ولا يصلح للطعام، فلم تكن وسائل الحفظ قد اكتشفت في ذلك العهد السحيق من بداوة البشرية. ومن أجل كون الوحدة هي القبيلة وليست الفرد -وهو أصل نفسي واجتماعي وليس اقتصاديا بحتا- فإن القبيلة كلها تدخل في السلم أو تدخل في الحرب، فلا يتصور كذلك أن تكون هناك ملكية خاصة للصلاح داخل القبيلة؛ لأنه لا يستخدم إلى بصورة جماعية من خلال تلك الوحدة التي يمارس الأفراد من خلالها نشاطهم كله، فإذا تصورنا أن السلاح كله -رماحا أو سهاما أو عصيا أو ما أشبه- يوضع في مخزن واحد مشترك، وأنه حين ينادى على الحرب وتدق طبولها يهرع المقاتلون من أفراد القبيلة إلى ذلك المخزن المشترك فيتناول كل منهم نصيبه من السلاح، حتى إذا عادوا أعادوا السلاح إلى موضعه المشترك.. إذا تصورنا ذلك فلا نكون بعيدين عن الصواب. وحتى لو تصورنا أن شخصية الفرد قد نمت في داخل القبيلة شيئا من النمو في عهد متأخر فصار له سلاحه المستقل، فإنه لن يستخدمه إلا بإذن من القبيلة، وفي المواضع التي توجهه إليها القبيلة فحسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 أما الشيوعية الجنسية والمساواة الكاملة والحالة الملائكية المزعومة التي توصف بها الشيوعية الأولى فمسألة لا يقوم عليها الدليل! كل دليلهم بالنسبة للشيوعية الجنسية هو ما رواه الرحالة المكتشفون من وجود أنواع منها في تلك القبائل التي اكتشفت في إفريقيا وآسيا وأستراليا على حالة بدائية بعيدة عن كل صور المدنية. ولنسلم جدلا بصحة كل ما رواه أولئك الرحالة، وأنهم وصفوا الحقيقة كاملة بغير تهويل وتزييف.. فما دلالة روايتهم؟ بعض القبائل لا كلها، وجدت فيها أنواع مختلفة من الشيوعية الجنسية لا نوع واحد محدد. فهل يصلح هذا دليلا على أن كل القبائل التي عاشت في بداوة البشرية مارست الشيوعية الجنسية الكاملة؟! إننا نؤمن بادئ ذي بدء بأن الله أرسل هداة من البشر ينظمون لأقوامهم طرائق معيشتهم بمقتضى الوحي الرباني الذي أخبر عنه آدم وحواء يوم سكنا هذه الأرض، وأن بعض الناس آمنوا واهتدوا وبعضهم تنكب الطريق: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1. {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} 2. {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} 3. فليس البشر كلهم أمة واحدة على الهدى ولا على الضلال. ولكن الشيوعيين لا يؤمنون بالله ولا برسله ولا بوحيه. فلننظر في أدلتهم "العلمية الموضوعية"! لو وجدنا كل القبائل المتأخرة المنعزلة عن العمران تمارس لونا واحدا من المشاعية الجنسية لقلنا إنه ربما كان هذا هو الحال الذي كانت عليه البشرية في أول عهدها، ولم نقطع مع ذلك بأن هذا أمر يقيني؛ لأن الشذوذ والانحراف يطرأ دائما على الناس في أثناء مسيرتهم التاريخية، ولا يدل وجوده في أي جيل على أنه كان موجودا في أجيال سابقة.   1 سورة البقرة: 38, 39. 2 سورة النحل: 36. 3 سورة فاطر: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ألم تقع الفاحشة الشاذة من قوم لوط غير مسبوقة؟ فهل نقول إن وجودها وتفشيها في قوم لوط دليل على أنها وجدت منذ أول البشرية ووجدت على سبيل الشمول؟! وهب أن إنسانا بعد مائة عام أو ألف عام قلب في صحف القرن العشرين فوجد صور النساء العاريات في الشواطئ وفي الشوارع وفي البيوت. وقرأ عن التمثيليات التي تمارس فيها العملية الجنسية كاملة على المسرح وتنقلها شاشة التلفزيون، فحكم بناء على ذلك بأن العري أصل من أصول البشرية، وأن الممارسة العلنية للجنس هي الأصل الذي مارسته البشرية في تاريخها كله ... أيكون هذا استدلالا، "علميا" موضوعيا تبنى عليه نظريات علمية لتفسير السلوك البشري؟! كذلك قصة القبائل المتأخرة التي عثر عليها في مختلف بقاع الأرض، لا تدل ممارستها للشيوعية الجنسية على أن هذا هو الأصل الذي كانت عليه البشرية في بداوتها، ولو كانت كلها تمارس تلك الشيوعية، فما بال إذا كان الواقع أن بعضها فقط هو الذي يمارس الشيوعية وبعضها لا يمارسها؟ وما بال إذا كانت القبائل التي تمارسها لا تمارسها على صورة واحدة؟! إنما لجأ الشيوعيون إلى اعتساف الدليل، والزعم بأن الشيوعية الجنسية كانت قائمة في البشرية الأولى؛ لأنهم كانوا في مبدأ أمرهم يروجون لهذه الشيوعية في نظرياتهم وتطبيقاتهم، ويريدون أن يجعلوها قاعدة الحياة عندهم، ترغيبا "للزبائن" من الشباب الذي يعاني الحرمان الجنسي لأي سبب من الأسباب! فلما رأوا فيما بعد أن هذ الأمر يستغل في الدعاية ضدهم والتنفير منهم عادوا فعدلوا النظرية وإن كانوا لم يعدلوا تعديلا جوهريا في التطبيق، واحتجوا -كأنما ذلك يعطيهم الحجة- بأن الشيوعية الجنسية قائمة على نطاق واسع في المجتمع الرأسمالي! يقول البيان الشيوعي الذي أصدره ماركس وإنجلز: "ليست بالشيوعيين حاجة إلى إدخال إشاعة النساء فهي تقريبا كانت دائما موجودة. ولا يكتفي البرجوازيين بأن تكون تحت تصرفهم نساء البرولتاريين وبناتهم -هذا عدا البغاء الرسمي- بل يجدون لذة خاصة في إغواء بعضهم لنساء بعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 "ليس الزواج البرجوازي في الحقيقة والواقع سوى إشاعة النساء المتزوجات". وهو حق يراد به باطل! فوجود الشيوعية الجنسية في المجتمع الرأسمالي الذي أشرف اليهود على توجيهه حقيقة واقعة. ولكن وجودها ليس في حجة لمن يريد لها أن تستمر، وخاصة إذا كان من "الثائرين" على النظام الرأسمالي، الذين يريدون -بالثورة الدموية- أن يعدلوا ما ينطوي عليه من الفساد! إلا أن يكون هذا اللون من الفساد مطلوبا بالذات، يراد الإبقاء عليه وترويجه -وتلك هي الحقيقة- فعندئذ تعتسف له الأدلة وتقام له الأسانيد! ولكنها أسانيد باطلة لا تثبت للتمحيص العلمي. وأما المساواة الكاملة والحياة الملائكية التي يصفون بها الشيوعية الأولى فأمر كذلك يعوزه الدليل. فالمعروف أن شيخ القبيلة -على الأقل- شخص متميز في كل أموره وأوضاعه، بما في ذلك ملبسه الذي يميزه عن أفراد قبيلته للوهلة الأولى إذ لا بد أن يتميز ولو بريشة زائدة يضعها على رأسه يعرف منها القريب والبعيد أنه هو الرئيس الذي تقدم له فروض التوقير والاحترام, والريشة مجرد رمز، ولكنها ترمز إلى تمييز حقيقي واسع المدى بين شيخ القبيلة وبقية أفرادها. وسواء كان التمييز قائما على القوة الجسدية أو الخبرة والحنكة وبعد النظر، أو السن, أو الشجاعة وحسن البلاء في الحرب, فإن شيخ القبيلة يتمتع دائما بمكانة متفردة، وغالبا ما يتمتع كذلك بعدد أكبر من النساء! ثم إن الشبان الأقوياء من القبيلة، أو الماهرين في الصيد أو الشجعان في الحرب لا بد أن يتميزوا بحكم الأمر الواقع، أي: بحكم مواهبهم، وتكون لهم عن شيخ القبيلة منزلة خاصة، ومن حقه أن يمنحهم من الامتيازات ما يشاء، فإرادته أمر، وأمره مطاع! والزعم بأنه لا توجد امتيازات ولا فوارق في تلك الحياة البدائية لمجرد عدم وجود ملكية فردية زعم يكذبه الواقع المشهود من أحوال القبائل ذاتها التي يستمدون منها أدلتهم! فلماذا يأخذون الدليل التعسفي حين يريدون، ويتركون الدليل الواضح حين يكون مخالفا لأهوائهم ومزاعمهم؟ إنما نستدل من أحوال هذه القبائل -إذا أردنا استمداد الأدلة منها- على أن المساواة ليست أصلا من أصول الحياة البشرية وأن الأصل هو التمايز بين الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 باختلاف مواهبهم، سواء كان تمايزا عادلا- أي: قائما على مسببات صحيحة- كما يحدث في المجتمعات المستقيمة -أي: المهتدية بالهدي الرباني- أو كان تمايزا ظالما كما يحدث في المجتمعات الجاهلية كلها بلا استثناء. إنما يتعسفون في إنكار الدليل الواضح في هذه القضية؛ لأنهم يريدون تحقيق هدفين على الأقل بإعلان مبدأ المساواة: الأول هو ترغيب "الزبائن" من المقهورين المغلوبين على أمرهم في مجتمعاتهم -وهم الكثرة الكاثرة من أفراد الشعب- ليقبلوا على الشيوعية ويعتنقوها، فزعموا لهم أنهم سيطبقون المساواة الكاملة في مجتمعهم الشيوعي، وسندوا هذا الزعم بأن المساواة هي الشأن الطبيعي في الشيوعية، سواء الشيوعية الأولى أو الآخرة! والهدف الثاني أنهم -لأمر في مخططهم- كانوا يسعون إلى نزع الملكية الفردية جميعا فزعموا للناس أن الأصل في البشرية هو المساواة المطلقة في كل شيء, وأن الذي أفسد المساواة هو الملكية الفردية, وأنهم سيلغون الملكية الفردية لتحقيق المساواة في مجتمعهم الملائكي الجديد1. وأيا كانت أهدافهم الظاهرة أو الخفية فليس هناك سند علمي لوجود المساواة المطلقة في الشيوعية الأولى على فرض وجود تلك الشيوعية بالصورة التي يصفونها! وأما الصورة الملائكية في تلك الشيوعية الأولى فلم يأتوا لها بسند على الإطلاق. وما بنا من حاجة إلى مناقشة دعوى لا يقوم عليها الدليل! إنما عليهم أن يثبتوا -إن استطاعوا- أنه لم تقع منافسات بين شباب القبيلة الواحدة على الحظوة بالمنزلة الخاصة عند شيخ القبيلة, وما يترتب على ذلك من امتيازات، وأنه لم تقع منافسات ومشاجرات تؤدي إلى القتال أحيانا بين شباب القبيلة على "امتلاك" امرأة معينة؛ لأنها في نظر المتقاتلين عليه أجمل من غيرها من النساء. ثم عليهم أن يثبتوا أخيرا أن الحروب لم تكن تقع بين بعض القبائل وبعض, وأنها كانت تعيش في حالة من الإخاء والسلام والمحبة كما يعيش الملائكة الأطهار!   1 سنرى عند مناقشة التطبيق الواقعي للشيوعية أنهم عجزوا عن تحقيق المساواة الكاملة فتراجعوا عنها وعللوا تراجعهم بأنهم ما زالوا في مرحلة الاشتراكية ولم يصلوا إلى التطبيق الشيوعي بعد! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 فإذا لم يثبتوا ذلك- ولن يثبتوه- فنحن نقول إن أحوال القبائل كما رواها التاريخ، وكما ظهرت في القبائل المكتشفة في القرنين الماضيين هي حياة التنافس الدائم والتنازع الدائم والصراع.. فلماذا نترك دلالة الواقع ونرسم صورة من الخيال؟! إنما أرادوا -كما أسلفنا- أن ينزعوا الملكية الفردية جميعا ويركزوا الملكية في يد الدولة التي يسيطرون هم عليها في واقع الأمر، فزعموا للناس أن المصائب كلها نشأت من الملكية الفردية بعد زوال الشيوعية الأولى ذات الطابع الملائكي، وأنهم عائدون بالبشرية إلى ملائكيتها المفقودة بنزع الملكية الفردية جميعا في الشيوعية الثانية! وذلك ترغيبا "للزبائن" المحرومين من الملك, الحاقدين على الملاك -وهم أكثرية الناس في المجتمعات الإقطاعية والرأسمالية- حتى يعتنقوا الشيوعية ويؤازروها، ويكونوا مددا لها وسندا في كل مكان في الأرض! 4- الملكية الفردية: أشرنا فيما سلف أكثر من إشارة إلى قضية الملكية الفردية ووضعها في التفسير المادي للتاريخ، ومع ذلك أفردنا لها حديثا خاصا لشدة أهميتها سواء في التصور المادي أو في التطبيق الشيوعي. يرى أصحاب التفسير المادي للتاريخ أن الملكية الفردية هي سبب كل الشرور التي حلت بالبشرية منذ خروجها من مرحلة الشيوعية الأولى إلى أن تعود الشيوعية الثانية فتلغيها وتلغي معها الشرور الناشئة عنها. وينشأ الشر من أن الذي يملك هو الذي يحكم، وحين يحكم فإنه يضع التشريعات التي تخدم مصالحه ومصالح طبقته على حساب بقية الطبقات. ويرى الماديون كذلك أن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية في النفس البشرية بدليل فترة الشيوعية الأولى التي لم تكن فيها ملكية فردية. إنما هي أمر مكتسب، اكتسبته البشرية بعد أن اكتشفت "أو تعلمت" الزراعة، حيث أدى ذلك إلى انتهاء فترة الشيوعية الأولى ودخول البشرية في مرحلتي الرق والإقطاع، ثم لما تحولت الملكية من ملكية زراعية إلى ملكية صناعية رأسمالية دخلت البشرية مرحلة الرأسمالية. ويرون أن الصراع الطبقي الذي يدور عليه تاريخ البشرية كله فيما بين الشيوعية الأولى والشيوعية الأخيرة قائم كله على الملكية الفردية ومتعلق بها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وأن هذا الصراع لا يزول من الأرض إلا بإزالة السبب المتعلق به, أي: إزالة الملكية الفردية في جميع صورها. بعض هذا الذي يراه أصحاب التفسير المادي للتاريخ صحيح ولا شك، ولكن صحته قائمة في نطاق محدد لا تتعداه إلى التعميم المطلق، وفضلا عن ذلك فإن المغالطات والأوهام حول الملكية الفردية أكثر بكثير من الحقائق الواردة حولها مع كون هذه الأخيرة محددة في نطاق معين وليست مطلقة الصحة في جميع الحالات. فكون الذي يملك هو الذي يحكم, وكونه حين يحكم يشرع لصالحه وصالح طبقته على حساب بقية الطبقات.. هذا صحيح صحة كاملة، ولكن في نطاق الجاهليات وحدها التي تحكم بشرائع البشر ولا تحكم بشريعة الله. وحقيقة أن الجاهليات تحتل القسم الأكبر من التاريخ البشري! ولكن وجود نظام إيماني تحكم فيه شريعة الله بدلا من شرائع البشر حقيقة موضوعية. والأمانة العلمية تقتضي استثناءه من القاعدة العامة التي يضعها التفسير المادي للتاريخ، ولو أن التفسير المادي للتاريخ وضع هذا الاستثناء وأشار إليه ما كان لنا عليه اعتراض في هذه النقطة بالذات "وإن كانت لنا عليه اعتراضات في مواضع أخرى أشرنا إلى بعضها في حينها ونشير إلى بعضها الآخر فيما بعد" فتاريخ الجاهليات بالفعل تاريخ ظالم شديد الظلم ينقسم فيه الناس دائما إلى سادة وعبيد. سادة يملكون ويحكمون ويشرعون، وعبيد لا يملكون شيئا ولا يحكمون ولا يشرعون، إنما تقع على عاتقهم الأعباء التي يلقيها عليهم الحاكمون. وانقسام المجتمع إلى سادة وعبيد "أو إلى الذين استكبروا والذين استضعفوا كما جاء في القرآن الكريم" يتصل بالفعل بقضية الملكية الفردية، ولكن حصره في هذه القضية, أو في النطاق المادي والاقتصادي بصفة عامة هو حجب للحقيقة الأصلية التي تنشأ عنها تلك الحقيقة الفرعية التي يركز عليها التفسير المادي للتاريخ. الحقيقة الأصلية التي لا يحب الماديون ذكرها على الإطلاق ولا يؤمنون بها كذلك، هي قضية الألوهية وقضية العبودية، قضية الإله وما ينبغي له على عباده، والعباد وما ينبغي عليهم تجاه إلههم وخالقهم، ثم ما يترتب على مخالفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 هذه المقتضيات من خلل في حياة البشرية. إن من حق الله على عباده أن يعبدوه "بالمعنى الشامل للعبادة التي يشمل الاعتقاد بوحدانيته وتوجيه الشعائر التعبدية إليه وحده، وطاعته فيما أمر به ونهى عنه، وعدم الاحتكام في أي أمر من أمور حياتهم إلى شريعة غير شريعته" وذلك بمقتضى أنه إلههم وخالقهم: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 1. فبما أنه هو الخالق فهو صاحب الأمر. ولا يحق لأحد أن يكون صاحب الأمر إلا أن يكون هو الخالق، أو يكون خالقا مع الله، ولذلك يدور الجدل والحوار كله مع الكفار في القرآن بشأن قضية عبادة غير الله على محور واحد: هل أولئك الذين تطيعون تشريعهم من دون الله هم الخالقون؟ أم لهم شرك في الخلق؟ فإن لم يكونوا خالقين ولا لهم شرك في الخلق فليس لهم أن يحلوا أو يحرموا مع الله أو من دون الله. {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 2. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} 3. ولم يكن ذلك في أمر العبادة بمعنى الاعتقاد فقط، أو بمعنى التوجه إلى الله بشعائر التعبد فقط، إنما كان كذلك في أمر العبادة بمعنى اتباع ما أنزل الله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 4. {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 5. وحين دخل عدي بن حاتم "وكان نصرانيا" على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليعلن إسلامه تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُم   1 سورة الأعراف: 54. 2 سورة الرعد: 16. 3 سورة فاطر: 40. 4 سورة الشورى: 21. 5 سورة الأعراف: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1 فاحتج عدي بن حاتم على الشق الخاص بعبادة الأحبار والرهبان فقال: يا رسول الله ما عبدوهم! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ألم يحلوا لهم الحرام فأحلوه، وحرموا عليهم الحلال فحرموه" , قال: بلى! قال: "فتلك عبادتهم إياهم! ". وحين يخرج الناس على عبادة الله فإنهم يخرجون على مقتضى عبوديتهم فيصيبهم جزاء ذلك الخروج خبالا في الدنيا وجحيما في الآخرة. وخبال الدنيا هو انقسام المجتمع إلى فريقي السادة والعبيد: السادة يملكون ويحكمون ويشرعون من عند أنفسهم فتكون تشريعاتهم لصالح أنفسهم على حساب العبيد، والعبيد -الذين رضوا بالعبودية لغير الله فأصبحوا عبيدا لبشر مثلهم- تقع عليهم التكاليف ويقع عليهم الظلم ويقع عليهم الحرمان. ومن ثم تكون الملكية الفردية وبالا في الجاهلية..لا لأنها بطبيعتها كذلك. ولكنها لأنها تصبح عندئذ أداة الظلم التي تمكن للسادة في جعل أنفسهم أربابا للعبيد. والسادة والعبيد كلاهما في الجاهلية قد رفضوا العبودية لله فتلقفتهم الشياطين: وجزاؤهم في الآخرة جهنم وبئس القرار. أما في الدنيا فيستمتع السادة متاع الحيوان: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} 2. أما العبيد -أي: الذين لا يملكون- فلهم ذات الجزاء في الآخرة؛ لأنهم نكلوا عن عبادة الله ورضوا بعبادة العبيد، وفي الوقت ذاته لهم في الدنيا البؤس والشقاء والظلم يتجرعونه جزاء رضاهم باستعباد أنفسهم لأولئك الأرباب من دون الله. أما حين يستقيم الناس على أمر الله، فيعبدونه وحده بلا شريك، ويرفضون العبودية لأحد مع الله أو من دون الله, أي: يرفضون التوجه بشعائر التعبد لغير الله، ويرفضون أن يتلقوا التشريع من عند أحد غير الله, فعندئذ يكونون قائمين   1 سورة التوبة: 31. 2 سورة محمد: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 بمقتضى عبوديتهم لله الحق، فيصيبهم جزاء ذلك بركة في حياتهم في الدنيا ورضوانا من الله في الآخرة. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 1. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} 2. ومن البركات التي تصيبهم في الدنيا نجاتهم من أن يكونوا عبيدا للأرباب الزائفة في الأرض، وشعورهم بالعزة الحقيقية التي يستمدونها من الاستعلاء بالإيمان. فلا تذل نفوسهم لطغاة الأرض ولا يسمحون لأحد أن يجعل من نفسه ربا يشرع بغير ما أنزل الله؛ لأنهم يستمدون العزة والقوة ممن هو أكبر منهم وأعلى.. الله أكبر. ومن البركات كذلك الرخاء الذي يسبغه الله على الأرض المؤمنة من خيرات السماء التي يفيضها عليهم، ومن تكافل الأمة المؤمنة فيما بينها، فلا يستمتع فريق بالخيرات وحده ويظل فريق في الحرمان. وعندئذ توجد الملكية الفردية ولا يوجد معها الظلم والشر الذي يصاحبها في الجاهلية؛ لأن الذي يملك هنا لا يحكم! أي: لا يضع تشريعات من عنده يصوغها لمصلحته على حساب الآخرين ... إنما تكون الحاكمية لله، هو الذي يحل ويحرم وهو الذي يضع التشريعات التي يخضع لها الحاكم والمحكوم سواء، والتي يتوفر فيها العدل الحقيقي؛ لأنها منزلة من عند رب الجميع الذي لا يحابي أحدا من البشر على حساب أحد. وقد تقع المظالم في ظل المنهج الرباني من سوء التطبيق لما أنزل الله، ومن جور الحكام الذي يحدث من عصيانهم لله، وحكمهم في بعض القضايا بغير ما أنزل الله, وإن كانوا لا يضعون تشريعات من عند أنفسهم تخالف ما أنزل الله، ولا يجعلون مخالفاتهم تشريعا يلزمون به الناس وإلا لكفروا بذلك كفرا صريحا وخرجوا من ملة الإسلام، وعندئذ نلحظ أمرين هامين: الأول: أن حجم الظلم   1 سورة الأعراف: 69. 2 سورة المائدة: 65, 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 الذي يقع على مجموع الأمة أقبل بكثير من الظلم الذي يقع في الجاهليات التي لا تحكم بما أنزل الله. والثاني: أن الأمة مطالبة بكف هذا الظلم ومنعه من الاستمرار وإلا فهم آثمون في حق الله، كما أنهم آثمون في حق أنفسهم، "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره, ثم إنه تخلف من بعد ذلك خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 1. وهكذا يتبدى لنا أن الشر لا ينجم من الملكية الفردية في ذاتها، فيكون العلاج هو بترها من منبتها، إنما ينجم من طبيعة الجاهلية التي لا تحكم بما أنزل الله، فيكون العلاج هو القضاء على الجاهلية وإدخال الناس في دين الله، وعندئذ تبقى الملكية الفردية التي شرعها الله لتستجيب للفطرة التي خلقها الله، تبقى على النحو الذي شرعه الله، وبالحدود والضوابط التي أنزلها الله.. ولا ينشأ الظلم الذي حرمه الله! وقد أقفل الماديون كل باب للإصلاح وقالوا لا إصلاح على الإطلاق إلا بإلغاء الملكية الفردية إلغاء باتا لا هوادة فيه. فلما قيل لهم إن ذلك مضاد للفطرة ردوا -"علميا" كعهدهم في كل شيء- فقالو أولا إن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية، وإنما هي مكتسبة، وقالوا ثانيا: إنه لا توجد "فطرة" على الإطلاق، إنما تنشأ المشاعر والأفكار والمواقف انعكاسا من الوضع المادي وتبعا له، ولا شيء منه ثابت على الإطلاق! وبصرف النظر عن التناقض الضمني بين القول الأول والثاني؛ لأن الأول يتضمن الاعتراف بوجود نزعات فطرية في النفس البشرية, وإن نفى الملكية الفردية من بينها، والثاني ينفي وجود نزعات فطرية على الإطلاق.. بصرف النظر عن هذا التناقض نقول إن ادعاءهم بأن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية هو مجرد ادعاء ليس عليه دليل علمي واحد ... إلا ذلك الدليل "غير العلمي" وهو وجود الشيوعية الأولى، التي افترضوها كأنها حقيقة مؤكدة ثم راحوا يستنبطون منها كل ما يراود مزاجهم من التصورات والتطبيقات سواء في نزع   1 أخرجه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 الملكية الفردية أو في إباحة الفوضى الجنسية وتفتيت الأسرة أو في غير ذلك من المجالات. ولقد ناقشنا تلك الشيوعية من قبل؛ ورأينا أولا أنه لا يوجد دليل يقيني عليها، ورأينا ثانيا أن أوصافها المزعومة ليست كلها منطبقة على المصدر الذي استمدوا منه كل افتراضاتهم وهو القبائل المنعزلة التي عثر عليها في العهود الأخيرة، ولا على ما هو معلوم من أحوال القبائل القديمة من سجلات التاريخ. ولكنا نفترض أن ما يقولونه صحيح كل الصحة فيما يتعلق بعدم وجود ملكية فردية في المأكل والمسكن لدى القبائل الأولى التي كانت في بداوة البشرية، فما الدلالة "اليقينية" التي يمكن استنباطها من هذا الوضع؟ إننا لا نستطيع أن نستنبط من ذلك يقينا أن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية! وذلك من أقوالهم ذاتها! فهم أنفسهم يقولون إنه بمجرد اكتشاف الزراعة ظهرت الملكية الفردية! فكيف ظهرت؟! إن القول بأن الزراعة هي التي أنشأت الملكية الفردية بذاتها -من عند نفسها لا بدافع من النفس البشرية- هو قول ساذج غبي لا يثبت للبحث العلمي ولو رددوه في كل كتبهم بلا استثناء. إنما الذي يناسب البحث العلمي أن نقول إن الأرض كانت موجودة من قبل ولكنها لم تستثر حاسة الملك عند الناس؛ لأنه لم تكن هناك فائدة تتحقق من امتلاكها، وبمجرد ظهور الفائدة تحركت الحاسة التي كانت موجودة من قبل في حالة كمون، فنشطت وتحركت للعمل. وقد تكرر هذا في التاريخ أكثر من مرة. فالحيوانات قبل استئناسها كانت موجودة. ولكنها لم تستثر حاسة الملك؛ لأنه لا فائدة تتحقق من امتلاكها وهي على هذه الصورة، ولكن بمجرد أن أمكن استئناسها، وظهرت الفائدة منها، سعى الناس إلى امتلاكها ملكية قبلية أولا ثم ملكية فردية بعد ذلك حين نمت شخصية الفرد واستقل بوجوده الذاتي عن القبيلة، ولم يكن للزراعة دخل في هذا الأمر على الإطلاق! إنما يرجع الأمر إلى أصلين كبيرين: الأصل الأول: هو وجود الفائدة من التملك أو عدم وجودها، والأصل الثاني هو درجة النمو الاجتماعي الذي يكون عليه الفرد، وهل هو فرد في قبيلة أم فرد في تجمع أكبر من القبيلة, فحين يكون فردا في قبيلة تكون القبيلة هي "الوحدة" النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يمارس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 الفرد من خلالها وجوده فلا تكون الملكية للفرد ولكن تكون للقبيلة في مجموعها، ثم تتناحر القبائل فيما بينها على الملكية إذا كانت الجاهلية هي التي تحكمها، وحين يكون فردا في تجمع أكبر من القبيلة يكون وجوده الفردي أكثر بروزا إلى أن يصبح فردا في أمة فتكون ذاتيته الفردية في أبرز أوضاعها، ثم يتناحر الأفراد -من خلال وجودهم الفردي أو وجودهم الطبقي- إذا كانت الجاهلية هي التي تحكمهم. وعلى ذلك نقول إن الشيوعية الأولى -على فرض وجودها- ليست دليلا يقينيا على عدم وجود نزعة فطرية للتملك, إنما هي دليل فقط على عدم وجود نشاط ظاهر لهذه النزعة في تلك الفترة؛ لأنها نشطت بالفعل بمجرد وجود حوافز تستثيرها. ونقول ثانيا إن هذه النزعة يمكن أن تهذب إلى درجة عالية جدا توشك أن تحولها إلى نزعة جماعية كما صنع التهذيب الإسلامي بالأنصار حتى جعلهم يؤثرون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة, ويقتسمون معهم كل ما يملكون من متاع الحياة الدنيا، حتى قال الله فيهم. {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1. ولكن هذا التهذيب لا يلغي النزعة الفطرية من أساسها إنما يرفعها إلى أنبل صورها مع الإبقاء على أصلها، ولو كان الله منزل هذا الدين الذي هذب النفوس إلى هذا الحد الرفيع يعلم -سبحانه وتعالى- أن إلغاءها بدلا من إبقائها وتهذيبها أنفع للإنسان أو أنسب لطبيعته لشرع سبحانه إلغاءها، ولكنا نجد التشريعات كلها والنصوص كلها تؤكد وجودها في فطرة الإنسان، ولكنها فقط تعمل على تهذيبها إلى أقصى ما يملك البشر من آفاق التهذيب، وهذا نموذج من النصوص التي تحوي الإثبات والدعوة في ذات الوقت إلى التسامي: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي   1 سورة الحشر: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} 1. فإذا كان الماديون لا يؤمنون بهذا الحديث كله ويشمئزون من ذكره، فإننا نقول لهم أخيرا إن نزعة الملكية الفردية يمكن أن تقهر قهرا كاملا كما حدث في ظل الشيوعية، ولكن هذا أيضا لا يزيلها من منبتها! والدليل على ذلك شيئان حدثا في التطبيق الشيوعي ذاته يهدمان النظرية من أساسها، ويؤكدان أن الملكية الفردية نزعة فطرية أصيلة في النفس البشرية. الشيء الأول هو تراجع الشيوعيين -في التطبيق- عن مبدأ الإلغاء الصارم البات لكل نوع من أنواع الملكية الفردية، الذي بدءوا به حياتهم التطبيقية، ولجوءهم إلى تمليك الأشياء الشخصية وسماحهم بالعمل الإضافي -بعد أداء وحدة العمل الإجبارية- لمن أراد أن يعمل، في مقابل أجر إضافي يمكن أن تشترى به أشياء شخصية يمتلكونها مدى حياتهم. ولولا أن الشيوعيين وجدوا نزعة الملكية الفردية ذات وجود قاهر -رغم كل القهر البوليسي الذي تمارسه الدولة -ما تراجعوا هذا التراجع تحت أي ضغط من الضغوط؛ لأنه تراجع عن أصل جذري من أصول النظرية، يمكن أن يؤثر في النظرية ذاتها على المدى الطويل! والشيء الثاني هو تناقص الإنتاج الزراعي المتواصل في ظل الملكية الجماعية نتيجة لضعف الحافز إلى العمل! وقد يسأل سائل: ولماذا حدث ذلك في الإنتاج الزراعي وحده ولم يحدث في الإنتاج الصناعي الذي تقدم تقدما كبيرا في ظل "النظام"؟ ونجيب السائل بأن الإنتاج الصناعي -وخاصة في ظل التكنولوجيا الحديثة- يمكن أن يخضع للرقابة الصارمة، ويمكن أن يحدد فيه العامل المهمل بدقة متناهية؛ لأن عملية الإنتاج ذاتها توزع العمل توزيعا دقيقا على مجموعة العمال الذين يقومون به، بحيث يقوم كل منهم بعملية واحدة محدودة تتكرر بذاتها مع كل قطعة من قطع الإنتاج.. فيمكن -بسهولة- عند مراجعة الإنتاج أن يعرف العامل المقصر حين يقع تقصير. وعندئذ يقدم لمحاكمة عاجلة, بتهمة التخريب والخيانة ... إلخ,   1 سورة آل عمران: 14- 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وقد يحكم عليه بالإعدام, وينفذ فيه الحكم فورا على رءوس الأشهاد، نكالا لما بين يديها وما خلفها، وإرهابا لمن تحدثه نفسه بالتقاعس والإهمال، أما الإنتاج الزراعي فلا يمكن مراقبته وضبطه بهذه الصورة مهما كانت شدة الرقابة وصرامتها ... ولذلك تناقصت الغلة عاما بعد عام، حتى صارت روسيا -التي كانت من قبل من الدول المصدرة للقمح، والتي أضيف إليها أوكراينا، حقل القمح الخصب في أوروبا- صارت روسيا هذه تستورد القمح من أمريكا بكميات متزايدة. ولقد زعموا أن هذا ناشئ من الآفات الزراعية!! ولكن العلاج الذي وضعه خروشوف يكشف عن أن الآفات الزراعية لا علاقة لها بالموضوع إطلاقا! فإن خروشوف لم يأمر بزيادة الأبحاث الخاصة بوقاية الزروع من الآفات، ولكنه أمر بإتاحة الملكية الفردية لقسم من المحصول, وللدار التي يقيم فيها الفلاح! فظهر جليا أن نقص المحاصيل كان راجعا إلى ضعف الحافز على الإنتاج نتيجة مقاومة الحافز الفردي وقهره، وأن العلاج هو الاعتراف -ولو جزئيا- لهذا الدافع بحق الوجود! ويغنينا هذا عن مزيد من الجدل النظري الذي لا يصل- مع الماديين- إلى نتيجة! {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} 1. يقيم الماديون تفسيرهم للحياة البشرية على أساس أن الصراع الطبقي هو قوام هذه الحياة منذ خرج الناس من الشيوعية الأولى حتى يعودوا إلى الشيوعية الثانية، وأن هذا الصراع الطبقي متعلق بالملكية الفردية فلا يزول من الأرض حتى تزال الملكية الفردية، وبمجرد أن تزول الملكية الفردية يرجع الناس إلى الحياة الملائكية التي كانوا عليها أيام الشيوعية الأولى وتستريح البشرية من الصراع ... وكما قلنا مع الملائكية الفردية نقول مع الصراع الطبقي ...   1 سورة الأعراف: 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 صحيح ما يقولون.. ولكنها صحة محددة بنطاق معين، وليست صحة مطلقة ... صحيح بالنسبة للجاهليات.. ففي الجاهليات يصدق القول بأن الذي يملك هو الذي يحكم، وحين حيكم يشرع لصالح نفسه وصالح طبقته على حساب بقية الطبقات ... ومن ثم ينشأ صراع بين الطبقات، ويدور الصراع حول متاع الأرض؛ لأن الجاهلية مفتونة أبدا بمتاع الأرض؛ ولأنه في غياب القيم العليا لا يبقى للناس إلا متاع الأرض يتصارعون حوله ويتقاتلون عليه. أما في النظام الرباني فليست هناك -بادئ ذي بدء- طبقات! ومن ثم فلا يوجد صراع طبقي! ومن كان في شك من هذه الحقيقة فليرجع إلى تعريف "الطبقة" وتعريف "الصراع الطبقي" عند الماديين أو عند غيرهم سواء. الطبقة مجموعة من الناس يجمع بينهم وضع اقتصادي معين ومن ثم تجمع بينهم مصالح اقتصادية معينة، ويشملهم وضع تشريعي معين، فهم إما الطبقة التي تملك، ومن ثم فهي التي تحكم، وإما الطبقة التي لا تملك ومن ثم فهي لا تحكم، وإنما يقع الحكم عليها. وبيان ذلك من عهود الرق والإقطاع والرأسمالية كالآتي: في عهد الرق كان الناس طبقتين رئيسيتين: طبقة السادة وطبقة العبيد. السادة يملكون كل شيء، ويملكون جميع الامتيازات والعبيد من بين "الأشياء" التي يملكها السادة، لا حقوق لهم على الإطلاق، والسيد يتصرف فيهم كما يشاء. وفي عهد الإقطاع في أوروبا كان الناس ثلاث طبقات رئيسية: طبقة الأشراف "أمراء الإقطاع" وطبقة رجال الدين وطبقة الشعب، وكان الأشراف ورجال الدين متحالفين كأنهما طبقة واحدة، وكانا يملكان ويحكمان كل في دائرته واختصاصه، والشعب لا يملك ولا يحكم وإنما يقع عليه عبء الطبقتين السالفتين جميعا. وفي عهد الرأسمالية انقسم الناس إلى طبقتين رئيسيتن: طبقة أصحاب رءوس الأموال وطبقة العمال. وفي ظاهر الأمر -من خلال مسرحية الديمقراطية والتمثيل النيابي- يبدو أن الشعب -الذي لا يملك- صاحب سلطان ولكن الحقيقة المستترة وراء المسرحية أن الحاكم الحقيقي هو المالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 الحقيقي، أي: إن الطبقة الرأسمالية هي التي تحكم وطبقة العمال هي التي يقع عليها الحكم. وفي كل مرة من المرات الثلاث كان يثور صراع طبقي بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة يؤدي إلى تغير مستمر في الأوضاع, فالصراع الأول حرر عبيد السيد وحولهم إلى عبيد للأرض أو أقنان، والصراع الثاني حرر عبيد الأرض وحولهم إلى عمال صناعيين، وأما الصراع الثالث فقد أدى إلى الشيوعية، وفي الشيوعية تقول النظرية إن طبقة "البروليتاريا" أي: الطبقة الكادحة هي التي تملك وتحكم، وتبيد الطبقات الأخرى جميعا فينتهي الصراع الطبقي بإبادة الأطراف التي يمكن أن تصارع البروليتاريا في أي وقت من الأوقات. في النظام الرباني لا يوجد شيء من هذا كله! حقيقة إنه توجد ملكية فردية ويوجد في المجتمع أغنياء وفقراء.. ولكن لا الأغنياء طبقة ولا الفقراء طبقة، ولا هؤلاء ولا هؤلاء يحكمون! فالثروة في المجتمع الإسلامي دائمة التنقل من جيل إلى جيل بحيث لا تكون "طبقة" دائمة من أفراد معينين أو أسر معينة تتوارث وضعا اجتماعيا معينا. فأي فقير يمكن أن يتحول إلى غني، وأي غني يمكن أن يتحول إلى فقير، فلا يحجزه شيء عن أن يكون هذا أو ذاك، بحسب تصرفه الشخصي من ناحية، وبسبب حركة المواريث الدائمة التي تفتت الثروة من مكان وتجمعها في مكان آخر. ثم إن أي إنسان قد يتسلم السلطة، ولكنه حين يتسلمها لا يحكم بهواه، إنما يحكم بشريعة الله, وهذه تقوم على أن إنسانية الإنسان مستمدة من كونه إنسانا، لا من كونه غنيا أو فقيرا أو مالكا أو غير مالك، ثم إنها تطبق على الجميع بصورة واحدة. يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محذرا الأمة الإسلامية: "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" 1. وقد يقع الظلم كما قلنا من قبل من سوء التطبيق لشريعة الله، ومن جور   1 رواه البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الحكام الذين يحكمون في بعض الأمور بغير ما أنزل الله, ولكن يظل الظلم الواقع على مجموع الأمة أقل بكثير مما يقع على الأمم التي لا تحكم بما أنزل الله, ثم يظل من واجب الأمة المسلمة أن تقاوم الظلم وترد الظالم إلى الصواب، وإلا فهي آثمة في حق الله كما أنها آثمة في حق نفسها. وحين يشتد الظلم فيثور المسلمون -وقد حدث هذا أكثر من مرة في التاريخ الإسلامي- فهو ليس صراعا "طبقيا" بالمعنى الذي يشير إليه التفسير المادي للتاريخ؛ لأنه لا يوجد طبقة تريد الإطاحة بطبقة أخرى لتأخذ مكانها في السلطة والتشريع، إنما يطالب الثائرون بالعدل، أي: بتطبيق شريعة الله في المواضع التي خولفت فيها شريعة الله، وما أبعد هذا عن الصراع الطبقي كما يفهمه التفسير المادي للتاريخ! إنما يوجد الصراع في النظام الرباني على أسس مختلفة تماما عن الصراع الطبقي الذي هو محور الحياة في الجاهلية "إن صدقنا التفسير المادي للتاريخ في إرجاعه كل الصراعات في الأرض إلى الصراع الطبقي، وسنرى الآن أن هذا غير صحيح". الصراع الذي أمر الله المؤمنين بخوضه هو هذا الصراع: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1. {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 2. {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 3. صراع لا علاقة له على الإطلاق "بالطبقات" ولا بالملكية الفردية! إنه صراع الحق والباطل، الذي يقول الله فيه: {الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ   1 سورة البقرة: 251. 2 سورة الحج: 40, 41. 3 سورة الأنفال: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} 1. وهو صراع لا يتوقف أبدا ما دام هناك حق وباطل. ونعود إلى التفسير المادي للتاريخ فنجده يحصر الصراع كله في الصراع الطبقي، ويحصر أسباب الصراع في الملكية الفردية, ثم يزعم أن الصراع سيتوقف حين تزول الملكية الفردية ... وبصرف النظر عن أن دلالة التاريخ تقول إنه قامت في الأرض -سواء في الجاهليات أو في الإسلام- صراعات كثيرة غير قائمة على الصراع الطبقي وغير منبعثة من الملكية الفردية، فإنه يهمنا في ختام هذه الفقرة أن نكشف عن زيف الدعوى القائلة بأن إلغاء الفردية سيقضي على الصراع ... فالشيوعية قد ألغت الملكية الفردية.. فيم إذن قام الصراع بين لنين وتروتسكي، وبين ستالين وبيريا، وفيم المؤامرات الدائمة التي يعلن عن تصفيتها والتغلب عليها، أو تكون نتيجتها الإتيان بزعيم مقدس جديد بدلا من الزعيم المقدس الهالك أو المدحور؟! وفيم الصراع بين شقي المعسكر الشيوعي: روسيا والصين؟! أولم تلغ الملكية الفردية؟! فلماذا إذن بقي الصراع؟! أولا يدلنا ذلك -على أقل تقدير- على أن إلصاق الشرور كلها بالملكية الفردية تعسف غير "علمي" أقرب إلى الدعاية الغوغائية منه إلى حقائق الواقع وحقائق العلم؟! 5- التطور: يزعم التفسير المادي للتاريخ أن الحياة الإنسانية في تطور مستمر إلى الإمام، وأن كل مرحلة من مراحل التاريخ الخمس كانت أرقى من سابقتها، أي: إنها تعتبر مرحلة "تقدمية" بالنسبة لما سبقها، فمرحلة الرق أرقى من مرحلة الشيوعية الأولى، ومرحلة الإقطاع أرقى من مرحلة الرق، والرأسمالية أرقى من الإقطاع، والشيوعية أرقى من الرأسمالية.. وهذه القضية حين تطلق على هذا النحو تكون محل مآخذ كثيرة. فلو أن التفسير المادي للتاريخ حدد التقدم بميدان العلم والتكنولوجيا لكان هذا معقولا وصحيحا بصفة عامة.. وإن كان اعتبارنا لصحته قائما على أساس   1 سورة النساء: 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 آخر غير الذي يقيم عليه التفسير المادي تصوراته. فالتفسير المادي كما شاهدناه يجعل المادة هي الأساس.. ونحن نقول إن النفس البشرية هي الأساس في كل ما يتعلق بالإنسان، وإن تعامل الإنسان مع المادة، وكل ما ينشأ عنه من نتائج هو جانب -واحد- من جوانب النفس الإنسانية والحياة الإنسانية. والتقدم العلمي والتكنولوجي المستمر في حياة الإنسان ليس قائما على المادة، إنما هو قائم على تفاعل الإنسان مع الكون المادي من حوله, فلولا أن في الإنسان نزعة فطرية إلى المعرفة, ونزعة فطرية إلى استخدام ثمار المعرفة في تحسين أحواله المعيشية, ما حدث التقدم العلمي ولا التكنولوجي رغم وجود المادة الدائم من حول الإنسان. وإذا كانت المادة موجودة حول كل الكائنات الحية ومع ذلك لا تثير فيها الرغبة في المعرفة العلمية المنظمة ولا الرغبة في استخدام ثمار المعرفة في تحسين أحوالها المعيشية..إلا الإنسان ... فهل يكمن الفرق في المادة أم في الإنسان؟! تلك بديهية يعمى عنها التفسير المادي للتاريخ. لا لأنه عَمِيٌّ عنها في الحقيقة! لكن لأنها تفتح الباب الذي لا يحبون له أن ينفتح أبدا، وهو "إنسانية" الإنسان؛ لأن هذا الباب يمكن أن يؤدي إلى تثبيت "القيم" التي يريدون تحطيمها: الدين والأخلاق والتقاليد المستمدة من الدين بوصفها صادرة عن الفطرة الإنسانية أو متمشية معها! سدًّا لهذا الباب يقولون إن المادة هي الأصل -لا الإنسان- لأنك لا تستطيع أن تحاسب المادة على شيء من القيم أو تطالبها بشيء منها! وهو قول -كما أسلفنا- لا يمكن فهمه على أساس "العلم" إنما يفهم فقط حين تخرجه من الدائرة العلمية وتنظر إليه من زاوية الهدف المطلوب تحقيقه! فحين نسلم بالتقدم المستمر في ميدان العلم النظري والتطبيقي "مع التغاضي عن وجود ذبذبات في خط التقدم" فإننا نسلم به على أساس أنه نابع من عوامل موجودة في فطرة الإنسان وتكوينه، أودعها فيه الخالق ليعينه في مهمة الخلافة في الأرض: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} 1.   1 سورة هود: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 1. {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 2. {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 3. {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 4. {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} 5. أما افتراض التقدم في كل جوانب الحياة فتقول ينقضه الواقع. والقضية كلها راجعة إلى أصل المقياس، فإذا أخذنا الحياة المادية -أو بالأحرى التفسير المادي للإنسان- جاز أن نقول ذلك، فالسيارة لا شك أسرع وأرقى من ركوب الجمل والحمار، وناطحة السحاب أرقى من الخيمة والكوخ، و"الفستان" الأنيق المطرز أرقى من قطعة الجلد التي كانت تلبسها امرأة الغابة، والمكتب الفاخر أرقى من جلسة الكاتب القديم، الذي كان يجلس القرفصاء ويسند الورق على ركبتيه! أما إذا جعلنا مقياسنا "إنسانية" الإنسان، أي: القيم والاعتبارات التي ميزت بين الإنسان والمادة وبين الإنسان والحيوان, فالأمر يختلف اختلافا بينا، والصورة لن تكون تقدما مستمرا، ولكن تذبذبا مستمرا بين الصعود والهبوط، وأسوأ ذبذباتها الهابطة هو الجاهلية المعاصرة في كل أرجاء الأرض. إن فكرة التطور المستمر إلى أعلى هي فكرة داروينية ولا شك، وقد تأثر الماديون تأثرا بالغا بالداروينية في أكثر من موضع من تصوراتهم ونظرياتهم. ولكن دارون كان يتحدث عن أجسام الكائنات الحية ووظائفها الحيوية، ولم يتحدث عن شيء غير ذلك، أما الماديون فقد أمسكوا بخطوط الداروينية فمدوها مدا واسعا لتخدم أغراضهم الخاصة، وزعموا أنها صحيحة لمجرد كون الأساس الذي بنوا عليه -وهو التطور- صحيح! وبصرف النظر عن صحة الداروينية أو عدم صحتها فالإنسان -منذ   1 سورة العلق: 4, 5. 2 سورة البقرة: 31. 3 سورة النحل: 78. 4 سورة الجاثية: 13. 5 سورة إبراهيم: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 نشأته- له مقاييسه الخاصة التي يختلف فيها عن كل الكائنات من حوله، ولقد مرت بنا شهادة الداروينية الحديثة بشأن تفرد الإنسان في كل جوانب تكوينه وجوانب حياته، ومن بين جوانب تفرده أنه متفرد كذلك في معاييره فلا تنطبق عليه معايير المادة الجامدة ولا معايير النبات ولا معايير الحيوان. ومعيار الإنسان -الذي تفرد به بين المخلوقات- أن له طريقين: طريق الهدى وطريق الضلال، وأنه صاعد إذا سار في طريق الهدى وهابط إذا سار في طريق الضلال؛ لأن طريق الهدى هو الذي يؤكد على "القيم الإنسانية" التي جعلت الإنسان إنسانا من مبدأ حياته، وطريق الضلال هو الذي يجانب تلك القيم ويضيعها. وخط التاريخ البشري -كما هو معلوم من التاريخ- خط متذبذب على الدوام بين طريق الهدى وطريق الضلال. ولذلك فهو متذبذب على الدوام بين الصعود والهبوط، بين الرفعة والانتكاس، وليس خطا صاعدا على الدوام متقدما على الدوام كخط التقدم العلمي والتكنولوجي، وليست المسألة أن هذه وجهة نظر وتلك وجهة نظر أخرى على مستوى واحد من احتمال الصحة والخطأ، فإن مادية الإنسان لا يوجد عليها دليل علمي واحد، بينما توجد عشرات الأدلة ومئاتها على إنسانية الإنسان، ومن ثم يتضح طريق الخطأ وطريق الصواب! إنما أراد الماديون أن يثبتوا التطور المستمر "التقدمي" في حياة الإنسان لسببين رئيسيين: الأول: أن يقولوا إن الفساد الخلقي والتحلل الديني الذي وجد في المجتمع الصناعي كان خطوة "تقدمية". والثاني: أن يقولوا إن الشيوعية خطوة تقدمية. فمن أراد أن يكون "تقدميا" فلينبذ بادئ ذي بدء دينه وأخلاقه، ثم ليكن شيوعيا في نهاية المطاف! ولا هذا ولا ذاك حقيقة علمية، إنما هي الأهواء والشهوات. {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 1.   1 سورة المؤمنون: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 6- الحتميات: يقوم التفسير المادي على الحتميات المادية أي: المستمدة من قوانين المادة الحتمية، والاقتصادية المستمدة من الوضع الاقتصادي، والتاريخية المستمدة من المرحلة التاريخية التي يوجد فيها الإنسان من المراحل الخمس الكبرى: الشيوعية الأولى أو الرق أو الإقطاع أو الرأسمالية أو الشيوعية الثانية. والحتميات الثلاث على أي حال مؤد بعضا إلى بعض بحيث نستطيع أن نتعامل معها كأنها حتمية واحدة، مادية اقتصادية تاريخية، فإنها كلها أوجه لشيءواحد، وكل حدث من أحداث التاريخ واقع -لا محالة- تحت ظل الحتميات الثلاث. ولسنا هنا بصدد مناقشة علمية لهذه الحتميات، فسنرى فيما يلي من الحديث أنها ليست حتميات بحال من الأحوال! وما يكذبه الواقع لا يحتاج أن ندخل معه في نقاش؛ لأن صوت الواقع أصدق من النظريات والفروض. ولكنا نلفت النظر إلى قضية معينة فيما يتعلق بالحتميات، هي قضية "الإنسان" ... أين مكانه في هذه الحتميات؟ موجود هو أم غير موجود؟ وإذا كان موجودا فما دوره إذا كان كل شيء يتم بمقتضى الحتميات المادية والاقتصادية والتاريخية؟ يقول ماركس: "في الإنتاج الاجتماعي الذي يزاوله الناس تراهم يقيمون علاقات محدودة لا غنى لهم عنها، وهي مستقلة عن إرادتهم" فإذا كانت مستقلة عن إرادة جميع الناس فمن إذن واضعها؟ وأي مقياس تقاس به لنقول إنها خطأ أو صواب؟ وما مسئولية الإنسان الأخلاقية فيها لنقول إن هذا الإنسان خير وذاك شرير؟ أم لا خير ولا شرير وكلهم سواء؟! إن قضية الحتميات خطيرة في الواقع أخطر مما تبدو للوهلة الأولى؛ لأنها تعني الإلغاء الكامل لكيان الإنسان الإيجابي ذي الإرادة وذي الفاعلية، وإلغاء القيم الأخلاقية كلها، وإلغاء المسئولية أو "الأمانة" التي يحملها الإنسان. ما دام كل شيء مرصودا مكانه على خط سير التاريخ البشري فيما قيمة العمل الإنساني؟ ما الفرق بين أن يعمل أو لا يعمل؟ وما الفرق بين عمل وعمل؟ وما قيمة الوجود الإنساني في التاريخ البشري إذا كان الإنسان بهذه السلبية، يصنع الأشياء بينما هي مستقلة عن إرادته،كلعبة "خيال الظل" التي تتحرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 فيها الدمى أمام عين الناظر بينما هي في الحقيقة غير متحركة بذاتها، إنما تحركها اليد التي تختفي وراء الستار! وليس بنا أن نلغي أثر الضغوط التي تقع على الإنسان من خارج كيانه وتؤثر في حركته، سواء كانت ضغوط المادة بمعنى الكون المادي على اتساعه وبمعنى البيئة المحيطة بالإنسان. أو ضغوط الأوضاع الاقتصادية، أو ضغوط المجتمع.. أو أي نوع من الضغوط يقع خارج كيان الإنسان الفرد ويؤثر فيه على غير رغبته ... ليس بنا أن ننكر شيئا من ذلك كله.. ولكن هذا ليس ما يقوله التفسير المادي للتاريخ في قضية الحتميات..إنما يقول ذلك التفسير إن كل حياة الإنسان مرسومة له من خارج كيانه، ومستقلة عن إرادته، لا يملك أن يقف فيها موقفا يخالف ما تفرضه الحتميات. حتى مشاعره لا يملكها! إنما يكونها له الوضع الاقتصادي على غير إرادة منه: "ليس شعور الناس هو الذي يعين وجودهم ولكن وجودهم هو الذي يعين مشاعرهم" "ماركس" "إن الأسباب النهائية لكافة التغيرات أو التحولات الأساسية لا يجوز البحث عنها في عقول الناس أو في سعيهم وراء الحق والعدل الأزليين، إنما في التغيرات التي تطرأ على أسلوب الإنتاج والتبادل" "إنجلز". وحتى التغيرات التي تطرأ على أسلوب الإنتاج والتبادل لا تنسب إلى "الإنسان"! كأنما تحدث تلقائيا بغير فاعل!! وكأنما عقل الإنسان ومشاعره ليست -على الأقل- جزءا من عوامل التغيير! ما الإنسان إذن؟ إنه مجرد "أداة" في يد جبارة ماردة هي الحتميات! ليس الإنسان هو الذي يصنع التاريخ، ولكن التاريخ "بحتمياته" هو الذي يصنع الإنسان! ألا ما أبأس الإنسان في ظل التفسير المادي للتاريخ! وما أهون شأنه, وما أهون دوره كذلك! دور الاستسلام الكامل للحتميات التي تصنع له حياته وتصنع له تاريخه "مستقلة عن إرادته"! وماذا يساوي -مع الجبروت القاهر لهذه الحتميات التي لا تستجيب لشفاعة ولا تحفل ضراعة- أن يكتب في سطر من سطور هذا التفسير أن الإنسان هو سيد هذا الكون، إذا كان كل سطر من سطور هذا التفسير يجعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 عبدا ذليلا خاضعا لذلك الجبار الذي لا يلتفت مرة واحدة لهذا الإنسان، ولا يعيره اهتمامه ولا يرحم ضعفه ولا يقيله من عثرته؟! ثم ... "من" الذي يصنع التغيير في حياة الإنسان؟! و"ما" الذي يصنعه؟! وكيف صار للإنسان تاريخ؟! يقولون: هي المادة وقوانين المادة ... وما بنا من حاجة أن نعود إلى السؤال الذي سألناه من قبل: ما بال المادة وقوانينها لا تصنع هذا التغيير في حياة الحيوان! إنما نقول إن خصائص "الإنسان" التي تفرد بها هي التي تصنع تاريخه، وتصنع التغيرات في هذا التاريخ, فلولا رغبة الإنسان في المعرفة -تلك الرغبة المركوزة في أعماق كيانه- ولولا رغبته في استخدام ثمار المعرفة في تحسين أحواله المعيشية في شتى جوانبها، المادي منها وغير المادي، ولولا قدرته على تخيل صورة معينة لأشياء لم توجد بعد في عالم الواقع، وبذل الجهد في محاولة إيجادها في الواقع.. لولا هذه "الخصائص" التي تفرد بها الإنسان، هل كان يمكن أن يكون للإنسان تاريخ؟! إن الحيوان ليس له تاريخ.. ولن يكن له ... فالحمار الذي عاش قبل عشرة آلاف سنة هو الحمار الذي يعيش اليوم.. لم يغير شيئا في واقع حياته، ولا يملك أن يغير.. ليس له ماض يرجع إلى تجاربه، ولا مستقبل يسعى إلى تحقيقه. ليس له "ذكريات" ولا "آمال" ولا "تطلعات" تتجاوز شخصه إلى أشخاص غيره من الحمير، أو تتجاوز لحظته الحاضرة إلى الغد القريب أو البعيد. ولكن الإنسان -بخصائصه المتفردة- لم يكن كذلك منذ مولده، إنما كانت له دائما "تجربة" واعية يختزنها في كيانه فردا وجماعة ويجعلها نقطة ارتكاز ينطلق منها إلى التجربة التالية، وكانت له دائما ذكريات فردية واجتماعية، وآمال وتطلعات، فردية واجتماعية كذلك، ترسم له -إلى جانب الشهوات والضرورات المركوزة في كيانه- خط رحلته في هذه الأرض. ومجمل تاريخه هو مجمل ذلك كله. وحين يخترع آلة جديدة فهذا الاختراع نابع من صميم نفسه ... من تجاربه الواعية، ومن ذكرياته وآماله وتطلعاته.. إنه لا ينشئها عبثا، ولا تنشأ هي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 حياته بطريقة ذاتية، إنما يخترعها لتلبي رغبة من رغباته الكامنة، لأداء ضرورة من ضرورات حياته، أو لتحسين وضع من أوضاعه، أو لتحقيق أمر من "الكماليات" بالنسبة له في تلك اللحظة، يتحول إلى ضرورة بعد فترة من الوقت، فيسعى من جديد إلى تحسينه أو البحث عن كماليات جديدة. وصحيح أن الآلة الجديدة تحدث تغيرا في حياته، قد لا يكون منظورا كله وقت التفكير في اختراعها، أو لا يكن شيء منه منظورا على الإطلاق.. ولكن هنا ينبغي أن نتذكر أمرين مهمين: الأول: أن الآلة قد اخترعت في الأصل تلبية لحاجة في نفس الإنسان يسعى إلى تحقيقها، ولم تظهر إلى الوجود من تلقاء نفسها، ولا اخترعها الإنسان عبثا بغير غاية، ولا فرضت عليه فرضا من خارج كيانه. الثاني: أن التغيير الذي تحدثه الآلة لا يجري على مزاج الآلة ذاتها، فهي في ذاتها لا إرادة لها ولا وعي ولا توجيه؛ لأنها "مادة" والمادة هكذا ... لا إرادة لها ولا وعي ولا توجيه! إنما يجري التغيير -جزئيا على الأقل- على مزاج "الإنسان" وحسب الوضع الذي يعيش فيه، ولا نقصد الوضع الاقتصادي وحده -كما يقول التفسير المادي للتاريخ- إنما الوضع كله: الروحي والفكري والمادي على السواء، فاختراع المحراث الحديدي أدى إلى الإقطاع في أوروبا، لا لأن المحراث الحديدي يؤدي -بطبيعته- إلى الإقطاع؛ ولكن لأن ظهوره في الجاهلية القائمة يومئذ يمكن أن يؤدي إلى ذلك, بمعنى أن أطماع ذوي السلطان من الجاهليين يؤمئذ تجد في المحراث أداة تمكنها من السيطرة على الصورة التي وقعت في الإقطاع الأوروبي، ولم يكن ذلك ليحدث -بهذه الآلة ذاتها- لو أن القوم هناك كانوا يحتكمون إلى شريعة الله, إنما كان الوضع الفكري والروحي الناشئ من اعتناق العقيدة الصحيحة والتحاكم إلى الشريعة الصحيحة يحدث -بهذه الآلة ذاتها- وضعا ماديا واقتصاديا مختلفا عما وقع في جاهلية القرون الوسطى المظلمة في أوروبا، والآلة التي تدار بالطاقة أدت إلى ظهور الرأسمالية في أوروبا لا لأن تلك الآلة -بطبيعتها- تؤدي إلى الرأسمالية! فهي في روسيا لم تؤد إلى الرأسمالية، ومعلوم أن التصنيع الحقيقي لم يتم في روسيا إلا بعد دخولها في الشيوعية! ولكن لأن ظهورها في ذلك الوقت -في الجاهلية القائمة وقتئذ- يمكن أن يؤدي إلى ذلك، بمعنى أن ذوي السلطان في تلك الجاهلية يمكن أن يجدوا فيها أداة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 السيطرة على النحو الذي تم في الرأسمالية الغربية اليهودية, ولم يكن ذلك ليحدث -بهذه الآلة ذاتها- لو أن شريعة الله كانت هي الحاكمة في حياة الناس، إنما كان الوضع الفكري والروحي الناشئ من اعتناق الناس للعقيدة الصحيحة وتحاكمهم إلى الشريعة الصحيحة يحدث -بتلك الآلة ذاتها- وضعا ماديا واقتصاديا مختلفا عن الوضع الرأسمالي، على الأقل بالقدر الذي استطاعت به العقيدة الشيوعية والفكر الشيوعي أن يحدث -بالآلة نفسها- وضعا ماديا واقتصاديا مغايرا للوضع الرأسمالي!! ولا عبرة بالقول إن الشيوعية لم تنشأ إلا من تناقضات الرأسمالية، فإن الذي حدث بالفعل هو أن تطبيق الشيوعية في روسيا لم ينشأ من تناقضات الرأسمالية هناك، إنما نشأ -بصرف النظر عن التخطيط اليهودي- من "اعتناق" الناس للعقيدة الشيوعية، ذلك أن روسيا قد قفزت رأسا من الإقطاع إلى الشيوعية! كلا! ليست هي الحتمية المادية وإنما هو "الإنسان"! الإنسان بكامله.. وصحيح كما أسلفنا أن الإنسان يواجه دائما ضغوطا من الكون المادي ومن الأوضاع المحيطة به، سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية.. إلخ, ولكنه في النهاية هو الذي يقرر ... يقرر أن يخضع للضغوط ويستنيم لها أو يتمرد عليها ويسعى إلى تغييرها، وهو يقرر ذلك دائما على هدى "العقيدة" التي يعتقدها، وسواء كانت عقيدة صحيحة أو فاسدة. وقد لا يستطيع في كل حالة أن يغير كل الأوضاع بالعقيدة التي يعتقدها. ولكن ذلك لا يرجع إلى كون العقيدة لا وزن لها ولا اعتبار، ولا إلى كونها هي نابعة من الوضع المادي والاقتصادي القائم، متأثرة به غير مؤثرة فيه، لاحقة له غير سابقة عليه كما يزعم التفسير المادي للتاريخ، إنما الأسباب ترجع في مجموعها إلى "الإنسان" ذاته: هل هو صادق في اعتناق هذه العقيدة؟ وإلى أي مدى من الصدق؟ وهل عنده العزيمة اللازمة لتحقيق متطلبات تلك العقيدة، أم إن شهوات الأرض وثقلة الارض أثقل في حسه من متطلبات العقيدة؟.. ومن الشهوات شهوة الحرص على الحياة وعدم تعريض النفس للأخطار، وشهوة حب السلامة والأمن والاستقرار, وهي الشهوات الغالبة على أكثر الناس في الأرض، وهي التي تؤدي بهم إلى الوقوع في الجاهلية، والخضوع -من ثم- لطغيان الطواغيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 فخضوع الأكثرية الساحقة من الناس لطغيان الطواغيت خلال التاريخ البشري ليس حتمية مادية ولا اقتصادية ولا تاريخية خارجة عن إرادة الناس.. إنما هو من عند أنفسهم. إنه واقع عاشته البشرية بالفعل في جاهليتها كلها، لا بسبب حتمي، ولكن نتيجة حتمية لعدم استقامتها على الطريق. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1. على أن الحتميات المزعومة -بصورتها الديالكتيكية- ليست حقيقة حتى بالنسبة للجاهلية! فقد تنبأ ماركس بحسب حتمياته أن بريطانيا ستكون أول دولة تقع في الشيوعية لأنها -على عهده- كانت أكثر الدول الرأسمالية تقدما، فتنبأ بأن الصراع الطبقي "سينضج" فيها قبل غيرها فيحولها إلى الشيوعية. ويعلم الناس في كل الأرض أن بريطانيا ما زالت حتى هذه اللحظة "في عام 1983م" دولة رأسمالية، كما أن وريثتها التي ورثتها في التقدم الصناعي الرأسمالي -وهي أمريكا- دولة رأسمالية كذلك. وقال ماركس وحواريوه إن المراحل التاريخية حتمية، وترتيبها كذلك حتمي. وإنه لا يمكن لأي مجموعة من البشر أن تسبق طورها التاريخي؛ لأن كل طور له أداة مادية أو اقتصادية يتم التحول عن طريقها، فلا يمكن التحول دون وجود هذه الأداة، فلا بد أن يمر البشر بالمراحل التاريخية الخمس بصورة حتمية: من الشيوعية الأولى إلى الرق إلى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الشيوعية الثانية. ويعلم الناس في كل الأرض أن أكبر دولتين شيوعيتين وهما روسيا والصين قد قفزتا مباشرة من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الشيوعية دون وجود أداة التحول التاريخية وهي الصراع الطبقي بين العمال وأصحاب رءوس الأموال, وأن كلتا الدولتين لم تدخل المرحلة الصناعية إلا بعد دخولها في الشيوعية! أين الحتميات إذن؟! إنما هي من أولها لآخرها قصة مدعاة، للإيحاء للناس بأن الشيوعية هي النهاية الحتمية لكل البشرية، فخير لهم أن يدخلوها طائعين بدلا من أن يدخلوها كارهين! ومن أجل هذا الهدف الدعائي البحت تختلق التفسيرات "العلمية" وتلفق النظريات!   1 سورة الأعراف: 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 التفسير الجاهلي للتاريخ : كنا إلى هذه اللحظة نناقش التفسير المادي للتاريخ، فنجد في كل مرة ثغرة تؤدي إلى ضلالة من ضلالات هذا التفسير, وقد آن لنا أن ندعوه باسمه اللائق به, فنسميه "التفسير الجاهلي للتاريخ"! والسبب في هذه التسمية أنه لا يتعامل إلا مع جاهليات التاريخ, مسقطا إسقاطا تاما فترات الهدى في التاريخ البشري, وأهمها بطبيعة الحال فترة الإسلام. ولكن هناك سببا أهم من ذلك في الحقيقة, هو أنه يفسر التاريخ من زاوية جاهلية بحتة، أي: على أساس القيم الجاهلية وهي القيم المادية الخالصة, فهذا شأن معظم الجاهليات التاريخية، أنها تبرز القيم المادية والاقتصادية وتهمل ما عداها من القيم الإنسانية العليا، لا لأنها غير موجودة في الحقيقة ولكن لأنها هي تفتقدها بسبب كونها جاهلية. ولأن هذه القيم المادية الجاهلية ليست هي كل ما في الحياة البشرية، فإن التفسير الجاهلي للتاريخ يعجز عجزا تاما عن تفسير أي فترة من حياة البشرية تقوم على قيم أخرى غير القيم الجاهلية. وأشد ما يعجز التفسر الجاهلي عن تفسيره هو الإسلام! ولقد شغل الإسلام رقعة فسيحة من الأرض، ورقعة فسيحة من التاريخ. وأي تفسير يتجاهله فهو تفسير غير علمي، وأي تفسير يعجز عن تفسيره فهو غير صالح لتفسير التاريخ البشري. ونحن نتحدى التفسير الجاهلي للتاريخ أن يفسر لنا هذه الظاهرة التي شغلت هذه الرقعة الفسيحة من الأرض، وهذه الرقعة الفسيحة من التاريخ، وكانت واقعا مشهودا استمر وجوده عاملا في الأرض أكثر من عشرة قرون، وما زال قائما حتى اليوم، وما زال قادرا على أن ينبعث من جديد بعد أن اعترضته فترة الخمود. لمذا ظهر الإسلام في تلك الفترة من التاريخ البشري, وكيف ظهر على هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الصورة المخالفة للبيئة في أكثر سماتها، والمخالفة لكل حتميات التاريخ المزعومة؟! أما نحن فنؤمن أنه من عند الله وأنه نزل بقدر من الله، في الوقت الذي اختاره الله. وأما هم فإنهم لا يؤمنون بالله. فليفسروا لنا إذن هذه الظاهرة العجيبة في التاريخ! فليفسروا لنا كيف ظهر رجل في تلك الصحراء في تلك الحقبة السحيقة من الزمن قبل أربعة عشر قرنا يدعو إلى عبادة الله الواحد بلا شريك، ونبذ الأرباب الزائفة كلها سواء كانت أصناما محسوسة, أو بشرا تضفي عليهم القداسة الزائفة فتسجد لهم الناس كالملوك والأباطرة، أو بشرا يشرعون للناس من عند أنفسهم بغير سلطان منزل من عند الله، أو عرفا جاهليا، أو وهما تبتدعه رءوس الناس وتتعبده بالوهم، ويحرر البشرية بذلك -في نصاعة وحسم- من حكم الطواغيت، ومن كل عبودية مذلة لكرامة الإنسان، برد العبودية إلى المعبود الحق الذي يكرم البشر بعبادته، وتتحرر عقولهم ووجدانهم ومشاعرهم كما يتحرر كيانهم كله، فينطلقون أحرارا في الأرض ينشرون الحق والعدل، ويحطمون الطواغيت المستبدة بالبشر في صورة نظم ودول وجيوش, ويقيمون مجتمعا إنسانيا يتمتع المؤمنون فيه بالأخوة الإنسانية على قدم المساواة، ويتمتع غير المؤمنين بهذا الدين بالعدل الرباني دون إكراه على اعتناق العقيدة. وفي الوقت الذي كانت الديانات كلها -سواء كانت سماوية محرفة أو وثنيات من صنع البشر- تقيم بين البشر وربهم وسطاء من الكهنة و"رجال الدين" أو من الأصنام والأوثان، أو من الأرواح الخيرة أو الشريرة ... يجيء هذا الداعية فيلغي كل وساطة بين العبد والرب، ويربط القلب البشري بالله مباشرة بلا وسيط: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 1. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 2. وفي الوقت الذي يتجبر فيه الأغنياء على الفقراء في كل الأرض يجيء هذا   1 سورة غافر: 60. 2 سورة البقرة: 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الداعية فيلغي سلطان الأغنياء المتجبرين، لا على أساس الحق الطبقي، ولكن على أساس الحق والعدل الأزليين، فلا يزيل "طبقة" ويحل محلها "طبقة"، ولا يعطي السلطان للفقراء بوصفهم فقراء, بل ينزع السلطان من البشر جميعا، أغنيائهم وفقرائهم على السواء ويرده إلى الله، ويقدم شريعة يخضع لها الناس جميعا حكاما ومحكومين، ليست من صوغ هؤلاء ولا هؤلاء، شريعة تتعامل مع "الإنسان" من حيث هو إنسان، فتلبي جميع احتياجاته الروحية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والخلقية، وترسم له المنهج المتكامل الذي تستقيم به الحياة وتتوازن وتترابط, على نحو غير مسبوق من قبل ولا ملحوق من بعد في كل ما كان من دساتير البشرية إلى اليوم. وفي الوقت الذي كان "الدين" في كثير من بقاع الأرض أو في كل بقاع الأرض يرتبط في نفوس الناس بالخضوع والاستكانة -لا لله وحده المعبود الحق- بل لأوضاع ظالمة في المجتمع ما أنزل الله بها من سلطان, ويرعى الكهنة ورجال الدين هذا الذل وينمونه في نفوس الناس باسم الدين فيخضعونهم للمتجبرين من ذوي السلطان, يجيء هذا الداعية فيقول للناس إن من رضي بالظلم في الدنيا وهو قادر على إزالته أو الخروج من سلطانه فلا مكان له عند الله في الآخرة وله عذاب عظيم، ويصبح اسمهم "ظالمي أنفسهم": {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} 1. وفي الوقت الذي تهان فيه المرأة وتحتقر، يدعو إلى تكريمها ورعايتها ويبرز إنسانيتها. وفي الوقت الذي يسام فيه الرقيق أقسى أنواع المهانة والخسف يدعو لتحرير الرقيق وحسن معاملته على أساس إنساني. وفي الوقت ... وفي الوقت.. وفي الوقت.. ثم ليفسروا لنا كيف استطاع هذا الرجل أن يربي على هذه المبادئ أمة ...   1 سورة النساء: 97-99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 أمة كانت مجموعة من القبائل المتناثرة المتناحرة تأبى أن تتحد وتتآلف مع وجود كل العناصر التي تدعو إلى التآلف.. وحدة الآرض، ووحدة اللغة، ووحدة العقائد، ووحدة الثقافة، ووحدة التاريخ، ووحدة الجنس، ومع ذلك تحول بين توحدهم ثارات الجاهلية ونزاعاتها التافهة التي لا تساوي لحظة واحدة من الصراع! ومن هذا الشتيت المتناثر لا يبني هذا الرجل أمة -أي أمة- وإنما أمة فريدة في التاريخ، أمة عقيدة ... أمة لا تقوم على رابطة الأرض، ولا رابطة الدم، ولا رابطة اللغة ولا رابطة المصالح القريبة، إنما تقوم على رابطة العقيدة, فيجتمع فيها العربي القرشي والحبشي والرومي والفارسي، على قاعدة واحدة من المساواة في الإنسانية والمساواة في العقيدة، ويكون التمايز بينهم على قاعدة جديدة كل الجدة على تلك البيئة بل على البشرية كلها يومئذ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 1. أمة تقوم على الأخوة في الله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 2. أمة تقوم على التكافل: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 3. أمة تقوم على العدل الرباني: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 4. باختصار ... أمة فريدة في التاريخ. وليفسروا لنا كذلك كيف انساحت هذه الأمة في أرجاء الأرض بهذه السرعة المذهلة، لا غازية للأرض، ولا مستعبدة للناس، ولكن ناشرة لتلك العقيدة التي تزيل القداسة عن البشر وتوجه العبادة لله وحده, وتدعو إلى الأخوة والتكافل, وتدعوى إلى تحرير المرأة وتحرير الرقيق.. فتنتشر هذه المبادئ كلها بالسرعة المذهلة التي تفتح بها الأرض! فليفسروا لنا هذا كله بمقتضى تفسيرهم الجاهلي للتاريخ! أي تغير مادي حدث في الجزيرة العربية -بل في العالم أجمع- أدى إلى ظهور هذا الرجل -صلى الله عليه وسلم- بهذه الدعوة ونشرها هو وأتباعه من بعده في أرجاء الأرض.   1 سورة الحجرات: 13. 2 سورة الحجرات: 10. 3 سورة الحشر: 9. 4 سورة النساء: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 أي تغير اقتصادي حدث في الجزيرة العربية -بل في العالم أجمع- أدى إلى ظهوره؟ أي حتمية تاريخية يمكن أن ينشأ عنها هذا الحدث الضخم، الذي ما تزال ضخامته قائمة حتى اللحظة؟! البيئة هي البيئة ... ما تغيرت قبل بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا بعد بعثته لعدة قرون. الوضع الاقتصادي هو الوضع الاقتصادي: البيئة الرعوية في الجزيرة العربية برمتها، والبيئة التجارية في مكة والمدينة. أما التاريخ.. فلننظر حتميات التاريخ ... بعد سبعة قرون من مولد هذه الدعوة قامت في أوروبا حركة تحرير العبيد ... وحين قامت فإنها لم تحرر العبيد تماما وإنما حررتهم من قبضة السيد ليكونوا عبيدا للأرض.. وبعد عشرة قرون كاملة بل أكثر حررتهم الثورة الفرنسية من جحيم الإقطاع! والإسلام حررهم قبل ذلك بعشرة قرون! بعد اثنى عشر قرنا من مولد هذه الدعوة أو أكثر قامت أوروبا حركة تحرير المرأة، التي أعطت المرأة بعض الحقوق التي كفلها لها الإسلام، وما زالت بعض الحقوق لم تحصل عليها إلى هذه اللحظة. بعد اثني عشر قرنا من مولد هذه الدعوة بدأت الدعوة إلى "الديمقراطية" القائمة على الشورى ونزع السلطة الطاغية من الحكام، وهي الدعوة التي أعطت الناس حقوقا وضمانات لم تكن لهم في عهود الإقطاع، وإن كانت "الطبقة" المالكة ما تزال هي الحاكمة من وراء الستار ... بينما أعطى الإسلام كل الضمانات وكل الحقوق قبل ذلك باثني عشر قرنا مع رد السلطة إلى الله لا إلى المالكين من عباد الله! بعد أربعة عشر قرنا من مولد هذه الدعوة ما تزال العنصرية البغيضة قائمة في الأرض، تقوم على أساسها دول وتقوم من أجلها حروب، ويعامل "الملونون" فيها على أيدي البيض تل المعاملة الرزية التي يعرفها الناس في أمريكا وجنوب إفريقيا وفي كل مكان؛ بينما الإسلام -قبل أربعة عشر قرنا- قد صهر الأجناس والألوان واللغات والشعوب في أمة واحدة على قدم المساواة حين ربطهم بالعقيدة الواحدة في الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 بعد أربعة عشر قرنا من مولد هذه الدعوة ما يزال مبدأ كفالة الدولة لجميع أفراد شعبها غير تام التطبيق في الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية، والدولة الشيوعية التي تطبقه تطبقه على حساب كرامة الإنسان، وتستذل الناس بلقمة العيش لكي يخضعوا للسلطان، بينما قرر الإسلام هذا المبدأ منذ أربعة عشر قرنا مع المحافظة التامة على إنسانية الإنسان وكرامته. ويطول بنا المقام إذا مضينا نعدد المواضع التي سبق بها الإسلام كل حتميات التاريخ المزعومة، أو التي تفرد بها في التاريخ! فيكيف يفسر لنا التفسير الجاهلي للتاريخ ظهور الإسلام وانتشار الإسلام والمبادئ والقيم التي أقرها الإسلام؟! هل الوضع المادي والاقتصادي هو الذي غيّر الناس في الجزيرة العربية والأرض التي فتحها الإسلام، أم إنها العقيدة وإيمان الناس بالله، وبالحق والعدل الأزليين؟! وهي أشياء ليست في المادة، ولا هي من صنع المادة، إنما هي في عقول الناس وقلوبهم ومشاعرهم! وكيف تغير "أسلوب التبادل" فلم يعد رقا ولم يعد إقطاعا إنما صار تكافلا وأخوة في المجتمع؟ ألأسباب مادية أم لعقيدة ملأت النفوس فبعثت الناس يغيرون أسلوب التبادل ليخضعوه لشريعة الله التي تمنع الظلم وتحكم بالعدل؟! هل كان وجود الناس هو الذي حدد شعورهم أم إن شعورهم هو الذي حدد أسلوب وجودهم؟! ماذا يا دعاة التفسير الجاهلي للتاريخ؟! لقد كان الإسلام وسيظل أمرا ربانيا لا ينطبق عليه أي تفسير يفسر التاريخ البشري بالقيم الجاهلية الأرضية، مادية كانت أو اقتصادية، ولكنا نأخذ من الإسلام عبرا لدعاة التفسير المادي ودعاة كل تفسير غير التفسير "الإنساني" للإنسان. الإسلام أمر رباني ... نعم. ولكن الذين قاموا بالإسلام بشر ... ولقد زعم التفسير الجاهلي للتاريخ أن البشر لا يتحركون ولا يتغيرون ولا يغيرون إلا بسبب تغيرات مادية أو اقتصادية، وأنهم لا يمكن أن يتحركوا بشيء معنوي: فكرة أو عقيدة أو قيم أو مبادئ؛، لأن هذه كلها تأتي لاحقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 للتغير المادي والاقتصادي ومنبثقة عنه ... فوجود الإسلام في الأرض بالصورة التي تم بها يعلمنا غير ذلك تماما.. يعلمنا أن العقيدة: إيمان الناس بالله، وإيمانهم بالحق والعدل الأزليين، يمكن أن يحدث تغييرا في الأرض أضخم بكثير من أي تغيير حديث نتيجة التغير المادي أو الاقتصادي. ويعلمنا أكثر من ذلك أن نوع التغيير الذي تحدثه العقيدة يختلف اختلافا جذريا عن التغير الذي يحدث -لأسباب مادية واقتصادية- بلا عقيدة ... الإسلام نشأة جديدة للإنسان، على أسس من القيم العليا والمبادئ الرفيعة، بينما التغيرات الأخرى مجرد تغير جزئي من حالة إلى حالة، لا يغير شيئا جذريا في الإنسان، وقد يؤدي به إلى الانتكاس والدمار. ويعلمنا قبل ذلك وبعد ذلك أن الإنسان ليس مادة..ولكنه "إنسان"! وأن النظام الذي يتعامل معه على أنه إنسان أفضل بكثير وأعلى بكثير، وأكثر فاعلية بكثير من النظام الذي يتعامل معه على أنه مادة، أو على أنه حيوان! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 التفسير الإسلامي للتاريخ : ليس هنا في الحقيقة مجال الحديث المفصل عن التفسير الإسلامي للتاريخ فذلك موضوع يحتاج إلى بحث مستقل تبسط فيه الفكرة، وتؤخذ لها النماذج من التاريخ البشري في شتى عهوده وشتى أحوال البشر فيه. ولكنه يحسن بنا ونحن بصدد الحديث عن التفسير الجاهلي للتاريخ عرضا ومناقشة أن نلم على الأقل بالخطوط العريضة للتفسير الإسلامي؛ لأنه يكاد يكون الوجه المقابل لذلك التفسير في كثير من الأسس التي يقوم عليها. وأحسب أننا ألمحنا إلى بعض هذه الخطوط في أثناء مناقشة التفسير المادي، فالآن نحاول تجميع هذه الخطوط في عرض سريع، وحسبنا في هذا المقام أن نشير إلى الأسس العامة دون تفصيل. من البديهيات أن التفسير الإسلامي للتاريخ يتعامل مع الإنسان ابتداء على أنه إنسان، لا مادة ولا حيوان، وأن التاريخ هو تاريخ الإنسان. أي: إن العنصر الفعال فيه هو الإنسان ... الإنسان بمجموعه لا جانب واحد منه، فقد كتب الإنسان هذا التاريخ بكل جوانبه مجتمعة -سواء في حالات الهدى أو حالات الضلال، كتبه بروحه وجسمه وعقله, كتبه باقتصادياته واجتماعياته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وسياسياته، كتبه بالتعامل مع الكون المادي، ومع الأفكار والقيم، ومع الأحلام والرؤى، ومع الواقع والخيال, كتبه بدوافعه الداخلية وتطلعاته وطموحاته كما كتبه بالضغوط الواقعة عليه من خارج كيانه! ضغوط الكون المادي والضغوط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية, كتبه بكل ذرة من كيانه، وكل سطر من سطور هذا التاريخ أو إنجاز من إنجازاته فهو صادر من كيان الإنسان كله، وهو أصيل في صدوره عن مجموع هذا الكيان لا عن جانب واحد من هذا الكيان. يتعامل التفسير الإسلامي مع الإنسان على أنه قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله، مترابطين متماسكين متفاعلين، يتكون منهما معا كيان موحد: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 1. هذا هو تكوين الإنسان: قبضة من طين الأرض, ونفخة من روح الله، امتزجتا امتزاجا كاملا وترابطتا وتفاعل كل منهما مع الآخر فأصبح من حصيلتهما ذلك الإنسان الذي نعرفه ونتعامل معه في واقع الحياة. إنه ليس قبضة طين خالصة كما كان قبل النفخة العلوية فيه، وليس روحا خالصة طليقة من قبضة الطين، إنما هو الأمران معا في وحدة مترابطة تختلف في خصائصها اختلافا جذريا عن قبضة الطين الخالصة ونفخة الروح الخالصة، وإن كانت تحمل بين الحين والحين بعض المشابه من هذه وتلك، حين تجنح جنوحا شديدًا نحو عالم الجسد أو عالم الروح، ولكنها حتى في تلك الحالات لا تكون مماثلة أبدا لأي من العنصرين منفصلين. في لحظة الشهوة الجامحة غير المنضبطة يكون أقرب إلى قبضة الطين؛ لأنه يتعامل بجسده أكثر من أي جانب من جوانبه، ومع ذلك لا يكون أبدا جسدا خالصا كالحيوان؛ لأن فيه -على الأقل- قدرا من الوعي والإرادة والاختيار حتى في هذا العمل اللاصق بالطين، بينما الحيوان لا يعمل بوعي ولا إرادة حرة ولا اختيار. وفي لحظة الرفرفة الشفيفة المشرقة المهومة يكون أقرب إلى نفخة الروح؛ لأنه ينطلق بروحه من إطار الحس المحدود، ومع ذلك لا يكون أبدا روحا خالصة   1 سورة ص: 71, 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 كالملائكة؛ لأن له جسدا لا يستطيع أن يتخلص من وجوده، وعقلا لا يكف تماما عن التفكير. انظر إلى أعلى لحظة وجود عرفها بشر في تاريخ الأرض، لحظة الوحي المتنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل كان -صلى الله عليه وسلم- روحا خالصة وهو يصافح جبريل عليه السلام ويتلقى منه. استمع إلى قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1. فقد تحرك العقل وتحرك اللسان، خوفا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفوته حفظ شيء من التنزيل الرباني، فطمأنه الله أنه لن يضيع منه شيء؛ لأنه سبحانه وتعالى هو المتكفل بحفظه وجمعه وقرآنه "أي: قراءته" وبيانه. هذا هو الإنسان بعنصريه المكونين له: قبضة الطين ونفخة الروح. وكل محاولة لتفسيره بواحد من عنصريه دون الآخر هي محاولة مضللة لا تؤدي إلى حقيقة، سواء فسر من جانب قبضة الطين أو من جانب نفخة الروح. والجاهليات في التاريخ كله تجنح دائما إلى تفسير الإنسان -سواء نظريا أو عمليا أو هما معا- بجانب واحد من جوانبه، أو بجانب غالب بحيث يسحق الجانب الآخر ويقهره ويكاد يلغيه. الجاهليات المادية تبرز جانب الجسد، وجانب الحس، وجانب المادة، فإذا أخذت شيئا من النفخة العلوية أخذت جانب العقل وأبت جانب الروح، وسخرت العقل -من ثم- في شهوات الجسد ومطالب الحس وعالم المادة ففقد علويته ورفعته، وأسف مع قبضة الطين، وأنشأ عمارة مادية للأرض خالية من إشراقة الروح. والجاهليات الروحية تبرز جانب الروح، وتهمل الجسد وتكبته وتقهره وتحتقره وتقوم بتعذيبه من أجل رفعة الروح، كما تفعل الهندوكية والرهبانية، كما أنها تهمل عالم الحس وعالم المادة، فلا يقوم الإنسان بعمارة الأرض, ولا يقاتل الشر والطغيان، ولا يجاهد لإقامة الحق والعدل، اكتفاء بلذة "الفناء" في عالم الروح، التي يتم من خلالها "الوجود"!. والجاهلية المعاصرة -كما هو واضح- جاهلية مادية مغرقة في المادية،   1 سورة القيامة: 16-19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 سواء في المعسكر الشيوعي أو المعسكر الرأسمالي، قاعدة الحياة مادية بحتة، وقيم الحياة مادية بحتة، وعمارة الأرض على أساس مادي بحت، والتفسير المادي للتاريخ هو واقع الحياة هنا وهناك. وإن كانت النظرية -في الحقيقة- ملكا للشيوعيين، والنظرية أسوأ بكثير حتى من التطبيق، ففي التطبيق يتعامل كلا المعسكرين مع الإنسان على أساس أنه حيوان، أو على أساس أنه آلة في بعض الأحيان وحيوان في سائر الأحيان.. أما في النظرية فينفرد المعسكر الشيوعي بالتعامل مع الإنسان على أنه مادة تنطبق عليه قوانين المادة؛ لأن الشيوعية خطوة "تقدمية" في المخطط الكبير الهادف إلى تسخير الأمميين لشعب الله المختار. من قبضة الطين ونفخة الروح أنشأ الله الإنسان وقال للملائكة إنه سيجعله خليفة في الأرض: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 1. والخلاقة تتضمن الهيمنة والسيطرة والقدرة على الإنشاء والتعمير والقدرة على التمييز والاختيار، فأمده الله بالأدوات الصالحة للخلافة: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا..