الكتاب: الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار المؤلف: أبو الحسين يحيى بن أبي الخير بن سالم العمراني اليمني الشافعي (المتوفى: 558هـ) المحقق: سعود بن عبد العزيز الخلف الناشر: أضواء السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1419هـ/1999م عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار العمراني الكتاب: الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار المؤلف: أبو الحسين يحيى بن أبي الخير بن سالم العمراني اليمني الشافعي (المتوفى: 558هـ) المحقق: سعود بن عبد العزيز الخلف الناشر: أضواء السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1419هـ/1999م عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول مقدمة ... الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار تأليف: يحي بن أبي الخير العمراني تحقيق: سعود بن عبد العزيز الخلف مقدِّمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيآت أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد: فإن الله عزوجل قد امتن على هذه الأمة بمنة عظيمة إذ أرسل فيها هذا النبي الكريم وأنزل عليه هذا الكتاب العظيم وتكفل جل وعلا بحفظ كتابه ودينه، فسلم لهذه الأمة مصدر الخير والنور والهداية، كتاب الله عزوجل وسنة نبيه محمّد - صلى الله عليه وسلم-، فتمسك بها أهل القرون الأولى من هذه الأمة تمسك الغريق بحبل النجاة وقارب السلامة، وقد أدركوا أن ذلك المصدر هو حبل الله المتين وطريقه القويم الذي لا يزيغ عنه إلا هالك، فكانوا منه ينهلون وعليه يعولون وإليه يفزعون كلما حزبهم أمر أو اختلطت عليهم واقعة، فيجدون فيه فصل أمرهم وحكم ما بينهم. فيثوبون منه إلى الحق وحلاوته والاجتماع وقوته وسلامة الصدر وراحته، وقد أدرك أعداء هذا الدين ما لهذا المصدر من الأثر العظيم وأن هذه الأمة لا تهلك وفيها كتاب ربها وسنة نبيها - صلى الله عليه وسلم- يحكمان في الصغيرة والكبيرة والدقيقة والجليلة. وقد أيقنوا أن لا سبيل إلى الوصول إلى كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم- بالتحريف أو التمزيق، وقد تكفل الله لوحيه بالحفظ والبقاء. فأعملوا فكرهم واستحثوا عقولهم كيف يحجبون المسلمين عن مصدر عزهم ومعدن فلاحهم؟ فوقعوا على داء الأمم قبلنا ومفرق الجموع إلى شيع وأحزاب مختلفة متناحرة، ألا وهو الجدل والكلام الذي أخبر عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 النبي - صلى الله عليه وسلم- بقوله تحذيراً وتنبيها: "ما ضل قوم بعدي هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" ثم قرأ {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون} 1. وقوله عليه الصلاة والسلام: "ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" 2. فألقى هؤلاء الأعداء هذا الداء بين المسلمين، فتلقفه من لم يكن له في الإسلام سابقة ولا قدم في العلم راسخة، ونشره بين المسلمين فعُطِل به كتاب الله عزوجل وردت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وظهر بسببه القيل والقال، وكثر التنقيب والتدقيق والسؤال، وقفا الناس به ما لا علم لهم به ولا سبيل لهم إليه إلا بالوحي الإلهي والنور الرباني، فجادلوا في الحق وتخرصوا بالباطل وجعلوا كتاب الله وراءهم ظهريا، وهم في ذلك كله يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وأنهم لدين الله نصروا، ولعدوه كسروا، وهم في الحقيقة لم يكسروا إلا دينهم ولم يغلوا إلا قناة جماعتهم، ففاء المسلمون من هذا البلاء بالتحزب والتشيع والفرقة التي أوصلتهم إلى التباغض والتكفير والتلاعن كما فعل الذين من قبلهم. هذا كله حدث وكتاب الله يتلى بين ظهرانيهم، وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم- بأيديهم إلا أنهما معطلان عن أن يحكما في عقيدة أو شريعة، وقد أصاب الأعداء بذلك من المسلمين مقتلا أفرز ما هو ظاهر من حال المسلمين لا يخفى على ذي عينين، ولولا أن الله قد تكفل من رحمته ولطفه وكرمه أن لا تستباح بيضة المسلمين وأن لا يطمس الحق والنور فيهم ببقاء طائفة على الحق ظاهرة وله محكمة لحاق بالأمة الإسلامية ما حاق بالأمم قبلها من اندثار الحق واندراس آثاره، وعموم الضلالة   1 أخرجه ت. كتاب التفسير ب، تفسير سورة الزخرف 5/378، جه. في المقدمة 1/19، حم 5/252-256، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - وقال الترمذي حديث صحيح. 2 أخرجه خ. كتاب الاعتصام ب. الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم 9/77، م. كتاب الحج ب فرض الحج مرة في العمر 2/975 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وتنكب طريق الهداية حتى لا يستطيع أحد منهم أن يتوصل إلى النور الإلهي والهدي الرباني بما عندهم من كتاب، لتحريف الكتب الإلهية وانقراض أهل الحق فيهم، وإجماعهم على الضلالة والغواية. فلولا هذا اللطف منه جل وعلا لضللنا جميعا كما ضلوا، وقد كان ضُلاَّل أهل الكتاب ومجرموهم أول من أدخل هذا الشر على المسلمين، فبدعة التشيع أول من دعى إليها عبد الله بن سبأ اليهودي،1 وبدعة القدر تعزى إلى رجل نصراني في البصرة يقال له سوسن 2، وبدعة نفي الصفات أخذت عن بيان بن سمعان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم وزوج ابنته وأخذها لبيد بن أعصم الساحر عن يهودي من اليمن 3، ثم إن هذه البدع والانحرافات بدأت تجد من مرضى القلوب والاعتقاد أذناً صاغية، حتى وجدت أتباعاً وأنصارا كمنوا على بدعتهم وقت ظهور السنة وسيادتها على المجتمع الإسلامي في زمن أواخر الصحابة وأوائل عهد بني أمية إلى أواسط العهد العباسي الأول حيث ترجمت كتب اليونان وتلقفها هؤلاء المرضى فدعموا شبههم بالكلام والجدل، حتى فتنوا كثيرا من المسلمين عن الحق بتأويلات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يأت عليها منه برهان، وإنما هي شبه لَبَّسَتْ على مرضى القلوب وضعاف الإيمان. وكان عسكر الإيمان وجند الرحمن ينافحون عن الحق وله يناصرون، يسرون بذلك ويعلنون لتستبين السبيل وتتضح المحجة لمن أراد الله سلامته وهدايته، فأقاموا الدروس والحلقات، ونادوا على المنابر بالآيات البينات فبينوا ووضحوا طريقة الرسول وشريعة الإسلام، وكتبوا وألفوا وردوا على أهل الباطل في كل ميدان، فأقاموا الحجة على الناس ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، وكان لهم على كل بدعة جولة بالحق يدمغون بها الباطل فإذا هو زاهق، وكان رابع الخلفاء الراشدين   1 انظر: الملل والنحل 1/174، الخطط للمقريزي 2/356. 2 انظر: اللالكائي 4/75، الآجري في الشريعة ص 342، الخطط للمقريزي 2/356. 3 انظر: البداية والنهاية 9/493 في ترجمة الجعد بن درهم عام مقتله 124?. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 أبو السبطين علي - رضي الله عنه - أول من واجه هذه الانحرافات بعد بروزها واضحة في المجتمع الإسلامي، فجالد الخارجين بسنانه وبيانه، فأظهره الله عليهم في الحالين، ثم من بعده الصحابة الذين أدركوا هذه الفتن كجابر وابن عباس وابن عمر وغيرهم - رضي الله عنهم-، ثم كبار التابعين، ثم تابعيهم إلى الأئمة الأربعة، ثم كبار تلاميذهم، ثم بدأت الفتنة تأتي على أتباع الأئمة ممن لم يستنر بنور الكتاب والسنة ولم يعتمد عليهما الاعتماد الواجب من أمثالهم، حتى أصبح كثير منهم له إمام في الفقه وإمام من المتكلمين في العقائد، فعم البلاء وانتشر الداء، وثبتت الفئة التي على كتاب الله اعتمدت ولسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم- نصرت وهي التي تكفل الله ببقائها، فمضت في طريقها توضح السبيل وتنير الطريق في كل مكان وزمان، وهذا من عظيم منن الله عزوجل وفضله على هذه الأمة إذ لا تجتمع على ضلالة، ولا يندرس فيها الحق وتذهب آثاره بحيث يخفى على جميع الأمة. وكان ممن نصر الحق وأبانه ونصح لله ودينه الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني، إمام الشافعية في بلاد اليمن فأقام الحجة وأظهر المحجة ودعى إلى نبذ البدعة والكلام والالتزام بالكتاب وسنة سيد الأنام في العقائد وفي الأحكام، فنفع الله به خلقاً كثيراً، اعتصموا بكتاب الله بدعوته، واهتدوا إلى الالتزام بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم- في العقائد والأحكام ببيانه ومنهجه، وقد كتب في هذا ثلاثة كتب هي: (مختصرة في مسألة الكلام) رد فيه على الأشعرية والمعتزلة و (رسالة في المعتقد على مذهب أهل الحديث) وكتابه الكبير (الانتصار) الذي نصر به الحق ودحض به الباطل وأقام به الحجة على كل مبتدع، وقد وفقني الله عزوجل إلى الاطلاع عليه فاجتهدت في تحقيق نصه والتعليق عليه لعلي أكون بذلك مشاركا لمؤلفه في الدعوة إلى الكتاب والسنة على نهج السلف لعل الله عزوجل يذكر به غافلا أو يعلم به جاهلا أو يهدي به من فضله وكرمه مبتدعاً. وقد قسمت عملي في الكتاب إلى قسمين: القسم الأول: الدراسة للمؤلف والكتاب. القسم الثاني: تحقيق النص والتعليق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الباب الأول: الدراسة للمؤلف والكتاب الفصل الأول: التعريف بالمؤلف المبحث الأول: حياته الشخصية ... المبحث الأول: حياته الشخصية أولا: اسمه: يحيى بن أبي الخير بن سالم بن أسعد بن عبد الله بن محمد بن موسى ابن عمران العمراني. هكذا سماه الجعدي في طبقاته - ص (174) وهو أقرب من كتب عنه لأنه تلميذ ابنه طاهر بن يحيى بن أبي الخير. وذكره النووي في تهذيب الأسماء واللغات (2/278) فقال: "يحيى بن أبي الخير سالم بن أسعد بن يحيى العمراني بن عمران". والسبكي في طبقاته (7/336) قال: "يحيى بن أبي الخير بن سالم بن سعيد بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عمران العمراني". وابن قاضي شهبة في طبقاته (1/372) قال: "يحيى بن أبي الخير بن سالم بن أسعد بن يحيى". فنخلص من هذا إلى أن المؤلفين اتفقوا على اسمه، واختلفوا في اسم أبيه وجده الأول والثاني وهو اختلاف قريب، ما عدا تسمية جده الثاني يحيى عند النووي وابن قاضي شهبة، وأقربهم إلى الصواب تلميذ تلاميذه ابن سمرة، الجعدي لقرب عهده منه ولأن من كتب عن العمراني اعتمد على ابن سمرة، وقد تكون تلك الاختلافات تصحيفا أو تحريفا من النساخ والله أعلم. ثانيا: نسبته: العمراني: وهي نسبة إلى عمران بن ربيعة بن عبس بن زهرة بن غالب ابن عبد الله بن عك بن عدنان، هكذا ذكره ابن سمرة الجعدي. ونسبه الحموي في معجم البلدان (3/296) بقوله (السيري ثم العمراني) وهي نسبة إلى البلدة التي ولد فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ثالثا: كنيته: أبو الحسين وكناه النووي وابن قاضي شهبة بأبي الخير. رابعا: مولده: ولد الشيخ يحيى - رحمه الله - في مصنعة سير1 في اليمن سنة تسع وثمانين وأربعمائة من الهجرة. خامسا: موطن نشأته: ولد العمراني - رحمه الله - في اليمن وعاش فيها ومات فيها ولم يخرج منها إلا إلى مكة والمدينة حاجا وزائرا، وكانت اليمن في الفترة التي عاش فيها الشيخ العمراني تموج بالفتن والحروب والمذاهب المنحرفة، فقد كان فيها الشيعة الزيدية في صعده2 وما حولها إلى نجران، والإسماعيلية الباطنية ويمثلهم الصلحيون3 وكانوا تغلبوا على عموم اليمن ثم انحسر ملكهم إلى جبله4 وحصن أشيح5 وبعض الحصون الأخرى. ومنهم الزريعيون في عدن وأبين6 وتعز وكانوا تابعين للصليحيين ثم استقلوا بالحكم. ومنهم الياميون أبناء علي بن حاتم اليامي وكانوا في صنعاء وأعمالها. والدولة السنية التي كانت موجودة هي دولة بني نجاح الأحباش في زبيد   1 بلدة من أعمال إب جنوب صنعاء. انظر: معجم البلدان اليمنية ص 219. 2 مدينة تاريخية في الشمال من صنعاء بمسافة (243 كم) . انظر: معجم المدن اليمنية ص 248. 3 الصيلحيون نسبة إلى علي بن محمد الصليحي الإسماعيلي الباطني الذي استولى على اليمن عام (455?) وانتهت دولتهم بموت الملكة أروى بنت أحمد بن محمد الصليحي سنة (532?) انظر: اللطائف السنيه ص 30-45. 4 جبله بكسر الجيم وسكون الباء مدينة بالجنوب الغربي من مدينة إب ابتناها عبد الله بن علي الصليحي سنة (358?) انظر: معجم المدن اليمنية ص 80. 5 حصن شهير في بني سويد يعرف الآن بحصن ظفار كان قاعدة لمملكة سبأ بن أحمد الصليحي. انظر: المرجع السابق ص 25. 6 أبين بفتح الهمزة مخلاف (منطقة) مشهور على ساحل البحر الهندي شرقي عدن. المرجع السابق ص 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وتهامة وهي امتداد لدولة بني زياد، وقد قضى على هذه الدولة بنو مهدي الذين انتحلوا مذهب الخوارج وفتكوا بالناس وأهلكوا الحرث والنسل واستمرت دولتهم خمسة عشر عاما، وكان بين تلك الإمارات وأولئك الحكام حروب دائمة متصلة تنشر الدمار والخراب في كل مكان، وفي كثير من الأحيان كانت الدولة تنقسم على نفسها ويبرز فيها طامعون إلى أن قضى على جميع هؤلاء الدولة الأيوبية سنة (569?) 1. سادسا: أولاده: لم يذكر للشيخ من الأولاد سوى ابنه طاهر وبنتين، تزوج الفقيه عمرو بن عبد الله بن سليمان إحداهما فتوفيت في نفاسها فتزوج الأخرى. سابعا: وفاته: توفي العمراني - رحمه الله - في ذي السفال2 مبطونا شهيدا قبيل الفجر من ليلة الأحد لست وعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة من الهجرة وله تسع وستون سنة، وكان نزعه ليلتين ويوما بينهما. ولم يترك صلاة في مرضه، يسأل عن وقت كل صلاة بالإيماء لأنه اعتقل لسانه، وكان كثير التهليل يعرف منه بالإشارة بالمسبحة3.   1 انظر في تاريخ هذه الدول: تاريخ اليمن المسمى بهجة الزمن في تاريخ اليمن ص 49-75 بقية المستفيد في تاريخ مدينة زبيد ص 39-67، اللطائف السنية في أخبار الممالك اليمنية ص 30-54. 2 مدينة جنوب إب بمسافة 43كم بالسفح الجنوبي من جبل التعكر معجم المدني والقبائل اليمنية ص 207. 3 انظر ترجمته في: طبقات فقهاء اليمن لابن سمرة الجعدي ص176-182. وقد استفاد منه كل من ترجم للعمراني لقرب عهد ابن سمرة منه وتتلمذه على تلاميذه. وانظر: معجم البلدان لياقوت الحموي 3/196. وتهذيب الأسماء واللغات للنووي 2/278. وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي 7/336-338. وطبقات الشافعية للأسنوي 1/212. وغربال الزمان في وفيات الأعيان ليحيى بن أبي بكر العامري اليماني ص 436-438، والأعلام للزركلي 8/146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 المبحث الثاني: حياته العلمية وآثاره أولاً: طلبه للعلم ورحلاته فيه: الشيخ العمراني - رحمه الله - أوقف حياته للعلم تعلما وتعليما وتأليفا، لهذا نجده - رحمه الله - قوي العزيمة في تحصيل العلم جاد الرغبة، فيه تنقل بين بلدان اليمن طلبا للعلم. وله تخصص بالفقه الشافعي مع المشاركة في علوم اللغة والعقيدة، وكان خاله أبو الفتوح بن عثمان بن أسعد بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عمران أول من أخذ عنه من الشيوخ، فقد أخذ عنه كتاب (كافي الفرائض في المواريث) للصردفي. وارتحل - رحمه الله - إلى ذي الحفر1 وقرأ كتاب (التنبيه) للشيرازي، وأخذ عن الشيخ الفقيه عبد الله بن أحمد بن محمد بن أبي عبد الله الهمداني (المهذب) وحفظه عنه و (اللمع) كلاهما لأبي إسحاق، و (الملخص) و (إرشاد ابن عبدويه) ، و (كافي الفرائض) للصردفي أيضا. ثم ارتحل إلى أحاظه2 فقرأ على الشيخ زيد بن الحسن الفايشي فأعاد عنده (المهذب) ، وأخذ عنه تعليق الشيخ أبي إسحاق في أصول الفقه، و (غريب الحديث) لأبي عبيد في اللغة، و (مختصر العين) للخوافي، و (نظام الغريب) للربعي وكتاب (التبصرة في أصول الدين) تصنيف أبي الفتوح على مذهب السلف، وأخذ عن خبيره3 عمر بن إسماعيل الجماعي الخولاني كتابي (الكافي) للصفار في النحو و (الجمل) للزجاجي.   1 ذى الحفر: حصن في عزلة نعيمة على مقربة من مدينة جلبة. انظر: معجم المدن اليمنية ص 125. 2 أحاظه: ويقال لها وحاظه تقع شمال إب وهي اليوم مزارع وأطلال. انظر: المرجع السابق ص 460. 3 قال محقق كتاب طبقات فقهاء اليمن: "الخبير في اللهجة اليمانية الرفيق والصديق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ولما وصل الفقيه زيد بن عبد الله اليفاعي سنة (512?) إلى الجند1 قادما من مكة جاءه جماعة من الفقهاء ومن ضمنهم الشيخ العمراني فقرأ عليه (النكت) وهو في المسائل المختلف فيها بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة تصنيف أبي إسحاق الشيرازي، كما سمع (المنهاج) للقاضي أبي الطيب الطبري ودرس كتاب (التعليق في الخلاف) للشيخ أبي إسحاق و (التبصرة في أصول الدين) لأبي الفتوح مرة أخرى وكتباً أخرى، وبقي عند الشيخ اليفاعي إلى أن توفي سنة (514?) 2 فانتقل إلى سهفنة3 فأخذ عن القاضي مسلم بن أبي بكر بن أحمد الصعبي كتاب (الحروف السبعة في الرد على المعتزلة وغيرهم من أهل الزيغ والبدعة) للشيخ حسين بن جعفر المراغي4. ثم انتقل إلى ذي أشرق5سنة (517?) فسمع (الجامع للسنن) للترمذي على الشيخ سالم بن عبد الله بن محمد بن سالم بن عبد الله. كما طالع بذي أشرق شروح المزني وكتبا أخرى (كالمجموع) للمحاملي و (الشامل) لابن الصباغ وكتاب (الفروع) لسليم و (شرح المولدات) للقاضي أبي الطيب و (العدة) للقاضي حسين بن علي الطبري. وقد حج - رحمه الله - وزار مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم- وقبر النبي - صلى الله عليه وسلم- في المدينة سنة (521?) . ولقي في مكة الفقيه الواعظ محمد بن أحمد العثماني الديباجي فتناظرا   1 الجند: بفتح الجيم والنون بلدة تقع بالشرق الشمالي من مدينة تعز وبها أول مسجد بني في اليمن وهي اليوم بليدة صغيرة. انظر: المرجع السابق ص 95. 2 طبقات فقهاء اليمن ص 152-153. 3 سفهنه: هي قرية شمال الجند بالقرب من القاعدة على الطريق منها إلى ذى السفال. معجم المدن اليمنية ص 218. 4 طبقات فقهاء اليمن ص 124. 5 ذي أشرق بلدة أثرية في سفح جبل التعكر بالجنوب الغربي من إب المرجع السابق ص 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وتذاكرا في مسائل الفقه والأصول وكان الديباجي أشعريا فنصر العمراني - رحمه الله - مذهب السلف في أن القراءة هي المقروء1 واحتج على الديباجي بقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 2 وأن الإشارة بهذا إلى المتلو المقروء إلى أن سكب الديباجي العرق عن وجهه. ثم عاد - رحمه الله - إلى بلده مصنعة سير وبقي فيها يصنف ويدرس إلى سنة (549?) حيث تعذر سكنى سير بسبب حروب وفتن جرت بين أهلها فانتقل إلى ذي السفال، ثم إلى ذي أشرق ومكث فيها سبع سنين وكسرا انشغل خلالها بالتدريس والإقراء والتصنيف كما سمع خلالها عام (555?) (صحيح البخاري) و (سنن أبي داود) من الشيخ الحافظ علي بن أبي بكر الهمداني. ثم ظهر ابن مهدي الخارجي واستولى على زبيد وتهامة ثم خلفه بعد موته ابنه مهدي بن علي فأغار على الجند وبواديها، فجعل الشيخ العمراني - رحمه الله - خوف ابن مهدي سبيلاً للخروج من ذي أشرق فقد كان كره البقاء فيها بسبب فتن وقعت بين فقهاء ذي أشرق وفقهاء زبيد تسببت بالتباغض والتحاسد والتكفير، فتوجه الشيخ بعد خروجه في شوال سنة (557?) إلى ضراس3 ثم إلى ذي السفال واستقر بها إلى أن توفي - رحمه الله - في ربيع الآخر سنة (558?) كما سبق ذكره4.   1 الصواب أن بين القراءة والمقروء فرقا لأن القراءة فعل القارئ والمقروء كلام الله عزوجل وعدم التفريق بينهما مذهب لبعض السلف لدقة الفرق وعدم تبين كثير من الناس للفرق بينهما، وسأتي توضيح ذلك عند رد المصنف على اللفظية في الفصل رقم (96) . 2 سورة الإسراء آية (9) . 3 ضراس: قرية من أعمال ذى السفال. انظر: معجم المدن اليمنية ص (259) . 4 انظر: طبقات فقهاء اليمن ص 174-180، طبقات الشافعية الكبرى 7/336. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ثانيا: شيوخه ذكرنا فيما تقدم رحلات العمراني - رحمه الله - وطلبه للعلم وقد أخذ في رحلاته تلك عن شيوخ اليمن في وقته، وهم: 1- خاله أبو الفتوح بن عثمان بن أسعد بن عبد الله بن محمد بن موسى ابن عمران1. 2- الشيخ موسى بن علي الصعبي قال عنه الجعدي: سكن ذي الحفر في نعيمه تفقه بمقبل بن زهير وكان مدرسا في ذي الحفر توفي سنة (450?) 2. 3- الشيخ عبد الله بن أحمد بن محمد بن أبي عبد الله الهمداني سكن زبران من بادية الجند وتوفي سنة (518?) تفقه بشيوخ منهم الفقيه أبو بكر بن جعفر بن عبد الرحمن المخائي وزيد بن عبد الله اليفاعي وأكثر أخذه عنه، وقرأ على ابن عبدويه (الإرشاد) في أصول الفقه والجدل له وسمع عليه قراءة المهذب وكان زاهدا ورعاً3. 4- الشيخ الفقيه عبد الله بن عمير العريفي تفقه بزيد بن عبد الله اليفاعي4. 5- الشيخ زيد بن الحسن بن محمد الفايشي ولد سنة (458?) وتوفي سنة (528?) تفقه بشيوخ كثير وكان عالماً بعلوم كثيرة، منها علم القراءت من طريق أبي معشر الطبري حيث قرأ عليه بمكة ومنها التفسير والحديث   1 طبقات فقهاء اليمن ص 174. 2 هكذا في طبقات فقهاء اليمن ص 155. ولا شك أنه خطأ، فلعله من الناسخ لأن العمراني - رحمه الله - ولد سنة (489?) . 3 طبقات فقهاء اليمن ص 254. 4 طبقات فقهاء اليمن ص 155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 واللغة والنحو والفقه والخلاف وأصول الفقه وعلم الكلام في التوحيد وكان كثير الحج وربما جاور في مكة وكان رحالاً في طلب العلم فبذلك كثرت علومه وظهرت فضائله وكان قواماً بالليل يصلي بالسُبُع من القرآن كل ليلة في غالب أحواله وأكثر زمانه، وصنف في مذهب الشافعي مختصراً مليحا سماه كتاب (التهذيب) وتفقه به خلق كثير1. 6- عمرو بن بيشى وهو من ترب الشيخ العمراني أخذ عنه كتاب (كافي النحو) لأبي جعفر الصفار و (الجمل) للزجاجي2. 7- الإمام زيد بن عبد الله بن جعفر بن إبراهيم اليفاعي من أعيان علماء اليمن وأشياخ فقهاء الزمن أستاذ الأستاذين وشيخ المصنفين أخذ عن جلة علماء اليمن ثم ارتحل إلى مكة فقرأ على تلاميذ أبي إسحاق الشيرازي ثم عاد إلى اليمن فاجتمع الناس إليه للتدريس، وخاف الأمير مفضل بن أبي البركات بن الوليد الحميري القرمطي من تجمعهم أن يخرجوا عليه فأمر خاصته بإحداث فتنة بين هذا الشيخ والشيخ أبي بكر بن جعفر بن عبد الرحمن المخائي وبالفعل تمت الفتنة بينهما وتشتت أتباع الشيخين فهاجر الشيخ زيد اليفاعي مرة أخرى إلى مكة وجاور فيها ثنتي عشرة سنة يدرس ويفتي، ثم عاد إلى اليمن بعد هلاك الأمير المفضل بن أبي البركات سنة (513?) ، فسكن الفقيه زيد الجند واجتمع عليه جلة فقهاء اليمن يقرؤون عليه ويسمعون منه حتى توفي - رحمه الله - سنة (515?) 3. 8- القاضي مسلم بن أبي بكر بن أحمد بن عبد الله الصعبي كان عالما بعلم الكلام محجاجا ظريفا ماهرا في الأصول مع تبريزه في الفقه وقد بيض الجعدي تاريخ ولادته ووفاته4.   1 المرجع السابق ص 155، طبقات الشافعية الكبرى 7/85. 2 طبقات فقهاء اليمن 175-226. 3 طبقات فقهاء اليمن ص 119- 123-125 153، طبقات الشافعية الكبرى 7/86. 4 طبقات فقهاء اليمن ص 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 9- الشيخ سالم بن عبد الله بن محمد بن سالم ولد في رمضان سنة (451?) ، وتوفي في ذي الحجة سنة (532?) في ذي أشرق، وكان إمام جامعها تفقه بأبيه وأخذ عن أبيه كتاب جامع الترمذي وعنه أخذه العمراني - رحمه الله -1. 10- الشيخ سراج الدين شيخ المحدثين الحافظ أبو الحسن علي بن أبي بكر ابن حمير بن الهمداني العرشاني، روى عنه الشيخ العمراني (صحيح البخاري) و (سنن أبي داود) ، وقال الجعدي: كان إماما في الحديث متقنا للرواة عالما بصحيحه ومعلوله وله تصنيف مليح محقق يعرف بكتاب (الزلازل والأشراط) وتوفي سنة (557?) 2. ثالثا: تلاميذه: قال ابن سمرة الجعدي عن العمراني: "وانتشر علمه في الأجانب والقرباء، وأجاب عن المعضلات، وأوضح المشكلات وقسم الأوصاف والاحترازات وطبق الأرض بالأصحاب فما أعلم في أكثر هذا المخلاف فقيها مجودا ومناظرا مجتهدا إلا من أصحابه أو أصحاب أصحابه"3. وقد أقام - رحمه الله - كما سبق ذكره في بلده مصنعة سير بعد عودته من الحج سنة (521?) يدرس إلى سنة (549?) ثم انتقل إلى ذي أشرق واستمر في التصنيف والتدريس إلى سنة (557?) قبل وفاته ببضعة أشهر وكان - رحمه الله - كما ذكر عنه ابن سمرة الجعدي والسبكي: من أحسن العلماء تعليما وتدريسا وطريقته كما ذكرها الجعدي بقوله: "وكان - رحمه الله - إذا درس من يعلم فهمه فإنه بعد فراغ القارئ من الفصل يعيده هو بنفسه   1 المرجع السابق ص 115-116. 2 المرجع السابق ص 171. 3 طبقات فقهاء اليمن ص 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 عليه حفظا مع تنبيهه له على خلاف الإمام مالك وأبي حنيفة خاصة، وقد يذكر معهما غيرهما في بعض المسائل، ثم يذاكره باحتراز الأقيسة والوجوه في أصولها. لم خصت بجعلها أصولاً؟ وذلك إما من جهة النص عليها في الكتاب والسنة، أو تسليم المخالف في حكم المسألة المقيسة، وإن كان في عبارة الكتاب استغلاق أو قصر فهم القارئ أبدلها له بعبارة أخرى إلى أن يتصور القارئ الفصل ويفهمه، ومن كان من الطلبة غير فاهم لم يسلك به هذا المسلك بل يجيبه عما سأل عنه لا غير مع رده عليه التصحيف"1. فلا غرو بعد هذا أن يكون الشيخ - رحمه الله - إمام الشافعية باليمن وجميع من جاءوا بعده ممن ترجم لهم ابن سمرة الجعدي هم تلاميذه أو من المستفيدين من علمه والغارفين من بحره، ونقتصر في الترجمة لبعضهم وهم: 1- ابن عمه محمد بن موسى بن الحسين بن أسعد العمراني وهو أقدم أصحابه قراءة عليه وأعلاهم رتبة وأرفعهم درجة، كان حافظا مجودا جمع بين الفقه والزهد والعبادة والورع، ومع ذلك حسن الخلق توفي سنة (568?) في مصنعة سير أفتى ودرس في حياة شيخه العمراني وكان يثني عليه ويمدحه2. 2- ابنه طاهر بن يحيى بن أبي الخير أبو الطيب العمراني ولد في ذي الحجة سنة (518?) تفقه بأبيه وخلفه في حلقته ومجلسه وأجاب على المشكلات في حياته، جالس العلماء وروى عنهم، وأخذ عن غير واحد وجاور في مكة وهاجر إليها بأولاده الرجال والنساء لعموم فتنة ابن   1 المرجع السابق ص 178، وانظر: طبقات الشافعية الكبرى 7/337. 2 طبقات فقهاء اليمن ص 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 مهدي1 في مخاليف اليمن. وأقام سبع سنين روى عن كبار المحدثين في الحرم، ثم عاد إلى اليمن سنة (566?) وولي قضاء ذي جبلة وأعمالها وله مصنفات منها: (مقاصد اللمع) و (كسر قناة القدرية) وكتاب في (مناقب الإمامين الشافعي والإمام أحمد رحمهما الله) وكتاب (معونة الطلاب بفقه معاني كلم الشهاب) وجمع بين علم القراءات والحديث والفقه وغلب عليه الكلام وتوفي - رحمه الله - سنة (587?) 2. وذكر الجعدي أن الشيخ العمراني جمع أحبابه وأصحابه وأمر ابنه طاهرا أن يصعد المنبر في ذي أشرق سنة (554?) وسأله أبوه عن اعتقاده وذلك لما شاع أنه على خلاف عقيدة أبيه فأجاب الابن بما كذب كل حاسد وأدحض تلبيس كل بغيض ومعاند، فالتقاه والده عند أسفل المنبر وقال: هل أنكر الإخوان من هذا شيء3. وهذا يرد على ادعاء يحيى العامري في كتابه غربال الزمان ص (437) أن طاهر بن الشيخ يحيى العمراني كان أشعريا وأنه كان ينكر على والده ويرد عليه عقيدته، لأن الجعدي تلميذ طاهر بن يحيى ونقله عنه أثبت وأدق، ولعل الذي بلغ العامري فحكاه في كتابه هو من الشائعات التي كانت بلغت العمراني - رحمه الله - فطلب من ابنه أن يفصح عن عقيدته على المنبر أمام الناس. وهي قوة في الحق. 3- الفقيه أحمد بن عبد الله بن مسعود بن أسلم البريهي ثم السكسكي ثم الكندي سيف السنة زين الحنبلية سكن في إب4 وأفضت إليه الرئاسة فيها، جمع بين الزهد والورع والعلم والحديث، وارتحل إلى مكة وسمع فيها صحيح مسلم في سنة (580?) ورجع إلى مدينة إب ثم نزل الجند   1 سبق الإشارة إليها في الكلام على موطن نشأة العمراني. 2 المرجع السابق ص 187، طبقات الشافعية للأسنوي 1/213. 3 طبقات فقهاء اليمن ص 188. 4 إب: مدينة في الجنوب من صنعاء في السفح الغربي لجبل ريمان وهي منطقة خصبة. معجم المدن اليمنية ص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 واجتمع إليه الأصحاب من ظبا1 وذي أشرق والشعبانية وأعمال الجند وغير ذلك فأسمعهم إياه في رجب بمدينة الجند سنة (581?) 2. هؤلاء هم كبار تلاميذ العمراني وله تلاميذ آخرون ذكرهم ابن سمرة الجعدي. وقال: "وصحب الإمام يحيى بن أبي الخير خلق كثير ممن استحق بالحفظ والنظر درجة الفتوى وممن لم يستحق، وسأذكر عدد من يحضرني معرفته مع من قدمت ذكره من المشهورين بالفتوى والتدريس". ثم ذكر مجموعة أخرى من التلاميذ نحيل فيها إلى كتاب ابن سمرة من ص (198-210) . رابعا: عقيدته: العمراني - رحمه الله - سلفي العقيدة وداعية إلى هذه العقيدة ومنافح عنها وهو في هذا الشأن من علماء اليمن الكبار وكان وقع له - رحمه الله - كتاب الشريعة للآجري عن طريق تلاميذ خير بن يحيى الملامس عن أبي بكر البزار عن الآجري - رحمه الله -. كما أنه اخذ عن القاضي مسلم الصعبي (كتاب الحروف السبعة في الرد على المعتزلة وغيرهم من أهل الضلالة والبدعة) لمصنفه الشيخ الحسين بن جعفر المراغي. كما استفاد - رحمه الله - فائدة واسعة من كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة للحافظ اللالكائي حيث اعتمد عليه في كتابه الانتصار مع الشريعة للآجري وصحيح البخاري وجامع الترمذي، وكان قد ألف كتابه (الانتصار) انتصارا للعقيدة السلفية لما طعن فيها القاضي جعفر بن عبد السلام الزيدي المعتزلي وذلك حين رد على رسالة سابقة للعمراني في بيان عقيدة   1 ظبا: بضم الظاء واد بالجنوب من مدينة جبلة. معجم المدن اليمنية ص 257. 2 لم يتبين لي عمن أخذ هذا الكتاب حيث لم يشر إليه ابن سمرة الجعدي في ترجمة الشيخ العمراني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 أصحاب الحديث في القدر بكتاب سماه (الدامغ للباطل من مذهب الحنابل) 1 فانبرى له الشيخ بهذا الكتاب المطول شرح فيه عقيدة السلف وأظهر فساد مذهب المعتزلة، كما رد فيه على الأشاعرة وأظهر انحرافهم في مسائل في الصفات وغيرها، وقد استفاد العلماء من هذا الكتاب وفرحوا به وانتسخوه ودانوا الله به واعتقدوه. كما ناظر - رحمه الله - في مكة الواعظ محمد بن أحمد العثماني الديباجي الأشعري ونصر مذهب الحنابلة وأهل السنة في أن المقروء هو كلام الله عزوجل الذي تكلم الله به واحتج على الديباجي بقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وأن الإشارة بهذا إلى المتلو المقروء إلى أن سكب الديباجي العرق من وجهه2. وكان - رحمه الله - مع ذلك يكره الخوض في الكلام فقد ذكر عنه الجعدي أنه كان يحب طلبة العلم والفقه واجتماعهم ويكره لهم الخوض في الكلام3. وكتابه الانتصار يدل على سعة علمه وتمسكه بعقيدة السلف إلا أنه يؤخذ عليه - رحمه الله - استخدامه لبعض تعبيرات المتكلمين وتأثره بهم في المسائل الدقيقة من العقيدة كمسألة الحكمة والتعليل والاستطاعة وغيرها، وسيأتي بيان ذلك عند الحديث عن المآخذ على الكتاب. خامسا: مذهبه الفقهي العمراني - رحمه الله - إمام من أئمة الشافعية في اليمن وقد ذكر الجعدي أن اليمن كان الغالب فيه مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة - رحمهما الله - إلى نهاية القرن الثالث الهجري4، وأول من أظهر المذهب الشافعي في اليمن الفقيه موسى بن عمران المعافري5، وأول من انتشر عنه المذهب الشافعي   1 انظر: التعريف به ص 33. 2 طبقات فقهاء اليمن ص 177. 3 المرجع السابق ص 180. 4 المرجع السابق ص 74. 5 المرجع السابق ص 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وظهر إمام الشافعية في صنعاء وعدن الشيخ القاسم بن محمد الجمحي القرشي المتوفى سنة (437?) في سهفنة فقد انتشر عنه المذهب في مخلاف الجند وصنعاء وعدن ومنه استفاد فقهاء هذا المذهب في تلك البلاد، وكانت مدرسته في سهفنة فأخذ عنه شافعية المعافر1 ولحج2 وأبين وأهل الجند والسحول3 وأحاظه وعنه4 ووادي ظبا5. وعن تلاميذ القاسم بن محمد انتشر المذهب الشافعي حتى وصل إلى الشيخ أبي الحسين يحيى بن أبي الخير العمراني فانتشر عنه المذهب إلى سائر البلدان وصنف فيه وألف الكتب الكثيرة وأظهرها كتاب (البيان) وهو معدود من كتب الشافعية الكبار ويحيل عليه كثيرا السبكي في طبقاته ويذكر ترجيحاته ومسائله في مواطن كثيرة من كتابه مما يدل على قيمته وقدره عند الشافعية. وسيأتي ذكر بقية مصنفاته في المذهب في فصل خاص فهو إمام من أئمة الشافعية6 وقد قال عنه الجعدي: (فما أعلم في أكثر هذا المخلاف فقيها مجودا ومناظرا مجتهدا إلا من أصحابه أو أصحاب أصحابه) 7. سادسا: مصنفاته أتحف العمراني - رحمه الله - المكتبة الإسلامية وطلاب العلم بمصنفات عديدة جلها في المذهب الشافعي وهي:   1 المعافر: بفتح الميم وكسر الفاء تسمى الآن (الجحريه) بضم الجيم وفتح الحاء وهي وطن كبير جنوب تعز. معجم المدن اليمنية ص 394. 2 لحج: مخلاف كبير في الشمال الغربي من عدن. المرجع السابق. ص 355. 3 السحول: بلد بين إب جنوبا وحتى قفر يريم شمالا وهي أرض خصبة كثيرة الخيرات. المرجع السابق. ص 201. 4 عنه: بفتح العين وتشديد النون واد في بلاد العدين غربي إب يصب في وادي زبيد. المرجع السابق. ص 299. 5 طبقات فقهاء اليمن. ص 88. 6 تقدم في مبحث طلبه للعلم عنايته بالفقه الشافعي وحفظه المهذب وغيره. 7 المرجع السابق. ص 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أولاً: الزوائد على المهذب للشيرازي الشافعي وقد ابتدأ تصنيفه سنة (517?) حيث استشار شيخه زيد بن عبد الله في جمع ما زاد على المهذب من مسائل فأشار عليه شيخه بذلك واستغرق منه ذلك أربع سنين حيث انتهى منه آخر سنة (520?) وهو يقع في مجلدين1. ثانيا: مؤلف في الدور استخرجه من كتاب ابن اللبان وغيره. ثالثاً: البيان: وهو من كتب الشافعية الكبار جمع فيه بين الزوائد والمهذب ومسائل الدور ومذاهب المخالفين وشرح فيه ما أشكل من مسائل المهذب ورتبه على ترتيب المهذب قال الجعدي عن البيان: كاسمه بيانا وللعلماء هدى وتبيانا وأنبابه - رحمه الله - البعداء وانتشر علمه في الأجانب والقرباء وأجاب عن المعضلات وأوضح المشكلات وقسم الأوصاف والاحترازات - ثم قال -: لأنه - رحمه الله - انتحل الشروح الكثيرة والدلائل المشهورة والمسائل المفيدة والأقيسة السديدة إلى بيانه وضمنه النكت الحسنة والمعاني المتقنة جمع فيه بين تحقيق البغداديين وتدقيق الخراسانيين، فإذا تأمله الحاذق الناظر وكدَّ في جواهره الخاطر إلى أن يستدر الناظر وسعه كفاه واستغنى به عما سواه2. وقال الجندي كما نقل عنه صاحب كتاب (مصادر الفكر الإسلامي في اليمن) : "انتفع به الإنس والجان، ولما قدم بغداد جعل في أطباق الذهب وطيف به مرفوعا وقد أجاب فيه عن المعضلات وأوضح فيه المشكلات وقسم به الأوصاف والاحترازات وجمع فيه بين تحقيقات أهل العراق وتدقيقات الخراسانيين"3.   1 المرجع السابق. ص 176، معجم البلدان مادة سير 3/296. 2 طبقات فقهاء اليمن ص 182. 3 مصادر الفكر الإسلامي في اليمن ص 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وكان ابتداء تصنيفه - رحمه الله - سنة (528?) وانتهى منه سنة (533?) في مدينته مصنعة سير وقد نقل عنه السبكي في مواطن كثيرة في كتابه (طبقات الشافعية) ويقابل بين أقواله وأقوال الشافعية الأخرى في العديد من المسائل، وذكر الأكوع في كتابه (المدارس الإسلامية في اليمن) ص (9) أن البيان للشيخ العمراني كان من الكتب المعتمد تدريسها في مدارس الشافعية زمن دولة بني رسول وبني طاهر. وقد ذكر فؤاد سيد في تحقيقه لكتاب (طبقات فقهاء اليمن) أن الكتاب يقع في عشر مجلدات ومنه نسخة بدار الكتب المصرية برقم (25) فقه شافعي، وأخرى في مكتبة أحمد الثالث باستانبول برقم (671) . وذكر الحبشي في كتابه (مصادر الفكر الإسلامي في اليمن) ص (193) أنه يوجد منه نسخة في جامع تريم1 في أربعة مجلدات، ونسخة أخرى في جامع صنعاء كتبت سنة (810?) وسنة (707) في ستة مجلدات برقم (479) كما يوجد مجلد منه في جامع المظفر بتعز ومجلد في مكتبة محمد بن يحيى الحداد في بيته في إب. رابعا: المشكل: وهو عن المسائل المشكلة في كتاب المهذب وقد ألف - رحمه الله - لما طلب منه تلميذه وصاحبه محمد بن مفلح الحضرمي استخراج المسائل المشكلة في المهذب. خامسا: الانتصار في الرد على القدرية - وهو الكتاب المحقق في هذه الرسالة وسيأتي التعريف به. سادسا: غرائب الوسيط صنفه بذي أشرق. سابعا: مختصر إحياء علوم الدين.   1 تريم: إحدى مدن حضرموت القديمة. مجمع المدن اليمنية ص 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ذكر هذه الكتب الجعدي في طبقات فقهاء اليمن والحبشي وغيرهما ولم يشر أحد إلى وجود شيء منها سوى كتاب البيان وكتاب الانتصار. ثامنا: رسالة في المعتقد على مذهب أهل الحديث، وهي الرسالة التي أنشأها للرد أولا على القاضي جعفر الزيدي وأبان فيها عقيدة السلف في القدر وغيره من المسائل وتعتبر أصلا لكتاب الانتصار لأنه كان ينقل منها المسائل وهي التي يشير إليها بقوله: "ذكرت في الرسالة، واستدللت في الرسالة"، ونحو ذلك. كما أنه بعد أن يذكر قوله في الرسالة يذكر اعتراض الزيدي ويرد عليه، ولعل هذه الرسالة هي التي وقعت لابن القيم - رحمه الله - ونقل منها في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية ص (710) حيث قال: "قول أبي الحسين العمراني صاحب البيان فقيه الشافعية ببلاد اليمن - رحمه الله تعالى - له كتاب لطيف في السنة على مذهب أهل الحديث صرح فيه بمسألة الفوقية والعلو والاستواء حقيقة وتكلم الله عزوجل بهذا القرآن العربي المسموع بالآذان حقيقة وأن جبرائيل عليه الصلاة والسلام سمعه من الله سبحانه حقيقة وصرح فيه بإثبات الصفات الخبرية واحتج بذلك ونصره وصرح بمخالفة الجهمية والنفاة" انتهى. تاسعا: كتاب مختصر في الرد على الأشعرية والقدرية في مسألة الكلام، وذكره - رحمه الله - في كتاب الانتصار عند حديثه عن صفة الكلام، والرد على المعتزلة والأشعرية. عاشرا: الفتاوى ذكره ابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية (1/373) . الحادي عشر: الأحداث. الثاني عشر: مناقب الشافعي. الثالث عشر: مقاصد اللمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ذكر الكتب الثلاثة الأخيرة الزركلي في الأعلام (8/146) ومحقق كتاب طبقات الشافعية للأسنوي (1/212) ولم أر من ذكرها غيرهما. سابعا: مكانته وثناء العلماء عليه العمراني - رحمه الله - تبوأ مكانة عالية بين علماء زمانه، كما كان له جاه كبير في اليمن ويكفي في بيان مكانته العالية أن الشافعية في اليمن بعده معتمدون عليه وعلى تلاميذه وكتبه كما قال ابن سمرة الجعدي: "وطبق الأرض بالأصحاب فما أعلم في أكثر هذا المخلاف فقيها مجوداً ومناظراً مجتهداً إلا من أصحابه أو أصحاب أصحابه"1. كما أثنى عليه ثناءا بالغا في أول ترجمته حيث قال عنه: "الذي انتشر عنه الفقه في البلدان وجاوز علمه البحر مع السودان وسارت بتصانيفه الركبان في اليمن والشام وهو الفقيه جمال الإسلام شمس الشريعة يحيى بن أبي الخير"، ثم ساق نسبه إلى آدم عليه السلام. كما أثنى عليه - رحمه الله - شيخه زيد بن الحسن الفايشي2، فقال: "يحيى ابن أبي الخير فقيه يصلح للفتوى" وأمر بعض أصحابه وهو عمرو بن عبد الله بالدرس عليه، وقال الجعدي: "وكان هذا لا شك في أول أمر الإمام يحيى بن أبي الخير فلو عاش إلى تصنيفه البيان لرأى عجبا"3. وكان شيخه القاضي أبو بكر بن محمد بن عبد الله اليافعي إذا تنازعت عنده الخصوم يقول: "ما قال القمران في هذه الحكومة"، وتارة يقول: "هاتوا جواب القمرين يعني الإمامين عبد الله بن يحيى الصعبي ويحيى بن أبي الخير العمراني"4   1 طبقات فقهاء اليمن ص182. 2 تقدمت ترجمته في شيوخ العمراني. 3 طبقات فقهاء اليمن ص 159. 4 المرجع السابق. ص 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 كما أثنى عليه تلميذ تلاميذه ابن أبي لحب فقال: أجل ما العلا إلا لسيدها الحبر ... وما العلم إلا إرث آل أبي الخير نفيل أبي يحيى طاهر في فعاله ... وثاني صنوف الخير من معدن الخير1 وقال عنه السبكي: "شيخ الشافعيين بإقليم اليمن صاحب البيان وغيره من المصنفات الشهيرة … ثم قال: وكان إماما زاهدا خيراً مشهور الاسم بعيد الصيت عارفا بالفقه والأصول والكلام والنحو أعرف أهل الأرض بتصانيف أبي إسحاق الشيرازي الفقه والأصول والخلاف: يحفظ (المهذب) عن ظهر قلب، وقيل كان يقرؤه في ليلة واحدة"2. وقال النووي: "كان يحفظ المهذب وشرحه بالبيان، نشر العلم ببلاد اليمن ورحل إليه"3. ومثله قال الأسنوي في طبقات الشافعية4. وذكر ابن سمرة الجعدي شعرا في الثناء على الشيخ العمراني ولم يذكر قائله وهو: لله شيخ من بني عمران ... مذ كان شاد العلم لأركان يحيى لقد أحيا الشريعة هاديا ... بزوائد وغرائب وبيان هو درة اليمن الذي ما مثله ... من أول في عصرنا أو ثان5   1 المرجع السابق ص 222 والبيت فيه هكذا: أجل ما العلا إلا لسيدها الحبرى وما العلم إلا إرث آل أبي الخير وما أثبت من كتاب السلوك للجندي الذي أثبته محقق كتاب طبقات فقهاء اليمن وذكرته لوضوح معناه. 2 طبقات الشافعية الكبرى 7/336. 3 تهذيب الأسماء واللغات 2/278. 4 طبقات الشافعية 1/213. 5 طبقات فقهاء اليمن ص 81 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الفصل الثاني: التعريف بالكتاب المبحث الأول: اسم الكتاب ... المبحث الأول: اسم الكتاب ورد اسم الكتاب في المخطوط هكذا: (الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار) وقد كتب فوق كلمة المعتزلة (صح) مما يدل على إضافتها في حال مقابلة أو نحوها. وذكره الجعدي باسم: (الانتصار في الرد على القدرية الأشرار) . وذكره السبكي باسم: (الانتصار في الرد على القدرية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 المبحث الثاني: توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف عزا الكتاب إلى المؤلف كما مر كل من ترجم له مثل ابن سمرة والسبكي والأسنوي وابن قاضي شهبة وياقوت الحموي ويحيى بن أبي بكر العامري صاحب كتاب غربال الزمان والزركلي في الأعلام وكذلك هو في كتاب مصادر الفكر الإسلامي في اليمن ص (193) وفي فهرست دار الكتب المصرية. كما دون على الكتاب اسمه واضحا وهي نسخة دار الكتب، أما النسخة اليمانية المرموز لها ? - ح - فإنها ناقصة من أولها. وقد ذكر اسمه في أول الكتاب حيث قال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، قال الشيخ الإمام الأوحد وجمال الدين مبطل حجج الزائغين يحيى بن أبي الخير بن أسعد العمراني اليماني قدس الله - روحه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 المبحث الثالث: سبب تأليف الكتاب ذكر العمراني - رحمه الله - في مقدمة كتابه أنه ألفه ردا على القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام الزيدي1 الذي كان قاضيا لصنعاء وقدم إب وأظهر فيها الاعتزال، فكتب الشيخ العمراني رسالة فيها معتقد أهل 1 من كبار علماء الزيدية في اليمن وهو الذي جلب كتب المعتزلة من العراق إلى اليمن بإيعاز من المتوكل علي بن أحمد بن سليمان وقد تولى للإمام المذكور القضاء في صنعاء، قال عنه الجعدي: "إنه سأل المناظرة من علماء السنة فبعث إليه الإمام يحيى بن أبي الخير الفقيه علي بن عبد الله بن عبد الله بن عيسى الهرمي فاجتمعوا في حصن شواحط وكان لهم فيه محفل عظيم مشهور سنة (554?) "، انظر: طبقات فقهاء اليمن ص 180، تاريخ اليمن الإسلامي لأحمد المطاع ص 323، وانظر: كتاب الصلة بين الزيدية والمعتزلة ص 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الحديث نصيحة للمسلمين وتحذيرا من الوقوع في الضلال فرد عليه المعتزلي في كتاب سماه (الدامغ للباطل من مذهب الحنابل) 1 فرد عليه العمراني - رحمه الله - بهذا الكتاب المطول وأضاف إليه الرد على أصناف المبتدعة المخالفين لعقيدة أهل الحديث.   1 وقد وقفت على هذا الكتاب، وهو مخطوط يقع في (85) ورقة من القطع المتوسط وخطه واضح مقروء، وقد فرغ من كتابتها يوم السبت في أول عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانمائة، وسأشير إلى بعض مواطن نقل العمراني عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 المبحث الرابع: منهج المؤلف في الكتاب ويلخص لنا الإمام العمراني - رحمه الله - منهجه في كتابه بعد ذكره المعتزلة وتلبيسهم على العوام ومن لا خبرة له بمذهبهم بقوله: "فاستخرت الله سبحانه على كشف تلبيسهم وإظهار تدليسهم بهذا الكتاب وجعلته فصولا كل فصل فيه يشتمل على ذكر فائدة منفردة ليقرب على قارئه أخذ الفائدة منه وقدمت ذكر مذهب أصحاب الحديث جملة ثم الأصول التي بنى أصحاب الحديث أقوالهم عليها فقد ذكرت الآيات والأدلة التي استدللت بها1 على خلق الله لأفعال العباد وعلى الإرادة والتعديل والتجويز وما أورده هذا المعترض عليها بدامغه2 فأجبت عما ذكر من الأدلة وتركت من كلامه ما لا فائدة تحته إلا الأذية وقدمت الأهم فالأهم، ثم ذكرت بعد ذلك المسائل التي وقع فيها الخلاف بين أصحاب الحديث والمعتزلة والقدرية والأشعرية وما حضرني من الأدلة من الكتاب والسنة التي نقلها أئمة الحديث في أصولهم المشهورة كالإمام البخاري والترمذي ومحمد بن الحسين الآجري واللالكائي وغيرهم   1 يعني بذلك استدلاله بها في كتابه الذي كتبه في بيان عقيدة أصحاب الحديث. 2 يعني بذلك ما اعترض به القاضي الزيدي عليها في كتابه الدامغ للباطل من مذهب الحنابل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وحذفت ذكر الأسانيد طلباً للإيجاز ليخف حمله ويسهل حفظه لمن أراد مطالعته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 المبحث الخامس: مصادر الكتاب اعتمد المصنف - رحمه الله - في كتابه على القرآن الكريم وعلى صحيح البخاري والترمذي وكتاب الشريعة للآجري وكتاب شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي، وقد ذكر ذلك في مقدمة الكتاب، وقد نقل عن اللالكائي أكثر النصوص والآثار واعتماده عليه أكثر من اعتماده على الشريعة للآجري، وهذا ظاهر من تخريج الآثار، ونقل عن إحياء علوم الدين للغزالي عدة نقول منها روايات عن الأئمة في التحذير من الكلام وذم المتكلمين وكذلك روايات في فضل العقل، ونقل عن غريب الحديث لأبي عبيد عدة نقول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 المبحث السادس: المآخذ على الكتاب لا يكاد يكتب كاتب أو يؤلف مؤلف إلا ويستدرك عليه وهذا من لوازم النقص البشري، والشيخ العمراني - رحمه الله - يؤخذ عليه في كتابه هذا عدة مآخذ ظهرت من خلال التحقيق. بعض هذه المآخذ تتعلق بالترتيب وبعضها تتعلق بالناحية العلمية: أولاً: الترتيب سلك المصنف - رحمه الله - في كتابه تقسيمه إلى فصول وقد بلغت فصوله خمسة وعشرين ومائة فصل يفرد لكل معلومة جديدة فصلا مستقلا وهذا جعل الكتاب غير مقسم تقسيما موضوعيا بحيث يكون كل موضوع وحدة كاملة على طريقة الأبواب ثم الفصول. ومما يؤخذ عليه أيضا أنه لم يجعل لهذه الفصول عناوين يعرف منها مضمون الفصل، ثم إن المصنف أقحم فصلاً في المعرفة بعد الكلام على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الدجال وما ورد فيه وقبل الكلام على مسائل الإمامة، ولم يظهر لي وجه إقحامه ذلك الفصل في ذلك المكان ص (810) . ثانيا: النواحي العلمية يلاحظ على المصنف ملاحظات عديدة في النواحي العلمية وهي نوعان: أولا: الناحية العقائدية المصنف - رحمه الله - سلفي العقيدة، ومصادره هي كتب السلف - رحمهم الله - كما سبق ذكره، إلا أنه في بعض المسائل لم يتبين له قول السلف خاصة في المسائل الدقيقة فيأخذ بقول الأشعرية فيها وذلك في المواضع التالية: 1- قوله في الاستطاعة بأنها تكون مع الفعل وعزا ذلك إلى أهل الحديث حيث قال: ص (166) "وأهل الحديث يقولون: إن الاستطاعة لا توجد في الفاعل إلا في حال الفعل ولا يوصف بالقدرة عليه قبل الفعل"، وهذا القول غير صحيح لأن الصواب كما سيأتي بيانه في مكانه أن الاستطاعة تكون قبل الفعل ومعه. 2- قوله بأن الرسل لا يعرف صدقهم إلا بالمعجزات وذلك ص (118) حيث قال: "ولكن لما أرسل الله الرسل لم نعلم صدقهم إلا بالنظر في معجزاتهم" والصواب أنه يمكن معرفة صدق الرسل بغير المعجزات أيضاً كدلالة الحال وما يدعو إليه، إلى غير ذلك من الأمور الأخرى التي بيانها في التعليق على كلامه في مكانه. 3- كلام المصنف عن الحكمة والعدل والظلم المنفي عن الله عزوجل وافق فيه الأشعرية في نفي الحكمة، وأن الله لا يتصور منه الظلم مهما فعل لأنه المالك المتصرف ومن كان كذلك فلا يتصور منه الظلم، وهذا في مواطن عديدة من كتابه منها قوله ص (175) : "ولو جعل ألوانهم سببا أو علما للثواب والعقاب بأن يقول: من خلقته أبيض فهو علم على أنه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أهل الجنة ومن خلقته أسود فهو علم على أنه من أهل النار لم يخرجه ذلك عن الحكمة" وقوله ص (213) : "ولوخلقهم وعذبهم ابتداءاً من غير عمل منهم لم يكن ظالما لهم ولا مستحقا اسم الجور ولا خارجا عن الحكمة" ثم قال في تعليل ذلك "ولكنه محكم في مماليكه وعبيده ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون". وقوله ص (251) : "ولو عاقب على الأفعال الضرورية لم يخرج بذلك عن كونه عدلا حكيما..". وقوله ص (0456) : "ولو لم يثب المطيعين وأثاب العاصين لم يكن ظالما". وقوله ص (459) : "فاستحقاقه الحكمة لذاته لا لفعله الحكمة" وقوله (467) : "ولو كان فعل الله الشيء لعلة لاقتضى وجود تلك العلة علة أخرى إلى ما يتسلسل فبطل أن أفعال الله لعلة مقتضية منه وجود الفعل منه". وهذا كله غير صحيح بل الحق أن الله موصوف بالحكمة وأنه حكيم في فعله وأمره، ولا معنى لوصفه نفسه بالحكمة إلا أنه لا يصدر عنه إلا ما هو غاية في الحكمة، وكذلك الظلم المنفي عنه عزوجل قد دلت الأدلة من القرآن على خلاف كلام المصنف وذلك كقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} وغير ذلك من الآيات التي ذكرت بالتفصيل لبيان الحق في مواضعها من تحقيق الكتاب. 4- عزوه لأهل الحديث القول بأن الحسن والقبح لم يعرف إلا بالشرع، حيث قال ص (210) : "فذلك المعنى الذي سماها معاصي وخبائث وقبائح هو الشرع، هذا مذهب أهل التوحيد أن القبيح ما قبحه الشرع والحسن ما حسنه الشرع" وقال ص (267) : "فالشرع هو الذي قبح القبيح وحسن الحسن وليس فوق الله سبحانه من يأمره وينهاه.. ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ثم قال: "وقد وجدنا الزنا قبل ورود الشرع لا يسمى قبيحاً إلا بعد ورود الشرع بتحريمه وتقبيحه وكذلك تزويج الأمهات والأخوات وذاوت المحارم غير قبيح في العقل.. ". وهذا كله كلام باطل وهو قول الأشعرية، والصواب أن الحسن والقبح منه ما يعرف بالعقل ومنه ما يعرف بالشرع وقد دلت الأدلة الشرعية على ذلك، وقد تم التعليق على ذلك في موضعه. 5- عبر المصنف - رحمه الله - في عدة مواطن من كتابه بعبارات المتكلمين التي تحتمل الحق والباطل مثال ذلك قوله في وصف الله عزوجل ص (98) : "ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض ولا بمحل الأعراض والجواهر والأجسام ولا يحلها". وقوله ص (266) : "والله ليس بمحل للحوادث". "وهو ليس بمحل للحوادث". وقوله ص (635) عن الصفات: "فإن العقول تقصر عن معرفة المراد بها". وهذه كلها عبارات المتكلمين ولم ترد في الشرع فاطراحها ونبذها أولى إلا أن تذكر ويبين المراد بها فإن كانت حقاً قبل، وإن كانت خلاف ذلك رد، وقد تم التعليق عليها في مواضعها. 6- قوله ص (111) : "القرآن الذي هو كلام الله القديم" فَوَصْفُ القرآن بأنه قديم ليس من كلام السلف كما وضح في مكانه. وكذلك قوله ص (541) : "فإن كلام الله هو القرآن" والعبارة فيها قصور لأن القرآن من كلام الله. 7- تأويله صفة الساق بأنها الشدة ص (471) والصواب أن الساق صفة لله عزوجل بدليل ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - فينظر التعليق على ذلك في موضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 8- قال المصنف - رحمه الله - ص (346) : "ولا يوصف بالاقتدار على نفسه" يعني بذلك الله عزوجل وهي عبارة لا يليق ذكرها عن الله سبحانه وتعالى وقد بين ذلك في موضعه. 9- كلامه في الفرق بين الإسلام والإيمان فيه ارتباك وعدم وضوح وذلك أنه قال في أول الرسالة ص (99) : "وأن الإيمان أعلى رتبة من الإسلام والإسلام بعض الإيمان". وهو قول صحيح، إلا أنه في التفصيل قال ص (737) : "والإسلام عام والإيمان خاص، والإيمان بعض الإسلام وهو أشرف أجزائه.. " وهو قول لا يتفق مع الحق في هذه الألفاظ ولا مع ما تقدم من كلامه، وقد تم التعليق على ذلك في موضعه. ثانياً: الناحية الحديثية: مما يؤخذ على المصنف - رحمه الله - في كتابه الناحية الحديثية حيث أورد فيه عدة أحاديث ضعيفة وموضوعة مستدلا بها، نذكر بعضا منها: حديث: "أصحابي كالنجوم" ص (106) . حديث: "لعن الله أربعة على لسان سبعين نبيا أنا آخرهم.." ص (151) . حديث: "القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ومنه بدأ وإليه يعود" ص (548) . حديث: "يا معاذ العرش والكرسي وحملتهما.." ص (548) . حديث: "إن الله تعالى قرأ سورة طه ويس قبل أن يخلق الخلق بألفي عام.." ص (598) . حديث الطير في فضل علي ص (896) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 حديث: "أنا دار الحكمة وعلي بابها" ص (897) وغير ذلك من الأحاديث التي تم التعليق عليها في موضعها. ويؤخذ عليه أيضا رفعه أثرا عن علي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو موقوف وذلك قوله ص (92) : "لا يخلو عصر من قائم لله بحجة" وذلك إن ثبت عن علي - رضي الله عنه -. وكذلك رفعه ما ليس بحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- وإنما هو من كلام العلماء، وذلك ص (399) حيث قال: وقوله - صلى الله عليه وسلم: "الأخوات مع البنات عصبة" وقد بين في موضعه. قوله في عدة مواطن: (وهو في الصحاح) "وهو مروي في الصحاح". انظر: ص (147) و (151) وذلك عن أحاديث ضعيفة أو موضوعة كما بين في موضعه وهو تجوز منه - رحمه الله - وتساهل. وأنه ذكر بعض الأحاديث الصحيحة بصيغة التمريض (روي) مثل قوله ص (92) : "روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله لا ينزع العلم من صدور الرجال.." الحديث، وقوله ص (93) : "وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "نضر الله امرأ سمع مقالتي.." الحديث. وقوله: ص (95) : "وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "لا عدوى ولا هامة ولا صفر.." الحديث. كما أنه لا يعزو الأحاديث إلى مصادرها وفي بعض الأحيان لا يذكر راوي الحديث من الصحابة. وهذا كله يدل على أن بضاعته في الحديث مزجاة مع أن ذلك لا يقلل من قيمة الكتاب فقد اشتمل الكتاب على أكثر من أربعمائة حديث عدا الآثار عن الصحابة وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 المبحث السابع: قيمته العلمية كتاب الانتصار ذكر عنه الجعدي أن الفقهاء في تلك المنطقة فرحوا به وانتسخوه ودانوا الله به واعتقدوه1. وذكر أيضا في ص (203) أنه مر على قرية ألخ2 سنة (561?) ? عيسى بن مفلح وأحمد بن سليمان وموفق بن مبارك وهم ينسخون كتاب الانتصار. وانتشار كتاب الانتصار بين فقهاء تلك المنطقة لما تضمنه من إفحام الطائفة القدرية التي كان الزيدية في ذلك الوقت هم دعاتها وكانت لهم دولة في ذلك الزمان، كما تضمن رداً وإفحاماً للأشعرية الذين يزعمون أنهم ينتصرون لعقيدة أهل السنة ويردون على المعتزلة وهم يقولون في الواقع بقول المعتزلة في مسائل عديدة - وقد ذكر العامري في غربال الزمان ص (438) أن فقهاء الجبال في اليمن في ذلك الوقت شافعية وكانوا على عقيدة السلف وكانوا مولعين بكتاب الشريعة للآجري - رحمه الله - وكانوا يقدحون في عقيدة الغزالي المخالفة لعقيدة السلف3. فعليه سيفرحون أشد الفرح بكتاب مثل كتاب الانتصار ويكون له أبعد الأثر فيهم.   1 طبقات فقهاء اليمن ص (181) . 2 ألخ قرية من بلاد بني حبيش وهي من أعمال إب في الشمال الغربي منها. معجم المدن اليمنية ص (106) ، طبقات فقهاء اليمن ص (203) . 3 يلاحظ أن العامري زعم أن الغزالي سني وأن من خالفه هم أصحاب العقائد الحشوية من الحنابلة ومن وافقهم فيتضح من هذا أنه أشعري يرى ما يرى الأشعرية من أن إثبات الصفات تشبيه وتجسيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 المبحث الثامن: موضوع الكتاب موضوع الكتاب هو الانتصار لعقيدة السلف وإثباتها بإظهار أدلتها والرد على المخالفين المبتدعة وقد شغل إثبات القدر النصف الأول من الكتاب، حيث ذكر أدلة إثباته من القرآن والسنة وأقوال الصحابة ورد على المعتزلي القدري فيما اعترض به على الآيات والنصوص الشرعية بالوجوه العديدة المفيدة مما جعل الكتاب في استيعابه للنصوص الشرعية في القدر واستيعاب أوجه الرد على اعتراضات وشبه القدرية فريداً في بابه. وعقب على ذلك بإثبات الصفات والرد على منكريها من الجهمية والمعتزلة وكذلك الرد على الأشعرية فيما أنكروه أو تأولوه من الصفات كالكلام بحرف وصوت والاستواء وغيرها. وذكر أيضا رؤية الله عزوجل بالأبصار يوم القيامة ورد على منكريها. ثم ذكر مذهب السلف في الإيمان ومرتكبي الكبائر والشفاعة ورد على المرجئة والخوارج والمعتزلة المخالفين للحق في ذلك، ثم ذكر الميزان والصراط والحوض والجنة والنار والدجال والإمامة ورد على طوائف المبتدعة في ذلك وأطال في ذكر الخلافة ورد على الرافضة المنكرين لخلافة الخلفاء الراشدين الثلاثة وبه انتهى الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 المبحث التاسع: دراسة لأهم موضوعات الكتاب المطلب الأول: تعريف القدر لغة ... الكتاب كما تقدم بيانه ص (33) هو رد على القاضي القدري الزيدي جعفر بن أحمد بن عبد السلام قاضي صنعاء الذي اعترض على كتاب كتبه الشيخ العمراني في بيان عقيدة أهل الحديث بكتاب ألفه لهذا الغرض في نصرة عقيدة المعتزلة القدرية في القدر وغيره. فاستقصى المؤلف العمراني - رحمه الله - بهذا الكتاب الأدلة لمذهب السلف في القدر التي ذكرها في الرسالة الأولى، وذكر اعتراضات القدري عليها ورد عليها بإجابات مطولة وأضاف إلى ذلك مسائل العقيدة الأخرى كالكلام والرؤية وإثبات الصفات وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وبين مذاهب المنحرفين عنها من المعتزلة والأشعرية والخوارج والروافض ورد عليهم. ولأن القدر والقدرية قد شغلوا الجزء الأكبر من الكتاب ولتعلق عنوان الكتاب بذلك فلا بد من دراسة موضحة مختصرة للقدر والقدرية تجمع ما تفرق من كلام الشيخ في الكتاب مع بعض الإضافات المهمة في الموضوع وذلك كله في أربعة مطالب وهي: المطلب الأول: تعريف القدر لغة. المطلب الثاني: الإيمان بالقدر عند السلف. المطلب الثالث: نشأة الخلاف في القدر. المطلب الرابع التعريف بالقدرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 المطلب الأول: تعريف القدر لغة القدر لغة: بسكون الدال وفتحها القضاء والحكم وهو ما يقدره الله عزوجل من القضاء ويحكم به من الأمور قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 1. أي الحكم أو التي تقدر فيها الأرزاق وتقضى، وقدر الله عليه ذلك: بفتح الدال مخففة ومشددة كتبه عليه، والقدرة: بفتح القاف وسكون الدال، والقدرة: بضم القاف وسكون الدال والمقدار: القوة. وقدر عليه الشيء: بفتح القاف والدال ضيقه، وقدرت الشيء بفتح القاف والدال مشددة ومخففة من التقدير. والتقدير يأتي على معان أحدها: التروية والتفكير في تسوية أمر وتهيئته. والثاني: تقديره بعلامات يقطعه عليها، والثالث: أن تنوي أمرا بعقدك تقول قدرت أمر كذا وكذا أي نويته وعقدت عليه2.   1 سورة القدر آية (1) . 2 انظر: اللسان 5/3545، القاموس المحيط ص 59، المفردات ص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 المطلب الثاني: الإيمان بالقدر عند السلف وفيه ثلاث نقاط: أولا: الإيمان بالقدر إجمالا: وأدلته: السلف - رحمهم الله - يؤمنون بأن كل شيء بقضاء من الله وقدر سبق صغيرا أو كبيرا حقيرا أو جليلا خيرا أو شرا حلوا أو مرا طاعة أو معصية والأدلة على ذلك بحمد الله ظاهرة وكثيرة منها قوله عزوجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 1 و {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} 2 {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} 3 {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} 4 {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} 5   1 سورة القمر آية (49) . 2 سورة الأحزاب آية (38) . 3 النساء آية (47) . 4 سورة التغابن آية (11) 5 سورة آل عمران آية (166) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ومن السنة حديث جبريل وفيه: "وتؤمن بالقدر خيره وشره"1 وحديث طاووس قال: "أدركت ناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقولون كل شيء بقدر" قال: "وسمعت عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس"2. وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن قدر له ولكن يلقيه النذر إلى القدر قد قدر له فيستخرج الله تعالى به من البخيل، فيؤتى عليه ما لم يكن يؤتى عليه من قبل" 3. وحديث أبي هريرة أيضا قال: قال رسول اله - صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان" 4. فهذه الأدلة كافية في بيان المراد من إثبات الإيمان بالقدر وأن كل شيء بقضاء وقدر. ثانيا: مراتب الإيمان بالقدر وأدلتها: الإيمان بالقدر لا يقوم ولا يتم إلا بالإيمان بأربع مراتب قامت عليها الأدلة من كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم- وهي:-   1 سيأتي تخريجه حيث ذكره المصنف ص 743. 2 سيأتي تخريجه حيث ذكره المصنف ص 171. 3 أخرجه خ. كتاب الأيمان والنذور ب الوفاء بالنذر 8/119. 4 أخرجه م. كتاب القدر ب الأمر بالقوة 4/2052. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله السابق بكل شيء فعلم جل وعلا ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وعلم طاعات العباد ومعاصيهم وكل دقيق وجليل من أحوالهم علما تاما لا يغيب عنه جل وعلا منه شيء صغر أو كبر. وهذا مقتضى وصفه جل وعلا بالعلم وأنه العليم قال عزوجل: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} 1 {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 2 {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} 3 {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 4 {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} 5 {عَالِمِ الْغَيْب لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ} 6 {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} 7. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "سئل النبي - صلى الله عليه وسلم- عن ذراري المشركين، فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" 8. وعلى هذا فإن الله عزوجل علم أهل الجنة وأهل النار وخلقهم وهو عالم بما يصيرون إليه، وهم سيصيرون إلى علمه بهم جل وعلا يؤكد هذا ويوضحه حديث عمران بن الحصين - رضي الله عنه - قال: "قال رجل: "يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال: نعم قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: كل ميسر لما خلق له" 9.   1 سورة البقرة آية (282) . 2 سورة التحريم آية (2) . 3 سورة الحشر آية (22) . 4 سورة الطلاق آية (12) . 5 سورة الجن آية (28) . 6 سورة سبأ آية (3) . 7 سورة النجم آية (31) . 8 أخرجه خ. كتاب القدر ب. (الله أعلم بما كانوا يعملون) 8/104، وم. القدر ب. معنى كل مولود يولد على الفطرة.. 4/2047. 9 أخرجه م. القدر ب. كيفية الخلق الأول ... 4/2041. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله عزوجل قد كتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة الصغير والكبير والحقير والجليل من أحوال بني آدم وأعمالهم، فهم يصدون عن شيء قد كتب عليهم وسجل قبل خلقهم ووجودهم، ويردون إلى شيء قد سجل عليهم وخط به القلم، فكتبت طاعاتهم ومعاصيهم وكتب أهل الجنة وأهل النار وهم لن يتعدوا ما كتب لهم وعليهم. والدليل على ذلك قوله عزوجل: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} 1 {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} 2 {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 3 {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 4 {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 5 ومن السنة حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء" 6 وحديث عمران بن الحصين قال إني عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه قوم من بني تميم، فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا: قبلنا   1 سورة يس آية (12) . 2 سورة القمر آية (52-53) . 3 سورة الحج (70) . 4 سورة يونس آية (61) . 5 سورة فاطر آية (11) . 6 سيأتي تخريجه حيث ذكره المصنف. ص () . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 جئناك لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر قال: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء" 1. فكل شيء قد كتب ومضى به القدر وعُرِفَ أهل الجنة وأهل النار يقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه: "كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: "ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله تعالى مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة" قال: فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: "من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة فقال: اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ:- {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 2. المرتبة الثالثة: الإيمان بعموم مشيئة الله عزوجل وأنها الموجبة لكل ما في الوجود فما وقع في الوجود من عمل فإنما وقع بمشيئة الله، وما لم يقع إنما لم يقع لأن الله عزوجل لم يشأ وقوعه ولو شاء وقوعه لوقع، وهذا معنى قول المسلمين:- ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن قال عزوجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} 3 {وَمَا يَذْكُرُونَ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 4 {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} 5 {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء} 6   1 سيأتي تخريجه ص (414) . 2 سورة الليل من آية (5-10) . 3 سورة الإنسان آية (30) . 4 سورة المدثر آية (56) . 5 سورة السجدة آية (13) . 6 سورة الأعراف آية (155) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} 1 {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} 2 {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3 وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "اشفعوا فلتؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء" 4. وفي قصة نومهم في الوادي قال - صلى الله عليه وسلم: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها حين شاء" 5. وغير ذلك من الأدلة التي تدل على أن الله عزوجل له المشيئة النافذة في خلقه فكل صلاح وخير وطاعة وإيمان وقعت في هذه الحياة إنما وقعت بمشيئته جل وعلا ولو شاء لم تقع قال تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} 6. وكل فساد وانحراف ومعصية وكفر وقع في هذه الحياة إنما وقع بمشيئة الله عزوجل ولو شاء لم يقع قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} 7 {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 8 {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 9 {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} 10. ويعتقد السلف أن الله عزوجل يهدي من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله.   1 سورة الكهف آية (69) . 2 سورة الأعراف آية (188) . 3 سورة آل عمران آية (26) . 4 أخرجه خ. كتاب التوحيد (ب. المشيئة والإرادة) 9/112. 5 المصدر السابق. 6 سورة يونس آية (16) . 7 سورة البقرة آية (253) . 8 سورة الأنعام آية (112) . 9 سورة الأنعام آية (149) . 10 سورة السجدة آية (13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وقد دلت الآيات الكثيرة على هذا منها قوله عزوجل: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} 1 {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} 2 {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 3 {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} 4 {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 5. ولا بد أن يعلم هنا أن الله عزوجل أعلم بخقله وأخبر وأنه جل وعلا الرحيم الحكيم المحمود على كل فعل فمن هداه الله عزوجل فذلك محض تكرم وتفضل منه سبحانه من غير استحقاق من العبد لذلك، قال عزوجل: {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإيمَانِ} 6 وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 7. وقال - صلى الله عليه وسلم- يرتجز ومعه المسلمون في حفر الخندق: "والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا" 8 قال تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} 9 الآية. وله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة فيمن هدى وأضل لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه المناسب.   1 سورة الأعراف آية (155) . 2 سورة الرعد آية (27) . 3 سورة إبراهيم آية (27) . 4 سورة الكهف آية (17) . 5 سورة الأنعام آية (39) . 6 سورة الحجرات آية (17) . 7 سورة الأعراف آية (43) . 8 أخرجه خ. كتاب الجهاد ب. حفر الخندق 4/21، م. كتاب الجهاد ب. غزوة خيبر 3/1430. 9 سورة النساء آية (94) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فهدايته جل وعلا مع أنه تفضل منه فهو أيضا وضع لها في الموضع المناسب إذ هذا مقتضى وصفه جل وعلا بالحكمة قال سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} 1. ومن ضل فإن الله سبحانه لم يظلمه شيئاً ولم يبخسه حقه إنما منعه فضله وهدايته، وذلك أيضاً لحكمة بالغة فإن الضال ليس بمحلٍ للهداية فهدايته وضع لها في غير موضعها قال عزوجل: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} 2. فكل من ضل عن الحق فإنه من هذا الصنف الذين علم الله عزوجل أنه لا خير فيهم ولو علم فيهم خيراً لهداهم. بقي هنا مسألة تتعلق بالمشيئة وهي: أنه لا تلازم بين المشيئة والمحبة وذلك أن المشيئة لا تأتي إلا بمعنى الإرادة الكونية القدرية حيث الإرادة تنقسم إلى نوعين: النوع الأول: الإرادة الكونية القدرية مثل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 3 {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 4 {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} 5. وغير ذلك من الآيات، وهذا النوع من الإرادة بمعنى المشيئة إذ لابد من وقوعه لأنه يتعلق بالقضاء والأمر الكوني القدري. النوع الثاني: الإرادة الدينية الشرعية مثل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ   1 سورة الأنعام آية (53) . 2 سورة الأنفال آية (23) . 3 سورة هود آية (107) . 4 سورة البقرة آية (253) . 5 سورة الأنعام آية (125) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 1 الآية {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} 2 {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 3. فهذا النوع من الإرادة ليس بمعنى المشيئة وإنما تعلقه بما يحب الله ويرضى فقد يقع وقد لا يقع فلا تلازم بينه وبين المشيئة4. المرتبة الرابعة: الإيمان بأن الله خالق كل شيء ومن ذلك العباد وأفعالهم فلا يخرج شيء في هذا الوجود عن ملكه وخلقه فهو خالق كل عامل وعمله وكل صانع وصنعته، وما من حركة ولا سكون في هذا الكون إلا وهو خالقه وربه لا يشركه في ذلك أحد بل هو المتفرد سبحانه بالخلق وحده. قال عزوجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 5. وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 6. وقال - صلى الله عليه وسلم: "إن الله خالق كل صانع وصنعته" 7. فهذا أربع مراتب يؤمن بها السلف ويثبتونها للباري جل وعلا، فمن أثبتها وآمن بها فقد آمن بالقدر ومن أنكرها أو أنكر شيئا منها فقد كفر بالقدر8. ثالثا: مسائل تتعلق بالإيمان بالقدر أولا: قيام الحجة على الخلق: مع ما تقدم من بيان مراتب الإيمان بالقدر فإن السلف يعتقدون أن الله عزوجل له الحجة البالغة على خلقه ويتضح ذلك بأمور:   1 سورة النساء آية (26-27) . 2 سورة المائدة آية (6) . 3 سورة الأحزاب آية (33) . 4 انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 8/188، 476. 5 سورة الزمر آية (62) . 6 سورة الصافات آية (96) . 7 سيأتي تخريجه حيث أورده المصنف ص (96) . 8 انظر: هذه المراتب الأربع بأدلتها في شفاء العليل لابن القيم ص 29-49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 1- أن الله خلق للعباد قدرة وإرادة ومشيئة وفعلا، فبالقدرة يستطيعون القيام بالتكاليف المناطة بهم، وبالإرادة والمشيئة يصح توجيه الخطاب إليهم بالأوامر والنواهي. وعلى الفعل يقع الجزاء على الخير خيرا وعلى الشر شرا، إلا أن يعفو الله جل وعلا فأثبت السلف رحمهم الله: أن الله له مع ما تقدم من تقديره السابق الحجة البالغة على خلقه بأن خلقهم على الهيئة الصالحة للتكليف والخلقة المناسبة لمخاطبتهم بالأوامر والنواهي1 وقد دل على ذلك الأدلة. قال عزوجل: في إثبات القدرة للعبد: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 2 {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} 3 {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} 4. وفي إثبات المشيئة والإرادة للعبد قال عزوجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 5 {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} 6 {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} 7 {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} 8 {كَلاّ إِنَّهُ تَذْكِرَة فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ٌ} 9 {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} 10. وقال: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْم} 11 {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} 12 {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْن} 13 {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ   1 الفتاوى 8/393-459، شرح الطحاوية ص 488. 2 سورة البلد آية (8، 9، 10) . 3 سورة الأعلى آية (2) . 4 سورة الروم آية (54) . 5 سورة الإنسان آية (30) . 6 سورة التكوير آية (28) . 7 سورة الفرقان آية (57) . 8 سورة المدثر آية (37) . 9 سورة المدثر آية (54-55) . 10 سورة الكهف آية (77) . 11 سورة الحج آية (25) . 12 سورة هود آية (15) . 13 سورة القصص آية (27) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} 1 {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} 2. إلى غير ذلك من الآيات المثبتة أن للعبد إرادة. وقال عزوجل إثبات الفعل للعبد ومؤاخذته بفعله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 3 {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 4 {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 5 {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} 6 {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} 7 وفي إثبات القدرة والمشيئة والإرادة والفعل للعبد كما أنه ظاهر من الشرع فهو ظاهر من حال الإنسان، حيث يدرك ذلك تمام الإدراك من حاله وأحواله مع الأمور في الأخذ أو الترك والفعل أو عدمه والإرادة وعدمها، ومن أنكر ذلك فقد أنكر أظهر الأمور وأوضحها وأجلاها، فالسلف يثبتون هذه الأمور مع إثباتهم للقدر بمراتبه الأربع المتقدم ذكرها، فتكون قدرة العبد هي من إقدار الله عزوجل له، وإرادته ومشيئته تابعة لمشيئة الله وإرادته لا يخرج عنها، كما قال عزوجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . وكذلك فعل العبد إنما وقع بإقدار الله له على هذا الفعل ومشيئته وخلقه جل وعلا لفعل العبد على ما تقدم بيانه في خلق الأعمال. 2- إرسال الرسل وإنزال الكتب والشرائع وترتيب الجزاء عليه. يعتقد السلف أن الله عزوجل مع خلقه للعباد الإرادة والمشيئة والقدرة على الفعل أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، فدعوا العباد إلى الله عزوجل ووضحوا وبينوا طريق النجاة والفلاح، وجاهدوا في الله حق   1 سورة الأحزاب آية (29) . 2 سورة الروم آية (39) . 3 سورة المدثر آية (38) . 4 سورة الأعراف آية (43) . 5 سورة النحل آية (91) . 6 سورة الطلاق آية (2) . 7 سورة النساء آية (93) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 جهاده حتى يحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة وتقوم الحجة على الخلق بالتكليف، قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 12 3- عدم التكليف بما لا يطاق. يعتقد السلف مع ما تقدم أن الله من فضله ورحمته بخلقه لم يكلفهم إلا ما هو في طاقتهم، فلم يكلفهم ما يشق ويثقل عليهم فعله وإن كانوا مستطيعين لذلك رحمة منه وتفضلا قال جل وعلا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} 3 {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} 4 قال ابن جرير: "يعني بذلك فيتعبدها إلا بما يسعها فلا يضيق عليها ولا يجهدها"5 وهو تحقيق لقوله عزوجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 6 {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} 78. ثانيا: تنزه الله جل وعلا عن الظلم: ويعتقد السلف أن الله عزوجل له القدرة المطلقة والسيادة المطلقة، وأنه جل وعلا منزه عن الظلم، فقد حرم الظلم على نفسه مع قدرته جل وعلا على كل شيء، فقال جل وعلا: {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} 9 وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 10 {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} 11 {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً   1 سورة النساء آية (165) . 2 انظر: الفتاوى 8/452-466، طريق الهجرتين لابن القيم ص 413. 3 سورة البقرة آية (286) . 4 سورة الأنعام آية (152) . 5 تفسير ابن جرير 3/145. 6 سورة البقرة آية (185) . 7 سورة الحج آية (78) . 8 انظر: طريق الهجرتين لابن القيم ص 135، شرح العقيدة الطحاوية 3/503-505. 9 سورة الشعراء آية (209) . 10 سورة فصلت آية (46) . 11 سورة آل عمران آية (140) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 يُضَاعِفْهَا} 1 {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 2 {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} 3 {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} 4 {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} 5. وقال عليه الصلاة والسلام فيما يروي عن ربه عزوجل: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجلته بينكم محرما فلا تظالموا"6. وغناه جل وعلا وقدرته وربوبيته أمور تجعل الظلم منتفيا عنه سبحانه والظلم عند السلف هو: وضع الشيء في غير موضعه وهذا منتفٍ عنه، إذ هو العدل الحكيم فلا يظلم الناس شيئا، ومن ذلك أنه لا يحمل العباد في القيامة سيئات لم يعملوها ولا ينقص من حسناتهم7 - كما دلت عليه الآيات السابقة. ثالثا: إثبات الحكمة له جل وعلا في فعله وأمره: يعتقد السلف أن الله عزوجل حكيم في فعله وأمره قال عزوجل فيما حكاه الله عزوجل عن ملائكته: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 8 وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 9 {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} 10 {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 11 إلى غير ذلك من   1 سورة النساء آية (40) . 2 سورة آل عمران آية (25) . 3 سورة النساء آية (124) . 4 سورة غافر آية (17) . 5 سورة طه آية (112) . 6 أخرجه م. كتاب البر 4/1994، من حديث أبي ذر رضي الله عنه. 7 انظر: الفتاوى 8/505، جامع العلوم والحكم، ص 211، شرح العقيدة الطحاوية ص 507-511. 8 سورة البقرة آية (32) . 9 سورة آل عمران آية (18) . 10 سورة الأنعام آية (73) . 11 سورة يوسف آية (100) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الآيات الكثيرة التي تدل على إثبات الحكمة له جل وعلا صفة من صفات ذاته لا تنفك عن فعله وأمره جل وعلا، ومن نظر في نفسه وما حوله من خلق الله أدرك أنه صدر عن حكيم خبير، وأنه إنما خلق لغاية وحكمة، وكذلك أمره جل وعلا وشرعه فيه دلالة واضحة على حكمة المشرع جل وعلا. ويعتقد السلف أن الله إنما خلق الجن والإنس لغاية وحكمة وهي عبادته جل وعلا فلم يخلقهم عبثا ولم يكلفهم شططا. وله جل وعلا الحكمة البالغة في قدره وقضائه الذي قضاه على العباد وقد تعلم هذه الحكمة وتظهر وقد لا تعلم ولا يضر عدم العلم بها إذ المراد هو الإيمان بأنه الحكيم جل وعلا في فعله وأمره1. رابعا: التلازم بين الإيمان بالقدر والتوحيد: يقول ابن عباس - رضي الله عنه -: "الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه بالقدر توحيده"2، كيف صار الإيمان بالقدر ينظم التوحيد والتكذيب بالقدر ينقض التوحيد؟ الجواب عن ذلك أن الإيمان بالقدر على ضوء ما تقدم هو اعتراف بالسيادة الكاملة للباري جل وعلا على ملكه، والتكذيب بالقدر وصف للباري جل وعلا بالعجز وخروج أمور كثيرة عن ملكه. وذلك أن الإيمان بالقدر إيمان بعموم علم الله عزوجل وأنه لا يغيب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ولا يغيب عنه الظاهر ولا الخفي، ولا الجزء ولا الكل كل ذلك في علمه، والتكذيب بذلك وصف له جل وعلا بالجهل وعدم الإحاطة، والجاهل   1 انظر: الفتاوى 8/377، شفاء العليل ص 190. 2 شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي 3/623. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وعديم الإحاطة لا يكون ربا ولا إلها تعالى ربنا عن ذلك. أما الكتابة فإنها تأكيد للعلم وتأكيد للسيادة على الكون في انتظامه على ما هو مكتوب لا يخرج عنه قيد شعرة، فالكتابة دليل على عظمة هذه السيادة والربوبية. أما المشيئة فشأنها عظيم، فإثباتها إثبات لربوبية الله عزوجل وسيادته السيادة الكاملة والمباشرة على خلقه، فإرادته جل وعلا ومشيئته نافذة فيهم في الصغير والكبير والحقير والجليل، ومن أنكرها فقد طعن في هذه الربوبية المطلقة على الخلق، لأن إنكارها معناه أنه يوجد في هذا الوجود شيء لا يريده الله ولا يشاؤه، وقد يشاء أمرا فلا يقع، فأي طعن في ربوبية الله عزوجل أعظم من هذا الطعن، وأي تنقص للرب جل وعلا أعظم من هذا التنقص؟ وهو كاف في نقض التوحيد وانهدام أركانه، لأنه إذا كانت مشيئته غير نافذة فملكه ناقص وعجزه ظاهر، ومن هذه صفته لا يصلح للربوبية ولا أن يكون معبودا تعالى الله عن ذلك. ومعلوم من حال ملوك البشر أن الملك الذي يصدر شعبه عن رغبته وينصاع لأمره وإرادته فيهم أعظم ملكا من الملك الذي يأمر ولا يطاع ويريد ولا تنفذ إرادته، بل هذا الأخير ليس له من الملك في الحقيقة إلا اسمه، فالله عزوجل أحق بإثبات الحال الأكمل، وملكه وسيادته وربوبيته أعلى وأظهر من كل ملك وسيادة، والأمور جميعها منوطة به جل وعلا، قال سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1 أما خلق الأعمال فهو إثبات بأن الخالق واحد ولا شريك له في ذلك، وأن جميع ما في الوجود من متحرك وساكن هو خلق له سبحانه فإثباته إثبات لعموم الخلق الذي هو من لوازم الربوبية قال عزوجل: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ   1 سورة آل عمران آية (26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1 {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} 2 فعاب على هؤلاء أن عبدوا ما لا خلق له، بل جعل الله من يخلق هو المستحق للعباد فقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 3. فمن أنكر خلق أفعال العباد فقد زعم أنه يوجد خالق آخر مع الله أو من دون الله وهذا هو الكفر، لهذا ثبت عن كثير من السلف وصف القدرية المنكرين لخلق أفعال العباد بأنهم مجوس هذه الأمة4 حيث زعموا مع الله خالقين وهم العباد الذين يخلقون أفعالهم. فثبت بهذا كله أن الإيمان بالقدر بمراتبه الأربع بينه وبين التوحيد تلازم فينتقض التوحيد بالتكذيب بالقدر. خامسا: فوائد الإيمان بالقدر: تقدم بيان أن الله حكيم في خلقه وأمره جل وعلا وهو إذ جعل الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، فله في ذلك الحكمة البالغة فإن للإيمان فوائد عديدة: أولا: تعظيم الرب عزوجل التعظيم الواجب له سبحانه باعتقاد شمول علمه ونفوذ مشيئته وعموم خلقه جل وعلا لكل شيء5. ثانيا: تنشيط النفوس الصالحة إلى العمل وتخويف النفوس المفرطة لعلها تتوب وترجع إلى ربها، وذلك على ضوء قوله - صلى الله عليه وسلم-: "اعملوا فكل ميسر لما   1 سورة الصافات آية (95-96) . 