} 2. {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 3. {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 4. {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 5. {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 6. {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} 7.   1 سورة البقرة: 30. 2 سورة البقرة: 31. 3 سورة العلق: 3-5. 4 سورة النحل: 78. 5 سورة البلد: 8-10. 6 سورة الشمس: 7-10. 7 سورة هود: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 1. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} 2. وجعل الله للإنسان هدفا شاملا يشمل هذا كله هو عبادة الله، على المعنى الشامل للعبادة. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3. {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ} 4. العبادة هي حق الله على جميع مخلوقاته، حق الخالق على المخلوق، ولكن الله فرض على كل نوع من مخلوقاته عبادة تناسب تكوينه، "فالمادة" لها عبادة، والملائكة لها عبادة، والإنسان له عبادة.. تشترك جميعا في أنها عبادة وأنها "سجود" وأنها "تسبيح" ولكن تختلف في الطريقة. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} 5. {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} 6. واختص الإنسان بلون من العبادة يناسب اختصاصه بالخلافة, ويناسب تكوينه من جسد وعقل وروح. فهو يعبد الله بالسجود والتسبيح على نحو معين علمه الله إياه على يد رسله وخاتمهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ويعبدوه بعمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني المنزل من عند الله لتنظيم حياة الناس في الأرض وإقامتها بالقسط. {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} 7. ففي صلاته وتسبيحه ونسكه هو عباد لله، وفي مشيه في مناكب الأرض وأكله   1 سورة الجاثية: 13. 2 سورة الملك: 15. 3 سورة الذاريات: 56. 4 سورة الأنعام: 162, 163. 5 سورة الحج: 18. 6 سورة الإسراء: 44. 7 سورة الحديد: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 من رزق الله بالضوابط التي أقامها الله من حلال وحرام وهو عابد لله، وفي زواجه وإقامة أسرته ورعايتها في حدود الضوابط والتوجيهات الربانية هو عابد لله، وفي طلبه العلم سواء للتعرف على أوامر ربه ونواهيه، أو للقيام بعمارة الأرض على المنهج الرباني هو عابد لله، وفي إقامته شريعة الله في الأرض هو عابد لله، وفي قتاله لتكون كلمة الله هي العليا هو عابد لله.. وذلك معنى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ} 1. فإذا تبين ذلك تبينت مهمة الإنسان في الأرض وطبيعة عمله فيها. ليست مهمة الإنسان أن يأكل ويشرب ويمارس الجنس على طريقة الحيوان. وإن كان هذا جزءا من نشاطه وعمله في الأرض، ولكن على طريقة الإنسان لا على طريقة الحيوان، أي: ملتزما بما أنزل الله من توجيهات وضوابط ومتقيدا بالحلال والحرام. وليست مهمته هي الإنتاج المادي وحده، وإن كان هذا جزءا من نشاطه وعمله في الأرض لكن على طريقة الإنسان لا على طريقة الآلة، أي: واعيا مدركا لأهدافه العليا، ملتزما في الإنتاج بالضوابط الربانية التي تحدد الحلال والحرام والحسن والقبيح والمباح والمكروه والمندوب. مهمته هي "العبادة" بمعناها الشامل الذي يشمل العقيدة الصحيحة، وشعائر التعبد، والنشاط الحيوي في شتى مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والفنية ... إلخ ملتزما في ذلك كله بمنهج الله. وفي جميع الأحوال فعمله ذو طبيعة أخلاقية لاصقة به لا يمكن فصلها عنه فهو إما خير وإما شرير، ولا يوجد عمل واحد من أعماله خارج عن نطاق الأخلاق, سواءكان سياسة أو اقتصادا أو اجتماعا أو فكرا أو فنا، إلا أن يكون عملا من أعمال الطبيعة غير الإرادية لا يحاسب عليه الإنسان. وتنشأ القيمة الأخلاقية من كون الإنسان ثنائي الوجهة لا مفرد الاتجاه، ومن كونه قادرا على التمييز بين الوجهتين واختيار إحداهما. {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 2.   1 سورة الأنعام: 162, 163. 2 سورة الشمس: 7-10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 والأخلاق، سواء في الطعام أو الشراب والملبس والمسكن والجنس، أو في السياسة، أو في الاقتصاد، أو في الفكر, أو في الفن.. إلخ، هي "القيم العليا" التي يتقيد بها "الإنسان" في تصرفاته، والتي يسعى لإقامة الحياة البشرية على أساسها، والتي يكون إنسانا بقدر ما يحرص على أدائها وإقامتها، ويفقد من إنسانيته بقدر ما ينفلت منها ويتهاون فيها. وعلى هذا النحو تكون "إنسانية" الإنسان وتكون كذلك "كرامته" فالتكريم الرباني للإنسان لم يكن عبثا. {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1. إنما يشمل التكريم والتفضيل -فيما يشمل- هذا العنصر الأخلاقي الذي تقوم عليه حياة الإنسان، وتقوم به أعماله كذلك، لتفترق عن حياة الحيوان، وتفترق من باب أولى عن تصرفات المادة التي لا وعي لها ولا إرادة ولا إدراك، إنما تتصرف بالقهر الكامل المفروض عليها من إرادة الخالق, الذي أنشأها وأجرى أمورها على النحو الذي تجري عليه، لا تملك فكاكا منه ولا تعديلا عليه، وشتان بين ذلك وبين الوضع الكريم الذي وضع الخالق فيه الإنسان، إذ أعطاه القدرة على التمييز والاختيار, وجعله مقابل ذلك مسئولا عن تصرفاته بمقتضى تلك "الأمانة" التي حملها، بينما أشفقت "المادة" من حملها: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ... } 2. وتختلف أحوال البشر اختلافا جذريا بحسب الطريق الذي يختارونه لأنفسهم, ولا يقتصر الاختلاف على مصير الإنسان يوم القيامة إما إلى الجنة وإما إلى النار، بل يختلف الأمر في الحياة الدنيا كذلك. أول اختلاف أنهم إذا اختاروا طريق الله، طريق الخير، فعبدوا الله وحده بلا شريك، وساروا في حياتهم بمقتضى المنهج الرباني فقد نجوا بادئ ذي بدئ من عبودية بعضهم لبعض، وتحققت لهم العزة والكرامة والمساواة التي لا تتحقق أبدا إلا حين ينزع من البشر حق التشريع ويصبحون كلهم عبيدا لله على   1 سورة الإسراء: 70. 2 سورة الأحزاب: 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 قدم المساواة، خاضعين كلهم لشريعة الله.. ونجوا من الظلم الذي يسم الجاهليات جميعا حين يحكم البشر بشرائع من صنع أنفسهم، فإنه يحدث دائما في تلك الجاهليات أن طبقة معينة هي التي تحكم، وحين تحكم فإنها تدير الأمور بالطريقة التي تحقق مصالحها على حساب مصالح الآخرين. ثم إن حياتهم تتسم بالنظافة والاستقرار والطمأنينة والبركة. النظافة المستمدة من أخلاقيات لا إله إلا الله. من الالتزام بالحلال والحرام، من ضبط الدوافع لترتفع عن حيوانية الجسد إلى إنسانية الإنسان، الذي يمارس الحياة بجسمه وروحه في آن. والاستقرار المستمد من تطبيق الشريعة الربانية الحكيمة المحكمة التي لا تخبط فيها ولا انحراف، وليس معنى الاستقرار الجمود عن الحركة, ولا معناه كذلك الخلو الكامل من المشكلات. إنما معناه استقرار الأسس التي تقوم عليها الحياة، أما لحياة ذاتها فلا تكف عن الحركة الفاعلة، ولا تخلو من أمور تجد في حياة الناس تحتاج إلى جهد يبذل لحل مشكلاتها وتقويمها بمقتضى منهج الله، أما الكدح ذاته فهي من سمات الحياة الدنيا: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} 1. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} 2. ولكن هناك كدحا يتم في إطار أسس مستقرة وراشدة، فيكون كدحا مثمرا متمشيا مع الغاية التي خلق من أجلها الإنسان وهي "العبادة" بمعناها الشامل الواسع، التي تتضمن عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني. وهناك كدح يتم في غير هذا الإطار الراشد المستقر، فيكون كدحا مؤديا إلى البوار وإن حقق منافع على المدى القصير. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3. أما الطمأنينة فمصدرها ذكر الله:   1 سورة الانشقاق: 6. 2 سورة البلد: 4. 3 سورة هود: 15, 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 1. والاطمئنان إلى قدر الله. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} 2. {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3. وإحساس الإنسان أنه يصارع ما يصارع من القوى في الأرض وهو مستند إلى الله الذي هو أكبر من القوى جميعا وأعلى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 4. وحتى حين يمسهم السوء بقدر من الله فهم مستعلون بالإيمان: {قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى، قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 5. وأما البركة فمصدرها رعاية الله وإغداقه على المتبعين لمنهجه بعد أن تنتهي فترة الابتلاء والتمحيص. {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} 6. ومصدرها ارتفاع مشاعر الناس عن التكالب على متاع الأرض، الذي يحدث الجوعة الدائمة التي لا تشبع، واللهفة الدائمة التي لا تستقر, وحين ترتفع   1 سورة الرعد: 28. 2 سورة الطلاق: 3. 3 سورة التغابي: 11. 4 سورة آل عمرن: 173, 174. 5 سورة طه: 71-73. 6 سورة نوح: 10-12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 المشاعر -بغير رهبانية ولا حرمان- يحدث الرضا النفسي الذي هو عنصر البركة الأصيل. ومصدرها كذلك الأخوة والتكافل في المجتمع المسلم الذي يجعل الناس شركاء في الخير لا يختص به فريق دون فريق.. أما إذا اختار الناس طريق الشر، فأشركوا بالله في العبادة أو كفروا به جهرة ونبذوا عبادته وأعرضوا عن شريعته، فأول ما يقعون فيه هو عبودية بعضهم لبعض، وانقسام المجتمع إلى سادة وعبيد، سادة يملكون ويحكمون ويشرعون، وعبيد ينفذون وهم أذلاء مهينون. ثم إن حياتهم تتسم بالاضطراب والقلق، وفقدان النظافة، والعبودية للشهوات. والاضطراب ينشأ عن الرؤية البشرية القاصرة، العاجزة عن الإحاطة، المحجوبة عن الغيب، التي تتصرف في كل لحظة بمقتضى تلك اللحظة، دون أن تدرك الآثار الكاملة التي تنشأ عن تصرفها حتى تقع تلك الآثار بالفعل في نفس الجيل أو في جيل لاحق، فيكتشف الناس الخلل الذي أصابهم، فيروحون يعالجونه بعلاج جديد يثير مشاكل جديدة! والقلق ينشا من الدخول في حومة الكدح -حومة الصراع- دون سند من قوة أعلى يطمئن الإنسان إلى نصرتها أو تعويضها له عما يفقده في أثناء الصراع. وفقدان النظافة ينشأ من عدم الالتزام بمنهج الله، عدم الالتزام بالحلال والحرام.. الذي ينتج عنه اندفاع الناس مع شهواتهم وعدم الارتفاع بها، فتهبط هي بهم إلى المستنقع المنتن الذي تعيش فيه كل الجاهليات ... وتلك هي العبودية للشهوات، التي لم تنج منها جاهلية من جاهليات التاريخ, حتى التي جنحت إلى الروحانية والرهبانية ... ففي الجاهلية الهندية الجانحة نحو الروحانية كانت ظاهرة "بغايا المعبد! " ظاهرة معروفة, وفي الرهبانية حدث ما أسلفنا ذكره من الموبقات! أما التقدم المادي والعلمي فخط قائم بذاته خلال التاريخ البشري غير متعلق بالهدى ولا بالضلال: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} 1.   1 سورة الإسراء: 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 منشؤه تلك الرغبة الفطرية التي أودعها الله قلب الإنسان، التي تدفعه إلى التعرف على خواص المادة وخواص الكائنات الحية من حوله، ومحاولة استخدام هذه المعرفة في التحسين المستمر لأحواله المعيشية, وهي رغبة كما قلنا لا تتعلق بالهدى ولا بالضلال، ومن ثم فجعلها هي المقياس لتقدم الإنسان يؤدي إلى نتائج باطلة. فقد يحدث -كما حدث في وقت نشأة الأمة الإسلامية- أن يكون الحاملون للهدي الرباني، المتبعون لمنهج الله, متأخرين في مبدأ أمرهم من الناحية العلمية والتكنولوجية، قليلي الحفظ من العمارة المادية للأرض، ويكونون مع ذلك في أعلى درجات الرفعة الإنسانية، كما كان جيل الصحابة رضوان الله عليهم، الذين قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم ... " 1 فلا يمنعهم هذا التأخر المؤقت في ميدان العلم النظري والتطبيقي أن يكونوا أروع نماذج للبشرية في أوج ارتفاعها، ولكنهم -بحكم الانطلاقة الهائلة التي تحدثها النشأة الجديدة في كيانهم- لا بد أن يتجهوا بعد فترة من الزمن إلى العمارة المادية وتظهر إنجازاتهم فيها كما حدث للمسلمين في العهد الأموي والعباسي. بينما يحدث كثيرا أن يكون قوم في قمة العمارة المادية للأرض ولكنهم فارغون من القيم العليا، فتزداد حياتهم خللا وانحدارا كلما أوغلوا في العمارة المادية، كما هو حادث في الجاهلية المعاصرة. ومن ثم لا يصلح التقدم المادي -وحده- معيارا من معايير التاريخ. حقيقة إنه جزء من مهمة "الخلافة" التي خلق الله الإنسان ليقوم بها في الأرض، بحيث يكون الإنسان المتقاعس في هذا الجانب -مع القدرة عليه- مقصرا في أداء جزء من مهمته، ولكن العبرة ليست في مجرد أداء هذه المهمة، إنما في الطريقة التي تؤدى بها: هل هي متفقة مع المنهج الرباني، أي: متقيدة بالحلال والحرام، ونظافة المشاعر ونظافة السلوك، والأمانة والعدل، وسائر القيم العليا التي تكون الجوهر الحقيقي لإنسانية الإنسان، أم غير متفقة مع ذلك المنهج، أي: غير متقيدة بالحلال والحرام والنظافة الحسية والمعنوية والأمانة والعدل ... أي: غير محققة لإنسانية الإنسان.   1 رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 فالتقدم العلمي والتكنولوجي ضروري لعمارة الأرض، ومن ثم فهو واجب على أي مجموعة من البشر يضمها تجمع معين. ولكن لا بد له من شروط يقوم عليها وإلا فقد كثيرا من اعتباره وتحول إلى أداة سلبية تدفع الإنسان إلى الدمار! {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ1 وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 2. وليس من الضروري أن يتم التدمير بمجرد ظهور الفساد واستشرائه ... فإن من سنن الله أن يمد للقوم الظالمين -مع ظلمهم- ويمكن لهم، ويفتح عليهم أبواب القوة في كل اتجاه.. ليزدادوا فسادا وانحرافا، ويزدادوا استحقاقا للتدمير.. {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. بينما من سنن الله مع المسلمين ألا يمكن لهم في الأرض إلا وهم مستقيمون على طريقه، فإذا انحرفوا زال عنهم التمكين حتى يعودوا إليه. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} 4. ويقيم الناس في حياتهم علاقات سياسية واجتماعية واقتصادية ليس بعضها نابعا من بعض ولا بعضها تابعا لبعض..إنما الأصح أن نقول إنها -كلها- أوجه متعددة "لموقف" معين، في اتجاهات مختلفة ولكنها مترابطة.. فالموقف الواحد: على طريق الله أو على غير طريقه، يتجسم في كيان سياسي اجتماعي اقتصادي معين، وفكري وروحي وخلقي وفني كذلك ... أي: في جميع   1 أي: بالتدمير عليهم لما كذبوا الرسل ولم يستجيبوا لهم. 2 سورة الروم: 9. 3 سورة الأنعام: 44, 45. 4 سورة النور: 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الاتجاهات، وتكون كلها -في المعتاد- متناسقة بعضها مع بعض، إلا أن يكون هناك اختلال في الشخصية -شخصية الجماعة- فيكون بعض نشاطها من منبع معين وبعضه من منبع مخالف، كما هو حاضر "المسلمين" اليوم في كل الأرض، يعيشون بعض جوانب حياتهم على تراثهم الذي "ورثوه" وبعض جوانبها الأخرى من الجاهلية المعاصرة، في القيم والأفكار والمشاعر وأنماط السلوك ... وهو وضع شاذ في حياة المسلمين وفي حياة البشرية كذلك. وتختلف صورة الكيان الاقتصادي باختلاف مدى التقدم العلمي والمادي للجماعة البشرية، فينتقل من اقتصاد رعوي إلى زراعي إلى صناعي ... إلخ.. ولكن العبرة لا تكون بمقدار التغير في "الصورة" إنما العبرة "بالموقف" الذي تنبثق منه الصور جميعا وتجسده.. وهو لا يخرج من أحد موقفين: إما موقف إيماني قائم على المنهج الرباني، وإما موقف جاهلي مجاف للمنهج الرباني، أي: إن العبرة ليست بكون المجتمع رعويا أم زراعيا أم صناعيا، إنما العبرة في كونه رعويا مؤمنا، أم رعويا جاهليا، وزراعيا مؤمنا أم زراعيا جاهليا، وصناعيا مؤمنا أم صناعيا جاهليا.. وهذا هو الذي يحدد مركزه في التاريخ الأرضي، فضلا عن مركز أفراده في اليوم الآخر1. وعلى ذلك فإن القيم في المنهج الرباني لا تتغير مع تغير الصورة. فيظل المجتمع المسلم -في جميع أطواره الاقتصادية- عابدا لله، بمعنى الاعتقاد الصحيح في الله، وأداء الشعائر التعبدية لله، وتحكيم شريعة الله. ويظل متمسكا بأخلاقيات لا إله إلا الله سواء في علاقات الجنس، أو علاقات المال، أو علاقات الولاء والسلم والحرب ... إلخ، أي: ملتزما بالحلال والحرام وبسائر ما أنزل الله. أما في "الموقف" الآخر غير الإيماني فلا معيار لشيء؛ لأن القيم ذاتها غير قائمة على أساس واضح ... ولهذا يعبث بها من أراد أن يعبث كما عبث اليهود بكل القيم في المجتمع الغربي مع الثورة الصناعية وزعموا أن عبثهم ذلك حتمية وقانون!   1 في اليوم الآخر يحمل كل إنسان مسئوليته الخاصة: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [سورة النجم: 38-41] {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [سورة مريم: 94, 95] {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار: 19] ولكن مسئولية كل إنسان الاجتماعية داخلة في مسئوليته الخاصة التي يحاسب عنها يوم القيامة: هل سعى إلى إقامة المنهج الرباني وأمر بالمعروف وجاهد المنكر بيده أو بلسانه أو بقلبه أم نكل عن ذلك جميعا ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وصحيح أن هناك سمات مشتركة تصنعها "البيئة" في المجتمع الرعوي أو الزراعي أو الصناعي قد يتشابه فيها المؤمنون وغير المؤمنين، ولكن هذا الشبه العارض لا يجوز أن ينسينا أن الذي يحدد المركز الحقيقي للإنسان في الدنيا أو الآخرة هو "الموقف" الذي يتخذه، وليست المظاهر الثانوية التي قد تتوافق أو تتعارض بغير تأثير حاسم في حياة الناس. وتقوم في حياة الناس على الأرض صراعات متعددة ... فأما في المجتمع الإيماني فالصراع هو دائما الصراع بين الحق والباطل يأخذ صورا شتى. صورة منه هي القتال ضد النظم والحكومات والجيوش الكافرة لإزالتها من طريق الدعوة باعتبار أن وجودها ذاته عائق واقعي يمنع الناس من الاستجابة إلى دعوة الحق ... فأما إذا أزيلت فلا إكراه على اعتناق العقيدة الإسلامية. ولكن تحكم شريعة الله ليستظل بعدالتها الناس جميعا ولو لم يدخلوا في العقيدة الصحيحة. وصورة منه هي مجاهدة عوامل الانحراف في المجتمع الإسلامي ذاته، عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وصورة منه هي مجاهدة النفس الأمارة بالسوء، اللاصقة بالشهوات، حتى تصير إلى النفس اللوامة التي أقسم بها الخالق جل جلاله؛ لأنها تنهى النفس عن الهوى. {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} 1. {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 2. وأما في المجتمع الجاهلي فالصراع لا يدور أساسا بين الحق والباطل، وإن كانت تدور بين الحين والحين صراعات بين جوانب جزئية من الحق وجوانب جزئية من الباطل، إنما يدور الصراع أساسا بين قوى الباطل المختلفة، ويتخذ صورا شتى: صورة منه هي عدوان أمة على أمة بدافع شهوة الغلبة والتوسع والعدوان   1 سورة القيامة: 1, 2. 2 سورة النازعات: 40, 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 والاستزادة من متاع الأرض عن طريق العدوان. إما بتأسيس إمبراطوريات أو "دول عظمى" تبتلع الدول الصغرى وتستذلها لصالحها، وإما بحروب دائمة بين الجيران وغير الجيران. وصورة منه هي الصراع داخل المجتمع بدافع شهوة السلطة أو شهوة الملك أو شهوة الجنس أو شهوة البروز، أو غيرها من الشهوات، على هيئة صراع طبقي وصراع فردي. ويتلخص الفارق بين نوعي الصراعي في الآية الكريمة: {الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} 1. والطاغوت هو كل ما يستعبد الناس له من دون الله. والتفسير الإسلامي للتاريخ واقعي واقعية الإسلام. فمن ناحية يقدر أن الصورة المثالية للتطبيق الإسلامي ليست هي الصورة الدائمة، وأن الضغوط المادية والاقتصادية وضغوط الشهوات البشرية يمكن أن تؤثر في التطبيق الواقعي فتنزله من صورته المثالية إلى صورة أدنى. ومن ناحية أخرى يقدر أن الحكام يمكن أن يطغوا بسلطان الحكم وسلطان المال الذي في أيديهم فيجوروا ويظلموا رغم قيامهم بتطبيق شريعة الله في المواضع التي لا تخص سلطانهم وامتيازاتهم التي يصنعونها لأنفسهم. ولكن التفسير الإسلامي -الذي يفسر التاريخ بحسب السنن الربانية- يقول إن هذه الأمور كلها هي انحرافات عن المنهج الرباني الصحيح، ليس لها إلا إحدى صورتين، وإحدى نتيجتين: إما أن تكون في حيز محدود، فلا يصيب الظلم أو الفساد رقعة كبيرة من الأمة بسبب تأثير العقيدة في النفوس من ناحية، وتأثير تطبيق الشريعة في حصر الظلم في الحيز المحدود المحيط بالحكام من ناحية أخرى, وعندئذ تستطيع الأمة أن تعيش فترة طويلة حتى والفساد في داخلها، وتكون برغم هذا الفساد الجزئي أفضل وأنظف وأعلى من الجاهلية.. وإما أن تزيد رقعة الفساد عن الحد المعقول، وعندئذ تدركها سنة الله التي لا تتخلف ولا تحابي أحد، فتنهار الأمة حتى وهي تحمل اللافتات الإيمانية؛ لأنها تكون عندئذ لافتات مزيفة لا   1 سورة النساء: 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 رصيد لها من الواقع. والسنة الربانية -الحتمية التي لا تتبدل ولا تتحول- لا تتعامل مع اللافتات المرفوعة إنما تتعامل مع الواقع الحقيقي. وفي جميع الحالات لا يغفل التفسير الإسلامي للتاريخ ضغوط "الواقع" المادي والاقتصادي التي يعني بها التفسير المادي للتاريخ، وتأثيرها في نفوس الناس ومشاعرهم. ولكن يختلف الأمر كثيرا ما بين وجود العقيدة وعدم وجودها. الضغوط المادية والاقتصادية دائما موجودة ودائما ذات ثقل ... ولكن العقيدة ترفع الإنسان بمقدار تمكنها من نفسه وفاعليتها في حياته، فأما إن كانت على درجة عالية من التمكن والعمق والفاعلية فإنها ترفع الإنسان فوق الضغوط المادية والاقتصادية. فينجو من ثقلها كله، ويصوغ حياته بمقتضى القيم التي يؤمن بها ولا يحيد عنها.. وهؤلاء هم أفذاذ التاريخ.. وأما إن كانت موجودة ولكنها على درجة من التمكن والفاعلية أقل، فإنها على الأقل ترفع الإنسان فتضعه إزاء الضغوط، فيصارعها وتصارعه، ويغلبها مرة وتغلبه مرة، ويكون ضغطها عليه محسوسا ولكنه ليس قاهرا. وهذه هي الحالة العادية للمؤمنين سواء في صورة مجتمع أو في صورة أفراد. أما في غياب العقيدة فالإنسان في معظم حالاته واقع تحت الضغوط المادية والاقتصادية لا يملك أن يرفع رأسه إزاءها ولا أن يرتفع عليها، فتكون هي القاهرة وهو المقهور تحتها ... وتلك هي الحالة التي ركز على شرحها التفسير المادي للتاريخ، وأجاد في شرح كثير من تفصيلاتها "بصرف النظر عن مغالطاته المكشوفة في تفسير الدين والأسرة وأخلاقيات الجنس، وفي تصوير المخطط اليهودي لإفساد أوروبا في الثورة الصناعية على أنه تقدم وتطور، وأنه حتمي! ". ولكن هذا التفسير أخفق في أمرين: أخفق أولا في إعطاء التفسير الصحيح لتلك الحالة التي ركز عليها، إذ قدمها على أنها هي الوضع الدائم والطبيعي للبشرية ولم يعطها تفسيرها الحقيقي، وهي أنها وضع منتكس للإنسان بسبب جاهليته، لا بسبب أن الماة بطبيعتها رب قاهر والإنسان بطبيعته عبد للمادة! أما إخفاقه الأكبر فهو -كما أسلفنا- إخفاقه في تفسير الإسلام، وهو الوضع الصحيح للإنسان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 1. ويقول التفسير الإسلامي للتاريخ إن هناك سننا ربانية تحكم حياة البشر على الأرض، وإنها سنن دائمة غير قابلة للتبديل ولا التحويل: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} 2. وسنة الله هي الحتمية الوحيدة في هذا الكون، والكون كله خاضع لهذه الحتمية بما في ذلك الإنسان. ولكن هناك فارقا أساسيا -بالنسبة للإنسان- بين حتمية السنن الربانية وبين الحتميات المادية والاقتصادية والتاريخية التي يزعمها التفسير المادي للتاريخ. إن حتمية السنن الربانية لا تفرض سلوكا قهريا معينا على الإنسان، ولا تقع بمعزل عن إرادته، إنما هي تفرض نتائج حتمية على السلوك الذي يتخذه الإنسان باختياره. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} 3. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 4. {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} 5. {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} 6. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 7.   1 سورة الروم: 30. 2 سورة فاطر: 43. 3 سورة الروم: 41. 4 سورة الأعراف: 96. 5 سورة الجن: 16. 6 سورة الأنعام: 44. 7 سورة هود: 15, 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 1. {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 2. نبراس واضح: يختار الإنسان سلوكه ثم تترتب على اختياره نتائج حتمية الوقوع، ويغير الإنسان ما هو عليه فيغير الله له، إن كان في نعمة فكفرها يغير الله حاله إلى سوء، وإن كان في سوء فغيره يغير الله حاله إلى الخير. وتفسح السنن الربانية الرقعة فلا تحصرها في الحياة الدنيا وأحداثها، إنما تمدها إلى اليوم الآخر، الذي يتحقق فيه الجزاء الكامل، وتكتمل صورة الحق التي لم تكتمل في لحياة الدنيا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} 3. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} 4. فقد يقع الظلم من إنسان، ويظل ظالما حتى الموت دون أن يأخذ جزاءه في الحياة الدنيا، وقد يقع الظلم على إنسان فيظل مظلوما حتى الموت دون أن ينتقم الله له من ظالمه في الحياة الدنيا. ولكن هذا ليس آخر المطاف.. إنما آخر المطاف يوم {يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} 5 فينال الإنسان جزاءه الكامل على الموقف الذي اتخذه والطريق الذي اختاره، سواء كان قد عجل له بشيء من الجزاء في الحياة الدنيا أو أجل له كله إلى اليوم الحساب. وفرق كبير بين وضع "الإنسان" في التصور الإسلامي والتصور الذي يقدمه التفسير المادي للتاريخ, وبين حجم الإنسان وحجم فاعليته في كلا التصورين، ففي التصور الإسلامي هو حقيقة "إنسان" يمارس مسئوليته في الأرض، يمارس حمل الأمانة التي اختصه بها الله بين المخلوقات، وهو في التصور الآخر شبح غير محدد الكيان أو أداة لا حرية لها ولا اختيار. وأخيرا فإن الإنسان في تطوره التاريخي له كيان ثابت وصور متغيرة على الدوام.   1 سورة الرعد: 11. 2 سورة النحل: 112. 3 سورة ص: 27. 4 سورة المؤمنون: 115. 5 سورة النور: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 فأما الكيان الثابت فمصدره الفطرة. وأما الصور المتغيرة فمصدرها التفاعل الدائم بين هذه الفطرة وبين الكون المادي، ومحاولة الإنسان الدائبة تحقيق التسخير الرباني لما في السموات والأرض من أجل الإنسان: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 1. والفطرة البشرية ذات مرونة تسمح لها بالتشكل المستمر، بما يناسب القدر الذي يتم تسخيره من طاقات السموات والأرض، ولكن هذه المرونة -وهي مزية ميز الله بها الإنسان ليعينه على دور الخلافة في الأرض- ليس معناها انعدام الشخصية الإنسانية، أو السلبية الكاملة، أو عدم وجود كيان محدد للإنسان، إنما معناه فقط عمق هذه الشخصية وسعتها وتعدد جوانبها، بحيث تستطيع أن تستوعب أشكالا متعددة من الحياة، وتبذل ألوانا متعددة من النشاط. وحقيقة إن هذه المرونة تجعل الإنسان يحتمل كثيرا من الضغوط، ويتشكل تحتها بصور تخالف ما هو مفروض أن يكون عليه في حالته السوية، مما يغري الطغاة على طول التاريخ البشري أن يضغطوا على شعوبهم ويستعبدوهم، ولكن هذا ليس معناه عدم وجود حدود حاسمة للكيان البشري يقف عندها في تشكله أو في خضوعه للضغوط الواقعة عليه، فإنه في النهاية يثور ... ومعنى ثورته أن احتماله للتشكل الخاطئ الذي فرض عليه بالضغط قد انتهى، وأنه يريد أن يصحح وضعه بما يناسب كيانه الطبيعي ... وسواء نجحت الثورة أو فشلت فدلالتها ثابتة في الحالين.. والنجاح والفشل مسألة ظروف مواتية أو غير مواتية، ومسألة إعداد وتنظيم أو فوضى وارتجال، أما الثورة فمعناها أن شيئا مخالفا لطبيعة الإنسان قد فرض عليه بالقوة وهو يريد أن يرده عنه ليعود إلى وضعه الطبيعي. وفي التاريخ البشري ثورات كثيرة فاشلة وناجحة، هي محاولات دائمة لدفع ضغوط مفروضة وتصحيح أوضاع خاطئة.. وكل ثورة تحدث "شيئا ما" في حياة البشرية يغير خطاها إلى خط جديد ... ولكن تظل البشرية تتخبط ما دامت بعيدة عن المنهج الرباني، فتحل مشكلة بمشكلة جديدة، وتتخلص من ضغط لتقع في ضغط من نوع آخر، كما خرجت من الرق إلى الإقطاع، ومن الإقطاع   1 سورة الجاثية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 إلى الرأسمالية، ومن الرأسمالية إلى الشيوعية، ولا سبيل لها إلا التصحيح الحقيقي لأوضاعها إلا بالدخول في المنهج الرباني، الملائم للفطرة السوية، المنزل من عند خالق هذه الفطرة, العليم بما يصلحها وما يصلح لها، وهو منهج ثابت القيم والأركان كثبوت هذه الفطرة، ويسمح في الوقت ذاته بتغير الصورة على الدوام بما يلائم النمو الدائم للحياة البشرية، ولكنه لا يسمح بالصورة المنحرفة؛ لأنها تمرض الفطرة، وتؤدي إلى الفساد في الأرض، ومن أجل ذلك يجعل القواعد الثابتة هي التي تحكم المتغيرات، ولا يسمح للمتغيرات بتغيير القواعد الثابتة. ولا تزال البشرية تهتدي فتستقيم حياتها، وتضل فتصيبها السنة الربانية التي تترتب على الضلال. ولكن لا توجد حتمية واحدة للهدى ولا حتمية واحدة للضلال، إنما الإنسان هو الذي يقرر لنفسه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 1. {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 2. تلك لمحة سريعة عن التفسير الإسلامي للتاريخ في مواجهة التفسير الجاهلي، قد لا تكون كافية لإبراز ملامحه.. ولكنها تكفي على أي حال لرؤية الهوة العميقة التي يضع التفسير المادي فيها الإنسان.   1 سورة الشمس: 7-10. 2 سورة العصر: 1-3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 ثالثا: المذهب الاقتصادي بين النظرية والتطبيق مدخل ... ثالثا: المذهب الاقتصادي بين النظرية والتطبيق أشرنا في التمهيد إلى أن الشيوعية ليست مذهبا اقتصاديا بحتا كما يجري الحديث عنها أحيانا، ولكنها تصور شامل للكون والحياة والإنسان ولقضية الألوهية كذلك، وتفسير شامل لذلك كله على أساس مادي. بعبارة أخرى فإن المادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ جزء من "النظرية" الشيوعية لا ينفصل عنها. ولذلك لم يكتف ماركس أو إنجلز أو غيرهما من الكتاب الشيوعيين بأن يتحدثوا عن الشيوعية كمذهب اقتصادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 إنما جعلوا حولها هذه الفلسفة الشاملة لتفسرها -أو لتبررها- سيان. وهذا الذي صنعه ماركس وإنجلز والمفسرون الشيوعيون هو الأمر الطبيعي، الذي يتجافاه أو يتجاهله الذين يتحدثون عن الشيوعية كمذهب اقتصادي بحت. ذلك أنه لا يوجد مذهب اقتصادي مجرد، ليس له ارتباط بتصور شامل عن الكون والحياة والإنسان وقضية الألوهية! ورغم أننا لا نوافقهم في زعمهم أن الأوضاع الاقتصادية والمادية هي الأصل الدائم الذي تنبثق منه الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية، والفنية.. إلخ، فإننا نرى -كما أشرنا من قبل- أن هناك ارتباطا بين هذه الأمور كلها؛ لأنها أوجه مختلفة لقضية واحدة أو لموقف معين من قضايا الألوهية والكون والحياة والإنسان. وسواء أخذنا بوجهة النظر هذه أو تلك فإن النظرية الاقتصادية لا يمكن أن تقف وحدها مجردة عن فلسفة شاملة تربطها بالقضايا الأخرى كلها، سواء كانت هذه النظرية شيوعية أو رأسمالية أو إسلامية. وقد نجد في التحليل الأخير أن الفلسفة المحيطة بالنظرية الشيوعية لا تختلف كثيرا -في جوهرها- عن الفلسفة المحيطة بالنظرية الرأسمالية.. فكلتاهما فلسفة مادية حيوانية لا ترتفع بالإنسان عن مستوى المادة أو مستوى الحيوان، وتعتبر الوضع المادي والاقتصادي هو الأصل الذي يشكل الحياة ... وكلتاهما تبعد المنهج الرباني كلية عن أن يحكم الحياة أو يسيطر عليها، وكلتاهما تبيح الفساد الخلقي وتسمح له أن يستشري في الأرض! ولكنا سنجد -على الأقل- فرقا في الدرجة بين هذه وتلك! فالشيوعية أشد إمعانا في إبعاد المنهج الرباني إلى حد النص الرسمي على الإلحاد في صلب الدستور: "لا إله. والكون مادة" وأشد إبعادا للإنسان عن إنسانيته، باعتبارها إياه مادة خالصة لا خليطا من المادية والحيوانية كما تصنع الرأسمالية. إن الفارق الوحيد -الذي يرونه جوهريا ولا نراه كذلك- هو في "من يملك"؟ وهو فارق في "القشرة" الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية أكثر مما هو فارق في الأصل الذي تغطيه هذه القشرة؛ لأن النزاع انحصر كما هو ظاهر في "من يملك" ولم يتجاوزه إلى النظر في المالكين أنفسهم، ونظرتهم إلى الكون والحياة والإنسان وقضية الألوهية، وهل هي نظرة صحيحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 أم خاطئة، وهل هم -بمعيار القيم الإنسانية- مرتفعون أم هابطون. فإذا وجدنا -بالمعايير الربانية- أنا المالكين كلهم سواء في الجاهلية المعاصرة، كلهم جاهليون، كلهم نابذون للمنهج الرباني معادون له مصرون على إبعاده عن حياتهم، فإن الفوارق الجزئية بينهم بعد ذلك تظل فوارق ثانوية وليست جوهرية كما قد ينظرون إليها فيما بين بعضهم وبعض، وخاصة في لحظات التنازع والخصام. وصحيح أن "مظهر" الحياة يختلف كثيرا فيما بين الرأسمالية والشيوعية، على الأقل من الناحية الاقتصادية والناحية السياسية، ولكنا نضرب مثلا لتقريب الصورة فحسب.. إذا دخلت مكانا تحسب أن فيه "آدميين" فوجدت أنه عبارة عن حظيرتين كبيرتين، الدواب في إحداهما طليقة "سائبة" وفي الأخرى مربوطة مقيدة، فليس الذي يبدهك للوهلة الأولى هو أن هذه سائبة وهذه مقيدة، إنما الذي يبدهك أنك وجدت الدواب حيث كنت تتوقع وجود الآدميين، ولا بد -بطبيعة الحال- أنك ستلحظ الفارق بين مجموعة الدواب هذه وتلك، وقد تلحظه لأول وهلة، ولكنك لا تعيره اهتماما كبيرا طالما أنت ناظر إلى قضية وجود الدواب في مكان الآدميين، أما إذا ألقيت هذه القضية جانبا فسيتضخم في حسك ولا شك ذلك الفارق الشكلي, وستروح تبحث، أيهما الأولى: أن تكون جميعها سائبة أم جميعها مقيدة! تشبيه تمثيلي لتقريب الصورة فحسب. فمن وجهة النظر الإسلامية لا يفترق الوضع الرأسمالي كثيرا عن الوضع الشيوعي، كلاهما وضع جاهلي يحكم بغير ما أنزل الله. كلاهما ينفر نفورا تاما من إدارة شئون الحياة بمقتضى المنهج الرباني. كلاهما لا يعترف على الإطلاق بأن حق التشريع، أي: حق تقرير الحلال والحرام والحسن والقبيح والطيب والخبيث، هو حق الله وحده، إنما يقوم كلاهما على أن هذا الحق هو حق البشر وحدهم من دون الله.. ثم يختلف هؤلاء البشر فيما بينهم بعضهم يذهب إلى اليمين، وبعضهم يذهب إلى اليسار، وكلاهما يتنكب الطريق. بعد هذه المقدمة الضرورية، التي نخلص منها بنتيجتين رئيسيتين: الأولى أن الشيوعية ليست مذهبا اقتصاديا بحتا يمكن تجريده بمفرده. إنما هي تصور شامل للكون والحياة والإنسان وقضية الألوهية ثم مذهب اقتصادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 مبني على هذا التصور ومرتبط به بحيث لا يمكن فصله عنه، والثانية أن الفارق بين الفلسفة الشيوعية الخاصة بقضايا الألوهية والكون والحياة والإنسان والفلسفة الرأسمالية المتعلقة بهذه القضايا ذاتها فارق ثانوي من وجهة النظر الإسلامية؛ لأنه فارق في "القشرة" وليس في الجوهر الحقيقي. بعد هذه المقدمة نأخذ في الحديث عن المذهب الاقتصادي في الشيوعية، مبتدئين بالنظرية ثم معقبين بالتطبيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 النظرية الشيوعية إلغاء الملكية الفردية ... النظرية الشيوعية: تقوم النظرية الشيوعية على مجموعة من الأسس والمبادئ يمكن تلخيصها في النقاط الآتية: 1- إلغاء الملكية الفردية إلغاء باتا وإحلال الملكية الجماعية بدلا منها. 2- إلغاء الطبقات بإقامة دكتاتورية البروليتاريا وإبادة الطبقات الأخرى. 3- كفالة الدولة لجميع "المواطنين" في مقابل تكليف القادرين منهم بالعمل رجالا ونساء. 4- المساواة في الأجور. 5 إلغاء الدين. 6- تطبيق مبدأ "من كل بحسب طاقته، ولكل بحسب حاجته". 7- إلغاء الصراع من المجتمع البشري بإلغاء الباعث عليه وهو الملكية الفردية. 8- إلغاء الحكومة في المستقبل، وإقامة مجتمع متعاون متعاطف بغير حكومة. ونحاول فيما يلي بسط كل واحد من هذه المبادئ في إيجاز دون تفصيل: 1- إلغاء الملكية الفردية: أسلفنا القول في مناقشة المادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ أن الشيوعيين يعتبرون الملكية الفردية هي المسئولة عن كل الشرور التي خاضتها البشرية منذ تركت مرحلة الشيوعية الأولى حتى دخلت مرحلة الرأسمالية، وأنها كانت خلال ذلك التاريخ كله مثار "الصراع الطبقي" الذي يبعث الأحقاد والاضطرابات في المجتمع البشري، وأنه لا بد من إزالتها والرجوع بالناس إلى الملكية الجماعية التي كانوا عليها في الشيوعية الأولى لكي تستريح البشرية من الصراعات والأحقاد وتعيش في طمأنينة وسلام. ويرى الشيوعيون أن الشيوعية الثانية والأخيرة التي يدعون إليها هي الحل، وهي طريق الخلاص؛ لأنها ستلغي الملكية الفردية إلغاء باتا وتحل الملكية الجماعية محلها، فلا يملك أحد شيئا من وسائل الإنتاج وأدواته ملكية فردية, سواء كان الإنتاج زراعيا أو صناعيا، إنما تكون الملكية جماعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وليس معنى الملكية الجماعية أن أي مجموعة من الناس يملكون أو يمكن أن يملكوا ما تحت أيديهم من وسائل الإنتاج وأدواته ملكية مشتركة، كأن يملك العمال المصنع الذي يعملون فيه، أو يملك الفلاحون المزرعة التي يفلحونها "كما يتبادر أحيانا إلى أذهان السذج الذين يستمعون إلى الدعاية الشيوعية فيتصورونها على غير حقيقتها" إنما معناها أن "الدولة" هي المالك الوحيد للإنتاج كله، بوسائله وأدواته وناتجه، فهي التي تملك المصانع وإنتاجها كما تملك المزارع ومحاصيلها، وتقول النظرية إن الدولة تقوم بذلك نيابة عن الشعب، أو عن طبقة "البروليتاريا Proletariat" "ومعناها الطبقة الكادحة" التي يفترض فيها حسب النظرية أنها هي المالك الحقيقي! ذلك أن النظرية الشيوعية تقول إن المنتج الحقيقي لأي سلعة هو العامل الذي يبذل الجهد لإنتاجها، ولكنه في ظل الإقطاع والرأسمالية لا يملك الناتج الذي أنتجه بجهده، إنما هو يبيع جهده للإقطاعي أو الرأسمالي الذي يشتري هذا الجهد بأبخس الأثمان ويستمتع وحده بفائض القيمة "وهو الفرق بين ثمن المادة الخامة مضافا إليه أجر العامل وبين سعر السلعة في السوق" وعلى هذا يعتبر الإقطاعي والرأسمالي مستغل لجهد العامل وظالما له، ويعتبر العامل في وضع غير إنساني؛ لأنه مستغل لحساب إنسان آخر. وهذا في شرعة الشيوعية غير جائز؛ لأن الجريمة الكبرى في حق الإنسان هي أن يكون مستغلا من قبل إنسان آخر. أما في الشيوعية فليس هناك استغلال من إنسان لإنسان؛ لأن الكل مالكون. وإن كانت الدولة من الوجهة العملية هي التي تدير هذه الملكية، وهي التي توزع الناتج على "المالكين الحقيقيين"! وسنتحدث عن طريقة التوزيع فيما بعد. إنما نكتفي هنا بالقول بأن الدولة هي المتصرف الحقيقي في جميع الأمور. ويقول الشيوعيون كما أسلفنا إن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية "بل إنه لا توجد نزعات فطرية على الإطلاق" وإن الملكية الجماعية هي الأصل في حياة الإنسان بدليل الشيوعية الأولى. إنما اكتسب الإنسان تلك النزعة الشريرة فيما بعد اكتشاف الزراعة، وإنه ينبغي تطهير الناس من هذا الشر الذي اكتسبوه، وإعادتهم إلى الحالة التي كانوا عليها أول مرة بجعل الملكية ملكية جماعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 2- إلغاء الطبقات : منذ خرج الناس من الشيوعية الأولى التي لا ملكية فردية فيها، أو بعبارة أخرى منذ بدأت الملكية الفردية بدأ ظهور الطبقات في المجتمع، إذ انقسم الناس إلى مالكين وغير مالكين. واستغل المالكون ما في أيديهم من الملك لاستغلال الآخرين الذين لا يملكون. فأصبحت الملكية سلطة استغلالية، وأصبحت الطبقة المالكة هي التي تحكم، وبما أن السلطة في يدها فقد صارت تحكم بما يناسب مصالحها على حساب الطبقة التي لا تملك "ومن ثم لا تحكم" واستمر هذا الوضع بصورة سافرة في عهدي الرق والإقطاع، وبصورة مقنعة في ظل الرأسمالية, وتقرر الشيوعية أن هذا كان ظلما فاحشا بالنسبة لطبقة الكادحين الذين هم المنتجون الحقيقيون، إذ بدلا من أن يملكوا نتيجة جهدهم فإن طبقة السادة التي تستغلهم هي التي تستمتع وحدها بثمرة هذا الجهد، بينما يظلون هم في الحرمان والذل والهوان, وليس أقل الذل أن يضطروا إلى بيع جهدهم للمستغل الذي يعملون عنده أو يعملون لحسابه. ثم تقرر النظرية أن هذا الظلم الفاحش لا سبيل إلى إزالته إلا بإزالة النظام كله، نظام الطبقات القائم على الملكية الفردية. فطالما كان هناك ملكية فردية فهناك طبقات، وطالما كان هناك طبقات فهناك ظلم، والسبيل هو إلغاء الطبقات المستغلة "أي: المالكة" والإبقاء على الطبقة الوحيدة المنتجة، وهي طبقة الكادحين "البروليتاريا" لأن الطبقات الأخرى طبقات طفيلية لا تستحق البقاء، كل عملها أن تمتص دماء الكادحين وهي لا تتعب ولا تبذل جهدا، إنما تسرق الجهد لتعيش به حياة ترف وكسل وخمول بينما المنتجون الحقيقيون في شقاء وكدح وعناء. والطريق المؤدي إلى ذلك هو الثورة، وهي ثورة حمراء تراق فيها دماء غزيرة حتى يستتب الأمر لطبقة البروليتاريا فتصل إلى السلطة وتبيد الطبقات الأخرى إبادة، ثم تلغي الملكية الفردية حتى لا تظهر من جديد طبقة مالكة تستغل الكادحين. ويسمى نظام الحكم الذي ينشأ من هذه الثورة "دكتاتورية البروليتاريا" لأن البروليتاريا لا بد أن تحكم بالديكتاتورية ما دامت المعركة ما تزال قائمة بين الشيوعية وأعدائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 وحكمة الديكتاتورية أن أعداء الشعب لا ينبغي أن تترك لهم أي ثغرة ينفذون منها للقضاء على النظام الصحيح "وهو الشيوعية" لانهم -بطبيعة الحال- لن يرضوا عن النظام الذي يحرمهم من امتيازاتهم الطبقية، فهم أعداء ألداء له. وما دام هناك دول رأسمالية وإقطاعية ما تزال قائمة في الأرض فإن أعداء الشعب سيتعاونون معها، أو أن هذه الدول ستستغلهم ضد النظام، ولا ينبغي التهاون في هذا الأمر لحظة واحدة. ولا التراخي مع أعداء النظام -أعداء الشعب- سيتعاونون معها، أو أن هذه الدول ستستغلهم ضد النظام، ولا ينبغي التهاون في هذا الأمر لحظة واحدة، ولا التراخي مع أعداء النظام -أعداء الشعب- بل لا بد من مقاتلتهم بكل شدة, والسبيل إلى ذلك هو أن تتولى الدولة كل السلطات في يدها، وتقبض على الأمر بيد من حديد.. إلى أن يأتي الوقت الذي ينتهي فيه الأعداء من الوجود، وعندئذ لا تزول الديكتاتورية فقط بل تزول الحكومة كذلك لانتهاء الحاجة إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 3- كفالة الدولة لجميع المواطنين : تقوم الشيوعية على مبدأ كفالة الدولة لجميع المواطنين على أساس أن هذا واجب الدولة تجاه المواطنين, وحق المواطنين على الدولة، ويندد الشيوعيون بالرأسمالية خاصة التي تحتفظ دائما بجيش من العاطلين لتضرب به حركات العمال الذين يتمردون على الظلم ويطالبون بحقوقهم، وبالإقطاع الذي يترك الناس يموتون جوعا ليكتنز الإقطاعي ويسمن من دماء الكادحين. وفي "المنيفيستو" أي: الإعلان الشيوعي الذي أعلنه ماركس أوجب على الدولة أن تكفل لكل فرد من أفراد المجتمع ضروراته الأساسية وهي الطعام والملبس والمسكن والجنس, باعتبارها حقوقا طبيعية, وضرورات ينبغي إشباعها، وتعتبر الدولة مقصرة إذا قصرت في تحقيق شيء من ذلك لأي فرد من المواطنين. وفي مقابل كفالة الدولة لجميع المواطنين فإنه ينبغي على كل قادر على العمل أن يعمل -رجالا ونساء- ومن لا يعمل لا يأكل، فكما أن الكفالة واجبة على الدولة فالعمل واجب على الفرد ما دام قادرا عليه، ولا يعفى من ذلك أحد على الإطلاق إلا الأطفال حتى يبلغوا السن التي تؤهلهم للعمل، والعجزة من الرجال والنساء الذين لا يقدرون على أي نوع من أنواع العمل فأولئك تكفلهم الدولة بلا مقابل. وبما أن الدولة هي -من الوجهة العملية- المالك الوحيد والمسيطر الوحيد على الإنتاج فهي التي تحدد لكل فرد في المجتمع نوع العمل الذي يقوم به ومكانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 كذلك مقابل كفالة الدولة له، وتحدد الدولة صلاحية أي إنسان لنوع معين من العمل بحسب اختبارات تجريها على الأفراد لتحديد مواهبهم وقدراتهم أما مكان العمل فتحدده الدولة حسب احتياجاتها بوصفها المشرفة على الإنتاج كله. والمرأة -كالرجل- لا بد أن تعمل في أماكن العمل خارج البيت. وكونها زوجة وأما لا يتعارض مع هذا المبدأ, فهي تأخذ الإجازة المقررة في حالات الحمل والوضع، أما الأطفال فتتولاهم المحاضن لا الأمهات. ومن ثم فإن أي أم -بعد تمضية الإجازة المقررة للوضع- تأخذ وليدها إلى المحضن وتذهب هي إلى العمل، حتى تتسلمه مرة أخرى بعد العودة خارج العمل. وتقوم المحاضن بتقديم الرعاية المطلوبة للأطفال، حتى تنتهي أمهاتهم من العمل. حتى إذا كبروا تولت المدرسة ما كانت تتولاه المحاضن من قبل. وبذلك لا تشغل المرأة بشئون الأطفال عن واجب العمل خارج البيت. وتتولى الدولة كفالة الأفراد بتقديم الطعام لهم مقابل بطاقات تموينية موحدة، وتقديم الملابس مرة في الشتاء ومرة في الصيف على المنوال ذاته، كما تعد سكنا لكل فرد, أما الجنس فتطلق فيه الحرية للأفراد ينشئون علاقاتهم الجنسية على النحو الذي يحلو لهم، وكانت النظرية قائمة في الأصل على أساس الشيوعية الجنسية الكاملة باعتباره أن هذه هي الصورة التي كانت عليها الشيوعية الأولى، وأن هذا هو الأصل في العلاقات الجنسية, ثم قام لنين بتعديل النظرية فاستبدل بالشيوعية الجنسية الكاملة نظرية "الكوب" التي تقول إن الكوب الذي يشرب به كل إنسان يصبح ملوثا، وكذلك الجنس لا بد أن تنظم علاقاته لكي لا يصبح ملوثا كالكوب الذي يشرب به الجميع! "وكان هذا بعد الدعاية المضادة التي قامت ضد الشيوعية الجنسية من المعسكرات المعادية" فصارت هناك مكاتب للزواج والطلاق تقوم فقط بتسجيل ما يحدث من الزيجات والانفصالات، وفي إمكان أي زوج من البشر: رجل وامرأة، أن يذهبا في أي وقت إلى مكتب الزواج ليسجلا زواجهما، كما أن في إمكانهما في أي وقت أن يذهبا إلى مكتب الطلاق ليثبتا انفصالهما، ولا يترتب على ذلك أي إجراءات تقيد حرية العلاقات الجنسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 4- المساواة في الأجور : تقوم النظرية الشيوعية على أساس مبدأ المساواة بين جميع الأفراد في المجتمع؛ لأن هذه هي الصورة التي كانت عليها البشرية في الشيوعية الأولى، وهي -عندهم- الأصل الذي تستمد منه كل المبادئ التي ينبغي أن تعود إليها البشرية. تقول النظرية إن أول صورة للوجود البشري هي التعبير الطبيعي عن هذا الوجود، وإن أي انحراف طرأ بعد ذلك لا ينبغي أن يعتد به, بل ينبغي أن تعود البشرية فتصحح أوضاعها بالرجوع إلى الصورة الطبيعية التي كانت عليها أول مرة. وفي الشيوعية الأولى كان جميع الأفراد متساوين في الحقوق والواجبات، وفي المأكل والملبس والمسكن والجنس، فينبغي أن تكون هذه هي الصورة الدائمة للبشرية، ولكن التطور الذي حدث بعد اكتشاف الزراعة غير هذا المبدأ الجميل، وأخل بالمساواة التي كانت قائمة في المجتمع الشيوعي الأول، فأصبح بعض الناس مالكين وبعضهم غير مالكين، فاختلفت الحقوق والواجبات بين المالكين وغير المالكين، وأصبحت للمالكين امتيازات اقتصادية "ومن ثم سياسية واجتماعية" تميزهم عن غير المالكين. ولكن عدم المساواة ليس أصلا من أصول الوجود البشري، ومن ثم فهو ظلم ينبغي إزالته، وطريقة إزالته -بعد إلغاء الملكية الفردية وأيلولة الإشراف على الإنتاج إلى الدولة- أن تسوي الدولة بين أجور جميع العاملين، لكي تتحقق المساواة التامة في كل شيء، ويزول الظلم الذي عاشت فيه البشرية عدة قرون. ومن أجل تقرير هذه المساواة قررت وحدة عمل إجبارية ينبغي على كل قادر أن يقوم بها، وتصرف للعامل بمقتضاها كل حاجاته الأساسية من مسكن وملبس ومطعم على قدم المساواة. وعلى هذا النحو تحقق الشيوعية الثانية ما كان قائما من المساواة في الشيوعية الأولى، وتلغي الفوارق والامتيازات الطبقية التي أحدثتها فترات الظلم في الحياة البشرية، وهي فترات الرق والإقطاع والرأسمالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 5- إلغاء الدين : تعتبر الشيوعية الدين أمرا واجب الإلغاء من اعتبارات عدة. أحد الاعتبارات أنه خرافة.. ونحن الآن في عصر العلم. فقد كان الباعث الأول على الدين هو جهل الإنسان بالطبيعة من حوله، وعجزه عن السيطرة عليها. فتخيل وجود قوى خفية تسيطر على هذا الكون وتجري الأحداث فيه، وراح يسترضي هذه القوى ليدفع أذاها عنه فتقرب إليها بالشعائر التعبدية وتقديم القرابين. ولما كانت البشرية اليوم قد شبت عن الطوق، وتعلمت من العلم ما تعرف به قوانين الطبيعة وتسيطر به على البيئة فقد آن أن تتخلص من هذه الخرافة غير اللائقة بالإنسان المتعلم. الاعتبار الثاني أنه كان ناشئا من طبيعة الوضع المادي والاقتصادي في العهد الزراعي، حيث كان جزءا من عملية الإنتاج خارجا عن سيطرة الإنسان، فتخيل وجود قوة غيبية نسب إليها الهيمنة على ذلك الجزء الخارج عن سيطرته وراح يتعبدها لاجتلاب رضاها وصرف أذاها وغضبها عنه، وسماها الله. والآن تغير الوضع المادي والاقتصادي وأصبحت عملية الإنتاج كلها منظورة وكلها تحت سيطرة العامل الذي يقوم بالإنتاج, فلم تعد هناك حاجة لافتراض تلك القوة الغيبية التي أصبحت الآن غير ذات موضوع. الاعتبار الثالث أن الدين يخالف المعتقد الشيوعي القائم -في نظرهم- على أسس علمية، وهو أن المادة هي الأصل، وهي سابقة في الوجود على الفكر، إذ يقوم الدين على أساس أن المادة مخلوقة، وبالتالي فليست هي الأصل، وليست سابقة على الفكر، ومن ثم وجب إلغاء الدين؛ لأنه يصادم التصور الشيوعي، الذي ينبغي أن يبقى وحده ويلغي كل ما سواه. الاعتبار الرابع أن "الدين أفيون الشعب" فقد كان المستغلون من الإقطاعيين والرأسماليين يستخدمونه لتخدير الجماهير لكي ترضى بالظلم الواقع عليها ولا تتمرد عليه، مقابل الحصول على نعيم الجنة في الآخرة، وبصفة خاصة فقد كان الدين يستخدم ضد الشيوعية بالذات، فحين يقوم الشيوعيون بالدعوة إلى الشيوعية يستخدم الدين لوقف هذه الدعوة ومحاربتها. فالآن بعد قيام المجتمع الشيوعي الذي ليس فيه مستغلون، ينبغي إلغاء ذلك المخدر الذي كانوا يستخدمونه إذ لم تعد هناك حاجة لاستخدام المخدر. ومن جهة أخرى فقد وجب القضاء على ذلك العدو اللدود الذي يستخدم ضد "العقيدة" الجديدة ومحوه من الوجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 من كل بحسب طاقته ولكل بحسب حاجته ... 6- من كل بحسب طاقته وكل بحسب حاجته: كان هذا المبدأ من ضمن المبادئ النظرية التي وضعت في أول الأمر لتقوم الشيوعية عليها.. ومقتضى هذا المبدأ أن الناس في ظل التطبيق الشيوعي سيرتفعون بمشاعرهم وسلوكهم إلى صورة مثالية تجعل كل إنسان يبذل أقصى ما في طاقته من جهد من تلقاء نفسه دون ضغط عليه ولا إلزام ولكن من جراء حبه للنظام وللمزايا التي يحققها له وشعوره بالاستقرار والطمأنينة والسعادة في ظله، وفي الوقت ذاته لا يأخذ من الإنتاج -الذي يشارك فيه الجميع, كل بحسب طاقته- إلا بمقدار ما يحتاج إليه فحسب، فلا يزيد عن الحاجة بدافع الجشع والطمع الناشئين أساسا من الحياة في مجتمع طبقي يمارس الملكية الفردية والصراع الطبقي، فإذا زالت الأسباب زالت الأعراض، أي: إنه إذا ألغيت الملكية الفردية وألغيت الامتيازات الطبقية بإزالة الطبقات كلها إلا الطبقة الكادحة فإن الجشع والطمع يزولان من نفوس الناس بزوال الأسباب الدافعة إليهما، وعندئذ يأخذ كل إنسان من الإنتاج العام بقدر ما يحتاج إليه فحسب، ويترك الباقي للمحتاجين غيره من الناس. ولكن عند التطبيق تعدلت النظرية شيئا من التعديل، فلم يلغ هذا المبدأ إلغاء كاملا ولكنه أجل إلى أجل غير محدد بزمن معين، ولكنه مرهون بزيادة الإنتاج -بوسائل التقدم العلمي- إلى الحد الذي يمكن معه تطبيق المبدأ. وقيل في تفسير ذلك إننا بعد لم نصل إلى مرحلة الشيوعية إنما نحن في مرحلة التطبيق الاشتراكي، ومن أسباب ذلك أننا مشغولون بالمعركة الدائرة ضد أعداء الشيوعية، وهذا يستوجب توجيه جزء من الإنتاج إلى إنتاج حربي لمنع الأعداء من التغلب علينا أو عرقلة خطواتنا، وهذا يعوق زيادة الإنتاج إلى الحد الذي يكفي كل احتياجات الناس ويفيض عليها بحيث لا يؤثر على عدالة التوزيع أن يأخذ كل إنسان منه بقدر ما يريد، ومن ثم فإنه في مرحلة التطبيق الاشتراكي لا بد أن تظل الدولة قائمة على التوزيع، لتعطي كل إنسان نصيبه من الإنتاج بحسب كمية الإنتاج الموجودة بالفعل، كما تشرف الدولة على الإنتاج لتضمن قيام كل إنسان بالجهد المطلوب منه. ولكن حين تتحقق الشيوعية يتحقق ذلك المبدأ فيبذل كل إنسان ما في طاقته من الجهد من تلقاء نفسه، ويأخذ ما يحتاج إليه من الإنتاج، مكتفيا من تلقاء نفسه بلا رقيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 7- إلغاء الصراع : حين تلغى الملكية الفردية ينتهي الصراع، تلك من مقررات المادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ، وقد أشرنا إلى ذلك مرارا، وما كان بنا من حاجة إلى إفراد هذه النقطة بالحديث بعد أن أشرنا إليها عند الكلام على الملكية الفردية وموقعها من النظرية الشيوعية، ولكنا نريد أن نزيد هنا في هذه العجالة أن النظرية الشيوعية تتنبأ بحلول هذا العهد السعيد الذي يزول فيه "الصراع نهائيا من حياة البشرية ويصبح المجتمع البشري مجتمعا ملائكيا يسوده الوئام والسلام، وذلك حين تنتشر الشيوعية في أرجاء الأرض كلها، وعندئذ يتحقق الفردوس المفقود في واقع الأرض وتستقر الأمور في الأرض إلى آخر الزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 8- إلغاء الحكومة : من تنبؤات الشيوعية كذلك إلغاء الحكومة في مستقبل البشرية. ونظريتهم في ذلك أن الحكومة موجودة الآن؛ لأنها تؤدي مهام معينة لا بد من أدائها في المجتمعات الحالية حتى المجتمعات الشيوعية ذاتها "أي: الاشتراكية باعتبار أننا لم نصل بعد إلى مرحلة الشيوعية الكاملة" ولكن الحكومة ليست أصلا من أصول المجتمع البشري بحيث تلازمه في جميع أطواره, وسيأتي اليوم الذي تلغى فيه الحكومة إلغاء تاما يوم تنتهي المهام التي تؤديها. فحين تعم الشيوعية الأرض كلها وتصبح هناك حكومة عالمية واحدة، يأتي وقت لا تعود هذه الحكومة ذاتها لازمة؛ لأن مهمة الدفاع عن الشيوعية ستنتهي، وهي إحدى المهام التي تضطلع بها الحكومة. ثم إنه لن يكون هناك صراع يحتاج إلى تدخل الحكومة بالقوة لحسمه، فتسقط مهمة أخرى من مهام الحكومة الحالية. ثم يزيد الإنتاج فيصل إلى الحد الذي يجد فيه كل إنسان طلبته دون أن يؤثر ذلك على احتياجات الآخرين، فلا يعود هناك موجب لتدخل الحكومة في التوزيع. وتكون مشاعر الناس قد ارتفعت بتأثير الحياة في ظل التطبيق الشيوعي، فيبذلون غاية جهدهم دون حاجة إلى رقابة مفروضة عليهم من خارج ضمائرهم. وكذلك لا يتنازعون فيما بينهم -بعد إلغاء السبب الوحيد في النزاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 والصراع، وهو الملكية الفردية- فيستتب الأمن تلقائيا نتيجة سيطرة مشاعر المحبة والإخاء والتعاون بين الناس. وهكذا تسقط كل مهام الحكومة الحاضرة ... فتسقط إلى غير رجعة! ذلك عرض موجز لأهم المبادئ والأسس التطبيقية التي تقوم عليها الشيوعية، لم نر داعيا إلى التوسع فيه بعد ما توسعنا في مناقشة الأسس الفكرية التي تقوم عليها النظرية، ويتبين من هذا العرض أن الشيوعية ليست مذهبا اقتصاديا مجردا يمكن نزعه بمفرده وتركيبه في أي نظام آخر لا يشترك معه في قاعدة التصور، فقد تبين من هذه النقاط أنها لا تقتصر على المجال الاقتصادي، بل تمتد إلى المجال السياسي والاجتماعي والديني والفكري.. إلخ. وبصرف النظر عن قولهم إن هذه المجالات كلها إن هي إلا انعكاس -حتمي- للوضع الاقتصادي، وقولنا إن هذه المجالات كلها أوجه مختلفة -ولكنها متلازمة- لموقف معين من قضايا الألوهية والكون والحياة والإنسان، فإن الشيوعية -على القولين- لم تكن ولن تكون نظاما اقتصاديا بحتا مقطوع الصلة ببقية المجالات، إنما هي نظام شامل للاقتصاد والسياسة والاجتماع والدين والفكر والفن.. مترابط كله على أساس تصور معين.. مادي بحت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 بين النظرية والتطبيق : نضرب الذكر صفحا عن التناقض بين سخرية الشيوعيين بالحق والعدل الأزليين، وبين قولهم في النظرية الشيوعية إن استغلال إنسان لإنسان ظلم ينبغي إزالته.. وبين نفيهم أن هناك أصلا ثابتا للكيان البشري ينبغي أن يرد إليه ويقاس به, وقولهم إن صورة الحياة في الشيوعية الأولى -بكل ما تحويه من ملكية جماعية ومساواة ولا طبقية وتعاون..إلخ- هي الأصل الذي ينبغي أن تعود البشرية إليه، والذي تسعى الشيوعية الثانية إلى الرجوع إليه لتعيش البشرية في سلام! نضرب صفحا عن ذلك التناقض؛ لأننا قلنا في مناقشتنا للتفسير المادي للتاريخ إنه ليس مبادئ حقيقية يؤمنون بها عن اقتناع "علمي" إنما هي مجرد وسائل لغايات، والغايات هي المطلوبة، والأدلة تساق سوقا وتحشر إلى جانب بعضها البعض حشرا سواء كانت متناسقة مع الغايات أو غير متناسقة ... ولا حرج عليهم أن تتناقض الأدلة! فإذا كانت الغاية هي القول بأن الأوضاع الاقتصادية هي الفاعلة وليس الحق والعدل قيل ذلك، وإذا كانت الغاية هي نفي الملكية الفردية بوصفها نزعة فطرية قيل إنه لا فطرة, ولا أصل ثابتا للإنسان، وإذا كانت الغاية تبرير مجيء الشيوعية الثانية قيل إن الشيوعية الأولى تمثل الأصل الذي ينبغي أن تعود إليه البشرية. ندع هذا جانبا؛ لأنه لن يزيد الصفحة سوءا. إنما نشير بادئ ذي بدء إلى أن النظرية الشيوعية -والتطبيق كذلك- قد نقضا كل "القشرة" السياسية والاقتصادية والاجتماعية للرأسمالية، وأنشأ قشرة مختلفة عنها1 فيما عدا أمرين اثنين: إقصاء الدين عن الحياة والفوضى الجنسية، فقد رضيت عنهما الشيوعية رضاء تاما وزادت في جرعتهما حتى نصت على الإلحاد نصا في الدستور السوفيتي، فقالت: "لا إله. والكون مادة" ونصت على الفوضى الجنسية نصا ودافعت عنها ... وحين اضطرت إلى تعديلها في النظرية على عهد لنين فإنها لم تغير شيئا حقيقيا في التطبيق. من هنا نفهم كيف أن الشيوعية خطوة "تقدمية" إلى الإمام! ونأخذ الآن في الحديث عن التطبيق الشيوعي، ومدى التزامه بالنظرية من جهة، ومدى "عدالة" هذا التطبيق من جهة أخرى. فأما من حيث إلغاء الملكية الفردية فقد تم ذلك بصورة حادة في المرحلة الأولى من التطبيق على عهد لنين وجزء من عهد ستالين, أما إحلال الملكية الجماعية محلها فقد تكشف عن أسطورة ضخمة ليس لها وجود حقيقي! فلا أحد من طبقة البروليتاريا يملك شيئا في الحقيقة أو يحس بملكية شيء. إنما الدولة -كما نصت النظرية- هي المالك الحقيقي لكل شيء. والدولة -عند التطبيق- شيء والشعب شيء آخر. ومهما قيل من "نيابة" الدولة عن البروليتاريا في الملكية والإشراف عليها فهو مجرد كلام للاستهلاك النظري، أما الواقع فهو أن الدولة أصبحت كابوسا ثقيلا بدكتاتوريتها البشعة التي لا تدع   1 قلنا من قبل إن الاختلاف بين الرأسمالية والشيوعية هو اختلاف في القشرة وليس في الجوهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 للناس فرصة للإحساس بوجودهم فضلا عن أن يحسوا بأنهم يملكون شيئا على الإطلاق! فجو الإرهاب الدائم الذي تمارسه الدولة على الشعب بحجة المحافظة على النظام من أعدائه، وجو الجاسوسية الذي يعيش فيه الشعب إلى حد أن الوالد لا يأمن ولده ولا الزوج يأمن زوجته ولا الأخ يأمن أخاه -ضمانا ألا يجتمع اثنان على سر خشية أن يكون السر مؤامرة على "النظام"- هذا الجو الذي يمكن أن يؤخذ فيه الإنسان بالظنة فيحاكم ويحكم عليه بالإعدام أو الاعتقال في ثلوج سيبيريا أو بأي عقوبة أخرى "رادعة".. هو جو لا يسمح بوجود "التعاطف" بين الشعب والدولة, ذلك التعاطف الذي يحس فيه أن الدولة نائبة عنه في الملكية والإشراف عليها.. فالنيابة لا تكون بالحديد والنار والتجسس ... إنما يخضع الشعب للدولة بعامل الإرهاب المسلط عليه، ويفقد في النهاية أي شعور بملكية شيء على الإطلاق! ولا يبقى له إلا شعوره بالحرمان! ولا ينسى المصريون ما شاهدوه في أسوان أيام كان "الخبراء الروس" يعملون في السد العالي، فقد كانوا يعيشون بطبيعة الحال في جو مختلف عن النظام الذي ألفوه في روسيا، فكان أشد ما عجبت له زوجات أولئك "الخبراء" أن الشراء حر في الأسواق، وأن الإنسان يستطيع أن يشتري بقدر ما يريد، أو بقدر ما تتسع نقوده.. فكن يذهبن إلى بائعي الخضر والفواكه فيسألن في عجب: هل نستطيع أن نأخذ بقدر ما نريد؟! فإذا قيل لهن: نعم! لم يصدقن! حتى وجدن بالممارسة الفعلية أن ذلك ممكن بالفعل! وليست المسألة هي العجب من اختلاف النظام، فهذا أمر طبيعي، وكل إنسان يفاجأ بنظام يختلف عما ألفه وتعود عليه سيعجب في بادئ الأمر حتى يألف، ولكن المسألة هي اللهفة على الشراء، ودلالتها على مدى الإحساس بالحرمان، والفرحة الغامرة بالتخلص من هذا الحرمان ولو إلى أمد محدود! وتكفي هذه التجربة الواقعية للكشف عن حقائق كثيرة في آن واحد، عن الملكية الفردية والملكية الجماعية ... وعن النظام! على أن الذي يعنينا هنا ليس هو البحث في مدى تحقق تلك الأسطورة التي يطلق عليها اسم "الملكية الجماعية" حين تكون الدولة هي المالك الحقيقي ويكون الشعب كله محروما من الملكية! إنما الذي يعنينا أكثر هو الأسطورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 التي تقول إن تلك الملكية الجماعية المزعومة يمكن أن تحل محل الملكية الفردية. لقد زعمت النظرية الشيوعية أن الأصل في الإنسان هو الملكية الجماعية, وأن الملكية الفردية هي انحراف شرير وقعت فيه البشرية بعد اكتشاف الزراعة، وأن الشيوعية الثانية سترد الإنسان إلى أصله "فيستمتع" بالملكية الجماعية ويشفى من هذا الانحراف الخطير الذي أفسد إنسانيته وأشاع الظلم في المجتمع البشري لقرون عديدة من الزمان! ثم فرضت "الدولة" الأمر فرضا بالحديد والنار.. فهل شفيت النفوس من الداء وسلمت من الانحراف، وارتدت إلى أصلها الملائكي المزعوم؟! إن الذي حدث بالفعل -وأشرنا إليه من قبل- أن "النظام" تراجع في عهد ستالين ثم في عهد خروشوف عدة تراجعات. ففي المرحلة الثانية من عهد ستالين كان "النظام" في حاجة إلى زيادة الإنتاج، ومن ثم أعلن ستالين أنه من أراد من العمال -بعد وحدة العمل الإجبارية الأولى- أن يقوم بوحدة ثانية إضافية فسيكون له عليها أجر إضافي يستطيع به أن يحسن أحواله المعيشية فيشتري أنواعا من الطعام أفخر, أو كميات أكبر, وأنواعا من الملابس أرقى مما توفره وحدة العمل الإجبارية. وموضع الدلالة أن الدولة حين احتاجت إلى زيادة الإنتاج لم تجد وسيلة إليه إلا إثارة الحافز الفردي والالتجاء إليه. ولو كانت ترى -أو تعتقد في دخيلة نفسها- أنه يمكن زيادة الإنتاج دون الالتجاء للحافز الفردي لفعلت، خاصة وهي تملك الحديد والنار وتستخدمهما -بإسراف- في جميع المجالات، ذلك أن الالتجاء للحافز الفردي -أيا تكن مبرراته التي تلقى أمام الناس- هو تراجع عن أصل من أصول النظرية، وهو الأصل القائل بأن الملكية الفردية ليست شيئا فطريا, وأن الأصل في الناس هو الملكية الجماعية! موضع الدلالة إذن أن كل بطش الدولة لم يستطع أن "يشفي" الناس من الحافز الفردي ويضع الحافز الجماعي مكانه، ومعنى ذلك أن الحافظ الفردي -الوثيق الصلة بالملكية الفردية- عميق عميق في الفطرة إلى حد لا يمكن انتزاعه، ولو استخدمت في انتزاعه كل وسائل البطش والإرهاب. ثم حدث في فترة حكم خروشوف أن تزايد نقصان المحاصيل الزراعية "وكان هذا التناقص قد بدأ في عهد ستالين ذاته ولكنه لم يكن محسوسا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 بالصورة التي ظهر عليها أيام خروشوف" حتى إن روسيا بدأت تستورد القمح من أمريكا بكميات متزايدة، وكان علاج خروشوف للأمر هو تمليك الفلاحين جزءا من المحصول لأنفسهم. وتمليكهم الدار التي يسكنونها وما تحويه من الأثاث والأدوات وما يمكن أن يشتروه لأنفسهم من هذه الأشياء. وهو تراجع صريح عن مبادئ الشيوعية، دلالته واضحة, وهي أن الملكية الجماعية لم تستطع -بكل وسائل القهر- أن تحل محل الملكية الفردية.. وأن العلاج الوحيد الذي يضطرون إليه جولة بعد جولة هو الإذعان لهذا الدافع الفطري الذي نفوا -في النظرية- وجوده، وجادلوا بكل أنواع الجدل ليثبتوا أنه غير أصيل في النفس البشرية، وأنه "مرض" يمكن "الشفاء" منه! والتجربة التي تمت -في العالم الشيوعي ذاته وعلى يد الدولة الشيوعية ذاتها- تغنينا عن الالتفات إلى كل الجدل الفارغ الذي يجادل به الشيوعيون في أمر الملكية الفردية والحافز الفردي. أما إنشاء مجتمع غير طبقي، وإلغاء جميع الطبقات ما عدا طبقة البروليتاريا وإقامة دكتاتورية البروليتاريا، فقد اختلف التطبيق فيها اختلافا واسعا عن النظرية! ولسنا نتحدث هنا عن "محاسن" إنشاء مجتمع غير طبقي، ولا كون هذا الأمر واجبا أو غير واجب، ممكنا أو غير ممكن1 إنما نتحدث عن الواقع التطبيقي لنرى مقدار قربه أو بعده عن الشيء الذي قالوا إنه واجب أن يكون. لقد زالت طبقة الإقطاعيين نعم، وحال تطبيق الشيوعية في الدولتين الشيوعيتين الكبيرتين دون ظهور الطبقة الرأسمالية، وما كان منها موجودا في الدول الأخرى التي اعتنقت الشيوعية فقد أزيل إما بنزع الملكية الفردية وإما بالإبادة الثورية. ولكن ما الذي حدث بعد ذلك؟! الذي حدث بالفعل أن "طبقة" جديدة بكل تعريف الطبقة ومواصفاتها قد برزت في المجتمع الشيوعي تحت اسم جديد بالمرة هو "الحزب"!   1 نقول نحن إنه ممكن في حالة فقط، حين ينزع حق التشريع من البشر ويتحاكمون كلهم إلى شريعة الله، فعندئذ لا يكون لأحد من البشر سلطة تشريعية يتمكن بها من رعاية مصالحه ومصالح طبقته على حساب بقية الطبقات، ولا يهم في هذه الحالة تفاوت الناس في ثرواتهم؛ لأن هذا التفاوت يظل أمرا فرديا لا طبقيا، ولا يتجاوز حظ كل إنسان من "المتاع" في الحياة الدنيا ... ولنا عود إلى الموضوع عند الحديث عن نظرة الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 والفارق بين أفراد الحزب -بدرجاته المختلفة- وبين أفراد الشعب هو ذات الفارق بين أية طبقة كانت مالكة وحاكمة من قبل وبين الشعب! فأدنى درجات الحزب -وهي العضوية العادية- تنشئ لتوها فارقا ضخما في كل شئون الحياة، وليست العبرة بوجود الملكية الفردية أو عدم وجودها فلم يكن منشأ الطبقية في المجتمعات الطبقية هو مجرد وجود الملكية الفردية كما زعم التفسير الجاهلي للتاريخ، إنما كان ما يترتب على الملكية من سلطان ونفوذ، انطلاقا من مبدأ أن الذي يملك هو الذي يحكم, أي: إن الطبقية في الواقع -وإن نبعت في المجتمعات الجاهلية من الملكية الفردية كما يقول التفسير المادي- إنما هي طبقية السلطان والنفوذ، التي تنبع من قدرة هذه الطبقة على التشريع لحساب نفسها وإلزام الآخرين بالخضوع لهذا التشريع. وقد ألغيت الملكية الفردية من المجتمع الشيوعي, ولكن السلطان والنفوذ الذي تركز في "الحزب" قد جعل منه طبقة متميزة، لها كل سمات الطبقة ومميزاتها سواء في نوع المعيشة -أي: المتاع- أو في النفوذ والسلطان. فمع أن العنوان العام في الشيوعية أنه لا أحد يملك شيئا ملكية فردية فإن هناك فارقا -لا شك- بين أن تكون أنت وأفراد أسرتك جميعا تسكنون في غرفة واحدة في مسكن شعبي بدورات مياه مشتركة "وغالبا ما تكون بلا أبواب! " وبين أن تكون ساكنا في "فيلا" خاصة أو في شقة كاملة في عمارة, حتى ولو كنت غير مالك للشقة أو ما في داخلها من الأثاث ملكية فردية! هناك فارق في نوع المتاع ودرجته، وفارق في مشاعرك حين تكون هنا وحين تكون هناك. ولست أناقش هنا شرعية هذا المتاع أو عدم شرعيته، إنما أقول فقط إنه في النظرية الشيوعية غير جائز وغير شرعي؛ أما في التطبيق فهو موجود، ويتسع الفارق كلما صعد الإنسان الدرجات في "الحزب" حتى يصبح عضوا في اللجنة التنفيذية العليا أو من الأعضاء البارزين في الحزب, فينقلب نعيمه ترفا ما كان يحلم به بعض القياصرة في زمانهم! والشعب في "أكواخه" العصرية، الأسرة كلها في غرفة واحدة تجمع الأم والأب والأطفال بنين وبنات ما دون سن التكليف، وتجري فيها العلاقات الزوجية بين الأم والأب -بحكم الأمر الواقع- في حضرة البنين والبنات، البالغين وغير البالغين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وليس فارق المتاع على أي حال هو الفارق الأهم أو الفارق الوحيد، إنما المهم فارق السلطان. إن مجرد انتقال الإنسان من كونه فردا من أفراد الشعب إلى كونه عضوا في الحزب, ينقله من "شيء" لا وجود له إلى شيء آخر له وجود ملموس، سواء في نظر نفسه أو في نظر المجتمع من حوله؛ لأنه ينقله من طبقة المحكومين إلى طبقة الحكام الذين يسيطرون على كل شيء في المجتمع الشيوعي.. حتى لو كان هو في أسفل طبقة أولئك الحكام. إن تركيز النفوذ في "الحزب" و"الدولة" و"الزعيم" هو الذي ينشئ ذلك الفارق الضخم بين "اللاشيئية" و"الشيئية" في المجتمع الشيوعي ... ولذلك يصبح أكبر مطمح للفرد العادي في المجتمع الشيوعي أن يضع قدمه -مجرد وضع- ولو على أدنى درجة من درجات ذلك النباء الشاهق الذي يمثل السلطان، فيتغير وجوده كله، بل يصبح في الحقيقة موجودا بعد أن لم يكن له وجود. وسبيله إلى هذه النقلة الضخمة التي يتشهاها كل طامح إلى الوجود لا يخرج عن أمر من ثلاثة أمور، أشرفها جميعا- وأندرها- القيام بعمل غير عادي في خدمة "الوطن". أما السبيل الميسرة والمعتادة فهي الملق للحزب وللدولة وللزعيم، والظهور بمظهر التفاني في حبهم جميعا! أو التطوع بالجاسوسية وإلقاء الشبه على الأبرياء تقربا للسلطان وإظهارا للولاء! أما دكتاتورية البروليتاريا فهي شيء بشع إلى أقصى درجات البشاعة التي يتخيلها الخيال، وبالرغم من كل المبررات التي تساق لتبرير النظام البوليسي القائم على الحديد والنار والتجسس فستبقى حقيقة واحدة لا سبيل إلى محوها ولا إنكارها، أن الدكتاتورية القائمة ليست -كما زعموا- دكتاتورية البروليتاريا، إنما هي الدكتاتورية الواقعة على البروليتاريا. إن حجم الشعب الروسي -على وجه التقريب- هو مائتان وخمسون مليونا من البشر، والحزب الشيوعي يكون منه ستة ملايين، ستة ملايين من المحظوظين -على درجات مختلفة من الحظ- في وسط هذا الخضم الهائل من القطع الآدمية التي لا وزن لها ولا كيان. عملها أن تنتج كالآلة ثم تغرق في حمأة الجنس كالحيوان، وليس لها بين هذا وذاك قلوب ولا مشاعر ولا وجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 في الوضع السياسي هم أولئك الأصفار الذين لا يقدمون ولا يؤخرون ولا يقام لهم وزن، ولا عبرة بمسرحية الانتخابات ولا بقول الشيوعيين عن أنفسهم إنهم هم "الديمقراطية" الحقيقية! ولسنا ندافع عن المسرحية الأخرى القائمة في الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية. فقد سبق أن عرضناها على حقيقتها، ولكنها تحمل على أقل تقدير "مظهر" الحرية "و"مظهر" الاختيار. وإن كانت الغالبية العظمى ممن يصلون إلى المجالس النيابية هم -كما بينا- أدوات الرأسمالية الحاكمة، ولا تستطيع هذه المجالس، مهما قيل فيها من "كلام" أن تتخذ قرارا ضد المصالح الحقيقية للرأسمالية الحاكمة. أما حين يكون الناس كلهم حزبا واحدا -بأمر الدولة- هو حزب الدولة, فإن المسرحية تفقد حتى ذلك المظهر المزيف، وتصبح سخرية ضخمة لا متعة فيها على الإطلاق! ما الفرق بين أن تنتخب هذا الصفر أو هذا الصفر أو ذاك الصفر، إذا كانوا كلهم أصفارا من جهة، وكلهم يمثلون وجهة نظر واحدة من جهة أخرى, وكلهم لا يملكون الكلام إلا بإذن الدولة وبالقدر الذي تأذن به الدولة من جهة ثالثة؟! إن المسرحية كلها واحدة ... نعم! ولكنك ربما تكون على استعداد لمشاهدة المسرحية والتلهي بها حين يكون الممثلون يؤدون دورهم المرسوم لهم وكأنهم يؤدونه من عند أنفسهم، أما حين تسمع صوت الملقن واضحا يملي على الممثل أقواله وأفعاله فلا شك أن المسرحية تكون في حسك سمجة وغير مستساغة، وإن كتب عنها في لوحة الإعلان أنها "مسرحية الديمقراطية الحقيقية"! وفي الوضع الاقتصادي هم أولئك الكادحون ... كانوا وما زالوا.. الذين يقومون بأشق الجهد وينالون أقل الجزاء، ويستمتع غيرهم "بفائض القيمة" لأنهم أصحاب نفوذ وأصحاب سلطان! وليس من الضروري أن يكون "فائض القيمة" نقودا توضع في الجيوب، فغياب المظهر لا ينبغي أن يخدعنا عن حقيقة الجوهر، ففائض القيمة هنا هو المتاع الموفر -بصرف النظر عن الملكية- وهو السلطان والنفوذ! حين يمرض الفرد من البروليتاريا يعالج بالأدوية المحلية، وحين يمرض الفرد من الحزب الحاكم يعالج بالدواء الأجنبي! وحين يتنقل الفرد من البروليتاريا يتنقل في المركبة العامة التي لا تراعي فيها أسباب الراحة, بينما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 عضو الحزب يتنقل في السيارة الخاصة -ولو لم يملكها! - فإن كان عضوا "كبيرا" في الحزب فله السيارات الأجنبية المريحة المكيفة.. وهذا غير المسكن الذي أشرنا إليه من قبل وغير صنوف الطعام. ما الفرق بين هذا وبين التمتع بفائض القيمة في المجتمع الطبقي الذي كانوا -وما زالوا- ينددون به؟! وفي الوضع الاجتماعي هم أولئك الأحجار المتراصة التي يبنى بها البناء ليسكنه السكان! السكان هم الحزب بدرجاته المختلفة من أول العضو العادي إلى "الزعيم" والبروليتاريا مجرد بناء مقام ليسكن فيه هؤلاء! هل يحس الحجر من الساكن؟ أو يهمه أن يعرف؟ أو يتغير وضعه بتغير السكان؟! كلا! إنهم أحجار! على أن أبشع ما في الوضع كله هو الإرهاب البوليسي الذي يقع الشعب كله تحت وطأته. من ذا الذي يجرؤ أن يقول كلمة واحدة في نقد الحاكم؟ سواء في سره أو في العلانية؟ أما في العلانية فلا يلومن إلا نفسه إذا وجد رأسه طائرا عن عنقه، ولا يوجد شخص "عاقل" يصنع ذلك الصنيع! وأما في سره فالجاسوسية تكشف النقاب عنه، ومجرد الخوف من الجاسوسية يرهب القلوب ويكمم الأفواه. ومع ذلك كله تظهر بين الحين والحين في كل نظام شيوعي حركات التطهير التي يذهب ضحيتها المئات والألوف. وهذه "النكتة" من عهد خروشوف كافية لإعطاء صورة الإرهاب.. في المؤتمر الخمسين للحزب الشيوعي وقف خروشوف يندد بستالين ويقول عنه إنه كان دكتاتور سفاح مجرم سافل دنيء! وإنه غلطة لا ينبغي أن تتكرر ... وإنه ارتكب من الجرائم البشعة ما تقشعر له الأبدان ... وهنا تقدم "مجهول" بسؤال مكتوب إلى خروشوف يقول له فيه: إنك كنت عضوا بارزا في الحزب الشيوعي ورأيت هذه الجرائم كلها وكنت عالما بوقوعها، فلماذا سكت على ارتكابها؟ وقرأ خروشوف الورقة -وكان حاضر البديهة حاضر النكتة- فقال: من الذي أرسل إلي هذه الورقة؟! وبالطبع لم يجب أحد! فقال خروشوف: الآن قد عرفت السبب! لقد كنت خائفا مثلك فلم أنبس ببنت شفة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وكون هذه نكتة لا يغير شيئا من الحقيقة، ولا يخفف شيئا من بشاعة الإرهاب.. فهي نكتة ذات دلالة على الواقع المرهوب. والمهم على أي حال أنها ليست "دكتاتورية البروليتاريا" كما كانوا يزعمون في النظرية، إنما هي الدكتاتورية التي تعاني غصتها البروليتاريا المسحوقة تحت الأقدام، إنما كانت أسطورة تمليك المصانع للعمال، وأسطورة منح السلطة للعمال مجرد إغراءات دعائية ليقبل الناس على الفخ المنصوب! أما كفالة الدولة لكل فرد من أفراد المجتمع فهي الشيء الوحيد الذي برزت به الشيوعية في عالم الواقع على كل جالهيات التاريخ. لا يوجد فرد لا يأكل ولا يلبس ولا يسكن من كل أفراد الشعب. وهذا هو الواجب الذي نكلت عنه الدولة الإقطاعية والدولة الرأسمالية على السواء، وإذا كانت الدولة الرأسمالية الحديثة قد اقتربت من أداء هذا الواجب شيئا من الاقتراب بالضمانات الاجتماعية والإعانات التي تصرف للمتعطلين من نقاباتهم أو من الدولة، وبالرعاية الصحية المجانية، وبالخدمات المجانية العامة ... إلخ، فإنها لم تبلغ بعد الحد الذي التزمت به الدولة الشيوعية، فضلا عن كونها قد فعلت ما فعلت لا بدافع إنساني ولكن خوفا من الشيوعية من جهة, وخوفا من الضرر الذي يلحقها إذا لم تستجب لطلبات العمال المطالبين بهذه الحقوق. ولكن لنا على هذه الكفالة مجموعة من الملاحظات، إذا قسناها على الكفالة التي قررها الإسلام لكل فرد من أفراد الأمة قبل ذلك بثلاثة عشر قرنا من الزمان. تكفل الدولة الشيوعية أفرادها على الحد الأدنى الذي وصفناه من قبل، ومع ذلك لا تكفلهم وهم كرماء على أنفسهم ولا على دولتهم! ولا نتحدث الآن عن تكليفهم بالعمل -رجالا ونساء- مقابل كفالتهم، أي: إن الدولة لا تتفضل عليهم بالكفالة إنما هي تجندهم لحسابها وتستصفي جهدهم كله قبل أن تعطيهم ضرورات حياتهم، وتهددهم تهديدا صريحا بقولها: من لا يعمل لا يأكل. لا نتحدث الآن عن هذا. فالعمل على أي حال هو الأصل في حياة الإنسان وليست البطالة هي الأصل.. ولكنا نقول إن الدولة الشيوعية بإلغائها الملكية الفردية والعمل الحر، وتحويل كل الناس إلى إجراء للدولة، إنما تستذلهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 الواقع بلقمة الخبز، فلا يملكون أن يتوجهوا بكلمة نقد واحدة للقائمين بالأمر خوفا على لقمة الخبز أن تضيع.. ولذلك بخلاف الإرهاب بالحديد والنار والتجسس، الذي يزيد من مذلة الناس وانكماشهم وخضوعهم للظلم الواقع عليهم دون التفوه بكلمة أو إشارة تدل على عدم الارتياح فضلا عن الاحتجاج الصريح. ولقد زعمت الشيوعية أن الذل الوحيد في الأرض هو عمل الإنسان أجيرا لإنسان آخر، وزعمت أنها هي التي ستخلص الناس من الظلم وتمنع الاستغلال حين تمنع تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر. نعم ... ولكن ما الفرق بين تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر. وتأجيره "للدولة" التي هي شخص معنوي في الكلام فقط، ولكنها في الواقع مجموعة من البشر يحملون من السلطان ما يجبرون به الناس على أداء العمل الذي يطلبونه منهم، وما يعاقبونهم به إذا قصروا في أدائه؟ وأيهما أذل -في عالم الواقع- الأجير الذي يملك ولو ذرة واحدة من الحرية في اختيار نوع العمل ومكانه، واختيار شخص "السيد" الذي يبيع له جهده، والمساومة على زيادة هذا الأجر، والاحتجاج على انخفاضه إذا رآه كذلك، أم الأجير الذي لا يملك ذرة من الحرية في تلك الأمور كلها، لا اختيار نوع العمل ولا مكانه، ولا اختيار "السيد" الذي يخدمه -فهو مفروض عليه بالحديد والنار- ولا حق الاحتجاج على الأجر المنخفض ولا طلب زيادته ... وإن فتح فمه بكلمة يموت جوعا، إن لم يمت بوسيلة أخرى غير الجوع؟! وأية سفسطة تلك التي تقول إن الذل لا يكون قائما حين تكون "الدولة" هي التي تسخر الناس للعمل وهي التي تمنح الأجور؟! ما تعريف الذل؟! وما اسم ذلك الإحساس الذي يحسه الإنسان حين يجد أنه لا يملك حريته في أي أمر من الأمور، وأن عليه أوامر ينبغي أن يطيعها، وواجبات ينبغي أن يؤديها، دون أن يكون له حق الاعتراض على شيء من الأشياء؟! أم يحلونه عاما ويحرمونه عاما؟! يحلونه إذا كان صادرا منهم ومحققا لمصلحتهم، ويحرمونه إذا صدر من غيرهم أو لم يكن في صالحهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 قضية المساواة في الأجور لا تزيد على أن تكون واحدة من الأساطير الكثيرة التي بددها التطبيق. في عهد لنين والجزء الأول من عهد ستالين طبقت روسيا بصرامة مبدأ المساواة في الأجور لجميع العمال في الاتحاد السوفيتي، ولكن هل كانت هناك مساواة عامة في الأجور بالنسبة لكل العاملين؟ هل كان أجر المهندس كأجر العامل؟ وأجر الطبيب كأجر الممرض؟ وأجر الجندي كأجر الضابط؟ إن هذا بداهة مستحيل! ومع استحالته فقد ظلت النظرية الشيوعية تنافح عن قضية المساواة وتندد بقضية التفاوت في الأرزاق! ثم جاء اليوم الذي انهارت في المساواة حتى في صفوف العمال أنفسهم، بعد أن كانت منهارة ما بين العمال وغيرهم من العاملين، فقد لجأ ستالين -كما أسلفنا- إلى إباحة العمل بعد الوحدة الإجبارية الأولى لقاء أجر إضافي ينفق في "الكماليات".. وهكذا ضاعت المساواة تماما ولم يعد لها وجود! ويقولون إن هناك أجور عالية جدا في الاتحاد السوفييتي. وقد تحسب لأول وهلة أنها أجور المهندسين. أو علماء الذرة ... أو علماء الصواريخ، أو الأطباء "وكلهم من ذوي الأجور العالية في الاتحاد السوفيتي" ولكنك تسمع الحقيقة المذهلة في النهاية! إنها أجور المطربين والمطربات والراقصين والراقصات والملهين عامة والملهيات! الأجر على قدر الخدمة! هل تعلم الخدمة الجليلة التي يقوم بها المطربون والمطربات والراقصون والراقصات والممثلون والممثلات في اتحاد السوفييتات؟! نعم!! إنها "تلهية" الشعب عن الإحساس بالضغط البشع الواقع عليه ... لكي ينسى ... لكي لا ينفجر! إن الضغط على الكائن البشري من جميع منافذه أمر غاية في الخطورة؛ لأنه يولد الانفجار ... ودكتاتورية البروليتاريا لا تستغني عن الضغط السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري الذي تمارسه على البروليتاريا "التي تحكم باسمها! " وإلا أفلت الزمام؛ وتزلزلت الدولة وتزلزل "النظام"! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 فلا بد إذن من التنفيس عن الناس في جانب من الجوانب ليتسرب الغضب المكظوم قبل أن يكون التجمع الذي يولد الانفجار. والمتنفس هو الشهوات.. والملهيات.. فأما الجنس فيمارسه الناس لأنفسهم أنى شاءوا وكيفما شاءوا لا حجر عليهم ولا تدخل في "إرادتهم"! وأما التلهية فيقوم بها الملهون من المطربين والراقصين والممثلين من الرجال والنساء.. فينالون "تقدير" الدولة على خدمتهم الهائلة, وينالون أعلى الأجور! المهم في الأمر على أي حال أن المساواة أسطورة غير قابلة للتطبيق في دنيا الواقع.. ومع ذلك فما زالوا يتحدثون عن المساواة في النظرية، وما زالوا ينددون بالتفاوت في كل نظام يجدونه فيه! لو قالوا منذ البدء نريد أن نقرب الفوارق بين الفئات المختلفة من الناس ونضمن حدا أدنى معقولا لكل الناس ... ! لو قالوا لقلنا نعم.. للنظرية على الأقل بصرف النظر عن واقع التطبيق! يقول الشيوعيون في نظريتهم إن الحياة في الشيوعية الأولى "كما يتخيلونها" هي الأصل الذي ينبغي أن تعود البشرية إليه، وإن الشيوعية الثانية هي التي ستردهم إلى هذا الأصل الجميل ... فيما عدا استثناء واحدا في أمر لم يرق لهم الشيوعية الأولى فحذفوه! ذلك هو الدين! ففي الشيوعية الأولى "كما يتخيلونها" كان عند البشرية دين. وهنا -فقط- قالوا إن هذا كان بسبب بداوة البشرية وقلة معلوماتها عن الكون المادي وعدم سيطرتها على البيئة! أما فيما عدا ذلك فلا دخل للبداوة في شيء على الإطلاق! ولما كانت الشيوعية الثانية تأتي من غير بداوة، فقد وجب القضاء على العنصر الوحيد الذي سببته البداوة وهو الدين! وفي التطبيق اشتد الشيوعيون في محاربة الدين. فلم يكتفوا بتحريم الحديث فيه، ومعاقبة من يضبط "متلبسا" بالحديث في الدين مع شاب أو فتاة جون الثامنة عشرة، بل بالغوا في الاحتياط فوضعوا في مناهجهم الدراسية درسا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 للإلحاد في مكان درس الدين! فحيث يضع البشر كلهم درسا للدين في مدارسهم -مؤمنين وغير مؤمنين- يتحدثون فيه عن الله، يضع الشيوعيون في مدارسهم درسا يقال للتلاميذ فيه إنه لا إله. والكون مادة "أي: بلا خالق". ولا مكان للمتدينين في الدولة الشيوعية، وقد قتل ستالين وحدة ثلاثة ملايين ونصف مليون من المسلمين في عهده؛ لأن الشيوعية كانت قد طلبت معونة المسلمين في الثورة ضد قيصر، ووعدتهم بأن تجعل لهم مكانة خاصة إذا نجحت الشيوعية، وتترك لهم حرية ممارسة حياتهم الإسلامية، فلما طالبوا بتحقيق الوعد، حققه ستالين لهم على هذا النحو بالقتل والتعذيب والتشريد الجماعي. ولقد اضطرت الشيوعية إلى "التراجع" عن قرار الإبادة الجماعية الذي كان مقررا من قبل، حين سنحت لهم فرصة الانتشار والتوغل في العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الثانية، فوجدوا أن قرار الإبادة سيعوق انتشارهم ويفوت عليهم فرصة قد لا تسنح من بعد، فأعلنوا أنهم "متسامحون" وأنهم لا يتعرضون لأصحاب العقائد الدينية بالإيذاء، ولعلهم كانوا قد ظنوا أنه لم يعد هناك خطر من "التسامح" بعد إبادة من أبادوه ونفي من نفوه وتشريد من شردوه! ولكن دخولهم أفغانستان لإبادة المسلمين هناك يدل على أن تقديراتهم في هذا الأمر لم تكن على صواب! فهم اليوم يضربون المسلمين الأفغان حتى لا يتجمع غدا المسلمون الروس! وبصرف النظر عن وضع المسلمين في الدولة الشيوعية، فإن الشيوعية تكره الدين كراهية شديدة كما أسلفنا، وتحاربه بكل وسائل الحرب، وتتمنى اليوم الذي يزول فيه من الوجود. وفي إمكاننا أن نستدل من هذه الحرب ذاتها على عمق الدين في الفطرة! فلولا أنه عميق في الفطرة كل هذا العمق ما خافت الشيوعية من عودته كل هذا الخوف ولا حاربته كل هذه الحرب. ولكنا لسنا في حاجة إلى الاستدلال عن طريق غير مباشر، فقد أغنانا حديث "جاجارين" عن ذلك، وشهدت الفطرة على لسانه أنه لا إله إلا الله ... وهو الذي ولد وتربى في ظل الإلحاد الرسمي والشعبي على السواء! إلى هنا كنا نتحدث عن "الواقع" التطبيقي للشيوعية بالقياس إلى النظرية.. ورأينا أن مبادئ كثيرة من التي تقوم عليها النظرية أثبتت عدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 جديتها أو عدم واقعيتها عند التطبيق، كقضية الملكية الجماعية، وإحلالها محل الملكية الفردية، وقضية البروليتاريا ووضعها في مكان السلطة، وقضية الطبقات وإلغائها، وقضية المساواة التامة بين الجميع. ولكن بقيت في النظرية "وعود" لم تتحقق بعد، ويتذرعون -لعدم تحقيقها- بشتى المعاذير ... بقي المبدأ القائل بأنه يؤخذ من كل بحسب طاقته ويعطى كل بحسب حاجته. وإلغاء الحكومة، وإلغاء الصراع. وهم يستخدمون بشأنها أسلوب الشاعر العربي: منى إن تكن حقا تكن أعذب المنى وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا! أي: في الخيال والتمني! وقد كان من حقنا أن ننفض أيدينا من هذه الأماني، ونقول: دعونا حتى تقع بالفعل! أو نقول إن ما مر من التجربة الشيوعية في الأمور السابقة لا يبشر بتحقيق شيء من هذه الوعود، فإن أمورا أكثر واقعية من هذه بكثير أثبتت التجربة عدم واقعيتها أو عدم جدية الشيوعيين في الحديث عنها إلا للدعاية والترغيب فحسب! ولكننا ننظر في طبيعة هذه الأمور فنجدها -بطبيعتها- غير قابلة للتحقيق! من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته1 بلا حكومة ولا صراع! متى كان الناس بهذه الملائكية حتى نفترض أنهم يمكن أن يعودوا إليها في يوم من الأيام؟! أوليسوا هم الذين يقولون إنه بمجرد اكتشاف الزراعة جنح الناس إلى الملكية الفردية، وظهر الطمع والجشع واختلف وضع الناس في المجتمع، وانتهت المساواة والتعاون والود والإخاء وحل محلها الصراع؟! أي: بمجرد ظهور شيء يمكن امتلاكه! فما الذي تغير في طبائع البشر حتى يجيء عليهم يوم لا حكومة فيه ولا رقابة، ثم يبذل كل منهم طاقته -حبا في الحق والعدل فقط، أو حبا في الإنسانية، أو حبا في أي قيمة من القيم العليا "التي لا وجود لها في ذاتها كما يقولون! "- ثم يأخذ فقط بقدر حاجته، ويقدر هذه الحاجة بلا طمع ولا جشع ولا إسراف؟! إن المثاليين الذين ينعي الشيوعيون عليهم عدم واقعيتهم لم يبلغوا هذا الحد من الإسراف في الخيال! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 ولقد وصل أفراد من البشر إلى هذا المستوى بالفعل مرة واحدة في التاريخ على عهد رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم، فكان كل إنسان منهم يبذل أقصى ما في طاقته من الجهد ابتغاء مرضاة الله فحسب, ثم لا يجد في نفسه حاجة مما أوتي ويؤثر أخاه على نفسه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} 1. {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 2. ولسنا نقول إن هذه الصورة حدثت مرة واحدة وهي غير قابلة للتكرار في أي جيل قادم من أجيال البشرية، ولكنا نقول أولا إن هذا -بالتجربة- لم يحدث إلا ابتغاء مرضاة الله، ولا يمكن لأي قيمة أخرى من القيم -غير الإيمان الصادق بالله- أن ترفع الإنسان إلى هذه الصورة الرفيعة الشفيفة العالية. ونقول ثانيا إنه ليس كل الناس يرتفعون إلى هذا المستوى السامق الرفيع، فقد كان إلى جوار هؤلاء -في نفس الجيل ومستمدين من نفس المنبع- من قال فيهم رب العالمين: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} 3. والإسلام في واقعيته لا يفترض أن كل الناس يصلون إلى القمة، وإن كان يدعو كل الناس أن يحاولوا الصعود إليها، ثم يرضى منهم بما يصلون إليه في محاولتهم ما داموا لا يهبطون عن المستوى الذي حرم الله الهبوط عنه، أو ما داموا لا يصرون على الهبوط إذا غلبتهم مرة دوافع الشر رغم المجاهدة والتطلع إلى الخير: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 4. {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولَئِكَ   1 سورة البقرة: 207. 2 سورة الحشر: 9. 3 سورة محمد: 38. 4 سورة الأنعام: 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} 1. أما حلم الملائكية العامة الشاملة التي ستعم البشرية كلها ذات يوم، ودون أي احتياط لإمكان الهبوط من أحد الناس أو كل الناس "بإلغاء الحكومة التي يمكن أن تردع الهابطين" فحلم أقل ما يقال فيه إنه ما وضع إلا للتخدير! ليرضى الناس بالحرمان والشقاء الحالي، والضغط الإرهابي الذي لم تشهده حتى قساوة القرون المظلمة، على أمل تحقق تلك الجنة الموعودة في الأرض في يوم من أيام التاريخ! كانوا يقولون إن الدين أفيون الشعوب؛ لأنه يخدرهم عن عذاباتهم الحاضرة بحلم الجنة في الآخرة! فما القول في هذا الأفيون العجيب الذي تقدمه الشيوعية للكادحين؟! إن الدين -في صورته الكنسية التي استخدمت بالفعل لتخدير الشعوب- كان يحوي بعض الحقائق وبعض الأباطيل، فوجود الله حق، ووجود الآخرة حق، ووجود الجنة حق. أما رضاء الله بالظلم، ودعوة الناس إلى الرضا بالظلم في الدنيا ليمنحهم الله الجنة في الآخرة فباطل؛ لأن الله أمر الناس أن يرفضوا الظلم الناشئ من تحكيم شرائع غير شريعة الله، وأمرهم أن يجاهدوا لتغيير المنكر. وأما الذين يحتجون بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض وأنهم رضوا من أجل ذلك بالظلم فيسميهم الله {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} ويقول فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 2. نعم كان الدين الكنسي يحوي بعض الحقائق وبعض الأباطيل ... فما القول في هذا المخدر الشيوعي الذي لا يحمل شيئا من الحق وكله أباطيل! أي الفريقين -وكلاهما على باطل- أشد استخداما "للأفيون" في تخدير الجماهير؟!   1 سورة آل عمران: 135-136. 2 سورة النساء: 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 بين الشيوعية والإسلام : آن لنا أن ننتهي من الحديث عن الشيوعية في كل مجالاتها، سواء في المادية الجدلية أو المادية التاريخية أو المذهب الاقتصادي.. لولا أن بعض المسلمين -بل بعض الدعاة من المسلمين- يتحدثون عن "اشتراكية الإسلام" وعن إمكانية اللقاء بين الشيوعية -أو الاشتراكية- وبين الإسلام. فنعود إلى ذات المقاييس التي استخدمناها فيما بين الديمقراطية والإسلام. 1- قضية المعبود. 2- قضية إنسانية الإنسان. إن الشبه العارض الذي يمكن أن يكون قائما بين الاشتراكية والإسلام في مبدأ كفالة الدولة لكل أفرادها، وتقريب فوارق الفئات المختلفة من الناس، لا يجوز أن ينسينا الاختلاف الجوهري في القاعدة التي يقوم عليها كل من النظامين، فضلا عن الاختلاف حتى في هذا الشبه العارض في تلك الجزئيات. إن القضيتين الرئيسيتين في حياة الإنسان كما أشرنا إليهما وشرحناهما من قبل هما هاتان القضيتان: قضية الألوهية وقضية الإنسانية، وكل ما بقي من الأمور فهي أمور ثانوية بالنسبة لهاتين القضيتين، أو هي أمور تتفرع -تلقائيا- من هاتين القضيتين. فأما المعبود في الشيوعية أو الاشتراكية فهو ليس الله قطعا بتصريحهم هم بأفواههم "لا إله. والكون مادة" "أي: بلا خالق" وقد يكون الإله عندهم هو المادة. أو هو الدولة. أو هو الحزب. أو هو النظام. أو هو الزعيم. ولكنه على أي حال ليس الله. ومن هنا يستحيل اللقاء بين النظامين مهما كانت الأشباه العارضة هنا أو هناك. وأما الإنسان فهذا وضعه في التصور الشيوعي وفي التطبيق! في التصور هو نتاج المادة، وهو تلك الأداة السلبية التي تحركها الحتميات "مستقلة عن إرادتهم"! وفي التطبيق هو تلك الآلة المنتجة في قسم من الوقت، وهو ذلك الحيوان الغليظ الحس في بقية الوقت، وهو ذلك الصفر اللاشيء في كل الوقت.. إلا أن يكون من الآلهة المحظوظين، عضوا في الحزب على أقل تقدير، أو زعيما مقدسا على أعلى تقدير! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 أما ذلك الشبه العارض في مبدأ الكفالة الشاملة وتقريب الفوارق بين الناس فهو أولا لا يبرر اللقاء بين النظامين مع وجود ذلك الاختلاف الجوهري في قضية الألوهية وقضية إنسانية الإنسان. وهو ثانيا شبه غير كامل حتى في الجزئيات. فالكفالة في الإسلام ليست مقابلا لتكليف الناس بالعمل على طريقة من لا يعمل لا يأكل، إنما هي حق إنساني بحت لكل من يحتاج إليه بسبب من الأسباب، وكفالة المرأة بالذات واجب مفروض في الإسلام على الرجل لكي لا تنشغل أعصابها ولا يذهب جهدها في العمل خارج البيت على حساب مهمتها العظمى في تنشئة الأجيال، كما أن الكفالة تتم في الإسلام بغير إذلال الناس بلقمة الخبز، ودون دكتاتورية الدولة التي ترهق القلوب وتخنق الأنفاس. إن الإسلام -دين الله الحق- قد فرض على الدولة المسلمة كفالة كل فرد فيها يحتاج إلى كفالة.. وجعل مهمة بيت المال هي هذه الكفالة لمن يعجز عن كفالة نفسه بنفسه. أو عجزت أسرته القريبة عن كفالته. وجعل المجتمع كله مكلفا بألا يكون فيه محتاج1. وقد أشرنا من قبل إلى قولة عمر رضي الله عنه، التي عبر فيها عن مسئوليته لا عن الآدميين فحسب، بل عن كل كائن حي يحتاج إلى الكفالة حيث قال: "لو عثرت بغلة ببغداد "أو قال بصنعاء" لكنت مسئولا عنها لِم لم أسو لها الطريق! ". ولكن الإسلام في كفالته للناس لا يستذلهم بلقمة الخبز كما تصنع الشيوعية بل يكفلهم وهم كرماء على أنفسهم وعلى الناس، فهو يكلف الدولة المسلمة بهذه الكفالة دون مقابل على الإطلاق، لا العمل، ولا الخضوع المذل للحزب ولا الدولة ولا الزعيم! إن المطلوب من المسلم -سواء كفلته الدولة أو كفل نفسه بنفسه أو كفلته أسرته أو كفله القادرون في المجتمع- أن يعبد الله وحده بلا شريك، وأن يقيم دين الله في نفسه وفي مجتمعه بإقامة شريعة الله والحكم بما أنزل الله. والمطلوب منه -من بين المطلوبات- أن يكون رقيبا على ولي الأمر لينظر هل قام بواجبه في إقامة الشريعة على الوجه الصحيح أم انحرف في التطبيق! ولقد كان سلمان الفارسي ممن تجري عليهم الدولة الإسلامية نصيبا من بيت المال.. وهو الذي قال لعمر رضي الله عنه: لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة حتى   1 راجع الحديث عن مسئولية الدولة المسلمة في كفالة جميع أفراد المجتمع في الفصل السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به! وهو كذلك الذي قال له: والله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيف! والإسلام يحض على العمل بكل وسائل الحض, ويوضح للناس أن الإنسان خلق ليقوم بعمارة الأرض, وليمشي في مناكبها ويبتغي من رزق الله، وأن العاطلين المتبطلين لا يحبهم الله ولا يحبهم رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك فلا يجعل كفالة الجدولة لأفرادها مقابل قيامهم بالعمل.. إنما مقابل إنسانيتهم فقط ومقابل حاجتهم! فكون الإنسان إنسانا وكونه محتاجا إلى الكفالة هما كل مقومات كفالة الدولة للفرد في الإسلام، وهذا هو الفرق بين فضل الله وكرمه وبين كزازة البشر حين يكون بأيديهم المال والسلطان! {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} 1. ثم إن الإسلام في كرمه وتفضله قد حض على العمل نعم، ولكنه لم يحوج المرأة إلى العمل خارج البيت من أجل أن تحصل على لقمة الخبز! بل قرر لها الكفالة الكاملة وهي مستقرة في بيتها، عاملة فيه، قائمة بأنبل مهمة يقوم بها البشر في الأرض، وهي تنشئة الجيل الناشئ ليخرج إلى الحياة سويا مستقيما على أمر الله. فأين هذا من إكراه المرأة على العمل خارج البيت في كنس الشوارع وحمل الأمتعة في المطارات ومحطات السكك الحديدية تحت هذا التهديد المرعب: من لا يعمل لا يأكل! وهذا فضلا عما في إخراجها من مهمتها الفطرية من إفساد الفطرة وإفساد للنشء وإفساد للأخلاق! وأمر آخر يأتي بهذه المناسبة تتضح لنا حكمته في الإسلام على ضوء ما وقع في التطبيق الشيوعي. لقد قرر الإسلام مبدأ الملكية الفردية تقريرا واضحا لا شبهة فيه، وإن كان قد وضع للملكية حدودا كثيرة تحقق الخير وتمنع الشر. وللإسلام حكمته -بل حكمه- في إقرار الملكية الفردية على هذا النحو. ولكن حكمة معينة تبدو لنا الآن من خلال التطبيق الشيوعي ربما لم تكن واضحة للناس من قبل، هي حرص   1 سورة الإسراء: 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 الإسلام على أن تكون أرزاق الناس بأيديهم -على قدر الإمكان- لا بيد الدولة! وذلك حتى لا يستذل الناس بلقمة الخبز! فحين يكون العمل حرا، والاسترزاق حرا لا يحس الناس بسطوة الدولة كما يحسون بها لو كانوا كلهم أجراء للدولة كما هو حالهم في الشيوعية. وصحيح أن أولي العزم من البشر لن يحسوا بالمذلة للدولة ولو كانت لقمة الخبز في أيديها، ولكن الإسلام في واقعيته لا يفترض في كل الناس أنهم من أولي العزم. إنما يتعامل معهم بحسب واقعهم ويعلم أنهم عرضة للضعف أمام الضغوط الواقعة عليهم. لذلك جعل التكافل في الأسرة والمجتمع هو الأصل الكبير الذي تقوم عليه الحياة في المجتمع الإسلامي، وجعل كفالة الدولة المباشرة هي الاحتياط الأخير الذي يسد الثغرات التي لم تستطع سدها الأسرة ولا المجتمع. ويظل الناس بعيدين عن سطوة الدولة بقدر الإمكان ليقوم التوازن السياسي في المجتمع الإسلامي. ولي الأمر له على الناس السمع والطاعة. والناس لهم على ولي الأمر النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي الرقابة على تنفيذ شريعة الله. وعلى ضوء الخط المستقيم المتمثل في دين الله يتبين لنا مدى الانحراف في الجاهليات، وفي الجاهلية الشيوعية بالذات. أما تقريب الفوارق بين الناس فلا يتم في الإسلام بمصادمة الفطرة وقتل الحافز الفردي. إنما الإسلام دين الفطرة يتمشى معها ويرفعها إلى أقصى ما تطيق من درجات الرفعة ولكن دون مصادمة لاتجاهاتها الأصيلة. ومن ثم لا يلغي الإسلام الملكية الفردية إنما ينظمها على الوجه الذي تستجيب فيه للفطرة دون أن يترتب عليها الشر، ثم يضع في يد ولي الأمر الصلاحية الدائمة لتصحيح الأوضاع إذا اختلت رغم كل التنظيمات والترتيبات. وتنظيمات الإسلام وترتيباته تتضمن أولا نظافة الوسائل التي يحصل بها الإنسان على المال، فلا غصب ولا نهب ولا سرقة ولا غش ولا ربا ولا احتكار ولا أكل حق الأجير. وتتضمن ثانيا تزكية المال بإخراج زكاته التي توضع في بيت المال لتقوم الدولة منها -ومن الموارد الأخرى المشروعة- بكفالة من يحتاج إلى الكفالة من الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وتتضمن ثالثا ضرورة إنفاق المال وعدم حبسه عن التداول. فإما أن يوظف المال في عمل نافع فيستفيد منه المجتمع ويستفيد منه الأفراد الذين يعملون فيه، وإما أن ينفق إنفاقا مباشرا في أبواب الإنفاق التي شرعها الله، بما يحقق كفالة القادرين لغير القادرين في المجتمع. وتتضمن رابعا تحريم الإنفاق في المعصية، وكراهة الإنفاق في الترف والسرف كراهة تشبه التحريم. وتتضمن خامسا تنظيما دقيقا للمواريث يفتت الثروة على الدوام ويعيد توزيعها في كل جيل. وأخيرا تقرر الشريعة مبدأ "لا ضرر ولا ضرار" فتضع في يد ولي الأمر سلطة التصحيح كلما وقع ما يوجب التصحيح دون مصادمة للفطرة ولا إعنات للناس. وليس هنا مجال التفصيل، إنما يطلب ذلك في الكتب المتخصصة في هذه الأمور، ولكن تكفينا هذه الخطوط العريضة لبيان الفارق بين الإسلام والشيوعية أو الاشتراكية حتى في المواطن التي يبدو فيها وجود شبه عارض في بعض الجزئيات. إن الإسلام نظام متكامل، وأجهزته كلها تعمل من داخله، وتعمل بوسائله الذاتية، وليس في حاجة أن يستعير أجهزة أجنبية عنه، ولا في الإمكان تركيب هذه الأجهزة الأجنبية لتدور معه في دائرته؛ لأنها من مقاس غير مقاسه، وتعمل على قاعدة غير قاعدته.. ليس الإسلام نظاما اشتراكيا كما أنه ليس رأسماليا ولا ديمقراطيا ... الإسلام هو الإسلام ... وهو هو كما أنزله الله. وإذا كنا نعتقد -بصدق- أن الاشتراكية تحمل مشابه من الإسلام في بعض النقاط, فلماذا نأخذها من الاشتراكية ولا نأخذها من الإسلام؟! فلنكن صرحاء مع أنفسنا، ولننف الهزيمة الداخلية من أرواحنا -أيا كانت أسبابها- ولنطلب الإسلام باسم الإسلام، فهذا هو الاسم الذي قرره الله من فوق سبع سموات: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} 1. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2.   1 سورة آل عمران: 19. 2 سورة آل عمران: 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 العلمانية مدخل ... العلمانية: "العلمانية" هي الترجمة العربية لكلمة "Secularism, Secularite" في اللغات الأوروبية، وهي ترجمة مضللة؛ لأنها توحي بأن لها صلة بالعلم, بينما هي في لغاتها الأصلية لا صلة لها بالعلم. بل المقصود بها في تلك اللغات هو إقامة الحياة بعيدا عن الدين، أو الفصل الكامل بين الدين والحياة. تقول دائرة المعارف البريطانية في تعريف كلمة "Secularism". "هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا وحدها. ذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر. ومن أجل مقاومة هذه الرغبة طفقت الـ"Secularism" تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية البشرية، وبإمكانية تحقيق طموحاتهم في هذه الحياة القريبة، وظل الاتجاه إلى الـ"Secularism" يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية"1. وهكذا يتضح أنه لا علاقة للكلمة بالعلم، إنما علاقتها قائمة بالدين ولكن على أساس سلبي، أي: على أساس نفي الدين والقيم الدينية عن الحياة، وأولى الترجمات بها في العربية أن نسميها "اللادينية" بصرف النظر عن دعوى "العلمانيين" في الغرب بأن "العلمانية" لا تعادي الدين إنما تبعده فقط عن مجالات الحياة الواقعية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.. إلخ, ولكنها تترك للناس حرية "التدين" بالمعنى الفردي الاعتقادي على أن يظل هذا التدين مزاجا شخصيا لا دخل له بأمور الحياة العلمية. بصرف النظر عن هذا الاعتراض الذي سنناقش مدى حقيقته بالنسبة للحياة الأوروبية ذاتها، كما سنناقشه بالنسبة للإسلام لنتبين مدى تطابقه أو   1 Encyc. Britianica V.IX.p.19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 عدم تطابقه مع المفاهيم الإسلامية، فإن "اللادينية" هي أقرب ترجمة تؤدي المقصود من الكلمة عند أصحابها، ولكنها مع ذلك سنظل نستخدم المصطلح المعروف عند الناس -مع بيان بعده عن الدقة- حتى يتفق الكتاب على نبذ هذا المصطلح المضلل، واستخدام اللفظة الأدق. نبذ الدين وإقصاؤه عن الحياة العلمية هو لب العلمانية. وتبدو نشأة العلمانية في أوروبا أمرا منطقيا مع سير الأحداث هناك، إذا رجعنا إلى الظروف التي شرحناها من قبل في التمهيد الأول من هذا الكتاب. أي: إلى عبث الكنيسة بدين الله المنزل، وتحريفه وتشويهه، وتقديمه للناس في صورة منفرة، دون أن يكون عند الناس مرجع يرجعون إليه لتصحيح هذا العبث وإرجاعه إلى أصوله الصحيحة المنزلة، كما هو الحال مع القرآن، المحفوظ -بقدر الله ومشيئته- من كل عبث أو تحريف خلال القرون. فمن المعلوم أن الإنجيل المنزل من عند الله لم يدون على عهد المسيح عليه السلام، إنما تلقاه عنه حواريوه بالسماع، ثم تشتتوا تحت تأثير الاضطهاد الذي وقع على أصحاب الرسالة الجديدة سواء من اليهود أو من الرومان، فلما بدأ تدوينه بعد فترة طويلة من نزوله كان قد اختلط في ذاكرة أصحابه، كما اختلطت النصوص فيه بالشروح، ثم غلبت الشروح على النصوص.. ووقع الاختلاف والتحريف والتصحيف الذي يشير إليه كتاب التاريخ الأوروبي ومؤرخو الكنيسة على السواء، واستبد رجال الدين بشرح ما سمي الأناجيل "مع أن المنزل من عند الله إنجيل واحد لا معنى للتعدد فيه" ثم استبدوا أكثر بالاحتفاظ بعلم "الأسرار" التي نشأت من التحريف والتصحيف والتي لا أصل لها في دين الله المنزل، ثم زاد استبدادهم -كما أسلفنا في ذلك التمهيد- فصار طغيانا شاملا يشمل كل مجالات الفكر والحياة: طغيانا روحيا وفكريا وعلميا وسياسيا وماليا واجتماعيا.. وفي كل اتجاه. فحين يحدث نفور من الدين في مثل هذا الجو فهذا أمر منطقي مع سير الأحداث وإن لم يكن منطقيا مع "الإنسان" في وضعه السوي، فإذا كان الإنسان عابدا بفطرته، وكان الدين جزءا من الفطرة أو هو طبيعة الفطرة، فإن الإنسان الراشد في مثل الوضع الذي وجدت فيه أوروبا كان ينبغي عليه أن ينبذ ذلك الدين الذي تحوطه كل تلك التحريفات في نصوصه وشروحه، وكل تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 الانحرفات في سلوك رجاله، ثم يبحث عن الدين الصحيح فيعتنقه، وقد فعلت أوروبا الأمر الأول فنبذت دين الكنيسة بالفعل، ولكنها لم تفعل الأمر الثاني حتى هذه اللحظة إلا أفرادا متناثرين لم يصبحوا بعد "ظاهرة" ملموسة. ومن هنا نقول إن الظروف التي أحاطت بالدين في أوروبا تفسر ولا تبرر. تفسر شرود الناس في أوروبا عن الدين ولكنها لا تبرره ... فإنه لا شيء على الإطلاق يبرر بعد الإنسان عن خالقه، ونبذه لعبادته على النحو الذي افترضه على عباده، سواء بالاعتقاد بوحدانيته سبحانه، أو بتوجيه الشعائر التعبدية إليه وحده أو بتنفيذ شريعته، فهذا هو الذي قال الله فيه: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 1. على أن الذي يعنينا الآن ليس هو محاسبة أوروبا على انحرافاتها في مجال الدين والعقيدة، فالخلق صائرون إلى ربهم وهو الذي يحاسبهم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} 2. ولكن الذي يعنينا هو شرح هذه الانحرافات وبيان الصورة التي حدثت عليها، والظروف التي أحاطت بها منذ مبدئها حتى صارت إلى ما صارت إليه. ونخطئ -من وجهة نظرنا الإسلامية- إن قلنا إن "العلمانية" حدثت فقط بعد النهضة، فالحقيقة -من وجهة النظر الإسلامية- إن الفصل بين الدين والحياة وقع مبكرا جدا في الحياة الأوروبية، أو أنه -إن شئت الدقة- قد وقع منذ بدء اعتناق أوروبا للمسيحية؛ لأن أوروبا -كما أسلفنا في التمهيد- قد تلقت المسيحية عقيدة منفصلة عن الشريعة "بصرف النظر عما حدث في العقيدة ذاتها من تحريف على أيدي الكنيسة" ولم تحكم الشريعة شيئا من حياة الناس في أوروبا إلا "الأحوال الشخصية" فحسب, أي: إنها لم تحكم الأحوال السياسية ولا الأحوال الاقتصادية ولا الأحوال الاجتماعية في جملتها. وهذا الوضع هو علمانية كاملة من وجهة النظر الإسلامية3 ولكن الذي تقصده أوروبا بالعلمانية "Secularism" ليس هذا؛ لأنها لم تألف الصورة الحقيقية للدين أبدا في يوم من الأيام! إنما الذي تقصده أوروبا حين تطلق هذه   1 سورة القيامة: 14, 15. 2 سورة الغاشية: 21-26. 3 سنتحدث في هذه النقطة تفصيلا في نهاية الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الكلمة هو إبعاد ما فهمته هي من معنى الدين عن واقع الحياة، متمثلا في "بعض" المفاهيم الدينية وفي تدخل "رجال الدين" باسم الدين في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والعلم والأدب والفن.. وكل مجالات الحياة: ثم إقامة هذا كله بعيدا عن نفوذ الكنيسة من جهة. وبعيدا عن مفاهيم الدين كلها من جهة أخرى بصرف النظر عن وجود الكنيسة أو عدم وجودها. بعبارة أخرى نقول إن ما نبذته أوروبا حين أقامت علمانيتها لم يكن هو حقيقة الدين -فهذه كانت منبوذة من أول لحظة! - إنما كان بقايا الدين المتناثرة في بعض مجالات الحياة الأوروبية أو في أفكار الناس ووجداناتهم. فجاءت العلمانية فأقصت هذه البقايا إقصاء كاملا من الحياة، ولم تترك منها إلا حرية من أراد أن يعتقد بوجود إله يؤدي له شعائر التعبد في أن يصنع ذلك على مسئوليته الخاصة، وفي مقابلها حرية من أراد الإلحاد والدعوة إليه أن يصنع ذلك بسند الدولة وضمانتها!. كيف نشأت هذه العلمانية في أوروبا؟ أي: كيف أقصيت بقايا الدين من الحياة الأوروبية وصارت الحياة "لا دينية" تماما في كل مجالاتها العملية؟ نحتاج أن نتذكر أولا أنه في الوقت الذي لم يكن للدين الحقيقي وجود في أوروبا -سواء في صورة عقيدة صحيحة أو صورة شريعة حاكمة- كان هناك نفوذ ضخم جدا يمارس باسم الدين في مجال العقيدة وفي مجالات الحياة العملية كلها من قبل رجال الدين، ويتمثل في حس الناس هناك على أنه هو "الدين"! أي: إن الصورة الواقعية للدين في أوروبا كانت تتمثل أولا في عقيدة مأخوذة من "الأناجيل" وشروحها تقول إن الله ثالث ثلاثة وإن الله هو المسيح ابن مريم، وتتمثل ثانيا في صلوات وقداسات ومواعظ واحتفالات تقام في الكنائس يوم الأحد بصفة خاصة، وتتمثل أخيرا -وليس آخرا- في نفوذ لرجال الدين على الملوك وعلى عامة الناس؛ فأما نفوذهم على الملوك فيتضمن أنهم لا يجلسون على عروشهم إلا بإذن الباب ومباركته، ولا يتولون سلطانهم على شعوبهم إلا بتولية البابا لهم، وإذا غضب عليهم البابا -غضبا شخصيا لا علاقة له البتة بتحكيم شريعة الله- نبذتهم شعوبهم ولم تذعن لأوامرهم. وأما نفوذهم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 عامة الناس فيتضمن أنهم لا يصبحون مسيحيين إلا بتعميد الكاهن لهم، وليس لهم صلاة إلا بحضور الكاهن، أمامهم في مكان محدد هو الكنيسة، ولا يموتون موتا صحيحا إلا بإقامة قداس الجنازة لهم على يد الكاهن، ولا يعتقدون إلا ما يلقنهم إياه رجال الدين من شئون العقيدة، ولا يفكرون إلا فيما يسمح لهم رجال الدين بالتفكير فيه، وعلى النحو الذي يسمحون لهم به، ولا يتعلمون إلا ما يسمح لهم رجال الدين بتعلمه, ولرجال الدين فوق ذلك نفوذ على أموالهم وعلى أجسادهم وعلى أرواحهم أشرنا إلى جوانب منه من قبل. هذا الدين -بهذه الصورة- مخالف للدين المنزل من عند الله في أكثريته.. ولكنه ليس خلوا بالمرة من حقائق الدين، وهذه شهادة الله فيهم: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} 1. ففيه من حقائق الدين أن الله هو الذي خلق الكون كله، وهو الذي خلق الإنسان على هذه الصورة الإنسانية وجعله عاقلا مفكرا مريدا، وكلفه الأمانة، وكلفه عمارة الأرض والهيمنة عليها، وعرفه أن هناك بعثا ونشورا وحسابا وثوابا وعقابا يوم القيامة، وأن هناك جنة ونارا أبديتين يصير الناس إليهما كل بحسب عمله. وفيه من حقائق الدين كذلك أن الله حرم القتل والسرقة والزنا والربا والكذب والغش والخيانة.. وأوجب على الناس في حياتهم أخلاقيات معينة يتقيدون بها في تعاملهم بعضهم مع بعض، وأن الله شرع الزواج وحرم علاقات الجنس خارجه، وشرع الأسرة وأوجب صيانتها وجعل للرجل القوامة عليها.. إلى آخرما يجري هذا المجرى من حقائق الدين. ولكن الدين المنزل من عند الله ليس فيه أن الله هو المسيح ابن مريم وأن الله ثالث ثلاثة، وليس فيه أن يشرع رجال الدين "الأحبار والرهبان" من عند أنفسهم فيحلوا ويحرموا بغير ما أنزل الله "كما أحلوا الخمر والخنزير وأبطلوا الختان" وليس فيه أن يطلب رجال الدين لأنفسهم سلطانا يرهبون به الناس ويفرضون عليهم ما أحلوا هم وما حرموا من دون الله, كما يفرضون عليهم الخضوع الكامل لأهوائهم في الوقت الذي لا يستخدمون فيه سلطانهم الرهيب في فرض شريعة الله على الأباطرة والملوك ليحكموا بها بدلا من القانون الروماني،   1 سورة المائدة: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 ويكتفون بجعل هذه الشريعة مجرد مواعظ خلقية وروحية من شاء أن يتقيد بها تقيد ومن شاء أن يتفلت منها فلا سلطان لأحد عليه في الأرض، بينما القانون الروماني يعاقب المخالفون له بالقتل أو الحبس أو ما سوى ذلك من العقوبات! وليس في الدين المنزل أن الأرض منبسطة وليست كروية، وأن من قال بكرويتها يحرق حيا في النار! وليس في أن يفرض رجال الدين لأنفسهم -لا للفقراء والمساكين- عشور أموال الناس، ولا السخرة المجانية في أرض الكنيسة. وليس فيه كل ما فعله رجال الدين من فضائح ومخاز ودناءات ... كصكوك الغفران والفساد الخلقي بكل أنواعه ومناصرة الكنيسة للمظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواقعة على الشعوب! ولكن أوروبا حين أنشأت علمانيتها نبذت الدين كله، لم تفرق بين أباطيل الكنيسة وبين حقائق الدين! وصحيح أن الدين الكنسي -بحقائقه وأباطيله- لم يكن صالحا للحياة، ولم يكن مقبولا عند الله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} 1. ولكن أوروبا -كما أشرنا من قبل- حين نبذت دين الكنيسة الفاسد لم تبحث عن الدين الصحيح، الذي يصدق الحقائق ويبطل الأباطيل. كان الدين الكنسي ذا سطوة عنيفة على كل مرافق الحياة في أوروبا في قرونها الوسطى المظلمة، وكان ذلك أمرا سيئا شديد السوء، لا بسبب سيطرة "الدين" على الحياة كما خيل لأوروبا بغباء في جاهليتها المعاصرة، ولكن بسبب سيطرة الفساد الكامن في ذلك الدين الكنسي على كل مرافق الحياة! ولكي نستيقن من الحقيقة في هذا الأمر ما علينا إلا أن نراجع فترة مقابلة "وموازية" من التاريخ، كان فيها الدين الصحيح ذا سيطرة عظيمة على كل مرافق الحياة.. تلك هي الفترة الأولى من حياة المسلمين التي امتدت حوالي سبعة قرون من الزمان ... فكيف كانت؟! كان الهدى، وكان النور، وكان   1 سورة المائدة: 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 العلم. وكانت الحضارة التي عرفت أوروبا طرفا منها في الأندلس والشمال الإفريقي، وكان كل جميل من الأفكار والمشاعر وأنماط السلوك برغم كل الانحراف الذي طرأ على حياة المسلمين في تلك القرون، سواء من جانب الحكام أو من جانب المحكومين! فلم يكن "الدين" في ذاته إذن هو مصدر السوء في الحياة الأوروبية في تلك الفترة "ولنذكر أن أسبانيا -وهي جزء من أوروبا- كانت مزدهرة في نفس الوقت بتأثير الدين الصحيح، كما كانت صقلية وغيرها من الأصقاع الأوروبية التي دخل فيها الإسلام" إنما كان "فساد الدين" هو السبب في ذلك الظلام الذي اكتنف أوروبا في قرونها الوسطى المظلمة الحالكة السواد. وأوروبا لا تحب أن تصدق هذه الحقيقة في جاهليتها المعاصرة -مع أنها حقيقة موضوعية بحتة يشهد بصحتها كل ما كتبه مؤرخوهم المنصفون عن الحضارة الإسلامية- لأن مجرد تصديقها معناه أنهم كانوا مخطئين في نبذهم "الدين" كله بحجة فساد الدين الذي قدمته الكنيسة لهم، وأنهم ما زالوا مخطئين إلى هذه اللحظة للسبب ذاته ... وهم لا يريدون أن يرجعوا إلى الدين بأي وسيلة من وسائل الرجوع! مرة أخرى لا نريد أن نحاسب أوروبا على انحرافاتها في مجال الدين والعقيدة، إنما نشرح فقط خطوات ذلك الانحراف. كانت سيطرة الدين الكنسي على الحياة الأوروبية في قرونها المظلمة أمرا سيئا كما قلنا -برغم سيطرة بعض الفضائل الدينية على الحياة وخاصة في الريف الأوروبي- لأن ذلك الدين -بما حواه من انحرافات جذرية في العقيدة من ناحية، وفي فصل العقيدة عن الشريعة من ناحية أخرى, وفي فساد ممثليه من رجال الدين وجهالتهم من ناحية ثالثة-كان مفسدا للحياة ومعطلا لدفعتها الحية كما كان مفسدا للعقول ومعطلا لها عن التفكير السليم. لذلك كان نبذ ذلك الدين والانسلاخ منه أمرا ضروريا لأوروبا إذا أرادت أن تتقدم وتتحضر وتعيش ... ولكن البديل الذي اتخذته أوروبا بدلا عن دينها لم يكن أقل سوءا إن لم يكن أشد، وإن كان قد أتاح لها كل العلم والتمكن المادي الذي يطمح إليه البشر على الأرض، تحقيقا لسنة من سنن الله التي تجهلها أوروبا وتجهل حكمتها؛ لأنها لا تؤمن بالله وما نزل من الوحي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} 1. نعم! لم تكن العبودية للأحبار والرهبان من البابوات ورجال الدين أمرا صالحا للحياة ولو كانوا هم أنفسهم من الصالحين. لأن العبودية لا تصح إلا لله وحده، ولا تصلح الحياة إلا إذا كانت لله وحده.. فكيف وهؤلاء الأحبار والرهبان على ما كانوا عليه من الفساد والجهالة والبعد عن حقيقة الدين؟! {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2. ولم يكن الدين الذي يحوي كل ذلك القدر من الأساطير، ويحارب العلم ويحجر على الفكر، ويفصل بين الدنيا والآخرة فيهمل الدنيا وينبذها من أجل الخلاص في الآخرة, ويحتقر الجسد ويعذبه من أجل خلاص الروح, ويبيح في الوقت نفسه للإقطاعيين أن يمتصوا دماء الفلاحين ويكتنزوا بها ويترفوا ويفسدوا، ويخذل الفلاحين عن الثورة على هذا الظلم بحجة الحصول على رضوان الله وجنته في الآخرة إن رضوا بالمذلة والظلم في الحياة الدنيا.. لم يكن ذلك الدين ليسمح للحياة بالتقدم وهو يلفها بأغلفة سميكة من الظلام. ويقول التاريخ -الذي تكره أوروبا الاعتراف به إلا القلة المنصفة -إن أوروبا بدأت تخرج من ظلمات قرونها الوسطى المظلمة حين احتكت بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها! سواء في الحروب الصليبية أو البعوث التي بعثتها للتعلم في مدارس المسلمين في الأندلس بصفة خاصة، وفي صقلية وغيرها من البلاد التي نورها الإسلام. بل تقول الروايات التاريخية إن رجال الدين المسيحي أنفسهم كانوا يتعاطون الثقافة الإسلامية في تلك المدارس أو فيما ينقل منها إلى اللغات الأوروبية، وإنهم كانوا يترقون في مناصب الأكليروس بقدر ما يحصلون عليه من تلك الثقافة"! 3. ويقول روجر بيكون "في القرن الثالث عشر الميلادي": "من أراد أن يتعلم فليتعلم العربية؛ لأنها هي لغة العلم".   1 سورة الأنعام: 44. 2 سورة التوبة: 31. 3 انظر كتاب "المستشرقون" لنجيب العقيقي، ج1، ص113-120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 ولقد وجدت أوروبا حين احتكت بالمسلمين عالما عجيبا بالنسبة إليها، ليس فيه بابوات ولا رجال دين! وليست فيه أسرار عقيدية يختص بعلمها فريق من الناس دون فريق.. وليس فيه "نبلاء! " يستعبدون الناس في إقطاعياتهم.. وليس فيه حجر على العقول أن تفكر، ولا حجر على العلم أن يبحث ويجرب وينشر أبحاثه على الناس. يقول "راندال" في كتابه "تكوين العقل الحديث" "ترجمة جورج طعمة ج1 ص314 من الترجمة العربية". وبنوا "يقصد المسلمين وإن كان يستخدم لفظة" العرب" تحاشيا لذكر المسلمين! " في القرن العاشر في أسبانيا حضارة لم يكن العلم فيها مجرد براعة فحسب، بل كان علما طبق على الفنون والصناعات الضرورية للحياة العلمية، وعلى الإجمال كان العرب يمثلون في القرون الوسطى التفكير العلمي والحياة الصناعية العلمية اللذين تمثلهما في أذهاننا اليوم ألمانيا الحديثة". ويقول ليوبولد فايس "محمد أسد" في كتابه "الإسلام على مفترف الطرق" "ترجمة عمر فروخ ص39, 40 من الترجمة العربية": "إن العصور الوسطة قد أتلفت القوى المنتجة في أوروبا.. كانت العلوم في ركود، وكانت الخرافة سائدة، والحياة الاجتماعية فطرية خشنة إلى حد من الصعب علينا أن نتخيله اليوم، في ذلك الحين أخذ النفوذ الإسلامي في العالم -في بادئ الأمر بمغادرة الصليبيين إلى الشرق، وبالجامعات الإسلامية الزاهرة في أسبانيا المسلمة في الغرب، ثم بالصلات التجارية المتزايدة التي أنشأتها جمهوريتا جنوة والبندقية- أخذ هذا النفوذ يقرع الأبواب الموصدة دون المدنية العربية". "وأمام تلك الأبصار المشدوهة، أبصار العلماء والمفكرين الأوروبيين، ظهرت مدنية جديدة، مدنية مهذبة راقية خفاقة بالحياة، ذات كنوز ثقافية كانت قد ضاعت ثم أصبحت في أوروبا من قبل نسيا منسيا، ولكن الذي صنعه العرب كان أكثر من بعث لعلوم اليونان القديمة.. لقد خلقوا لأنفسهم عالميا علميا جديدا تمام الجدة.. لقد وجدوا طرائق جديدة للبحث وعملوا على تحسينها، ثم حملوا هذا كله بوسائط مختلفة إلى الغرب، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه لم يدشن في مدن أوروبا النصرانية، ولكن في المراكز الإسلامية: في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وتعلمت أوروبا كل العلم الذي وجدته عند المسلمين، كما أخذت كثيرا من الأصول الحضارية التي وجدتها عندهم1 ولكنها لأمر ما رفضت أن تأخذ الإسلام، رغم السماحة الهائلة التي لمسها المسيحيون من المسلمين في الأندلس! وارتدت من جاهلية الدين الكنسي المحرف إلى جاهلية ما قبل ذلك الدين، الجاهلية الإغريقية الرومانية Greco-Roman لتنشئ على أساسها جاهلية جديدة متقدمة كل التقدم في العلم والتكنولوجيا "على أساس العلم الذي أخذته من المسلمين، والمنهج التجريبي في البحث العلمي الذي استمدته منهم" ومنتكسة أشد الانتكاس فيما عدا ذلك من جوانب الحياة. من الإغريق أخذت عبادة العقل وعبادة الجسد في صورة جمال حسي. ومن الرومان أخذت عبادة الجسد في صورة متاع حسي, وتزيين الحياة الدنيا بكل وسائل العمارة المادية إلى أن يستغرق الإنسان في المتاع وينسى "القيم" التي تكون الإنسان، كما أخذت شهوة التوسع الحربي واستعباد الأمم الضعيفة لحساب الدولة "الأم" في صورة إمبراطوريات. والمهم -بالنسبة لبحثنا الحاضر- أنها بدأت تنبذ الدين! قامت النهضة على أسس معادية للدين من أول لحظة. قامت على أصول "بشرية" بدلا من الأصول الدينية أو الإلهية كما كانت تصورها لهم الكنيسة. كان الدين الذي قدمته لهم الكنيسة على أنه الدين الإلهي دينا أخرويا لا يقيم وزنا للحياة الدنيا، بل يحتقرها ويزدريها ويدعو إلى إهمالها وعدم الالتفات إليها في سبيل الحصول على "الخلاص"، خلاص الروح، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بالتجرد من متاع الأرض، والاستعلاء على مطالب الجسد، والتطلع إلى ملكوت الرب الذي يتحقق في الآخرة ولا سبيل إلى تحقيقه في الحياة الدنيا، ومن ثم فإن "حركة التاريخ" ومحاولة تصحيحها بتصحيح حركة المجتمع كما يقول ولفرد كانتول سميث Wilfred Cantwell Simth في كتاب "الإسلام في التاريخ الحديث Islam in Modern History" لم تكن في حساب الكنيسة   1 انظر كتاب "شمس الله تشرق فوق الغرب" وانظر فصلا بعنوان "المسلمون في أسبانيا" فنونهم وصناعاتهم وما كان لهم من فضل في ثقافة أوروبا في العصر الحديث. بقلم ج. ب. ترند G.B. Trend ص729-760 من الترجمة العربية لكتاب "تاريخ العالم" نشر وزارة التربية والتعليم المصرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 المسيحية لا أيام ضعفها في القرون الأولى ولا حين أصبح لها السلطان1. إنما يسعى كل إنسان إلى خلاصه الشخصي، كالذي يسير على معبر دقيق كل همه ألا يفقد توازنه فيقع في الهاوية، أو كالذي يسير في الوحل كل همه أن يشمر ثيابه ويلتفت إلى مواقع قدميه حتى لا ينزلق أو يتلطخ بالوحل، لا يهمه أن يصحح مواضع أقدام الآخرين أو يقيهم من الانزلاق. ومن هنا فإن هذا الدين في صورته الكنسية تلك لم يكن يسعى إلى تحسين أحوال البشر على الأرض، أو إزالة المظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تقع عليهم، وإنما يدعو إلى الزهد في الحياة الدنيا برمتها، وترك كل شيء على ما هو عليه؛ لأن فترة الحياة الدنيا أقصر وأضأل وزنا من أن يحاول الإنسان تعديل أوضاعه فيها إنما يسعى جاهدا إلى الخلاص منها دون أن يعلق بروحه شيء من الآثام، والمتاع ذاته هو من الآثام التي يحاول المتطهرون النجاة منها بالرهبنة واعتزال الحياة. بل أكثر من ذلك: إن احتمال المشقة في الحياة الدنيا، واحتمال ما يقع فيها من المظالم هو لون من التقرب إلى الله يساعد على الخلاص، ومن ثم دعت الكنيسة الفلاحين للرضا بالمظالم التي كانت تقع في ظل الإقطاع وعدم الثورة عليها لينالوا رضوان الله في الآخرة، وقالت لهم: "من خدم سيددين في الحياة الدنيا خير ممن خدم سيدا واحدا"!. ومن جهة أخرى كان هذا الدين يحصر كيان الإنسان في نطاق محدود محصور أشد الحصر، ليبرز جانب الألوهية في أكمل صورة. ألوهية الله في ذلك الدين معناها السلبية الكاملة للإنسان، وحصر دوره -لا في العبادة بمعناها الواسع أي: على النحو الذي قرره الإسلام، والذي يشمل عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني- إنما في الخضوع لقدر الله القائم، وعدم العمل على تغيير شيء من الواقع المحيط بالإنسان؛ لأن محاولة التغيير- ولو إلى الأحسن- تحمل في طياتها "عدم الرضا" بالأمر الواقع، وهو لون من التمرد على إرادة الله لا يقره ذلك الدين. ومن ثم فإن فاعلية الإنسان محصورة في الطاعة للأوامر الإلهية -كما تعرضها الكنيسة بالحق أو الباطل- لا تتعداها إلى الإنشاء؛ لأنه ليس للإنسان   1 ص30, الطبعة الأولى سنة 1957. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 أن ينشئ شيئا من عند نفسه ولو كان يلتزم في هذا الإنشاء بالهدي الرباني. ومن ثم كذلك كان ثبات الأوضاع في أوروبا في العصور الوسطى لفترة طويلة من الزمان بكل ما تحمل من ألوان الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري والروحي، على أساس أنها قدر الله الذي لا يجوز للناس تغييره, إنما ينبغي الخضوع له والمحافظة عليه تقربا إلى الله. هذا الدين بصورته تلك لم يكن هو الدين المنزل من عند الله، ولم يكن -كما أسلفنا- صالحا للحياة. كان لا بد من نبذه والانسلاخ منه لكي تسير دفعة الحياة في خطها الصحيح. ولقد كان على مقربة من أوروبا -بل في جزء من أرضها- دين آخر يقدم المنهج الصحيح للحياة، فلا هو دين أخروي بحت بمعنى إهمال الحياة الدنيا، ولا هو الدين الذي يفرض السلبية الكاملة على الإنسان، ويفرض عليه الخضوع "للأمر الواقع" وعدم التفكير في تغييره. إنه دين يعمل للآخرة من خلال العمل في الدنيا "الدنيا مزرعة الآخرة". ويبين أن العمل للآخرة لا يعني إهمال الحياة الدنيا {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} 1 {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2. وهو دين يعمل لإصلاح الحياة الدنيا بإقامة المنهج الرباني الذي يأمر بالعدل والقسط، كما يدعو إلى الجهاد لإقامة هذا المنهج ومنع الانحراف عنه، ذلك الانحراف الذي يؤدي إلى فساد الحياة وإلى وقوع الظلم على الناس: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 3. وهو دين يجعل للإنسان إيجابية واسعة في الأرض. فقد خلقه الله ابتداء ليكون خليفة في الأرض: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 4.   1 سورة القصص: 77. 2 سورة الأعراف: 32. 3 سورة الحديد: 25. 4 سورة البقرة: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 ومن شأن الخلافة الهيمنة على الأرض والسيطرة عليها، والإنشاء والتعمير فيها، واستغلال الطاقات المذخورة في السموات والأرض، التي سخرها الله للإنسان من أجل عمارة الأرض، والمشي في مناكب الأرض لاستخلاص الأرزاق المكنونة فيها والظاهرة. {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} 1. {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 2. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} 3. بل إن المنهج الرباني ذاته يستدعي إيجابية الإنسان لتنفيذه, فهو لا ينطبق انطباقا آليا على الأحداث والأشياء، بل الإنسان المستبصر بالهدي الرباني هو الذي يطبقه ويجتهد بفكره ليضع تفصيلات تنفيذه، خاصة وهو منهج حياة كامل، يشمل الثابت والمتغير في حياة الإنسان، فلا بد أن يجتهد على الدوام ليضع للمتغير حلا مستمدا من المبادئ الثابتة في هذا المنهج.. ومن ثم يعمل الإنسان بإيجابيته الكاملة في التنفيذ، سواء إيجابية العزيمة اللازمة لإقامة المنهج والجهاد لإقراره في الأرض أو إيجابية التفكير في الوسيلة المثلى لإقامته.. بل إن قدر الله ذاته يجري من خلال أعمال الإنسان بالخير والشر سواء: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 4. {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 5. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 6. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 7. وهذا الدين الذي يعطي التوازن الصحيح بين الدنيا والآخرة، وبين فاعلية قدر الله وفاعلية الإنسان، وبين العبودية الكاملة لله والإيجابية السوية للإنسان، هو الدين الصحيح الذي تصلح به الحياة في الأرض، وتستقيم به خطى البشر في الحياة الدنيا8.   1 سورة هود: 61. 2 سورة الملك: 15. 3 سورة الجاثية: 13. 4 سورة الروم: 31. 5 سورة النحل: 112. 6 سورة الأعراف: 96. 7 سورة الرعد: 11. 8 انظر فصل التوازن في كتاب خصائص التصور الإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ولكن أوروبا -بدافع العصبية الصليبية- أعرضت عن هذا الدين واتجهت إلى الجاهلية الإغريقية الرومانية، تنتقم بها من الكنيسة ودينها الفاسد الذي يهمل الحياة الدنيا ويلغي الوجود الإيجابي للإنسان. وإذ كانت النهضة في مجموعها "رد فعل" للكبت الواقع على "الإنسان" بفعل التصور الكنسي للدين، والممارسة الكنسية له، وإذا كان الغالب على ردود الفعل هو الاندفاع لا التعقل ولا التبصر ولا الروية ولا الاتزان.. فقد اندفعت أوروبا في نهضتها تنزع من طريقها كل معلم من المعالم الإلهية "سواء كانت إلهية حقا أو مدعاة من قبل الكنيسة" وتضع مكانها معالم بشرية من صنع الإنسان، كما تنزع من طريقها كل ما يتصل بالآخرة لتضع بدلا منه ما يتصل بالحياة الدنيا، وكانت هذه هي بداية "العلمانية" بالتعريف الأوروبي.. لقد أصبح الطابع المميز للفكر الأوروبي منذ النهضة هو التمرد على الدين والتمرد على الله، وكان ذلك نابعا من تأثيرين في آن واحد: التأثير الأول هو روح رد الفعل الذي قام ضد الدين والكنيسة والثاني هو تأثير الجاهلية الإغريقية في هذا الشأن بالذات. فأما رد الفعل فقد أخذ صورة الخروج على كل ما كان سائدا من قبل في فترة السيطرة الكنسية. كان السائد هو ألا يفكر الإنسان لنفسه في شيء من الأشياء إنما يأخذ الأفكار جاهزة من الكتب المقدسة وشروحها عن طريق رجال الدين، سواء كانت الأفكار متصلة بالعقيدة أو بأمر من أمور الدنيا، أو حتى أمور العلم كقضية شكل الأرض. وغني عن البيان أن هذا ليس الموقف الصحيح للإنسان في ظل الدين الصحيح1 ولكن هكذا كانت الممارسة الدينية في ظل الجاهلية الكنسية المنحرفة، والتي من جرائها كان لرجال الدين كل ذلك النفوذ على عقول الناس وأرواحهم، فهم الوسطاء بين الناس وبين الدين ومفاهيمه، بل هم الوسطاء بين الناس وبين الله، والناس -علماء أو غير علماء- لا يبحثون في أي شأن من الشئون ليكونوا فيه رأيا أو موقفا، إنما يسألون رجال الدين ليدلوهم على الرأي   1 سنعاود الحديث في هذه النقطة في هذا الفصل وفي فصل "العقلانية" كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 أو الموقف الذي ينبغي عليهم اتخاذه. هذا بالإضافة إلى أن الأمور التي يسألون عنها هي أولا وقبل كل شيء أمور "الخلاص". الخلاص من أدران الحياة الدنيا للحصول على رضوان الله في الآخرة. وكان رد الفعل أن الإنسان هو الذي ينبغي أن يستشار في الأمور كلها وليس الدين, وأن العقل البشري هو الذي ينبغي أن يكون صاحب القرار وليس الله. ولو كان الأمر متعلقا بالعقيدة أو الأمور الأخروية, وبمقدار ما كان العقل مكبوتا ومحجورا عليه، انطلق هذا العقل يريد أن يقتحم كل ميدان ولو كان خارجا عن اختصاصه! يقتحمه بروح أنه هو صاحب الحق الذي كان ممنوعا من حقه فهو يريد أن يؤكد هذا الحق. ويقتحمه بروح الشك، أو روح المحو لكل ما كان موجودا من قبل ولم يشترك فيه، فهو يريد أن ينشئه من جديد سواء وافق ما كان موجودا من قبل أو خالفه، والأجدر به أن يخالفه لكي يثبت وجوده. بهذه الروح بدأ الكتاب و" المفكرون الأحرار" يهاجمون فكرة الألوهية وينفون الرسالات والوحي، وينفون الحياة الآخرة والجنة والنار, ويقولون إن هذه كلها أوهام تنبتها البشرية في غيبة من العقل. والآن وقد صحا العقل فقد آن الأوان لنبذها وتركها للهمج المتأخرين.. وربما كان خير ممثل لهذا الاتجاه هو "فولتير" الكاتب الفرنسي الملحد المشهور. أما التأثير الثاني الذي أشرنا إليه فهو تأثير الجاهلية الإغريقية التي تصور العلاقة بين البشر والآلهة علاقة صراع وخصام لا يفتر: الآلهة تريد أن تقهر الإنسان وتكبته وتحطمه لكي لا يطمح في أن يكون مقتدرا مثلها، فلا تفتأ كلما حقق نجاحا أن تصب الكوارث فوق رأسه لكي لا يستمتع بثمرات نجاحه، وهو من جانبه دائم التحدي للآلهة، كلما وقع في حفرة من حفائرها عاد يستجع قواه ليصارعها من جديد، وتكفي أسطورة بروميثيوس الشهيرة لبيان هذا المعنى بصورة مباشرة إذ تزعم تلك الأسطورة أن "زيوس" إله الآلهة خلق الإنسان من قبضة من طين الأرض ثم سواه على النار المقدسة "التي ترمز إلى المعرفة" ثم وضعه في الأرض محاطا بالظلام "الذي يرمز إلى الجهل" فأشفق عليه كائن أسطوري يسمى بروميثيوس فسرق له النار المقدسة لكي ينير له ما حوله، فغضب زيوس على الإنسان وعلى بروميثيوس كليهما. فأما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 بروميثيوس فقد وكل به نسرا يأكل كبده بالنهار ثم تنبت له كبد جديدة بالليل يأكلها النسر بالنهار في عذاب أبدي! وأما الإنسان فقد أرسل له زيوس "باندورا" "التي ترمز إلى حواء" لكي تؤنس وحشته "في ظاهر الأمر! " وأرسل معها هدية عبارة عن علبة مقفلة، فلما فتحها إذا هي مملوءة بالشرور التي قفزت من العلبة وتناثرت على سطح الأرض لتكون عدوا دائما وحزنا للإنسان! ويشير جوليان هكسلي إشارة صريحة إلى هذه الأسطورة في كتابه "الإنسان في العالم الحديث Man in the modern world" فيقول إن موقف الإنسان الحديث هو ذات الموقف الذي تمثله هذه الأسطورة، فقد كان الإنسان يخضع لله بسبب الجهل والعجز، والآن بعد أن تعلم وسيطر على البيئة فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر الجهل والعجز على عاتق الله. ويصبح هو الله!! من هذين التأثيرين معا انطلق الفكر "المتحرر" يهاجهم الدين، ويصفه بأنه الأغلال التي تغل الفكر عن الانطلاق، والتي ينبغي أن تحطم لكي يثبت الإنسان وجوده ويقوم بدوره الذي يجب أن يقوم به في الأرض! وفي نفس الوقت اتجه الفكر المنسلخ من الدين إلى البحث عن مصدر آخر للقيم الإنسانية غير الدين! ذلك أن أوروبا لم تكن قد انسلخت بعد من القيم ذاتها كما حدث فيما بعد حين امتد الخط المنحرف فازداد بعدا وانحرافا، أولم تكن قد سنحت الفرصة للشريرين أن يعلنوا الحرب المنظمة على كل مقومات "الإنسان" كما سنحت لهم بعد ظهور الداروينية وإعلان حيوانية الإنسان! ففي تلك الفترة وجد "الفكر الحر! " أنه إن أقر بأن الدين هو مصدر القيم الإنسانية فقد وجب عليه أن يحافظ عليه ولا يهاجمه ولا يسعى إلى تحطيمه! فينبغي إذن أن يبحث ذلك الفكر عن مصدر آخر يستمد منه القيم ويسندها إليه، لكي لا يقول أحد إنه لا يمكن الاستغناء عن الدين! وعلى هذا الضوء يمكننا فهم فلسفة "أوجست كومت" من ناحية، وأفكار جان جاك روسو من ناحية أخرى. فكلاهما يجهد نفسه ليقول للذين يقفون مدافعين عن الدين: ها قد وجدنا مصدرا آخر تنبع منه القيم الضرورية لحياة الإنسان غير الدين، وجدناه في "الطبيعة" وفي "النفس البشرية" وهو مصدر أفضل في إنبات القيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وترسيخها في الدين ... فدعونا إذن من الدين، وتعالوا معنا إلى تلك المصادر "الحرة" التي يقبل عليها الإنسان إقبالا "طبيعيا" و"ذاتيا" دون أن يحس بالقهر المفروض عليه من قوة أعلى منه! وفي الوقت ذاته اتجه هذا "الفكر المتحرر" إلى عبادة الطبيعة بدلا من عبادة الله، ونسبة الخلق إليها بدلا من الله. وقد تحدثنا من قبل عن هذا الأمر بما فيه الكفاية فلا نعود إلى الحديث فيه، ولكن نضعه فقط في مكانه من التسلسل التاريخي. وفي ذات الوقت كذلك اتجه الفن إلى مناجاة الطبيعة بدلا من مناجاة الله, وتأليهها بدلا من تأليه الله1. ومضى الزمن في خطواته، وجاءت الثورة الصناعية ... وجاء مزيد من إبعاد الدين عن الحياة. ففي العهد الزراعي -أو الإقطاعي كما يسمونه- كان ما يزال للدين نفوذ كبير في حياة الناس. كان الملوك قد استقلوا عن سلطان البابا، وقامت "علمانية الحكم" بفصل الدين عن السياسة "أي: إقصاء رجال الدين عن التدخل في شئون السياسة" ولكن الكنيسة كان ما يزال لها سلطان ضخم على أخلاق الناس وعاداتهم وأفكارهم رغم كل الصراعات وكل الاعتبارات. ولكن الثورة الصناعية أحدثت -أو أو أريد لها أن تحدث- هزات عنيفة في حياة الناس. ولقد مر بنا في الفصول السابقة تفصيل ما صنعت الثورة الصناعية في حياة أوروبا، وما بنا من حاجة إلى إعادته، ولكنا نذكر مجرد تذكير بإخراج المرأة إلى العمل وإفساد أخلاقها وإفساد أخلاق الرجل معها، واستغلال قضية المساواة مع الرجل في الأجر لبث روح الصراع في نفس المرأة وإحراج صدرها من قوامة الرجل والعمل في البيت والتفرغ للأمومة، وما نتج عن ذلك كله من تحطيم   1 ليست مناجاة الطبيعة في ذاتها انحرافا عن السلوك القويم في عالم الفن, بل العكس هو الصحيح. فالفن السليم لا بد أن يلتفت إلى الطبيعة ويتفاعل معها. ولقد لفت القرآن الكريم حس المسلمين لفتا شديدا إلى الطبيعة في شتى مظاهرها من الجبال والأنهار والوديان والزروع والرعد والبرق والسحاب والمطر والريح والسماء والأرض.. ولكن المناجاة شيء والتأليه الذي مارسته الفنون الأوروبية العلمانية شيء آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 الأسرة تشريد الأطفال والفوضى الجنسية.. إلخ ونسبة ذلك إلى التطور الذي يهدم ما يشاء من القيم ويلغي ما يشاء! وكانت الطامة العظمى هي الداروينية وإبعاد الإنسان ذاته من عالم الإنسان وإلحاقه بعالم الحيوان، فعندئذ لم تعد هناك حاجة إلى القيم أصلا ... لا الدين ولا الأخلاق ولا التقاليد المستمدة من الدين.. فما حاجة الإنسان إلى شيء من ذلك وهو عريق في الحيوانية مستقر في عالم الحيوان؟ ثم أتى على الإنسان حين من الدهر لم يعد حتى حيوانا! بل هبط عن ذلك دركات فأصبح جزءا من عالم المادة الصماء! لم نكن هنا نستعرض خطوات العلمانية بالتفصيل، فسيأتي شيء من ذلك فيما بعد حين نتحدث عن علمانية السياسة وعلمانية الاقتصاد والاجتماع والعلم والأخلاق والفن.. ولكنا أردنا فقط أن نلفت النظر إلى حقيقة واقعة هي استمرار "الإنسان" في الهبوط كلما أمعن في السير على الخط العلماني. وأيا تكن الأسباب التي أدت بأوروبا إلى العلمانية فهي كما قلنا من قبل تفسر العلمانية ولا تبررها، ولا تبرر بالطبع نتائجها التي أدت إليها، والتي بدأ المفكرون الغربيون أنفسهم يتنبهون إليها وينذرون نتائجها، ولكن دون أن يعرجوا على السبب الحقيقي ولا العلاج الحقيقي! ولئن كانت الكنيسة هي المعتدية على الملوك والعلماء في بادئ الأمر، مما أسفر عن العداء بين الدين والسياسة وبين الدين والعلم، فلم تكن هي المعتدية ولا المتسببة حين أقامت الثورة الصناعية اقتصادياتها على الربا ولجت فيه، وحين سقطت "الأخلاق" واحدا إثر الآخر. حتى الأخلاق التي أقرها "المفكرون الأحرار" في مبدأ عهدهم وهم يناصبون الكنيسة العداء، ويبحثون عن مصدر آخر للقيم غير الدين! إنما استمرأ القوم الفوضى الخلقية وأمعنوا فيها لا للدوافع القديمة التي دفعتهم للخروج على الدين أول مرة، ولكن لأن هذه هي طبيعة السير على المنزلق.. كل خطوة تصبح أشد هبوطا من السابقة.. وهذه طبيعة الحياة حين يكف الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. يزداد المنكر وينتفش ويستفحل حتى يصبح هو الأصل، أو حتى يصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن أجل ذلك لعن الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 1. ويجدر بنا الآن على أي حال أن نستعرض الصورة الراهنة للعلمانية في أوروبا في مجالات الحياة المختلفة، لا على أنها الصورة الأخيرة التي ستقف عندها! فقد لا تقف عند هذا الحد من السوء، وإن لم يكن في وسع الخيال أن يتصور ما هو أسوأ، ولكن لنقيس المسافة بين الأصل الذي كان ينبغي وبين ما وصلت إليه الأمور حين قال الإنسان لنفسه: لقد شب الإنسان عن الطوق ولم يعد في حاجة إلى وصاية الله!   1 سورة المائدة: 78, 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 1- في السياسة : لم تكن السياسة من أول عهدها في الإمبراطورية الرومانية محكومة بالشريعة المنزلة من عند الله، وإن وقعت لفترة من الوقت تحت سلطان البابوات ورجال الدين، يفرضون على الملوك أن ينزلوا على إرادتهم على اعتبار أن إرادتهم من إرادة الله. فقد بينا من قبل أن الفصل بين الدين والسياسة كان قائما من أول اعتناق الدولة الرومانية للمسيحية، إذ اعتنقتها عقيدة فقط، ولم تأخذ من الشريعة إلا ما يتعلق بالأحوال الشخصية، وبقيت الأمور الجنائية والأمور المدنية وعلاقة الحاكم بالمحكوم وغيرها من شئون الحياة الواقعة يحكمها القانون الروماني ولا تحكمها الشريعة المنزلة في التوراة والمعدلة تعديلا جزئيا بالإنجيل: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} 2. {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 3. ولكن الكنيسة مع رضاها بهذا الأمر -المخالف لأمر الله- في أيام ضعفها لم تحاول في أيام سلطانها وسطوتها أن تعود إلى الوضع الديني   1 سورة المائدة: 78, 79. 2 سورة آل عمران: 50. 3 سورة المائدة: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 الصحيح، فتلزم الملوك والأباطرة أن يحكموا بما أنزل الله، وهي تمارس عليهم من السلطان ما لا يستطيعون معه مخالفتها أو الخروج على أمرها, بل استغلت سلطانها في إخضاعهم لأهوائها الخاصة، بينما تركتهم يحكمون بغير ما أنزل الله وهي راضية عنهم كل الرضا ما داموا يخضعون لأوامرها، وهذا هو الذي تسميه أوروبا الحكم الديني أو الثيوقراطي وما أبعده عن الدين! صحيح أن إخضاع الكنيسة الملوك والأباطرة لأهوائها الذاتية كان يتم باسم الدين وتحت شعاراته، ولكن هذا لا يكفي لاعتباره حكما دينيا ما دام لا يحكم بما أنزل الله، ولكن الحس الأوروبي المضطرب يخلط بين الدين ورجال الدين نتيجة اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله، واعتبار أعمالهم وأقوالهم أعمالا دينية وأقوالا دينية ولو كانت بعيدة كل البعد عن حقيقة الدين! مهما يكن من أمر فقد استطاعت الكنيسة بنفوذها أن تجعل الملوك والأباطرة طوع إرادتها، وأعلن البابا "نقولا الأول" "858-567م" بيانا قال فيه: "إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل.."ولذلك" فإن الباب ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين، حكاما كانوا أو محكومين". وأعلن الباب جريجوري السابع "تولى البابوية 1073-1085" "أن الكنيسة بوصفها نظاما إلهيا خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية, ومن حق الباب وواجبه -بصفته خليفة الله في أرضه- أن يخلع الملوك غير الصالحين وأن يؤيد أو يرفض اختيار البشر للحكام أو تنصيبهم حسب مقتضيات الأحوال". ولم يكن ذلك كلاما في الهواء، إنما كان واقعا عاشته أوروبا عدة قرون.. وأبرز الأمثلة التي يرويها التاريخ الأوروبي ما حدث بين "جريجوري السابع" هذا والإمبراطور الألماني "هنري الرابع" مما أشرنا إليه من قبل، "إذ إن خلافا نشب بينهما حول مسألة "التعيينات" أو ما يسمى "التقليد العلماني" فحاول الإمبراطور أن يخلع البابا، ورد الباب بخلع الإمبراطور وإصدار قرار حرمان ضده، كما أحل أتباعه وأمراء مملكته من ولائهم له وألبهم عليه، فعقد الأمراء مجمعا قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الإمبراطور على المغفرة لدى وصول الباب إلى ألمانيا فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد، فوجد الإمبراطور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 نفسه مضطرا إلى استرضاء الباب ولم يستطع أن ينتظر حتى يصل البابا إلى ألمانيا، فسافر إليه في "كانوسا" وظل واقفا في الثلج في فناء القلعة ثلاثة أيام في لباس الرهبان متدثرا بالخيش حافي القدمين عاري الرأس حتى تعطف عليه البابا ومنحه مغفرته! وفي بريطانياحصل نزاع بين الملك "هنري الثاني" وبين "توماس بكت" رئيس أساقفة كنتربري بسبب دستور رسمه الملك يقضي على كثير من الحصانات التي يتمتع بها رجال الدين، ثم إن رئيس الأساقفة اغتيل فثارت المسيحية على هنري الثاني ثورة عنيفة، فاعتزل الملك في حجرته ثلاثة أيام لا يذوق فيها الطعام، ثم أصدر أمره بالقبض على القتلة وأعلن للبابا براءته من الجريمة وألغى الدستور، ورد إلى الكنيسة كل حقوقها وأملاكها ومع ذلك لم يحصل على المغفرة حتى جاء إلى كنتربري حاجا مظهرا ندمه، وسار الأميال الثلاثة الأخيرة من الطريق على الحجر الصوان حافي القدمين حتى دميت قدماه، ثم استلقى على الأرض أمام قبر رئيس الأساقفة المقتول وطلب من الرهبان أن يضربوه بالسياط، وتقبل ضرباتهم وتحمل كل الإهانات في سبيل استرضاء البابا وأتباعه1. ولكن الملوك والأباطرة أخذوا آخر الأمر يتمردون على ذلك السلطان القاهر الذي تستذلهم به الكنيسة، ويطالبون "بالسلطة الزمانية" خالصة لهم على أن تقتصر الكنيسة على السلطة الروحية فحسب، وكان مستندهم في ذلك نظرية الحق الإلهي المقدس. يقول رندال "ج1 - ص277 من الترجمة العربية لكتاب "تكوين العقل الحديث"": "نشأت نظرية الحق الإلهي للملوك في أول عهدها كمحاولة لتحرير الحكومة المدنية، أو العلمانية من رقابة البابا والكهنة، كما أنها كانت ردا على دعواه أن له حقا إلهيا في السيطرة على الأمور الزمنية". ونظرية الحق الإلهي تستند بدورها إلى نظرية رومانية قديمة تعرف بنظرية العقد الاجتماعي.   1 عن كتاب "قصة الحضارة" لول يورانت ترجمة محمد بدران، ج15 - ص194-197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 يقول راندال "ج1 - ص281 من الترجمة العربية من المصدر السابق". "تعود أصول فكرة العقد الاجتماعي إلى الفكر الروماني وفكر القرون الوسطى معا، وقد كانت الإمبراطورية الرومانية -كما ضمنت في مجلة الحقوق المدنية- على القول بأن كل السلطة وكل حق في وضع القوانين يعودان للشعب الروماني، غير أن الشعب تنازل بموجب قانون شهير عن هذه الحقوق للإمبراطور، وهو تفسير طبيعي لمجرى التاريخ الروماني، فجميع حقوق الشعب الروماني وجميع سلطاته انتقلت إلى الإمبراطور، وله وحده حق"إصدار" القوانين وحق تفسيرها، وعندما تم إحياء القانون الروماني في القرون الوسطى، انتبه الإمبراطور إلى هذه النظرية واتخذها سلاحا ضد سيطرة الكنيسة، ثم تبعه في ذلك جميع الأمراء، وهكذا نشأت نظرية العقد الاجتماعي القائلة بأن كل سلطة مدنية ترتكز في أساسها على الشعب، وأن الشعب قد حولها إلى الحاكم ليمكنه من القيام ببعض الوظائف الضرورية، ومن الواضح أنها نظرية ذات حدين.. فقد تفسر لتأكيد سلطة الحاكم الشاملة باعتباره مصدر جميع السلطات، أو لتأكيد سيادة الشعب الأساسية باعتباره المصدر الأخير لتلك السلطة ... ". وكان "مكيافيللي" و"هوبز" من أشهر المدافعين عن الحق الإلهي المقدس، وعن استبدادية الحكام. ويهمنا مكيافيللي هنا أكثر؛ لأنه علم على اتجاه معين في السياسة الأوروبية نلحظ آثاره بشدة في أوروبا العلمانية المعاصرة. هناك حقيقة أكدناها مرارا أن الحكم بما أنزل الله لم تعرفه أوروبا المسيحية في أي يوم من الأيام, وأن علمانية الحكم -بهذا المعنى- قائمة في أوروبا منذ اعتنقت المسيحية، ولكن هذا لم ينف -كما بينا مرارا كذلك- أنه كان للكنيسة ورجالها نفوذ شخصي على الملوك والأمراء طيلة اجتماع السلطة الزمنية والسلطة الروحية في يد الكنيسة، وفي تلك الفترة لم يكن الحكم دينيا بالمعنى الصحيح -وإن سمته أوروبا كذلك- لأنه لم يكن يحكم بما أنزل الله لا من قبل الملوك والأمراء ولا من قبل الكنيسة المسيطرة عليهم، ومع ذلك فقد كان هذا النفوذ الديني الذي تمارسه الكنيسة على الحكام يلزم هؤلاء الحكام بشيء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 "أخلاقيات" المسيحية رضوا أم كرهوا، عن إيمان حقيقي أم عن ملق للروح المسيحية ونفاق.. وليس معنى ذلك أن الحكام التزموا دائما بتلك الأخلاقيات المسيحية، فكثيرا ما كانوا يخالفونها ولكنهم كانوا يحسون بالحرج من مخالفتها، ويعتذرون دائما عن المخالفة بشتى المعاذير. فالذي صنعه مكيافيللي هو تعرية "السياسة" من ذلك القناع الأخلاقي المستمد من الدين، وكشفها عارية من كل أثر للدين أو الأخلاق! جاء يشرع الجريمة السياسية ويجعلها أصلا ينبغي للحكام أن يتبعوه! ولقد كان الحكام -إلا من رحم ربك- يسيرون في سياستهم على أساس أن الغاية تبرر الوسيلة، والغاية طبعا هي غايتهم هم! ولكنهم كانوا -حين يستخدمون الوسائل غير النظيفة لتحقيق غاياتهم غير النظيفة- يستترون وراء عبارات براقة تحوي كل نبيل من القيم والمبادئ والأخلاقيات، أما مكيافيللي فإن الجديد الذي أتى به -وهو خطير في ذاته- أنه أعطى الوسائل الخسيسة في السياسة شرعية صريحة لا مواربة فيها ولا إنكار. ولقائل أن يقول: وماذا أضاف مكيافيللي من عنده إلى الواقع؟ ألم يكن الواقع خسيسا في غاياته ووسائله؟ فكل ما فعل مكيافيللي أنه كان صريحا بالدرجة التي كشف بها القناع عن الواقع المزيف وجعله حقيقة واقعة! نعم: ولكن الفارق -العملي- كبير! وقد لا يتضح الفرق في البداية؛ لأن البداية تكون مجرد مطابقة النظرية للواقع الموجود بالفعل، ولكن الفارق يتبين -ويزداد- مع التطبيق. حين ترتكب المنكر وأنت شاعر بأنه منكر، فستقتصد في ارتكابه فلا تلجأ إليه إلا تحت ضغط قاهر، وستقف في ارتكابه عند الحد الذي ترى أنه لا يطيح بسمعتك كلها أمام الناس، وقد تحاول الرجوع عنه في يوم من الأيام، أما حين يكتسب المنكر في حسك الشرعية فلماذا تقتصد في ارتكابه، ولماذا تقف عند حد من الحدود؟! إنها هي ذاتها حكمة وقوع اللعنة على الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه.. لأنهم لا يقفون في ارتكاب المنكر عند حد معلوم. وحقيقة إن كتاب "الأمير" الذي ألفه مكيافيللي وأعطى فيه الشرعية للوسائل الخسيسة التي يستخدمها الحاكم من كذب وغش وخديعة وقتل وسفك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 دماء ... قد قوبل باستنكار عنيف وقت ظهوره؛ لأن أوروبا -كما أسلفنا- كات نافرة من الدين منسلخة منه، ولكنها ما تزال تعترف "بالقيم" وتحاول الحفاظ عليها ولكن بشرط العثور على منبع آخر لها غير الدين.. ومن ثم ظهرت عدة نظريات تحاول أن تجعل للحكم "أخلاقا" ولكنها غير مستمدة من الدين، كما فعل جان جاك روسو في حديثه عن نظرية العقد الاجتماعي وأوجست كومت في فلسفته الوضعية ... ولكن المنزلق "العلماني" كان لا بد أن يأخذ طريقه.. فمنذ استقلت السياسة عن الدين واستقلت عن الأخلاق المستمدة من معين الدين، لم يكن من الممكن أن تظل لها أخلاق! والقرن -الجاهلي- العشرون خير نموذج لما نقول, فقد قامت في هذا القرن أبشع دكتاتوريات التاريخ! ونظرة إلى ما وقع في أيام موسوليني وهتلر، وما وقع في الدول الشيوعية منذ الثورة الشيوعية حتى اليوم كفيلة بأن ترينا إلى أي مدى انحدرت السياسة "العلمانية" في تبرير الوسيلة بالغاية، وكلتا الوسيلة والغاية ما أنزل الله بها من سلطان! في فاشية موسوليني ونازية هتلر كانت الغاية هي التجمع القومي والعزة القومية وإحلال قومية كل منهما مكانها "تحت الشمس"! وفي سبيل هذه الغاية "التي قد تكون مشروعة في ذاتها إذا خلت من العدوان على الآخرين" استباح كل من الرجلين أن يقتل ألوفا ومئات الألوف من المعارضين باسم "حركات التطهير" و"وحدة الصف" و"القضاء على الثورة المضادة" و"القضاء على الطابور الخامس" وما أشبه ذلك من التعلات. وفتحت معسكرات التعذيب، وذاق الشعب كله ويلات الجاسوسية والإرهاب. وفي الثورة الشيوعية كانت الغاية إزالة الظلم "!! " الذي يقع على الناس من جراء الملكية الفردية والصراع الطبقي واستئثار الطبقة المالكة بالحكم والسلطان والمنافع على حساب الطبقة الكادحة! وقد مر بنا في فصل الشيوعية وصف العدل "! " الذي طبقته الشيوعية والوسائل النبيلة "! " التي طبقت بها ذلك العدل، ومن بينها ذبح ثلاثة ملايين ونصف مليون من المسلمين في عهد رجل واحد.. وإخضاع الشعب كله لألوان من الإرهاب نادرة في التاريخ! أما الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية فهي التي تبيح احتراف المعارضة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 واحتراف التأييد بحسب موضع كل حزب من الحكم، هل هو بداخله أم خارجه، بصرف النظر عن الحق والعدل والمصلحة الوطنية أو القومية، وتبيح الكذب من الساسة على شعوبهم في الدعاية الانتخابية "وغير الانتخابية" وتبيح استخدام وسائل استراق السمع بحجة المحافظة على الأمن، وهي تقوم أساسا على مساندة الطبقة الرأسمالية في امتصاص داء الكادحين وإن أخرجت ذلك كله في مسرحية طريفة اسمها "الحرية والإخاء والمساواة" وهذا كله في السياسة الداخلية ... أما في السياسة الخارجية فالأمر أدهى وأمر. فالقرن الجاهلي العشرون هو الذي شهد أبشع حالات قانون الغاب: القوي يأكل الضعيف. في حربين عالميتين متتاليتين شهد الناس أفظع فنون العدوان في التاريخ, من غازات سامة وقنابل محرقة وتدمير جماعي وقتل للنساء والأطفال والشيوخ والمدنيين غير المحاربين.. إلى أن كانت القمة قنبلتي هيروشيما ونجازاكي الذريتين، اللتين ما تزالان حتى اليوم بعد أربعين سنة من إلقائهما تنتجان أجنة مشوهة بفعل الإشعاع الذري السام، وذلك غير الخراب المدمر الذي أحدثتاه وقت إلقائهما في مساحة كبيرة من الأرض قتلتا فيها كل من عليها من الأحياء من البشر والدواب والشجر، وحرمتا الحياة فيها لأجل غير معلوم! والقنبلة الذرية لعبة صغيرة إلى جوار المدمرات التي اخترعت بعد ذلك، والتي تهدد الحياة في أي حرب تالية تقوم بين الوحوش ويصلاها الآدميون! وذلك إلى إباحة الكذب الدولي والخيانة على أنهما عملة "شرعية" في عالم السياسة الدولية! تبرم المعاهدات لكي تنقض! ويعلم المبرمون جميعا أنها حبر على الأوراق! وأنه لن يتقيد بها أي طرف إلا ريثما يجد الفرصة السانحة للخروج عليها وإلقائها طعمة للنيران! وتتكون عصبة للأمم وهيئة للأمم كلتاهما ستار للسياسة العدوانية التي تتخذها "الدول العظمى" ضد الدول الصغار! وانظر موقف هيئة الأمم "الموقرة" من أية قضية يكون المسلمون طرفا فيها أمام غير المسلمين، يقع العدوان على المسلمين في أي مكان في الأرض فتمرره الهيئة الموقرة باحتجاج شفوي على أقصى تقدير لا يغير شيئا من الواقع ولا يسمن ولا يغني من جوع! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 ويقع الدفاع من المسلمين ضد أي عدوان واقع عليهم فتجند هيئة الأمم قواتها لتأديب المدافعين؛ لأنهم تجرءوا فردوا على المعتدين! وذلك بخلاف الوسائل الفردية التي تستخدمها "الدول العظمى! " بطريقها المباشر لتنفيذ "غاياتها"النبيلة! حين قامت ثورة المجر سنة 1956 ميلادية وجدت روسيا في نفسها من "النبل" ما تحرك به الدبابات الشاهقة تهدم به البيوت على أصحابها أحياء وتردمهم في الركام؛ لأنهم تجرءوا فطلبوا أن يمنحوا حرية التصرف بأنفسهم في أمر أنفسهم دون وصاية الدولة الروسية عليهم.. فهل تقاوم الردة إلا بالقتل الجماعي؟! إلا أن تكون ردة عن دين الله! فما أشد همجية المقاتلين يومئذ إذا قاموا يقاتلون المرتدين ويدعونهم إلى الرجوع في دين الله! كذلك حين قام الأفغانيون يقولون نريد أن تكون لنا الحرية في أن نكون مسلمين؟ فما "أنبل" الجيوش الروسية التي تصب فوقهم القنابل السامة وقنابل النابالم والتدمير الجماعي للقرى وتحريق المزروعات من الجو وحرب الجراثيم وكل محرم في عرف "الإنسان". أما المخابرات الأمريكية فالأرض كلها مجال لمؤامراتها بغير حساب.. نريد انقلابا هنا.. ونريد تغييرا هناك! وسرعان ما تنقلب الارض وتتغير الأحوال! وكل الوسائل حلال! الكذب والغش والتصفية الجسدية وشراء الضمائر بالمال! المهم أن تنفذ الغاية.. والغاية والوسيلة كلتاهما غارفة في الأوحال!! يقول كاتب غربي مشيرا إلى هذه الحقائق بلسان ساخر: "بعض الناس يقض مضاجعهم ما يقترفه العالم الرأسمالي من جرائم وآثام، فيظلون عميا لا يرون جرائم البلشفية وإفلاسها، وكثير منهم يستغلون نقائض العالم الغربي ليصرفوا الانتباه عن فظائع موسكو البشعة.. أما أنا فأقول: لعن الله كليهما"1.   1 من كلام "لويس فيشر" في كتاب "الصنم الذي هوى" "ترجمة فؤاد حمودة" ص274 من الترجمة العربية, عن كتاب العلمانية تأليف: سفر عبد الرحمن الحوالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 2- في الاقتصاد : لم يكن النظام الإقطاعي متمشيا مع الدين الرباني في صورته ومضمونه، ولا كانت فيه أي ذرة من العدل، وإن كانت الكنيسة أوهمت الناس أنه هو النظام الرباني الدائم الثابت الذي لا يتغير؛ لأن أوضاع الناس فيه هي الأوضاع التي قدرها الله منذ الأزل ورضي عنها، واقتضت مشيئته أن يظل الناس عليها إلى الأبد، وأنه من رضي بما فيه من هوان ومذلة وشظف ومشقة فقد استحق من الله الجنة والرضوان! ولكن الناس حين خرجوا من الدين على خط العلمانية لم يستبدلوا بالإقطاع ما هو خير منه، سواء في الرأسمالية أو الشيوعية, بل ظلوا ينتقلون من جاهلية إلى جاهلية حتى هذه اللحظة، وكلما حاولوا أن يصلحوا الظلم جاءوا بظلم جديد، وهذا هو شأن البشر دائما حين يشرعون لأنفسهم ويرفضون الهدي الرباني، ينقسمون أولا إلى سادة وعبيد، سادة في أيديهم المال والسلطان، يشرعون، وحين يشرعون فإنهم يضعون القوانين التي تضمن مصلحتهم وتسخر الآخرين لهم، وعبيد ليس في أيديهم مال ولا سلطان، فلا يشرعون، إنما يقع عليهم ما يضعه السادة من تشريعات، ويسخرون -رضوا أمم أبوا- لمصلحة أصحاب السلطان.. ومن جهة أخرى يصيبهم الخبل والاضطراب والتخبط نتيجة القصور البشري والجهل البشري والعجز عن الإحاطة والعجز عن رؤية المستقبل الذي ينبني على الحاضر. نعم، ولكنه مع ذلك غيب لا يمكن التنبؤ به عن يقين. ولم يكن الإقطاع -كما أسلفنا- نظاما ربانيا، ولا كانت فيه ذرة من عدل.. ولكن النفوذ الذي كان للدين على القلوب -مع كل ما كان في ذلك الدين من تحريفات، وفي أهله من فساد- كانت له جملة من الآثار في أهل الريف الأوروبي الذي يعيش في ظل الإقطاع. فمن جهة كان عند الناس "أخلاق" يتعاملون بها، مستمدة من تعاليم ذلك الدين، وكانت هذه الأخلاق أبرز ما تكون في قضية العفة الجنسية وقدسية الرباط المقدس بين الزوجين، وكانت كذلك تشمل حسن الجوار وترابط أفراد المجتمع عن طريق التزاور والمجاملات الاجتماعية، ومن حهة أخرى كان في نفوس الناس رضى وقناعة تجعل الحِمل العصبي الذي يعانونه محتملا في النهاية رغم سوء الأحوال الاقتصادية إلى أقصى حد.. وما بنا أن ندافع عن الظلم المتمثل في الإقطاع، ولا حتى عن الرضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 الذليل الذي كانت الكنيسة تطلبه من الفلاحين مقابل الوعد بنعيم الآخرة، فإن الدين الصحيح يطلب من الناس أن يثوروا على مثل ذلك الظلم ويصححوه بتحكيم شريعة الله، ولكنا نقرر واقعا تاريخيا كان قائما بالفعل بخطئه وصوابه، لنقيس به الواقع التاريخي الذي تلاه على خط العلمانية حين خرج الناس من نفوذ ذلك الدين.. فقد بقي الظلم -من حيث المبدأ- كما هو، ولكن ذهبت الأخلاق، وذهب الرضى من نفوس الناس! وأصبح الحمل العصبي الذي يعانونه أبشع من أن يطاق! فانتشر الجنون والقلق والانتحار والحالات العصبية والنفسية وإدمان الخمر والمخدرات والجريمة. لم تكن "المكيافيللية" في الحقيقة مقصورة على عالم السياسة، إنما كانت دينا جديدا حل محل الدين المخلوع! الغاية تبرر الوسيلة. لا في السياسة فقط، ولكن في الاقتصاد والاجتماع كذلك ... بل في كل شيء تدخل فيه الوسائل والغايات. يقول "سول" في كتاب" المذاهب الاقتصادية الكبرى" "ترجمة الدكتور راشد البراوي، ص50, 51 من الترجمة العربية" عن الفترة التي نبذ فيها الدين ولكن ظلت بقايا القيم -قبل اندثارها- يبحث الناس لها عن سند غير الدين: "سيطرت فكرة الآخرة على المذاهب السائدة خلال العصور الوسطى، وإن لم تسيطر على العادات والتقاليد، والمجال الدنيوي بما فيه الحياة الإنسانية نفسها ليس سوى مكان يستعد فيه الناس للحياة بعد الموت بما تشتمل عليه من ثواب وعقاب، فكان على المرء أن يتحمل الألم وهو عالم أنه ليس إلا مقدمة لما يتوقع في حياة مستقبلة.. أما الدافع الفكري على تقويم العادات الاجتماعية أو زيادة الرفاهية الدنيوية فكان ضئيلا، اللهم إلا من حيث الفائدة الروحية التي يمكن اجتناؤها". "والآن تحول الاهتمام فأصبح محصورا في تحسين الحياة على الأرض، وكشفت العلوم والمخترعات عن إمكانات الأرض لذاتها، لقد كانت المكاسب المادية ظاهرة في كل شيء، وكان لا حد لها من حيث وجود أساليب أفضل وأيسر لإنتاج الأشياء، وسرت روح المغامرة". "وهنا برز السؤال التالي: أليس في وسع الفلسفة أن تعالج النظم البشرية بنفس الطريقة التي تدرس بها الأشياء المادية؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 "وكان الجواب بالإمكان، ذلك أن المطلوب إنما هو تطبيق العقل على الأساليب التي يستخدمها الناس كيما يعيشوا "في الأصل: كيما يعيشون" معا وراح الكثيرون يصوغون الخطط والمشروعات التي تكفل قيام الحياة المثالية أو اليوتوبيا". "وصار لزاما على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك ووجدوه في الطبيعة.. أما الذي ظلوا على استمساكهم بالدين ولو باللسان -وإن لم يكن في الواقع كما هو أغلبهم- فقد اعتقدوا أن الله يعبر عن إرادته عن طريق الطبيعة وقوانينها وليس بوسيلة مباشرة، وبذلك لم تعد الطبيعة مجرد شيء له وجود فحسب، وإنما هو شيء ينبغي أن يطاع، وصارت مخالفتها دليلا على نقص في التقوى والأخلاق". ويقول راندال في كتاب "تكوين العقل الحديث" "ج1، ص468 من الترجمة العربية" عن الفترة التالية التي تم فيها الانسلاخ من القيم كلها بعد فقدان معينها الحقيقي وهو الدين: "هكذا كان العلم "يقصد علم الاقتصاد السياسي" يبدو في الظاهر محاولة مجردة عن المصلحة، للوصول إلى فيزياء اجتماعية للثورة، لكنه كان في الحقيقة تبريرا منظما للمطالب التي تهدف إلى زيادة حرية جمع المال وتستعين بالعلوم الجديدة البشرية والطبيعية". ويقول "روبرت داونز" في كتاب "كتب غيرت وجه العالم" "ترجمة أحمد صادق وزميله، ص73 من الترجمة العربية": "النظرية الأساسية في كتاب ثروة الأمم1 نظرية ذات نزعة مكيافللية، وهي أن العامل الأول في نشاط الإنسان هو المصلحة الشخصية، وأن العمل على جمع الثروة ما هو إلا مظهر من مظاهرها، وبذلك قرر أن الأنانية والمصلحة الشخصية تكمن وراء كل نشاط للجنس البشري. وصارح الناس باعتقاده أنها ليست صفات ممقوته يجب الابتعاد عنها، وإنما هي على العكس عوامل تحمل الخير إلى المجتمع برمته، وفي رأيه أنه إذا أريد توفير الرفاهية للأمة فلا بد من ترك كل فرد يستغل أقصى إمكانياته لتحسين مركزه بشكل ثابت منظم دون تقيد   1 "كتاب ثروة الأمم هو من تأليف "آدم سميث" فيلسوف الرأسمالية وإمامها الفكري وقد كان له دوي هائل في الغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 بأي قيود، فللحصول على غذائنا لا نعتمد على كرم الخمار1 أو الخباز أو الجزار، وإنما هم يقدمونه لنا بدافع من مصلحتهم الشخصية، وإنا عندما نخاطبهم لا نتجه إلى ما فيهم من دوافع إنسانية، وإنما نتجه إلى مصلحتهم المادية، ولا نكلمهم عن احتياجاتنا، بل عما يعود عليهم من نفع وفائدة". هذه الصورة المادية البحتة هي التي شكلت روح الرأسمالية ورسمت سمات الحياة في ظلها، ففقد الناس آدميتهم بالفعل وصاروا إلى ذلك المسخ الذي يعيش اليوم في الغرب الرأسمالي. ينقل كنث لن في كتابه "تطور المجتمع الأمريكي" "ترجمة نعيم موسى - ص112 من الترجمة العربية" من كلام جورج فيتزهيو، أحد الذين ساءهم وضع الرأسمالية في نهاية القرن الماضي ما يلي: "إننا جميعا في الشمال والجنوب نعمل في تجارة الرقيق الأبيض، وبقدر نجاح الشخص فيها يزداد احترامه.. وهذه التجارة أشد قسوة من تجارة الرقيق الأسود؛ لأنها تفرض المزيد من العمل على عبيدها ... وفي الوقت الذي لا تحميهم فيه ولا تسوسهم برفق تفاخر بأنها تفرض المزيد "أي: من العمل"". "نعم إنه "أي: العامل" بعد إنهاء عمل اليوم يصبح حرا، إلا أنه يظل يرزح تحت عبء العناية بعائلته وبيته، مما يجعل حريته سخرية جوفاء باطلة، في حين يبقى رب العمل حرا بالفعل، ويستطيع أن يتمتع بالأرباح التي جناها من عمل الآخرين دون اهتمام بمصلحتهم ورفاهيتهم". أما ما تلا تلك الفترة حتى اليوم في العالم الرأسمالي فمعروف لا يحتاج إلى بيان، ففوارق الدخل بين العمال وأصحاب رءوس الأموال فوارق بشعة إلى حد مذهل ... ولا يأتي هذا الربح المتضخم -كما أسلفنا في فصل الديمقراطية- إلا من الوسائل الخسيسة التي تستخدمها الرأسمالية لتحقيق غاياتها الخسيسة، وكلها محرم في دين الله: 1- الربا ... 2- أكل مال الأجير وعدم توفيته حقه ... 3- إفساد فطر الناس وأخلاقهم ليقبلوا على منتجات ليس فيها فائدة حقيقية لهم، ولكنها تدر على الرأسماليين أرباحا طائلة لا تدرها المنتجات الجادة التي   1 لاحظ أثر الجاهلية في اعتبار الخَمَّار واحدا من مقدمي الغذاء ... بل في مقدمتهم! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 يحتاج إليها الناس حقا في حياتهم النظيفة المستقيمة. 4- وأخيرا الاحتكار ... والنتيجة الأخيرة التي تحققها الرأسمالية العلمانية من طرفيها المتمثلين في أصحاب رءوس الأموال والعمال، هي الفساد الخلقي الفاحش، والقلق العصبي الذي يؤدي إلى الانتحار والجنون والخمر والمخدرات والجريمة وتفكك الأسرة وتشريد الأطفال والهبوط المستمر بالإنسان إلى عالم الآلة وعالم الحيوان ... أما الشيوعية فربما كانت أسوأ بديل عرفته البشرية إلى اليوم ... حقيقة إن الشيوعية هي النظام الجاهلي الوحيد -حتى اليوم- الذي فرض على الدولة كفالة كل فرد يعيش في ظلها، ولكن ذلك -كما أسلفنا- لم يكن كرما إنسانيا منها، فهي تأخذ مقابل ذلك جهد الفرد كله، و"من لا يعمل لا يأكل" على الحقيقة لا على المجاز، ثم إن الدولة تستذل الناس بلقمة الخبز على نحو غير مسبوق في كل النظم التي مرت بها الجاهلية البشرية على الأقل في التاريخ الحديث. وربما كان من الحق أن الناس كانوا دائما في جاهليات التاريخ مستذلين بلقمة الخبز، يبيعون مقابلها بعض كرامتهم أو كلها، وبعض إنسانيتهم أو كلها.. ولكن النظام البوليسي الصارم الذي يحكم الناس بالحديد والنار والتجسس، ويمنع الناس بالرعب والإرهاب أن يفتحوا أفواههم بكلمة نقد واحدة ضد الدولة أو الزعيم المقدس أو المذهب أو النظام ... إنه ليفرض على الناس -مقابل لقمة الخبز- قدرا من الذل ومن ضياع الكرامة الإنسانية لا مثيل له -في نوعه ودرجته- في كل النظم التي تزعم أنها "حضارية" على مدار التاريخ! وهذا فوق التفرقة الضخمة في كل جانب من جوانب الحياة بين أن يكون الإنسان مجرد فرد في القطيع وبين أن يكون عضوا في الحزب ولو في أسفل درجاته فضلا على الدرجات العليا. يقول "ميليوفان دجيلاس" نائب الرئيس "تيتو" في كتاب" الطبقة الجديدة": "إن الطبقة البيروقراطية الشيوعية الجديدة صاحبة الامتيازات الضخمة تستخدم جهاز الدولة كستار وأداة لتحقيق مآربها وأغراضها الخاصة ... وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 ما عدنا لدراسة الملكية فإننا سنجدها ليست أكثر من حقوق الربح وحرية السيطرة، وإذا ما اتجه المرء إلى تحديد ربح الطبقة من خلال هذه الحقوق في إطار تلك الحرية فإن الدولة الشيوعية تتجه في النهاية إلى خلق شكل جديد من أشكال الملكية وخلق طبقة حاكمة مستثمرة جديدة. "إن الطغيان الشيوعي والإرهاب في أساليب الحكم هما الضمانة لامتيازات طبقة جديدة تبرز على المسرح السياسي". "لقد سبق أن أعلن ستالين عام 1936 مع صدور الدستور الجديد للاتحاد السوفيتي أن الطبقة المستثمرة قد تم القضاء عليها نهائيا، وفي الحقيقة لقد تم في المعسكر الشيوعي القضاء التام على قوى الرأسمالية الوطنية التي استؤصلت تماما من الجذور.. ولكن مع زوالها بدأت تبرز في صلب المجتمع الشيوعي طبقة جديدة لم يسبق للتاريخ أن رأى لها مثيلا". "ولقد أكدت هذه الطبقة أنها أكثر تسلطا في الحكم من أي طبقة أخرى ظهرت على مسرح التاريخ، كما أثبتت في الوقت نفسه أنها تحمل أعظم الأوهام، وأنها تكرس أعتى أساليب الظلم في مجتمع طبقي جديد". "لقد تم تأميم المقدرات المادية إلا أنه لم يجر توزيعها على أبناء الشعب، بل أصبحت ملكا مكتسبا للطبقة الحاكمة وللأعضاء القياديين للحزب والبيروقراطيين السياسيين". "لقد حاز الأعضاء الكبار من أفراد النخبة الممتازة أفضل المساكن والبيوت كما شيدت لهم الأحياء الخاصة ومنازل الاصطياف، وحصل أمناء سر الحزب ورؤسا البوليس السري ليس على السلطة العليا وحسب، إنما على أجمل المساكن وأفخم السيارات وسواها من مظاهر الأبهة والعظمة والامتيازات، أما بقية الأعضاء من دونهم فقد حازوا امتيازات متناسبة مع مراكزهم الحزبية". "وليس هناك أية طبقة أخرى في التاريخ تشابه الطبقة الجديدة في وحدة تماسكها، ووحدة الفكر والعمل في دفاعها عن نفسها، وفي قدرتها على إحكام القبضة على كل ما هو واقع تحت سيطرتها في الملكية الجماعية حتى السلطة الاستبدادية المطلقة"1. وأما "الأخلاق" في ظل الاقتصاد العلماني الشيوعي فلا مجال للحديث عنها بعد الذي فصلناه في فصل "الشيوعية". ولسنا نقول: إن هناك "أخلاقا" أفضل منها في ظل الاقتصاد العلماني الرأسمالي. كلاهما بلا أخلاق، كلا المعسكرين يهبط بالإنسان إلى مرتبة الحيوان، فإذا كان هناك فارق بين الحيوانات السائبة والحيوانات المقيدة داخل الحظيرة فهو الفرق بين التسييب والتقييد.. وليس فارقا في "نوع " الحيوان.   1 مقتطفات من الكتاب من صفحات 51، 54، 78، 81، 83، 84 مأخوذة من كتاب "العلمانية" لسفر عبد الرحمن الحوالي، وهو من أحسن ما كتب في موضوع العلمانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 3- في الاجتماع : كان الإقطاع ظالما كما قلنا، ولكن بعض الجوانب الاجتماعية فيه كانت تحكمها أعراف مستمدة من روح الدين.. ومن ذلك الحفاظ على الأسرة، والزواج المبكر، وقوامة الرجل وقيامه بالإنفاق، واستقرار المرأة في بيتها وتفرغها للأمومة وتدبير المنزل ورعاية النشء ومحافظتها على عرضها قبل الزواج وبعده واعتبار ذلك جزءا من مقومات الأسرة وركنا أساسيا من أركانها، والتعاون بين أفراد المجتمع.. وما إلى ذلك من العلاقات الاجتماعية القائمة على وصايا الدين. ولكن ذلك كله لم يعجب المنسلخين من الدين فقرروا تغييره، وإنشاء بدليل منه لا يقوم على أساس الدين! كان التغيير في المبدأ هو تغيير "السند" أو "المنبع" مع محاولة المحافظة على شيء من الأخلاق، أي: البحث عن منبع آخر للقيم الاجتماعية غير الدين.. فليكن هو "الطبيعة" أو يكن هو "النفس الإنسانية" ذاتها.. المهم ألا يكون المنبع هو الدين، ولا يكون المرجع الذي تستمد منه القيم هو الوحي الرباني! ولكن القيم لم تكن لتستمر في فاعليتها بعد أن تنقطع عن معينها الحقيقي وهو الدين والوحي الرباني. ثم إن الهزات العنيفة التي أحدثتها الثورة الصناعية جاءت والقيم مهتزة بالفعل، قائمة على غير أساس حقيقي يقيها من الهزات، فإذا انهارت هذه القيم سريعا فلا عجب، وإذا أفلح الشريرون في هدمها بوسائلهم الشريرة بعد أن استعصت عليهم خلال عدد متطاول من القرون فلا عجب كذلك ... فالجدار القائم على غير أساس ينتظر من يهزه ليسقط إذا لم يتداع من تلقاء نفسه، بينما الجدار القائم على أساس متين لا يتزلزل إلا بالجهد الجهيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 جاءت الثورة الصناعية "فحررت" المرأة.. أي: استعبدتها "والرجل كذلك" لأغراضها الخاصة، وكانت "أغراضها" قدرا من الشر لا يخطر على بال إنسان.. تحررت المرأة فتحللت من القيود كلها، وفي مقدمتها قيود الدين وقيود الأخلاق. وطالبت بالمساواة الكاملة مع الرجل فرفضت أن يكون قيما عليها؛ لأن القوامة لا تصلح بين الأنداد! واشتغلت، فانشغلت عن مهمتها الأولى في تربية النشء. وتفككت الأسرة وانحل البيت وتشرد الأطفال، وتكونت منهم عصابات جانحة ترتكب الجرائم لمجرد سد الفراغ. وانحلت روابط المجتمع فصار كل إنسان يعيش وحده.. حتى الأسرة.. الزوج له عمله ومغامراته، والزوجة لها عملها ومغامراتها ... والأولاد يغادرون البيت في سن معينة ولا يعودون بعد ذلك، ولا يربطهم بالأب والأم رباط، إلا زيارات خاطفة في مناسبات متباعدة في أحسن الأحوال.. ويكبر الأبوان في تلك العزلة الباردة فلا يجدان من يطرق عليهما الباب.. فينشدان سلواهما في الكلاب! وانتشر الشذوذ لأسباب كثيرة، من بينها -كما يقولون هم بأفواههم- رفض المرأة للقوامة وضياع سيطرة الأب ... وفي جانب آخر من الأرض قامت "فلسفة" بشرية مغايرة، وإن كانت تشترك مع سابقتها في كثير من السمات! تشترك معها في إخراج المرأة من البيت وشغلها عن الأسرة والأولاد. وتشترك معها في تحطيم كيان الأسرة ... وتشترك معها في حل روابط المجتمع ... ولكنها تختلف عنها في الطريقة! في الأولى يتم تحطيم المجتمع عن طريق تضخيم الفرد وجعله هو الأساس. فيتحطم المجتمع نتيجة المبالغة في إحساس الفرد بذاتيته الزائدة عن الحد. وأما الثانية فتجعل المجموع هو الأساس لا الفرد، فتسحق الفرد من أجل المجموع، ثم تعود فتحطم المجتمع نتيجة تحويله إلى مجموعة من الأصفار كل منهم بلا مشاعر ولا كيان! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 4- في العلم : بدأ الصراع بين الدين والعلم حين هاجمت الكنيسة العلماء الذين قالوا بكروية الأرض وهددتهم بالحرق أحياء في الأفران.. وكانت الكنيسة هي المعتدية بلا شك، وكانت حماقة شنيعة منها أن تقف هذا الموقف من أمور علمية بحتة، يخطئ العلماء فيها أو يصيبون ولكنها تظل في دائرة العلم لا يتدخل فيها "رجال لدين" لأن الدين الصحيح لم يحرم البحث العلمي، وإنما لفت نظر البشر إلى آيات الله في الكون, وقال لهم تفكروا فيها وتدبروا لتعرفوا قدرة الخالق العظيم، دون أن يقيدهم بنظرية معينة في تفسير ظواهر الكون، بل ترك ذلك للعقل البشري يحاول فيه بقدر ما يطيق.. ولكن الاحتجاج بحماقة الكنيسة لفصل الدين عن العلم أو بذر بذور العداء بين الدين والعلم كان في ذاته حماقة أشد! فلتكن الكنيسة حمقاء بقدر ما تكون ... ولكن الفطرة السوية لا تفصل بين الدين والعلم؛ لأن كلا منهما نزعة فطرية سوية لازمة للكيان البشري، ولازمة لمهمة الخلافة التي وجد الإنسان من أجلها في الأرض. الإنسان عابد بطبعه، راغب في المعرفة بطبعه.. ولا تعارض في الفطرة السوية بين نزعة العبادة ونزعة المعرفة، ولا بين الإيمان بالغيب والإيمان بما تدركه الحواس. ولقد خلق الله الإنسان ليعبده: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. وجعل من بين العبادة عمارة الأرض: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} 2. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} 3. وجعل من الأدوات المعينة على عمارة الأرض العلم النظري في صورة "معلومات" عن الكون، والعلم التطبيقي في صورة تسخير طاقات السموات والأرض للإنسان. {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 4. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً   1 سورة الذاريات: 56. 2 سورة هود: 61. 3 سورة الملك: 15. 4 سورة العلق: 4, 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} . {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 2. ومن هنا يكون العلم ذاته جزءا من العبادة المطلوبة من الإنسان، يستوي في ذلك العلم بأمور الدنيا والعلم بأمور الدين، فإن عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني تحتاج إلى هذا العلم وذاك.. العلم الدنيوي من أجل العمارة المادية والعلم الديني لجعل هذه العمارة المادية مستقيمة على المنهج الرباني، وتلك هي الخلافة الراشدة المطلوبة من الإنسان. من أجل ذلك لا يوجد في الدين الصحيح ولا في الفطرة السوية تعارض ولا تنازع ولا خصومة بين الدين والعلم! إنما تعمل نزعة العبادة ونزعة المعرفة في تناسق كامل في النفس السوية دون قلق ولا حرج ولا تصادم ولا نزاع.. وكذلك قامت الحركة العلمية الهائلة التي قامت في العالم الإسلامي في ظل العقيدة، بل بدافع من العقيدة! فمن المعلوم من التاريخ أن المسلمين لم يصبحوا أمة علم إلا بعد أن دخلوا في الإسلام! ولقد كان النموذج الإسلامي قائما حول أوروبا من الشرق والغرب والجنوب.. بل إن أوروبا لم تعرف العلم الحقيقي إلا حين أرسلت أبناءها يتعلمون في مدارس المسلمين في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية الإسلامية، فلئن كانت الكنيسة قد ارتكبت حماقتها بمعاداة العلم والعلماء، فلقد كان الحل هو نبذ دين الكنيسة الفاسد لا نبذ الدين كله، وقد رأوا نموذجا مفلحا ومثمرا منه في العالم الإسلامي.. ولئن كانت "المكايدة" قد أصبحت هي العملة المتبادلة بين الكنيسة من جهة والعلماء من جهة، فلقد كان المقتضى السليم لذلك هو أن يرد العلماء للكنيسة إلهها الزائف الذي تعذب العلماء باسمه وتطاردهم، ويفروا إلى الله الحق الذي وجدوه معبودا عند أولئك العلماء الأفذاذ الذين تتلمذوا عليهم وتعلموا العلم على أيديهم، والذي وجدوا العبادة الصحيحة له تُخرج مثل هؤلاء الأفذاذ، وتتيح لهم حرية البحث العلمي بلا قيود.   1 سورة الإسراء: 12. 2 سورة الجاثية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 ولكن رد الفعل للحماقة التي ارتكبتها الكنيسة كان حماقة جديدة ارتكبها "العلماء"! لقد كانوا معذورين في أن يتشككوا في كل حرف تقوله الكنيسة وتزعم أنه من عند الله، وفي أن يبدءوا العلم كله من نقطة الصفر، ويجربوا لأنفسهم ليثبتوا ... فهذا على أي حال هو المنهج العلمي الصحيح الذي تعلموه على أيدي أساتذتهم المسلمين. ولكنهم غير معذورين حين تصل بهم حقائق العلم إلى رؤية القدرة المعجزة للخالق، فيلوون رءوسهم في كبر، أو يهزون أكتافهم في استهتار "غير علمي" ويقولون إنه ليس الله، ولكنه الطبيعة! هنا الحماقة التي لا يبررها شيء.. لا الأمانة العلمية ولا الإنسانية الحقيقية للإنسان! ولكن أوروبا بدأت من هذه الحماقة ثم لجت فيها إلى أبعد الحدود.. مجرد ذكر اسم الله في البحث العلمي يعتبر إفسادا للروح العلمية، ومبررا لطرح النتائج العلمية كلها ولو كانت كلها صحيحة بمقياس العلم ذاته الذي جعلوه إلها من دون الله! بل مجرد الاعتقاد بوجود الله، وأنه هو خالق الخلق وخالق الكون كفيل بإخراج العالم من دائرة العلماء الذين يعتد بهم ويؤخذ بآرائهم ولو كانت آراؤه صحيحة بمقياس البحث العلمي. بل إنه يحيط ذلك العالم بالارتياب والشك في كل ما يقول، ويجعله موضع الزراية من العلماء "الحقيقيين"! الذين لا بد أن يكونوا ملحدين لتكون آراؤهم موضع التسليم! أي زراية بالعلم ذاته تؤدي إليه هذه الحماقة؟! بل أي روح "غير علمية" تلك التي تسيطر على "العلماء" في تلك الجاهلية التي تقوم باسم العلم؟! ما التعصب إذن، وما فقدان "الروح العلمية" والأمانة العلمية إذا كان هذا علما وأمانة وروحا علمية؟ وأي انتكاسة في عالم "القيم" وعالم "الإنسان" أكبر من تلك الانتكاسة الشنيعة التي ترفض "الحقائق" بمجرد الأهواء؟! وكيف -كما قلنا من قبل- كيف يكون الشيء ذاته صحيحا "وعلميا" إذا نسب إلى الطبيعة وغير صحيح وغير علمي إذا نسب إلى الله؟! ويكون هذا هو الشرط الذي لا يقبل غيره للدخول في مجال العلم والعلماء؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 وكيف يتأتى لهذه الجاهلية أن تفصل -في النفس الواحدة- بين نزعتين فطريتين: نزعة العبادة ونزعة العلم، فتقول للناس: إذا أردتم الله فاتركوا العلم وإذا أردتم العلم فاتركوا الله. وتسمي هذا "علما" و"روحا علمية"؟ وما الفرق بين هذه الحماقة وحماقة الكنيسة التي من أجلها حاربها العلماء؟! ألم تقل الكنيسة نفس القولة ولكن من الجانب الآخر؟! قالت: إذا أردتم الله فاتركوا هذا العلم، وإذا أردتم هذا العلم فأنتم خارجون على الله! وحين نستبدل حماقة بحماقة هل نكون راشدين؟ وهل يحق لنا أن نستعلي بحماقتنا على حماقة الآخرين؟! على أن الحماقة البديلة لا تقف عند حد تمزيق البشرية بين نزعتيها الفطريتين، مما يشكل سببا من الأسباب الكثيرة للاضطراب والقلق النفسي والعصبي الذي تعانيه الجاهلية المعاصرة، إنما يستخدم العلم عن قصد في إفساد العقيدة وإفساد الأخلاق ... فبين الحين والحين تخرج "أبحاث علمية" كاذبة -ويعلم أصحابها أنهم كاذبون- تزعم أن الإنسان قد "خلق" الخلية الحية في المعمل! وتسفر الحقيقة بعد الاستفسار والتقصي أنهم أعادوا تركيب خلية حية في المعمل من أجزاء حية أخذت من مجموعة من الخلايا الحية!! ولكن هذا الدجل "العلمي" يراد به أن يقال للناس ها هو ذا الإنسان قد خلق فلم تعد هناك ضرورة للخالق! أي: يستخدم العلم الزائف لنشر الإلحاد في الأرض، وتتقبله المجلات "العلمية" الرصينة التي ترفض أي بحث علمي يذكر فيه اسم الله! {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 1. وسيظل التحدي الرباني قائما في وجه الملحدين: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 2. وكما يستخدم العلم الزائف لنشر الإلحاد تستخدم ثمار العلم لإفساد الأخلاق، وأوضح الأمثلة على ذلك حبوب منع الحمل التي يقول الأطباء "الأمناء" -وقليل ما هم- أنها ليست مأمونة تماما، وإنها قد تسبب   1 سورة الزمر: 45. 2 سورة الطور: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 أضرارا خطيرة، وإنها ينبغي ألا تستخدم إلا بإشراف الطبيب، هذه الحبوب تباع في الصيدليات بسعر مخفض يكاد يساوي سعر التكلفة, ويباع لأي فتاة تطلبه -وتكرره- دون تذكرة طبية.. لأنها -كما لا يخفى- أداة جبارة لنشر الفاحشة في الأرض؛ لأن الفتاة التي تستطيع أن تأمن نتائج اتصالاتها الجنسية غير المشروعة أيسر انزلاقا من التي تخشى حدوث المتاعب من هذه الاتصالات.. وذلك فضلا عن صرف جهود كثيرة في أبحاث "علمية" بقصد اختراع المدمرات البشعة بغير موجب حقيقي، فقد كان انتصار بعض البشر على بعض ممكنا بغير كل تلك البشاعة في أدوات التدمير ... وهذا الشر العميق كله قد نشأ من "علمانية" العلم.. أي: من ذلك المبدأ الملوث الشرير: مبدأ فصل الدين عن الحياة ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 5- في الأخلاق : ربما لم يكن هناك مجالا تأثر بالعلمانية بقدر ما تأثرت الأخلاق ... ذلك أن الدين هو المنبع الطبيعي للأخلاق، فإذا جفف هذا المنبع أو جف بسبب من الأسباب فلا بد أن يتبعه حتما انهيار تدريجي في الأخلاق ينتهي إلى "اللاأخلاق". ولقد كانت "النهضة" في أول عهدها تعتقد -ربما بإخلاص وحسن نية- أن في إمكانها أن تجد للأخلاق منبعا آخر غير الدين.. من الطبيعة أو من النفس البشرية أو من أي مكان آخر.. والواقع أنهم كانوا في أول مرحلة الفساد فكانوا هم أنفسهم لا يتصورون أن البشرية يمكن أن تعيش بلا أخلاق. أو أنه سيأتي وقت عليها تكون عارية من الأخلاق, فكان المشكل بالنسبة لهم هو محاولة البحث عن منبع للأخلاق غير الدين حتى لا تتخذ تلك ثغرة يهاجمون منها من قبل ذوي الغيرة على الأخلاق وهم يومئذ غير قليل ... ولكن المنبع البديل -أيا كان هو- قد أثبت عجزه عن إنبات القيم التي يحتاج إليها الإنسان في حياته، ككل التصورات التي تخطر في بال الفلاسفة ولا تتعددى أذهانهم إلى واقع الحياة! ثم جاءت أجيال أكثر علمانية من السابقة؛ لأنها كانت قد بعدت أكثر عن المنبع الحقيقي للقيم، فبدأت تناقش مبدأ القيم ذاته: هل هي ضرورية حقا للحياة البشرية؟ وهل هي حقائق واقعية أم مجرد مثل خيالية معلقة في الفضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 غير قابلة للتطبيق؟ وإذن فلماذا لا نكون "واقعيين" ونتعامل مع الواقع البشري كما هو؟ أي: بغير مثل وبغير قيم؟! وكانت هذه بداية موجة جديدة من الانحدار على المنزلق ... فإننا إذا سلمنا بالواقع الموجود اليوم على أنه هو الواقع الذي لا يمكن أن يوجد أفضل منه، فما الذي يمنع هذا الواقع أن ينحدر غدا إلى هوة جديدة، ثم ما الذي يمنعنا من مجاراته في الهبوط بحجة الواقعية؟! إن الذي يمنع من هذا شيء واحد. هو وجود القيم الأصيلة التي نقيس إليها أفعالنا ومستوانا، لنعرف عل ضوئها أهابطون نحن أم مرتفعون.. فإذا وجدنا أننا هبطنا حاولنا أن نوقف هبوطنا ونصعد من جديد.. أما في غياب الميزان فما المعيار؟ إن الواقعية ليست معيارا يقاس إليه أي شيء, ما دامت تعتبر الواقع هو المقياس؟ والناس إذا أفلتت أيديهم من خيط الصعود الذي يشدهم إلى أعلى فلا بد أن تهبط بهم ثقلة الشهوات وجواذب الأرض فيزداد واقعهم هبوطا على الدوام.. وما دام معيارنا هو الواقع. فسيظل المعيار ذاته يهبط مع هبوط الإنسان! ونظل نحن -بحجة الواقعية- نتابع الهبوط. لقد كان القرن التاسع عشر "واقعيا" فنبذ القيم التي سماها مثالية -بمعنى غير واقعية- واعتبرها ترفا عقليا لا تطيقه طبيعة الحياة ... وكانت نتيجة ذلك هي القرن العشرين! قرن التفلت من القيود كلها، والهبوط إلى الحمأة التي يستعفف عنها الحيوان! وذلك أمر معروف من التاريخ وإن جادلت فيه الجاهلية المعاصرة، وهي ليست أول جاهلية تجادل في الحق وتنكر البديهيات! إن أي جيل من أجيال البشرية أنكر القيم الإنسانية لم يقف حيث كان يوم أنكرها، إنما ازداد هبوطا.. حتى أدركه الدمار! ولنستعرض خط العلمانية مع الأخلاق من أوله لنعلم مدى الهبوط.. ولنبدأ بالمفهوم الحقيقي للأخلاق، الذي كانت تؤمن به أوروبا ذات يوم ثم ظلت تتخلى عنه خطوة خطوة وهي تسير مع الشيطان. إن الأخلاق "ميثاق" شامل.. يشمل كل أعمال الإنسان. {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ، وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} 1. والميثاق هو أصلا ميثاق مع الله، تتفرع منه وتندرج تحت جميع المواثيق: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 2. وأول الأمانات هي الأمانة المؤداة إلى الله، ثم تأتي بعدها جميع الأمانات التي أبرز سياق الآية منها الحكم بين الناس بالعدل.. وعلى هذا الأساس يكون للسياسة أخلاق، وللاقتصاد أخلاق، وللاجتماع أخلاق، وللعلم أخلاق، ولكل شيء على الإطلاق أخلاق.. ولا يكون هناك شيء واحد في حياة الإنسان بلا أخلاق ... ومنشأ الأخلاق ليس هو الفرض من الخارج ... في صورة أوامر ونواه وزواجر من عند الله أو من عند غيره، إنما الله سبحانه وتعالى هو الذي يحدد ما هو حلال وما هو حرام، وما هو حسن وما هو قبيح، وما هو خير وما هو شر.. إلخ. فيتبعه المؤمنون التزاما بما أنزل الله، وأما غير المؤمنين فيستمدون ذلك كله من عند غير الله، وفي الحالين لا يكون هذا هو منشأ "الأخلاق" عند هؤلاء وهؤلاء ... إنما يكون فقط هو منشأ "المعايير" التي تضبط الأخلاق. إنما تنشأ الأخلاق -كما قلنا من قبل في أكثر من موضع في الفصول السابقة- من طبيعة الإنسان ذاته، من أن له طريقين, وأن له القدرة على التمييز والاختيار بين الطريقين: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 3. ومن ثم فالقيمة الخلقية لاصقة بأعمال الإنسان بحكم طبيعته.. وإنما تختلف القيم باختلاف واضعها: هل هو الله أم هم البشر. فإن كانت من عند الله فهذه هي القيم الحقيقية الصالحة؛ لأنها من عند خالق الإنسان العليم به وبما يصلح له وما يصلحه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 4.   1 سورة الرعد: 19-22. 2 سورة النساء: 58. 3 سورة الشمس: 7-10. 4 سورة الملك: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وإن كانت من عند البشر فهي عرضة للأهواء وعرضة للاختلاف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وتاريخ البشرية في جاهليتها هو الدليل، يستوي في ذلك أن يكون الجاهليون من الفلاسفة أو من عامة الناس! ولقد كان هذا كله واضحا لأوروبا المسيحية في الفترة التي سيطر فيها الدين على قلوب الناس، بصرف النظر عما في ذلك الدين الكنسي من انحرافات، فقد سبق أن قلنا إن وجود الانحراف والتحريف فيه لم يمنع وجود بعض الحقائق؛ لأنهم كما يقول الله عنهم: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} وبقي مما ذكروا به بعض أشياء.. وكانت القيم الخلقية من بعض هذه الأشياء. ثم زحفت العلمانية شيئا فشيئا على الحياة الأوروبية فأقصت الدين عن الحياة بقدر ما تمكنت هي من الحياة.. ومع إقصاء الدين أقصيت الأخلاق؛ لأنها أصلا مستمدة من الدين. وأول مجال أزيحت الأخلاق عنه هو مجال السياسة منذ قال مكيافيللي: إن الغاية تبرر الوسيلة، ومعناها بصريح العبارة إسقاط الأخلاق من مجال السياسة، وممارسة السياسة بلا أخلاق! ثم أزيحت الأخلاق من المجال الاقتصادي منذ الثورة الصناعية بتحليل الربا، وتحليل الغش والخداع والكذب وسرقة أجر الأجير وشغل الناس بتوافه الأشياء من أجل الربح، وتحليل شن الحروب والاستعمار من أجل إيجاد أسواق لتصريف البضائع.. إلى آخر ما قامت به الرأسمالية من حيل غير شريفة للاستزادة من المال على حساب البشرية. ثم أزيحت الأخلاق من مجال العلم، فلم يعد هدف العلم البحث عن الحقيقة المجردة -لله- إنما صارت تصاحبه المصالح والأهواء والشهوات التي أسلفنا نماذج منها في إبعاد اسم الله عمدا من البحث العلمي مع وضع بديل مزيف هو الطبيعة، لا لأن هذه حقيقة ولكن لأنها تخدم هدفا معينا في معركة معينة بين العلماء وبين الكنيسة! ومن نشر أبحاث كاذبة بقصد نشر الإلحاد. ومن استخدام ثمار العلم لإفساد الأخلاق.. وغير ذلك مما كان مستحيلا أن يحدث في ظل سيطرة الدين على مشاعر الناس ومن ثم التزامهم بأخلاقيات الدين.. ولكنه يحدث بسهولة في ظل العلمانية التي تفاخر بإقصاء الدين عن كل مجالات الحياة! ثم أزيحت الأخلاق من مجال الفكر، فلم يعد يحس المفكر أنه ملتزم بأمانة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 معينة هي في أصلها الأمانة المؤداة إلى الله.. فحفلت وسائل الإعلام جميعا من أول الكتاب إلى التلفزيون، مرورا بالصحيفة والمسرح والسينما والإذاعة، بكل صنوف التضليل والكذب والخداع والغش وإفساد العقيدة وإفساد الأخلاق. ثم أزيحت من مجال العلاقات الجنسية بصفة خاصة -وهي أدق مجالات الأخلاق- فقيل إن الجنس مسألة "بيولوجية" لا علاقة لها بالأخلاق! أي: مسألة ذكر وأثنى يجري بينهما ما يجري بين الذكر والأنثى.. بلا قيود ولا أخلاق ولا ضبط ولا تصعيد.. وكانت الحمأة الدنسة التي تردت فيها البشرية، وكان السعار الجنسي المجنون الذي لا يشبع ولا يرتوي ولا يفيق ... وأخيرا أفرغت الأخلاق ذاتها من مضمونها حين قيل إنه ليس لها وجود ذاتي، إنما هي انعكاس للأوضاع المادية والاقتصادية، أو إنها من صنع العقل الجمعي وإنها تتغير على الدوام ولا تثبت على حال! وسقط "الإنسان" بسقوط الأخلاق! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 6- في الفن : كان الفن في أوروبا في فترة الجاهلية الكنسية فنا دينيا بمعنى أنه موجه لخدمة الدين، وكان يحمل كل ما في العقيدة الكنسية من انحراف، إذ كان كله موجها لتمجيد "الرب" الذي ألهته الكنيسة وهو المسيح عيسى ابن مريم، أو تمجيد الأقانيم الثلاثة عامة: الأب والابن والروح القدس، مع مريم البتول ومجموعة من القديسين.. سواء بالشعر أو النثر أو الرسم أو التصوير "بمعنى إقامة التماثيل". وقد لاحظت في كتاب "جاهلية القرن العشرين" ملاحظة خاصة بالفن الأوروبي، وقلت إنها معروضة للدراسة لمن أراد أن يدرس، تلك هي أن الفن الأوروبي في جميع أدواره التاريخية كان مشغولا بالمعبود.. فحين كان المعبود في الجاهلية الإغريقية مجموعة من الآلهة المختلفة توجه الفن الإغريقي إلى تلك الآلهة سواء في الأساطير أو المسرحيات أو التماثيل، وحين انتقلت أوروبا إلى المسيحية عني الفن بالإله كما صورته الكنيسة، وحين كفرت أوروبا بإله الكنيسة وألهت الطبيعة اتجه الفن إلى المعبود الجديد وخاصة في الفترة الرومانسية، وحين صار المعبود هو "الإنسان" اتجه الفن كله إلى دراسة الإنسان في جميع أوضاعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 واليوم صارت المعبودات فوضى وتمثلت الفوضى كذلك في الفن الأوروبي الحديث! وهذه نقطة فنية على أي حال ليس مجالها التفصيلي في هذا الكتاب إنما ينبغي أن تدرس دراسة نقدية متخصصة. ثم إني ألفت كتابا كاملا هو "منهج الفن الإسلامي" لأبين العلاقة بين الفن الصحيح والدين الصحيح، وكيف تكون مجالات الفن الملتزم بالدين. وكيف أن ارتباط الفن بالدين لا يضيق مجالاته كما يفهم البعض، ولا يحوله إلى مواعظ دينية كما يفهم البعض الآخر، إنما يوسع مجالاته في الحقيقة ويعمقها، ولكنه ينظفها فقط ويطهرها من الأرجاس. وليس هنا مجال إعادة الحديث في هذه الموضوعات. إنما نحن هنا نتحدث فقط عن آثار العلمانية في الفن الأوروبي. فأول آثارها -في التسلسل التاريخي- هو عبادة الطبيعة في الفترة الرومانسية. وليس ثمة عيب -كما قلنا من قبل- في مناجاة الطبيعة والتفاعل معها والحفاوة بها، فذلك كله أمر طبيعي في النفس السوية، ذلك أن الله خلق الكون جميلا ثم جعل في النفس البشرية حاسة تلتقط الجمال وتنفعل به، والقرآن يوجه الحس توجيها صريحا لرؤية الجمال في الكون والإحساس به, لا في الورود والأزهار والجبال والوديان فحسب، بل في الأنعام كذلك، التي هي مظنة الفائدة وحدها. {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} 1. {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ   1 سورة النحل: 5, 6. 2 سورة الأنعام: 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} 1. ولكن رؤية هذا الجمال والتفاعل معه والانفعال به تحدث في النفس السوية توجها إلى الله بالعبادة؛ لأنه هو خالق هذا الكون الجميل ومسخره للإنسان، وخالق هذه الحاسة الجمالية في تركيب الإنسان ليستمتع بهذا الجمال. أما النكسة العلمانية في الحس الأوروبي المنسلخ من الدين فقد ذهبت في طريق آخر مخالف، فجعلت من هذا الحس الجمالي وثنية كاملة تعبد الطبيعة بدلا من عبادة الله. وقد وردت كلمة الوثنية بالذات ورودا مكررا في شعر الرومانسيين كأنما هو أمر مقصود! بل إن الرومانسية في الحقيقة هي التي يسرت للحس الأوروبي الانزلاق إلى تلك المغالطة المكشوفة التي جعلت الطبيعة إلها بدلا من الله، حتى سرت هذه المغالطة إلى "العلماء" أنفسهم فتعاملوا معها كأنها حقيقة واقعة.. بل صاروا في النهاية يقبلونها -وحدها- ويعتبرونها إفسادا لروح البحث العلمي! ثم ذوت الرومانسية بعد فترة من الوقت وحلت محلها الواقعية رد فعل لها، إذ كانت الرومانسية مغرقة في الخيال المغرب فجاءت الواقعية لترد الناس وترد الفن إلى الواقع. ولكن أي واقع هو الذي ارتد إليه الفن وارتد إليه الناس؟! إنه الواقع الصغير.. الهابط.. المنسلخ من الدين.. من القيم.. من الأخلاق! ففي الفترة التي استغرقتها الرومانسية وارتدت بعدها إلى الواقع كان الناس قد ساروا خطوات على العلمانية المنسلخة من الدين فهبطوا، فجاءت الواقعية لترصد واقعهم حيث هم.. ثم تقول هذا هو الواقع البشري! فأما كون هذا هو الواقع الذي كان عليه الناس وقتئذ فهذا حق لا شك فيه، وأما أن هذا هو الواقع البشري على إطلاقه فأمر يكذبه التاريخ, تكذبه فترات الهدى في حياة البشرية، التي ارتفع الناس فيها إلى قمم تبدو -في هذا الواقع المنحرف- كأنها خيالات، ولكنها كانت واقعا عاشه الناس بالفعل، وينبغي أن يحاولوا على الدوام أن يعودوا إلى ذلك المستوى السامق أو يعودوا إلى قريب   1 سورة النمل: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 منه. وليس المطلوب من الفن الواقعي أن يداري على هبوط الناس ولا أن يصورهم في صورة غير واقعية من أجل إرضاء المثل العليا! كلا! فالفن المزور لا يستطيع أن يعيش، ولكن هناك فرقا بين تصوير الواقع على أنه واقع نعم، ولكنه منحرف عن الأصل الذي كان ينبغي أن يكون عليه، وبين تصويره على أنه هو الواقع الإنساني الذي لا يمكن تعديله أو لا ينبغي تعديله أو لا يعنينا تعديله! كلاهما تصوير للواقع، ولكن أحدهما يصور الواقع المنحرف بروح الإنكار ويدعو إلى الارتفاع عنه، والآخر يعطيه شريعة الوجود فتكون النتيجة الحتمية -دائما- مزيدا من الهبوط! نموذج الواقعية الهادفة هي سورة يوسف في القرآن الكريم: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} 1. {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ، قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} 2. ولكن هذه ليست اللقطة الأخيرة.. إنما اللقطة الأخيرة هي الأوبة والتوبة والترفع والارتفاع: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3. ونموذج الواقعية الهابطة هو الأدب الذي يدعي الواقعية وهو في الواقع يدعو   1 سورة يوسف: 22-24. 2 سورة يوسف: 31, 32. 3 سورة يوسف: 51-53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 إلى الهبوط، وهبه صادقا في ادعاء الواقعية فلماذا يصر على التقاط اللحظات الهابطة وحدها ويتجنب لحظات الارتفاع؟ ثم لماذا لا يسمي الهبو باسمه الحقيقي وهو الهبوط؟! ثم ... تبعثرت الاتجاهات الفنية في الفترة الأخيرة, ولكنها حافظت على طابع واحد وهو الهبوط! من السريالية إلى الوجودية إلى اللا معقول ... إلى أدب الجنس المكشوف.. أما السريالية فقد تتبعت التحليل النفسي الذي أنشأه فرويد وقال فيه إن حقيقة النفس الإنسانية ليست في النفس الواعية التي تتعامل مع الواقع الخارجي، إنما هي في العقل الباطن الذي لا ترتيب فيه ولا منطق! فحاولت في نماذج أقرب إلى الخبل منها إلى العقل أن تبرز "حقيقة النفس الإنسانية" فلم تصنع شيئا في الحقيقة إلا بعثرة هذه النفس إلى قطع متناثرة لا دلالة لها ولا معنى ولا طعم. وأما اللامعقول فقد كان هروبا من "المعقول"، هروبا من العقلانية التي طغت على الفكر والحياة الأوروبية, ومحاولة للقول بأن الحياة ليست معقولة ... ليس لها هدف.. ليس لها نظام.. ليس لها منطق.. ليس لها غاية.. إنما تحدث فيها الأحداث لمجرد الحدوث! وحين تحدث فإنه يكون لها ثقل "الواقع". ولكن حدوثها وعدم حدوثها سيان! وحدوثها على هذه الصورة وحدوثها على صورة أخرى سيان! لأن كل الصور تتساوى في عدم المعقولية وفي الافتقار إلى معنى واضح وغاية واضحة. ولقد كان هذا تعبيرا باطنيا حقيقيا عن أن الحياة فقدت معناها وفقدت غايتها حين فقدت الخيط الذي ينظمها جميعا وينظمها ويفسر غايتها ويفسر أحداثها، وهو الدين.. ولكن الجاهلية لا تدرك ذلك، وتأخذ الأمر على أنه مجرد فن! أو إن أدركت فإنها تدرك أن الحياة البشرية أصبحت في حاجة إلى "فلسفة" جديدة تعطيها معنى وتعطيها غاية، بشرط ألا تكون هذه "الفلسفة" مستمدة من الدين!! وأما الوجودية فهي أخبث من ذلك كله.. ولا تنس أن سارتر -"الكاتب الإنساني العظيم"- يهودي من أم يهودية. تقول وجودية سارتر إن الكون والحياة لا هدف لها ولا غاية، ولا عدل فيها ولا حق، إنما كله ضلال وعبث، وإن الوجود الإنساني ضياع كله، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 المستحيل أن يحقق الإنسان فيه وجوده! وإلى هنا نستطيع أن نقول إن هذا أيضا تعبير باطني صادق عن فقدان الحياة معناها وهدفها حين تفقد العنصر الذي يوجد الترابط بين أجزائها ويعطي أحداثها تفسيرها ومعناها وهو الدين. ولكن وجودية سارتر لا تقف عند تسجيل الضياع والعبثية وفقدان المعنى والغاية، ولكنها تقدم حلا للمشكلة! ويا له من حل! الحل أن يعيش كل إنسان وحده، وأن يحقق وجوده بأن يفعل ما يرى هو أنه حق وأنه واجب وأنه حسن! في مسرحيته "الجحيم هو الآخرون" يرسم الجحيم في نفس إنسان -إذا كان إنسانا! - يتعذب من أول المسرحية إلى آخرها من وجود آخرين لا يكفون عن الوجود من حوله ويفرضون عليه أن يكونوا موجودين معه، فيمنعونه أن يكون نفسه.. أن يحس بذاتيته، أن يفعل ما يمليه عليه هواه الشخصي، فيظل ساكنا ساكتا يتعذب.. يتطلع إلى اللحظة التي يذهب فيها عنه "الآخرون" لينطلق بوجوده الذاتي، ليحقق ذاته.. ولكنهم لا ينصرفون.. فيظل هو في الجحيم! أما أدب الجنس المكشوف -إن كان يسمى "أدبا"- فهو أوضح من أن يحتاج إلى تعليق! وفي تاريخ البشرية كله "آداب" تعالج الجنس بقصد الإثارة، أو تعبر عن تجارب هابطة لإنسان شهوان ... ولكنها كانت تأخذ في عالم الأدب مكانا منزويا, يتستر بها صاحبها في الظلام, ويسقط عمن يتعاطونها رداء التوقير والاحترام، ويقبل عليها "المراهقون" من أي عمر كانوا، فليست المراهقة فترة معينة من عمر الإنسان كما هي في اصطلاح علم النفس، إنما هي حالة نفسية غير مستقرة وغير متزنة يصاب بها الفتى في إبان طيشه، ويصاب بها ابن السبعين.. فتخف أحلامه ويذهب وقاره وتذهب عنه قدرته على الحكم المتزن على الأشياء. ولكن الجديد الذي أحدثه "التطور" العلماني هو إعطاء "الشرعية" لهذا الهبوط الحيواني، وكشفه في النور، وإعطاؤه صفة "الفن" ووضع منتجيه في قائمة المشاهير، بل في قائمة العظماء من الفنانين, وينشغل النقد الأدبي والنقد الفني بتتبع آثارهم وكشف جوانب العظمة الفنية فيهم.. بل يتبجح نقاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 فيبحثون لهم عن عظمات "نفسية" في وسط الماخور الكبير الذي يعيش فيه هؤلاء وهؤلاء من نقاد و"فنانين"! لقد سقط "الإنسان" كله إلى السراديب وقرر المقام هناك، وأضاء الأنوار على قاذوراتها وعرضها على أنها "البضاعة الحاضرة" لم تعد سرا يستخفى منه. لم تعد قذارة تستنكر.. لم تعد شيئا يتقزز منه الناس. أرأيت إلى دودة الأرض اللاصقة بالطين؟! إنها تستروح أنسام المستنقع الآسن الذي تعيش فيه، وترى أنه بالنسبة لها هو الوضع الطبيعي.. هو الأصل الذي ينبغي أن تعيش فيه! أرأيت لو أنك أردت أن ترفعها من الطين وتنظفها؟ إنها تستنكر وترفض.. وتتفلت من بين أصابعك لتزداد لصوقا بالطين! وهكذا لم يعد أدب الجنس المكشوف قذارة يترفع عنها الفن، إنما صار هو الفن الذي يتفنن فيه الكتاب، يعرضون مفاتنه -أو بالأحرى مباذله- في تفصيل دقيق مكشوف، ويعرضونه على أنه قاعدة الحياة أو قمة الحياة! هل هي عدوى "فرويد" في عالم الفن؟ لا شك أن فرويد مسئول عن البداية التي ابتدأ بها هذا الفن الهابط، وقد كانت البداية هي قصة "عشيق ليدي تشاترلي:Lady Charrerly's Lover" للقصاص الإنجليزي د. هـ. لورنس D. H. Lawrence المتتلمذ على فرويد، والذي يعتبر هو نفسه "حالة فرويدية" تلك القصة التي صودرت وصودرت وصودرت ... ثم أبيحت مع حذف الجزء الشديد الإفحاش منها، ثم أبيحت مع جزء منه.. ثم أبيحت كاملة كما هي.. عارية من كل حياء.. وطبع منها ملايين! ولكن فرويد وحده لا يكفي لتفسير كل ذلك الهبوط ... إنه الانسلاخ من الدين، الذي يسمى "العلمانية"! ففرويد لم يكن يتصور -وإن تمنى- أن يأتي يوم تعرض فيه العملية الجنسية على المسرح بوصفها جزءا من مسرحية "فنية" ثم ينقلها التليفزيون على شاشته ليراها الأولاد والبنات في البيوت! وذلك إلى آلاف وآلاف من المسرحيات والقصص والأفلام والأغاني والصور والصحف والمجلات، لا تعرض شيئا إلا الجنس، ولا تعرضه إلا في وضع الحيوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 تلك هي العلمانية في مجالات الحياة المختلفة ... في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلم والأخلاق والفن.. وكل نشاط يمكن أن يصدر عن "الإنسان" إن كان قد بقي له بعد ذلك كله مكان في عالم "الإنسان"! وتقول العلمانية -الغربية على الأقل- إنها لا تحارب الدين! فمن شاء أن يتدين فليتدين! وانظر حولك تجد متدينين بالفعل لا تتعرض لهم العلمانية من قريب ولا من بعيد. أرأيت لو أن إنسانا أطلق حولك كل أنواع الجراثيم الموجودة في الأرض، في الهواء الذي تتنفسه، في الماء الذي تشربه، في الطعام الذي تأكله، في الوجود الذي تلمسه، ثم قال لك إن أردت أن تظل سليما معافى فكن كما شئت، فنحن لا نتعرض لك! كم يكون قوله مسخرة المساخر، وكم يكون مغالطة مكشوفة؟! وذلك فضلا عن أنه في عرف نفسه لا يعتبر ما يطلقه من حولك جراثيم.. بل يعتبرك أنت الجرثومة التي يخشى منها على كيانه، والتي لم يستطع أن يقضي عليها قضاء كاملا فتركها وهو يتمنى -من الشيطان- أن تزول! {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} 1. إن الدين -حتى بمعناه الغربي المشوه- لم يعد له مكان في العلمانية المعاصرة. فإذا كان قد أخرج من عالم الاقتصاد ومن عالم الاجتماع ومن عالم العلم ومن عالم الأخلاق ومن عالم الفن، فماذا بقي له من واقع الحياة وماذا بقي له من النفس الإنسانية؟ بقيت له ساعة في الكنيسة من يوم الأحد من كل أسبوع عند أفراد من الناس! نعم.. ولكن ما الدين حتى بالنسبة لهؤلاء؟ هل له واقع في حياتهم؟ هل يمنح قلوبهم الطمأنينة للأزمة لحياة الإنسان.. الطمأنينة التي تمنع التمزق النفسي وتمنع القلق والاضطراب؟ هل يمنح وجودهم معنى يحميهم من الإحساس بالضياع؟   10 سورة النساء: 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 هل يمنحهم تصورا للكون والحياة والإنسان غير التصور المادي الذي تقدمه العلمانية الجاهلية؟ لو سألت أولئك الخارجين من سماع الموعظة يوم الأحد عن رأيهم الديني في التعاملات الاقتصادية الربوية التي تقوم عليها حياتهم فهل تجد عند أحد منهم تحريما لها أو استنكارا لقيامها؟ أم يقول لك قائلهم: هذه مسألة اقتصادية, ما علاقة الدين بالاقتصاد؟! ولو سألت أحدا منهم: ما رأيك في كذب الساسة بضعهم على بعض في السياسة الدولية، وعلى شعوبهم في السياسة الداخلية؟ وما رأيك في الالتزام الحزبي الذي يلزم صاحبه بالمعارضة أو التأييد حسب وضع حزبه من السلطة؟ وما رأيك فيما تكتبه الصحافة السياسية بقصد التشويش على الحقائق لا بقصد إظهار الحق؟ ألا يقول لك على الفور إن هذه مسائل سياسية.. ولا دخل للدين بالسياسة؟! ولو سألت فتاة وصديقها الخارجين من "الصلاة" ما قولكمها في العلاقة القائمة بينكما؟ أليس الدين يحرمها؟ ألا يقولان لك إن الدين مسألة اعتقادية ولا علاقة له بالعلاقات الاجتماعية؟! إن لم يقولا لك -كما يقول الكثيرون والكثيرات- إن الجنس مسألة بيولوجية بحتة لا علاقة لها بالدين ولا علاقة لها بالأخلاق؟! كلا! ما يزيد "الدين" في ظل العلمانية على أن يكون مجرد وجدانات حائرة لا تلبث أن تتبدد وتضيع في الدوامة العاتية المعادية لكل ما يأتي من عند الله! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 العلمانية والإسلام : إذا صحت دعوى العلمانيين في الغرب بالنسبة للدين الكنسي أنهم يتعايشون معه ويتعايش معهم دون تدخل من أحدهما في شئون الآخر -وهي كما رأينا ليست صحيحة في الحقيقة- فإنها بالنسبة للإسلام لا تصح على الإطلاق! لقد كان الدين الكنسي منذ اللحظة الأولى دينا يهتم بالآخرة ويدير ظهره للحياة الدنيا، نتيجة ما دخل فيه من تحريف فصل الشريعة فيه عن العقيدة، وجعله عقيدة صرفا إلا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، ومع ذلك فقد كان العمل من أجل الآخرة يلقي أثره على الحياة الدنيا، قصد الناس أم لم يقصدوا، ووعوا ذلك في إدراكهم أم لم يعوه، فكان ذلك الدين -رغم التحريف الضخم في كل جوانبه- يعطي آثارا واقعية في حياة الناس وسلوكهم، وتصوراتهم ومشاعرهم، وهي التي جاءت العلمانية لتزحزحها من مكانها رويدا رويدا حتى أجلتها إجلاء كاملا، فلم يعد للدين عند الأكثرية العظمى من الناس في الجاهلية المعاصرة مكان على الإطلاق، وبقي عند الأقلية "المتدينة" مجرد مشاعر ووجدانات, وعلى الأكثر بعض "العبادات" ولكن هذه وتلك لا تحكم شيئا في واقع الحياة، وبهذا وحده -أي: بمسخ الدين على هذه الصورة المزرية- أصبحت العلمانية تتعايش -على مضض! - مع الدين! وقد كان هذا مسخا بالنسبة للدين الكنسي ذاته، الذي شوهته الكنيسة حتى قطعت صلته بالأصل السماوي.. فيكف يكون الأمر بالنسبة لدين الله الحق؟! إن الدين الحق لا يمكن ابتداء أن يكون عقيدة مفصولة عن الشريعة.. فالالتزام بالشريعة -في دين الله الحق- هو مقتضى العقيدة ذاتها.. مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.. بحيث لا تكون الشهادة صحيحة وقائمة إن لم تؤد عند صاحبها هذا المعنى.. وهو الالتزام بما جاء من عند الله، والتحاكم إلى شريعة الله، ورفض التحاكم إلى أي شريعة سوى شريعة الله. {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1. يقول ابن تيمية في كتاب الإيمان "ص33 من طبعة دار الطباعة المحمدية بالقاهرة": "والمقصود هنا أن كل ما نفاه الله ورسوله من مسمى أسماء الأمور الواجبة كاسم الإيمان والإسلام والدين والصلاة والصيام والطهارة والحج وغير ذلك فإنما يكون لترك واجب في ذلك المسمى.. ومن هذا قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فلما نفى الإيمان حتى توجد هذه الغاية دل ذلك على أن هذه الغاية فرض على الناس فمن تركها كان من أهل الوعيد".   1 سورة النساء: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 لقد نزل هذا الدين ليعطي التصور الصحيح لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، وليقيم في عالم البشر واقعا محكوما بهذا التصور، منبثقا عنه، مرتبطا به، متناسقا معه في كلياته وجزئياته، لا يتصادم معه ولا ينحرف عنه. فالله الخالق البارئ المصور، الرازق المحيي المميت، المدبر اللطيف الخبير، عالم الغيب والشهادة، بكل أسمائه وصفاته الواردة في كتابه المنزل, هو المتفرد بالألوهية والربوبية، وهو المستحق للعبادة وحده بغير شريك. وكل ما في الكون وكل من في الكون غيره سبحانه هم خلقه وعباده ... واجبهم عبادته وحده بغير شريك. والإنسان واحد من خلقه.. متميز..نعم.. مكرم نعم.. ذو وعي وإدراك وإرادة وفاعلية.. نعم. ولكنه مخلوق من مخلوقات الله، واجبه ككل خلقه الآخرين محصور في عبادة الخالق وحده بغير شريك. ولقد كرمه الله بالوعي والإدراك والإرادة والفاعلية وأعطاه قدرا من الحرية في تصرفاته الإرادية يملك به أن يسير في طريق الطاعة وأن يسير في طريق العصيان.. ولكنه لا يرضى من عباده إلا أن يعبدوه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} 1. والذي يقرر العبادة المفروضة على كل كائن من الكائنات هو خالق الكائنات جميعا، الذي خلقها وحده بغير شريك، ومن تفرده بالخلق ينشأ انفراده بالحاكمية: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 2. وبحق الحاكمية الناشئ من التفرد بالخلق أمر الإنسان أن يعبده وحده ويخلص العبادة له: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 3. {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 4. {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} 5.   1 سورة الزمر: 7. 2 سورة الأعراف: 54. 3 سورة يوسف: 40. 4 سورة الزمر: 3. 5 سورة الزمر: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 وإخلاص العبادة يقتضي الاعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى، ويقتضي توجيه الشعائر التعبدية له وحده، ويقتضي كذلك التصديق بكل ما جاء من عنده على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- والاحتكام إلى شريعته وحدها دون الشرائع الجاهلية التي يصنعها البشر من عند أنفسهم دون سلطان من الله. والإخلال بأي واحدة من هذه الثلاثة يوقع الإنسان في الشرك ويخرجه من دائرة الإيمان: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 1. كما قالوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2. فهذه هي الثلاثة التي أوقعتهم -أساسا- في الشرك: توجيه الشعائر التعبدية لغير الله، والتحليل والتحريم من دون الله، والاعتقاد بوجود آلهة مع الله. وكلها مجتمعة شرك، وكل واحدة بمفردها شرك لا يستقيم معه إيمان ... والمعاصي تقع من البشر جميعا: "كل بني آدم خطاء" 3. ولكنها لا تخرجهم من الإيمان باتفاق علماء الأمة.. إلا أن يجعلوها شرعا فعندئذ يكفرون بها، بل هم يكفرون بالتشريع ولو لم يرتكبوا المعصية بأنفسهم.. فالذي يقول -بلسانه أو بفعله- إن الله أمر بقطع يد السارق ولكني أرى أن العقوبة المناسبة للسارق هي السجن -وهو ما تفعله العلمانية الجاهلية- فقد كفر بذلك وإن لم يسرق بنفسه ولم يفكر في السرقة. والذي يقول -بلسانه أو بفعله- إن الله أمر برجم الزاني المحصن وجلد الزاني غير المحصن، ولكني أرى أنه لا عقوبة على الزنا إذا كان برضى الطرفين البالغين الراشدين "أي: لم تكن الفتاة قاصرا" ولم تقع شكوى من أحد الزوجين، فإن كان هناك اغتصاب أو اشتكى أحد الزوجين فالعقوبة هي السجن -وهو ما تفعله العلمانية الجاهلية- فقد كفر بذلك وإن لم يرتكب الفاحشة بنفسه ولم يفكر في ارتكابها ...   1 سورة النحل: 35. 2 سورة ص: 5. 3 رواه أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 وكذلك كل شرع من شرع الله. من اعتقد بأفضلية غيره عليه، أو حتى مساواته معه، فعدل عنه إلى غيره. أو رضي بغيره ولم يجاهده بيده أو بلسانه أو بقلبه فقد خرج من دائرة الإيمان وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم! {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} 1. {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} 2. "إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع" 3. "فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 4. فإذا كان هذا أمر الله ورسوله فأنى يقول قائل إن الإسلام يمكن أن يلتقي مع العلمانية التي تقول: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين؟!! أو تقول إن الاقتصاد لا علاقة له بالدين.. أو تفصل بين حكم الدين وبين أي شيء في حياة الإنسان؟! 5.   1 سورة النور: 47-51. 2 سورة النساء: 65. 3 رواه مسلم. 4 رواه مسلم. 5 انظر تفصيلا لهذه القضية في كتاب "مفاهيم ينبغي أن تصحح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 العقلانية : العقلانية -بمعنى التفسير العقلاني لكل شيء في الوجود، أو تمرير كل شيء في الوجود من قناة العقل لإثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه- مذهب قديم في البشرية، يبرز أشد ما يبرز في الفلسفة الإغريقية القديمة، ويمثله أشد ما يمثله سقراط وأرسطو. ولقد ظلت الاتجاهات الفلسفية الإغريقية -التي تمثل العقلانية قسما بارزا منها- تسيطر على الفكر الأوروبي، حتى جاءت المسيحية الكنسية فغيرت مجرى ذلك الفكر في انعطافة حادة تكاد تكون مضادة لمجراه الأول الذي استغرق من تاريخ الفكر الأوروبي عدة قرون. فلم يعد العقل هو المرجع في قضايا الوجود إنما صار هو الوحي -كما تقدمه الكنيسة- وانحصرت مهمة العقل في خدمة ذلك الوحي في صورته الكنسية تلك ومحاولة تقديمه في ثوب "معقول"! يقول الدكتور محمد البهي في كتابه "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي": "كان الدين أو النص طوال القرون الوسطى سائدا في توجيه الإنسان في سلوكه وتنظيم جماعته، وفي فهمه للطبيعة، وكان يقصد بالدين "المسيحية" وكان يراد من المسيحية، "الكثلكة" وكانت الكثلكة تعبر عن "البابوية" والبابوية نظام كنسي ركز "السلطة العليا" باسم الله في يد البابا، وقصر حق تفسير "الكتاب المقدس" على البابا وأعضاء مجلسه من الطبقة الروحية الكبرى، وسوى في الاعتبار بين نص الكتاب المقدس وأفهام الكنيسة الكاثوليكية"1. وقد نشأت عن ذلك في الحياة الأوروبية والفكر الأوروبي مجموعة من الاختلالات عرضنا لبعضها في الفصول السابقة, وقد نعرض لها أو لغيرها مرة أخرى في هذا الفصل، ولكنا نبادر هنا فنقول إن هذه الاختلالات لم تنشأ -كما تصور الفكر الأوروبي في مبدأ عصر النهضة- من إهمال الفلسفة والعلوم   1 ص279 من الطبعة الثامنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 الإغريقية والالتجاء إلى الفكر "الديني". فلم يكن "الفكر الديني" من حيث المبدأ، ولا إخضاع العقل للوحي هو مصدر الخلل في فكر العصور الوسطى في أوروبا، إنما كان الخلل كامنا في ذلك الفكر الذي قدمته الكنيسة باسم الدين، وفي إخضاع العقل لما زعمت الكنيسة أنه الوحي، بعد تحريفها ما حرفت منه، وإضافتها ما أضافت إليه، ومزج ذلك كله بعضه إلى بعض وتقديمه باسم الوحي. والفلسفة الإغريقية التي ظنت أوروبا في عصر النهضة أن ضلالها في العصور الوسطى كان بسبب إهمالها، وأن العلاج هو الرجوع إليها والاستمداد منها، لم تكن هي في ذاتها بريئة من الخلل ولا سليمة من العيوب، ولا كانت في صورتها التي قدمها فلاسفة الإغريق القدامى زادا صالحا لحياة إنسانية مستقيمة راشدة، على الرغم من كل ما احتوته من إبداع فكري في بعض جوانبها.. وإنما ظل الفكر الأوروبي في الحقيقية يتنقل من جاهلية إلى جاهلية حتى عصره الحاضر. فمن الجاهلية الإغريقية والرومانية، إلى جاهلية الدين الكنسي المحرف في العصور الوسطى، إلى جاهلية عصر الأحياء، إلى جاهلية عصر "التنوير" إلى جاهلية الفلسفة الوضعية، إلى جاهلية المعاصرة. وليس همنا في هذا الفصل أن نستعرض انحرافات الفكر الغربي في جاهلياته المتتابعة، إنما يهمنا فقط أن نتابع خط العقلانية في ذلك الفكر، ثم نخص بالحديث العقلانية المعاصرة. كانت العقلانية الإغريقية لونا من عبادة العقل وتأليهه، وإعطائه حجما مزيفا أكبر بكثير من حقيقته، كما كانت في الوقت نفسه لونا من تحويل الوجود كله إلى "قضايا" تجريدية مهما يكن من صفائها وتبلورها فهي بلا شك شيء مختلف عن الوجود ذاته، بحركته الموارة الدائمة، بمقدار ما يختلف "القانون" الذي يفسر الحركة عن الحركة ذاتها، وبمقدار ما تختلف البلورة عن السائل الذي نتجت عنه.. قضايا تعالج معالجة كاملة في الذهن بصرف النظر عن وجودها الواقعي! وبصرف النظر عن كون وجودها الواقعي يقبل ذلك التفسير العقلاني في الواقع أو لا يقبله، ويتمشى معه أو يخالفه! وكان أشد ما يبدو فيه هذا الانحراف معالجة تلك الفلسفة "لقضية" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 الألوهية و"قضية" الكون المادي وما بينهما من علاقة، ويتشعب هذا الانحراف شعبا كثيرة في وقت واحد. فأول انحراف هو محاولة إقحام العقل فيما ليس من شأنه أن يلم به فضلا عن أن يحيط بكنهه في قضية الذات الإلهيةز فمن باب احترام العقل لذاته ومعرفته لطبيعته وحدود مقدرته، ما كان لهذا العقل أن يقتحم ميدانا ليس بطبيعته مؤهلا لاقتحامه، ولا قدرة له على الخوض فيه. إن المحدود لا يتسنى له أن يحيط بغير المحدود، والفاني لا قدرة له على الإحاطة بحقيقة الأزل والأبد حيث لا بداية ولا نهاية ولا حدود، إنما يستطيع العقل أن "يتصور" ذلك لونا من التصور، وأن يدرك أنه يمكن أن يوجد على هذه الصورة..أما أن يحيط "بكنهه" على أي نحو من الأنحاء فقضية أخرى خارجة عن نطاق العقل، وهي التي نقول إن احترام العقل لذاته ومعرفته لطبيعته وحدود مقدرته هي التي توجب عليه أن يتجنب الخوض فيها؛ لأنه لن يصل فيها إلى شيء له اعتبار. وليس معنى هذا أن "الدين" كله أمر خارج عن نطاق العقل، أو أن الاعتقاد في وجود الله ومعرفة صفاته أمر لا نصيب فيه للعقل. كلا.. إنما يدخل العقل إلى هذا الميدان من بابه الذي هو مؤهل بطبيعته أن يدخل منه، لا من الباب الذي لا يقدر على فتحه، والذي يضل فيه لو اقتحمه بغير أداته، يدخل من باب إدراك آثار القدرة الإلهية والاستدلال من هذه الآثار على وجود الله ومعرفة صفاته التي يتفرد بها دون الخلق، ولكن لا يدخل من باب "الكنه" الذي لا يقدر عليه ولا يصل إلى نتيجة فيه1. أرأيت لو أنك أدخلت مفتاحا في قفل أكبر منه، فظل يدور في القفل ويدور دون أن يصل إلى فتحه، فهل تظل تقول إن هذا المفتاح صالح لكل شيء، ولا بد أن تفتح به جميع الأبواب، ولو بقيت الدهور تدير المفتاح في القفل فلا يفتح لك الباب؟! أم تتواضع أمام الأمر الواقع وتقر بأن هذا المفتاح لا يصلح لذلك الباب، وتبحث له عن مفتاح آخر يناسبه، وتحتفظ بمفتاحك للباب الذي يحسن فتحه! ليس العيب في القفل ولا في المفتاح! إنما العيب في أنك أنت تحاول أن تقتحم به بابا لا يقدر على اقتحامه!   1 سنعود إلى تفصيل هذه النقطة عند بسط وجهة النظر الإسلامية في قضية العقل والعقلانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 وحين أصرت الفلسفة اليونانية -ومن تبعها بعد من فلاسفة النصارى وفلاسفة المسلمين- أن يقتحموا باب الكنه بمفتاح العقل، فقد وصلوا جميعا إلى ذلك التخبط الذي يملأ كتب الفلسفة كلها من أول التاريخ إلى آخر التاريخ! لا جرم أن تجد أرسطو، الذي يعتبره دارسو الفلسفة أعظم "عقل" في التاريخ القديم, يصف إلهه -بعقله- على هذه الصورة: يقول "العقاد" في كتاب "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه": "ومذهب أرسطو في الإله إنه كائن أزلي أبدي مطلق الكمال لا أول له ولا آخر ولا عمل له ولا إرادة. منذ كان العمل طلبا لشيء والله غني عن كل طلب، وقد كانت الإرادة اختيارا بين أمرين، والله قد اجتمع عنده الأصلح والأفضل من كل كمال فلا حاجة به إلى الاختيار بين صالح وغير صالح ولا بين فاضل ومفضول، وليس مما يناسب الإله في رأي أرسطو أن يبتدي العمل في زمان؛ لأنه أبدي سرمدي ولا يطرأ عليه طارئ يدعوه إلى العمل، ولا يستجد عليه من جديد في وجوده المطلق بلا أول ولا آخر ولا جديد ولا قديم، وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه التي لا بغية وراءها ولا نعمة فوقها ولا دونها، ولا تخرج عن نطاقها عناية تعنيه". "فالإله الكامل المطلق الكمال لا يعنيه أن يخلق العالم أو يخلق مادته الأولى وهي "الهيولى".. ولكن هذه "الهيولى", قابلة للوجود يخرجها من القوة إلى الفعل شوقها إلى الوجود الذي يفيض عليها من قبل الإله، فيدفعها هذا الشوق إلى الوجود، ثم يدفعها النقص إلى الكمال المستطاع في حدودها، فتتحرك بما فيها من الشوق والقابلية، ولا يقل عنها إنها من خلقة الله إلا أن تكون الخلقة على هذا الاعتبار"1. ويعلق العقاد -بصدق- على هذا التصور فيقول: "كمال مطلق لا يعمل ولا يريد ... أو كمال مطلق يوشك أن يكون هو والعدم المطلق على حد سواء ... "2. والانحراف الثاني هو تحويل الموضوع كله إلى قضايا فلسفية ذهنية بحتة، تبدأ في العقل وتنتهي في العقل، ويثبت ما يثبت منها وينفي ما ينفى بالعقل، فلا تمس الوجدان البشري، ولا تؤثر في سلوك الإنسان العملي، فتفقد قيمتها في واقع الحياة ...   1 ص33, 34 من طبعة دار الهلال بالقاهرة سنة 1969. 