2 سورة فاطر آية (40) . 3 سورة النحل آية (17) . 4 شرح اعتقاد أهل السنة 4/646-649. 5 شفاء العليل ص 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 خلق له، فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة"1. فإن السائر على طريق الخير يزداد نشاطه في الخير لتوقعه أن يكون قد سلك الله به طريق أهل السعادة فإن من علامة ذلك كونه على الطريق، وكذلك المنحرف عن طريق أهل السعادة فإن ذلك يخيفه من أن يكون قد سُلكَ به طريق أهل الشقاوة فيختم له به فينتبه ويفيق ويرجع إلى ربه جل وعلا لعله يسلم ويسلك طريق النجاة، وما عند الله جل وعلا لا يحصل إلا بالعمل. يوضح ذلك أن الإنسان إذا أراد أن يكون صانعا أو تاجرا أو عالما فإنه لا يمكن أن يكون كذلك بدون عمل، فإذا كان ماهرا بالصناعة يدرك أنه سيكون في المستقبل صانعا، وكذلك إذا كان ماهرا في التجارة فإنه سيكون في المستقبل تاجرا، فإذا كان راغبا في هذه الوجهة فإنه يضاعف من جهده حتى يحسن العمل ويصل إلى غايته بأكمل ما يكون من العدة والاستعداد. وكذلك إذا كان يأمل أن يكون من العلماء ويرى نفسه مهتما بالتجارة فلا شك أنه سيجتهد في صرف نفسه عن التجارة، ويجتهد في العلم حتى يبلغ الغاية التي يأملها ويتمناها، فكذلك من أيقن أن الله قد يسر كل إنسان لما خلق له فإنه إن رأى نفسه على الطريق فرح بذلك واستبشر وزادت همته ونشاطه بدافع الحرص والوصول إلى أسمى المراتب. وإذا رأى نفسه قد تنكب الصراط فإنه يخاف أن يكون قد سلك به طريق الهالكين فيحزم ويعزم حتى يسلك سيبل السعادة لعله يكون من أهلها وهذا ظاهر بحمد الله2.   1 سيأتي تخريجه فقد ذكره المصنف ص 414. 2 انظر: نحو هذا المعنى في كلام شيخ الإسلام في الفتاوى 8/276-280، وابن القيم في شفاء العليل ص 25-26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ثالثا: أن الإيمان بأن الله قد كتب كل شيء وأن ما كتب سيكون لا محالة يدفع النفوس إلى الإقدام والعمل والجد والاجتهاد وكسر طوق الخوف من الفشل والهزيمة الذي كثيرا ما يستولي على السالك أو الراغب في أمر فيثنيه عن أمره ووجهته، لهذا قال - صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل". ويروى عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "حرس أمراً أجله"1 وهذا حق فإن الإنسان إذا كان لن يموت إلا في يومه الذي قدر له، فإنه محروس محفوظ إلى حين الأجل وهذا يدفعه إلى الإقدام والشجاعة. رابعا: أن المسلم إذا آمن بالقدر على ضوء حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- "حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك" 2، أيقن بأن المقدر لا بد أن يكون فتهون عليه المصيبة إذا وقعت ووجد في احتساب الأجر فيها عند الله أعظم العزاء. كما أن الإنسان العاصي بعد توبته وإقلاعه عن ذنبه يجد في القدر عزاءً لنفسه فيقل من لومها وعتابها، فإن اللوم وعتاب النفس إذا تعدى حدَّه قد يوصل إلى اليأس أو يشغل عما ما هو أولى من الطاعة والعبادة3. النافع الضار وأن كل خير بيده وأن كل شر لا يدفعه إلا هو جل وعلا، وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأن مشيئته هي الموجبة لكل ما يقع في هذه الحياة، فإن المسلم تزداد رغبته في   1 أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/75. 2 سيذكره المصنف ص 144 من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه. 3 انظر: الفتاوى 8/77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الله جل وعلا رجاء النفع ورجاء دفع الضر فيدعوه ويلتجئ إليه، وهذا الدعاء واللجوء إليه جل وعلا هو أعظم المنة وغاية الرحمة فإنه العبادة التي من أجلها خلق الإنسان، والدعاء هو: العبادة، فلا أعظم بركة من الأمر الذي يوصل أو يشد إلى هذه الغاية التي خاتمتها مستقر رحمة الله ورضوانه، وأما من لم يؤمن بهذا فإنه لا يجد في نفسه التعظيم الواجب للباري وتقل رغبته فيه جل وعلا، إذ لا خير يرجى جلبه ولا شر يُرْجى دفعه، فبالتالي لا يسأل الله عزوجل ولا يدعوه ولا يرغب إليه، وأي شيء على الإنسان أعظم من إحساسه بالاستغناء عن ربه وسيده ومن بيده خير الدنيا والآخرة1.   1 انظر: نحو هذا المعنى في كلام شيخ الإسلام في الفتاوى 8/214-216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 المطلب الثالث: نشأة الخلاف في القدر وأول من قال بذلك الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان وقد ورد بيانه وتوضيحه في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم متبعين لا مبتدعين، يقفون الأثر وينشطون في العمل ويعرضون عن الجدل ولم يعرف منهم رضوان الله عليهم من دخل في بدعة. وكان أول البدع ظهورا بدعة الخوارج، وكما هو معروف فإن أول ظهورهم كان في زمن الخليفة الراشد علي - رضي الله عنه -، ثم ظهرت بعدهم الشيعة في زمنه أيضاً - رضي الله عنه -، ثم ظهر نفاة القدر وذلك أواخر عهد الصحابة بعد موت الخليفة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، وقد سئل عنهم ابن عمر وابن عباس وغيرهم ممن تأخرت وفاتهم. وكان أول ظهورهم بالبصرة في العراق على يد رجل ينسب إلى الزهد يقال له معبد الجهني. وقد روى الآجري واللالكائي بإسناد جيد عن الأوزاعي أنه قال: "أول من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: سوسن كان نصرانيا فأسلم، ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد"1. ومعبد هذا كان ينسب إلى الزهد، وهو الذي أظهر القول بنفي القدر وخرج إلى المدينة وأفسد بها أناسا، وقد حذر منه الأئمة كطاووس والحسن وابن عون2 وقد قتله الحجاج صبرا مع ابن الأشعث، وقيل إن عبد الملك بن مروان الذي صلبه ثم قتله سنة (80?) 3 وقد بلغ خبر إنكارهم للقدر عبد الله بن عمر كما في صحيح مسلم عن يحيى بن يعمر قال: "كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليَّ فقلت: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريئ منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم فال: حدثني عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فذكر حديث جبريل4. ثم إن معبداً هذا أخذ عنه غيلان بن مسلم 5 القدري وقد رفع أمره إلى عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - فأتي به واستتابه فأظهر توبته فأطلقه فلم يتكلم بنفي القدر زمن عمر بن عبد العزيز، فلما توفي وتولى يزيد بن عبد الملك تكلم غيلان بنفي   1 الشريعة للآجري ص 243، السنة للالكائي 4/750. 2 انظر: الشريعة للآجري ص 242. 3 انظر: البداية والنهاية 9/38. 4 صحيح مسلم 1/37. 5 انظر: ترجمته في لسان الميزان 4/424. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 القدر وكان يزيد لا يهتم بهذا الأمر، فلما ولي هشام بن عبد الملك أحضر غيلان وذكره بتوبته أمام عمر بن عبد العزيز، فقال غيلان: أقلني يا أمير المؤمنين فوالله لا أعود، قال هشام: لا أقالني الله إن أقلتك هل تقرأ فاتحة الكتاب قال: نعم، قال: اقرأ الحمد لله رب العالمين، فقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال قف على ما استعنته؟ على أمر بيده لا تستطيعه أو على أمر في يدك. اذهبا فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه1. ثم لما اعتزلت المعتزلة بقول واصل بن عطاء2 في مرتكب الكبيرة بأنه في منزلة بين المنزلتين انضم إليه عمرو بن عبيد3 فضموا إلى بدعتهم في الإيمان وإنكَارَهم خروج أحد من النار وخلود أهل الكبائر في النار وإنفاذ الوعيد إنكارهم للقدر. ونفي القدر كانت له مرحلتان: المرحلة الأولى إنكار العلم السابق وكان على هذا معبد الجهني وبعض القدرية وقد كفرهم الأئمة بهذا، ثم إنهم رجعوا عن هذا وأنكروا المشيئة وخلق الأعمال وعموم القدرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن نفيهم العلم والكتابة السابقة: "وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين بني أمية في أواخر عصر عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة، وكان أول من ظهر عنه ذلك بالبصرة معبد الجهني، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرؤا منه وأنكروا مقالتهم كما قال   1 روى هذا عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 2/429، واللالكائي في السنة 4/714 وإسناده حسن فيه مؤمل بن إسماعيل قال عنه في التقريب ص 353، صدوق سيء الحفظ. 2 انظر: ترجمته في لسان الميزان 6/214، سير أعلامم النبلاء 5/464. 3 انظر: ترجمته وذم الأئمة له لبدعته في الكامل لابن عدي 5/175، الميزان 3/273، تاريخ بغداد 12/166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 عبد الله بن عمر … وكذلك كلام ابن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير، حتى قال الأئمة كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم فيهم: إن المنكرين لعلم الله المتقدم يكفرون. ثم كثر خوض الناس في القدر فصار جمهورهم يقر بالعلم المتقدم والكتاب السابق، إلا أنهم ينكرون عموم مشيئة الله وعموم خلقه وقدرته ويظنون أنه لا معنى لمشيئته إلا أمره فما شاء فقد أمر به وما لم يشأ لم يأمر1 به. ثم إن المعتزلة قعدوا لأنفسهم قواعد تتفق مع مخالفتهم التي انحرفوا بها عن الشرع. وأول هذه القواعد زعمهم: أن العقل مقدم على الشرع وحاكم عليه، وأن الشرع متى ما خالف العقل في زعمهم فإنه يجب اطراحه أو تأويله قال عبد الجبار المعتزلي: "اعلم أن الدلالة أربعة: حجة العقل والكتاب والسنة والإجماع ومعرفة الله لا تنال إلا بحجة العقل". ثم قال: "الكلام في أن معرفة الله لا تنال إلا بحجة العقل، فلأن ما عداها فرع على معرفة الله تعالى بتوحيده وعدله، فلو استدللنا بشيء منها على الله ولحال هذه كنا مستدلين بفرع للشيء على أصله وذلك لا يجوز"2. ومراده هنا بقوله معرفة الله أي من ناحية صفاته جل وعلا وأفعاله، فقدموا هنا حجة العقل على الشرع ليردوا الشرع الصريح الواضح في إثبات ما يخالف مذهبهم بهذا الزعم. وهذا القول منهم قلب للحق على مقتضى العقل، لأن الله عزوجل بصفاته وأفعاله لا يمكن للعقل الوصول إلى العلم به إلا على وجه الإجمال، وإن كان الإنسان مفطورا على الإيمان بالله والإقرار له بالربوبية،   1 الفتاوى 8/228. 2 شرح الأصول الخمسة ص 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ولكن هذا الإقرار لا يعطي الإنسان علما وافيا عن الله عزوجل، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الوصول إلى معرفة الله على التفصيل إلا منه جل وعلا وذلك بطريق الوحي. لهذا تخبط المعتزلة في كلامهم عن الله عزوجل وضلوا فيه جل وعلا ضلالا بعيدا سواء في صفاته أو في الكلام على أفعاله سبحانه وتعالى. بعد هذا قعد المعتزلة أصل (العدل) وهو الأصل الثاني من أصولهم وينسبون أنفسهم إليه بقولهم: (أهل العدل) وقد نمقوا بيانهم للمراد بالعدل بألفاظ ظاهرها التنزيه والتعظيم لله عزوجل، وباطنها تعجيز الله والحد من قدرته وسيادته والرد لشرعه ودينه. فقال عبد الجبار المعتزلي في تعريفه للعدل: هو توقير حق الغير واستيفاء الحق منه، ثم قال في تطبيق هذا التعريف على عدل الله "وأما علوم العدل فهو أن يعلم أن أفعال الله تعالى كلها حسنة وأنه لا يفعل القبيح ولا يخل بما هو واجب عليه وأنه لا يكذب في خبره ولا يجور في حكمه"1. فهذه العبارات من سمعها ظن أن المراد بها حق، فإن قولهم: إن أفعال الله تعالى كلها حسنة وأنه لا يفعل القبيح ولا يخل بما هو واجب عليه، يدخل تحتها أمور عديدة: أولها: أن الحسن والقبح إنما يعرف بالعقل وما حسن في العقل من الإنسان حسن من الله عزوجل وما قبح في العقل من الإنسان قبح من الله عزوجل، فهذا فيه تشبيه وتحكم في أفعال الله عزوجل بميزان النظر البشري. ثانيها: أن ما حسن يجب على الله أن يفعله، وما قبح لا يجوز له فعله، فهذان الأصلان جعلهما المعتزلة في كلامهم ميزان العدل الإلهي، فكل فعل أردوا إثباته أو نفيه عرضوه على هذا الميزان، فإن كان موافقا لهذا الميزان   1 شرح الأصول الخمسة ص 132-133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 قبلوه وقالوا به، وإن خالف هذا الميزان ردوه ولم يقبلوه ولو قامت الأدلة الشرعية الصحيحة على إثباته، وزعموا في ردهم له أنه يخالف عدل الله وحكمته، وما لم يعلم أن الله عدلٌ حكيمٌ لا يمكن أن تعرف صحة الشرع. وهذا الميزان الجائر قد رُدت به أمور قطعية ورد الشرع بها، وأُثبت به أمور لم ترد في الشرع بل الدليل الشرعي على خلافها وهذه الأمور هي: أولا: زعموا أن الله خلق الخلق لينفعهم وهذا لم يرد في الشرع بل الذي ورد قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. ثانيا: زعموا أن الله لا يضل أحدا، وأنه لم يختم على قلوب الكفار لأن هذا عندهم قبيح ينزه الله عنه، وهذا باطل فقولهم قبيح ينزه الله عنه غير صحيح لوجهين: 1- أن هذا ثبت في الشرع وهو الحاكم على كل شيء. 2- أن الله ثبت أنه عدل حكيم، فإضلاله لمن ضل إنما بمقتضى عدله جل وعلا وحكمته، وليس باللزوم أن يظهر لنا وجه هذا العدل وهذه الحكمة. ثالثا: زعموا أن الله لم يقدر على العباد المعاصي فردوا بذلك ما ثبت في السنة من أن الإيمان بأن الله يقدر الخير والشر ركن من أركان الإيمان. رابعا: زعموا أن الله لا مشيئة له نافذة في خلقه لأن هذا إجبار وهو قبيح ينزه الله عنه، فردوا بذلك الأدلة الثابتة في الشرع مع أن هذا ليس جبرا لأن العباد لهم مشيئة أيضا وقد جاءهم الشرع، وقد تقدم بيان قول السلف في القدر بالتفصيل. خامسا: أنكروا خلق أفعال العباد، وزعموا أن هذا فيه نسبة فعل القبائح إلى الله عزوجل، وهذا قبيح.   1 سورة الذاريات آية (56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وأهل السنة لا يقولون إن الله يفعل القبائح بل هو منزه جل وعلا عن ذلك، لأن المنسوب إلى الله هو الخلق للفعل على مقتضى الدلالة الشرعية وكمال الربوبية، أما الفعل فهو فعل العبد على ما تقدم بيانه في مذهب أهل السنة. سادسا: أن الله يجب عليه فعل الأصلح لعباده، فأوجبوا على الله ما لم يوجبه جل وعلا على نفسه افتراءً عليه. وهكذا نرى أن نفي القدر مر بعدة مراحل، أولها نفي العلم الإلهي السابق لأفعال العباد وتبعه إنكار الكتابة وعموم المشيئة وخلق أفعال العباد، ثم إن نفي القدر خف بفعل إنكار السلف وتكفيرهم للقائلين بهذا وقوة الشرع والسنة وارتباط الناس بها إلى إثبات العلم والكتابة وإنكار المشيئة والخلق، ثم إن المتكلمين المعتزلة صاغوا هذا النفي وقعدوه بقواعد يلتزمون بأصولها ويختلفون كثيرا في فروعها، إذ مناطها العقل، والعقول مختلفة فلا تجدهم يتفقون على فرع، وهذه القواعد أدت إلى توسيع الدائرة في نفي القدر وإلى القول على الله بغير علم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 المطلب الرابع: التعريف بالقدرية القدرية اسم يطلق على من نفى القدر وقد سبق بيان أن المعتزلة تبنوا نفي القدر وضموه إلى بدعهم الأخرى، فنعرف هنا بالمعتزلة وبالزيدية الذين تبنوا مذهب المعتزلة وهم المعنيون برد المصنف في هذا الكتاب: أولا: المعتزلة: هم أتباع واصل بن عطاء الغزال تلميذ الحسن البصري، وكان زمنه بين أيام عبد الملك بن مروان وأولاده الثلاثة وعمر بن عبد العزيز، وكان اعتزل الحسن البصري بسبب قوله في مرتكب الكبيرة، وذلك أنه جاء رجل إلى حلقة الحسن البصري فقال: يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 يكفرون أصحاب الكبائر وجماعة يرجئونهم فلا تضر مع الإيمان عندهم كبيرة، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادا؟ فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن ولا كافر بل هو في منزلة بين المنزلتين، ثم قام واعتزل إلى أسطوانة المسجد يقرر ما أجاب عن هذه المسألة. فقال الحسن البصري: "اعتزل عنا واصل، فسمي هو وأصحابه معتزلة، ثم استقر مذهب الاعتزال بعد ذلك على خمسة أصول وهي: أولا: التوحيد، وهو عندهم نفي صفات الباري جل وعلا، وإثبات أسماء لا معاني لها كقولهم عالم بلا علم قادر بلا قدرة. ثانيا: العدل، وحقيقته عندهم نفي قدر الله عزوجل ومشيئته النافذة على خلقه، وأن العباد خالقون لأفعالهم، فسموا لذلك مجوس هذه الأمة، وسموا قدرية لنفيهم القدر، وهم يلقبون أنفسهم أهل العدل والتوحيد. ثالثا: إنفاذ الوعيد، وهو أن مرتكب الكبيرة عندهم إذا لم يتب فهو من الخالدين في النار. رابعا: المنزلة بين المنزلتين، وهو قولهم إن الفاسق في الدنيا لا يسمى مؤمنا ولا كافرا. خامسا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه جواز الخروج على الأئمة عندهم وقتالهم بالسيف. وعلى هذه الأصول الخمسة يقوم مذهب الاعتزال، وهم ينقسمون إلى إحدى وعشرين فرقة، ذكرها أصحاب كتب المقالات1.   1 انظر: شرح الأصول الخمسة ص 124-200، الملل والنحل بهامش الفصل 1/52-53، الفرق بين الفرق ص167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ثانيا: الزيدية: 1- نشأتها: الزيدية إحدى الفرق التي تنسب إلى التشيع، وهم ينتسبون إلى زيد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وكانت ولادته حوالي ثمانين من الهجرة، وقتل سنة اثنتين وعشرين ومائة للهجرة النبوية، وكان من خبره: أنه التف عليه طائفة من الشيعة وكانوا نحوا من أربعين ألفا، فنهاه النصحاء عن الخروج، وقال له محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب: إن جدك خير منك وقد التف على بيعته من أهل العراق ثمانون ألفا ثم خانوه أحوج ما كان إليهم وإني أحذرك من أهل العراق، فلم يقبل بل استمر يبايع الناس في الباطن في الكوفة على كتاب الله وسنة رسوله، حتى استفحل أمره بها في الباطن وهو يتجول من منزل إلى منزل، وما زال كذلك حتى دخلت سنة ثنتين وعشرين ومائة فأمرهم أن يتأهبوا للخروج أول هذه السنة، فشرعوا في أخذ الأهبة لذلك، فانطلق رجل يقال له: سليمان بن سراقة إلى يوسف بن عمر نائب العراق فأخبره وهو بالحيرة يومئذ خبر زيد ومن معه من أهل الكوفة، فأرسل يوسف بن عمر يتطلبه ويلح بطلبه، فلما علمت الشيعة ذلك اجتمعوا عند زيد بن علي فقالوا له: ما قولك يرحمك الله، في أبي بكر وعمر؟ فقال: غفر الله لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي تبرأ منهما، وأنا لا أقول فيهما إلا خيرا، قالوا: فلم تطلب إذاً بدم أهل البيت؟ فقال: إنا كنا أحق الناس بهذا الأمر، ولكن القوم استأثروا علينا به ودفعونا عنه ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا قد ولوا فعدلوا، وعملوا بالكتاب والسنة 1، فقالوا: فلم تقاتل هؤلاء إذاً؟   1 قال ابن كثير في تعليقه على هذا الكلام: وفي مذهبهم حق وهو تعديلهم الشيخين، وباطل وهو اعتقاد تقديم علي عليهما، وليس علي مقدما عليهما بل ولا على عثمان على أصح قولي أهل السنة للأحاديث الثابتة والآثار الصحيحة الثابتة عن الصحابة. البداية والنهاية 9/371. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 قال: إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظلموا الناس وظلموا أنفسهم وإني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم- وإحياء السنة وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيراً لكم ولي، وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل، فرفضوه وانصرفوا عنه ونقضوا بيعته وتركوه فلهذا سموا الرافضة من يومئذ ومن تابعه من الناس على قوله سموا الزيدية. ثم إن زيدا عزم على الخروج بمن بقي معه من أصحابه فواعدهم ليلة الأربعاء من مستهل صفر من تلك السنة، فبلغ ذلك يوسف بن عمر فكتب إلى نائبه على الكوفة، وهو الحكم بن الصلت، يأمره بجمع الناس كلهم في المسجد الجامع فجمع الناس لذلك يوم الثلاثاء سلخ المحرم، قبل خروج زيد بيوم، وخرج زيد ليلة الأربعاء في برد شديد ورفع أصحابه النيران وجعلوا ينادون: يا منصور يا منصور فلما طلع الفجر إذا قد اجتمع معه مائتان وثمانية عشر رجلا، فجعل يقول: سبحان الله أين الناس؟ فقيل: هم في المسجد محصورون، وكتب الحكم إلى يوسف يعلمه بخروج زيد ابن علي فبعث إليه بسرية إلى الكوفة، وركبت الجيوش مع نائب الكوفة، وتقاتل الفريقان في اليوم الأول إلى المساء، وفي اليوم الثاني إلى المساء حيث أصيب زيد بسهم في جبهته نفذ إلى دماغه فلما أخرج منه مات لساعته ودفن من ليلته وتفرق بعده أصحابه، ثم أخرج يوسف بن عمر جثته وصلبه1. فالزيدية تنتسب إلى زيد هذا ويعدونه الإمام الرابع لهم، وأول الأئمة لديهم علي بن أبي طالب، ثم الحسن ثم الحسين ثم زيد بن علي ثم كل من قام ودعا إلى نفسه وكان موصوفا بالعدل والأمانة وهو من أولاد فاطمة. وقد قامت لهم دولة في اليمن في أواخر القرن الثالث الهجري على يد يحيى بن الحسين بن القاسم الملقب بالهادي واستمرت دولتهم بين مد وجزر وظهور وكمون إلى عام (1382?) .   1 البداية والنهاية 9/367-372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 2- تبني الزيدية لمذهب المعتزلة: الزيدية تميزت في أول ظهورها بمسألة الإمامة وأنهم يرونها كما تراها الشيعة الاثنى عشرية في علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين بن علي، ثم يختلفون عن الاثنى عشرية بأن الإمامة تثبت لكل من قام ودعا الخلق إلى طاعة الله تعالى وكان من ولد الحسن أو الحسين وهو جامع لخصال العدل والعلم فلهذا قالوا: بإمامة زيد بن علي بعد الحسين ولم يعدوا أباه زين العابدين ولا أخاه محمد الباقر ولا ابن أخيه جعفر الصادق من أئمتهم لأنهم لم يخرجوا ولم يدعوا لأنفسهم. هذا ما تميز به الزيدية من الأقوال، وأما بقية أقوالهم في مسائل الاعتقاد فإنها مبنية على مذهب المعتزلة. وعلاقة الزيدية بالمعتزلة ذكر أنها قديمة من أيام زيد بن علي، فقد ذكر الشهرستاني في الملل والنحل أن زيد بن علي أخذ الاعتزال عن واصل بن عطاء الغزال رأس المعتزلة. وهذا لم ينقل عن زيد بن علي بسند يطمأن إليه، كما أن الشهرستاني ذكر أن محمد الباقر اعترض على أخيه زيد في أخذه عن واصل لأن واصلا يرى أن عليا أخطأ في قتاله أهل الجمل وصفين وأن كلا الفريقين على خطأ. وهذا وإن لم ينقل بسند صحيح فإن فيه دلالة على مانع صحيح يمنع زيدا من الأخذ عن واصل، والله أعلم. ويظهر بعد هذا الالتقاء بين الزيدية والمعتزلة حيث ذكر الأشعري في مقالاته (1/154) خروج إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في البصرة سنة خمس وأربعين ومائة أيام المنصور قال: وشخص عن البصرة في المعتزلة وغيرهم من الزيدية يريد محاربة المنصور ومعه عيسى بن زيد بن علي، فبعث إليه أبو جعفر بعيسى ابن موسى وسعد بن سلم فحاربهما إبراهيم حتى قتل، وقتلت المعتزلة بين يديه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فهذا يدل على الالتقاء بين الزيدية والمعتزلة، ولعل ما يقرب بينهما هو الخروج وذلك أن الزيدية يرون أنهم أحق بالإمامة، والمعتزلة يرون الخروج على الأئمة إذا جاروا. ثم يظهر الالتقاء واضحا أكثر مع القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المتوفى عام (240?) ، وذلك أنه أخذ الفقه عن علماء المذهب الحنفي، وأخذ عن شيوخ المعتزلة في وقته في الأصول، وله مؤلفات منها العدل والتوحيد (الصغير) والعدل والتوحيد (الكبير) ، الأساس في علم الكلام وغير ذلك من الكتب1. ثم جاء بعد القاسم حفيده يحيى بن الحسين الملقب بالهادي، الذي استولى على اليمن وهو معتزلي كتب في الاعتزال كتبا كثيرة2 فصار بعده الزيدية معتزلة لا يختلفون عن المعتزلة إلا في الإمامة. قال الشيخ صالح المقبلي "كالزيدية في هذا الجبل من اليمن هم معتزلة في كل الموارد إلا في شيء من مسائل الإمامة وهي مسألة فقهية وإنما عدها المتكلمون من فنهم لشدة الخصام كوضع بعض الأشاعرة المسح على الخفين في مسائل الكلام … والمخالف في مثل هذه المسائل لا ينبغي أن يعد فرقة كما قال السيد الهادي بن إبراهيم الوزير - رحمه الله تعالى - وهو من أشد الناس شكيمة في مذهب الزيدية والتعصب لهم والرد على مخالفيهم فقال فيهم وفي المعتزلة: "وإنهما فرقة واحدة في التحقيق إذ لم يختلفوا فيما يوجب الإكفار والتفسيق) ذكر هذا في خطبة منظومتة التي سماها (رياض الأبصار) عدد فيها أئمة الدعاة من الزيدية وعلماءها وعلماء المعتزلة متوسلا بهم، فذكر الأئمة الدعاة من الزيدية، ثم علماء المعتزلة ثم علماء الزيدية   1 انظر: كتاب الزيدية ص 115 نقلا عن الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية لحميد المحلى 2/1 مخطوط. 2 انظر: ثبت كتبه في مصادر الفكر الإسلامي في اليمن ص 508-517، وانظر: النقول عنه في آرائه الكلامية كتاب الزيدية ص 145-187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 من أهل البيت ثم من شيعتهم واعتذر عن تقديم المعتزلة على الزيدية بما لفظه: (وأما المعتزلة فقد ذكرت بعض أكابرهم وكراسي منابرهم، مع إجمال وإهمال إذ هم الأعداد الكثيرة والطبقات الشهيرة، ورأيت تقديمهم على الزيدية؛ لأنهم سادتها وعلماؤها فألحقت سمطهم بسمط الأئمة وذلك لتقدمهم في الرتبات، ولأنهم مشايخ سادتنا وعلماءنا القادات، وهذا الذي قال هو حقيقة الأمر في اتحاد هاتين الفريقتين كما لا يخفى على من صح أن يعد من أهل هذا الشأن، هذه كتبهم شاهدة بذلك، وإنما بعضهم يوافق هذا وبعضهم يوافق ذاك. فانظر كلام الإمام المنصور بالله في كتبه كلها، وكلام الإمام المهدي في كتبه، وكلام أبي طالب في كتبه كشرح البالغ المدرك والسيد ما نكديم والمؤيد بالله تجدها كلمات الجبائية بأعيانها مع تصريحهم بقولهم؛ المختار كلام شيخنا أبي علي أو أبي هاشم أو أبي رشيد أو غير ذلك، وكذلك كلام الهادي غالبه كلام أبي القاسم الكعبي وكذلك كلام يحيى بن حمزة موافق غالب أمره لأبي الحسين البصري ساير بسيره"1 انتهى. وبه ينتهي المراد من بيان تبني الزيدية لمذهب المعتزلة، وينتهي المراد من هذه الدراسة في هذا الفصل حيث تحدثنا فيه عن القدر والقدرية، وهما اللذان تعلق بهما عنوان الكتاب وأهم وأطول موضوعاته.   1 العلم الشامخ ص 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الفصل الثالث: التعريف بالنسخ المخطوطة ومنهج التحقيق المبحث الأول: التعريف بالمخطوط ... المبحث الأول: التعريف بالمخطوط أولا: عدد النسخ: يوجد لكتاب الانتصار ثلاث نسخ: النسخة الأولى: نسخة دار الكتب المصرية بالقاهرة برقم (818) كلام. النسخة الثانية: نسخة الأستاذ محمد بن يحيى الحداد - رحمه الله - في مدينة إبّ في اليمن في مكتبته الخاصة في بيته. النسخة الثالثة: نسخة دار الكتب المصرية بالقاهرة برقم (835) علم الكلام. ثانيا: وصف النسخ: النسخة الأولى: نسخة دار الكتب المصرية رقم (818) كلام: نسخة كاملة واضحة الخط، تم الانتهاء من نسخها في ثامن عشر من شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعمائة من الهجرة النبوية، ولم يتبين اسم كاتبها حيث لم يدون عليها اسمه، وهي نسخة مقابلة على النسخة التي نقلت عنها بدليل ذكره في مواضع عديدة في الحاشية جملة (بلغ مقابله) ولم يشر الناسخ إلى النسخة التي نقلت عنها هذه النسخة. ويبلغ عدد أوراقها (92) ورقة من القطع الكبير وعدد الأسطر في الصفحة ما بين (35) إلى (38) سطرا، وعدد الكلمات تتراوح ما بين (14) إلى (15) كلمة في السطر، ومقاسها (18× 27) سم، وقد اعتبرت هذه النسخة الأصل لأنها أقدم النسخ وأكملها، وأرمز إليها بقولي (في الأصل) . النسخة الثانية: نسخة الأستاذ محمد بن يحيى الحداد - رحمه الله - في مدينة إبّ في اليمن. هي نسخة ناقصة من أولها وتبتدئ من بداية الفصل رقم (26) من نسخة دار الكتب، ورقة (15/أ) وهي بخط واضح مشكول، وكان الفراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 من نسخها نهار الجمعة تاسع عشرة من شعبان سنة ست بعد الألف من الهجرة النبوية بخط عبد القادر بن أحمد الفناضي. وقد قوبلت على الأصل المنقول عنه، وانتهت المقابلة خامس عشر شهر شوال في سنة ست بعد الألف من الهجرة ولم يذكر الأصل الذي نقلت عنه. وعدد أوراق الموجود منها (195) ورقة من القطع المتوسط حيث عدد الأسطر (21) سطرا، وعدد الكلمات في السطر الواحد ما بين (11-13) كلمة ومسطرتها (14× 21) سم، وقد أثبت على الحواشي فيها تعليقات عديدة منقولة من بعض الكتب توضيحا لمفردة أو معلومة تتعلق بما هو وارد في الكتاب بخط مغاير للمخطوط. وقد رمزت لهذه النسخة بحرف -ح- نسبة إلى صاحبها الأستاذ محمد يحيى الحداد، رحمه الله. النسخة الثالثة: نسخة دار الكتب المصرية في القاهرة رقم (835) علم الكلام: وهي نسخة كاملة وواضحة حديثة النسخ، تم الفراغ من نسخها يوم الخميس ثلاثين من شهر رجب سنة ست وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية. بقلم محمود بن محمد بن أحمد الصياد المرصفي، وهي منقولة عن النسخة الأولى ذات الرقم (818) بدار الكتب حيث التزم الكاتب عدد أسطر الأصل وعدد الكلمات فيه ونهاية كل صفحة تقريبا وحتى الأخطاء الواردة فيها هي نفس الأخطاء وإذا تعسرت عليه كلمة فإنه يرسمها حسب ما يظهر له من قراءتها. وعدد أوراقها (92) ورقة وعدد أسطر الصفحة ما بين (35-38) سطرا وعدد الكلمات في السطر ما بين (13-15) كلمة. ولهذا لم أعتبر هذه النسخة ولم أقابل بينها وبين النسخ الأخرى لعدم الفائدة من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 المبحث الثاني: منهج التحقيق انحصر عملي في الكتاب فيما يلي: 1- نسخ الكتاب وكتابته على طريقة الإملاء الحديثة. 2- عزو الآيات القرآنية إلى السور وبيان السورة ورقم الآية. 3- تخريج الأحاديث النبوية وأكتفي بالعزو إلى البخاري ومسلم إذا ورد فيهما أو في أحدهما في الغالب ولا أتجاوزهما إلى غيرهما، فإذا لم يوجد فيهما أعزو إلى السنن والكتب المشهورة من كتب الحديث، وإذا لم يكن الحديث في الصحيحين أذكر درجة الحديث من حيث الصحة وعدمها من كلام العلماء، فإذا لم أجده أجتهد فيها في الغالب وأبين الحكم أو اكتفي بذكر حال الراوي المتكلم فيه من رجال الإسناد. 4- تخريج الآثار وعزوها إلى مصادرها. 5- ترتيب فصول الكتاب بالتسلسل. 6- عزو الأبيات الشعرية إلى قائليها ومصادرها. 7- الترجمة للأعلام المذكورين ما عدا الصحابة فلا أترجم لهم خشية الإطالة، ومن أترجم له تكون ترجمته في أول موضع يرد ذكر اسمه فيه ولا أحيل على ذلك. 8- شرح الأمثال وعزوها إلى كتب الأمثال وبيان مضرب المثل. 9- شرح المفردات الغريبة من كتب اللغة. 10- توضيح ما يكون من عبارة المصنف غير واضح ويحتمل أكثر من معنى. 11- عرفت بالفرق الوارد ذكرها ويكون التعريف أول موضع ترد فيه. 12- علقت على المسائل العقدية التي يذكرها المصنف مما رأيت أنه يحتاج إلى توضيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 13- بينت الحق في المسائل التي خالف المصنف فيها مذهب السلف وذكرت الأدلة على ذلك معتمدا على القرآن والسنة وكلام السلف. 14- أثبت الاختلاف بين نسختي الكتاب، وقد اعتمدت نسخة دار الكتب أصلا، لهذا لا أثبت في الغالب من الاختلاف في نسخة -ح- إلا ما كان فيه تغيير للمعنى خوفا من الإطالة ولكثرة الاختلافات. وأثبت ما في -ح- في المتن إذا كان أصح مما في الأصل وأشير إلى ذلك في الحاشية. الرموز المستخدمة في الرسالة: استخدمت في الرسالة الرموز بدل صريح اسم الكتاب وذلك طلبا للاختصار وهي كما يلي: خ- صحيح البخاري. م- صحيح مسلم. واعتمد فيه على تسمية النووي للأبواب. د- سنن أبي داود. ت- سنن الترمذي. ن- سنن النسائي. جه- سنن ابن ماجه. دي- سنن الدارمي. حم- مسند الإمام أحمد. وما عدا ذلك فإني أذكره باسمه. كما أرمز بحرف (ب) للباب الذي ورد فيه الحديث من كتب الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الباب الثاني: النص المحقق ... بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم الحمد لله وحده قال الشيخ الإمام الأوحد جمال الدين، مبطل حجج الزائغين، يحيى بن أبي الخير بن أسعد العِمْراني اليماني - قدس الله روحه - الحمد لله خالق الأشياء ومحكمها وموجد البرايا ومعدمها، وناقض العزائم ومبرمها، ولا شريك له في الخلق والتصوير، ولا شبه له في الفعل والتقدير، وسابق الأشياء في القدم، المنزه عن الخرس والصمم، وهادي المهتدين بفضله، وخاذل الضالين بعدله، والعالم بكل مظهر ومكنون، الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، الواحد الملك التواب غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، الموصوف بأكمل الصفات، المتعالي عن الوصف بالآفات. أحمده على إفضاله وإنعامه، وأشكره على نواله وإلهامه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله للحق داعيا، وإلى الجنة هاديا، ختم به النبيين وأنزل عليه قوله الحق المبين، وجعله معجزة له في الأولين والآخرين، وشفى به صدور المؤمنين وجعله حجة على الضالين، فقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 1. صلى الله عليه وعلى أهل بيته الأكرمين، وعلى صحابته وخلفائه الراشدين وسلم وكرم وشرف وعظم، وبعد. فانتهى إليّ العلم بأنه قدم إلى قرية إبّ2 رجل من ولاة القضاء بصنعاء ينتحل مذهب الزيدية والقدرية، لقبه أهله شمس الدين3. فأظهر القول   1 سورة الإسراء آية (82) . 2 إبّ: بفتح الهمزة وكسرها وهو الأشهر وتشديد الباء، من قرى ذي جبلة باليمن تقع جنوب العاصمة بنحو (140) كم وهي عاصمة اللواء الأخضر في منطقة زراعية خصبة تقع على سفح جبل يقال له (ريمان) . انظر: معجم البلدان 1/64، معجم المدن والقبائل اليمنية ص 5. 3 هو القاضي: جعفر بن أحمد بن عبد السلام تقدمت ترجمته في قسم الدراسة عند ذكر سبب تأليف الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 هنالك بأن العباد يخلقون أفعالهم وأن القرآن مخلوق، وغير ذلك من مذاهبهم، ودعا الناس إلى ذلك وسأل الناس المناظرة من أهل السنة. فرأيت من الحق الواجب والفرض اللازب إنشاء رسالة ونصيحة إلى أهل السنة، فيها بيان مذهب أهل الحديث بخلق الأفعال وإثبات الإرادة وما تشعب عليهما، وجعلت افتتاحها ذكر الأخبار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم- بالتحذير عن القدرية، فلما وقف عليها هذا الرجل عبس وبسر، وغضب من ذلك ونفر، وصنف في الرد على ذلك كتابا سماه (الدامغ للباطل من مذاهب الحنابل) 1، أبان فيه خفي مقاتله بما ذكر من حججه ودلائله. فقد قيل: من لم يطلع على دلائل خصمه لم يقدر على قطعه وقصمه. ومن نظر من المحققين في كتاب هذا القائل وتبين في معناه الحاصل سماه (الدامغ الباطل) ، لأنه جعل كلامه فيه الأذى والشتيمة والجفاء، ولم يراع بنفسه منصب القضاء، ولا تأدب بآداب العلماء، الذين صنفوا الكتب الموضوعة للمخالفين في كل فن من العلوم أصولها وفروعها، فاعتمدوا فيها على ذكر المعاني الدقيقة بالألفاظ الحسنة الأنيفة، ولو كان له بصر بالقرآن لتأدب بما أدب الله به أنبياءه، قال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 2 وقال لموسى وهارون عليهما السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 3. لكنه سلك طريق أسلافه وأئمته من المعتزلة والقدرية4 في الوقيعة والشتيمة لمن هو مبرأ مما رموهم به وهم الصحابة - رضي الله عنهم - وأصحاب الحديث فهم الداخلون تحت قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً} 5   1 ذكر هذا الكتاب عبد الله الحبيشي في كتابه (مصادر الفكر الإسلامي في اليمن) ص 98 وأحال على كتاب العمراني هذا. وسبق وصف المخطوط عند ذكر سبب تأليف الكتاب في الهامش. 2 سورة النحل آية (125) . 3 سورة طه آية (43-44) . 4 يأتي التعريف بهم ص 109. 5 سورة آل عمران آية (111) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وتحت قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 1. ولا يلزم على قولي هذا افتتاحي الرسالة بذكر الأخبار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في القدرية ولا في الرد عليهم، فإن تلك مذمة واردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وعن الصحابة والعلماء ولقب لهذه الفرقة لا يسع أحد إنكارها2، بل كل فريق يرد ذلك عن نفسه بما أمكنه من التأويل، والله يعلم المفسد من المصلح. وما أورده من الكلام السخف يدل على انقطاعه وقلة علمه بلا شك ولا ريب عند المحققين من أهل النظر، ولولا خشية دخول الشك والارتياب على من اطلع على كلامه أو بلغه ممن لا خبرة له بمذهب القدرية من أهل السنة لكان الإعراض عن الجواب من الصواب. فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا أخاف على أمتي مؤمنا ولا كافرا أما المؤمن فيحجزه إيمانه وأما الكافر فيقمعه كفره، وإنما أخاف عليهم منافقا عليم اللسان يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون "3. وليس يعرفهم إلا من استحكم معرفة أصول الدين الذي يعرف به الحق من الباطل وهم الحجة في كل عصر.   1 سورة الأحزاب آية (57-58) . 2 يقصد المصنف هنا - أن افتتاحه رسالته التي كتبها نصيحة لأهل السنة عن أقوال القدرية بالأدلة الواردة في ذم القدرية والرد عليهم لا تدخل تحت الشتيمة والإيذاء الذي أنكره على المعتزلي لأن هذه أثار لا يسع أحدا إنكارها. 3 أخرجه الطبراني في الصغير عن علي - رضي الله عنه - وقال: "لم يروه عن أبي إسحاق إلا عباد بن بشر ولا يروي عن علي إلا بهذا الإسناد". المعجم الصغير 2/93، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: "أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه الحارث الأعور وهو ضعيف جدا" 1/187، ولبعض هذا الحديث شاهد بسند صحيح، فقد أخرج. حم. من حديث عمر - رضي الله عنه - مرفوعا: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان" 1/22-44. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: "إسناده صحيح". انظر: 1/217-289، وأخرجه البزار عن عمر وعمران بن الحصين رضي الله عنهما. كشف الأستار 1/98. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير عن عمران رضي الله عنه. المعجم الكبير 18/237. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. المجمع 1/187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: " إن الله لاينزع العلم من صدور الرجال انتزاعا، ولكن يقبض العلماء فيتخذ الناس رؤوساً جهالا فضلوا وأضلوا"1. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "لا يخلو عصر من قائم لله بحجة "2. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من لاوأ هم"3. ومن المفترض على من عرفه الله طريق الرشد وأبان له سبيل الهدى إذا ظهرت بدعة في الدين أن يردها بما قدر عليه. قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 4 وقال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} 5.   1 أخرجه خ. كتاب العلم ب كيف يقبض العلم 1/26، م. كتاب العلم 4/59،92. من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - نحوه. 2 لم أجد مرفوعاً، وإنما ورد عن علي - رضي الله عنه - موقوفا عليه من وصيته لكميل بن زياد، فقد جاء فيها: "كذلك يموت العلم بموت حامله - اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة لئلا تبطل حجج الله وبيناته". أخرجه أبو نعيم في الحلية. 1/80. 3 أخرجه خ. كتاب الاعتصام (ب. لا تزال طائفة من أمتي على الحق) 9/82، م. كتاب الإمارة 3/1523، من حديث المغيرة بن شعبة وغيره. وليس في شيء من الروايات التي اطلعت عليها قوله: (لاوأهم) وإنما روايات الحديث أكثرها تدور على ثلاثة ألفاظ: (خذلهم، خالفهم، ناوأهم) . 4 سورة يوسف آية (108) . 5 سورة النحل آية 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وقد أخذ الله العهد على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، والعلماء ورثة الأنبياء1. قال علي - رضي الله عنه -: "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم- يوما فقال: " اللهم ارحم خلفائي. قلنا له: ومن خلفاؤك يا رسول الله؟ قال: الذين يحفظون سنتي وأحاديثي ويعلمونها الناس"2. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: قال: "نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها من لم يسمعها"3. وقال - صلى الله عليه وسلم-: "إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم "4.   1 قوله: "العلماء ورثة الأنبياء" هو من حديث أبي الدرداء، ويأتي تخريجه هامش (4) . 2 أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل (163) ، وأخرجه الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث ص30، عن علي - رضي الله عنه - به وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الأوسط المجمع 1/126، وقال: "فيه أحمد بن عيسى الهاشمي قال الدارقطني: "كذاب". وقد ذكر الحديث الذهبي في الميزان وقال: "الحديث باطل". الميزان 2/617. 3 أخرجه د. في العلم (ب. فضل نشر العلم من حديث زيد بن ثابت) 2/126، ت في العلم (ب. الحث على تبيلغ السماع) من حديث زيد وعبد الله بن مسعود، وقال الترمذي: حديث زيد حسن وحديث عبد الله حسن صحيح. 5/34، وأخرجه جه. في المقدمة (ب. من بلغ علما) عن زيد وابن مسعود وجبير بن مطعم 1/84، حم. عن ابن مسعود 1/437، وعن أنس 3/225، وعن جبير بن مطعم 4/80. وجميع هذه الروايات لا توافق اللفظ المذكور هنا وإنما يوافقه رواية الرامهرمزي في المحدث الفاصل ص 116، وهي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. ومن أراد الاستزادة فليراجع كتاب شيخنا عبد المحسن بن حمد العباد - حفظه الله - باسم هذا الحديث، أثبت فيه تواتر الحديث وأنه روي عن أكثر من عشرين صحابيا. 4 أخرجه د. كتاب العلم (ب. الحث على طلب العلم) 2/124، ت. كتاب العلم (ب. فضل العلم على العبادة) 5/48. جه. في المقدمة (ب. فضل العلم والعالم) 1/98. كلهم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. قال الترمذي: "ولا يعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة وليس هو عندي بمتصل" ثم قال: "وإنما يروى هذا الحديث عن عاصم عن داود بن جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي. وهذا أصح". انتهى. وقد وصف الحديث بالاضطراب الذهبي في الميزان ونقل عن الدارقطني أنه قال في الحديث: "عاصم ومن فوقه ضعفاء ولا يصح". انظر: الميزان 2/5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وأدلة العلماء كمعجزات الأنبياء1. ولم يزل العلماء يردون على القدرية أقوالهم ويبطلون استدلالهم ويكشفون تلبيسهم ويظهرون تدليسهم. وبذلك أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم- بقوله: "يحمل هذا العلم من خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"2. ولا تزول الشبه عن قلوب العامة إلا من حيث دخلت وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يزيل الشبه من حيث علم دخولها. روي أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن امرأتي أتت بولد أسود ونحن أبيضان فعلم النبي - صلى الله عليه وسلم- أن الشبهة قد دخلت عليه بولده، وأنه قد وقع عنده أن زوجته أتت به من غيره، ولو قال له النبي - صلى الله عليه وسلم- هو ابنك الولد للفراش، لم تزل عنه الشبهة، فعدل عن ذلك وقال له: "هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال: "ما ألوانها؟ " قال: حمر، قال له: "هل فيها من أورق؟ " - والأورق ما لونه كلون الرماد - قال: نعم إن فيها لورُقا قال: "فأنى ترى ذلك؟ " قال: لعل عرقا نزعها؟ فقال - صلى الله عليه وسلم-: "وهذا لعل عرقا نزعه.."3.   1 معنى ذلك أن أدلة العلماء تقوم بها الحجة على الناس كما أن الحجة تقوم بمعجزات الأنبياء. 2 أخرج البزار. انظر: كشف الأستار 1/86، وابن عدي في الكامل. انظر: 1/152، 3/902، وابن عبد البر في التمهيد 1/59. كلهم من حديث أبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهما - من طريق خالد بن عمرو القرشي عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب. قال ابن عدي في ترجمة خالد بن عمرو: "وهذه الأحاديث رواها خالد عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب كلها باطلة". وعندي أن خالد بن عمرو وضعها على الليث. الكامل في الضعفاء 3/902. وقد أورد ابن عدي في الكامل 1/152- 153 عدة طرق لهذا الحديث ولكنها طرق واهية. وذكر هذا الحديث ابن القيم في مفتاح دار السعادة فذكر طرقه وليس فيها طريق يخلو من مقال. انظر: مفتاح دار السعادة 1/165. 3 أخرجه خ. كتاب الطلاق (ب. إذا عرض بنفي الولد) 8/46، م. كتاب اللعان 2/1137. كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فأزال عنه الشبهة من الوجه الذي يعلم أنه يفهمه. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "لا عدوى ولا هامة ولا صفر "، فقال له أعرابي كالمعترض عليه: فما لنا نرى الإبل كالضباء فتكون النقبة بمشفر البعير فتجرب الإبل عن آخرها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "فما أجرب الأول "1. فقمعه بالحجة من حيث علم زوال الشبهة عنه، ولم يقتصر على قوله إن الله يخلق الداء. وقد أدخلت المعتزلة2، والقدرية3 على الإسلام وأهله شبها في الدين ليموهوا بها على العوام، ومن لا خبرة له بأصولهم التي بنوا عليها أقوالهم، فاتبعوا متشابه القرآن وأولوا القرآن على خلاف ما نقل عن الصحابة والتابعين المشهورين بالتفسير، لينفقوا4 بذلك أقوالهم، فهم أشد الفرق ضرار على أصحاب الحديث، ثم بعدهم الأشعرية5. لأنهم أظهروا   1 أخرجه خ. كتاب الطب (ب. لا صفر 7/111 وب. لا هامة) 7/117-119، م. كتاب السلام (ب. لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) 4/1742 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفي بعض ألفاظه زيادة قوله: "ولا طيرة". 2 سبق التعريف بهم في الدراسة. 3 هذا في النسختين بالعطف في جميع المواطن التي جمع فيها بين ذكر المعتزلة والقدرية في الكتاب، وقد جاءت بدون العطف في عنوان الكتاب وهو الصواب، لأن المعتزلة قدرية ويلقبون بكلا اللقبين، إلا أن يكون مقصود المؤلف - رحمه الله - بالقدرية تلقيب الزيدية بهذا اللقب، لأن الكتاب في الرد على القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام الزيدي، وذكر المصنف للزيدية بهذا اللقب قليل جدا بل نادر في الكتاب والله أعلم. 4 أي ليروجوا، كقوله - صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي ذر - رضي الله عنه -: "والمنفق سلعته بالحلف الكاذب"، م. الإيمان ب (غلظ تحريم الأزار) 1/102. 5 الأشعرية هم المنتسبون إلى أبي الحسن الأشعري الذي كان معتزلياً ثم رجع عن الاعتزال وأخذ بقول ابن كلاب في العقيدة وألف فيها، ثم رجع بعد ذلك إلى عقيدة السلف وأصحاب الأثر في أظهر معالمها، وذكر في كتابه مقالات الإسلاميين عقيدة أصحاب الحديث، ثم ذكر عقبها أنه يقول بكل قولهم وهي التي أرودها أيضا في كتابه الأخير - الإبانة - حيث شرح فيه عقيدة الإمام أحمد - رحمه الله - والأشعرية هم الذين تابعوه في قوله بقول ابن كلاب، وهم يثبتون لله سبع صفات، وهي: العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام - إلا أنهم يزعمون أنه كلام نفسي ويؤولون بقية الصفات الواردة في القرآن والسنة - كالعلو والاستواء والوجه واليدين والرضا والحب والغضب وغير ذلك. وهم من المرجئة في الإيمان لأنهم زعموا أنه التصديق فقط وأن الأعمال ليست منه، وسيأتي رد المصنف عليهم في عدة مواطن من الكتاب. انظر: ترجمة الأشعري في سير أعلام النبلاء 15/85، البداية والنهاية 11/210. وانظر: أقوال الأشعرية في الملل والنحل بهامش الفصل 1/119-137، أصول الدين. ص90-93 وص 309-310 الفرق بين الفرق. ص 334 رسالة في الذب عن أبي الحسن مطبوعة مع الأربعين في دلائل التوحيد. ص 107-132، أبو الحسن الأشعري وعقيدته. ص 8-16، مقالات الإسلاميين 1/345-350. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الرد على المعتزلة وهم قائلون بقولهم. فاستخرت الله سبحانه على كشف تلبيسهم، وإظهار تدليسهم بهذا الكتاب، وجعلته فصولا كل فصل فيه يشتمل على ذكر فائدة منفردة ليقرب على قارئه أخذ الفائدة منه، وقدمت ذكر مذاهب أصحاب الحديث جملة، ثم الأصول التي بنى أصحاب الحديث أقوالهم عليها وبينت انسلاخ القدرية منها. وأما الأصل الذي بنوا عليه أقوالهم فقد1 ذكرت الآيات والأدلة التي استدللت بها على خلق الله لأفعال العباد وعلى الإرادة والتعليل والتجويز2 وما أورده هذا المعترض عليها بدامغه3. فأجبت عما ذكر من الأدلة، وتركت من كلامه ما لا فائدة تحته إلا الأذية، فقدمت الأهم منها فالأهم، ثم ذكرت بعد ذلك المسائل التي وقع فيها الخلاف بين أصحاب الحديث والمعتزلة والقدرية والأشعرية وما حضرني من الأدلة من الكتاب والسنة التي نقلها أئمة الحديث في أصولهم المشهورة   1 في الأصل غير واضحة وفي - ب - (قد) وصوابها (فقد) . 2 يقصد بذلك ما ذكره في الرسالة التي أنشأها أولا فيها نصيحة أهل السنة وبيان مذهب أهل الحديث. انظر: ص 89. 3 يقصد بذلك كتاب المعتزلي الذي وصفه المؤلف بأنه (الدامغ الباطل) . انظر: ص 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 - كالبخاري 1، والترمذي 2 ومحمد بن الحسين الآجري 3، واللالكائي 4، وغيرهم وحذفت ذكر الأسانيد طلبا للإيجاز ليخف حمله ويسهل حفظه لمن أراد مطالعته. والله أسأله أن يجعله خالصا لوجهه وينفعني والمسلمين به، آمين.   1 أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري شيخ الإسلام، وإمام الحفاظ، صاحب الصحيح، المتوفى سنة (256?) . انظر: تذكرة الحفاظ 2/555. 2 أبو عيسى بن سورة الترمذي. الإمام المحدث القدوة صاحب السنن المتوفى سنة (279?) . انظر: تذكرة الحفاظ 2/633. 3 أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري. الإمام المحدث القدوة شيخ الحرم الشريف صاحب التواليف، ومنها كتاب (الشريعة) في السنة كان صدوقاً خيرا عابدا صاحب سنة وإتباع توفي سنة (360?) بمكة المكرمة. سير أعلام النبلاء 16/133، والمراد هنا كتابه (الشريعة) لأنه المشهور من كتبه في العقيدة، وهو مطبوع بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله. 4 الإمام أبو القاسم هبة الله الحسن بن منصور الطبراني الرازي. الحافظ الفقيه الشافعي محدث بغداد المتوفى سنة (418?) بالدينور. تاريخ بغداد 14/70، تذكرة الحفاظ 3/1083، البداية والنهاية 12/26، والمراد هنا كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة وقد طبع في أربع مجلدات وثمانية أجزاء بتحقيق: د. أحمد بن سعد حمدان الغامدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 1 - فصل: في بيان عقيدة أصحاب الحديث التي أدين الله بها وهي الإيمان بأن الله سبحانه واحد لا شريك له، فرد لا مثل له، قديم لا أول له، مُوجد لا موجد له، باق لا انقطاع له، ليس بجوهر1، ولا جسم2، ولا عرض3 ولا بمحل الأعراض والجواهر والأجسام، ولا يحلها4، مستو على العرش كما أخبر بلا كيفية، حي عالم، قادر، مريد سميع، بصير متكلم.   1 الجوهر: اختلف في تحديد معناه، فذكر فيه أبو الحسن الأشعري ثلاثة أقوال: قيل: هو القائم بذاته، وقيل: هو القائم بالذات القابل للمتضادات، وقيل: هو ما إذا وجد كان حاملا للأعراض. انظر: مقالات الإسلاميين 2/8. 2 الجسم قيل هو: جوهر قابل للأبعاد الثلاثة، وقيل هو: المركب المؤلف من الجوهر، وقيل غير ذلك. انظر: مقالات الإسلاميين 2/4، التعريفات ص 76. 3 العرض: هو ما يقوم بغيره كاللون المحتاج في وجوده إلى جسم يحله ويقوم به وهو على نوعين: غير قار الذات، وهو الذي لا تجتمع أجزاؤه في الوجود كالحركة والسكون، وقار الذات: وهو الذي تجتمع أجزاؤه في الوجود كالألوان. انظر: التعريفات ص 148. 4 قول المصنف هنا "ليس بجوهر ولا جسم – الخ" من أساليب المتكلمين وهو النفي المفصل وهذا النفي لا يثبت به لله صفة، وهذه الطريقة من النفي خلاف طريقة القرآن الكريم الذي جاء بالنفي المجمل الذي يثبت به صفة كمال لله عزوجل وذلك مثل قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} الدال على كمال قيوميته وقوله: {لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ} الدال على كمال قدرته وغير ذلك من الآيات، ثم إن هذه الألفاظ (الجوهر والجسم والعرض) ألفاظ مبتدعة لم ترد في القرآن ولا في السنة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولفظ الجسم والجوهر ونحوهما لم يأت في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين التكلم بها في حق الله تعالى لا بنفي ولا إثبات، ولهذا قال الإمام أحمد في رسالته إلى المتوكل: "لا أحب الكلام في شيء من ذلك إلا ما كان في كتاب الله أو في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أو عن الصحابة أو التابعين لهم بإحسان، وأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود"، ثم قال شيخ الإسلام: "وهذه الألفاظ لم يعرف في الإسلام من تكلم بها أو بمعناها إلا في أواخر الدولة الأموية لما ظهر جهم بن صفوان والجعد بن درهم ثم ظهرت في المعتزلة، وهذه الألفاظ لما لم تأت في الكتاب ولا في السنة وجب أن لا تثبت ولا تنفي إلا بعد معرفة المراد منها، فإن كانت توافق حقا ثابتا في القرآن والسنة قبل وغير اللفظ إلى ما يوافق الكتاب والسنة حتى لا يقع السامع في لبس وخلط. وإن كان المراد منها يخالف الكتاب والسنة ردت ولم تقبل، فلفظ الجوهر إن أريد به ذات مخلوقة فهذا منفي عن الله، وإن أريد به القائم بذاته المباين للخلق في الصفات والذات فهو معنى صحيح ويغير اللفظ. وكذلك لفظ الجسم فإن أريد به الجسد أو المركب من المادة والصورة فهذا منفي عن الله قطعا، وإن أريد به الموصوف بالصفات وأنه يُرى ويكلم ويتكلم ويبصر ويرضى ويغضب فهذه المعاني ثابتة لله عزوجل، فلا تنفى عن الله لهذا الوصف، ويغير اللفظ حتى لا يوهم الباطل، وكذلك لفظ الأعراض إن أريد به الصفات المخلوقة فهذا باطل، وإن أريد به الصفات القائمة فالله عزوجل ثبت بالكتاب والسنة وصفه بالصفات من النزول والمجيء والكلام وغير ذلك فيثبت المعنى ويغير اللفظ حتى لا يلتبس الحق بالباطل. انظر في هذا الفتاوى لشيخ الإسلام 17/304، 313، الصواعق المرسلة 3/929،944. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 موصوف بصفات الكمال. الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وأن هذه الصفات يستحقها لذاته قديمة بقدمه لا هي هو ولا هو هي، ولا هي غيره ولا هو غيرها1، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وأن هذه السور والآيات كلامه تكلم به حقيقة بحرف يكتب وصوت يسمع - لا كحروفنا وأصواتنا - ومعنى يعقل، وأنه أنزله على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم-، وأنه غير مخلوق ولا عبارة عن القرآن، وأن لله وجها ويدين كما أخبر بكتابه، ولا يفسر ذلك بالجارحة ولا بالذات والنعمة2.   1 المراد بهذا نفي أن تكون الصفات هي عين ذات الله جل وعلا، ونفي أن تكون غيره أي أن له ذاتا مستقلة عن الصفات، فإن ذلك باطل، وإنما الله جل وعلا ذات موصوفة بهذه الصفات لهذا قال قبلها: وأن هذه الصفات يستحقها لذاته. وسيأتي زيادة إيضاح لذلك. 2 جاءت النصوص الشرعية بإثبات الصفات ونفي التشبيه فأخذ السلف - رحمه اللهم - بالإثبات مع نفي التشبيه ووقفوا حيث وقف النص ولم يزيدوا من عندهم ألفاظا لا إثباتا ولا نفيا. ذكر شارح الطحاوية ص (239) عن أبي داود الطيالسي أنه قال: "كان سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون كيف، وإذا سئلوا قالوا بالأثر". وقد تقدم ص 97 النقل عن الإمام أحمد في وقوفه مع النص أو مع قول الصحابة أو التابعين ونبذه للكلام. وقول المصنف هنا ولا يفسر ذلك بالجارحة من النفي المبتدع الذي لم يرد في القرآن والسنة فيجب العدول عنه إلى الألفاظ الشرعية التي تدل على الحق مع أمن اللبس من الاحتمالات الفاسدة التي تخالف الحق الثابت في الشرع، فإن لفظ الجوارح قد يحمل على أن المراد به ما يكتسب وينتفع به، فهذا معنى باطل، ولعل هذا مراد المصنف بنفي هذا عن الله عزوجل. وقد يقصد به الصفات الذاتية فنفيه يكون باطلا مخالفا للشرع، فلاختلاط الحق بالباطل في هذه الألفاظ وجب العدول عنها ونبذها واستخدام الألفاظ الشرعية السالمة من الاحتمالات الفاسدة. وقد أحسن المصنف - رحمه الله - في نفيه تفسير الوجه بالذات وتفسير اليد بالنعمة، لأن هذا تعطيل لهذه الصفات وهو من تأويل الجهمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ونؤمن بأخبار الصفات الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في النزول وغيره إيمانا مجملا ولا نفسرها1 بل نُمرُّها كما جاءت، وأن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة بعيون رؤوسهم ولا يراه الكفار، وأن الله خلق أفعال العباد وأقوالهم ونياتهم وخطراتهم في الطاعة والمعصية، وأنه أمرهم بالطاعة ونهاهم عن المعصية وأراد منهم وقوع ما هم عليه، وأن الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن الإيمان أعلى رتبة من الإسلام والإسلام بعض الإيمان وأن عذاب القبر حق، وأن مسألة منكر ونكير في القبر حق. وأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنه أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء في يقظة من النبي - صلى الله عليه وسلم-، وأنه اطلع في الجنة والنار وبلغ سدرة المنتهى، فأوحى الله إليه ما أوحى، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم- ربه. وقد اختلف الصحابة - رضي الله عنهم - بذلك، فمنهم من قال: رآه بعيني   1 المراد بذلك تفسير الجهمية وهو تأويلها أما فهم المعنى فهذا ثابت، ومن قول الإمام مالك: "الاستواء معلوم". انظر: ص 614. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 رأسه، وقالت عائشة - رضي الله عنها -: "ما رآه بعيني رأسه وإنما رآه بعيني قلبه "1. وأن للنبي - صلى الله عليه وسلم- شفاعة في أهل الكبائر من أمته، وكذلك لغيره من العلماء والصالحين، وأن الله سبحانه يغفر الكبائر من الذنوب غير الشرك لمن يشاء من عباده، وله أن يعذب على الصغائر، وأن معرفة الله وجبت بالشرع لا بالعقل، وأن بعث الله للرسل وتكليف الله للخلق أمر جائز غير واجب عليه، وأن الله سبحانه بعث نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم- ونسخ بشريعته جميع الشرائع وختم به النبوة فلا نبي بعده، وأن مراتب الخلافة في الصحابة - رضي الله عنهم - كما وقعت أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي - رضي الله عنهم -، وأن الخلافة ثلاثون سنة ثم بعده ملك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. وأن مراتبهم في الفضل كمراتبهم في الخلافة ووردت أخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في تفضيل آحاد الصحابة وجماعتهم لا تتنافى، فيفضل الصحابة - رضي الله عنهم - بما ورد فيهم من الأخبار، وبما جرى لهم من السابقة، ونمسك عن ذكر ما جرى بينهم، ونحمل ذلك على أمور دينية كانوا بها متأولين ويغفر الله لهم ما وقع بينهم فيها من القتل بسابقتهم. ولا ننكر كرامات الأولياء. ونصب الإمام في وقتنا حق واجب فمن وجدت فيه شروط الإمامة وظهرت شوكته وقوي أمره وجبت طاعته ولا يجوز الخروج عليه بقول ولا فعل، سواء كانت إمامته بعقد أهل الحل والعقد له، أو باستخلاف إمام حق قبله له أو بغلبته2 بالسيف3.   1 يأتي بيانه في فصل الرؤية. رقم 104. 2 في الأصل غير ظاهرة وفي (ب) (أو تغليبا) ولا يستقيم المعنى بها. 3 سيأتي تفصيل هذا الاعتقاد في ثنايا الكتاب بأدلته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 2- فصل: والأصول التي بنى أصحاب الحديث عليها أقوالهم، الكتاب والسنة والإجماع والقياس وهو: أدلة العقل، أما الكتاب: فهو قول الله تعالى وهو القرآن الذي هو سور وآيات الذي هو خارج عن أجناس النظم وعن كلام البشر بمعاني تصح ولا تفسد1. منها أنه أخبر به2 عما كان في التوراة والإنجيل من القرون الماضية والأنبياء المتقدمين، وكان أميا لا يقرأ كتابا، وأخبر عما يكون قبل أن يكون كدخوله مكة وغَلَبَة الروم وغير ذلك فكان كما أخبر، وأمره الله أن يقول: هذا كلام ربي، وأمرني أن أبلغه إليكم، فقالوا: إنما يعلمه بشر، ولو شئنا لقلنا مثل هذا، فأمره الله أن يتحداهم بالإتيان بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله، وهم أفصح العرب على النظم والنشر والخطب والرسائل وأنواع الشعر والسجع وبهم من الحمية والأنفة ورفع العار عن أنفسهم ما يدعوهم إلى أن يعارضوه بمثله، وكان الرجلان إذا تساجلا في الشعر والسجع أو غير ذلك وأتى أحدهما بأفصح مما جاء به صاحبه لحق الآخر من النقص والعار بينهم ما يضيق به ذرعه، وأخبر الله لما تحداهم بالإتيان بمثله أنهم لا يأتون بمثله وإن تظاهروا وتعاونوا فقال تعالى: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 3 فكان كما أخبر أنهم لم يقدروا على معارضته. وقد عاش فيهم نيفا وعشرين سنة مع حرصهم على تكذيبه وتنفير الناس عنه وتسفيه رأيه، فلو كان من جنس كلامهم لعارضوه ولم يعدلوا إلى قتاله وبذل مهجهم وأموالهم وكان تكذيب قوله بالمعارضة أسهل وأبلغ عند الخلق، ومن تعاطى معارضته بشيء من ذلك سخر منه من كان يحب تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم- وذلك مثل مسيلمة الكذاب، حين تعاطى   1 هكذا في الأصل وهي كذلك في (ب) . 2 يقصد بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم- الذي جاءنا القرآن عن طريقه. 3 الإسراء آية (88) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 معارضة سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ} ، فقال: "إذا زلزلت القصعت زلزالها، وأسر الغضبان أحواه"ا"1 فالقم فإن اللقم أوحى لها، وفي سورة الفيل بقوله: "الفيل وما أدراك الفيل له ذنب ونبل2 ومشفر طويل وإن هذا من كلام ربنا لقليل"3. فضحك منه أصحابه وعلموا بأنه كذاب، فعلم بذلك كله أن القرآن كلام الله أبان به صدق النبي - صلى الله عليه وسلم- فيما أتى به4 من النبوة وأنه شاهد من الله له بالصدق لأنه يستحيل من الله إظهار المعجزة على يدي الكذابين لأن ذلك يؤدي إلى قلب الأدلة وبطلانها وقد أمر الله باتباع الوحي والاستدلال له بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} 5 {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} 6 وغير ذلك من الآيات. فأصحاب الحديث هم القائلون بأن القرآن كلام الله حقيقة، وهم المستدلون به على أقوالهم ومذاهبهم وعليه عمدة أمرهم وأساس بنائهم. فأما المعتزلة والقدرية فلا يصح تعلقهم ولا استدلالهم به لأنهم يقولون: إن الله لا يجوز أن يكون متكلما، ولا قائلا وإن هذا القرآن المتلو المنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مخلوق لله يقدرون على الإتيان بمثله. وإذا احتجوا بآية أو تلوها فلا يقولون إن الذي يسمع منهم هو خلق   1 الكلمة غير ظاهرة تماما في الأصل وكتبتها حسب ما استطعت قراءتها وفي (ب) كتبت أقوالها. 2 هكذا أمكن قراءتها لعدم وضوحها في الأصل. 3 لم أقف على هذا الكلام المذكور هنا، وقد ذكر ابن الأثير في الكامل 2/244 ترهات أخرى لمسيلمة الكذاب. 4 في الأصل الكلمة غير ظاهرة تماما وأمكن قراءتها هكذا وفي (ب) ترك مكانها بياضا. 5 الأعراف آية (3) . 6 النور آية (63) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الله كالشجر والحجر بل هو خلق لهم1 لأنه كلامهم وجميع كلامهم خلق لهم، فبطل أن يكون لهم فيه حجة أو دليل، وبطل أن يكون معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم- عندهم لأنه إنما ثبت أنه معجزة له ودليل على صدقه إذا ثبت أنه كلام الله حقيقة، وإذا لم يكن ذلك كذلك عندهم فإنما يضاف بأنه كلام الله مجازا كما يضاف قول الحوض إليه مجازا: وهو قول الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني2 ثبت أن نبوته مجاز3 ليست بحقيقة فهم الداخلون تحت عموم قوله تعالى فيما أخبر عن الوليد بن المغيرة4 {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ سأُصْلِيهِ سَقَرَ} 5 وتحت عموم قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} 6 وسأبين الحجة على أنه كلام الله حقيقة بعد هذا إن شاء الله.   1 سيأتي تفصيل المصنف لكلام المعتزلة والرد عليهم عند ذكره لصفة الكلام فصل رقم 96. 2 ذكر هذا البيت ابن منظور في لسان العرب 5/3673 وقال: وقال الراجز ولم يعزه إلى معين. 3 قوله - ثبت أن نبوته مجاز - أي عند المعتزلة، فإن السياق يقتضيها. 4 الوليد بن المغيرة بن هشام المخزومي والد خالد بن الوليد مات في السنة الأولى من الهجرة بمكة مشركا. انظر: البداية والنهاية 3/458. 5 المدثر آية (25-26) ونزلت هذه الآيات في الوليد بن المغيرة لما طعن في القرآن الكريم ووصفه بأنه سحر من قول البشر. وقد أورد قصة ذلك ابن جرير في تفسيره. انظر: 29-156، الدر المنثور 8/329. 6 آل عمران آية (187) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 3- فصل: الأصل الثاني الذي بنى عليه أصحاب الحديث أقوالهم: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أمر الله العباد بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} 1. قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2. وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 3. وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 4. وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 5. وأولى الناس بالعلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وإقراره هم الصحابة جميعهم - رضي الله عنهم - شهد الله ورسوله لهم بالنزاهة مما رمتهم به القدرية وغيرهم من أهل البدع وطعنوا عليهم به. وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 6 الآية. وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 7.   1 الأنفال آية (20) . 2 النساء آية (80) . 3 النور آية (54) 4 الأحزاب آية (71) . 5 الحشر آية (7) . 6 الفتح آية (29) . 7 آل عمران آية (110) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"1. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر"2. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-:" ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا واحدة، قالوا: يا رسول الله من هي؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي "3. ولو علم الله قرنا أطهر وأطيب منهم لبعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم-، نزل القرآن بلغتهم وعلموا سبب نزوله ومواضع النزول وأخذوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة بينهم وبينه، ونقلوا ذلك إلى من بعدهم من علماء التابعين وأخذوا   1 أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/91، وفي إسناده الحارث بن غصين وهو مجهول قال ابن عبد البر: "هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول، وذكر الألباني الحديث وقال: إنه موضوع"، وذكر روايات أخرى بمعناه، وذكر أنها موضوعة أيضا. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/78-85. 2 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب. مناقب أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -) 5/609، حم 5/385/402، والحميدي في مسنده 1/214، وابن أبي عاصم في السنة 2/545، كلهم من حديث حذيفة - رضي الله عنه -، وحسن الحديث الترمذي، وصححه الألباني. انظر: الأحاديث الصحيحة 3/233. 3 أخرجه ت. كتاب الإيمان (ب. ما جاء في افتراق هذه المة 5/26، والحاكم في المستدرك كتاب العلم 1/129، من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وهو ضعيف. انظر: التقريب ص 202، ولهذا قال الترمذي: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، وللحديث شواهد صحيحة، فقد رواه: ت. من حديث أبي هريرة وليس فيه قوله "قالوا يا رسول الله من هي..؟ " وقال: "حديث حسن صحيح". السنن 5/25، د. كتاب السنة 2/259، من حديث أبي هريرة ومعاوية. إسناد حديث معاوية إسناد حسن، جه. كتاب الفتن (ب. افتراق الأمم 2/1321، من حديث أبي هريرة وعوف بن مالك وفي إسناد حديث عوف، عباد بن يوسف الكندي قال في التقريب مقبول. التقريب ص 164. حم 2/332، من حديث أبي هريرة وفي 3/120-145 من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وفي 4/102 من حديث معاوية رضي الله عنه. د ى. كتاب السير (ب. في افتراق الأمم 2/637 من حديث معاوية - رضي الله عنه -، وألفاظ هذه الأحاديث مقاربة للفظ المذكور وفي بعضها اختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 منهم كأخذ كف عن كف، كابن المسيب1 وعروة بن الزبير2 والحسن البصري3 وابن سيرين4. ثم نقل التابعون ما أخذوه عن الصحابة إلى من بعدهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"5. وأيد الله الدين بأئمة جمعوا السنن ودونوها وصنفوا كتباً في أسماء الرواة وأنسابهم ومساكنهم ونخّلوا6 عن طرائقهم في الدين، فميزوا العدل عن غير العدل عناية منهم في الدين لا للانتقاض7 بل لميزوا النقل الصحيح عن غيره فكان أصحاب الحديث هم أهل السنة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة،   1 الإمام شيخ الإسلام فقيه المدينة أبو محمد سعيد بن المسيب أجل التابعين ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر - رضي الله عنه - وتوفي سنة (105?) على خلاف فيه. انظر: تذكرة الحفاظ 1/56، السير 4/218. 2 عروة بن الزبير بن العوام الإمام عالم المدينة أبو عبد الله القرشي المدني أحد الفقهاء السبعة ولد في خلافة عثمان وتوفي سنة (94?) . انظر: تذكرة الحفاظ 1/62، السير 4/421. 3 الإمام شيخ الإسلام الحسن بن أبي الحسن البصري سيد أهل زمانه علما وعملا ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر - رضي الله عنه - وتوفي سنة (110?) . تذكرة الحفاظ 1/71، السير 4/563. 4 محمد بن سيرين الإمام الرباني شيخ الإسلام مولى أنس بن مالك - رضي الله عنه - ولد لسنتين من خلافة عثمان - رضي الله عنه - وتوفي سنة (110?) . تذكرة الحفاظ 1/77، السير 4/606. 5 أخرجه خ. كتاب الشهادات ب. لا يشهد على شهادة جور إذا شهد 2/1510، وفي كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- الباب الأول 5/3، من حديث عمران - رضي الله عنه -، م. كتاب فضائل الصحابة ب. فضل الصحابة ثم الذين يلونهم 4/1964 من حديث عبد الله بن مسعود وأبي هريرة وعمران بن الحصين رضي الله عنهم. 6 في الأصل غير واضحة ولعلها كما أثبت وفي - ب - كتبها (تحموا) . 7 في الأصل غير واضحة وأقرب ما يكون ما أثبت وكتبها في - ب - لا الانتقاص، والمراد أن أئمة الجرح والتعديل بينوا المعدلين والمجروحين ليس لرفعة أناس وانتقاص آخرين وإنما فعلوا ذلك ليميزوا الحق من الباطل بمعرفة العدل من غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وكل بدعة ضلالة "1. وقال عبد الله بن عمر: "من خالف السنة كفر"2. قال ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} 3 {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} قال: "أهل السنة والجماعة"و {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} قال: " هم أهل البدع والضلالة"4. وقال سعيد بن جبير5 في قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} 6 قال:"لزوم السنة والجماعة"7.   1 أخرجه ت. كتاب العلم (ب. ما جاء في الأخذ بالسنة 5/44. د كتاب السنة (ب. لزوم السنة 3/261. جه في المقدمة (ب. اتباع سنة الخلفاء الراشدين 1/5، دى. في المقدمة (ب. اتباع السنة 1/44، حم. 2/126/127. الحاكم في المستدرك. كتاب العلم 1/96 كلهم من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - وصحح الحديث الترمذي. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح وليس له علة"، ووافقه الذهبي. 2 أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/195 بإسناده عن صفوان بن محرز القاري أنه سأل عبد الله بن عمر في السفر فقال: ركعتان من خالف السنة كفر. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2/154 ونسبه إلى الطبراني في المعجم الكبير وقال: "رجاله رجال الصحيح"، ولم أجده في المطبوع. وذكره بدون إسناد السجزي في كتابه (الرد على من أنكر الحرف والصوت) . انظر: ص100. 3 آل عمران آية (107) . 4 أخرجه عنه اللالكائي في السنة 1/72 وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن أبي حاتم وأبي نصر السجزي في الإبانة والخطيب في تاريخه. الدر المنثور 2/291. 5 سعيد بن جبير الوالبي مولاهم الكوفي الإمام الحافظ المقرئ المفسر الشهيد قتله الحجاج بن يوسف الثقفي في شعبان سنة (95?) ، وله 49. وقيل: بضع وخمسون سنة. تذكرة الحفاظ 1/76، سير أعلام النبلاء 4/321. 6 طه آية (82) . 7 أخرجه عنه اللالكائي في السنة 1/71، وأخرج ابن جرير بسنده إلى الربيع بن أنس نحوه. انظر: تفسير ابن جرير 16/195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فكل مدع للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله فإن أتى بذلك علم صدقه وقبل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف علم أنه محدث مبتدع زائغ لا يستحق أن يصغى إليه. فالمعتزلة والقدرية1 عن سنن النبي - صلى الله عليه وسلم- بمعزل لوجوه: أحدها: أنهم يطعنون على الصحابة - رضي الله عنهم - الذين بايعوا أبا بكر وعمر وينسبونهم إلى الظلم لعلي - رضي الله عنه2- وقد أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم- بالاقتداء بهم جميعاً والأخذ عنهم.   1 المراد بالمعتزلة والقدرية هنا معتزلة اليمن الذين جمعوا بين الزيدية والاعتزال، ويوصفون بالقدرية لأخذهم بإنكار القدر كالمعتزلة. 2 المعتزلة ليسوا على قول واحد في الخلفاء والصحابة لأن متقدميهم كانوا يقدمون أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - على علي - رضي الله عنه - إلا واصل بن عطاء فإنه يفضل علي بن أبي طالب على عثمان رضي الله عنهما. وأبو علي الجبائي وأبو هاشم توقفا في التفضيل، أما النظام فإنه كان يقول بالرفض فيطعن في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. انظر: شرح الأصول الخمسة ص 766، الملل والنحل بهامش الفصل 1/72. أما الزيدية فهم ثلاث فرق وكل واحدة منها لها قول في الخلفاء والصحابة. الفرقة الأولى: الجارودية أتباع زياد بن أبي زياد أبو الجارود، وهؤلاء يقولون بتكفير الصحابة بتركهم بيعة علي رضي الله عنه. الفرقة الثانية: السليمانية أو الجريرية أتباع سليمان بن جرير الزيدي، وهؤلاء ينفون إمامة أبي بكر وعمر، وعلي أولى بالإمامة منهما إلا أن الخطأ في بيعتهما لا يوجب كفرا ولا فسقا. وقال سليمان ابن جرير بتكفير عثمان - رضي الله عنه - بالأحداث التي نقمها عليه الناقمون. الفرقة الثالثة: البترية أتباع الحسن بن صالح بن حي، وكثير النواء الملقب بالأبتر وقولهم كقول السليمانية في أبي بكر وعمر ويخالفونهم في عثمان حيث يتفقون عن ذمه ومدحه. وهم أقرب الفرق الزيدية في هذا إلى السنة. انظر: الفرق بين الفرق ص 30-33، وانظر: مقالات الإسلاميين 1/142/143. هذه أقوال فرق الزيدية، أما أئمة اليمن الزيدية فقد ذكر صاحب كتاب (معتزلة اليمن، دولة الهادي وفكره) ص 21 نصا عن نشوان الحميري، المتوفى سنة (573?) وهو معاصر للعمراني قوله: إنه ليس في اليمن من فرق الزيدية غير الجارودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ونقل صاحب كتاب الزيدية ص (356) عن القاسم الرسي المتوفى سنة (246?) قوله: "لنا أم صديقة غضبت على أبي بكر لمنعها فدك ونحن غاضبون لغضبها". ونقل عن حفيده الهادي يحيى بن الحسين المتوفى سنة (298?) أنه قال بتخطئة أبي بكر - رضي الله عنه - في فدك بدعوى أنها كانت ملك فاطمة - رضي الله عنها- قبل وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم- الذي كان قد وهبها إياها، ويعتبر أن أبا بكر قد رد الجميل إلى عمر - رضي الله عنهما - حين عهد إليه بالخلافة من بعده، انظر: كتاب الزيدية ص 181. فهذا أغلظ كلام أئمة الزيدية في اليمن في الخلفاء، أما الباقون فهم على ما ورد عن زيد بن علي من تفضيل علي بن أبي طالب والترضي عن بقية الصحابة، فقد ذكر يحيى بن حمزة المؤيد بالله المتوفى سنة (749?) قول أئمتهم مفصلا في الصحابة في رسالة سماها (الرسالة الوازعة للمعتدين عن سب صحابة سيد المرسلين) ، ننقل من ذكر منها صاحب كتاب الزيدية ص 319 وهو قوله: التكفير والتفسيق لا يكونان إلا بدلالة قاطعة ولم يقم البرهان الشرعي إلا على الخطأ في النظر إلى النصوص دون أمر زائد على ذلك من كفر أو فسق، إنا نعلم قطعا وبالضرورة صحة أديانهم وسلامة إيمانهم واستقامتهم على الدين ومحبتهم لرسول رب العالمين ورضاه عنهم ومعرفته لهم ونصرتهم له في المواطن التي تزل فيها الأقدام، وما ورد عنه نت الثناء عليهم وشهادته لهم بالجنة ورضاه عنهم في أكثر أحوالهم … ثم ذكر بعض النصوص الشرعية في الثناء على الصحابة، ثم ذكر حال علي - رضي الله عنه - مع الخليفتين، وأنه كان لهما الوزير والمعين وكذلك الحال بالنسبة لابنيه الحسن والحسين، ثم قال: أما حال زيد فقد كان انصراف الرافضة عنه وما لزم عن هذا من قتل كان أهون عليه من أن يقبل التبري من الشيخين قائلا: كيف أتبرأ منهما وقد كانا وزيري جدي وصهريه، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم-، كذلك فإن الأمر من محمد النفس الزكية وإبراهيم ويحيى ابني عبد الله ولو قد سبوهما لما تابعهم أكابر المعتزلة لأن لعن الصحابة عندهم يبطل العدالة فضلا عن الإمامة، وسئل جعفر الصادق عن أبي بكر فقال: ما أقول فيمن أولدني مرتين (يعني بذلك أن أمه فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، فجده لأمه وأم أمه أبو بكر رضي الله عنه) ، وكان الناصر للحق يملي أحاديث مروية عنهما بالترضية عليهما فلما كف المستملي من كتابة الترضية زجره الإمام قائلا: لم لا تكتب (رضي الله عنهما) ، إن هذا العلم لا يؤثر إلا عنهما أو عن أمثالهما. فخلص من هذا إلى أنه لم يؤثر عن أمير المؤمنين ولا عن أحد من أئمة أهل البيت بكفر أو فسق أحد من الصحابة، وأن الإقدام على الاكفار والتفسيق من غير بينة وعلى غير بصيرة إثم كبير، بينما التوقف فيهم ليس إقداما على محظور، وليس التوقف مذهبا وإن كان مذهب الهادي والقاسم والمنصور، وإنما الترضية، لأنا رضينا على من رضي الله ورسوله عليهم حيث قال فيهم الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وقال: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} وقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمَان} . إن مذهبنا الذي نحب أن نلقى الله ونحن عليه: أن الإمام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- هو علي بن أبي طالب مع حسن الظن في الثلاثة الذين تولوا قبله، فما فعلوا ذلك جرأة على الله بل على سبيل الخطأ في النظر، وما خطؤهما في مخالفة النصوص بكبيرة ولا صغيرة لما اشتملت عليه النصوص من دقة وغموض، وما كان إقدامهم على مخالفة النصوص جرأة على الدين وأنهم يدخلون الجنة لما ورد فيهم من الأخبار. ولقد قال الإمام المنصور: "إن أئمة الزيدية وعلماءها متابعون للجارودية، غير أن غرضه أنهم متابعون لهم في القول بالنص الخفي على علي لا فيما ورد عن أبي الجارود من تفسيق الصحابة فذلك ما لم يرد عن أحد من أئمة الزيدية". وقال الهادي يحيى بن الحسين في كتاب الأحاكم: "من أنكر النص على أمير المؤمنين فقد كذب الله ورسوله ومن كذب الله ورسوله فقد كفر بالله ورسوله". ولكن هذا القول من الهادي محمول على من أنكر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم-: "من كنت مولاه فعلي مولاه " وليس محمولا على الصحابة، وإلا فكتاب الأحكام محشو بالرواية عن الصحابة وعن أبي بكر وعمر ولو قد كفرهم أو فسقهم لما نقل عنه لأن الكافر أو الفاسق ساقط العدالة ولا يوثق بقوله. انتهى. وبهذا النقل المطول يتضح أن أكثر أئمة الزيدية في اليمن على مذهب زيد في عدم الطعن في الصحابة ما عدا الكلام الذي سبق ذكره عن القاسم والهادي وقد اعتذر عن الهادي المؤيد بالله بما سبق ذكره عنه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 والثاني: أنهم يطعنون على أصحاب الحديث بعدهم، وقد صرح هذا الرجل المعترض بدامغه هذا، فقال: أصحاب الحديث حمال أسفار أو أسمار1. وهم الواسطة بيننا وبين نبينا ولم يتصل2 إلينا القرآن الذي هو أصل السنة إلا منهم. والثالث: أن السنة فرع للقرآن لأن نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم- إنما ثبتت بثبوت معجزته ولا معجزة له فينا باقية إلى يوم القيامة إلا القرآن الذي هو كلام الله القديم3.   1 انظر: الدامغ الباطل ورقة 21/أولعل مراده بـ (الأسمار) القصص التي يسمر بها وهي في الغالب من نسج خيال القصاص. 2 في الأصل غير ظاهرة، وفي - ب - لم يكتبها، ولعلها كما ثبت. 3 إن كان المراد بـ القديم صفة لله جل وعلا فإن ذلك باطل وهي من أساليب أهل الكلام ولم يرد ذلك من أسماء الله وصفاته وإنما ورد تسميته جل وعلا (الأول) في قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} . وإن كان مراده وصف القرآن بالقدم أي الأزلية فليس هذا من قول السلف في القرآن وإنما يقول السلف (قرآن كلام الله غير مخلوق) وعندهم أن صفة الكلام لله عزوجل قديمة النوع حادثة الأفراد وسيأتي مزيد إيضاح لذلك عند كلام المصنف على الكلام والقرآن. انظر: فصل رقم 96 من هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وإذا كان القرآن عند القدرية مخلوقا كسائر كلامهم لم يثبت فرعه، وهو السنة. والرابع: أن المعروف منهم اجتناب النقل والرواية عن المشهورين بالنقل ولا عندهم كتب فيها سند صحيح كنحو الكتب المشهورة في الأمصار كالبخاري ومسلم1 والترمذي، وسنن أبي داود2 وغير ذلك من التصانيف التي أجمع أئمة الأمصار على روايتها والاحتجاج بها وإنما عندهم خطب وكتب مزخرفة ينسبونها إلى أهل البيت وهم عنها3 برءاء كما اشتهر عنهم من القول بخلافها، ومعتمدهم كلام المتكلمين في الأعراض والجواهر والأجسام4. والوجه الخامس: أن القدرية إذا روي لهم خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم- عارضوه بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله وعلى عقولكم فإن وافق ذلك وإلا فارموا به"5. وهذا الخبر ليس بصحيح لأنا لو عرضناه على كتاب الله لم نجد ما يوافقه ولو عرضنا الأخبار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في مواقيت الصلاة وأعداد   1 الإمام الحافظ حجة الإسلام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابري صاحب الصحيح ولد سنة (204?) وتوفي سنة (261?) . تذكرة الحفاظ 2/588، السير 12/557. 2 الإمام الثبت الحافظ سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب السنن، ولد سنة (202?) ، وتوفي سنة (275?) بالبصرة. تذكرة الحفاظ 2/591، السير 13/203. 3 هكذا في الأصل وفي (ب) . 4 تقدم التعريف بهذه الألفاظ. انظر: ص 97. 5 لم أقف على من خرجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الركعات وغير ذلك من الأحكام التي نقلت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- نقلاً متواتراً وأجمع العلماء عليها على كتاب الله أو على العقل لم نجد ما يوافقها1 فعلم بذلك أن هذا الخبر لا أصل له، وإنما دعاهم إلى ذلك عجزهم عن ضبط الأحاديث.   1 يقصد بقوله (ما يوافقها) ما يدل عليها بتفاصيلها المعلومة أما المعلومة أما أصلها فموجود حيث أمر الله عزوجل بها وذكر بعض أركانها وشروطها كالوقت والطهارة والركوع والسجود وقراءة القرآن وملازمة الخشوع فيها، كما أمر أمراً جازما باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فأوجبت هذه الآية اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم- في الصلاة وغيرها مما هو دين، قال الشافعي - رحمه الله: "وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مع كتاب الله وجهان: أحدهما: نص كتاب فاتبعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كما أنزل الله، الآخر جملة بين رسول الله فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة وأوضح كيف فرضها عاماً أو خاصاً، وكيف أراد أن يأتي به العباد وكلاهما اتتبع فيه كتاب الله". وقال في موضع آخر: "إن سنة رسول الله إنما قبلت عن الله فمن اتبعها فبكتاب الله اتبعها ولا نجد خبراً ألزمه الله خلقه نصاً بينا إلا كتابه ثم سنة نبيه". انظر: الرسالة ص 91-109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 4 - فصل: الأصل الثالث: الإجماع وهو إجماع علماء العصر على حكم الحادثة 1. وهو حجة في الأحكام الشرعية، وقال بعض المعتزلة: الإجماع ليس بحجة2. والدليل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 3. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ} 4. وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 5. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على خطأ"6. والأدلة في ذلك كثيرة.   1 انظر: المستصفى1/173، الأحكام للآمدي 1/148، نزاهة الخاطر العاطر 1/331. 2 المخالف في ذلك النظام من المعتزلة والشيعة والخوارج. انظر: الأحكام للآمدي 1/150، الوصول إلى الأصول 2/72، نزاهة الخاطر العاطر 1/335. 3 النساء آية (115) . 4 البقرة آية (143) . 5 آل عمران آية (110) . 6 أخرجه ت. كتاب الفتن (ب. ما جاء في لزوم الجماعة 4/466 من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وقال الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه، وأخرجه جه. كتاب الفتن (ب. السواد الأعظم) 2/1303 من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - وفي إسناده أبو خلف الأعمى خادم أنس - رضي الله عنه - متروك ورماه ابن معين بالكذب. انظر: التقريب ص 404. قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: "والحديث استدل به على حجية الإجماع وهو حديث ضعيف، ثم نقل قول ابن حجر فيه: إنه حديث مشهور له طرق كثيرة لا يخلو واحد منها من مقال"، ثم ذكر ما يؤيد الاستدلال لحجية الإجماع بروايات عديدة تؤيد معناه. تحفة الأحوذي 6/386. وليس في شيء من الروايات التي اطلعت عليها قوله: "على خطأ" إنما الروايات كلها بلفظ (على ضلال) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فالقائلون بهذا الأصل هم أهل السنة الذين أفنوا أعمارهم بحصر أقاويل العلماء من الصحابة والتابعين وأئمة الأعصار. كلما ذهب قرن أيد الله الذين بعدهم بقوم على صفتهم بذلك، والمعتزلة والقدرية من هذا بمعزل لوجهين: أحدهما: أنه لا يعتبر إلا1 إجماع الفقهاء، والفقه هو: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، ولا يعتد بخلاف أهل الكلام الذين لا معرفة لهم إلا بالجواهر والأجسام والأعراض، وهذا علم القدرية، ولا ينقل ذلك عن الصحابة والتابعين2. الثاني: أن أول عصر العلماء هم الصحابة - رضي الله عنه - وهم يطعنون عليهم على ما مضى3 فكيف يسوغ لهم النقل عنهم.   1 إلا في الأصل غير واضحة تماما وكتبها - ب- (إلى) وما أثبت به يستقيم الكلام. 2 تقدم النقل عن شيخ الإسلام في بيان هذا وأول من تكلم به ص 97. 3 انظر: ص 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 5- فصل: الأصل الرابع: هو القياس وهو أدلة العقل1. وهو أصل من أصول الأدلة عندنا في العقليات والسمعيات، ولكنه غير موجب بنفسه بل الموجب والمحسن والمقبح هو الشرع2. والعقل آلة للتمييز بين الصحيح والباطل، ولم يكلف الله المعرفة به إلا من له عقل3 ولكنه تابع للشرع، ولم يلتزم القدرية بشيء من الأصول الأربعة إلا بالعقل إلا أنهم غلوا فيه وجعلوه عمدة أمرهم وأساس بنيانهم وركبوا فيه طرقا وعرة، وجعلوا مات ورد في الكتاب والسنة تابعا لما في عقولهم فإن وافقهم وإلا رموا به4.   1 يقصد بذلك أن القيارس هو الأمر الذي يتوصل إليه باستخدام العقل فيه من غير أن يون هناك نص من الشارع. 2 سيأتي مزيد إيضاح للتحسين والتقبيح والتعليق على ذلك. انظر: 209. 3 يدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: "رفع القلم عن ثلاثلا عن المجنون المغلوب على عقله، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم". أخرجه د. كتاب الحدود (ب. في المجنون يسرق أو يصيب حدا 2/227، ت. كتاب الحدود (ب. ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد 4/32، جه. كتاب الطلاق (ب. طلاق المعتوه والصغير 1/658، كلهم من حديث علي - رضي الله عنه -، وحسنه الترمذي، وأخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عائشة - رضي الله عنها- أيضا. 4 قال القاضي عبد الجبار المعتزلي بعد أن ذكر أنواع الدلالة وهي: حجة العقل والكتاب والإجماع قال: "ومعرفة الله لا تنال إلا بحجة العقل فلأن ما عداها فرع على معرفة الله بتوحيده وعدله، فلو استدللنا بشيء منها على الله والحال هذه كنا مستدلين بفرع للشيء على أصله وذلك لا يجوز، ثم أخذ يفصل في بيان ذلك". انظر: الأصول الخمسة ص 88 وما بعدها. وهذا في واقع الأمر تعطيل منهم للشرع ورد له وتقديم ما يرتضونه مما زعموا أنه قواعد عقلية يستدلون بها على إثبات وجود الله عزوجل كحلول الحوادث ودلالة الإمكان ونحوها التي جعلوا ما يلزم منها نافياً لما ثبت في الشرع كنفيهم أفعال الله لزعمهم أنها تدل على الحدوث، وكنفيهم للقدر لزعمهم أنه مخالف للعدل والحكمة. وهذه القواعد التي قعدوها يخالفهم فيها كثير من الناس من أصحابهم ومن غيرهم. وهذا يقدح في كونها دليلاً عقليا متفقا عليه يمكن أن ينظر إلى الشرع بمنظاره، ثم إنه إذا ثبت صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في قوله إنه مرسل من قبل الله عزوجل سواء بطريق المعجزة أو الفطرة أو دلالة حاله وأحواله أو بما يلقي الله عزوجل في قلوب عباده من الإيمان به - صلى الله عليه وسلم- إذا ثبت هذا لم يبق للعقل مجال لمعارضة الشرع بأي حال من الأحوال، وليس له إلا التسليم والانقياد والخضوع، لأننا لما علمنا صدق المخبر علمنا صدق الخبر، وعلمنا أن الخبر موفق للحق والعدل والحكمة، إذ هو من قبل من هو موصوف بهذه الصفات، كما علمنا أن كل ما يقع في النفس من التوهمات التي تخالفه إنما هي من الشيطان أو فساد في النظر وخلل في الاستدلال. هذه هي القضية التي يجب على المعتزلة ومن تابعهم في أصلهم الفاسد بتقديم العقل اتباعها والخضوع لها لا أن يعكسوها لزعمهم أن العقل هو الذي دل على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم- فيجب أن يُحكَّم في كل الأمور الشرعية، فإن هذا باطل فلو وافقناهم على أن العقل وحده هو الذي دل على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم- لم يلزم من ذلك أن يعرض كل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم- على العقل، إذ معنى هذا أن العقل هو المشرع وليس الله جل وعلا، بل الذي يلزم من دلالة العقل على صدق الرسول هو تسليم القيادة للرسول - صلى الله عليه وسلم- في كل صغيرة وكبيرة لأن الحق هو ما ثبت أنه نطق به لأنه صادق هذا ما يلزم من ناحية العقل. ولكن المعتزلة ومن تابعهم تمادوا في تقديم العقل وجعلوه حاكما عى الشرع وجلوا الشرع تابعاً لا مطبوعاً فأتوا بالطامات المخالفة لصريح القرآن والنسة فأولوا القرآن وصرفوا معانيه على حسب أهوائهم وردوا السنة المخالفة لما ظنوا أنه حقا على حسب عقولهم. مع أن العقل الصحيح لا يخالف النقل الصحيح بحال من الأحوال، وكيف يخالفه والشرع إنما هو من عند من خلق العقل، والله جل وعلا طلب من الإنسان أن يستخدم عقله في النظر في الدلائل المواصلة إليه جل وعلا والمعتزلة بأنه الإله الحق، فإذا أيقن الإنسان بأن الله هو الإله الحق وأن هذا الرسول مرسل من قبله لم يكن له إلا التسليم واذعان فإن أدرك بعقله أن ما قال الرسول موافق للحق فهذا خير وإن لم يدرك وجه الحق والحكمة في الأمر الشرعي وجب أن يتهم نظره، وعقله لا أن يؤول النصوص أو يردها. من أراد الاتسزادة في بيان فساد قول المعتزلة ومن تابعهم فليراجع (درء تعارض العقل والنقل) لشيخ الإسلام 1/87/100. وبأوسع منه عند ابن القيم في الصواعق المرسلة) حيث استغرق بيان هذا الأمر المجلدان الثالث والرابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وهذا خلاف قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} 1 وغير ذلك من الآيات. وسأبين ما تبعوا فيه العقل وخالفوا فيه الكتاب والسنة   1 الأعراف آية (3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 6- فصل: معرفة الله وجبت بالشرع، ولو لم يبعث الله الرسل لم يجب علينا معرفة الله ولا عبادته. ولكن لما أرسل الله الرسل لم نعلم صدقهم إلا بالنظر بمعجزاتهم1. وعرفنا الله تعالى بالعقل. وقالت المعتزلة والقدرية: معرفة الله وجبت بالعقل ولو لم يبعث الله الرسل لكان في العقول ما يدل على توحيدهم لله سبحانه2. وهذا نفس قول البراهمة الذين قالوا بإبطال الوسائط 3. والدليل على بطلان قولهم قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 4   1 دلالة المعجزة على صدق الرسل دليل صحيح، وقد أيد الله رسله بالمعجزات لكن يمكن الاستدلال على صدق الرسول بالنظر في أحواله ودعوته، لهذا آمنت خديجة وأبو بكر وغيرهم من الصحابة من دون طلب معجزة أو ظهورها لهم، وقد استدل هرقل على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم- بالسؤال عن أحواله ودعوته فليست المعجزات هي الدليل الوحيد لصدق الرسل كما يزعم أهل الكلام. انظر: شرح الطحاوية ص 158، الإرشاد للجويني ص 278. 2 انظر: كلام القاضي عبد الجبار في وجوب النظر وأن معرفة الله وجبت بالعقل وأنه لا يحتاج في ذلك إلى سمع في كتاب المغني 14/151. 3 الميلاد نسبة إلى براهما: وهو في زعمهم القوة العظيمة السحرية الكامنة التي تطلب كثيرا من العادات. انظر: أديان الهند الكبرى ص 43. وقولهم بإنكار النبوات مشهور عنهم ذكره الغزالي وابن حزم، ورد عليهم في ذلك وذكره ابن الجوزي والسكسكي أيضا. انظر: قواعد العقائد ص 212، الفصل 1/96، تلبيس إبليس ص 87، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص 51. 4 الإسراء آية (15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وقوله تعالى: {لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1. فقال بعد الرسل ولم يقل بعد العقل. وأي طريق في العقل يؤدي إلى تحريم ما حرم الله وتحليل ما أحل الله وما الفرق بين العمة وبنتها في النكاح.   1 النساء آية (165) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 7- فصل ومن أصول القدرية الفاسدة التي بنوها على عقولهم الفاسدة وخالفوا بها الكتاب وإجماع المسلمين قولهم: إن المعدوم شيء1. وعندنا: أن اسم الشيء لا يقع إلا على الموجود فالموجود هو شيء والشيء هو الموجود. وعند أهل اللغة: أن المعدوم لم يستحق اسماً لعدمه وما يقوم به. والقدرية: قائلون بقدم العالم، فعبروا عنه بقولهم المعدوم شيء والعالم في حال عدمه كهو في حال وجوده، وأن الله لم يتقدم الأشياء في كونها أشياء2. وهذا قول الدهرية: الذين أخبر الله عنهم بقوله: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} 3.   1 ذكر هذا عنهم ورد عليهم فيه ابن حزم وألزمهم بأن هذا موصل إلى القول بقدم الأشياء إذا وصفت في حال العدم بأنها شيء وهذا كفر. انظر: الفصل 4/42-46، وانظر: الموقف الأيجي فقد نسب هذا القول إلى المعتزلة ما عدا أبي الحسين البصري وأبي الهذيل العلاف. المواقف 53. 2 لم أقف على هذا القول للمعتزلة والمشهور عنهم القول بحدوث العالم، ويجعلون حدوث العالم دليلهم على وجود الله عزوجل ومغايرته للمخلوق، أما قولهم بأن المعدوم شيء السابق ذكره والمنسوب إليهم فإنه يلزم منه القول بالقدم باعتبار أن العدم سبق جميع المخلوقات فهي كائنة بعد أن لم تكن إلا أن لازم المذهب ليس بمذهب على الصحيح لأن اللوازم قد يغفل عنها صاحب المقالة ولم يكن يقصدها في كلامه وتقريره، والذين يعزى إليهم القول بقدم العالم هو أرسطو وأتباعه من الفلاسفة. انظر قول المعتزلة في حدوث العالم في شرح الأصول الخمسة ص 110-116، وانظر: قول الفلاسفة في تهافت الفلاسفة للغزالي ص88، وفي منهاج السنة النبوية 1/148 وما بعدها. وانظر: أن لازم المذهب ليس بمذهب في جلاء العينين ص 48. 3 الجاثية آية (48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وهو كفر لا إشكال فيه على من له فطنة صحيحة. والدليل على فساد قولهم، قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} 1 وقوله تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} 2. وقد احتج النبي - صلى الله عليه وسلم- على من قال بالعدوى، وأنه يتولد شيء من شيء بقوله: "فمن أعدى الأول "3.   1 مريم آية (9) . 2 مريم آية (67) . 3 تقدم تخريجه ص94. والمراد هنا بيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم- منع أن يسمى العدم شيئا لأن المرض الأول خلقه الله جل وعلا وأوجده بعد أن لم يكن شيئا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 8- فصل وعند المعتزلة والقدرية لا تصح المعرفة بالله لأحد إلا بالأدلة التي رتبها المتكلمون في الجواهر والأعراض، ولا يكون المؤمن مؤمناً حتى يعرف ستة أبواب وضعها الفلاسفة وهي: معرفة الجواهر الأعراض والأجسام، واستحالة الظهور والكمون عليها1، واستحالة عرو الأجسام والجواهر عن الأعراض، والبقاء، والمداخلة، والمجاورة2. وقد أظهر هذا الرجل بدامغه الإنكار عليّ بقولي في الرسالة: تركت الاستدلال بأدلة المتكلمين، ولا شك أن رأيه بذلك رأي أسلافه. واعتماد أهل السنة وأصحاب الحديث في الاستدلال على الله تعالى   1 الكمون والظهور هو من أقوال الفلاسفة الدهريين المنكرين للخالق وذلك أنهم زعموا أن الأعراض قديمة في الأجسام إلا أنها تمكن في الأجسام إلا أنها تكمن في الأجسام وتظهر فإذا ظهرت الحركة في الجسم كمن السكون وإذا ظهر السكون كمنت فيه الحركة. وقد أخذ بالكمون والظهور النظام من المعتزلة إلا أنه قال: "إن الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن، معادن، ونبات وحيوان، وإنسان، ولم يتقدم خلق آدم عليه السلام خلق أولاده غير أن الله تعالى أكمن بعضها في بعض فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهروها من مكامنها". والمراد هنا باستحالة الظهور والكمون عليها هو إثبات حدوثها وخلقها. انظر: أصول الدين للبغدادي ص 55، الملل والنحل للشهرستاني بهامش الفصل 1/71، شرح الأصول الخمسة 104. 2 أدلة المتكلمين سواء في ذلك المعتزلة أو الأشاعرة أو غيرهم على وجود الله عزوجل هو الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض وهذا يحتاج إلى مقدمات وهي إثبات الأعراض وإثبات حدوثها ثم إثبات أنها محتاجة إلى محدث وهذا المحدث هو الله تعالى. وقد تقدم النقل عن شيخ الإسلام ص (97) أن أول من قال بهذه الألفاظ - أعني الأجسام والجواهر والأعراض هم - الجهمية وأنها ألفاظ مبتدعة لم تعرف في زمن الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان. انظر: استدلالات المتكلمين في شرح الأصول الخمسة ص 92/95، أصول الدين للبغدادي ص 33-68، الإرشاد للجويني ص 39- 50، درء تعارض العقل والنقل 1/38-39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وعلى صفاته وعلى البعث إنما هو بما أرشد الله إليه في القرآن، لأن الله سماه شفاءاً وبياناً بقزله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 1 وقوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} 2 وليس بعد بيان الله بيان ولا بعد شفائه شفاء، وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم- أن يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 3. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} 4 ونبه الله العباد على الاستدلال عليه بقوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 5. وبقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الألْبَابِ} 6، وبقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} إلى قوله: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} 7. ومن خلق الله فيه أذناً فطنة، وأمده الله بالتوفيق إذا نظر ابتداء خلقه من نطفة وتنقلها من حالة إلى حالة إلى أن تصير لحماً وعظماً وعصباً ودماً وصوراً مختلفة، وما ركب فيها من السمع والبصر والشم والروح، وتغذيته في بطن أمه الذي أوصل إلى كل عرق وعضو من الغذاء ما يقوم به، وتنميته على التدريج في المادة التي لو أراد ذلك في لحظة لأمكنه، وإخراجه له من مكان ضيق، وما جعل فيه من الشهوة للغذاء التي يقوم بها جسده وما ركب به من الإلهام الذي يقصد به حين يولد إلى ثدي أمه ويمتص اللبن ويعلم أن   1 الإسراء آية (82) . 2 آل عمران آية (138) . 3 الكهف آية (110) . 4 الأنبياء آية (45) . 5 الذاريات آية (21) . 6 آل عمران آية (190) . 7 النبأ آية (7- وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 بالمص اللبن إلى بطنه، علم أن لذلك صانعاً صنعه ومدبراً دبره1. وقد ضرب الله المثل بالبعوضة مع صغر خلقها ووهن قوتها، فمن فكر في نفسه في صغر خلقها وتقدير أعضائها وأجزائها والإلهام المركب فيها حتى حصل لها به المعرفة لمنافعها ومضارها، فلو أراد العاقل أن يعرف كيف ركب الإلهام فيها حتى عرفت أن بين جلد الإنسان ولحمه دماً هو غذاؤها ولولا معرفتها بذلك لم تقصد إلى مص الجلد ثم تديم المص إلى أن يخرج لها ذلك الدم، وكيف الإلهام الذي عرفت به أن في وقع الكفّ عليها تلفها، وكيف حذرها ومعرفتها بأن في الفرار من وقوع الكف عليها نجاة لها، وكيف هيئتها التي قصدت بها الطيران والفرار، لم يقدر على إدراك ذلك فيعلم بذلك أن لها خالقاً ومدبراً دبر هذا الصنع العجيب فيها. ومن نظر إلى السماء وحسن خلقها واتساقه وعدم الفطور فيها، وإلى الشمس والقمر والنجوم الجارية فيها بلا فتور على نظام متسق في أوقات مختلفة متراخية، أو نظر إلى الأرض وما فيها من الجبال والرمال والأشجار والثمار والزروع المختلفة في المنظر والطعم والريح علم أن لها محدثاً وخالقاً ومدبراً دبرها، ومن توهم بنفسه أو تصور بعقله أن هذا كله أو بعضه وجد بغير صانع صنعه ولا موجد أو جده نسب إلى الجهل والحماقة، كما ينسب إلى الجهل وقلة العقل من كان بين يديه تراب وتصور عنده أنه يصير بنفسه طيناً ثم لُبْناً ثم داراً مبنية بغير صانع يصنعه من بني آدم، يستدل بما شاهد من الدور المبنية والصُنَع المتقنة ومشاهدته لمن يصنع ذلك على أن خلق السموات والأرض وما فيهن من الصنع المتقن من صانع صنعها، واستدل بإتقان الصنع بذلك على أن صانعها عالم بما صنع وقادر على2 ما صنع، إذ لا يتأتى الصنع العجيب المتقن ممن لا علم له ولا قدرة على ما صنع،   1 هذه الكلمة ليست في متن الأصل وإنما أحال على هامشه وليست ظاهرة فيه وأثبتها من (ب) . 2 في - ب - (بما) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 واستدل بتقديم ما تقدم منها وتأخر ما تأخر منها على أن صانعها مريد لما صنع وأن له إرادة. واستدل على أنه حي بأن الأفعال المحكمة المتقنة لا تتأتى من الجماد والموت. واستحال أن يكون الفاعل الحي العالم القادر المريد موصوفاً بصفات النقص وهي: الصمم والعمى والخرس، ويتعين وصفه بضد ذلك وهو السمع والبصر والكلام، وقد وصف نفسه بذلك في القرآن1. ويستدل على البعث من القبور بالآيات التي أرشد الله الخلق إليها بالاستدلال على ذلك فمنها قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} 2. فنبه الله الخلق على الاستدلال بإعادته الخلق بابتدائه لخلقهم لأنهم قد أقروا بأنه خلقهم ابتداءً والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3 وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 4. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} 5. وقوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 6.   1 أورد ابن القيم - رحمه الله - في كتابه (مفتاح دار السعادة) الشيء الكثير من عجيب الصنع والحكمة المتقنة في خلق الإنسان والحيوان والهواء والليل والنهار وسائر مخلوقات الله الظاهرة للعيان الدالة على الله عزوجل ووحدانيته وكمال صفاته ونعوت جلاله وأنه الحكيم في صنعه اللطيف في تدبيره جل وعلا. انظر: مفتاح دار السعادة 1/187/282. 2 الروم آية (27) . 3 الزمر آية (38) . 4 الزخرف آية (87) . 5 الواقعة آية (62) . 6 الروم آية (26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 قال الضحاك1: ليس شيء من خلق الله إلا هو يطيعه في التسبيح والسجود والحياة والموت والنشور وإن كانوا عاصين له فيما سوى ذلك من العبادة2. وتأويل الآية أنه إذا قدر على خلقه في الابتداء في بطن أمه نطفة ثم علقة ثم مضغة بغير مثال سبق فهو على إعادة خلقه أقدر ثم قال: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، والهين السهل الذي لا مشقة فيه من العمل. وقد اختلف الناس في الهاء وهي الضمير في عليه فقال قوم: الهاء عائد على الله أي هين عليه الابتداء والرجوع، قال مجاهد3: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قال: "خلق الإنسان في الابتداء نطفة ثم علقة ثم مضغة فإذا أعاده فإنما يقول له كن فيكون"4.   1 الضحاك بن مزاحم أبو محمد الهلالي الخرساني صاحب التفسير كان من أوعية العلم وليس بالمجود لحديثه وهو صدوق في نفسه توفي سنة (102?) . السير 4/598، البداية والنهاية 9/249. 2 لم أقف على من ذكر هذا عن الضحاك وإنما ذكر نحوه ابن جرير عن ابن عباس- رضي الله عنه - ولم يرد فيه قوله في التسبيح والسجود. انظر: تفسير ابن جرير21/35. 3 الإمام أبو الحجاج مجاهد بن جبر المخزومي مولاهم المكي المقرئ المفسر الحافظ قال قتادة أعلم من بقي بالتفسير مجاهد، توفي سنة (103?) . تذكرة الحفاظ 1/92، السير 4/449. 4 لم أقف على هذا القول عن مجاهد بهذا اللفظ وإنما ذكر ابن جرير بإسناده عنه قال: "الإعادة أهون عليه من البداءة، والبداءة عليه هين". تفسير ابن جرير 21/36، الدر المنثور 6/491. ثم إن هذا القول الذي ذكره العمراني لا يتفق مع القول المسند إلى مجاهد لأن معنى أهون في الأثر الذي ذكره العمراني والذي ذكره ابن جرير عن مجاهد هو أن إعادة الميت بالنسبة لله عزوجل أهون من ابتداء خلقه. والقول بأن الهاء في (عليه) عائدة على الله بهذا بمعنى هين عليه الابتداء والرجوع على ما ذكر العمراني هو قول الربيع بن خيثم والحسن ورواية عن ابن عباس رضي الله عنه. انظر: تفسير ابن جرير 21/36، تفسير القرطبي 14/21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وقال قوم: الهاء عائدة على الميت لأن إعادته هينة عليه وهو أهون من خلقه طوراً بعد طور، وقال السدي1: "ليس يشتد على الله ولكن يعني به المخلوق أي يصاح به ويقوم سويا"2. وقال قوم: الهاء لله ومعناه وهو عليه عندكم فيما تعالجون أنتم لأن الإنسان إذا أراد أن يعمل عملاً فكر فيه وتثبت فيه كيف يعمله طويلاً أو قصيراً فإذا عمله ثم أراد إعادته رده بلا تفكر ولاتثبت، أي فأنتم قد أقررتم بابتداء الخلق وهو عندكم أشد من إعادته فمن أقر بابتداء الخلق فهو أحرى أن يقر بالإعادة3. ومثل هذه الآية في الاستدلال قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} 4. وسبب نزول هذه الآية أن أبي بن خلف بن وهب الجمحي، أخذ عظماً قد نخر بيده وجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا محمد تزعم أن الله يحي الموتى بعد أن كنوا عظاماً بالية وترابا، أترى الله يحي هذا بعد أن أرم   1 هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي أبو محمد الكوفي الإمام المفسر أحد موالي قريش توفي سنة (127?) . انظر: السير 5/264. 2 ذكر هذا القول القرطبي ونسبه إلى ابن عباس وقطرب، وقال السيوطي في الدر المنثور أخرج الأنباري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في وقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قال: "الإعادة أهون على المخلوق لأنه يقول له يوم القيامة كن فيكون، وابتداء الخلق من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة". انظر: تفسير القرطبي 14/22، الدر المنثور 6/491. 3 قال بهذا الضحاك قال السيوطي في الدر المنثور: أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قوله: في عقولكم إعادة شيء إلى شيء كان أهون من ابتدائه إلى شيء لم يكن الدر المنثور 6/491. 4 سورة يس آية (77-80) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وجعل يفتته بيده، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم-: "يحي الله هذا ويميتك ثم يبعثك ثم يدخلك نار جهنم", فأنزل الله تعالى هذه الآية: {أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} الآية1. فاحتج الله عليهم بابتدائه لخلقهم الذي أقروا به وأنه يحييهم بعد أن صاروا عظاماً رميما كما أنشأهم أول مرة ثم أخبر عن صنعه الذي يشاهدونه فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً} . أي الذي أخرج النار وهي حارة يابسة من الشجر الأخضر الرطب وهما ضدان فلا النار تحرق الشجر ولا رطوبة الشجر تطفئ النار2 وكل عود يقدح منه النار إلا من عود العُنّاب3 فإنه لا يقدح منه النار.   1 أخرجه ابن مردويه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وأخرجه سعيد ابن منصور وابن المنذر والبيهقي في البعث عن أبي مالك، وأخرجه ابن جرير عن مجاهد وقتادة مرسلاً. انظر: تفسير ابن جرير 23/31، الدر المنثور 7/74. وقد ورد أن الذي أخذ العظم وفتته هو العاص بن وائل فقد أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس أن العاص بن وائل أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- بعظم حائل ففتته … فذكره. قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. المستدرك كتاب التفسير 2/429. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير مرسلاً. انظر: تفسير ابن جرير 23/30. وورد أنه أبو جهل بن هشام. أخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس. انظر: الدر المنثور 7/75. وقوله: "وأكثر المفسرين على أنه أبي بن خلف"، فقد روي ذلك من قول مجاهد وقتادة والسدي وعكرمة والحسن. انظر: الدر المنثور 6/75، تفسير القرطبي 15/75. 2 وأفضل ما يكون ذلك في شجر المرخ - بفتح الميم وسكون الراء -، والعفار - بفتح العين والفاء - وهما من شجر الحجاز إذا ضرب أحدهما على الآخرى انقدحت منهما النار وهما أخضران وفي المثل (في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار) . انظر: اللسان 6/ 4171، تفسير ابن كثير 3/582، فتح القدير 4/373. 3 العناب - بضم العين بعدها نون مشددة - شجر شائك من الفصيلة السدرية يبلغ ارتفاعه ستة أمتار وهو لا ينقدح فيه النار. اللسان 4/3012، المعجم الوسيط ص 630. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فمتى حصل للإنسان المعرفة بالله وبصفاته وعلم أن من جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم- حق، حصلت له المعرفة وأدنى المعرفة ما لا يجامعها الشكوك، وأعلى معارف الخلق لله معارف الأنبياء والملائكة لله وهم بذلك متفاضلون1. ولم يكلف الله الخلق أن يعرفوه كمعرفته لنفسه ولا كمعرفة الأنبياء له بل إذا حصلت للإنسان المعرفة بالأدلة من القرآن أو أخذ ذلك بالتلقين من أبويه في الصغر أو بتقليده العلماء والصالحين في صغره ثم بلغ وصمم على هذه العقيدة فإنه مؤمن كامل الإيمان2 وإن لم يحصل له المعرفة بالأدلة التي رتبها المتكلمون ووضعوها، بل قد صرح العلماء من أهل الحديث والفقهاء المشهورون بتحريم الكلام، وقالوا: هو محدث وبدعة في الدين، وقالوا: لو كان طريقاً صحيحاً لمعرفة الله سبحانه لنبه الله سبحانه عليه في القرآن ولأمر النبي - صلى الله عليه وسلم- به وتكلمت به الصحابة رضي الله عنهم. وقد علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم- أصحابه الاستنجاء ودلهم على جميع الأحكام فلو كان الكلام من مهمات الدين لنبه النبي - صلى الله عليه وسلم- عليه. وروي عن الشافعي3 أنه قال: "لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا   1 سيأتي ذكر المصنف للتفاصيل في معرفة الله في فصل زيادة الإيمان ونقصانه ص762. 2 لعل قول المصنف هنا عن المصدق "فإنه مؤمن كامل الإيمان" يقصد بذلك من ناحية التصديق وأنه لا يحتاج إلى المعرفة عن طريق الأدلة التي رتبها المتكلمون. والمصنف - رحمه الله - أثبت من قبل في أول الرسالة أن الإيمان قول واعتقاد وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ص 99، وسيعيد ذلك في الفصول المتعلقة بالإيمان، فلا يظن به أنه قصد أن من أتى بالتصديق دون العمل فهو مستحق لوصف الإيمان الكامل لأن هذا قول الأشاعرة ومن وافقهم. وسيأتي بيان ذلك. أو لعل قوله: "فإنه مؤمن كامل الإيمان" خطأ سبق به القلم ويكون قصد (كامل المعرفة) لأن الكلام السابق كله في الكلام على المعرفة والمعرفة ليست هي الإيمان وإنما لا بد في الإيمان من المعرفة. والله أعلم. 3 محمد بن إدريس الشافعي المطلبي الإمام عالم العصر ناصر الحديث فقيه الملة، ولد سنة (150?) بغزة وتوفي أول شعبان (204?) بمصر. انظر: تذكرة الحفاظ 1/362، 10/5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام"1 وسئل الشافعي - رحمه الله - عن شيء من الكلام فغضب وقال: "سل عن هذا حفص الفرد 2 وأصحابه لعنهم الله"3. ودخل حفص الفرد على الشافعي - رحمه الله - وهو مريض فقال حفص: من أنا؟ وكان من المتكلمين فقال: "حفص لا حفظك الله ولا رعاك حتى تتوب مما أنت عليه"4. وقال الشافعي: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة إلى الكلام"5. وقال أحمد بن حنبل6: "لا يفلح صاحب الكلام أبداً ولا يكاد أحد نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل"7. وقال أحمد: "علماء الكلام زنادقة"8.   1 أخرجه أبو نعيم في الحلية 9/111، واللالكائي في السنة 1/146. 2 حفص الفرد أبو عمرو من أهل مصر قدم البصرة وناظر أبا الهذيل قال عنه ابن النديم كان معتزلياً ثم قال بخلق الأفعال، وذكر عنه أبو الحسن الأشعري أنه تابع ضرار بن عمرو وهو من المعتزلة إلا أنه يقول بخلق أفعال العباد. انظر: الفهرست لابن النديم ص 255، مقالات الإسلاميين 1/340. 3 أخرجه أبو نعيم في الحلية 9/111. 4 أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي 1/470. 5 أخرجه أبو نعيم في الحلية 9/116، والخطيب في شرف أصحاب الحديث ص 78، وابن حجر في توالي التأسيس ص 111. 6 أحمد ابن محمد بن حنبل الشيباني إمام أهل السنة ولد سنة (164?) وتوفي - رحمه الله - يوم الجمعة ربيع الأول سنة (241?) . انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 1/431، السير 11/177. 7 أخرج هذا عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/95. 8 ذكره عنه الغزالي في الإحياء 1/101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وقال أبو يوسف1: "من طلب العلم بالكلام تزندق"2. وقال الحسن البصري: "لا تجالس أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم"3. وروي أن رجلاً4 كان يتهم بالإرجاء فقال لمالك5: "يا أبا عبد الله اسمع شيئا مني، أكلمك به وأحاجك قال مالك: فإن غلبتني قال: تتبعني، قال مالك: فإن جاءنا آخر فغلبني وإياك، قال: تبعناه، فقال مالك: بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم- بدين واحد وأراك تنتقل من دين إلى دين"6. قال الغزالي7 - رحمه الله - وهو ممن عرف الكلام وخبره: "ما يشوشه الكلام في الدين والجدل أكثر مما يمهده وما يفسده أكثر مما يصلحه، وتقوية المعرفة بالكلام يضاهي ضرب الشجر بالمرقة من الحديد رجاء تقويتها، فقس عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين، فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ لا يحركه شيء، وعقيدة المتكلم الحارس   1 هو القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن بحير الأنصاري الكوفي صاحب أبي حنيفة. قال الذهبي: "الإمام المجتهد العلامة المحدث"، توفي سنة (182?) . انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 8/ 535، والبداية والنهاية 10/205. 2 أخرجه عنه ابن عساكر في تبيين كذب المفترى ص 333، والخطيب في شرف أصحاب الحديث ص 5، وابن بطة في الإبانة 2/538. 3 أخرجه الدارمي في سننه في المقدمة (ب. اجتناب أهل الهوى) 1/110، واللالكائي في السنة 1/33. 4 ذكر الآجري في الشريعة أن هذا الرجل يقال له: (أبو الحوريه) . 5 مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو عبد الله المدني الفقيه إمام دار الهجرة توفي سنة (179?) . التقريب ص 326. 6 أخرجه الآجري في الشريعة ص 51، وزاد فيه: قال عمر بن عبد العزيز من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل. 7 الغزالي هو محمد بن محمد الطوسي أبو حامد الغزالي الشافعي قال الذهبي: صاحب التصانيف والذكاء المفرط، وقال: "وأدخله سيلان ذهنه في مضايق الكلام ومزال الأقدام"، توفي سنة (505?) في طوس. سير أعلام النبلاء 19/343، البداية والنهاية 12/187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 عقيدته بتقسيمات الجدل كخيط مرسل في الهواء تفيئه الريح مرة هكذا ومرة هكذا"1.   1 ذكر هذا الغزالي في قواعد العقائد ص 77-78. وانظر أيضا: إحياء علوم الدين 1/100 مع اختلاف بسيط في بعض الألفاظ، وقد ذكر بعده كلاماً ننقل منه قوله في مضرة الكلام ومنفعته، فقال: "أما مضرته فإثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم فذلك مما يحصل في الابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص، فهذا ضرره في اعتقاد الحق، وله ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة وتثبيته في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه … "، ثم قال: "أما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام، ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود، ولعمري لا ينفعك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن على الندور في أمور جلية تكاد تفهم قبل التعمق في صنعة الكلام، بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام، وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل فإن العامي ضعيف يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسداً، ومعارضة الفاسد بالفاسد تدفعه" الإحياء 1/102-103. فانظر هذ الكلام الواضح الجلي من أهل الصنعة بل من رؤوس أهلها كيف ذكر خطورة الكلام على العقيدة، وأنها تنقل الإنسان من اليقين إلى الشك والزعزعة، وهل بعد هذا الضرر ضرر، وهل يبقى مع الشك والحيرة إيمان ودين؟ أما المنفعة التي ذكرها فهي منفعة وهمية غير صحيحة على ندرتها كما أن في الدلائل الشرعية والبراهين الإلهية ما بقي بكل غرض إذا صرفت له الهمة وبذل فيه الجهد، وكأني بالغزالي يظن أن الدلائل الشرعية إنما يقبلها أهل التسليم من أهل الإيمان وليس فيها ما يعطي القناعة ويدفع الشبهة، ويقيم الحجة، لهذا زعم أن عقيدة العوام تحرس بشيء من الجدل الذي يرد به على أهل الجدل ويكون ذلك معارضة فاسد بفاسد في حال أن العامي لا يدرك فساد الحجتين والحق أن القرآن والسنة أقام الله بهما من الدلائل الشرعية والعقلية ما بقي بالغرض ويقنع طالب الحق فقد أقام الحجة في القرآن على المشركين بصنوف الأدلة العقلية التي ليس هذا موضع تفصيلها كما أقام الحجة على صنوف الملحدين والمنكرين للبعث والمكذبين للرسل والمنافقين، وهؤلاء هم رؤوس أهل الضلالة، وإن جميع أنواع الضلال الأخرى دون هذا والحجة عليه أوضح وأظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ......................... وحجج القرآن والسنة لا يدفعها ويردها إلا صاحب هوى أو عناد كما أنها مأمونة العاقبة على المستدل بها، أما الكلام فإنه غير مأمون العاقبة على المستدل به كما ذكر الغزالي وهو حجة في هذا وقد ذكر هذا الأمر أيضا كثير ممن ابتلوا بالكلام وبلغوا فيه الرئاسة والتقدم فقد ذكر شارح الطحاوية ص 227 عند قول الطحاوي: "فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوساً تائها شاكا - رحمه الله - مؤمناً مصدقاً ولا جاحداً مكذباً" نقل الشارح بعد هذا الكلام اعترافات أساطين الكلام بفساد الكلام وحيرتهم، فنقل ذلك عن ابن رشد الفيلسوف والآمدي المتكلم والرازي والشهرستاني والجويني وشمس الدين الخسروشاهي من كبار تلاميذ الرازي وابن أبي الحديد صاحب شرح نهج البلاغة وأبي عبد الله محمد بن ناماور الخونجي، وفي هؤلاء العبرة والعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، والمراد بأدلة المتكلمين ومناهجهم هو كل دليل ومنهج في الاستدلال على الخالق وصفاته والأمور الغيبية لم يرد له أصل في الشرع، وإنما هو مأخوذ من كلام الفلاسفة الذين أكثروا في الإله من غير قواعد شرعية ولا مناهج إلهية، ومن ذلك قولهم في الاستدلال على حدوث العالم: إن العالم متغير وكل متغير حادث وكل حادث مخلوق ونحو ذلك مما يوصل في حالة تعميمه إلى إنكار وردما جاء به الشرع، كإنكار الصفات أو تأويلها، أو إنكار القدر والشفاعة، وإخراج أحد من النار إلى غير ذلك مما هو معلوم من أقوال المبتدعة والمتكلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 9- فصل ومما خالفت به القدرية والمعتزلة الكتاب والسنة وأهل الحديث وركبت العناد فيه أن قالوا: ليس لله حياة ولا إرادة ولا قوة ولا سمع ولا بصر ولا كلام وردوا ما جاء به القرآن من إثبات الوجه واليدين لله1. قال هذا الرجل بخطبة دامغه المنقلب عليه: استغنى الله بذاته عن كل مجهول من الأشياء ومعروف2 لا يحتاج في الاتصاف بأوصاف الكمال والاستحقاق لا سيما3 العزة والجلال. وهذا متابعة منه لأسلافه من المعتزلة في نفي هذه الصفات عن الله، ونسب أهل السنة لماّ وصفوه بذلك إلى الكذب. واستدل على قوله هذا بأن قال: كأنهم لم يسمعوا الله يقول وهو أصدق القائلين: {هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 4. ودليلنا على إثبات هذه الصفات لله تعالى قوله تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} 5.   1 انظر: كلام القاضي عبد الجبار المعتزلي في إنكاره أن يكون الله موصوف بهذه الصفات شرح الأصول الخمسة ص 167/183/200/ 201/227/ 228/528. 2 مرادهم بهذا هو أن الله جل وعلا استغنى بذاته عن كل شيء، حيث اعتبروا إثبات الصفات لله جل وعلا هو من قبيل الحاجة إليها، وأن إثباتها معه إثبات لقديم أزلي، وهذا يؤدي إلى تعدد القدماء في زعمهم، وهذا من أصول مقالتهم في إنكار الصفات وتسمية إنكارهم للصفات ? (التوحيد) . انظر: كلام عبد الجبار المعتزلي في بيان السبب لإنكارهم اتصاف الباري جل وعلا بهذه الصفات. شرح الأصول الخمسة ص 195-196. 3 هكذا في الأصل وهي كذلك في الدامغ الباطل ورقة 2/أ. 4 يونس آية (68) . 5 6فاطر آية (11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وقوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} 1. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 2. والقوة القدرة وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} 3، وقوله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} 4. والدليل على إثبات الكلام له قوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 5، وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} 6. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "من ينصرني حتى أبلغ كلام ربي" 7. والدليل على إثبات السمع والبصر ما أخبر الله عن إبراهيم أنه قال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} 8. ولو كان إله إبراهيم لا يسمع ولا يبصر لكان دليله منقلباً عليه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم- في دعائه: "يا من وسع سمعه الأصوات"9.   1 الأعراف آية (7) . 2 الذاريات آية (58) . 3 فصلت آية (15) . 4 البقرة آية (165) . 5 التوبة آية (6) . 6 الفتح آية (15) . 7 عزاه السيوطي في الدر المنثور 6/117 بهذا اللفظ إلى ابن مردويه والضياء في المختارة، وأخرجه الإمام أحمد في المسند 3/390 والحاكم في المستدرك 2/612، من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل" قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وأخرجه د. في السنة (ب. في القرآن) 2/278، ت. في كتاب فضائل القرآن 5/184، جه. في المقدمة (ب. فيما أنكرت الجهمية) 1/73 من حديث جابر بلفظ "ألا رجل يحملني … " الحديث، قال الترمذي: "غريب صحيح". 8مريم آية (42) . 9 لم أقف عليه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم-، وإنما هو من قول عائشة - رضي الله عنها- لما جاءت خولة بنت ثعلبة تشتكي زوجها أوس بن الصامت لما ظاهر منها، فأنزل الله عزوجل فيهما قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك … .} الآية، قالت عائشة - رضي الله عنها-: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات كلها إن خولة جاءت تشتكي زوجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فيخفى عليّ أحياناً بعض ما تقول فأنزل الله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ … .} الآيات. أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره 28/5، الدارمي في الرد على بشر المريسي ص 46، والآجري في الشريعة ص 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 والدليل على إثبات الحياة قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 1، فوصف الله سبحانه نفسه بأنه يسمع ويبصر ويتكلم وأنه حي، وحقيقة الموصوف بصفة ثبوت الصفة له وليس بين الموصوف بهذه الصفات وبين الموصوف بضدها وهي: الموت والعجز والجهل والعمى والصمم والخرس فرق إلا ثبوت هذه الصفات وعدمها، كما أنه موصوف بالوجود لئلا يكون موصوفاً بضده وهو العدم، وأما إثبات الوجه واليدين فإنه إثبات صفة لا إثبات جارحة له2 كما أثبتته المجسمة3. ولا نفسر ذلك كما فسرته الأشعرية4، ولا ننفي ذلك كما نفته القدرية. والدليل على ذلك قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ} 5. وقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} 6. وقال الله لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 7، وأراد الله بذلك إظهار الفضيلة لآدم على إبليس.   1 آل عمران آية (2) . 2 تقدم بيان المتعلق بهذه الألفاظ ص 97. 3 المجسمة يقصد به من وصف الله بأنه جسم وشبهوه بخلقه ويقال لهم: المشبهة، وقد ذكر الأشعري وغيره منهم: هشام بن الحكم الرافضي وداود الجواربي ومقاتل بن سليمان وهشام بن سالم الجواليقي والكرامية. انظر: مقالات الإسلاميين 1/282، 283، الملل والنحل بهامش الفصل 1/139، الفرق بين الفرق ص 216/227/228. 4 المراد بذلك تأويل الصفات وتعطيلها وقد تقدم التعريف بالأشعرية ص 94. 5 القصص آية (88) . 6 الرحمن آية (27) . 7 ص آية (75) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وأما قول هذا المخالف إنه لا يحتاج في الاتصاف إلى آخر كلامه. فإن أراد بقوله هذا أنه يحتاج ويفتقر فلسنا نقول إنه يوصف بالحاجة والافتقار، وإن أراد أنه لا يوصف بصفة العزة والجلال فغير صحيح، لأن الله وصف نفسه بكتابه بذلك فقال: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ} 1 وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} 2، ولا يوصف بالعزة والجلال إلا من له العزة والجلال. وأما الجواب عن استدلال القدري على عدم هذه الصفات لله تعالى بقوله {هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ... } 3 الآية. فإنه يقال له ولأهل مذهبه في كل دليل يستدلون به بأنه من كتاب الله قولك: قوله: {هُوَ الْغَنِيُّ} أهذا قول الله حقيقة، أو هو قولك حقيقة وقول الله مجازاً؟ فإن قال: بل هو قول الله حقيقة، فقد رجع عن قوله بأن القرآن مخلوق4 وقلنا الدليل على إبطال تأويلك لهذه الآية من وجهين: أحدهما: أن نقول: لو كان قوله تعالى: {هُوَ الْغَنِيُّ} دليلا على عدم ثبوت هذه الصفات لله حقيقة لبطل أن تكون هذه الآية قولا له حقيقة5 لأن قوله من صفاته وإذا لم تكن قولا له حقيقة لم تكن دليلا على عدم إثبات صفته لأنه يؤدي ثبوت كونها دليلا6 إلى عدم ثبوتها، وما أدى ثبوته إلى بطلانه بطل ثبوته، وهذا من التنافي الذي لا يعقله إلا العالمون.   1 النساء آية (139) . 2 الرحمن آية (27) . 3 يونس آية (68) . 4 المعتزلة ينفون عن الله عزوجل سائر الصفات ومنها الكلام، لهذا قالوا في القرآن: إنه مخلوق وليس كلام الله عزوجل. وسيأتي مزيد إيضاح لذلك فقد أفرد المصنف - رحمه الله - لذلك فصولاً تبتدئ من فصل 96 إلى فصل 100 5 لأنه عند ذلك يبطل الاستدلال بها على ما أرادوا. 6 أي دليلا على عدم اتصاف الباري بالصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ثم يعارض هذا التأويل بالنص على ثبوت هذه الصفات على ما مضى1. والوجه الثاني من الاستدلال أن نقول: هذه الآية واردة على سبب، وذلك أن اليهود قالت: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت قريش: الملائكة بنات الله، وأخبر الله عنهم بذلك بقوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} فنزه نفسه عن قولهم هذا، ثم قال: {هُوَ الْغَنِيُّ} أي عن الولد، وأخبر أن الجميع ممن نُسب أنه ولد له ملك له، فقال: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي حجة أن له ولداً {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 2 فإذا ثبت أن الآية نزلت على هذا السبب كان تأويل هذا المخالف على ما ذكر مما يوافق مذهبه تبديلا، وإن تجاهل هذا الرجل وتجاسر بالتصريح عن مذهبه وقال بل قوله: {هُوَ الْغَنِيُّ} ليس بقول الله حقيقة وإنما هو قولي حقيقة3. قلنا عن قوله هذا جوابان: أحدهما: بأن نقول له: إذا لم يكن هذا قول الله حقيقة فلا جواب لك علينا، لأنا إنما يلزمنا الجواب عن الاحتجاج بقول من قوله حجة4 وهو الشارع، فأمّا قول غيره فليس بحجة.   1 وهي الأدلة المثبتة لهذه الصفات. انظر: ص 133-134. 2 لم أقف على من أشار إلى أن الآية نزلت لهذا السبب، وإنما هي إخبار من الله عزوجل عن قول اليهود والنصارى ومشركي قريش في ادعائهم أن الله اتخذ ولداً، فأنكر الله عزوجل عليهم ذلك ونزه نفسه عن اتخاذ الولد وبين أن الجميع ملكه وقد ذكر هذا الطبري - رحمه الله - في تفسيره، والقرطبي - رحمه الله - أحال في تفسيرها إلى قوله عزوجل في سورة البقرة: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} آية (116) . انظر: تفسير ابن جرير 11/140، تفسير القرطبي 2/85 8/361. 3 نسب القول إليه لأن المعتزلة يقولون بأنهم يخلقون أفعالهم. 4 قوله (قوله حجة) ساقطة من - ب-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 والثاني: أن نقول له: فإذا لم تكن هذه الآية وغيرها قول الله حقيقة فكيف ساغ لك أن تقول: قال الله، وهو كذب وباطل أنه ليس بقول له، وقد شنعت على خصمك بالكذب حين أثبتوا هذه الصفات لله، وهم إنما قالوا كما قال الله، ونطالب هذا القائل وغيره من أهل مذهبه عند الاحتجاج بالقرآن بالتصريح بأي القسمين ليرجع إلى الحق، بأن القرآن قول الله حقيقة، أو بأن القرآن قوله وخلقه، ليتبين كفره، ونقول له إذا صرح بذلك: فمن القائل: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 1، ومن القائل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} 2.   1 طه آية (14) والآية في الأصل هكذا (اني أنا … ) وهو خطأ.. 2 طه آية (82) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 10- فصل وقد سمى هذا المعترض نفسه وأهل مذهبه أهل العدل، وسمى أهل الحديث الحشوية1 لاستدلالهم بالأخبار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم-، فيقال له: أما تسميتك وأهل مذهبك لأهل الحديث (الحشوية) ، فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم-: "يأتي في آخر الزمان قوم من الزنادقة يسمون أمتي الحشوية لاتباعهم الأخبار"2. وأما تسميتهم لأنفسهم بأهل العدل: هذا اسم لقب فيهم غير مشتق من معنى موجود فيهم بل ضده3.   1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وأما قول القائل (حشوية" فهذا لفظ له مسمى معروف لا في شرع ولا في اللغة ولا في العرف العام، ولكن يذكر أن أول من تكلم بهذا اللفظ عمرو بن عبيد قال: كان عبد الله بن عمر حشوياً، وأصل ذلك أن كل طائفة قالت قولا تخالف به الجمهور والعامة ينسب إلى أنه قول الحشوية: أي الذين هم حشو في الناس ليسوا من المتأهلين عندهم، فالمعتزلة تسمي من أثبت القدر حشوياً، والجهمية يسمون مثبتة الصفات حشوية، والقرامطة كأتباع الحاكم يسمون من أوحب الصلاة والزكاة والصيام والحج حشوياً. وذكر في موضع آخر أن أهل الكلام والفلسفة أحق بهذا اللفظ لقلة الفائدة في كلامهم". ونقل اللالكائي عن أبي حاتم الرازي في بيان اعتقاده قوله: (وعلامة أهل البدع الوقعة في أهل الأثر، وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل السنة حشوية يريدون إبطال لأثر) . انظر: مجموع الفتاوى 12/176، 4/23/27، شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي 1/179. 2 لم أقف على من أخرج هذا الحديث، وكلام أبي حاتم المتقدم بمعناه. 3 عرف عبد الجبار المعتزلي في شرح الأصول الخمسة ص 1-30 العدل بقوله: "هو الكلام فيما يرجع إلى أفعال الله جل وعلا وما يجوز عليه وما لا يجوز". وقد اعتمد المعتزلة في تقرير هذا الأصل بأدلة عقلية لا صلة لها بالشرع بل جعلوا الوحي تابعاً للعقل في هذه المسائل وقالوا: إنه لا يستدل به على تقرير هذا الأصل، فقادهم هذا إلى أمور فاسدة مخالفة للشرع منها قولهم: إن الله يجب عليه فعل الأصلح لعباده، وهذا قول فاسد لم يدل عليه دليل شرعي، بل الدليل الشرعي دل على أن الله عزوجل يتفضل على من شاء من خلقه نعمة منه وفضلا، ويحجب فضله عمن شاء عدلاً منه، ومنها زعمهم أن الله يهدي أحدا ولا يضل أحداً، وقد دل الشرع على أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء. ومنها زعمهم أن الله لا يخلق أفعال العباد، وقد دل الشرع على أن الله خالق كل شيء، ومنها زعمهم أن الله لا يغفر لمرتكب الكبيرة ولا يخرج أحداً من النار، وقد دل الشرع على خلاف قولهم، ومع هذا يزعمون أنهم أهل العدل، والواقع أنهم عدلوا عن الحق إلى الباطل، حيث زعموا أنهم يحددون ما يجب أن يفعله الله عزوجل وما لا يفعله بعقولهم، وهو عزوجل رب العالمين وسيدهم والحاكم على كل شيء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وقد تسمي العرب الشيء بضده كما قالوا في المهلكة: إنها مفازة، وكما قالوا في تسميتهم للغراب بـ: أبي البيضاء، وتسمية النبي - صلى الله عليه وسلم- لهم بالقدرية1. والزنادقة2 هو الاسم الحقيقي لأن الله أخبر أنه لا ينطق عن الهوى إن هو3 إلا وحي يوحى.   1 سيأتي ذكر الآثار في ذلك. 2 تقدم الأثر في لك في أول هذا الفصل. (هو) ليست في الأصل والسياق يقتضيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 11- فصل روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- خرج يوماً فإذا ناس من أصحابه على بابه يخوضون في القدر، فسمعهم النبي - صلى الله عليه وسلم- فغضب حتى كأنما فقيء في وجهه حب الرمان، فقال - صلى الله عليه وسلم-: "ألهذا خلقتم أم بهذا أمرتم؟ إنما هلكت الأمم قبلكم بمثل هذا انظر الذي أمرتم به فاعملوا به وانظروا الذي نهيتم عنه فانتهوا عنه "1. فهذا الخبر وما أشبهه من الأخبار الواردة في النهي عن الخوض في القدر محمول على الكلام الذي تكلمت به القدرية، كيف خلق الله المعاصي ونهى عنها وعذب عليها. وكما تعرض عزير2 لذلك فقال: "يارب كيف خلقت الخلق وتعلم أنهم لا يؤمنون ولم تجعل الخلق كلهم طائعين وأنت   1 أخرجه جه. في المقدمة (ب. القدر) 1/33، حم. 2/178، 196، واللالكائي في السنة 4/627، والآجري في الشريعة ص 68 كلهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. قال في الزوائد: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. مصباح الزجاجة 1/14، وقال الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند: إسناده صحيح. انظر: 11/73. وأخرج الحديث أيضا: ت. كتاب القدر (ب. ما جاء في التشديد في الخوض في القدر) 4/443 من حديث أبي هريرة وقال: حديث غريب. 2 هو عزير بن جروه ويقال بن سويق بن عديا بن أيوب بن درزنا بن عري بن نفي بن أسبوع بن فنحاص بن العازر بن هارون بن عمران وقد ذكره في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} التوبة آية (30) . والأشهر عند السلف أنه أماته الله مائة عام ثم بعثه الوارد ذكره في سورة البقرة، قال ابن كثير: والمشهور أن عزيراً نبي من أنبياء بني إسرائيل، وأنه كان فيما بين داود وسليمان وبين زكريا ويحيى عليهم السلام، وأنه لم يبق في بني إسرائيل من يحفظ التوراة فألهمه الله حفظها فردها على بني إسرائيل، ولهذا قالوا عنه (ابن الله) تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. انظر: البداية والنهاية 2/46، 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 تقدر على ذلك، وقال: اللهم إنك رب عظيم لو شئت أن تطاع لأطعت ولو شئت أن لا تعصي لما عصيت وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يارب"؟ فأوحى الله إليه أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون، ونهاه الله عزوجل عن الكلام بذلك فأبت نفسه فمحى الله اسمه من النبوة1. فهذا الوجه من الكلام هو المنهي عنه، فأما القول بأن الأشياء كلها بإرادة الله وخلقه وأن أحداً لا يمنعه عن إرادته وما أشبهه من الكلام فليس ينهى عنه وقد تكلم آدم وموسى في القدر بمثل ذلك2 وتكلم به جبريل وميكال3   1 أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في المعجم الكبير 10/316 من حديث ابن عباس وفي إسناده مصعب بن سوار ولم أقف على من ذكره، وفيه أبو يحيى القتات قال عنه ابن حجر: لين الحديث. التقريب ص 432. وقد أخرج نحوه اللالكائي في السنة 4/728، والآجري في الشريعة ص 236 عن نوف البكالي ابن امرأة كعب الأحبار. وكذلك روى الآجري نحوه مختصراً عن سفيان الثوري عن داود بن أبي هند. قال ابن كثير في البداية والنهاية 2/50: أما ماروى ابن عساكر وغيره عن ابن عباس ونوف البكالي وسفيان الثوري وغيرهم من أن عزيراً سأل عن القدر فمحي اسمه من ذكر الأنبياء، فهو منكر وفي صحته نظر وكأنه مأخوذ من الإسرائيليات. 2 لعله يقصد حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام، وسيأتي ذكره. 3 لعل المصنف يشير إلى ما رواه ابن الجوزي في الموضوعات من حديث جابر قال: "بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم- جالس في ملأ من أصحابه إذ دخل أبو بكر وعمر، ثم ذكر أنهما اختلفا في القدر، فقال أبو بكر: يقدر الله الخير ولا يقدر الشر، وقال عمر: يقدرهما الله جميعاً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: لأقضي بينكما فيه بقضاء إسرافيل بين جبريل وميكائيل فقال بعض القوم: وقد تكلم فيه جبريل وميكائيل؟ فقال: والذي بعثني بالحق إنهما لأول الخلق تكلم فيه فقال جبريل مقالة عمر وقال ميكائيل مقالة أبي بكر ثم قالوا: يا رسول الله وما كان من قضائه؟ قال: أوجب القدر خيره وشره وضره ونفعه وحلوه ومره، ثم قال: يا أبا بكر لو لم يشأ أن يعصى ما خلق إبليس … " قال ابن الجوزي في الحديث: "إنه موضوع والمتهم به يحيى أبو زكريا. قال عنه يحيى بن معين: هو دجال هذه الأمة"، الموضوعات 1/273. وقال الذهبي عنه أيضا: "إنه موضوع". انظر: الميزان 374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وتكلم به أبو بكر وعمر وتكلمت به الصحابة1. روي عن ابن الديلمي2 أنه قال: قلت لأُبي بن كعب: إنه وقع في نفسي شيء من القدر، فحدثني بحديث لعل الله أن يذهب ذلك عن قلبي فقال أبي: "إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما لم يكن ليصيبك، وإن مت على غير هذا مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم". قال: "فأتيت ابن مسعود وسألته فحدثني بمثله، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فحدثني بمثله، وكلهم يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم"3.   1 سيورد المصنف - رحمه الله - آثاراً عديدة عن الصحابة - رضي الله عنهم - في إثبات القدر. انظر: الفصل رقم 88. 2 عبد الله بن فيروز الديلمي أبو بشر ثقة من كبار التابعين. انظر: التهذيب 5/358، التقريب ص 185. 3 أخرجه د. كتاب السنة (ب. القدر) 2/272، جه. في المقدمة (ب. القدر) ورواه مطولاً 1/30، حم في 5/182/185/189، والسنة لعبد الله بن الإمام أحمد 2/388، وابن أبي عاصم في السنة 1/109، مختصراً. وابن حبان. انظر: موارد الظمآن ص 450. ومدار هذه الروايات على أبي سنان سعيد بن سنان عن وهب بن خالد عن ابن الديلمي قال المنذري عن ابن سنان: وثقه يحيى بن معين وغيره وتكلم فيه الإمام أحمد وغيره. مختصر السنن 7/69، وقال ابن حجر عنه: صدوق له أوهام. التقريب ص 123. وصحح الحديث الألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم وفي التعليق على المشكاة 1/41. وأخرج الآجري الحديث عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن ابن الديلمي. الشريعة ص 203، وفي إسناده أبو صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث. قال عنه ابن حجر: صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه وكانت فيه غفلة. التقريب ص 177، وهذا صالح في المتابعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 12- فصل وقد أظهر القدري المعترض على كلامي في الرسالة الإنكار وأكثر التعنيف لما ذكرت فيها أنها نصيحة للمسلمين، فأورد كلاماً كثيراً عمدته أن قال: إن كانت هداية المقصودين بالنصيحة إن اهتدوا أو ضلالتهم إن ضلوا من الله وخلقا له كما في مذهبك فأي فائدة بنصيحة من نصحهم؟ وإن كان لكلام الناصح تأثير في إرشادهم فقد خرج من مذهبه، وإن كان لا تأثير له فلا فائدة به، وكذلك إن كان كلام خصمه الذي نهوا عن استماعه خلقاً لله فأضلهم الله به فأي ذنب على خصمه؟. والجواب أن يقال له: قد ورد الشرع بالنصيحة لدين الله والمسلمين. روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "رأس الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ فقال: لله ولرسوله ولدينه ولأئمة المسلمين وللمسلمين عامة"1. وأمر الله نبيه بتذكير العباد فقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 2. وقال: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} 3. فالنصيحة والتذكير من الناصح والمذكر هو كسب له مأمور به ومندوب إليه ويثاب عليه، والهداية للمنصوح بقبول ذلك والعمل بموجبه تفضل من الله على   1 ذكره خ. كتاب الإيمان (ب. قول النبي - صلى الله عليه وسلم- الدين النصيحة) 1/17 تعليقا، وأخرجه مسنداً م. كتاب الإيمان (ب. الدين النصيحة) 1/74، د. كتاب الأدب (ب. في النصيحة) 2/306، ت. كتاب البر والصلة (ب. ما جاء في النصيحة) 4/324 كلهم من حديث تميم الداري رضي الله عنه. وليس في شيء من روايات الحديث التي اطلعت عليها قوله: "رأس"، ولا قوله: "لدينه"، وإنما الذي ورد بدلاً عنها "لكتابه". 2 الذاريات آية (55) . 3 الغاشية آية (21-22) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 13- فصل ذكرت في الرسالة أخباراً ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في الصحاح1 وهو قوله - صلى الله عليه وسلم-: "لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم"2 وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم شيعة الدجال"3.   1 هذا الوصف من المصنف - رحمه الله - فيه تجوز وتساهل لأن الكتب التي اتفق العلماء على وصفها بالصحة من الكتب المصنفة في الحديث هما الجامع الصحيح للبخاري وصحيح مسلم وبعض العلماء يتساهل ويطلق ذلك أيضاً على السنن الأربعة كما يفعل صديق حسن خان في كتابه (الحطة) ، كما أن الأحاديث التي يذكرها المصنف بعضها موضوع كما سيتبين في التعليق. انظر: النكت على كتاب ابن الصلاح 1/372، تدريب الراوي 1/122. 2 أخرجه حم. 1/30، د. كتاب السنة (ب. القدر) 2/272، والحاكم في المستدرك كتاب الإيمان 1/85، وابن حبان. انظر: موارد الظمآن ص 451، وابن أبي عاصم في السنة 1/145، وقال بدل (لا تفاتحوهم) (لا تقاعدوهم) ، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 2/387، والآجري في الشريعة ص 239، واللاكائي في شرح أصول السنة 4/630، ومدار الحديث على يحيى بن ميمون الحضرمي عن حكيم بن شريك عن ربيعة الجرشي عن أبي هريرة عن عمر رضي الله عنه. وأخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/141، وقال: هذا حديث لا يصح، وقد رواه الدارقطني من طرق كلها تدور على يحيى بن ميمون وقد كذبوه. قلت: لعل ابن الجوزي يقصد يحيى بن ميمون بن عطاء القرشي قال عنه ابن حجر: متروك. انظر: التقريب ص 379. أما الذي في السند فهو يحيى بن ميمون الحضرمي وهو مصرح به في جميع الروايات، وقد قال عنه ابن حجر: صدوق ولكن عيب عليه شيء متعلق بالقضاء. انظر: التقريب ص 380، وإنما علة الحديث أن فيه حكيم بن شريك الهذلي وهو مجهول كما قال ابن حجر في التقريب ص 81، وضعفه الألباني لجهالة حكيم فقد قال في التعليق على المشكاة: "سنده ضعيف فيه حكيم بن شريك لا يكاد يعرف". مشكاة المصباح 1/38، ومعنى قوله: "لا تفاتحوهم" أي لا يُفَاتَحُون الكلام ولا المناظرة إلا عند الضرورة بإثبات الحجة عليهم أو تبكيتهم. أشار إلى هذا الآجري. انظر: الشريعة ص239. 3 هذا الحديث ورد من عدة طرق لكن لا يخلو أي منها من مقال، فقد أخرجه د. كتاب السنة (ب. القدر) 2/27، من طريق أبي حازم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعاً، وهو منقطع لأن أبا حازم لم يسمع من ابن عمر. انظر: التهذيب 4/143، وقد أخرجه الآجري في الشريعة ص 190، واللالكائي في السنة 4/639، موصولاً من طريق أبي حازم عن نافع عن ابن عمر والحديث على كثرة طرقه لا يخلو من مقال، وقد حسنه اللباني لكثرة طرقه. انظر: التعليق على المشكاة 1/38، وقوله في الحديث: "وهم شيعة الدجال" لم ترد إلا في رواية حذيفة عند د. 2/270، حم 2/402، وفيها "وحق على الله أن يلحقهم به". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وقال - صلى الله عليه وسلم-: "صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي المرجئة والقدرية"1. فلما نظر الزيدي المخالف هذه الأخبار علم لا محالة أنه هو وأهل مذهبه هم المرادون بهذه الأخبار أخذته العزة بالإثم وأطلق لسانه بالأذية والشتيمة لأصحاب الحديث، وذلك لما لم يمكنه رد هذه الأخبار، وادعى أن المراد بهذه الأخبار هم أهل الحديث الذين يثبتون القدر لله وينفونه عن أنفسهم2، واحتج على ذلك بأخبار لا تعرف بشيء من الأصول المشهورة عند الأئمة فقال: روى حذيفة وأنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "صنفان لا تنالهما   1 أخرجه أبو نعيم في الحلية 9/254، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، ومن طريقه أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/156 وقال: "هذا لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال يحيى: سعيد بن بشير ليس بشيء. قلت: سعيد بن بشير هو الراوي عن قتادة عن أنس" ذكره في التقريب ص 120 وقال: "ضعيف". وذكر الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد 7/206 عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - وقال: "رواه الطراني في الأوسط، وفيه محمد بن حصن وهو متروك، وذكره أيضاً من حديث جابر وقال: "رواه الطراني في الأوسط، وفيه بحر بن كثير بن السقاء وهو متروك". 2 انظر: شرح الأصول الخمسة ص 772-778 فقد أطال في بيان وجه تلقيب المثبتة للقدر بالقدرية وأنهم أليق به، وكلامه كله حول مذهب الجبرية الذين ينفون أن يكون للعبد أي تصرف وهذا لا يصدق على مذهب السلف الذين يثبتون للعبد التصرف وأنه مؤاخذ بما يفعل فيثاب أو يعاقب على فعله، وإنما يقولون: إن أفعال العباد خلق لله جل وعلا، والقاضي عبد الجبار يطلق لفظ المجبرة ويريد به الجهمية القائلين بالجبر ومن قال بأن أفعال العباد هي فعل للعبد وخلق الله، وهو قول السلف ومن وافقهم. انظر: تعريفه للمجبرة ص 324 شرح الأصول الخمسة. وهو في كلامه على لقب القدرية يقول: قالت المجبرة وهذا يلزم المجبرة وهو لا ينطبق إلا على الجهمية، وإنما يطلق القول رغبة في التشنيع والتنفير. ولقب القدرية أليق بالمعتزلة. وألصق لأن أهل السنة يثبتون القدر والخلق لله جل وعلا، وينفونه عن أنفسهم أما المعتزلة ومن وافقهم فإنهم ينفونه عن الله جل وعلا ويثبتون لأنفسهم، ومن أثبت الشيء لنفسه أو زعم أنه يقوم به هو أولى باللقب ممن نفاه، ثم إنه ورد فيما تقدم تشبيههم بالمجوس وهذا لا ينطبق إلا على المعتزلة، قال الخطابي: "إنما جعلهم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين وهما النور والظلمة، ويزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله عزوجل والشر إلى غيره، والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته". انظر: معالم السنن بهامش مختصر سنن أبي داود 7/56، وانظر: لوامع الأنوار البهية 1/305. وسيأتي مزيد إيضاح من كلام المصنف رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 شفاعتي لعنهم الله على لسان سبعين نبيّاً القدرية والمرجئة. قيل يا رسول الله: ومن القدرية؟ قال الذين يعملون المعاصي ويقولون هي من قبل الله"1. والجواب أن يقال له ولأهل مذهبه: إذا أدلوا بالاحتجاج بشيء من الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أو الصحابة - رضي الله عنهم - "ليس بعشك فادرجي"2 اعتمادكم على تحكيمكم العقل، وتسمون أهل الحديث الحشوية3 لاحتجاجهم بالأخبار فكيف تشاركونهم الاحتجاج بها، ثم يقال لهم: الأخبار إنما يحتج بها إذا صح إسنادها. قال عبد الله بن المبارك4: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"5 فإذا قيل له من حدثك بقي متحيراً. وقال ابن سيرين: "كان الناس في الزمن الأول - يعني عصر الصحابة والتابعين - لا يسألون عن الإسناد لكونهم أهل سنة، فلما وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد ليميزوا رواية أهل السنة من رواية أهل البدعة"6. فعلى هذا المستدل أن يثبت سند هذا التفسير7، فإن هذا التفسير لا يعرف عن أحد من أهل النقل الذين أرصدوا أنفسهم لجمع السنن واختلاف   1 لم أقف على من أخرجه مستنداً، وإنما ذكر القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه شرح الأصول الخمسة ص 775 نحوه. 2 هذا المثل يضرب لمن يرفع نفسه فوق قدره ومعناه ليس هذا من الأمر الذي لك فيه حق فدعيه. يقال: درج أي مشى ومضى. انظر: الأمثال اللميداني 3/93. 3 تقدم الكلام على ذلك أول فصل (10) . 4 عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم المروزي. الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته توفي - رحمه الله - سنة (181?) . انظر: السير 8/378، التهذيب 5/382. 5 أخرجه الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث ص 41. 6 أخرجه أبو نعيم في الحلية 2/278، وذكره الذهبي في ترجمته. انظر: السير4/613. 7 يقصد به تفسير معنى القدرية في الحديث وهو قوله (الذين يعملون المعاصي ويقولون هي من قبل الله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الألفاظ في الروايات حتى إن كثيراً منهم اعتمد على نقل ما سمع من غير زيادة حرف ولا نقصان حرف معولين على قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: " نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمع "1، ومنهم من اعتمد على نقل المعاني وتساهل باللفظ الذي لا يخل بالمعنى2 معولين على قوله - صلى الله عليه وسلم- " إذا أصبت المعنى فلا بأس"3، وصنفوا بذلك كله كتباً مشهورة لا ينكرها إلا من لا يعتد بخلافه في الأخبار وفي الرواة وأنسابهم وحلاهم4 ومساكنهم وحرفهم حتى لا يشتبه الواحد منهم بغيره يرويها ثقات عن ثقات إلى وقتنا هذا، ولذلك سموا أهل الحديث وأهل السنة، وسماهم القدرية لذلك (الحشوية) لينفروا أتباعهم عنه، وإلا فليظهر القدرية لهم كتباً محبرة هذا التحبير5 ومنظومة على هذا النظم فإذا ذكر فيها هذا التفسير لزمنا الجواب   1 سبق تخريجه في مقدمة الكتاب وذكر الخطيب البغدادي أن هذا قول كثير من السلف وأهل التحري في الحديث. الكفاية ص 300. 2 ذكر الخطيب أن هذا قول جمهور الفقهاء وهو إجبازة الرواية بالمعنى بشرط أن يكون ذلك ممن هو عالم بمواقع الخطاب ومعاني الألفاظ، أما الجاهل بذلك فلا يجوز له الرواية بالمعنى، واختار الخطيب هذا القول إلا أنه أضاف شرطاً آخر لمن يذكر الحديث بالمعنى وهو أن يكون عالماً بموضوع ذلك اللفظ في اللسان، وبأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- يريد به ما هو موضوع له. انظر: الكفاية في علم الرواية ص 300. 3 أخرج الطبراني في الكبير 7/100، والخطيب البغدادي في الكفاية ص 301 بسندهما عن الوليد بن سلمة عن يعقوب بن عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي عن أبيه عن جده قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقلنا بأبائنا أنت وأمهاتنا يا رسول الله: إنا نسمع منك الحديث فلا نقدر أن نؤديه كما سمعنا فقال: "إذا لم تحلوا حراماً ولم تحرموا حلالاً وأصبتم المعنى فلا بأس" قال الهيثمي بعد أن ذكر الحديث: "ولم أر من ذكر يعقوب ولا أباه". مجمع الزوائد 1/154، قلت: وفيه الوليد بن سلمة الطبراني قال ابن حبان كان ممن يضع الحديث على الثقات لا يجوز الاحتجاج به. المجروحين 3/8، الميزان 4/339. للحديث طرق أخرى في رواتها مجاهيل ذكر بعضها ابن حجر في الإصابة 4/244. 4 حلاهم من الحلية أي الخلقة بكسر الخاء. انظر: اللسان 2/985. 5 مراده هنا محسنة هذا التحسين قال في اللسان: وكل ما حسن من خط أو كلام أو شعر أو غير ذلك فقد حبر حبراً وحبر، وكان يقال لطفيل الغنوي في الجاهلية: محبر لتحسينه الشعر، وقال: حبرت الشيء تحبيراً إذا حسنته. لسان العرب 2/748. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 عنه، فأما اختراع الكذب والباطل على ما يوافق مذهبهم فلا تقوم به حجة ولا ينقطع به خصم بل يجري مجرى رواية اليهود عن موسى بن عمران - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "شريعتي مؤبدة لا تنسخ " لقنهم ذلك ابن الراوندي1 فقيل لهم: هذا شيء باطل، لأنه لو كان صحيحاً لاحتجت به اليهود على النبي - صلى الله عليه وسلم- لأنهم أقرب إلى موسى منكم، ثم يقال لهذا المخالف: تروي عن حذيفة وأنس وابن عمر وغيرهم من الصحابة وأنت وأسلافك تطعنون عليهم وتكفرونهم لبيعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان وتركهم لعلي - رضي الله عنهم2-؟ وكيف يسوغ لك الرواية عنهم؟، وأيضاً فإن الأخبار والقرآن لم يتصل لنا العلم به عن الصحابة إلا من أصحاب الحديث، وقد صرحت بالطعن عليهم بقولك: "هم حمال أسفار أو أسمار3 لا يميزون بين الصحيح والسقيم والحق والباطل". وهذا قول شنيع لا يقبله إلا من لا بصر له، فما حمل هذا المخالف على الاحتجاج بالأخبار التي أوردها إلا ليري العامة الذين يطلب استمالة قلوبهم أن له تعلقاً في الأخبار وهو عن هذا الباب بمعزل، ثم يعارض هذا التفسير الذي ذكر بتفسير منقول في الصحاح التي اتفق على صحتها أئمة الأمصار4 وهو ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله أربعة على لسان سبعين نبيّاً أنا آخرهم، قلنا: من هم يا رسول   1 هو أحمد بن يحيى بن إسحاق أبو الحسين الراوندي، الملحد الزنديق، قال ابن الجوزي: معتمد الملاحدة والزنادقة، ويذكر أن أباه كان يهدياً وأسلم هو فكان بعض اليهود يقول للمسلمين لا يفسدن عليكم هذا كتابكم كما أفسد أبوه علينا التوراة. قال الصفدي: كان من متكلمي المعتزلة ثم فارقهم وصار ملحداً زنديقاً، وقد ألف كتبا في الطعن على الإسلام والأنبياء والقرآن أخزاه الله. قال ابن الجوزي: "إنه علم اليهود أن يقولوا عن موسى: إنه قال: لا نبي بعدي. هلك سنة (298?) ". وقد أطال في ذكر بعض مخازيه وكفره ابن الجوزي في المنتظم. انظر: المنتظم 6/99-105، البداية والنهاية 11/127، الوافي بالوفيات 8/232-238. 2 تقدم بيان قول المعتزلة والزيدية في الصحابة ص 108. 3 انظر: الدامغ الباطل 21/أ. 4 هذا تجوز من المصنف وتساهل في وصف الصحة خاصة وأن الحديث الذي سيذكره موضوع وقد تقدم التعليق على نحو هذا الوصف في بداية هذا الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الله؟ القدرية والجهمية والمرجئة والرافضة، قلنا يا رسول الله ومن القدرية؟ قال: الذين يقولون الخير من الله والشر من إبليس ومن أنفسهم ألا وإن الخير والشر من الله، فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله، قلنا: يا رسول الله فمن الجهمية؟ قال: الذين يقولون القرآن مخلوق ألا وإن القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله، قلنا يا رسول الله: فمن المرجئة؟ قال: الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل، ألا إن الإيمان قول وعمل من قال غير ذلك فعليه لعنة الله. قلنا: يا رسول الله، فمن الرافضة؟ قال: الذين يسبون أبا بكر وعمر، ألا فمن أبغض أبا بكر وعمر فعليه لعنة الله"1. وهذا المخالف وأهل مذهبه يقولون بقول الجهمية2 والرافضة3 بخلق   1 أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً وقال: "هذا حديث لا شك في وضعه ومحمد بن عيسى والحربي مجهولان". الموضوعات 1/275، وذكر الذهبي في الميزان 3/464، الحربي وهو محمد بن أحمد بن منصور الحربي، وقال: عن أبي حفص الفلاس يخبر باطل في لعن الرافضة والجهمية لايدري من هو وكذلك الراوي عنه. 2 الجهمية: هم أتباع جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي، قال الذهبي عنه: "الضال المبتدع رأس الجهمية هلك في زمان صغار التابعين، وما علمته روى شيئا ولكنه زرع شراً عظيماً". انتهى. وكان جهم مع ضلالته يحمل السلاح ويقاتل السلطان فخرج مع الحارث بن سريج على نصر بن سيار عامل الأمويين بخراسان فقتله سلم بن أحوز المازني في آخر زمن بني أمية. ومذهب جهم في صفات الباري جل وعلا أنه لا يجوز أن يوصف الباري جل وعلا بصفة يوصف بها المخلوق لأن ذلك يقتضي عنده تشبيها، ووصف الله بأنه قادر موجد فاعل خالق محي مميت لأن هذه الأوصاف مختصة به عنده، كما يقول بخلق القرآن ويقول بالجبر في أعمال العباد وأن نسبتها إلى المخلوق مجازٌ، ويقول بالإرجاء في الإيمان حيث يجعله المعرفة فقط، والكفر هو الجهل بالله، كما ادعى أن الجنة والنار تفنيان، وأن النعيم والألم ينقطع في الآخرة. انظر: ميزان الاعتدال 1/426، مقالات الإسلاميين 1/338، الملل والنحل بهامش الفصل 1/109، الفرق بين الفرق ص 211. 3 الرافضة: هم الذين رفضوا إمامة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ويطعنون فيهما، وأول من أطلق عليهم هذا الاسم هو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وذلك أنه بايعه خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة فخرج بهم على والي العراق يوسف بن عمر الثقفي عامل هشام بن عبد الملك، فلما نشب القتال بينهما قال أهل الكوفة لزيد: إننا ننصرك على أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر اللذين ظلما جدك علي بن أبي طالب، فقال زيد: إني لا أقول فيهما إلا خيراً وما سمعت أبي يقول فيهما إلا خيراً ففارقوه عند ذلك حتى قال لهم: "رفضتموني"، ومن يومئذ سموا رافضة، وثبت مع زيد نفر قليل في مقدار مائتي رجل قتلوا عن آخرهم ومعهم زيد. انظر: مقالات الإسلاميين 1/89، الفرق بين الفرق ص 35، التبصير في الدين ص 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 القرآن وسب أبي بكر وعمر مع قولهم بأن الخير من الله والشر من إبليس ومن أنفسهم فيحق فيهم الوعيد من جميع الجهات. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "يكون في آخر الزمان قوم يكفرون بالله ولا يشعرون فقيل: يا رسول الله وكيف يقولون؟ قال: يقولون الخير من الله والشر من إبليس ومن أنفسهم "1، وهذه نصوص في موضع الخلاف.   1 أخرجه الآجري في الشريعة ص 192 من حديث طويل بسنده عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج مرفوعاً. وهذا إسناد منقطع فإن ابن لهيعة لم يسمع عن عمرو بن شعيب. انظر: تهذيب التهذيب 5/375. كما أخرجه الآجري أيضاً من طريق عطية بن عطية عن عطاء بن أبي رباح عن عمرو بن شعيب به، ومن طريقه أخرجه العقيلي في الضعفاء 3/357. وهذا إسناده ضعيف فإن فيه عطية بن عطية. قال عنه الذهبي: "عطية بن عطية عن عطاء لا يعؤف وأتى بخبر موضوع طويل". الميزان 3/80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 14- فصل احتج هذا المخالف بدامغه بما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال للشيخ الشامي الذي سأله عن مسيره إلى الشام، أكان بقضاء من الله وقدر: "لعلك ظننت قضاءاً لازماً وقدراً حتما لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب"1، هذه نكتة قوله ومعتمده من الخبر. فالجواب: أنه لو صح هذا عن علي - رضي الله عنه - لم يلزم علينا بهذا حجة، فإنما يلزم الحجة بذلك على المجبرة2 الذين يقولون لا كسب للعبد بفعله ولا صانع له، وهذا يدل على انه لا فهم عند هذا المخالف في الفرق بين المقالتين، ثم تعارض هذه الرواية برواية صح إسنادها عن علي - رضي الله عنه - قال: "الأعمال ثلاثة: فرائض، وفضائل ومعاصي، فأما الفرائض فبأمر الله وبمشيئة الله وبقضاء الله وقدره وبرضاء الله ومحبته وتخليق الله وبإذن الله وبعلمه، ثم يثاب العبد عليه، وأما الفضائل فليست بأمر الله3 ولكن بتحضيض الله، وبمشيئة الله وبقضاء الله وقدره وبرضا الله وبمحبة الله وبإذن الله وبعلم الله وتخليق الله ويثاب العبد عليه، وأما المعاصي فمشيئة الله ليس بأمر الله4 وبقضاء الله ليس برضا الله وبقدر الله ليس بمحبة الله   1 ذكره في نهج البلاغة 4/17، وسيأتي بطوله ص 660 حيث ذكره المصنف. 2 المجبرة: هم الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على فعله، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا الله وحده، وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يقال: تحركت الشجرة وزالت الشمس، وإنما فعل ذلك فيها الله عزوجل. وقائل هذا هو جهم بن صفزان الترمذي رئيس الجهمية وتقدم بيان بعض ضلالاته، ووافقه على هذا شيبان بن سلمة رئيس فرقة الشيبانية من الخوارج. انظر: مقلات الإسلاميين 1/338، الفصل لابن حزم 3/22، الفرق بين الفرق ص 211، والملل والنحل بهامش الفصل 1/108، 178. 3 المراد بهذا نفي الأمر الحتم أو أمر الوجوب، أما الاستحباب فهو موجود ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة" أخرجه: خ. كتاب الجمعة (ب. السواك يوم الجمعة 2/4 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والمراد أمر إيجاب، أما أمر الاستحباب فقد أمر به. 4 المراد ليس بأمر الله الشرعي لأن الله لا يأمر بالفحشاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وبتخليق الله ليس بتحضيض الله وبعلم الله ليس بإذن الله1 ثم يعاقب العبد عليه"2 وهذا يدل على صحة قولنا. واحتج هذا المخالف بحديثين أحدهما عن ابن عمر والآخر عن الحسن البصري، انهما فسرا القدرية (هم الذين يقولون الخير والشر من الله) . والجواب أن هذا لا يصح عنهما ولم يذكر ذلك عنهما أحد من الأئمة الذين نقلوا أقوال العلماء واختلافهم، وإنما ذكروا عنهما كمقالة أهل الحديث وأنا أذكر بعد ذلك ما نقل عنهم، وعلى هذا المحتج أن يثبت السند عنهما بذلك.   1 أيس بالإذن الشرعي. 2 لم اقف على هذه الرواية مسندة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 15- فصل ذكرت في الرسالة أن الذم الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم- للقدرية إنما يلزم الذين يثبتون القدرة لأنفسهم على أفعالهم وينفونها عن الله. فأجاب هذا المخالف عن ذلك بجواب مشوب بالأذية يكرم لسان الكريم عن إعادته لقلة ثمرته وفائدته، وعمدته فيه أن قال: هذا يدل على جهل المستدل بألسنة العربية بأن القدري منسوب إلى القدرة، لو كان كما زعم لقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: (القُدْرية) بضم القاف وسكون الدال، فلما لم يقل ذلك وإنما قال: "القدرية" بفتح القاف والدال على أنه نسبة إلى القدر وذلك أليق بقول من يقول كل شيء بقضاء وقدر. والجواب أن نقول: هذا التجهيل منقلب على هذا المخالف، فإنه لا علم عنده بالمصادر الصادرة عن الأفعال والصادر عنها الأفعال على حسب اختلاف النحاة بذلك، وأنه لا علم عنده بتوارد القدر والقدرة على معنى واحد واختلافهما وجواز النسبة إليهما، لكني أبين الفائدة بذلك لمن له دربة وفهم في العربية مما وضعه علماء العربية، وذلك أن أهل العلم اختلفوا في المصدر لم سمي مصدراً. فقال بعضهم: بل سمي بذلك لأن الفعل صدر منه. وقال بعضهم: بل سمي بذلك لأنه صدر عن الفعل1. وأدلى كل قائل بحجة لا معنى للإطالة بذكر ذلك هاهنا، والفعل الماضي في مسألتنا هو قولهم قدر بتخفيف الدال، وفي المستقبل يقدر بكسر الدال وبضمها لغتان2، فالدليل الماضي قول الله سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ   1 ذكر هذين القولين ابن عقيل ورجح القول الأول فيهما ونسبه إلى جمهور البصريين ونسب القول الثاني إلى الكوفيين. انظر: المساعد على تسهيل الفوائد 1/464، اللسان 4/2413. 2 انظر: اللسان 5/3546. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 قَدْرِهِ} 1، وقال سبحانه وتعالى في المستقبل: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} 2، بكسر الدال، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: " فإن غم عليكم فاقدروا له "3 روي بكسر الدال وبضمه، وقالت عائشة - رضي الله عنها- في حديث لها طويل: " فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن المشتهية للنظر" 4، وروي أيضا بكسر الدال وبضمها، وفي المصدر من هذا كله لغات، قالوا: يجوز أن يقال قدر يقدر قدراً بسكون الدال في المصدر مثل حفر يحفر حفراً وغدر يغدر غدراً، قال الشاعر: كل شيء حتى أخيك متاع ... وبقدر تفرق واجتماع5 وقال آخر: وما صبّ رجلي في حديد مجاشع ... مع القدر إلا حاجة لي أريدها6 ويجوز أن يقال: قدر يقدر قدراً7، بفتح القاف والدال كقولهم: ختر يختر خترا، وسرف يسرف سرفا، ويجوز أن يقال: قدر يقدر مقدرة وقدرانا، وكذلك هرب يهرب هرباً وطلب يطلب طلباً. قالوا: ويجوز أن يقال قدر يقدر بضم الدال في المستقبل قدراً وقدرة8، مثل قولهم: نضر   1 الزمر آية (67) . 2 الأنبياء آية (87) . 3 أخرجه خ. كتاب الصوم (ب. هل يقال: رمضان أو شهر رمضان) 3/23، و 0ب. قول النبي - صلى الله عليه وسلم- "إذا رأيتم الهلال فصوموا … " 3/24، م. كتاب الصيام (ب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال 2/759 من حديث عبد الله رضي الله عنهما. 4 أخرجه خ. كتاب النكاح (ب. حسن المعاشرة) 7/25، م. كتاب صلاة العيدين (ب. الرخصة في اللعب أيام العيد 2/608، وهو في بيان لعب الحبشة في المسجد وقيام عائشة - رضي الله عنها - تنظر إليهم والنبي - صلى الله عليه وسلم- يسترها بردائه قولها: "المشتهية للنظر" هي عند أبي عبيد في غريب الحديث 4/331 ولفظ مسلم والبخاري "على الحرصة على اللهو" بدل المشتهية للنظر. 5 ذكره في اللسان ولم ينسبه 5/3545. 6 نسبه في اللسان 5/3547 إلى الفرزدق وهو في شرح ديوان الفرزدق ص 215 معزوا إلى اللسان. 7 لعل قوله: (أو قدراً) زائدة لا معنى لها. 8 انظر: في ذلك كله اللسان في مادة (قدر) 5/3546. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ينضرنضراً، نضرةً، فإذا تقرر هذا علم أن قدرة مصدر كقدر فنسب النبي - صلى الله عليه وسلم- القدرية إلى القدر لقولهم نقدر على أفعالنا قدراً. وأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم- على اللغة الواردة في القرآن وهو قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 1، والقدر والقدرة واحد، وفي قدر لغة أخرى قدر بتشديد الدال يقدر تقديراً، قال الله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 2، وقال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} 3 قرئ بتخفيف الدال وتشديده4. وأما قول المخالف: إن اسم الذم بهذا يلزم أهل الحديث لأنهم يقولون كل شيء بقضاء وقدر، فغير صحيح، لأن الإنسان لا يوصف إلا بصفة توجد فيه كالخياطة والصناعة لا يوصف بها إلا من يدعي صنعتها بنفسه، فأما من يقول إنها تصنع لي فلا يسمى بها5، وعلى الجملة فلو سئل الناس من العرب عامتهم وخاصتهم: من القدرية الذين لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يرشدوا إلا إلى الذين يثبتون القدر لأنفسهم، وإلا فلندع أبناءنا وأبناءهم ونساءنا ونساءهم وأنفسنا وأنفسهم ولنبتهل في مواقف الحج التي يجتمع فيها الخاص والعام ولنقل: "لعن الله القدرية" فننظر لمن تحق اللعنة، ونسأل أهل الموقف من المفهوم عندكم والمراد بالقدرية؟ ولنحكم قولهم وقول أكثرهم لأنهم شهداء الله في أرضه.   1 القمر آية (49) . 2 الفرقان آية (2) . 3 الواقعة آية (60) . 4 قال الشوكاني: "قرأ الجمهور (قدرنا) بالتشديد، وقرأ مجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير بالتخفيف وهما لغتان يقال: قدرت الشيء وقدرته". فتح القدير 5/157. 5 تقدم النقل عن الخطابي وعن السفاريني في ذلك. انظر: ص 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 16- فصل ويدل على صحة قولنا قول الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} 1، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- "لا يزال هذا الدين ظاهراً"2، وخبر الشارع لا يقع بخلاف مخبره. ولا شك أن دين الإسلام هو الظاهر على سائر الأديان، قيل في التفسير: إنه أراد ظهوره على سائر الأديان بالدلائل والحجج الباهرة والغلبة والقهر في جميع الأقطار فما من أهل دين إلا وقد أثر فيهم الإسلام بالنكاية والإذلال، وقيل: أراد ليظهره على الدين كله في أرض الحجاز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- بعث فيها3، وإذا تقرر هذا في الإسلام فلينظر الآن في الظاهر من مذاهب فرق الأمة، ولا شك عند من أنصف في النظر أن الظاهر منها في الأقطار والأمصار هو مذهب أصحاب الحديث وأهل السنة دون مذهب القدرية وغيرهم من أهل الأهواء، فيعلم أنه دين الحق الذي وعد الله بظهوره. فإن قيل فبأي شيء استدللتم على ظهوره؟ قلنا: ظهوره بأمور: إن نظرت إلى الكثرة بالعدد وجدت أهل الدهماء في الآفاق من بلاد الإسلام جمع   1 التوبة آية (33) . 2 أخرجه م. كتاب الإمارة (ب. الناس تبع لقريش) 3/1453، د. كتاب المهدى الباب الأول 2/207، حم 5/87-88-89. كلهم من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، واللفظ للإمام أحمد وجاء فيه "لا يزال هذه الدين ظاهراً على من ناوأه لا يضره مخالف ولا مفارق حتى يمضي من أمتي اثنا عشر أميراً كلهم من قريش". 3 ذكر القول الأول ابن جرير الطبري والقرطبي ونسبه في الدر المنثور إلى ابن عباس رضي الله عنه. أخرجه عنه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه. وقال جابر بن عبد الله وأبو هريرة - رضي الله عنهما -: "إن ذلك حين خروج عيسى عليه السلام"، وأما القول الثاني فذكره القرطبي ولم ينسبه إلى أحد. وفي الآية تفسير ثالث وهو أن المراد به إظهار الرسول - صلى الله عليه وسلم- على الدين كله حتى لا يخفى عليه منه شيء، وكان المشركون واليهود يكرهون ذلك، قال بذلك ابن عباس - رضي الله عنه -، كما أخرجه عنه ابن جرير وابن مردويه والبيهقي. انظر: تفسير ابن جرير 10/116، تفسير القرطبي 8/121، الدر المنثور 4/175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الله همهم على اتباع أئمة مشهورين بالعلم أفنوا أعمارهم بجمع أقوال الصحابة والتابعين، وعلموا أدلتهم من الكتاب والسنة والقياس واجتهدوا فيما اختلفوا فيه فما أدى اجتهاد كل واحد إليه اختاره مذهباً ونصره وهم الشافعي ومالك وأبو حنيفة1، وأحمد وداود2، فتبعهم الخلق لما أبانوه من طرق الاجتهاد، ولم يشذ عنهم إلا من لا علم عنده بذلك وإنما أفنى عمره بعلم الفلاسفة والمتكلمين وهم القدرية والزيدية وغيرهم من أهل الأهواء، ولا يعتد بخلافهم إ لا نظر لهم بها، وهؤلاء الأئمة مجمعون على أصول التوحيد ومذاهب أهل الحديث وإن اختلفوا في المسائل الفقهية التي وقع الخلاف فيها بين الصحابة والتابعين، والقدرية والزيدية منهم جزء لا ينسب. ون نظرت إلى ظهورهم بالعلم وجدت فيهم من أفنى عمره بجمع القراءات المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم- باللغات السبع التي قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: " أنزل القرآن على سبعة أحرف "3، وهم القراء السبعة4، ومن روي عنهم.   1 أبو حنيفة هو النعمان بن ثابت بن زوطي التيمي الكوفي ملى بني تيم الله بن ثعلبة الإمام فقيه الملة عالم العراق ولد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة. رأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة ولم يثبت له حرف عن أحد منهم توفي سنة (150?) . سير أعلام النبلاء 6/390، تذكرة الحفاظ 1/168. 2 داود بن علي بن خلف أبو سليمان البغدادي. قال الذهبي: "الإمام البحر الحافظ العلامة عالم الوقت المعروف بالأصبهاني مولى أمير المؤمنين المهدي رئيس أهل الظاهر"، وقال الذهبي فيه أيضاً: "بصير في الفقه، عالم بالقرآن، حافظ للأثر، رأس في معرفة الخلاف من أوعية العلم، له ذكاء خارق وفيه دين متين، وأثر عنه أنه قال القرآن: أما الذي في اللوح المحفوظ فغير مخلوق، وأما الذي بين الناس فمخلوق وذكر صالح ابن الإمام أحمد أنه انتفي من ذلك وأنكره. توفي سنة (270?) في شهر رمضان". تاريخ بغداد 8/369، السير 13/97، ميزان الاعتدال 2/14. 3 أخرجه خ. فضائل القرآن (ب. أنزل على سبعة أحرف) 6/152، م. كتاب صلاة المسافرين (ب. بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف 1/560 من حديث عمر رضي الله عنه. 4 القراء السبعة هم: نافع بن عبد الرحمن بالمدينة، وعبد الله بن كثير بمكة، وعاصم بن أبي النجود وحمزة والكسائي بالكوفة، وعبد الله بن عامر بالشام، وأبو عمرو بن العلا بالبصرة. انظر: العنوان في القراءات السبع، ص 40 وليس المراد بالقراءات السبع ما ذكر المصنف، فقد ذكر ابن حجر الأقوال وليس فيها قول المصنف هنا ونقل عن ابي شامة أنه قال: ظن قوم، أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت بالحديث وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة. فتح الباري 9/30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ووجدت منهم من جمع في السنن المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وعن أصحابه ما لا تجده في غيرهم، فلذلك سموا أهل الحديث، وكذلك في الفقه وحصر أقوال العلماء، ولا تجد عند أحد من الزيدية وأهل الأهواء مثل ذلك، وإنما عندهم خطب وأشياء يضيفونها إلى أهل البيت لو طولبوا بسندها لم يقدروا إلا بالاختراص والاعاء. وإن نظرت إلى ظهور الكلمة لم تجد القائم بالجمع والأعياد والمناسك إلا منهم، ولا تقرع المنابر في الأمصار في مكة والمدينة فلا بكلامهم وبما تقتضي مذاهبهم، ولو أن خطيباً من القدرية خطب بمكة بما يقتضي مذهبهم بأن يقول الحمد لله الذي لم يسبق الأشياء في الوجود الذي ليس له سمع ولا بصر ولا إرادة ولا كلام ولا حياة ولا قدرة الذي لا يتم ما أراده من خلقه ويتم ما أراده إبليس منهم الذي لا يغفر للمذنبين ولا يعلم ما يكون حتى يكون ولا يقدر على أفعال خلقه، ويعدد ما يقتضيه مذهبهم الفاسد من إبطال الشفاعة والتكذيب بعذاب القبر والميزان والصراط، وكون الجنة والنار غير مخلوقين وغير ذلك، فهل يقع لكل عاقل إلا أن السيوف تسبق إلى حز رقبة هذا الخطيب، وإن كان هو المستولي على البلد قبل الرد عليه بالكلام، فعلم بذلك صحة قولنا، وفي هذا ما يبطل قول هذا المخالف الموضوع للأذى وهو قوله: إن هذا القائل في بلد أهله بحكم الموتى إلى آخر كلامه الذي لا معنى تحته إلا قلة الحياء والعلم. وقد احتجت القدرية وغيرهم من أهل الأهواء: أن القلة فيهم تدل على إصابتهم للحق بقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} 1.   1 ص آية (24) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 والجواب عن هذا من وجوه. أحدهما: أن نقول: يجوز أن تكون (ما) هاهنا للنفي فيكون المعنى {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} أي ما هم قليل1، فيسقط احتجاجهم. والثاني: أن الآية واردة على سبب وهو قوله: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي يزيد بأخذ اكثر من حقه ويظلم خليطه إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم لا يبغون على خلطائهم وقليل من لا يبغي على خليطه2، بل الغالب أن كلا يريد أخذ أكبر من حقه، ولم يرد أنهم قليل في كون قولهم غير ظاهر أو عددهم في الأمة قليل لأن هذا يخالف قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} 3. والجواب الثالث: يجوز أن يكون عددهم قليلاً مع يأجوج ومأجوج4،   1 لم أجد من العلماء من قال: إن (ما) هنا نافية إضافة إلى أن سياق الآية يأبى ذلك، وذلك أنه قدم أن أكثر الخلطاء يبغي بعضهم على بعض، ثم استثنى منهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمستثنى غالباً يأتي أقل من المستثنى منه. 2 المراد هنا أن (ما) تكون موصولة بمعنى (الذي) والموصوف بالقلة هنا هم الذين لا يبغون من الخلطاء على غيرهم، لأن القليل منهم الذي لا يبغي على خليطه بهذا لا يكون فيها وجه لاستدلال المعتزلة وأهل الأهواء بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم القليل في الناس مع أن الاستدلال بها لهذا باطل لأنه يمكن لكل نحلة فاسدة أن تستدل بهذا، فيمكن للباطنية والروافض والخوارج والصوفية وغيرهم أن يستدلوا بأنهم قليل بالنسبة إلى غيرهم، فعلى هذا يكونون أهل الحق بزعمهم. والآية هنا ظاهرة الدلالة على صنف واحدمن الناس وهم المؤمنون الذين صدقت أقوالهم أعمالهم ولا يكون ذلك إلا للمتبع للشرع، فأما المبتدع فليس من ذلك في شيء، وقد أورد ابن جرير والقرطبي أن (ما) هنا على معنيين إما أن تكون زائدة فيكون المعنى (وقليل هم) أو تكون موصولة، وهم مبتدأ وقليل خبر فيكون المعنى (الذين هم قليل) وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر: تفسير ابن جرير 2/145، تفسير القرطبي 15/179، فتح القدير للشوكاني 4/426. 3 التوبة آية (23) . 4 يدل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فذاك حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، فاشتد ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل قال: أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج الف ومنكم رجل، ثم قال: والذي نفسي في يده إني لأطمع أن تكونوا شطرا أهل الجنة، قال: فحمدنا الله وكبرنا ثم قال: والذي نفسي في يده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو الرقمة في ذراع الحمار". أخرجه خ. كتاب الرقاق (ب. قوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 8/94، م. كتاب الإيمان (ب. قوله يقول لآدم أخرج بعث النار) 1/201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وناسك ومنسك1، على ما ثبت في الأخبار الواردة ولم يرد أن عدد المخلصين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم- أقل عدد المبطلين2.   1 روى الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - موقوفاً في قوله في يأجوج ومأجوج "ولا يموت رجل إلا ترك ألفاً من ذريته فصاداً ومن بعدهم ثلاثة أمم تاويس وتاويل وناسك أو منسك" شك شعبة قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين. ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. المستدرك، كتاب الفتن والملاحم 4/490، وأخرجه الطبراني في الكبير والأوسط عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً قال الهيثمي: "رجاله ثقات" مجمع الزاوئد 8/6، ولم أجده في المطبوع من المعجم، وذكره ابن كثير في النهاية وقال: "هذا حديث غريب وقد يكون من كلام عبد الله بن عمرو"، النهاية 1/202، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً ص470 ورجاله ثقات ولا علة له إلا أن يكون أبو إسحاق السبيعي قد دلسه. والله أعلم. فعلى هذا يكون تاويس وتاويل ومنسك ثلاث قبائل غير يأجوج ومأجوج لهم أيضاً عدد لا يعلمه إلا الله، وقد ورد في حديث ابن مسعود "أن من ورائهم أمما ثلاثاً منسك وتاويل وتاويس لا يعلم عددهم إلا الله" وهذا يخالف ما ذكره المصنف - رحمه الله - من قوله "ناسك ومنسك"، لأن ذلك روي على الشك من قول شعبة، والأرجح هو منسك لأن الروايات الأخرى لم تذكر إلا منسك. 2 إن كون أهل الحق والإيمان أقل من أهل الباطل والكفر عدداً معلوم من الشرع والواقع، قال الله عزوجل: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} الروم آية (8) . {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} الأنعام آية (116) . {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاّ قَلِيلاً} (الإسراء آية (62) . فهذه الآيات وغيرها كثير يدل على أن أهل الباطل والكفر أكثر بكثير من أهل الحق والإيمان. وهذه الأمة لا شك أن أهل الخير والصلاح والإيمان فيها كثير، إلا أن أهل الباطل والفسق فيها أكثر ولو غلب أهل الخير والصلاح أهل الفسق عدداً لتغير حال الأمة، وقول الله جل وعلا: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} دليل على هذا فإن هذا وصف أهل الصلاح والخير ومقام الشكر من أعلى المقامات، ولا شك أن القرون المفضلة الثلاثة هي أفضل القرون ولم تفضل إلا لأن أهل الخير والصلاح والإيمان غالبون وظاهرون عدداً ثم بدأ الأمر في النقصان حتى أصبح أهل الخير والتقى قلة في الأمة في هذه الأزمان المتأخرة بالنسبة لأهل الفساد والباطل - والأمر ولله الحمد كما قال المصنف، فإن أهل السنة ظاهرون بحمد الله على أهل البدعة والانحراف بالحجة والقوة والعدد ولم يكن في وقت من الأوقات الظهور لأهل البدعة على العموم، بل قد يغلب أهل البدعة كالروافض أو الخوارج على ناحية من النواحي أو على الحكم كما هو الحال في زمامننا هذا في إيران ولكن ذلك قليل بالنسبة لمجموع الأمة والحمد لله. أما الاستدلال بالقلة على أنهم أهل حق فهذا باطل لأن لكل طائفة قليلة أن تدعي ذلك لنفسها. أما كون الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الأقل فهذا ظاهر بالنسبة إلى غيرهم وهم في واقعهم ليسوا قليلاً، ولكنهم إذا قيسوا بغيرهم صاروا قليلاً لأنهم النخبة الممتازة والفئة الصالحة، ومعلوم أن الدين فيه إحسان وإيمان وإسلام والناس في مقابل ذلك محسنون ومؤمنون ومسلمون. ولا شك أن المحسنين أقل من المؤمنين، لأن شروط الإحسان أعلى من شروط الإيمان، وأن المؤمنين أقل من المسلمين لأن شروط الإيمان أعلى من شروط الإسلام، لأن وصف الإسلام يطلق على كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وهذا كثير في هذه الأمة والمسلمون بالنسبة لغيرهم قليل كما تقدم بيانه من قول الله عزوجل وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم-، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 17- فصل قال هذا المخالف: اسم القدرية يلزم أصحاب الحديث وأهل السنة، لأنهم يقولون: إن المؤمن يقدر على الخير ولا يقدر على الشر، والكافر يقدر على الشر ولا يقدر على الخير فلذلك سمو قدرية. والجواب: أن هذا دعوى لا برهان عليها، ومخالف لما فسره النبي - صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن القدرية؟ فقال: "هم الذين يقولون الخير من الله والشر من إبليس ومن أنفسهم "1، فبطل أن يكون المعنى هو ما فسره المخالف. وبعد هذا فإنا لا نقول إن المؤمن يقدر على الخير ولا يقدر على الشر ولا الكافر يقدر على الشر ولا يقدر على الخير كما قالوه، وإنما نقول القدرة وهي الاستطاعة التي خلقها الله في العبد تصلح للخير والشر فإن أراد الله منه الخير وفقه فآثر بها فعل الخير على الشر، فوقع ذلك وهو مختار لوقوعه، وإن حرمه الله التوفيق وخذله آثر بتلك الاستطاعة عمل الشر على عمل الخير، فوقع ذلك وهو مختار لوقوعه وهذا هو الكسب الذي قال الله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 2. وإنما التبس على القدرية معرفة ذلك، فهم لا يفرقون بين مذهب المجبرة وبين مذهب أهل الحديث فيرموننا بمذهب المجبرة3، ونسبتنا لهم إلى قول المجبرة أحق وهم به أليق وذلك أن أسلافهم وشيوخهم من المعتزلة يقولون: إن الاستطاعة في الفاعلين ينعدم وجودها قبل الفعل، وأفعالهم توجد منهم باستطاعة لا   1 تقدم تخريجه ص 196 وبيان أنه حديث موضوع لا يثبت. 2 التوبة آية (82) . 3 تقدم النقل عن عبد الجبار المعتزلي في شرح الأصول الخمسة في بيانه للجبرية وأنهم عندهم طائفتان الجهمية وأهل السنة، وفي رده على الجبرية يذكر ما يلزم من قول الجبرية ويجعل ذلك رداً على أهل السنة أيضاً وهو ليس من قولهم ولا يلزمهم. انظر: ص 191 التعليق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 يوصفون على إحداثها حال الفعل فصاروا مجبرين على الفعل1. وأهل الحديث يقولون: إن الاستطاعة لا توجد في الفاعل إلا في حال الفعل، ولا يوصف بالقدرة عليه قبل الفعل بل يخلق الله كل جزء من الاستطاعة في الفاعل حين فعله2 فثبت أنهم يرمون أهل السنة بالقدر   1 المعتزلة أجمعوا على أن الاستطاعة قبل الفعل وهي قابلة للضد أي أنّه قادر على الفعل وعلى ضده، وأحال أكثر المعتزلة أن تكون الاستطاعة قدرة على الفعل في حال الفعل، لأن الفعل عندهم محتاج إلى الاستطاعة أو القدرة فيجب على هذا أن تتقدمه لا أن توافقه، وزعموا أن القدرة في حال الفعل هي وجود الفعل وضربوا لذلك مثالاً: من قدر على طلاق امرأته لا يخلو إما أن يكون فادراً على ذلك قبل الطلاق أو حال وقوع الطلاق، فإن قدر على ذلك قبل وقوع الطلاق فهو الاستطاعة والقدرة التي يقولون بها، وإن قدر عليه حال وقوع الطلاق فالطلاق على هذا واقع لا يحتاج إلى القدرة. وقد جعل المصنف - رحمه الله - قولهم بأن الفعل يوجد باستطاعة متقدمة وأن الناس لا يوصفون بالاستطاعة على الفعل في حال حدوثه جبراً، حيث عدموا القدرة على الفعل في حال حدوثه فصاروا مجبرين على الفعل. انظر: مقالات الإسلاميين 1/300، 301، شرح الأصول الخمسة ص 390، 410، مجموع الفتاوى 8/371. 2 هذا القول وهو أن الاستطاعة هي التي توجد في الفاعل حال الفعل حكاه الأشعري في مقالات الإسلاميين في ذكره لقول أصحاب الحديث وأهل السنة وهو قوله في اللمع، وذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد في أصول الدين، ونسبه شيخ الإسلام إلى طوائف من المنتسبين إلى السنة من المنتسبين إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة كأبي الحسن وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي وأبي الحسن بن الزعفراني وغيرهم. انظر في ذلك: مقالات الإسلاميين 1/346، اللمع ص54، المعتمد في أصول الدين ص142، مجموع الفتاوى 8/299، شرح الطحاوية ص 488. والذي عليه أهل السنة هو التوسط في ذلك وهو ما حكاه الطحاوي - رحمه الله - في عقيدته فقال: (والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به تكون مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب وهو كما قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} ، وبين هذا القول وتوسع فيه شيخ الإسلام ابن تيمية وكذلك شارح الطحاوية فمما ذكر شيخ الإسلام في هذا قوله بعد أن ذكر القولين السابقين عن المعتزلة وعن مثبتة القدر من الأشاعرة ومن وافقهم، قال ما مفاده: والصواب ما دل عليه الكتاب والسنة: أن الاستطاعة متقدمة على الفعل ومقارنة له. فالأولى وهو المتقدمة على الفعل هي المصححة للفعل وهي الاستطاعة الشرعية حيث هي مناط الأمر والنهي والثواب والعقاب وعليها يتكلم الفقهاء وهي الغالبة في عرف الناس، والدليل عليها قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ولو كانت هذه الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل لما وجب الحج إلا على من حج، وأن كل أمر علق وجوبه في الكتاب والسنة على الاستطاعة وعدمه بعدمها لم يرد به المقارنة وإلا لما كان أوجب الله الواجبات إلا على من فعلها وقد أسقطها عن من لم يفعلها فلا يأثم أحد بترك الواجب المذكور. أما الثانية وهي المقارنة للفعل فهي الموجبة للفعل وهي الكونية التي هي مناط القضاء والقدر وبها يتحقق وجود الفعل وذكروا فيها قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} فالاستطاعة المنفية هنا ليست هي الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي فإن تلك إذا انتفت انتفى الأمر والنهي والوعد والوعيد زالحمد والذم والثواب والعقاب، ومعلوم أن هؤلاء في هذه الحال مأمورون منهيون موعودون متوعدون". وقال: "إن من أطلق القول بأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل فاطلاقه مخالف للكتاب والسنة وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها طاطلاق القول بالجبر، ثم قال: فقد منع من هذا الاطلاق جمهور أهل العلم كأبي العباس بن سريج وأبي العباس القلاسي وغيرهما، ونقل ذلك عن أبي حنيفة نفسه وهو مقتضى قول جميع الأئمة". انتهى بتصرف من مواضع في مجموع الفتاوى. انظر: 8/129، 290، 291، 299، 372، 373، وانظر: درء تعارض العقل والنقل 1/60-62، شرح الطحاوية ص 488-490. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 والإجبار وهم مبرءون، وأنهم بذلك أحق فهم الداخلون تحت قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 1.   1 النساء آية (112) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 18- فصل ومما استدللت به في الرسالة على أن الله خلق أفعال العباد في الخير والشر قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 1 وقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2 في آي كثيرة، وأفعال العباد أشياء فوجب أن تكون داخلة في جميع المخلوقات. فأجاب القدري المخالف عن ذلك وقال: لا حجة لهذا المستدل بهذه الآية لمعنيين أحدهما: أن أفعال العباد متنازع فيها فعليه أن يدلل على أنها مخلوقة كسائر المخلوقات. والثاني: أن الآية وإن كانت عامة فإنا نخصصها بالعقل ونخرج أفعال العباد من جملة الأشياء المخلوقة بالعقل، كما خصصنا جميعاً ذات الله سبحانه وإن كانت شيئا من الأشياء المخلوقة، وكما خصصتم أنتم صفاته كعلمه3 وإرادته وقدرته وحياته وسمعه وبصره وكلامه من جملة الأشياء المخلوقة. هذا نكتة قوله التي يعتمد عليها ولا معنى لذكر ما أورده مع ذلك من الأذية التي استحسنها لنفسه ولا تليق بالعلماء. والجواب عن الفصل الأول من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الله قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 4، وحركات العباد داخلة في العمل وآثار عملهم في الأعيان المعمول فيها تسمى أعمالاً لهم فثبت أنها خلق الله5.   1 القمر آية (49) . 2 الأنعام آية (102) ، الرعد آية (16) ، الزمر آية (62) ، غافر آية (62) . 3 في هامش الأصل كلمة غير ظاهرة وكتبها في (ب) لعلمه ولعل صوابها كعلمه. 4 الصافات آية (96) . 5 قوله جل وعلا: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} استدل بها بعض السلف على خلق العمال، فقد روى البخاري في خلق أفعال العباد بسنده إلى حذيفة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته" وتلا بعضهم عند ذلك {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} . خلق أفعال العباد ص 17. وذكر القرطبي وابن كثير أن (ما) في الآية يحتمل أن تأتي على معنيين: إما أن تكون مصدرية فتكون معنى الآية: (والله خلقكم وعملكم) ، فتكون دليلا على خلق الأعمال بطريق النص. واستحسن هذا المعنى القرطبي وإما أن تكون بمعنى الذي فيكون المعنى: (والله خلقكم والذي تعملون) فيكون المراد بالمعمول هنا الأصنام، وهذا ما رجحه ابن القيم. وعلى هذا يمكن الاستدلال بها على خلق الأعمال من ناحية اللزوم، فإن الصنم اسم للشيء الذي وقع عليه العمل المخصوص وهو النحت، فإذا كان مخلوقاً لله كان خلقه متناولاً لمادته وصورته، وهذا هو ما قال به المصنف هنا حيث اعتبر (ما) بمعنى الذي فيكون الصنم مخلوقاً ويدخل فيه حركات العباد التي عملته. انظر: تفسير القرطبي 15/96، تفسير ابن كثير 4/13 شفاء العليل ص 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 والثاني: أن أعمال العباد تسمى شيئاً لقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} 1، و {جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} 2، و {شَيْئاً إِمْراً} 3 وقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} 4، وأعمال العباد محصاة، وإذا سميت أشياء كانت داخلة في عموم الأشياء التي امتدح الله بخلقها ولا يخرج شيء عما مدح به نفسه. والثالث: أن أفعالهم صفات لهم كألوانهم، فلما كانت ألوانهم خلقاً لله كانت أفعالهم خلقاً له5، وأما قوله إن أفعال العباد وإن كانت أشياء فإنها مخصوص كما خصصنا ذاته وصفاته، قلنا عن ذلك أجوبة: أحدها: أن نقول له: جمعت بين الله وبين صفات الخلق في نفي الخلق عنها من غير علة جامعة بينهما وهذا لا يجوز.   1 الكهف آية (74) . 2 مريم آية (89) . 3 الكهف آية (71) . 4 يس آية (12) . 5 أشار إلى هذا ابن القيم - رحمه الله - وعقد له باباً في شفاء العليل فقال: "الباب السادس عشر (فيما جاء في السنة من تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو متفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم) . شفاء العليل ص 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 والثاني: أن يقال له: شبهت الله بصفات خلقه بكونهما غير مخلوقين لله1 وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . والثالث: أن يقال له ولأهل مذهبه: إذا كانت أفعال العباد مساوية لله ولصفاته في عدم الخلق فسموها آلهة وأرباباً كما ألزمتمونا هذا الإلزام في قولنا إن لله صفات قديمة هي علمه وحياته وقدرته وإرادته وكلامه وسمعه وبصره2. والرابع: أنا علمنا انتفاء الخلق عن الله وعن صفاته بمقتضى العقل الذي لا يجوز ورود الشرع بخلافه، لأنه لو أخبرنا نبي الله خلق ذاته أو خلق صفاته لاستحال في العقل صدقه3 لأن المخلوق معدوم الوجود قبل الخلق والخالق له موجود حال الخلق فكيف يوصف الشيء الواحد بأنه معدوم موجود بحاله واحدة؟ وهذا المعنى لا يتصور في أفعال العباد، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم- لو أخبرنا أو أخبرنا الله بنص القرآن الذي لا يحتمل التأويل بأن الله خلق أفعال العباد في الخير والشر لوجب قبوله، لأن ذلك غير مستحيل ولا مؤد إلى المحال فبطل الجمع بينهما4.   1 يعني بذلك قول المخالف: "نخرج أفعال العباد من جملة الأشياء المخلوقة بالعقل كما خصصنا جميعاً ذات الله سبحانه - وإن كانت شيئاً - من جملة الأشياء المخلوقة" حيث جعل أفعال العباد ليست مخلوقة لله كما أن ذات الله ليست مخلوقة له جل وعلا وهذا فيه تشبيه. 2 المعتزلة يزعمون أن الله لا يوصف بالصفات الذاتية لمعان قديمة، لأن ذلك يلزم فيه مماثلة الله جل وعلا في القدم، لهذا انكروا أن يكون الله موصوفاً بهذه الصفات، وقالوا: إنه عالم بعلم هو هو وقادر بقدرة هي هو. انظر: شرح الأصول الخمسة ص 195. 3 قول المصنف - رحمه الله – "لأنه لو أخبرنا نبي … ." لا يمكن في الحقيقة أن يخبرنا نبي بأمر يحيله العقل والشرع لأن إخباره بمثل ذلك يطعن في نبوته. 4 يعني بذلك ان ادعاء أن الله خلق صفاته محال، وقول إن الله خلق أفعال العباد غير محال ولا يؤدي إلى المحال فالجمع بينهما في حكم واحد باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 والخامس: أن يقال: لما كانت أفعال العباد ملكاً لله ويوصف بالقدرة عليها وبإقدار غيره عليها لم يستحل وصفه سبحانه بأنه خالق لها وموجد لها وليس كذلك ذاته وصفاته فإنه لا يوصف بأنه مالك لذاته وصفاته ولا بأنه موصوف بأنه يقدر على ذاته وصفاته1 ولا بإقدار غيره عليها فبطل الجمع بينهما. والسادس: أن يقال: لما كانت ذات الله سبحانه ليست من جنس المخلوقات من الجواهر والأجسام والأعراض، ولا يفتقر وجوده إلى مكان وزمان2 لم يجز وصفه بأنه مخلوق وليس كذلك أفعال العباد فإنها أعراض فيهم ويفتقر وجودها إلى زمان ومكان فلم يستحل وصفها بأنها مخلوقة لله كسائر الأعراض، وعلى الجملة من بلغ به العمى إلى أن يشبه ذات الله بأفعال العباد ويساوي بينهما في أنهما غير مخلوقين ويسأل الفرق بينهما، هذا كفانا المؤنة في الكلام وأبان شناعة قوله بلسانه.   1 أي لا يقال: هذا بالنسبة لله لأن الذات والصفات هي الله جل وعلا وهو القادر وهو المالك. 2 الكلام هنا في بيان مفارقة الخالق للمخلوق في الصفات ونفي افتقار الله جل وعلا إلى شيء من الأشياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 19- فصل قال هذا المخالف بكتابه الدامغ له: لو كانت أفعالنا خلقاً لله لم تقف على أحوالنا فتوجد بحسب قصودنا ودواعينا وتنتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا، متى أردنها وجدت ومتى كرهناها لم توجد، مع سلامة الأحوال كما لا يجب ذلك في ألواننا وصورنا وطولنا وقصرنا. والجواب أن نقول: ما قدر الله من وقوع أفعالنا المكتسبة ما ننكر أن ذلك وقع بقصدنا واختيارناأ وعلى هذا القصد والاختيار وقع المدح والذم والثواب والعقاب، إلا أن الله هو الخالق لقصدنا ومشيئتنا لأنه شيء وقد قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1 ومشيئتنا وقعت بمشيئة الله. قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2. وأما قوله: متى أردناها وجدت ومتى كرهناها لم توجد فغير مسلم3، فإن الإنسان قد يريد بقلبه وقوع أفعال منه من الخير أو الشر ويجب ذلك، فإذا لم يرد الله وقوع ذلك منه لم يقع منه بالجملة أو يقع بعضها إذا أراده الله وقضاه، بدليل أن الإنسان قد يريد الجماع ويحبه، وإذا لم يرد الله وقوع ذلك منه لم يقدر عليه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم- "كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس "4.   1 الزمر آية (62) . 2 الإنسان آية (30) . 3 أي غير مسلم إطلاق ذلك وإلا إذا توفرت دواعي الأمر وارتفعت الموانع وقع الفعل ويكون واقعاً بإرادة الله جل وعلا حيث لو لم يرد وقوعه لجعل دونه مانعاً يحول بينه وبين وقوعه كقوله جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} . 4 أخرجه م. كتاب القدر (ب. كل شيء بقدر) 4/2045، حم 2/110، ط. (ب. النهي عن القول بالقدر) ص 785، والبخاري في خلق أفعال العباد ص 17، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 4/580 كلهم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. وليس في شيء منها قوله: "بقضاء"، ووجه الاستدلال بالحديث أنه جعل العجز عن الأمر الذي يريده الإنسان بقدر، وهذا ظاهر في المراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ثم نعارض هذا القول ونقول: لو كانت أفعالنا خلقاً لنا ومنفردين بإيجادها لكنا عالمين بعدد حركاتنا وكيفية وقوعها منا قبل الفعل وبعده لأن الله أخبر أن الخالق يعلم ما خلق بقوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} 1. وأما استدلال هذا المخالف على معناه الذي أورده بقوله: لما كانت ألواننا وصورنا خلقاً لله لم تقع تحت إرادتنا وقصدنا، فالجواب عنه أن نقول: ليس امتناع ألواننا وصورنا بحسب إرادتنا كونها خلقاً لله، وإنما العلة بامتناع وقوعها حسب إرادتنا وقصدنا كونها غير كسب لنا2، ألا ترى أن جماعنا لما كان كسباً لنا إذا قضى الله وقوعه منا يقع يقصدنا واختيارنا ونثاب عليه إذا وقع فيما يحل ونعاقب عليه إذا وقع بما يحرم، والولد المخلوق من الجماع لما لم يكن كسباً لنا ولم يقدرنا الله، بل قد يقصد الغني الجماع ليكون منه الولد فلا يكون، وقد يجامع الفقير فيعزل كراهة الولد فيكون منه الولد فلم يقع بحسب إرادتنا وقصدنا3.   1 الملك آية (14) . 2 الأولى في هذا أن يقال: إن هذا مثال مع الفارق لأن الألوان والصور هي من خلق الله وليست كسباً للعباد وقد قال الله عزوجل: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} آل عمران آية (6) ، فالتصوير فعل الله عزوجل وخلقه وله فيه المشيئة المطلقة وليس للإنسان في ذلك أي كسب، وهذا بخلاف أفعال العباد فإنها خلق لله وكسب للعباد. 3 قول المصنف هنا "والولد المخلوق من الجماع لما لما يكن كسباً لنا ولم يقدرنا الله عليه … " يرده قول النبي - صلى الله عليه وسلم- من حديث عائشة - رضي الله عنها-: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم" اخرجه ت. كتاب الأحاكم 3/639، د. كتاب البيوع 2/108، حم 6/41، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم- الولد من كسب أبيه، لأن الأب هو الذي تزوج ثم جامع فإذا ارتفعت الموانع حصلت النتيجة بإذن الله وهي الولد، وهو في هذا مثل التجارة والزراعة فإن الإنسان يتخذ الأسباب ويجتهد في ذلك وقد تربح التجارة وقد تخسر وقد يظهر الزرع وقد لا يظهر، فربح التجارة وظهور الزرع من كسب التاجر والزارع وهو بإذن الله، أما إذا لم تربح التجارة ولم يظهر الزرع فذلك لأن الله لم يرد ذلك حيث صارت هناك موانع منعت من حصول النتائج المرجوة لأن تحقيق النتائج المرجوة من الأعمال بيد الله عزوجل ومشيئته، وقد جعل الله لكل شيء سبباً وقول المصنف (إن الفقير قد يعزل كراهة الولد فيكون منه الولد وأن ذلك واقع بغير إرادتنا) غير صحيح، لأن هذا واقع بكسبنا وعملنا حيث فعلت الأسباب ولو لم تفعل الأسباب لم يأت الولد، إلا أن تحقيق النتائج المرجوة من العمل هي بيد الله عزوجل وإرادته القاهرة لكل شيء لهذا لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم- عن العزل قال: "لا عليكم ألا تفعلوا ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون". أخرجه م. كتاب المكاح 2/1061 من حديث أبي سعيد وعنه أيضاً مرفوعاً: "ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء" م. 2/1064، فهذا يدل على أن الله عزوجل إذا أراد أمراً هيأ له أسبابه والحمل بالولد لا يكون إلا بعمل وتهيئة أسباب وهي من قبل العبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 20- فصل قال المخالف بكتابه المنقلب عليه: لو كانت أفعال العباد خلقاً لله سبحانه لم يحسن الأمر بشيء منها ولا النهي عنها ولا الذم ولا المدح ولا الثواب ولا العقاب، كما لا يحسن ذلك منه في ألوانهم وصورهم فثبت بذلك أن أفعالهم خلق لهم لأنه أمرهم بخلق شيء منها ومدحهم وأثابهم عليها، ونهاهم عن خلق شيء منها وذمهم وعاقبهم عليها. والجواب أن نقول: هذا الإلزام لا يتوجه علينا الجواب عنه، وإنما يلزم ذلك المجبرة الذين نتبرأ عنهم1 ونرد عليهم، وقد بينا أن مذهب المعتزلة القدرية بمذهب المجبرة أليق2، ثم يقال لهذا المستدل: ولم قلت: إذا قلنا: إن أفعال العباد خلق لله لم يحسن الأمر منه بشيء ولا النهي عن شيء منها، وما المعنى المقتضي لذلك لنجيب عنه؟ فإن قال: كما لا يأمرهم بخلق ألوانهم وصفاتهم ويمدحهم ويذمهم ويعاقبهم ويثيبهم عليها. قلنا: قد بينا الفرق بين الألوان والأفعال فلا معنى لإعادته3. ثم نقول له: وما حجتك ودليلك أن الله أمر العباد بخلق شيء من أفعالهم ومدحهم وأثابهم عليها ونهاهم عن خلق شيء منها وذمهم وعاقبهم عليها فهذا نفس الحكم المتنازع فيه لأن الخلق متسحيل من المخلوق، وما ننكر أن الذي أمر الله العباد به هو اكتساب شيء من الأفعال، ومدحوا وأثيبوا عليه ونهوا عن اكتساب أفعال وذموا وعوقبوا عليها، وجعل الله هذا الاكتساب علماً على من أراد ثوابه أو عقابه، ولو جعل ألوانهم وصفاتهم سبباً أو علماً للثواب والعقاب بأن يقول: من خلقته أبيض فهو علم على أنه   1 هكذا في الأصل وهي كذلك في - ب - ولعل الصواب (منهم) . 2 انظر: ص 165 في كلامه على الاستطاعة. 3 انظر: الفصل السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 من أهل الجنة ومن خلقته أسود فهو علم على أنه من أهل النار لم يخرجه ذلك عن الحكمة والعدل1 كما أنه جعل طول العمر سبباً وعلماً لكثرة الأعمال التي يقع عليها الثواب والعقاب، وقصر العمر سبباً وعلماً لقلة الأعمال التي يقع عليها الثواب والعقاب ولم يخرجه ذلك عن الحكمة والعدل.   1 أفعال الله عزوجل كلها إنما تصدر عن حكمة بالغة عقلها من عقلها من عقلها وجهلها من جهلها، ولو قال الله عزوجل ما ذكر المصنف هنا من الافتراض فإنه لا يكون إلا لحكمة بالغة وعدل كامل وليس معنى هذا أنه يعذب أهل الصلاح والإيمان وينعم على أهل الكفر والفجور، فإن هذا ليس من الحكمة ولا العدل وقد نزه الله عزوجل نفسه من فعله فقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} فنفى في هذه الآية المساواة بينهما ومن باب أولى نفي تعذيب الصالحين وتنعيم الكافرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 21- فصل قال هذا المخالف بكتابه: لو كان الله سبحانه خالقاً لأقوال العباد وأفعالهم لكان ساباً لنفسه ومكذباً لرسله بخلقه قول من قال ذلك، ولكان قائلاً بأنه ثالث ثلاثة، وأن عيسى ابن الله كما قالت النصارى، وأن عزيراً ابن الله وأن يده مغلولة كما قالت اليهود، ومع ذلك فقد مدح نفسه وأثنى عليها بكتابه فإذا كان الجميع منسوباً إليه فيجب أن يستوي جميع ما أخبر به في الصدق فيكون ممدوحاً مذموماً واحداً ثالث ثلاثة، وهذا كله متناقض فثبت أن ذلك خلق غيره من العباد لا خلقه، هذا نكتة قوله. والجواب عن ذلك من وجوه: أحدها: أن نقول: لو كان قولنا بأن الله يكون بخلقه لقول من سبه أو كذب رسله يكون ساباً لنفسه ومكذباً لرسله لكان قولنا جميعاً بخلقه القدرة1 لمن سبه أو كذب رسله مع علمه أنه يكون ذلك إذ يكون موصوفاً بالقدرة على سب نفسه وتكذيب رسله، ونحن لا نصفه بذلك وإن كان على كل شيء قدير. والجواب الثاني: وهو أن نقول أليس الله خالقاً للسيوف التي قتل بها أعداؤه أنبياءه، وعلم أنهم يقتلونهم بها قبل أن يخلقها، وخلق ألسنتهم التي كذبوا بها رسله وسبوه، ولا يقال: إنه أعان على قتل أنبيائه وذم نفسه وتكذيب رسله بما خلق لهم من الآلة التي علم لا محالة أنه يكون منهم بها ما وقع، كما أن في الشاهد أن من أعار كافراً سيفاً وعلم بخبر نبي أنه يقتل به نبيّاً فإنه يكون معيناً على قتله.   1 القدرة والاستطاعة عند بعض المعتزلة هي الصحة والسلامة وتخليتها من الآفات وهو قول بشر بن المعتمر وثمامة بن أشرس وغيلان. وقال أبو الهذيل ومعمر والمردار هي عرض وهي غير الصحة والسلامة. انظر: مقالات الإسلاميين 1/300، شرح الأصول الخمسة ص 392. وعلى كلا القولين هي مخلوقة لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 والجواب الثالث: أن يقال: إذا منعتم خلقه لأقوالهم لسب الله وتكذيب رسله لأنه يستحيل منه سب نفسه وتكذيب رسله فجوزوا خلق الله لأقوال عباده في مدحه وتصديق رسله لأنه موصوف سبحانه بذلك، فإذا سلمتم ذلك لزمكم القول بخلق أقوالهم في الجميع لأن أحداً لم يفرق بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 22- فصل وقد أورد هذا المخالف بكتابه الدامغ له كلاماً موه به في الاستدلال على من لا بصر له بأن القدرية هم أصحاب الحديث الذين يقولون أفعال العباد خلق لله، منها أنه قال: روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "القدرية مجوس هذه الأمة"1 قال وهم هؤلاء الحشوية2. واستدل عليه بأن رجلاً جاء من أرض فارس فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم-: أخبرنا بأعجب شيء رأيته، فقال: رأيت قوماً ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ويقولون هذا قضاء الله علينا، فقال عليه السلام: أما إنه سيكون في آخر هذه الأمة قوم يقولون بمثل مقالتهم أولئك مجوس أمتي"3. والجواب: أن هذا الخبر لم يذكره أحد من علماء الحديث ولا ذكر في شيء من الصحاح، وإنما وضعته الزيدية على وفق مذهبهم وإلا فليسندوه ولا تقوم المذاهب بالاختراص، ونعارضه بالأخبار المذكورة في الصحاح4 التي قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم- من القدرية؟ قال: " الذين يقولون الخير من الله والشر من إبليس ومن أنفسهم "5، وهذا الخبر مما تلقته الأمة وعلماء الأمصار   1 تقدم تخريجه ص 190. 2 تقدم ذكر هذه الكلمة وشرح شيخ الإسلام لها وبيانه من هو أحق بها، وكذلك قول أبي حاتم الرازي "وعلامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل السنة حشوية يريدون إبطال الأثر". انظر: ص 180. 3 لم أقف على من خرجه ولا من ذكره. 4 هذا اللفظ فيه تجوّزٌ كما ذكرنا فإن الصحاح هما صحيح البخاري ومسلم ونحوهما وتقدم بيان ذلك ص 189. 5 تقدم تخريج هذا التفسير فقد ورد في أثرين أحدهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً وهو حديث موضوع. انظر: 196 وورد من حديث رافع بن خديج ووصفه الذهبي بأنه موضوع. انظر: ما تقدم ص 198 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 بالقبول1 ولم يرده إلا من لا يعتد بخلافه. قال هذا المخالف: ولأن عند هذا القائل وأهل مذهبه أن العبد يثاب ويعاقب ويذم ويمدح بما لم يفعل، لأن الطاعات والمعاصي خلق غيرهم وهذا نفس قول المجوس، وحكي أنهم يأخذون عنزاً ويدفعونها من شاهق ويضربون رأسها فإذا ماتت أكلوا لحمها وقالوا: عصت الله، هذا عمدة قوله. والجواب: أن هذا جهل منه بمذهب أهل السنة على ما مضى من رميه لهم بمذهب المجبرة الذي قولهم أشبه بقولهم2، ولسنا نقول: إن أفعال العباد من الله دون العباد ولا من العباد دون الله ولا من الله ومن العباد على حد واحد، لأنها لو كانت من الله دون العباد لعذبهم على غير ذنب ولم يصف نفسه بذلك، ولو كانت من العباد دون الله لشاركوا الله في الخلق، وقد قال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 3 ولو كانت من الله ومن العباد على حد واحد لأشتبهت صفات الخالق بالمخلوق، وقد قال الله تعالى: {خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} 4. وإذا بطلت هذه الأقسام ثبت أنها من الله خلقاً وتقديراً، ومن العباد عملاً واكتساباً.   1 لعل المقصود بذلك معناه، أما الخبر فهو باطل أما المعنى فإن السلف وصفوا القدرية بأنهمن مجوس هذه الأمة وأنهم الذيين يقولون: إن العباد يخلقون أفعالهم أو إن الله لا يخلق المعاصي وقد عنون اللالكائي - رحمه الله - فصلاً بذلك في كتابه فقال: "سياق ما روي في أن القدري الذي يزعم أن الله لم يخلق أفعال العباد ولم يقدرها عليهم ويكذب بخلق الله لها وينسب الأفعال إلى نفسه دونه" وروي في ذلك عن يحيى بن أبي كثير ومالك والشافعي ونحوه عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما. انظر: شرح اعتقاد أهل السنة 4/694-704. 2 تقدم بيان هذا ص 191. 3 فاطر آية (3) . 4 الرعد آية (16) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وأما ما ادعاه من أن أهل السنة يشابهون المجوس بما ذكر فغير صحيح. لأن أكثر ما قالوا: إن أفعالهم أشياء وسماها الله أشياء وقد قال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1، وإنما المشابه لهم هم القدرية لأنهم يقولون: إن الله سبحانه يريد الخير ويقدر عليه ولا يريد الشر ولا يقدر عليه2 وإبليس لا يريد الخير ولا يقدر عليه ويريد الشر ويقدر عليه، وهذا كما قالت المجوس: من أن النور يريد الخير ويقدر عليه، ولا يريد الشر ولا يقدر عليه، والظلام لا يريد   1 الرعد آية (16) . 2 هذا يحتاج إلى تفصيل فإن المعتزلة يقولون في أفعال العباد إذا كانت حسنة فهي على ضربين إما أن تكون مباحة وهذه لا يجوز أن يكون الله مريداً لها، وإما أن تكون واجبة أو مندوبة فالله تعالى يكون مريدا لها وأما إن كانت قبيحة فإن الله لا يريدها البتة ولا يجوز أن يريدها. وهم يجعلون الإرادة والمحبة والرضا من باب واحد، ولا يفرقون بين الإرادة الكونية القدرية التي هي بمعنى المشيئة، ولا بين الإرادة الدينية الشرعية التي يتعلق بها الحب والرضا، لهذا أجمعوا على أن الله لا يريد المعاصي أي أن ما وقع منها وقع بغير مشيئة، وهذا خلاف نص القرآن الصريح في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} الآيات في هذا كثيرة. انظر: شرح الأصول الخمسة 431، 457، 464، مقالات الإسلاميين 1/299. أما قول المصنف عنهم إنهم يقولون: (إن الله لا يقدر على الشر) فإنهم في هذا قسمان: قسم قالوا: إن الله تعالى موصوف بالقدرة على ما لو فعله لكان قبيحاً وبه قال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة وهو الذي نصره القاضي عبد الجبار. والقسم الآخر ومنهم النظام وأبو علي الأسواري ذهبوا إلى أن الله تعالى غير موصوف بالقدرة على ما لو فعله لكان قبيحاً. فقال النظام: "إن الله لا يقدر أن يفعل بعباده خلاف صلاحهم"، ووافقه الأسواري على هذا وقال محمد بن عبد الله الإسكافي منهم: "إن الله تعالى يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال والمجانين ولا يوصف بالقدرة على ظلم العقلاء"، فعلى هذا فقول القدرية في الإرادة يشبه قول المجوس في أن النور يريد الخير والظلمة يريد الشر، أما القدرة على الخير وعدم القدرة على الشر فإن هذا القسم من المعتزلة وهم النظام وأبو علي الأسواري هم الذين يصدق عليهم مشابهة المجوس في زعمهم أن النور يريد الخير ويقدر عليه ولايريد الشر ولا يقدر عليه. وقد شبه الإسفرائيني قول النظام في هذه المسألة بقول المانوية. انظر: شرح الأصول الخمسة ص 313، مقالات الإسلاميين 1/275، الفرق بين الفرق ص 133، 134، 151، 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الخير ولا يقدر عليه ويريد الشر ويقدر عليه1، فنقلت القدرية صفة النور إلى الله وصفة الظلام إلى إبليس، فلذلك سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم- " مجوس هذه الأمة "2 وبهذا المعنى فسر ابن عباس هذا الحديث على ما نقله عنه أهل النقل3. ومما موه به هذا القدري المخالف على العامة في الاستدلال أن ادعى أن خصمه يقولون: المعصية من اثنين أحدهما محمود عليها وهو الله، والآخر مذموم عليها وهو العبد، وهذا مثل مذهب المجوس في قولهم إن العالم من صانعين أحدهما محمود والآخر مذموم، هذا نكتة قوله. والجواب عن ذلك: أن يقال له: قولك المعصية من اثنين غير مسلم أنها تسمى معصية في حق الله سبحانه وإنما هي معصية في حق العبد، ووجودها من أحدهما غير وجودها من الثاني على ما مضى قبل هذا4، فقولنا إنّ كون الفعل خلقاً لله وكسباً للعبد لا يقتضي مشابهته لقول المجوس، وإنما يشبه قول المجوس من يقول إنه مريد الخير غير مريد الشر   1 انظر: الملل والمحل بهامش الفصل 2/72. 2 تقدم الحديث في ذلك ص 190. 3 روى اللالكائي بإسناده عن ابن عباس قوله من كلام له طويل في القدرية "إن المجوس زعمت أن الله لم يخلق شيئاً من الهوام والقذر ولم يخلق شيئاً يضر إنما يخلق المنافع وكل شيء حسن وإنما القذر هو الشر والشر كله خلق إبليس وفعله. وقالت القدرية: إن الله لم يخلق الشر ولم يبتلي به وإبليس رأس الشر كله وهو مقر بأن الله خالقه، قالت القدرية: إن الله أراد من العباد أمراً لم يكن وأخرجوه عن ملكه وقدرته وأراد إبليس من العباد أمراً كان" شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/694. وإسناده ضعيف فإن فيه شعيب بن بكار، قال الأزدي ضعيف. انظر: الميزان 2/275. وفيه ثلاثة مجاهيل وهم شيخ شعيب بن بكار مهاجر البرذعي وشيخه محمد بن سليمان الأزدي وشيخه سحيم بن العلاء العبدي لم أجد من ترجمهم، وكذلك أيضاً أفاد محقق الكتاب الدكتور أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي. 4 أي قوله ص 231 "إنها من الله خلقاً وتقديراً ومن العباد عملاً واكتساباً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ومن يقول: إن للعباد صانعاً ولحركاتهم في الأفعال صانعاً غيره وهم القدرية فقد جعلوا لله شريكاً في الخلق وقد كذب الله من ادعى له شريكاً في الخلق. ومما موه به هذا القدري على العامة والضعفاء بالاستدلال على أن القدرية هم أهل السنة بقوله: لأنهم يقولون لكل ما وقع منهم من الفساد والمعاصي هو بقضاء من الله وقدر لهجوا بذلك ومن لهج بشيء ينسب إليه. وقال: نحن ننفي عن الله القضاء بالباطل ولا يقضي إلا بالحق، وقد قال الله تعالى بكتابه: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} 1 ولا شك أن المعاصي باطل، قال فإذا ثبت أنهم يثبتون لله ما ينفيه وتلهج ألسنتهم به كانوا أولى بهذا الاسم لأن المثبت للشيء هو أولى بأن يشتق له اسم منه دون من نفاه. ألا ترى أن الثنوي اسم لمن أثبت لله ثانيا، والمشبه اسم لمن أثبت التشبيه لله لا لمن نفاه، وكذلك ينسب الشيء إلى من لهج به فيسمى التمري2 من يلهج به، هذا نكتة قوله. والجواب عن هذا من وجوه: أحدهما: أن تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم- في القدرية أولى من تفسير غيره، وقد قال - صلى الله عليه وسلم-: "القدرية هم الذين يقولون: الخير من الله والشر من إبليس ومن أنفسهم"3. وهذا كاف في جميع ما أورده المخالف من التمويهات في كتابه، ولكني مع هذا لا آلو جهداً في إبطال ما أورده من طريق المعاني التي أوردها، فأقول في الجواب الثاني عن قوله: إن أهل السنة أولى باسم القدرية لأنهم   1 غافر آية (20) . 2 قال في الدامغ الباطل ورقة 7/أ: "ولهذا يقال فلان تمري وفلان لبني للذي يلهج به". 3 تقدم تخريجه ص 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 يثبتون القدر لله في جميع أفعال العباد، ونحن ننفي ذلك عن الله فكانوا أولى بالاسم أن يقال: هذا المعنى غير صحيح لأنك علقت على العلة ضد مقتضاها ومقتضى العلة أن اسم القدرية أولى أن يقع على من يثبت القدر لنفسه على جميع الأفعال وينفيه عن الله فنسبة الشيء إلى من يدعيه لنفسه وينفيه عن غيره ألوى من نسبته إلى من ينفيه عن نفسه ويثبته لغيره، ألا ترى أنه لا يقال النحوي واللغوي إلا لمن وجد معه نحو ولغة، وكذلك الخارجي لا يقال إلا لمن خرج على علي - رضي الله عنه -، والرافضي لمن رفض الصحابة وكذلك الثنوي1 إنما سمي ثنوياً لأنه أثبت لله ثانياً يشاركه في الإلهية، فيجب على هذا أن يسمى القدري من أثبت لله من يشاركه في القدر. وألسنة القدرية لهجة بأن لهم قدراً وقدرة على أفعالهم دون الله فهم أولى بتسميتهم قدرية. وأما استدلاله بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} 2 ولا شك أن المعاصي من الباطل وأراد بذلك أن الله لا يقضي بالباطل. والجواب على ذلك أن يقال: القضاء في القرآن ينصرف إلى وجوه3 كثيرة وكذلك لفظة (الحق) تنصرف في القرآن إلى معان كثيرة4 ولا تكون   1 الثنوي نسبة إلى الثنوية وهم فرقة من المجوس، ومن الفرق بينهم وبين المجوسية الأصلية أن الثنوية يقولون بإثبات أصلين مدبرين قديمين يقتسمان الخير والشر والنفع والضر والصلاح والفساد يسمون أحدهما النور والثاني الظلمة. أما المجوسية الأصلية فإنهم يقولون بالأصلين إلا أنهم يقولون لا يجوز أن يكون الأصلان قديمان بل النور أزلي والظلمة محدثة. انظر: الملل والنحل بهامش الفصل 2/72-73. 2 غافر آية (20) . 3 ذكر الحافظ في الفتح 8/389، في (قضى) تسعة عشر معنىً. 4 ذكر فيها الراغب الأصفهاني أربعة أوجه: الأول: أن الحق يقال لموجِد الشيء بسبب ما تقتضيه الحكمة ولهذا قيل في الله تعالى هو الحق. الثاني: يقال للموجَد بحسب مقتضى الحكمة لهذا يقال فعل الله تعالى كله حق. الثالث: في الاعتقاد للشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء نفسه كقولنا اعتقاد فلان في البعث والثواب والعقاب والجنة والنار حق. الرابع: للفعل الواقع بحسب ما يجب وبقدر ما يجب وفي الوقت الذي يجب كقولنا فعلك حق وقولك حق. المفردات ص 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الآية حجة على مذهبه إلا إن صرف لفظة القضاء إلى الإرادة، فيكون المعنى والله يريد الحق، ولم يقل أحد إن القضاء يعبر به عن الإرادة بالجملة، ولا يتوجه المعنى بالحق على هذا، وإن حمل على هذا كان مجازاً واتساعاً كان ذلك استدلالاً منه بدليل الخطاب وهو ممن لا يقول به. وإن صرف لفظ القضاء إلى الخلق فهو مما ينصرف إليه القضاء في القرآن لقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} 1 أي خلقهن في يومين2 وقالوا: أراد به لم يخلق الباطل من أفعال العباد، قيل: فعلى مقتضى هذا أن يكون خلق ما ليس بباطل من أفعالهم وهم لا يقولون بذلك3، فعلم أن هذا الاستدلال منه تمويه لا يعلم معناه، ومع هذا فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} 4 فأخبر أن الذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً من أفعالهم، فتكون الآية حجة عليه لا له لأن لفظة الذين جمع لما يعقل وذلك ينصرف إلى ما كانوا يعبدون من الملائكة والجن لا إلى الأصنام5 وعلى أن المراد بهذه الآية غير ما أراد من ذلك، والمعنى   1 فصلت آية (12) . 2 انظر: تفسير ابن جرير 24/99، وانظر: اللسان في مادة قضى 5/3665. 3 لأن المعتزلة ينكرون أن الله يخلق أفعال العباد سواء الطاعة أو المعصية. 4 غافر آية (20) . 5 هذا الكلام من المصنف في مقابل ما ادعاه المعتزلي من إنكار أن الله يخلق أفعال العباد لأن فيها المعاصي وهي من الباطل الذي لا يقضي الله به على زعمه على ضوء قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقّ} ، فأبان المصنف هنا أن آخر الآية يرد عليه إذا فسر هذا التفسير وهو أن الله وصف الآلهة من دون الله أنها لا تقضي بشيء، أي لاتخلق أفعالها فيكون الله خالقها، وهذا كله في مقابل قول المعتزلي وإلا الصواب فيها أن (لا يقضون) (لا يحكمون) كما سيأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فيها: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} أي يحكم بالعدل [1] هي كقوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [2] . ومما موه به هذا القدري على العامة أن ادعى أن الذين نهى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن مجالستهم [3] هم أصحاب الحديث لمعان ادعاها لا معنى لإعادة أكثرها لكثرة ترداده لذكرها في الاستدلال أو وقوع الجواب عنها. فمنها: أن قال: لأن قولهم يؤدي إلى أنه لا فائدة في بعثة الرسل، وأن ذلك يؤدي إلى ختم باب التوبة لأن المذنب إذا علم أن الله هو الخالق لفعله في المعصية قال: لا سبيل لي إلى توبة عمَّا لم أفعله. ولأن ذلك يؤدي إلى سوء الظن بالله لأنه يعذب العبد على ما لم يفعله. وهذا نكتة ما طول بذكره بذلك. والجواب أن هذا منه إلزام لا يلزم إلا المجبرة الذي قوله بقولهم أحق وهم بهم أليق على ما مضى [4] ، وأما قوله: إن ذلك يؤدي إلى سوء الظن بالله فقوله بذلك أيضاً أولى لأن عنده إن الله لا يغفر الذنوب الكبيرة ولو تاب المذنب منها [5] رداً لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [6] .   [1] انظر: تفسير القرطبي 15/303، تفسير ابن كثير 4/75. [2] الزمر آية (69) . [3] يشير إلى حديث عمر - رضي الله عنه - مرفوعاً "لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم" وقد تقدم تخريجه ص 189. [4] انظر: ص 191. [5] سيفرد المصنف - رحمه الله - فصلاً في الرد على المعتزلة في دعواهم إن الله لا يغفر لأصحاب الكبائر. [6] الزمر آية (53) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 23- فصل قال هذا القدري المخالف بكتابه: لو كان الله هو الخالق لما يوجد من العباد من الظلم والجور والكذب لوجب أن يسمى ظالماً وكاذباً وجائراً ويتعالى الله عن ذلك. والجواب عن ذلك أن يقال: هذا الاستدلال صدر ممن يجهل حد الظلم والظالم في اللغة وذلك أن الظلم في اللغة هو: مجاوزة الحد1، ولهذا قيل في المثل: "من أشبه أباه فما ظلم"2 أي لم يجاوز الحد. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم- فيمن زاد على الثلاث في الوضوء: " فقد أساء وظلم "3. فإذا تقرر هذا فالظالم هو: من حد له حد فجاوزه، وليس فوق الله سبحانه من يحد له الحدود فيجاوزها. وجواب آخر: وهو أن يقال بالإجماع إن الله قد خلق لهم الاستطاعة4 التي وقع بها منهم الظلم والكذب والجور مع علمه أنهم يظلمون بها فيلزمكم على اعتلاكم5 هذا أن يسمى بذلك ظالماً ومعيناً على الظلم. وجواب آخر أن يقال: إن كان بخلقه الظلم يسمى ظالماً فينبغي أن يكون بخلقه حركة الاضطرار يسمى متحركاً وبخلقه السقم سقيماً، وإذا لم يلزم ذلك عليهم لم يلزم علينا.   1 انظر: اللسان 4/2756. 2 انظر: كتاب الأمثال للميداني 3/312. 3 أخرجه د. في كتاب الطهارة (ب. الوضوء ثلاثاً) 1/21، جه. كتاب الطهارة وسننها (ب. ما جاء في القصد في الوضوء) 1/146، ن. كتاب الطهارة (ب. الاعتداد في الوضوء) 1/18، حم 2/180، كلهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: "جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثاً قال: هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم" قال الزيلعي: "قال الشيخ تقي الدين في الإمام: وهذا الحديث صحيح عند من يصحح حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لصحة الإسناد إلى عمرو". نصب الراية 1/29. 4 تقدم بيان قول المعتزلة في الاستطاعة وأنها الصحة والسلامة وهي مخلوقة لله. انظر: ص 214. 5 أي ما ذكرتموه من علة لنفيكم خلق أفعال العباد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 24- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1 وأخبر سبحانه أنه خلقهم ونفس أعمالهم، كما أخبر أنه يجازيهم على نفس أعمالهم بقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2، فانصرف ذلك إلى حركاتهم في العمل وصار التقدير (خلقكم وعملكم) . فأجاب القدري المخالف وقال: لا حجة لهذا المستدل بهذه الآية، لأن المراد بالآية والله خلقكم والحجارة التي تعملونها أصناماً بدليل قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} 3 وأراد الأصنام لأنهم عبدوها ولم يعبدوا أعمالهم، هذا نكتة قوله. ولنا عن ذلك أجوبة أحدها: أن يقال: هذا صرف للكلام عن ظاهره وتبديل، والتصريف يشهد لصحة ما قلنا وذلك أنه يقال: عمل يعمل عملاً فهو عامل، والعين معمول فيها، فالعمل هو المصدر وهو اسم العمل وهو حركته بالعمل أو آثار عمله، فاسم العمل يقع على ذلك حقيقة فمن حمل العمل عليه صرفه إلى الحقيقة، والعين المعمول فيها وهي الأخشاب والأحجار المنحوتة لا تسمى عملاً وإنما تسمى معمولاً بها وتسمى معمولاً بها مجازاً لا حقيقة لأنه لا يعملها حقيقة4. جواب ثان: أنه يصح نفي العمل عن العين المعمول بها ولا يصح نفي العمل عن حركات العامل ولا عن آثار عمله بأن تقول: ما رأيت بناء زيد ولا نحته، وإنما رأيت الأحجار والأخشاب التي بنى بها ونحتها بعد زوال بنائه ونحته، ويصح أن تقول: رأيت عمل زيد ونحته إذا رآه يتحرك بالبناء والنحت وإن لم ير العين التي بنى بها ولا أثر نحته، ولا يصح أن تقول:   1 الصافات آية (96) . 2 السجدة آية (17) . 3 الصافات آية (95) . 4 مراده هنا بـ (لا يعملها حقيقة) أي لا يخلقها بإيجادها من العدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ما رأيت عمله إذا رأى حركته في العمل أو آثار عمله، وإن رأى العين بعد زوال عمله بها. جواب ثالث: أن المشركين إنما كانوا يعبدون من الأخشاب والأحجار أوثاناً وأصناماً، فالأوثان: ما نحتوه على مثال ما ليس له صورة، والأصنام على مثال ما له صورة1 فقوم إبراهيم عليه السلام إنما عبدوا تلك الأوثان والأصنام لأجل نحتهم وتصويرهم الذي نحتوه وصوروه تعظيماً للنحت والتصوير لا للأعيان2 بدليل أنهم كانوا لا يعبدونها قبل ذلك، ولما كسرها إبراهيم عليه السلام وأزال تصويرها ونحتها بطلت عندهم أن تكون آلهة، فرد الله عليهم ذلك وأخبرهم أن هذا النحت والتصوير الذي عبدوها لأجله لا يقتضي كونها معبوده لأنه الخالق له فقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أي خلقكم وخلق عملكم ويدل هذا التأويل أن الصنعة في الأعيان تدل على حكمة الصانع لها ولهذا قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} 3 فالمسلمون إنما استدلوا على الله وعلى   1 انظر: النهاية لابن الأثير 5/151، اللسان 4/2511، 6/4765. وقد ورد فيها غير ما ذكر المصنف وهو أن الوثن: ما كان له جثة من خشب أو حجر أو فضة ينحت ويعبد. والصنم: الصورة بلا جثة. 2 عبادة المشركين للأصنام منها ما يكون تعظيماً لمعظم لديهم فينحت الصنم على هيئته ويعبد كما هو الحال في (ود وسواع ويغوث ويعوق زنسراً) ، فقد روى البخاري بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال فيهم: "أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت" خ. كتاب التفسير، تفسير سورة نوح 6/133. ومنها ما كانوا ينحتونه لمجرد العبادة فيعبدون الصورة المنحوتة كما ذكر ابن إسحاق أن الناس في الجاهلية اتخذ كل أهل دار صنماً في دارهم يعبدونه فإذا أراد الرجل منهم سفراً تمسح به حين يركب وإذا قدم من سفر تمسح به. انظر: البداية والنهاية 2/210. 3 آل عمران آية 190) وسقط من الأصل قوله تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 حكمته وعلمه بآثار صنعته في الأعيان، وكذلك المشركون إنما عبدوا الأصنام لأجل الصنعة فيها. جواب رابع: وهو أن قول القائل نحت كقوله ضرب وذلك يشتمل على ستة أشياء: على الفاعل، وعلى المصدر وهو الضرب والنحت وهو المفعول حقيقة وإنما فعل الفاعل فعلاً أو قعه فيه فيسمى مفعولاً له مجازاً، والفاعل لها هو الله1، وعلى ظرف الزمان وظرف المكان وهما مفعول فيهما حقيقة2، وعلى الحال وهو مفعول فيه أيضاً حقيقة3 فإذا كان الله هو الخالق للخمسة الأشياء وجب أن يكون خالقاً للسادس وهو المصدر. جواب خامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: " إن الله صانع الخزم وصانع كل صنعة" 4، وهذا نص في موضع الخلاف يؤيد ما ذهبنا إليه من تأويل الآية. فاعترض هذا المخالف على هذا بثلاثة أمور أحدها أن قال: هذا الخبر غير موثوق بسنده.   1 قوله هنا "يسمى مجازاً مفعولاً له" من ناحية أن الإنسان ليس خالقاً للمضروب أو المنحوت والفاعل له أي الخالق له حقيقة هو الله. 2 المراد بظرف الزمان أي وقت حدوثه وظرف المكان أي مكان حدوثه وهو الحجر في مثل نحت زيد الحجر، وعلى هذا يكون ظرف الزمان مفعول فيه من ناحية وقوع الفعل فيه وظرف المكان هو الواقع عليه الفعل مفعول فيه بحدوث النحت أو الضرب فيه. 3 مثال ذلك: (ضربت المذنب قائما) فقائماً حال وهو مفعول فيه حيث وقع عليه على تلك الحال. 4 أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد ص 17، وابن أبي عاصم في السنة 1/158، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 332، والحاكم في المستدرك 1/31، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/538، كلهم من طريق أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن خراش عن حذيفة مرفوعاً ولفظه عندهم "أن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته" وبعضهم يورده "أن الله خالق … " الحديث. والحديث صححه الحاكم وقال: هو على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر: حديث صحيح. فتح الباري 13/498، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/183، وورد ذكر الخزم في كلام حذيفة - رضي الله عنه - موقوفاً أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد بسنده ص 17، وكذلك أبو عبيد القاسم بن سلام كما يذكر المصنف في غريب الحديث 4/127. والخزم هو شبيه بالخوص وليس بخوص. انظر: غريب الحديث 4/127، وقال في اللسان: شجر له ليف تتخذ من لحائه الحبال. اللسان 2/1153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الثاني: قال: هذا من أخبار الآحاد فلا يستدل به في الأصول. الثالث: قال: هو عام فيكون مخصوصاً بما قدمنا. والجواب عن اعتراضه على السند أن يقال: هو مذكور في الصحاح التي اتفق أئمة الأعصار على الاحتجاج بالمذكور فيها ورواه أبو عبيد القاسم ابن سلام1 في غريب الحديث2 عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه3. وأما الجواب عن قوله إنه من أخبار الآحاد فإن هذا مما تلقته الأمة بالقبول   1 أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي اللغوي الفقيه صاحب المصنفات. قال إسحاق بن راهويه: "الله يحب الحق أبو عبيد أعلم مني وأفقه"، وقال: "نحن نحتاج إلى أبي عبيد وأبو عبيد لا يحتاج إلينا". توفي - رحمه الله - سنة (224?) بمكة. انظر: تاريخ بغداد 12/403، تذكرة الحفاظ 2/417. 2 غريب الحديث لأبي عبيد مدحه العلماء والأئمة، فروى الخطيب عن الإمام أحمد أنه استحسن الكتاب وقال: "جزاه الله خيراً"، وقال عبد الله بن طاهر حين عرض عليه الكتاب: "إن عقلاً بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب لحقيق أن لا يحوج إلى طلب المعاش". وقال أبو عبيد عن كتابه: "كنت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال فأضعها في موضعها من الكتاب فأبيت ساهراً فرحاً مني بتلك الفائدة". انظر: تاريخ بغداد 12/405-407. وقد طبع الكتاب في أربعة مجلدات بمطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الهند. وجعل في آخره فهرساً لغريب اللغة، والجدير بالذكر أن النسخة التي عليها في طبع الكتاب منسوخة عن نسخة رويت عمن قرأها على أبي الطيب طاهر بن يحيى بن أبي الخير العمراني المتوفى سنة (587?) الذي قرأها مرراً على أبيه الشيخ يحيى بن أبي الخير العمراني رحمه الله. انظر: مقدمة كتاب غريب الحديث ص 1. 3 غريب الحديث لأبي عبيد4/127، وأخرجه أيضا البخاري في خلق أفعال العباد ص 17، واستدل أبو عبيد - رحمه الله - بهذا الأثر على خلق الأعمال وأيده بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وقال: ألا ترى انهم كانوا ينحتون الأصنام ويعملونها بأيديهم ثم قال لهم: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ويوافق ظاهر القرآن فجرى مجرى أخبار التواتر، وعلى أنه إذا جاز الاستدلال بأخبار الآحاد في جلد الإنسان وضرب الرقاب وتحليل الفروج وتحريمها جاز الاستدلال بها في الأصول1. وأما الجواب عن قوله إنه عام فيكون مخصوصاً بما قدمناه: فإن هذا جهل من المخالف بصيغة العموم والخصوص وكيفية الاستدلال بهما، وذلك أنا لا ننكر أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم- "إن الله صانع كل صنعة" عام في جميع الصفات والأعمال في الخير والشر، وعلى مذهب هذا المخالف أن الله لم يصنع شيئاً من الصنع الموجودة من العباد لا في الخير ولا في الشر فيحمل عليه الخبر، وقد اعترض هذا المخالف على قولي: "فأخبر أنه خلق نفس أعمالهم كما أخبر أنه يجازيهم على نفس أعمالهم بقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. وقال: "هذا دليل على المستدل بأن الجزاء من الله هذا لا يكون إلا على شيء أتواهم به فأما ما خلقه الله فلا يجازون به". والجواب عن هذا أن يقال له: هذا شرح لمذهبك فهو غير مسلم، ونحن   1 هذا هو المذهب الحق في أخبار الآحاد وهي أنها تفيد العلم إذا تلقتها الأمة بالقبول عملاً وتصديقاً لها، وهو قول جمهور العلماء، بل نقل ابن عبد البر عليه الإجماع، وخالف في ذلك طائفة تابعوا بعض أهل الكلام. ومتى أفادت العلم وجب قبولها في العقائد وغيرها إذ لا فرق بين الاستدلال بها على الحدود وسائر الأحكام الشرعية وبين الأمور الاعتقادية مثل صفات الله جل وعلا وأشراط الساعة والقيامة والحساب والجنة والنار وغيرها، وقد جعل المتكلمون سواء في ذلك المعتزلة ومن تابعهم من الأشاعرة وغيره هذا أصلاً في رد أحاديث الصفات وما خالف قواعدهم العقلية أعني قولهم في كل خبر أرادوا رده وإبطاله "هذا حديث أحاد لا تثبت به العقائد"، وقد رد ابن القيم - رحمه الله - هذا الكلام وأبطله في كتابه مختصر الصواعق المرسلة وأبان أنه لا فرق بين قبول خبر الواحد في الاعتقاد أو الأحكام الشرعية. انظر: مجموع الفتاوى 33/351، مختصر الصواعق المرسلة 2/362-370، 406-412. شرح الكوكب المنير ص 264-265، وشرح الطحاوية ص399، مذكرة أصول الفقه على روضة الناضر/ للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص 104-105. 2 السجدة آية (17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 نقول: إن الثواب والعقاب من الله على اكتسابهم لأعمالهم في الخير الذي وفقهم لاكتسابه وفي الشر الذي لم يتفضل عليهم بالتوفيق بضدها. وأما قوله: لا يجازيهم بما خلقه فيهم فينتقض بما خلق فيهم من زيادة الهداية وزيادة الضلال عند هذا المخالف بأنه يجازيهم على ذلك في الآخرة على قول المخالف وإن كان ذلك من خلقه1. استدل المخالف على صحة تأويله في الآية بمسألة فقهية فقال: لو كان لرجل عبد مستأجر على نسج ثوب فقال: أنا مالك لهذا الغلام ولما يعمل فإن الذي يسبق إلى أفهام السامعين أنه أراد مالك لهذا العبد ولهذا الثوب الذي يعمله. والجواب أن يقال له: سلكت في هذا طريقاً متوعراً عليك لجهلك به فيوشك أن تبقى منقطعاً فيه، فأنت إذاً المراد بقول الشاعر: دع المكارم لا تنهض لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي2 ثم بقال له: أما قول القائل هذا العبد الناسج وما يعمله ملك لي فإنه خبر والخبر: ما دخله الصدق أو الكذب ولا يتعلق بقول هذا حكم إلا معرفة صدقه أو كذبه، وقوله وما يعمل هو كقوله وعمله، (وعمله) 3 حقيقة هو حركته بعمل الثوب في النسج فيكون منصرفاً إليه ولا ينصرف إلى الثوب إلا بتفسير منه أنه أراده4 فيكون معمولاً له مجازاً على ما مضى5.   1 سيأتي زيادة إيضاح لذلك حيث عقد فصلاً خاصاً في مسألة الهدى والضلال. انظر: فصل رقم (44) وما بعده. 2 هذا البيت للحطيئة من قصيدة يهجو بها الزبرقان بن بدر. انظر: ديوان الحطيئة ص5. 3 في الأصل هكذا (وعمله حقيقه) فأضفت (وعمله) الثانية لأنه لا يتضح الكلام بدونها. 4 هذا ينطبق على ما ذكر العمراني وهو قوله: (العبد الناسج وما يعمله ملك لي) أما قول الزيدي: "لو كان لرجل عبد مستأجر … " الخ فلا ينطبق عليه هذا الكلام لأن الثوب ملك للمستأجر وليس لسيد الغلام فلا يصح له أن يستثنيه. 5 انظر: ما مضى ص241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وسمع الآن الإلزام الصحيح من الفقه عند أهل النظر والتحقيق فيه: أنه لو حلف رجل بطلاق امرأته ثلاثاً أو بعتق عبده أن لا ينظر إلى عمل زيد فنظر إلى حركات زيد في العمل أو إلى أثر عمله فإن امرأته تطلق وعبده يعتق، وإن لم ينظر العين التي عمل بها، ولو نظر إلى العين التي عمل بها زيد بعد زوال عمله بها لم يحنث باليمين في الطلاق والعتق. وكذلك لو قال رجل: أو صيت لفلان بعمل عبدي فإن ذلك وصية بعمل العبد ولا يكون وصية بمعمولة1، وكذلك لو قال رجل لآخر: بعتك عمل عبدي أو أجرتك عمله بكذا وكذا من مدة، فإن ذلك عقد على عمله وهو حركته بالعمل، ولا يكون عقداً على الأعيان التي عملها العبد، وهذا لا إشكال فيه عند ذوي القرائح المستعملة في الفقه دون المتطفلين عليه. استدل هذا المخالف على صحة تأويله في الآية بأن قال: لو كان كانت أعمال العباد خلقاً لله سبحانه لكانت الحجة لقوم إبراهيم عليه السلام؛ لأنه إذا كان التقدير والله خلقكم وعبادتكم للأصنام لكان لهم أن يقولوا: فما جرمنا ولأي معنى جئت مبعوثاً إلينا، أتريد منا أن لا يخلق الله فينا شيئاً من عبادتنا فذلك ليس إلينا من شيء، أم تريد أن تغير خلق الله فينا فتكون الحجة لهم على إبراهيم. ولنا عن هذا أجوبة: أحدها: أن نقول لهذا المخالف: عدمت التمييز بين مذهب أصحاب الحديث ومذهب المجبرة فأنت في استدلالاتك تخبط في عشوى، وهذا الإلزام يلزم المجبرة الذين يقولون: لا ينسب إلى العباد شيء من أعمالهم وهم كالخامة من الزرع تذهب بها الريح مرة وهكذا ومرة هكذا2، ومذهب   1 مثال ذلك أن العبد لو كان خياطاً فإن الوصية تتعلق بأجرته وكسبه، أما العين المعمول بها فليست داخلة في الوصية لأنها ليست للعبد. 2 تقدم بيان مذهب الجبرية ص 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 القدرية أشبه بمذهب المجبرة لقولهم إن الاستطاعة لا توجد مع العمل وإنما هي متقدمة الوجود والأعمال تتولد منها1. وأصحاب الحديث يقولون بخلاف هذين المذهبين فلا يلزمهم الجواب عن هذا الإلزام. والجواب الثاني: أن عبدة الأصنام أكثرهم ليسوا قدرية، بل يقرون إن الله خلقهم وبذلك أخبر الله عنهم2 وإنما يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله3 ومن يقول: إن الله خلقه فإنه يقر أن جميع حركاته خلق لله؛ لأنها من سائر صفاته كلونه وسمعه وبصره وسائر الأعراض فيه، ولم يخالف بذلك إلا القدرية، وعبدة الأصنام منزهون عن قولهم4. والجواب الثالث: أنه لو تصور أن يكون قوم إبراهيم قدرية وخاطبوه بهذا   1 انظر: ص 214 في بيان قول المعتزلة في الاستطاعة ووجه كونهم جبرية. 2 قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . لقمان آية (25) . وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} الآية المؤمنون آية (84، 85) . 3 يدل على ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية الزمر آية (3) . 4 إلا أن عبدة الأصنام لهم قول في القدر قبيح وهو القول بالجبر وإنكار الأمر والنهي فنسبوا إلى الله عزوجل كل ما يكون من شركهم وفسقهم قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} الأنعام آية (148) وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} النحل آية (35) . فأثبتوا هنا القدر ومشيئة الله جل وعلا وجعلوها حجة في إنكار الأمر والنهي، لهذا بين الله ضلالهم واستحقاق الذين من قبلهم العذاب بسببه فقال بعد آية الأنعام: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ} وقول المشركين شر من قول المعتزلة لإبطالهم الأمر والنهي ونسبتهم القبائح إلى محبة الله ورضاه، وأما المعتزلة فإنهم يعظمون الأمر والنهي إلا أنهم ينكرون القدر ظناً منهم أن بين القدر والأمر والنهي تعارض". وللاستزيادة من هذا المعنى انظر: كلام شيخ الإسلام في محموع الفتاوى 8/99-105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الخطاب لأجابهم بنص القرآن وهو أن يقول: قال الله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ الْبَلاغُ} 1 أمرني الله بالبيان وقد فعلت ما أمرت به والهداية والتوفيق إليه. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2، وقال في آية أخرى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 3، ويقول لهم: سلوا الله الهداية إلى الإسلام لأن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم- سأل ذلك لنفسه ولولده إسماعيل وذريتهما فقال: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا} 4، وأخبر الله عنه في آية أخرى قال: {اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} 5 فهل سأل إبراهيم إلا ما يملكه الله ولا يملكه إبراهيم؟.   1 المائدة آية (99) . 2 إبراهيم (4) . 3 النحل آية (36) . 4 البقرة آية (128) . 5 ابراهيم آية (40) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 25- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} 1، واختلاف الألسن هي اللغات في الكلام2. فاعترض القدري المخالف على هذا الاستدلال وقال: اختلاف الألسن المراد به: اللغات التي عرفهم الله إياها والأسماء التي علمها الله آدم وليس فيها دليل أن أعمال العباد خلق لله، قال: ولعل هذا المستدل ظن الاختلاف في الألسن3 معطوف على السموات والأرض وأنه مخلوق كالسموات والأرض، ولو كان كذلك لكان الاختلاف مجروراً، وهذا يدل على جهل هذا المستدل بالعربية. هذا نكتة قوله ومعتمده دون ما شابه من الأذية. يقال لهذا المعترض قبل الجواب على ما أورده: قد قيل في المثل: "لا تهرف قبل أن تعرف"4 وقال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 5 وكان ينبغي له أن يسأل أين موضع الحجة من الآيات إذا لم يكن في فهمه ما يؤديه إلى علمه قبل السؤال، ولكن حمله قلة الحياء والدين والعلم على الكلام فيما لا يليق بالعلماء، ولا يخفى على المستدل أن الاختلاف ليس بمعطوف على السموات والأرض، ولكنه معطوف على   1 الروم آية (22) . 2 انظر: تفسير القرطبي 14/18، تفسير ابن كثير 3/429. 3 في الأصل (الآيات) وهو خطأ ولعله من الناسخ وفي الدامغ الباطل ورقة 26/ ب قال: "اللهم إلا أن يكون هذا المستدل ظن أن الاختلاف معطوف على السموات والأرض". 4 يضرب هذا المثل لمن يتعدى في مدح الشيء قبل تمامه. ذكر هذا الميداني في مجمع الأمثال، وللمثل صيغة أخرى وهي "أتهرف بما لا تعرف". انظر: مجمع الأمثال 3/164، لسان العرب 6/4654. 5 النحل آية (43) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 قوله (خلق) فيكون التقدير: (ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم) قال أهل التفسير: لولا أن الله فرق بين الصور في الألوان وبين الألسن في اللغات والنغمات والأصوات لبطلت العلامات في الشهادات والمداينات، ولما عرفت والدة ولدها ولا ولد أمه ولا زوج زوجته1 فتعلقنا من الآية لو كان اختلاف ألسنتهم وهي لغات في كلامهم خلقا لألسنتهم كما قالت القدرية لما أمرهم بالاستدلال بها عليه؛ لأن الصنعة لا تدل على غير صانعها، فلما أمرهم بالاستدلال بذلك عليه دل على أن ذلك خلقه، كما أمرهم بالاستدلال عليه بما هو خلق له بالإجماع وهو منامهم بالليل والنهار وخلق السموات والأرض.   1 انظر: نحو هذا في كلام ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن ص194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 26- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة قول الله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1. فأخبر سبحانه أنه يعلم الجهر والسر من القول لأنه خلقه. فاعترض القدري المخالف على هذا وقال: لا حجة2 لهذا المستدل بهذه الآية، وقال هذا يدل على إفلاسه من العربية وفقد التمييز بين العبارة عمن يعقل وعمن لا يعقل فإن قوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} 3 عبارة عن العقلاء من خلقه و (ما) عبارة عما لا يعقل، وأفعال العباد مما لا يعقل فلا تدخل تحت قوله: {مَنْ خَلَقَ} هذا نكتة قوله، ولا فائدة في إعادة سائر قوله من السفه والسخف الذي لا يلحق إلا بمن لا دين له ولا علم. والجواب: إني وهذا المعترض كما قال الشاعر: عليّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليَّ إذا لم تفهم البقر4 مع أنه لم يكن مقصوداً بالرسالة وإنما حمله الفضول على تكلف ما لا يقوم به، ولم يفهم موضع الحجة من الآية، وذلك أنه ذهب إلى أن (من) في موضع نصب مفعول5   1 الملك آية 13-14) . 2 من هنا ابتداء النسخة اليمانية للكتاب وهي نسخة الأستاذ محمد بن يحيى الحداد - رحمه الله - من مكتبته في بيته في مدينة إبّ، وقد استقبلني في بيته أحسن استقبال وفتح لي المكتبة وأذن لي في البحث والنظر وتصوير ما يصلح لي منها، فرحمه الله رحمة واسعة حيث توفي بعد رجوعي من اليمن بعدة أشهر وذلك سنة (1407?) وجزاه عني خير الجزاء وسأرمز لهذه النسخة بحرف (ح) نسبة لصاحبها. 3 في كلا النسختين (من يعقل) وهو خطأ ولعله سبق قلم من المؤلف. 4 البيت للبحتري. انظر: أخبار البحتري للصولي ص 160. 5 في - ح - (من يعلم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 يعلم1، وهو مذهب لم أذهب إليه ولا ذهب إليه أحد من أهل الحديث، وإنما الذي نذهب إليه أن (من) في موضع رفع ليكون فاعلاً ليعلم، وخلق فعل ماض فاعله مضمر فيه يعود على من2، فالعالم بما في الصدور من الكلام هو الله الخالق له فتكون من لمن يعقل، ويكون هذا كقول القائل كلمني من كلمك، ولا يكون كما توهم هذا المسكين، من الخطأ.   1 يكون معنى الآية (ألا يعلم الله من خلق أو خلقه) وقد عزا هذا القول القرطبي إلى أهل المعاني وكذلك ذكره ابن كثير أيضاً، إلا انه رجح اعتبار من محل فاعل كما سيأتي. 2 فيكون التقدير (ألا يعلم الخالق) ذكر هذا القرطبي وابن كثير والشوكاني ورجحه ابن كثير لقوله تعالى بعدها: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وهو الأولى في المعنى والله أعلم. انظر: تفسير القرطبي 18/214، تفسير ابن كثير 4/397، وفتح القدير 5/262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 27- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 1، وقد كانوا يعبدون الجن والملائكة، فأخبر سبحانه أنهم لا يخلقون شيئاً. فأجاب هذا القدري المخالف عن هذا وقال: لم يرد بذلك إلا الأصنام لأنه قال: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} وهذا صفة الأصنام لا صفة الملائكة والجن، على أن ذلك لو كان عاماً في كل معبود لكان المراد أنهم لا يخلقون شيئاً من أجسادكم ولا2 من أغذيتكم ولا3 أموالكم ولا من ضروب النعم التي أنعم الله بها عليكم. والجواب: أن هذا يدل على إفلاس هذا المعترض من العربية وعلى جهله بها كما رمى خصمه. ونقول: بل المراد بذلك جميع ما يعبدونه من الملائكة والجن والأصنام، لأن العرب إذا جمعت بين ما يعقل، وما لا يعقل غلبت حكم ما يعقل، وعلامة الجمع لما يعقل في هذه الآية في أربعة أحرف. أحدها: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ} 4، وذلك لما يعقل؛ لأنه لو كانأراد الأصنام وحدها لقال والتي تعبدون أو ما يعبدون. والثاني: أنه قال: {لا يَخْلُقُونَ} في هذا ضمير ما يعقل، ولو أراد ما لا يعقل قال: "لا يخلق".   1 النحل آية (20) . 2 في - ح - (ولا من أموالكم) . (لا) ساقطة من الأصل وهي مثبتة في - ح -. 4 في - ح - قال: "والذين – من" وجعل (من) في الحاشية وليست في الأصل مع أن إيرادها هنا خطأ لأنها ليست موصولة هنا حتى تعتبر دالة على ما يعقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 والثالث: قوله: {وَهُمْ} لو أراد ما لا يعقل لقال: وهي. والرابع: قوله: {يُخْلَقُونَ} ، ومثل هذا الجمع قوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} 1، فأخبر أن الأصنام والغاوين يكبكبهم في جهنم، والدليل على أن الأصنام مرادة بهذا قوله تعالى في أول الآية: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} 2، فهذا الجمع بقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ … } الآية بخلاف الجمع بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 3، لما لم يجمع الأصنام مع من يعقل أخبر عنها بـ (ما) ، لأنها لما لا يعقل، ولهذا قال ابن الزبعرى4: لأخصمن محمداً بهذه الآية، فقال: يا محمد قد عبدت الملائكة وعبدت عيسى أفيدخلون النار؟ فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "لقد أنساكم كفركم لغتكم إن الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} 5، ولم يقل (ومن تعبدون) وأنزل الله سبحانه مصدقاً لنبيه - صلى الله عليه وسلم- {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} يعني الملائكة وعيسى6.   1 الشعراء آية (94-95) . 2 الشعراء آية (71) . 3 الانبياء آية (98) . 4 هو عبد الله بن الزبعري بكسر الزاي والباء وسكون العين بعدها راء مقصورة ابن قيس بن عدي القرشي السهمي كان من أشعر قريش، وكان شديداً على المسلمين، ولما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم- مكة هرب إلى نجران ثم عاد مسلماً معتذراً، وقال في النبي - صلى الله عليه وسلم- مدحا كثيراً يكفر به ما مضى من هجائه. انظر: الاستيعاب بهامش الإصابة 6/18، الإصابة 6/81. 5 في - ح - {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . 6 لم أقف على من ذكر ذلك، أعني ما ذكر من قول النبي - صلى الله عليه وسلم- "لقد أنساكم كفركم لغتكم … " وإنما القصة رواها ابن جرير وابن أبي حاتم والطبري وغيرهم، وليس فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم- رد عليه وإنما نزلت الآية تستثني الملائكة وعيسى وعزيرا إلا رواية أخرجها ابن جرير عن ابن إسحاق وهي منقطعة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال له: "نعم كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده إنما يعبدون الشياطين ومن أمرهم بعبادته". فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ … } الآية. انظر: تفسير ابن جرير 17/96/ الدر المنثور 5/679 وقد استنكر ابن جرير جعل قول من قال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ … } مستثنى من قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ … } الآية، واعتبرها كلاماً مستأنفا. لأن الله عبر عن المعبودين من دونه الذين هم حصب جهنم ? (ما) وهي مختصة بما لا يعقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فأما الجواب عن قول هذا المخالف: أنهم لا يخلقون شيئاً من أجسادهم ولا من أغذيتهم إلى آخر كلامه فمن وجوه: أحدها: أن نفي النكرات يقتضي العموم كقولك: لا شيء في الدار، يقتضي نفي جميع الموجودات في الدار، كذلك قوله تعالى: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً} يقتضي نفي خلقهم لجميع الموجودات من أفعالهم وأقوالهم وجميع الأجسام والجواهر. والثاني: أن الله تعالى أخبر عن وضعهم وعدم اقتدارهم على خلق شيء من الأشياء وقطع عذر من يعبدهم، فلو كانوا يخلقون أفعالهم وأقوالهم لقال الكفار هم يخلقون أفعالهم وأقوالهم التي يجلب بها النفع ويدفع بها الضر فتكون لهم الحجة على الله، والله يقول: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} . الثالث: أنه قال سبحانه {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وهذا يعم خلقه لأجسامهم وجميع صفاتهم والأعراض التي فيها وهي الألوان1، والسمع والبصر، وحركاتهم في الأفعال والأقوال من جملة أعراضهم فتكون داخلة في المخلوقات. وأما استدلال المخالف على أن المراد بالآية الأصنام لا غير بقوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء} وهذه صفة الأصنام لا صفة الملائكة. قلنا عن هذا جوابان، أحدهما: إن سلمنا أن المراد بقوله {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء} هي الأصنام لم يمتنع أن يكون أول الآية عاماً لجميع ما يعبدون من الملائكة وعيسى والأصنام، وقوله (أموات غير أحياء) خاص للأصنام، وهذا كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} 2. وهذا عام للمطلقات البائنات والرجعيات، وقوله   1 في - ح- قال: (الألوان والحياة والسمع) . 