2 ص34 من المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 إن موضوع الألوهية ليس موضوعا فلسفيا بالصورة التي تتناوله بها الفلسفة، إنما هو موضوع "العقيدة". الفرق بين الفلسفة والعقيدة أن الفلسفة تخاطب الذهن وحده، تبدأ من هناك وتنتهي هناك ... ولا تتجاوز الذهن إلى الواقع الحي الذي يعيشه الإنسان في الأرض، أما العقيدة فتخاطب الكيان الإنساني كله: عقله وجسمه وروحه وكل شيء فيه. إنها لا تسكن كما تسكن الفكرة في الذهن، ولا تتحرك حول نفسها في الفراغ كما تتحرك الفكرة في الذهن إن تحركت، إنما هي دائما تدفع الإنسان إلى "سلوك" معين ينبثق منها ويتناسق معها. وإلى "حركة" معينة وجدانية وسلوكية وفكرية في عالم الواقع. ومن ثم لم تكن الفلسفة قط من وسائل الهداية للبشرية! إن غاية ما يمكن أن تصل إليه هو نوع من المتعة العقلية عند هواة هذا اللون من المتعة، وهم بطبيعتهم محدودون، ولكنها -وحدها- لم تنشئ قط أمة ولم تحرك أمة. والقليلون الذين يجدون فيها المتعة العقلية ينتهي بهم الأمر إلى هذا المتاع الذاتي ولا زيادة. أو إن تحركوا فلا تزيد حركتهم على محاولة إحداث هذه المتعة عند مجموعة قليلة حولهم.. ولا زيادة. إنها لا تهدف إلى إحداث "سلوك" معين في واقع حياة الناس، ولا تملك ذلك. ونظرة سريعة إلى واقع المجتمع الإغريقي الذي عاش فيه أولئك الفلاسفة والمفكرون الكبار تبين هذه الحقيقة بوضوح، فما كانت هناك صلة على الإطلاق بين "أفكار" هؤلاء الفلاسفة و"واقع" الناس. هؤلاء يتكلمون في "الحكمة" وفي السلوك الإنساني "كما ينبغي أن يكون" والمجتمع غارق في كل أنواع الفسق والرذيلة والفساد والظلم, لا يعني نفسه بشيء مما يملأ "أذهان" أولئك المفكرين. أما العقيدة فلها شأن آخر.. إنها تخاطب العقل فيما تخاطبه من كيان الإنسان، ولكن لا من أجل المتعة العقلية كما تصنع الفلسفة، بل من أجل إحداث الوعي اللازم بحقيقة الألوهية، الذي يترتب عليه الوعي بالالتزام الواجب تجاه تلك الحقيقة ... أي: الالتزام بمقام العبودية، الذي يستلزم الحب والخشية والطاعة والاستقامة على أمر الله. ثم إنها تخاطب الوجدان ... أو أقل إنها تركز خطابها مع الوجدان -وإن كانت قط لا تهمل مخاطبة العقل- لأن الوجدان هو الأداة المثلى لتحويل قيم العقيدة ومبادئها إلى سلوك عملي؛ لأنه حي منفعل متحرك. فهو الأقدر على تلقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 الشحنة العقيدية، وهو الأقدر على ترجمتها في صورة واقعية حية؛ لأن من طبيعته أن ينفعل بما يتلقى ويشع من هذا الانفعال في داخل النفس يقينا اعتقاديا من جهة، وتوجها متحركا يتناسق مع هذا اليقين من جهة أخرى. ولذلك كانت العقيدة الحية دائما هي التي تنشئ الأمم وتحكم السلوك البشري، وكانت دائما هي سبيل الهداية للبشرية. ويحدث ولا شك فتور في العقيدة في نفوس الأمم ونفوس الأفراد، ويحدث ولا شك تفلت من المقتضيات السلوكية للعقيدة في صورة معاص وانحرافات، ولكن يظل الأمر في أسوأ حالاته مختلفا عن الشأن مع الفلسفة، فمع العقيدة هناك ارتباط قوي في أصله يمكن أن يطرأ عليه الضعف, ومع الفلسفة لا يوجد ارتباط على الإطلاق. وموضوع الأولهية هو أصلا موضوع العقيدة ... أو هو موضوع "العقيدة" باعتبار الإنسان كائنا معتقدا بطبعه، عابدا بفطرته، حتى إن ضلت هذه الفطرة عن طريقها السوي لسبب من الأسباب، وليس معنى ذلك أنه محرم على الفلسفة -أو الفكر- أن يتناوله. ولكنه حين يتناوله على النحو الذي تناولته به الفلسفة الإغريقية العقلانية، وتبعها فيه فلاسفة النصارى فيما يعرف "باللاهوت" وفلاسفة المسلمين فيما يسمى "الفلسفة الإسلامية" أيك التناول الذهني التجريدي الخالص، يكون قد انحرف به عن طريقه الأصيل, وحوله إلى "كلام" و"أفكار" لا تنشئ سلوكا واقعيا، ولا تغير شيئا في حياة الناس.. فيتحول إلى زبد لا ينفع. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} 1. وأما الانحراف الثالث الناشئ من التناول العقلاني لقضية الألوهية، وعدم الرجوع فيها إلى المصدر اليقيني الأوحد وهو الوحي الرباني، فهو تخبط الفلاسفة فيما بينهم وتعارض ما يقوله كل واحد منهم مع ما يقوله الآخر. ولا عجب في ذلك، فما دام "العقل" هو المحكم في هذه القضية, فعقل من؟! إن العقل المطلق أو العقل المثالي تجريد لا وجود له في عالم الواقع! إنما الموجود في الواقع هو عقل هذا المفكر وذاك المفكر. ولكل منهم طريقته الخاصة في "تعقل" الأمور، ولكل منهم "نوازعه" الخاصة التي يحسبها بعيدة عن   1 سورة الرعد: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 التأثير في عقله وهو واهم في حسابه، ولكل منهم اهتماماته الخاصة التي تجعله يركز على أمور ويغفل غيرها من الأمور ... ومن ثم لا تصبح تلك الفلسفة في هذه القضية بالذات أداة هداية وإنما أداة تشتيت وأداة تضليل. وما نريد أن نتطرق لتقويم موقف تلك الفلسفة العقلانية من القضايا الأخرى غير قضية الألوهية فقد يكون لها توفيقاتها في بعض جوانب الفكر البشري، وقد تكون فائدتها الأساسية تنمية القدرة على إدراك الكليات التي تحكم الجزئيات، وتلك مباحث لا تبتغى في مثل بحثنا الحاضر ... ولكننا نشير إشارة موجزة هنا، نعود إلى تفصيلها فيما بعد، إلى أن هذه العقلانية تكاد تقف نفس الموقف من قضية أخرى لا تقل خطورة في حياة الناس عن قضية الألوهية، وهي قضية "منهج الحياة" الذي ينبغي أن يسير عليه البشر. فقد تخبطت تلك "الفلسفة"1 في تلك المسألة من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، فضلا عن كونها حولتها إلى أحلام طوباوية أو ذهنية لا عقلاقة لها بواقع الحياة، ومن ثم لا أثر لها في واقع الحياة!. من هذه الجاهلية انتقل الفكر الأوروبي إلى عصر "سيادة الدين". وكان المفروض أن يخرج ذلك الفكر إذن من الجاهلية إلى النور، ولكنه في الحقيقة دخل إلى ظلمات حالكة ليس فيه حتى ذلك "البريق" الذي تميزت به الفلسفة الإغريقية في كثير من المواضع بصرف النظر عن القيمة الحقيقية لذلك البريق، وعن كونه بريقا هاديا أم مضللا عن الطريق! كان المفروض وقد التزم العقل بالوحي، واستمد منه اليقين والهدى -في المسائل التي لا يهتدي فيها وحده ولا يستيقن فيها بمفرده- أن ينطلق الفكر في ميادينه الأصيلة يبدع وينتج، ويمد "الإنسان" بما يحتاج إليه في شئون "الخلافة" وعمارة الأرض. ولكن الكنيسة الأوروبية أفسدت ذلك كله بما أدخلته من التحريف على الوحي الرباني المنزل من السماء لهداية البشرية على الأرض، وتخبطت في   1 في هذه القضية في الحقيقة تخبطت كل الفلسفات كما سيأتي ذكره فيما بعد، ولكن كل فلسفة كان لها في تخبطها مدخلها الخاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 قضية الألوهية تخبطا من نوع جديد، حين قالت إن الله ثلاثة أقانيم، وإن المسيح ابن مريم عليه السلام واحد من هذه الأقانيم الثلاثة، وإنه ابن الله وفي الوقت ذاته إله، وشريك لله في تدبير شئون الكون. وفضلا عن ذلك -أو ربما بسبب ذلك- حُجِرَ على العقل البشري أن يعمل وأن يفكر. فإن هذه الألغاز التي ابتدعتها المجامع المقدسة في شأن الألوهية لم تكن "معقولة" ولا مستساغة فيما يمكن للعقل البشري أن يتصور ثلاثة أشياء هي ثلاثة وهي واحد في ذات الوقت، وما يمكن أن يتصور أن الله سبحانه وتعالى ظل متفردا بالألوهية وتدبير شأن هذا الكون ما لا يحصى من الزمان، ثم إذا هو -فجأة- يوجد كائنا آخر ليكون شريكا له في الألوهية ومعينا له في تدبير الكون!! تعالى الله عنه ذلك علوا كبيرًا. ومن أجل كون هذا العبث "المقدس! " الذي ابتدعته المجامع "المقدسة! " غير معقول ولا مستساغ فقد سخرت الكنيسة "العقل" في محاولة إخراج هذا المزيج المتنافر المتناقض في صورة "فلسفية" مستساغة "أو هم قالوا عنها أنها مستساغة" وفي الوقت ذاته حجرت على العقل أن يناقشها، لئلا تجر المناقشة إلى القول بأنها غير معقولة على الرغم من كل الصناعة "العقلية" التي وضعت فيها! ومن ثم نشأت في الفكر الأوروبي تلك "المسلمات" أو العقائد المفروضة فرضا التي لا يجوز مناقشتها Dogmas لا لأنها -في حقيقتها- من الأمور التي ينبغي للعقل أن يسلم بها دون مناقشة، ولكن لأنها مناقضة للعقل، ومفروضة عليه فرضا من قبل رجال الدين، الذين زعموا لأنفسهم حق صياغة العقائد وفرضها على الناس بالقوة دون أن يكون لهم حق المناقشة أو الاعتراض وإلا كانوا مهرطقين مارقين، يجوز فيهم كل شيء حتى إهدار الدم وإزهاق الأرواح, كما مر بنا في شأن محاكم التفتيش التي قال عنها "ويلز" في كتابه "معالم تاريخ الإنسانية "ص902, 903 من الترجمة العربية": "فأصبح قساوستها وأساقفتها على التدريج رجالا مكيفين وفق مذاهب واعتقاديات حتمية Dogma وإجراءات مكررة وثابتة.. ونظرا لأن كثيرا منهم كانوا على الأرجح يسرون الريبة في سلامة بنيان مبادئهم الضخم المحكم وصحته المطلقة لم يسمحوا بأية مناقشة فيه، كانوا لا يحتملون أسئلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 ولا يتسامحون في مخالفة، لا لأنهم على ثقة من عقيدتهم، بل لأنهم كانوا غير واثقين فيها". "وقد تجلى في الكنيسة عندما وافى القرن الثالث عشر ما يساورها من قلق قاتل حول الشكوك الشديدة التي تنخر بناء مدعياتها بأكمله، وقد تجعله أثرا بعد عين، فلم تكن تستشعر أي اطمئنان نفسي، وكانت تتصيد الهراطقة في كل مكان كما تبحث العجائز الخائفات -فيما يقال- عن اللصوص تحت الأسرة وفي الدواليب قبل الهجوع في فراشهن". ومن الأدلة التاريخية التي تثبت أن النصارى -على الرغم من تشبثهم الشديد بمقررات المجامع المقدسة بشأن قضية الألوهية- لم يكونوا يؤمنون بها في دخيلة أنفسهم إلى درجة اليقين، ما حدث من وفد نصارى نجران مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين دعاهم -بأمر ربه- إلى المباهلة: {قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} 1. فقد امتنعوا عن المباهلة وانصرفوا رغم جدالهم الشديد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حول بنوة عيسى لله وألوهيته مع الله. ولو كانوا على يقين حاسم ما امتنعوا! وأيا كان الأمر فقد استخدمت الكنيسة كل طغيانها الروحي للحجر على العقل.. وصنعت ذلك باسم "الدين"! والدين الصحيح ليس في حاجة إلى شيء من ذلك الذي صنعته الكنيسة ... حقيقة إن في الدين الصحيح "مسلمات" لا تناقش, تعتبر من أصول الإيمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام: "قال: فأخبرني عن الإيمان". قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" 2. وبعض هذه الأمور ليس للعقل سبيل إليها من ذات نفسه، إنما يتعرف عليها عن طريق الوحي، ويسلم بها تسليما، كالإيمان بالملائكة واليوم الآخر وما يشتمل عليه من بعث ونشور وحساب وجزاء وجنة ونار ... وكان هذا كله واردا في "مسلمات" الدين الكنسي، ولا اعتراض عليه.   1 سورة آل عمران: 61. 2 رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 ولكن هناك فارقا أساسيا بين "مسلمات" الدين الصحيح والمسلمات الكنسية الأخرى التي كانت تجبر الناس عليها إجبارًا وتمنعهم من مناقشتها في أمر صحتها، وتتهمهم بالمروق عن الدين إن خالفوها أو هموا مجرد هم بمناقشتها! فالمدخل إلى هذه المسلمات في الدين الصحيح هو الإيمان بالله والتعرف على صفاته التي لا يشاركه فيها أحد، وفي مقدمتها أنه هو الخالق وأنه على كل شيء قدير، والإيمان بالرسول المرسل -صلى الله عليه وسلم- وصدقه وأمانته1، والإيمان بأن ما يخبر به عن ربه وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكل هذه يدعي العقل دعوة صريحة إلى التفكير فيها، والتأكد منها قبل الإيمان بها, وخذ مثالا على ذلك ما جاء في كتاب الله من خطاب للقوم المدعوين للإسلام: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} 2. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3. {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 4. {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} 5. {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 6. {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 7. {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} 8.   1 وهو بالنسبة للنصارى المسيح عيسى ابن مريم. 2 سورة النحل: 17. 3 سورة الأحقاف: 4. 4 سورة لقمان: 11. 5 سورة سبأ: 46. 6 سورة الأنبياء: 22. 7 سورة المؤمنون: 91. 8 سورة النساء: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 فإذا آمن الإنسان -وهو مدعو للتفكر والتدبر وإعمال العقل ليؤمن- بأن الله هو الخالق وهو على كل شيء قدير، وآمن بصدق الرسول المرسل -صلى الله عليه وسلم، وآمن بأن ما يخبر به الرسول عن ربه وحي لا شبهة فيه، فقد أخبره الوحي بأمور لا سبيل للعقل أن يصل إليها من تلقاء نفسه؛ لأنها ليست مما يقع في محيط رؤيته ولا تجربته، وطلب منه التسليم بها؛ لأنها آتية من المصدر الحق الذي آمن بصدقه وصدق كل ما يجيء من عنده. وهي في الوقت نفسه مما لا يملك العقل دليلا حقيقيا ينفيها.. فوجب عليه أن يسلم بها وقد آمن بمقدماتها التي توصله إلى التسليم بها. هذا شأن المسلمات في الدين الصحيح: أمور لا يملك العقل أن يستدل عليها من تلقاء نفسه، ولا يملك في الوقت ذاته دليلا حقيقيا ينفيها، ثم إنه لا يدعي إلى التسليم بها قبل أن يسلم بالمقدمات التي توصل إليها عن طريق التفكر والتدبر والتأمل في ملكوت السموات والأرض. أما المسلمات التي فرضتها الكنيسة فرضا وأرهبت الناس من مناقشتها فهي غير ذلك تماما. فحيث يتجه العقل والتدبر والتأمل إلى الإيمان بأن الله واحد أحد، وأنه لو كان في السموات والأرض آلهة إلا الله لفسدتا ... تقول له الكنيسة إن الله ثلاثة، ثم تزيد الأمر تعقيدا فتقول له إن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة، ثم تمنعه من المناقشة عن طريق الإرهاب ... وحيث يتجه العقل -بوسائل تفكيره- إلى الإيمان بأن الله الذي خلق كل شيء وقدره تقديرا هو في غنى عن كل شريك؛ لأنه "بيده ملكوت كل شيء" ولأنه يقول للشيء "كن فيكون" ومن ثم فهو الجدير بالعبادة وحده.. تقول له الكنيسة إن هناك شريكا لله هوالمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، هو إله مع الله، ومعبود كذلك مع الله، ثم تمنعه من المناقشة وتتهمه بالمروق إن خالف.. وحيث يتجه العقل -بمنطقه الذاتي- إلى الإيمان بأن الله ليس في حاجة إلى اتخاذ الولد -والخلق كلهم خلقه خلقهم بمشيئته وهم عباد له- وليس من شأنه سبحانه أن يتخذ ما لا حاجة له إلى اتخاذه، وهو المهيمن الذي يدبر أمر الوجود كله بمفرده، بلا كلفة عليه سبحانه ولا جهد ولا حاجة إلى معين.. تقول له الكنيسة إن لله ولدا، خلقه بمشيئته كما يخلق كل شيء بمشيئته ثم تبناه -سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا- ليضعه بعد ذلك على الصليب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 ويجرعه آلام الصلب، ليكفر بذلك عن خطيئة لم يرتكبها ذلك الابن إنما ارتكبها آدم وحواء قبل ذلك بزمن لا يحصيه إلا الله! ثم تفرض عليه ذلك فرضا وتقول له هذه هي العقيدة، ومن لم يعتقدها فقد حلت لعنة السماء. تلك هي المسلمات التي لا يمكن التسليم بها؛ لأن العقل يملك كل دليل ينفيها؛ ولأنها لا تستند إلى شيء إلا قرارات المجامع المقدسة التي تبتدعها من عند نفسها وتزعم مجرد زعم أنها من عند الله، بينما الناس يرون رجال الدين في تلك المجامع يتناقشون ويتحاورون. ويختلفون فيما بينهم أشد الاختلاف، ثم يصدرون القرار من تفكيرهم الذاتي -ولو وكا وحيا سماويا لالتزموا به عقيدة ولم يجز لهم الاختلاف فيه- ثم يرون أسوأ من هذا أن الأقلية تصدر القرار أو تفرضه فرضا على الأكثرية ثم تطرد الأكثرية بالقوة كما حدث في مجمع خلقدونية.. ولا تطردهم من المجمع فحسب. بل تزعم كذلك أنها تطردهم من رحمة الله! ومن أجل هذه المسلمات المزعومة لا يمكن للعقل التسليم بها فقد حظرت الكنيسة على العقل أن يفكر فيها أو يناقشها، وزعمت للناس أن التفكير فيها مناف للإيمان، وأن الموقف الصحيح للمؤمن هو التسليم بها بغير جدال، وتفويض الأمر فيها لا -لله! - بل "لقداسة" البابا ومن حوله من "كبار" رجال الدين! وفي ظل الإرهاب الفكري الذي مارسته الكنيسة انكمش نشاط العقل الأوروبي وانحصر في التسليم بما تمليه الكنيسة والمجامع المقدسة، ومحاولة التوفيق بينه وبين مقتضيات التفكير السليم، في مغالطات "فلسفية" هي أقرب إلى التلفيق منها إلى التوفيق! ومن ناحية أخرى انصرف الفكر الأوروبي عن النظر في هذا العالم وفي الحياة الدنيا بتأثير آخر من تأثيرات الدين الكنسي المحرف. فقد أوحت المسيحية المحرفة إلى الناس بأن هذه الدنيا لا سبيل إلى إصلاحها أو تقويم معوجها؛ لأنها ناقصة بطبيعتها، وأن الطبيعة الإنسانية ناقصة كذلك، ولا سبيل إلى إصلاحها إلا بصرفها عن الاهتمام بالحياة الدنيا جملة، وصرف اهتمامها إلى اليوم الآخر كما ألمحنا في فصل "العلمانية"، وأنه بقدر ما ينصرف الإنسان عن هذا العالم والتفكير فيه -بالرهبانية- يكون أقرب إلى الصلاح، وأقرب إلى الفوز بملكوت الرب في العالم الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 هذا اللون من التفكير صرف الفكر الأوروبي عن النظر في شئون العالم الأرضي والكون المادي إلا في أضيق نطاق مستطاع، ففي أمور الحياة رضي الناس عامة -والمتدينون خاصة- بعيش الكفاف1 ولم يتطلعوا إلى زيادة الإنتاج أو تحسينه؛ لأن ذلك يخالف روح الدين، ومن ثم لم يسعوا إلى زيادة في العلم تمكنهم من زيادة الإنتاج أو تحسينه. كذلك لم يهتموا بزيادة معلوماتهم عن الكون المادي من حولهم من فلك أو رياضيات أو كيمياء أو فيزياء.. إلخ؛ لأن الأمر -في حسهم- لا يستحق الاهتمام من ناحية؛ ولأن المعلومات التي تقدمها المصادر "الدينية" عن هذا الكون فيها كفاية لهم من ناحية أخرى. ولم تكن تلك المعلومات تعدو أن الله خلق الأشياء على صورتها لحكمة هو يعلمها. ولغاية هو يريدها، وأن كل شيء يجري على النحو الذي أراده الله منذ الأزل بلا تغيير، وهذا في ذاته حق ولا شك، ولكنه لا يعطي التفسير التفصيلي لظواهر الكون المادي المحيط بالإنسان! ولا ما يحدث من التحول الدائم في الكون والحياة والإنسان! على هذا النحو الضيق المغلق المحصور كان الفكر الأوروبي فيما يسمى -هناك- بالعصور الوسطى المظلمة، التي استمرت زهاء عشرة قرون، خيم فيها على أوروبا ظلام الجهل والانحسار والانحصار، في ظل الطغيان الكنسي المتعدد الألوان المتشعب الأطراف. فلما بدأت أوروبا تفيق في عصر النهضة نتيجة احتكاكها بالمسلمين في الحروب الصليبية من ناحية، والاتصال السلمي بمراكز العلم والثقافة في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها، كان العقل الأوروبي في حالة تشوق عنيف لاسترداد حريته في العمل، أي: حرية التفكير، ولكن، كما اتسمت فترة العصور الوسطى المظلمة بالتطرف في إلغاء دور العقل والحجر على حرية الفكر، كذلك اتسمت فترة النهضة وما بعدها بالتطرف في الجانب الآخر، جانب إعمال الفكر في كل شيء، سواء كان داخلا في مجال العقل أو غير داخل فيه، وإعماله "بحرية" لا تقبل القيد، سواء كان القيد مشروعا أو غير مشروع! كان عصر "الأحياء" هو عصر العودة إلى الجاهلية الإغريقية بكل   1 ما عدا الإقطاعيين بطبيعة حال! ومع ذلك فقد كانت الكنيسة تساندهم -بكل جشعهم وظلمهم- لأنها هي ذاتها كانت قد أصبحت من ذوات الإقطاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 انحرافاتها ... مع زيادة انحراف جديد.. هو النفور من الدين ومحاولة إبعاده عن كل مجال من مجالات الحياة. والحقيقة أن الحياة الأوروبية في تلك الفترة تستلزم نظرة فاحصة تقف على التيارات والعوامل المختلفة التي كانت تمور في كيانها، والتي تمخضت فيما بعد عن الصورة الحالية "للحضارة" الغربية. ولقد أخذت أوروبا في نهضتها شيئا كثيرا من الإسلام والمسلمين، ورفضت في الوقت ذاته أن تعتمد الإسلام دينا وعقيدة ومنهج حياة -كما بينا في الفصل السابق- وكان من جراء ذلك آثار بعيدة المدى في الحياة الأوروبية إلى وقتنا الحاضر ... فقد صحت أوروبا من غفوتها الطويلة بالاحتكاك الحربي والسلمي بالمسلمين في الشرق والغرب. وتزعم أوروبا أنها لم تأخذ من المسلمين إلا التراث الإغريقي الذي كانت قد أضاعته في عصورها المظلمة فوجدته محفوظا عند المسلمين فاستردته، وأقامت نهضتها على أساسه. وفي هذا الزعم شيء قليل من الحق وشيء كثير من المغالطة التي لم ينج منها إلا عدد قيل من كتاب أوروبا المنصفين. فأما أن التراث الإغريقي الذي فقدته أوروبا في عصورها المظلمة كان محفوظا عند المسلمين فيما يسمى "الفلسفة الإسلامية" وفي التراجم التي كان المسلمون قد ترجموها عن الإغريقية، وأن أوروبا استردته عن طريق التعلم في مدارس المسلمين وأقامت جانب من نهضتها عليه.. فهذا صحيح. ولكن هذا التراث الإغريقي، على كل اعتزاز أوروبا به وتعصبها له، لم يكن صالحا -وحده- لإقامة النهضة الأوروبية، ولا أي نهضة على الإطلاق، باعتباره مجموعة من "الأفكار" التجريدية الذهنية المنقطعة عن واقع الحياة. وهو -بكل لمعانه الفكري- لم يستطع أن يداوم الحياة في بيئته الأصلية التي أنبتته، فضلا عن أن يكون- وحده- باعث نهضة جديدة على اتساع أوروبا كلها، وعلى اتساع العالم كله في العصر الحديث! نعم، يوجد في هذه الأفكار قيم ومبادئ يمكن أن تكون زادا لقوم "يرغبون" في الحياة، ويرغبون في إقامة نهضة شاملة. ولكنها -وحدها- لا تبعث فيهم هذه الرغبة ولا تلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 إنما الرغبة في الحياة، والرغبة في إقامة نهضة شاملة، كانت هي الأثر الذي أخذته أوروبا من احتكاكها بالمسلمين، وملامستها للحياة الموارة في العالم الإسلامي, وللنهضة الشاملة فيه. وليس هذا فقط.. فإن أوروبا لم تغنم من احتكاكها بالمسلمين تلك الرغبة في لحياة والحركة وإقامة النهضة الشاملة فحسب، بل وجدت ذلك "مقومات" تلك النهضة بكاملها موجودة عند المسلمين, فأخذت منها كل ما وسعها أخذه، والعنصر الذي رفضت أخذه -وهو الإسلام- كان هو العنصر الوحيد القمين بترشيد تلك النهضة وإقالة أوروبا من عثرتها.. ولكنها رفضت- بدافع من العصبية الصليبية- فخسرت العنصر الجوهري، وأقامت نهضة عرجاء.. هي التي يعاني منها اليوم كل سكان الأرض! نعم، لم تكن رغبة الحياة ورغبة النهوض وحدها هي كل ما أخذته أوروبا عن المسلمين. لقد كانت أوروبا في جهالة تامة من كل علم إلا ما تملكه الكنيسة ورجال دينها من معلومات سطحية معظمها محشو بالأخطاء. وعند المسلمين وجدوا "العلم".. في كل مجالات العلم.. في الطب والفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء إلى جانب العلوم الدينية الإسلامية التي كانت تدرس -جنبا إلى جنب- في الجامعات الإسلامية. وقد مر بنا قول "روجر بيكون": "من أراد أن يتعلم، فليتعلم العربية، فإنها هي لغة العلم". ونضيف هنا قولة "الفاور القرطبي" قبل ذلك بقرون في الأندلس: "يطرب إخواني المسيحيون بأشعار العرب وقصصهم، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها، بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رشيق، فأين تجد اليوم علمانيا يقرأ التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل؟ واأسفاه! إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب، ليسوا على علم بأي أدب ولا أية لغة غير العربية، فهم يقرءون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة، وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب. وإنك لتراهم من الناحية الأخرى يحتجون في زراية إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 ذكرت الكتب المسيحية بأن تلك المؤلفات غير جديرة بالتفاتهم. فواحر قلباه! لقد نسي المسيحيون لغتهم، ولا يكاد يوجد منهم واحد في الألف قادر إلى إنشاء رسالة إلى صديق بلاتينية مستقيمة! ولكن إذا استدعى الأمر كتابة بالعربية فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة، بل لقد يقرضون من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم"1. ولم يكن العلم وحده هو الذي أخذته أوروبا عن المسلمين بجانب الرغبة في الحياة والرغبة في النهوض؛ إنما أخذت كذلك المنهج الذي تقيم عليه العلم، هو المنهج التجريبي. يقول بريفولت في كتاب "بناء الإنسانية Making of Humanity": "فالعالم القديم -كما رأينا- لم يكن للعلم فيه وجود. وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علوما أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم وأخذوها عن سواهم، ولم تتأقلم في يوم من الأيام فتمتزج امتزاجا كليا بالثقافة اليونانية، وقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث في دأب وأناة. وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها، والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة، والبحث التجريبي، كل ذلك كان غريبا تماما عن المزاج اليوناني، أما ما ندعوه "العلم" فقد ظهر في أوروبا نتيجة لروح من البحث جديدة، ولطرق الاستقصاء مستحدثة، من طرق التجربة والملاحظة والمقاييس، ولتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان.. وهذه الروح، وتلك المناهج العلمية، أدخلها العرب إلى العالم الأوروبي"2. كذلك لم يكن العلم وحده ولا المنهج التجريبي وحده ... يقول بريفولت: "لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية "يقصد الإسلامية" على العالم الحديث، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج ... إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في أسبانيا، لم تنهض في عنفوانها إلا بعد وقت طويل من اختفاء تلك الحضارة وراء سُحب الظلام، ولم يكن العلم وحده هو الذي أعاد أوروبا إلى   1 حضارة الإسلام جرونيباوم، ص81, 82 من الترجمة العربية. 2 عن كتاب "تجديد الفكر الديني" تأليف محمد إقبال، ترجمة عباس محمود، ص250 من الترجمة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 الحياة. بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوروبية، فإنه على الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوروبي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون وأهم ما تكون. في نشأة تلك الطاقة التي تكون ما للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة، وفي المصدر القوي لازدهاره أي: في العلوم الطبيعية وروح البحث العلمي"1. ويطول بنا الاستطراد لو رحنا نحصي بالتفصيل ما أخذته أوروبا في بدء نهضتها من الإسلام والمسلمين، ولكنا نعود إلى موضوعنا الأصيل فنقول إن أوروبا أخذت ما أخذت ولكنها رفضت أن تأخذ الإسلام ذاته عقيدة ومنهج حياة، وعادت إلى الجاهلية الإغريقية والرومانية تستمد منهما بدلا من الدين الكنسي الذي لفظته، والدين الصحيح الذي رفضت بدافع العصبية أن تدخل فيه، ومن ثم عادت -كما قلنا- إلى العقلانية اليونانية بزيادة انحراف جديد هو النفور من الدين والسعي إلى إخراجه من مجالات الفكر والحياة. لقد كانت الجاهلية الإغريقية الرومانية وثنية خالصة في واقع حياتها, ولكن "المفكرين" و"الفلاسفة" فكروا في الله سبحانه وتعالى، وحاولوا تصوره على قدر ما اجتهدت عقولهم، فاهتدوا إلى وحدانيته وكماله وجلاله، ولكن تشعبت بهم الظنون في متاهات لا قرار لها حين أخذوا يصفون كنه هذا الكمال وهذا الجلال، كما مر بنا من تصور أرسطو. أما جاهلية عصر الإحياء وعصر النهضة فقد سخرت "عقلها" في كيفية الاستغناء عن الله، وإخراج موضوع الألوهية من ميادين الفكر والحياة واحدا إثر الآخر. كان "التفكير الحر" معناه الإلحاد! ذلك أن التفكير الديني معناه الخضوع للقيد الذي قيدت الكنيسة به العقل وحجرت عليه أن يفكر، فمعنى الحرية الفكرية هو تحطيم ذلك القيد الذي يغل العقل من التفكير، ولم يكن أمام أوروبا بعد أن رفضت الإسلام إلا ذلك السبيل الواحد إلى الحرية الفكرية.. وهو الخروج على الدين!   1 المصدر السابق ص149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 يقول برنتون كما سبق أن نقلنا من كلامه في كتاب "منشأ الفكر الحديث" "ص103 من الترجمة العربية - ترجمة عبد الرحمن مراد": "فالمذهب العقلي يتجه نحو إزالة الله وما فوق الطبيعة من الكون.. فإن نمو المعرفة العلمية وازدياد الاستخدام البارع للأساليب العلمية يرتبط بشدة مع نمو الوضع العقلي نحو الكون ... ". ويقول عن قانون السببية الذي كشفه نيوتن: "إن السببية تهدم كل ما بنته الخرافات والإلهامات والمعتقدات الخاطئة "يقصد المعتقدات الدينية" في هذا العالم" "ص151 من المرجع السابق". ويقول: "الإله في عرف نيوتن أشبه بصانع الساعة ولكن صانع هذه الساعة الكونية ونعني بها الكون، لم يلبث أن شد على رباطها إلى الأبد، فبإمكانه أن يجعلها تعمل حتى الأبد". "أما الرجال على هذه الأرض فقد صممهم الإله كأجزاء من آلته الضخمة هذه ليجروا عليها. وإنه ليبدو أن ليس ثمة دافع أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذه الساعة الضخمة الكونية، الذي لا يستطيع إذا ما أراد التدخل في عمله"!! ولنا وقفة عند هذه النصوص.. إن الاتجاه الفكري النافر من الدين, المتجه إلى الإلحاد، لم يكن رد فعل لخطأ واحد من أخطاء الكنيسة وهو الحجر على العقل خوفا من مناقشة "المسلمات" المفروضة، إنما كان في الحقيقة رد فعل أو نتيجة لأخطاء متعددة في وقت واحد.. فالجهالة العلمية التي عانتها أوروبا عدة قرون في ظل السيطرة الكنسية جعلت للعلم -حين بدأت أوروبا تتعلم- فتنة ليست من طبيعته في الأحوال العادية وفي النفوس السوية، فضلا عن أن حرب الكنيسة للعلم والعلماء في عهد النهضة -باسم الدين- جعلت طريق البحث العلمي هو طريق معاداة الدين. إن الدين والعلم كما بينا في فصل "العلمانية" ليسا ندين متنافرين متعاديين كل منهما يسعى للسيطرة على حساب الآخر ورغما عنه! فنزعة العبادة ونزعة المعرفة كلتاهما نزعة فطرية، والفطرة -في النفس السوية- لا يتنافر بعضها مع بعض، إنما تتعاون جوانبها المختلفة لبناء الشخصية السوية المتوازنة، وقد تختل الشخصية لزيادة أو نقص في أحد الجوانب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 بالقياس إلى حدة المفروض، وبالقياس إلى الجوانب الأخرى في النفس، ولكنها لا تختل قط من اجتماع جوانب الفطرة كلها في النفس، فهذا هو الأمر الطبيعي الذي لا تستقيم النفس بدونه، بل العكس هو الصحيح، تختل النفس خللا مؤكدا حين يزاح جانب من جوانب الفطرة أو يضمر ليحل محله جانب آخر. وفي العالم الإسلامي الذي استقت أوروبا العلم منه، كان هذا هو الأمر الواقع: كان الدين والعلم يعيشان معا متساندين متعاونين بلا تنازع ولا تنافر ولا خصام، بل كان العلم في حقيقة الأمر نابعا من العقيدة منبثقا عنها، يعمل في خدمتها، ومع ذلك كان له ذلك المجال الواسع كله الذي يعمل فيه، والحرية التي يمارسها في البحث وتحصيل النتائج وتدوينها، والثمار العلمية المفيدة التي تقوم عليها نهضة علمية زاهرة. ولم يكن للعلم في نفوس المسلمين فتنة! لا هو فتنهم عن الدين، ولا صار في حسهم إلها مكان الله! لأنهم كانوا يتناولونه كما تتناوله الفطرة السوية، التي تأخذ حظها من العبادة كما تأخذ حظها من المعرفة العلمية, وتطلب هذه وتلك بلا تنافر بينهما ولا صدام! وقد كان العالم الواحد - في كثير من الأحيان- عالما في الطب أو الفلك أو الرياضيات.. إلخ، وعالما بالعلوم الدينية في نفس الوقت، متبحرا في هذه وتلك، متوازنا في ذات الوقت، لا يصرفه الدين عن العلم ولا يصرفه العلم عن الدين. وكان الحسن بن الهيثم -على سبيل المثال- الذي ظلت أوروبا تدرس نظرياته في علم الضوء "البصريات" إلى بداية القرن التاسع عشر لتفوقها وتقدمها الباهر، والذي أثبت ملاحظة كانت بالقياس إلى وقته من أعجب العجب، وهي انحناء الشعاع الضوئي عند ملامسته جسما منحنيا وعدم سيره في خط مستقيم1, كان على كل عبقريته العلمية تلك يقدم إنتاجه العلمي باسم الله، ويحمد الله ويثني عليه ويشكره على فيض نعمه عليه! كلا! لم يكن العلم عند المسلمين مثارا للفتنة؛ لأنهم صاحبوه عدة قرون على   1 وفسر بذلك أننا نرى الشمس قبل ظهورها الحقيقي بدقائق، ونظل نراها بعد غروبها بدقائق، وفي القرن العشرين اكتشف أنشتين أن الضوء في الكون الواسع لا يتخذ مسارا مستقيما بل ينحني حول الأجرام السماوية بفعل الجاذبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 رزانة وروية فلم يفاجئوا به كما فوجئت أوروبا في عصر النهضة؛ ولأنه نبع في حياتهم من نبع الدين فلم يثر بينه وبين الدين ذلك الخصام الذي ثار بين الدين والعلم في أوروبا؛ ولأن المعرفة كلها في حس المسلم نفحة ربانية يفتح بها على عباده, فيكون جزاؤها في حسه مزيدا من التقرب إلى الله، لا بعدا عنه وازورارا عن عبادته. كذلك كان اكتشاف قانون السببية بالذات باعثا من بواعث الإلحاد كما مر بنا من كلام "برنتون". والمسئول في ذلك أيضا هو الكنيسة! لقد ظلت الكنيسة تصرف الناس عن العلم عدة قرون، وتوحي إليهم بالاكتفاء بما عندها هي من العلم، الذي لم يكن يتجاوز -كما قلنا- أن الله خلق الأشياء على صورتها لحكمة يعلمها ولغاية يريدها ... أي: إرجاع الأمور كلها والظواهر كلها إلى إرادة الله ومشيئته، ومن شأن الدين أن يركز دائما على هذا المعنى، انظر إلى بعض ما جاء في القرآن الكريم في هذا الشأن: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.   1 سورة البقرة: 64. 2 سورة النحل: 10-18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 وحكمة ذلك واضحة ... "فالدين" يذكر الإنسان دائما بالله لكي يظل قلبه معلقا بالله في جميع حالاته، فيحبه ويخشاه، ويتطلع إليه في كل أمر من أموره، وبهذا وحده تصلح نفس الإنسان وتستقيم ... ولأن الإنسان عرضة دائما أن ينسى فإن الدين الصحيح يلح في تذكيره حتى لا تدركه الغفلة التي ينشأ عنها كل شر في حياة البشر على الأرض. ولكن هذا التركيز الشديد في الدين الصحيح على رد الأمور كلها إلى مشيئة الله، لم يمنع المسلمين من البحث عن "الأسباب الظاهرة" في الكون المادي وفي الحياة البشرية، بلا تعارض في حسهم بين هذا وذاك. ذلك أن الدين الصحيح -وقد رد كل شيء بحق إلى مشيئة الله وقدره1 -نبه البشر إلى أن هناك سننا كونية تعمل إرادة الله من خلالها في الكون المادي, كما أن هناك سننا أخرى تعمل تلك الإرادة من خلالها في الحياة البشرية، ودعاهم إلى التعرف على هذه وتلك، الأولى ليقوموا بتعمير الأرض -وهو جزء من مهمة "الخلافة" التي خلق الإنسان من أجلها- والأخرى لتكون هذه الخلافة راشدة حين يتم تعمير الأرض بمقتضى المنهج الرباني. لقد ظل القرآن يلفت نظر الناس إلى آيات الله في الكون وانتظامها ورتابتها ودقتها وانضباطها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} 2. {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ، لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ، سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ، وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 3.   1 يقول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر: 49] . 2 سورة الفرقان: 45, 46. 3 سورة يس: 33-40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} 1. وفهم المسلمون من هذه التوجيهات المتكررة أن الله يدعوهم إلى التأمل في هذا الكون من حولهم، ليتعرفوا على قدرة الله القادرة التي لا يعجزها شيء، وليتعرفوا كذلك على السنن الربانية التي أودعها في هذا الكون، والطاقات التي سخرها لهم فيه ليقوموا بعمارة الأرض، ويبتغوا من فضل الله. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} 2. {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} 3. ومن ثم انطلقوا "يدرسون" هذا الكون ويتعرفون على أسراره، فتقدم العلم على أيديهم تقدما ضخما، في الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات والطب وغيرها من العلوم النظرية والتجريبية ... واكتشفوا -من بين ما اكتشفوا- أن هناك سببا لكل شيء يحدث في الكون المادي، ومن نور وظلام، وكسوف وخسوف، ورياح ومطر، وجدب وخصب وزيادة ونقص.. إلخ.. إلخ ... ولكن اكتشاف "السبب الظاهر" لم يكن فتنة لهم كما كان بالنسبة لنيوتن ومن بعده من "العلماء"! فلم يجعلوه بديلا من السبب الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى، ولم يستغنوا به عن الله، ولم يتصورا أن له حتمية تقيد مشيئة الله الطليقة بحيث يعجز سبحانه عن التصرف في الكون بما يشاء، كما توهم نيوتن ومن بعده. نما عرفوا أن هذا "السبب الظاهر" هو "السنة الجارية" التي تجري شئون الكون المادي من خلالها، ومن ثم فهي ليست بديلا من الله سبحانه وتعالى، وهي جزء من مشيئته، ولا تعارض بين تفسير أي أمر من أمور هذا الكون بسببه الظاهر وتفسيره بأنه راجع إلى مشيئة الله، ما دام السبب الظاهر أو "السنة الجارية" من مشيئة الله، ومن ثم فلا تعارض بين ما سموه   1 سورة الذاريات: 20, 21. 2 سورة الإسراء: 12. 3 سورة الملك: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 "الطبيعة" وما سموه "ما وراء الطبيعة" بحيث يمتنع عليك الإيمان بهذه وتلك في آن واحد كما توهمت عقلانية ما بعد النهضة في أوروبا، نتيجة أن ما وراء الطبيعة في ظل السيطرة الكنسية والحجر على العقل كان ينفي الأسباب الظاهرة أو لا يعول عليها في تفسير أمر من أمور الكون، وأن اكتشاف "السبب الظاهر" جاء في جو من العداء للدين والكنيسة، فوضع -من ثم- مناهضا ومعاديا لما وراء الطبيعة، بالإضافة إلى أن القوم هناك ظلوا -في ظل الإيمان بما وراء الطبيعة على الطريقة الكنسية- في جهل مطبق بكثير مما يحيط بهم في هذا الكون، بينما جاء اكتشاف السبب الظاهر في وسط معلومات عن هذا الكون تبهر العقول! كلا! لم يفتن المسلمون باكتشاف السبب الظاهر كما فتنت أوروبا في جاهلية ما بعد القرون الوسطى، المظلمة عندهم، بل ظلوا يكشفون كل يوم جديدا من أسرار هذا الكون ويحققون به تسخيرا جديدا لطاقات السموات والأرض، المسخرة من الله أصلا للإنسان، والتي يحتاج تحقيق تسخيرها من قبل الإنسان إلى جهد عقلي يتعرف به على السنن الربانية وجهد عضلي لتحويل المعرفة النظرية إلى واقع. {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 1. {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} 3. ولم يتصور المسلمون في بلاهة تلك الجاهلية "أنه ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذه الساعة الضخمة الكونية" لمجرد أنهم عرفوا سرا من أسرارها، بل أحسوا -كما بينا من قبل- أن العلم نفحة ربانية يمن الله بها على عباده، فينبغي أن يشكروه عليها بإقامة الصلاة لا بقطعها، وإدامة التعبد والخشية لله، كما عرفوا أنهم مهما تعلموا من أمور الكون فعلمهم قليل، وأنهم في فقر دائم إلى الله واحتياج: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 4.   1 سورة الجاثية: 13. 2 سورة النحل: 78. 3 سورة الملك: 15. 4 سورة فاطر: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} 1. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 2. كذلك لم يتصوروا في بلاهة أن الله عاجز عن التصرف في شئون الكون بمشيئته الطليقة لمجرد أنه ثبت سنته الجارية كما تصور نيوتن: "ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذه الساعة الضخمة الكونية، الذي لا يستطيع إذا ما أراد التدخل في عمله"!! ومن ثم لم ينكروا المعجزات كما أنكرتها عقلانية النهضة وما بعدها. إنما عرفوا أن الله سبحانه وتعالى ثبت سنته -بمشيئته الطليقة- رحمة بالإنسان، وإعانة له على القيام بدور الخلافة, ولكنه سبحانه وتعالى طليق المشيئة يصنع في هذا الكون ما يشاء، لا يقيد مشيئته شيء على الإطلاق.. ولا ثبوت سنته الجارية3، فإن شاء سبحانه وتعالى أن يغير شيئا من نظام الكون- لحكمة يريدها- ليظهر للناس معجزة من معجزاته، أو يغير نظام الكون كله يوم القيامة كما أخبر عباده في كتبه المنزلة، فلن يقف ثبوت السنة الجارية أمام مشيئته جل وعلا، إذ السنة الجارية من مشيئته، والسنة الخارقة من مشيئته، وهو سبحانه يستخدم هذه السنة أو تلك وقتما يشاء وكيفما يشاء، لا قيد على مشيئته يمنعه من التصرف كيف يشاء. و"المعجزة" كما نطلق عليها هي شيء خارق للسنة الجارية.. نعم. ولكن "الإعجاز" في السنة الجارية هو هو الإعجاز في الخارقة، مصدرهما واحد، وجوهرهما واحد ... هو القدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء في السموات ولا في الأرض ... وإلا فهل خلق الحياة من الموات -الذي هو في حسنا من السنة الجارية- أقل روعة أو أقل إعجازا من شق البحر بالعصا، أو وقف دورة الشمس لفترة من الوقت أو غير ذلك من المعجزات؟ وهل الذي يخلق الكون كله من العدم يعجز عن تصرف جزئي في هذا الكون تقتضيه حكمته سبحانه؟! وكما لم تكن معرفة المسلمين المبكرة بالأسباب الظاهرة وثبوت السنة الجارية مانعا لهم من الإيمان بالمعجزات التي جاءت في الكتب المنزلة، كذلك لم يكن إيمانهم بالمعجزات داعيا إلى الخرافة، ولا الاعتقاد بأن الكون فوضى لا يضبطه   1 سورة الإسراء: 85. 2 سورة فاطر: 15. 3 راجع في ذلك فصل "التوازن" في كتاب "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 ضابط ولا يربطه نظام. و"العلم" الذي أخرجوه هو البرهان على ذلك، فقد كان هذا العلم من الدقة والانضباط -بحسب المتاح في وقته من الأدوات- لدرجة شهد لها كل منصف في التاريخ، وكله شاهد بأن المسلمين كانوا يتعاملون مع هذا الكون على أساس أن هناك نظاما دقيقا يربطه، نظاما من "الأسباب" و"النتائج" معجز بدقته، رائع بانضباطه: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} 1. إنما كانوا على "التوازن" الذي علمهم إياه الإسلام. أما "عقلانية" النهضة وما بعدها فقد خرجت على الناس بأمور "غير معقولة" على الإطلاق، من نفي لوجود الله تارة، ومن إثبات له تارة أخرى مع نفي قدرته على التصرف، ومن جعل السبب الظاهر بديلا من السبب الحقيقي، ومن جعل ثبوت الأسباب الظاهرة حتميات2 تفرض نفسها على مشيئة الله! ودار الزمن دورة أخرى فانتقلت أوروبا -فيما يقال- من سيادة العقل إلى سيادة الطبيعة، حين كشف العلم مزيدا من أسرار الكون واقتنع "المفكرون" أن الأصل الذي ينبغي الرجوع إليه هو "الطبيعة" لأنها هي التي تنقش في العقل ما يتولد فيه من أفكار. فليس مصدر المعرفة إذا هو الوحي الرباني -وقد نبذوه وراءهم ظهريا سواء منه ما كان حقيقيا بلا تحريف، وما اخترعته الكنيسة من عندها، وقالت إنه من وحي الله- ولا هو العقل، الذي لا ينشئ -ولا ينبغي له أن ينشئ- شيئا من عنده، إنما هو الطبيعة: هو عالم الحس.. هو الحقيقة الموضوعية.. يقول الدكتور محمد البهي في تلخيصه الجيد الذي نقلناه من قبل عن الفلسفة الوضعية وتقديرها للطبيعة: "ومعنى تقديرها للطبيعة على هذا النحو أن الطبيعة -في نظرها- هي التي تنقش الحقيقة في ذهن الإنسان وهي التي توحي بها وترسم معالمها الواضحة، هي التي تكون عقل الإنسان، والإنسان -لهذا- لا يملى عليه   1 سورة الملك: 3. 2 ثاب العلم أخيرا إلى أنه لا توجد "حتميات" فيما سموه "قوانين الطبيعة" إنما هي "احتمالات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 من خارج الطبيعة، أي: لا يملى عليه مما وراءها، كما لا يملى عليه من ذاته الخاصة، إذ ما يأتي من ما وراء الطبيعة خداع للحقيقة وليست "هي" حقيقة أيضا! "وبناء على ذلك يكون الدين" -وهو وحي "أي: ما بعد الطبيعة"- خداعا! وهو وحي ذلك الموجود الذي لا يحده ولا يمثله كائن من كائنات الطبيعة. هو وحي الله الخارج عن هذه الطبيعة كلية ... "وكذلك "المثالية العقلية" وَهْم لا يتصل بحقيقة هذا الوجود الطبيعي. إذ هي تصورات الإنسان من "عند" نفسه، من غير أن يستلهم فيها الطبيعة المنثورة التي يعيش فيها وتدور حوله". "إن عقل الإنسان في منطق هذه الفلسفة -أي: ما فيه من معرفة- وليد الطبيعة التي تتمثل في الوراثة والبيئة والحياة الاقتصادية والاجتماعية, إنه مخلوق، ولكن خالقه الوجود الحسي"1. ولقد يفهم من هذا لأول وهلة أن العقلانية التي تتبعنا أطوارها في عصر النهضة وما بعدها قد انتهت وحل محلها طور جديد لا يمت لها بصلة.. ولكن هذا غير الواقع. لقد تغير الإله المعبود عندهم بالفعل فلم يعد هو العقل، وإنما صار هو الطبيعة التي قال عنها دارون "الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق". ولكن الإله الجديد لم يقتل الإله الأول، ولم يخرجه من الساحة ليحل محله. إنما قيده فقط بقيوده وأخضعه لشروطه، وإن كان قد شد على يديه في حرارة مؤيدا ومؤازرا في نقطة واحدة معينة هي نفي الإله الحقيقي-سبحانه وتعالى- وإخراجه نهائيا من الساحة "نستغفر الله"، وإن اختلفت زوايا الرصد واختلف "المنطق" المستخدم فالإله الأول -العقل- ينبذه بحجة أنه "غير معقول"!! والإله الثاني -الطبيعة- ينبذه لأنه لا يدرك بالحس ولا يخضع للتجربة في المعمل!! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.. إن المنهج التجريبي الذي تعلمته أوروبا من المسلمين لم يؤت ثماره الظاهرة في ميدان العلم إلا في القرن التاسع عشر على وجه التقريب، ولكنه تحول عندهم   1 ص298, 299 من كتاب "الفكر الإسلامي الحديث". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 إلى فتنة طاغية.. لأن أوروبا أخذته دون أن تأخذ القاعدة الإيمانية التي كان يقوم عليها عند المسلمين، وهي قاعدته الأصيلة، فكأنه نبات انتزع من بيئته انتزاعا وغرس في بيئة أخرى لا تناسب الأولى، ولا تشبهها في مكوناتها ومقوماتها، فطال وارتفع، ولكنه أثمر ثمارا شيطانية غير الثمار الطيبة التي كان يؤتيها من قبل. كان المنهج التجريبي عند المسلمين نابعا من التوجيه الإسلامي الإيماني ... نابعا من مثل هذه التوجيهات: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} 1. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ..} 2. {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} 3. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} 4. "تداووا عباد الله فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء، إلا داء واحدا: الهرم" 5 وغيرها.. وغيرها. مما جاء في الكتاب والسنة.. كثير. وكانت هذه التوجيهات -التي حولت المسلمين من أمة لا اهتمام لها بالعلم في جاهليتها إلى أمة عالمة في كل فروع العلم المتاحة لها بحسب وقتها، وحولت العلم من الاتجاه النظري الإغريقي إلى الاتجاه العلمي التجريبي -موجهة إلى غايتين في آن واحد: التفكر في آيات الله في الكون للتعرف على قدرته المعجزة من أجل إخلاص العبادة له وحده، والتفكر في تلك الآيات للتعرف على السنن الكونية الربانية لتحقيق معنى الخلافة وعمارة الأرض. ومن ثم لم تفترق الغايتان في حس المسلمين كما افترقتا -وتعارضتا- في حس أوروبا! لم يشعر المسلمون أن تفكرهم في آيات الله في الكون من أجل إخلاص العبادة له، مانع لهم من البحث عن السنن الكونية الربانية من أجل عمارة الأرض،   1 سورة الإسراء: 36. 2 سورة البقرة: 189. 3 سورة الذاريات: 20, 21. 4 سورة السجدة: 27. 5 رواه أحمد وغيره "انظر صحيح الجامع الصغير3/ 37". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 ولم يشعروا كذلك أن البحث عن هذه السنن من أجل عمارة الأرض مانع لهم من إخلاص العبادة لله؛ لأنه لا تعارض في الحقيقة. والله يقول لهم: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} 1. ويقول لهم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} 2. فالمشي في مناكب الأرض والأكل من رزق الله -المؤدي إلى عمارة الأرض- يصحبه في التوجيه الرباني التذكير بالآخرة، وواجب إخلاص العبادة لله من أجل النشور, يوم يحاسب الناس على ما عملوا في الحياة الدنيا، فلا العمل من أجل الحياة الدنيا مانع من إخلاص العبادة وتذكر النشور، ولا تذكر النشور مانع من عمارة الأرض، وهكذا يتوازن "الإنسان" بين مطالب الجسد ومطالب الروح, ومطالب الدنيا ومطالب الآخرة.. بل هكذا في الواقع يصبح الإنسان إنسانا على الحقيقة لا حيوانا في صورة إنسان كما هو في الجاهلية المعاصرة. إنسان يسعى بكل فاعليته في واقع الأرض لعمارتها والهيمنة عليها والإنشاء والتغيير فيها بما يحقق معنى الخلافة، وهو في الوقت ذاته محكوم "بالقيم" المرتبطة بيوم النشور، النابعة كلها من إخلاص العبادة لله، ونبذ الأرباب المزعومة كلها، المؤدية إلى عبادة الشيطان من سبله المتعددة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 3. أما في الجاهلية المعاصرة فقد سارت الأمور في طريق آخر ... ذلك أن أوروبا استنبتت المنهج التجريبي الذي أخذته من المسلمين، في أرض سبخة يملؤها العداء للدين والفرار من الله بدلا من الفرار إليه: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ} 4. وكانت النتيجة أن أصبح المنهج التجريبي فتنة لأوروبا، كلما فتح عينيها   1 سورة القصص: 77. 2 سورة الملك: 15. 3 سورة الأنعام: 153. 4 سورة الذاريات: 50, 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 على مزيد من أسرار الكون زادوا بعدا عن الله! أو كما يقول جوليان هكسلي في كتابه "الإنسان في العالم الحديث": إن الإنسان كان يعبد الله من قبل في عصر العجز والجهل بسبب عجزه وجهله. أما الآن وقد تعلم وسيطر على البيئة فقد آن له أن يحمل على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر العجز والجهل على عاتق الله. ومن ثم يصبح هو الله! ولم تكن الفتنة هي غرور الإنسان بنفسه وظنه أنه مستغن عن الله فحسب1, بل كانت بالإضافة إلى ذلك فتنة بالعلم وبالمنهج التجريبي، فأصبحت التجربة الحسية المعملية هي "المعيار" الذي تقاس به "حقيقة"كل شيء، ويرد إليه "صدق" كل شيء! فما أمكن إثباته عن طريق التجربة المعملية فهو الموجود على الحقيقة، وهو الموثوق بصدقه, وما لا يمكن إثباته عن هذا الطريق فهو إما شيء لا وجود له وإما شيء ساقط من الحساب، ودخلت في هذا القبيل قضية الألوهية بكاملها، بكل ما حولها من وحي ورسل وكتب وبعث ونشور وحساب وجزاء.. أو باختصار: قضية الإيمان2. وإذا كانت عقلانية عصر النهضة وما بعدها قد أغلقت كل منافذ المعرفة إلا العقل، ولكنها تركته يسرح حيث يشاء، ويشطح كيف يشاء فإن "العقلانية التجريبية" التي سيطرت على الفكر الأوروبي منذ القرن التاسع عشر، قد أغلقت كل منافذ العقل إلا التجربة والحس! وتلك هي اللعنة التي نجا منها الفكر الإسلامي الأصيل3 وقت أن كان المسلمون مستقيمين على نهج الإسلام الصحيح. لقد كان المسلمون -كما بينا- هم الذين أنشئوا المنهج التجريبي في البحث العلمي. ولكنهم أدركوا -بداهة- أنه ليس كل شيء يدخل المعمل للتجربة! إنما الذي يصلح لذلك هو "المادة" و"الجسم" ولم يتوانوا هم في إدخال المادة والجسم معمل التجربة, فتقدمت الفيزياء والكيمياء والطب على أيديهم تقدما يعتبر بالنسبة إلى وقتهم فتوحات. ولكنهم -فيما عدا القلة الشاذة التي تأثرت بالفكر الإغريقي- لم يغلقوا   1 يقول رب العالمين جل وعلا: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى} [سورة العلق: 6, 7] . 2 مر النص من حديث جبريل عليه السلام: "قال: أخبرني عن الإيمان". قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره". 3 أي: الذي لم يتأثر بفكر أجنبي عن الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 كل منافذ المعرفة غير العقل1, ثم إنهم -قط- لم يغلقوا كل منافذ العقل غير التجربة والحس. لقد أدركوا، وصدقوا، وآمنوا أن الله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 2 ومن ثم لم يجعلوا المرجع الذي يرجعون إليه في إثبات وجود الله ووحدانيته وتفرده بصفاته التي يتصف بها هو التجربة الحسية! إلا من جانب واحد هو رؤية آثار قدرة الله في الكون، والاستدلال منها على كل ما تدل عليه من وجود الله ووحدانيته وتفرده، وهذا هو المنهج العلمي الصحيح الذي فاء إليه أخيرا نفر من العلماء في الجاهلية المعاصرة في القرن العشرين3! ثم إن المسلمين لم تكن لديهم كنيسة تدفعهم -بتصرفاتها- إلى حماقة عدم تسمية الله باسمه الصحيح، ولا إضفاء صفات الله على إله آخر مزعوم اسمه الطبيعة، أو اسمه المادة، لمجرد الهروب من طغيان الكنيسة ... فإذا ذكر الله اشمأزت قلوبهم وإذا ذكر الإله المزعوم إذا هم يستبشرون! وإذ ظلوا يعرفون الله باسمه الصحيح، ويعبدونه -من ثم- العبادة الصحيحة، فإن السبل لم تختلط عليهم، ولم يجعلوا قضايا الوحي والرسالة واليوم الآخر قضايا تجريبية، إنما قضايا إيمانية يسلمون بها بعد أن تتأكد عقولهم -بكل وسائل الاستدلال- من وجود الله سبحانه وتعالى، وقدرته التي لا تحدها حدود، وتتأكد من صدق الرسول المرسل إليهم -صلى الله عليه وسلم، ومن أن ما يخبر به عن ربه وحي لا شك فيه. ولم يتعارض في حسهم الإيمان بما تدركه الحواس مع الإيمان بما لا تدركه الحواس، أو الإيمان بالغيب، فهذا له قناة في الفطرة وذاك له قناة، كلتاهما تمد الإنسان بلون من المعرفة غير الذي تمده به الأخرى، ومن مجموعهما معا تتكون المعرفة اللازمة للإنسان. لم يغلقوا على أنفسهم نافذة الغيب في سبيل تأكيد العالم المحسوس وتأكيد معرفتهم به ... كما لم يغلقوا على أنفسهم نافذة المحسوس في سبيل تأكيد إيمانهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.   1 وحتى هؤلاء لم يصلوا إلى درجة الإغريق وإن كانوا تأثروا بهم. 2 سورة الأنعام: 103. 3 انظر كتاب "الله يتجلى في عصر العلم" لمجموعة من العلماء الغربيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 وبذلك تقدموا بالمنهج التجريبي ذلك التقدم الهائل الذي أحرزوه دون أن يحتاجوا إلى مسخ الإنسان وطمس بصيرته وتعتيم روحه على النحو الكريه الذي صنعته الجاهلية المعاصرة، فظلت تهبط بالإنسان دركا وراء درك حتى لتوشك أن تسلمه إلى الدمار. ونريد أن نتعرف على الموقف الصحيح للعقل والعقلانية كما يقدمه الإسلام وكما مارسه المسلمون وقت أن كانوا مستقيمين على المنهج الصحيح. ولكنا لا نستطيع أن نختم الحديث عن عقلانية الجاهلية، والعقلانية المعاصرة بصفة خاصة، قبل أن نشير إلى قولة عجيبة وردت في كتاب من كتب سارتر، الكاتب الوجودي المعروف، ذات صلة بالموضوع، ودلالة لا تحتاج إلى تعليق! وسارتر يهودي وإن كان كثير من الناس لا يعلمون ذلك! فقد ورد في الدستور اليهودي أن اليهودي من كانت أمه يهودية، وأم سارتر يهودية كما ذكر هو في هذا الكتاب المشار إليه، والذي عنوانه "تأملات في المشكلة اليهودية Reflections sur la question juive" والذي أنصح بقراءته كل قارئ يملك قراءته بلغته الأصلية الفرنسية أو ترجمته بالإنجليزية بعنوان: "Anti-Semite and jew" ذلك أنه لم يترجم إلى العربية فيما أعلم. صدر هذا الكتاب عام 1946م بمناسبة الحديث عن تقسيم فلسطين وإنشاء الدولة اليهودية.. وقيمته من وجهة نظرنا أنه يعترف بأفاعيل اليهود في إفساد البشرية في أثناء محاولته الدفاع عنهم! ذلك أن طريقته في الدفاع عن اليهود هي أن يذكر التهم الموجهة إليهم، ثم يقول إنها صحيحة! ولكنهم معذورون في إتيانها بسبب كذا وكذا! وسواء اقتنعت بوجاهة الأسباب أم لم تقتنع -وهي في مجموعها متهافتة لا تقنع أحدا- فإنها تؤكد التهمة ولا تنفيها! ويزيد من قيمة شهادته أنه "شاهد من أهلها" لا يتهم بالتعصب ولا التحيز ولا التقول ولا الافتئات! يقول: إن اليهود متهمون بتهم ثلاث كبرى هي: عبادة الذهب، وتعرية الجسم البشري، ونشر العقلانية المضادة للإلهام الديني، ويقول إن التهم كلها صحيحة! ثم يروح يقدم لكل منها ما يقدر عليه من المعازير. قال عن عبادة الذهب إن اليهود مضطهدون في كل الأرض وكل التاريخ، وإنهم لا بد أن يسعوا إلى امتلاك القوة ليقاوموا هذا الاضطهاد، والوسيلة التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 لجئوا إليها هي السعي إلى امتلاك الذهب وتجميعه ليكون لهم عدة وقوة! وقال عن تعرية الجسم البشري إن اليهود متهمون بقبح أجسامهم وعدم استقامتها! فأرادوا أن يثبتوا للبشرية أن القبح كامن في الجسم البشري ذاته لا في أجسام اليهود وحدهم! فعملوا على تعرية الجسم البشري ليستيقن البشر من هذه الحقيقة! "أرأيت إلى مدى السخف والتهافت ... ؟! ". أما نشر العقلانية المضادة للإلهام الديني "Rationalism as against tuition" كما ورد في الترجمة الإنجليزية" فقد كشف فيه الغطاء دون مواربة! قال: إنه طالما كان البشر يؤمنون بالدين، فسيظل يقع على اليهود تمييز مجحف على اعتبار أنهم يهود. أما إذا زال الدين من الأرض، وتعامل البشر بعقولهم، فعقل اليهودي كعقل غير اليهودي، ويومئذ لن يتميز اليهود بكونهم يهودا، ولن يقع عليهم التمييز المجحف، وسيعيشون في سلام مع غير اليهود "أي: بعد أن يغطوا على حقيقتهم ويندسوا في وسط البشرية مبهمين بين الجموع!! ". ومهما يكن في هذا الكلام من المغالطات المكشوفة التي قصد بها التغطية على الأهداف الحقيقية لليهود من وراء هذه الأفعال "وهي نشر الفساد في صفوف الأمميين لإفساد عقائدهم وأخلاقهم بالإضافة إلى سلب أموالهم، لتيسير استعبادهم للشعب الشرير" فإن ثبوت التهمة بشهادة شاهد من أهلها أمر غني عن التعليق1. ونعود الآن إلى تبين الموقف الصحيح للعقل والعقلانية كما يرسمه الإسلام.. يقدر الإسلام العقل باعتباره من أكبر النعم التي أنعم بها الله على الإنسان: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2. ولكنه لا يبالغ في تقدير قيمة العقل كما كانت تفعل العقلانية الإغريقية ومن ورثها من بعد، بحيث يجعله هو المحكم في كل شيء، وهو المرجع الأخير لكل شيء!   1 مما يلفت النظر في هذا الكتاب أيضا قول سارتر أن تقسيم فلسطين إلى دولة عربية ودولة يهودية لن يحل المشكلة اليهودية. إنما الحل هو نشر الشيوعية العالمية، وهو أيضا قول لا يحتاج إلى تعليق. 2 سورة النحل: 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 فهناك أمور لا يستطيع العقل من ذات نفسه أن يصل إليها؛ لأنها ليست في محيط تجربته، ولا تستطيع الأدوات التي يحصل بها المعرفة وهي أدوات الحس أن تصل إليها؛ لأنها خارجة عن نطاق المحسوس، وإن كان في إمكان العقل أن "يعقلها" حين تبين له؛ فهذه تلقن للعقل تلقينا عن طريق الوحي، ويكون دور العقل فيها أن يعقلها لا بطريق التجربة المباشرة ولا بطريق الحس، ولكن عن طريق التيقن من صدق الخبر وصدق المخبر، وهو مدعو -كما أسلفنا- إلى القيام بعملية التيقن هذه بكل الوسائل التي يملكها.. وهي مؤدية إلى الغاية الصحيحة حين يستقيم العقل على الطريق. وهنا نقطة مهمة في الموضوع. فالعقل المجرد عن الهوى، المتمحض لتمحيص الحقائق, المنزه عن كل شائبة تشوب التفكير أو تشوب الحكم وهم توهمته الفلسفة الإغريقية، كما توهمته من بعدها كل عقلانية بالغت في تقدير دور العقل وتقدير قدراته، والواقع البشري الطويل يشهد بأحد أمرين أو بهما معا في الحقيقة: إما أن هذا العقل -في صورته المجردة تلك- لم يوجد قط في واقع الأمر، وإما أن البشرية لا تحكم عقلها في جميع أحوالها. وكلا الأمرين صحيح! فلا هذا العقل المطلق موجود عند أحد من البشر العاديين ولا الفلاسفة ولا المفكرين، ولا البشرية تخضع لنداء العقل "على فرض صحته" وتصيخ إليه! إلا من رحم ربك! والدليل -العقلي- على الأمر الأول، أنه لا يكاد ينطبق عقلان من عقول البشرية في تاريخها الطويل كله على تصور واحد بجميع تفصيلاته، ولو كانت العقول -حتى عقول الفلاسفة والمفكرين- بالصورة الوهمية التي تصورها العقلانية لتلاقت وتطابقت؛ لأن الحق لا يتعدد. والدليل -العقلي كذلك- على الأمر الثاني هو هذا الجنوح الدائم والتخبط الذي تمارسه البشرية، وتلك الحروب المجنونة، وذلك الاتباع الجنوني للهوى والشهوات، ولو كانت البشرية تصيخ لنداء العقل في جميع أحوالها ما جنحت ولا تخبطت ولا أصابها الجنون! إنما الحق -الذي تشير الدلائل كلها إليه- أن العقل -في خارج ميدانه الأصيل- أداة طيعة لمن يسيطر عليه! فإذا سيطرت عليه الروح المهتدية استقام منطقه واستقام تفكيره، وأصبح خادما أمينا للهدي يسخر طاقاته كلها في خدمته، وإذا سيطرت عليه الروح الضالة، أي: سيطر عليه الهوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 والشهوات، فهو خادم للضلال يسخر طاقته كلها في خدمته، ويجادل أشد الجدل لتبرير موقفه: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} 1. {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} 2. {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} 3. ومعرفة هذه الحقيقة عن العقل لا تنقص من قدره كأداة للتفكير، بل إن هناك ميادين من الفكر هي خالصة للعقل لا يشاركه فيها غيره من أدوات التلقي وأدوات تحصيل المعرفة، كما سيجيء بيانه، وإنما معرفة هذه الحقيقة تجعلنا نتحفظ فقط في تقديرنا للقيمة النهائية للعقل، بحيث لا نجعله هو المحكم في كل شيء, ولا المرجع الأخير لكل شيء! إنما ننزله منزلة الحق، فما كان فيه هو المرجع الوحيد أو المرجع النهائي وكلناه إليه كله، وما كان فيه قمينا أن يضل إذا ترك وحده جعلنا له الصحبة التي تمنع ضلاله، وما كان عاجزا عن الوصول فيه إلى شيء لم نقحمه فيه.. وهذا هو منهج الإسلام. يمنح الإسلام العقل مجالا واسعا للعمل، هو أوسع مجال سليم للعقل منحه إياه نظام من النظم أو عقيدة من العقائد، وفي الوقت نفسه يمنعه من مجالات بعينها، ويحظر عليه التفكير فيها، أو ينكر عليه حق التفكير ... ونبدأ بالحديث عن الأخيرة لأنها -في الجاهلية المعاصرة بصفة خاصة- مظنة الحجر على العقل بغير موجب! يحظر الإسلام على العقل أمور ثلاثة: التفكير في ذات الله، والتفكير في القدر، والتشريع من دون الله. "تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله" 4. "وإذا ذكر القدر فأمسكوا" 5. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 6. وأما الأولى والثانية فالحظر فيها ليس حجرا على "حرية الفكر" إنما هو   1 سورة الكهف: 54. 2 سورة غافر: 5. 3 سورة الأعراف: 179. 4 رواه أبو نعيم "انظر صحيح الجامع الصغير 3/ 49". 5 رواه الطبراني. 6 سورة المائدة: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 صيانة لطاقة العقل أن تتبدد فيما لا طائل وراءه، وإلا فلننظر في "الإنتاج البشري" كله فيما يتعلق بذات الله، في الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي وما يسمى بالفلسفة الإسلامية وعلم الكلام ... إلى أي شيء وصل؟! وإلى أي شيء كان قمينا أن يصل؟ لا شيء! لأنه اقتحام بلا أداة.. أو بغير الأداة الصالحة للوصول. كالمفتاح الذي يدور في القفل ويدور ... والقفل لا يفتح.. لأن المفتاح أضأل من أن يفتح القفل! كما قلنا من قبل: ليس العيب في القفل ولا في المفتاح، ولكنه في إصرارنا نحن أن نفتح القفل بغير مفتاحه! الروح هي أداة الوصول! لا نعرف نحن كيف تصل.. ولكنها تصل! في لحظة الإشراق.. في لحظة التوهج.. تصل! وتحس بالوصول! وتنعم بالوصول! وليس معنى ذلك -كما أوضحنا من قبل- أن العقل ليس له دور في عملية الإيمان، كلا! إن له دوره المخصص له. لكن الإيمان بالله شيء، والإحاطة بكنه الذات الإلهية -وهو ما يحاوله العقل- شيء آخر لا يمكن أن نصل إليه. والذي تصل إليه الروح ليس هو الإحاطة بكنه الذات الإلهية كذلك. إنما هو القرب الذي يتلقى النور ويفيض عليه النور، فيستغني عن "البحث" في الكنه، الذي يحاوله العقل ولا يصل إلى شيء منه! وهذه المشاعر يملكها كل إنسان في لحظات التوجه الصادق إلى الله، وإن كان الإنسان -بطبيعته- لا يثبت عليها كما تثبت الملائكة الأطهار.. ولا هو مطلوب منه أن يثبت عليها؛ لأن الله لا يكلف كل نفس إلا وسعها ... شكا الصحابة رضوان الله عليهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم حين يكونون معه يكونون في حال، وإذا خرجوا من عنده وانساحوا في الحياة تغيرت بهم الحال. فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما معناه إنهم لو ظلوا على حالتهم التي يكونون عليها وهم في صحبته لصافحتهم الملائكة! ذلك هو الوصول الذي تقدر عليه الروح.. ولا يستطيع العقل أن يمارسه؛ لأنه ليس من شأنه. وأما القدر فشأنه كذلك.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 ليس للعقل فيه مجال ... إنما يحتاج الإنسان لكي يدرك كيف يجري الله قدره، بخيره وشره. أن يكون على مستوى الإله، وذلك أمر لن يكون، فالله وحده هو المتفرد بالألوهية والعلم المحيط بالزمان والمكان والأشياء والأشخاص والأحداث. ومن ثم ضل "العقل" حيثما تكلم في القدر.. واستراح القلب المؤمن المطمئن بذكر الله. {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 1. ومن لم يطمئن قلبه.. وسعى "بعقله" أن يعقل القدر.. فلأي شيء وصل من خلال الفلسفة والفكر والكلام؟! كلا! لم يكن حجرا على "حرية الفكر" إنما صيانة لطاقة العقل أن تتبدد فيما لا طائل وراءه.. ومن أبى أن يلتزم بالحظر فقد أنهك عقله وشقي، ولم يجد في النهاية الظل الذي يفيء إليه من لفحة الرمضاء! وهي على أي حال نصيحة يلتزم بها العاقل فيجد فيها الخير، ويتجنبها من يتجنبها فيلقى جزاء المخالفة اضطرابا وحيرة لا تستقر. أما التشريع بغير ما أنزل الله فليس الأمر فيه أمر "نصيحة" توجه إلى الناس، إنما هي قضية كفر وإيمان. والقضية على أي حال ذات شقين، كلاهما يتعلق بالألوهية وما ينبغي لها في شأن التشريع. الشق الأول من القضية هو المتعلق بمقام الألوهية؛ من الإله؟ من المعبود؟ من صاحب الأمر؟ وهي كلها مترتبة على سؤال أولي: من الخالق؟ من المدبر؟ من المهيمن؟ من صاحب السلطان؟ الله أم الإنسان؟ فإذا كان الله هو الخالق والإنسان هو المخلوق، فقد تحدد مقام الألوهية ومقام العبودية، وأصبح صاحب الحق في أمر التشريع -كما في كل أمر آخر- هو الله الخالق لا الإنسان المخلوق.. إلا أن يأذن له صاحب الأمر. {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 2.   1 سورة الرعد: 28. 2 سورة الأعراف: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 1. {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 2. {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} ؟! 3. وقضية الكفر والإيمان -أو قضية الجاهلية والإسلام- هي دائما هذه القضية، مصحوبة -في الغالب- بقضية العبادة بمعنى أداء الشعائر التعبدية. {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 4. فالأولى متعلقة بالألوهية: هل الله واحد أم آلهة شتى؟ فإذا كان واحدا فمن حقه أن يعبد وحده، أي: تقدم الشعائر التعبدية له وحده. والثانية متعلقة بخصيصة من خصائص الألوهية وهي الحاكمية: هل الله الذي يحكم، فيحل ويحرم، ويبيح ويمنع، أم له شركاء في التشريع, يقولون من عند أنفسهم: هذا حلال وهذا حرام، وهذا مباح وهذا غير مباح, بغير سلطان من الله؟ فما دام الله واحدا في ألوهيته، فالحاكمية -من ثم- له وحده؛ لأنها خصيصة الألوهية. والإيمان هو التوحيد في هذه وتلك، والكفر هو الشرك في هذه أو تلك أو فيهما جميعا. وقضية الجاهلية دائما هي الاستكبار عن عبادة الله، سواء كانت العبادة هي أداء الشعائر التعبدية لله وحده، المترتب على الاعتقاد القلبي بوحدانية الله، أو كانت هي التحاكم إلى شريعة الله المترتب كذلك على الاعتقاد القلبي بوحدانية الله. {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} 5.   1 سورة يوسف: 40. 2 سورة الزمر: 3. 3 سورة الشورى: 21. 4 سورة النحل: 35. 5 سورة غافر: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 وفي الجاهليات القديمة كلها كان الناس يؤمنون بأن الله هو الخالق، ولكنهم يشركون معه آلهة أخرى يضفون عليها بعض صفات الألوهية، أما في قضية الشتريع فكان كبراؤهم يتنكبون الطريق، فيعطون لأنفسهم حقا من الحقوق المتعلقة بالألوهية -هو حق الحاكمية- فيشرعون بغير سلطان من الله، ويجعلون من أنفسهم أربابا مع الله، وأما المستضعفون فيخضعون لهؤلاء الأرباب المزيفين بحكم ما في أيديهم من السلطان القوي, فيعطونهم حق التشريع، ويستعبدون أنفسهم لهم بالخضوع لما يشرعونه من تشريع.. فيشترك الذين استكبروا والذين استضعفوا في شرك العبادة، ثم ينقسمون بعد ذلك إلى سادة وعبيد، السادة يملكون ويحكمون، والعبيد لا يملكون ولا يحكمون.. إنما يقع عليهم الذل والهوان والضياع والبؤس كشأن كل جاهلية في الماضي.. وكل جاهلية آتية إلى قيام الساعة. أما الجاهلية المعاصرة فقد استكبرت استكبارا من نوع آخر فنفت وجود الله أصلا، وزعمت أن الطبيعة أو المادة هي الخالق الأزلي الأبدي ذو السلطان. ولكنها في قضية التشريع سارت على ذات النمط الذي سارت عليه كل جاهلية من قبل، فاستأثر بالتشريع ذوو السلطان، وخضع لهم العبيد، فاستوى بذلك عهد الرق وعهد الإقطاع وعهد الرأسمالية وعهد الشيوعية على خلاف في الصورة لا يقدم ولا يؤخر كثيرا في واقع الأمر1. هذا هو الشق الأول من قضية التشريع المتعلق بمقام الألوهية، أما الشق الآخر فهو متعلق كذلك بقضية الألوهية ولكن من جانب آخر. كان الشق الأول من القضية: من الذي يحق له أن يشرع، الخالق أم المخلوق؟ أما الشق الآخر فهو: من الذي يحق له أن يشرع، العليم الخبير أم الذين لا يعلمون؟ والإنسان -في الجاهلية الأخيرة خاصة- يزعم أنه هو العليم الخبير، ومن ثم فهو الذي يحق له أن يضع التشريع. وبصرف النظر عن أن الأصل في القضية هو الاستكبار عن عبادة الله فلننظر في هذا الإنسان الذي يزعم أنه هو العليم الخبير كيف يعالج شئون حياته في معزل عن منهج الله!   1 راجع فصلي الديمقراطية والشيوعية في هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 كان العمال في الرأسمالية خاضعين للظلم الواقع عليهم من أصحاب رءوس الأموال، يسرقون كدحهم ويأكلون جهدهم ولا يعطونهم إلا الكفاف.. ففكر "الإنسان" في طريقة لرفع ذلك الظلم فابتدع الشيوعية.. فأزيلت الملكية الفردية كلها وأصبحت الدولة هي المالك الوحيد. فوقع الناس جميعا في الذل المهين للمالك الجديد، يستعبدهم بلقمة الخبز، فلا يملكون أن يفتحوا أفواههم بكلمة نقد واحدة للسيد المعبود! وكانت المرأة في الجاهلية الأوروبية في عهد الإقطاع مهينة محقرة، تعير بأنها تحمل وتلد، ولا تعطى وضعها الإنساني الكريم، ففكر "الإنسان" في طريقة لرفع الظلم عن المرأة ورد الإنسانية المفقودة إليها ... فكيف فكر وكيف قدر؟ أخرجها من البيت وشغلها في المصنع والمكتب، وجعلها تختلط مع الرجل، فاشتغل الرجل والمرأة كلاهما بفتنة الجنس، وفسدت الأخلاق، وتحطمت الأسرة، وتشرد الأطفال، وانتشر الشذوذ، وفسدت الحياة! وكانت الكنيسة في العصور الوسطى تفسد الحياة كلها بإفساد الدين، ففكر "الإنسان" في طريقة للإصلاح ... فكيف فكر وكيف قدر؟! ألغى الدين كله. بل نفى وجود الله أصلا.. ثم راح يتخبط في الظلمات! هذا هو الإنسان "العليم الخبير! " الذي يزعم أنه شب عن الطوق ولم يعد في حاجة إلى وصاية الله! وهذه هي طريقة تفكيره حين يضع لنفسه منهج الحياة! إنه يقع فريسة لقصور العقل البشري، وفريسة للهوى والشهوات! إنما يلزم لمن يضع للإنسان منهج حياته أن يكون بادئ ذي بدء عالما بذلك "الإنسان" ليضع له منهجا على قده، ويلزم له أن يكون محيط العلم بماضي ذلك الإنسان وحاضره ومستقبله، لكيلا يعالج مشكلة بمشكلة جديدة، ولا يقوم انحرافا بانحراف جديد ... ويلزم له أن يكون منزها عن الغرض، منزها عن الهوى والشهوات، ليكون منهجه "موضوعيا" خالصا بالنسبة لحياة الإنسان ... فهل كذلك الإنسان؟! وهل يمكن أن يكون كذلك في يوم من الأيام؟ يقول ألكسس كاريل عن معرفة الإنسان بنفسه: "وفي الحق لقد بذل الجنس البشري مجهودا جبارا لكي يعرف نفسه، ولكنه بالرغم من أننا نملك كنزا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسنا، إننا لا نفهم الإنسان ككل.. إننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة. وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا، فكل واحد منا مكون من موكب من الأشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة". "وواقع الأمر أن جهلنا مطبق. فأغلب الأسئلة التي يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب ... "1. ومر بنا من نماذج القصور في رؤية الإنسان وطريقة علاجه للأمور ما يغنينا عن المزيد. إنما الله هو العليم الخبير لا الإنسان! {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 2. {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 3. {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} 4. {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} 5. {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 6. من أي جانب إذن عالجت قضية التشريع، فالتشريع هو حق الله تبارك وتعالى، وليس الإنسان مأذونا له ولا هو صالح لوضع منهج حياته.. إلا ما أذن الله له فيه. وسنرى في النقاط التالية بأي شيء أذن الله للإنسان، يعمل فيه عقله ويجتهد فيه. إذا جاوزنا هذه الأمور الثلاثة، التي نصح العقل ألا يتناولها كقضية الذات الإلهية وقضية القدر، أو منع منعا جازما منها كقضية التشريع، فكل المجالات الأخرى مباحة للعقل ومتاحة له، بل هو -في الإسلام- مدعو إليها دعوة   1 كتاب الإنسان ذلك المجهول ص16 من الترجمة العربية "تعريب شفيق أسعد فريد". 2 سورة الملك: 14. 3 سورة البقرة: 216. 4 سورة الطلاق: 12. 5 فاطر: 15. 6 سورة النساء: 26-28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 صريحة، ويعتبر مقصرا إذا لم يقم بها. وهناك خمسة مجالات رئيسية يدعى العقل للعمل فيها في ظلا لإسلام: أولا: تدبر آيات الله في الكون للتعرف على قدرة الله المعجزة، وتفرده بالخلق والتدبير والهيمنة والسلطان، بما يؤدي إلى إخلاص العبادة له وحده سبحانه، وطاعته فيما أمر به وما نهى عنه. ثانيا: تدبر آيات الله في الكون للتعرف على السنن الكونية التي يجري بها قدر الله في الكون، لتحقيق التسخير الرباني لما في السموات وما في الأرض للإنسان، من أجل تعمير الأرض والقيام بالخلافة بها. ثالثا: تدبر حكمة التشريع الرباني لإحسان تطبيقه على الوجه الأكمل، والاجتهاد فيما أذن الله فيه بالاجتهاد. رابعا: تدبر السنن الربانية التي تجري الأمور بمقتضاها في حياة البشر، لإقامة المجتمع الإيماني الراشد الذي يريده الله. خامسا: تدبر التاريخ. ولنقل كلمة موجزة عن كل مجال من هذه المجالات: أولا: في قضية الإيمان -كما أسلفنا- يخاطب الإسلام الإنسان كله، بكل جانب من جوانبه، ويركز على الجانب الوجداني؛ لأن العقيدة دائما تخاطب الوجدان وتحيى فيه وتتحرك به، ولكنه يخاطب العقل كذلك في ذات الوقت، ويستنهضه للتفكر والتدبر والتأمل، لتتآزر جوانب الإنسان كلها للوصول إلى الحقيقة، حقيقة الألوهية، وما يترتب على معرفتها من التزامات في كل مجالات الحياة والشعور والفكر والسلوك. يخاطبه ليتدبر في آيات الخلق.. خلق الكون وخلق الإنسان.. هل من خالق غير الله؟ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} 1. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ   1 سورة الطور: 35, 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 1. وما زال هذا التحدي قائما ... وسيظل قائما إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.. وكل محاولات الجاهلية المعاصرة أن تزيغ عن مجابهة التحدي، بالقول بالمصادفة تارة، وبالخلق الذاتي تارة، وبأي كلام تارة أخرى إنما هي محاولات متهافتة لا يقبلها "العقل" لو تجرد للتفكر بغير ضغوط وبغير شهوات. والإسلام يخاطب العقل ليتجرد في تفكره، وليصل إلى النتيجة الموضوعية العلمية التي يدل عليها كل ما في السموات والأرض من شيء. ويتخلى عن الهوى الذي يعمي وعن الكبر الذي يضل. فيجد الحقيقة بارزة تملأ اليقين. {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} 2. {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 3. {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 4. وكما يخاطبه ليستقن -بطرق استدلالاته الخاصة من استقراء واستنباط وقياس ومنطق ... إلخ- من حقيقة الألوهية وتفرد الله بالخلق والتدبير.. يخاطبه ليرتب على يقينه ذلك يما يستتبعه من تبعات.. فإذا كان الله متصفا بتلك الصفات التي استدل عليها وتيقن منها فمن الجدير بالعبادة غيره، ومن الجدير بالطاعة غيره؟ كذلك يخاطبه ليستقين من الحق الذي خلقت به السموات والأرض، وما يستتبع هذا الحق من بعث ونشور وحساب وثواب وعقاب: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} 5. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... } 6. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ   1 سورة لقمان: 10-11. 2 سورة النحل: 17. 3 سورة الأنبياء: 22. 4 سورة المؤمنون: 91. 5 سورة المؤمنون: 115. 6 سورة ص: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} 1. إن الله الذي صفاته هي تلك التي عرفها العقل واستيقن منها لا يمكن -عقلا- أي: أن يخلق شيئا عبثا، أو أن يخلق شيئا باطلا، إنما يخلق كل شيء بالحق، والحق يقتضي أن يكون هناك يوم يحاسب فيه الناس على أعمالهم في الحياة الدنيا؛ لأنه لا يتم الجزاء الحق في الحياة الدنيا كما يرى الإنسان بنفسه.. فكم من ظالم ظل يظلم حتى مات، وكم من مظلوم ظل مظلوما حتى مات، فلو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف فأين الحق؟ إنما يحق الحق حين يبعث الناس فيحاسبون على السيئة والحسنة، ويأخذ كل إنسان جزاءه بالحق. وإذا كان الأمر على هذه الصورة فإن "العقل" يقتضي أن يحسب الإنسان لهذا اليوم حسابه، وأن يعمل من الأعمال ما يقربه من الجنة ويبعده عن النار.. وألا تفتنه اللذة العاجلة عن النعيم المقيم. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} 2. وهذه الأمور كلها يخاطب فيها الوجدان -مع العقل- لتترتب عليها حركة سلوكية واقعية, ولكن نصيب العقل فيها واضح لا يحتاج إلى تأكيد. ثانيا: يوجه العقل بعد ذلك إلى تدبير آيات الله في الكون للتعرف على أسراره، للتعرف على خواص ذلك الكون، لإمكان تسخيرها لعمارة الأرض. والتسخير قائم من عند الله ابتداء: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 3. ولكن تحقيق هذا التسخير في عالم الواقع لا يتم بمجرد رغبة الإنسان في ذلك،   1 سورة آل عمران: 190-194. 2 سورة آل عمران: 185. 3 سورة الجاثية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 فهو ليس إلها يقول للشيء كن فيكون، إنما يتحقق هذا التسخير بجهد معين يبذله الإنسان، جهد عقلي يتعرف به الإنسان على أسرار الكون وخواصه، وجهد عضلي يطبق به الإنسان ثمار معرفته في صورة عمل منتج. وكل ذلك يوجه العقل لأدائه، بل هو ميدانه الأصيل الذي تتجلى فيه كل عبقريته، والذي لا يشاركه فيه غيره، وليس معنى ذلك أنه في هذا الميدان لا يخطئ ولا يتوهم، فكثيرا ما يقع في الخطأ والوهم كما بين تاريخ العلوم، ولكن معناه أن لديه أوسع فرصة ليصل إلى الحقيقة فيما قدر الله أن يكشف له من أمور هذا الكون، ولكنه يوجه إلى ذلك بعد أن يوجه إلى التعرف على الخالق، وعلى كل قضايا العقيدة. ولذلك حكمة واضحة. فالعقل البشري ما لم يعوقه معوق -كما كان من أمر الكنيسة الأوروبية وحجرها على العقل أن يكفر- مفطور بطبعه على التفكير فيما حوله، واستنباط الطرق التي تحقق للإنسان حاجاته، ثم تحسينها ومحاولة الوصول بها إلى أقصى حد من الإتقان والفاعلية، من أجل الحصول على القدر من "المتاع" الذي قدره الله للإنسان في الأرض. {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} 1. ولكن العبرة في حياة "الإنسان" ليست بمجرد العمارة المادية للأرض، ولا مجرد الحصول على المتاع من أي لون ومن أي طريق، إنما "الإنسان" خلق لشيء أرفع من ذلك وأسمى.. خلق لحمل "الأمانة" التي أشفقت من حملها السموات والأرض والجبال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ... } 2. وحمل الأمانة لا يتم بمجرد العمارة المادية ولا المتاع الحسي.. إنما يتم بإقامة ذلك كله على أساس من "القيم".. والقيم الحقيقية هي التي حواها المنهج الرباني للحياة "وقد رأينا من دراستنا السابقة أن كل ما عداها زائف لا يلبث أن تعبث به الأعاصير" ومن ثم كان لا بد من توجيه العقل أولا -والكيان   1 سورة البقرة: 36. 2 سورة الأحزاب: 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 الإنساني كله في الحقيقة- للتعرف على الله والإيمان به وطاعته، حتى إذا جاء العقل يتعرف على الكون، ويعمل على تسخير طاقاته في عمارة الأرض، كان مهتديا بالهدي الرباني، فأقام عمارة الأرض على أساس المنهج الرباني الذي به وحده تصلح الحياة. وقد مر بنا في هذا الفصل وما قبله كيف صارت الأرض حين قامت عمارتها المادية على "قيم" أخرى غير القيم التي قررها الله وأمر بإقامتها في الأرض. وحاضر الجاهلية المعاصرة غني عن الإشارة وغني عن التعليق. فتوجيه العقل -في الإسلام- إلى التعرف على السنن الكونية من أجل عمارة الأرض بعد توجيهه إلى الإيمان بالله، هو المنهج الصحيح لتنشئة "الإنسان الصالح" الذي تسعى البشرية -نظريا- إلى تنشئته, ولكنها تخفق دائما حين تتنكب المنهج الرباني، وتنشئ من عندها مناهج تؤدي إلى البوار. وإن كان لنا من شيء نذكر به أو نعيد التذكير به في هذا المجال, فهو أن الأمة المسلمة -بتوجيه الإسلام- هي التي أنشأت المنهج التجريبي في البحث العلمي، الذي قامت عليه كل نهضة أوروبا العلمية فيما بعد، ولكنها تفردت في التاريخ بأنها هي التي أنشأت حضارة "إنسانية" حقيقية، تمثل "الإنسان" كله لا جانبا واحدا من جوانبه، وتمثله متوازنا كما ينبغي للإنسان، لا العمل في الدنيا يشغله عن الآخرة، ولا المتاع الحسي يشغله عن المتاع الروحي المتمثل في العبادة، وفي الجهاد لإقامة الحق والعدل في الأرض، ولا رؤية الأسباب الظاهرة تفتنه عن السبب الحقيقي، ولا العلم يفتنه عن الدين.. إلى آخر تلك الانحرافات التي وقعت فيها الجاهلية الأوروبية حين رفضت الهدي الرباني وجعلت "عقلها" يرسم لها الطريق! ثالثا: يوجه العقل في الإسلام إلى تدبر حكمة التشريع لإحسان تطبيقه، ومن أجل الاجتهاد فيما أذن الله فيه بالاجتهاد، وحقيقة إن هذا في الإسلام فرض كفاية لا فرض عين؛ لأنه لا يتيسر لكل الناس -وإن كانوا مؤمنين- أن يتفقهوا في أحكام الدين. إنما الفقهاء لهم استعداد خاص، ويحتاجون إلى دربة خاصة لا تتاح لكل إنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 ولكن فرض الكفاية معناه أن يتخصص له فريق من الأمة -ممن يحملون الاستعداد وينالون الدربة- فيسقط التكليف عن الآخرين، فإن لم ينتدب له أحد من أفراد الأمة فهي كلها آثمة حتى تهيئ من يقوم عنها بهذا الأمر. {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} 1. وإعمال العقل لتدبر حكمة التشريع أمر واضح الضرورة وواضح الحكمة. فالتشريع أولا لا ينطبق انطباقا آليا على كل حالة من الحالات التي تقع بين البشر. إنما يحتاج الأمر إلى إعمال العقل لمعرفة الحكم الذي ينبغي تطبيقه في الحالة المعينة المعروضة للحكم, ولمعرفة الطريقة الصحيحة لتطبيقه. ثم إن هذه الشريعة التي نزلت لتواكب حياة البشرية كلها منذ نزولها إلى قيام الساعة، قد روعي فيها أن تواجه الثابت والمتغير في حياة الناس. فأما الثابت -الذي لا يتغير، أو لا ينبغي أن يتغير؛ لأن تغييره يحدث فسادا في الأرض- فقد أتت فيه الشريعة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بتفصيلات وافية تشمل الأصول والفروع والكليات والجزئيات. وأما المتغير -الذي يجد في حياة الناس بحكم التفاعل الدئم بين العقل البشري والكون المادي وما ينشأ عن ذلك من علوم وتطبيقات وتحويرات في أنماط الحياة، والذي أذن الله فيه بالتغيير؛ لأن ثباته يجمد الحياة ويوقف نموها- هذا المتغير لم تتناوله الشريعة بالتفصيل -بحكم تغيره الدائم- إنما وضعت له الأسس التي ينمو نموا سليما في داخل إطارها، وتركت للعقل المؤمن المهتدي بالهدي الرباني، المتفقه في أمور الدين، أن يستنبط له من الأسس الثابتة ما يناسبه في كل طور من أطواره. لذلك كان الفقه عملا دائم النمو لا يتوقف، ولا يجوز له أن يتوقف.. لأنه إذا توقف فليس لذلك من نتيجة إلا أن تجمد الحياة أو تخرج من إطار الشريعة الربانية الحكيمة. ولقد قام العقل الإسلامي في ميدان الفقه في فترة نشاط هذه الأمة وحيويتها بجهد رائع، ما زال يعد تراثا إنسانيا ثمينا إلى هذه اللحظة، رغم ما أصاب الأجيال المتأخرة من الجمود، وما أصاب الأجيال الأخيرة من الإعراض!   1 سورة التوبة: 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 والذي يطلع على هذا الفكر يدرك شمول هذه الشريعة وحيويتها وقدرتها على مواكبة النمو البشري من جهة، ويدرك من جهة أخرى ما قام به العقل الإسلامي المفكر من فتوحات في هذا الباب كانت كلها وليدة توجيهات الإسلام. رابعا: ترد في كتاب الله مجموعة من السنن التي يجري الله بها قدره في حياة البشر، وترد الإشارة المكررة بأن سنة الله لا تتبدل ولا تتغير، ولا تتوقف محاباة لأحد من الخلق، ويوجه العقل إلى تدبر هذه السنن من أجل إقامة المجتمع الصالح الذي يتمشى مع مقتضياتها ولا يصادمها. فالحياة البشرية ابتداء ليست فوضى بلا ضابط، إنما يضبطها نظام رباني دقيق، يسير بحسب سنن ثابتة، ترتب نتائج محددة على السلوك البشري في جميع أحواله، ومن ثم يستطيع الإنسان أن يتبين السلوك الصائب الذي ينبغي أن يسلكه، كما يتبين النتائج المتوقعة من سلوكه، لا رجما بالغيب، ولكن تحقيقا لسنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير. وهذه السنن تتناول حياة الجماعة، فهي سنن اجتماعية في غالبها، أما ما يرد بشأن الفرد فغالبا ما يكون متعلقا بالجزاء الذي يجزاه في الآخرة لقاء عمله في الدنيا، وإن كان بعض السنن يأتي فيه ذكر المفرد كقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً1 ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 2. ونعرض هنا بعض هذه السنن على سبيل المثال لا الحصر، فليس همنا تتبعها واستقصاءها، إنما التنويه بعمل العقل إزاءها. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 3. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 3. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 5.   1 أي: في الحياة الدنيا. 2 سورة طه: 124. 3 سورة الروم: 41. 4 سورة الرعد: 11. 5 سورة الأنفال: 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} 1. {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} 2. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 3. {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} 4. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5. {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 6. {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} 7. ونقف وقفة قصيرة عند هذه السنة الربانية: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 8. فقد ابتلى الله إبراهيم عليه السلام بجملة ابتلاءات صبر فيها صبرا جميلا، وكان قمة الابتلاءات أمره -في الرؤيا- بذبح ولده الحبيب إسماعيل, واستسلامه وولده للأمر الرباني: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ   1 سورة الأنعام: 44. 2 سورة الأنعام: 65. 3 سورة الأعراف: 96. 4 سورة العنكبوت: 2, 3. 5 سورة هود: 15, 16. 6 سورة الزخرف: 23. 7 سورة غافر: 84, 85. 8 سورة البقرة: 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} 1. ولقد أكرمه الله جزاء نجاحه الباهر في هذه الابتلاءات فاجتباه واتخذه خليلا. {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} 2. وجعله للناس إماما.. وتلك نعمة كبرى يمن الله بها على عباده المقربين.. فلما نال تلك الحظوة عند الله تحركت رغبته البشرية الطبيعية في أن يكون هذا العهد ماضيا في ذريته، فيكونوا أئمة للهدى، يهدون الناس إلى الإيمان، فهل حابته السنة الإلهية وهو في موضع التكريم والتقريب والترحيب؟ كلا! لقد كان الجواب حاسما: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي: إن العهد ماض فيهم إذا هم استقاموا على الطريق، فإذا ظلموا فلا عهد لهم عند الله. ذلك أن الله لا يمكّن الناس في الأرض؛ لأن آباءهم أو أجدادهم كانوا مؤمنين! بل حين يكونون هم بأنفسهم مستقيمين على الطريق.. أما الذين يرثون العهد وراثة، أو يرثون كتاب الله وراثة -أي: يتخذونه تراثا! - فيصبح في حسهم أنه كتاب الآباء والأجداد وليس كتابهم هم، ولا هم مكلفون بتطبيقه، فأولئك يقول الله فيهم وفي أمثالهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} 3. والذي يعنينا من هذه السنن هنا -كما أسلفنا- هو دور العقل في تدبرها، لا تدبرا نظريا فلسفيا يبدأ في العقل وينتهي في العقل كما كان شأن عقلانية الإغريق، إنما يتدبرها ليعمل -بوعي- على إقامة المجتمع الصالح الذي يستحق التمكين في الأرض بمقتضى الوعد الرباني:   1 سورة الصافات: 102-105. 2 سورة النساء: 125. 3 سورة الأعراف: 169, 170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} 1. وليتجنب النذير الرباني: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} 2. {اتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 3. لسكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو قوام خيرية هذه الأمة. {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 4. فحين تسكت الأمة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصيبها الفتنة ولا تصيب الذين ظلموا وحدهم، ولكن تصيب المجموع كله لتقصيره في مقوم أصيل من مقومات الحياة الاجتماعية والسياسية. ولا تقتصر "التوعية" السياسية على قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إنما تتعداها إلى التوعية بالدور التاريخي والإنساني لهذه الأمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 5. والتوعية بأعداء هذه الأمة، ومخططاتهم ضدها، وأهدافهم من هذه المخططات، وواجبهما إزاءهم، وطريقة التعامل معهم في السلم والحرب، وقضية الولاء ومع من يكون، وما حدوده وطبيعته ... إلخ ... إلخ مما لا مجال لتفصليه هنا، فله مباحثه الخاصة، وإنما نتحدث هنا عن دور "العقل" في كل ذلك.. ودوره هو تدبر السنن الربانية التي يتحصل منها الوعي الاجتماعي والوعي السياسي، وهو أمر واجب في الإسلام ليتم تنفيذ المنهج الرباني على وجهه الصحيح   1 سورة النور: 55. 2 سورة القتال: 38. 3 سورة الأنفال: 25. 4 سورة آل عمران: 110. 5 سورة البقرة: 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 خامسا: يوجه العقل إلى دراسة التاريخ: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 1. {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ 2 وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 3. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 4. وواضح أن دراسة التاريخ المطلوبة هي للعبرة لا للتسلية وتزجية الفراغ! ولكن ينبغي أن نعرف موطن العبرة من دراسة التاريخ. إنا السنن الربانية التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة, والتي يجري قدر الله بمقتضاها في حياة البشرية. والتي قلنا إن العقل البشري مدعو إلى تدبرها والتفكر فيها من أجل إقامة المجتمع الصالح القائم على المنهج الرباني ... هذه السنن -بطبيعتها- نادرا ما تتحقق بتمامها في داخل عمر الفرد المحدود؛ لأن السنن الاجتماعية بطبيعتها تستغرق أجيالا متوالية حتى يتم التحول الاجتماعي سواء إلى الخير أو إلى الشر "فيما عدا القلة النادرة التي تقتضي حكمة الله فيها تحقيق سنة بكاملها في أمد قصير، تأييدا لنبي أو تمكينا لجماعة مؤمنة، كما حدث مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبناء هذه الأمة الشامخة في سنوات قصار". وانظر مثلا إلى هذه السنة: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} 5. فالجزء الأول من هذه السنة يمثل الواقع الأوروبي في وقته الحاضر.. نسوا ما ذكروا به، وكفروا وجحدوا، ففتح الله عليهم أبواب كل شيء، من قوة سياسة وقوة عسكرية وقوة علمية وقوة تكنولوجية وقوة اقتصادية.. وكل   1 سورة آل عمران: 137. 2 أي: بالتدمير عليهم لتكذيبهم. 3 سورة الروم: 9. 4 سورة الحج: 46. 5 سورة الأنعام: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 ما يمكن أن يدخل في "أبواب كل شيء" وهذا الجزء وحده من هذه السنة قد استغرق قرنين كاملين من الزمان. ولد فيه أفراد -بل أجيال- قضوا أعمارهم في هذه الحياة ورحلوا، ولما تتحقق بقية السنة المذكورة في الآية: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} بل توهم أناس في وقت من الأوقات أن هذه الأبواب المفتوحة ستظل مفتوحة إلى الأبد لا تغلق ولا تتهدم على أصحابها مهما ارتكبوا من آثام! واليوم بدأ مفكرو الغرب أنفسهم يدركون أن "حضارتهم" آيلة إلى الانهيار، وبدءوا ينذرون قومهم إذا استمروا في البعد عن "القيم الروحية" كما يسمونها1 أن يصيبهم الدمار الذي أصاب أمما من قبلهم، ولكن كم يستغرق ذلك من الزمان؟ جيلا أو أجيالا كما استغرق تحقيق الجزء الأول من سنة الله! لذلك يوجه الله "العقل "أن يتدبر التاريخ! فالتاريخ هو المجال الواسع الذي تتحقق فيه السنن الربانية بأكملها، سواء منها ما يتحقق في عمر الفرد وما يتحقق في عمر الأجيال، والأغلب هو الأخير! تدبر التاريخ إذن هو في الواقع تدبر السنن الربانية في واقعها التاريخي الذي يمتد خلال القرون، ورؤية الطريقة الواقعية التي تتحقق بها تلك السنن في حياة الأمم والأفراد, لتتحقق العبرة الكاملة في نفوس الناس, فيسايروا هذه السنن ولا يصادموها، ولا يقول قائل لنفسه -على سبيل المثال- هاأنذا قد عشت في المجتمع الفاسد عمري كله وشاركته الفساد فلا أنا أصابني الدمار ولا المجتمع الذي عشت فيه! ولا يقول قائل لنفسه لماذا أجهد نفسي في تقويم المجتمع من انحرافه الخلقي أو الفكري أو الروحي.. ما دام هذا المجتمع يملك القوة العسكرية والقوة السياسية والقوة الاقتصادية التي تسنده وتمنعه من الدمار! ولا يقول قائل لنفسه: ما قيمة "القيم"؟ وما فائدة "الدين"؟ وما معنى "الأخلاق"؟ إذا كان يمكن للمجتمع أن يعيش متماسكا قويا بغير ذلك كله عدة قرون؟! تلك عبرة دراسة التاريخ ... إن التاريخ لا يدرس -من وجهة النظر الإسلامية- لتسجيل انتصارات   1 لأنهم ما زالوا في جاهليتهم يكرهون أن يذكروا الدين باسمه الصريح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 الجيوش وانكساراتها، ونشأة الدول وزوالها مجردة عن القيم المصاحبة لها، وعن مجرى السنن الربانية فيها، إنما يدرس بادئ ذي بدء لتتبع حياة "الإنسان" في حالتيه: حالة الهدى وحالة الضلال، وما يجري خلال كل من الحالتين من أحداث، ونتائج تترتب على الأحداث، مضبوطة بالمعيار الذي لا يخطئ، معيار السنة الربانية الحتمية التحقيق ... و"الإنسان" ابتداء هو ذلك المخلوق الذي خلقه الله من قبضة من طين الأرض ثم سواه ونفخ فيه من روحه، لا "الحيوان" الذي ابتدعه دارون، ولا "المادة" التي زعمها التفسير المادي للتاريخ.. ومقياس علوه وهبوطه ليس هو الإنتاج المادي والعمارة المادية للأرض: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} . ولكنهم كانوا جاهليين؛ لأنهم رفضوا الهدي الرباني، وأصابهم في النهاية ما يصيب الجاهلية من الدمار، على الرغم من كل القوة التي يملكونها، ومن إثارة الأرض وعمارتها.. إنما مقياس علو "الإنسان" أو هبوطه هو مقياس "الإنسانية" ... مقياس التزامه بالهدي الرباني الذي يحقق -وحده- إنسانية الإنسان، والتزامه بمقتضيات الخلاقة الراشدة، أي: عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني لا بأي منهج سواه. وحين يتحقق هذا الوعي التاريخي -لا في صورة فلسفية ذهنية تجريدية- ولكن في صورة وعي حركي واقعي, يكون هذا عونا كبيرا للإنسان الراشد، يوجهه إلى السلوك الناضج المستقيم، الذي يتحقق به الوجود الأعلى للإنسان. تلك عقلانية الإسلام.. عقلانية سليمة ناضجة تمثل الرشد البشري في أعلى حالاته. عقلانية تعطي العقل مكانه اللائق به، بلا إفراط ولا تفريط.. فلا هي تغالي في تقدير قيمة العقل فتقحمه فيما ليس من شئونه أو تجعله المرجع الأخير لكل شيء حتى الوحي الرباني، ولا هي تبخسه قدره فتمنعه من مزاولة نشاطه في ميادينه الطبيعية التي يصلح لها ويحسن العمل فيها. عقلانية تكل إلى العقل مهام خطيرة وواسعة.. تكل إليه مهمة حراسة الوحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 الذي تكفل بحفظه الله1 من كل تأويل فاسد مضل، وحراسة أحكام الله من الانحراف بها عن "مقاصد الشريعة" وحراسة المجتمع من الآفات الاجتماعية والسياسية والفكرية والخلقية التي تؤدي إلى تدميره.. كما تكل إليه مهمة التقدم العلمي والبحث التجريبي وعمارة الأرض. ولكنها لا تكل إليه -ولا تسمح له- أن يحيد عن الوحي الرباني والمنهج الرباني، ولا أن يجتهد من عنده بما لم يأذن به الله؛ لأنه عندئذ يجانب الصواب، ويحيد عن الخير, ويمكن الفساد. وتلك هي العقلانية المتوازنة ... أين منها عقلانية الإغريق الغابرة، والعقلانية التجريبية التي يمارسها الغرب في جاهلية القرن التاسع عشر والقرن العشرين!   1 قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: 9] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 القومية الوطنية ... القومية والوطنية: الوطنية معناها أن يشعر جميع أبناء الوطن الواحد بالولاء لذلك الوطن، والتعصب له، أيا كانت أصولهم التي ينتمون إليها، وأجناسهم التي انحدروا منها. أي: إن الولاء فيها للأرض بصرف النظر عن القوم أو اللغة أو الجنس. والقومية معناها أن أبناء الأصل الواحد واللغة الواحدة ينبغي أن يكون ولاؤهم واحدا وإن تعددت أرضهم وتفرقت أوطانهم، وإن كان معناها أيضا السعي في النهاية إلى توحيد الوطن بحيث تجتمع القومية الواحدة في وطن شامل، فيكون الولاء للقومية مصحوبا بالولاء للأرض.. ولكن الولاء للقومية يظل هو الأصل ولو لم تتحقق وحدة الأرض. وأيا كانت التعريفات النظرية للقومية والوطنية، فالذي يهمنا بادئ ذي بدء أن نتعرف على منشئها في أوروبا، ثم آثارها التي ترتبت عليها في التاريخ البشري الحديث. كانت أوروبا في وقت من الأوقات وحدة سياسية تجمع قوميات ولغات وأجناسا شتى، في ظل الإمراطورية الرومانية، ولم يكن هذا التجمع يشكل "أمة" بالمعنى الحقيقي، فقد كانت الدولة الأم هي "الأمة" في نظر نفسها وفي نظر المستعمرات التي استولت عليها وألحقتها بالإمبراطورية، كما كانت الدولة الأم هي "السيد" والمستعمرات هي "العبيد" ولم تمتزج شعوب الإمبراطورية قط في وحدة حقيقية كالتي جمعت الأمة الإسلامية -أمة العقيدة- التي انصهرت القوميات والأجناس واللغات فيها في بوتقة العقيدة فصارت أمة واحدة على مستوى واحد، هي "الأمة الإسلامية". في مجتمع المدينة كان بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي في القمة من ذلك المجتمع، مع السادة من قريش، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "سلمان منا أهل البيت" وكان عمر رضي اله عنه يقول: "أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا" إشارة إلى بلال رضي الله عنه, فكأنه -وهو في الذؤابة من قريش- يقول عن بلال: "سيدنا بلال" وهي قمة لم تصل إليها البشرية في تاريخها كله إلا في أمة العقيدة. ثم انساح المسلمون في الأرض وفتحوا ما فتحوا من البلاد لا لينشئوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 إمبراطورية ولكن لينشروا العقيدة، لم تكن توسعة الأرض قط هي التي تهمهم أو تدفعهم إلى الخروج من أرضهم, ولم يكن ضم موارد جديدة، واستخدامها -أو تسخيرها- للدولة الأم لتغنى وتكتنز، خاطرا يدفع قائدا من القواد أو جنديا من الجنود، إنما كان الدافع الأصيل هو إزالة "الجاهلية" ليحل محلها "الإسلام" دون إكراه للناس على عقيدة الإسلام. إزالة الجاهلية ممثلة في دول وجيوش ونظم لا تؤمن بالله ولا تطبق المنهج الرباني، ليحل محلها النظام الإسلامي ممثلا في تطبيق شريعة الله، وتطبيق العدل الرباني والحكمة الربانية، مع ترك الناس أحرارا في عقائدهم بإذن الدولة الإسلامية بل بحراستها وحمايتها! إنها تجربة فريدة في التاريخ، لم تتكرر، وليس من شأنها أن تتكرر مع أي نظام آخر، إلا أن يكون نظام قائما على العقيدة الصحيحة في الله، مطبقا لشريعة الله. ومهما يكن من أمر فإن أوروبا لم تعرف هذا اللون من التجمع في تاريخها كله، حتى بعد أن اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية -أو ادعى ذلك- وفرضها على الإمبراطورية كلها عام 325م. وقد كان المفروض حين تصبح الإمبراطورية مسيحية أن يجمعها ذلك اللون من التجمع الذي وحد الأمة الإسلامية فيما بعد، وصهر أجناسها وألوانها ولغاتها في كيان واحد متحد. ليس فيه أتباع ومتبوعون، بل فيه "مسلمون" على قدم المساواة. ولا شك أن دخول الإمبراطورية في المسيحية قد أنشأ -لفترة من الوقت- لونا من التجمع الشعوري.. وقد كان هذا هو هدف قسطنطين الحقيقي من دخوله المسيحية، فلم يكن همه "العقيدة" إنما كان همه توحيد الإمبراطورية التي كانت توشك على التمزق والافتراق، ولكن هذا التجمع لم يرتق قط إلى الصورة التي مارستها الأمة الإسلامية لأكثر من سبب واحد: أحد الأسباب -أو لعله السبب الرئيسي- أن الدين لم يصل إلى الإمبراطورية في صورته الكاملة، إنما وصل إليها -كما بينا في التمهيد الأول من هذا الكتاب- عقيدة مفصولة عن الشريعة، وقد كان لتلك العقيدة سلطانها على القلوب ولا ريب، ولكن لا يستوي الدينان: دين متكامل يحكم مشاعر القلب وواقع الحياة، ودين ممسوخ، يقبع في وجدانات الناس، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 يحكم بعض سلوكهم الشخصي، ولكنه عاجز عن حكم الواقع العملي للناس، يستكبر عنه الأباطرة فيحكمون بالقانون الروماني ولا يحكمون بشرائع ذلك الدين، لا يستوي الدينان في أثرهما على الواقع، ولا في قدرتهما على تجميع الناس في صورة "أمة" موحدة: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} 1. والسبب الثاني: أن العقيدة حين وصلت للإمبراطورية الرومانية -أو حين فرضها عليها الإمبراطور قسطنطين- لم تكن على صورة واحدة. فقد كانت قد انقسمت إلى مذاهب ومعتقدات شتى- لا في الفروع كما هو شأن المذاهب الإسلامية- إنما في أصل الاعتقاد، بحيث لا يمكن أن يلتقي أصحاب مذهب ومذهب على شيء، فالدين قد انحصر في العقيدة، والعقيدة أصبحت عقائد مختلفة متعارضة ومتعادية.. ويكفي نموذج واحد من هذا التعارض والعداء، هو ما كان بين الدولة الرومانية وأقباط مصر.. فقد كانوا كلهم "مسيحيين" ولكن الخلاف بين مذهب الدولة الكاثوليكي ومذهب الأقباط الأرثوذكسي كان من السعة وعدم الالتقاء بحيث كان الأقباط يسامون الخسف والعذاب من أجل عقيدتهم، حتى ليستخفون بها عن أعين الدولة، ويقام في الكنيسة الواحدة عبادتان مختلفتان: إحداهما علوية ظاهرة والأخرى سفلية سرية، كما كان الحال في كنيسة "مار2 جرجس" حيث كانت تقام صلاة علنية على مذهب الدولة في أروقة الكنيسة العلوية الظاهرة، وصلاة أخرى سرية في سراديب تحتية خفية، يختفي فيها الأقباط عن عيون الدولة الرومانية التي تتعقبهم بالعذاب والإرهاب.. وشأن هذا الخلاف أن يمزق ويفرق لا أن يجمع الصفوف ويوحد البناء. وصحيح أن أوروبا في مجموعها كانت كاثوليكية لعدة قرون، وكان اتحادها في المذهب عاملا من عوامل تجمعها، كما سنبين بعد، ولكن حجم هذا التجمع وتأثيره في حياة الناس كان يمكن أن يكون أكبر من واقعه الذي كان عليه، لو كان في حس أصحابه أن دينهم واحد في كل الأرض، وأنهم ليسوا مجرد قطاع   1 سورة الزمر: 29. 2 "مار جرجس" أي: الشهيد جرجس، وهي ليست "ماري" جرجس كما تجري على ألسنة العامة في مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 من هذا الدين -وإن يكن القطاع الأعظم- تغايره بقية القطاعات في أصول الاعتقاد1. فإذا اجتمع إلى هذين السببين أن اللاتينية -لغة الكتاب المقدس2- لم تكن قط لغة الكلام في الإمبراطورية الرومانية، وإنما لغة المثقفين ورجال الدين فقط، إلى جانب كونها اللغة "الرسمية" للدولة، وإنما الشعوب داخل الإمبراطورية تتكلم لغات أخرى يختلف بعضها عن بعض اختلافا رئيسيا. إذا اجتمعت هذه الأسباب كلها وضح لنا أن التجمع الذي تم في ظل الإمبراطورية الرومانية المسيحية لم يكن من شأنه أن يرتقي إلى تكوين "أمة" واحدة على النسق الذي تم به الأمر في ظل الإسلام، الذي لم تنفصل فيه الشريعة عن العقيدة، والذي لم تحدث فيه خلافات عقيدية تمزق وحدته، والذي كانت لغته -لفترة طويلة من الوقت- لغة واحدة هي لغة القرآن. ومع ذلك كله فقد كان لسلطان العقيدة في نفوس المسيحيين الأوروبيين وسلطان الكنيسة البابوية من جهة أخرى، تأثير ملموس لا شك فيه، أوجد لونا من التجمع والوحدة رغم كل أسباب الفرقة والخلاف. ولكن حماقات الكنيسة التي أشرنا إليها في التمهيد الأول ما لبثت أن عملت على تقويض ذلك التجمع من أكثر من باب ... لقد كان طغيانها في كل جانب مثيرا لردود فعل مختلفة، تلتقي كلها عند الرغبة في تحطيم نفوذ الكنيسة والتفلت منه، فضلا عما حدث فيما بعد من النفور من الدين ذاته والانسلاخ منه. وإذا كان الدين ونفوذ الكنيسة هما الرباط الذي أوجد ذلك القدر من التجمع في أوروبا، فلنا أن نتوقع أن يكون أثر ردود الفعل المشار إليها هو انفراط عقد هذا التجمع وفصم روابطه.. وذلك الذي كان! كان تمرد الملوك على طغيان الكنيسة السياسي أول بادرة من بوادر التمزق في الوحدة الأوروبية. ولكن هذا التمرد وحده كان يمكن أن يظل محدود الأثر لو لم   1 الاختلاف الذي يمكن أن يقارن بذلك في العالم الإسلامي هو الخلاف بين السنة والشيعة، ولكن ينبغي أن نتذكر أن الشيعة والسنة لم يختلفوا في قضية الألوهية -وهي محور الخلاف الرئيسي بين المذاهب المسيحية المختلفة- ولا في نبوة الرسول -صلى الله عليه وسلم، إنما كان في مبدئه خلافا سياسيا حول خلافة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ثم تطور إلى أمور أخرى. 2 كانت لغة الكتاب المقدس هي الإغريقية واللاتينية ولم تكن أيتهما لغة شعبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 يصاحبه في ذات الفترة تقريبا تمرد من نوع آخر وفي جهة أخرى، هو أشد خطرا على الوحدة من تمرد الملوك، ذلك هو تمرد رجال الدين، المعروف باسم "حركة الإصلاح الديني". لقد كان تمرد الملوك نزاعا سياسيا على السلطة الزمنية. البابا يدعي لنفسه السلطة الروحية والسلطة الزمنية كليهما، والملوك يطالبون بالسلطة الزمنية أن تكون في أيديهم، على أن تبقى السلطة الروحية وحدها في يد البابا.. وإلى هنا كان يمكن أن يستقل الملوك بالسلطة الزمنية ولكن تظل الوحدة الزمنية قائمة، ويظل السلطان الروحي للبابا قائما, فتظل الدعامتان اللتان كونتا الوحدة الأوروبية قائمتين. ولكن حركة الإصلاح الديني كانت موجهة إلى صميم العقيدة الجامعة, وهي العقيدة الكاثوليكية التي لم تكن -حتى ذلك الحين- موضع نزاع في داخل أوروبا. كان من نتيجة الطغيان الروحي للبابا ورجال دينه أن رغبت "كنائس" مختلفة في أوروبا أن تنفصل عن كنيسة روما وتستقل عنها، متخذة في الغالب صورة خلاف مذهبي مع الكاثوليكية التي كانت تخضع لها كل الكنائس من قبل, فانفصلت كنيسة بريطانيا وكنيسة ألمانيا وتبعتها كنائس أخرى, وحرص الملوك على السيطرة على تلك الحركات لا رغبة في الإصلاح الديني الذي كانت تنشق تلك الكنائس عن كنيسة روما باسمه، ولا رغبة في تنمية روح التدين الحقيقية عند شعوبهم، فليس شيء من ذلك في صالح السيطرة السياسية المطلقة التي ادعوها لأنفسهم حين طالبوا بفصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية، ولكن لأن كل حركة تمرد على الكنيسة البابوية من أي نوع هي كسب لهم في معركتهم ضدها؛ لأنها تضعفها وتضعف سلطانها، فيسهل عليهم التخلص من نفوذها. يقول ولز في كتاب "معالم تاريخ الإنسانية" "ج3 مقتطفات من ص989-991 من الترجمة العربية". "كانت الكنيسة تفقد سيطرتها على ضمائر الأمراء وذوي اليسار والاقتدار من الناس، وكذلك شرعت تفقد إيمان عامة الناس بها وثقتهم فيها، وكان من نتيجة انحطاط سلطانها الروحي على الطبقة الأولى أن جعلتهم ينكرون تدخلها في شئونهم، وقيودها الخلقية عليهم، ومدعياتها بالسيادة العليا فوقهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 وادعاءها الحق في فرض الضرائب وفي حل ارتباطات الولاء.. لذلك كفوا عن احترام ما لها من سلطان وممتلكات". "ولقد ظل هذا الخروج عن الطاعة يصدر من الأمراء والحكام طوال العصور الوسطى بأكملها، بيد أن الأمراء لم يشرعوا في التفكير جديا في الانفصال عن المذهب الكاثوليكي وإقامة كنائس جزئية منفصلة إلا عندما أخذت الكنيسة في القرن السادس عشر تنضم علنا لخصمها القديم -الإمبراطور- عندما قدمت إليه التأييد وقبلت منه المساعدة في حملتها على الهراطقة، وما كانوا ليقدموا على ذلك أبدا لولا أنهم أيقنوا أن سيطرة الكنيسة على أذهان الجماهير قد ضعفت". "ولما انفصلت إنجلترا واسكتلندا والسويد والنرويج والدانمارك، وشمال ألمانيا وبوهيميا عن الارتباط بروما، أظهر الأمراء وغيرهم من الوزراء أقصى بوادر القلق والاهتمام بحفظ زمام الحركة في أيديهم.. وذلك أنهم كانوا لا يسمحون من الإصلالح إلا بالقدر الذي يمكنهم من فصم العلاقة مع روما. فأما ما تجاوز ذلك، وأما أي انفصام خطر يتجه بالأفكار إلى تعاليم يسوع البدائية، أو التفسير الفج المباشر للكتاب المقدس فكانوا يقاومونها". والذي يهمنا الآن -بصدد موضوعنا الذي نعالجه- أن حركات الانفصال هذه -أيا كان العنوان الذي قامت تحته- كانت هي البداية لظهور القوميات في أوروبا. يقول الأستاذ الندوي "ص211, 212 من كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"". "والدين السماوي مهما تحرف وتغير لا يعرف الفروق المصطنعة بين الإنسان والإنسان، ولا يفرق بين الأجناس والألوان والأوطان، فجمعت النصرانية الأمم الأوروبية تحت لواء الدين، وجعلت من العالم النصراني عشيرة واحدة، وأخضعت الشعوب الكثيرة للكنيسة اللاتينية فقلت العصبية القومية والنعرة الوطنية، وشغلت الأمم عنها لمدة طويلة، ولكن لما قام لوثر "1483-1546م" بحركته الدينية الإصلاحية الشهيرة ضد الكنيسة اللاتينية رأى أن من مصلحة مهمته أن يستعين بالألمان بني جنسه، ونجح في عمله نجاحا لا يستهان بقدره، وانهزمت الكنيسة اللاتينية في عاقبة الأمر فانفرط عقدها، واستقلت الأمم، وأصبحت لا تربطها رابطة، ولم تزل كل يوم تزداد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 استقلالا في شئونها وتشتتا، حتى إذا اضمحلت النصرانية نفسها في أوروبا قويت العصبية القومية والوطنية، وكان الدين والقومية ككفتي ميزان، كلما رجحت واحد طاشت الأخرى، ومعلوم أن كفة الدين لم تزل تخف كل يوم، ولم تزل كفة منافستها راجحة، وقد أشار إلى هذه الحقيقة التاريخية الإنجليزي المعروف لورد لوثين -السفير البريطاني في أمريكا- في خطبته التي ألقاها في حفلة جامعة عليكرة في يناير سنة 1938م". وربما يعجب الإنسان لأول وهلة حين يعرف أن "حركة الإصلاح الديني" هذه كانت نابعة من مؤثرات إسلامية، ومع ذلك لم تؤت الثمار الطيبة التي كان يمكن أن تنشأ عنها. ولكن العجب يزول حين يدرك الإنسان أن أوروبا -وهي تقتبس جزئيات من الحياة الإسلامية- كانت ترفض الإسلام ذاته بدافع العصبية الصليبية، ومن ثم يضيع الخير الجزئي الذي اقتبسته من الإسلام! ولسنا هنا بصدد رصد المؤثرات الإسلامية التي أنتجت حركة الإصلاح الديني في أوروبا. ويكفينا أن نشير إلى كلمة ألفارو القرطبي التي نقلناها في الفصل السابق عن تأثر شباب النصارى في الأندلس بالوجود الإسلامي هناك، إلى حد أنهم كانوا ينظرون بزراية إلى كتب اللاهوت المسيحي ويعتبرونها غير جديرة بالالتفات، ولنا أن نتوقع أن تأثيرات مشابهة -ولو كانت على درجة أقل- قد سرت في أوروبا عند احتكاكها بالمسلمين سواء في الحروب الصليبية أو في الاحتكاك السلمي حين بدأت أوروبا ترسل مبعوثيها إلى مدارس المسلمين في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها من البلاد الإسلامية ليتعلموا العلم، حيث لم يكن هناك علم في الأرض إلا عند المسلمين. وقد رأى النصارى عند احتكاكهم بالمسلمين عالما مختلفا تمام الاختلاف. عالما لا كنيسة فيه ولا "بابا" ولا رجال دين.. إنما فيه علماء يتفقهون في الدين, وغالبا ما يتفقهون في علوم أخرى مع العلوم الدينية كالطب أو الفلك أو الرياضيات.. إلخ.. بلا تعارض بين تفقههم هنا وهناك.. وليس لهم -مع تفقههم- كهانة على الناس ولا سلطان إلا توقير العلماء من أجل علمهم فحسب، ولا وساطة لهم بين الناس وبين ربهم الذي يعلمهم أنه لا وسطاء ولا شفعاء عنده، وأنه ما على العباد إلا أن يدعوه، فيستجيب لهم بلا وسيط: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 1.   1 سورة غافر: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 1. عندئذ تحركت نفوس الذين يرغبون في الإصلاح لمحاولة إصلاح مفاسد الكنيسة المتراكمة خلال القرون، وخلع السلطان الطاغي الذي فرضه البابا ورجاله على الناس باسم الدين. ولكن محاولاتهم كانت كالرقعة في الثوب الخلق بسبب رفضهم الدخول في الإسلام، وسعيهم إلى الإصلاح بغير عدته الحقيقية التي تؤدي إليه.. واستغل الملوك هذه الحركات لحسابهم الخاص كما أسلفنا، لا يريدون الإصلاح الديني الحقيقي، ولا يريدون للناس أن يستقيموا على دين صحيح فيخرجوا على طاعتهم! إنما رأوا فيها أداة تساعدهم على الانسلاخ من سلطان البابا فاستغلوها في هذه الحدود. ولم يكن الملوك وحدهم وراء اللعبة، وإنما كان وراءها كذلك اليهود، المتربصون لأية فرصة تسنح لهم للانتقام من النصارى الذين اضطهدوهم وأذولهم على أساس أنهم تسببوا في صلب السيد المسيح2، فلما قامت حركات تؤذن بتفريق كلمة النصارى وتشتيت سلطان الكنيسة، كان من صالحهم ولا شك أن يحتضنوها ويوجهوها خلسة أو علانية لتوسيع الشقة بينها وبين الكنيسة الأصلية، وكل فرقة -سواء قامت باسم الإصلاح أو بهدف الإفساد- هي في النهاية في صالح اليهود ما دامت لا تؤدي إلى إصلاح حقيقي! وإن صلة اليهود بالبروتستانتية بالذات لأمر معلوم لكل من يدرس تاريخ تلك الحركة، وإن أنكر تلك الصلة هؤلاء وهؤلاء3. هكذا كان مولد القوميات في أوروبا ... حركات إصلاحية مبتورة غير ناضجة، استغلها ذوو الأهواء لحسابهم الخاص، فأفسدوها وحولوها إلى اتجاه شرير.. إن القومية في ذاتها نزعة غير إنسانية، لا يتوقع أن ينشأ منها إلا الشر. إنها بادئ ذي بدء تحد عالم "الإنسان" فبدلا من أن يكون أفقه العالم   1 سورة البقرة: 186. 2 يعلم المسلمون من القرآن أن المسيح عليه السلام لم يصلب، لقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [سورة النساء 157, 158] ولكن هذا لا يعفي اليهود في الحقيقة من وصمة الإجرام، فقد ظلوا يحرضون الحاكم الروماني بيلاطس حتى أصدر حكمه بصلب المسيح، فإذا كان الله قد رفعه إليه ولم يمكنهم من صلبه فإن جريمة التحريض باقية تصم اليهود بالكفر والإجرام. 3 كما تنكر ذلك في الوقت الحاضر حركة "شهود يهوه" وتدعي أنها مسيحية وهي يهودية لحما ودما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 والإنسانية، إذا أفقه هو قومه، والرقعة الضئيلة من هذا العالم التي يسكن فيها قومه.. وبدلا من أن تكون قيمه "معاني" رفيعة من التي تقاس بها رفعة الإنسان، ويتميز بها إنسان عن إنسان. إذا قيمه هي مصالح قومه، ومصالح هذه الرقعة الضئيلة من الأرض التي يسكن فيها قومه، وهي مصالح مادية يتعارك عليها مع غيره من الهابطين مثله إلى دركه، "كالمصالح" التي يتعارك عليها الحيوان، من أرض وكلأ إذا كان من الضعاف أكلة العشب، أو أرض وصيد إذا كان من الوحوش التي يفترس القوي منها الضعيف! ثم إنها تقيم تجمعها على الأمور التي لا خيار فيها للإنسان.. من المولد في أرض معينة. والكلام بلغة الأرض التي ولد فيها، والمصالح المادية القاهرة. في الوقت الذي تنبذ فيه كل الأمور التي يكون للإنسان فيها الخيار، والتي يتفاضل فيها إنسان على إنسان بناء على ذلك الخيار.. تنبذ العقيدة في الله, التي يختار فيها الإنسان بين الإيمان والكفر، ويتفاضل الناس فيها على أساس الإيمان والكفر.. وتنبذ القيم المنبثقة من العقيدة، وهي نظافة المشاعر ونظافة السلوك مع الأصدقاء والأعداء سواء.. أي: الصدق مع كل الناس، والأمانة مع كل الناس، والعدل مع كل الناس، ثم الحب في الله والبغض في الله "لا للمصالح الأرضية" أي: الحب لمن هو جدير بالحب بالفعل بالمقاييس الإنسانية الرفيعة، والبغض لمن هو جدير بالبغض حقا بتلك المقاييس، وهي القيم التي يختار فيها الإنسان بين الالتزام وعدم الالتزام.. أي: بين الرفعة والهبوط.. انظر في مقابل ذلك هذه الآية الكريمة من القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 1. فكون الناس شعوبا وقبائل، هذه حقيقة واقعة ملموسة، وهي من إرادة الله؛ لأنه هو الذي "جعل" الناس كذلك، ولكن الله لم يشأ سبحانه أن ينحبس الناس في داخل شعوبهم وقبائلهم وينغلقوا في حدودها وهو ما تفعله القوميات والوطنيات بادئ ذي بدء، ولا أراد للناس أن يلتقوا من داخل الإطار الذي تشكله شعوبهم وقبائلهم في عراك مع الشعوب والقبائل الأخرى، وهو ما تفعله القوميات والوطنيات بعد ذلك أي: بعد انحسارها في داخل حدودها، وبحثها عن "مصالحها القومية".   1 سورة الحجرات: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 إنما جعل الله الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا. يتعارفوا كما يتعارف بنو الإنسان؛ لأن الخطاب في الآية كان للناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ..} لا للوحوش ولا للأفاعي ولا للحشرات! ثم قرر الله قاعدة التعارف التي تليق ببني الإنسان حين يتعارفون. وهي التقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وهي الكلمة الجامعة لكل ما في الحياة الإنسانية من معاني الخير. ولكن الجاهلية الأوروبية ما كان لها أن تهتدي إلى هذه المعاني وهي ترفض أصل الهدى ومنبعه، وهو الإسلام، ولو اهتدت إلى شيء من تلك المعاني لاستصغرت الأفق الذي تدور فيه القومية والوطنية وأحست نحوه بالازدراء! ففي اللحظة التي تحس أن الرباط الحقيقي الذي يربط "نفسا إنسانية" بنفس أخرى إنسانية ليس هو المصالح المادية, ليس هو الأرض والكلأ والمتاع الحسي, وليس هو الأمور التي لا اختيار للإنسان فيها من الأرض والمولد واللسان والدم..إنما هو "المشاعر" التي ميزت الإنسان من لحظة مولده عن سائر المخلوقات من دونه، وهي العقيدة الواعية في الله، والقيم المتعلقة بالعقيدة من نظافة سلوكية مع كل الناس، وحب في الله وبغض في الله.. في اللحظة التي ترتفع فيها إلى ذلك المستوى ستحس على الفور بأن ما تمارسه القوميات والوطنيات هبوط لا يليق "بالإنسان"! ونكسة إلى الوراء في ميزان "الإنسانية" وليس تقدما إلى الإمام. وعلى الرغم من أن هذه الجاهليات قد حاولت أن تستعير من الإسلام رقعة ترقع بها ثوبها الخلق، فيما يسمى بحركة الإصلاح الديني، فإن رفضها الأساسي لأصل الهدي وقاعدته الحقيقية قد جعل هذه الرقعة تضيع ضياعا كاملا في ذلك الثوب.. وسرعان ما بليت الرقعة كما بلي الثوب من قبل، وألقى صاحب الثوب ثوبه البالي كله، وخرج من الدين جملة، واستبدل به قوميات علمانية لا صلة لها بالدين، أقصى ما يتسع صدرها له أن تتسامح في وجوده، فلا تنبذ أصحابه ولا تطاردهم، وإن كانت كثيرا ما يضيق صدرها به وبهم، فتلفظهم لفظا وتلقي بهم خارج الساحة، إن لم تفعل ما هو أسوا من ذلك كثيرا، فتلقيهم في غياهب السجون! على أن الشر الذي نجم من القوميات والوطنيات لم يكن شرا شخصيا ينتهي أمره بهبوط أصحابه عن إنسانيتهم وقبوعهم في داخل حدودهم وهم متشحون بذلك الهبوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 كلا! ليس ذلك من "شيم" القوميات والوطنيات إلا أن تكون في حالة من الضعف الشديد لا تقدر فيها على العدوان! أما إن كانت في حالتها "الطبيعية" أي: تملك وسائل القوة، فإن أول ما تتجه إليه هو السعي إلى توسيع رقعتها على حساب قومية أخرى أضعف منها، أو تظن فيها أنها أضعف منها! كما يسعى الوحش إلى الصدام مع من يتوسم فيه الضعف ليفترسه! يقول الأستاذ الندوي بعد النص الذي نقلناه: "لما قضت حركة لوثر التي تدعى حركة إصلاح الدين على وحدة أوروبا الثقافية والدينية انقسمت هذه القارة في إمارات شعبية مختلفة، وأصبحت منازعاتها ومنافساتها خطرا خالدا على أمن العالم"1. وبالفعل نشب صراع عنيف داخل أوروبا بين هذه القوميات الناشئة بعضها وبعض. ولنأخذ مثالا واحد على ذلك ما يعرف في التاريخ الأوروبي بالحروب الإيطالية. يقول الدكتور عبد العزيز محمد الشناوي أستاذ التاريخ الحديث بقسم الدراسات العليا بكلية البنات الإسلامية بجامعة الأزهر في كتابه "أوروبا في مطلع العصور الحديثة" تحت عنوان "تعريف بمصطلح الحروب الإيطالية": "الحروب الإيطالية هي حروب منقطعة نشبت بين فرنسا وإسبانيا خلال فترة استطالت خمسة وستين عاما "1494-1559" وكانت هذه الحروب مظهرا من مظاهر التنافس الدولي بين هاتين الدولتين من أجل السيطرة والنفوذ في أوروبا، والرغبة في التوسع الإقليمي داخل القارة، وقد بدأ هذا التنافس بين فرنسا وأسبانيا قبل أن يلفظ القرن الخامس عشر أنفاسه الأخيرة، واقترن بصراع حربي مرير خاضته الدولتان، وكانت شبه الجزيرة الإيطالية ميدانا لتصارع الجيوش الفرنسية والأسبانية خلال المراحل الأولى لهذه الحروب التي تطورت بعد ذلك إلى نضال أوروبي اتسع نطاقه وانتقل إلى ميادين متعددة خارج شبه الجزيرة الإيطالية"2. ثم يقول بعد ذلك بصفحات تحت عنوان "الموقف الدولي عند نشوب الحروب الإيطالية":   1 ص212 من كتاب "ماذا خسرالعالم بانحطاط المسلمين". 2 ص154 من الكتاب المشار إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 "كانت فرنسا وأسبانيا قد تطلعتا إلى إيطاليا واستهدفتا تحقيق غرضين هما: التوسع الإقليمي بالاستيلاء على ممتلكات جديدة في شبه الجزيرة الإيطالية, ثم السيطرة والتفوق السياسي في القارة الأوروبية، كانت كل منهما تمثل الدولة الملكية الموحدة ذات الحكومة المركزية، وكانت كل منهما أيضا، "والقرن الخامس عشر يلفظ أنفاسه الأخيرة". في طليعة الدول اللاتينية والكاثوليكية في غرب أوروبا، وقد بلغت كلتاهما مستوى من التقدم الحضاري -الثقافي والمادي- يفوق كثيرا المستوى السائد في شرق أوروبا، وكان من المتوقع أن تركز هاتان الدولتان جهودهما لتنشيط حركة البعوث الكشفية الجغرافية لتحقيق مزيد من النجاح بعد أن بدت تباشير اكتشاف عالم جديد يتيح آفاقا جديدة رحيبة للتجارة والثراء والقوة، ولكن بدد ملوك أسبانيا وفرنسا قواهم طوال فترة امتدت زهاء خمسة وستين عاما في صراع مرير استهدف السيطرة على إيطاليا، وأنزل بهم جميعا أضرارا فادحة. وأذل بلادا متحضرة شهدت مولد النهضة الأوروبية في فجر التاريخ الحديث.. وقد أدى هذا الصراع إلى أفول النهضة الإيطالية، وخضوع إيطاليا لصرامة الحكم الأجنبي"1. ولنستعرض فقط بعض عناوين الكتاب ذات الدلالة على الدوامة التي اجتاحت أوروبا في ذلك الحين بسبب التنافسات القومية: أحلام شارل الثامن ملك فرنسا, مقدمات التدخل الفرنسي في إيطاليا, الزحف الفرنسي الخاطف على إيطاليا, نجاح انسحاب الجيش الفرنسي من إيطاليا, فرنسا تكتسح دوقية ميلان, فرنسا تروم استكمال سيطرتها على إيطاليا, هزيمة ملكة نابولي, بابا جديد يكتل نصف أوروبا ضد جمهورية البندقية, الحلف المقدس ضد فرنسا سنة 1511, انتصار الفرنسيين في معركة رافنا سنة 1512, توسيع قاعدة الحلف المقدس ضد فرنسا, انتكاس فرنسا عسكريا, انتقام البابا, أطماع البابا, عودة إلى سياسة الأحلاف العسكرية, القوات السويسرية تحسم الموقف لصالح حلف مالين, أطماع فرنسوا الأول ملك فرنسا, موقعة مارينيان ونتائجها, اشتداد المنافسة بين ملكي فرنسا وأسبانيا على منصب الإمبراطور, انتخاب ملك أسبانيا   1 ص173, 174 من المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 إمبراطورا, عودة الصدام المسلح, عدوان ثلاثي على فرنسا, معركة بافي "24 من فبراير 1525", الموقف الداخلي في فرنسا بعد كارثة بافي, حملة سنة 1528, فرنسا تحرز انتصارات خاطفة, جيش فرنسي جنوبي إيطاليا يضطر إلى التسليم, هزيمة جيش فرنسي في شمالي إيطاليا وأسر قائده, أسباب التعجيل في عقد الصلح , تجدد الحرب ومعركة سيريزول, استمرار الصراع بين فرنسا وأسبانيا على عهد هنري الثاني, الصدام المسلح بين فرنسا والإمبراطورية, استمرار الصراع الحربي على عهد فيليب الثاني, البابا يورط ملك فرنسا في صدام مسلح ضد ملك أسبانيا الجديد, فرنسا تتعرض لهزيمة محققة, فرنسا تنتزع ثغر كاليه من إنجلترا, نهاية الحروب الإيطالية!! وهذه كلها حرب واحدة من الحروب العديدة التي جرت في أوروبا على فترات متتابعة.. وتكفي حروب نابليون الشهيرة مثلا ثانيا على تلك الروح الشريرة التي اجتاحت أوروبا منذ ظهرت فيها حمى القومية، ولسنا في حاجة إلى تتبع تفصيلاتها فلن يزيدنا ذلك معرفة بتلك الروح التعسة، كما أن قصة نابليون بصفة عامة معروفة عند كثير من القراء ... ثم جد عامل جديد زاد من حدة الصراع، ذلك هو الثورة الصناعية ... إن "أخلاق" الثورة الصناعية هي "الأخلاق" اليهودية -إن سميت هذه أخلاقا- أي: السعي إلى الربح بكل وسيلة مشروعة أو غير مشروعة، ولم يكن غريبا أن تتخلق الثورة الصناعية بهذه الأخلاق الهابطة، مذ كانت خاضعة للسيطرة اليهودية منذ نشأتها، كما بينا في التمهيد الثاني من هذا الكتاب1, ولما كانت القوميات قد اتجهت أساسا إلى تحقيق "المصالح القومية" بصرف النظر تماما عن "المصالح الإنسانية" ... وإذ كانت المصالح القومية مصالح مادية بالدرجة الأولى.. فنستطيع أن نتصور الحال حين تدخل القوميات بصراعاتها المادية في دوامة الثورة الصناعية، فإن هذه الصراعات لا بد أن تتضاعف عدة مرات، ولا بد أن تأخذ صورة الصراع المادي البحت.. وكانت "الفلسفة" التي قام عليها هذا الصراع -إن سميت هذه فلسفة- هي الفلسفة الرأسمالية المتذرعة بقول الداروينية: "البقاء   1 راجع فصل "دور اليهود في إفساد أوروبا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 للأصلح"1 ولما كانت كل قومية تزعم لنفسها أنها هي الأجدر بالبقاء، وتريد أن تثبت ذلك بالفعل، فلنا أن نتصور كيف يعنف الصراع بين القوميات المختلفة ويصل إلى حد الوحشية! وتموت في دوامة الصراع الوحشي كل المعاني "الإنسانية" ويسمى هذا "تقدما" حسب التفسير الدارويني للحياة، والتفسير المادي للتاريخ! ومع الثورة الصناعية الرأسمالية المتلبسة في ذات الوقت بالقومية, اتسعت رقعة "الاستعمار". لقد كان الاستعمار الأوروبي في منشئه دفعة صليبية بحتة. فحين سقطت الأندلس في يد المسيحيين أصدر البابا قرارا بتقسيم أرض "الكفار" -أي: المسلمين- إلى دولتين هما أسبانيا والبرتغال2، وقامت محاكم التفتيش بمجهود وحشي ضخم للقضاء على بقايا الإسلام في الأندلس، فاستخدمت أبشع وسائل التعذيب التي عرفها التاريخ لمطاردة الإسلام في كل شبر من أرض ما صار يسمى أسبانيا والبرتغال، حتى صارت الهينمة في جوف الليل مبررا لدخول رجال التفتيش أي بيت تسمع فيه؛ لأنها مظنة قراءة القرآن سرا في هدأة الليل، وصار وجود حمام في أي بيت يدخله رجال التفتيش مبررا لصب أفظع ألوان التعذيب على أهله؛ لأن الحمامات داخل البيوت كانت في ذلك الوقت خصيصة من خصائص المسلمين! ومع ذلك كله فقد استغرق الأمر مائتي عام حتى أفلح التعذيب الوحشي في تنصير الأندلس كلها ومحو كل أثر للإسلام فيها. ولما تم "رسميا" إزالة الحكم الإسلامي -أي: منذ 1492م- شجع البابا النصارى على متابعة المسلمين خارج الأندلس، في حرب صليبية جديدة، بغية القضاء على الإسلام في كل أرض، ولكن وجود الدولة العثمانية القوية في الشرق, التي أزالت الدولة البيزنطية باستيلائها على القسطنطينية عام 1453م، لم يكن يتيح للحرب الصليبية الجديدة أن تتجه إلى الشرق نحو بيت   1 تفهم هذه العبارة خطأ أن "الأصلح" هو الأصلح خلقيا أو معنويا أو على أساس أية قيم رفيعة. والتعبير في لغته الأصلية لا يحمل شيئا من هذه المعاني فكلمة Fittest معناها "الأنسب" أي: الذي يحمل المواصفات التي تجعله يتفوق في الصراع الدائر بين الكائنات وبين البيئة؛ لأن هذه المواصفات هي الأنسب للظروف البيئية المحيطة، فحين يحدث الجفاف مثلا يكون الكائن "الأنسب" هو النبات أو الحيوان الذي يحتمل العطش أكثر من غيره.. ولكنها حملت معنى "الأصلح" من إحياءات الداروينية العامة. 2 كلمة البرتغال "برتقال" هي كلمة عربية فقد كان المسلمون يسمون هذه المنطقة أرض البرتقال! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 المقدس كما اتجهت الحروب الصليبية الأولى الفاشلة، فحاولت الدوران حول العالم الإسلامي من جهة الغرب، وكانت البرتغال أول دولة استجابت للتحريض البابوي وسارعت إلى تنفيذه. في عام 1497 قام فاسكوداجاما برحلته الشهيرة التي كشف فيها للأوروبيين طريق رأس الرجاء الصالح1 وبمعاونة البحار العربي المسلم "ابن ماجد" وعلى هدي الخرائط الإسلامية للشواطئ الإفريقية والآسيوية2, دار فاسكوداجاما حول إفريقيا متجها إلى الشرق حتى وصل إلى جزر الهند الشرقية, وهناك قال قولته الصليبية المشهورة، التي تقطع بأن رحلته لم تكن "علمية" كما يدعى لها، ولم تكن من أجل الكشف الجغرافي الخالص كما قيل عنها، فقد قال عند وصوله إلى تلك الجزر "الآن طوقنا عنق الإسلام, ولم يبق إلى جذب الحبل ليختنق فيموت"! وبعد ذلك تتابعت "الكشوف" وتتابعت "الرحلات العلمية" التي مهدت للاستعمار الصليبي للعالم الإسلامي. ولما برزت القوميات في أوروبا تلبست بالروح الصليبية تجاه المسلمين، فأصبح التنافس يتمثل -من بين ما يتمثل- في التنافس على استعمار العالم الإسلامي ومحاولة تنصير أهله عن طريق الحملات التبشيرية التي صاحبت الاستعمار الصليبي دائما، ممهدة له أحيانا، ومستندة إلى وجوده أحيانا، ولكنها مصاحبة له على الداوم! وحتى حين أصبحت تلك القوميات "علمانية" تماما لم يؤثر ذلك في صليبية الحملات الاستعمارية، ولا قللت مقدار ذرة من النشاط التبشيري المصاحب للاستعمار الصليبي. وقد يبدو ذلك متناقضا لأول وهلة.. فكيف تهمل أوروبا "الدين" في حياتها الخاصة، ثم تتذكره في الهجوم على العالم الإسلامي؟ الواقع أن الذي تذكرته أوروبا -ولا تزال إلى هذه اللحظة تتذكره- تجاه العالم الإسلامي ليس هو "الروح الدينية" فقد انسلخت أوروبا من دينها تماما.. إنما هو "الروح الصليبية" التي كانت ذات يوم متلبسة بالدين. ولكنها ظلت على ضراوتها حتى   1 كان هذا الطريق معروفا للمسلمين قبل ذلك بعدة قرون! 2 كان لدى المسلمين خرائط دقيقة للشواطئ الآسيوية والإفريقية يستخدمونها في رحلاتهم التجارية من شواطئ الصين شرقا إلى بريطانيا غربا وشمالا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 بعد أن فقدت منبعها الأصلي، وصارت شيئا قائما بذاته، لا علاقة له بتدين أصحابه، إنما هي كراهية وحقد ومقت للإسلام والمسلمين، لا لحساب النصرانية كدين، ولكن لحساب الأوروبيين بوصفهم أعداء للمسلمين. يقول ليوبلدفايس "محمد أسد" في كتابه "الإسلام على مفترق الطرق": "إن الاصطدام العنيف الأول بين أوروبا المتحدة من جانب وبين الإسلام من جانب آخر -أي: الحروب الصليبية- يتفق مع بزوغ فجر المدنية الأوروبية، في ذلك الحين أخذت هذه المدنية -وكانت لا تزال على اتصال بالكنيسة- تشق سبيلها بعد تلك القرون المظلمة التي تبعت انحلال رومية، حينذاك بدأت آداب أوروبا ربيعا منورًا جديدا. وكانت الفنون الجميلة قد بدأت بالاستيقاظ ببطء من سبات خلفته هجرات الغزو التي قام بها القوط والهون والآفاريون. ولقد استطاعت أوروبا أن تتملص من تلك الأحوال الخشنة في أوائل القرون الوسطى، ثم اكتسبت وعيا ثقافيا جديدا. وعن طريق ذلك الوعي كسبت أيضا حسا مرهفا، ولما كانت أوروبا في وسط هذا المأزق الحرج حملتها الحروب الصليبية على ذلك اللقاء العدائي بالعالم الإسلامي.. إن الحروب الصليبية هي التي عينت في المقام الأول، والمقام الأهم موقف أوروبا من الإسلام لبضعة قرون تتلو، ولقد كانت الحروب الصليبية في ذلك حاسمة؛ لأنها حدثت في أثناء طفولة أوروبا، في العهد الذي كانت فيه الخصائص الثقافية الخاصة قد أخذت تعرض نفسها1 وكانت لا تزال في طور تشكلها، والشعوب كالأفراد، إذا اعتبرنا أن المؤثرات العنيفة التي تحدث في أوائل الطفولة تظل مستمرة ظاهرا أو باطنا مدى الحياة التالية، وتظل تلك المؤثرات محفورة حفرا عميقا، حتى إنه لا يمكن للتجارب العقلية في الدور المتأخر من الحياة، والمتسم بالتفكير أكثر من اتسامه بالعاطفة أن تمحوها إلا بصعوبة، ثم يندر أن تزول آثارها تماما. وهكذا كان شأن الحروب الصليبية، فإنها أحدثت أثرا من أعمق الآثار وأبقاها في نفسية الشعب الأوروبي، وإن الحمية الجاهلية العامة التي أثارتها تلك الحروب في زمنها لا يمكن أن تقارن بشيء خبرته أوروبا من قبل ولا اتفق لها من بعد". "ومع هذا كله فإن أوروبا قد استفادت كثيرا من هذا النزاع، إن "النهضة" أو إحياء الفنون والعلوم الأوروبية باستمدادها الواسع من   1 يقصد: أخذت تظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 المصادر الإسلامية والعربية على الأخص، كانت تعزى في الأكثر إلى الاتصال المادي بين الشرق والغرب، لقد استفادت أوروبا أكثر مما استفاد العالم الإسلامي، ولكنها لم تعترف بهذا الجميل، وذلك بأن تنقص من بغضائها للإسلام، بل كان الأمر على العكس, فإن تلك البغضاء قد نمت مع تقدم الزمن، ثم استحالت عادة. ولقد كانت هذه البغضاء تغمر الشعور الشعبي كلما ذكرت كلمة "مسلم" ولقد دخلت الأمثال السائرة عندهم حتى نزلة في قلب كل أوروبي, رجلا كان أم امرأة. وأغرب من هذا كله أنها ظلت حية بعد جميع أدوار التبدل الثقافي، ثم جاء عهد الإصلاح الديني حينما انقسمت أوروبا شيعا، ووقفت كل شيعة مدججة بسلاحها في وجه كل شيعة أخرى، ولكن العداء للإسلام كان عاما فيها كلها، بعدئذ جاء زمن أخذ الشعور الديني فيه يخبو ولكن العداء للإسلام استمر". "ولقد يتساءل بعضهم فيقول: كيف يتفق أن نفورا قديما مثل هذا -وقد كان دينيا في أساسه وممكنا في زمانه بسبب السيطرة الروحية للكنيسة النصرانية- يستمر في أوروبا في زمن ليس الشعور الديني فيه إلا قضية من قضايا الماضي"! "ليست مثل هذه المعضلات موضع استغراب أبدا، فإنه من المشهور في علم النفس أن الإنسان قد يفقد جميع الاعتقادات الدينية التي تلقنها أثناء طفولته، بينما تظل بعض الخرافات الخاصة -والتي كانت من قبل تدور حول هذ الاعتقادات المهجورة- في قوتها تتحدى كل تعليل عقلي في جميع أدوار ذلك الإنسان، وهذه حال الأوروبيين مع الإسلامي، فعلى الرغم من أن الشعور الديني الذي كان السبب في النفور من الإسلام قد أخلى مكانه في هذه الأثناء لاستشراف على الحياة أكثر مادية، فإن النفور القديم نفسه قد بقي عنصرا من الوعي الباطني في عقول الأوروبيين، وأما درجة هذا النفور فإنها تختلف بلا شك بين شخص وآخر، ولكن وجوده لا ريب فيه. إن روح الحروب الصليبية -في شكل مصغر على كل حال- ما زال يتسكع فوق أوروبا، ولا تزال مدنيتها تقف من العالم الإسلامي موقفا يحمل آثارا واضحة من ذلك الشبح المستميت في القتال"1.   1 الإسلام على مفترق الطرق، ترجمة عمر فروخ، مقتطفات من ص52-59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 يقول "ولفرد كانتول سميث" المستشرق الكندي المعاصر في كتاب "الإسلام في التاريخ الحديث Islam in Modern History: "إلى أن قام كارل ماركس وقامت الشيوعية، كان النبي "يقصد الإسلام" هو التحدي الحقيقي الوحيد للحضارة الغربية الذي واجهته في تاريخها كله، وإنه لمن المهم أن نتذكر كم كان هذا التحدي حقيقيا، وكم كان يبدو في يوم من الأيام تهديدا خطيرا حقا". "لقد كان الهجوم مباشرا، في كلا الميدانين: الحربي والعقيدي، وكان قويا جدا، ولا شك أنه بالنسبة للمسلمين يبدو أنه الحق والصواب، والأمر الطبيعي المحتوم، أن يمتد الإسلام كما امتد، ولكن الأمر كان مختلفا بالنسبة للشخص الواقع خارج نطاق الإسلام، الذي لم يكن يرى فيه شيئا من ذلك كله، والذي كان التوسع الإسلامي يقع على حسابه، وقد كان هذا التوسع إلى حد كبير على حساب الغرب. فقد فقدت المسيحية دفعة واحدة "أجمل مقاطعات الإمبراطورية الرومانية" لتتسلمها منها القوة الجديدة، وكانت في خطر من ضياع الإمبراطورية بكاملها، وعلى الرغم من أن القسطنطينية لم تقع -تماما- في يد الجيوش العربية كما وقعت مصر وسوريا، فقد استمر الضغط عليها فترة طويلة، وفي موجة التوسع الإسلامي الثانية وقعت القسطنطينية بالفعل سنة 1453، وفي قلب أوروبا المفزعة ذاتها أحاط الحصار بفينا سنة 1529 بينما ظل الزحف الذي بدا عنيدا لا يلين، مستمرا في طريقه، وحدث ذلك مرة أخرى في وقت قريب لم يتطاول عليه العهد في سنة 1683، وإن وقوع تشيكوسلوفاكيا في قبضة الشيوعة عام 1948 لم يكن له قط في العصر الحديث ذلك الفزع في نفوس الغرب المتهيب، كما كان لذلك الزحف المستمر قرنا بعد قرن، من تلك القوة الضخمة المهددة التي كانت لا تكلف ولا تهدأ ويتكرر انتصارها مرة بعد مرة". "وكما هو الأمر مع الشيوعية كذلك كان التهديد والانتصارات "الإسلامية" قائمين في عالم القيم والأفكار أيضا. فقد كان الهجوم الإسلامي موجها إلى عالم النظريات كما هو موجه إلى عالم الواقع،.. وقد عملت العقيدة الجديدة بإصرار على إنكار المبدأ الرئيسي للعقيدة المسيحية، التي كانت بالنسبة لأوروبا العقيدة السامية التي أخذت في بطء تبني حولها حضارتها.. وكان التهديد الإسلامي موجها بقوة وعنف وكان ناجحا ومكتسحا في نصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 العالم المسيحي تقريبا ... والإسلام هو القوة الإيجابية الوحيدة التي انتزعت من بين المسيحيين أناسا دخلوا في الدين الجديد وآمنوا به.. بعشرات الملايين, وهو القوة الوحيدة التي أعلنت أن العقيدة المسيحية ليست مزيفة فحسب، بل إنها تدعو إلى التقزز والنفور". "وإنه لمن المشكوك فيه أن يكون الغربيون -حتى أولئك الذين لا يدركون إطلاقا أنهم اشتبكوا في مثل هذه الأمور- قد تغلبوا قط على آثار ذلك الصراع الرئيسي المتطاول الأمد.. أو على آثار الحروب الصليبية التي استغرقت قرنين من الحرب "العقيدية" العدوانية المريرة"1. وفي هذا وذاك تفسير لهذه الظاهرة التي تبدو غريبة لأول وهلة، وهي أن أوروبا قد أهملت الدين في حياتها، ولكنها لم تنس الروح الصليبية التي أججتها ظروف الحرب والصراع في نفوسهم من قديم. وحين قامت الثورة الصناعية اتسم "الاستعمار" عامة بالصبغة الاقتصادية؛ لأنه كان بحثا عن الموارد الرخيصة من جهة، والأسواق المضمونة لتوزيع فائض الإنتاج من جهة أخرى.. وشمل الاستعمار كل أرض مستضعفة سواء كانت أرضا إسلامية أو غير إسلامية، ومع ذلك لم ينس الصليبيون صليبيتهم إزاء المسلمين، فحيثما كانت الأرض المستعمرة غير إسلامية اكتفى الاستعمار بنهب الخيرات وتوزيع فائض الإنتاج ... أما حيث تكون الأرض إسلامية فالعناية الأولى موجهة لمحو الإسلام عن طريق التبشير والغزو الفكري ومناهج التعليم التي تفرض على المسلمين ووسائل الإعلام التي توجه إليهم، ثم يأتي بعد ذلك نهب الخيرات وتوزيع فائض الإنتاج. وخير مثال لذلك استعمار البريطانيين للهند، فقد كان أول عمل لهم هو إزالة الحكم الإسلامي في الهند، ثم تركوا الهنود لمعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم لم يتعرضوا لهم بشيء، ووجهت الحرب الضارية ضد المسلمين وحدهم، فصودرت الأوقاف المرصودة للتعليم الإسلامي فجفت منابعه، وحورب المسلمون في الوظائف العامة وأعطيت للوثنيين الهنود، ووجه الغزو الفكري ضد المسلمين لإخراجهم من حقيقة الإسلام!   1 ص109, 110 من الأصل الإنجليزي الطبعة الأولى سنة 1975م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 وأيا ما كان الأمر فقد ارتبطت القوميات في أوروبا بالاستعمار بكل سفالاته، وكل بشاعاته، ونشبت الحروب بين القوميات المختلفة أبشع ما تكون. وصارت نهاية الأمر حروبا عالمية، تشترك فيها كل القوميات، ويصلاها العالم كله بذنب وبغير ذنب. في الحرب الكبرى الأولى التي استمرت من 1914-1918م قتل عشرة مليون شاب، غير الذين شوهوا أو أصيبوا إصابات تقعدهم عن العمل، واستخدمت الغازات السامة والقنابل المحرقة وغيرها من الوسائل الإجرامية، التي لم تجد أوروبا في ضميرها حرجا من استخدامها؛ لأن الغاية تبرر الوسيلة، ولأن المصالح القومية مقدمة على كل اعتبار! صحيح أنه كان هناك تكتل بين مجموعة من القوميات سمت نفسها "الحلفاء" لأنها -في لحظة من اللحظات- وجدت أن مصالحها القومية -رغم اختلافها فيما بينها وتنافسها- تقتضي التجمع لتحقيق هدف مشترك.. وكان الهدف في الحرب الأولى مزدوجا: القضاء على الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية -لأمر يراد1- والقضاء على القومية الألمانية التي تطالب بأن يكون لها مستعمرات كما لبقية القوميات مستعمرات ... ! وربما يظن الإنسان لأول وهلة أن أوروبا قد فطنت إلى حماقة التجمع القومي وما يؤدي إليه من فساد في الأرض وتقطيع للروابط الإنسانية فأنشأت تجمعا جديدا على أساس المبادئ لا على أساس القوميات.. أو هكذا قالوا هم في دعاياتهم! ولكن الحقيقة أن التجمع الجديد كان هو أيضا تجمع مصالح يتستر وراء المبادئ, ويريد لمجموعة من الشعوب، أو مجموعة من القوميات على الأصح، أن يكون لها السيطرة على العالم، وحدها من دون العالمين.. لأمر يراد! وتم -على أي حال- لهذا التجمع ما أريد له من السيطرة في الأرض ما يقرب من عشرين عاما، حتى قامت الحرب العظمى الثانية، التي استمرت من عام 1939 إلى عام 1945م، وقتل فيها أربعون مليونا من الشباب، غير المدن التي دمرت، والمدنيين الذين قتلوا في الغارات الجوية، وغير قنبلتي هيروشيما ونجازاكي الذريتين، اللتين قضتا على الوجود الحي كله من نبات   1 سيأتي بيان هذا الأمر في سياق الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 وحيوان وإنسان في مساحة واسعة من الأرض، وما تزال تولد أجنة مشوهة من أثر الإشعاع الذري السام الذي انتشر من القنبلتين في أماكن بعيدة عن مكان الانفجار، بعد ما يقرب من أربعين عاما من الحدث البربري الفظيع، الذي سمح به الضمير الأمريكي بلا تحرج ولا تأثم تأمينا "لمصالح" ذلك التجمع الشرير! وما كان التجمع الآخر الذي انهزم بأقل شرا ولا خبثا ولا انعدام إنسانية عن التجمع الذي انتصر! فلو أن هتلر سبق إلى استكمال القنبلة الذرية قبل أن يداهمه "الحلفاء" ويسرقوا "العلماء" الذين يعملون في صنعها، لكان قمينا أن يفعل بها مثل ما فعلوا أو أشد. وبرز من الحرب الثانية "معسكران" مختلفان, هما المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي، يبدو في ظاهر الأمر أنهما تجمعان قائمان على "مبادئ" مختلفة.. خاصة وأن الشيوعية على الأقل تحمل مبادئ محددة, وتحمل دعوى عالمية لنشر هذه المبادئ في الأرض. وقد مر بنا الرأي في هذا الاختلاف وهل هو في الجوهر الحقيقي أم في القشرة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ... ولكن هذا ليس معرض حديثنا هنا.. إنما نتكلم عن "المبادئ الإنسانية" التي تقوم عليها هذه التجمعات أو تزعم أنها تقوم عليها! تعلن الشيوعية -دائما- أن الدين لا يجوز أن يكون أساسا للتجمع! إنما هو من الآثار البالية التي أحدثتها عصور الرق والإقطاع والرأسمالية.. وأن تصحيح الأوضاع الذي تحدثه الشيوعية يقضي على تلك الآثار البالية, ويقيم مجتمعا إنسانيا "حرا" لا تقوم فيه التفرقة على أساس الدين.. وطالما أبدت رأيها صريحا في استنكار رغبة المسلمين في شبه القارة الهندية في إنشاء دولة "إسلامية" وقالت إن هذه اتجاهات رجعية لا ينبغي تشجيعها. ثم قامت الدولة اليهودية عام 1948م، على أساس الدين، فهي من منشئها، أو من منشأ الدعاية لها وطن "لليهود" ودولة "لليهود" وتجمع "لليهود". وفي منتصف الليل، بتوقيت المنطقة التي أقيمت فيها الدولة اليهودية، أعلنت أمريكا اعترافها بالدولة، وبعد عشر دقائق اعترفت روسيا، روسيا القائمة على أساس "المبادئ" التي تنكر قيام أي تجمع على أساس الدين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 ومنذ تلك اللحظة إلى هذا اللحظة، تجتمع أمريكا الرأسمالية الإمبريالية التوسعية الرجعية، وروسيا الشيوعية العقائدية التقدمية على الوقوف في صف إسرائيل وعدوانها المستمر الذي لم ينقطع. ضد العرب والمسلمين! ثم تختصم روسيا وأمريكا في كل شيء عدا ذلك، ففي أي شيء تختصمان؟! على إقامة الحق والعدل في الأرض؟! على تقرير حرية الشعوب في اختيار مصيرها؟! كذلك تقول الدعاية المستمرة من الجانبين.. ولكن ما حقيقة الواقع؟ ما الذي يحدث حين تمس المصالح القومية لأمريكا أو لروسيا.. أو يقف حائل دون "التوسع" و"السيطرة" و"السلطان"؟! إنهما تختصمان على توزيع "مناطق النفوذ" في العالم. أي: تختصمان على توزيع "المستضعفين في الأرض" هل يكونون في هذا المعسكر أم ذاك المعسكر. وكلتاهما لا تسمح لأحد من "الخاضعين لنفوذها" أن يتحرر ويقرر لنفسه مصيره. كيف فعلت روسيا في المجر حين أرادت الأخيرة أن تختار مصيرها بنفسها وترجع عن الشيوعية عام 1956م؟ كيف هدمت الدبابات الروسية البيوت على أصحابها تأديبا لهم على تجرؤهم على هذا العمل الشنيع الذي ارتكبوه؟ وكيف فعلت حين أراد العمال في بولندا، الذين تزعم الشيوعية أنها قامت لتحريرهم ورد الحقوق المغتصبة إليهم.. كيف فعلت حين أراد هؤلاء العمال أن يعلنوا أن الشيوعية لم تحقق مطالبهم، ولم ترد إليهم إنسانيتهم الضائعة، وأنهم في ظلها مقهورون مظلومون مسحوقون، وأن لهم "مطالب" يريدون تحقيقها في مقدمتها ممارسة الحرية، والمشاركة في إدارة دفة الأمور؟! أما أمريكا ودورها الاستعماري، ودور أجهزتها الخفية في نشر الفساد في الأرض عن طريق الانقلابات العسكرية، التي يختار أصحابها من غلاظ الأكباد قساة القلوب المرضى بجنون العظمة المتعطشين إلى السلطة لينفذوا لها مخططاتها في إذلال الشعوب وجرها إلى العبودية، فأمر غني عن البيان وإن كان الذي يغيب عن أذهان كثير من الناس مداراة كل من المعسكرين على عميل المعسكر الآخر ومده بالمساعدة حين يكون دوره هو تذبيح المسلمين والقضاء على حركات البعث الإسلامي! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 وتلك هي التجمعات التي قامت في العالم على أساس قومي.. وإن تسترت أحيانا وراء مختلف العناوين! إلى هنا كنا نتحدث عن القوميات والوطنيات في أوروبا، كيف نشأت وكيف تطورت خلال التاريخ الحديث والمعاصر، وما كان من آثارها الشريرة في حياة العالم كله، حين صارت "المصالح القومية" هي الأصل المعترف به في حياة الناس، على حساب القيم والمبادئ وكل معنى من معاني "الإنسانية" عرفته البشرية في يوم من الأيام. ولكن هناك جانبا من الموضوع ما زال في حاجة إلى بيان.. ذلك هو "تصدير" دعاوى القومية والوطنية إلى الشرق الإسلامي! ولن نتحدث هنا عن "العدوى" التي جاءت إلى العالم الإسلامي من أوروبا حين ضعف المسلمون وتخلوا عن مقومات حياتهم الأصلية، وانبهروا بما عند الغرب، وتابعوه في انحرافاته ظنا منهم أن هذا هو الطريق الذي يخلصهم من ضعفهم وتخلفهم.. فذلك مبحث آخر نعالجه في غير هذا الكتاب1 ولكن نتحدث عن التصدير المتعمد لهذه التيارات من أوروبا إلى العالم الإسلامي. حين وقع لويس التاسع في الأسر في الحروب الصليبية الأولى وسجن في سجن المنصورة أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب. جعل يتفكر في سجنه ويتدبر.. فلما فك أسره وعاد إلى قومه حدثهم بما هداه إليه فكره، فقال لهم: إن التغلب على المسلمين بالسلاح وحده أمر غير ممكن.. وإن على أوروبا إذا أرادت التغلب على المسلمين أن تحاربهم من داخل نفوسهم، وأن تقتلع العقيدة الإسلامية من قلوبهم.. فهذا هو الطريق! ووعى الصليبيون المحدثون نصيحة الصليبي القديم حين بدءوا جولتهم الصليبية الثانية ضد العالم الإسلامي. فجاءوا -لا بالسلاح وحده كما جاءوا في المرة الأولى- ولكن بما هو أخطر منه كثيرا وأشد فاعلية، ذلك هو "الغزو الفكري" الذي يهدف إلى اقتلاع العقيدة من قلوب المسلمين، وتحويلهم عن صراط الله المستقيم إلى سبل الشيطان: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 2.   1 في النية إن شاء الله إلحاق هذا الكتاب بكتاب آخر عن حاضر العالم الإسلامي وأسباب انتشار المذاهب الهدامة فيه بعنوان "واقعنا المعاصر". 