2 البقرة آية (228) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 في آخر الآية: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ … } خاص في الرجعيات. والجواب الثاني: أنه يحتمل أن المراد بقوله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء} هم الكفار، المخاطبون فخاطبهم في1 أول الآية خطاب المواجهة وأخبر عنهم في هذا بلفظ الإخبار عن الغائب، وهذا كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} 2. فإنما أخبر عنهم بأنهم أموات لقلة انتفاعهم بما جاءهم به البني - صلى الله عليه وسلم- وهذا كما قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} 3 وأراد به الكفار، وكقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} 4، ويدل على أن المراد بهذا الكفار قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} وهذا الوصف راجع إلى الكفار لأنهم هم الذين لا يشعرون أيان يبعثون5.   1 في - ح - (في أن أول) وأن هنا زائدة لا معنى لها هنا. 2 يونس آية (22) . 3 النمل آية (80) . 4 فاطر آية (22) وقد كتبت الآية في النسختين (ولا يستوي … ) وهو خطأ. 5 ذكر ابن جرير والقرطبي والشوكاني في المراد بقوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} قولين: القول الأول: إن المراد بها الأصنام وعبر الله عنها بعبارة ما يعقل في قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} لاعتقاد المشركين فيها أنها تعقل وتعلم وتشفع لهم فجرى خطابهم على ذلك. وقيل: المراد به الكفار وأن الكلام مستأنف من عند قوله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ … } انظر: تفسير ابن جرير 14/93، تفسير القرطبي 10/94، فتح القدير 3/156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 28- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قول الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 1، وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 2 فأثبت الله لنفسه الخلق ونفاه عن3 غيره، كما أثبت لنفسه أنه إله ورزاق، فلما استحال أن يكون غيره إلهاً ورزاقاً استحال أن يكون غيره خالقاً. فأجاب4 هذا القدري عن قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} . وقال: أراد بهذه البدائع العجيبة من السموات والأرض وما بينهما، ثم النعم التي تقتضي وجوب شكره عليها ولهذا قال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ} . والجواب: أن الآية عامة في نفي الخلق عن غيره في جميع الأشياء كما أثبت الخلق لنفسه، والإلهية5، لجميع الأشياء، وأيضاً فإن الكلام من البدائع العجيبة، ولهذا جعل الله كلام عيسى في المهد من المعجزات، وجعل كلام الذراع المشوية6، وحنين الجذع7، وتسبيح الحصا في كف النبي - صلى الله عليه وسلم-8، معجزة له وأمر الله خلقه بالاستدلال عليه باختلاف   1 الأعراف آية (54) . 2 فاطر آية (3) . 3 في الأصل (من) وفي - ح - (كما أثبت) . 4 في الأصل (فأجاب عن هذا) وفي - ح - (كما أثبت) . 5 قوله: (والإلهية) ساقطة من - ح -. 6 سيأتي الحديث في ذلك ص 752، 779. 7 روى الحديث البخاري بسنده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه"، كما روي أيضاً نحوه عن جابر. انظر: خ. كتاب المناقب 4/155. 8 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 6/64 عن الوليد بن سويد السلمى عن أبي ذر ومرة رواه الوليد عن رجل من بني سليم عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: "لا أذكر عثمان إلا بخير بعد شيء رأيته، كنت رجلاً أتبع خلوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فرأيته يوماً جالساً فاغتنمت خلوته فجئت حتى جلست إليه، فجاء أبو بكر فسلم عليه وجلس عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ثم جاء عمر فسلم وجلس عن يمين أبي بكر، ثم جاء عثمان فسلم ثم جلس عن عمر، وبين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- سبع حصات أو قال تسع حصيات فأخذهن في كفه فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً حنين النحل، ثم وضعهن فخرسن ثم أخذهن فوضعهن في كف أبي بكر فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "هذه خلافة النبوة" وبهذا الإسناد أخرجه أيضاً البزار. انظر: كشف الأستار 3/135، وهذا إسناد ضعيف فإنه من طريق صالح بن أبي الأخضر اليمامي وهو ضعيف كما قال ابن حجر في التقريب ص 148، والوليد بن سويد مجهول الحال، فقد ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. الجرح والتعديل 9/65، وأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة 2/555 أخصر من رواية البيهقي حيث ذكر التسبيح في يد النبي - صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر وعثمان، ولم يذكر وضع الحصى وسكوتهن، وقد أخرجه عن داود بن أبي هند عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير عن أبي ذر رضي الله عنه. ورجال إسناده ثقات، وأخرجه البزار أيضاً 3/135 بإسناد لا بأس به عن الزبيدي محمد بن الوليد عن الوليد بن عبد الرحمن به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 لغاتهم1، لأن الله يخلق العبارة في الكلام في قطعة لحم عن مرادات مختلفة تتقدم على الكلام2، فالصنع العجيب في الكرم كالصنع العجيب في السوات والأرض وسائر الأجسام، فيجب أن يكون مساوياً للأجسام في كون الخالق لها واحداً. وأما قوله: أراد البدائع التي تقتضي وجوب شكره عليها3، فإن الكلام من البدائع التي تقتضي الشكر لله عليه، ولهذا امتن الله تعالى على أن   1 وذلك في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} الروم آية (22) . 2 قوله: (عن مرادات مختلفة تتقدم على الكلام) مراده بذلك ما يتهيأ في النفس من الكلام مما يسبق النطق به. 3 في النسختين (عليه) والأنسب (عليها) كما ورد في قول المخالف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الإنسان جعل له السمع والبصر والكلام فقال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} 1، فتكون كسائر نعمه التي خلقها الله فيهم قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 2. ويدل على أن أقوال العباد وأفعالهم خلق لله تعالى قلوه فيما أخبر من خلود أهل النار لما شهدت عليهم جلودهم3، قالوا: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} 4، وحقيقة الإنطلاق من الله أن خلق النطق فيهم. ويدل على خلق الأفعال قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 5، وقوله (يسير) على وزن يقلِّب الليل والنهار، وهو خلقه لاختلاف الليل والنهار فتكون يسير أي يخلق السير فيهم6، والقدرية لا يقولون إن الله أنطق الخلق ولا أنه سيرهم بل هم الخالقون لنطقهم وسيرهم، وهذا رد منهم للقرآن الذي ختم الله على قلوبهم وجعل عليها أكنة أن يفقهوه. قال المخالف: أما قول المستدل كما أنه لا إله ولا رازق إلا الله كذا لا خالق للأشياء إلا الله فهذا جمع بغير علة ويجوز أن يقال لمن وهب لغيره شيئاً رزقه. قال الله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} 7، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} 8. والجواب أن قوله: جمع من غير علة خطأ، بل العلة المقتضية للجمع   1 البلد آية (8-9) . 2 النحل آية (53) . 3 في - ح - قال: "ألسنتهم وأيديهم" وهو خطأ وفي الأصل كما أثبت وهو موافق للفظ الآية {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} . 4 فصلت آية (21) . 5 يونس آية (22) . 6 ذكر هذه الآية ابن القيم - رحمه الله - في الاستدلال لخلق أفعال العباد، وقال: "فالتيسير فعله والسير فعل العباد وهو أثر التيسير". شفاء العليل ص 58. 7 النساء آية (8) . 8 الجمعة آية (11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 بينهما أنه لا يجوز إطلاق اسم الرزاق، والخالق بالتعريف إلا على الله، ولهذا لو حلف حالف وقال: والخالق والرازق وانصرف ذلك إلى الله وانعقدت يمينه ولم ينصرف إلى غيره، فإن أطلق هذا الاسم على1 غير الله فإنما هو بتقييد لا ينصرف إليه الإطلاق فيصير مجازاً في غيره.   1 في الأصل (إلى) وما أثبت من - ح -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 29- فصل ذكر القدري بكتابه في التشنيع على من خالفه فقال: وزعموا أن ما يحدث في العالم من المخازي والفضائح والمعاصي والخبائث والقبائح فالله خالقه ومبتدعه والكفار مبرؤون من ابتداع الكفر والضلال، بل نهاهم عن شيء أوجده فيهم وعذبهم على أمر حتمه عليهم، كأنهم لم يسمعوا الله يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 1. فأخبر الله تعالى أنه ما بدأ بتغيير حتى بدأواهم فغيروا ما بأنفسهم فبدلوا نعمة الله كفراً، ولو كان الله هو الذي ابتدأهم بخلق الكفر فيهم لكان قد بدأهم بأشد التغيير. والجواب عن تسميته لأفعال العباد في المعصية قبائح وخبائث ومساوئ أن يقال له: هل سُميت هذه الأفعال بهذه الأسماء لعين الأفعال أو لمعنى غير أعيانها؟ فإن قال: سُميت لأعيانها بهذه الأسماء. قلنا: فيلزمك على هذا أن تسمي هذه الأفعال معاصي وخبائث ومساوئ وقبائح قبل ورود الشرع2 بتحريمها، كما تسمى أجساماً وأعراضاً قبل ورود الشرع، وإذا كانت كذلك استغنى الخلق بعقولهم عن بعث الرسل بتحليل الحلال وتحريم الحرام وهذا نفس اعتقاد القدرية وقد مضى بيانه3.   1 الأنفال آية (53) . 2 المعتزلة يقولون: بأن الحسن والقبح صفة ذاتية في الأفعال والشرع كاشف عن تلك الصفات. انظر: شرح الأصول الخمسة ص 310، الفتاوى لشيخ الإسلام 8/431. 3 تقدم بيان بأن المعتزلة يزعمون أن معرفة الله وجبت بالعقل ولو لم يبعث الرسل لكان في العقل ما يدل على الله. انظر: ص 152 والمعتزلة يرون أن الأفعال يعرف قبحها وحسنها بالعقل، وأن الرسل يجب بعثهم حتى يبينوا وجه المصلحة والمفسدة في الأفعال، وإن كان قد تقرر في العقل حسنها وقبحها فيأتي الرسل بتفضيل ما تقرر في العقل. انظر: شرح الأصول الخمسة ص 564. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وإن قال: بل سميت بهذه الأسماء لمعنى غيرها قلنا: فذلك1 المعنى الذي سماها معاصي وخبائث وقبائح هو الشرع، هذا مذهب أهل التوحيد أن القبيح ما قبحه الشرع، والحسن ما حسنه الشرع2، وإذا كان كذلك بطل   1 في الأصل (فلذلك) وفي - ح - (فذلك) وبها يستقيم الكلام. 2 هذا القول هو قول الأشاعرة ومن وافقهم من أهل السنة أن الحسن والقبيح لا يعرف إلا بالشرع، والحق في ذلك أن الحسن والقبيح منه ما يعرف بالعقل وهذا أمر ظاهر والأدلة عليه من القرآن كثيرة منها قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ، فبين القرآن هنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم- يحل لنا الطيبات ويحرم علينا الخبائث، فالشارع أبان عن الحل والحرمة أما وصف كونها طيبة أو قبيحة فإنه ثابت في العقل ومنها قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} . قال ابن القيم - رحمه الله - عند هذه الآية: "وهذا دليل على أنها فواحش في نفسها لا تستحسنها العقول، فتعلق التحريم بها لفحشها فإن ترتيب الحكم على الوصف المناسب المشتق يدل على أنه هو العلة المقتضية له، فدل على أنه حرمها لكونها فواحش وحرم الخبيث لكونه خبيثاً وأمر بالمعروف لكونه معروفاً، والعلة يجب أن تغاير المعلول فلو كان كونه فاحشة هو معنى كونه منهياً عنه وكونه خبيثاً هو معنى كونه محرما كانت العلة عين المعلول وهذا محال. ومن هذا قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} فعلل النهي بكون المنهي عنه فاحشة ولو كان جهة كونه فاحشة هو النهي لكان تعليلاً للشيء بنفسه ولكان بمنزلة أن يقال لا تقربوا الزنا، لأنه يقول لكم لاتقربوه فإنه منهي عنه". مفتاح دار السعادة 2/7. قال شيخ الإسلام: "للناس في الشرك والظلم والكذب والفواحش ونحو ذلك ثلاثة أقوال: الأول: أن قبحها معلوم بالعقل وأنهم يستحقون العذاب على ذلك في الآخرة وإن لم يأتهم رسولا، وهو قول المعتزلة وكثير من أصحاب أبي حنيفة وحكوه عن أبي حنيفة نفسه وهو قول أبي الخطاب وغيره. الثاني: لا قبح ولا حسن ولا شر فيها قبل الخطاب، وإنما القبيح ما قيل فيه لا تفعل والحسن ما قيل افعل أو ما أذن في فعله، وهو قول الأشعرية ومن تابعهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كالقاضي أبي يعلى وأبي الوليد الباجي والجويني وغيرهم. الثالث: أن ذلك شر وقبيح قبل مجئ الرسول ولكن العقوبة تستحق بمجئ الرسول وعلى هذا عامة السلف وأكثر المسلمين، وعليه يدل الكتاب والسنة" ثم ذكر - رحمه الله - الأدلة على ذلك من القرآن والسنة وانتصر له. انظر: مجموع الفتاوى 1/676-682، وانظر: أيضاً مجموع الفتاوى 8/428/436، اللمع ص 71، المعتمد في أصول الدين ص 106، الإرشاد إلى قواطع الأدلة ص 228، المواقف في علم الكلام ص 322، لوامع الأنوار البهية 1/286-288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أن تسمى هذه الأفعال في حق الله تعالى قبائح ومعاصي وخبائث ومساوئ وإن كان الخالق لها، وإنما تسمى بذلك في حق من حرم عليه فعلها1، وفي حق الله حسنة في الصنع والتدبير كما أن وجه القرد واسته2 قبيحان في المنظر في حقنا، وهما حسنان في صنع الله وتدبيره وقد قال الله سبحانه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ} 3 ويدل على صحة هذا   1 تقدم أن العقل له أثر في التقبيح والتحسين وأن التقبيح والتحسين ليس من الشرع فقط، لهذا فهذه الأفعال إنما سميت قبيحة وخبيثة في حق من قامت به أو اتصف بها كما يوصف الإنسان بالجوع والعطش بسبب قيام الجوع والعطش به، والله عزوجل لا يوصف بهذه الفعال وإن كان خالقاً لها لأنها لا تقوم به ولا يتصف بها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلامه على الخلق والمخلوق والفعل والمفعول: "وأكثر المعتزلة على أن فعل الرب تعالى لا يكون إلا بمعنى مفعوله مع أنهم يفرقون في العبد بين الفعل والمفعول. وأما من قال: خلق الرب تعالى لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته، قال: إن أفعال العباد مخلوقة كسائر المخلوقات ومفعولة للرب كسائر المفعولات، ولم يقل: إنها نفس فعل الرب وخلقه، بل قال: إنها نفس فعل العبد وعلى هذا تزول الشبهة، فإنه يقال: الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلاً له كما يفعلها العبد وتقوم به ولا يتصف بها من كانت مخلوقة له إذا كان قد جعلها صفة لغيره، كما أنه سبحانه لا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك، فإذا كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به، وإذا خلق رائحة منتنة أو طعما مراً أو صورة قبيحة ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح لم يكن هو متصفاً بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة، ومعنى قبحها كونها ضارة لفاعلها وسبباً لذمه وعقابه وجالبة لألمه وعذابه وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به، ولا على الخالق الذي خلقها فعلاً لغيره، يوضح هذا أن الله تعالى إذا خلق في الإنسان عمى ومرضاً وجوعاً وعطشاً كان العبد هو المريض الجائع العطشان فضرر هذه المخلوقات وما فيها من الأذى والكرهة عاد إليه لا يعود إلى الله تعالى شيء من ذلك، فكذلك ما خلق فيه من كذب وظلم وكفر ونحو ذلك هي أمور ضارة مكروهة مؤذية، وهذا معنى كونها سيئات وقبائح، أي أنها تسوء صاحبها وتضره، وقد تسوء أيضاً غيره وتضره، كما أن مرضه ونتن ريحه قد يسوء غيره ويضره". انتهى بتصرف. مجموع الفتاوى 8/122-124. 2 في - ح - (وأشباهه) . 3 السجدة آية (7) وفي النسختين كتبت الآية هكذا (الذي أحس كل شيء خاقه ثم هدى) وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 المعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "الخمر أم الخبائث "1، وقال - صلى الله عليه وسلم-: "الكلب خبيث خبيث2، ثمنه" 3 فسمى الخمر والكلب خبيثين والله سبحانه خلقهما ويسميان في خلق4 الله وتدبيره حسنين5 وقال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 6، وأراد به ما حرم أكله من الميتة والخنزير والدم، ومعلوم أن الله خلق ذلك كله. ويدل على صحة هذا المعنى أن الله سبحانه أخبر عن النصارى أنهم قالوا: المسيح ابن الله، والله ثالث ثلاثة، وأخبر أن اليهود قالوا7: عزير ابن الله ويد الله مغلولة، وقول الله في ذلك صدق وحق، وقول اليهود والنصارى بذلك كذب باطل.   1 ذكره علي المتقي الهندي في كنز العنمال، ونسبه إلى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر ولم أقف عليه في مجمع الزوائد بهذا اللفظ. انظر: كنز العنمال 5/349، وذكر الهيثمي عن الطبراني في الأوسط نحوه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - مرفوعاً ولفظه "الخمر أم الفواحش" وقال: "فيه شيخ الطبراني سباب بن صالح لم أعرفه". مجمع الزوائد 5/72. ورواه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعاً "الخمر أم الفواحش" المعجم الكبير 11/165-203، وفي إسناده رشدين بن سعد وهو ضعيف. انظر: التقريب ص 103، وعبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية وهو ضعيف أيضاً. انظر: التقريب ص 217. 2 ساقط من - ح -. 3 لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإنما أخرج الحاكم نحوه بمعناه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعاً " ثمن الكلب خبيث وهو أخبث منه ". قال الحاكم: "هذا حديث راوته كلهم ثقات فإن سلم من يوسف بن خالد السمتي فإنه صحيح على شرط البخاري". قال الذهبي في التلخيص: "يوسف واه" المستدرك 1/155. ولبعضه شاهد صحيح وهو ثمن الكلب، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "ثمن الكلب خبيث" الحديث. م. كتاب المساقاة (ب. تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن 2/9/119. 4 في - ح - (صنع) . 5 في - ح - (حسنان) . 6 الأعراف آية (147) . 7 في - ح - (وأخبر عن اليهود أنهم قالوا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وأما الجواب عن قوله: إن الكفار مبرؤون من ابتداع الكفر والضلال فنقول: هم غير مبرئين عن اكتسابه، بل وقع منهم باختيارهم غير مجبرين عليه، والأمر والنهي والذم ينصرف إلى اكتسابه1 الذي أقدروا عليه، وأما ابتداعه وخلقه فهم يعجزون عما لم يقدرهم الله عليه ولم يرده منهم، كما يعجزون عن خلق أجسامهم وألوانهم، وما وقع من كسبهم بذلك فبإرادة الله وقع ذلك منهم قال الله سبحانه {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} 2. وأما قوله: نهاهم عن شيء أوجده فيهم، فنقول: نهاهم عما لم يجبرهم على إيجاده فيهم وعما لا يستحيل منهم تركه بتوفيقه لهم، ولكن التوفيق منه لهم بالترك تفضل منه وإنعام غير واجب عليه فعله، وله ترك التفضل والإنعام، ولا يسمى بترك ذلك بخيلاً ولا جائراً، لأن البخيل من ترك فعل ما توجب عليه، والجائر من فعل غير ما أمر به وحد له. وأما قوله: عذبهم على أمر حتمه عليهم، فنقول له: إن أردت بقولك حتمه عليهم أمرهم به أو3 أوجبه عليهم فلسنا نقول ذلك، وإن أردت بذلك كتبه وقدره عليهم فكذا نقول، ولم نقل إلا كما قال الله سبحانه {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} 4 الآية، ولو خلقهم وعذبهم ابتداءاً من غير عمل منهم لم يكن ظالماً لهم ولا مستحقاً اسم الجور ولا خارجاً عن الحكمة، كما أنه خلق أطفالاً وخلق فيهم آلاما وعاهات، الجذام5، والبرص6، وقطع أو صالهم بذلك من غير ذنب سبق منهم، وكان قادراً   1 في - ح- اكتسابهم) . 2 الأنعام آية (107) . (أمرهم به أو) ساقطة من - ح -. 4 الأعراف آية (179) . 5 الجذام: مرض معد مزمن منه ما يكون على شكل أورام صغيرة على الجسم وخاصة الوجه ومنه ما يكون بقع على سطح الجلد لونها أفتح من لون بشرة المريض وتتميز بفقدانها الإحساس. انظر: الموسوعة العربية الميسرة ص 616. 6 البرص: مرض يصيب الجلد فيغير لونه إلى البياض. انظر: المعجم الوسيط 1/49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بذلك من غير ذنب سبق منهم، وكان قادراً على أن يعافيهم ويعطيهم المنزلة الرفيعة في الآخرة من غير عذاب منه لهم في الآلام والأسقام والآفات ولكنه محكم بمماليكه وعبيده، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون1.   1 قول المصنف - رحمه الله – "ولو خلقهم وعذبهم ابتداءاً من غير عمل.. الخ" يحتاج إلى توضيح، فإن قوله: "لو خلقهم وعذبهم ابتداءً من غير عمل لم يكن ظالماً ولا مستحقاً اسم الجور ولا خارجاً عن الحكمة" فرض باطل، لأن هذا لا يكون لأنه من الظلم الذي نفاه الله عزوجل عن نفسه في آيات عديدة منها قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} وقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} قال ابن جرير في تفسيره 16/217 فلا يخاف من الله أن يظلمه حسناته فينقصه ثوابها" وأسند هذا التفسير عن ابن عباس وقتادة والحسن وغيرهم وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا" أخرجه م. كتاب البر 4/1994 من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -، وهذا القول عائد إلى معنى الظلم الذي نفاه الله عزوجل عن نفسه فإن للناس فيه ثلاثة أقوال. القول الأول: قول أكثر أهل السنة أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وقد نفى الله عزوجل أن يظلم الناس شيئاً أو أنه يضع عليهم سيئات لم يعملوها ولا يبخسهم من حسناتهم شيئاً وأدلتهم في ذلك الآيات المتقدمة. القول الثاني: قول المعتزلة القدرية أنهم جعلوا كل ما كان من بني آدم ظلماً وقبيحاً يكون من الله عزوجل ظلماً وقبيحاً فقاسوا أفعال الله بأفعال خلقه - وهذا باطل فإن الله عزوجل الرب الغني القادر والخلق هم الفقراء المقهورون، كما أن هذا القول أدخلهم في أقوال باطلة كثيرة منها: زعمهم أن الله يجب أن يعمل لعباده الأصلح ولو لم يفعل ووقع من العباد كفر وفسق فعذبهم عليه كان ظالماً لهم، ونحو ذلك مما تقدم بعضه من كلام القدري، مما هو في الحقيقة داخل تحت تفضل الله ورحمته وليس داخلاً تحت الواجب عليه الذي إن أخل به فهو مقصر فيما يجب عليه، وذلك مثل الهداية والتوفيق إلى الخير فإنها من فضل الله ورحمته وله المشيئة التامة في التفضل بها أو منعها، كما أن له الحكمة البالغة في ذلك والحمد أيضاً، ولهذا القدرية لا يحمدون الله على ما أنعم به على العباد، إذ يرون ذلك من الواجب عليه والإخلال به قبيح، كما أنهم يرون أنه من باب العرض المستحق، وأما أهل السنة فإنهم يرون ذلك غير واجب عليه بل هو تفضل وإنعام منه فيحمدونه الحمد كله عليه ويسألونه الفضل والزيادة. القول الثالث: قول من زعم أن الظلم بالنسبة للخالق هو كل ما لا يدخل تحت القدرة، وكل ما يدخل تحت قدرته فليس فعله ظلماً، وقالوا أيضاً: الظلم التصرف في ملك الغير، وهذا القول عزاه شيخ الإسلام وغيره إلى طائفة من مثبتة القدر من المتقدمين والمتأخرين من الجهمية وأهل الكلام وبعض الفقهاء وأهل الحديث، وهذا القول في مقابل قول القدرية الذين جعلوا كل ظلم ما العباد هو ظلم من الله، فقابلهم هؤلاء بأن الظلم ما لا يدخل تحت القدرة، وكل ما يدخل تحت القدرة فله أن يفعله ولا يكون ظلماً كتعذيب الصالحين وإثابة العاصين، ونحو ذلك مما توصل به كثير منهم إلى نفي الحكمة ومخالفة صريح القرآن بأن الله لا يساوي بين الفريقين: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ونحوها من الآيات. واستدل أصحاب هذا القول بما رواه أبو داود عن ابن الديلمي عن أبي بن كعب وابن مسعود وحذيفة وزيد بن ثابت أنهم قالوا: "إن الله لو عذب أهل سمواته وأرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم" وقد تقدم تخريجه ص 143. فظن هؤلاء أن هذا يكون من غير استحقاق منهم للعذاب، والصحيح أن الله لو عذب أهل سمواته وأرضه لم يكن ظالماً لهم لعظم حقه عليهم، وعدم قيام الخلق بما له جل وعلا عليهم من الحقوق، وعظيم سابق النعمة والفضل الذي لا يستطيعون شكره والقيام بحقه إما عجزاً وجهلاً وإما تفريطاً وإضاعة لحقه أو تقصيراً منهم في شكر المنعم ولو من بعض الوجوه، لهذا قال - صلى الله عليه وسلم-: في حديث أبي هريرة "لن يُنْجي أحداً منكم عمله"، قال رجل: ولا إياك يا رسول الله؟ قال: "إياي إلا أن يتغمدني الله منه برحمة ولكن سددوا" أخرجه خ. الرقاق، كتاب صفات المنافقين 4/2169. فدل على أنه لو عذبهم لكان ذلك عن استحقاق، لأن عملهم لا ينجيهم من النار كما في بعض روايات الحديث عند مسلم عن جابر "لا يُدْخلُ أحداً منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ولا أنا إلا برحمة من الله"، فلا يسع الخلق إلا رحمة الله عزوجل وتفضله ونعمته. والمصنف العمراني - رحمه الله - يوافق أصحاب القول الثالث وقياسه هذا القول على ما يصيب الله عزوجل به الأطفال من العاهات والأمراض من غير عمل منهم ولا ذنب، قياس مع الفارق، لأن هذا يتعلق بحالهم في الدنيا، والدنيا دار ابتلاء وامتحان فيبتلي الله عزوجل هؤلاء الأطفال امتحاناً لذويهم وأهلهم، وقد يكون في بعضه عقوبة لأهليهم، كما أن في هذه الأسقام والأمراض إنفاذاً لمشيئة الله في وقوع الآجال بالموت بهذه العلل، كما أن كثيراً من هذه الأمراض له أسباب معروفة وفي كثير من الأحيان يكون سببها فعل بني آدم أنفسهم كتناول طعام مضر أو الإهمال ونحو ذلك. وقول المصنف: "ولكنه محكم في مماليكه وعبيده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون"، علة قوله السابق، "وقوله محكم في مماليكه. الخ" قول حق، إلا أن المصنف وأصحاب القول الثالث لا يثبتون له الحكمة التامة في أفعاله كلها بناءً على هذا القول، أما كثير من أهل السنة فمع إثبات هذا يثبتون له جل وعلا الحكمة البالغة في كل فعل فهو لا يفعل جل وعلا ما يخالف الحكمة والعدل علمه من علمه وجهله من جهله، وكل أمر نص الله عزوجل على أنه لا يفعله لا يعنى ذلك أنه غير قادر عليه، بل له جل وعلا القدرة المطلقة وإنما لا يفعله لأنه ينافي الحكمة والعدل، والله أعلم. انظر: الفتاوى 8/505، جامع العلوم والحكم ص 211، شرح العقيدة الطحاوية ص 507-511. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وأما قوله هذا المخالف في احتجاجه على مذهبه: كأنهم لم يسمعوا الله يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى1 يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 2. فالجواب عن ذلك وعن جميع ما أورده من الاحتجاج بالقرآن أن نقول له: أهذا قول الله حقيقة فيلزمنا الجواب لك، أم ليس هو بقول الله حقيقة؟ فإن صرح بحقيقة مذهبه الفاسد الذي لا يخفى على خصمائه وقال: ليس بقول الله حقيقة ولا يجوز وجود القول منه. قلنا: فلم قلت: قال الله وتصفه بما لا يليق وصفه به عندك، ولا جواب له إلا أنه أراد ألا يخالف جميع أهل التوحيد في أن لله قولاً احتج3 به فيوافق قولهم في الظاهر لئلا ينفر السامعون عنه، وإلا فحقيقة مذهبه الذي لو صرح به أن القرآن الذي يتلوه ويحتج به قوله حقيقة وقوله خلق له كسائر أقواله4 ولذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن مجالسته ومجالسة أهل مذهبه5 وعند ذلك نقول: لا يلزمنا الجواب عن تأويل قوله لأنه ليس بحجة.   1 في الأصل الآية إلى قوله 0حتى) وهي في - ح - كما أثبتها. 2 الأنفال آية (53) . 3 في - ح - (يحتج) . 4 أي المعتزلة يقولون بخلق القرآن وأنه ليس كلام الله حقيقة، وهم يقولون أيضاً: إنهم يخلقون أفعالهم فصار بهذا ما يتلونه من القرآن على زعمهم خلق لهم، وسيأتي مزيد إيضاح في الفصل الخاص بالرد على المعتزلة في مسألة الكلام والقرآن. 5 تقدمت الأحاديث في هذا، انظر: 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وإن خاف الفضيحة من السامعين وقال: ليس هذا القول خلق لي، ولا بقول لي، بل هو قول الله حقيقة، فقد رجع عن مذهبه الفاسد إلى ما عليه أهل التوحيد في ذلك، وقلنا لا حجة لك في أن الله سبحانه لم يخلق أفعال العباد وإنما العباد يخلقون أفعالهم بقوله1 تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا … } الآية، إنما أخبر الله في هذه الآية أنه لم يغير نعمة أنعمها على قوم بالعذاب وإزالة تلك النعمة حتى كفروا به وأشركوا2، فنسبه إليهم لكونهم محلاً لخلق الله له وكونه كسباً لهم، وقد قال الله سبحانه في الأرض: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} 3. فوصفها بالاهتزاز والربو والإنبات لكونه محلاً لخلق ذلك فيها، وإن كانت لا يوجد منها خلقاً ولا كسباً، وعلى أنه إن كان التغيير المذكور عنه في الآية هو خلقهم للكفر ابتداءاً بأنفسهم فقد أخبر سبحانه أنه غير4 ذلك بأنفسهم بعد تغيرهم فيكون كقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 5، فأخبر أنه سبحانه خلق التغيير في الكفر والزيغ بحال من الأحوال6، وعند المخالف أنه لا يخلق بحال من الأحوال ونقول: لو شاء الله ما أشركوا كما أخبر سبحانه7 وقد أخبر سبحانه بآخر الآية فقال: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا   1 في الأصل (لقوله) وما أثبت كما هو في - ح - وهو الأصوب. 2 ذكر هذا المعنى القرطبي - رحمه الله - وقال: نعمة الله على قريش الخِصْبُ والسعة والأمن والعافية، قال الله عزوجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} تفسير القرطبي 8/29. 3 الحج آية (5) . 4 في - ح - (انهم غيروا) . 5 الصف آية (5) . 6 يقصد المصنف هنا أن الله خلق فيهم الكفر والزيغ بأمر من الأمور التي استحقوا بها ذلك. 7 في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} الأنعام آية (107) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 مَرَدَّ لَهُ} 1 ولا سوء أعظم من الإضلال وعدم الهداية، ونقول له: قوله خَلْقُ الكفر فيهم ابتداءاً أشد التغيير، غير مسلم، بل هو ترك الإنعام والتفضل عليهم بالإيمان، والإنعام والتفضل ليسا بواجبين عليه سبحانه لخقله.   1 الرعد آية (11) وليس هذا آخر الآية السابقة لأن تلك في الأنفال وهذه في الرعد، وأولها قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَه … ..} الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 30- فصل استدل هذا المخالف على أن الله سبحانه لم يخلق أقوال العباد في الكذب بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1، فنفى الله سبحانه أن يكون الكذب من عنده وكذب من نسبه إليه. والجواب أن يقال: إنه2 لا حجة لك في الآية إن أقوال العباد في الكذب خلق للعباد وليس بخلق لله، لأن الذي لووا اليهود ألسنتهم فيه هو بعث النبي - صلى الله عليه وسلم- لأنهم غيروه وبدلوه، وقالوا: هذا من عند الله أي أنزله الله في التوراة على موسى فأكذبهم الله بأنه أنزله كما قالوا فقال: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي ما أنزله على موسى3، ولم يرد سبحانه أنه أنطقهم بالكذب بل ذلك معلوم من قوله: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} 4، فخلقه سبحانه النطق فيهم حق وحسن في الصنع، وهو كذب وباطل منهم، كما أن قول الله سبحانه5 في خبره عن قولهم: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} حق وصدق وهو بالإضافة إليهم كذب وزور وباطل، فكذلك الكلام في سائر الكلام الباطل والكذب، وكلمة (عند) ليست بصريحة في العبارة عن الخلق، بدليل أن رجلاً لو قال: عندي لفلان عبد أو قال: فلان عند الأمير، لم يدل على أنه   1 آل عمران آية (78) . (إنه) ساقطة من - ح -. 3 الآية عامة في ذكر تحريف اليهود لكتابهم، كما روى ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه قال بها "هم اليهود كانوا يزيدون في كتاب الله ما لم ينزل الله". ونحو هذا روي عن مجاهد وقتادة وابن جريج. انظر: تفسير ابن جرير 3/323، الدر المنثور 2/249، وليس في شيء منها بيان أن التحريف كان في بعث النبي - صلى الله عليه وسلم- خاصة. 4 فصلت آية (21) . 5 ليست في الأصل وهي في - ح -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 خلق العبد، والأمير خلق من عنده، بل المراد هاهنا ظرف المكان، وقوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ} 1، أي ما معكم من الأموال، وكذلك قوله تعالى: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} 2 أي ما معكم، ولو قال قائل: أشهد أن مسيلمة ليس من عند الله لم يحكم بكفره، بل يسبق إلى الفهم أنه ليس برسول من الله، وإن كان الله سبحانه خلقه، ولأن الله سبحانه خلقه، ولأن الله سبحنه أخبر: إن سلام الخلق على بعضهم من عنده وأمرهم بذلك فقال: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 3 وأراد يسلم بعضكم على بعض4، كما قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 5 أي يقتل بعضكم بعضا6، فإذا كان سلامهم على بعضهم من عند الله فينبغي أن يكون كلامهم بذلك خلقاً7 لله لأنه وصفه أنه من عنده، وإذا سلمتم ذلك في كلامهم بالسلام لزمكم أنه8 خلق كلامهم في غير السلام لأن الخلاف في الجميع واحد9.   1 النحل آية (96) . 2 يونس آية (68) . 3 النور آية (61) . 4 انظر: تفسير ابن كثير فقد نقل هذا المعنى عن سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والزهري. تفسير ابن كثير 3/305. 5 النساء آية (29) . 6 ذكر ذلك ابن جرير ورجحه - وقال القرطبي: "أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي ان يقتل بعض الناس بعضاً، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف، ويحتمل أن يقال: (ولا تقتلوا أنفسكم في حال ضجر أو غضب) ، فهذا كله يتناوله النهي". انظر: تفسير ابن جرير 5/35، تفسير القرطبي 5/157. 7 في - ح - (خلق الله) . 8 في الأصل (أن) وما أثبته من - ح - وهو الصواب لسياق الكلام. 9 المصنف - رحمه الله - يرد في هذا الكلام استدلال القدري بقوله تعالى: {وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} بأن الكلام الباطل والكذب ليس خلقاً لله حيث وصفه بقوله: {وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، فرد عليه العمراني بأن كلمة عند لا تدل على الخلق كما في الآيات المذكورة، ثم ألزمه بنحو استدلاله بأن قوله تعالى في السلام: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّه} يدل على أن السلام من عنده، فإذا كانت تدل على الخلق فعلى القدري أن يسلم بأن السلام من خلق الله وإذا سلم بذلك لزمه التسليم بالجميع بأنه خلق الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 31- فصل واستدل المخالف على أن العباد يخلقون أفعالهم بقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 1، وهذا نص في أنهم يخلقون أفعالهم2. وبقوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} 3. والجواب: أنه4 يقال له: خطؤك في رد التنزيل أعظم من خطئك في التأويل فإن كنت مصرا على رد التنزيل وأنه ليس بقول الله حقيقة فلا جواب لك في بيان التأويل، وإن صدقت بالتنزيل أنه كلام الله حقيقة أوضحنا لك المراد بالتأويل وهو: أن الخلق في اللغة ينقسم إلى: التقدير، وإلى الإنشاء والإبداع5 فالمراد بقوله: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} وبقوله: {تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} التقدير، فكأنه أراد أحسن المقدرين6، وكذلك   1 المؤمنون آية (14) . 2 مراد القدري في الاستدلال في قوله: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أن الله وصف نفسه بأنه أحسن الخالقين، فدل على أن هناك خالقين غيره هو أحسنهم وأن هؤلاء الخالقين هم العباد الذين يخلقون أفعالهم. 3 المائدة آية (110) . (أنه) ليست في - ح -. 5 انظر: لسان العرب 2/1244، المفردات ص 157. 6 ذكر ذلك ابن القيم في شفاء العليل ص 53، وشارح الطحاوية 496، والشوكاني في فتح القدير 3/477. ويجوز أن يكون المراد هنا بالخلق الصنع فإن الإنسان له صنع يصنعه فعلى هذا الاعتبار يكون قوله تعالى: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أحسن الصانعين، كما قال ذلك ابن جرير ورجحه ونقله عن مجاهد وقاله أيضاً القرطبي، وذكر ابن جرير في المعنى قولاً آخر وهو أنه قيل ذلك لأن عيسى ابن مريم عليه السلام كان يخلق فأخبر جل ثناؤه أنه يخلق أحسن مما يخلق ونقل ذلك عن ابن جريج. انظر: تفسير ابن جرير 18/11، القرطبي 12/110. وأولى الأقوال في ذلك القول الأول والثاني، أما الخلق بمعنى الإيجاد من العدم فهذا لا يكون إلا لله عزوجل. انظر: تفسير القرطبي 12/110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 عيسى عليه السلام1 قدر وصور من الطين كهيئة الخفاش الذي هو لحم يطير بغير ريش، ونفخ فيه الروح فكان طيراً بإذن الله كما أخبر سبحانه2، والله سبحانه خالق المُقَدِّر وتقدير المُقَدِّر وإنما أضاف التقدير إليهم لأنه كسب لهم، وأما خلق الذي هو الإنشاء والإبداع فلا يوصف به غير الله، بل نفى الله ذلك عن غيره وأثبته لنفسه بقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 3 وأكذب من ادعى4 أنه يخلق كخلقه فقال سبحانه: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 5، فمن قال: إن العباد يوصفون بإنشاء الخلق في أفعالهم وإبداعه، فقد أكذب الله في خبره، ولو كان كذلك لكان يطلق على الإنسان اسم الخالق كما يطلق ذلك على الله سبحانه كاشتراكهما في اسم الموجود والشيء، وفي اختصاص ذلك سبحانه بالله سبحانه دليل على أنه لا يوصف غيره بالإنشاء والإبداع.   1 في - ح - (صلى الله عليه وسلم) . 2 انظر: تفسير ابن جرير 3/275، الدر المنثور 3/314-215. 3 فاطر آية (3) . 4 في - ح - (يدعي) . 5 الرعد آية (16) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 32- فصل احتج المخالف على أن العباد يخلقون أفعالهم أن الله سبحانه نسب أفعالهم إليهم في آي كثير من القرآن بقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} 1 وبقوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} 2 وقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} 3 وما في هذا القبيل4 من القرآن كثير فصح أن ذلك خلق لهم. الجواب: أن وصف الله سبحانه باختراع5 أفعال العباد وإنشائها لا يخرج أفعالهم عن كونها مقدورة لهم على سبيل الاكتساب، فالله خالق القدرة ومقدورها والعبد موصوف6 بالحركة في فعله، فلذلك نسب الفعل إليهم في كل ما كان من القرآن من ذلك، والله موصوف بخلق الحركة في العبد وقد نسب الفعل إلى ما خلق فيه الفعل من الجمادات التي لا كسب لها فيه لكونها7 محلاً لخلق الله المفعول8 فيها فالعباد بذلك أولى9، والدليل على ما ذكرته قوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيه} 10 وقوله تعالى:   1 القمر آية (52) . 2 البقرة آية (197) . 3 الانفطار آية (12) وهي في - ح - هكذا {يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} وهي من سورة الشعراء آية (226) ولعلها تحريف من الناسخ، ولأن دلالة الآية الأولى على المعنى المراد أظهر، والله أعلم. 4 في - ح - (التفصيل) ، وهو تحريف. 5 في - ح - (بالاختراع) . 6 في - ح - (ومقدرها في العبد والعبد موصوف) وما في الأصل وهو الصواب وما في - ح- زيادة وتحريف، لأن مراد المصنف بيان أن الله خالق القدرة الموجودة في العبد وكذلك خالق مقدورها وهي الأمور الداخلة في مقدور العبد وفعله وهو أثر القدرة، أما قوله: (ومقدرها في العبد) فلا معنى له إلا أنه خالق القدرة وقدرها في العبد، وهذا لا يناسب المعنى المقصود من خلق الأفعال. 7 في - ح - (كونها) 8 في - ح - (الفعل) . 9 لأن العباد لهم إرادة واختيار فنسبت الأفعال إليهم من باب أولى، ولا يدل ذلك على عدم خلق الله كما أنه لم يدل على عدمه في نسبة الفعل إلى الجمادات حيث قد دلت الأدلة على ذلك. 10 النحل آية (14) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ} 1 وقوله في الأرض: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ} 2 وقوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} 3 فأخبر عنه بالفعل في هذه القراءة، وفي القراءة الأخرى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} 4 فأخبر أنه سبحانه يفعل الغشيان، وهذا5 القبيل كثير، فبطل احتجاجه أن نسبة الفعل إليهم تقتضي نفي خلق الله عن فعلهم6.   1 يسن آية (38) وفي - ح - أتم الآية إلى قوله: {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} . 2 الحج آية (5) . 3 الأنفال آية (11) . 4 ذكر ابن جرير في قوله تعالى: {يُغَشِّيكُمُ} ثلاث قراءات: {يُغَشِيكُمُ النُّعَاسَ} بصم الياء وتخفيف الشين ونصب النعاس من أغشاهم الله النعاس فهو يغشيهم، وهي قراءة عامة قراء أهل المدينة، وقرئت {يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} بضم الياء وتشديد الشين وغشاهم الله النعاس فهو يغشيهم، وهي قراءة عامة قراء الكوفيين. وقرئت {يَغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} بفتح الياء ورفع النعاس غشيهم النعاس فهو يغشاهم، وهي قراءة بعض المكيين والبصريين. تفسير ابن جرير 9/194. 5 وفي - ح - (ومن هذا) . 6 القدرية الذين أنكروا أن الله يخلق أفعال العباد يستدلون بالآيات التي نسب الله فيها الفعل إلى العباد. والجبرية الذين يقولون إن العباد لا تنسب أفعالهم إليهم إلا كما تنسب إلى الجمادات وجعلوا حركتهم حركة اضرارية لا اختيار لهم فيها، استدل هؤلاء بالآيات التي تنسب الفعل إلى الله عزوجل كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} ونحوها من الآيات. وكلا القولين فاسد لأخذهم ببعض النصوص وتركهم البعض الآخر، فالقدرية تركت النصوص الدالة على خلق الله للأفعال والجبرية تركت النصوص الدالة على نسبة الأفعال إلى العباد وأن لهم فيها إرادة واختيار. أما أهل السنة فجمعوا بين الآيات وأخذوا بجميع القرآن فكانوا على الاستقامة، فقالوا الآيات التي تدل على نسبة الفعل إلى الله المراد بها خلقه لها، والآيات التي تدل على نسبة الفعل إلى العباد فالمراد بها قيام الأفعال بهم أو أنهم المكتسبون لها بإرادتهم واختيارهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 33- فصل ذكر القدري المخالف كلاماً كثيراً نكتته، هل خَلْقُ الله المعاصي هل1 هو نفس المعصية أم غيرها؟ وهل كسب العبد فيها هي المعصية أم غيرها؟ وهل كسب العبد في المعصية هو خلق الله لها أم غيرها؟ فإن قلتم إن كسب العبد هو خلق الله فهو قول المجبرة، وكذلك إذا قلتم إن الخلق أو الكسب هو نفس المعصية رجعتم إلى شيء واحد، وإن قلتم إن الكسب غير الخلق رجعتم إلى قولنا. والجواب: أن المعصية هي فعل العبد المنهي عنه، وخلق الله الذي هو إنشاؤه وإبداعه لها هو غيرها، كما أن نهيه عنها هو غيرها وعلمه لها هو غيرها، وعلى أن اسم الخلق يقع أيضاً على المخلوقات قال الله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} 2 أي مخلوق الله، فالخلق مشترك بين الإنشاء والشيء المخلوق. وأما قوله: هل كسب العبد لها هو نفسها أم غيرها. فإنا نقول له: خلق العبد للمعصية على قولكم هل هو نفس المعصية أو غيرها؟ فكل جواب لهم عن هذا وهي خلق للعبد عندهم هو جوابنا لهم عن ذلك وهي كسب للعبد عندنا3. وأما قوله: هل خلق الله لها هو كسب العبد لها أو غيره؟ فإنا نقول: الله   1 هكذا في الأصل وهو كذلك في نسخة - ح - وهي زائدة لا معنى لها لأن السؤال عن خلق الله للمعاصي هل هو هو نفس المعصية أم غيرها، وانظر الجواب. 2 لقمان آية (11) . 3 زعمت المعتزلة أن خلق العبد لفعله هو: إيجاد الفعل بحواسهم وجوارحهم، فإذا كان هذا الفعل واقعاً وفق أمر الله وشرعه فهو طاعة وإذا كان مخالفاً له فهو معصية وهذا قول أهل السنة في أن الكسب هو ما يفعله العبد بجوارحه فإن وافق الأمر فهو طاعة وإن كان مخالفاً للأمر فهو معصية، فعلى هذا كسب العبد الفعل هو نفس الطاعة إذا كان موافقاً للأمر وهو نفس المعصية إذا كان مخالفاً للأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 سبحانه موصوف بذلك بصفة لا يوصف بها العبد، والعبد موصوف بذلك بصفة لا يوصف بها الله، وإن كان المعنى الذي وُصِفْنَا به لأجله واحداً فيوصف الله بأنه خالق لفعل العبد أي أنه أنشأه واخترعه وأراده وعلمه وقدره بإرادة قديمة وعلم قديم وقدرة قديمة1، ولا يوصف سبحانه بأنه مكتسب للفعل والعبد موصوف بأنه مكتسب لفعله، ولا نصفه بأنه خالق له كما أنه موصوف بأنه متحرك بفعله ومباشر له، ولا يوصف الله سبحانه بأنه متحرك فيما فعل2 ولا مباشر له3 وينفصل عن قول المجبرة، لأن المجبر هو: المقهور، والمكتسب هو من يقع الفعل منه وهو مختار لوقوعه ومؤثر لوقوعه على تركه. والمجبر على الفعل هو: المضطرب برعدة الحمى والفالج، ولا يلزمنا القول بالحق، لأن الخالق4 هو: المنشئ بقدرة قديمة على ما مضى ويوصف بالعلم بما خلق قبل الفعل وبعده، ويقدر على إعادة الخلق، وبهذا نبه الله على خلقه للأشياء بقوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 5 وقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} 6 ووصف العباد بالكسب بقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 7 وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 8 وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} 9 وكل ما أخبر الله عنهم بالعمل   1 قول المصنف: "بإرادة قديمة وعلم قديم … الخ". هو من كلام أهل الكلام الباطل الذي لم يدل عليه دليل بل الدليل دل على أن الله جل وعلا يريد بإرادة تتعلق بما يشاء وقت ما يشاء قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فإرادته جل وعلا تتعلق بما يريد إيجاده في وقته، وكذلك الكللام في القدرة فهو موصوف بها في الأزل وكل ما أراد خلقه فإنما يخلقه بقدرته فخلق السموات والأرض وكل شيء بقدرته، والسموات والأرض والمخلوقات حادثة وليست قديمة. 2 في - ح - (فعل ذلك) . 3 يعني (فيما فعل العبد ولا مباشر لفعل العبد) . 4 في - ح - (الخلق) وهو تصحيف. 5 الملك آية (14) . 6 الأنبياء آية (104) . 7 التوبة آية (82) . 8 المدثر آية (38) . 9 المائدة آية (28) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 والفعل فالمراد حقيقته لكونه كسباً لهم لا لأنهم خلقوه، فهذا هو الفرق بين الخلق والكسب لا يعقله إلا من نور الله بصيرته وهداه إلى الحق ولم يضله على سبيل الهدى. ثم يعارض هذا بما هو أقوى منه ويقال لهم: إذا قلتم إن العبد يخلق أفعاله هل خلقها بإرادة أم بغير إرادة، فإن قلتم: خلقها بغير إرادة لم يكن وجود الفعل منه على الصفة التي وجد عليها بأولى من وجوده على خلاف ذلك، وجوز في العقل وجود الصناعات المحكمة1 ممن لا إرادة له من البهائم والجمادات، وإن قلتم خلقها2 بإرادة، قلنا لهم: فهل تلك الإرادة خلق للعبد أو خلق لله، فإن قلتم إنها خلق للعبد، قلنا: فهل خلق تلك الإرادة بإرادة غيرها أم بغير إرادة، فإن قلتم خلقها بغير إرادة. قلنا: يجوز أيضاً أن يكون خلق الفعل بغير إرادة، وإن قالوا: خلقها3 بإرادة غيرها، قلنا: فتلك الإرادة تفتقر إلى إرادة مخلوقة له وتسلسل إلى غير نهاية، وما كان هذا سبيله حكم بإبطاله، وثبت أن4 إرادته خلق لغيره وهو الله سبحانه الخالق لكل شيء من جنسها ومن غير جنسها، ويقال لهم: كيف يكون الحيوان موصوفاً باختراع الخلق وإنشائه ونحن نشاهد العنكبوت والنحل وسائر الطيور يصدر منها من لطائف صناعات يتحير في كيفيتها عقول ذوي الألباب، وكيف انفردت هي بذلك دون الله وهي عالمة بتفاصيل ما يصدر منها!؟.   1 في - ح - (المحكمات) . 2 في - ح - (بل خلقها) . 3 في - ح - (بل خلقها) . 4 في الأصل (انه) ولا معنى للهاء هنا وما أثبته من - ح -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 34- فصل ذكرت في الرسالة من الاستدلال لنا: أن أفعال العبد خلق لله وليست بخلق العباد لأن أفعال العباد تقع على صفات محكمة وحقائق ثابتة وإعداد في الفعل، والفاعل لها من الخلق لا يعلم تلك الأوصاف1 وأعداد الحركات فيها قبل وجودها منه، بل تقع منه وهو ساه أو نائم وتقع من الصبيان والمجانين، فلما لم يعلم ذلك قبل الفعل ولا بعده دل على أنه غير خالق لها لأن الخالق يعلم خلقه قبله وبعده، وقد نبه الله بذلك على الخالق بقوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} 2. ويدل على أنه لا يعلم خلقه أن رجلين لو ثرد3 كل واحد منهما رغيفاً ثم جمعها ما ثردا لم يقدر أحدهما على تمييز ما ثرده عما ثرده الآخر ولا يقدر على ذلك، ولا يعلم عدد حركات المكتسبين وصفة ذلك قبل الفعل وبعده إلا الله سبحانه الذي خلق كل شيء وقدره تقديراً، فعلم أنه الخالق لهما ولما ثرداه ولما فعلاه في الثرد، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 4. فأجاب هذا المخالف عن ذلك بكلام منحوله5 وحاصله: أن علم الله بما فعل لا يدل أن كل فاعل يجب أن يعلم ما فعل، ألا ترى أن العباد مكتسبون لهذه الأفعال عند هذا المستدل وهم غير عالمين بما اكتسبوا   1 في - ح - كتبت هكذا ثم صححت إلى (الصفات) . 2 الملك آية (14) . 3 قال في اللسان: "الثرد الهشم، والثرد الفت ثرده ثرداً فهو ثريد وثردت الخبز ثرداً كسرته". اللسان 1/476. 4 الصافات آية (96) . 5 هكذا في الأصل، وهي غير منقوطة، ولعل مراده بها من النِحْلَة، وهي الدعوى فيكون معناه دعواه به وحاصله. انظر: اللسان 6/4369، المعجم الوسيط 266، وفي - ح - نقطها هكذا متخوله بتاء وخاء من خال الشيء - أي ظنه. انظر: المعجم الوسيط 266، وما في الأصل أقرب للصواب، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 من ذلك قبل الفعل وبعده، فلما لم يخرجهم عدم علمهم بما اكتسبوا عن كونهم مكتسبين لأفعالهم فكذلك لا يخرجهم عدم علمهم بما خلقوه عن كونهم خالقين لها، ولا يلزم علم الله بما خلق لأنه عالم بجميع المعلومات الجلي منها والخفي، والعباد يعلمون بعلوم محصورة، وعدم العلم لا يمنع من وجود الأفعال من غير العالم بها وإنما يمنع من وجودها محكمة، لأن كون الفاعل عالماً شرط1 لوقوع فعله محكماً، وعلمه بإحكامها أيضاً لا يمنع أن يجهل التمييز بينها وبين غيرها بعد وجودها عند الالتباس وإنما الذي يحيل وجود الأفعال عدم القدرة فينا، هذا تحرير كلامه والجواب: إن قول هذا المخالف: إن علم الله بما فعل لا يدل على أن كل فاعل2 يجب أن يكون عالماً بما فعل غير صحيح، بل وجود الفعل يدل على وجود أمور في الفاعل هي شرط في كونه فاعلاً، وعدمها يقتضي عدم الفعل. أحدها: كون الفاعل موجوداً. الثاني: كونه حياً. الثالث: كونه عالماً بما فعل. الرابع: كونه قادراً على ما فعل. إذ لو لم يكن وجوده شرطاً لتصور وجود الفعل من المعدوم، ولو لم تكن حياته شرطاً لتصور وجود الفعل من الميت والجمادات، ولو لم يكن علمه شرطاً لتصور وجود المتاب ممن ليس بكاتب والنساجة والتجارة ممن ليس بنساج3 ولا تاجر، وكون الفعل محكماً يدل على تزايد علمه4 بما فعل.   1 في - ح - (بشرط) . 2 في النسختين (عالم) وهو خطأ وصوابه ما أثبت وانظر: كلام المخالف. 3 في- ح - بناسخ. 4 هكذا في - ح - وهي في الأصل (علمه) ولا يستقيم الكلام بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وقول المخالف: عدم العلم لا يمنع من وجود الأفعال، لا يصح لما بينته1. وأما قوله: الذي يحيل وجود الأفعال عدم القدرة فصحيح ولكن يشترط وجود القدرة ووجود العلم2 من الفاعل كما اشترطت حياته، وترتيب أفعال الفاعل في التقديم والتأخير يدل على أن له إرادة لما فعل. فإذا تقرر بما ذكرت كون العلم شرطاً لوجود الاختراع ووجدنا الحركات التي تصدر من الإنسان وغيره من الحيوان لو سئل عن عددها وتفاصيلها3 لم يكن عنده خبر منها، ووجدنا الصبي حين يولد يقصد إلى ثدي أمه ويمص اللبن، والهرة حين تولد تدب إلى ثدي أمها وهي مغمضة عينيها، والعنكبوت ينسج من البيوت أشكالاً غريبة، وكذلك النحل تعمل بيوتها على شكل يعجز المهندسون عن معرفة كيفية أشكالها، علم4 أن الصانع لها هو الله الخالق لكل شيء العالم بهذه الأشكال والتصويرات. وأما قول المخالف: لما لم يخرج العباد عدم علمهم بأفعالهم عن كونهم مكتسبين لها عندكم لم يخرجهم عدم علمهم عن كونهم خالقين لها عندنا، فغير صحيح، لأن الخلق الذي هو: الاختراع والإنشاء اسم مدح تسمى به الله سبحانه فاختص بذلك بوصف مختص به زايد على ما يوصف به غيره، وهو الكسب وهو كونه عالماً بما اخترعه وأنشأه قبل الاختراع وبعده، وقد نبه الله تعالى5 على ذلك بقوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} 6 ولم يقل   1 في - ح - يثبته. 2 في - ح - (يشترط مع وجود القدرة وجود العلم) . 3 في - ح- (وعن تفاصيلها) . 4 في - ح- (وقد علم) . 5 ليس في - ح - (لفظ الجلالة) . 6 الملك آية (14) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ألا يعلم من كسب، فلم يُحمل أحدهما على الآخر بالوصف، وقد أخبر الله بضلال من سوى بين الله وبين خلقه بشيء، فقال تعالى إخباراً عن أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، ومن سمى غير الله خالقاً لشيء من الأشياء فقد سوى غير الله بالله، وقد قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فثبت2 ما قلما وبطل ما قالوه.   1 الشعراء آية (97-98) وقد كتبت الآية في النسختين: (لقد كنا في ضلال مبين) وهو خطأ. 2 في - ح - (بما) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 35- فصل قال القدري: لو كانت أفعال العباد خلقاً لله لما مدحهم الله بشيء منها ولا ذمهم على شيء منها. والجواب أنا نقول: إن الله لم يمدحهم ولا ذمهم على خلقه لها فيهم وإنما مدحهم على كسب ما أمرهم به وذمهم على كسب ما نهاهم عنه، وقد نسب إلى نفسه شيئاً من أفعالهم خلقاً له، ونسبه إليهم كسباً فمدحهم على شيء منها، وذمهم على شيء منها، ومصداق ذلك في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} 1، فأخبر سبحانه عن إضحاكه وإبكائه لهم بالصيغة والتنبيه2 التي أخبر بها عن إماتته وإحيائه لهم، فلما كان إحياؤه وإماتته لهم هو خلقه للحياة والموت فيهم، بدليل قوله تعالى في آية أخرى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} 3 دل على أن إضحاكه وإبكاءه لهم هو خلقه الضحك والبكاء فيهم لقوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} 4، ونسب الضحك إليهم لكونه كسباً لهم وذمهم عليه، وقوله تعالى في آية أخرى: {وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} 5، ونسب البكاء إليهم لكونه كسباً لهم، ومدحهم عليه يقوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُون} 6، وبقوله تعالى: {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} 7 وذمهم على ترك البكاء بقوله تعالى: {وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} 8 وإذا ثبت أنه   1 النجم آية (43) . 2 هكذا في الأصل وفي - ح - صححت كما في الأصل ولعلها (والنسبة) فإنها أقرب إلى المعنى المراد، والله أعلم. 3 الملك آية (2) . 4 النجم آية (59-60) . 5 المؤمنون آية (110) . 6 الإسراء آية (109) . 7 النجم آية (60-61) . 8 مريم آية (58) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الخالق للضحك والبكاء فيهم فهو خالق لهما فيهم في الطاعة والمعصية، فمن بكى من خشية الله أو بكى على فوت1 امرأة أراد الزنا بها، فالله هو الذي أبكاه، وكذلك من ضحك في وجه أخيه المسلم لإظهار السرور له2، أو ضحك عامداً في الصلاة فالله الذي أضحكه3. والقدرية يقولون: العبد هو الخالق للضحك4 والبكاء لنفسه رداً منهم لقول الله سبحانه فيما أخبر به بكتابه.   1 في - ح- (فوات) . (له) ليست في - ح-. 3 في الأصل (ضحكه) وفي - ح - كما أثبت وهو الأنسب. 4 في الأصل (الضحك) وفي - ح - كما أثبت وهو الأنسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 36- فصل قال القدري: لو كان أفعال العباد خلقاً لله1 لم يأمر العباد بشيء منها ولا نهاهم عن شيء منها. والجواب: أنا نقول2: إنما يأمرهم3 بكسب أفعالهم ونهاهم عن كسب أفعالهم، وقد وصف الله سبحانه نفسه بخلق شيء من أفعالهم ونسب ذلك إليهم لكونه كسباً لهم فقال سبحانه: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا} 4 والتقدير الخلق، وقوله تعالى: {هُوَ5 الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} 6، فقوله يسيركم، على وزن يصوركم في الأرحام، فلما كان قوله تعالى: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ} 7 المراد به8 يخلق تصويركم كان قوله: {يُسَيِّرُكُمْ} أي يخلق تسييركم9، ثم أمرهم باكتساب ما أخبر أنه يخلقه فيهم وهو السير فقال سبحانه: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} 10 وقال في آية أخرى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} 11 والمسيّر لهم في البر والبحر للطاعة والمعصية هو الله، وعند القدرية أن المسير لهم في البحر هو أنفسهم برفعهم الشراع للريح، فإذا ساروا في البحر   1 في - ح - أشار إلى الحاشية وقال: "لما مدحهم لشيء منها ولا ذمهم على شيء منها" وهو ليس في الأصل. 2 في - ح - أشار إلى الحاشية وقال: "إن الله لم يمدحهم ولا ذمهم على خلقه لها منهم وإنما مدحهم على كسب ما أمرهم به وذمهم على كسب ما نهاهم عنه (وقد) - هكذا استطعت قراءتها نسب إلى نفسه شيئاً من أفعالهم" وهو ليس في الأصل وهو مطابق لما تقدم في الفصل قبله. 3 في - ح- كما أثبت وهو الأوضح، وفي الأصل بأمر، ولعل صوابها (أمرهم) لتتفق مع نهاهم. 4 سبأ آية (18) وقوله (فيها) في الآية ساقطة من - ح-. 5 في الأصل (وهو) وفي - ح- بدون الواو وهو الصواب. 6 يونس آية (22) . 7 آل عمران آية (6) . 8 في - ح - (المناديه) . 9 في - ح - (المناديه) . 10 سبأ آية (18) . 11 العنكبوت آية (19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 لمعصية فإن الشيطان هو الذي يسيرهم1 وهذا غير صحيح،؛ لأن الله أخبر في الآيات2 أنهم إذا خافوا الغرق تضرعوا إلى الله سبحانه بأن ينجيهم بقوله تعالى: {جَاءَتْهَا3 رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4 الآية. ومعلوم أن الكفار والفسقة إذا ركبوا في البحر لمعصية وخافوا الغرق يدعون إلى الله سبحانه بالنجاة ولا يدعون إلى الشيطان5، فدل أن الله تعالى هو المسير لهم والمغرق لهم والمنجي لا شريك له بشيء من ذلك.   1 لعل مراد المصنف - رحمه الله - بقوله عن المعتزلة "فإذا ساروا في البحر لمعصية فإن الشيطان هو الذي يسيرهم) يعني هو الذي يريد منهم هذا السير"، وسيأتي قول المصنف عنهم أن الله أراد منهم الخير وأن الشيطان أراد منهم الشر ص (329) أما خلق التسيير على ما يظهر من معنى الكلام هنا فإن المعتزلة لا يقولون: إن الشيطان هو الخالق للمعصية، بل يجعلون العبد هو الخالق لأفعالهم في الطاعة والمعصية ولا يفرقون بينهما من ناحية الخلق وإنما يفرقون بينهما من ناحية الإرادة، فيجعلون الله مريداً للخير والشيطان مريداً للشر. انظر: كلام عبد الجبار المعتزلي في شرح الأصول على خلق الأفعال ص 323-332. 2 في - ح - (الآية) . 3 في النسختين (جاءتهم) وهو خطأ. 4 يونس آية (22) . 5 هكذا في الموضعين في النسختين والأصوب (يدعون الله سبحانه بالنجاة ولا يدعون الشيطان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 37- فصل ومن الدليل على صحة قولنا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً} 1، وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 2. فأخبر أنه جعل الرأفة والرحمة في القلوب3، والجعل هاهنا خلقه للرأفة والرحمة4 في قلوب الخلق من بني آدم والبهائم والطير، حتى إن الفرس لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، والطير تخرج ما في حواصلها5 لأولادها، والأم من بني آدم يسهر الليالي من الرحمة التي في قلبها إذا خافت عليه، ولو كانت الأم من بني آدم هي الخالقة للرحمة في قلبها لولدها، أفترى البهائم والطير تخلق تلك الرحمة في قلبها لولدها؟ ثم6 تخلق من ذلك مات يضرُّ بها؟ كذب الجاحدون لذلك فضلوا ضلالاً بعيداً.   1 الحديد آية (27) . 2 الروم آية (21) . 3 في - ح - (قلوب الخلق) . 4 في - ح- (الرأفة) . 5 في - ح- (ما بحواصلها) . 6 في الأصل (لم) ولا يستقيم بها الكلام، إلا أن يكون هناك سقط أو خلل. وفي - ح- أقرب ما تكون في كتابتها كما أثبت إلا أنها غير منقوطة ولعلها الأقرب للصواب، ويكون المراد بها ثم إن هذه المخلوقات تخلق من الرحمة ما يضر بها كتألم الوالدين لتألم ولدهما والسهر معه والخوف عليه، وكذلك إخراج الطير ما حواصلها لفراخها، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 38- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة: أن العبد لو كان هو الفاعل لإبانة غصن الشجرة منها وأن القاتل هو الفاعل للموت في المقتول لكان قادراً على إعادته لأنه من جنسه1، ومن قدر على فعل شيء قدر على فعل شيء قدر على مثله، وقد أخبر الله سبحانه بذلك وأمرنا بالاستدلال عليه بقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} 2 الآية إلى قوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى3 أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} 4، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} 5. فأجاب القدري عن ذلك وقال: أما القطع فإنه تفريق ولا يحتاج فيه إلا إلى استعمال الآلة الصالحة للتفريق، فأما6 الإعادة فهو تأليف لطيف بين أجزاء الأصول وأجزاء الفرع، وهو يحتاج إلى أجزاء من الرطوبة وأجزاء من اليبوسة، وأجزاء من العود متغايرة مقدرة بمقادير معلومة، وذلك مما لا يهتدي إلى معرفته العباد، فلذلك امتنع عليهم إعادة الغصن كما كان، هذا كلامه في الغصن. والجواب عنه: أنا لا ننكر أن الفعل المنسوب إلى العبد بالاكتساب للقطع هو حركته باستعمال الآلة، وأما الإبانة للغصن المقطوع فليس من فعله بل من خلق الله وبإرادته وقوع ذلك، بدليل أن الإنسان قد يضرب بالآلة القاطعة غصناً ضربة أو ضربات بين بها في العادة، فإذا لم يخلق الله   1 أي الإحياء والإعادة من جنس الإماتة. 2 في - ح- أكمل الآية. 3 في - ح- ابتدأت الآية من هنا. 4 يس آية (78-81) . 5 الروم آية (27) . 6 في - ح- (وأما) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 إبانته بذلك لم تقع به1 إبانة2، وأما انفصاله عن إلزامنا   (به) ساقطة من - ح-. 2 هذه المسألة تتعلق بما يسمى المتولدات وهي آثار الأفعال، كإبانة الغصن بالضرب فالضرب هو الفعل والإبانة هي أثر الضرب، وقد اختلف المتكلمون في محدثها، فقال الأشاعرة ومن وافقهم: إن الإنسان لا يكون فاعلاً في غير محل قدرته فلهذا قالوا: إن الأمور التي تقع بأثر الفعل هي من خلق الله وإرادته وليس للعبد فيها فعل وهو قول المصنف هنا. أما المعتزلة فلهم في ذلك أقوال: فقال النظام ومعمر: إنها تحصل بالطبع في المحل أي المحل الواقع عليه الفعل، وقال الجاحظ: إنها تحصل بالطبع في أفعال الجوارح، وقال ثمامة بن أشرس منهم: إنها حوادث لا محدث لها، وقال عبد الجبار المعتزلي في شرح الأصول الخمسة: إنها من فعل العبد بواسطة. والناظر في هذه الأقوال يتبين له خطأ بعضها وقصور بعضها عن الحق، فإن المعتزلة وإن أجاز بعضهم نسبتها إلى العبد فإنهم ينفون خلق الله عزوجل للفعل وأثره. أما الأشعرية فإنّهم يمنعون أن ينسب الأثر الواقع بفعل الإنسان إليه، والصحيح أن الفعل وأثره ينسبان إلى الله خلقاً وإياجاداً، وينسبان إلى العبد فعلاً وكسباً فقد اشترك في وقوعه الإنسان والسبب المتصل به ولم يستقل كل واحد منهما بالفعل، وقد نسبه الله عزوجل إلى الإنسان فقال عز من قائل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} وقال: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} وقال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} وقال: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} والقتل لا يكون إلا بواسطة في الغالب إلا أن يكون خنقاً ونحوه وكذلك القطع والنحت، وقد نسبه الله عزوجل إلى الإنسان باعتبار أنه من فعله وكسبه لهذا فإن الإنسان يجازى على فعله وعلى أثر فعله، قال عزوجل: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} . وقال - صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعى إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل إثم من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" أخرجه م. كتاب العلم (ب. من سن سنة حسنة) 4/2060. والله عزوجل خالق فعل العبد وخالق السبب والمسبب، ولو شاء لجعل من الموانع ما يمنع من أثر الفعل مع وجود سببه، كما هو الحال في النار التي ألقي فيها إبراهيم عليه السلام، وفي الذي مر على قرية خاوية فأماته الله مائة عام فقد حفظه الله من أن تأكله الأرض ونحو ذلك. أما قول المصنف: إنه لو كان العبد هو الفاعل لإبانة الغصن والموت في المقتول لاستطاع إعادة الغصن وبث الحياة في المقتول. فالواقع أن العلة في ذلك أن الغصن وكذلك الإنسان المقتول هو من صنع الله عزوجل وخلقه، وليس هو من صنع الإنسان ولا فعله لهذا إذا أفسده فإنه يمكنه أن يرجعه ويصلحه وهو مع ذلك من خلق الله تعالى، والله أعلم. انظر: الأقوال في: الإرشاد للجويني ص 206، أصول الدين للبغدادي ص 137-138، شرح الأصول الخمسة ص 387-390، درء تعارض العقل والنقل 9/341، مجموع الفتاوى 8/137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 له الإعادة بما1 ذكر من التأليف اللطيف، فلا حجة له عليه ولا سبيل له إلى العلم بذلك، ولا لأحد من الخلق وقد أكذب الله سبحانه من ادعى العلم بذلك فقال: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} وقد خلق الله أشياء من غير شيء، فإذا ثبت عجزهم عن إعادة خلق الغصن المقطوع دل على عجزهم عن خلق إبانته. قال القدري: وأما الموت فقد اختلف فيه (فمنهم من قال) 2: إنه معنى من جملة الأعراض، ومنهم من يقول: إنه ليس بمعنى وإنما هو عدم الحياة3. فمن قال: إنه معنى لا يقدر عليه إلا الله، والقتل هو: تخريب البنية إذ حصل بسببه الموت، والموت معنى سوى ذلك، فلا يلزم من قدر على شيء أن يقدر على غيره لا سيما إذا كان من غير جنسه، والموت من غير جنس الحياة فلا يلزم علينا هذا الإلزام. والجواب: أن يقال لهذا المخالف: المشهور من مذهب أكثر القدرية القول بأنهم يقدرون على أن يخلقوا في محل الحياة ضداَ ينافي الحياة4، وضد الحياة الموت فشاركوا بذلك قول نمرود: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت} 5، ومن قال هذا   1 في الأصل (لما) وفي - ح- كما أثبت. (فمنهم من قال) ساقطة من - ح-. 3 ذكر هذه الأقوال أبو الحسن الأشعري في المقالات ولم ينسبها. مقالات الإسلاميين 2/109. 4 انظر: مقالات الإسلاميين 2/108-109. 5 البقرة آية (258) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 لا شك في كفره لقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} 1، ويزعمون مع ذلك أن الواحد إذا كان في علم الله بقي من أجله خمسون سنة يقدرون على أن يقطعوا أجله2 إذا قتلوه3، فيلزمهم على هذا إذا كان في علم4 الله أنه يتزوج في الخمسين الباقية امرأة أو أكثر ويولد منهن أولاداً أن يعطوا5 النساء والأولاد حقوقهم، وإن6 كان في معلوم الله أنه يرتد في السنين الباقية فلا يورثوا ورثته من المسلمين، ويدفن في غير مقابر المسلمين، أو كان في معلوم الله أن الكافر يسلم في الخمسين الباقية يجب أن يكون في الجنة، ويلزم على أصلهم إذا بقي من أجل رجل في معلوم الله خمسون سنة فقتل رجلاً7 بقي من أجله في معلوم الله يوم أم شهر أن لا يقتل به8. ولا شك أن هذا المخالف استشنع قول أسلافه: إن القاتل يقطع   1 الزمر آية (42) . 2 في - ح - (يقدرون أن يقطعوا ذلك من أجله) . 3 السلف يقولون: إن المقتول مات بأجله المقدر له الذي لا يتعداه بأي حال، والله خالق الأسباب والمسببات فخلق الحياة والموت وخلق أسبابها، والمعتزلة لهم في المقتول لو لم يقتل ثلاثة أقوال: القول الأول: أبو الهذيل قال: إنه لو لم يقتل لكان يموت قطعاً. القول الثاني: البغدادية منهم: إنه لو لم يقتل لكان يعيش قطعاً. القول الثالث: قول آخرين منهم شارح الأصول الخمسة: إنه يجوز أن يحيا وأن يموت ولا يقطع بأحد الأمرين. فيظهر من هذا أن أصحاب القول الثاني والثالث يقولون: إن الميت مقطوع أجله فيلزمهم ما ذكر المصنف هنا من اللوازم. انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 149، مقالات الإسلاميين 1/ 321، شرح الأصول الخمسة 782، شرح المواقف ص 320. 4 في - ح - (معلوم) . 5 في - ح - (فقطعوا) . 6 في - ح - (وإذا) 7 في - ح - (فقتل رجل رجلاً) . 8 معنى ذلك أنه لا يقتل به لأنه يقتل قبل أجله، أما المقتول فإنه قتل في الوقت القريب من أجله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الأجل وأنه يخلق الموت في المقتول1 لئلا ينفر عنه من يريد استدراجه من العامة فاختار إظهار قول الفرقة القليلة منهم الموافقة لقول أهل التوحيد2 والمشهور عنهم ما قدمناه، والدليل على فساد قولهم قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} 3، وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} 4 ولم يفرق في ذلك بين الميت والمقتول.   1 انظر: ما تقدم ص 308. 2 وهو قول أبي الهذيل السابق ذكره. انظر: ص 239. 3 ق آية (43) . 4 الأعراف آية (34) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 39- فصل دليل لنا مذكور في الرسالة يقال للقدرية أجمعتم معنا أن القدرة في العبد على الفعل خلق لله1، فإن ادعيتم أن الفعل الموقع بهذه القدرة مخلوق2 لكم، قلنا: يستحيل وقوع فعل واحد بقدرة قديمة وقدرة محدثة، كما يستحيل وقوع فعل واحد من3 فاعلين، وإن ادعيتم الاستبداد بخلق الفعل كله وليس لله فيه اختراع ولا خلق توجه على قولكم أن خلقكم أحسن من خلق الله لأن الطاعات والأعمال المستحسنة أحسن من خلق الأعيان، وأدى إلى تكذيب قوله تعالى فيما مدح به نفسه بأنه أحسن الخالقين4، وقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 5 وقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} 6 وإن ادعيتم المشاركة لله في الخلق في إيجاده بالقدرة القديمة من الله ومنكم بالقدرة المحدثة كنتم مدعين لمشاركة الخالق وقد كذبكم الله بقوله: {أَمْ جَعَلُوا7 لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 8 وطالبناكم بتمييز ما وقع بقدرتكم المحدثة، عما وقع بقدرة الله القديمة، لأن الخالق يعلم ما خلق وهذا لا محيص لهم عنه.   1 عند المعتزلة أن القدرة والقوة والاستطاعة والطاعة شيء واحد، فمنهم من قال: "هي عرض وهي غير الصحة والسلامة وهم أبو الهذيل ومعمر والمردار وبهذا قال شارح الأصول الخمسة، ومنهم من قال: هي السلامة وصحة الجوارح وتخليها من الأفات وهم بشر بن المعتمر وثمامة بن أشرس وغيلان، وهذا لا ينكر المعتزلة أنه مخلوق لله عزوجل". انظر: مقالات الإسلاميين 1/299-300، شرح الأصول الخمسة ص 391-393، المواقف ص 151. 2 في - ح - (مخلوقة) . 3 في - ح- (بين) . 4 وذلك في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . 5 فاطر آية (3) وفي - ح - ذكر قوله تعالى: {يَرْزُقُكُمْ} . 6 النحل آية (17) . 7 في الأصل و - ح- (وجعلوا) وهو خطأ. 8 الرعد آية (16) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فأجاب المخالف عن هذا وقال: لا شك أن القدرة التي في العبد من فعل الله ومن اجل نعمه على خلقه، وأما قول هذا1 المستدل أن الفعل الواحد لا يكون إلا بقدرة قديمة وقدرة محدثة فإن هذا مبني على أصل فاسد وهو أن الباري له قدرة قديمة وذلك باطل عندنا، بل لا يحتاج إلى قدرة قديمة ولا إلى علم ولا حياة2 ولا إرادة ولا سمع ولا بصر بل هو قادر بذاته3 على جميع المقدورات وعالم بذاته وهو مستغن عن كل شيء، وصرح بأنه لا كلام له وإن القائلين بإثبات هذه الصفات لله كالقائلين بالتثنية من المجوس وبالتثليث من النصارى، هذا نكتة قوله. والجواب أن يقال: شرح القولين في القدرة المخلوقة في العبد مختلف فيه، فقول أهل التوحيد والسنة: إن الاستطاعة في العبد صفة قائمة به لا تبقى زمانين، بل يخلق الله كل جزء منها فيه حال حدوثه، واستطاعته في كل جزء غير استطاعته بالجزء الآخر4، والله خالق كل جزء، والعبد غير   (هذا) ليست في - ح -. 2 في - ح - (ولا إلى حياة) . 3 في - ح - (لذاته) . 4 ما ذكر المصنف - رحمه الله - هنا وهي القدرة في حال الفعل، وهي بهذا عرض من الأعراض، وهي لا تبقى زمانين عند الأشاعرة ومن وافقهم. انظر: الإرشاد للجويني ص 196. أما المعتزلة فإن قولهم في الاستطاعة إنها قبل الفعل والأكثر منهم على أنها تبقى وبعضهم قال: لا تبقى. انظر: مقالات الإسلاميين 1/300. أما الأعراض فقد اختلف في بقائها على تفصيلات، فمنهم من خص بعض الأمور بالبقاء كاللون والطعوم والروائح، ومنهم من قال: بعدم بقاء الأعراض كلها وممن قال بهذا الأشاعرة وظاهر قول المصنف أنه على هذا القول. انظر: المقالات 1/46، وقد تقدم بيان القول الحق في الاستطاعة وأنها تطلق على القدرة التي تكون قبل الفعل وأنها مناط الأمر والنهي الشرعي، كما أنها تطلق على القدرة مع الفعل وهي الموجبة للفعل وخلق الله متعلق بالنوعين. انظر: ما تقدم. أما التفصيل المذكور بخلق أجزاء الفعل فباعتبار أن خالق الفعل، وهذا الخلق يقع على كل جزء من أجزاء الفعل أعني الحركة بالفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 مستغن عن الله في كل حال من أحواله، فاستطاعة الطاعة تسمى عوناً من الله وتوفيقاً وتسديداً، واستطاعة المعصية تسمى خذلاناً وإضلالاً والقدرة والقوة والاستطاعة تعم ذلك كله وهي معنى لا يعلم ما ذاتها، بل ينتفي بوجودها أضدادها، فالقدرة ينتفي بوجودها العجز1، كما ينتفي الجهل بوجود العلم، والموت بوجود الحياة، والحركة بوجود السكون، والسكون بوجود الحركة، وعند2 المعتزلة والقدرية أن الاستطاعة في العباد يوصفون بالقدرة عليها قبل الفعل وتبقى زمانين، وأما في حال الفعل فتتولد من الاستطاعة المتقدمة ولا يوصفون بالقدرة على الفعل حال الفعل، فهم بالجبر الذي عابوه على خصمهم وأضافوه إليهم3 أولى4، وهم مستغنون عن خالقهم حال الفعل، قال هشام بن الحكم شيخ المعتزلة والقدرية5. الاستطاعة صفة للمستطيع ليست غيره ولا هي منه6   1 يعني بذلك القدرة في حال الفعل أما القدرة قبل الفعل فإن الإنسان يوصف بها وإن لم يقم بالفعل كما أن لها معنى يعلم ويعرف وهي الصحة وسلامة الجوارح, 2 في - ح - (وغير) وهو خطأ. 3 في - ح - (إليه) . 4 انظر: ما تقدم ص 214. 5 ليس في شيوخ المعتزلة من اسمه هشام بن الحكم، وإنما هو من الراوافض ومن القائلين بالتشبيه حيث حكى عنه الأشعري وغيره أن معبوده جسم ذو حد ونهاية وأنه طويل عريض عميق وأنه كاللؤلؤ المستديرة وأنه ذو لون وطعم إلى آخر ضلالاته. انظر: مقالات الإسلاميين 1/106، الفرق بين الفرق ص 65. ولعل مراد المصنف هنا هشام بن عمر الفوطي أحد شيوخ المعتزلة وقد عده صاحب طبقات المعتزلة في آخر الطبقة السادسة وقال عنه: "هو شيباني من أهل البصرة كان عظيم القدر عند الخاصة والعامة". انتهى وتنسب إليه فرقة الهشامية من المعتزلة، ويؤيد هذا أنه هو الذي ذكر عنه أنه منع من قول "حسبنا الله ونعم الوكيل". انظر: فرق وطبقات المعتزلة ص 69، 214، الفرق بين الفرق 159. 6 هذا القول لم أقف على من ذكره من قول هشام الفوطي، والذي ذكر عنه الأشعري أنه يقول بقول أكثر المعتزلة: إن الإنسان حي مستطيع والحياة والاستطاعة هما غيره، وهذا خلاف المذكور هنا عنه. والله أعلم. انظر: 299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وكذا قال إبراهيم النظام1 منهم: إن الإنسان هو الروح وهو مستطيع لنفسه2، فيؤول قولهما إلى معنى واحد، فأثبتنا أنفسهما قادرة مستغنية عن الله خالقة مصورة، وكان هشام هذا لا يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل على أصله هذا3، وإذا ثبت من قولهم أن الاستطاعة تبقى قبل الفعل ولا تبقى مع الفعل فهم متبعون لأصحاب الطبائع، وعبروا عن قول أصحاب الطبائع بهذه العبارة لأن أصحاب الطبائع يقولون: أصول العالم أربعة: الحرارة، والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وسائر الحوادث كلها تتولد من هذه الأصول، والمعتزلة والقدرية قالوا: إن الفاعل يقدر على فعله حال الفعل ولا يحتاج إلى القدرة ولا يخل بالفاعل يقدر على فعله حال الفعل ولا يحتاج إلى القدرة ولا يخل بالفاعل عدمها4. فتجويز فعلهم ممن ليس بقادر كتجويز أصحاب الطبائع الحوادث من الموات وهي الطبائع5 من غير فاعل بل يتولد منها. وأما قول المخالف في القدرة القديمة، وأن المستدل بنى كلامه بذلك على أصله الفاسدة في إثباته لله سبحانه صفات قديمة وهي القدرة والعلم والحياة   1 هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام من المعتزلة، عده صاحب طبقات فرق المعتزلة من الطبقة السادسة، وسمي النظام لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة، وله ضلالات عديدة بسبب كثرة مطالعته لكتب الفلاسفة الملحدين وغيرهم، وتوفي ما بين سنة (221، وسنة 223?) . انظر: فرق وطبقات المعتزلة ص 59، الفرق بين الفرق ص 131. 2 ذكر هذا القول عنه وعن علي الإسوري من المعتزلة الأشعري في مقالاته. انظر: المقالات 1/299. 3 هذا القول أثبته الله عزوجل في القرآن {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وإنما أنكره هذا الرجل لغلوه في إنكار القدر حتى منع إطلاق ما أضاف الله إلى نفسه من فعله بالعباد مثل قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُم} فقد قال فيه: إن الله لا يؤلف بين قلوب العباد. ومثله أيضاً قوله تعالى: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} قال: لا يحبب إليهم الإيمان ولا يزينه في قلوبهم. انظر: الفرق بين الفرق ص 160. 4 تقدم ص 164. 5 في الأصل (وأهل الطبائع) وهي لا تتفق مع العبارة والصواب ما أثبت كما هو في - ح -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 والإرادة والسمع والبصر والكلام فيقال له: رميت خصمك بذنبك، وليس من بنى قوله على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- بناه على أصل فاسد، بل من بنى قوله على خلافهما1 ومتابعة قول جهم2 وأضرابه3 فهو الأصل الفاسد، فنحن وهم4 كما قال الله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ5 فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّم} 6، وقد مضى الكلام عليهم في الصفات7، وأنا أعيد الكلام هاهنا بذلك ليتقرر بطلان مذهبهم8 ويتضح أساسهم الذي بنو عليه لحذر منهم من لا خبرة له بمذهبهم فأقول9: اعلم أن جهماً ومن تابعه قالوا: لا قدرة لله ولا علم ولا حياة ولا إرادة ولا سمع ولا بصر ولا كلام، فقيل10 لجهم: أتقول: إن الله شيء؟ فقال: لا أقول إنه شيء لأن معنى شيء معنى محدث مخلوق ومعنى مخلوق معنى شيء11، وهذا كفر ظاهر لا يخفى على أحد؛ لأن الله   1 في الأصل (من بنى على خلافها) وما أثبت من - ح - وهو أقوم للعبارة. 2 تقدمت ترجمته وبيان مذهب الجهمية ص 197. 3 في - ح- كما أثبتها وفي الأصل (وأحزابهم) ولا يستقيم بها الكلام. 4 في - ح - (فيهم) . 5 في الأصل (هير) وهي في - ح - كما أثبتها وهو رسم المصحف. 6 التوبة آية 109. 7 انظر: 133 وما بعدها. 8 في - ح - (مذهبه) . 9 كتب في - ح - في الهامش عنوان (إثبات الصفات) . 10 في - ح- (فنقول) . 11 ذكر الأشعري والشهرستاني عن جهم إنكاره أن يقول: إن الله شيء لزعمه أن في ذلك تشبيهاً، وأنكر سائر صفات الله احترازاً من التشبيه ولم يثبت لله من الصفات إلا: قادر - موجد - فاعل - محي - مميت، على اعتبار أن تختص بالله ولا يوصف المخلوق بها، وذلك لأنه أنكر أن يكون الإنسان قادراً أو فاعلاً على الحقيقة إنما ذلك مجاز. وقد تقدم هذا عنه. انظر: ص 197، مقالات الإسلاميين 1/338، الملل والنحل بهامش الفصل 1/109، الفرق بين الفرق ص 211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 سمى نفسه شيئاً فقال: {قُلْ1 أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} 2، ولأن معنى شيء معنى موجود فكل شيء موجود وكل موجود شيء والموجود ضد المعدوم، فلما كان الباري غير معدوم سمي موجوداً أو شيئاً. فلما ظهرت3 شناعة قول جهم بذلك وخالف قوله بذلك قول العلماء قبله وخافت المعتزلة والقدرية السيوف إن أظهروا القول بقوله قالوا: إن الله قادر حي عالم مريد سميع بصير، ولكن ليس له قدرة ولا حياة ولا علم، ولا إرادة، ولا سمع، ولا بصر، بل هو موصوف بهذه الصفات لذاته4، إلى أن قال أبو الهذيل العلاف من رؤسائهم5: إن علم الله هو الله6، فقيل له فيلزم على قولك أن يقول الإنسان في الدعاء "يا علم اغفر لي وارحمني" فأبى ذلك لما علم تناقض قوله فيه. وقولهم يرجع بالتحقيق إلى قول جهم7 لأن حقيقة الموصوف أن يكون   (قل) ليست في - ح -. 2 الأنعام آية (19) . 3 في - ح - (ظهر) . 4 انظر: كلام القاضي عبد الجبار المعتزلي في ذلك شرح الأصول الخمسة ص 167، 183، 200، 201، 227، 228، 528. 5 هو محمد بن الهذيل العلاف. عده صاحب فرق وطبقات المعتزلة رأس الطبقة السادسة من المعتزلة المقدمين لمعرفته في الجدل ودقائق الكلام، توفي سنة (227?) ، وذكر له الاسفرائيني أقوالاً فاسدة كثيرة منها: قوله: "إن أهل الجنة يفني نعيمهم وكذلك أهل النار يفني عذابهم"، وقوله بطاعات كثيرة لا يراد بها الله عزوجل وأن علم الله وهو هو. انظر: طبقات وفرق المعتزلة ص 54، الفرق بين الفرق ص 121. 6 انظر: مقالات الإسلاميين 1/254، وانظر: شرح الأصول الخمسة ص 183. وجعل القاضي عبد الجبار قول أبي الهذيل كقول الجبائي منهم: "إن الله عالم لذاته" إلا أن أبا الهذيل لم تتلخص له العبارة، وقال: ألا ترى أن من يقول: إن الله تعالى عالم بعلم، لا يقول: إن ذلك العلم هو ذاته تعالى، انتهى. 7 كان السلف - رحمهم الله - يسمون كل من أنكر الصفات جهمياً؛ لأنه هذا القول إنما اشتهر عن جهم وأخذه عنه المعتزلة قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية في كلامه عن جهم في رد جهم على السمنية قال - أي جهم-: "فكذلك الله لا يرى له وجه ولايسمع له صوت ولايشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات من المتشابه قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الشورى آية (11) . {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} الأنعام: آية (3) . {لا تُدْرِكُهُ الأََبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأََبْصَارَ} الأنعام آية (103) فبنى أصل كلامه على هذه الآيات وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسول الله كان كافراً وكان من المشبهة، فأضل بكلامه بشراً كثيراً وتبعه على قوله: رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية. الرد على الجهمية ص 66 ضمن عقائد السلف. فهذا ظاهر منه انتساب المعتزلة إلى الجهمية، لأن عمرو بن عبيد من شيوخ المعتزلة المتقدمين في زمن الحسن البصري وهو يقولون بقول جهم في نفي الصفات وخلق القرآن، ولهذا كان السلف إذا صنفوا في إثبات الصفات يبينون أن ذلك رد على الجهمية وسمى كتبهم ? الرد على الجهمية - ويقصد بذلك المعتزلة ومن هذه الكتب (خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل) للإمام البخاري. والرد على الجهمية لعثمان بن سعيد الدارمي، والرد على الجهمية لابن منده - وهي كتب مطبوعة ومتداولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 له صفة موجودة به، وحقيقة الصفة أن لا تتعرى عن الموصوف، وهذا اسم حرره أهل اللغة الذين نزل القرآن بلغتهم، فلا يسمون الأحمر إلا لما فيه حمرة ولا الأسود إلا لما فيه سواد، فكذلك لا يسمون القادر إلا لمن له قدرة، والعالم إلا لمن له علم، والحي إلا لمن له حياة، وكذلك الكلام في السمع والبصر والإرادة، يستحيل وجود قادر لا قدرة له، وعالم لا علم له، كما يستحيل وجود قدرة ولا قادر ووجود علم ولا عالم ووجود حياة ولا حي، ولأن القدرية وصفوا الله بهذه الصفات وجعلوها ألقاباً لا حقيقة لها؛ لأنه إذا كان لا قدرة له ولا علم ولا حياة ولا إرادة ولا سمع ولا بصر كانت هذه الصفات له هي قول الواصفين1 له وعباراتهم فلا يكون موصوفاً بهذه الصفات عند عدم الواصف له بذلك، فيؤدي عدم وصفه بذلك إلى وصفه بضدها وهي العجز والجهل والموت والصمم والعمى تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وقد صرحوا بذلك حيث قالوا: أسماء الله مخلوقة لأنها قول القائلين   1 في الأصل (الواصفون) وهي في - ح - كما أثبت وهو الصواب لأنها مضاف غليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وأنا إذا قلنا الله فهو غير الإله والرحمن والرحيم وإنما هي أقوالنا1 وهذا رد لنص2 القرآن قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3، وقد أخبر الله سبحانه أن له علماً وقدرة وكلاماً4 بكتابه فقال سبحانه {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 5 وقال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} 6، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 7 وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} 8. وقال: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 9.   1 ذكر هذا الأشعري عنهم ويوافقهم الخوارج في ذلك أن أسماء الله وصفاته هي الأقوال وهي قولنا: الله عالم الله قادر وما أشبه ذلك. وقال ف موضع آخر: وأجمعت المعتزلة على أن صفات الله سبحانه وأسماءه هي أقوال وكلام فقول الله إنه عالم قادر هي أسماء لله وصفات له وكذلك أقوال الخلق، ولم يثبتوا له صفة علماً ولا صفة قدرة، وكذلك قولهم في سائر صفات النفس. مقالات الإسلاميين 1/253، 273. فإذا كانت مجرد أقوال هي وصف الواصفين وتسمية المسلمين، فعلى هذا تكون أسماؤه مخلوقة للعباد لأنها من أفعالهم وهي مخلوقة لهم على قول المعتزلة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الذي كان معروفاً عند أئمة السنة أحمد وغيره الانكار على الجهمية الذين يقولون: أسماء الله مخلوقة فيقولون: الاسم غير المسمى وأسماء الله غيره وما كان غيره فهو مخلوق، وهؤلاء هم الذين ذمهم السلف وغلظوا فيهم القول لأن أسماء الله من كلامه وكلام الله غير مخلوق بل هو المتكلم به وهو المسمى لنفسه بما فيه من الأسماء". مجموع الفتاوى 6/185-186. 2 في - ح- (نص) . 3 الإسراء آية (110) . 4 في الأصل (علم وقدرة وكلام) وما أثبت كما في - ح - وهو الصواب. 5 النساء آية (166) . 6 فاطر آية (11) . 7 الذاريات آية (58) . 8 فصلت آية (15) . 9 التوبة آية (6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ويقال لهم: لم قلتم إن الله عالم، فإن قالوا: لأنه قال: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1 قيل لهم: فما يمنعكم2 أن تثبتوا له علماً بقوله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ويقال لهم: لو قال قائل: إن الله آمر3 وناه وقائل ولا أمر له ولا نهي ولا قول أليس يكون قوله متناقضاً، فلا بد أن يقولوا: نعم، فقيل لهم: فكذلك من يقول: إنه قادر أو عالم أو حي ولا قدرة ولا علم ولا حياة فإنه يكون منقضاً لقوله. وأما قول المخالف: لو أثبتنا له هذه الصفات قديمة لأدى إلى4 أن تكون آلهة5 كهو6 فغير صحيح؛ لأن الصفة لا تساوي الموصوف بها حتى تكون كهو ألا ترى أن صفات الإنسان تساويه في كونها محدثة كهو ولا تساويه في كونها إنساناً كهو. قال هذا المخالف: ولأن ما قال هذا المستدل من استحالة وقوع الفعل بقدرتين قديمة ومحدثة غير لازم؛ لأن عنده أهل مذهبه أن الفعل من العبد يقع بقدرة قديمة من الله وبكسب من العبد، فنقول له: هذا لا يلزم لأن كسب العبد وقع بقدرة قديمة من الله، فالعبد لا يشارك الله سبحانه في الخلق وإنما يسمى كسباً للعبد بخلق الله فيه الاختيار وإرادة وقوع الفعل فتقع منه الحركة في الفعل المختار بخلاف الحركة منه في حالة الضرورة كالرعدة من الحمى والفالج.   1 البقرة آية (282) . 2 في - ح - فمنعكم. 3 في - ح - (أمر بعلمه) . (إلى) ليست في - ح -. 5 في الأصل (الأهه) وهي في - ح - كما أثبتها وهو الأصوب. 6 انظر: قول عبد الجبار المعتزلي في زعمه ان إثبات الصفات يلزم منه إثبات أزلي مع الله عزوجل شرح الأصول الخمسة ص195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 تصحيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 40- فصل دليل لنا مذكور في الرسالة يقال لهم: خلق الله أحسن أم خلقكم، فإن قالوا: خلقنا، بان كفرهم وكانوا محجوجين بقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 1 وبقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ} 2 وإن قالوا: خلق الله، أحسن من خلقهم، قيل لهم: فالعذرة والقردة أحسن من إيمان محمد - صلى الله عليه وسلم- ومن إيمان الملائكة وسائر المؤمنين؛ لأن العذرة والقردة من خلق الله، وإيمان النبي والملائكة والمؤمنين من خلقهم على زعمكم، وهذا كفر من أي وجه صرفوه. فأجاب هذا المخالف وقال: إن أراد المستدل بالحسن هاهنا وفي الاستدلال قبله3 جمال الصور واتساق التركيب فلا شك أن أفعال العباد لا تشارك أفعال الله بذلك وكيف تساويه أو تزيد عليه، وإن أراد بالحسن هاهنا ما يضاد القبيح من أحكام الأفعال فلا شك أن طاعات العباد حسنة والحسن هاهنا لايتزايد4. والجواب أنا نقول لهذا المخالف: يكفينا في الإلزام موضع واحد، فإن قلنا أردنا أحسن في التصوير واتساق التركيب فكيف يكون التصوير والتركيب في العذرة والقردة أحسن من التصوير والتركيب من صلاة النبي -   1 المؤمنون آية (14) . 2 السجدة آية (7) وهذه الآية في الأصل وفي - ح- {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} وهو خطأ ولعل المصنف - رحمه الله - أخطأ في إيراد هذه الآية وتابعه عليها النساخ وقد مرت فيما سبق هذه الآية بنفس اللفظ المغلوط فتكون اشتبهت بآية سورة طه {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} آية (50) . 3 يقصد بذلك ما أورده في أول الفصل السابق من عند قول المصنف: "وإن ادعيتم الاستبداد بخلق الفعل كله - إلى قوله وأدى إلى تكذيب قوله تعالى فيما مدح به نفسه بأنه أحسن الخالقين". 4 يقصد هنا أن يقول: إن طاعات العباد حسنة وكذلك خلق الله حسن وأن الحسن مرتبة واحدة ليس فيه ما هو أعلى وأدنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 صلى الله عليه وسلم- والملائكة1 ومن نطقهم بقول: (لا إله إلا الله) فإذا وجدنا على مقتضى قولكم للعذرة2 والقردة مزية على صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم- وقوله بالشهادة وتولاوته للقرآن على قولكم كان ذلك شنيعاً ومقتضياً لكفر3 قائله. وإن حملنا ذلك على الحسن في التصوير وعلى ما يضاد الحسن من القبيح في الفعل لم يتناف الكلام فيه4. وقول هذا المخالف: إن الحسن لا يتزايد خطأ وخلف من5 الكلام؛ لأنه يقال: قول6 فلان أحسن من قول فلان أي في المعانى فقد اجتمعا في الحسن وأحدهما أكثر حسناً في اللسان قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} 7.   1 في - ح - (النبي والملائكة صلى الله عليه وسلم) . 2 في - ح - (بالغذرة) . 3 في - ح - لتكفير) . 4 يعني أننا إذا قلنا المراد حسن التصوير من الخلق وحسن الفعل من العباد فإنه لا فرق بينهما من أنه يجب بيان أيهما أحسن، خلق الله للأعيان أو خلق العباد، وهذا إلزام ظاهر يلزم القائلين بأن العباد يخلقون أفعالهم، إلا أن المخالف هنا لم يجب ? سوى أن الطاعات حسنة وأن الحسن مرتبة واحدة فرد عليهم المصنف بفساد هذا. 5 في - ح - (في الكلام) . 6 في - ح - (وقول) . 7 فصلت آية (33) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 41- فصل وقد اعترض المخالف على قولنا في صفات الله سبحانه أنها ليست هو ولا هو هي ولا هو غيرها ولا هي غيره. فقال: هذا متناقض لأنها متى1 لم تكن إياه كانت غيره، ومتى لم تكن غيره كانت إياه وإلا صار هذا القول كمن يقول هي هو وليست هو. والجواب أنا نقول لهذا المخالف: هذا الاعتراض صدر ممن لا يعرف حقيقة الغيرين والمثلين. وحقيقة الغيرين: ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر، وصفات الله ليست بغير الله لأنه لم يزل موصوفاً بصفات الكمال إذ لا يجوز عليه النقص والآفات2.   1 في - ح - ان. 2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " (لفظ الغير) يراد به المغاير للشيء، ويراد به ما ليس هو إياه". مجموع الفتاوى 6/17. وقال شارح الطحاوية: "لفظ الغير فيه إجمال فقد يراد به ما ليس هو إياه وقد يراد به ما جاز مفارقته له. لهذا كان أئمة السنة - رحمهم الله تعالى - لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره وأنه ليس غيره؛ لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو، فإذا كان لفظ الغير فيه إجمال فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل، وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها، وإنما يفرض الذهن ذاتاً وصفة كلاً على حدة، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة فإن هذا محال، ولو لم يكن إلا صفة الوجود فإنها لا تنفك عن الوجود، وإن كان الذهن بفرض ذاتا ووجوداً يتصور هذا وحده، وهذا وحده لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج". شرح العقيدة الطحاوية ص 129، وانظر: مجموع الفتاوى 3/335-337، الصفات الإلهية ف الكتاب والسنة ص 341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وحقيقة المثلين: ما جاز على كل واحد منهما ما جاز على الآخر، ولهذا قلنا: إن الصفة للقديم والمحدث ليست هي الموصوف لأنها1 لا تسد مسده فلا تسمى صفة الإنسان إنساناً وإنما تماثله في التسمية بالحدث، وكذلك2 صفات الله لا تساويه في كونها آلهة، وليس ذلك كقول القائل هي هو ليست هو فإن القول الثاني نفي الإثبات في الأول. ونقول للمخالف: التناقض في قولك هو عالم بلا علم وقادر بلا قدرة هو الظاهر؛ لأن حقيقة الموصوف من له صفة، وحقيقة الصفة معنى في الموصوف كالوجود صفة لموجود صفة موصوف بالوجود.   1 في الأصل (بأنها) وما أثبت من - ح - وهو الأصوب. 2 في - ح - في الحدث فكذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 42- فصل ذكرت في الرسالة أن الله سبحانه أراد من العباد ما وقع منهم من خير وشر، وذهبت المعتزلة والقدرية إلى أن الله أراد منهم الخير ولم يرد منهم الشر وإنما المريد الشر1 إبليس2 والدليل على صحة قولنا قول الله   1 في - ح - (الشر منهم) . 2 المعتزلة ينكرون صفة الإرادة لله، ويقولون: إن الله مريد بإرادة محدثة لا في محل وينفون أن تكون هذه الإرادة عامة لكل ما هو حادث من أفعال العباد، بل يجعلون الإرادة متعلقة بنوع واحد من أفعال العباد وهي الأفعال الواجبة والمندوبة فقط، أما ما عداها فمنها ما لا يريده ولا يكرهه كالمباحات، ومنها ما لا يريده البتة بل يكرهه وبسخطه وهي المعاصي والقبائح، فجعلوا الإرادة مستلزمة للأمر، والأمر دليل على الإرادة، وكل ما أراده الله أحبه ورضيه. انظر: شرح الأصول الخمسة ص (440، 457، 458، المغني في العدل والتوحيد 6/218. فعلى هذا أنكر المعتزلة أن يكون ما يقع من العباد من المعاصي واقعاً بإرادة الله. والحق في ذلك أن الله سبحانه موصوف بالإرادة، وأن الإرادة الواردة في القرآن الكريم على نوعين: النوع الأول: الإرادة الكونية القدرية: وهي بمعنى المشيئة لا يخرج عنها شيء من أفعال العباد سواء كان طاعة أو معصية خيراً أو شراً وهي متعلقة بتقديره جل وعلا وخلقه وهي دليل كمال ربوبيته وسيادته ولا تستلزم الحب والرضا، فقد تكون مما يحب الله ويرضى كالطاعات الواقعة من عباد الله الصالحين، وقد تكون مما لا يحب ولا يرضى بل يسخط ويكره كالمعاصي والكفر ونحوها الواقعة من العباد، ومن هذا النوع قوله جل وعلا {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} ، وقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} . النوع الثاني: الإرادة الدينية الشرعية وهي المتعلقة بألوهيته وشرعه وهي مستلزمة لأمره والأمر دليل عليها وهي المتعلقة بحبه ورضاه. والدليل عليها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} . فعلى هذا ما كان من أفعال العباد وهو طاعة وقربة إلى الله جل وعلا فإنه متعلق بنوعي الإرادة الكونية القدرية والدينية الشرعية، وما كان من أفعال العباد وهو معصية وكفر وفسق فهو متعلق بالإرادة الكونية القدرية، وليس متعلقاً بالإرادة الدينية الشرعية المستلزمة لأمره وحبه ورضاه، فإن الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد ولا يحب الخائنين". انظر: مجموع الفتاوى 8/ 475-476، شفاء العليل 280، شرح العقيدة الطحاوية ص 115-117، لوامع الأنوار البهية 1/338-339. فهذا يرد على المعتزلة القائاين بأن كل ما أراه الله أمر به وكل ما أمر به فهو يحبه ويرضاه، فعليه لزمهم أن يكون في ملك الله ما لا يريده وهي المعاصي الواقعة من العباد، بل أكثر أفعال العباد على هذا واقعة بغير إرادة الله جل وعلا، وهذا فيه الطعن في ربوبية الله وسيادته على خلقه، كما أن قول السلف فيه الرد أيضاً على الجهمية ومن تبعهم من الأشاعرة في عدم تفريقهم بين الإرادة والحب والرضى، فجعلوا كل ما أراده الله فهو لا يكرهه، ويلزمهم على هذا أن الله لا يكره الكفر والفسق، وهذا باطل مخالف لنص القرآن. انظر: قول الجهمية والأشاعرة في مجموع الفتاوى 8/475، اللمع ص 29، الإبانة ص 126، المواقف للأيجي ص 320-323. وقول المصنف هنا: "وإنما المريد منهم الشر إبليس" يعني أن على رأيهم أن الداعي والآمر بالشر هو إبليس، وهذا صحيح بهذا الاعتبار لأن الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر وإنما الآمر بها إبليس. قال الله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} 1. فأخبر2 سبحانه أنه أراد فتنة قوم ولم يرد تطهير قلوبهم. والقدرية يقولون: إن الله سبحانه لم يرد فتنة أحد وأراد تطهير قلوب جميع العباد3، وهذا خلاف ما أخبر الله عنه4. فأجاب هذا القدري عن هذا وقال: الفتنة في القرآن منقسمة إلى نعان أحدها: الحريق والعذاب بدليل قوله تعالى: {يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} 5 أي يعذبون.   1 المائدة آية (41) . 2 في - ح- (وأخبر) . 3 سيذكر المصنف بعد هذا علة هذا القول عن المعتزلة وانظر كلام الزمخشري على هذه الآية، وانظر التعليق عليه: الكشاف 1/339. 4 في - ح- (عنهم) . 5 الذاريات آية (13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 والثاني: الامتحان والتشديد في التكاليف بدليل قوله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 1. والثالث: الإضلال بدليل قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} 2 أي لا يضلنكم الشيطان. فإذا تقرر هذا فيجوز أن تحمل3 هذه الآية وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} 4 على العقاب والإهلاك، فيكون كقوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} 5 ولا يجوز أن تحمل الفتنة هاهنا على الإضلال؛ لأن ذلك قبيح، والله تعالى لا يأتي بالقبيح لعلمه بقبحه وغناه عن فعله وعلمه باستغنائه عنه6، ولا شك أن من كان بهذه الصفة7 لا يفعل القبيح، قال: وأما قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} 8 فمحمول على أحد معنيين: إما أن يريد بتطهير القلوب الزيادة في التوفيق والتسديد والهداية، فإن الزيادة في ذلك تختص بالمؤمنين الذين اهتدوا بأصل الهداية العامة للمؤمن والكافر، فإن من اهتدى منهم بذلك زاده الله هدى وتوفيقاً كما قال الله   1 العنكبوت آية (1-3) . 2 الأعراف آية (27) . 3 في - ح- (أن لا تحمل) وهو خطأ ظاهر فإنه لا يستقيم به المعنى. 4 المائدة آية (41) . 5 الزمر آية (19) . 6 انظر: قول عبد الجبار المعتزلي في شرح الأصول الخمسة ص 461 فقد علل إنكار إرادة غير الحسن في عرفهم بهذا التعليل. 7 في - ح- (الصفات) . 8 سورة محمد - صلى الله عليه وسلم- آية (17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 1 وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} 2 فيكون المراد بطهارة القلوب هذه الزيادة، وسماها تطهيراً لأنها احدى الدواعي والمقويات على حصول التطهير. وإما أن يريد بالتطهير للقلوب هو: الحكم بطهارتها، كما ثبت قبله في التزكية والتعديل والتفسيق، فإن الحكم المزكي بزكاة غيره وشهادته بذلك يسمى تزكية ولهذا قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} 3 أي يحكم ويشهد لهم بذلك، فكذلك الحكم بالعدالة يسمى تعديلاً، والحكم بالفسق يسمى تفسيقاً فكذلك الحكم بالطهارة يسمى تطهيراً، هذا تحقيق جوابه. فيقال له ولأهل مذهبه قبل هذا: هذه الآية التي استدللنا بها وردت في قوم من اليهود، وذلك أن رجلاً وامرأة من عظماء أهل خيبر زنيا وكانا محصنين وعندهم بكتابهم على المحصن الرجم فشق عليهم4 رجمهما، وقالوا لبعضهم: اذهبوا إلى هذا الرجل الذي بيثرب فاسألوه عن هذا فإن كان رسولاً كما زعم فليس له5 الرجم بكتابه بل الجلد فإن أمركم بالجلد فخذوه وإن أمركم بالرجم فاحذروه، والقصة بذلك طويلة فأنزل الله فيهم {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} إلى قوله: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} 6 فأخبر   1 مريم آية (76) . 2 الجمعة (2) . 3 في - ح - (عليهما) . 4 ليست في - ح -. 5 أخرجه م. كتاب الحدود ب رجم اليهود وأهل الذمة في الزنى 3/1326 من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. ولم ينص على أن الرجلين من خيبر وإنما ورد ذلك من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنهما من يهود فدك ذكر ذلك القرطبي والسيوطي في الدر المنثور ونسبه إلى ابن المنذر وابن مردويه. انظر: تفسير القرطبي 6/177، الدر المنثور 3/74. 6 المائدة آية (41) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 سبحانه أنه لم يرد أن يطهر قلوبهم، وأخبر الله سبحانه في أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم- بقوله في آية أخرى: {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 1 أخبرونا: هل ساوى الله سبحانه بين هؤلاء2 اليهود الذي أنزل في شأنهم هذه الآية، وبين أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم- في تطهير القلوب من الشرك3 واللطف والهداية. كما يساوي بينهم في الدعاء إلى الإسلام، أم4 خص الله أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم- بخصيصة بتطهير قلوبهم من الشرك، وفضلهم بشيء لم يخص به هؤلاء اليهود وغيرهم ممن هو أعلى من اليهود ودون أهل البيت من المسلمين؟ فإن قالوا: لم يساوهم بل خص الله أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم- بتطهير قلوبهم من الشرك والرجس وجعل لهم مزية وفضلهم على هؤلاء اليهود على سائر المسلمين. قلنا لهم: هذا هو الحق وأنتم الآن المصدقون لخبر الله بكتابه بقوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ} 5، وبقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} 6، وأي فضل أفضل من الهداية إلى الإسلام والعصمة من فتنة الشيطان، قال الله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} 7، وقال سبحانه: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 8 وكان حقيقة التخصيص لأهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية على   1 الأحزاب آية (33) . 2 في الأصل (هذا) وما أثبت من - ح - وهو الأصوب. 3 في - ح - (الشك) . 4 قوله (أم) في - ح - وليست في الأصل ولا يستقيم الكلام بدونها. 5 آل عمران آية (74) . 6 المائدة آية (54) . 7 النساء آية (83) . 8 النحل آية (36) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 اليهود أن خلق التطهير في قلوبهم ولم يخلقه في قلوب اليهود، وإذا أثبت ذلك وفهم استغنينا عن إبطال ما أورده هذا المعترض من التأويل في الفتنة والتطهير. وإن قال هذا المعترض وأهل مذهبه: بل ساوى الله بين أهل البيت وهؤلاء اليهود فيما خلقه بقلوبهم من ذلك، ولم يجعل لأهل بيت1 النبي - صلى الله عليه وسلم- مزية عليهم ولا خلق في قلوبهم التطهير من الرجس، وإنما هم الذين خلقوا بقلوبهم التطهير من الرجس وليس لله فيه صنع، وتطهير الله الذي أخبر أنه طهرهم إنما2 هو زيادة في التطهير أو شهادة لهم بالتطهير الذي خلقوه بأنفسهم، واليهود لم يخلقوا ذلك بأنفسهم بل خلقوا التكذيب والكفر، وهذا حقيقة مذهبهم. قلنا لهم: فهذا يؤدي إلى رد إخبار الله سبحانه أنه طهر قلوب3 أهل البيت ولم يرد تطهير قلوب اليهود ويؤدي إلى إسقاط تخصيص الله لأهل البيت وتفضيلهم على غيرهم، لأنهم إذا كانوا هم الخالقين4 لتطهير قلوبهم دون الله فلا منة لله عليهم، والمنة لله عليهم وعلى سائر المؤمنين بقوله: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ} 5. وأما زيادته لتطهير6 قلوبهم بع أن طهروها7 فليس لله فيه كبير منة، لأنهم قد بلغوا بتطهيرهم قلوبهم8 إلى الحد الذي يجب لله عليهم، وكذلك شهادته لهم بالتطهير لا منة لله عليهم به.   (بيت) ساقطة من - ح -. 2 في الأصل (وإنما وفي - ح - بدون الواو وهو الأصوب ليستقيم الكلام. 3 في - ح - (قلوبهم) . 4 في الأصل (الخالقون) وفي - ح - كما أثبت وهو الصواب. 5 الحجرات آية (17) . 6 في - ح - (وتطهير) . 7 في - ح - (طهر وهاهم) . 8 في - ح- (لقلوبهم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 أفترى هذا كان خفياً على النبي - صلى الله عليه وسلم- حين رد عليهم الكساء وقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي الذين أذهبت عنهم1 الرجس وطهرتهم تطهيراً "2 فهلا حقق النبي - صلى الله عليه وسلم- فعل أهله، وقال الذين خلقوا في قلوبهم3 التطهير وزدت في طهارتهم أو شهدت لهم بالتطهير، معاذ الله أن يتصور صحة هذا من4 له أدنى فطنة غلا من ختم الله على قلبه، ثم نرجع إلى إبطال ما ذكره5 هذا المخالف من6 التأويل في7 الفتنة والتطهير فنقول له: لا ننكر أن الفتنة المذكورة في القرآن تنقسم على أقسام، فمنها الغلو في التأويل المظلم كتأويلاتك كلها قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} 8، والفتنة في كلام9 العرب الابتلاء والاختبار من قولهم: (فتنت الفضة) إذا أدخلتها في النار لتميز بين   1 في - ح - (بهم) . 2 أخرجه ت كتاب المناقب، فضل فاطمة رضي الله عنها 5/699، حم 6/292، 298، 304 كلهم من حديث أم سلمة - رضي الله عنها- ولفظه عند الترمذي، ورواية أحمد نحوه "اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" قال الترمذي: "هو أحسن شيء في الباب"، وأخرجه ابن جيري في تفسيره 22/6، والحاكم في المستدرك 3/146 من حديث أم سلمة وواثلة بن الأسقع - رضي الله عنهما - نحوه، وقال الحاكم عن حديث أم سلمة: "صحيح على شرط البخاري" ووافقه الذهبي، وقال عن حديث واثلة: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". قال الذهبي: "هو على شرط مسلم". 3 في - ح - (أنفسهم) . 4 في - ح - (ممن) . 5 في - ح - (ما قاله) . 6 في - ح - (أن) . 7 في - ح - (من) . 8 آل عمران آية (7) . 9 في - ح- (تأويل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 جيدها ورديئها1، والفتنة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 2، أي حرقوهم في الأخدود الذي ذكر الله في كتابه3، الفتنة بقوله تعالى: {4 أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} 5، أي يختبرون بالشكر على النعم والصبر على المحن6، والفتنة بقوله تعالى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} 7 أي في الإثم8 ومنه قوله9: {ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} 10 أي ببنات11 الأصفر12، قاله استهزاءاً، والفتنة الإزالة عن الرأي بقوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} 13 أي ليزيلوك، والفتنة التحريق بقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} 14، أي   1 انظر: لسان العرب 5/3344، المفردات للراغب ص 371 في تعريف الفتنة. 2 البروج آية (10) . 3 قلوله عزوجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ} البروج آية (4) ، وانظر: تفسير ابن جرير 30/137 في معنى الآية فقد ذكر المعنى المذكور هنا عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، وانظر: تفسير القرطبي 19/295. 4 في - ح - (الم، أحسب) . 5 العنكبوت آية (2) . 6 انظر: تفسير ابن جرير 20/128، تفسير ابن كثير 3/404. 7 التوبة آية (49) . 8 ذكر هذا القول ابن جرير عن قتادة وذكر ابن عن ابن عباس أنه قال: (في الحرج سقطوا) تفسير ابن جرير 10/149. 9 في - ح - (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) . 10 التوبة آية (49) . 11 في - ح- (في بنات) . 12 المقصود بهذا نساء الروم والآية نزلت في الجد بن قيس حينما استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم- في عدم الخروج إلى تبوك واعتذر بخشية الفتنة فأنزل الله فيه هذه الآية. انظر: تفسير ابن جرير 10/148. 13 الإسراء آية (73) وانظر: معنى (يفتنوك) في تفسير القرطبي 10/300 فقد نقل المعنى المذكور هنا عن الهروي. 14 الذاريات آية (13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 يحرفون1، والفتنة الإضلال بقوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} 2، أي بمضلين3 {إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} قال الحسن البصري: "إلا من سبق في علمي أنه يصلى الجحيم"4، وزاد هذا المعترض من كيسه: إلا من المعلوم أنه يصير إلى الجحيم وإن كنا نعلم5 أنه لا يصير إليها إلا بسوء اختياره6، وهذا على وفق مذهبه7 لا يُنْقَل عن أحد من المفسرين.   1 ذكر هذا المعنى ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم. انظر: تفسير ابن جرير 26/193. 2 الصافات آية (162) . 3 ذكر هذا المعنى ابن جرير، انظر: تفسير ابن جرير 23/109. 4 أخرجه ابن جرير بسنده عن حميد قال سألت الحسن عن قول الله عزوجل: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} فذكره نحوه، وأخرجه اللالكائي والآجري عن خالد الحذاء عنه. وروى ابن جرير بسنده هذا المعنى عن جماعة من السلف منهم ابن عباس - رضي الله عنهما - وإبراهيم النخعي وعم بن عبد العزيز وقتادة والضحاك والسدي وابن زيد وذكر القرطبي عن النحاس أنه قال: "أهل التفسير مجمعون فيما علمت أن المعنى: ما أنتم بمضلين أحداً إلا من قدَّر الله عليه أن يضل". انظر: تفسير ابن جرير 23/109، 110، الشريعة للآجري ص 158، السنة للالكائي 3/567، تفسير القرطبي 15/135. 5 في - ح- (إلا نعلم) . 6 لم يذكر المصنف هذا الكلام من قول المعترض في ذكره لمعنى الفتنة فيما سبق ص 331 فلعله سها عنه. 7 أي إنكار المعتزلة أن يكون الله جل وعلا يضل أحداً. انظر: ما تقدم ص 332. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 والفتنة بقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَه} 1، فقيل: كفره، وقيل: اختياره، وقيل: عذابه2. فإن كان المراد بها عذابه أو كفره فالحجة لنا ثابتة لأن إرادة الله في الخلق قديمة قبل أن يخلق الله الخلق، وقد كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} 3. ويروى في الصحاح أن ابن مسعود قال: حدثنا النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو صادق المصدوق "إن أحدكم يجمع خلقه نطفة في بطن أمه أربعين4 يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ثم يؤمر بأربع بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي5 أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع6 ثم يسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون لينه وبينها إلا ذراع7 ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"8. فإذا تقرر هذا وحملنا هذه الآية على ما قال المخالف: على العقاب   1 المائدة آية (41) . 2 ذكر هذه المعنى ابن منظور في لسان العرب 5/3346 والذي نقل عن ابن عباس وذكره ابن جرير والقرطبي أن فتنته هنا (ضلالته) . انظر: الأسماء والصفات للبيهقي ص 198، تفسير ابن جرير 6/238، القرطبي 6/182. 3 الحج آية (70) والآية في الأصل هكذا {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} وهو خطأ وهي في - ح- هكذا إلا أنها مصححة وزاد وذكر فيها قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . 4 في - ح - (أربعون) . 5 في الأصل (شقي) بدون الواو وهي في - ح - كما أثبت وهي كذلك في الصحيحين. 6 في الأصل (ذراعاً) وفي - ح - كما أثبت وهو الصواب لأنها اسم كان. 7 في الأصل (ذراعاً) وهي في - ح- كما أثبت. 8 أخرجه خ. كتاب القدر (ب. القدر) 8/103، م. كتاب القدر (ب. كيفية الخلق الآدمي) 4/2036. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 والإهلاك يكون كقوله:1 {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} 2 فنقول له: الحجة ثابتة3 عليك مع هذا لأنه إذا أراد عقابه أو هلاكه فإرادته بذلك قديمة على ما مضى، وعندك أن الله لم يرد عذاب أحد إلا بعد أن عصاه4، والإرادة عندك محدثة5 وهذا كفر؛ لأن ذلك يقتضي إحداث إرادة قبلها لتحدث عنها الإرادة إلى ما لا يتناهى6، والله ليس بمحل للحوادث7. وأما احتجاجك بقوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} 8، فهي حجة عليك لا لك، لأن معنى قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} أي: أفمن سبق عليه القول، أو أفمن وجب عليه في علم الله أنه يدخل النار ينجو أو يتخلص فحذف ينجو ويتخلص9 وهي كقوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى   1 كقوله من - ح - وليست في الأصل ولابد من إثباتها لتستقيم الجملة. 2 الزمر آية (19) . 3 في - ح- (الثابتة. 4 في - ح - (عصيانه) . 5 تقدم قول المعتزلة في الإرادة. انظر: التعليق ص 329. 6 في - ح - (ما يتناهى) . 7 مراد المصنف - رحمه الله - هنا بقوله: "والله ليس بمحل للحوادث" أي بمحل للمخلوقات لأن المعتزلة ينفون أن يكون لله إرادة تتعلق به جل وعلا، بل يزعمون أن الله مريد بإرادة حادثة أي مخلوقة يخلقها لا في محل كما قالوا في كلامه جل وعلا أنه يتكلم بكلام يخلقه، وهذا عائد لنفيهم الصفات عن الله عزوجل، ونفي حلول الحوادث بالله عزوجل لفظة مجملة قد يراد بها نفي الأفعال عن الله عزوجل التي يفعلها الله في الوقت الذي يشاء كالكلام والنزول والاستواء والرضا والغضب ونحوهما، فيكون هذا معنى باطلاً وهو الذي يقصده أكثر المتكلمين من الأشاعرة والماتريدية وغيرهم من هذه الجملة، وقد دلت الأدلة من القرآن والسنة على أن الله يفعل به الحوادث على هذا المعنى ومن أنكر ذلك لا دليل شرعي عنده ولا عقلي صحيح، وقد يراد بها معنى صحيحاً وهو نفي حلول المخلوقات بذات الله عزوجل هو مراد المصنف بها هنا، وهذا معنى صحيح فإن الله عزوجل بائن من خلقه لا تحل به المخلوقات ولا يحل بها. 8 الزمر آية (19) . 9 ذكر هذا القول القرطبي، وفي الآية تقدير آخر هو (أفأنت تنقذه) . انظر: تفسير القرطبي 15/244، 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 1 أي وجب القول بالسخط على أكثرهم فهم لا يؤمنون في علم الله. وأما قول المخالف: فلا يجوز أن يحمل الآية على الإضلال لأن ذلك قبيح والله تعالى لا يأتي بالقبيح. فيقال: هذا أصل مذهب القدرية الفاسد الذي بنوا عليه قولهم، وهو أنه لا يجوز من الله إلا ما يجوز2 من المخلوقين من الأفعال فما كان قبيحاً من أفعالنا كان كذلك من أفعاله، وهذا خطأ لأن القبيح إنما كان قبيحاً منا بمخالفتنا للأمر والنهي، فالشرع هو الذي قبح القبيح وحسن الحسن3، وليس فوق الله سبحانه من يأمره وينهاه فيكون فعله بمخالفة ما أمر به قبيحاً يتعالى الله عن ذلك. والقدرية يسمون القبيح قبيحاً لقبحه في الفعل والحسن حسناً لحسنه في العقل، وهذا خطأ لأنه لو كان كذلك4 لم يوجد شيء من جنسه إلا وكان قبيحاً5 وقد وجدنا الزنا قبل ورود الشرع لا يسمى قبيحاً إلا بعد ورود الشرع بتحريمه وتقبيحه، وكذلك تزويج الأمهات والأخوات وذاوت المحارم غير قبيح في العقل وإلا فما الفرق بين العمة وابنتها والخالة وابنتها في العقل، لولا الشرع قبح القبيح وحسن الحسن منه، ويوجد الزنا من المجنون ولا يعد قبيحاً منه، ويقبح شكر المنعم إذا نهاه عنه لمعنى6 قصده ويحسن كفره إذا أمر به لمعنى قصده، فهذا يبطل7 كل ما   1 يس آية (7) . 2 في - ح - (ما لا يجوز) . 3 تقدم بيان الحق في هذه المسألة والتعليق عليها. انظر: ص 269. 4 في الأصل (ذلك) وهي في - ح- كما أثبتها وهي أقوم للعبارة. 5 ذكر هذا التعليل الجويني في الإرشاد. انظر: ص 228. 6 في الأصل (بمعنى) وما أثبت من - ح - وهو الأصوب ليستقيم الكلام. 7 في الأصل الجملة هكذا (إذا أره به بمعنى قصده بهذا يبطله) وهي في - ح - كما أثبت وهو الأصوب لاستقامة الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 أورده هذا المخالف بكتابه وتسمية خلق الله للمعاصي قبائح وخبائث1.   1 تقدمت الإشارة إلى القول بالحسن والقبح العقلي وبيان الراجح منه ص 269 ولابد هنا من بيان بعض الأمور المتعلقة بكلام المصنف. فإن قوله: "وقد وجدنا الزنا قبل ورود الشرع لا يسمى قبيحاً إلا بعد ورود الشرع بتحريمه وتقبيحه". هذا كلام باطل ولا يمكن في الواقع إثبات أن الزنا والقتل والظلم والخيانة واللواط وسائر الفواحش كانت قبل ورود الشرع حسنة أو أنها لم تكن قبيحة، بل أدنى نظر لوضع الجاهلية قبل الإسلام يبين فساد هذا القول، وهل كانت البنات يوأدن إلا خوف العار الذي تجلبه على أهلها وقبيلتها بزناها أو سبيها وهل كانت الحروب الدائرة بين العرب إلا أثر من أثار رفع الظلم أو الانتقام والثأر لدم أو رفع عار، وقد خاف أبو سفيان في سؤال هرقل له عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يؤثر عنه كذبة مع رغبته في التشنيع على النبي - صلى الله عليه وسلم- وإظهاره بمظهر المفسد لا المصلح، وقد نص الله جل وعلا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم- يحل لنا الطيبات ويحرم علينا الخبائث في قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} فهذا الوصف للأمور التي أحلها الإسلام والتي حرمها ثابت لها قبل الشرع واكتفي بالإجمال فيها مع أنه يندرج تحتها أصناف كثيرة، ولو كان كما زعموا لكان الشرع قد أتى بالحرج والتضييق على الناس، إذ أن الأمور متساوية قبل مجيئه ثم ضيقها وفصل فيها فجعل طيبات وخبائث وأحل الطيبات وحرم الخبائث، وهذا خلاف الحق فإن الله نص على رفع الحرج وأنه يضع عنا الأصر والأغلال التي كانت على الذين من قبلنا. وقول الله جل وعلا في الزنا {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} هذا الوصف ظاهر فيه أنه لازم لهذه الفعلة وأنه العلة في تحريمه، حيث لم يذكر علة أخرى لتحريمه أما وجه فحشه وفساده وأضراره فأكثر من أن تحصى. أما قول المصنف (وكذلك تزويج الأمهات وذوات المحارم غير قبيح في العقل … إلخ) فهذا الكلام في الغاية من الفساد بل هو قبيح في العقل إلى الغاية، حتى أن الإنسان ينفرد من تصوره فضلاً عن أن يقول عنه حسن أو ليس قبيحاً. ولا شك أن هناك بعض الأمور لا يظهر للناس خبثها وفسادها أو مصلحتها وفائدتها إلا بالشرع كالجمع بين الأختين والأخوات من الرضاعة والربائب في النكاح ونحو ذلك، فهذه قد تخفى على الناس المصلحة وأوجه الفساد في فعلها وينبه الشارع إليها وهذا لقصور العقل عن الإحاطة والإدراك لجميع الأمور، أما الخبائث الظاهرة والقبائح المعروفة فهذه لا يختلف إثنان من الناس في قبحها وفسادها، وأن الشرع جاء بما يوافق فطرة الإنسان وجبلته، وهذا دليل من الدلائل الدالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم- فيما دعى إليه، أما قول المصنف: "ويوجد الزنا من المجنون ولا يعد قبيحاً" فإن الزنا من المجنون وغيره قبيح إلا أنه لا تلزمه العقوبة عليه لأنه مسلوب العقل والتمييز ومما يدل على قباحته أن الناس لا يتركونه لو اطلعوا عليه، بل يمنعونه لقباحته وإنما لا يعاقبونه بخلاف المدرك المميز فإنه مع المنع يعاقب. أما قوله: "ويقبح شكر المنعم.. إلخ" فالشكر حسن كما أن كفر المنعم قبيح بالذات إلا أنه صار هنا غير قبيح لأوصاف وتقييدات أخرى دخلت عليه، فتغير الحكم حسب الوصف، ألا ترى أن القتل قبيح والكذب قبيح إلا أنه إذا كان القتل في سبيل الله يتغير الحكم وكذلك الكذب إذا كان في الإصلاح فإنه لا يكون كذباً قبيحاً فالأوصاف والتقييدات تغير الحكم. حسب الوصف أو الوضع، أما الفعل فيحد ذاته فإنه موصوف بالحسن أو القبح لذاته وقد بحث ابن القيم - رحمه الله - هذه المسألة وأورد ادلة النفاة للحسن والقبح العقلي ورد عليها وأطال وأفاد في كتابه مفتاح دار السعادة 2/23-42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ثم قال هذا المخالف: إن الله لا يفعل القبيح لغناه عن فعله ولعلمه بقبحه. فنقول له: هذا خلف في الكلام، هو1 مستغن عن الحسن والقبيح وهو مستغن عن الدنيا والآخرة وما فيها وقد خلقهما الله، ويلزمك على هذا أن تقول: إنه يخلق2 الأفعال الحسنة لأنه عالم بحسنها3. وأما الجواب عن قوله: إن التطهير يحمل على الزيادة في التسديد والتوفيق4، فغير صحيح؛ لأنه لا دليل له على أن الزيادة في التوفيق تسمى تطهيراً في اللغة ولا في الشرع، وإنما حمله على وفق مذهبه وهذا تبديل لا تأويل؛ لأن الطهارة في القرآن على وجوه منها: الطهارة عن الجنابة بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} 5، والطهارة تقع على انقطاع دم الحيض لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 6 قرئ بالتخفيف أي حتى ينقطع7 دمهن، وقرئ بالتشديد فيكون المراد به التطهير بالماء8 كقوله فيهن: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي بالماء {فَأْتُوهُنَّ} . والطهارة تقع على الطهارة من أنجاس بني آدم من الغائط والبول والحيض   1 في - ح - (وهو) . 2 في - ح - (لا يخلق) . 3 هذا القول لابطال استدلال المخالف لأنه ينكر أن يكون الله خالقاً لشيء من أفعال العباد سواء كان حسناً أو قبيحاً. 4 في - ح - (التوفيق والتسديد) . 5 المائدة آية (6) . 6 البقرة آية (222) . 7 في - ح- (انقطع) . 8 انظر: تفسير ابن جرير 2/385. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وهو المراد بقوله تعالى: {فِيهَا1 أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} 2 والطهارة تقع على الطهارة من الشرك بقوله تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} 3، والطهارة تقع على التنزه من الذنوب وهو المراد بقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 4 فبعض الناس حمل هذه الآية على طهارتها من الأنجاس، وبعضهم قال5: عبر عن الجسم بالثياب يعني لا تلبس ثيابك على فجور ولا غدر6 قال امرؤ القيس7: ثياب بني عوف طهارى8 نقية ... وأجههم بيض المسافر9 غران10 وقال آخر: لا هُمَّ إن عامر بن جهم ... أوْذَمَ11 حجاً في ثياب دُسْم12   1 في - ح - (لهم فيها) . 2 النساء آية (57) . 3 البقرة آية (125) وفي النسختين كتب الآية هكذا (وطهر بيتي) . 4 المدثر آية (4) . (قال) ليست في - ح -. 6 قال بالقول الأول: وهو أن المراد طهارة الثياب من الأنجاس ابن سيرين وابن زيد، وقال ابن جرير: "وهو أظهر المعاني فيها. وقال بالقول الثاني ابن عباس وعكرمة وابن زكريا وغيرهم"، وقال ابن جرير: "وهو الذي عليه أكثر السلف"، وذكر القرطبي في الآية ثمانية أقوال انظر: تفسير ابن جرير 29/147، تفسير القرطبي 19/62. 7 هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي صاحب المعلقة. كان بأعمال الشام وهو من الجاهليين مات قبل الإسلام. انظر: البداية والنهاية 2/238. 8 في الأصل وفي - ح - (طهار) والصواب ما أثبت كما هي في ديوان امرئ القيس. 9 ويروى (المشاهد) . 10 غران جمع أغر وهو الأبيض، والبيت من ضمن أبيات يمدح فيها غوير بن شجنة بن عطارد من بني تميم. انظر: ديوان امرئ القيس ص 76. 11 أو ذم أوجب. انظر: المعجم الوسيط ص 1203. 12 ذكره في اللسان عن الراجز ولم يعين قائله ومعنى البيت أنه أحرم بالحج وهو مدنس بالذنوب. انظر: اللسان 6/4806. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 فإذا تقرر هذا كان حمل هذه الآية وهي قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} 1 على تطهيرها من الشرك والذنوب على ما تقرر في هذه الآيات2 أولى. وأما حمل الآية3 على المعنى الثاني: وأنه أراد بالتطهير الحكم بطهارتها أي يشهد لها بالطهارة كنحو التزكية وغيرها مما ذكر، فإن هذا تعسف في التأويل، وهل يجد حجة على قوله إلا4 أن التطهير على وزن التعديل والإشراك5 لما خالف ذلك مذهبه، والمذهب تتبع الأدلة لا تتبع المذاهب، وإنما قصده بذلك التمويه على الطغام والعوام ومن لا خبرة له بحقيقة مذهبه، وإن صح في التطهير أنه الحكم بتطهير قلوبهم فإن الحكم هو القضاء بتطهير قلوبهم فيكون حجة لنا أيضاً. وأما قول المخالف: إن الزيادة في الهدي تختص بالمؤمنين الذين اهتدوا بالهدي العام6 كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} 7، وقوله: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} 8 فلا نسلم له أنهم اهتدوا قبل الزيادة بأنفسهم، بل الله الذي هداهم ثم زادهم هدى لقوله9 تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} 10، وقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 11.   1 المائدة آية (41) . 2 في - ح - (في الأولى) . 3 في - ح - (هذه) بدل قوله (الآية) . 4 في - ح- (على أن) . 5 في - ح - أو الاشراك. 6 يعني بالدلالة والإرشاد العام لكل الخلق. 7 سورة محمد صلى الله عليه وسلم آية (17) . 8 مريم آية (76) . 9 في - ح - (كقوله) . 10 الأعراف آية (178) . 11 القصص آية (56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 43- فصل ومن الدليل لنا1 قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا2 قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} 3، وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} 4، وقوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} 5. فأجاب القدري وقال: المراد بقوله: {فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} شددنا عليهم التكليف بالامتناع عن عبادة العجل وامتحناهم بمخالفة السامري ولم يرد أضللناهم بل قال: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} . وأما قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} فالمراد به امتحناك بما كلفناك من القيام بأمر النبوة. والجواب: إن الفتنة أريد بها الاختبار والامتحان والابتلاء في بعض الآيات، فالحجة لنا فيها على القدرية، لأن عندهم أن الله سبحانه لا يفعل بالعباد إلا ما فيه الصلاح لهم6 ولا مصلحة لهم في أن يبتليهم ويمتحنهم بما يشاء ويعرضهم للمخالفة لأمره7 فيعاقبهم على ذلك مع علمه أن كثيراً منهم يخالفه8 في فعل ما نهاه عنه، فلما ثبت ذلك علم أنه يفعل بعباده ما شاء ولا يخرج بذلك عن الحكمة والعدل9.   1 أي من الدليل على إثبات أن ما وقع من العباد من خير أو شر إنما وقع بمشيئة الله وإرادته وليس كما يزعم المعتزلة أنه وقع بغير مشيئة الله عزوجل. 2 في الأصل وفي - ح - هكذا (ولقد فتنا) وهو خطأ. 3 طه آية (85) . 4 الأعراف آية (155) . 5 طه آية (40) . 6 هذا قول جمهور المعتزلة. انظر: مقالات الإسلاميين 1/313. 7 هكذا في - ح - وهي في الأصل (بأمره) . 8 في الأصل (بمخالفته) وفي - ح- (يخلقه) وصححت في الحاشية بخط مختلف (لمخافته) ولعل صوابها (يخالفه) كما أثبت لأنه بها يستقيم الكلام. 9 بل الله جل وعلا لا يفعل إلا ما هو غاية في الحكمة والعدل إذ هذا معنى اتصافه جل وعلا بصفتي العدل والحكمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "مر هارون عليه السلام بالسامري وهو يصنع العجل فقال: ما هذا؟ فقال: ينفع ولا يضر، فقال: اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه فخلق الله فيه الخوار فكان إذا خار سجدوا - والخوار من دعوة هارون - فلما رجع موسى - صلى الله عليه وسلم- قال: يا رب من صنع لهم العجل فقال: صنعه السامري فقال: يا رب فمن خلق فيه الخوار، فقال له الله: أنا، فقال موسى: (يا رب إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشلء وتهدي من تشاء"1. فأضاف موسى س إلى الله2 الفتنة والإضلال والهداية، وهو أعلم بما يجوز على الله من القدرية. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} قال: "من الفتون إلقاؤه في البحر وهَمُّ فرعون بقتله وقتله النفس وخروجه خائفاً يترقب"3 وكل هذا لا مصلحة لموسى فيه، فدل على أن الله يفعل بالعباد ما فيه لهم المصلحة وما لا مصلحة لهم فيه4، وكذلك قال الله تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ   1 ذكر هذا الأثر القرطبي قال: "وروى حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فذكره، ولم يعزه إلى كتاب" انظر: تفسير القرطبي 11/235. 2 لفظ الجلالة (الله) ليس في - ح -. 3 أخرج ذلك عنه ابن جرير بسنده عن سعيد بن جبير عنه في قصة طويلة، ورولا ابن جرير ذلك أيضاً عن مجاهد. انظر: تفسير ابن جرير 16/166. 4 قول المصنف: "وما لا مصلحة لهم فيه" إن عني أنها لا تظهر لهم في ذلك وجه المصلحة فهذا صحيح فقد تظهر للعباد الحكمة من الفعل والأمر وقد لاتظهر، أما في واقع الأمر فإن الله لا يفعل ولا يأمر ولا يبتلي إلا لحكمة بل غاية الحكمة في فعله وأمره، يدل على هذا وصفه جل وعلا (الحكيم) في آي كثيرة من القرآن الكريم، فإن هذا الوصف يلزم منه أن جميع أفعاله وأوامره ونواهيه لا تصدر إلا عن حكمة بالغة، كما أن وصفه بالعليم والخبير وسائر صفاته يلزم منها كمال العلم وأنه الخبير بكل شيء، وإن أنكرنا ذلك عطلنا هذه الفات وكذلك وصف (الحكيم) من أنكر أنه يفعل (لحكمة) فإنه معطل لهذه الصفة، وهي من صفات كماله جل وعلا، بل نص الله في القرآن في مواضع كثيرة بلام التعليل التي تتدل على الغاية من الأمر والفعل، مثل قوله جل وعلا {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} ؟ والأمر كما قال ابن القيم - رحمه الله – "وأما طريقة إنكار الحكم والتعليل ونفي الأوصاف النقتضية لحسن ما أمر به وقبح من نهى عنه وتأثيرها واقتضائها للحب والبغض الذي هو مصدر الأمر والنهي بطريقة جدلية كلامية، لا يتصور بناء الأحكام عليها، ولا يمكن فقيها أن يستعملها في باب واحد من أبواب الفقه، كيف والقرآن وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مملوآن من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح وتعليل الخلق بهما والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة نحو مائة موضع أو مائتين لسقنااها ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة، فتارة يذكر لام التعليل الصريحة، وتارة يذكر المفعول لأجله الذي هو المقصود بالفعل، وتارة يذكر (من أجل) الصريحة في التعليل وتارة يذكر أداة كي، وتارة يذكر الفاء وأن وتارة يذكر أداة لعل المتضمنة للتعليل المجردة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق، وتارة ينبه على السبب وذكره صريحاً، وتارة يذكر الأوصاف المشتقة المناسبة لتلك الأحكام ثم يرتبها عليها ترتيب المسببات على أسبابها، وتارة ينكر على من زعم أنه خلق خلقه وشرع دينه عبثاً وسدى، وتارة ينكر على من ظن أنه يسوى بين المختلفين الذين يقتضيان أمرين مختلفين، وتارة يخبر بكمال حكمته وعلمه المقتضي أنه لا فرق بين متماثلين ولا يسوى بين مختلفين وأنه ينزل الأشياء منازلها ويرتبها مراتبها، وتارة يستدعي من عباده التفكر والتأمل والتدبر والتعقل لحسن ما بعث به رسوله وشرعه لعباده، كما يستدعي منهم التفكر والنظر في مخلوقاته وحكمها وما فيها من المنافع والمصالح وتارة يذكر منافع مخلوقاته وحكمها وما فيها من المنافع والمصالح، وتارة يذكر منافع مخلوقاته منبهاً بها على ذلك وأنه لا إله إلا هو، وتارة يختم آيات خلقه وأمره بأسماء وصفات تناسبها وتقتضيها، والقرآن مملوء من أوله إلى آخره بذكر حكم الخلق والأمر ومصالحهما ومنافعهما وما تضمناه من الآيات الشاهدة الدالة عليه، ولا يمكن من له أدنى اطلاع على معاني القرآن إنكار ذلك) ، انتهى. انظر: مفتاح دار السعادة 2/22، 23. وقول المصنف: "وكل هذا لا مصلحة لموسى فيه" غير صحيح فإن لموسى عليه السلام مصالح في ذلك وأظهرها وأوضحها أنه بهذا الابتلاء يتبوأ المرتبة العليا عند الله جل وعلا، ولا يتميز أهل الصلاح من غيرهم إلا بتجاوز الامتحانات والاختبارات التي يختبرهم الله بها وقد قال عليه السلام حين سئل: أي الناس أشد بلاءاً قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل". أخرجه ت. في الزهد 4/601، وقال حسن صحيح. حم 1/172، 174 من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وذلك ليرفعهم الله عنده درجات، وأي مصلحة أعظم من هذه المصلحة، وإن عني المصنف بقوله: "وما لا مصلحة لهم فيه" الرد على المعتزلة القائلين بأن الله يجب عليه فعل الأصلح لعباده، فهذا حق لا مرية فيه؛ لأن الواقع يكذب قول المعتزلة، والله عزوجل لا يجب عليه إلا ما أوجبه على نفسه، ولا يوجد دليل في القرآن أو السنة أن الله أوجب على نفسه فعل الأصلح لعباده فيكون كلام المعتزلة تخرص وقول على الله بلا علم بعباده من كلام الله أو كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم-؟ أما ما عدا ذلك فتخرصات وجرأة على الله وقول عليه بغير علم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فِتْنَةً لَهُمْ} 1 قيل بلية لهم ليعلم أيطيعون الله بها أم يعصونه، ومعنى لنعلم   1 القمر آية (27) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 بالمشاهدة والوقوع الذي تقع به الحجة عليهم، فأي مصلحة لهم في ذلك1.   1 في - ح - بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 44- فصل قال المخالف: ولا حجة لهذا المستدل بقوله تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1، فإن الضلال ينقسم إلى معان: منها2 العقاب بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} 3، أي في عذاب، ولهذا قال الله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ … } 4، والثاني: الهلاك بدليل قوله تعالى: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ} 5 أي هلكنا، والثالث: إلى إبطال العمل بدليل قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} 6، فيحمل كل ما نسب الإضلال إلى الله على إهلاكهم وعذابهم وعلى إبطاله لأعمالهم7. فأما الهدى فإنه ينقسم إلى ثلاثة معان: أحدها: الدلالة والبيان بدليل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ} 8 أي بيان. والثاني: زيادة في التوفيق والتسديد بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 9.   1 فاطر آية (8) . 2 في النسختين قال (منها إلى العقاب) وإلى زائدة لا معنى لها. 3 القمر آية (47) . 4 القمر (48) . 5 السجدة آية (10) . 6 سورة محمد صلى الله عليه وسلم آية (1) . 7 ذكر الأشعري في مقالاته أقوال المعتزلة في الضلال وفيها زيادة على ما ذكر أن الإضلال تسمية العبد ضالاً، أو الاخبار عنهم بذلك، أو ترك أحداث اللطف والتسديد الذي يفعله بالمؤمنين. انظر: المقالات 1/325. 8 البقرة آية (185) . 9 سورة محمد صلى الله عليه وسلم آية (17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 والثالث: الثواب في الجنة1 بدليل قوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} 2. فأخبر أنه يهديهم بعد القتل، والهداية بعد القتل لا تكون إلا ثواباً، والهدى الذي هو الثواب والزيادة لا تكون إلا للمؤمنين، والهدى الذي هو الإرشاد عام لجميع المكلفين، وهو المراد بقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} 3، فأخبر أنه هدى الكفار وأنهم استحبوا العمى على الهدى، هذا نكتة قوله وعمدته. والجواب: أنا لا ننكر توارد المعاني المختلفة واشتراكها في اللفظة الواحدة في لغة العرب. والضلال في لغة العرب: سلوك عن القصد يقال: ضل عن الطريق وأضل الشيء إذا أضاعه4. وأما إطلاق الضلال في الشرع فأصله من قولهم5: ضل عن أمر الله إذا ضيعه ومنه قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 6. ومنه قوله: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} 7. والإضلال في القرآن على وجوه كثيرة لأدلة دلت عليه، فورد والمراد8 به الإغواء في قوله تعالى اخباراً عن إبليس: {لأضِلَّنَّهُمْ} 9 يعني لأغوينهم عن الهدى فيكروا10، وكذلك في قوله:   1 ذكر هذه الأقوال عنهم الأشعري في مقالاته، وأضاف إليها أن معنى هدى الله المؤمنين: أي سماهم مهتدين. المقالات 3/324 2 سورة محمد صلى الله عليه وسلم آية (5) وفي - ح - ذكر قوله تعالى: (عرفها لهم) . 3 فصلت آية (17) . 4 انظر: مختار الصحاح ص 383، المفردات ص 297. 5 في - ح - (من قوله) . 6 الفاتحة آية (7) . 7 الواقعة آية (92) . 8 في ح- ح - (المراد) . 9 النساء آية (119) . 10 انظر: تفسير القرطبي 5/389. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} 1 يعني أغواهم2، ومثله {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ} 3 يعني غوى4. وورد والمراد به الصد بقوله تعالى: {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوك} 5 أي يصدونك6، ومثله {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 7 أي يصدك، وورد والمراد به الخسارة وهو قوله تعالى: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} 8 أي في خسارة9، ومثله قوله: {إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 10، يعني في خسارة11 ومثله {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 12 أي في حبه ليوسف وتقديمه علينا ولم ينسبوه إلى الضلال عن الدين13، وورد في القرآن والمراد به الشقاء والعناء وهو قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} 14 يعني في شقاء وعناء15. وورد والمراد به الخطأ وهو قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 16   1 يس ىية (62) . 2 انظر: تفسير القرطبي 5/389. 3 الصافات آية (71) . 4 في - ح - (اغوي) . 5 النساء آية (113) . 6 قال الفراء: "أن يضلوك" يخطئوك في حكمك. معاني القرآن 1/287. 7 ص آية (26) . 8 غافر آية (25) . 9 انظر: تفسير القرطبي 15/305. 10 يس آية (24) وفي كلا النسختين كتبت الآية هكذا (انا لفي ضلال مبين) وهو خطأ. 11 انظر: تفسير القرطبي 15/18. 12 يوسف آية (8) . 13 قال القرطبي في معنى الآية "لم يريدوا ضلال الدين إذ لو أرادوه لكانوا كفاراً، بل أرادوا لفي ذهاب عن وجه التدبير"، وقال: "وقيل: لفي خطأ بين بإيثاره يوسف وأخيه علينا". تفسير القرطبي 9/131. 14 الملك آية (9) . 15 في - ح- زيادة ليست في الأصل وهي قوله (في شقاء وعناء طويل ومثله قوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} أي في شقاء وعناء. 16 الفرقان آية (44) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ومثله {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ1 حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 2 يعني أخطأ طريقاً3. وورد4 والمراد به النسيان وهو قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} 5، أي تنس إحداهما6. وورد والمراد به إبطال العمل وهو قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} 7 أي أبطل أعمالهم8 ومثله قوله: {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} 9 ومثله قوله: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 10 يعني بطل عملهم11 في الحياة الدنيا. فإذا تقرر هذا فلا يجوز أن يحمل كل إضلال للعباد ورد في القرآن على غير ضلال عن الدين بغير دليل لا سيما الإضلال المقابل بالهدى كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ   1 في الأصل (وسيعلمون) وفي -ح- (فسيعلمون) وكلاهما خطأ فإن الآية كما أثبت. 2 الفرقان آية (42) . 3 قال القرطبي (يريد من أضل ديناً أهم أم محمد صلى الله عليه وسلم) تفسير القرطبي 13-35. (وورد) ليست في الأصل وهي في - ح -. 5 البقرة آية (282) . 6 انظر: تفسير القرطبي 3/397، المفردات ص 298. 7 سورة محمد صلى الله عليه وسلم آية (1) . 8 انظر: تفسير القرطبي 16/223. 9 سورة محمد صلى الله عليه وسلم آية (4) . 10 الكهف آية (104) . 11 في الأصل (أعمالهم) وهي في - ح - كما أثبت وهي أقوم للعبارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} 1. فلا يجوز أن يحمل الإضلال هاهنا على الإهلاك والعقوبة في الآخرة، بل قد أخبر أنه أراد به الإضلال في الدنيا بالمثل لكثير من اليهود2؛ لأن الله ضرب الأمثال3 والأشباه للخلق وجعلها للقلوب كالمرايا للوجوه، وأمرهم أن يستدلوا بها على ما غاب من أبصارهم، وذلك عام لجميعهم لتثبت الحجة له عليهم وجعل الهداية منه بها خاصة4 للمؤمنين فقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} فنسب الإضلال والهداية إليه، وقال في آية أخرى: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} 5 فنسب في هذه الآية عقل الأمثال إليهم لكونهم مكتسبين عقلها، ولما حرم الكفار الاهتداء والعقل في الأمثال المضروبة وخلق فيهم ضده سماه6 إضلالاً، ولا يجوز حمل الإضلال هاهنا على إبطاله لأعمالهم لأنه يحتاج إلى إضمار الأعمال، ولا يجوز صرف الكلام عن ظاهره بغير دليل ولا ضرورة، وكذلك الإضلال المذكور في الأعراف بقوله تعالى7: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 8، فلا يجوز حمل الإضلال هاهنا على إبطال العمل ولا على العقوبة في الآخرة لأنه قال في آخر الآية:   1 البقرة آية (26) . 2 يعني بذلك قوله عزوجل: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْض} وذكر القرطبي في المراد بهذه الآية خمسة أقوال منها أن المقصودين بها هم أهل الكتاب. تفسير القرطبي 1/246. 3 في - ح - في الأشياء. 4 في - ح - خاصاً. 5 العنكبوت آية (43) . 6 في - ح- (وسماه) . (بقوله تعالى) ليست في - ح-. 8 الأعراف آية (186) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ووذره لهم في طغيانهم إنما يكون في الدنيا، ولأنه قال قبل هذا: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ … } 1 إلى قوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} 2. فذكر أنه يستدرجهم بالنعم ويملي لهم في الإنظار ثم قال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} 3 فذمهم على عدم التفكر ثم قال بعده: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} أي لو هداهم ووفقهم للنظر في ملكوت السموات والأرض لكان منهم ذلك، والهداية منه والتوفيق إنعام وإفضال، وله ترك الإنعام والإفضال ولا يكون4 ذلك منه جوراً ولا بخلاً. ويدل على صحة قولنا قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ5 أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} 6 والمراد بهذه الآية ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة في الإسلام، ولكن يضل من يشاء عن الإسلام فيحرمه التوفيق والتسديد إليه، ويهدي من يشاء أي يوفقه ويسدده إلى الإسلام، فقيد الإضلال والهداية لمن يشاء ولم يقيد بعمل من عامل استحق7 الإضلال أو الهداية بعمله8 وليس كذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} 9 فإن ذلك إخبار عن قوم بأعيانهم كفروا وصدوا عن سبيله فأضل أعمالهم، ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً..} الآيات إلى قوله: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} 10.   1 الأعراف آية (182-168) . 2 الأعراف آية (185) . 3 في - ح- (فلا يكون) . 4 في كلا النسختين (لجعلهم) وهو خطأ. 5 النحل آية (93) . 6 في - ح - (استحقوا) . 7 في النسختين (بعلمهم) والأصوب ما أثبت لاستقامة الكلام. 8 سورة محمد صلى الله عليه وسلم آية (1) . 9 في كلا النسختين (من) والصواب ما أثبت. 10 الإسراء آية (90-97) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وهذا يدل على أن المراد بالضلالة هاهنا الإضلال في الدين لا في إبطال العمل ولا في العقوبة والهلاك؛ لأنه أخبر أنهم قالوا: لن نؤمن لك حتى تفعل لنا كذا وكذا، ثم قال بعده: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ1 الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} 2 وأمره أن يبين لهم ما المانع3 من أن يبعث ملكاً وهو أنهم ليسوا بملائكة فيبعث4 إليهم من جنسهم، ثم أخبر أنه لو هداهم أي وفقهم إلى الإسلام لاهتدوا، ولكنه أضلهم فليس لهم أولياء من دونه، ثم أخبر أنه يحشرهم بعد ذلك فدل على أن الهداية والإضلال في الدنيا لا في الآخرة ويدل على ما ذكرنا قوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} 5 والمرشد إنما يكون في الدنيا إلى طريق الدين، ولا يكون مرشدا في الآخرة، ويدل على الإضلال في الدين قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} ي عني بالقرآن {صُمٌّ} لا يسمعون الهدى {وَبُكْمٌ} 6 لا يتكلمون به {فِي الظُّلُمَاتِ} يعني ظلمات الشرك {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} أي عن الهدى، نزلت في بني عبد الدار بن قصي: {وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 7، يعني على طريق مستقيم وهو الإسلام، نزلت في علي بن أبي طالب والعباس وحمزة وجعفر عليهم8 السلام9، فأخبر سبحانه أنه فاضل بين الفريقين، وأنه جعل   (إذ جاءهم الهدى) ليست في - ح -. 2 الإراء آية (90-97) . (ما) هنا إما أن تكون زائدة أو موصولهة مع أن المعنى بدونها أقوم. 4 في - ح - (فيبعث الله) . 5 الكهف آية (17) . وفي - ح - هكذا وردت (من يهد الله.. الآية إلى قوله مرشدا) . 6 في كلا النسختين (بكم) بدون الواو والصواب ما أثبت. 7 الأنعام آية (39) . 8 في - ح - (رضي الله عنهم أجمعين) . 9 لم أقف على من ذكر سبب النزول المذكور هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 أحدهما على صراط مستقيم وذلك لا يمكن حمله إلا على اختصاصه لهم في الدين فدل انه لم يجعل ذلك لمن أضله،؛ لأنه المفاضلة في الشيئين إنما يكونان من جنس ليكون1 أحدهما ضد الآخر كقوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} 2، وكقوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} 3، ويدل على ثبوت الإضلال في الدين بالدنيا قول الله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} 4 يقول شبه له سوء عمل0هـ {فَرَآهُ حَسَناً} يعني ما زين له الشيطان وحسنه عنده، وقيل: {فَرَآهُ حَسَناً} يعني صدقاً فلم يرجع عنه5 كقوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} 6، فإن الله يضل من يشاء عن دينه فلا يهديه إلى الإسلام ويهدي من يشاء لدينه، وهذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام7، ويقال في العاص بن وائل السهمي والأسود بن عبد المطلب8 وفيها محذوف لعلم السامع والتقدير: أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله9 يدل عليه قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 10 ويدل على ما قلنا قول الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ   1 في - ح - (ويكون) . 2 آل عمران آية (129) . 3 آل عمران آية (26) . 4 فاطر آية (8) . 5 انظر: تفسير القرطبي 14/325. 6 النمل آية (24) . 7 في -ح - (لعنة الله) . 8 ذكر هذا القرطبي عن الكلبي، وذكر في الآية ثلاثة أقوال أخرى وهي أنها نزلت في اليهود والنصارى والمجوس، وقيل: المراد الخوارج، وقيل: الشيطان، ورجح القرطبي ما ذكر عن الكلبي وعنده أن المراد بها كفار قريش. تفسير القرطبي 14/325. 9 ذكر هذا التقدير القرطبي ونسبه الشوكاني إلى الزجاج ورجحه، وفي الآية تقدير آخر ذكره القرطبي ورجحه، وهو قول الكسائي إن المعنى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ذهبت نفسك عليهم حسرات) . انظر: تفسير القرطبي 14/325، فتح القدير 4/339. 10 فاطر آية (8) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} 1. وهذه الآية نزلت في تسعة من المنافقين منهم مخرمة بن زيد القرشي هاجروا من مكة إلى المدينة فندموا فرجعوا إلى مكة بغير إذن النبي - صلى الله عليه وسلم- وكتبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- إنا على ما كنا عليه، ولكنا اشتقنا إلى بلادنا وإخواننا وأهلنا، ثم خرجوا تجاراً إلى الشام، واستبضعهم أهل مكة بضائع وقالوا: أنتم على دين محمد فلا بأس عليكم من أصحابه، فبلغ أمرهم إلى المسلمين فقال بعضهم: نخرج إليهم فنقاتلهم ونأخذ ما معهم لأنهم تركوا دار الهجرة وصاروا عدواً لنا وقال بعضهم: ما حلت لنا دماؤهم ولا أموالهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم- ساكت فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} 2 أي تختصمون {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} فردهم إلى الكفر {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} عن دينه {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} 3، وهذا يدل على إضلال الله لهم في الدين بالدنيا؛ لأن المسلمين أرادوا هدايتهم في الدين بالدنيا4 فرد الله ذلك عليهم وأخبر5 الله عنهم أنهم ودوا كفر6 المسلمين وهذا كله في الدين بالدنيا. وأما قول المخالف بقوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} 7 أنه أراد8 به العقاب في الآخر فغير مسلم، ولم يقل أحد من أهل اللغة ولا من المفسرين أنه أراد بالإضلال هاهنا العقوبة، بل قالوا: إنهم في ضلال بالدين ويقال: في شغل وعناء9، ونزلت في المكذبين في القدر. وروى ابن زرارة   1 النساء آية (88) . 2 روى ابن جرير بسنده عن مجاهد نحو هذا إلا أنه لم ينص على اسم أحد من المنافقين ولا عددهم ولا أنهم كتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: تفسير ابن جرير 5/193. 3 النساء آية (89) . 4 في - ح- (والدنيا) . 5 في - ح- (فأخبر) . (كفر) ليست في الأصل وأثبتها من - ح -. 7 القمر آية (47) . 8 في - ح- وارد. 9 ذكر القول الأول القرطبي، والقول الثاني ذكره ابن جرير عن قتادة. انظر: تفسير القرطبي 17/147، تفسير ابن جرير 27/109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الأنصاري عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم- {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} فقال - صلى الله عليه وسلم-: "أنزل الله هذه الآية في أناس يكذبون بقدر الله" 1،ولا حجة له بقوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} ، أن الإضلال هاهنا العذاب، بل نقول: إنه أخبر في الآخرة على ضلالهم بالدين في الدنيا، فيكون بهذا زيادة فائدة غير ما ذكر المخالف، ويدل على إضلال الله بالدين في الدنيا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} 2 وهذه الآية نزلت في قوم هووا الأوثان3 فعبدوها4، فأخبر الله أضلهم حرمهم التوفيق والتسديد على ما سبق في علمه أنه يخلقهم ضلالاً، وأخبر أنه ختم على سمعهم5 فلا يسمعون الهدى، وعلى قلوبهم فلا يعقلون الهدى، وجعل على أبصارهم غشاوة يعني الغطاء، فمن يهديهم يعني يرشدهم من بعد الله، ثم أخبر عن قولهم في الدنيا {وَقَالُوا6 مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} وهؤلاء دهرية، وقول المخالف: إن الختم على القلوب العلامة في الآخرة تعسف وصرف للقرآن عن ظاهره على وفق مذهبه، وسأبين ذلك إن شاء الله7. ويدل على إضلال الله لهم في الدنيا قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ}   1 أخرجه الطبراني في الكبير 5/276، وذكره ابن كثير ونسبه إلى ابن أبي حاتم وذكر إسناده، وذكره ابن حجر في الإصابة ونسبه إلى ابن شاهين وابن مردويه وابن منده. انظر: تفسير ابن كثير 4/276، الإصابة 4/13 وسنده ضعيف فإن مدار هذه الروايات على سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة. هو مجهول، فقد ذكره أبو حاتم ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. الجرح والتعديل 4/49، وذكره الهيثمي في المجمع وقال: "وفيه من لم أعرفه". مجمع الزوائد 7/117. 2 الجاثية آية (23-24.) . 3 في - ح - (أوثاناً) . 4 انظر: تفسير ابن جرير 25/150، تفسير القرطبي 16/167. 5 في -ح - (سمعه) . 6 في الأصل (قالوا) وفي - ح- كما أثبت. 7 انظر: ما سيأتي ص 469. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 يعني شبهاء قل لهم يا محمد {سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْض} بأن معه شريكاً، {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} يقول بل بأمر1 باطل وكذب {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 2 يقول: من يضلل الله منهم بحرمانه التسديد فما له من هاد أي3 من مرشد قال: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ} فأخبر سبحانه أن الذين أضلهم يعذبهم في الدنيا4 بالقتل ببدر {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} 5 يقيهم عذابه في الآخرة. وأما قول المخالف: إن6 الهدى على أضرب، فلسنا ننكر اشتراك المعاني في لفظة الهدى، فقد ذكر الله الهدى في القرآن في مائتين وستة وثلاثين موضعاً7، وهو على أوجه8، فمنه ما ورد والمراد به التأييد والتوفيق وهو   1 في الأصل (بأمره) وفي - ح- (أمره) والأصوب حذف الهاء كما أثبت ليزافق قول قتادة والضاك، فقد ذكر القرطبي عن قتادة أنه قال في الآية: "معناه بباطل من القول" وقال الضحاك: "بكذب من القول". انظر: تفسير القرطبي 9/323. 2 الرعد آية (33) . (أي) ليست في - ح-. 4 في - ح- زيادة (بعد علم) وليست في الأصل ولا معنى لها هنا. 5 الجاثية آية (34) . (إن) ليست في - ح-. 7 وردت كلمة الهدى وتصريفاتها في القرآن أكثر مما ذكر المصنف حيث بلغت ثلاثمائة وعشرة مواضع تقريباً حسب عدها من المعجم المفهرس لألفاظ القرآن. 8 بين ابن القيم - رحمه الله - أن مراتب الهدى في القرآن أربع مراتب. المرتبة الأولى: الهدى العام, وهو هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها، وهذا أعم مرتبة والدليل عليها قوله تعالى: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} وقوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} . المرتبة الثانية: الهدى بمعنى البيان والدلالة والتعليم والدعوة إلى مصالح العبد في معاده، وهذا خاص بالمكلفين والدليل عليها قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . المرتبة الثالثة: الهداية المستلزمة للاهتداء وهي هداية التوفيق ومشيئة الله لعبده الهداية وخلقه دواعي الهدى والقدرة عليه للعبد وهذه الهداية لا يقدر عليها إلا الله عزوجل، ودليلها قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . المرتبة الرابعة: الهداية يوم المعاد إلى الجنة والنار. دليلها قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} شفاء العليل ص 15، 79، 80، 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 المراد بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1 أي ليس عليك توفيقهم وتأييدهم، ولكن الله يؤيد ويوفق لذلك من يشاء، فعلَّقه على من يشاء، فدل على أنه على غير عمل سبق منهم2، ومنه ما ورد والمراد به الدعاء والدلالة وهو المراد بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3 أي لتدعو، ومثله قوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} 4 أي دليل، ومثله قوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} 5 أي دلوهم، ومثله قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 6 أي يدل، ومثله قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} 7 أي الدلالة على الحق وهو كقوله تعالى: {قُلِ8 اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} 9 أي يدل، ومثله قوله تعالى: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} 10 أي دليلا، ومنه ما ورد والمراد به البيان وهو المراد بقوله تعالى: {11 وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} 12 أي بينا لهم، ومثله قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} 13 أي ألم يبين، ومثله قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} 14 أي بياناً لهم ورشداً15 وخص ذكر المتقين: أي إنما ينتفع بالبيان المتقون الذين سبقت لهم من الله الرحمة   1 البقرة آية (272) . 2 في - ح- (فيهم) . 3 الشورى آية (52) . 4 الرعد آية (7) . 5 الصافات آية (23) . 6 الإسراء آية (9) . 7 الليل آية (12) . 8 في كلا النسختين (والله يهدي للحق) وهو خطأ والصواب ما أثبت. 9 يونس آية (35) . 10 طه آية (10) . 11 في الأصل (فأما) وفي -ح - كما أثبتها وهو الصواب. 12 فصلت آية (17) . 13 السجدة آية (26) . 14 البقرة آية (2) . 15 في - ح - (أي بيان ورشد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وإن كان الخطاب للجميع وهو كقوله تعالى: {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} 1 فعم الناس بالإنذار، وأخبر أنه لا ينتفع بالإنذار إلا البعض، فقال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} 2 وكقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ3 مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} 4 وكقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 5 فالدعوة من الله على ألسنة الرسل والبيان والدلالة عامة لجميع الخلق، ولم يجعل الله إلى الرسل إلا ذلك ولا أقدرهم ولا أمرهم إلا بذلك، وأما الهداية الذي هو التأييد والتسديد والتوفيق6 وتنوير القلوب فالله تعالى7 يختص به من يشاء من عباده ولم يجعل إلى الرسل منه شيئاً، وهو المراد باختباره تعالى عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 8، وذلك أن أبا طالب بن عبد المطلب قال عند موته: يا معشر بني هاشم أطيعوا محمداً وصدقوه تصلحوا وترشدوا، فقال له9 النبي - صلى الله عليه وسلم-: يا عم تأمرهم بالنصيحة وتدها لنفسك قال: فما تريد يا ابن أخي، قال: أريد منك كلمة واحدة فإنك10 في آخر يوم من أيام حياتك أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله، فقال: يا ابن أخي قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع11 عند الموت، ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها، ولأقررت عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصحك، ولكن سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم   1 يونس آية (2) . 2 يس آية (11) وفي الأصل أضاف (وخش) وما أثبت كما في - ح-. 3 في - ح- (انما تنذر) . 4 النازعات آية (45) . 5 الذاريات آية (55) . 6 في - ح- (في التوفيق) . 7 في النسختين (قال الله تعالى) ولا يستقيم بها الكلام ولعل صوابها كما أثبت. 8 القصص آية (56) . (له) ليست في - ح-. 10 في - ح- (وابك) . 11 في - ح- (خرج) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وعبد مناف، فأنزل الله {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية1 يقول: إنك لا تؤيد ولا توفق إلى الإسلام، خصت أبا طالب وعمت، ولكن الله يوفق ويؤيد إلى الإسلام من يشاء، خصت2 العباس3 وعمت غيره {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} من قدر له الهدى، ولا يجوز أن يراد بهدى النبي - صلى الله عليه وسلم- هاهنا الدعوة ولا الدلالة، لأنه قد دعى الجميع وبين الله للجميع، ولا يجوز أن يراد بهداية النبي - صلى الله عليه وسلم- هاهنا ثواب الجنة الذي قال المخالف؛ لأن أحداً من أهل اللغة والتفسير لم يذكر أن الهدى يراد به4 الثواب وإنما ذلك تعسف في التأويل. وأما قول الله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} 5 فقيل سيهديهم للعمل الصالح في الدنيا وصلح بالهم في الدنيا6، وأما استدلاله على7 ذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّه} ، فقد قرئ (قَاتَلوا في سبيل الله) فإن تعلقت8 بقراءة (قُتُلوا) تعلقنا بقراءة (قَاتَلوا) 9.   1 لم أجد من ذكر هذه القصة على نحو ما ذكر المصنف هنا، وأصلها في الصحيحين فقد أخرج قصة وفاة أبي طالب وعرض النبي - صلى الله عليه وسلم- عليه الإسلام، البخاري كتاب فضائل الصحابة، (ب. قصة أبي طالب) 5/44، م. كتاب الإيمان، (ب. الدليل على صحة إسلام من حضره الموت..) 1/54 من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه. 2 في - ح- (وخصت) . 3 ذكر السيوطي في الدر المنثور أن ابن أبي حاتم أخرج عن قتادة {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} يعني أبا طالب {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} قال: العباس. الدر المنثور 6/429. 4 في - ح- (يريد) . 5 سورة محمد صلى الله عليه وسلم آية (5) . 6 هذا ما رجحه ابن جرير في تفسيره ورجح أيضاً قراءة من قرأ (قَاتلَوا) تفسير ابن جرير 26/44. 7 في - ح- (عن) . 8 في - ح- (تعلق) . 9 قرأ (قتلوا) يقرأ بها عامة قراء الحجاز والكوفة وهي التي رجح ابن جرير. انظر: تفسير ابن جرير 26/43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وقيل: سيهديهم في القبور إلى القول بالحق الذي قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 1 وهو عند مسألة الملكين له في قبره2 الذي وردت به الأخبار في الصحاح مما ينكره القدرية3. وأما قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ} فلا دليل له أن الهداية في الجنة هو الثواب، بل إدخاله الجنة لهم هو لثواب هدايته لهم في الدنيا إلى الأعمال الصالحة. وأما قول المخالف في قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي أراد هدايتهم العامة وهي التأييد والإسلام فاستحبوا العمى على الهدى قد يراد به البيان والدعوة4، وهذا هو الهدى الذي عم الخلق به، فكيف يصح لك أيها المخالف أن تحمل الآية على موضع النزاع والخلاف، ويدل على بطلان قولك، قوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} 5 فأخبر أن من يهديه الله فهو المهتدي، ولا يجوز أن يراد هاهنا من يدخل الله الجنة أو من يثيبه فهو المهتدي أي فهو الداخل6، هذا ما لا يقبله عقل عاقل. وأما قوله: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} فنقول: لا ننكر أنه نسب استحباب العمى إليهم لكونه مكتسباً لهم ولذلك أخبر أنه عاقبهم بكسبهم   1 سورة إبراهيم آية (27) . 2 ذكر هذا القول القرطبي ونسبه إلى ابن زياد وفي الآية قول ثالث: وهو سيهديهم إلى الجنة وهذه على قراءة أبي عمرو (قتلوا) انظر: تفسير القرطبي 16/230، شفاء العليل ص85. 3 سيفرد المصنف لذلك فصلاً في أواخر الكتاب. 4 انظر: ما تقدم ص 286 وانظر: تفسير القرطبي عند هذه الآية من سورة فصلت 15/349. 5 الأعراف آية (178) . 6 في - ح- تقديم وتأخير حيث العبارة هكذا قوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} أي فهو الداخل، فأخبر أن من يهديه الله فهو المهتدي ولا يجوز أن يراد هاهنا من يدخل الله الجنة أو من يثيبه فهو المهتدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 لذلك بقوله: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . فأخبر الله انه عاقبهم على كسبهم لذلك لا على خلق ذلك فيهم، وكذلك الجزاء في آي كثيرة إنما ذكره الله على الكسب ولأن استحسانهم كان بمشيئتهم لذلك ومشيئتهم متعلقة بمشيئة الله، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} 1، وقوله تعالى: {وَمَا يَذْكُرُونَ2 إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} 3. وأما قول المحالف في الهدى إنه الزيادة في الهدى4، وكذلك قوله في التطهير فيما مضى5 فيقال له: إذا وافقت أن الله تعالى يخلق الزيادة في التوفيق6 والتأييد في قلوب المهتدين والمؤمنين الذين خلقوا الإيمان والهدى في قلوبهم أولا، فقد وافقت على أنه خلق7 شيئاً من أفعال عباده زيادة فيما8 خلقوه أولاً في نفوسهم، ويكون ذلك ثواباً لهم وجزاء على ما خلقوه بأنفسهم، فلا يمتنع أن يبتدئهم ويخلق التوفيق والتسديد والتأييد لهم إلى الإسلام والإيمان قبل أن يخلقوه في أنفسهم، ويكون متفضلاً منعماً عليهم ولا يكون ذلك مستحيلاً منه، ولا يستحيل خلق ضده في قلوب آخرين فلا يكون ذلك جوراً وظلماً لهم، ولا يكون قبيحاً منه، كما أخبر في إعطائه وتفضله عليهم في الدنيا لمن يشاء ومنع ذلك عمن يشاء بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 9 فقد أخبر أنه   1 الإنسان آية (30) . 2 في الأصل (وما تشاؤن) وهي في -ح- مصححة كما أثبتها. 3 المدثر آية (56) . 4 انظر: ص 356-357. 5 انظر: ص 331. 6 في - ح- (والتوفيق) . 7 في - ح- (لم يخلق) . (فيما) معناها (في الذي) . 9 آل عمران آية (26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 آتى الملك من شاء أليس ذلك يعد تفضلاً منه عليهم؟ ونزعه ممن يشاء منهم هل يعد أنه ظلمهم أم يقال منعهم1 ما لا يستحقونه عليه؟ وأعز من شاء بفضله وأذل من شاء بعدله بيده الخير، أي2 خير أفضل وأكثر من الأعمال التي ينال بها الخير الدائم في الآخرة، وأي عز اعز من العز الدائم في الجنة، وأي ذل أعظم من الذل الدائم في النار. ويدل على إضلال الله لهم في الدنيا عن الدين قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} 3 الآية. وسبب نزول هذه الآية أن عيينة بن حصن الفزاري دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وهو جالس على البساط ومعه سلمان الفارسي وليس عنده غيره وبيد سلمان خوص يشقه وعليه شملة وهو4 يوم حار، فجعل عيينة يشير إلى سلمان أن5 تنحى عن البساط، وجعل سلمان يتنحى وعيينة ينحيه حتى أرحله6 عن البساط ثم قال عيينة: يا محمد لو كنت إذا دخل عليك رؤساء قومك وأشرافهم نحيت مثل هذا وأرابه كان أسرع لهم7 فيما تحب، أما يؤذيك ريحه لقد آذاني ريحه، إن نُسلم يسلم الناس بعدنا، والله ما يمنعنا من الدخول عليك ولا اتباعك إلا هذا وأضرابه فأنزل الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} 8 إلى قوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} 9 فأخبر الله تعالى أنه أغفل قلبه عن ذكره وهو   1 في - ح- (أنه منعهم) . 2 في - ح- (وأي) . 3 الكهف آية (28) . 4 في - ح- (في يوم) . 5 في - ح - (أي) . 6 هكذا في الأصل وفي - ح- (أن حله) ووردت في الدر المنثور 5/380 من حديث سلمان عند عبد بن حميد فقال: "تنح حتى القاني عن البساط". (لهم) ليست في - ح-. 8 في - ح- أضاف إليها (يريدون وجهه) . 9 في - ح- أضاف إليها (واتبع هواه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 القرآن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه " وكان النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا رآهم قال: "مرحباًُ بمن عاتبني ربي فيهم "1 وهو سلمان الفارسي وصهيب بن سنان وعمار بن ياسر وخباب بن الأرت وعامر بن فهيرة وبلال ونحوهم من فقراء المسلمين، ويدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} 2، قال أهل التفسير: يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان قاله سعيد بن جبير3، وعن الضحاك4: يحول بين المؤمن والمعصية وبين الكافر والطاعة5.   1 أخرج سبب النزول ابن جرير وأورد القصة نحو ما ذكر هنا عن سلمان رضي الله عنه. تفسير ابن جرير 15/9236 وفي إسناده سليمان بن عطاء وهو منكر الحديث كما في التقريب ص 135، وقد أخرج أبو داود قوله - صلى الله عليه وسلم- "الحمد لله الذي جعل في أمتي … " الحديث من حديث أبي سعيد الخدري وليس فيه ذكر سبب النزول. د. كتاب العلم، (ب. في القصص) 2/127 وفي إسناده العلاء بن بشير وهو مجهول. انظر: التقريب ص 368، وليس في شيء من روايات الحديث التي اطلعت عليها قوله: "مرحباً بمن عاتبني فيهم ربي". 2 النفال آية (24) . 3 أخرجه ابن جرير عنه بسنده وأخرجه أيضاً عنه عن ابن عباس رضي الله عنه. تفسير ابن جرير 9/215. 4 في - ح- (وقال الضحاك) . 5 أخرجه عنه ابن جرير بسنده وروى نحوه أيضاً عن ابن عباس وغيره. انظر: تفسير ابن جرير 9/215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 45- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة1 قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} 2، ومثله قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 3 ومثله قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} 4، ومثله قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ5 مَا فَعَلُوهُ} 6، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} 7. وعند القدرية: إن الله شاء إيمان جميع من في الأرض، وآتى كل نفس هداها وشاء هداهم ولم يشأ شركهم ولا8 اقتتالهم، وهذا تكذيب لما أخبر الله عنه بكتابه. فأجاب القدري عن ذلك كله وقال: المشيئة تنقسم إلى معنيين: مشيئة تمكين واختيار ومشيئة قهر وإجبار، فالله قد شاء الطاعات والإيمان من المكلفين باختيارهم9 وعلى ذلك تحمل الآيات المقتضية أنه أراد منهم الصلاح، وأما مشيئة القهر والإجبار، وهو أن يخلق فيهم الطاعة جبراً ويشاء ذلك منهم جبراً، فلم يشأ ذلك منهم، ولو شاء ذلك منهم لوقع لا محالة، ولكن تبطل فائدة التكليف وعليه نحمل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} وما أشبهها من الآيات10.   1 أي من الدليل على أن ما وقع من الناس من شر إنما وقع بمشيئة الله ولو أراد الله لم يقع ولكنه شاء وقوعه جل وعلا. 2 يونس آية (99) . 3 النحل آية (9) . 4 السجدة آية (13) . 5 في - ح- (ولو شاء الله) وهي في الأنعام آية (137) . 6 الأنعام آية (112) . 7 البقرة آية (253) . 8 في - ح- (ولا قتالهم) . 9 في - ح (في اختيارهم) . 