2 سورة الأنعام: 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 يقول شاتلييه في مقدمة كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" "تعريب محب الدين الخطيب": "ولا شك في أن إرساليات التبشير من بروتستانتية وكاثوليكية تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية من نفوس منتحليها ولا يتم ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوروبية، فبنشرها اللغات الإنجليزية والألمانية والهولندية والفرنسية يحتك الإسلام بصحف أوروبا، وتتمهد السبيل لتقدم إسلامي مادي، وتقضي إرساليات التبشير لبانتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التي لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها". وقد كانت دعاوى القومية والوطنية المصدرة عن عمد إلى العالم الإسلامي، من بين وسائل الغزو الفكري الذي استخدمه الصليبيون المحدثون في "غزو العالم الإسلامي" كما سمى "شاتلييه" كتابه السالف الذكر1. والهدف من ذلك واضح ولا شك.. فطالما كان المسلمون "مسلمين" فسيصعب على الغزاة ابتلاعهم مهما كانوا عليه من الضعف والتخلف، ذلك أن العقيدة الإسلامية عقيدة جهاد، وقد ذاق الفرنسيون في الشمال الإفريقي وذاق الإنجليز في الهند وغيرها من أقطار إفريقيا وآسيا من عقيدة الجهاد هذه ما لا يزال عالقا بنفوسهم برغم كل الضعف والتخلف الذي كان عليه المسلمون. فاقتلاع هذه العقيدة واستبدال غيرها بها أمر ذو أهمية بالغة, سواء من وجهة النظر الصليبية أو من وجهة النظر الاستعمارية البحتة، فالمسلمون لا يقبلون الاستعمار ولا يرضخون له طالما كانوا "مسلمين" فإذا اجتمعت وجهة النظر الصليبية ووجهة النظر الاستعمارية تجاه الإسلام -كما هو واقع الأمر-كانت الرغبة في اقتلاع هذه العقيدة آكد، والعمل على استبدال غيرها بها أعنف وأشد. وبالفعل بذرت بذور الوطنية أولا في العالم الإسلامي، ثم جاء دور القومية بعد ذلك "لظروف سنبينها بعد قليل" فحققت أكثر من هدف في وقت واحد.. كان الهدف الأول هو تحويل حركات الجهاد الإسلامي ضد الاستعمار الصليبي إلى حركات وطنية، كما فعل سعد زغلول في مصر وغيره من الزعماء "الوطنيين" على اتساع العالم الإسلامي، والحركة الوطنية تفترق عن حركة   1 الكتاب في أصله الفرنسي يسمى "La Conquette de Monde Musulman" أي: غزو العالم الإسلامي، ولكن المعرب اختار له اسم "الغارة على العالم الإسلامي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 الجهاد الإسلامي بادئ ذي بدء في أنها لا تنظر إلى "العدو" على أنه "صليبي مستعمر" ولكن على أنه "مستعمر" فقط.. وفرق واضح في درجة العداء وطريقة المجاهدة بين أن يكون العدو منظورا إليه على حقيقته، وبين أن يكون مغلفا برداء الاستعمار فحسب. والهدف الثاني: هو تحويل حركات الجهاد الإسلامي على حركات "سياسية" عن طريق تحويلها إلى حركات وطنية ... فالعدو غير قادر على "التفاهم" مع الحركات الإسلامية؛ لأنه لا سبيل إلى التفاهم معها في الحقيقة إلا بإخراج ذلك العدو خارج البلاد. ومن ثم فلا سبيل إلى استعمال "السياسة" من جانب العدو. أما الحركات الوطنية فالتفاهم معها سهل وممكن! وعود من المستعمر بالجلاء. ويأتي الوقت الموعود فيتذرع المستعمر بشتى المعاذير لتأجيل جلائه، ويعطي وعودا جديدة يعتذر عنها بدورها إذا جاء دورها.. والساسة "الوطنيون" يغضبون -أو يتظاهرون بالغضب لإرضاء الجماهير- والجماهير تثور ثورة صاخبة -لكنها فارغة- سرعان ما تنطفئ بعد الاستماع إلى خطبة رنانة من الزعيم الوطني يعد فيها بأنه لن يفرط في شبر من الأرض، ولن يرضى بغير "الجلاء التام أو الموت الزؤام"! 1 وبين هذا وذاك تجري "مفاوضات" بين الساسة والاستعمار تنتهي إلى أشياء تافهة يلعب بها الساسة على عقول الجماهير فيوهمونها أنها "مكاسب وطنية" وقد تنتهي إلى غير شيء على الإطلاق، ومع ذلك يقول زعيم يعتبر من كبار الزعماء الوطنيين في العالم الإسلامي في العصر الحديث وهو سعد زغلول: "خسرنا المعاهدة وكسبنا صداقة الإنجليز" ويقول: "الإنجليز خصوم شرفاء معقولون"!! وهو شيء ما كان يمكن أن يحدث لو بقيت حركة الجهاد الإسلامية كما كانت في مبدئها، ولم تتحول إلى حركة وطنية على يد الزعيم الكبير!! والهدف الثالث: هو تيسير عملية "التغريب" من خلال تحويل حركة الجهاد الإسلامي إلى حركة وطنية سياسية ... فحين تقوم حركة الجهاد على أساس إسلامي يكون الباب موصدا تماما بين المجاهدين وعدوهم، لا يأخذون شيئا من فكره ولا عقائده ولا عاداته ولا تقاليده ولا أنماط سلوكه. أما حين يتحول الجهاد إلى حركة وطنية سياسية فالحاجز أرق، يسمح بالأخذ.. ومعاذير الأخذ   1 كانت تلك من هتافات الحركة الوطنية في مصر! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 كثيرة، فقد قال" أستاذ الجيل" لطفي السيد: إن الإنجليز هم أولياء أمورنا في الوقت الحاضر. وليس السبيل أن نحاربهم، بل السبيل أن نتعلم منهم، ثم نتفاهم معهم!! 1. وأي شيء تعلم المصريون من الإنجليز؟ هل تعلموا منهم جلدهم على العمل وانضباطهم فيه؟ أم تعلموا منهم السكر والعربدة وفساد الأخلاق؟ إنما يتعلم الأولى "المجاهد" لأن المجاهد يعلم من عدوه فضائله إن كانت له فضائل، أما "السياسي" المتسيب فالرذائل أقرب إلى قلبه؛ لأنها سهلة لا تكلف جهدا ولا تحتاج إلى مجاهدة! وعملية التغريب -أو الغزو الفكري- كانت أهم ما يحرص عليه الصليبي المستعمر.. فحين يفقد المسلم شخصيته الإسلامية فإنه يفقد في الحقيقة نقطة ارتكازه.. ومن ثم فإنه يتهاوى ويضيع. حين يظل المسلم مسلما فإنه يمكن أن "يستعير" من العالم حوله ما يحس أنه في حاجة إليه، دون أن يفقد شخصيته، ودون أن يفقد استعلاءه الذي يستمده من الإيمان. {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2. وذلك ما فعله المسلمون الأوائل حين بدءوا ينشئون حضارتهم، فقد كانوا في حاجة إلى أشياء لا سابقة لهم بها وهي عند عدوهم -البيزنطي أو الفارسي- فلم يجدوا في أنفسهم حرجا على الإطلاق أن يأخذوا ما يحتاجون إليه من هنا ومن هناك، ولكن في استعلاء المؤمن الواثق المطمئن. فأخذوا ما رأوا أنه نافع لهم، وأعرضوا عن كثير مما وجدوه عند أعدائهم؛ لأنهم نظروا إليه بعين المسلم فأنكروه، وهذا يفسر لنا لماذا أخذوا العلوم الإغريقية ولم يأخذوا الأساطير! أما حين "يستغرب" المسلم فإنه يفقد -أول ما يفقد- إيمانه بأنه هو الأعلى بعقيدته الصحيحة ونظامه الرباني وأخلاقياته المتطهرة وقياسه كل شيء بالمقياس الرباني.. وينظر إلى عدوه نظرة الإكبار والإجلال. فينقل عنه كل شيء بلا تحرز، بل ينقل عنه ما يضر وما يفسد في حين يعجز عن نقل ما ينفع؛ لأنه   1 لا يمكن لمسلم، فضلا عن مسلم مجاهد أن يقول عن عدو دينه أنه ولي أمره مهما تغلب الأخير عليه في معركة السلاح وقهره. أما الزعيم السياسي فما أيسر عليه أن يقول ذلك! 2 سورة آل عمران: 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 "واهن" بعد فقدانه الإيمان، والواهن لا يقدر على بذل الجهد الذي يحتاج إليه تعلم النافع من الأمور1. لذلك لم يتعلم "المستغربون" من الغربيين قط قدرتهم الفائقة على "التنظيم" ولا جلدهم الشديد على "العمل" ولا التزامهم الشديد "بالانضباط" في كل شيء. إنما تعلموا اللهو والعبث والمجون والرطانة بلغة الأعاجم. وتعلموا -أسوأ من ذلك كله- التباهي بالانسلاخ من الدين والعرض والأخلاق الدينية المتطهرة من الرجس. وكان ذلك هو التنفيذ الدقيق لوصية الصليبي القديم للصليبيين المحدثين. أما القومية العربية فقد كان لها دور أخبث وأشد. لقد كنا حتى اللحظة نتكلم عن الصليبي المستعمر ... ولكن دخل معه -على نفس خطه- عدو آخر، هو اليهودي المستعمر، لغرض آخر خاص به، ولكنه يلتقي معه في النهاية في بغض الإسلام، والرغبة في القضاء على الكيان الإسلامي. في عام 1897م عقد هرتزل -أبو الصهيونية كما يسمونه- مؤتمره الشهير في مدينة "بال" بسويسرا، ذلك المؤتمر الذي قرر فيه زعماء اليهود ضرورة إنشاء الدولة اليهودية خلال خمسين عاما في فلسطين. وذهب هرتزل إلى السلطان المسلم عبد الحميد يعرض عليه كل المغريات التي يطمع فيها حاكم أرضي، ذهب يعرض عليه إنعاش الاقتصاد العثماني وكان متدهورا بسبب ما تنفقه الدولة لإخماد المناوشات المستمرة التي يقوم بها الأعداء لإحراج الدولة العثمانية أو "الرجل المريض" كما أطلقوا عليها في أواخر أيامها، ويعرض عليه قروضا طويلة الأجل ويعرض عليه التوسط لدى روسيا وبريطانيا بالكف عن إثارة الأقليات، فقد كانت روسيا تتعهد بإثارة الأقليات الأرثوذكسية وخاصة الأرمن وكانت بريطانيا تتكفل بإثارة بقية الأقليات! وكان ذلك من أشد ما يزعج الدولة ويعرض ميزانيتها للخراب.. وفي   1 يقول القسيس المبشر "زويمر" الذي كان له نشاط تبشيري ضخم في العالم العربي فيما ينقل عنه كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" في خطاب المبشرين: "إنكم أعددتم نشئا "في بلاد المسلمين" لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقا لما أراده الاستعمار المسيحي لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل، ولا يصرف همه إلا في الشهوات، فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 مقابل هذا العرض السخي كله طلب هرتزل منح اليهود وطنا قوميا لهم في فلسطين. وكان من المتوقع من أي رجل يحرص على الدنيا، ويحرص على السلطان المستبد1 أن يتقبل العرض ويستجيب للمغريات. ولكن السلطان المسلم رفض ذلك كله، وقال لهرتزل قولته الشهيرة "إن هذه ليست أرضي ولكنها أرض المسلمين، وقد رووها بدمائهم ولا أملك أن أتنازل عن شبر واحد منها"2. عندئذ وقعت الواقعة، ودبر اليهود لخلع السلطان عبد الحميد. ثم لإزالة الخلافة كلها على يد اليهودي المتمسلم كمال أتاتورك. وكانت الوسيلة لكل ذلك هي "القومية". فاليهود المتمسلمون، المعروفون بيهود الدونما، الذين هاجروا من المغرب واستوطنوا البلقان، كانوا هم المنظمين الحقيقيين لحزب الاتحاد والترقي، الذي نادى بالقومية الطورانية "وهي قومية الأتراك في جاهليتهم قبل دخولهم في الإسلام" ورفع شعار الذئب الأغبر "وهو معبود الأتراك في جاهليتهم" كما نادى بضرورة "تتريك" الدولة، أي: جعل المناصب فيها وقفا على الأتراك وحدهم، ومعنى ذلك -كما حدث بالفعل- أن يحس "العرب" أنهم مظلومون في ظل الحكم التركي وأنهم مهضومو الحقوق.. عندئذ تلقفتهم الصليبية -حليفة اليهودية في الحرب ضد الإسلام- فأرسلت إليهم "لورنس" ليؤجج فيهم روح "القومية العربية" ردا على القومية الطورانية.. ويؤلف "الثورة العربية الكبرى" ضد دولة الخلافة! وببساطة تم الأمر.. في غفلة من "المسلمين"! يقول التاريخ إن أول من نادى بالقومية العربية هم نصارى لبنان وسوريا وانضم إليهم "المسلمون" الذين تربوا في مدارس التبشير.. ثم انضم إليهم المستغفلون من المسلمين الذي لم يجدوا تعارضا بين الإسلام والعروبة على أساس أن العروبة هي عصب الإسلام وأن العرب هم الذين حملوا الإسلام إلى كل البشرية! والنصارى في لبنان وسوريا كانوا جزءا من أدوات أوروبا لإزعاج "الرجل المريض" وإرباكه، بغية تسهيل القضاء عليه وتوزيع تركته بين المتربصين   1 هكذا تصف الدعاية المغرضة السلطان المسلم. 2 وذلك هو سر كراهية اليهود له وتشنيعهم به ونشر الدعايات المغرضة ضده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 الذين ينتظرون الساعة "العظمى" التي يقضون فيها على بقايا الإسلام. وما كان نصارى لبنان وسوريا في تلك الفترة يجرءون أن يخرجوا على الحكم الإسلامي علانية وبالاسم الصريح للخروج، فقد كانوا أقلية محوطة بأكثرية مسلمة، تدين بالولاء القلبي والسياسي لدولة الخلافة. ولا تتصور لنفسها حكومة غير الحكومة الإسلامية، لذلك فلم يكن في وسع أولئك النصارى أن يقولوا: لا نريد حكم الإسلام علينا ولا نريد حكم الخلافة الإسلامية! ولذلك كان نشاطهم سريا من جهة، وباسم غير اسم الخروج على الحكم الإسلامي من جهة أخرى..كان نشاطهم يقوم باسم العروبة والقومية العربية، وهو شعار يمكن أن يلتبس فيه الأمر على المسلمين العرب، ولا يروا -لغفلتهم- أنه موجه ضد الإسلام.. وضدهم هم! كانت دعوى القومية الطورانية تحز في نفوس العرب المسلمين فينفخ الشياطين في الحزازة لتشتعل، وكان يقال لأولئك العرب المسلمين أنتم أولى بالخلافة من أولئك الطورانيين! فلماذا تسكتون على الظلم؟ لماذا لا تثورون وتستقلوا عن الأتراك؟ وكان عبد الحميد يقظا للعبة كلها1 ولكن أحوال دولة الخلافة يومئذ وأحوال المسلمين جميعا في العالم الإسلامي، كانت أضعف من أن تصمد للكيد. فمضى الكيد في سبيله حتى بلغ غايته. ولسنا هنا نؤرخ لتلك الفترة2 إنما نحن نتحدث عن القوميات والوطنيات، ودورها في اللعبة التي أريد بها القضاء على الإسلام، وإنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين. كان عبد الحميد يطارد تلك الجماعات السرية التي تنادي بالعروبة والقومية العربية كما يضيق على النشاط السري لحزب الاتحاد والترقي، لإدراكه المقصود من ورائهما، وفيتخذ ذلك ذريعة لمزيد من الكيد ضده ويتهم بالدكتاتورية والطغيان في داخل تركيا، وباضطهاد الأقليات خارجها! وتصنع من هذه وتلك مادة للدعاية ضده ونشر البغض والكراهية له، تمهيدا لما يخطط من عزله، عقابا له على عدم موافقته على إنشاء الدولة اليهودية! وجرت الأمور في مجراها المقدر في علم الله، ولكن بسبب من غفلة المسلمين   1 كما تدل على ذلك مذكراته. 1 راجع إن شئت مذكرات السلطان عبد الحميد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 التي مكنت الأعداء من تنفيذ مخططاتهم، والله يحذرهم من كتابه المنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} 1. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 2. ومع ذلك التحذير فقد كان مسلمون يتولون اليهود في حزب الاتحاد والترقي، ومسلمون آخرون يتولون النصارى في الجمعيات السرية القائمة باسم العروبة والقومية العربية، ومسلمون آخرون يتولون "لورنس العرب! " ويتبعونه وهو يدعوهم إلى قتال دولة الخلافة التي ظلت تحميهم من الغزو الصليبي قرابة أربعة قرون! يقول لورد أللنبي، قائد الجيش "العربي" الذي حارب الخلافة! لولا مساعدة الجيش العربي والعمال العرب ما استطعنا أن نتغلب على تركيا!! ولقد كان الحرب العظمى الأولى تدبيرا يهوديا نصرانيا للقضاء على دولة الخلافة، وتقسيم تركة "الرجل المريض" والتمهيد لإنشاء الدولة اليهودية في الأمد الذي حدده مؤتمر هرتزل سنة 1897م.. في غفلة من "المسلمين" إلى جانب الهدف الآخر الذي تحقق كذلك من تلك الحرب، وهو القضاء على القومية الألمانية لحساب القومية البريطانية والقومية الفرنسية.. ولكن الهدف الأعظم من هذه الحرب كان ولا شك تدمير الخلافة الإسلامية لحساب اليهود والنصارى مجتمعين، وحساب اليهود بصفة خاصة! ووزعت الأسلاب بين بريطانيا وفرنسا، صديقتي اليهود يومئذ، ووضعت فلسطين بصفة خاصة تحت الانتداب البريطاني، والانتداب درجة أسوأ من الحماية، والحماية درجة أسوأ من مجرد الاستعمار. وكان ذلك بعد وعد بلفور الشهير، الذي صدر عن وزير خارجية بريطانيا اليهودي "اللورد بلفور" سنة 1917 في أثناء الحرب، وبدأت دولة الانتداب في تنفيذه عقب الحرب مباشرة تحت إشراف المندوب السامي البريطاني اليهودي السير صمويل هور!   1 سورة آل عمران: 118. 2 سورة المائدة: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 وخلال خمسين عاما من مؤتمر هرتزل قامت الدولة اليهودية سنة 1947م1 ولكن الأمر كان محتاجا إلى حرب "عظمى" ثانية! وسواء كانت الحرب الثانية "طبيعية" نتيجة القهر العنيف الذي وقع على القومية الألمانية من القومية البريطانية والقومية الفرنسية، ونزوع القومية الأولى للانتقام لنفسها من القوميتين الأخريين -كما نعتقد نحن- أو كانت تدبيرا خالصا لليهود- كما يعتقد "وليم كار" في كتاب "أحجار على رقعة الشطرنج"2 فقد استغلها اليهود استغلالا واسعا لصالحهم، لاستدرار عطف العالم كله عليهم -بوصفهم من ضحايا النازية- ليوافق عن طيب خاطر على سلب العرب جزءا من وطنهم لإقامة الدولة اليهودية فيه. وقد سبقت الإشارة إلى الكاتبة الألمانية التي تقول في كتابها إن اليهود هم الذين دبروا عملية تعذيب النازي لهم ليتخذوها مادة دعاية لهم على أنهم المظلمون المضطهدون المشردون في الأرض، الذين يبحثون عن مأوى يقيهم من التشريد والظلم والطغيان، وأن حجم التعذيب -الذي دبروا له تدبيرا- كان أضأل بكثير مما قيل في الدعاية اليهودية العالمية التي ظلت طيلة سنوات الحرب تجلجل في كل أرجاء الأرض لتصل إلى الهدف المطلوب. وأيا كان الأمر فقد تم لليهود ما أرادوا بمناصرة الصليبية العالمية لهم، وبغفلة المسلمين. وقد كان التدبير اليهودي الصليبي ما بين الحربين الأولى والثانية محكما في الحقيقة. فقد قسم العالم العربي إلى دويلات ضعيفة مسلوبة القوة لا حول لها ولا طول. فالقوة السياسية والعسكرية ذهبت بذهاب دولة الخلافة وصار حكام تلك الدويلات يعتمدون اعتمادا كاملا على بريطانيا وفرنسا -صديقتي اليهود- وصارت جيوشها جيوش استعراض وزينة لا جيوش قتال حقيقي، تعتمد في سلاحها وذخيرتها اعتمادا كليا على بريطانيا وفرنسا، واقتصادياتها غاية في التخلف، أما شباب تلك الشعوب -وهو قوة خطرة إذا وجد التوجيه   1 قامت الدولة واقعيا سنة 1947 ولكنها لم تعلن رسميا إلا عام 1948 بعد مسرحيات الحرب التي مثلتها الجيوش العربية حسب مخطط متفق عليه. 2 يبالغ وليم كار في نسبة كل أحداث العالم الكبرى إلى اليهود، ولانوافقه في ذلك رغم إخلاصه في كتابته.. راجع فصل "دور اليهود في إفساد أوروبا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 الجاد- فقط سلط عليه "التغريب" يقتلعه من إسلامه ومن روح الجهاد الإسلامية، وسلطت عليه السينما والإذاعة والمسرح والقصة والصحيفة والشواطئ العارية، كلها تصب الميوعة في نفسه وتصرفه عن الاهتمامات الجادة، وتفسد أخلاقه وتشغله بفتنة الجنس. وفوق انشغال كل بلد بقضاياه ومشاكله الخاصة، وفوق بذر بذور البغضاء بين كل بلد والآخر حتى لا تجتمع كلها على قضية واحدة ولا أمر واحد مشترك. وفي ظل ذلك قامت الدولة اليهودية بعد مسرحية "الحرب" ثم الهدنة.. ثم الحرب ثم الهدنة الثانية بعد وقوف الجيوش "المتحاربة" عند خط التقسيم المتفق عليه! ولكن أمرا حدث لم يكن على خاطر الصليبيين واليهود.. فوجئوا به جميعا مفاجأة لم تكن في الحسبان. فقد اشترك في القتال فدائيون مسلمون، يحرصون على الموت حرص أعدائهم على الحياة. وحين عركهم اليهود وعرفوا حقيقتهم، كانوا إذا جابهوهم يفرون من مستعمراتهم تاركين أسلحتهم وذخيرتهم ومئونتهم لينجوا بجلودهم! كانت المفاجأة من جهتين: فقد كان الصليبيون واليهود يظنون أن الإسلام كله قد شاخ ولم يعد بوسعه أن يخرج مثل هذه العينات من البشر، وكانت المفاجأة الثانية أنهم ظنوا أن مصر بالذات التي عمل الصليبيون على دك معاقلها الإسلامية منذ وقت مبكر, منذ الحملة الصليبية الفرنسية بقيادة نابليون، لا يمكن أن تخرج هذه العينات الصلبة المستميتة في القتال بروح جهاد إسلامية خالصة لا يريدون بذلك جزاء ولا شكورا. عندئذ تقرر أمران في وقت واحد: الأمر الأول ضرورة القضاء على حركة البعث الإسلامي التي أخرجت مثل هؤلاء المجاهدين. والأمر الثاني ضرورة إيجاد بديل من الراية الإسلامية التي أخرجت أولئك المقاتلين وتوشك أن تمتد ظلالها من مصر إلى البلاد العربية الأخرى ... وكان البديل هو "القومية العربية". يقول جورج كريك "George Kirk" مؤلف كتاب موجز تاريخ الشرق الأوسط "A Short History of the Middle East": إن القومية العربية ولدت في دار المندوب السامي البريطاني!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 ولقد كانت بريطانيا قد فكرت من قبل في إيجاد "الجامعة العربية" على مستوى الحكومات, فطار "أنتوني إيدن" وزير الخارجية البريطاني إلى القاهرة عام 1946م ودعا الملوك والرؤساء العرب إلى الاجتماع به هناك، وعرض عليهم في الاجتماع فكرة إنشاء الجامعة العربية في القاهرة لتتبنى قضايا العرب وتدافع عن مصالحهم!! ولكن ذلك لم يكن كافيا، فقد كان لا بد من رفع راية "القومية العربية" على مستوى الجماهير! فلما ورثت أمريكا بريطانيا وفرنسا بعد الحرب وبسطت نفوذها على "الشرق الأوسط"1 أقامت -عن طريق الانقلابات العسكرية- زعامات كاملة تدافع عن "القومية العربية" في الوقت الذي تحارب فيه الإسلام والمسلمين! وقالت الدعاية -التي أقامتها أمريكا وإسرائيل- إن أمريكا وإسرائيل لا تخشيان شيئا خشيتهما للقومية العربية. ولا تخشيان أحدا خشيتهما لزعيم القومية العربية! وفي ظل القومية العربية التي أقامتها الصليبية العالمية، توسعت إسرائيل وتوسعت حتى توشك أن تبتلع فلسطين كلها.. وتتطلع إلى المزيد! لقد كانت "القومية" التي صدرت إلى العالم الإسلامي هي القومية المأكولة لا القومية الآكلة التي قامت في أصلها هناك! ليس هنا مجال التفصيل للظروف التي أحاطت "بالمسلمين" وأدت بهم إلى هذا الضياع كله وهذا الهوان.. إنما نقول في ختام هذا الفصل إن الإسلام لا يعرف تلك الدعاوى الزائفة التي روجها أعداء الإسلام بغية القضاء عليه، وتشربها "المسلمون" في غفلتهم، غافلين عما فيها من السموم. إن الإسلام لا يغير انتماء الناس إلى أرضهم ولا شعوبهم ولا قبائلهم؛ لأن هذا أمر مادي حسي واقع لا سبيل إلا تغييره، فالذي يولد في الأرض المصرية مصري بحكم مولده والذي يولد في الأرض العراقية عراقي بحكم مولده، والذي يولد في الأرض الباكستانية باكستاني بحكم مولده.. وهكذا. ولكن الإسلام ينكر أن تكون صلة التجمع شيئا غير الإسلام! غير العقيدة   1 كلمة "الشرق الأوسط" ذاتها كلمة دخيلة من تخطيط الأعداء من أجل تسويغ إقامة الدولة اليهودية في المنطقة. فإنها لو بقيت في التسمية منطقة إسلامية أو حتى عربية فيكف تقوم فيها دولة لليهود؟ أما حين تصبح منطقة جغرافية لا انتماء لها فكل شيء ممكن! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 الصحيحة في الله! لا الدم ولا الأرض ولا اللغة ولا "المصالح" الأرضية. {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 1. وانظر إلى قصة نوح مع ابنه: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ، قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ، وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا2 لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3. لقد وعد الله نوحا أن ينجو أهله معه، إلا من سبق عليه القول: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} 4. فلما رأى ابنه في معزل ناداه ليركب معه سفينة النجاة.. ولكنه عصى وقال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء.. وكانت عاقبته أن غرق مع المهلكين. ولما قضي الأمر ونجا من نجا وهلك من هلك راح نوح -في مرارة الفقد التي تشوب فرحة النجاة- يناجي ربه، ويسأل عن تفسير ما حدث: لقد وعده الله بنجاة أهله، وابنه من أهله، ومع ذلك كان من الهالكين! وكان الرد الرباني: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} .   1 سورة التوبة: 24. 2 بعدا أي: هلاكا من بعد أي: هلك كما جاء في قوله تعالى: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [سورة هود: 95] . 3 سورة هود: 42-47. 4 سورة هود: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 ذلك أن الآصرة الحقيقية التي تجعله من أهلك ليست هي رابطة الدم التي تجمع بينه وبينك، إنما هي رابطة العقيدة، وقد رفض الابن أن يكون على العقيدة الصحيحة فانفصم ما بينه وبين أبيه من رباط؛ لأنه "عمل غير صالح"! ذلك هو ميزان الإسلام. وقد مرت بنا الآية التي تجعل الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة، والأموال والتجارة والأرض وهي مقومات القومية كلها في كفة، وفي الكفة الأخرى حب الله ورسوله والجهاد في سبيل الله، والمفاصلة الكاملة بين هذه وتلك. وليس معنى ذلك أن الإسلام يحرم كل تلك الروابط! كلا! إنما يجيزها كلها حين تقع تحت رابطة العقيدة وداخلها: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 1. أي: حين يكونون كلهم مؤمنين. أما حين تكون تلك الروابط حاجزا يحجز بين المؤمن والمؤمن بسبب رباط الدم أو اللغة أو الأرض أو المصالح، فهذه التي قال فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة" 2. فكيف إذا كانت تلك القومية تقول لك في صراحة إن المشرك الذي يشاركك في قوميتك أقرب إليك من المسلم الذي ينتمي إلى قومية أخرى! هذه..ما ميزانها في كتاب الله؟!   1 سورة الأنفال: 75. 2 رواه البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 الإنسانية : الإنسانية -أو العالمية كما يدعونها أحيانا- دعوى براقة، تظهر بين الحين والحين، ثم تختفي لتعود من جديد، يا أخي! كن إنساني النزعة، وجه قلبك ومشاعرك للإنسانية جمعاء.. دع الدين جانبا فهو أمر شخصي، علاقة خاصة بين العبد والرب محلها القلب، لكن لا تجعلها تشكل مشاعرك وسلوكك نحو الآخرين الذين يخالفونك في الدين.. فإنه لا ينبغي للدين أن يفرق بين البشر.. بين الأخوة في الإنسانية، تعال نصنع الخير لكل البشرية غير ناظرين إلى جنس أو لون أو وطن أو دين! دعوى براقة كما ترى.. يخيل إليك حين تستمع إليها أنها تدعوك للارتفاع فوق كل الحواجز التي تفرق بين البشر على الأرض، تدعوك لترفرف في عالم النور.. تدعوك لتكون كبير القلب.. واسع الأفق، كريم المشاعر، تنظر بعين إنسانية، وتفكر بفكر عالمي، وتعطي من نفسك الرحبة لكل البشر على السواء، بدافع الحب الإنساني الكبير! أي رفعة، وأي سمو، وأي نبل، وأي عظمة في القلب والفكر والشعور! ولكن مهلا! انتظر حتى يخفت الرنين الذي تحدثه الكلمات والعبارات، وفتش عن الحقيقة بعيدا عن العواطف والانفعالات، وانظر أين تجد هذه الشعارات مطبقة في واقع الأرض؟! هل لها رصيد حقيقي من الواقع أم إنها شعارات زائفة ترفع لأمر يراد؟! ثم انظر إلى تلك العبارة الماسونية "اخلع عقيدتك على الباب كما تخلع نعليك"! ألا ترى شبها بين هذه الدعوة وتلك؟ أما ترى أنهما قريبتان؟ بل شقيقتان؟! "اخلع عقيدتك على الباب "أي: عند دخولك الماسونية" كما تخلع نعليك.." وادخل بلا عقيدة.. فهكذا يريدك الشياطين ليستعبدوك.. ليسخروك لمصالحهم! "الأمميون هم الحمير الذي خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار".. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 والحمار الآدمي هو ذلك الذي خلع عقيدته على الباب كما يخلع نعليه.. ودخل، حيث أريد له أن يدخل.. بلا دين ومن ثم بلا أخلاق! وفي القديم، حين كان الدين قويا لا يقوون على مواجهته، لم يكونوا يجرءون على التلفظ بمثل هذه العبارة، بل كانوا ينافقون ليصلوا إلى أغراضهم من "إغواء" الآخرين. {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} 1. {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2. ولكنهم اليوم آمنون، فلا حاجة بهم إلى التظاهر بالإيمان بما أنزل على المؤمنين، بل إنهم لينشرون الإلحاد اليوم بجسارة في كل الأرض، ولكنه بضاعة للتصدير فقط! يصدرونها للأمميين لإغوائهم عن الدين، ولكن لا يستخدمونها بين أنفسهم، فالهدف الأخير من التخطيط كله هو محو كل دين لدى الأمميين، لكي يبقى اليهود وحدهم في الأرض أصحاب الدين! وهم على جبلتهم لا يغيرونها.. يتظاهرون أمام الناس بشيء، فإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون! وهزأة اليوم هي هذه الدعوة: "اخلع عقيدتك على الباب كما تخلع نعليك! " فإذا صدقها الأمميون وخلعوا عقيدتهم كما يخلعون نعالهم، فرك الشياطين أيديهم سرورا حين يخلو بعضهم إلى بعض، وقال بعضهم لبعض: إنا معكم، ما نزال على دين الشياطين.. إنما نحن نهزأ بالأمميين! والفارق بين دعوى الإنسانية ودعوى الماسونية ضئيل.. الفارق أنه في تعبير الماسونية الخشن المتوقح يوضع الدين جنبا إلى جنب مع النعال؛ لأن المقبل على الماسونية لا يبقل عليها إلا وقد خلع دينه بالفعل أو أوشك على خلعه، فالكلمة الخشنة لا تؤذيه، بل قد تكون منه موضع ترحيب! فهي كلمة للتوكيد.. وقد تكون للتهديد! تهديد من بقيت في قلبه بقية خفية من بقايا الدين.. فليتنبه وليخلعها قبل الدخول!   1 سورة البقرة: 14. 2 سورة آل عمران: 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 أما في دعوى الإنسانية فالتعبير للترغيب والتحبيب، ومن ثم فهو مهذب لطيف يبتلعه من يبتلعه وهو مسرور. أو قل إنه يبتلعه وهو أشبه بالمخدور. ولكن هذا وذاك يدعوك في النهاية أن تترك دينك وتواجه الحياة بلا دين. فإذا فعلت ذلك اجتالتك الشياطين! ولكن إناسا قد يخدعون بدعوى الإنسانية لما فيها من بريق، فيؤمنون بها أو يدعون إليها غافلين عن الحقيقة التي تنطوي عليها. وقد لا يصدقون أصلا أنها دعوة إلى التحلل من الدين يبثها الشياطين في الأرض لأمر يراد. فلنصدق -مؤقتا- أنها دعوى مخلصة للارتفاع بالإنسان عن كل عصبية تلون فكره أو سلوكه أو مشاعره، ليلتقي بالإنسانية كلها لقاء الصديق المخلص الذي يحب الخير للجميع ... فلنصدق ذلك في عالم المثل.. في عالم الأحلام.. فما رصيد هذه الدعوى في عالم الواقع؟! ما رصيدها في العالم الذي تجتاحه القوميات من جانب.. والعصبيات العرقية والدينية والسياسية والاجتماعية من كل جانب؟ فلنأخذ مثالا واحدا من العالم المعاصر.. من المعاملة التي يلقاها المسلمون في كل مكان في الأرض يقعون فيه في حوزة غير المسلمين، أو في دائرة نفوذهم من قريب أو من بعيد ... فلننظر إلى "الإنسانية" التي يعاملون بها "والحماسة" التي يقابلون بها، "وسعة الصدر" و"حب الخير" الذي ينهال عليهم من كل مكان! خذ مثال الحبشة.. يبلغ المسلمون فيها 55% على الأقل من مجموع السكان وذلك قبل ضم أريتريا -عنوة- إليها، وأريتريا كلها مسلمون، فكيف تعاملهم الدولة المسيحية المتسلطة عليهم؟ لا يوجد في الدولة وزير مسلم واحد يمثل أغلبية السكان! ولا موظف واحد من كبار الموظفين! ومدارس الدولة لا تعلم القرآن لأبناء المسلمين ولا تلقنهم مبادئ دينهم1، وحين يفتح المسلمون "كتاتيب" لتعليم القرآن لأبنائهم   1 في مصر يدرس للتلاميذ الأقباط مبادئ دينهم على يد مدرسين مسيحيين، وتوضع دورسهم في الجدول الرسمي للدراسة وتعطى لهم الحرية الكاملة يقولون في دروسهم كل ما يريدون بلا رقيب عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 على نفقتهم الخاصة، تظل الدولة تفرض عليها من الضرائب ما يثقل كاهلهم حتى يغلقوها1 ويحرم عليهم أن يتلقوا أي معونات من المسلمين من الخارج2 وإلى عهد غير بعيد كان المسلم الذي يستدين من مسيحي حبشي ويعجز عن وفاء دينه يسترق لدائنه! ووقف هيلاسلاسي عام 1962 في هيئة الأمم فالقى خطابا "ضافيا" أعلن فيه أنه في خلال اثني عشر عاما لن يكون في الحبشة إلا دين واحد! ولم يرتفع صوت واحد في تلك "المؤسسة الإنسانية" يستنكر ذلك التصريح! والفلبين كانت ذات يوم أرضا إسلامية فغزاها الصليبيون3 وحكموها قهرا عن أصحابها، فيكف عاملوا المسلمين فيها؟ لقد ظلوا يطاردونهم ويخرجونهم من أرضهم وديارهم وأموالهم حتى حصروهم في قطاع من أصل أرضهم, ثم سموهم "متمردين" فاستباحوا لأنفسهم قتلهم، وقتالهم وتحريق مزارعهم، بل تحريقهم هم أنفسهم شفاء للحقد الصليبي المتأصل في نفوسهم، ولا يتحرك واحد في الأرض كلها ليرد البلاء عن المسلمين، ويكف عدوان المعتدين. والهند حكمها المسلمون ثمانية قرون فلم يكرهوا أهلها على الإسلام، ولم يضطهدوهم وهم يعبدون البقر ويعبدون الأوثان، فلما حكمها الهنود فانظر كيف يعاملون المسلمين: لا تنقطع أخبار "الشغب" كما تسميه الدولة والصحافة ... وخلاصتها أن يهجم الهندوس على القرى الإسلامية فيحروقها على أصحابها ويقتلوا منها من تطوله أيديهم.. فيحتج المسلمون، ويخرجون لرد العدوان فتعتقلهم الشرطة بتهمة إثارة الشغب وتودعهم في السجون! هذا وحكومة الهند حكومة "علمانية" أي: إنها لا تقيم حكمها على الدين، ولا تتعرض لأصحاب الدين! ومن سنوات غير بعيدة صرح نهرو تصريحا عجبا قال فيه إن تقرير المصير حق لكل الناس. إلا في كشمير!! ولم يستنكر ذلك أحد في العالمين!   1 وفي مصر يفتح الأقباط -بجانب الدروس الدينية الرسمية التي يتلقونها في مدارس الدولة- مدارس دينية خاصة تسمى "مدارس الأحد" لا تتعرض لها الدولة أي نوع من التعرض. 2 وفي مصر يتلقى الأقباط المعونات من الدول المسيحية والهيئات والأفراد فلا تسألهم الدولة من أين يأخذون ولا فيم ينفقون. 3 كان "ماجلان" الذي يطلق عليه لقب "الرحالة العظيم" ممن قاموا بغزوة صليبية على الفلبين بعد إلحاح شديد على "البابا" أن يأذن له في فتح تلك البلاد وضمها إلى المسيحية، وقد قتله الأهالي في المعركة التي جرت على أثر تجرؤه على رفع الصليب على أرض بلادهم الإسلامية فسموا "المتبربرين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 وفلسطين ظلت أربعة عشر قرنا من الزمان أرضا إسلامية ... ثم جاء اليهود ليقيموا عليها دولة يهودية.. ولم يستنكر أحد من "الإنسانيين" طرد السكان الأصليين وإجلاءهم عن أرضهم بالقنابل والمدافع. بل بشق بطون الحوامل والتلهي بالتراهن على نوع الجنين كما فعلت العصابات اليهودية التي كان يرأس إحداها مناحم بيجن ... وإنما استنكرت من المسلمين أن يطالبوا بأرضهم، وألا يخلوها عن طيب خاطر للغاصبين! ويطول الأمر بنا لو رحنا نستعرض أحوال المسلمين الواقعين في قبضة غير المسلمين، أو الذين يتعرضون لعدوان غير المسلمين في كل مكان في الأرض ... في روسيا الشيوعية التي قتلت ما يقرب من أربعة ملايين من المسلمين، وفي يوغسلافيا التي قتلت ثلاثة أرباع مليون منهم، وفي أفغانستان التي تستخدم فيها الأسلحة المحرمة "دوليا" و"قانونيا" و"إنسانيا! " وفي أوغندا، وفي تنزانيا، وفي.. وفي.. وفي.. وفي. فمال بال "الإنسانيين"؟ ما بالهم لا يتحركون؟! ما بالهم لا يصرخون في وجه الظلم الكافر الذي لا قلب له ولا ضمير؟! إنما توجه دعوى "الإنسانية" فقط ضد أصحاب الدين! فمن كان متمسكا بدينه فهو "المتعصب" "ضيق الأفق" الذي يفرق بين البشر على أساس الدين، ولا يتسع قلبه "للإنسانية" فيتعامل معها بلا حواجز في القلب أو في الفكر أو في السلوك! أو قل على وجه التحديد إن الذين يحاربون اليوم بدعوى "الإنسانية" هم المسلمون! يحاربون بها من طريقين، أو من أجل هدفين: الهدف الأول هو إزالة استعلاء المسلم الحق بإيمانه الناشئ من إحساسه بالتميز عن الجاهلية المحيطة به في كل الأرض. لكي تَنْبَهِم شخصيته وتتميع؛ والهدف الثاني هو إزالة روح الجهاد من قلبه.. ليطمئن الأعداء ويستريحوا!! في الهدف الأول يقول المستشرق النمساوي المعاصر "فون جرونيباوم Von Grunebaum" في كتاب له يسمى "الإسلام الحديث1 Modern Islam" إن   1 لا يتسع المجال هنا للتعليق على عنوان الكتاب الذي يقصد به أن الإسلام ليس شيئا ثابتا محدد المعالم، وإنما هو شيء دائم التغير! فالإسلام الأول شيء، وإسلام القرون الوسطى "وهذا عنوان لكتاب آخر لنفس المؤلف" شيء آخر، والإسلام الحديث شيء ثالث! وهذه القضية ذاتها من وسائل الحرب التي يستخدمها المستشرقون ضد الإسلام! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 الحاجز الذي يحجز المسلم عن "التغريب Westenization" هو استعلاؤه بإيمانه، وإنه لا بد من تحطيم ذلك الحاجز لكي تتم عملية التغريب! أرأيت! إنه هدف مقصود لذاته ... ألا يشعر المسلم بالاستعلاء بالإيمان! يراد له أن تذوب شخصيته وتتميع، ولا تكون لها تلك السمة المميزة التي أرادها الله. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 1. إن أعداء الإسلام لن يستريحوا حتى يزيلوا ذلك التميز الذي يحسه المؤمن: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} 2. وتلك قضية قديمة عمرها الآن أكثر من أربعة عشر قرنا.. أي: منذ وجد المجتمع الإسلامي في المدينة.. ولكن وسائل القتال تتغير, ومن بينها اليوم ما نسميه "الغزو الفكري" ومن بين الغزو الفكري هذه الدعوى ... دعوى الإنسانية! فباسم الإنسانية يقال للمسلم الحق: يا أخي لا تعتزل الناس! إن الإنسانية كلها أسرة واحدة، فتعامل مع الأسرة كفرد منها، ولا تميز نفسك عنها! وشارك في النشاط "الإنساني" ومظاهر الحضارة "الإنسانية"! ولا نقول لهؤلاء: هل تعاملون أنتم المسلمين كأفراد من أسرتكم "الإنسانية" "العالمية" فتعطونهم حقهم بوصفهم أفرادا في تلك الأسرة فلا تطاردونهم، ولا تنبذونهم، ولا تتعصبون ضدهم، ولا تتجمعون على أذاهم؟! لا نقول لهم ذلك؛ لأنه لا فائدة من جدالهم، ولكن نقول "شهد شاهد من أهلها" فهو غير متهم فيما يشهد به! ذلك هو "توينبي" المؤرخ المعاصر المشهور، وتعصبه ضد الإسلام والمسلمين أمر كذلك مشهور! يقول في محاضرة له باسم الإسلام والغرب والمستقبل بعد أن قسم العالم تجاه عملية "التغريب" إلى متحمسين بغير عقل3، ومقلدين بلا تحفظ، وبعد أن امتدح حركة كمال أتاتورك المقلدة للغرب:   1 سورة البقرة: 143. 2 سورة البقرة: 217. 3 يقصد بهم -بصفة خاصة- المسلمين المحافظين على إسلامهم! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 "ويجب على المراقب الغربي أن يراعي حدود اللياقة ولا يسخر1 لأن ما يحاول "المقلدون" الأتراك القيام به هو تغيير وطنهم ومواطنيهم مما هم فيه إلى حالة كنا نحن منذ التقاء الغرب بالإسلام ننتقدهم لعدم وجودها طبيعة فيهم. وها هم حاولوا -ولو متأخرين- إقامة صورة طبق الأصل لدولة غربية وشعب غربي". "وعندما ندرك تماما هدفهم الذي رموا إليه لا نستطيع إلا التساؤل بحيرة: هل يبرر هذا الهدف حقا الجهد الذي بذلوه في صراعهم لبلوغه2". "من المؤكد أننا لم نكن نحب التركي التقليدي المسلم الذي كان يثير حنقنا عندما ينظر إلينا من عل على أننا فريسيون زناديق! ويحمد الله على أنه لم يجعله مثلنا، وبما أن التركي التقليدي القديم كان يعتبر نفسه من طينة خاصة، حاولنا أن نحط من كبريائه بتصوير هذه الطينة الخاصة شيئا ممقوتا وسميناه "التركي النكرة" إلى أن استعطنا أخيرا أن نحطم سلاحه النفسي، وحرضناه على القيام بهذه الثورة "المقلدة" التي استهلكها الآن أمام أعيننا". "والآن، وبعد أن تغير التركي بتحريضنا ورقابتنا، وبعد أن أصبح يفتش عن كل وسيلة لجعل نفسه مماثلا لنا، وللشعوب الغربية من حوله، الآن نحس نحن بالضيق والحرج، بل ونميل إلى الشعور بالسخط والحنق، تماما كما شعر صموئيل عندما اعترف بنو إسرائيل بفظاظة غايتهم ورغبوا في وجود ملك". "لذلك فإن شكوانا الجديدة من الأتراك في هذا الظرف أمر أقل ما يقال فيه إنه غير لائق3، وبإمكان التركي أن يجيبنا أنه مهما فعل فهو مخطئ في نظرنا". "على كل حال، قد يكون انتقادنا للأتراك فظا وغير لائق، ولكن ليس فيه أي تحامل4 ولا هو خارج عن الموضوع، إذ ما الذي سيكسبه التراث الحضاري، في حالة عدم ذهاب جهود الأتراك سدى؟ أي: في حالة نجاحهم -فرضا- النجاح المرجو؟ وهذه النقطة تكشف حركة المقلدين عن نقطتي ضعفها الأصليتين فيها:   1 هذا اعتراف من المؤلف بأن الغربيين يسخرون من الأتراك بعد أن تغربوا وتركوا إسلامهم!. 2 لاحظ سخرية المؤلف بالأتراك، مع أنه ينصح الغربيين بعدم السخرية بهم! 3 وهذا اعتراف بأن سخرية الغرب بالأتراك المقلدين تصل إلى حد "عدم اللياقة" أي: سوء الأدب. 4 يعود إلى سخريته -على طريقته الخاصة- فيقول إن سخرية الغرب بالأتراك المقلدين ليس فيها أي تحامل! يعني أنهما يستحقون ذلك! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 "أولها: أن الحركة مقلدة متبعة، وليست مخترعة، لذا ففي حالة نجاحها -جدلا- لن تزيد إلا في كمية المصنوعات التي تنتجها الآلة في المجتمعات المقلدة, بدل أن تطلق شيئا من الطاقة المبدعة في النفس البشرية". "ثانيهما: في حالة النجاح الباهت -المفترض- هذا، وهو أقصى ما يمكن للمقلدين الوصول إليه، سيكون هناك خلاص -مجرد خلاص- لأقلية ضئيلة في أي مجتمع تَبَنَّى طريقة التقليد؛ لأن الغالبية لا تأمل في التحول إلى أعضاء في الطبقة الحاكمة للحضارة المقلدة، ومآل هذه الغالبية هو تضخيم عدد بروليتاريا الحضارة المقلدة". "كانت ملاحظة موسوليني ملاحظة حادة عندما قال: هناك شعوب بروليتارية1 مثلما هناك طبقات بروليتارية وأفراد بروليتاريون"2. تلك هي القضية! إن تمسك المسلم بإسلامه شيء يغيظ أعداء الإسلام بصورة جنونية.. ولا يهدأ لهم بال حتى يذهبوا عنه ذلك التمسك ويميعوه "ومن وسائل ذلك كما أسلفنا دعوى الإنسانية والعالمية" فإذا تميع بالفعل، ولم تعد له سمته المميزة له، احتقروه كما احتقرت أوروبا الأتراك بعد أن أزال أتاتورك إسلامهم و"فرنجهم" و"غربهم"! بينا يقول أحد المبشرين في كتاب "الغارة في العالم الإسلامي": إن أوروبا كانت تفزع من "الرجل المريض" "وهو مريض" لأن وراءه ثلاثمائة مليون من البشر مستعدون أن يقاتلوا بإشارة من يده3 وهذا النص الأخير يدخل بنا إلى النقطة الثانية أو الهدف الثاني من استخدام دعوى "الإنسانية" في محاربة المسلمين.   1 أي: شعوب ذليلة تابعة مقدر عليها الذل والتبعية لا فكاك لها منها! 2 تعريب الدكتور نبيل صبحي باسم "الإسلام.. والغرب ... والمستقبل" ص51-53. 3 ظهر في بريطانيا في أوائل الستينات كتاب بعنوان "معضلة الرجل الأبيض" The White Man's Dilemma شرح فيه مؤلفه موقف الرجل الأبيض من الرجل الملون. وخلاصة فكرة الكتاب أن الرجل الأبيض يتصايح اليوم بضرورة تحديد نسل الرجل الملون. ويحاول إقناع الرجل الملون بتحديد نسله بشتى الوسائل على أساس أن أقوات الأرض لا تكفي لمواجهة "الانفجار السكاني" في المستقبل، ويناقش المؤلف هذا الزعم، ويثبت أن موارد الأرض لم تستثمر كلها بعد، فضلا عن أن موارد البحر تعتبر غير مستثمرة أصلا. وأن الأرض -بيابسها ومياهها- تحمل من الأقوات ما يكفي أضعاف أضعاف العدد الحالي من البشر. ولكن الحقيقة الكامنة وراء هذه الصيحة أن الرجل الأبيض يخشى على سيادته وسيطرته ورفاهيته الناعمة من يقظة الرجل الملوك الذي سلب الرجل الأبيض خيراته عن طريق السيطرة والاستعمار، فإذا ظل نسل الرجل الملون يتزايد بنسبته الحالية -بينما نسل الرجل الأبيض يتناقص بسبب عمل المرأة وانشغالها بالمحافظة على رشاقتها وانشغالها بملذاتها عن الحمل والأمومة- فسيستيقظ الرجل الملون إلى الحقيقة الواقعة، وهي أن خيراته التي تشتد حاجته إليها بسبب تزايد أعداده مسلوبة بيد الرجل الأبيض، وعندئذ سيثور على الرجل الأبيض لاسترداد خيراته المسلوبة، فيفقد الرجل الأبيض سلطانه ورفاهيته، ومن أجل ذلك ينصحه بتحديد نسله ويخوفه بالجوع!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 إن أشد ما يخشاه أعداء الإسلام من الإسلام هو روح الجهاد الكامنة فيه! وقد مر بنا في الفصل الماضي كلام المستشرق الكندي المعاصر "ولفرد كانتول سميث" الذي يقرر فيه أن أوروبا لا تستطيع أن تنسى الفزع الذي ظلت تزاوله عدة قرون من الفتح الإسلامي، وأن هذا الفزع لا يدانيه شيء في العصر الحديث، ولا فزع أوروبا من استيلاء الشيوعية على تشيكوسلوفاكيا سنة 1948! وهذا هو المستشرق الأمريكي "روبرت بين Robert Payne يقول في مقدمة كتابه السيف المقدس The Sacred Sword: "إن لدنيا أسبابا قوية لدراسة العرب والتعرف على طريقتهم، فقد غزوا الدنيا كلها من قبل، وقد يفعلونها مرة ثانية! إن النار التي أشعلها محمد ما تزال تشتعل بقوة، وهناك ألف سبب للاعتقاد بأنها شعلة غير قابلة للانطفاء"! ولنترك المستقبل لعلم الله. فما ندري ماذا يكون من أمر المسلمين غدا. ولكنا ننظر إلى الحاضر ذاته فنلمح السبب في فزع أعداء الإسلام من روح الجهاد الكامنة فيه.. إن أوروبا لم تتضخم كما تضخمت اليوم، ولم تصل إلى الرفاهية الناعمة التي تعيش فيها إلا باستعمار العالم الإسلامي ونهب خيراته واستعباد أهله وإخضاعهم لنفوذها، فماذا يكون إذا استيقظت في المسلمين روح الجهاد فطردوا ذلك الاستعمار بكل أنواعه الخفية والظاهرة، العسكري منها والسياسي والاقتصادي، واستردوا سيادتهم على أرضهم وأرواحهم وأفكارهم وضمائرهم؟! ماذا يحدث لأوروبا لو تم ذلك؟ ومن أين لها الرفاهية الناعمة التي تعيش فيها اليوم، إذا احتفظ المسلموم بخيراتهم لأنفسهم. أو باعوها لأوروبا بيعا حرا بالسعر الحقيقي الذي تستحقه في التجارة الحرة المتكافئة؟ ومن أين لها التضخم الذي تمارسه اليوم، سواء التضخم العسكري أو العلمي أو المادي، إذا انحسرت مواردها وكسدت بضاعتها التي توزعها اليوم على "المتخلفين" وتربح فيها بغير حساب؟! كلا! ما يحب أعداء الإسلام قط أن تستيقظ روح الجهاد الكامنة فيه، ولو لم يتحقق شيء من كلام روبرت بين، الذي يزعج به أعصاب الغرب ليشتدوا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 الضغط على المسلمين ولا يتيحوا لهم أي فرصة للنهوض. أو -على وجه التحديد- لا يتيحوا لهم أي فرصة للرجوع إلى حقيقة الإسلام التي فقدوها بعملية "التغريب"! ودعوى الإنسانية من أسلحة الحرب الموجهة ضد روح الجهاد عند المسلمين. يا أخي! لقد تغيرت الدنيا! لا تتكلم عن الجهاد! أو إن كنت لا بد فاعلا فتكلم عن الجهاد الدفاعي فحسب! ولا تتكلم عنه إلا في أضيق الحدود! فهذا الذي يتناسب اليوم مع "الإنسانية المتحضرة"! لقد كانت للجهاد ظروف تاريخية وانقضت! أما اليوم فقد أصبحت الإنسانية أسرة واحدة! وهناك قانون دولي وهيئات دولية تنظر في حقك وتحل قضاياك بالطرق "الدبلوماسية"! فإذا فشلت تلك الهيئات في رد حقك المغتصب فعندئذ لك أن تقاتل دون حقك ولكن لا تسمه جهادًا. فالجهاد قد مضى وقته! إنما سمه دفاعا عن حقوقك المشروعة!! أما نشر الدعوة فإياك أن تتحدث فيه عن الجهاد! هناك اليوم وسائل "إنسانية" لنشر الدعوة فاسلكها إن شئت.. هناك الكتاب والمذياع والتلفاز والمحاضرة والدرس.. إياك إياك أن تتحدث عن الجهاد فتكون مضغة في أفواه المتحضرين! ولا نقول لهؤلاء: أين هي الهيئات الدولية في قضية فلسطين؟ وفي قضية الفلبين؟ وفي قضية كشمير، وفي قضية أفغانستان؟ وفي كل قضية كان المسلمون طرفا فيها؟ أين هي الحقوق التي ترد بالطرق الدولة أو العدوان الذي يصد؟! ولا نقول لهم: ما قيمة هذه الهيئات الدولية والقانون الدولي وكل الإجراءات الدولية. إذا كان هذا القانون يعترف رسميا بأن هناك جبابرة خمسة في الأرض لهم الحق -الشرعي!! - أن يوقفوا أي إجراء لا يوافق أهواءهم ومطامعم العدوانية -مهما يكن عادلا في ذاته- عن طريق "الفيتو" "حق الاعتراض"؟! لا نقول لهم ذلك؛ لأنه لا فائدة من جدالهم! إنما نقول لهم إن إسرائيل تضرب بقرارات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن عرض الحائط، وتعلن في تبجح -وهي المعتدية دائما- أنها لن تخضع لهذه القرارات ولن تلتزم بها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 ولا يتحرك "الإنسانيون" لتأديبها.. إنما يشهر سلاح "الإنسانية" في وجه المسلمين فقط حين يطالبون بحقهم المشروع! الإسلام -دين الله- صريح غاية الصراحة، حاسم كل الحسم، لا يداور ولا يناور، ولا يتاجر بالشعارات. {خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 1. {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} 2. {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} 3. ويقرر في صراحة حاسمة أن ولاء المسلم هو لله ولرسوله وللمؤمنين، ويحرم الولاء فيما وراء ذلك: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا ... } 4. {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} 5. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 6. ويقرر في صراحة حاسمة كذلك أن الجهاد لنشر الدعوة ماض إلى يوم القيامة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 7. ولكنه لا يقاتل من أجل فرض عقيدته على الناس وهم كارهون، إنما يقاتل كما قلنا من قبل لإزالة القوى الجاهلية التي تمنع وصول الحق للناس دون حواجز نفسية أو حسية مادية، ممثلة في نظم جاهلية لها في حس الناس ثقل "الأمر الواقع" وجيوش ودول تحمي تلك النظم الجاهلية وتعطيها ثقلها في الأرض، فإذا أزيلت الحواجز فلا إكراه في الدين:   1 سورة التغابن: 2. 2 سورة الزمر: 9. 3 سورة فاطر: 19-22. 4 سورة المائدة: 55. 5 سورة آل عمران: 28. 6 سورة المائدة: 51. 7 سورة الأنفال: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 1. إنما يقام العدل الرباني ليستمتع به الناس ويعيشوا في ظله ولو كانوا لا يعتنقون عقيدة الإسلام. وقد فتح المسلمون مصر وكان سكانها على دين النصرانية، فلم يكرههم المسلمون على اعتناق الإسلام، ولو كان هناك إكراه ما بقي الأقباط على دينهم حتى هذه اللحظة! إنما أقام المسلمون العدل الرباني كما أمرهم الله فردوا للأقباط كرامتهم الإنسانية المفقودة التي سلبهم إياها حكامهم الرومان وهم على نفس الدين، ولكن على مذهب مخالف. فقد كان الرومان يلهبون ظهور الأقباط بالسياط لمخالفتهم إياهم في المذهب فلا يتحرك الأقباط لرد العدوان. ولا يجدون ملجأ ليجئون إليه يمنحهم الحرية الاعتقادية ويمنحهم العدل والكرامة، فلما جاء المسلمون منحوهم كل ذلك. وقصة القبطي الذي ذهب إلى المدينة ليشكو إلى عمر بن الخطاب ضربة العصا التي وقعت على ظهر ابنه من ابن عمرو بن العاص شهيرة لا تحتاج إلى إعادة، ولكن دلالتها واضحة. فهذا القبطي الذي كان يتلقى سياط الرومان ولا يشكو ولا يثأر لكرامته المسلوبة. يسافر هذه الرحلة الطويلة طلبا للعدل؛ لأن الإسلام رد له كرامته فصار يستنكر الظلم ويطلب العدل؛ ولأن الإسلام أوجد له ملجأ حقيقيا يطلب العدل فيه فطلبه هناك. ومن أجل هذا يقاتل المسلمون. لا لفرض عقيدتهم، ولا للتوسع الاستعماري، ولا لسلب أقوات الناس والاستئثار بها لأنفسهم، ولا لأي فائدة أرضية من التي تسعى الدول إليها، ولكن قياما بأمر الله، ونشرا لهذا العدل الرباني في الأرض. وفتح المسلمون الأندلس، وظلوا هنالك ثمانية قرون.. فلم يفرضوا عقيدة الإسلام على نصارى الأندلس بل دخل منهم من دخل الإسلام حبا فيه وإيمانا بصدقه، وبقي النصارى نصارى حتى ردوا للمسلمين الجميل بطردهم من الأندلس مع التعذيب والتنكيل والتشريد على أبشع صورة وعاها التاريخ، ونشر المسلمون النور في الأندلس وغيرها من البلاد عن طريق مدارسها وجامعاتها وأساتذتها وكتبها وعلومها وحضارتها، التي مرت شهادات الشاهدين بها من   1 سورة البقرة: 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 منصفي الغرب على قلتهم! وكانت الأندلس هي الملاذ الآمن لليهود والنصارى على السواء، يشعرون فيها بالآمن الكامل في ظل الحكم الإسلامي، بينما أوروبا كلها تضطهد اليهود وتنكل بهم، وبينما النصارى المخالفون لمذهب الكنيسة يعيشون في رعب دائم من الإرهاب. وفتح المسلمون الهند، وحكموها ثمانية قرون.. فلم يفرضوا العقيدة الإسلامية على الوثنيين الهنود، بل تركوهم لعقائدهم مع أن فيها ما لا يعقله عاقل، من عبادة للبقر، وتبرك بروثها وبولها.. وإنما فرضوا عليها فقط أن يكفوا عن بعض عاداتهم الوحشية التي كانوا يمارسونها من دفن الأرملة حية مع زوجها المتوفي، أو حرقها حية. من أجل رفع هؤلاء الناس إلى درجة الآدمية في بعض تصرفاتهم دون المساس بعقائدهم. وظل الهندوس محافظين على عقائدهم وتقاليدهم في ظل الحكم الإسلامي حتى تسلموا حكم الهند بمساعدة الصليبيين الإنجليز فردوا الجميل للمسلمين بالعدوان المستمر عليهم وتحريق قراهم وتعمد الإثارة الدائمة لهم. والتهييج الدائم لخواطرهم. كذلك كان فتح المسلمين للأرض.. ومن أجل هذه المعاني الرفيعة أمرهم الله بالقتال لنشر الدعوة.. ومع ذلك فهم لا يبدءون بالقتال، إنما يبدءون بعرض الإسلام، فإن لم يقبل منهم فالجزية، فإن لم تقبل فالقتال من أجل إخراج الناس من ظلمات الجاهلية وظلمها إلى عدل الإسلام وسماحته، على النحو الذي تم به الأمر في واقع التاريخ. وللحرب مع ذلك تقاليد.. بل قل إنها أخلاقيات الإسلام في كل شيء حتى مع المشركين المعاندين. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجيشه يعلمه أخلاقيات الحرب في الإسلام: "اغزوا باسم الله، وقاتلوا من كفر بالله، اغزوا فلا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا.." الحديث1. ثم إن أعطوا الأعداء عهدا أو موثقا فالله يأمرهم أن يوفوا بالعهد ولا ينقضوا الميثاق، تحت أي ظرف من الظروف ولأي هدف من الأهداف، فإن خافوا منهم خيانة فلينبذوا إليهم عهدهم علانية ولا يغدروا ولا يفاجئوا عدوهم بالقتال قبل انقضاء العهد:   1 رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} 2. ولقد كان معاوية قد أعطى عهد للروم إلى أمد محدد، ثم جاءته عيونه تخبره أن القوم يستغلون الهدنة للاستعداد للانقضاض على المسلمين، فأراد أن يباغتهم. فاستشار فأبى عليه مستشاروه، وقالوا له إما أن تنبذ إليهم عهدهم على سواء وإما أن تنتظر إلى نهاية العهد، والله ينصرك بالطاعة، فانتظر حتى نهاية العهد وانتصر بإذن الله. ويروي التاريخ كيف غدر الصليبيون بعهدهم مع صلاح الدين وفاجئوا المسلمين الآمنين على بغتة فاحتموا بالمسجد فدخلوا عليهم المسجد وأعملوا فيهم القتل حتى غاصت الخيل إلى ركبها في الدماء.. فلما دارت الدورة وانتصر صلاح الدين أبى أن ينتقم منهم -سماحة- ولم يغدر قط بميثاق واحد أعطاهم إياه. وظل وفاء المسلمين بمواثيقهم في السلم والحرب مضرب المثل خلال التاريخ، اتباعا لتعاليم الإسلام، وتخلقا بأخلاق لا إله إلا الله. والإسلام صريح في توجيه أتباعه إلى التميز عن أحوال الجاهلية، التميز بنظافة السمت ونظافة الأخلاق ونظافة السلوك، والاستعلاء بالإيمان على كل مصدر ليس إسلاميا أو متعارض مع الإسلام، حتى لو لحقت بهم هزيمة مؤقتة أو ضعف طارئ:   1 سورة النحل: 91-94. 2 سورة الأنفال: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. ومصدر التميز هو الإحساس بأنهم على الهدى وغيرهم على الضلال، وأن المنهج الذي يعيشون به هو المنهج الأعلى؛ لأنه المنهج الرباني، والذي يعيش عليه غيرهم هو المنهج الأدنى؛ لأنه منهج جاهلي، فهو ليس تميزا مبنيا على الجنس ولا اللون ولا الجاه ولا الغنى ولا القوة ولا أي معنى من المعاني الأرضية التي تعتز بها الجاهلية وتستعلي بها على الناس، إنما التميز المستمد من معرفة المنهج الرباني واتباعه. ومع ذلك كله فكيف يكون التعامل الإسلامي مع غير المسلمين؟! {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2. {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} 3. كما أنه ليس مقتضى التميز والاستعلاء هو "مخاصمة" كل ما يأتي من مصدر غير إسلامي، إن كان شيئا نافعا في ذاته، ولم يكن متعارضا مع الإسلام، فقد أخذ المسلمون الأوائل من الحضارة الفارسية والحضارة البيزنطية ما رأوه نافعا لهم ولا يتعارض مع عقيدتهم وأخلاقهم وأفكارهم وتصوراتهم الإسلامية، إنما مقتضى ذلك ألا يأخذوا من مصدر غير إسلامي أمرا يتصل بالعقيدة أو يتصل بالقيم أو يتصل بالشريعة أو يتصل بالأخلاق؛ لأن مرجعهم في ذلك كله هو كتاب الله وسنة رسوله، وهو حسبهم وفيه كل ما يحتاجون إليه في هذه الأمور, أما "الأدوات" الحضارية، وأما "العلم" وأما "التجارب" النافعة فلا خصومة معها، ولا عداء ما دامت لا تصادم أصلا من أصول الإسلام. ذلك هو الواقع الإسلامي.. وخلاصته أن "الإنسانية" الحقيقية "والسماحة" الحقيقية هي الإسلام!   1 سورة آل عمران: 139. 2 سورة الممتحنة: 8. 3 سورة المائدة: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 فحيث تكون دعاوى الإنسانية والعالمية والتسامح في كل النظم مجرد شعارات لا رصيد لها من الواقع، فإنها في الإسلام واقع حقيقي، لا دعاوى ولا شعارات مرفوعة بغير رصيد. والإسلام دين الله الحق، وكل أمر فيه -بما في ذلك الجهاد لنشر الدعوة، والتميز والاستعلاء بالإيمان، واعتزال أدران الجاهلية وعدم المشاركة فيها- هو أمر رباني، لم يبتدعه المسلمون من عند أنفسهم، ولا قاموا به لصالح لأنفسهم، إنما تنفيذا لأمر الله، سواء وقع عليهم منه في الأرض الغنم أو الغرم -بالمقاييس البشرية المحدودة- إنما يصنعونه ابتغاء مرضاة الله، وطمعا في الجزاء في الآخرة. ولكن غير المسلمين لا يؤمنون بذلك بطبيعة الحال، فلا نناقشهم بمنطق الإيمان الذي لا يلزمهم، بل نفترض -جدلا- أن كل النظم ذات حق متساو في الوجود وفي الانتشار في الأرض.. فلننظر في الواقع التاريخي نظرة "علمية" "موضوعية" "مجردة". أي النظم مارس حقه في الوجود وي الانتشار في الأرض بروح إنسانية حقيقية، وأيها مارس الوجود والانتشار بسلوك خال من القيم الإنسانية هابط إلى الحضيض؟! فمن كان في شك فلينظر إلى الواقع المعاصر وما يتم فيه من ألوان من البربرية الوحشية لا تخطر على البال، وألوان من نقض المواثيق لا تخطر على البال، وألوان من العبث بكرامات الشعوب والاستخفاف "بحقوق الإنسان" لا تخطر على البال. وذلك رغم كل الشعارات المرفوعة، والقيم المسطرة في ديباجات الدساتير والمعاهدات والمواثيق! أما الإسلام فلا يداور ولا يناور، ولا يرفع الشعارات البراقة بلا رصيد، إنما هو رغم الصراحة الحاسمة التي يعالج بها كل أمر، هو الذي يطبق الروح الإنسانية الحقيقية والتسامح الحقيقي.. ولا عجب في ذلك، فإنما هو المنهج الرباني الحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وهو الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 الإلحاد : الإلحاد -بمعنى إنكار وجود الله، والقول بأن الكون وجد بلا خالق أو أن المادة أزلية أبدية، وهي الخالق والمخلوق في ذات الوقت- بدعة جديدة في الضلالة فيما أحسب، لم توجد من قبل في جاهليات التاريخ السابقة، ومن المؤكد على أي حال أنها لم توجد بهذه الصورة وبهذا الاتساع الذي تمارسه الجاهلية المعاصرة، في أي فترة سابقة من فترات التاريخ. وبعض الناس يشير إلى الآية الكريمة: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 1 ويستدلون منها على أنه وجد في الجاهلية العربية "وبالتالي في غيرها" من ينكر وجود الله، وأن هؤلاء الدهريين كما أطلق عليهم هم صنو القائلين بالطبيعة المنكرين لوجود الله. والآية -فيما أرى- لا تعطي هذه الدلالة بصورة قاطعة، فإنها تقطع فقط بأن القوم المشار إليهم ينكرون البعث، ولكنها لا تقطع بأنهم ينكرون وجود الله. وما لم يثبت من مصدر يقيني2 أنه وجد في العرب أو في غيرهم من الأمم من قبل من ينكر وجود الله فأغلب الظن عندي أن هؤلاء القوم المشار إليهم في الآية هم الذين يؤمنون بوجود الله وبأنه هو الخالق المدبر ثم ينكرون قدرته سبحانه وتعالى على بعث الموتى بعد أن يصيروا ترابا وعظما: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3 {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 4 ومع إقرارهم بذلك كله فقد كانوا ينكرون البعث إنكارا شديدا ويعجبون ممن   1 سورة الجاثية: 24. 2 أي: حديث مقطوع بصحته. 3 سورة لقمان: 25. 4 سورة المؤمنون: 84-89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 يقول به: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} 1. فتكذيبهم بالبعث لم يكن ناشئا من إنكارهم لوجود الله إنما من إنكارهم قدرته سبحانه وتعالى على إحياء الموتى بعد أن بليت أجسادهم وضلوا في الأرض: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 2. ولذلك كان الجدل معهم في هذا الموضوع يدور كله حول معنى واحد هو أن الذي خلق الخلق من العدم أول مرة قادر على أن ينشئهم مرة أخرى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3. {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} 4. {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5. والذين أطلق عليهم اسم "الدهريين" قوم ينكرون البعث إنكارا مطلقا، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا، أي: لا توجد حياة أخرى بعدها, يموت منا من يموت ويحيا منا من يحيا، وما يهلكنا إلا مرور الزمن، فكلما مر الزمن ماتت نفوس.. ولكن لا بعث وراء ذلك ولا حياة، أما إنكارهم لوجود الله فاستدلال لا تدل عليه الآية دلالة صريحة ولا دلالة لازمة، والقوم إنما نسبوا إلى الدهر -أي: إلى مرور الزمن- أنه هو الذي يهلكهم، ولكنهم لم يقولوا إن الدهر هو الذي خلقهم أو هو الذي منحهم الحياة، أي: إنهم لم يتخذوه إلها بدلا من الله!   1 سورة سبأ: 7, 8. 2 سورة السجدة: 10. 3 سورة يس: 78-83. 4 سورة الإسراء: 98, 99. 5 سورة الروم: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 وحتى لو فرضنا جدلا -بغير دليل يقيني- أنهم أنكروا وجود الله، فليس هناك من يقول إنهم كانوا كثرة يحسب لها حساب، ولا إنهم كانوا هم الصورة الغالبة للجاهلية، أما إنكار وجود الله على النحو الذي تتبجح به الجاهلية المعاصرة، وبالسعة التي تمارس بها ذلك التبجح، فأمر غير مسبوق في تاريخ البشرية.. ذلك أن الفطرة بذاتها تعرف وجود الله، وتتجه إليه اتجاها فطريا بالعبادة على نحو من الأنحاء.. ولو ضلت الطريق! ولم يكن الضلال الغالب على البشرية في جاهلياتها هو إنكار وجود الله، إنما كان الضلال الغالب هو الشرك، وتصور الله على غير حقيقته، فقد يتصورون أنه هو الشمس أو هو القمر أو هو النجم أو ما إلى ذلك من المخلوقات.. {وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 1. {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} 2. أو يتصورونه آلهة متعددة متعادلة في القوة والسطوة كإله الخير وإله الشر عند الفرس، يتنازعان أبدا ولا يغلب أحدهما الآخر، أو غير متعادلة كما كان الرومان والإغريق يؤمنون بوجود إله كبير هو رب الأرباب، ودونه آلهة شتى، وكما كان العرب في جاهليتهم يؤمنون بأن الله هو رب الأرباب الخالق الرازق المهيمن، وثمة آلهة أخرى يشاركونه في بعض الأمر فيعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3. ولم يبعث الله رسولا ولا نبيا ليقول للناس إن هناك إلها فالفطرة تعرف ذلك بغير رسول! ولا ليقول لهم إن هناك إلها فاعبدوه. فالفطرة تتجه بالعبادة تلقائيا إلى الإله الذي تعتقد بوجوده بغير رسول! فقد أودع الله ذلك كله في الفطرة والبشر ما زالوا في عالم الذر: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 4!.   1 سورة فصلت: 37. 2 سورة النجم: 49. 3 سورة الزمر: 3. 4 سورة الأعراف: 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 إنما الذي أرسل به الرسل جميعا هو "التوحيد": {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} 1. {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2. وذلك لتصحيح مسار العقيدة وتقويم الفطرة مما تقع فيه من الضلال، لا لإنشاء العقيدة ابتداء وإثبات وجود الله. {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 3. نعم.. تعرف الفطرة بذاتها وجود الله، وتتجه إليه بالعبادة منذ أن أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم.. ولا ندري نحن كيف تم ذلك.. ولكنا نلحظ من أحوال الفطرة مصداق تلك الحقيقة. هناك منافذ في الفطرة تتلقى إيقاعات من الكون والحياة، فتستيقظ من غفلتها، إن كانت غافلة، فتروح تتساءل: ما وراء ذلك؟ ومن وراء ذلك؟ فتهتدي إلى وجود الله ثم تتصوره على حقيقته، فردا صمدا خالقا رازقا مدبرا مهيمنا.. فتعبده العبادة الحقة وتخلص له العبادة، أو تضل فتتصوره على غير حقيقته، وتشرك معه آلهة آخرى. ولكنها في الحالين تعرف وجوده، وتتوجه إليه بالعبادة على نحو من الأنحاء. هناك بادئ ذي بدء هذا الكون الهائل، الذي يروع الحس بضخامته المعجزة. وبغير الأدوات التي استحدثها الإنسان لتزيد بصره حدة، وتجعله ينفذ في آماد الكون المتطاولة التي لا تنفذ إليها النظرة بالعين المجردة، كان الإنسان يحس بضخامة الكون وسعته المعجزة، من رؤية السماء التي لا يحيط بها بصره، ورؤية الشمس والقمر، ورؤية العدد الهائل من النجوم التي يعجز عن إحصائها.. وكان يروعه ذلك كله ويسترعي انتباهه فيظل يفكر فيه، ويتساءل.. أو تتساءل فطرته، من وراء ذلك؟ وماذا وراء ذلك.. فيهتدي إلى الله الحق..أو يضل فيتصور الشمس هي الله، أو القمر هو الله، أو النجم هو   1 سورة محمد: 19. 2 سورة هود: 61. 3 سورة الروم: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 الله.. أو أنها جميعا آلهة في وقت واحد، ولكنه في كل حالة يعلم أن هناك خالقا لهذا الكون الهائل. فيتخيله على صورة من الصور، ويعبده لونا من العبادة يحتوي على ركوع وسجود، وشعائر أخرى والتزامات. وحين مد الإنسان ببصره إلى داخل الكون من خلال المناظير رأى عجبا يأخذ بالألباب! رأى أن الشمس كلها والمجموعة الشمسية من حولها ليست إلا "نجما" واحدا من نجوم لا تحصى في مجموعة واحدة تعرف "بالمجرة" وأن المجرة التي فيها شمسنا ليست إلا واحدة من مجرات أخرى غيرها في الكون تعد بالملايين! كلها ذات نجوم تعد بالملايين! ورأى أن هناك نجوما تبعد عنا عدة آلاف.. لا من الأميال.. ولا من ألوف الأميال "أي: ألوف الألوف" ولكن من السنين الضوئية! أي: المسافة التي يقطعها الضوء في سنة كاملة وهي رقم فلكي لا يتعامل به البشر على سطح الأرض: 186000× 60× 60× 24× 365.25= 5.896.713.600.000 ميلا تقريبا. ورأى من حيث الحجم أن هناك نجوما تبلغ أضعاف حجم شمسنا، التي لا نراها بطبيعة الحال في حجمها الطبيعي لأنها تبعد عنا حوالي 93 مليون ميل، وأن هذه النجوم تبدو لنا مجرد نقط في الفضاء رغم حجمها الهائل ذلك؛ لأن مسافتها منا شيء مذهل، لا يقاس إليه بعد شمسنا منا.. وأن المسافة بين نجم ونجم في هذا الفضاء لا يكاد يتصورها عقل.. فما بال الفضاء كله؟ كم حجمه؟ ما أبعاده؟ هل هو منته أم ممتد بلا انتهاء! وعلم -من طريق المناظير- أن الكون المرئي كله إن هو إلا جزء من الكون فحسب، وأن نسبته إلى الكون أمر لا يمكن تحديده؛ لأنه لا يمكن بعد تحديد مقدار ذلك "الكل".. لأنه كلما اخترع الإنسان آلة أبعد. بدا له من الكون مزيد لم يكن يراه من قبل، ولم يكن يحسب أنه كائن في الوجود! ومع هذه الضخامة المعجزة يلحظ الحس البشري دقة معجزة كذلك. ومن قبل أن يتوصل الإنسان إلى الأجهزة الدقيقة البالغة الدقة ليقيس بها مقدار الدقة في هذا الكون، كان يرى ما يروع حسه ويستغرق انتباهه. كان يرى الدقة العجيبة في تتابع الليل والنهار بمواعيد مضبوطة على مدار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 العام، والدقة العجيبة في مسار الظل وتغيره يوما عن يوم حتى يعود إلى نفس مكانه بعد عام كامل من كل يوم.. ومن هنا نبتت فكرة المزاولة ثم فكرة الساعة وكان يرى الدقة في مسار القمر وتغير أوجهه ليلة بعد ليلة حتى يعود إلى نفس وضعه بعد شهر كامل من كل يوم يرصد فيه.. وكان يرى دورة النبات من البذرة المغمورة في الأرض. إلى الشطأ الذي يخرج منها. إلى الساق والأغصان والأوراق، إلى الزهرة والثمرة والبذرة في نهاية المطاق.. وكان يرى الزهرة الملونة تتكون من خيوط دقيقة ومساحات دقيقة من اللون يعجز الرسام الماهر أن يرسمها بهذه الدقة، ويعجز عن تكرارها بنفس الصورة في رسم آخر فضلا عن ألوف وملايين؛ ولكنها في الطبيعة تبرز ملونة بهذه الدقة في كل زهرة دون جهد مبذول. ويرى ريشة الطائر الملون مكونة من عدد لا يحصى من الخطوط والخيوط، كل يحمل نصيبا دقيقا من اللون يعجز الرسام أن يرسم مثله في دقته، ثم يحدث من تجمعها في الريشة ذلك المنظر البهيج الذي يروع النظر ويروع الحس. وكان يرى دقة دخول الليل في النهار حتى يتلاشى الضوء، ودقة دخول النهار في الليل حتى يتلاشى الظلام.. وكان يرى أشياء وأشياء توقظ فطرته إن كانت غافلة فيتساءل: هل يمكن أن توجد هذه الدقة العجيبة كلها بغير موجد؟ ثم يروح يتطلع إلى الموجد. فيهتدي إلى أنه حقيقة لا تدركها الأبصار فيؤمن بالله على بصيرة، ويعبده على بصيرة، أو يضل فيتصور أنه الشمس أو القمر أو النجوم أو الروح الساكنة في التمثال الذي ينحته بيديه..ولكنه في كل حال يعلم أنه لا بد من خالق خلق هذا الوجود بتلك الدقة التي يلحظها في تلك الكائنات حوله. ثم مد الإنسان ببصره إلى داخل هذا الكون المعجز عن طرق الأدوات التي استحدثها فرأى عجبا لم يكن يخطر له على بال! رأى هذا الكون العجيب كله مكونامن ذرات متناهية في الدقة لا تراها العين المجردة، إنما ترسمها الأدوات التي استحدثها الإنسان. في صورة شمس تدور حولها كواكب على ذات النمط الذي تتكون منه المجموعة الشمسية ولكن في دقة متناهية لا يدركها الحس. وفي كل قطعة صغيرة من المادة ملايين وملايين من هذه الذرات متراكبا بعضها مع بعض، ومشدودا بعضها إلى بعض، بذات القوة التي تمسك الكون كله بعضه إلى بعض، وتسمح له بالحركة الدائبة دون أن يصطدم أو يتناثر، والتي أطلق عليها اسم "قوة الجاذبية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 بل رأى أعجب من ذلك حين فتتت الذرة وأطلق منها "الطاقة". إن الذرة ليست "مادة" مصمتة كما كان يتخيل أول الأمر، وليست هي الصورة النهائية "للمادة" ولكنها جسيمات كهربية موجبة وسالبة ومتعادلة، يمكن تفتيتها وتفكيكها فتتحول إلى طاقة، والطاقة يمكن أن تتحول إلى مادة، ولا يوجد ذلك الحاجز الذي كان يتخيله بين المادة وبين الطاقة.. والكون في النهاية طاقة تأخذ صورا شتى. صورة متكتلة في هيئة المادة، وصورة منطلقة في هيئة شعاع ضوئي، وصورة منطلقة في هيئة جاذبية مغناطيسية، أو مغناطيسية كهربية تحير الألباب! ورأي من بين ما رأى عجبا عاجبا في تكوين الجنين ونموه المتتابع حتى يصبح خلقا تام التكوين. فهو في أصله بويضة ملقحة وحيدة الخلية، تتكاثر عن طريق الانقسام المستمر إلى خلايا جديدة متشابهة في التكوين ولكنها متخصصة، وإلى أن تكون مضغة لا يظهر للعين ذلك التخصص. ولكن في وقت معين مقدر محدد. تصدر لكل خلية أوامر خفية، فهذه الخلية يصدر لها أمر أن تكون هي الأنف، وتلك الخلية يصدر لها أمر أن تكون هي العين، وثالثة يصدر لها الأمر أن تكون هي القلب. ثم تتكاثر كل منها على النحو المقدور لها فيتكون من تكاثرها أنف وعين وقلب وبقية الأعضاء.. ثم هناك "الجينات" أو "المورثات" متناهية في الصغر كالذرات.. عجيبة كل العجب في شأنها كله. فكل جنس من أجناس الكائنات له عدد محدد من "الكروموسومات" حاملات الصفات الوراثية لا يتجاوزها في كل فرد من أفراده، تحدد له خصائصه كلها من أعضاء وقدرات وأعمال, فالكلب له عدد من "الكروموسومات" معين، والحصان له عدد معين والقرد له عدد معين.. والإنسان هو أكثرها عددا.. ولا يتجاوز كل جنس حدوده إلى جنس آخر، محكوما بعدد هذه الكروموسومات وما تحمله في داخلها من الخصائص.. فلا يستطيع القرد أن يكون إنسانا في يوم من الأيام ولا في جيل من الأجيال! ثم هذا الإنسان، أعجب مخلوقات الله وأشدها إعجازا، وإن كان الخلق كله معجزا بالنسبة إلينا، وهينا بالنسبة للخالق الذي يقول للشيء كن فيكون، ولا يتعب في تشكيله وتكوينه كما تتعب المخلوقات! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 عدد "الكروموسومات" بالنسبة للإنسان كله واحد، ولكن الإنسان أكثر كائنات الخلق تعددا في صوره وأشكاله، فهذا قصير وهذا طويل وهذا أبيض وهذا أسود، وهذا أزرق العينين وهذا داكن ... وهذا عبقري وهذا خامل ... وهذا موهوب في الأدب وهذا موهوب في الرياضيات ... وهذا جلد صبور وهذا مستثار حائر.. كل إنسان تركيبة وحده، وهو مكون من ذات العناصر.. من ذات العدد من حاملات الصفات الوراثية التي يحملها "الإنسان" ولكنها في كل فرد غيرها في الفرد الآخر، فلا يكاد يتماثل اثنان في ملايين البشر في الجيل الواحد ولا في جميع الأجيال, بل تصل الدقة في بصمات الأصابع إلى حد تصبح معه من وسائل التعرف؛ لأنها لا تتكرر في فردين اثنين من بين ملايين الأفراد! كيف يحدث ذلك كله؟ كيف تحدث هذه العجائب التي لا ينقضي العجب منها سواء في تكوين المادة أو في تكوين الكون كله. أو في المادة الحية من أول الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان، أو التناسق و"التوازن" في بنية الكون، وخاصة ذلك التوازن الكائن في تلك المجموعة الشمسية التي منها أرضنا، والتي يتبدى التنسيق الدقيق فيها بحيث لو اختل عنصر واحد منها ما أمكنت الحياة على صورتها الحالية ولا أمكن استمرار الحياة.. لو اقتربت الأرض من الشمس أكثر تحترق الكائنات الحية ولو ابتعدت أكثر تهلك من الصقيع.. لو اقترب القمر من الأرض أكثر لارتفع المد حتى يغرق كل الأرض ... ولو زاد الأكسجين لاشتعلت الكائنات ولو قل لم تجد كفايتها للحياة. كيف يحدث ذلك كله؟ من غير خالق مدبر حكيم؟ ويتلقى الحس البشري إيقاعات من الحياة من حوله. الحياة ذاتها إعجاز.. كيف تكونت الحياة أول مرة من الموات؟ ثم كيف تعددت على هذا النحو الذي نراه، من نبات وحيوان وإنسان؟ ثم في أنواع النبات المختلفة وأنواع الحيوان المختلفة وأشكال الإنسان المختلفة؟ ما الحياة؟ ما سرها؟ من واهبها؟ وكيف يهبها؟ كيف "ينمو" الكائن الحي وتتغير أحواله من طور إلى طور..؟ والكائن البشري بالذات.. المعجز في كل تفصيلاته ... كيف تتم عمليات النمو المختلفة فيه.. كيف يتعلم الكلام؟ إن الكلام ذاته معجزة لا يحيط بها العقل البشري! كيف تم للبشر أن ينطقوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 بلغة ذات رموز وتراكيب؟ كيف تأتي للأصوات المبهمة أن تكون ألفاظا محددة، وكيف تم للألفاظ أن تعبر عن المعاني.. وكيف تعددت اللغات التي تعبر عن ذات المعاني ما بين شعب من البشر وشعب، وكلهم "نوع" واحد. يعاني تجربة واحدة هي تجربة الحياة في هذه الأرض؟! وهذه المعاني.. هذه الأفكار المجردة.. كيف تمت؟ وعملية التفكير ذاتها.. وعملية التذكر.. كيف تتم هذه وتلك؟ وكيف "ينمو" هذا كله مع نمو الطفل.. كيف تنمو قدرته على الكلام، وقدرته على التفكير والتذكر؟ وكيف اختص "الإنسان" -دون مقدمات من الكائنات الأدنى منه- بخاصية التفكير المجرد، وخاصية الرمز للأفكار بالكلمات ذات الأصوات والحروف والمقاطع، وخاصية الإبداع المادي والمعنوي، فصارت له حضارة وصار له تاريخ؟! ثم.. ذلك الجانب الآخر من "الحياة" الذي يسمى "الموت". ما سره؟ كيف يحدث؟ من الذي يملكه؟ إن الطفل -لفرط حيويته- يتخيل الوجود كله "حيا" مثله.. ويتخيل أن الحياة هي الأمر الطبيعي لكل الأشياء.. فيتعامل مع اللعبة التي يلعب بها، كما يتعامل مع الباب والنافذة والكرسي والعصا على أنها كائنات حية، تفهم عنه لغته التي لم تتبلور بعد، وتتجاوب معه وإن لم تنطق بحرف! ثم ينمو إدراكه ويعرف بطبيعة حال أن هناك أحياء حقيقيين، وأشياء أخرى لا حياة فيها، كان هو يخلع الحياة عليها في طوره السابق، واليوم يعلم أنها لا تتحرك من ذات نفسها ولا تأكل ولا تشرب ولا تتغير حالها كما تتغير أحوال الأحياء، ولكنه من فرط حيويته لا يزال يخلع عليها الحياة وهو عالم بأنها غير حية في حقيقتها، ويكلمها ويتخيل أنها ترد عليه، ويضربها أو يربت عليها، ويتخيل أنها تتألم وتبكي أو تسر وتفرح، كما يتخيل الشاعر فيما بعد وهو يكلم الأطلال ويستوحيها ويناجي "الطبيعة" ويتخيل أنها ترد عليه! ثم ينضج في يوم من الأيام حتى يدرك إدراكا لا لبس في أن هناك فارقا حاسما بين الأحياء وغير الأحياء من الكائنات. ولكنه بعد يفترض أن الحياة دائمة في الأحياء كما أن الجمود دائم في الجوامد من الأشياء. ولكنه ذات يوم يفاجأ بحقيقة الموت، وبأن "الحياة" ليست دائمة كما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 يظن. ذلك حين يموت أمامه كائن حي يعرفه، سواء كان القطة التي كان يلهو بها، أو العصفور الذي يراه يقفز فوق الأغصان، أو قريبا له كان يحبه ويتعلق به.. وعندئذ تفعل المفاجأة فعلها في نفسه، فتهزه من أعماقه وتثير الأسى في قلبه، ويظل التأثر بالموت يصاحبه كلما جد له داع من دواعيه.. حتى يأخذ دوره في الركب الراحل عن الحياة. وتظل الظاهرتان معا، ظاهرة الموت وظاهرة الحياة، تهزان كيانه، وتبعثانه يتساءل: من وراء ذلك؟ من وراء الحياة يخلقها بكل مظاهرها، ومن وراء الموت الذي ينهي الحياة ويقف دفعتها عن السريان؟! ويهتدي فيعرف الله على حقيقته، وأنه هو المحيي المميت، أو يضل فينسب الحياة إلى مصدر والموت إلى مصدر آخر كما كان يفعل "الدهريون" أو ينسبهما معها إلى آلهة آخرى غير الله. ولكنه يعلم -على الأقل- أن واهب الحياة هو خالق الخلق فيتعبده ويترضاه. ويتلقى الحس البشري إيقاعات كذلك من جريان الأحداث من حوله: فهذا الوجود حوله ليس ساكنا في أي حالة من حالاته. فهناك الليل والنهار حركة يومية دائبة تنقل الأشياء كلها من النور إلى الظلمة ومن الظلمة إلى النور، وهناك دورة الفلك حركة سنوية دائمة تنقل الأشياء كلها من الربيع إلى الصيف، ومن الصيف إلى الخريف ومن الخريف إلى الشتاء ومن الشتاء إلى الربيع، مع ما يصحب ذلك من اختلاف مستمر في الحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة واخضرار الزرع وجفافه وإيناعه وإثماره ونضجه وسقوطه، واختلاف مستمر في نشاط الإنسان وأحواله بما يناسب الجو وأحواله والعمل وأحواله. وهناك حركة الحياة والموت في الأحياء لا بوصفها "ظاهرة" ولكن بوصفها حركة تنتج عنها أحداث، هذا يولد وهذا يموت، وهذا يكون صغيرا فينمو، وصحيحا فيمرض أو مريضا فيصح. وهذا غني فيفتقر أو فقير فيغنى، وتدول دول وتولد أخرى، وتحدث حروب وسلم، وهزيمة ونصر، ورفع في مكانة الناس وخفض، وتقدم وتأخر، وعز وذل ... وتشد الأحداث انتباه الناس وتهزهم، فيروحون يتساءلون: هل هناك "رابط" بين الأحداث؟ وهل هناك "نظام"؟ أم إنها تحدث كيفما اتفق؟ وهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 وراءها غاية أم يسير الوجود كله بلا هدف ولا غاية؟ وما الغاية إن كان هناك؟ ومن صاحب الغاية؟ ومن يدبر الأحداث؟ ويهتدي الإنسان إلى الحقيقة، فيعلم أن مدبر الأحداث هو خالق الكون، وأنه يجري الأحداث بمشيئته وقدره، وأن له حكمة من وراء ذلك يعلمها البشر أحيانا ويجهلونها أحيانا.. أو يضل فلا يعرف الغاية ولا يعرف الحكمة ويحسب الأمور تجري خبط عشواء.. ولكنه في كل حالة يعلم أن هناك مشيئة تجري بمقتضاها الأحداث، وأنها ليست مشيئة البشر إنما مشيئة كائن أعلى من البشر، فيشعر نحوه بالرهبة وقد يشعر نحوه بالإجلال. ويتلقى حس الإنسان إيقاعات "ذاتية" دائمة من شعوره الدائم بالعجز.. يولد الطفل عاجزا تمام العجز لا يقدر على شيء. ولولا رعاية الذين يحيطونه وإمدادهم له بالغذاء وقضاؤهم له حاجاته ما استطاع أن يعيش، ورويدا رويدا يقدر على شيء من الحركة وهو محمول في حضن والديه أو المكلفين برعايته، حتى يستطيع في وقت من الأوقات أن يجلس مستقلا بعض الشيء. وفي اللحظة التي "يقدر" فيها على الجلوس يحس "بالعجز" عن المشي! ويجاهد حتى يتمكن أخيرا من الحبو على الأرض. وفي اللحظة التي يقدر فيها على الحبو يحس بالرغبة في الوقوف والعجز عن تحقيق تلك الرغبة! وفي مرحلة تالية يتمكن من الوقوف ولكنه يحاول المشي فيقع على الأرض ويحس بالعجز عن تحقيق ما يريد.. وتمضي الأيام والسنون فيمشي ويجري ويخرج إلى الطريق ويتعلم العلم ويحس "بالقدرة" على أشياء كثيرة لم يكن يقدر عليها من قبل ... فهل تنقضي رغباته؟ وهل يكف عن الشعور بالعجز؟ كلا! إنه هكذا ركب في طبيعته.. كلما حقق حلما راح يشتاق جديدا, ولم يقنع بما وصل إلى تحقيقه بالفعل، حتى حين ركب الصاروخ ووصل إلى القمر ونزل على سطحه.. حتى حين سيطر على كثير من شئون البيئة من حوله ونظمها حسبما يريد.. حتى حين اخترع من الآلات ما صار يحقق في جزء من الثانية ما كان يستغرق منه الساعات والأيام والشهور ولا يحكم تنفيذه.. حتى حين وصل إلى ذلك كله فهل رضيت نفسه، وقال: لقد حققت وجودي كاملا فما أرغب المزيد؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 كلا! إنه يريد في حقيقة الأمر شيئا لا يقدر عليه، ويحس "بالعجز" الدائم عن تحقيقه، يريد أن يسيطر على الكون، يريد أن يقول للشيء كن فيكون! ويعلم الإنسان في دخيلة نفسه أنه عاجز عن تحقيق ذلك، وأنه مهما أوتي من القدرة والسيطرة على بعض جوانب الوجود. فإن بينه وبين السيطرة الحقيقية التي يحلم بها أمدا لا يمكن بلوغه؛ لأن مدى قدرته محدود بحدود، ومدى عمره محدود بحدود، ومدى تمتعه -في عمره المحدود- بالصحة والقوة والنشاط والقدرة محدود بحدود! وهكذا يشعر الإنسان بالعجز كلما شعر بالقدرة، ولا يصفو له قط الشعور بالقدرة الكاملة التي يحلم بها في كل مراحل عمره، فضلا عن أنواع العجز التي يعلم أنها مفروضة عليه لا محالة، ومن بينها الموت الذي يعجزه عن الخلود! ومن شعور الإنسان بالعجز الدائم الذي يلاحقه حتى آخر لحظة من حياته يلتفت الحس البشري إلى الكائن الذي لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض! كل شيء يعجز عنه هو يقدر عليه ذلك الكائن الذي لا يعجزه شيء! الخلق من العدم بادئ ذي بدء، والسيطرة المطلقة على كل شيء، والتسخير المطلق لكل شيء، والقوة التي لا يقهرها شيء وهي تقهر كل شيء, والمشيئة التي تحقق كل شيء في لمح البصر؛ لأنها تقول للشيء كن فيكون.. والخلود الأزلي الأبدي صفة يتفرد بها ذلك الكائن الذي لا يعجزه شيء.. وكل ما عداه يفنى ويزول.. عندئذ يتحول الحس إلى ذلك الكائن الذي قدرته لا تحد.. فيهتدي، ويعرف الله على حقيقته ويعبده حق عبادته، أو يضل فيظن ذلك الكائن هو الشمس أو القمر أو النجم أو الروح القاطن في الوثن الذي ينحته بيديه.. ولكنه يعلم في كل حالة أنه هناك. أنه موجود. وأنه إله، وأنه معبود، فيتقدم إليه بالشعائر، ويلتزم نحوه بلون معين من السلوك. رغبة أخرى من رغبات الإنسان لا تقل عمقا في نفسه عن رغبة السيطرة ورغبة الخلود، يحس فيها الإنسان بالعجز المطلق الذي لا تحده حدود، تلك هي رغبته في استكناه الغيب! الرغبة في معرفة الغيب قديمة قدم الإنسان على الأرض، وستظل تصاحبه طالما كان هناك بشر يعيشون في الأرض! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 يريد الإنسان أن "يطمئن" على حياته. كم سيعيش؟ هل يسلم من الأحداث؟ هل يستمتع بالقوة والصحة والنشاط والحيوية فيما قدر له من العمر؟ هل يحقق أحلامه؟ يتزوج ويسعد ويحصل على الثروة والجاه.. أو يكون بطلا مجاهدا.. أو يكون زعيما قائدا.. أو.. ماذا يكسب غدا؟ بأي أرض يموت؟ عشرات من التساؤلات ومئات.. يريد أن يعرفها "ليطمئن".. ويروح يستكنه الغيب فلا يقدر.. لا غيب السنوات القادمة ولا الشهور ولا الأيام، بل غيب الساعات القليلة القادمة.. بل غيب اللحظة المقدمة عليه. التي دخل أولها من الباب وما زال آخرها محجوبا بحجاب! كيف يقدر والغيب وراء الأستار؟! هل تنزاح الأستار؟! يمضي الإنسان -في جاهليته- نحو الكاهن والعراف، يستلهمه أمر الغيب، ويتعلق بكل كلمة تخرج من شفتيه كأنها أسرار الغيب الحقيقي.. ولكن.. هل يستيقن؟ هل "يطمئن"؟ وحين يهتدي يعرف أن الكاهن والعراف والمنجم وضارب الرمل والشياطين والجن كلهم محجوبون مثله عن الغيب، فيكف عن طلب الغيب منهم، ولكن هل تغادره الرغبة في أن يعلم سر الغيب ويطمئن على نفسه ومن يحبهم من حوله ويخاف عليهم؟ يروح يستلهم حسه الباطن.. ويستلهم الرؤى.. ويستلهم تلك القوة الخفية في نفسه التي تقدر على الاستشفاف.. ولكن هل يستيقن؟ هل "يطمئن"؟. كلا! إنه يشعر بالعجز الكامل عن النفاذ وراء الأستار، ويظل الغيب المحجوب ملفعا بالحجاب.. عندئذ يتحول الحس إلى الكائن الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض؛ لأنه هو العليم بكل شيء، وهو خالق الأحداث والأشياء وكل شيء سائر بمشيئته وحده لا بمشيئة أحد سواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 ويهتدي فيعرف أن الله الحق علام الغيوب، أو يضل فيظنه كائنا آخر. ولكنه يعلم دائما أن أسرار الغيب مكشوفة للكائن العلوي الذي يخلق ويبدع وينتهي إليه مصير كل شيء.. فيعبده لونا من العبادة، ويلتزم نحوه بلون من السلوك. تلك بعض منافذ الفطرة التي تتلقى إيقاعات الكون والحياة، فتستيقظ من غفلتها إن كانت غافلة، فتروح تبحث عن الله سواء اهتدت إلى الله الحق أم ضلت في الطريق. لذلك فإن الفطرة دائما تعرف وجود الله، وتؤمن به في داخل أعماقها، وإن ضلت عن الهدى فتصورت الله على غير حقيقته أو أشركت به آلهة مزعومة ليس لها وجود. أما أن تنكر الفطرة وجود الله أصلا، وتقول إن الخلق قد وجد بلا خالق.. فبدعة في الضلال غير مسبوقة في التاريخ. صحيح أن الحس البشري بحكم الإلف أو العادة يتبلد.. يتبلد على المنظر المكرور فلا يعود يهزه كما هزه أول مرة. ويتبلد على المعنى المكرور أو الحدث المكرور فلا يعود يستجيش مشاعره كما استجاشها أول مرة، فيعيش في وسط الآيات غافلا عن دلالتها ويموت قلبه فلا يتحرك لمعنى الألوهية كما ينبغي له أن يتحرك.. فيعيش كما تعيش السائمة: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1. وصحيح أن البشرية حين يطول عليها الأمد "تتعب" من الإيمان بما لا تدركه الحواس، وتتجه إلى المحسوس، فتنشئ آلهة محسوسة تعبدها من دون الله أو تعبدها مع الله، في صورة أوثان وأصنام، أو في صورة بشر، أو في صورة أفلاك.. وذلك لأن الإيمان بما لا تدركه الحواس يستلزم أن يكون الإنسان في وضعه الطبيعي -أو الفطري- كما خلقه الله، تعمل كل أجهزته في وقت واحد، فتعمل أجهزة الإدراك الحسي جنبا إلى جنب مع أجهزة الإيمان المعنوي أو الإيمان بما لا تدركه الحواس، عملا فطريا طبيعيا متناسقا ينتج عنه الإيمان بالله عن طريق رؤية آياته في الكون، والإيمان به إيمانا مباشرا عن   1 سورة الأعراف: 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 طريق الروح، فيعمق كل منهما الآخر فيصل إلى درجة اليقين. فإذا طال على البشرية الأمد يحدث "هبوط" في كيان الإنسان، يعطل أجهزة الإدراك المعنوي تعطيلا جزئيا أو كاملا، وتبقى أجهزة الإدراك الحسي هي التي تعمل، وعلى قدر الهبوط يكون نوع الشرك ودرجته، فيظل صاحبه مؤمنا بالله ويشرك به آلهة محسوسة، أو يؤمن بالآلهة المحسوسة وحدها من دون الله. وصحيح أن البشرية في حالة هبوطها تجنح إلى ثقلة الأرض فتشدها الشهوات إلى أسفل، فتتفلت من تكاليف الدين والتزاماته، تتفلت من "قيد الإنسان" الذي تصاحبه "حرية الإنسان" وتجنح إلى "حرية الحيوان" التي تصاحبها قيود الحيوان1 ولكنها -في مبدأ أمرها على الأقل- تحب أن تسند هذا التفلت بأمر شرعي! {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} 2. ورويدا رويدا تحتاج إلى اختراع آلهة تسند إليها ذلك التفلت، من البشر أو غير البشر، تتخذ أربابا مع الله أو من دون الله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3. وصحيح أن الطغاة في الأرض يضيقون بالقيد الرباني الذي يجعلهم عبيدا لله ككل العبيد، خاضعين لأمره منفذين لشريعته، ويريدون أن يكون لهم السلطان الطاغي في الأرض، ويريدون أن يكون الولاء لهم لا لله، فيضيقون دائما بديانة التوحيد، وبإخلاص العبادة لله وحده، فيفرضون أنفسهم بالقوة الغاشمة وبالإرهاب أربابا من دون الله أو مع الله، هم الذين يشرعون، وهم الذين يفرضون التشريع، وهم الذين يعاقبون "عبيدهم" إذا خرجوا على ذلك التشريع. وفي هذه الحالات كلها يقع الشرك الذي تجنح إليه البشرية كلما ضلت الطريق، ولكنها في كل حالاتها السابقة لم تكن تنكر وجود الله. وحتى فرعون حين قال لموسى عليه السلام {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4.   1 انظر الفصل القادم. 2 سورة الأعراف: 28. 3 سورة التوبة: 31. 4 سورة الشعراء: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 وحين قال لهامان: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} 1. وحين قال لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 2. وحين قال لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} 3. لم يكن ينكر وجود إله خالق لهذا الكون، ولم يكن يقصد أنه هو الإله الخالق، والدليل على ذلك قول الملأ من قومه له: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ} 3. فقد كان له إله يعبده، هو الذي يؤمن بأنه خالق السموات والأرض وخالق الكون كله4, وعلى الرغم من أنه -كما سجلت الآثار الفرعونية- كان يدعى "الإله ابن الإله" وكانت تقدم له شعائر التعبد من ركوع وسجود كما كانت تقدم لقيصر وكسرى، إلا أن ألوهيته وبنوته للإله الأكبر كانت في حسه كما هي في حس "الجماهير" من قومه ألوهية مجازية لا حقيقية. وكان يقصد من أقواله لموسى وهامان ولقومه أمرين في آن واحد: الأمر الأول أن الإله الذي يتحدث عنه موسى، ويقول إنه مرسل من عنده، ويعطي نفسه بناء على ذلك سلطانا يأمر به فرعون وينهاه، ويطلب منه أن يطلق سراح بني إسرائيل، هذا الإله لا وجود له، وموسى كاذب في دعواه بوجوده، وبإرساله من عنده، إنما الإله الموجود حقيقة هو الإله الذي يعبده هو وقومه، وينحتون له التماثيل ويرسمون له الرسوم، الإله المحسوس الذي تعبده الجاهلية هبوطا منها عن الإيمان بما لا تدركه الحواس، والأمر الثاني -وهو مشتق من الأول- أنه يقول لقومه خاصة: ما علمت لكم من سلطة تأمر فتطاع إلا سلطتي، فأطيعوني ولا تطيعوا ذلك الخارج عن سلطاني، والذي يزعم أنه صاحب الكلمة التي ينبغي أن تطاع. وحتى النمرود حين حاج إبراهيم في ربه؛ لأنه يرى نفسه ملكا ذا سلطان وإبراهيم فرد من أفراد "الشعب" لا يحق له أن يناقش صاحب السلطان ولا يأمره ولا ينهاه.. لم يكن يعتقد أنه هو الإله الخالق، إنما كان يصدر عن كبر   1 سورة غافر: 35, 36. 2 سورة النازعات: 24. 3 سورة الأعراف: 127. 4 هو الإله "آمون" الذي يرمزون له بقرص الشمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 أجوف بإزاء إبراهيم عليه السلام، ولكن في حماقة أشد من حماقة فرعون الذي كان يعلن على الملأ أن له إلها يعبده هو وقومه.. أما النمرود فقد جره الاستكبار على إبراهيم إلى الادعاء بأن له سلطانا في الأرض يشبه سلطان الله، وأنه -مثل الله- يحيي ويميت! حتى حاجة إبراهيم عليه السلام فأخرسه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} 1. وهذا الشرك -الذي ينجم عن مثل الأسباب التي ذكرناها في الفقرة السابقة- هو الذي يبعث الرسل لتقويمه وتصحيحه، ويوقع الوحي الرباني على ذات الأوتار التي خلقها الله في الفطرة، وجعلها تهتز لإيقاعات الكون والحياة. فتستيقظ من غفلتها إن كانت غافلة، وتروح تبحث عن الله لتعبده وتخشاه. فعن الكون بضخامته المعجزة ودقته المعجزة وما يحدث فيه من حركة معجزة يقول الوحي الرباني: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2. {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 3. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} 4.   1 سورة البقرة: 258. 2 سورة البقرة: 64. 3 سورة الأعراف: 54. 4 سورة لقمان: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} 1. وعند قدرة الله لا في الخلق فحسب، بل في تنويع الخلائق كذلك: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 3. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} 4. وفي أطوار الجنين: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 5. وفي عجائب الخلق في الأرض عامة وفي الإنسان خاصة: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} 6. وفي الموت والحياة: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} 7. {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى   1 سورة الفرقان: 45, 46. 2 سورة الأنعام: 99. 3 سورة الرعد: 4. 4 سورة فاطر: 27, 28. 5 سورة المؤمنون: 12-14. 6 سورة الذاريات: 20, 21. 7 سورة الملك: 1, 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1. {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2. في جريان الأحداث: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 3. وفي العجز البشري مقابل القدرة الإلهية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ، أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ، أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ، أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ، أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4. وفي علم الغيب خاصة: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ، لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ... } 5. {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 6.   1 سورة الزمر: 42. 2 سورة غافر: 68. 3 سورة آل عمران: 26, 27. 4 سورة الطور: 35-43. 5 سورة الرعد: 8-11. 6 سورة سبأ: 2, 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1. {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 2. والقرآن كله في الحقيقة توقيعات على أوتار القلب البشري لاقتلاع كل دواعي الشرك واستنبات بذرة الإيمان. فأما الغفلة التي ترين على القلب بحكم الإلف والعادة، فالقرآن يستعرض آيات الله في الكون بطريقة موحية تعرضها كأنما يشهدها الحس لأول مرة. فيتلقى شحنتها كاملة، ويتيقظ لدلالتها يقظة كاملة. فإذا استثير الوجدان بالآيات المعروضة على هذا النسق الفريد، قال له الحقيقة المطلوبة: "ذلكم الله ربكم فأنى تؤفكون" فيتلقى الوجدان الحقيقة حية متحركة تزيل عنه الغفلة وتذهب عنه "الران".. فيتطلع القلب إلى الله، شاعرا بعظمته، مقرا بألوهيته وربوبيته، مستيقنا بوحدانيته، فيعبده وحده بلا شريك. وأما الهبوط الذي تهبط به البشرية عن الإيمان بما لا تدركه الحواس، فإن القرآن يعيد الروح البشرية إلى طلاقتها وإشراقها، تارة بعرض سعة الكون الهائلة وإحاطة قدرة الله بها، وتارة بعرض الدقة المعجزة في الكون وارتباطها بقدرة الله, وتارة بعرض إحاطة علم الله بكل ما في الكون من أشياء وأشخاص وأحداث، وتارة بعرض مشاهد القيامة حية مجسمة كأنها الحاضر الذي يعيشه الإنسان في هذه اللحظة، والحياة الدنيا كأنها ماض كان منذ زمان سحيق، وتارة باستجاشة الوجدان بآيات رحمة الله بالإنسان ورعايته له في سرائه وضرائه، وتارة بعرض هيمنة الله المطلقة على كل شيء في هذا الكون، سماواته وأرضه وأفلاكه، وناسه وأحداثه، سواء في الحياة الدنيا أو الآخرة، يوم يبعث الموتى ويعرضون للحساب {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} 3، {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} 4.   1 سورة لقمان: 34. 2 سورة الأنعام: 95. 3 سورة طه: 108. 4 سورة طه: 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 وحين يخاطب القرآن "الإنسان" كله، من جميع جوانبه، وفي كل حالاته، يعود إلى وضعه الفطري، فتعمل أجهزته كلها في وقت واحد، فتعود لأجهزة الإيمان بما لا تدركه الحواس حيويتها الطبيعية، فيؤمن الإنسان بالله الذي {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1 بلا جهد يبذله في ذلك الإيمان، بل بشعور عميق بالطمأنينة والرضا والاسترواح والسكينة التي تغمر القلوب. {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 2 فتصبح لحظات القلق هي لحظات البعد عن النور الإلهي الفياض وساعات الرضا هي ساعات الاقتراب. وأما ثقلة الشهوات التي تجنح بالإنسان إلى التفلت من أمر الله، وتؤدي به في النهاية إلى ألوان مختلفة من الشرك، فإن القرآن يرفع الإنسان عنها بتوسيع آفاقه، ورفع اهتماماته، وتوجيه طاقاته إلى جوانب الخير في الحياة. فيحدث "التسامي" أو "التصعيد" الذي يطهر النفس من الأرجاس: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} 3. وحين تصل النفس إلى هذه الرفعة فإنها لا تعود تستنكر القيد الرباني وتسعى إلى التفلت منه، بل تحس أنه القيد الذي يمنح الإنسان الحرية اللائقة به.. حرية الإنسان. وتعود تنفر من ذلك الهبوط الذي كانت تتشهاه من قبل، وتلمس فيه القيود الكريهة التي لم تكن تراها من قبل.. قيود الحيوان.. وعندئذ تقبل النفس على الله راضية بعبادته وحده دون سواه. وأما الطغاة الذين يستعبدون الناس في الأرض، ويصنعون من أنفسهم   1 سورة الأنعام: 103. 2 سورة الرعد: 28. 3 سورة آل عمران: 14-17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 أربابا مع الله أو من دون الله، ويسوقون الناس إلى الشرك في نهاية المطاف، فالوحي الرباني يجند النفوس المؤمنة لجهادهم وإجلائهم من الأرض على أساس من إخلاص العبادة لله، ذلك الإخلاص الذي يتضمن الاعتقاد اليقيني في القلب بوحدانية الله، والتوجه بالشعائر التعبدية لله وحده، وتحكيم شريعة الله وحدها، ورفض أي شريعة أخرى لم يأذن بها الله. وبهذه الوسائل كلها مجتمعة تفيء الفطرة إلى سوائها، وتعود إلى صفائها، ويصبح الإنسان في أحسن تقويم. ولقد كانت "مؤهلات" الشرك كلها قائمة في الجاهلية المعاصرة منذ "النهضة الأوروبية" إلى اليوم، مما ران على القلوب من غفلة، ومن الهبوط الذي يعطل أجهزة الإيمان بما لا تدركه الحواس، ومن الهبوط الخلقي واتباع الشهوات. ومن تحكيم غير شريعة الله. ولكن لأمر ما لم تؤد هذه "المؤهلات" بأوروبا إلى الشرك -كما كان شأنها في الجاهليات السابقة- ولكنها أدت بها إلى الإلحاد! ولا بد من وقفة لدراسة هذا الأمر الذي لا مثيل له من قبل في كل جاهليات التاريخ. الكنيسة الأوروبية -بحماقاتها- هي المسئول الأول عن ذلك ولا شك. فهذه الحماقات هي التي أدت إلى جعل العلم بديلا من الدين، وجعل السبب الظاهر بديلا من السبب الحقيقي، وجعل الطبيعة بديلا من الله. فالعلم - في وضعه الطبيعي- ليس بديلا من الدين، إنما هو نافذة من نوافذ المعرفة التي تؤدي في النهاية إلى المعرفة الحقة بالله، ومن ثم إلى إخلاص العبادة لله، حين يدرك العقل البشري عظمة الخلق ويطلع على أسراره العجيبة التي تحير الألباب: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1. وحين قالت أوروبا إن الدين قد أخلى مكانه للعلم وإن العلم هو البديل من الدين، لم تكن تتحدث عن حقيقة موضوعية ولا حقيقة مطلقة.. إنما كانت تتحدث عن "واقع" حدث في أوروبا بسبب حماقة الكنيسة حين حاربت العلم والعلماء، وخيرتهم بين اتباع الخرافة للمحافظة على "الدين" -دينها الذي   1 سورة فاطر: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 ابتدعته وشكلته على حسب أهوائها- وبين اتباع العلم والخروج من الدين. وقد اختار العلماء اتباع العلم؛ لأنهم يعرفون قدره. ويعلمون أنه أحق بالاتباع من الخرافة، فلما طردتهم الكنيسة من "الدين" كان العلم -بالنسبة إليهم- هو البديل من الدين، لا لأنه في الحقيقة بديل عنه، ولا لأنه بطبيعته يغني عنه، ولكن لأن حماقة الكنيسة وضعت الأمور في هذا الوضع. والسبب الظاهر ليس بديلا عن السبب الحقيقي؛ لأنه يفسر فقط كيف تحدث الأشياء على النحو الذي تحدث به، ولكنه لا يفسر لماذا كانت الأشياء على هذا النحو! فقانون السببية يفسر كيف يتحول الماء إلى بخار بالتسخين، ولكنه لا يفسر لماذا كان التسخين يحول الماء إلى بخار! فلولا أن الله خلق الماء على النحو الذي يجعله التسخين يتحول إلى بخار ما تحول! بعبارة أخرى: إن العلم بخواص المادة يفسر لنا الظواهر التي تحدث في عالم المادة، ولكنه لا يفسر لنا لماذا كانت المادة بهذه الصورة وبهذه الخواص، ذلك أن هذه الصورة ليست هي الصورة الوحيدة الممكنة عقلا.. بل هي إحدى الصور الممكنة، وقد كان يمكن -لو أراد الله- أن تكون على صورة أخرى وذات خواص مختلفة. فالذي جعلها على هذه الصورة، وأعطاها هذه الخواص هو مشيئة الله وحدها. وهذا هو السبب الحقيقي الذي لا يغني عنه معرفة السبب الظاهر، وإلى ذلك تشير سورة الواقعة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} 1. وحين قال علماء أوروبا في عصر النهضة وما بعده إن السبب الظاهر بديل من السبب الغيبي، أو إن "الطبيعة" بديل عما "وراء الطبيعة" لم يكن ذلك حقيقة موضوعية ولا حقيقة مطلقة.. إنما كان "واقعا" عاشته أوروبا بسبب   1 سورة الواقعة: 58-70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 حماقة الكنيسة، التي كانت تمنعهم -أو لا تتيح لهم- أن يبحثوا عن السبب الظاهر، وتبرز لهم السبب الغيبي وحده مع إبقائهم في ظلمات الجهل، فلما اكتشفوا السبب الظاهر، وانبهروا "بالعلم" الذي كشف لهم -عن طريق معرفة السبب الظاهر- آفاقا لم يكونوا يعرفونها من قبل. كان الأمر الواقع بالنسبة إليهم أن السبب الغيبي لم يعلمهم شيئا عن ظواهر الكون المادي من حولهم، وأن السبب الظاهر هو الذي علمهم؛ ومن ثم كان وضع السبب الظاهر بديلا من السبب الغيبي هو الأنسب لهم والأكسب! فقالوا قولتهم من واقعهم الضيق الذي عاشوه، وخيل إليهم في بهرة "العلم" أن ما يقولونه هو الصواب! وحين جعلت أوروبا الطبيعة بديلا من الله لم يكن ذلك -كما بينا في فصول الكتاب الأولى- إلا مهربا من إله الكنيسة الذي تستعبد الناس باسمه وتفرض عليهم الإتاوات والعشور، والخضوع المذل لرجال الدين، مع محاربة العلم، والحجر على حرية الفكر، ومع الوقوف الظالم مع رجال الإقطاع ضد المطالبين بالإصلاح.. ولم يكن قط حقيقة علمية، وإن بلغ الحمق "بالعلماء" أن يصدقوا الخرافة، ويقدموها على الحقيقة، ويصنعوا ذلك باسم "العلم"1. ولكن هذا كله على أي حال كان إلحاد "العلماء" و"الفلاسفة" و"المفكرين" أما الجماهير فكانت ما تزال تؤمن "بالدين" ولا نتعرض هنا لما كان في ذلك الدين الذي آمنت به الجماهير من تحريف وتشويه وخرافة.. وإنما نتحدث عنه باعتبار أنه "دين" يحوي على أقل تقدير إيمانا بوجود الله وإيمانا بالوحي، وإيمانا باليوم الآخر، وفي مقابل "اللادين" ... في مقابل الإلحاد بمعنى إنكار وجود الله، وإنكار الوحي، وإنكار اليوم الآخر ... كيف انتقلت الجماهير من الدين إلى اللادين؟ الكنيسة هي المسئول الأول ما تزال.. والفتنة بالعلم من الأسباب. والعودة إلى "الحضارة الإغريقية" أو بالأحرى "الجاهلية" الإغريقية الوثنية هي كذلك من الأسباب. فقد كانت تلك الجاهلية بالذات تصور العلاقة بين الإنسان والآلهة علاقة صراع وخصام متبادل. الآلهة تريد أن تقهر الإنسان وتستذله، وتتشفى في كل مصيبة يقع فيها, والإنسان يريد أن يلقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 عنه نير الآلهة وينطلق بفاعليته دون قيود1. والعودة إلى "الحضارة" الرومانية أو بالأحرى "الجاهلية" الرومانية هي كذلك من الأسباب، فقد كانت تلك الجاهلية بالذات تزين للإنسان لذائذ الحس والفتنة بها إلى حد الاستغراق مع كل ما تبدعه في الأرض من رقي مادي وتنظيم، ولكن هذه الأسباب كلها مجتمعة كان يمكن أن تؤدي إلى الشرك -كما أدت إليه في كل جاهلية سابقة- ولم يكن من الضروري -ولا من الطبيعي- أن تؤدي إلى الإلحاد بين الجماهير. إنما الذي نشر الإلحاد في الأرض -تأسيسا على هذه الأسباب كلها، واستغلالا لها- كانوا هم اليهود! كتب اليهود في "البروتوكولات"2 أنهم سينشرون الإلحاد في الأرض ... وقد نشروه بالفعل. الثورة الفرنسية.. الداروينية.. الثورة الصناعية ... النظريات "العلمية" التي تهاجم الدين والأخلاق والتقاليد ... إنشاء مجتمع بلا دين ولا أخلاق ... ما بنا من حاجة لأن نعيد شيئا مما قلناه من قبل3, وإنما نُذَكِّر فقط بهذه الحقيقة: أن اليهود استغلوا الأحداث التي هيأتها لهم حماقة الكنيسة، وردود الفعل التي نشأت من تلك الحماقة، فركبوا الموجة إلى نهايتها، ونفذوا كل ما في جعبتهم من مخططات الإفساد في الأرض، لاستحمار الأمميين واستعبادهم لصالح الشعب الشرير. والإلحاد بالذات هدف أساسي من أهداف المخطط الشرير.. فالهدف الأخير من المخطط كله هو إزالة كل دين في الأرض، ليبقى اليهود وحدهم في الأرض أصحاب الدين!   1 راجع أسطورة "بروميثيوس" سارق النار المقدسة، وانظر إن شئت ملخصا لها في كتاب "قبسات من الرسول". 2 بعض الذين يتمسكون "بالمنهج العلمي" يشككون في حجية كتاب "البروتوكولات" كوثيقة ويضعون في الاحتمال أن يكون بعض الناس قد تقولوا عليهم ما جاء في البرتوكولات. ونحن لا نقطع بصحة الكتاب من الناحية الوثائقية البحتة. ولكن ذلك -في نظرنا- لا يؤثر في صدق ما جاء في ثنايا الكتاب! لأنه سواء كان هذا الكلام كلام اليهود بالفعل أو كلام إنسان أتيح له أن يطلع على فكر اليهود ويترجمه في هذه الصورة، فإن كل ما جاء فيه قد نفذ بالفعل! جاء فيه أنهم سينشرون الإلحاد ونشروه. وجاء فيه أنهم سينشرون الشيوعية ونشروها, وجاء فيه أنهم سيضحكون على الأمميين بشعار الحرية والإخاء والمساواة وضحكوا بالفعل, فسواء كان هذا كلامهم أو كان ترجمة أفكارهم فالنتيجة الأخيرة واحدة.. أن هذه مخططاتهم وقد نفذوها بالفعل في غفلة من الأمميين! 3 راجع فصل "دور اليهود في إفساد أوروبا" في أوائل الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 إن اليهود في هذه المرة لم يفسدوا عقائد الأمميين كما كانت محاولاتهم السابقة في التاريخ، إنما أفسدوا فطرتهم. وقد أسلفنا القول بأن الفطرة -وإن ضلت- لا تتجه إلى الإلحاد بمعنى إنكار وجود الله. وإنما تتجه إلى الشرك. فاتجاهها إلى لإلحاد في الجاهلية المعاصرة ليس مجرد ضلال ككل ضلال سابق، إنما هو فساد في أعماق الفطرة قام به اليهود استغلالا للأرضية الفاسدة التي كانت قائمة في أوروبا منذ "النهضة". وسواء كان الجهد الذي بذلوه في هذا الشأن عسيرا أو ميسرا فقد استغرقوا قرابة قرنين من الزمان حتى وصلوا به إلى صورته الشاملة الموجودة اليوم في الأرض، سواء في المعسكر الشرقي حيث يفرض الإلحاد فرضا في مناهج التعليم ووسائل الإعلام ويعاقب من يضبط "متلبسا" بمجرد الحديث في الدين لفتى أو فتاة دون سن الرشد ... أو المعسكر الغربي حيث لا يفرض الإلحاد على الناس بتلك الصورة ولكن يشجع الناس عليه بكل وسائل التشجيع! والإلحاد لا يستحق منا مناقشة "علمية" جادة؛ لأنه ليس من الأمور الجادة التي عرضت للبشرية في مسيرتها على هذه الأرض. إنما هو عبث صنعه الشياطين وأوقعوا فيه المستغفلين من الأممين في فترة كانوا فيها {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} 1 ولقد كانت "الحمر" فارة من طغيان الكنيسة وحماقاتها، فأسرع الشياطين فركبوها وألهبوا ظهورها بالسياط لتجري إلى آخر المشوار، بدلا من أن تفيق من نفرتها المجنونة وتفيء إلى الدين الصحيح الذي يخلصها من كل ما كانت تشكو منه من مشكلات أو انحرافات أو حماقات.. وقد تحدثنا في مقدمة هذا الفصل عن بعض منافذ الفطرة التي توصلها إلى الإيمان بوجود الخالق المدبر المهيمن المسيطر, سواء عرفته على حقيقته فعبدته العبادة الحقة أم تصورته على غير حقيقته وأشركت به آلهة آخرى، وما بنا من حاجة إلى مزيد في مثل بحثنا الحاضر. ولكنا هنا -في هذا الفصل- بصدد شيء واحد هو التأكيد على هذه الحقيقة: أن الإلحاد ليس من شأن الفطرة حتى في حالة ضلالها، وأنه أمر مصطنع، لا تصل إليه الفطرة من تلقاء نفسها مهما وصل بها الحال من الضلال.   1 سورة المدثر: 50, 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 ونكتفي بالتعرض لنقطة واحدة مما جاء في التواءات الجاهليين المعاصرين في شأن الدين، أو في شأن الإلحاد. تلك هي قولة جوليان هكسلي في كتابه "الإنسان في العالم الحديث Man in the Modren World" إن الإنسان قد خضع لله بسبب عجزه وجهله. والآن وقد تعلم وسيطر على البيئة فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر الجهل والعجز على عاتق الله، ومن ثم يصبح هو الله. نعوذ بالله. {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. نفترض جدلا أن العجز والجهل -وحدهما- هما سبب خضوع الإنسان لله في صورة دين وعقيدة وعبادة ... فما الذي تغير في حياة الإنسان المعاصر ليخرجه من الخضوع لله؟! تلك القشور من العلم التي وصل إليها، وهذا القدر الضئيل من السيطرة على "البيئة"؟! فأما العلم فندع "ول ديورانت" الفيلسوف المعاصر يتحدث عنه في كتاب "مباهج الفلسفة": "ما طبيعة العالم؟ ما مادته وما صورته؟ وما مكوناته وهيكله؟ وما مواده الأولى وقوانينه؟ وما المادة في كيفها الباطن وفي جوهر وجودها الغامض؟ وما العقل؟ أهو على الدوام متميز عن المادة وذو سلطان عليها؟ أم هو أحد مشتقات المادة وعبد لها؟ أيكون كلا العالمين: الخارجي الذي ندركه بالحس والباطني الذي نحسه في الشعور، عرضة لقوانين ميكانيكية أو حتمية كما قال الشاعر "ما يكتبه الخالق في مطلع النهار نقرؤه في آخر النهار"؟ أم ثمة في المادة، أو في العقل، أو في كليهما، عنصر من الاتفاق والتلقائية والحرية؟.. هذه أسئلة يسألها قلة من الناس.. ويجيب عليها جميع الناس، وهي منابع فلسفاتنا الأخيرة، التي يجب أن يعتمد عليها في نهاية الأمر كل شيء آخر. وفي نظام متماسك من الفكر.. إننا نؤثر معرفة الإجابات عن هذه الأسئلة على امتلاك سائر خيرات الأرض.   1 سورة غافر: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 "ولنسلم أنفسنا في الحال لإخفاق ما مناص منه. لا لأن هذا الباب من الفلسفة يحتاج إلى إتقانه إلى معرفة كاملة ومناسبة بالرياضيات والفلك والطبيعة والكيمياء والميكانيكا وعلم الحياة وعلم النفس فقط، بل لأنه ليس من المعقول أن نتوقع من الجزء أن يفهم الكل ... فهذه النظرة الكلية -وهي فتنتنا في هذه المغامرات اللطيفة- ستبعد عن فكرنا جميع الفخاخ والمفاتن، ويكفي أن نأخذ أنفسنا بقليل من التواضع وشيء من الأمانة، لنتأكد أن الحياة في غاية من التعقيد والدقة بحيث يصعب على عقولنا الحبيسة إدراكهما، وأكبر الظن أن أكثر نظرياتنا تبجيلا قد يكون موضع السخرية والأسف عند الآلهة العليمة بكل شيء1. فكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نفخر باكتشاف مهاوي جهلنا! وكلما كثر علمنا قلت معرفتنا؛ لأن كل خطوة نتقدمها تكشف عن غوامض جديدة، وشكوك جديدة "فالجزيء" يتكشف عن "الذرة" والذرة عن الالكترون "الكهرب" والالكترون عن الكوانتوم" Quantum" "الكويمية" ويتحدى الكوانتوم سائر مقولاتنا "Categories" وقوانينا وينطوي عليهما. والتعليم تجديد في العقائد وتقدم في الشك، وآلاتنا كما ترى مرتبطة بالمادة وحواسنا بالعقل.. وفي خلال هذا الضباب يجب علينا نحن "الزغب" على الماء، أن نفهم البحر2. وعن تقلب "العلم" يقول: "إلى أي نجم بعيد ذهبت نظريتنا السديمية المشهورة؟ هل يؤيدها علم الفلك الحديث أو يسخر من وجهها المغبر؟ ". "وأين ذهبت قوانين نيوتن العظيم حين قلب أينشتين وميكوفسكي وغيرهما الكون رأسا على عقب بمذهب النسبية غير المفهوم؟ "وأين مكان نظرية عدم فناء المادة وبقاء الطاقة في الفيزيقا المعاصرة، وما يكتنفها من فوضى وتنازع؟ ". "وأين إقليدس المسكين اليوم، وهو أعظم مؤلف للمراجع العلمية، ليرى كيف يصوغ الرياضيون لنا أبعادا جديدة بحسب أهوائهم، ويبتدعون لا متناهيات يحتوي أحدها الآخر كجزء منه، ويثبتون في الفيزيقيا -والسياسة كذلك- أن الخط المستقيم هو أطول مسافة بين نقطتين؟ ".   1 انظر أثر الجاهلية الإغريقية في انحرافات الفكر الغربي. 2 ص61, 62 من الترجمة العربية "ترجمة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 "وأين علم الأجنة ليرى أن "البيئة الناشئة" تحل محل "الوراثة" التي كانت إله العلم1؟ وأين "جريجوري" و"مندل" الآن ليشهدا انصراف علماء الوراثة عن "وحدة الصفات"؟ وأين "داروين" الهدام الدقيق ليرى كيف حلت طريقة "التغيرات السريعة" محل "الاختلافات الذاتية والمتصلة" في التطور؟ وهل هذه التغيرات هي الثمرة المشروعة لاختلاط الهجائن؟ وهل نضطر إلى الرجوع في تفسيرنا للتطور إلى الوراء عند نظرية "انتقال الصفات المكتسبة"؟ أنجد أنفسنا وقد عدنا مرة أخرى أكثر من قرن إلى الماضي نعانق رقبة زرافة "لامارك"؟ "وماذا نصنع اليوم بمعمل "الأستاذ فونط "Wundt" وباختبارات "استانلي هول" حين لا يستطيع أي عالم نفساني منا أتباع السلوكيين أن يكتب صحيفة واحدة في علم النفس الحديث دون أن يلقي بمخلفات أسلافه في الهواء؟ ". "وأين علم التاريخ الحديث اليوم حيث يضع كل عالم في تاريخ قدماء المصريين كشفا بالأسرات وتواريخها على هواه، ولا يختلف عن كشوف غيره إلى ببضعة آلاف من السنين؟! وحيث يسخر علماء الأجناس من "تيلور" و"وستر مارك" و"سبنسر"؟ وحيث يجهل "فريزر" كل شيء عن "الدين البدائي" لأنه قد رحل إلى العالم الآخر؟. فماذا أصاب علومنا؟ هل فقدت فجأة قداستها وما فيها من حقائق أزلية؟ أيمكن أن تكون "قوانين "الطبيعة" ليست سوى فروض إنسانية؟ ألم يعد هناك يقين أو استقرار في العلم؟ "2. وعن "حقيقة" المادة يقول: "وأول شيء نكشفه هو أن المادة القديمة غير المتحركة التي وصفتها طبيعيات القرن التاسع عشر قد ذهبت. وكانت "مادة" تندال وهكسلي غير فاسدة. فهي تقعد وتنام أنى وضعتها، كذلك الصبي البدين في قصة "أوراق بكويك"3 وهي تقاوم بكل ما فيها من وقار الحجم والثقل كل جهد لتحريكها، أو لتغيير وجهة حركتها متى أخذت في الحركة، وبين "برجسون" في يسر شديد أن مادة   1 انظر إلى أثر الجاهلية الإغريقية مرة أخرة. 2 ص23, 24 من الترجمة العربية. 3 قصة مشهورة لشارل ديكنز، وكان مستر بكويك بطل القصة. "المترجم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 في مثل هذا الخمود لا يمكن أبدا أن تفسر الحركة، ومن باب أولى لا تحدث الحياة والعقل. ولكن رجال الطبيعة مع ذلك، كما كتب برجسون، كانوا في سبيلهم إلى هجر تصور المادة خامدة. وإلى الكشف فيها عن حيوية لا ريب فيها. فهذه مثلا الكهرباء لا يمكن تفسيرها في صيغ من الخمود والذرات. فما هذه القوة الخفية التي تضاف إلى الكتلة فتزيد في طاقتها ولكنها لا تضيف شيئا إلى أبعادها وثقلها؟ وكيف تسري الشحنة الكهربية في سلك أو في الهواء اللاسلكي؟ أهي شيء يتحرك في داخل السلك والذرات؟ فهناك إذن ذرات أصغر من الذرات؟ وما الذي يتحرك في تلك الموجات الكهربية التي تكاد تبلغ في سرعتها سرعة الضوء نفسه؟ أهي الذرات؟ أو "الأثير" أو لا شيء؟ وفي أشعة إكس، عندما تمر شرارة كهربية في فراغ باعثة أشعة تنفذ من جدران الأنبوبة وتغير من اللوح الحساس كيمائيا، فما هذا الذي يمر خلال الفراغ أو الجدران؟ وعندما بدت المادة نشيطة لا تفرغ، كما هو الحال في الراديوم، وبدت الذرات "التي لا يمكن أن تنقسم" منقسمة إلى ما لا نهاية، وأصبحت كل ذرة نظاما كوكبيا من الشحنات الكهربية تدور حول شيء لا يزيد جوهره عن شحنة كهربية أخرى ... فأي مأزق وقعت المادة فيه حين فقدت كتلتها ووزنها وطولها وعرضها وعمقها وعدم قابليتها للنفاد، وسائر تلك الخصائص الثقيلة التي ظفرت باحترام كل مفكر واقعي؟ أكان الخمود أسطورة؟ أيمكن أن تكون المادة حية؟ "1. "لقد كانت هناك دلائل من قبل على وجود هذه الطاقة في المادة. فالتماسك والتآلف، والتنافر، كانت توحي بها. ويبدو اليوم من المحتمل أن تكون هذه الصفات وكذلك الكهربية والمغناطيسية صورا من "الطاقة الذرية" وهي ظواهر ترجع إلى حركات الالتكرونات الدائبة في الذرة.. ولكن، ما الالكترون؟ أهو جزء من "المادة" يظهر في ثوب من الطاقة؟ أو هو مقدار من الطاقة منفصل تمام الانفصال عن أي جوهر مادي؟ ولا يمكن أن نتصور الفرض الأخير! ويقول ليبون "قد يمكن ولا ريب لعقل أسمى من عقلنا أن يتصور الطاقة بغير مادة ... ولكن مثل هذا التصور في غير مقدورنا. فنحن لا نستطيع أن نفهم الأشياء إلا بوضعها في الإطار المتشرك لأفكارنا. ولما كانت ماهية الطاقة مجهولة فنحن   1 انظر المحاولة الملتوية للتخلص من التحدي القائم في نشأة الحياة من الموات. وهو التحدي الذي يؤدي -فطرة- إلى الإيمان بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 مضطرون إلى صوغها صياغة مادية حتى نفكر فيها" فنحن كما يقول برجسون ماديون بالطبع. فقد ألفنا التعامل مع المادة والأمور الميكانيكية، ولذا لم ننصرف عنها كي ننظر في أنفسنا فإننا نتصور كل شيء كآلة مادية. ومع ذلك فإن أوستولد "Ostwald" يصف المادة على أنها صورة من الطاقة وحسب. ويرد رذرفورد الذرة إلى وحدات الكهرباء الموجبة والسالبة، ويعتقد لودج أن الالكترون لا يشتمل على نواة مادية أكثر من شحنته. ويقول ليبون ببساطة: "المادة صورة مختلفة من الطاقة" ويقول ج. ب. س. هالدين: "يعتبر بعض الناس من أقدر المفكرين في العالم اليوم المادة كمجرد ضرب خاص من الاضطراب التموجي". ويقول إدنجتون: "إن المادة مركبة من بروتونات والكترونات، أي: شحنات موجبة وسالبة من الكهرباء، فاللوح هو في الحقيقة مكان فارغ مشتمل على شحنات كهربية مبعثرة هنا وهناك" ويقول هوايتهيد: "إن مفهوم الكتلة في طريقه إلى فقدان امتيازه الوحيد، باعتبارها المقدار الواحد الدائم في النهاية.. فالكتلة الآن اسم لكمية من الطاقة في علاقتها ببعض آثارها الديناميكية". وإلى هذه المرتبة الوضيعة سقط الجبار ورجعنا إلى بوسكوفيتش "Boscovich"1 الجزويتي القديم، إلى تلك العبارة غير المفهومة: من أن المادة التي تشغل "المكان" مركبة من نقط لا وجود لها! وفي ذلك يقول نيتشه: "لقد كان بوسكوفيتش وكوبرنيق حتى الآن أعظم خصمين وأكثرهما نجاحا في دحض شهادة العيان". فلا غرابة أن يستنتج ديوي أن "مفهوم المادة الذي يوجد بالفعل في تطبيق العلم لا يمت بصلة إلى مادة الماديين"". "أيمكن أن يكون شيء أكثر غموضا وغرابة من هذا القول الذي يقوله علماء الطبيعة من أن "المادة" بمعنى "الجوهر المتحيز" Spatial قد بطلت عن الوجود؟ فهم يقولون إن الالكترونات ليس فيها شيء من خصائص المادة، فهي ليست صلبة، ولا سائلة، ولا غازية، وهي ليست كتلة، أو صورة، وانحلالها إلى نشاط إشعاعي يلقي شكوكا على أعز عقيدة في العلم الحديث، أي: عدم قابلية المادة للفناء ... ولنسمع رأي أحد علماء الطبيعة مرة أخرى "إن عناصر الذرات التي تنحل تفنى تماما، فهي تفقد كل صفة للمادة، بما في ذلك الثقل وهو أكثر   1 فيلسوف يوغسلافي من دلماشيا أذاع في بلاده فلسفة نيوتن "المترجم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 صفاتها أساسية. ذلك أن الميزان يعجز عن وزنها ولا شيء يستطيع أن يعيدها إلى حالة المادة، فقد اختفت في عظمة الأثير.. والحرارة والكهرباء والضوء إلى غير ذلك.. تمثل آخر مراحل المادة قبل اختفائها في الأثير.. والمادة التي تنحل تخرج عن ماديتها بمرورها في حالات متتابعة تنتزع منها تدريجيا صفاتها المادية، حتى تعود في النهاية إلى الأثير الذي لا يمكن وزنه، ذلك الأثير الذي يبدو أنها نشأت عنه". "الأثير؟.. ولكن ما هو الأثير؟ لا أحد يعرف! ليس الأثير فيما يقول لورد سالسبوري إلا اسما على الفعل "يتموج" والأثير خرافة ابتدعت لإخفاء الجهل المثقف للعلم الحديث. فهو غامض غموض الشبح أو الروح! وافترض أينشتين وجود الأثير حين أعاد تفسير الجاذبية، وعزم أخيرا أن يدخره إلى حين مع تحديد سلطانه! وكلما يعجز عالم من علماء الطبيعة ويتحير يقول: "الأثير"! ويقول الأستاذ ادنجتون أحدث حجة في هذا الموضوع: "ليس الأثير نوعا من المادة، فهو لا مادي"". "ومعنى ذلك أن شيئا لا ماديا يحيل نفسه إلى مادة بوساطة بعض الالتواءات "Contortions" الغامضة "دوامات "Voritces" كما سماها كيلفن" ويصبح ذلك الذي لم يكن له بعد أو ثقل، بإضافة أجزاء منه بعضها إلى بعض، مادة متحيزة، ويمكن أن توزن. أهو اللاهوات قد أعيد؟ أم هو علم مسيحي جديد؟ أم هو صورة من البحث الطبيعي؟ وفي الوقت الذي يحاول علم النفس بكل سبيل أن يتخلص من "الشعور" حتى يرد "العقل" "للمادة" يأسف علم الطبيعة في تقريره أن المادة لا توجد! ولقد قال نيوتن متعجبا: "أيتها الطبيعة احفظيني مما بعد الطبيعة "الميتافيزيقا" فياللأسف لن تقدر الطبيعة أن تفعل أكثر من ذلك". "يقول برتراندرسل: "يقترب علم الطبيعة من المرحلة التي يبلغ فيها الكمال "وجميع الدلائل تدل على العكس من ذلك ... أما هنري بوانكاريه فيرى أن علم الطبيعة الحديث في حالة من الفوضى، فهو يعيد بناء جميع أسسه، وفي أثناء ذلك لا يكاد يعرف أين يقف، وقد تغيرت الأفكار الأساسية عن الطبيعة تغيرا تاما في العشرين السنة الأخير فيما يختص بالمادة والحركة كلتيهما، ولم تسمح أعمال كوري ورذرفورد سودي وأينشتين ومينكوفسكي لأي تصور قديم عن الطبيعة النيوتونية بالبقاء، وكان لابلاس يحسد نيوتن؛ لأنه كشف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 النظام الوحيد للعالم وحزن على عدم وجود نظم أخرى تكشف! ولكن عالم نيوتن قد انتحى اليوم جانبا، ولم يعد التثاقل "Gravitation" مسألة جاذبية "Attraction" وتمزقت "قوانين" الحركة في كل جهة بنظرية النسبية، وقد كانت الفلسفة تبحث ذات يوم في "الأشباح" والمجردات، وكان العلم يبحث في "المادة" و"المحسوس" و"الحقائق الواقعة"، أما الآن فعلم الطبيعة مجموعة مستورة "Esoteric" من القوانين المجردة، "وفكرة المادة مفقودة بالكلية في الدوائر العلمية"1. وكان على الفلسفة أن تتنحى جانبا "ولا يزال بعض الناس يتوقعون موتها خلال خمسين عاما" أما العلم فعليه أن يحل مشكلاتنا. والآن في الوقت الذي يحمل رجل الشارع العلم والعلماء جميع أفكار الإلهام واليقين التي كانت متصلة ذا يوم بالإنجيل والكنيسة2, يقال لنا في تواضع إن: "البحث العلمي لا يفضي إلى معرفة طبيعة الأشياء الباطنة""3. "ص68-73 من الترجمة العربية". وأما السيطرة -أو قل العجز- فقد تحدثنا عنه في إحدى فقرات هذا الفصل، وبينا أنه عجز دائم أصيل لا يؤثر فيه ولا ينقص منه هذا القدر من السيطرة الذي يحققه الإنسان "بالعلم" "والتكنولوجيا" وإن فتت الذرة وأطلق طاقتها، وإن ركب الصواريخ وطاف بها في أرجاء الكون؛ لأن الذي يرغب فيه الإنسان، ويحس بالعجز عن تحقيقه هو أمر بالنسبة إليه مستحيل التحقيق: أن يسيطر سيطرة كاملة على الكون. أن يقول للشيء كن فيكون. أن يخلد في الأرض. أن يعلم الغيب. وبعض هذه كان من المغريات التي أغرى بها الشيطان آدم منذ بدء الخليقة: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} ! 4. ومن هنا فإن الشعور بالعجز شعور دائم ملازم للإنسان في كل أحواله وفي جميع أوضاعه، وليس إنسان العصر الحديث ناجيا منه حتى يقول جوليان   1 ادنجتون ص274. 2 يقصد الدين. 3 ادنجتون ص303. 4 سورة الأعراف: 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 هكسلي إنه قد آن للإنسان أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر الجهل والعجز على عاتق الله، ومن ثم يصبح هو الله. {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} 1. ونحب أن نضيف إلى ذلك أن الإنسان السوي يعلم أن ما يحققه من تسخير طاقات السموات والأرض ليس "اغتصابا" من الإله كما تصور ذلك الأساطير الإغريقية المجنونة، حتى يكون مبررا للخروج على طاعة الله، بله التبجح بإنكار وجود الله كما تفعل الجاهلية المعاصرة، إنما هو من قدر الله للإنسان، ومن رحمة الله بالإنسان, ومن فضل الله على الإنسان؛ لأنه هو الذي سخره ابتداء للإنسان، ثم أعانه على تحقيقه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 2. {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 3. {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 4. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} 5. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} 6. وأخيرا، فنحن نزعم أن الدين من الفطرة، وهم يزعمون أنه طلل بال ينبغي أن تزال آثاره، ليحل محله "العلم" و"الإلحاد". ونحن نستشهد عليهم من أنفسهم كما أشرنا من قبل.   1 سورة الروم: 7. 2 سورة الجاثية: 13. 3 سورة البقرة: 31. 4 سورة النحل: 78. 5 سورة الملك: 15. 6 سورة إبراهيم: 32-34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 نستشهد عليهم برائد الفضاء الأول "يوري جاجارين" الذي قال بعد هبوطه من الفضاء في المؤتمر الصحفي العالمي الذي أعد لاستقباله: "حين صعدت إلى الفضاء أخذتني روعة الكون فمضيت أبحث عن الله"! ولا عبرة "بالتصحيح" الذي أضافته الدولة على تصريحه أو أمرته أن يضيفه، فقال: "فمضيت أبحث عن الله فلم أجده"! إنه تمحل واضح ... ولا يمكن أن يكون "جاجارين" قد قاله ابتداء! فما الذي يجعله يتحدث عن الله ابتداء إذا كان قصده هو النفي، ولا أحد من الحاضرين قد أثار القضية حتى يتعرض لنفيها؟! إنما المعقول أن يكون ذكره لله ابتداء للإثبات لا للنفي. لإثبات استجابة "الفطرة" الطبيعية لعظمة الكون وروعته حين رآه لأول مرة من خارج الغلاف الجوي, فرآه في صورة مختلفة عما تبلد عليه حسه بحكم الإلف والعادة ... فاتجهت الفطرة اتجاها تلقائيا إلى فاطر السموات والأرض، رغم كل "الإلحاد" الذي صبته الدولة في قلبه وفكره منذ مولده إلى لحظة انطلاقه في الفضاء. وهي شهادة "أفلتت" من المعسكر الملحد بغير قصد منه ولا تدبير: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 1. ونستشهد عليهم بما يقوله "علماء" من علمائهم، تربوا في "الإلحاد العلمي" فألجألهم "العلم" ذاته إلى الإيمان بوجود الله، وتكتفي بهذه المقتطفات من كتاب "العلم يدعو للإيمان"2 وكتاب "الله يتجلى في عصر العلم"3 فهي تغنينا عن المزيد. يقول "أ. كريسي موريسون" رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك: "في خليط الخلق قد أتيح لكثير من المخلوقات أن تبدي درجة عالية من أشكال معينة من الغريزة أو الذكاء أو ما لا ندري.. فالدبور مثلا يصيد الجندب النطاط، ويحفر حفرة في الأرض، ويخز الجندب في المكان المناسب تماما حتى يفقد وعيه، ولكنه يعيش كنوع من اللحم المحفوظ، وأنثى الدبور تضع بيضا في   1 سورة فصلت: 53. 2 تأليف كريسي مويسون ترجمة محمود صالح الفلكي. 3 تأليف جماعة من العلماء ترجمة الدكتور صالح الدمرداش عبد الحميد سرحان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 المكان المناسب بالضبط، ولعلها لا تدري أن صغارها حين تفقس يمكنها أن تتغذى دون أن تقتل الحشرة التي هي غذاؤها فيكون ذلك خطرا على وجودها. ولا بد أن يكون الدبور قد فعل ذلك من البداية وكرره دائما، وإلا ما بقيت زنابير على وجه الأرض.. والعلم لا يجد تفسيرا لهذه الظاهرة الخفية: ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تنسب إلى المصادفة". "وإن أنثى الدبور تغطي حفرة في الأرض أو ترحل فرحا ثم تموت، فلا هي ولا أسلافها قد فكرت في هذه العملية وهي لا تعلم ما يحدث لصغارها، أو أن هناك شيئا يسمى صغارا، بل إنها لا تدري أنها عاشت وعملت لحفظ نوعها"1. "وفي بعض أنواع النمل يأتي العملة بحبوب صغيرة لإطعام غيرها من النمل في خلال فصل الشتاء، وينشئ النمل ما هو معروف "بمخزون الطحن" وفيه يقوم النمل الذي أوتي فكاكا كبيرة معدة للطحن، بإعداد الطعام للمستعمرة. وهذا هو شاغلها الوحيد. وحين يأتي الخريف, وتكون الحبوب كلها طحنت فإن "أعظم خير لأكبر عدد" يتطلب حفظ تلك المئونة من الطعام، وما دام الجيل الجديد سينتظم كثيرا من النمل الطحان. فإن جنود النمل تقتل النمل الطاحن الموجود, ولعلها ترضي ضميرها الحشري بأن ذلك النمل قد نال جزاءه الكافي، إذ كات له الفرصة الأولى في الإفادة من الغذاء أثناء طحنه". "وهناك أنواع من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير "واختر منهما ما يحلو لك" إلى زرع أعشاش للطعام فيما يمكن تسميته "بحدائق الأعشاش" وتصيد أنواعا معينة من الدود والأرق أو اليرق، "وهي حشرات صغيرة تسبب آفة الندوة العسلية" فهذه المخلوقات هي بقر النمل وعنزاتها! ومنها يأخذ النمل إفرازات معينة تشبه العسل ليكون طعاما له". "والنمل يأسر طوائف منه ويسترقها. وبعض النمل حين يصنع أعشاشه يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب.. وبينما تضع بعض عملة النمل الأطراف في مكانها، وتستخدم صغارها -التي تقدر أن تغزل الحرير وهي في الدور اليرقي- لحياكتها معا, وربما حرم طفل النمل عمل شرنقة لنفسه ولكنه قد خدم الجماعة".   1 ص129, ص130 من كتاب "العلم يدعو إلى الإيمان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 "فكيف يتاح لذرات المادة التي تتكون منها النملة أن تقوم بهذه العمليات المعقدة؟ ". "لا شك أن هناك خالقا أرشدها إلى كل ذلك"1. ويقول عالم الطبيعة، "فرانك آلن": "ولكن قوانين الديناميكا الحرارية تدل على أن مكونات الكون تفقد حرارتها تدريجيا وأنها سائرة حتما إلى يوم تصير فيه الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض هي الصفر المطلق، ويومئذ تنعدم الطاقة وتستحيل الحياة.. ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقة عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت". "أما الشمس المستعرة والنجوم المتوهجة والأرض الغنية بأنواع الحياة فكلها دليل واضح على أن أصل الكون أو أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة، فهو إذن حدث من الأحداث، ومعنى ذلك أنه لا بد لأصل الكون من خالق أزلي ليس له بداية، عليم محيط بكل شيء، قوي ليست لقدرته حدود. ولا بد أن يكون هذا الكون من صنع يديه"2. ونكتفي بهذه المقتطفات ولا نحتاج إلى المزيد، فهي كلها ناطقة بمدى سخف تلك البدعة الضالة التي نشرها الشياطين في الجاهلية المعاصرة، حين يسرت لهم "الحمر المستنفرة" أن يركبوها ويهيموا بها في وديان الضلال! أما الذين يحسون اليوم أن "وجودهم الذاتي" أو مجدهم الذاتي مرتبط باعتناق الإلحاد بدلا من اعتناق الدين، فهم فقاقيع ستنفثئ غدا حين تعود البشرية إلى رشدها.. ونحسب أنها -بحكم الظروف كلها- عائدة إليه، ما لم يكتب الله عليها الفناء! 3. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} 4.   1 مقتطفات من كتاب "العلم يدعو للإيمان" ص131, 132. 2 من كتاب "الله يتجلى في زمن العلم"ص5, 6. 3 انظر الفصل القادم. 4 سورة الرعد: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 الإسلام ومستقبل البشرية : تفزع أوروبا من الدين كما يفزع الملدوغ من الحبل.. ولو كان بالنسبة إليه حبل النجاة! وأوروبا تسيطر اليوم بقوتها السياسية والعسكرية والعلمية والاقتصادية والتكنولوجية على العالم كله، وتجر البشرية معها إلى الهاوية بسبب ذلك الموقف الأحمق المفزع من الدين! ولقد زعمت الجاهلية المعاصرة في أول أمرها في عصر النهضة أنها تستطيع أن تدير ظهرها للدين ثم تظل تمارس الحياة بصورة طبيعية لا يعتورها نقص ولا اختلال. بل زعمت أنها حين تتخلص من الدين فستعالج ما كان في حياتها من نقص واختلال! ولقد كانت ظروفها كما بينا من قبل تؤدي بها إلى الانسلاخ من ذلك الدين الذي يعكر صفو الحياة، ويعطل دفعتها، وينشر الجهالة، ويحجر على الفكر ويحجب عن البشرية النور. وحين بدأت أوروبا تنسلخ من دينها لم يكن في مقدورها أن تنسلخ دفعة واحدة من "القيم" التي كانت تصاحب ذلك الدين، وربما لم يكن ذلك في نيتها في مبدأ الأمر. فراح القوم -مخلصين فيما نحسب- يبحثون عن مصدر آخر للقيم التي لا يمكن أن تعيش بدونها البشرية. ولكن التجربة العلمية أثبتت أنه لا يوجد مصدر حقيقي للقيم غير الدين! قالوا العقل.. وقالوا الطبيعة.. وقالوا النفس البشرية ... وقالوا العلم.. وقالوا الفلسفة ... وقالوا كل ما يخطر في بالهم، ثم خرجوا من ذلك كله بما وصلوا إليه آخر الأمر: القلق والجنون والضياع والحيرة والأمراض النفسية والعصبية والانتحار والخمر والمخدرات والجريمة والانحلال والمسخ الذي يشوه الفطرة.. والهبوط الخلقي والفكري والروحي في كل ميادين الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. على مستوى الأفراد والجماعات والشعوب والدول كلها على السواء! وتحول الإنسان إلى آلة للإنتاج المادي في صباحه، وحيوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 هائج في الليل يبحث عن المتاع الحسي الغليظ، ويبحث عنه أحيانا في تبذل يتعفف عنه بعض أنواع الحيوان! وتلك نهاية طبيعية لبعد الناس عن الدين، وهي تجربة مكرورة في تاريخ البشرية وإن ظنت الجاهلية المعاصرة أنها تجربة "رائدة" تخوضها البشرية لأول مرة؛ لأنهم -في جهالتهم "العلمية"- لا يقرءون التاريخ، أو لا يحبون أن يأخذوا العبرة من التاريخ! {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} 1. ثم إن الإنسان عابد بطبعه كما بينا في الفصول السابقة من الكتاب فلا تستطيع أن تحول الإنسان من العبادة إلى "اللاعبادة". إنما تستطيع أن تحوله من نوع من العبادة إلى نوع آخر، وليس الخيار -كما خيل للجاهلية المعاصرة- بين العبادة وعدم العبادة، إنما الخيار فقط في المعبود ... هل يكون هو الله جل جلاله أم يكون شيئا آخر غير الله. الخيار -بالتعبير القرآني الحاسم- هو بين عبادة الله وعبادة الشيطان. {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 2. وصراط الله المستقيم واحد، ولكن سبل الشيطان كثيرة متعددة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 3. والمعبودات في الجاهلية المعاصرة شتى، والسبل إليها متعددة، من عبادة "الدولار" إلى عبادة الهوى والشهوات، مرورا "بالإنتاج" و"المصالح القومية" و"العلم" و"العقل" و"التقدم" و"التطور" و"الحرية الشخصية" و"الطبيعة" و"الإنسانية" ... ولكل معبود من هذه المعبودات تكاليفه والتزاماته التي ينبغي أن تطاع.. فأين يذهب الإنسان حين يخرج من الدين، أي: من عبادة الله؟   1 سورة يونس: 101. 2 سورة يس: 60, 61. 3 سورة الأنعام: 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 تقول الجاهلية المعاصرة إنه "يتحرر" من "القيد". نعم! يتحرر من "القيد الإنساني" ليقع في قيود الحيوان! فالقضية كما قلت مرة في كتاب "في النفس والمجتمع" ليست خيارا بين القيد والحرية كما يتوهم الناس لأول وهلة حين ينفلتون من الدين والقيم المصاحبة له. إنما الخيار هو بين قيد من نوع معين يصاحبه نوع معين من الحرية، وبين حرية من نوع آخر يصاحبها نوع آخر من القيود. قيد الإنسان ومعه حرية الإنسان، أو حرية الحيوان ومعها قيد الحيوان1. الدين قيد لا شك فيه؛ لأنه التزام بما أنزل الله.. قيد على شهوات النفس وقيد على أهواء الإنسان.. ولكنه في الوقت ذاته يحرر الإنسان من ضغط الشهوات وثقلة الأرض والخضوع المذل للقوى القاهرة التي تقهر الإنسان في الأرض ممثلة في بشر يستبدون بالبشر، أو ضغوط مادية واقتصادية تسحق كرامة الإنسان. والانفلات من الدين والقيم المصاحبة له هو "تحرر" دون شك. تحرر من القيود التي فرضها الله على الإنسان في تصرفاته، والحدود التي رسمها للناس وقال لهم: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} 2 {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} 3. ولكنه في الوقت نفسه يمسك الإنسان من خطامه، ويجره من حبل الشهوات أو من حبل الضغوط القاهرة فلا يملك ألا يستجيب! وحين انفلت الناس في الجاهلية المعاصرة من قيد "الدين" فقد وقعوا في عبوديات لا حدود لها. سواء للحاكمين عليهم، الذين لا يحكمون بما أنزل الله، فيتخذون من أنفسهم أربابا يشرعون للناس، ويخضعونهم لهم بالسلطان القاهر، أو لشهواتهم التي لا يملكون الفكاك منها، أو لأعراف وقيم وموازين ما أنزل الله بها من سلطان، كلها تهبط بالإنسان من مكانه الكريم الذي كرمه الله به يوم خلقه، وتمرغه في الأوحال. فهل هذه هي "الكرامة" التي يحققها الإنسان لنفسه حين يتمرد على الدين ويخرج من عبادة الله؟   1 انظر -إن شئت- فصل "القيد والحرية" من كتاب في النفس والمجتمع. 2 سورة البقرة: 229. 3 سورة البقرة: 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 كلا! وما تستطيع البشرية أن تستمر في الحياة على هذه الصورة. فمن ناحية تظل أمراضها الرئيسية تتضاعف؛ لأنها تعرض عن تناول الدواء. ومن ناحية أخرى تصيبها السنة الحتمية التي لا تتبدل ولا تتخلف ولا يتغير مجراها على مر الدهور: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. ولقد مضت السنة الربانية مع أوروبا في جاهليتها المعاصرة خطوة خطوة: نسوا ما ذكروا به ففتح عليهم أبواب كل شيء، من قوة اقتصادية وعلمية وتكنولوجية وعسكرية وسياسية.. إلخ ففرحوا بما أتوا، أي: طغوا في الأرض بغير الحق، ولم تبق إلا الخطوة الأخيرة حتى تتم السنة بتمامها. وهي أخذهم بغتة إذا أصروا على ما هم فيه. والبغتة هي دائما بغتة وإن رأى بعض الناس بوادرها وتوقعوا حدوثها. {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} 2. و"العقلاء" في الجاهلية المعاصرة بدءوا يتخوفون على أقوامهم من الدمار المؤكد إن لم يغيروا حياتهم من قواعدها. قال الفيلسوف الإنجليزي المعاصر "برتراند راسل" في تصريح له: "لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض.. وبقاء تلك السيادة إلى الأبد ليس قانونا من قوانين الطبيعة3 وأعتقد أن الرجل الأبيض لن يلقى أياما رضية كتلك التي لقيها خلال أربعة قرون ... "4. وقال "جون فوستر دالاس" وزير خارجية أمريكا في كتاب "حرب أم سلام":   1 سورة الأنعام: 44, 45. 2 سورة النحل: 45-47. 3 لا يريد الرجل أن يقول "السنن الربانية" فيسميها -بفعل الجاهلية- قوانين الطبيعة! 4 عن المستقبل لهذا الدين "ص55". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 "إن هناك شيئا ما يسير بشكل خاطئ في أمتنا، وإلا لما أصبحنا في هذا الحرج، وفي هذه الحالة النفسية، ولا يجدر بنا أن نأخذ موقفا دفاعيا "لعله يقصد تبريريا" وأن يتملكنا الذعر، إن ذلك أمر جديد في تاريخنا". "إن الأمر لا يتعلق بالماديات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية. إن ما ينقصنا هو إيمان صحيح قوي. فبدونه يكون ما لدينا قليلا. وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، أو الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، أو العلماء مهما كثرت اختراعاتهم، أو القنابل مهما بلغت قوتها، فمتى شعر الناس بالحاجة إلى الاعتماد على الأشياء المادية فإن النتائج السيئة تصبح أمرا حتميا". "وفي بلادنا لا تجتذب نظمنا الإخلاص الروحي اللازم للدفاع عنها. وهناك حيرة في عقول الناس وتآكل لأرواحهم. وذلك يجعل أمتنا معرضة للتغلغل المعادي -كما كشف عنه نشاط الجواسيس الذين تم كشفهم حتى الآن- ولن تستطيع أي إدارة لمكافحة التجسس أن تقوم بحمايتنا في هذه الظروف"1. وقال "ألكسيس كاريل" في كتاب "الإنسان ذلك المجهول": "إن هدف هذا الكتاب هو أن يضع تحت تصرف كل شخص مجموعة من المعلومات العلمية التي تتعلق بالكائنات الحية في عصرنا، فقد بدأنا ندرك مدى ما في حضارتنا من ضعف ... وكثيرون يرغبون في أن يلقوا عنهم التعاليم التي فرضها عليهم المجتمع الحديث. ولهؤلاء أكتب هذا الكتاب.. كذلك كتبت لأولئك الذين يجدون من أنفسهم شجاعة كافية ليدركوا -ليس فقط ضرورة إحداث تغييرات عقلية وسياسية واجتماعية- بل أيضا ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري" "ص11, 12 من الترجمة العربية لشفيق أسعد فريد". "إن الحضارة الغربية تجد نفسها في موقف صعب؛ لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ إنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية وشهوات الناس وأوهامهم ونظرياتهم ورغباتهم، وعلى   1 عن المستقبل لهذا الدين "ص83". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا ... " "ص28". "يجب أن يكون الإنسان مقياسا لكل شيء، ولكن الواقع هو عكس ذلك فهو غريب في العالم الذي ابتدعه، إنه لم يستطع أن ينظم دنياه بنفسه؛ لأنه لا يملك معرفة عملية بطبيعته, ومن ثم فإن التقدم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو إحدى الكوارث التي عانت منها الإنسانية.. فالبيئة التي ولدتها عقولنا واختراعاتنا غير صالحة لا بالنسبة لقوامنا ولا بالنسبة لهيئتنا.. إننا قوم تعساء، ننحط أخلاقيا وعقليا.. إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدم هي على وجه الدقة الجماعات والأمم الآخذة في الضعف، والتي ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من غيرها إليها.. ولكنها لا تدرك ذلك، إذ ليس هناك ما يحميها من الظروف العدائية التي شيدها العلم حولها.. وحقيقة الأمر أن مدنيتنا مثل المدنيات التي سبقتها أوجدت أحوالا معينة للحياة من شأنها أن تجعل الحياة نفسها مستحيلة، وذلك لأسباب لا تزال غامضة.. إن القلق والهموم التي يعاني منها سكان المدن العصرية تتولد عن نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية ... " "ص44". "الإنسان نتيجة الوراثة والبيئة، وعادات الحياة والتفكير التي يفرضها عليه المجتمع العصري.. ولقد وصفنا كيف تؤثر هذه العادات في حسه وشعوره.. وعرفنا أنه لا يستطيع تكييف نفسه بالنسبة للبيئة التي خلقتها "التكنولوجيا" وأن مثل هذه البيئة تؤدي إلى انحلاله، وأن العلم والميكانيكا ليسا مسئولين عن حالته الراهنة، وإنما نحن المسئولون؛ لأننا لم نستطع التمييز بين الممنوع والمشروع ... لقد نقضنا قوانين الطبيعة1, فارتكبنا بذلك الخطيئة العظمى، الخطيئة التي يعاقب مرتكبها دائما.. إن مبادئ "الدين العلمي" والآداب الصناعية" قد سقطت تحت وطأة غزو الحقيقة "البيولوجية" فالحياة لا تعطي إلا إجابة واحدة حينما تستأذن في السماح بارتياد "الأرض المحرمة".. تضعف السائل! ولهذا فإن الحضارة آخذة في الانهيار ... "ص322"2.   1 انظر كيف يتأثر الرجل بالعرف الجاهلي رغم كل ثورته على الجاهلية المعاصرة! 2 عن المستقبل لهذا الدين "ص72-75". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 ولكن تخوف هذه القلة القليلة من "العقلاء" في خضم الجاهلية المجنونة لن ينقذها من الدمار إلا أن تصيخ لصوت العقل وتعود إلى الله! ولقد كان الدين الذي انسلخت منه الجاهلية المعاصرة دينا فاسدا؛ لأنه من صنع البشر ... دينا لا يصلح للحياة. ولقد كانت -وهي تنسلخ منه- على مشارف الرشد.. ولكنها ضلت الطريق.. وعلى البشرية اليوم -إن أرادت النجاة من الهاوية المحتومة- أن تبحث عن الدين الحق. الدين الذي يؤمن العقيدة الصحيحة في الله، والمنهج الصالح للحياة. الدين الذي لا يوجد فصاما مصطنعا بين الإيمان بالغيب والإيمان بالمحسوس، بين الإيمان بالعقيدة والإيمان بالعلم، بين نشاط الروح ونشاط الجسد، بين الدنيا والآخرة، بين العمل والعبادة، بين التقدم المادي والحضارة والالتزام بالقيم "الإنسانية".. ولا بين أي جانب من الكيان البشري السوي وجانب آخر. الدين الذي يقيم حضارة "إنسانية" متكاملة؛ لأنه يأخذ الإنسان كله ولا يهمل جانبا منه، لا يهمل قبضة الطين من أجل إشراقة الروح، ولا يهمل إشراقة الروح من أجل قبضة الطين، ولا يهمل عمارة الأرض في جميع جوانبها وأشكالها من أجل الفوز بالخلاص في الآخرة. ولا يهمل أمر الخلاص في الآخرة من أجل عمارة الأرض. لا يهمل المشاعر الدينية الشفافة الرفيعة المرفرفة من أجل النظر العلمي والتجربة العلمية. ولا يهمل النظر العلمي والتجربة العلمية من أجل شفافية المشاعر الدينية. لا يهمل القيم الخلقية من أجل "النجاح" في الأرض، ولا يهمل النجاح في الأرض من أجل القيم الخلقية. الدين الذي يؤمن العدل السياسي والعدل الاجتماعي والعدل الاقتصادي، والذي يؤمن في الوقت ذاته التجدد والنمو في الحياة البشرية. الدين الذي ينشئ الحضارة التي تليق بالإنسان الذي صوره الله في أحسن صورة، وكرمه وفضله على كثير ممن خلق: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1. {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 2. ولن يكون هذا الدين إلا الإسلام، فهو عند الله هو الدين: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} 3. وهو الذي تمت به نعمة الله على البشر واكتمل به شرع الله ومنهجه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 4. وهو الذي يشهد واقعه -وقت أن طبق في عالم الواقع- أنه أنشأ تلك الحضارة "الإنسانية" المتكاملة التي شملت كل جوانب الحياة وكل جوانب النفس البشرية، والتي كانت للإنسانية كلها نورا وهداية، والتي استمدت منها أوروبا العلم والحضارة حين انبعثت -بعد احتكاكها بالمسلمين- تطلب النهوض. وحين تعنتق أوروبا هذا الدين فلن تحتاج أن تتخلى عن شيء من تقدمها العلمي والمادي والتكنولوجي، ولا شيء من عبقريتها التنظيمية، ولا شيء من جلدها الدءوب على العمل والإنتاج، وهي العوامل التي حفظت لها بقاءها حتى هذه اللحظة، وإن كانت -كما أشار جون فوتسر دالاس- لا تستطيع أن تحميها من الدمار الحتمي الذي يجره عليهما غياب "الروح". كلا! لا تحتاج أن تتخلى عن شيء من ذلك، إنما تحتاج فقط أن تقيم ذلك كله على قاعدته الصحيحة وهي الإيمان بالله وتطبيق منهجه في الأرض، كما تحتاج أنت تتخلى عن عبوديتها للمادة وعبوديتها للشهوات. والمسلمون بطبيعة الحال يحملون المسئولية الكبرى في هذا الشأن، فهم الذين أخرجهم الله ليكونوا هداة البشرية في الحياة الدنيا، والشاهدين عليها يوم القيامة:   1 سورة غافر: 64. 2 سورة الإسراء: 70. 3 سورة آل عمران: 19. 4 سورة المائدة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1. {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 3. ولن يكونوا شهداء على الناس يوم القيامة حتى يؤدوا الشهادة في الدنيا لهذا الدين، بإقامته في الأرض كما أمر الله، والدعوة إليه كما أمر الله، فتقوم الحجة على الناس إن قبلوه فقد اهتدوا، وإن أعرضوا فقد أعذرت الأمة الإسلامية إلى ربها. ويوم القيامة يشهدون على الناس أمام ربهم، لقد أقمنا الدين في الأرض كما أمرتنا، ودعونا الناس إليه كما أمرتنا فأعرضوا فحق عليهم الجزاء. والمسلمون اليوم في حضيض من الذلة والهوان والضعف والتخلف لم يهبطوا إلى مثله في تاريخهم كله بسبب تخلفهم عن هذا الدين، وإضاعة عقائده وأحكامه، والغفلة عنه، والتفريط فيه. ولكنهم يحملون مسئوليتهم مع ذلك، مسئوليتهم نحو أنفسهم، ومسئوليتهم نحو البشرية، لا يعفيهم منها كل ما وقعوا فيه من الهوان والذلة، بل إن ذلك كله ليضاعف مسئوليتهم، فإنهم ما وقعوا فيه إلا لتفريطهم في هذا الدين الذي قال الله فيه: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} 4. فماذا هم قائلون لربهم غدا حين يسألهم؟! وأي وزر يحملونه إذا احتاجت إليهم البشرية غدا فلم تجدهم في المكان الذي ينبغي أن يكونوا فيه، مكان الأمة التي تحمل الهدي الرباني وتبينه للناس؟! فأما الله سبحانه وتعالى فلن يعجزه تخاذل الذين يحملون اسم الإسلام اليوم   1 سورة آل عمران: 110. 2 سورة آل عمران: 104. 3 سورة البقرة: 143. 4 سورة الزخرف: 43, 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 وهم غافلون عنه، إذا أراد أن يهدي البشرية غدا إلى الدين الحق، فقد قال يحذر المسلمين من قبل: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} 1. فإذا أراد الله للبشرية الهدي فسيقيض لهذا الدين من يحمله وينافح عنه كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 2. وإنا لنرى بواكير هذا الفضل الرباني في حركات البعث الإسلامي التي تنبعث اليوم من كل مكان في الأرض، تسعى إلى تحقيق الإسلام في الواقع، وتجاهد في سبيل الله لا تخاف لومة لائم، وتتعرض لأبشع ألوان التعذيب الوحشي، ثم تظل صامدة في سعيها إلى إقامة هذا الدين في الأرض كما أمر الله. كما نرى بواكير هذا الفضل فيمن يدخلون في هذا الدين في أوروبا وأمريكا من البيض والسود بعشرات الألوف ويتزايدون على الدوام. أما البشرية فقد بدأت طلائعها على الأقل تضيق بالضياع والحيرة وتتلمس الطريق إلى النور، والنور هو دين الإسلام. يقول "توينبي" في محاضرته التي أشرنا إليها من قبل: "صحيح أن الوحدة الإسلامية نائمة، ولكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ إذا ثارت البروليتاريا العالمية للعالم المتغرب3 ضد السيطرة الغربية ونادت بزعامة معادية للغرب. فقد يكون لهذا النداء نتائج نفسانية لا حصر لها في إيقاظ الروح النضالية للإسلام، حتى ولو أنها نامت نومة أهل الكهف، إذ يمكن لهذا النداء أن يوقظ أصداء التاريخ البطولي للإسلام". وهناك مناسبتان تاريخيتان كان الإسلام فيهما رمز سمو المجتمع الشرقي في انتصاره على الدخيل الغربي:   1 سورة القتال: 38. 2 سورة المائدة: 54. 3 يقصد الدول الخاضعة للنفوذ الغربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 "ففي عهد الخفاء الراشدين، بعد الرسول حرر الإسلام سوريا ومصر من السيطرة اليونانية التي أثقلت كاهلهما مدة ألف عام تقريبا". "وفي عهد نور الدين وصلاح الدين والمماليك احتفظ الإسلام بقلعته أمام هجمات الصليبيين والمغول". "فإذا سبب الوضع الدولي الآن حربا عنصرية فيمكن للإسلام أن يتحرك ليلعب دوره التاريخي مرة أخرى.. وأرجو ألا يتحقق ذلك! "1. أما نحن فنرجو أن يتحقق ذلك! لا على أساس حرب عنصرية كما يقول توينبي، الذي يحصر تصوراته في حدود التفكير الغربي الضيق الأفق، بل على أساس من الصراع الصحيح بين الحق والباطل الذي قال الله فيه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 2. نرجو أن يتحقق ذلك لا بوصفنا مسلمين فحسب، بل انطلاقا من كل الحب الذي نكنه للبشرية ... لكي تهتدي إلى النور. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 3.   1 ص73 من الترجمة العربية. 2 سورة الحج: 40, 41. 3 سورة يوسف: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 الفهرس : صفحة 5 مقدمة. 9 التمهيد الأول: الدين والكنيسة، نبذة تاريخية. 9 أولا: تحريف الدين. 25 ثانيا: طغيان الكنيسة ورجال الدين. 53 ثالثا: فساد رجال الدين. 58 رابعا: الرهبانية وفضائح الأديرة. 63 خامسا: مهزلة صكوك الغفران. 67 سادسا: محاكم التفتيش. 70 سابعا: مساندة الكنيسة للظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي. 76 الخلاصة. 79 التمهيد الثاني: دور اليهود في إفساد أوروبا. 93 1- النظريات العلمية. 119 2- واقع المجتمع الصناعي. 178 الديمقراطية. 258 الشيوعية: 259 تمهيد: 268 أولا: المادية الجدلية. 270 1- المادة: أزليتها وأبديتها، وأسبقيتها في الوجود على الفكر. 273 2- قوانين المادة التي تحكم الطبيعة وتحكم البشرية كذلك. 281 ثانيا: المادية التاريخية: 283 1- التفسير المادي للتاريخ. 293 2- التفسير المادي للدين والأخلاق والأسرة. 305 تقويم النظرية المادية. 385 التفسير الجاهلي للتاريخ. 391 التفسير الإسلامي للتاريخ. 410 ثالثا: المذهب الاقتصادي بين النظرية والتطبيق. 414 النظرية الشيوعية. 423 بين النظرية والتطبيق. 440 بين الشيوعية والإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 صفحة 445 العلمانية 463 1- في السياسة. 471 2- في الاقتصاد. 477 3- في الاجتماع. 479 4- في العلم. 483 5- في الأخلاق. 487 6- في الفن. 495 العلمانية والإسلام. 500 العقلانية. 554 القومية والوطنية. 589 الإنسانية. 605 الإلحاد. 642 الإسلام ومستقبل البشرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654