10 هذا ما يعلل ويرد به المعتزلة بعض آيات إثبات المشيئة، فانظر كلام عبد الجبار المعتزلي في شرح الأصول ص 485، وكذلك كتابه المغني 4/262، 263، وقول المخالف هنا، وأيضاً ما ذكره عبد الجبار المعتزلي أن المشيئة بالنسبة لله تنقسم إلى معنيين تقسيم غير مقبول لأن قولهم مشيئة تمكين واختيار هو عين المسألة المختلف فيها وهو قولهم في أن الله لا مشيئة له نافذة في أفعال خلقه، فلابد أن يقيموا الدليل على إثبات أن الله لم يشأ إيمان المؤمنين، ولم يشأ كفر الكافرين، وأن وقوع ذلك منهم خلاف مشيئة الله فيهم، ولن يستطيعوا أن يقيموا على ذلك دليلاً واحداً لا من القرآن ولا من السنة، بل القرآن والسنة يدل على خلاف قولهم حيث بينت الآيات الكثيرة المتنوعة والأحاديث الصحيحة أن الله له المشيئة النافذة في خلقه، وان ما وقع من الطاعات والمعاصي إنما وقع بمشيئة الله لذلك، ولو شاء أن لا تقع لم تقع وأن مشيئته هي الموجبة لوقوع الفعل. قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، وغير هذه الآيات كثير. ولا يمكن أن يتم لهم القول في هذه الآيات أن المشيئة المراد بها مشيئة الإلجاء والإكراه، فقد ربط الله جل وعلا وقوع الفعل بمشيئته سواء في ذلك ما يتعلق بمصير العبد في الآخرة، أعني بذلك الهداية، أو الضلال أو سائر أفعاله، فهذا دليل على أن ما وقع من الأفعال إنما وقع بمشيئة الله، وما لم يقع إنما لم يقع لأن الله لم يشأه، سواء في ذلك الطاعة أو المعصية أو ما ليس بطاعة ولا معصية من المباحات، والمشيئة عند أهل السنة لا يلزم منها الحب والرضا وإنما تتعلق بالإرادة الكونية القدرية التي لا يخرج شيء في الوجود عنها سواء كان طاعة أو معصية، فإذا كان الفعل طاعة فإنه يكون واقعاً بمشيئة الله وبحبه ورضاه وإذا كان معصية فإنه يكون واقعاً بمشيئة الله وعدم حبه ورضاه لذلك. انظر للاستزادة من الأدلة والتوضيح: شفاء العليل لابن القيم - رحمه الله - 43-49 فبهذا يتضح أن قول المخالف القدري هنا في تقسيم المشيئة قول لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه وأن الآيات التي ذكرها القاضي عبد الجبار إذا كان يمكن فيها تقدير عدم مشيئة الإلجاء والإكراه في مثل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} فما عساهم أن يقولوا في مثل قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} حيث لايمكن تقدير أن المشيئة هي مشيئة الإلجاء والإكراه، ولكن المعتزلة يأخذون ببعض الكتاب ويردون بعضه، وأهل الحق يدينون لله بالقرآن كله لأنهم أهله وأنصاره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 والجواب أن يقال له: قد تقدم القول منك أن الله ليس له مشيئة وهي الإرادة1، فكيف تقول: إنها تنقسم إلى معنيين؟ فإما أن ترجع إلى مذهبك الفاسد وتقول: ليس لله مشيئة، فيفسد عليك التأويل في مشيئة الاختيار أو القهر، وإما أن ترجع إلى مذهب أهل التوحيد أن لله مشيئة شاء بها   1 قول المصنف: "وهي الإرادة" أي عند المعتزلة؛ لأنهم لا يفرقون بين الإرادة والمشيئة، خلاف قول أهل السنة وقد تقدم قول المعتزلة في الإرادة وقول أهل السنة. انظر: ص 329. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الاختيار من العباد أو القهر والإجبار فيكون الاختيار في الفعل راجعاً إلى صفات العباد في أفعالهم1، وأما القهر والإجبار فلا يتصف به إلا فعل الله لأنه هو القاهر2 والمجبر، والخلق مقهورون مجبورون3.وأما المشيئة التي   1 يعني بذلك أن العباد يفعلون أفعالهم باختيارهم لها لهذا وقع عليهم الثواب والعقاب وطولبوا بالقيام بالواجبات وترك المنهيات. 2 في - ح- (والخالق) . 3 قال شيخ الإسلام: "ولفظ الجبر فيه إجمال: يراد به إكراه الفاعل بدون رضاه كما يقال: إن الأب يجبر المرأة على النكاح، والله تعالى أجل وأعظم من أن يكون مجبراً بهذا التفسير، فإنه يخلق للعبد الرضا والاختيار بما يفعله وليس ذلك جبراً بهذا الاعتبار. ويراد بالجبر: خلق ما في النفوس من الاعتقادات، والإرادات وكقول محمد بن كعب القرظي: "الجبار: الذي جبر العباد على ما أراد". وكما في الدعاء المأثور عن علي - رضي الله عنه – "جبار القلوب على فطراتها شقيها وسعيدها". فلما كان لفظ الجبر مجملاً نهى الأئمة الأعلام عن إطلاق إثباته أو نفيه". مجموع الفتاوى 8/132. وفي كتاب الإيمان للإمام أحمد روايات عديدة عن السلف في إنكار لفظ الجبر، فمن ذلك ما رواه الخلال عن أبي بكر المروذي قال: "قلت: لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: رجل يقول إن الله جبر العباد، فقال: هكذا لا تقول وأنكر هذا، وقال: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} يعني بذلك أنه يقال أضله الله وهداه الله ولا يقال جبره على المعصية أو الطاعة. وروى بإسناده عن عبد الرحمن بن مهدي قال: "أنكر سفيان الثوري جبر وقال: الله عزوجل جبل العباد". قال أبو بكر المروذي: "أظنه أراد قول النبي - صلى الله عليه وسلم: (لأشج عبد القيس) يعني بذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: "إن فيك خلتين يحبهما الله الحلم والأناة، قال: يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما، قال: بل الله جبلك عليهما، قال: الحمد لله الذي جبلني عليهما، قال: سل الله جعلك عليهما، قال: الحمد لله الذي جعلني على خلقين يحبهما الله ورسوله". أخرجه د. كتاب الآداب، (ب. قبلة الجسد) 2/346، حم 4/206. وروى أيضاً بسنده عن بقية بن الوليد قال: سألت الزُبَيْدي والأوزاعي عن الجبر فقال الزبيدي: "أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل ولكن يقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحبه". وقال الأوزاعي: "ما أعرف للجبر أصلاً من القرآن ولا من السنة فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". وروى بسنده أيضاً عن الإمام مالك أنه قال: "لم نؤمر أن نتكل على القدر وإليه نصير". الإيمان للإمام أحمد ورقة 89-90/ب وأورد بعض هذه الآثار شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 8/103. فقول المصنف هنا "والخلق مقهورون مجبورون" يحتمل الجبر في ألوانهم وهيآتهم مما ليس لهم إرادة فيه وهذا حق، ويحتمل أفعال العباد التي خلق الله لهم فيها اختيار واردة وهذا لا يصح إطلاق لفظ الجبر عليه كما تقدم نقله عن السلف لما في لفظ الجبر من الإيهام بالمعنى الباطل وهو الجبر الذي لا يكون للعبد فيه إرادة واختيار وهو نظير الإكراه. والمصنف لا يقصد هذا النوع من الجبر لأن كلامه الآتي يدفعه ويرده، وكذلك ما سبق من كلامه. انظر: ص 222-224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الإرادة فلا تتصف بذلك1. ثم يقال لهذا المخالف: لسنا ننكر أن الله سبحانه لو شاء أن يجبر العباد على أفعال الطاعات والإيمان ويضطرهم إلى ذلك لكان قادراً عليه لأنه لا يعجزه شيء أراده. وقد أخبر سبحانه عن ذلك بقوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 2، ونقول مع ذلك: إن الله سبحانه لو شاء أن يؤمن جميع أهل الأرض باختيار منهم بأن يحبب إليهم الإيمان ويزينه في قلوبهم فيطيعوه ويخلق فيهم الرغبة إلى ثوابه، ويكره إليهم الكفر3 والعصيان ويخلق في قلوبهم الرهبة والخوف من4 عذابه لكان قادراً على   1 لعل المصنف - رحمه الله - يقصد هنا بالإرادة والإرادة الدينية الشرعية المستلزمة لمحبة الله ورضاه، لهذا قال: "إنها لا تتصف بذلك"، أي لا تتصف المشيئة بهذا المعنى أي مشيئة الاختيار ومشيئة القهر والإجبار. فعليه يقال: إن المشيئة لم ترد في القرآن الكريم إلا على معنى الإرادة الكونية القدرية التي لابد من وقوعها كما سبق بيانه ص 329. وتقسيم المصنف - رحمه الله - للمشيئة بناء على كلام القدري غير وارد، حيث لم أر من قسمها إلى هذا التقسيم، بل المشيئة شيء واحد وهو أنها الموجبة لكل فعل وقع، كما دل على ذلك الشرع أما الاختيار والإرادة للعبد فهي ثابتة بالشرع والعقل، والله أعلم. 2 الشعراء آية (4) . 3 في - ح - أضاف (والفسوق) . 4 في الأصل (عن) وما أثبت من - ح-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ذلك ولا يسمى ذلك إجباراً أو قهراً، وقد أخبر1 عن تفضله بذلك على المؤمنين فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} 2، وقال في آية أخرى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 3. فهذا ما أخبر عن لطفه بالمؤمنين وتنوير قلوبهم وتأييدهم بالإيمان مع ما أخبر الله عن فعله ضد ذلك بقلوب الكفار والمنافقين4 كقوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} 5، قوله6 تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 7، وقوله في آي كثيرة {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 8. وسأبين فساد تأويله في الختم والطبع في موضعه إن شاء الله9. ويقال في تقريب هذا الدليل للقدري: هل يقدر الله على فعل يفعله بالعبد يختار العبد لأجله الإيمان على الكفر والطاعة على المعصية؟ فإن قالوا: نعم يقدر على ذلك، رجعوا إلى قولنا وقول جماعة الموحدين ما شاء الله كان10 وفارقوا قولهم الفاسد، وإن قالوا: لا يقدر، قلنا: فأنتم   1 في - ح- (أخبر الله) . 2 الحجرات آية (7) . 3 المجادلة آية (22) . 4 في النسختين هنا (بقلوبهم) وهي مكررة ولا معنى لها. 5 التوبة آية (77) . 6 في - ح- (إلى قوله تعالى) . 7 البقرة آية (7) . 8 النحل آية (108) سورة محمد صلى الله عليه وسلم آية (16) والآيات في الطبع على قلوب الكافرين كثيرة بغير هذا اللفظ. 9 انظر: الفصل 61. 10 المراد هنا أنه إذا كان قادراً على هذا اللفظ فلا يبقى هناك حائل بينه وبين وقوعه إلا المشيئة فإذا شاءه كان وإذا لم يشأه لم يكن وهذا قول أهل السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 محجوجون بقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، وبقوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} 2، فأخبر سبحانه أنه لو بسط الرزق للعباد لبغوا في الأرض وخالفتم قول جماعة المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن3. ويقال للقدري: إذا كانت المشيئة عندكم تنقسم إلى مشيئة الاختيار ومشيئة القهر والإجبار، وقلتم: إن الله قد شاء من جميع العباد الإيمان مشيئة الاختيار منهم ولم يشأ منهم الإيمان مشيئة القهر والإجبار، ولذلك لم يكن خبر الله بخلاف مخبره بقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} 4، فما يقولون لو أجبرهم على الإيمان وشاء ذلك منهم مشيئة الإجبار؟ 5 أيكون خبر الله في هذه الآية بخلاف6 مخبره، قيل لهم: فما يؤمنكم من قائل يقول إنه لا يصير كذلك ويقول أراده مشيئة الاختيار لا مشيئة الإجبار7، فإن قلتم: لا يقبل منه هذا التأويل لأن المشيئة عامة في المعنيين، قلنا لهم: ونحن لا نقبل منكم هذا التأويل لأن المشيئة عامة في المعنيين8، ولهذا قال رجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاً إن شئت من عبدك أن يدخل   1 البقرة آية (284) . 2 الشورى آية (27) . 3 ذكر هذه المسألة الأشعري في مقالاته وقال: "قالت المعتزلة كلها غير ابن المعتمر: إنه لا لطف عند الله لو فعله بمن لا يؤمن لآمن، ولو كان عنده لطف لو فعله بالكفار لآمنوا ثم لم يفعل بهم ذلك لم يكن مريداً لمنفعتهم فلم بصفوا ربهم بالقدرة على ذلك تعالى الله عما يقولون علوا كبيراً". المقالات 2/247. 4 يونس آية (99) . 5 في - ح- (آجبار) . 6 في - ح- فيها (بخلاف) . (لا مشيئة الإجبار) ليست في - ح-. 8 يعني بذلك أنه يستوي التقدير أن في الآية بأن تقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} قهراً وجبراً، أو تقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} باختيارهم ورغبتهم فلا مانع من التقديرين من ناحية لفظ المشيئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الدار1، فقالت لعبدها: شئت أن تدخل الدار ولا أجبرك عليه، فإنها تطلق بإجماع الفقهاء، ولو أجبرته حتى دخل الدار وحملته بغير اختياره فدخلت به الدار كان في وقوع الطلاق خلاف بين العلماء2، فدل على أن إطلاق المشيئة إنما يصرف إلى إرادة المأمور باختياره وأن إجباره على الفعل لا تنصرف إليه المشيئة.   1 في الأصل (أن يدخل الدار ويدخل) وفي - ح - كما أثبت ولا معنى لكلمة (ويدخل) هنا والله أعلم. 2 لعل مراده بهذا المثال أن لفظ المشيئة يصدق فيه معنى الاختيار والرغبة والإرادة أكثر من معنى القهر والإجبار، فلهذا إذا قالت لعبدها شئت دخولك الدار صار هذا دالاً على المشيئة التي أوقع عليها الطلاق به فتطلق، أما إذا أدخلته الدار قهراً فلا يكون دالاً على المشيئة منها لأنه قد تكون أدخلته الدار وهي كارهة إدخاله لضرورة أو لحاجة، فلهذا لا يصدق القهر والإجبار على المشيئة كما يصدق عليها الاختيار والرغبة، وفي هذا رد على المعتزلة الذين زعموا أن الآيات التي نص الله عزوجل فيها على أنه لو شاء لفعل خلاف ما وقع مثل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} حيث زعموا أن المراد لو شاء إجبار الناس وإكراههم على الهداية والإيمان للفعل، ليصلوا بذلك إلى إنكار واقع الحال من أن الناس مرتبطة مشيئتهم بمشيئة الله عزوجل فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فزعموا أن الله عزوجل ترك للناس الاختيار فلا مشيئة له ولا قضاء نافذ فيهم، بل ما شاؤه كان وما لم يشأؤه لم يكن، فخالفوا بذلك نص القرآن في قوله عزوجل {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وخالفوا جماعة المسلمين بقولهم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 46- فصل استدل القدري المخالف على أن الله سبحانه أراد من أفعال العباد الخير، ولم يرد منهم ما وقع منهم من شر ومعصية1 بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2 قال: واليسر: اسم جنس يدخل تحته كلما يسمى يسراً، ولا شك أن النفع يسر والطاعات من ذلك، والعسر: اسم جنس يستغرق كل عسر ولا شك أن العسر هو الضرر وأعظم المضار النار وما يؤدي إليها، هذا نكتة قوله. والجواب: أن يقال لهذا المستدل: قد رددت التنزيل وأخطأت التأويل، وأما ردك للتنزيل فإنك زعمت أن هذا القول ليس بقول الله حقيقة، فإن لم يكن قوله حقيقة، وإنما هو حقيقة قولك وخلقك فلا دليل لك فيه ولا تأويل. وإن قلت: إنه قول الله حقيقة أجبناك عن تأويلك هذا، وقلنا: الذي دعاك إلى هذا الذي ذكرت جهلك بلغة العرب وبتفسير القرآن، أما لغة العرب فإن أحداً من أهل اللغة ما ذكر أن اليسر: اسم لما ينفع من أعمال الطاعات ولا العسر اسم لما يضر من أفعال المعاصي، وإنما قالوا اليسر: اسم للغنى والرخاء والسعة3. والعسر: اسم للفقر والشدة والضيق4 قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} 5. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: "ابشروا لن يغلب عسر يسرين ويسران   1 انظر: قول المعتزلة في الإرادة ص 329. 2 البقرة آية 185. 3 انظر: لسان العرب 6/4958 وذكر من معاني اليسر السهولة أيضاً. 4 انظر: لسان العرب 4/2938 وزاد من المعاني الصعوبة. 5 الشرح آية (5-6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 يغلبان عسراً" 1، وقال ابن مسعود: "لو أن العسر في حجر لتبعه اليسر حتى يستخرجه لن يغلب عسر يسرين"2. وتفسير ذلك أن العرب إذا ذكرت نكرة ثم أعادتها منكرة فهي غيرها، وإذا ذكرت نكرة ثم أعادت ذكرها بالألف واللام فهي الأولة بعينها، تقول: إذا كسبت درهما فأنفق درهما، فالثاني غير الأول، ولو قال: إذا كسبت درهما فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأول، فلما ذكر الله العسر معرفاً بالألف واللام ثم أعاد ذكره معرفاً بالألف واللام علم أن الثاني هو الأول، ولما ذكر اليسر بغير ألف ولام ثم أعاد ذكره أيضاً علم أن اليسر الثاني غير الأول، فلذلك قيل: "لن يغلب عسر يسرين" فهذا المذكور في لغة العرب، وأما اليسر والعسر المذكوران في الآية التي احتج بها فأراد باليسر السعة في الرخصة بترك الصوم للمسافر والمريض لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ   1 أخرجه ابن جرير والحاكم عن الحسن مرسلاً ولفظه عند ابن جرير "قال الحسن: لما نزلت هذه الآية {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "ابشروا أتاكم اليسر لن يغلب عسر يسرين"، وأخرجه عنه بلفظ آخر وهو رواية الحاكم أيضاً "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم- يوماً مسروراً فرحاً وهو يضحك وهو يقول: لين يغلب عسر يسرين إن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً" وأخرجه ابن جرير عن قتادة مرسلاً أيضاً. انظر: تفسير ابن جرير 30/136، المستدرك 2/528 وليس في شيء من ألفاظه التي رأيت (ويسران يغلبان عسراً) . 2 أخرجه ابن جرير عن رجل عن ابن مسعود رضي الله عنه 30/136، وأخرجه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود مرفوعاً 10/85، وفي إسناده أبو مالك النخعي عبد الملك بن حسين، ضعفه أبو زرعة والدارقطني، وقال ابن معين: "ليس بشيء". ميزان الاعتدال 2/653، وأخرجه الحاكم والبزار مرفوعاً من حديث أنس، وقال البزار: "لا نعلم رواه عنه إلا عائذ بن شريح"، وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: "تفرد به حميد بن حماد عن عائذ وحميد منكر الحديث كعائذ". المستدرك، كتاب التفسير 2/255، كشف الأستار 3/81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 بِكُمُ الْعُسْرَ} 1حين رخص للمسافر في ترك الصوم {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} حين لم يجعل الصوم عليهما متحتماً وهذا كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 2 أي ضيق3 فبطل تعلق المخالف بهذه الآية.   1 البقرة آية (185) . 2 الحج آية (78) . 3 ذكر نحو هذا القرطبي. انظر: تفسيره 2/301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 47- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1، ومعنى {نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ2 الْمَلائِكَةَ} كما سألوا في الفرقان {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} 3 ومعنى {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} لأن كفار قريش قالوا: يا محمد ابعث لنا موتانا فنسألهم عما تحدثنا به أنه يكون بعد الموت4، ومعنى {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} يعني عيانا5 ويقال (قُبُلا) 6 يريد جماع القبيل7، أي ضروب العذاب8 {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} يعني ليصدقوا   1 الأنعام آية (111) . 2 في الأصل (عليهم) وهو خطأ. 3 الفرقان آية (21) . 4 يؤيد هذا ما حكاه الله عنهم في قوله عزوجل: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الدخان آية (34-36) - وقد ذكر ابن جرير في تفسيره بإسناده عن ابن عباس طلبهم إحياء آباءهم ومنهم قصي بن كلاب وكذلك مطالب أخرى أرادوا بها تعجيز النبي - صلى الله عليه وسلم- والتعنت عليه عند قوله تعالى في سورة الإسراء {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً … } الآيات إلى قوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} تفسير ابن جرير 15/164-166. 5 هذا على قراءة من قرأ (قبلا) بكسر القاف وفتح الباء وهي قراءة أهل المدينة فيكون معناها معاينة. انظر: تفسير ابن جرير 8/2. 6 في - ح - (جمعا) ولسيت في الأصل. 7 ذكر ابن جرير أن (قُبُلا) بضم القاف والباء وهي قراءة عامة الكوفيين والبصريين لها ثلاثة أوجه، الوجه الأول: جمع قبيل مثل رُغُف جمع رغيف ومعناه الضمناء والكفلاء. الوجه الثاني: بمعنى المقابلة والمواجهة من قول القائل أتيتك قبلاً لا دبراً، إذا أتاه من قبل وجهه. الوجه الثالث: أن تكون جمع قبيل الذي هو قبيله فتكون قُبُلا جنع الجمع ومعناه صنفا وجماعة جماعة. تفسير ابن جرير 8/2. 8 هذا المعنى يرجع إلى معنى (قبلا) في قوله تعالى في سورة الكهف: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} ، انظر: تفسير القرطبي 11/4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} لهم الإيمان فدل على أن الله لم يشأ لهم الإيمان. فأجاب هذا القدري المخالف وقال: المراد بالمشيئة هاهنا مشيئة الإجبار والقهر ولم يرد مشيئة الاختيار1؛ لأنه لو أراد ذلك لما كان عليهم لوم ولا توبيخ. والجواب: ما قدمناه أن لله تعالى مشيئة2، والاختيار والإجبار يرجعان إلى صفة العبد لا إلى مشيئة الله، وخبر الله لا يقع بخلاف مخبره، وإذا ثبت أنه أراد من الكافر الذي لم يؤمن الإيمان ومن العاصي الطاعة مشيئة الاختيار وقع خبر الله بخلاف مخبره؛ لأنه يقع عليها اسم المشيئة3 وكان ذلك مخالفا لقول جميع أهل التوحيد (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) وأيضاً فلو كان عند رجل لآخر4 دين حال وهو موسر به فطالب من له الدين بدينه اليوم فقال من عليه الدين: امرأته طالق ثلاثا أو حلف بالله ليقضيه حقه هذا اليوم إن شاء الله، فمضى اليوم ولم يقضه، فإن جميع الفقهاء قالوا: لا يحنث بيمينه في الطلاق ولا بالله تعالى، وقضاء الدين الحال واجب، وعلى مذهب القدرية أن الله تعالى لا يوصف بأنه لا يشاء قضاءه لأن تأخير القضاء5 معصية6، ولو كان الأمر كما ذكروه لحكم عليه   1 تقدم قول المخالف هذا والتعليق عليه. انظر: ص381- 382. 2 أي مشيئة مطلقة في كل ما يشاء، ولا دليل على تقييدها بالمعنيين المذكورين. 3 المراد هنا أن القول بأن الله شاء من عباده أن يؤمنوا وشاء من عباده أن يكفروا بمشيئة الاختيار أي باختيارهم هم الذي لا مشيئة لله فيه ولا نفوذ له عليهم فيه على حسب قوله. انظر القدرية يكون هذا بخلاف ما أخبر الله به من عموم مشيئته التي لا تخرج عنها شيء في الوجود، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقد مر جملة من الآيات في هذا ص 381. 4 في - ح- (لرجل آخر) . 5 في - ح - (عن ذلك اليوم) وليست في الأصل. 6 انظر: ما تقدم من قول المعتزلة في أن الله أراد من العباد الطاعات ولم يرد المعاصي والمشيئة والطاعة عندهم بمعنى واحد. انظر: ص381- 382. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 بالطلاق وبالكفارة باليمين بالله، وهذا لم يقله أحد من أهل العلم، بل قالوا جميعا: لا يحكم عليه بالطلاق ولا بالكفارة، لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "من حلف يمينا وقال إن شاء الله كانت له ثنياه"1. ولأن مشيئة الله سبحانه لا تعلم، فإذا وجد القضاء علمنا أن الله شاء القضاء، وإذا لم يوجد القضاء علمنا أن الله لم يشأ القضاء إذ لو شاءه لو قع لأن ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن. وأما قول المخالف: إذا قلتم: إن الله سبحانه لم يشأ ممن لم يؤمن الإيمان فلا لوم عليهم ولا توبيخ، غير صحيح لأن الذم والتوبيخ والعقاب على مخالفة المأمور للأمر، والأمر لا تعلق له بالمشيئة، لأن الأمر يعلمه بمجرد القول لمن هو دونه (افعل) 2 ومشيئة الله لوقوع الفعل المأمور به لا تعلم إلا في ثاني الحال، فإن وفق الله العبد المأمور ولطف به وأعانه على فعل ما أمر   1 أخرجه ت. كتاب النذور والأيمان، (ب. الاستثناء في الأيمان) 1/680، نحوه من حديث عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث خطأ أخطأ فيه عبد الرزاق اختصره من حديث معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- "أن سليمان بن داود قال: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة.." الحديث، وأخرجه الحاكم من حديث كثير بن فرقد عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعاً، مثله وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه هكذا" ووافقه الذهبي. المستدرك، كتاب الأيمان والنذور 4/303 وأخرج أبو داود والترمذي من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً "من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فقد استثنى فلا حنث عليه" قال الترمذي: حديث ابن عمر حسن. وقد رواه عبيد الله بن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعاً، وهكذا روى سالم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - موقوفاً، ولا نعلم أحدا رفعه غير أيوب السختياني ثم قال: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- وغيرهم أن الاستثناء إذا كان موصولا باليسمين فلا حنث عليه وهو قول سفيان الثوري والأوزاعي ومالك بن أنس وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. انظر: د. كتاب الأيمان والنذور، (ب. الاستثناء في اليمين 2/75، ت. كتاب النذور والأيمان، (ب. الاستثناء في اليمين) 4/108. 2 في الأصل (أفعال) وفي - ح- كما أثبت وهو الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 به1 وفعله علمنا أن الله شاء منه وقوع ما أمر به فهو المحمود على فعل ما أمر به، ونعلم أنه أراد إثباته، وإن لم ينعم عليه ويتفضل بالإعانة على فعله ولم يفعله علمنا أنه لم يشأ منه فعل ما أمر به، وعلمنا أنه أراد عقابه وعليه يدل قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 2. وكذلك قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 3.   1 في الأصل (أمر به) وهي في - ح- كما أثبت. 2 الأنعام آية (110) ، وذكر القرطبي في معناها ثلاثة أقوال: القول الأول: أن المعنى: نقلب أفئدتهم وأنظارهم يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر كما لم يؤمنوا في الدنيا (ونذرهم) في الدنيا أي نمهلهم ولا نعاقبهم فبعض الآية في الآخرة وبعضها في الدنيا. القول الثاني: أن المعنى: ونقلب في الدنيا أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة لما دعوتهم وأظهرت المعجزة. القول الثالث: ونقلب أفئدة هؤلاء كيلا يؤمنوا كما لم يؤمن كفار الأمم السالفة لما رأوا ما اقترحوا من الآيات. تفسير القرطبي 7/56-66، ويوافق قال المصنف هنا القولين الآخيرين. 3 البقرة آية (15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 48- فصل ومن الأدلة المذكورة قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 1 في آي كثيرة، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 2 وهذا عام فيما أورده من فعل نفسه وفعل عباده، ولولم يتم ما يريد من ذلك لحقه الوصف بالعجز ويتعالى عن ذلك علوا كبيراً. فأجاب القدري المخالف وقال: لا حجة لهذا المستدل لأن أفعال العباد غير مخلوقة لله فتخرج بجريانه3 عن عموم قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وإنما العباد هم الخالقون لأفعالهم والعجز يلحقه إذا لم يتم ما أراد4 من فعل نفسه، فأما إذا لم يتم ما أراد5 من فعل غيره فلا يلحقه بذلك الوصف بالعجز، لأنه لم يرد مغالبتهم بل أراد فعلهم للطاعة باختيارهم وأمهل من عصى منهم إلى اليوم الموعود، فإقدامهم على ما لم يرد لا يدل على عجزه، كما أن السيد إذا قال لعبده: أعمر هذه الدار في هذا الشهر، فإن فعلت ذلك أعتقتك، وإن لم تفعل ذلك عاقبتك بعد الشهر، فإذا لم يفعل العبد ما أمره به السيد لم يدل ذلك على عجز السيد عن الانتقام منه بل يدل على حلمه، وعلى هذا6 المعنى نبه قوله تعالى7: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} 8 الآية. والجواب عما أورده في ثلاثة فصول:   1 هود آية (107) البروج آية (16) . 2 الحج آية (14) . 3 كذا في النسختين والمعنى يستقيم بدونها. 4 في - ح- (ما أراده) . 5 في - ح- (ما أراده) . (وهذا على) . 7 في كلا النسختين (الغنى) وهو خطأ. 8 الكهف آية (58) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 أحدها: قوله: لا خلق لله ولا فعل له في أفعال العباد، فنقول له: هذا غير مسلم بل أفعال العباد صفات لهم وأعراض فيهم، والله خالق للعباد ولصفاتهم وأعراضهم كما خلق ألوانهم وتركيبهم بدليل قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1 {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2 وقد مضى بيان ذلك وإبطال تأويل المخالف فيه3. الفصل الثاني: قوله: إن العجز إنما يلحقه إذا لم يتم فعل نفسه ولا يلحقه إذا لم يتم فعل غيره، فنقول: هذا غير صحيح؛ لأنه ذكر ذلك على سبيل المدح لنفسه وأخبر بذلك عباده فلا يخرج شيء من إرادته عن امتداحه بتمامها4 ولا يقع خبره بخلاف مخبره كما لا يخرج عن علمه بقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وأما قوله: إنما يلحقه العجز إذا لم تتم إرادته من أفعالهم إذا أراد مغالبتهم، فأما ما5 إذا لم يرد مغالبتهم لم يلحقه عجز، فغير صحيح، ولو كان ذلك دليلاً على ما ذكرت لجاز أن يخرج شيء من الخلق أو من أفعالهم عن ملكه إذا لم يرد مغالبتهم، فلما لم يخرج شيء من الأشياء عن ملكه وسلطانه لم يجز أن يقع شيء في ملكه وسلطانه مما لا يريد وقوعه؛ لأن ذلك يلحقه الوصف بالعجز. ألا ترى أن الملك من العباد لأجل6 محله يلحقه النقص إذا وقع في ملكه وسلطانه شيء من الأمور بغير تدبيره وإرادته، فكيف مالك السموات والأرض7 وما فيهن؟!.   1 الأنعام آية (102) . 2 الصافات آية (96) . 3 تقدم بيان المصنف وإثباته لخلق الأفعال والرد على القدري في إنكاره ذلك في فصول عديدة ابتدأت من الفصل الثامن عشر حتى الفصل الأربعين. 4 وذلك في الآيات المتقدمة وهي قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} {يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} . 5 في - ح- (فإذا لم يرد) . 6 في - ح- (لأهل) . 7 في - ح- (والأرضين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وأما الجواب عن الفصل الثالث: وهو ما أورده من إمهاله لهم وضرب المثل بالعبد، فيقال له: هذا لا يعود إلى ما نحن فيه من وصفه بالعجز إذا لم تتم إرادته، وإنما يلحقه ذلك لو أراد أن يعاقبهم في الدنيا ولم يتم ما يريد من العقوبة، ونحن لا نقول بذلك، بل نقول: لم يرد منهم1 ما لم يقع منهم من الإيمان والطاعة2 ولم يرد عقوبتهم على ذلك في الدنيا، بل أراد تأخير عقوبتهم إلى اليوم الموعود فبطل تعلقه3 بما ذكرناه.   1 في - ح- (نقول لهم يريد منهم) . 2 المراد بذلك أنه لم يشأ وقوع ما لم يقع من الإيمان والطاعة. 3 في - ح- (تعلقه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 49- فصل استدل القدري المخالف بقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} 1، وبقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} 2. وهذا يقتضي نفي إرادته لكل ظلم منه أو من غيره لأنه أدخل حرف النفي وهو (ما) على نكرة فاقتضى3 استغراق الجنس كقول القائل (ما في الدار رجل) ، فإنه يقتضي نفي كل من يقع عليه اسم رجل. هذا نكتة قوله ومعتمده4. والجواب: أن هذا ليس بصريح5 في نقي فعل الظلم من العباد؛ لأنه لو أراد ذلك لقال: (وما الله يريد ظلما من العباد) ، وإنما هو صريح6 في نفي عذاب الله لهم ظلما بغير ذنب كان منهم، وسياق الآية يدل على ذلك وهو قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} ومعنى ذلك مثل أشباه عذاب7 هذه الأمم {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} فيعذب على غير ذنب، ويجوز أن يحمل ما الله يريد ظلما لهم من أعمالهم مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} 8، وقوله تعالى:   1 غافر آية (31) . 2 آل عمران آية (108) . 3 في - ح - (نفى) وليست في الأصل. 4 تقدم ص 275-276 قول المعتزلة في الظلم المنفي وقول القدري هنا من جنس قولهم. 5 في - ح- (والجواب أن يقال ليس بصريح) . 6 في - ح- (وإنما صرح) . 7 في الأصل (العذاب) وما أثبت من - ح- وهي الأنسب للعبارة. 8 النساء آية (40) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} 12 وحمل الآية على أنه لم يرد وقوع الظلم منهم صرف للكلام عن ظاهره بغير دليل. والدليل على صحة هذا التأويل أنك تقول: علمت الظلم من زيد ورأيت الظلم من زيد إذا علمته أو رأيته يظلم غيره بنفسه، ولا تقول: علمت الظلم لزيد ولا رأيته لزيد3 إلا إذا رأيت أو علمت4 من غيره له. ويقال للخصم: إذا ادعيتم العموم بقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} قابلك خصمك بالعموم بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 5 وبقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 6، فلو أراد ممن لا يؤمن الإيمان أو من العاصي الطاعة لكان يعاضده7 أن الكافر والعاصي أراد المهصية وإرادتهم متعلقة بإرادة الله تعالى بدليل قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 8، والقرآن لا يتناقض بل يعاضد بعضه بعضا9، قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ   1 يونس آية (44) . 2 تقدم ص 213 أن هذا هو الظلم المنفي عن الله عزوجل، وأن هذا هو قول أكثر أهل السنة وتقدم بيان أن المصنف - رحمه الله - يوافق القائلين بأن الظلم هو كل ما لا يدخل تحت القدرة، وكل ما يدخل تحت القدرة فليس ظلما، وهذه الآيات والتفسير الذي ذكره المصنف - رحمه الله - هنا يبين بطلان هذا القول حيث نفى الله عزوجل إرادته للظلم ووصف التعذيب على غير ذنب وتحميل العبد من السيئات ما لم يعمل أو إضاعة حسناته ظلما مع أنه قادر جل وعلا على ذلك. (لزيد) ليست في - ح-. 4 في - ح - (وعلمت) . 5 الحج آية (14) . 6 هود آية (107) . 7 هكذا في النسختين ولا معنى هنا ولعلها (يعارضه) لأنه بها يستقيم الكلام. 8 الإنسان آية (30) ، التكوير آية (29) . 9 مراد. بهذا أن القول بأن الله أراد من الكافر الإيمان والكافر أراد الكفر يؤدي إلى تناقض القرآن، لأن الله قد ذكر إن إرادتهم ومشيئتهم تابعة لمشيئته جل وعلا في قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 1. والقدرية يسقطون أكثر الآي بعقولهم الفاسدة وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وقوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2، وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، وأهل السنة يأخذون بالجميع ويقدمون الكتاب والسنة على أدلة العقل.   1 النساء آية (82) . 2 النحل آية (93) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 50- فصل استدل المخالف القدري على أن أفعال المعصية مكروهة عند الله بقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ} ثم قال بعد ذلك {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} 1، وإذا كان مكروها عند الله فكيف يريده لأنه يستحيل أن يكون مريدا للشيء كارها له. والجواب: أن ما2 يستحيل ويتنافض أن لو قلنا إنه أمر به وأوجبه أو استحب وقوعه3، وكرهه وأما إذا قلنا بل نهى عنه وحرمه وجعله سيئه ومكروها في حق المنهي عنه وأراد4 مع النهي عنه فلا يتناقض ولا يستحيل، كما أنه أراد خلق الكفار وإبليس وعلم أنهم يخالفون أمره فهو5 يبغضهم ولا يحبهم، فإذا لم يستحل إرادته لخلقه لهم مع بغضه لهم لم يستحل إرادته لأفعالهم مع كراهيته لها.   1 الإسراء الآيات (31-32-33، 38) . 2 هكذا في الأصل وفي - ح - (أن ذلك إنما) . 3 قوله (أو استحب وقوعه وكرهه) يقصد بذلك أن يجمع في الفعل بين الحب والكراهة. 4 هكذا في النسختين ولعلها (وأراده) والمراد هنا بالإرادة إرادة الخلق والتكوين والإيجاد، لأن الله قد بين لنا في آيات عديدة أنه لا يأمر بالفحشاء، وأنه لا يحب الفساد ولا يرضاه، وقد تقدم بيان أن الإرادة في كتاب الله نوعان إرادة كونية قدرية وإرادة دينية شرعية. انظر: ص 329- 330. 5 في - ح- (وهو) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 51- فصل استدل القدري بقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} 1، والمحبة والإرادة واحدة لأنه لا يجوز نفي أحدهما وإثبات الأخرى2، فلا يجوز أن يقول قائل: أريد أن تأكل طعامي وما أحب أن تأكله، ولا أن يقول: أحب أن تأكل طعامي وما أريد أن تأكله، ولو قال ذلك لعد متناقصا وصار بمنزلة من قال: أريد أن تأكل طعامي وما أريد أن تأكله. والجواب: أنا لا نسلم له أن المحبة هي الإرادة بدليل قوله تعالى: {فَإِنَّ3 اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 4، ومعلوم أنه أراد وجودهم وخلقهم، وإنما معنى أنه لا يحبهم أي لا يرضى عملهم أو لا يغفر لهم5، فيكون معنى قوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أي لا يرضاه ربنا كقوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 6 أي لا يرضاه لهم دينا وإن أراد وقوعه منهم. وأما قول هذا القائل: لا يجوز أن يقول: أريد أن تأكل طعامي وما أحب أن تأكله، فغير صحيح، فإن الإنسان قد يريد أكل طعام يبغضه7، ولا يحبه لعلة لا يقفها أكله8.   1 البقؤة آية (205) . 2 تقدم بيان أن المعتزلة لا يفرقون بين الإرادة والمحبة ويجعلون الإرادة مستلزمة للأمر، والأمر دليل على الإرادة وكل ما أراده الله أمر به وأحبه ورضيه. انظر: ما تقدم ص 329. 3 في كلا النسختين (أن) والصواب ما أثبت. 4 آل عمران آية (32) . 5 هذا إذا ماتوا وهم كفار فإن الله لا يغفر لهم. 6 الزمر (7) . 7 في - ح- (من يبغضه) . 8 هكذا في الأصل وفي نسخة - ب - كتبها (لا يفقهها) وفي - ح - (لا يقفها إلا أكله) ولم يتبين لي المراد منها ومعنى الكلام في الجملة واضح وهو (أنه قد يريد الإنسان أكل طعام لا يحبه لمرارته وإنما أكله لقول الطبيب الحاذق) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ذلك الطعام لقول1 الطبيب الحاذق، ولا يحب أكله لمرارته أو معنى فيه، فكلما مضغه رجع من حلقه فيقول: أريد أكله ولا أحب أكله بل أبغضه. ويتصور2 مثل ذلك فيمن عنده طعام يحتاج إليه لنفسه فيقول له: السلطان أو القاهر له إما أن أقتل ولدك أو تُطِعم هذا الطعام، فيرى أن بذله للطعام أهون من قتل ولده، فتوجد منه الإرادة لأكل القاهر له الطعام لسلامة ولده مع محبته ألا يأكله لحاجته إلى طعامه، فثبت أن الإرادة غير المحبة وقد تقع الآكل3 في أنملة إنسان ويقال له لا ينفعك إلا قطعها فيقول للطبيب: أقطعها، فقد أراد قطعها ولا يحبه ويكرهه فدل ذلك على بطلان ما أورده4.   1 في - ح- كقول. 2 في الأصل (فيتصور) وما أثبت من - ح- وهو الأنسب للعبارة. 3 الآكله: داء يقع في العضو فيتأكل منه. اللسان 1/102. 4 الحق أنه لا تلازم بين الإرادة والمحبة فليس كل ما أراده الإنسان أحبه وليس كل ما أحبه أراده، وإن كان الأغلب الأعم أن الإرادة بالنسبة للإنسان تتبع المحبة، والمحبة تتبعها الإرادة ولا يختلف هذا إلا في الاضطرار أو الإكراه أو القصور عن تحصيل الشيء، وما ذكره المخالف من المثال ليس فيه تناقض، بل قد يقول الإنسان لأحد من الناس أريد أن تأكل طعامي وما أحب أن تأكله لحاجتي إليه، أو يضمر ذلك في نفسه ونحوا من ذلك، إلا أن الأمر بالنسبة لله ليس كما هو الحال بالنسبة للإنسان، فإن الله لامكره له ولا تقصر قدرته عن شيء وقادر على أن لا يكون في هذا الوجود إلا ما أراده وأحبه ورضيه، ولكنه لم يفعل ذلك لحكمة وغاية هو أرادها جل وعلا، حيث خلق الخلق لعبادته وأراد بذلك أن يبلوهم لينعم على المحسن بجنته، ويعاقب الكافر بالعذاب الأليم جزاءا وفاقاً. ولما كان هو السيد المطلق والرب القادر على كل شيء لم يخرج شيء في هذا الوجود عن هذه السيادة والربوبية والقدرة المطلقة، ولما كانت سلعته جل وعلا الجنة لم يتركها سلعة مبذولة يتمكن منها الطيب والخبيث، بل جعل الله أمرها ومفتاحها بيده ينعم به على من يشاء من خلقه فضلا ومنة وكرماً، أعني بمفتاحها الهداية إلى صراطه المستقيم فأمر جل وعلا بأوامر أرادها وأحبها ورضيها وأراد وجودها من أناس من خلقه ففعلوها فنالوا رضاه، ونهي عن نواهي يكرهها ولا يحبها ويبغضها وأراد وجودها من أناس من خلقه ففعلوها باختيارهم وإرادتهم التي لا تخرج عن إرادة الله جل وعلا، فأذاقهم بفعلهم العذاب الأليم وهو العادل المطلق وله الحكمة البالغة، جل وعلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 المجلد الثاني تابع: النص المحقق ... 52- فصل ومن الدليل لنا أن الله سبحانه أمر بما أمر لما يرد وقوعه: وهو1 أن الله أمر نبيه إبراهيم بذبح ولده2 بدليل قوله إخباراً عن ولده إبراهيم لأبيه3: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ؛ لأنه أمره به في المنام ثلاث ليال4، ولم يرد منه الذبح، إذ لو أراد منه الذبح لوقع عندنا5 ولما نهاه عنه عند6 القدرية؛ لأنه لا يجوز أن ينهاه عن الحسن عندهم7. فأجاب المخالف القدري عن ذلك وقال: لا يأمر الله إلا بما يريد وقوعه، وأما إبراهيم قد اختلف فيما أمر به. فمنهم من قال: إنما أمره الله بمقدمات الذبح ولم يأمره بنفس الذبح، بل   (وهو) ليست في - ح-. 2 الآيات الدالة على هذا قوله تعال في سورة الصفات: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الآية 101 - 107. 3 في الأصل (بأنه) وهي في - ح- كما أثبتها وهي الأصوب لاستقامة العبارة. 4 ذكر هذا القرطبي عن مقاتل. انظر: تفسير القرطبي 15/101. 5 ذكر هذا القول القرطبي وابن كثير وانتصرا له واعتبرا أن الأمر كان الذبح، إلا أنه نسخ قبل الفعل وذكره ابن القيم واعتبره من باب النسخ قبل الفعل، وأن المراد بالأمر تحقق وهو امتحان إبراهيم الخليل عليه السلام في شدة حبه لله وتقديمه هذه المحبة على كل ما سواه، فلما تم الامتثال وعزم على الفعل نسخ الحكم حيث تم المراد منه، وقول المصنف هنا "إذ لو أراد الذبح لوقع" أي لوجب وقوعه لأنه لا يتم امتثال الأمر إلا به. انظر: تفسير القرطبي 15/102، مفتاح دار السعادة2/932، فتح القدير 4/405. 6 في - ح- (وعند) . 7 لأن القدرية يرون أن كل ما أمر به أراده وأن الإرادة متعلقة بالواجبات والمندوبات فقط. انظر: ص 255. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 صار إبراهيم مستشعرا لورود الأمر بالذبح ولذلك قال الله: قد صدقت الرؤيا. ومنهم من قال: إنما أمره بالذبح وأن إبراهيم - رضي الله عنه - كان كلما فرى المَذْبَح من جانب التحم ما فراه فعلى كلا الأمرين، فقد1 فعل إبراهيم ما أمر به2. والجواب: عن القول الأول من أوجه: أحدها: أنه خلاف القرآن؛ لأن الله أخبر عنه أنه قال: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} 3، وروي أن الله لما بشره بإسحاق قال هو إذاً لله ذبيحاً4،   1 في - ح- (القولين قد) . 2 في - ح- (ما أمره) . 3 في - ح- بزيادة (فانظر ماذا ترى) . 4 اختلف العلماء في الذبيح من هو فقال جماعة: إن الذبيح هو إسحاق عليه السلام وممن روي عنه هذا القول من الصحابة عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس في رواية، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -، وهو قول جماعة من التابعين، وممن قال به الإمام مالك وهو اختيار ابن جرير الطبري، وهو قول المصنف. القول الثاني: إن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، وروي هذا عن جماعة من الصحابة هم أبو هريرة، وعامر بن واثلة، ورواية عن ابن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهم -، وبه قال من التابعين سعيد بن المسيب، والشعبي، ويوسف بن مهران، ومجاهد، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي، وعلقمة، والحسن البصري، وأبو عمرو بن العلاء، وهو الثابت عن الإمام أحمد وهو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية ابن كثير وقال بعد أن ذكر القائلين بأنه إسحاق: وهذه الأقوال والله أعلم كلها مأخوذة عن كعب الأحبار فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر - رضي الله عنه - عن كتبه قديماً، فربما استمع له عمر - رضي الله عنه - فترخص الناس في استماع ما عنده وتقبلوا ما عنده غثها وثمينها، وليس لهذه الأمة - والله أعلم - حاجة إلى حرف واحد مما عنده. وقد ذكر شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى الأدلة على أنه إسماعيل عليه السلام، وقال: إنه الذي يجب القطع به وهو الذي عليه الكتاب والسنة والدلائل المشهورة وهو الذي تدل عليه التوراة التي في أيدي أهل الكتاب، ثم ذكر الأدلة على ذلك. فتراجع القول الثالث: الوقف في ذلك لعدم الدليل المرجح، وبه قال الزجاج ومال إليه الشوكاني في فتح القدير. انظر: تفسير ابن جرير 23/76-86، تفسير القرطبي 5/99-101، تفسير ابن كثير 4/17-18، فتح القدير 4/403-404، مجموع الفتاوى 4/33، 336، البداية والنهاية 1/171، 174. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 فلما بلغ معه السعي قال: وقت العمل، وقيل: المشي1 إلى الجبل، رأى في المنام ثلاث ليال متتابعات أنه يذبحه، فلما دخل معه الشعب قال: يا أبت2 أين قربانك الذي تتقرب به إلى الله، قال: يا بني أنت قرباني إني رأيت في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال: يا أبت افعل ما تؤمر3. والوجه الثاني: أنه لو كان المأمور به هو مقدمات الذبح لما قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} . وروي أنه قال: يا أبت اقذفني للوجه كيلا تنظر إلي فترحمني وأنظر أنا إلى الشفرة فأجزع ولكن أدخل الشفرة من تحتي وامض لأمر الله واربط يدي إلى رقبتي4. وروي أنه لما أراد ذبحه أخذ الشفرة والرسن5 وذهب بإسحاق، قال ابن   1 في - ح- (السعي) وفي الأصل كما أثبتها وهو الصواب إن شاء الله، لأن ابن جرير ذكر فيها قولين، القول الأول: أنه بلغ مع أبيه وقت العمل وهو الذي رجحه، والقول الثاني: أن معناها لما بلغ معه المشي وهو قول قتادة، والله أعلم. 2 في الأصل (يا أبت أفعل ما تؤمر) وهو في - ج- كما أثبت وهو الموافق للرواية عند السدي. 3 أورد هذا ابن جرير بسنده عن السدي إلا أنه لم يذكر قوله: (دخل معه الشعب) وإنما ذكر (أنه ذهب به بين الجبال) والشعب لا يكون إلا بين الجبال. انظر: تفسير ابن جرير (23/78) . 4 أخرجه ابن جرير بسنده عن عكرمة 23/79. 5 الرسن: الحبل. انظر: اللسان 3/1647. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 عباس هو إسماعيل1، فلقي إبليس إسحاق فقال: أفتدري ما يريد بك؟، قال: لا، قال يريد أن يذبحك، قال: ولو، قال: يزعم أن ربه أمره بذلك. قال: هو أهل أن يطيع ربه، فتركه وأتى سارة فقال: يا سارة أين ذهب إسحاق؟، قالت: أمره أبوه أن يتبعه، قال: فما أخذ قالت: الشفرة2 والرسن، قال: أفتدرين ما يريد؟ قالت: لا، قال: يريد أن يذبحه، قالت ولم؟ قال: يزعم أن ربه أمره بذلك3، قالت: هو أهل أن يطيع ربه. فلما أراد أن يذبحه قال له: أي أبت أوثقني لا أجد حر السكين فأضطرب، فأوثقه فجعل يمر السكين على حلقه وملك يقلبها حتى عرف الله منه الصدق فنودي بالفداء، فأوحى الله إليه أن يا إسحاق: إن لك بما صبرت للذبح دعوة، قال: يا أبت ائذن لي أن أدعو بها4، قال: بل أخرها إلى يوم القيامة، قال: يا أبت ائذن لي أن أدعو بها قال: ادع بها، قال: اللهم لا يلقاك أحد مخلصا بأنه5 لا إله إلا أنت إلا أدخلته الجنة6، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبقني بها إسحاق "7.   1 ابن عباس - رضي الله عنه - روي عنه في الذبح أنه إسحاق، وروي كذلك عنه أنه إسماعيل. انظر: تفسير القرطبي 15/99 - 100، تفسير ابن كثير 4/17-18. 2 في - ح- أخذ الشفرة. (بذلك) ليست في - ح-. 4 في - ح- زيادة (قال بل أخرها) . 5 في - ح- (بأنك) . 6 أخرج نحو هذا الحاكم عن كعب الأحبار، وقال: إسناد صحيح لا غبار عليه، ووافقه الذهبي. المستدرك، كتاب التاريخ (2/557) ، وانظر: الدر المنثور 8/108. 7 أخرج الديلمي بإسناده عن مقاتل بن سليمان الأزدي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعاً: "لما فدى الله عزوجل إسحاق من الذبح أتاه جبريل فقال: يا إسحاق إنه لم يصبر أحد من الأولين والآخرين مثل ما صبرت وأن لك عند الله دعوة مستجابة ادع بها، فقال: (اللهم أيما عبد لك من الأولين والآخرين يشهد أن لا إله إلا أنت فاغفر له) "سبقني أخي إسحاق إلى الدعوة" هكذا في فردوس الأخبار 3/471، ومقاتل بن سليمان اتهم بالذب. انظر: المجروحين لابن حبان 3/14، ومن حديث أبي هريرة مرفوعاً وقال ابن كثير: هذا حديث منكر، وعبد الرحمن بن أسلم ضعيف الحديث. تفسير ابن كثير 4/16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 والوجه الثالث: أنه لو كان المأمور به هو مقدمات الذبح الذي فعله لما احتاج إلى الفداء. وقد قال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} وأما قوله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} أي اطلع الله على صدق إرادتك وقوة عزيمتك على الذبح فكافأه الله على ذلك وفداه بالذبح. وأما الجواب عن قول من قال: إنه قد قطع حلقه ولكن كلما قطع شيئاً التحم. أن يقال: لا يستحيل ذلك بقدرة الله، ولكن لو كان ذلك كما ذكر لأخبر الله عنه؛ لأنه من الآيات الباهرة، فقد أخبر عن صبر إبراهيم وولده وهذا أولى بالإخبار، وأيضاً فلو كان لما احتيج معه إلى الفداء؛ لأنه قد فعل ما أمر به1. ويدل على أن الله سبحانه أمر بما لم يرد وقوعه ما روي في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فرض الله على أمتي ليلة المعراج خمسين صلاة، فلما لقيت موسى بن عمران قال: ما فعل معك ربك؟ قلت2: فرض على أمتي خمسين صلاة، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا   1 انظر: تفسير القرطبي 15/102 فقد ذكر هذه الأوجه المذكورة هنا على نحو ما ذكره المصنف - رحمه الله -. 2 في - ح- (قال: قلت) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 تطيق ذلك، فراجعنته فنقص منهم خمساً فما زلت أتردد بين ربي وبين موسى حتى جعلها خمساً فقال موسى: ارجع إلى ربك1 فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك. فقال: إني أستحيي من ربي، فإذا النداء من عند الله: ألا إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وجعلت الحسنة بعشر أمثالها هي خمس وهن خمسون ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد" 2. وهذا الخبر إنما يؤمن به من يؤمن بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم القرآن والإسراء، فأما القدرية فإنهم يردون الإسراء وما فيه من الأحاديث، كما ردوا المعجزة في القرآن بأنه ليس من كلام الله3. ومما يدل على أن الله سبحانه أمر بما لم يرده وقوعه هو أن الله سبحانه أمر الناس بالجهاد والخروج إلى غزوة تبوك، فقال: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} 4 الآية، ثم أخبر عن المنافقين واستئذانهم للنبي صلى الله عليه وسلم في التخلف لما بعدت عليهم المشقة إلى قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} والتثبيط: ردك للإنسان عن الشيء يفعله5 {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} 6 أي ألهموا ذلك في قلوبهم. فأجاب القدري المخالف عن هذا وقال:   (إلى ربك) ليست في - ح-. 2 هذا قطعة من حديث المعراج وقد أخرجه خ، كتاب الصلاة (ب. كيف فرضت الصلوات) 1/66، كتاب الأنبياء (ب. ذكر إدريس عليه السلام) 4/109، كتاب التوحيد (ب. وكلم الله موسى تكليما) 9/121 من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنهما - وأخرجه م، كتاب الإيمان (ب. الإسراء وفرض الصلوات الخمس 1/145 - 149 من حديث أنس بن مالك - رضي اله عنهما -. 3 سيفرد المصنف - رحمه الله - فصولا في إثبات الإسراء والمعراج وكذلك في إثبات الكلام لله عزوجل ويرد على المعتزلة في ذلك. 4 التوبة آية (41) . 5 انظر: لسان العرب 1/470. 6 الآيات في التوبة من 41-46. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 لا حجة بهذه الآية1، لأن الله سبحانه إنما ثبطهم وكره انبعاثهم لأن خروجهم لم يكن للجهاد، وإنما كان غرضهم المعاندة والفساد، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً … } إلى قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً} 2. والجواب أنا نقول: الحجة لنا في أن الله أمرهم بالخروج ولم يرد خروجهم لأنه ثبطهم عنه ولم يقدرهم عليه، وإن كان المعنى الذي ثبطهم لأجله هو ما ذكرت3 من خروجهم للفساد فقد حال بينهم وبين ما أمرهم به بتثبيطه لهم، وهذا موافق لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} 4. وهذا كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} 5 وقوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} 6. استدل المخالف على أن الله لا يأمر إلا بما يريد وقوعه: أن صيغة الأمر وهو قوله: افعل، قد يرد والمراد به7 الأمر، ويرد والمراد به التهديد، ويرد والمراد به الإباحة، وترد والمراد بها التصغير والتحقير كقوله {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُون} ِ8. ولا بد من مخصص يقتضي كون هذه الصيغة أمراً وليس ذلك إلا كون الآمر مريداً لحدوث المأمور به9.   (بهذه الآية) ليست في - ح-. 2 التوبة 46-47. 3 في - ح- (ما ذكره) . 4 الأنفال آية (24) . 5 الكهف آية (101) . 6 هود آية (20) وفي - ح- أكمل الآية {وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} . 7 في - ح- (بها) هنا وفي المواضع الثلاثة الآتية. 8 المؤمنون آية (108) وقوله (ولا تكلمون) ليست في - ح-. 9 هذا مذهب المعتزلة القدرية في أن الأمر دليل على الإرادة وأن صيغة الأمر لا دليل عليها إلا إرادة الآمر وقوع الأمر. انظر: كلام أبي الحسن البصري المعتزلي في: المعتمد في أصول الفقه (1/49-56) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 لا حجة بهذه الآية1، لأن الله سبحانه إنما ثبطهم وكره انبعاثهم لأن خروجهم لم يكن للجهاد، وإنما كان غرضهم المعاندة والفساد، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً … } إلى قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً} 2. والجواب أنا نقول: الحجة لنا في أن الله أمرهم بالخروج ولم يرد خروجهم لأنه ثبطهم عنه ولم يقدرهم عليه، وإن كان المعنى الذي ثبطهم لأجله هو ما ذكرت3 من خروجهم للفساد فقد حال بينهم وبين ما أمرهم به بتثبيطه لهم، وهذا موافق لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} 4. وهذا كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} 5 وقوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} 6. استدل المخالف على أن الله لا يأمر إلا بما يريد وقوعه: أن صيغة الأمر وهو قوله: افعل، قد يرد والمراد به7 الأمر، ويرد والمراد به التهديد، ويرد والمراد به الإباحة، وترد والمراد بها التصغير والتحقير كقوله {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُون} ِ8. ولا بد من مخصص يقتضي كون هذه الصيغة أمراً وليس ذلك إلا كون الآمر مريداً لحدوث المأمور به9.   (بهذه الآية) ليست في - ح-. 2 التوبة 46-47. 3 في - ح- (ما ذكره) . 4 الأنفال آية (24) . 5 الكهف آية (101) . 6 هود آية (20) وفي - ح- أكمل الآية {وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} . 7 في - ح- (بها) هنا وفي المواضع الثلاثة الآتية. 8 المؤمنون آية (108) وقوله (ولا تكلمون) ليست في - ح-. 9 هذا مذهب المعتزلة القدرية في أن الأمر دليل على الإرادة وأن صيغة الأمر لا دليل عليها إلا إرادة الآمر وقوع الأمر. انظر: كلام أبي الحسن البصري المعتزلي في: المعتمد في أصول الفقه (1/49-56) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 تكون الصيغة أمراً وإن كره المأمور به1. وأما قوله: يكون الأمر تهديداً والتهديد2 أمراً فغير صحيح، لأنا قد قلنا الأمر3 هو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب عند من قال: إن المندوب ليس مأموراً4 به5، والتهديد ليس باستدعاء الفعل فبطل ما قاله. استدل المخالف: أن العقلاء متى سمعوا أو علموا أن الواحد أمر بشيء من الأشياء علموا أنه مريد لحدوثه. والجواب: أنا لا نسلم، بل قد يحسن من الأشياء الأمر بالشيء ولا يريد حدوثه. ألا ترى أنه لو كان لرجل عبد وكان لا يطيعه فيما يأمره به فعاقبه على ذلك وشكاه العبد إلى قاهر له أو صديق له فقال له: لم عاقبت عبدك   1 ما ذكره الشيخ هنا يتعلق بالأمر الذي يلزم منه المحبة، فقد يأمر الإنسان بأمر لا يحبه لسبب من الأسباب الطارئة عليه، وهو دليل على أن الأمر قد يفارق الإرادة بالنسبة للإنسان الذي قدته وطاقته محدودة لا يستطيع أن يأمر بكل ما يريد ولا يوقع كل ما أراد، أما بالنسبة لله عزوجل فإنه إذا أراد شيئا وقعت وإذا قضى قضاءا نفذ، إلا أن كلمته اقتضت أن يمتحن العباد بالأوامر والنواهي ليسعد بعضهم بطاعته ويشقى بعضهم بمعصيته، فأمرهم بأوامر شرعية أحب وقوعها منهم، ونهاهم عن نواهي كره وقوعها منهم، فهذا النوع من الأمر يلزم منه الإرادة التي هي مستلزمة للحب والرضا وعلى هذا تحمل جميع الأوامر الشرعية، ثم إنه جل وعلا له الأمر النافذ والإرادة التامة المستلزمة لوقوع الفعل من عباده بالنسبة للطاعة والمعصية، فمن أراد منه الطاعة وقعت لا محالة وهذا يصدق فيه أنه أمره بأمر شرعي أراد وقوعه مه قضاء وقدرا وأحبه ورضيه، ومن أراد منه المعصية وقعت لا محالة وهذا يصدق عليه أنه نفذ فيه أمر الله الذي لا يختلف، وأنه أمره بأمر شرعي لم يرد وقوعه منه وهذا هو الذي ينكره المعتزلة مع ظهوره ووضوح الدلالة عليه من القرآن والسنة كما هو ظاهر في كلام الشيخ - رحمه الله -. 2 في - ح- (أو التهديد) . (الأمر) ليست في - ح-. 4 في - ح- (بأمر به) . 5 أنكر الكرخي والرازي والجصاص أن يكون المندوب مأمورا به، والأكثر على أن المندوب مأمور به فعلى هذا يقسمون الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب. انظر: نزهة الخاطر العاطر 1/114. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 ، قال: لأنه لا يطيعني، قال: فما الدليل، قال: أريك ذلك مشاهدة، فاستدعى عبده بحضرة من عاتبه عليه وأمره بأمر ليقرر عذره عند من عاتبه على عقوبته، فإنه يحب أن لا يفعل المأمور به ليكون صادقاً عند من عاتبه، فلو كانت إرادة المأمور به شرطاً في الأمر لما تمهد عنده عذره لأنه يقول له أمرته بفعل ذلك وأنت لا تريد وقوعه منه1 فبطل بذلك ما تعلق به المخالف.   1 ذكر هذا المثال الغزالي في المستصفى 1/415. وابن قدامة في روضة الناظر 2/68. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 53- فصل استدل المخالف على مذهبه بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} 1. قال: ولا شك أن ضلالهم شر وقد أراده2، فأي لوم على من أضاف إلى الشيطان ما أضاف الله إليه من الشر. والجواب: أنا لا ننكر أن الشيطان يريد الشر ولا يريد الخير، وإنما الخلاف بيننا أن الله أراد كل كائن من الخلق من خير وشر، فنقول: إن الله أراد الشيطان وخلقه وأراد إرادته وخلقها فيه، وأراد إغواء3 إبليس فأغواه، ولهذا قال إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ} 4 فنسب الإغواء إلى الله، وليست الآية حجة له أن الله لم يرد إرادته، بل قد دل على ذلك بآية أخرى وهي قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 5.   1 النساء آية (60) . 2 المراد بهذا الشيطان. 3 في الأصل (غوى) وما أثبت من - ح- وهو الأصوب. 4 الحجر آية (39) وفي - ح- كتبت (لأزينن لهم في الأرض) . 5 الإنسان آية (30) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 54- فصل استدل المخالف بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} 1 فأخبر الله تعالى أنه يريد لهم الهداية والبيان والتوبة، وأن المتبعين للشهوات يريدون منهم الميل عن الصواب. والجواب: أنه لا حجة للمخالف بما ذكر، لأنا ننكر أن الذين يتبعون الشهوات يريدون الميل عن الحق، ولكنا نقول إن الله تعالى أراد وجودهم وخلقهم وأراد إرادتهم وخلقها بدليل قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2، وإرادتهم صفة لهم، وصفاتهم مخلوقة لله تعالى كألوانهم وهيآتهم. وبيان معنى الآية أن الله سبحانه لما بين المحرمات في النكاح، وبين لهم من يحل لهم نكاحه من الإماء قال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} 3 يعني لبين لكم حلال النكاح وحرامه ويعرفكم العدد4 في تزويجكم الإماء إذا لم تقدروا على تزويج5 الحرائر، ثم قال {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي يرشدكم سنن6 الأنبياء والذين من قبلكم من المؤمنين أي شرائعهم {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يعني يتجاوز عنكم من نكاحكم إياهن قبل التحريم، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما يدخل في الأمور المحظورة التي بين أمرها {حَكِيمٌ} في جميع ذلك {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يعني من نكاحكم7 إياهن قبل التحريم، وهذا   1 النساء آية (27) . 2 الإنسان آية (30) . (لبين لكم) ليست في-ح-. 4 هكذا فيا لنسختين والمراد بها هنا غير واضح. 5 التزويج: الاقتران ومنه قوله عزوجل: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثاً} . انظر: لسان العرب 3/1886. (سنن) ليست في - ح-. 7 في - ح- (نكاحهم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 التكرار للإطناب والتشديد1 {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَات} يعني الزنا، وذلك أن اليهود زعموا أن نكاح بنت الأخت من الأب حلال2 وذلك3 {أَنْ تَمِيلُوا} عن الحق {مَيْلاً عَظِيماً} في استحلال بنت الأخت من الأب {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} في تزويج الأمة إن لم تجدوا طولاً للحرة {وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفاً} لا يصبر عن الجماع4.   1 هكذا في النسختين ولعلها (والتأكيد) . 2 ذكر ابن جرير في تفسيره 5/28 عن اليهود أنهم يجيزون نكاح الأخت لأب، وكذلك نقله السيوطي في الدر المنثور 5/493 عن ابن أبي حاتم بسنده عن مقاتل ابن حيان، والذي في كتابهم تحريم الأخت لأب، فقد ورد عندهم: "عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة في البيت أو المولودة خارجا لا تكشف عورتها" سفر اللاويين الاصحاح الثامن عشر الفقرة التاسعة، وورد عندهم في سفر التثنية الاصحاح السابع والعشرين "ملعون من يضطجع مع أخته بنت أبيه أو بنت أمه" ولم يرد في كتبهم الموجود تحريم بنت الأخت لأب ولا الشقيقة، والله أعلم. وقد ذكر ابن جرير في الذين يتبعون الشهوات ثلاثة أقوال، فقيل: إنهم الزناة، وقيل: اليهود والنصارى، وقيل هم كل متبع شهوة في دينه وهو الذي رجحه. 3 في الأصل (فكذلك) وما أثبت من - ح- وهو الأصوب. 4 ذكر نحو هذا ابن جرير في تفسيره 5/26-30، والقرطبي 5/147 - 148. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 55- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة مما روي عن ابن عباس – رضي الله عنه - أنه قال: "الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن آمن بالله وكذب بالقدر كان تكذيبه بالقدر نقضاً لتوحيده"1. وصدق – رضي الله عنه -، فإنه لا يصلح للقدري القول بالتوحيد إلا وناقضه، لأن الله سبحانه نبه على وحدانيته بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 2، وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 3. ومعنى قوله: {لَفَسَدَتَا} لوقع الخلاف والتضاد كما نرى ذلك في الشاهد في ملوك الدنيا، ولكان إذا أراد أحدهما شيئاً أمكن الآخر خلافه فيفسد التدبير4 وحقق الموحدون التغالب5 والتمانع6 في المعنى المراد بقوله: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} .   1 أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة (2/422) ، واللالكائي في السنة 4/623-670، والآجري في الشريعة ص 215، ونسبه في مجمع الزوائد إلى الطبراني في الأوسط. المجمع الزوائد 7/197. 2 الأنبياء آية (22) . 3 المؤمنون آية (91) . 4 المعنى الذي ذكره المصنف هنا لا دليل عليه من الآية، لأن الآية نصت على إثبات الفساد لو كان في السموات والأرض آلهة غير الله، لأنه لا يصلح شان السموات ولأرض إلا الله عزوجل، فهي دليل على إثبات وحدانية الله بالعبادة وهذه الوحدانية تتضمن الوحدانية في الخلق والإيجاد والقدرة التامة والإرادة الكاملة. انظر: تفسير ابن جرير 17/13، درء تعارض العقل والنقل 9/369 - 377، مفتاح دار السعادة 2/11. 5 في - ح- (الغالب) . 6 التغالب والتمانع بمعنى أنه لابد أن يتغالبنا ثم إذا تغالبنا امتنع أن يكون المغلوب المقهور إلهاً، فلا بد أن يكون الإله واحداً والآية قررت إثبات الوحدانية المتضمن للربوبية بطريقة واضحة ظاهرة وهي أنه لو كان في السموات والأرض آلهة للزم من ذلك أمران: الأمر الأول: أن يذهب كل إله بخلقه الذي خلقه. الأمر الثاني: أن بعلو بعضهم على بعض فيتغالبوا فيسقط الضعيف ويبقى القوي هو الإله. فالشركة في الإلهية غير ممكنة عقلا بهذا الدليل الواضح. انظر: تفسير ابن جرير 18/49، تفسير القرطبي 12/146، الصواعق المرسلة لابن القيم 2/463 تحقيق علي بن محمد الدخيل الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 فقالوا1: لو كانا اثنين لم يخل إما أن يتم ما يريدان، أو لا يتم ما يريدان أو يتم ما يريد أحدهما، فإن تم ما يريدان أدى إلى اجتماع الشيء وضده إذا أراد أحدهما إحياء شيء وأراد الآخر موته، أو أراد أحدهما وجود شيء وأراد الآخر عدمه، وإن لم يتم ما يريدان أدى إلى تناهي قدرتهما وعجزهما، والعاجز لا يكون إلهاً، وإن تم ما يرد أحدهما دون الآخر كان من تمت إرادته هو المستحق للإلهية، فثبت القول بأن الإله واحد لا شريك له2. فالقدرية لا يتم ما يريد إلههم، لأنه لو أراد الإيمان من الكافر والطاعة من العاصي، وأراد إبليس من الكافر الكفر ومن العاصي المعصية، فلم يتم ما أراد الله وتم ما أراد إبليس، فعلى مقتضى قولهم أن المستحق للإلهية هو إبليس دون الله ويتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وإنما شبه النبي صلى الله عليه وسلم القدرية بالمجوس3، لأن المجوس قالوا: النور يريد الخير ولا يريد الشر4.   1 في - ح- (فإن قالوا) . 2 انظر تفصيل هذا الاستدلال في كلام شيخ الإسلام في: درء تعارض العقل والنقل9/354-368. 3 تقدم ذكر الحديث وتخريجه ص 146. 4 تقدم كلام الشيخ على ذلك والتعليق عليه ص 180. والأثر عن ابن عباس يبين أن الإيمان بالقدر والتوحيد متلازمان، فمن أنكر القدر فقد نقص ما يدعيه من التوحيد، فبين الشيخ هنا أن المعتزلة نقضوا ما يدعونه من توحيد الربوبية بإنكارهم للقدر، وذلك لإنكارهم الانفراد بالخلق وكذلك عموم الإرادة والتشبيه فلم يتم لهم بناء على ذلك إثبات توحيد الربوبية وهو الإرادة والتصرف المطلق من جميع النواهي، بحيث لا يخرج شيء في هذا الوجود عن ملكه وقدرته وتصرفه، ومشيئته وإرادته فيه نافذة ليكون بذلك ملكه وتصرفه ملكاً وتصرفاً تاماً، وهذا هو توحيد الربوبية الذي ينقضه المعتزلة بإنكارهم القدر. وتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، فما دام هو الرب الخالق المالك المتصرف فيلزم من ذلك أن يكون هو الإله المعبود وحده، فمن انتقض عليه توحيد الربوبية فقد انتقض عليه أيضاً توحيد الألوهية لما بينهما من التلازم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 فأجاب المخالف عن هذا بأن قال: لا حجة بهذا لأن التكذيب بالقدر1 يقتضي نقص التوحيد: هو الذي يقتضي نسبة فعل الله إلى غيره، ولم يثبت أن المخازي فعل الله حتى يكون من نفاها عنه، ناقضاً لتوحيده، بل قد ثبت بالأدلة التي2 مضت3 أن المخازي والمعاصي من أفعال العصاة والفسقة، وإنما يكون نافياً لقدر الله من نفى عنه شيئاً في النعم والخيرات من الحياة والعافية، أو في المحن التي يبتليهم بها من المرض والخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس4، لأن هذه الأمور لا يتولاها غيره، ولذلك لم يصح أن يأمر بها أحداً من عباده ولا أن ينهاه. والجواب أن يقال: لهجك بتسمية الأفعال مخازي ومعاصي وخبائث لا يقر ذلك صحة المذهب ولا إبطال قول خصمك بأن الله له أن يخلقها، فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الكلب خبيثاً5، ولا يدل ذلك على أن الله لم يخلقه، وقد بينا فيما مضى6 أن هذه الأفعال إنما تسمى معاصي وخبائث ومخازي في حق من حرم عليه فعلها وهم العباد المكتسبون لها، ولا تسمى بذلك في حق الله وإن كان خالقها، وأيضاً فإن كانت العلة التي تقتضي نفي خلق الله لأفعال المعاصي في العباد كونها خبائث وقبائح، فإن هذه العلة التي تقتضي غير موجودة في أفعالهم7 بالطاعات، بل تسمى بضد هذه الأسماء فيقتضي أن الخالق لها هو الله، لأنها طاعة حسنة جميلة، وإذا ثبت خلق الله لها لزمكم أن   1 هكذا العبارة في كلا النسختين ولعل فيها سقطاً وهو (الذي) فتكون العبارة: لأن التكذيب بالقدر (الذي) يقتضي نقض التوحيد. 2 في - ح- (قد مضت) . 3 انظر: ص 208 وما بعدها. 4 في - ح- (والأنفس والثمرات) . 5 تقدم تخريجه ص 211. 6 انظر: ص 209. 7 في - ح- (أفعاله) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 يكون الله خالقاً لأفعالهم في المعاصي والمباحات لأن أحداً لم يفرق بينهما. وأما قوله: إنما يكون نافياً لقدر الله من نفى عنه1 أفعاله في النعم في الحياة والعافية أو في المحن وهي الابتلاء بالخوف والجوع، فغير صحيح، لأن أجلَ النعم التي أنعم الله بها على العباد الإيمان بالله وبرسوله وياليوم الآخر، فينبغي أن يكون الله خالقاً لتصديق العبد بذلك ولأعمال الطاعات مثل أفعال الصلاة والحج والجهاد، وقد أخبر بذلك بقوله: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَان} 2 فتكون هذه النعمة من جنس النعم3 عليه بالعافية والحياة، وأعظم المحن والابتلاء المحنة بالمعاصي، فينبغي أن يكون الله خالقاً لأفعاله فيه لأنها أعراض في العبد فتكون مخلوقة فيه كالأعراض التي فيه من الجوع والخوف. وأما قول المخالف: بأن الحياة والعافية والجوع إنما كانت خلقاً لله لا يصح الأم بها ولا النهي عنها، فغير صحيح. لأن الأمر والنهي والمدح والذم إنما لا يصح في هذه الأشياء، لأن الله لم يقدر العبد عليها ولا جعلها من كسبه، وهذه الأفعال أقدر الله العبد عليها وتنسب إلى العبد، والحركة من العبد في الأفعال الاختيارية في المشاهدة كالحركة في الأفعال المضطر إليها كرعدة الحمى والخوف، فإذا ثبت أن الله خالق لحركة العبد في الاضطرار إليها كرعدة الحمى والخوف، فإذا ثبت أن الله خالق لحركة العبد في الاضطرار كان خالقاً لحركته في الاختيار. وأجاب المخالف: على أن امتناع مرا الله إنما يلحقه العجز بذلك إذا أراد إلجاء عبد على فعل فامتنع منه، وأما إذا لم يرد إلجاءه ولا مغالبته لم يلحقه العجز بامتناع ما أراده من غيره، وكذلك إذا امتنع ما أراده من فعل نفسه فم يتم، لحقه العجز وبغير هاتين الصورتين لا يلحقه النقص، هذا تحقيق قوله.   1 في - ح- (نافيا لقدر الله من نفى عن نفسه) . 2 الحجرات آية (17) . 3 في - ح- (حسن النعم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 والجواب أن يقال: إذا وقع في ملكه وسلطانه ما لم يرده أو ما ليس في تدبير لحقه العجز1 كما يلحق ذلك المالك المملك من العباد، وإذا أراد شيئاً من غيره فلم يتم له ما أراد لحقه العجز كما يلحقه ذلك إذا أراده من فعل نفسه لعموم قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 2، وقوله: إذا لم يرد إلجاء الفاعل ولا مغالبته، غير صحيح، لأن ذلك لو كان علة لما ذكر لما جاز أن يخرج شيء من الأعيان عن ملك الله، أو عن أن يكون معلوماً لله أو مقدوراً لله، أو عن إدراك الله له، وهو أنه لم يرد مغالبة ذلك الشيء ولا مكابرته، ولما لم يجز أن يخرج شيء من الكائنات المكونات عن ملك اله ولا عن علمه ولا عن إدراكه لها ولا عن اقتدار الله عليه3 لم يخرج عن أن يكون مراداً لله ولا أن يكون خلقاً له. ثم قال هذا المخالف: ودلالة التمانع عندنا هو أن نقول: لو كان مع الله قديم آخر لوجب أن يكون حياً قادراً عالماً بذاته كما أن الله سبحانه حي، قادر، عالم بذاته، لأنه إذا شارك الباري في أخص أوصافه وهو كونه قديما وجب أن يكون مثلاً له، ومن حق المثلين أن يجب لأحدهما ما يجب للآخر، ثم قال بعد ذلك: ودلالة التوحيد في هذا التمانع لا يمكن هذا المستدل وأهل مذهبه القول به لوجهين: أحدهما: أنهم سدوا القول بالتوحيد على أنفسهم لأنهم أثبتوا مع الله صفات4 كثيرة قديمة وسموها صفات لله5، وقالوا مع ذلك ليست حية   1 في - ح- (النقص) . 2 البروج آية (16) . 3 هكذا في النسختين. 4 في الدامغ الباطل ورقة (53/ب) (ذوات) بدل كلمة صفات. 5 ما ذكره المخالف هنا هو من أصول قولهم في إنكار صفات الباري جل وعلا، حيث زعموا أن اتصافه بالصفات يلزم منه إثبات التعدد، لهذا نفوا عنه جل وعلا سائر الصفات وسموا لذلك أنفسهم أهل التوحيد، ومرادهم بذلك أنهم هم الذين حققوا وصف الله بالواحد بنفي الصفات، وهذا انحراف عن الحق فإثبات الصفات لا يلزم منه تعدد الذوات، بل هي ذات واحدة لها صفات الكمال المطلق التي هي من لوازم الذات الكاملة العلية، وهذا أمر في الشاهد دليله، ولله المثل الأعلى فالإنسان موصوف بالصفات ولا أحد يقول إن هذه الصفات ذوات مستقلة لها استقلال الذوات بل هي من لوازم الذات، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخلو ذات عن الصفات، فلا بد إذا كانت موجودة أن تمون موصوفة ولو بصفة الوجود فقط لهذا لا مفر للمعتزلة ولا غيرهم من أن يثبتوا ذاتا موصوفة بالصفات، وهم أثبتوا كما هو ظاهر هنا صفة الوجود الأزلي وهو ما يعبرون عنه بالقديم وهذه صفة للذات وليست هي الذات، وقد وصف الله جل وعلا نفسه بالصفات في كتابه ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالصفات الكاملة فلا يسع أحدا أن ينكر ذلك إلا من التبس عليه الحق وتنكب الصراط المستقيم. انظر: ما تقدم ص 173 وما بعدها فقد تقدم النقل عن عبد الجبار المعتزلي في قولهم في نفي الصفات ورد المصنف عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 ولا قادرة مع أنها مساوية لذات الباري في القدم1، فلا يمكنهم أن يقولوا بأنه واحد، وقد قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 2 وقال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 3. والوجه الثاني: أن تقدير4 تمانعهما لو كان اثنين قادرين مبني على ما يعقل بالشاهد من تمانع القادرين، فيتوصل بذلك إلى نفي ثان للقديم، وقد سدوا على أنفسهم هذا الباب بقولهم ليس في الشاهد قادر يحدث الأفعال ويتمكن من غلبه سواه أو مساويه5. يحقق هذا أن الطريق الذي به يعلم أن الواحد منا قادر هو6 صحة الأفعال منه ووجوده من جهته وعندهم أنه لا   1 لما زعم المعتزلي أن إثبات الصفات معناه إثبات ذوات مستقلة استنكر علينا أننا لا نصف هذه الصفات بصفات تجعلها مساوية للباري جل وعلا، وهذا من خبط المعتزلة وانحرافهم، فإن الصفة لازمة لذات وليست مساوية لها ولا استقلال لها دون الذات، فعليه أن يثبت أن الصفات ذوات مستقلة وأنى له ذلك. 2 الإخلاص آية (1) . 3 البقرة آية (163) . 4 في - ح- (تقدم) . 5 في الدامغ الباطل ورقة 53/ب (أو مساواته) . (هو) ليست في - ح-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 يوجد من العباد1 شيء من الأفعال وإنما هي مخلوقة من الله2 فلا يمكنهم أن يعلموا أن في الشاهد قادراً فلا يصح منهم تقدير التمانع. والجواب عن اعتراضه الأول وهو أن يقال له: تشنيعك على أهل السنة بإثباتهم لله ما أثبته لنفسه هو أكبر الشناعة عليك ونفيك عن الله ما أثبته لنفسه3 هو كإثباتك لله ما نفاه عن نفسه وهي الصاحبة والولد، وما أغناك عن إظهار هذا القول المتناقض وهو قولك: إن الله حي ولا حياة له وإن الله قادر ولا قدرة له وإن الله عالم ولا علم له، وهل إلا كقول من أثبت الحياة لغير حي وأثبت القدرة لغير قادر وأثبت العلم لغير عالم فإن استقام قول من قال هذا4 استقام قولك، وإن لم يستقم قول من قال هذا5 لم يستقم قولك. وأعجب من هذا أن هذا المخالف استدل بهذا الفصل على أن الله ليس له قول حقيقة ولا حياة ولا قدرة ولا علم بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وبقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ، وقال: أنتم لا يمكنكم القول بهذا لأنكم قلتم إن له صفات قديمة فليس بواحد، فقال له: إن كان لله قول حقيقة فقد اعترفت بصحة ما أنكرت على خصمك، وإن لم يكن لله قول حقيقة فلا حجة لك على قولك بما ادعيت من هذا6، ثم يقال: إنه لا يلزمنا7 ما زعمت، لأنا نقول: إن هذه الصفات آلهة كما أن صفات الإنسان ليست بإنسان مثله، وإنما الشناعة تلزمك وأهل مذهبك،   1 في - ح- (من أحد من العباد) . 2 هذا القول لا يلزم أهل السنة لأنهم لا ينكرون فعل العبد ولا قدرته وقد تقدمت الأدلة على ذلك. (ما أثبته لنفسه) ليست في الأصل وأثبتها من - ح-. (هذا) في - ح- وليست في الأصل. 5 في - ح- (هكذا) . 6 تقدم تفصيل هذا الرد. انظر: ص 136. 7 في - ح- (يقال له ما يلزمنا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 لأن على قولك: إنكم لا تعبدون الله الرحمن الرحيم الإله الخالق، لأن هذه الأسماء خلق لكم إذا سميتموها، وهذا كفر صريح لا يخفى على أحد من ذوي العقول السليمة1. وأما الجواب عن الوجه الثاني الذي زعم المخالف، فإنا نقول له: قولك: بأنا إذا قلنا: إنه لا خالق لشيء من الأفعال إلا الله يسد علينا الباب في تمانع الخالقين غيرصحيح، بل حقيقة التمانع وإثبات القول بالواحد لايكون إلا على قولنا، لأنا نفينا أن يكون مع الله خالق يخلق في الجملة، إذ لو كان كذلك لأدعى إلى التضاد والتغالب، فلما لم يوجد ذلك دل على أن الخالق واحد، وهذا لايوجد على قول القدرية لأن العباد كلهم وسائر الحيوان من البهائم والطير كلها خالقة لأفعالها: وقد نفى الله أن يكون معه خالق بقوله: {ْهَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 2 وقوله تعالى: {أَمْ3 جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} 4. ولا تعلق لهذا المخالف بجميع ما أورده في هذا الفصل على ما يقول إلا الشهادة منه على نفسه بفساد مذهبه وبطلان قوله في نفي الصفات وإثبات المشارك لله في الخلق، وتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.   1 تقدم ذكر قولهم في الصفات والرد على ما ذكر هنا بتفصيل وكذلك بيان أن تسميتهم لله يلزم منها أن أسماء الله مخلوقة. انظر: ص 244- 250. 2 فاطر آية (2) . 3 في كلا النسختين (وجعلوا) وهو خطأ. 4 الرعد آية (16) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 56- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس"1. فيقال للقدرية: إذا قلتم إن الله لم يخلق الشر ولا أراد كونه فقد خلق إبليس وهو رأس الشر2. فأجاب المخالف القدري: لا حجة بهذا، لأن جسم إبليس ليس بشر بل خلق الله له إنعام منع عليه ويستحق عليه الشكر والعبادة وهو من جملة الجن3، وخلقه الله للعبادة وإنما الشر من فعل إبليس والله لم يخلق فعله ولا كفره، وإنما إبليس هو الخالق لفعل نفسه ووسوته في صدور الخلق، هذا نكتة قوله ومعتمده. والجواب أن يقال له: القرآن يشهد على بطلان قولك: قال الله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ   1 أخرجه اللالكائي في السنة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر، فذكره السنة للالكائي 4/619، وإسناده ضعيف فيه شعيب بن بكار. ذكره الذهبي في الميزان وقال: "قال الأزدي ضعيف". الميزان 2/275 وفيه إسماعيل بن عبد السلام الراوي عن عمرو بن شعيب، لم أجد له ترجمة. وروى ابن الجوزي في الموضوعات نحو هذا الحديث من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - في قصة طويلة وقال ابن الجوزي: "هذا حديث موضوع بلا شك والمتهم به يحيى بن أبي زكريا قال يحيى بن معين: هو دجال هذه الأمة قال ابن عدي: كان يضع الحديث ويسرق". الموضوعات 1/247. وروي هذا القول من كلام عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أخرجه عنه الآجري في الشريعة ص 158، واللالكائي في السنة 3/566، وسيورده المصنف فيما يأتي. 2 هذا الكلام من المصنف - رحمه الله - دليل وإلزام تام صحيح فلا حاجة لهذه الرواية المذكورة وقد ورد هذا المعنى عن السلف فقد روى الطبراني بسنده في تفسيره عند قوله عزوجل: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} عن ابن عباس وابن مسعود، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} يعني من شأن إبليس وعن مجاهد: "علم من إبليس المعصية وخلقه لها". تفسير الطبري 1/212. 3 في - ح- (الخلق) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 الَّذِينَ كَفَرُوا} 1 وقال تعالى في آية أخرى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ} 2. فجعل أجسامهم شراً وإبليس منهم، فإن الله سبحانه أمر نبيه أن يستعيذ منه فقال: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} 3. وأما قول المخالف لقول الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْس} 4 فهل عصاه أحد من الخلق بمثل5 معصية إبليس له فلم يخلقه إلا للنار وللمعصية التي فعلها6. وأما قول المخالف: إن إبليس خلق فعل نفسه ولم يخلقه الله فقول إبليس أقوم7 من قول هذا المخالف القدري لأن الله أخبر عنه أنه قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} 8 وقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} 9 ولو ينكر الله عليه ذلك، بل قول إبليس بهذا موافق لقول نوح عليه السلام فيما أخبر عنه بقوله: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُم} 1 00 فما أحد من الخلق نفى عن الله الخلق والتدبير في شيء من ملكه11 وسلطانه إلا القدرية ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم وحذر منهم12.   1 الأنفال آية (15) . 2 الأنفال آية (22) . 3 النحل آية (98) . 4 الأعراف آية (179) . 5 في - ح- (من الجن بأعظم من معصية) . 6 قو المصنف: "وأما قول المخالف.. إلخ" كلام مقحم فلم يتقدم من كلام المخالف وسيورد المصنف كلام المخالف في الآية المذكورة ويرد عليه بتفصيل. انظر: ص428. 7 في النسختين (استقام) وهي غير مستقيمة ولعل صوابها (أقوم) كما أثبت. 8 الحجر آية (39) . 9 الأعراف آية (16) . 10 هود آية (34) . 11 في - ح- (مما في ملكه) . 12 تقدمت الإشارة إلى ذلك ص 146. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 57- فصل ومن الأدلة لنا أن يقال لهم: هل يوصف الله بأنه يعلم لما خلق إبليس وأقدره على إضلال الضالين منهم أن يضلهم أو لا يعلم ذلك. فلا بد أن يقولوا نعم: يعلم ذلك1. وقد قال بعضهم إنه لا يعلم الشيء قبل أن يكون2 إلا أن هذا المخالف صرح3 بذلك.   1 في - ح- جعل سهما وكتب في الهامش (أو لا يعلم ذلك) وهي لا معنى لها هنا. 2 هذا القول وهو إنكار العلم السابق بالأشياء قبل كونها أنكره غلاة القدرية، وهم القدرية المتقدمون وهم المعنيون في الحديث الذي رواه مسلم في أول صحيحه عن يحيى بن يعمر قال: "كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معنمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق نا عبد الله بن عمر داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنفن قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر" ثم ذكر حديث جبريل - م. كتاب الإيمان- (ب. الإيمان والإسلام) 1-36. وهذه الفرقة هم القدرية الغلاة وقد كفرهم الأئمة وتكفيرهم مروي عن الإمام أحمد وغيره، قال أبو بكر المروذي: سمعت أبا عبد الله يقول: "إذا جحد العلم قال: إن الله لا يعلم الشيء حتى يكون استتيب فإن تاب وإلا قتل". كتاب الإيمان للإمام أحمد (مخطوط) ورقة 83/ب. ونقل النووي عن القاضي عياض قوله في هؤلاء الغلاة: "إنهم كافرون بلا خلاف". شرح مسلم 1/156، وقال ابن القيم: "اتفق السلف على كفر هؤلاء الغلاة من القدرية وحكموا بقتلهم". شفاء العليل ص 187. وذكر شيخ الإسلام أن هذا المذهب كان عليه غلاة القدرية قديما وهم قليل اليوم (أي زمن شيخ الإسلام) . مجموع الفتاوى 3/147، وذكر ابن حجر عن القرطبي: أن هذا المذهب قد انقرض ولا يعرف أحد ينسب إليه من المتأخرين. فتح الباري 1/119. 3 في - ح- (لم يصرح) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 فيقال لهم: فهل كان يقدر على منعه عن إضلالهم أو لا يقدر؟. فإن قالوا: لا يقدر نسبوه إلى العجز وبطل مدحه لنفسه بأنه على كل شيء قدير، وإن قالوا: يقدر ولكنه لم يمنعه. قلنا لهم: فترك منعه عن ذلك مع قدرته عليه إرادة1 منه إضلالهم. فأجاب هذا القدري عن هذا بكلام لا يفهم منه إلا الأذى وضمنه معنيين: أحدهما: أن إبليس لم يخلقه الله إلا للعبادة ولم يرد الله منه إلا ذلك. والثاني: أن ترك المنع منه ليس بإرادة منه لإضلالهم، فأما الأذى فلا جواب له عنه إلا الإضراب عنه. وأما قوله: إن الله لم يخلق إبليس إلا للعبادة فقد مضى الجواب عن ذلك2 في الفصل قبل هذا3، ويقال له: لو خلقه الله للعبادة ليسرها له كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل ميسر لما خلق له"4. وأما إنكاره لقولنا: إن تركه لمنع إبليس عن إضلالهم مع قدرته على ذلك إرادة منه لإضلالهم فدفع للعيان5 ألا ترى أن ترك الحركة من المتحرك سكون وترك السكون منه تحريك وكذلك ترك الإعدام من الله إيجاد، وترك الإيجاد منع إعدام، وكذلك ترك الهداية منه إضلال وترك الإضلال منه هداية.   1 في الأصل (اراد) وهي في - ح- كما أثبتها وهي الأنسب. 2 في - ح- (هذا) . 3 انظر: ص 339. 4 أخرجه خ. كتاب التفسير سورة الليل 6/142 كتاب القدر، ب. وكان أمر الله قدرا مقدورا (8/105) من حديث علي - رضي الله عنه -. وأخرجه م، كتاب القدر (ب. كيفية الخلق الآدمي..) 4/2040-2041 من حديث علي وعمران بن الحصين - رضي الله عنهما -. 5 في - ح- (منه للعيان) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 58- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا أن يقال لهم: من أولى بالإلاهية؟. من لا يكون منه إلا بعلمه ولا بعزب1 عن علمه شيء؟ أو من يكون منه ما لايعلمه ويغيب عن علمه أكثر الأشياء؟. فمن قولهم وقول كل قائل: إن من لا يكون منه شيء إلا بعلمه ولا يغيب عن علمه شيء أولى بالإلاهية. قيل لهم: فكذلك من لا يريد كون شيء إلا كان، ولا يكون شيء إلا ما يريد، ولا يعزب عن إرادته أولى بالإلاهية ممن يكون ما لا يريد ويريد كون شيء فلا يكون، وعلى ذلك أجمع الناس مسلمهم وكافرهم وجميع أهل الملل بأن ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولهذا قال بعض رجاز أهل الجاهلية: تجري المقادير على غرز الإبر ... ما تنفذ الإبرة إلا بقدر2 وقال لبيد:3 إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء ضل وقال بعض أهل الجاهلية: هي المقادير فلمني أو فذر ... إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر4   1 في - ح- (لا يغيب) . 2 ذكر هذا البيت اللالكائي عن أحمد بن يحيى ثعلب في استشهاده بأن العرب تثبت القدر في الجاهلية. اللالكائي في السنة 4/705. 3 لبيد بن ربيعة بن عامر الكلابي الصحابي وهو الشاعر المشهور توفي سنة (41?) . الإصابة 9/6. 4 ذكر هذا لبيت والبيتين قبله اللالكائي في السنة 4/705. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 وهذه أقوال أهل الجاهلية قل الإسلام، ثم جاء الإسلام على ذلك، فدل على أن القدرية مخالفون لجميع الخلق وأهل الملل والأديان1 بقولهم. فأجاب القدري عن هذا الاستدلال بنكت منها أن قال: جمعت بين العلم والإرادة من غير علة جامعة بينهما وكل قياس بين أمرين بغير علة جامعة بينهما فهو باطل. والجواب أن يقال له: قولك من غير علة جامعة بينهما نفي للعيان، والعلة الجامعة بينهما لا تخفى على أحد، وهو أن كونه عالماً من صفات كماله لينتقي عنه الجهل وكذلك كونه مريداً2 من صفات كماله3 لأنه لو لم يكن مريداً لم يكن تقدم ما وقع من المكونات بأولى من تأخرها4، وليس هناك مخصص لذلك إلا كون الله مريداً لتقديم ما تقدم وتأخير ما تأخر فهذه العلة المقتضية للجميع بينهما. ثم قال هذا المخالف في جوابه عن هذا: إنما كان العالم بجميع المعلومات أولى بالإلاهية ممن لا يعلمها، لأن الإله لا يكون إلا قديماً، والقديم يجب أن يكون عالماً بذاته ممتنعاً بذاته عن علم يعلم به، ومن حق العالم للذات أن يكون عالماً بجميع المعلومات إذ لا اختصاص لذاته بمعلوم دون معلوم، فلذلك كان عالماً بجميع المعلومات وأولى بالإلاهية من غيره.   1 في - ح- (وأهل الأديان) . 2 في النسختين (وهو أن كذلك) ولا معنى لها والأولى أن تكون العبارة (وكذلك كونه) كما أثبت. 3 هذه الكلمة وكذلك التي قبلها كتبت في الأصل (كاملة) وهي في - ح- كما أثبتها إلا أنه صححها في - ح- كما في الأصل ولا معنى لها مناسب. 4 في الأصل (لم يكن تقدم ما وقع والا تأخر ما تأخر منها أولى تقدمها من تأخرها) وما أثبت من - ح- وهو أخصر وأقوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 والجواب أن يقال له: لهجك1 بإطلاق القول بأن هذه الأفعال خبائث وقبائح لا يوجب صحة مذهبك لما تقدم بيانه من أنها خبائث وقبائح ممن حرمت عليه2 وولي اليتيم والشاهد ممن حرم عليه فعلها، ولا يتوجه ذلك في حق الله تعالى. وأما قولك إنه أراد الطاعات من جميع العباد ولم يرد من واحد منهم المعصية، فهذا غير مسلم به، فطيف تحتج بمذهبك على مذهبك، وهذا يدل منك على عدم3 الرواية والاستدلال. وأما قولك: عدم المنع منه لا يدل على إرادته، واحتجاجه بالآية فقد مضى الجواب عن ذلك كله بما يغني عن إعادته4. ثم قال هذا المخالف: أما قول المستدل: بإجماع الناس مسلمهم وكافرهم على القول: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) فلا يصح لأن هذه اللفظة من إطلاقات المجبرة على أصلهم المنهار، ولو صح الإجماع على إطلاق هذه اللفظة فإن المقصود بها ما شاء الله من فعله كان، وما لم يشأ لم يكن5 لأن غرض المكلفين بذلك مدح الله بأحسن المدائح والثناء عليه بأبلغ المحاسن وليس من الثناء الحسن ولا من المدح البليغ بأن يصفوه بأنه مريد المخازي والخبائث والمعاصي، وإنما يصح المدح إذا تعلق ذلك بأفعاله تعالى لأنه ينبئ عن عظيم الاقتدار، وقد روينا عن أجلاء الصحابة والتابعين6 نفي هذه الخبائث عن الله فدل على بطلان الإجماع بما ذكر.   1 في الأصل (هجاوك) ولا معنى لها هنا وهي في - ح- كما أثبتها. 2 انظر: ص 3 في الأصل (لا عدم) وهي في - ح- كما أثبتها وهي الأصوب. 4 انظر: ص300. 5 انظر كلام القاضي عبد الجبار في هذا في كتابه: المغني 6/283. 6 في النسختين (على) ولا معنى لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 والجواب أن يقال: إنكارك الإجماع بذلك جحد بالضرورة، فإن هذه الكلمة جارية على ألسنة الخاصة والعامة، وينقل ذلك كل خلف عن سلفهم كنقلهم بعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهجرته إلى المدينة وموته هنالك، ويعلم وقوع ذلك كل مسلم وكافر وموافق ومخالف، وإنكار القدرية للنقل والإجماع على مقتضى هذه الكلمة لا يؤثر في صحة العلم بها كما لا يؤثر خلاف السوفسطائية1 للعلوم الضرورية بادعاء النبي صلى الله عليه وسلم للنبوة بمكة وتكذيب قومه له وهجرته إلى المدينة وموته بها. وأما قول المخالف: لو صح الإجماع على هذه اللفظة يكون المراد2 بها ما شاء الله من فعله كان وما لم يشأ من فعل نفسه لم يكن دون ما شاء من فعل غيره وما لم يشأ منه، غير صحيح، بل الدليل الذي دل على تمام إرادته من فعل نفسه هو الدليل الذي دل على تمام إرادته من فعل غيره وهو عدم وصفه بالنقص، ولأنه3 موصوف سبحانه بالاقتدار على غيره ولا يوصف بالاقتدار على نفسه4، ومن كمال صفته بالاقتدار على غيره تمام إرادته من غيره وإلا كان موصوفاً بإرادة ما لم يتم من فعل غيره بالتمني، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إرادته لإسلام أبي طالب وغيره ممن كان يحب إسلامه   1 هذا الاسم مأخوذ من السفسطة: وهي قياس مركب من الوهميات والغرض منه تغليظ الخصم. التعريفات للجرجاني ص 118، وقال السكسكي: السوفسطائية هم القائلون بأن الأشياء لا حقيقة لها وأن جميع الأشياء عندهم على التوهم كالحلم وأنكروا العلم رأسا. البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان. ص 22. 2 في - ح- (لكان القصد بها) . 3 في - ح- (وهو) . 4 قوله: "ولا يوصف بالاقتدار على نفسه" هذا من كلام المتكلمين الباطل الذي لا وجه له لأنه لا يتصور دخول ذاته فلا يحتاج إلى إخراج، ومثل هذا قول صاحب تفسير الجلالين عند قوله تعالى: {وَاللهُُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} المائدة (120) وخص العقل ذاته فليس عليها بقادر. انظر: تفسير الجلالين بهامش البيضامي 1/301. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 ولم يسلم فإن إرادته لذلك تعود إلى معنى التمني، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ويدل على صحة ما قلناه قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 1 فأخبر أنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن فعل ما أراد من ذلك وهو ما أراده من فعل غيره، فإن قالوا لو شاء لأجبرهم2 على ترك القتال. قلنا: فعلى قولكم أنه أجبرهم على القتال3، لأنه أخبر أنه أراد قتالهم. وأما قول المخالف بجوابه: إن غرض المكلفين بذلك مدح الله بأحسن المدائح إلى آخر كلامه، فيقال له4: مدحهم الله بأحسن المدائح يقتضي أن يتم ما يشاء من فعله وفعل غيره، وعلى أن هذا الكلام الذي أورده في هذا لا تعلق له بما نحن فيه5 وإنما يليق إيراد هذا احتجاجاً لأهل السنة إذا قيل لهم: لم لا تقولون يا خالق الزنا، يا خالق المعاصي كما تقولون يا خالق السموات والأرض؟ فيقولون: أمرنا الله بأن ندعو بأسمائه الحسنى وصفاته العليا6 فقال: {وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 7، وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 8.   1 البقرة آية (253) . 2 في - ح- (لو أراد أجبرهم) . 3 في - ح- بعد قوله: "القتال" جعل سهما لهامش وكتب (لا يصح) وليست في الأصل ولا معنى لها. 4 في الأصل غير واضحة تماما والأظهر أنها (لهم) وهي في - ح- كما أثبتها. 5 مراده بكلام المخالف قوله: (وليس من الثناء الحسن ولا من المدح البليغ بأن يصفوه أنه مريد المخازي والخبائث والمعاصي) . انظر: ص 345. 6 في - ح- (الحسنى) وهي في - ح- كما أثبتها وهي الأصوب. 7 الأعراف آية (180) . 8 الأعراف آية (55) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 فيقال: يا خالق الشمس والقمر ويا منزل الأمطار ويا منبت الأشجار ومخرج الثمار ولا يقال: يا خالق القردة والخنازير والعذرة، وإن كان خالقاً للجميع1، وكذلك لا يقال: يا خالق المعاصي وإن كان خالقاً لها، وعلى هذا يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والشر ليس إليك" 2 أي ليس يتقرب به إليك، أو لا يدعى بأنك خلقته وإن كنت خلقته3، ولهذه العلة قال إبراهيم عليه   1 في - ح- (لها وللجميع) . 2 أخرجه م. صلاة المسافرين (ب. الدعاء في صلاة الليل وقيامه) 1/534، د. كتاب الصلاة (ب. ما يستفتح به الصلاة من الدعاء) 1/370، مختصر السنن. ن. كتاب الصلاة (ب. الدعاء بين التكبير والقراءة) 2/130 كلهم من حديث علي - رضي الله عنه -. 3 ذكر النووي في شرح مسلم 6/59 عن الخطابي خمسة أقوال في معنى الحديث منها هذان القولان ونسب القول الأول للخليل بن أحمد والنضر بن شميل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن معين وأبو بكر بن خزيمة والأزهري، أما الثاني فحكاه الشيخ أبو حامد عن المزني، والقول الثالث: إن الشر لا يصعد إليك إنما يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح، قلت: وهو بمعنى القول الأول، والقول الرابع: إن الشر ليس شرا بالنسبة إليك فإنك خلقته بحكمة بالغة، وإنما هو شر بالنسبة للخلوقين. والقول الخامس: حكاه الخطابي إنه كقولك فلان إلى بني فلان إذا كان عداده فيهم أو وصفوه معهم. انظر أيضا: معالم السنن بهامش مختصر سنن أبي داود 1/371. وهذا الحديث يحتاج إلى توجيه وتوضيح أكثر مما ذكر لما يتبادر في الذهن من أن الله غير خالق للشر وقد أجمع السلف على أن الله خالق كل شيء وأن القدر خيره وشره حلوه ومره من الله تعالى، وقد فصل هذا الأمر شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم - رحمهما الله تعالى -، قال ابن القيم في شفاء العليل ما مختصره: "إن الشر لا يضاف إلى الله عزوجل لا في أسمائه ولا صفاته ولا أفعاله ولا خلقه وإنما يدخل الشر الجزئي الإضافي في المقضي المقدر ويكون شرا بالنسبة إلى محل وخيرا بالنسبة إلى محل آخر، كالقصاص وإقامة الحدود وقتل الكفار فإنه شر بالنسبة غليهم وخير بالنسبة إلى غيرهم، كما أن قضاء الله وقدره عليهم خير وحكمة وعدل فعليه يكون هذا المقضي المقدر شرا بالنسبة إلى المحل الذي قام فيه، وقد يكون خيرا له من وجه آخر كما إذا أفضى إقامة الحد إلى التوبة أو أفضى المرض إلى رفع الدرجات وتكفير السيئات. ولم يرد في الكتاب والسنة إضافة الشر إلى الله عزوجل مطلقا بل ورد داخلا في مفعولاته بطريق العموم كقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق مِنْ شَرِّ مَا خَلَق} فما هاهنا موصولة أو مصدرية والمصدر بمعنى المفعول أي من شر الذي خلقه أو من شر مخلوقه. كما ورد بحذف فاعله كقوله تعالى عن مؤمني الجن {َوأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} وقد نسبه إلى محله القائم به كقول الخليل إبراهيم عليه السلام {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} . ومن أراد لاستزادة فليراجع شفاء العليل لابن القيم فقد أطال وأجاد - رحمه الله - من الباب الحادي والعشرين ص 178 إلى الباب الخامس والعشرين ص 271، وانظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (14/18-28) ، وشرح الطحاوية ص 283. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 السلام فيما أخبر الله عنه: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فنسب إلى الله الإطعام والسقي والشفاء من المرض والإماتة والإحياء، ونسب إلى نفسه المرض وإن كان لا يمرض نفسه، وإنما ذكرت هذا ليعلم أن هذا المجيب يضع الدليل على ما لا متعلق له فيه. وأما ما ذكره عن1 الصحابة والتابعين فلا حجة لما ذكر، وسأبين ذلك في غير هذا الفصل إن شاء الله. قال هذا المخالف: وأما ما ذكره من أبيات الشعر التي تتضمن ذكر القدر فلا حجة فيها، لأن الشعر الصحيح لا يحتج به إلا في تصحيح الألفاظ اللغوية لا في إبانة الحقائق العقلية. والجواب أن يقال لهذا المجيب: إنكارك الاحتجاج بالشعر بهذا2 جهل منك بحكم الشعر في الألفاظ والمعاني، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر لحِكَماً "3 والحكم لا تكون إلا في معنى. وقال صلى الله عليه وسلم: "الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح   1 في (عن) النسختين والأصوب ما ذكر. 2 في - ح- (فهذا) . 3 أخرجه خ. كتاب الأدب (ب. ما يجوز من الشعر..) 8/29 من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - ولفظه عنده (حكمة) ، وأخرجه ت. كتاب الأدب (ب. ما جاء من الشعر لحكمة) من حديث ابن مسعود مثل رواية البخاري. ورواه من حديث ابن مسعود بلفظ (حكما) وقال الترمذي: حسن صحيح 5/137. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 الكلام"1، ولا يكون حسناً وقبيحاً إلا لحسن معانيه وقبحها وعلى أنا إنما احتججنا بالشعر هاهنا لنبين أن أحداً من الخلق في الجاهلية والإسلام لم ينكر أن المقادير كلها جارية ن الله حتى جاءت القدرية. ثم قال: وإن كان فيه حجة فالقدر قد ورد في القرآن واللغة على معان منها: ما يراد به الخلق. ومنها: ما يراد به الإخبار بدليل قوله تعالى: {إِلاّ امْرَأَتَهُ2 قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} 3 أي أخبرنا بحالها. ومنها: ما المراد به الكتابة كما قال العجاج4: اعلم بأن ذا الجلال قد قدر ... في الصحف الأولى التي كان سطر أمرك هذا فاجتلب منها النتر5 فليس لهم أن يحملوا القدر على ما يوافق مذهبهم إلا ولخصمهم أن يحمله على غير ذلك.   1 أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص 290 من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الأوسط وقال: لا يروى إلا بهذا الإسناد. مجمع الزوائد 8/122. وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي قال ابن حجر في التقريب ص202 عنه: "ضعيف في حفظه"، وقال أيضا في فتح الباري 10/539: "سنده ضعيف". وأخرج الحديث أبو يعلى الموصلي في مسنده 8/200 من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "سئل رسول الله صلى اله عليه وسلم عن الشعر فقال: هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح"، وإسناده ثقات ما عدا عبد الرحمن بن ثابت العنسي فقد قال فيه ابن حجر في التقريب ص 199: "صدوق يخطئ". وأخرج البخاري في الأدب المفرد ص290 عن عائشة موقوفا أنها كانت تقول: "الشعر منه حسن ومنه قبيح خذ بالحسن ودع القبيح". ورجاله ثقات ما عدا جابر بن إسماعيل الحضرمي قال عنه ابن حجر: "مقبول". التقريب ص 52. 2 في - ح- (إلا امرأة لوط) وهو خطأ. 3 النمل آية (57) . 4 هو رؤبة بن العجاج التميمي الراجز من أعراب البصرة كان رأسا في اللغة توفي سنة (145?) ، سير أعلام النبلاء 6/162. 5 انظر: ديوان العجاج 1/73-74 وهو من قصيدة يمدح فيها عمر بن عبيد الله بن معمر أحد قواد عبد الملك بن مروان الأموي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 والجواب أن يقال لهذا المخالف: أما ورود القدر على معنى الخلق فلا ننكره، وأما على معنى الإخبار واحتجاجك بقوله تعالى: {إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} فغير صحيح في المعنى ولا مسلم، واحتجاجه بهذا يدل على جهله بالنحو وإفلاسه منه، لأن ضمير المرأة ههنا في موضع النصب، وإذا كانت مخبراً عنها في موضع جر، ولو أراد ذلك لقال: قدرنا عنها أو بها، ولم يقل أحد من أهل التفسير هذا الذي ذكر المخالف، وإنما قال ذلك برأيه على ما يوافق مذهبه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار "1. والذي قال أهل التفسير في هذا: قدرناها أي قدرنا هلاكها مع الغابرين2. وأما احتجاجه ببيت العجاج فهو حجة عليه لا له، لأنه إذا كتب في الصحف شيئاً وقدره فهل يتوهم عاقل أن الله أراد وقوع شيء قد كتب وقوع ضده، وإنما يحسن هذا على قول من قال من القدرية إن الله لا يعلم الغيب ولا يعلم إلا ما كان3 ولكن لم يصرح هذا المخالف بهذا في دامغه بل (عن صَبُوح تُرَقِّق) 4 ولو صرح به كما صرح به أسلافه لاختطفته   1 أخرجه حم 10/233-269 عن وكريع عن سفيان عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن بغير علم.." الحديث. وأخرجه ت. كتاب التفسير (ب. ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه) عن ابن عباس مثل رواية الإمام أحمد، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه من طريق أبي عوانة عن عبد الأعلى به ولفظه: "من قال في القرآن برأيه ... " قال الترمذي: هذا حديث حسن (5/199) . 2 انظر: فتح القدير للشوكاني 4/145. 3 تقدم ذكر هذا القول. انظر: ص 340. 4 في النسختين (عن صبوح ترقق عنه) ولا معنى لإيراد (عنه) في المثل، ولم تذكر في كتب الأمثال، والصبوح ما يشرب صباحاً والغبوق ضده، وترقيق الكلام تحسينه وترتيبه وهذا مثل يضرب لمن كنى عن شيء وهو يريد غيره وأصل هذا المثل أن رجلا اسمه جابان نزل بقوم ليلا فأضافوه وغبقوه فلما فرغ قال: إذا صبحتموني كيف آخذ في طريقي وحاجتي؟ فقيل له: عن صبوح ترقق فكأنه قيل له (صبوح تكنى) انظر: مجمع الأمثال للميدان 2/348، وفي هامش - ح- تعليق على ذلك قال: "يقال رققه فرق ورقق الكلام أي حسنه وفي المثل (أعن صبوح ترقق؟) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 السيوف بهذا الصقع قبل المناظرة له1 ممن يريد استتباعه وجدعه بالكلام، ومن صرح منهم بهذا القول الشنيع فهو محجوج بقوله تعالى في آي كثيرة: {عَالِمُ الْغَيْبِ} 2. والغائب ما غابن وقد أخبر الله سبحانه عما لم يكن قبل أن يكون، وعما لا يكون لو كان كيف كان يكون، فقال تعالى إخباراً عن أهل النار: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} ، ثم قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 3 فأخبر سبحانه عن تمني أهل النار الرد إلى الدنيا قبل أن يكون، وأخبر سبحانه عما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون وهو تكذيبهم لو ردوا.   1 في - ح- (له فيه) . 2 ورد هذا الوصف لله في ثلاثة عشر موضعا في القرآن منها الأنعام آية (73) ، التوبة آية (94، 150) الرعد آية (9) . 3 الأنعام آية (27) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 59- فصل استدل المخالف القدري على صحة قوله: بقوله تعالى فيما أخبر عن المشركين: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 1 الآية، قال: وهذا صريح بمذهب المجبرة، واستدل على ذلك بأن الله رد عليهم ذلك بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، وأذاقهم البأس وجعلهم من الخراصين2. والجواب: أننا لا ننكر أن الله ذمهم ووبخهم ولنا عن هذا أربعة أجوبة: أحدها: أنهم لم يعبروا بالمشيئة هاهنا التي تقول إنها الإرادة، وإنما عبروا بالمشيئة هاهنا عن الأمر فادعوا أن الله أمرهم وأمر آباءهم بعبادة الأصنام، وأنه أمرهم بتحريم ما حرموا من الحرث والأنعام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونظيرها في النحل3 فأكذبهم الله بما ادعوه من أنه أمرهم فقال: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} رسلهم {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوه} يعني بياناً بأن الله أمركم4. والدليل على أنهم لم يعبروا بالمشيئة عن الإرادة لأن الله أكذبهم فقال: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وقال في آية أخرى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} 5، وقال في آية أخرى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} 6، فأخبر أنه ما شاء منهم الإيمان مشيئة   1 الأنعام آية (148) . 2 ذكر هذا الاستدلال القاضي عبد الجبار نحو ما ذكر هنا. انظر: المغني 6/246، وانظر أيضا: شرح الأصول الخمسة ص 476. 3 آية النخل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} . 4 ذكر هذا الوجه شارح الطحاوية. انظر: ص 154 من شرح الطحاوية. 5 الأنعام آية (107) والآية كتبت في النسختين هكذا (لو شاء الله ما أشركوا ولا آباؤهم) وهي خطأ. 6 يونس آية (99) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 اختيار ولا إجبار، لأن الخبر عام ولا معنى لتخصيص مشيئته بالإجبار1 على ما يدعي المخالف فقد مضى الدليل على إبطال دعواه لذلك2. والجواب الثاني أن نقول لهذا المخالف: وما ننكر أن يدعي خصمك أنهم أرادوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} أي ما أجبرنا على ذلك، ولكنه أجبرنا على ذلك فأكذبهم أنه ما أجبرهم ولا اضطرهم إلى ذلك، ولكن وقع الشرك منهم بخلقه له3 وإيثار واختيار منهم له، ونقابل ما ادعيت أن مشيئته هدايته لهم مشيئة إجبار بما ادعاه المشركون من أنه أجبرهم، وكل جواب لك عن هذا فهو جوابنا لك عن مشيئة الهداية أنها إجبار. والجواب الثالث: أن يقال إنهم4 لم يقولوا لو شاء الله ما اشركنا ولا آباؤنا، مصدقين بالله وبمشيئته، ولكنهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والتكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم، كما قالوا لما أمرهم بالاتفاق مما في أيديهم {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} 5 فأكذبهم الله على ذلك بقوله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ … } الآية كما ذمهم ووبخهم على ما قالوه في الإطعام بقوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . والجواب الرابع: أن يقال: إنما ذمهم الله ووبخهم على إشراكهم وتكذيبهم للرسول ولم يذمهم على قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} لأن الله قد قال في آية أخرى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} 6 والدليل على هذا أنه قال: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وكذلك في النحل {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 7 ولو كان الذم والتوبيخ على قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا   1 وذلك أن القدري يدعي أن قول الله عز وجل: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين} أن معناها: فلو شاء الله لأجبركم على الهداية ولكنه لم يشأ ذلك وإنما أراد منهم أن يختاروا هم الإيمان بأنفسهم. انظر: كلام القدري في الدامغ الباطل ورقة 37/أ. 2 انظر: ما تقدم ص () . 3 في - ح- (بخلقه لهم له) . 4 في - ح- (لهم) . 5 يس آية (33) . 6 الأنعام آية (107) . 7 النحل آية (33) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} ، لقال: كذلك قال الذين من قبلهم، كما أخبر عن مشركي العرب فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} أي هلا يكلمنا الله فنسمع كلامه {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} فقال الله توبيخاً لهم وذماً {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 1 يعني اليهود حيث قالوا لموسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} 2.3   1 القرة آية (118) . 2 النساء آية (153) . 3 ذكر المصنف - رحمه الله - أربعة أجوبة في بيان هذه الآية، وذلك أن الآية ظاهرها يوهم الإشكال حيث وصف الله قولهم: {لوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} بأن هذا كذب وخرص وأن هذا أسلوب السابقين من الكفار، وعاب عليهم هذا القول ومع ذلك فقد قال عقبها {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وهذا تعقيب وتأكيد على قولهم السابق، لهذا ذكر العلماء عدة أقوال في بيان الأمر الذي عابه الله على المشركين، منها هذه الأقوال الأربعة التي ذكرها المصنف وأقوال أخرى منها:- ما ذكره الطبري من أنهم جعلوا مشيئة اله لهذا الشرك وعدم منعه لهم دليلا على رضاه وحبه لهم فكذبهم الله بذلك. وقولا آخر ذكره ابن القيم - رحمه الله - وهو أن الله أنكر عليهم رد الشرع وأمر الرسل لهم بتوحيد الله وعبادته باللاحتجاج بالمشيئة، فهو قول حق أريد به باطل كما يحتج بذلك كل صاحب هوى أو باطل مصر على هواه وباطله ولا يريد أن يقلع عنه فيحتج بالقدر، فلهذا قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} وذلك بإصرارهم على الكفر وردهم لدعوة الرسل. انظر: تفسير الطبري 8/78، شفاء العليل ص 15، شرح الطحاوية ص 154. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 60- فصل خلق الله الخلق فجعلهم على بنية يصح منهم قبول التكليف، وهو البلوغ والعقل، وسوى بين1 المسلم منهم وبين الكافر بذلك، ودعاهم جميعاً إلى الإيمان به2 والطاعة، وسوى بينهم بذلك، ثم وقع منه التخصيص لبعضهم في الهداية فخلق فيهم لطفاً آثروا به الإيمان والطاعة على الكفر والمعصية، وخالفوا أهواءهم والشيطان، ولم يخلق الله ذلك اللطف فيمن كفر به ولا فيمن عصاه بل طبع على قلوب الكافرين به وجعل صدورهم ضيقة حرجة بالإسلام فآثروا بذلك الكفر على الإيمان، وكذلك العصاة من المسلمين لم يجعل في قلوبهم من التنوير والإيمان ما جعل في قلوب المطيعين. وعند القدرية: أن الله ساوى بين المسلم والكافر والمطيع والعاصي في الهداية والتسديد والطف والتنوير وشرح الصدور، ولم يطبع على قلوب الكافرين ولا ختم عليها عن الإيمان، ولكن غلب عليهم الهوى والشيطان. والدليل على صحة ما ذهبنا إليه من ذلك قول الله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} 3 ومثله قوله تعالى في آي كثيرة {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 4 ومثله قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} 5. فمن قال: إن الله لم يطبع على قلوب الكفار فقد كذَّب الله في خبره فاعترض هذا المخالف القدري على مواضع من هذا الفصل منها:   (بين) ليست في - ح-. (به) ليست في - ح-. 3 البقرة آية (7) . 4 النحل آية (108) . 5 الإسراء آية (46) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 إن قال: أما قولك إنه جعلهم على بنية يصح معها قبول التكليف لا يصح إطلاق هذا لأن من لا عقل له لا يدخل فيه. والجواب أن يقال: قد قلت: وجعلهم على بنية يصح معها قبول التكليف والمراد بها بنية البلوغ والعقل فلا اعتراض على هذا. ثم قال بعد هذا: التكليف لا يتصور على قول من يقول: إن الله خلق جميع أفعال العباد، فإن التكليف لا يكون على أصلهم معنى معقول لأنها تجري مجرى ألوانهم. فالجواب أن يقال له: جمعت بين ألوانهم وأفعالهم في استحالة تكليفهم بغير علة جامعة بينهما إلا بكونهما مخلوقين له، وهذا غير صحيح، لأن ألوانهم لا تدخل تحت تقديرهم ولا توصف بأنها كسب لهم فلذلك لا يتصور التكليف فيها وأفعالهم أقدرهم الله عليها وتوصف بأنها كسب لهم فلذلك صح التكليف فيها. وقول المخالف: إن قولنا أن الكسب عبارة فارغة لا معنى تحتها. غير صحيح بل المعنى فيها واضح لمن جعل الله له حظاً من الهداية، وهو خلق اله فيهم إيثار الإيمان على الكفر والطاعة على المعصية ووقوع ذلك منهم باختيارهم بقدرة   محدثة فيهم من الله سبحانه وتعالى1. ويقال له أيضاً: استحالة التكليف إنما يتصور على أصول القدرية الفاسدة وذلك أنهم قالوا: معرفة الله وطاعته وجبت بالعقل لا بالشرع2 والمحسن والمقبح هو العقل دون الشرع3 فهم مستغنون بما في عقولهم 1 تقدم تفصيل ذلك. انظر: ص 225. 2 تقدم بيان ذلك. انظر ص 117. 3 تقدم ذكر هذا والتعليق عليه. انظر: ص 208-211. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 عن1 إرسال الرسل ونزول الكتب من الله - وليت شعري - ما في العقل مما يدل على أن الصبح ركعتان والظهر والعصر زالعشاء أربع ركعات والمغرب ثلاث ركعات وأمثال ذلك في الشرع كثير2. ثم أجاب المخالف القدري عن قولنا: إن الله خص بالهداية بعضهم بأن قال: الهداية منقسمة إلى معان تقدم ذكرها3 منها: الهداية بمعنى البيان والدلالة فهذا عام لجميع المكلفين، وفي ذلك ورد قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ4 فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} 5. وهداية بمعنى الزيادة في التوفيق والتسديد وهي تختص بالمهتدين بأنفسهم6 لأنها مشروطة بتقدم الاهتداء منهم كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} 7. وكذلك التي هي بمعنى الثواب فإنها تختص بالمستحقين8. والجواب عن ذلك أن نقول: لا ننكر أن الهداية تصح بمعنى البيان والدلالة وهي المراد بقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي بينا لهم ودللناهم، فتكون الآية حجة لنا {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} ونسبت   1 في النسختين (من) والتعبير بـ (عن) أوضح. 2 قوله: "والمغرب ثلاث ركعات وأمثال ذلك في الشرع كثير" ساقط من - ح-. 3 انظر: ما تقدم ص 275 في بيان قول المخالف في معنى الهداية. 4 الآية في - ح- إلى (فهديناهم) . 5 فصلت آية (17) . 6 في الأصل (لأنفسهم) وما أثبت من - ح- وهو الأصوب. 7 سورة محمد صلى الله عليه وسلم آية (17) والآية في - ح- آية سورة مريم {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} آية (76) . 8 في الأصل (المستحقين) وهي في - ح- بإثبات الباء، وهو الأصوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 استحباب العمى إليهم لأنه كسب لهم، ولأنهم محل لخلق ذلك فيهم، ولم يرد الهداية التي هي اللطف والتسديد، لأنه لو هداهم لاهتدوا كما أخبر في قوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} 1. وأما قوله: الهداية التي هي بمعنى الزيادة والتسديد وهي تختص بالمهتدين، فإذا وافقت أن الله يخلق الهداية في قلوب المهتدين ويكون ذلك إنعاماً منه عليهم وتفضلاً لاهتدائهم أولاً بأنفسهم، قلنا لك: فلا يمنع أن ينعم الله عليهم أولاً بخلق الهداية في قلوبهم، لأن الموصوف بالهداية في الاستدامة والانتهاء كان موصوفاً بابتداء الهداية لهم، ونقول: لولا هداهم الله أولاً لما اهتدوا لقوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ2 اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} 3 ويرد بالهداية هاهنا اللطف في4 التسديد والتأييد الذي يختص بالمؤمنين، ويدل على صحة قولنا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} 5 ولا يمكن استعمال هذه الهداية على البيان والدلالة، بل هداية الإرشاد والتوفيق فقد خص بها من يريد. وأما قوله: في الهداية التي بمعنى الثواب في الآخرة فلا دليل له على ذلك، ولا نسلم له احتجاجه على ذلك بقوله: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} 6 أنه أراد الثواب، بل المراد به: الإرشاد والتسديد بدليل قوله: {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} وهذه صفة إنعامه عليهم في الدنيا، وقوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّة} إخبار منه عن إنعامه عليهم في الآخرة، والنعم على العبد في الدنيا والآخرة من الله يختص بها من يشاء من عباده كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 7 وقال: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} 8 ولو كانت الهداية التي هي التوفيق والتسديد   1 الكهف آية (17) . 2 في النسختين هكذا (يهدي) بالياء وهو خطأ. 3 الأعراف آية (178) . 4 في - ح- (والتسديد) . 5 الحج آية (16) . 6 سورة محمد صلى الله عليه وسلم آية (5) . 7 النحل آية (53) . 8 آل عمران آية (74) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 عامة لجميه الخلق كما يدعي القدرية لما خصها وعلقها بمن يشاء له ذلك، ويدل على هداية الله للمؤمنين في الدنيا هداية التسديد قوله تعالى في الحج: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَار … } 1 الآية ثم قال بعدها: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْل} الطيب من القول الشهادتان2 {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} ، وهذا لا يمكن حمله على ثواب الآخرة3.   1 الحج آية (23-24) . 2 ذكر هذا ابن جير الطبري - رجمه الله - ورواه بإسناده عن ابن زيد وأخرج عن ابن عباس {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} "ألهموا"، وذكر السيوطي في الدرالمنثور روايات أخرى منها: ما أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك، قال: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} الإخلاص {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيد} "الإسلام"، وأخرج ابن المنذر عن إسماعيل بن أبي خالد {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} القرآن {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيد} قال: "الإسلام". انظر: تفسير الطبري 17/136، الدر المنثور 6/24. 3 تقدم الرد على قول المخالف في الهدى بأوسع من هذا. انظر: ص 285. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 61- فصل قال المخالف القدري: وأما الطبع والختم الذي أوردناه في الاحتجاج فهو العلامة على الشيء، كما يقال: طبع فلان الدينار والدرهم معناه أظهر فيهما من العلامات والنقوش ما يتميزان به عن غيرهما، ومعنى هذا أنه علَّم على قلوبهم علامة تظهر للملائكة يعرفون بها ما هم عليه من الكفر الذي يضمرونه. أو يعلمون بها منزلتهم1 في استحقاق الذم واللعن لينزلوهم2 منزلتهم من ذلك، ويكون في ذلك للملائكة ولمن علم به من المكلفين3، لأنهم متى علموا أنه من أضمر شيئاً من المعاصي ظهرت على قلبه علامة تشهد به4 وتدل عليه كان أقرب إلى توقي الخبائث، هذا معتمد قوله ونكتته في الطبع. قال: وكذلك الختم معناه ومعنى الطبع واحد وهو العلامة5.   1 في الأصل (في منزلتهم) وهي في - ح- كما أثبتها وهي الأصوب فإن (في) لا معتى لها هنا. (لينزلوا لهم) هكذا في - ح-. 3 هكذا في النسختين والكلام غير تام وإنما يتم بإضافة كلمة (علامة) . 4 في - ح- (عليه) . 5 ذكر الأشعري في المقالات عن المعتزلة في معنى الختم والطبع قولين: القول الأول: قال قائلون منهم: إن الختم من الله سبحانه والطبع على قلوب الكفار هو الشهادة والحكم أنهم لا يؤمنون، وليس ذلك بمانع لهم من الإيمان. والقول الثاني: قال قائلون آخرون منهم: الختم والطبع هو السواد في القلب كما يقال (طبع السيف) إذا صدى من غير أن يكون ذلك مانعا لهم عما أمرهم به وقالوا: جعل الله ذلك سمة لهم تعرف الملائكة بتلك السمة في القلب أهل ولاية الله سبحانه من أهل عدواته، مقالات الإسلاميين 1/332، وذكر الزمخشري ي كلامه على قول الله عزوجل: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} البقرة آية (7) أن الختم والغشاوة مجاز وليس بحقيقة ومنع أن يكن الختم وجعل الغشاوة على الأبصار من فعل الله زعما منه أن ذلك قبيح والله منزه عن فعل القبيح لعلمه بقبحه وغناه عنه وذكر في الآية خمسة تأويلات، الأول: أنه استعارة وتمثيل، أما الاستعارة فإن إعراضهم عن الحق فلا يخلص إلى قلوبهم واستكبارهم عن قبوله واعتقاده وأن أسماعهم تمجه وتنبو عن الإصغاء إليه وتعاف سماعه كأنها مستوثق منها بالختم، وأما التمثيل: فإن هذه الأعضاء حيث لم ينتفه منها بالأغراض الدينية التي خلقوا من أجلها فإنها مثل أشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنقاع بها بالختم والتغطية. الثاني: أن يكو هذا مثلا يضرب لمن تجافى عن الحق بمن ختم على قلبه. الثالث: أن الختم أسند إلى الله مجازا وهو لغيره في الحقيقة وهو الشيطان أو الكفر نفسه ونسب إلى الله مجازا لأنه الذي أقدره ومكنه منه. الرابع: أنه لما كانوا لن يؤمنوا على القطع ولا تغني عنهم الآيات والنذر فلن يؤمنوا اختيارا وطوعا لم يبق طريق إلى إيمانهم إلا القسر والإلجاء ثم لم يقسرهم لم يلجئهم إلى الإيمان لأن هذا ينافي الغرض من التكليف عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم. الخامس: هو أن يكون حكاية لما كان الكفرة يقولون تهكما بهم من قولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} " انتهى بتصرف. انظر: الكشاف 1/26، 28. وهذا الكلام من الزمخشري ظاهر منه تحميل الآية من التأويلات الباطلة ما لا تحتمل هروبا من القول بأن الله بيده هداية الخلق وإضلالهم، وأن الله له المشيئة والتصرف المطلق بخلقه، فقوله إن هذا مجاز وليس بحقيقة قول باطل فما المانع أن يكون حقيقة، ولا يلزم أن يكون الختم والغشاء على القلوب من جنس الأشياء المحسوسة فإن هذا منسوب إلى الله جل وعلا، والله لا يعجزه شيء في السموات والأرض فيجعل عليها غشاء وختما يناسبها، أما قوله إنها استعارة وتمثيل أو مثل فليس في لفظ الآية ما يدل على ذلك، وأما قوله إنه أسند إلى الله مجازا والفاعل على الحقيقة هو الشيطان أو الكافر فهذا باطل من ناحية لفظ الآية كما أن الشيطان ليس من فعله الختم ولا يقدر عليه فإن عمله هو التزيين والدعوة والوسوسة كما حكى الله عزوجل عنه {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} وقوله عزوجل على لسان إبليس: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْض} وقوله عزوجل: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} وغير ذلك. أما ان يكون الكافر هو الذي فعل الطبع ونسبه الله إلى نفسه مجازا فهذا لا يصح على مذهب القدرية ولا يتأتى، لأنهم ينكرون أن يكون الله له دخل في فعل العبد واختياره ومشيئته، أما خلق الله له الاستطاعة والآلة إلي يعمل بها فهذه لا تصحح نسبة الفعل إلى الله على هذا الاعتبار فقط، وأما قوله إنه عبر عن ترك قسرهم وإلجائهم بالختم فغير صحيح فإن ترك القسر والإلجاء لا يسمى ختما. وليس في الآية ما يدل عليه، وأما قوله إنه حكاية عن قول الكفار فهو تأويل بعيد لا دليل عليه من الآية، انظر: شفاء العليل لابن القيم - رحمه الله - ص 85 - 90 فقد ذكر عنه عدة أقوال في تأويلاتهم وأجب عنها إجابة مطولة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 والجواب: أن حمل الطبع والختم على القلوب على العلامة عليها من التأويل الذي قال الله تعالى: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه} 1 ومن الجدل في الدين بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، لأنه على ذلك في لغة   1 آل عمران آية (7) في كلا النسختين كتبت الآية (إلا ابتغاء) هو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 العرب ولا في الشرع، ولا يقبل إلا من أعدمه الله العقل وأغفله عن ذكره. والدليل على بطلانه أن العلامة في اللغة تسمى السيما1 ولهذا قال الله في علامة المؤمنين: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} 2 وقال سبحانه في علامة الكفار يوم القيامة: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ} 3 وسيماهم اسوداد في وجوههم وزرق في أعينهم4، وقال في علامة الفقير: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} 5 يعني بعلامة الفقر، فإذا صح في السيما وهي العلامة أن تسمى بهذه6 المعاني مع اختلافها فيجوز على مقتضى هذا أن يسمى أثر السجود في وجوه المؤمنين طبعاً وختماً، لأن حقيقة الاسم لا يتغير ولا يختلف لاختلاف المحل المسمى به، وهذا لا يقوله أحد، ويقال لهم: إذا صح في اللغة والشرع أن يحمل الختم والطبع على قلوب الكافرين على علامة على قلوبهم يعرفهم7 بذلك الملائكة ليستعملوا فيهم ما هم له أهل من اللعن والذم وينزلوهم بمنزلتهم التي يستحقونها فما المانع أن تسمى الهداية8 والتنوير في قلوب المؤمنين طبعاً وختماً، ويحمل ذلك على أن الله جعل ذلك علامة على قلوبهم ليعرفهم بها الملائكة ليستمعلوا بهم ما ندبوا إليه من الصلاة عليهم والدعاء   1 انظر: لسان العرب 4/3084. 2 الفتح آية (29) . 3 الرحمن آية (41) . 4 ذكر هذا الطبري ونسبه إلى الحسن وقتادة. انظر: تفسير ابن جرير 27/143. 5 البقرة آية (273) . 6 في - ح- (يسمى بها هذه) . 7 في - ح- (ليعرفهم) . 8 في - ح- (الهدى) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 لهم، ويستوي المسلم والكافر في هذه التسمية كما استويا في اسم السيما وهي العلامة على ما مضى وهذا لا يقبله عاقل1. وأما استدلال المخالف على تأويل هذا بقوله: طبع الدينار والدرهم إذا جعل عليه علامة فلا يسلم له،2 بل يقال: طبع الدينار والدرهم إذا ختم عليه بالطبع المنقوش عليه ويسمى الطابع والخاتم، والطبع والختم معنى واحد، وهو: التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء، ومنه يسمى ختام الكتاب: خاتمة لتغطية ما في باطنه وصيانته عن نظر الناظرين إلى باطنه3. والدليل على أن الطابع يستعمل في معنى الختم، ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فقال سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليكن كتب في رق ثم طبع عليه بطابع فلا يكسر إلى يوم القيامة"4. ومعناه: ختم على الكتاب بطابع. والطبع في اللغة: الوسخ والدنس يغشيان السيف ثم يستعمل فيما يشبه5 الوسخ من الآثام والأوزار6 ومنه الحديث   1 قول المخالف إن الختم علامة تظهر للملائكة يعرفون بها العصاة وكذلك المكلفين قول لا بد له من دليل يثبت به ذلك وإلا فيكون من باب الخرص والتخمين في الآية فإن هذا لا يعلم إلا من ناحية الوحي. 2 في الأصل (لهم) وهي في - ح- كما أثبتها وهو الأصوب لأن الخطاب للمخالف. 3 بين ذلك ابن منظور في لسان العرب مادة ختم 2/11101 ومادة طبع 4/2635. 4 أخرجه الحاكم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا وموقوفا وقال عن المرفوع: "حديث صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، وقال عن الموقوف: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي. انظر: المستدرك 1/564، 4/511، كما عزا الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد إلى الطبراني في الأوسط، وقال: "رجاله رجال الصحيحين" مجمع الزوائد 1/239، وصحح إسناد الطبراني أيضا المنذري في الترغيب والترهيب 1/172. 5 في - ح- (ما يسغه) . 6 الطبع بالفتح الطاء والباء، انظر: ما يؤيد كلام المصنف هنا في لسان العرب 4/2635. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 عن النبي صلى الله عليه وسلم: "استعيذوا1 بالله من طمع يهدي إلى طبع"2. أي إلى دنس. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب" 3 أي يخلق عليها، ويدل على أن الختم هو التغطية والسد على الشيء قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} 4 أي تغطي أفواههم ويسد عليها، ولو كان الختم في اللغة هو العلامة لكانت العلامة على أفواههم هاهنا لا تمنعهم عن الكلام ويدل عليه قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} 5 أفترى يحسن استعمال العلامة على الختم على قلوبهم هاهنا. وكذلك قوله تعالى: {فَإِنْ6 يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِك} 7 أي يربط على قلبك فلا تدخله المشقة لأنه شق على النبي صلى الله عليه وسلم تكذيب قومه8 وهو قوله   1 في الأصل (استعيذ) بدون الواو، وفي - ح- كما أثبت وهو كذلك في الأصول. 2 أخرجه حم 5/232-247، والحاكم في المستدرك 1/533، والطبراني في الكبير 20/93، والبزار انظر: كشف الأستار 4/64 كلهم من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال الحاكم: "هذا حديث مستقيم الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، ورمز له بالصحة في الجامع الصغير. انظر: فيض القدير 1/492. 3 أخرجه حم 5/252، وابن أبي شيبة في الإيمان ص 27، وابن أبي عاصم في السنة 1/53 كلهم من حديث الأعمش قال: "حدث عن أبي أمامة - رضي الله عنه - وهو منقطع وله شواهد ضعيفة". وقد روي موقوفا على سعد بن أبي وقاص رواه ابن أبي شيبة في الإيمان ص 27، وقال الألباني في تعليقه على الكتاب: "إسناده صحيح على شرط الشيخين". 4 يس آية (65) . 5 الأنعام آية (46) . 6 في كلا النسختين (ان) وهو خطأ. 7 الشورى آية (24) . 8 انظر هذا المعنى في: تفسير القرطبي 16/25 وذكر في الآية معان أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 : {يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} 1 حين زعم أن القرآن من عند الله، فهل يحسن2 استعمال العلامة في شيء من هذا أو يقبله عقل؟ ويدل على أن المراد بالطبع على قلوبهم هو سدها وتغطيتها عن الهداية والإسلام قوله تعالى: {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} 3 فأخبر أن الطبع أورثهم عدم الفهم، وهذا المعنى لا يوجد في العلامة على القلوب. ويدل على صحة قولنا: ما روي أن قوماً من المنافقين حضروا خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فلما خرجوا من المسجد قالوا للذين أوتوا العلم: ماذا قال آنفاً؟ يعنون الساعة4 وقد سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفقهوه، فأخبر الله عن أن المعنى الذي أورثهم عدم تفقههم5 قول النبي صلى الله عليه وسلم6 فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} أي في الكفر، وهذا كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} 7، فنسب إغفال قلوبهم إليه، كما نسب الطبع على قلوبهم إليه، واتبعوا لذلك أهواءهم ونسب اتباعهم لأهوائهم إليهم، لأنه كسبهم ولأنهم محل لخلق الله ذلك فيهم. ويدل على صحة قوله قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى   1 الشورى آية (24) . 2 في الأصل (يحصل) وما أثبت من - ح-. 3 المنافقون آية (3) . 4 المراد به الساعة التي هي أقرب الأوقات إليك قاله القرطبي. انظر: تفسير القرطبي 16/238. (تفقههم) غير موجودة في كلا النسختين وهي في نسخة (ب) فلعلها على هامش الأصل وهي غير ظاهرة في الصورة. 6 ذكر هذا ابن جرير في تفسيره 26/51، وانظر: تفسير القرطبي 16/238. 7 الكهف آية (28) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} 1 وقد قرأ بعض القراء (غشاوة) بالنصب فيكون تأويل الآية غطاءاً على قلوبهم فلا تفقه2 وعلى أسماعهم فلا تسمع وعلى أبصارهم غشاوة3 فلا تبصر4، ولو كان المراد بالختم هاهنا: العلامة، لكانت العلامة على آذانهم وعلى أعينهم مشاهدة يدركها كل أحد كما يدرك العلامة على وجوههم وعلى أبصارهم يوم القيامة ويشاهدها كل أحد، فبطل أن يكون الختم والطبع هو العلامة. واستدل المخالف على تأويله بقوله تعالى: {بَلْ5 طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً} 6 فأخبر أن الإيمان بالطبع يحصل من قليل منهم7. والجواب: أن هذه الآية حجة عليه، وأن الطبع: هو السد8 والتغطية لأن الله سبحانه أخبر عنهم أنهم قالوا: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} يعنون قلوبنا في أكنة: أي عليها الغطاء فلا نفقه ولا نفهم ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا} أي ختم عليها بكفرهم: أي جعل ذلك مجازاة لهم على كفرهم، وقيل: لما سبق في علمه بكفرهم، وأما قوله: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً}   1 البقرة آية (7) . 2 ذكر هذه القراءة الطبري والقرطبي ورجحا قراءة الرفع حيث غشاوة مبتدأ مؤخر، أما النصب فعلى تقدير (جعل) فيكون المعنى (وجعل على أبصارهم غشاوة) تفسير الطبري 1/114، تفسير القرطبي 1/191. (غشاوة) ليست في - ح-. 4 الأولى أن يقول (وجعل على أبصارهم غشاوة فلا تبصر) على تقدير النصب لغشاوة. (بل) ليست في- ح-. 6 النساء آية (155) . 7 مراد المخالف بهذا أن الطبع لو كان هو التغطية والختم عليها فلا يدخل إليها الهداية لما حصل الإيمان لقليل منهم. 8 في الأصل (الشد) وفي - ح- كما أثبتها وهي الأصوب فلم يرد أن الشد من معاني الطبع. انظر: ما تقدم من معنى الطبع ص 361. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 يقول ما أقل ما يؤمنون البيتة، ويجوز أن يكون المراد فلا يؤمنون إلا قليلاً ممن أراد الله منه الإيمان فأزال الطبع عن قلبه1 لأنه قال: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} 2.   1 انظر في معنى هذه الآية: تفسير ابن جرير 6/10، تفسير القرطبي 6/8، فتح القدير 1/534، وقول المصنف - رحمه الله - في معنى (فلا يؤمنون إلا قليلا) يعني ما أقل ما يؤمنون فإنهم لا يؤمنون البتة، لم أر من ذكره. أما القول الثاني فذكره الشوكاني، وذكر ابن جرير معنى آخر وهو أنهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا ينفعهم وذلك أنهم صدقوا ببعض الأنبياء وببعض الكتب وكذبوا ببعض، والمكذب ببعض الكتب مكذب بجميعها لأن بعضها يصدق بعضا فصار بذلك إيمانهم إيمانا قليلا. انتهى بتصرف، وذكر نحوه القرطبي. 2 التوبة آية (15) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 63- فصل يقال للقدري: إذا قلتم عن الله سبحانه لم يخص أحداً بالهداية إلى الإيمان والمعرفة، فهل ساوى بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل وأبي لهب بهذه المنزلة؟ أو هل سوى بين موسى عليه السلام وفرعون بهذه المنزلة؟! فمن أصلهم الفاسد أن1 يقولوا: نعم سوى الله بينهم فيقال لهم قال الله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 2 قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا بورك لي في يوم لا أزداد فيه علما"3، وقال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} 4، وهل درجة أفضل من المعرفة بالله، وهل فاضل الله بين الأنبياء بشيء أفضل من المفاضلة بينهم بالمعرفة به سبحانه، وعلى قدر درجاتهم بالمعرفة بالله في الدنيا تكون درجاتهم في الآخرة5 بالجنة، فكيف يتصور عاقل أن الله سوى بين أنبيائه وبين أعدائه في الهداية واللطف والتوفيق لمعرفته، ولو حلف حالف بطلاق نسائه ثلاثا ما سوى الله بين أنبيائه وبين أعدائه في اللطف   (أن) ليست في - ح-. 2 الإسراء آية (55) . 3 أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث عائشة - رضي الله عنها - ولفظه: "إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم" قال أبو نعيم: "غريب من حديث الزهري تفرد به الحكم"، الحلية 8/188، وأخرجه الطبراني في الأوسط عن عائشة ذكر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد 1/136، وأخرجه ابن عدي من حديث عائشة أيضا إلا أنه قال فيه: "لم أزدد فيه خيرا … "، وقال ابن عدي: "هذا حديث لا يرويه عن الزهري غير الحكم"، وقال: "هذا حديث منكر المتن". الكامل 2/511 والحكم هو ابن عبد الله بن سعد الأيلي قال ابن حبان عنه: "يروي الموضوعات عن الأثبات"، وقال الإمام أحمد: "أحاديث الحكم بن عبد الله كلها موضوعة". المجروحين 1/248. انظر: الميزان 1/572. 4 الزخرف آية (32) ، وهذه الآية ليست في الأنبياء، وإنما هي عامة في تفضيل بعض الناس على بعض ورفعهم درجات، أما الآية الخاصة بالأنبياء فهي قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} البقرة آية (253) . (في الآخرة) ليست في - ح-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 أن الله سوى بين قلب من قال فيه: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} 1 وبين قلب من قال الله فيها وهي أم موسى صلى الله عليه وسلم: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 2، ومثلها قوله تعالى في أهل الكهف: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} 3 وهل يتصور التسوية بين من قال الله فيهم: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} 4 وبين من قال فيهم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} 5 وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} 6. ويقال للمعتزلة والقدرية: قلتم إن الله لم يخص أحداً بالعلم والإيمان ولكنهم آمنوا بأنفسهم فأين أنتم من قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ} 7 وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة} 8، وقال: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} 9، وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} 10، وقال: {عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 11، وقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} 12 فلو كان الإنسان علم نفسه، أو لم يخص أحداً بإيتاء الإيمان والحكمة، أو سوى بين الخلق بذلك لم يكن لذكر تخصيص الله بمن ذكر ممن ذكر معنى.   1 الكهف آية (28) . 2 القصص آية (10) . 3 الكهف آية (14) . 4 المائدة آية (14) . 5 الأنفال آية (63) . 6 الأنفال آية (63) . 7 الروم آية (56) . 8 لقمان آية (12) . 9 البقرة آية (269) . 10 الرحمن آية (1-2) . 11 العلق آية (5) . 12 النساء آية (113) وفي الأصل وح- خطأ في الآية حيث وردت هكذا (وعلمك الكتاب والحكمة) وصوابها {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَم} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 63- فصل يقال للقدري: إذا قلتم عن الله سبحانه لم يخص أحداً بالهداية إلى الإيمان والمعرفة، فهل ساوى بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل وأبي لهب بهذه المنزلة؟ أو هل سوى بين موسى عليه السلام وفرعون بهذه المنزلة؟! فمن أصلهم الفاسد أن1 يقولوا: نعم سوى الله بينهم فيقال لهم قال الله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 2 قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا بورك لي في يوم لا أزداد فيه عل ما"3، وقال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} 4، وهل درجة أفضل من المعرفة بالله، وهل فاضل الله بين الأنبياء بشيء أفضل من المفاضلة بينهم بالمعرفة به سبحانه، وعلى قدر درجاتهم بالمعرفة بالله في الدنيا تكون درجاتهم في الآخرة5 بالجنة، فكيف يتصور عاقل أن الله سوى بين أنبيائه وبين أعدائه في الهداية واللطف والتوفيق لمعرفته، ولو حلف حالف بطلاق نسائه ثلاثا ما سوى الله بين أنبيائه وبين أعدائه في اللطف   (أن) ليست في - ح-. 2 الإسراء آية (55) . 3 أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث عائشة - رضي الله عنها - ولفظه: "إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم" قال أبو نعيم: "غريب من حديث الزهري تفرد به الحكم"، الحلية 8/188، وأخرجه الطبراني في الأوسط عن عائشة ذكر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد 1/136، وأخرجه ابن عدي من حديث عائشة أيضا إلا أنه قال فيه: "لم أزدد فيه خيرا … "، وقال ابن عدي: "هذا حديث لا يرويه عن الزهري غير الحكم"، وقال: "هذا حديث منكر المتن". الكامل 2/511 والحكم هو ابن عبد الله بن سعد الأيلي قال ابن حبان عنه: "يروي الموضوعات عن الأثبات"، وقال الإمام أحمد: "أحاديث الحكم بن عبد الله كلها موضوعة". المجروحين 1/248. انظر: الميزان 1/572. 4 الزخرف آية (32) ، وهذه الآية ليست في الأنبياء، وإنما هي عامة في تفضيل بعض الناس على بعض ورفعهم درجات، أما الآية الخاصة بالأنبياء فهي قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} البقرة آية (253) . (في الآخرة) ليست في - ح-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 والهداية إلى الإيمان به1 لم يحكم أحد ممن له أدنى فطنة في الفقه بطلاق امرأة2 من حلف، بل الذي لا شك فيه ولا مرية عند من له فهم ودراية في الفقه أن رجلاً لو قال: امرأته طالق ثلاثاً لقد ضل الله من يقول إن الله لم يساو بين الخلق في الهداية والإيمان على من قال إنه ساوى بينهم بذلك لم يحكم عليه بطلاق امرأته، لأن على ذلك أدلة قطعية من الكتاب والعقل. ولو حلف بطلاق امرأته ثلاثاً أن القدرية هم الذين يقولون: إنهم يخلقون أفعالهم دون من يقول إن الله خلق أفعالهم لم يحكم بطلاق امرأته على قول جميع الأئمة الذين جعل الله جميع أهل الأرض تابعين لهم وجمع هممهم على ذلك وهم الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد وأهل الظاهر ولم يخرج عن هؤلاء إلا من لا يعد قوله خلافاً. استدل المخالف بقوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} 3. والجواب: أن نقول لا شك أن الله سبحانه قدر أفعال الشر على يد إبليس وخلقه سبباً للشر، وقال صلى الله عليه وسلم: "لو أراد الله أن لا يعصى لما خلق إبليس"4، وروي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " قال الله عزوجل: أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخير والشر وقدرته على يدي من يكون فطوبى لمن خلقت الخير على يديه وويل لمن خلقت الشر على يديه"5. ومن أشنع ما شهد به هذا المخالف على نفسه قوله:   1 في - ح- (بالإيمان) وليست فيها (به) . 2 في - ح- (نساء) . 3 المجادلة آية (19) ، والمراد هنا أن المخالف استدل بهذا على أن الشيطان هو الذي يغوي الإنسان ويضله ويصرفه عن الحق وأن الله لا يضل أحدا ولا يصرف أحدا عن الحق. 4 تقدم تخريج هذا الحديث. انظر: ص 338. 5 نسبه في كنز العمال إلى ابن النجار عن أبي أمامة. كنز العمال ص 124. وأخرجه الآجري عن وهب بن منبه موقوفا عليه قال: "أجد في التوراة أو في الكتاب: أنا الله لا إله إلا أنا خالق الخلق خلقت الخير والشر أو خلقت من يكون الخير على يديه فطوبي لمن خلقته ليكون الخير على يديه وويل لمن خلقته ليكون الشر على يديه" الشريعة ص 237. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 إن الله خلق إبليس للعبادة1. فيقال له: قل إن الله خلق إبليس لما خلق له جبريل وميكال ولما خلق له النبي صلى الله عليه وسلم من العبادة ولطف به في الهداية إلى معرفته وطاعته كما لطف بهؤلاء، ولم يفضلهم عليه إلا بالنبوة. وهذا قول يشهد على قائله بالشناعة، فليت شعري من المراد بقوله2 تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} 3، إن كان إبليس لم يخلق لجهنم؟! وأما تمويهه بتأويل4 هذه الآية فلا يقبله من أنعم الله عليه بشيء من العقل وسيأتي بيان فساده5.   1 انظر: قول المخالف فيما سبق ص 338. 2 في - ح- (إذا بقوله) . 3 الأعراف آية (179) . 4 في الأصل (تأويل) وما أثبت من - ح-. 5 أفرد المصنف - رحمه الله - للرد على المخالف في تأويله لهذه الآية فصلا فيما سبق ص 428. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 64- فصل قال المخالف القدري: وأما استدلال المستدل بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} 1. فقد اختلف في تفسيره فمنهم من قال: إن الكفار كانوا إذا سمعوا تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن في صلاة الليل في الحرم أيام كان بمكة في أول الإسلام رجموه وآذوه فأراد الله منعهم من ذلك فألقى عليهم النوم والأمور المانعة من السماع للكلام والفهم له فسمى ذلك حجاباً مستوراً ووقراً في الآذان وأكنة على القلوب وهو قوله تعالى: {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} إلى قوله: {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} 2. ومنهم من قال: إنما ذكر الله ذلك على جهة التمثيل ممن هو على هذه الصفة كما سماهم عمياً وبكماً وصماً، وإنما أراد أنهم3 بمثابة من هو كذلك وإلا فقد علمنا أنهم لم يكونوا كذلك حقيقة بل كانوا يبصرون ويسمعون ويعقلون أكثر الأشياء، فعلى أي التأويلين حملنا ما أورده4 المستدل لم يكن فيه حجة. والجواب أن يقال لهذا المخالف: صحة قولك في التأويل فرع على صحة قولك في التنزيل، فإذا كان قولك في التنزيل غير صحيح وهو أنك لا تقر بأن هذا القرآن كلام الله حقيقة وإنما تطلق ذلك في احتجاجك لتغر العوام أنك تحتج بكلام الله وأن لك تأويلاً صحيحاً، وحقيقة قولك الذي تعتمد   1 الأنعام آية (25) ، الإسراء آية (46) . انظر: ما سبق ص 356. 2 الإسراء آية (45 - 46) وأول الآية الثانية هو: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} . 3 في النسختين (هم) بدون الألف والنقطة ولعل صوابها ما أثبت. 4 في - ح- (ما أورده فيهم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 عليه أنه لا كلام لله حقيقة فكيف يقبل منك التأويل، ثم يقال: عمن تروي هذا الاختلاف في التأويل من أهل التفسير، والمشهورون في تفسير القرآن من الصحابة علي وابن عباس وأبي بن كعب وابن مسعود، ومن التابعين أبو العالية1 ومجاهد وعكرمة2 وسعيد بن جبير وعطاء بن يسار3 مولى بني أسد4 وطاوس5 وعلي بن عبد الله بن عباس6 وأبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي7 وأبو مالك الغفاري8. قال مجاهد: "قرأت القرآن على   1 هو الفقيه المقرئ رفيع بن مهران أبو العالية الرياحي البصري قرأ القرآن على أبي وغيره، وروى ابنه عنه أنه قال: "كان ابن عباس يرفعني على سريره وقريش أسفل منه ويقول: هكذا العلم يزيد الشريف شرفاً ويجلس المملوك على الأسرة" توفي سنة (90?) . انظر: تذكرة الحفاظ 1/61. 2 هو أبو عبد الله البربري المدني مولى ابن عباس - رضي الله عنه - العلامة الحافظ المفسر، قيل لسعيد بن جبير: تعلم أحداً أعلم منك قال: نعم عكرمة. توفي بالمدينة سنة (107?) ، وقيل غير ذلك. انظر: تذكرة الحفاظ 1/95، سير أعلام النبلاء 5/12. 3 عطاء بن يسار أبو محمد المدني الإمام الرباني مولى أم المؤمنين ميمونة الفقيه الواعظ أخو الفقيه سليمان وعبد الله وعبد الملك، توفي سنة (103?) . انظر: تذكرة الحفاظ 1/90، سير أعلام النبلاء 4/448. 4 هكذا في كلا النسختين، وفي نسخة - ب- (بني أمية) والذي في كتب التراجم أنه مولى أم المؤمنين ميمونة الهلالية، وهي من بني هلال ولم أر من نسبه إلى بني أسد. 5 طاوس بن كيسان أبو عبد الرحمن الفارسي ثم اليمني الجندي الفقيه القدوة عالم اليمن الحافظ توفي بمكة حاجاً يوم التروية سنة (106?) ، وصلى عليه الخليفة هشام بن عبد الملك. سير أعلام النبلاء 5/38، تذكرة الحفاظ 1/90. 6 علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي المدني، قال عنه ابن سعد: ثقة قليل الحديث وكان يدعى بالسجاد لكثرة صلاته، وهو جد خلفاء بني العباس ولد ليلة قتل علي - رضي الله عنه - سنة (40?) ، وتوفي سنة (78?) بالبلقاء من أرض الشام. سير أعلام النبلاء 5/284، تهذيب التهذيب 7/257. 7 أوس بن عبد الله الربعي أبو الجوزاء البصري من ربعة الأزد قال العجلي: بصري تابعي ثقة، وقال: ابن حبان: كان عابداً فاضلاً قتل في الجماجم سنة (83?) . سير أعلام النبلاء 4/371، تهذيب التهذيب 1/383. 8 غزوان أبو مالك الغفاري الكوفي روى عن ابن عباس وعمار والبراء بن عازب وعبد الرحمن بن أبزى، قال ابن معين: "كوفي ثقة"، وذكره ابن حبان في الثقات. انظر: تهذيب التهذيب 8/245. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 ابن عباس ثلاثين مرة من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية فأسأله عنها وعمن نزلت فيه"1. وقال أبو الجوزاء: "أقمت بالمدينة ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة فسألت ابن عباس عن كل آية في القرآن ظهرها وبطنها وفيمن نزلت"2. وقال طاوس: "صحبت ابن عباس أربعين سنة وأدركت سبعين شيخاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا بدروا3 في أمر انتهوا فيه إلى قول4 ابن عباس"5. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس وقال: "اللهم علمه التأويل والتنزيل وفقهه في الدين واجعله من عبادك الصالحين" 6، ولم يذكر في كتب   1 أخرجه عنه أبو نعيم في الحلية من طريقين، الطريق الأولى: عن أبان بن صالح عنه قال: "عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقفه عند كل آية أسأله فيما نزلت وكيف كانت" والطريق الأخرى: عن الفضل بن ميمون عنه قال: "عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين عرضة". الحلية 3/280، وانظر: سير أعلام النبلاء 4/450. 2 أخرجه أبو نعيم في الحلية 3/79 نحوه. 3 هكذا في الأصل، وفي - ح- (تذاكروا) ومعنى (بدروا) أي تسابق القوم أيهم يسبق إليه فيغلب، من بدرت إلى الشيء أبدر إليه بدوراً أسرعت. انظر: لسان العرب 1/228، وفي طبقات ابن سعد والإصابة وردت: (تدارؤوا) ومعناها تدافعوا في الخصومة ونحوها واختلفوا من الدرء وهو الدفع. انظر: لسان العرب 2/1347. 4 في - ح- إلى (رأي قول) . 5 أخرجه عنه ابن سعد في طبقاته 2/366. وانظر: الإصابة 6/137. 6 لم أقف عليه بهذا اللفظ وإنما أخرجه م. في كتاب فضائل الصحابة (ب. فضل عبد الله بن عباس) من حديث أبي يزيد عن ابن عباس - رضي الله عنه - 4/197، وأخرجه حم. من حديث سعيد بن جبير عنه، ولفظه: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" المسند 1/266، 314، 328، 335، وأخرجه الحاكم من حديث سعيد عنه بمثل لفظ الإمام أحمد، وأخرجه من حديث علي بن عبد الله بن عباس عنه ولفظه: "اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين واجعله من أهل الإيمان" قال الذهبي: منكر. انظر: المستدرك 3/534 - 536، وأخرجه الطبراني في الكبير من حديث عمرو بن دينار عنه مثل حديث سعيد. انظر: المعجم 11/110. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 هؤلاء1 الأئمة شيء من هذه التأويلات التي أوردها هذا المخالف، وإنما ذلك من تخيلات المعتزلة والقدرية وتأويلاتهم الفاسدة التي يرومون بها صرف القرآن عن ظاهره الذي يشهد على بطلان مذهبهم الفاسد، والذي ذكره المفسرون المعتمد على تفسيرهم من الصحابة والتابعين أن الأكنة على القلوب: هي الغشاوة والأغطية عليها، وهي معنى الختم والطبع عليها عن الإيمان الهدى بدليل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوه} وهذا يراد به عدم فقههم وفهمهم2 لمعاني القرآن المودعة في القرآن3، ولو كان المراد به ما ذكره المخالف من منعهم من أذى النبي صلى الله عليه وسلم لما كان لذكر فقههم معنى، ولقال: أن يسمعوه. ويدل على بطلان تأويله أن النوم وغيره من الموانع عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم لا تسمى أكنة على القلوب ولا وقراً في الآذان، بل تسمى شاغلاً ومانعاً عن الأذى، وهذا المعنى الذي ذكره معلوم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} 4 وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم تحرسه أصحابه حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه إلى أصحابه بالليل وقال: "يأيها الناس انصرفوا5 فقد عصمني الله من الناس"6.   (هؤلاء) ليست في - ح-. (وفهمهم) ليست في - ح-. 3 انظر: ما يوافق هذا من قول الطبري في تفسيره 7/169، والقرطبي في تفسيره 6/404. 4 المائدة آية (67) . 5 في - ح- (انصرفوا عني) . 6 ورد هذا الأثر مرسلا وموصولا، قد أخرجه ت. كتاب التفسير (ب. تفسير سورة المائدة) مرفوعا من حديث عبد الله بن شقيق عن عائشة - رضي الله عنها -، وقال الترمذي: "حديث غريب"، وروى بعضهم الحديث عن الجريري عن عبد الله بن شقيق ولم يذكروا فيه عائشة. انظر: ت. 5/251، وأخرجه الحاكم من نفس الطريق وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. المستدرك 2/313 وابن جرير الطبري من نفس الطريق مرفوعاً. تفسير ابن جرير 6/308، قلت: في إسناده الحارث بن حجر صدوق يخطئ كثيراً. التقريب ص 160. أما المرسل فأخرجه ابن جرير عن عبد الله بن شقيق وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي. انظر: تفسير ابن جرير 6/307. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 ويدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور} 1. ومعنى الآية أن الله يسمع الإيمان من يشاء من خلقه أن يفقههم ويفهمهم، وما أنت بمفقه2 الكفار الإيمان الذين هم بمنزلة من في القبور3، ومثل هذا قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لآسْمَعَهُمْ} 4 يعني لأعطاهم الإيمان5 {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} أي لو بين لهم كل ما يختلج في صدورهم {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} لما سبق عليهم في علم الله أنهم لا يؤمنون. وأما قول المخالف: إنما ذكر ذلك على جهة التمثيل فإنما يحسن هذا في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور} أي هم6 بمنزلة من في القبور، وأما قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة} في مواضع كثيرة من القرآن فلا يصح7؛   1 فاطر آية (22) . 2 في الأصل (تفهم) وما أثبت من - ح-. 3 انظر: هذا المعنى من كلام الطبري في تفسيره 22/129. 4 الأنفال آية (22- 23) . 5 الذي ذكره المفسرون في هذه الآية هو: "أن الله لو علم في هؤلاء الموصوفين خيراً لأسمعهم مواعظ القرآن وعبره وحججه وآياته سماع تعقل وتفهم ينتفعون به". انظر: تفسير ابن جرير 9/213، تفسير القرطبي 7/388، فتح القدير 2/298. (هم) ليست في - ح-. 7 أي فلا يصح اعتبار أن قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة} من باب التمثيل. انظر: كلام المخالف السابق ص 374. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 لأنها كقوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظا} 1 وكقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} 2 {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} 3، فخلق كل قوم لما لم يخلق له الآخرين، فمن قال: إن الله لم يجعل على قلوبهم أكنة وإنما شبههم به فقد رد على الله خبره وصرف الكلام إلى غير ظاهره لغير ضرورة ولا معنى يدل على ذلك.   1 الأنبياء آية (32) . 2 الأنبياء آية (73) . 3 القصص آية (41) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 65- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلام وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍِ} 1 وأخبر سبحانه أنه عم جميع الخلق بالدعاء إلى دار السلام2 وهي الجنة، وأخبر أن الهداية منه إلى إجابته خاصة لبعضهم3. فأجاب المخالف القدري عن هذا الاستدلال وقال: لا عموم في هذا لأن قوله: (يدعو) فعل مستقل، والعموم أحد أقسام الأسماء ولا يدخل في الأفعال، وأما قوله: فإن الهداية إلى الإجابة خاصة لبعضهم فليس في الآية ما يدل على تخصيص بعض المكلفين بالهداية دون بعض، فإن أكثر ما فيها أنه يهدي من يشاء وليس فيها بيان من يشاء هدايتهم، فيحتمل أنه يريد الهداية العامة فيكون تخصيصاً للمكلفين جميعاً دون من لم يشأ تكليفه كالمجانين ومن شاكلهم، ويحتمل أنه يريد الهداية التي تختص بالمؤمنين وهي الزيادة في التوفيق والتسديد أو الثواب على ما مضى4. والجواب أن يقال له: أما قولك بأنه لا عموم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلام} لأنه فعل5 فهذا يدل على إفلاسك من العربية وجهلك بأقسام العموم. والمعنى فيما ذكر أنا لا ننكر أن قوله (يدعو) فعل مستقل يتعدى إلى مفعول وهم الخلق المدعون إلى دار السلام، والسلام: هو اسم من أسماء   1 يونس آية (25) . 2 في الأصل (الإسلام) وما أثبت من - ح- وهو الأصوب. 3 انظر: تفسير ابن جير 11/103، تفسير القرطبي 8/328. 4 انظر: ص 275. 5 في - ح- فعل مستقبل) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 الله تعالى كقوله تعالى: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} 1 فهو يدعو عباده إلى داره وهي الجنة، ويجوز أن يكون سماها دار السلام لأن من صار إليها سلم من الآفات والعذاب2، والدليل على صحة ما ذكرنا أن قولك: دعا يدعو من أفعال التي تتعدى إلى مفعول، فيفهم ذلك بالإطلاق كقولك ضرب وقتل، فلما حذف المفعول دل على أنه أراد دعاء جميع المكلفين3، فلما قال بعده: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍِ} كان الظاهر أن الهداية منه إلى بعض من تقدم ذكره في الدعاء. وأما قول المخالف: إنه أراد بالهداية هاهنا الهداية العامة فتكون لبعض المكلفين وهم العقلاء والبالغون. فالجواب أنه لا يصح حمل الآية على هذا لأن المجانين والصغار غير داخلين في التكليف، فهم غير داخلين في عموم المدعين، لأنه لم يدع الخلق إلى دار السلام إلا بالتكليف، وهو: الإيمان به والشرائع، وهؤلاء غير داخلين في الخطاب العام، فيكون المكلفون مخصوصين بالهداية، وأيضاً فإن الهدى العام هو: البيان والدلالة، ولا يجوز أن يخص بالبيان والدلالة بعض الخلق دون بعض4، وإذا بطل هذا ثبت أن المدعيين إلى دار السلام هم جميع المكلفين الداخلين في واجبات التكليف، وأن الهداية إلى الإجابة خاصة منه لبعضهم.   1 سورة الحشر آية (23) . 2 انظر: تفسير ابن جير 11/103، تفسير القرطبي 8/328، وذكر القرطبي قولا ثالثا وهو أن الله يدعو إلى دار التحية لأن أهلها ينالون من الله التحية والسلام وكذلك من الملائكة. 3 فالعموم هنا تعلق بالمدعويين وهم الخلق المكلف فالدعوة من الله جل وعلا إلى جنته عامة لجميع خلقه المكلفين، وهذه الدعوة مستمرة من الله جل وعلا إلى يوم القيامة، وكان الأنبياء قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم يبلغونها إلى الناس ثم بلغها محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الدعوة لا زالت مستمرة في الناس يدعو إليها كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والآية بشارة بأن كتاب الله وهذا الدين باق إلى آخر الزمان لأن الله وصف نفسه بأنه يدعو إلى (دار السلام) ويدعو فعل مضارع يدل على الحال والاستمرار، فلا داع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. 4 وذلك لأن البيان والدلالة جاءت على لسان الرسل عليهم السلام وفي كتاب الله المنزلة وهذه ميسرة لكل من عقل وأدرك أن يطلع عليها فلا يجوز أن توصف بأنها خاصة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 وأما قوله: يحتمل أنه يريد بالهداية هي التي تختص بالمؤمنين من الزيادة في التوفيق والتسديد، فهذا غير صحيح لأنه علق ذلك على من يشاء ولم يخص به المؤمنين الذين اهتدوا فيكون كقوله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} 1 لا يختص به المؤمنون ولا الكافرون2. وأما قوله يحتمل أنه3 أراد بالهداية هاهنا الثواب في الآخرة غير صحيح، لأنا قد بينا أن حمل الهدى على الثواب لا يصح في اللغة ولا دليل عليه من الشرع4 وعلى أنه لو صح أن الهدى يحمل على الثواب لم يعلقه الله بمن يشاء لأن الثواب يكون للمطيعين، وعندكم أن الله لو لم يثب المطيعين لظلمهم فلا يجوز تعليقه على مشيئته، وأيضاً فإنه قال في الآية: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍِ} والصراط المستقيم قيل: "هو الإسلام"5، وقيل: "هو كتاب الله"6، وقيل: "هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره"7. وقال ابن عباس: "هو طريق الجنة"8.   1 الشورى آية (49) . 2 أي لا يختص إعطاء الذكور أو الإناث بنوع من الناس بل يختص به أناس من هؤلاء ومن هؤلاء، فكذلك الهداية لم يخصها بنوع من المؤمنين الذين هم مهتدون فتكون بمعنى الزيادة لهم، وإنما يخص بها من شاء من خلقه فالاختصاص في كلا الاثنين غير متوقف على صفة موجودة في الخلق، وإنما هو متوقف على مشيئة الله العدل الحكيم. 3 في - ح- (أنه إذا) . 4 انظر: ما مضى ص 285. 5 روى ذلك ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي الله صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهم - تفسير ابن جرير 1/75. 6 روى ذلك ابن جرير بسنده عن علي وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم -. تفسير ابن جرير 1/74. 7 روى ذلك عن ابن الحنفية. انظر: تفسير ابن جير 1/75. 8 روى عنه ابن جير أنه قال: "هو الطريق". تفسير ابن جير 1/75. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 والصراط: "الطريق بلغة الروم"1 وهذا كله يدل على أنه لا يمكن حمل الهدى هاهنا على الثواب في الآخرة.   1 ذكر ذلك القرطبي عن النقاش، وقال ابن عطية: "وهذا ضعيف جدا". انظر: تفسير القرطبي 10/148، وانظر: لسان العرب 4/2432. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 66- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} 1 فنسب الله سبحانه الإرادة في الهداية بشرح صدور المسلمين2 إليه، ونسب الإرادة في إضلالهم وجعل صدورهم ضيقة حرجة إليه، وهذا كله أدلة على القدرية لا مخرج لهم عنها. فأجاب المخالف القدري عن هذا الاستدلال وقال: لا حجة لهذا المستدل بهذه الآية وذلك لما بينا أن الهداية منقسمة إلى معان، أحدها: الثواب، والضلالة منقسمة إلى معان أحدها: العقاب3، فمعنى الآية من يرد الله أن يثيبه من المؤمنين يقدم له شرح الصدر الذي من جملة الثواب العاجل وزيادة اللطف لأجل الإسلام الذي فعله هو، فيكون عند الشرح أقرب إلى الاستقامة على ما هو عليه من الإيمان، ومن يرد أن يعاقبه من العصاة يقدم له حرج الصدر الذي هو جار مجرى العقاب على كفره، فيصير صدره ضيقا حرجا بما هو عليه من الكفر ليكون أقرب إلى الانتقال عن الكفر الذي هو سبب ذلك الحرج في الدنيا والعقاب، وقد دل على أنه أراد بذلك عقابهم بقوله تعالى في آخر الآية: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} . والرجس هو العقاب فأخبر أنه جعل عليهم الرجس لما لم يؤمنوا. والجواب أن الهدي يعود إلى معنيين: أحدهما: هدي بيان ودلالة، وهذا هو الهدي4 لجميع المكلفين، وهو   1 الأنعام آية (125) . 2 في - ح- (المؤمنين) . 3 انظر: كلام القدري في معاني الهداية والضلالة ص 275، والمصنف في هذا الفصل يذكر شيئاً من استدلالاته السابقة كما سيأتي مما لم يذكره المخالف هنا ويرد عليه. 4 في - ح- (الدال) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 الهدي الذي أخبر الله أنه هَدَى له ثمود، والهدي المضاف إلى الرسل. والهدي الثاني: هدي تأييد وتوفيق، وهو هدي الله للمؤمنين، وهو الهدي الذي لم يجعله الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى غيره من الرسل، بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1 وهو المراد بالهدي في هذه الآية التي نحن فيها، يشرح له الصدر: أي يوسعها ويفتحها للإسلام2. فأما ما ادّعاه المخالف: من أنه قد ورد في القرآن وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِم} 3. والمراد به الثواب، وعلى هذا يحمل الهدى في هذه الآية فغير مستقيمة في لغة ولا شرع، وقد قرئ: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقرئ: {قَتَلُوا} بفتح القاف والتاء، أي قتلوا غيرهم وهم أصحاب بدر {سَيَهْدِيهِمْ} 4 فيكون تأويل الآية على هذا: سيهديهم في الدنيا هداية التأييد والتوفيق5 بدليل قوله: {وَيُصْلِحُ بَالَهُمٍٍٍٍٍٍِِِْْْْ} والبال هاهنا: هو سعة الرزق في الدنيا، وقيل عبر بالبال عن القلوب بدليل قول العرب: لم يخطر هذا على بالى6 أي على قلبي، ونقول لغيرك: اجعلني واجعل حاجتي على بالك، أي على قلبك7، وأما قوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} فأخبر8 عما يفعل لهم في الآخرة بعد إخباره عما يفعل لهم في الدنيا، فيكون تأويلنا هذا أولى من تأويلهم؛ لأن ذلك   1 القصص آية (56) . 2 انظر: ما تقدم من كلام المصنف في بيان معنى الهداية في القرآن ص 285. 3 سورة - محمد صلى الله عليه وسلم - آية (5) . 4 في - ح- (سيهديهم ويصلح بالهم) . 5 تقدم كلام المصنف في هذا والتعليق عليه. انظر: ص 288. 6 في - ح- (لم يخطر ببالي) 7 انظر: تفسير ابن جرير 26/44، وانظر: لسان العرب 1/391. 8 في - ح- (فإنه أخبر) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 يفيد الإخبار عن إنعامه عليهم في الدنيا والآخرة، وعلى ما ذكره المخالف يكون مكرراً عن معنى واحد؛ لأن الثواب هو الجنة والجنة هي الثواب، ومتى أمكن حمل الكلامين على فائدتين محددتين كان أولى من الحمل على فائدة واحدة مكررة. وأما قراءة من قرأ {وَالَّذِينَ قُتِلُوا} بالتخفيف، وقراءة من قرأ {قُتِّلُوا} بالتشديد وهم قتلى بدر {سَيَهْدِيهِمْ} فإن تأويل الآية على هذا: سيهديهم في القبور عند المسألة منكر ونكير إلى القول الثابت بالتوحيد، وهو قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} 1 والقول الثابت: قول لا إله إلا الله، وهذا مما يرده القدرية ويجحدونه وينكرون عذاب القبر ومسألة منكر ونكير، ويقولون إن الله لم يثبت الذين آمنوا وإنما هم ثبتوا أنفسهم. والآية حجة عليهم2، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله3. ثم أخبر بما ينعم به عليهم في الآخرة وقال: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} قيل: طيبها لهم4، وقيل: يعرفهم منازلهم فيها5 ويكون6 في هذا التأويل حمل   1 إبراهيم آية (27) . 2 تقدم هذا من كلام المصنف. انظر: ص 288. 3 سيفرد المصنف فصلاً فيما سيأتي ص للكلام على عذا القبر. 4 قال القرطبي: "مأخوذ من العرف وهو الرائحة الطيبة"، ونسب القرطبي هذا القول إلى ابن عباس - رضي الله عنهما -، ولم أقف عليه مسنداً عنه. انظر: تفسير القرطبي 6/231. 5 هذا القول عليه أكثر المفسرين ويؤيده ما روى البخاري - رحمه الله - بسنده عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنظرة بين الجنة والنار فيقضى لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا" خ، كتاب الرقاق (ب. القصاص يوم القيامة) 8/94، وانظر: تفسير ابن جرير 26/44، تفسير القرطبي 16/231، تفسير ابن كثير 4/174. 6 في الأصل (ليكون) وما أثبت من - ح-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 الكلام على فائدتين محددتين على ما مضى1. وأما قول المخالف: إن الضلال قد يراد به العقوبة2 واستدل عليه بقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} 3 فغير مسلم له، بل نقول: المراد بهذه الآية أن المجرمين في ضلال من الدين، وسعر يعني بعداً من الحق، وقيل: في شغل وعنا. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: "هذه الآية أنزلت في أناس يكذبون بالقدر"4 ويدل على صحة هذا التأويل إخبار الله عن ثمود وهم قوم صالح في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} 5 وأرادوا وصف أنفسهم في هذا الحال، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 6 وأراد وصف المنافقين بالفسق، وكقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 7 فأثبت الخلق لنفسه ونفى الخلق عن غيره ثم قال: {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} فوصف من أثبت الخلق لغير الله سبحانه بالظلم وأنهم في ضلال مبين، وأراد في ضلال من الدين، مبين أي بين، وهذا كوصف الله المجرمين أنهم في ضلال8، وسعر أي في عناء أو في بعد من الحق. وأما استدلاله على تأويله بقوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} 9 فلا   (على ما مضى) ليست في - ح-. 2 في الأصل (عقوبة) وما أثبت من - ح- وهو الأوضح. 3 القمر آية (47) . 4 تقدم تخريجه ص 284 كما تقدم ذكر هذه الأقوال في معنى (ضلال وسعر) والرد على المخالف بنحو ما ذكر هنا. 5 القمر آية (23 - 24) . 6 التوبة آية (67) . 7 لقمان آية (11) . 8 في - ح- (ضلال من الدين) . 9 القمر آية (48) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 يدل على أنه أراد وصفهم بالضلال يوم يسحبون وإنما أخبر سبحانه عما يصنع بهم في الآخرة فقال: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} يقال لهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} فحذف يقال لهم لدلالة الكلام عليه1، وهذا كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2 أي يقال: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . وأما قول المخالف: إن شرح صدور المؤمنين من الله من جملة الثواب على الإسلام الذي فعلوه فيه3، فيقال لهم: هل شرح الله صدورهم قبل أن يسلموا أو بعد أن يسلموا؟ فإن شرح الله صدورهم قبل أن يسلموا فكيف أثابهم على فعل شيء لم يوجد منهم؟ وإن قلتم: إنه شرح صدورهم بعد أن أسلموا قيل لهم: زاد إيمانهم بهذا الشرح أو لم يزد؟ فإن لم يزد إيمانهم بذلك فما أفاد هذا الشرح فائدة إذا لم تظهر له فائدة. وإن قلتم ازداد إيمانهم4 بهذا الشرح أدى ذلك إلى إبطال قولكم إن الإيمان لا يزيد5. ثم يقال لهم: أيثيبهم الله على هذه الزيادة التي كانت من الله لهم بشرح صدورهم أم لا؟ فإن قلتم: لا يثيبهم عليها، قلنا: فلا فائدة منها ولا وجه لامتنان الله بذلك عليها، وإن قلتم بل يصيبهم الله عليها كما يثيبهم على ما خلقوه لأنفسهم قبل ذلك، قلنا لهم وكيف يثيبهم الله على شيء خلقه6 فيهم كما لا يثيبهم على خلقه لألوانهم وصورهم؟، وأيضاً فإنه يؤدي إلى أن   1 تقدم نحو هذا من كلام المصنف. انظر: ص 284. 2 آل عمران آية (106) . (فيه) ليست في - ح-. 4 في قوله: "بذلك فما أفاد.." إلى قوله: ".. إيمانهم) ساقط من - ح-. 5 في الأصل (يزيد) وفي - ح- (لا يزيد) وهو الصواب لأن القدرية ينكرون زيادة الإيمان ونقصانه وسيعقد المصنف لذلك فصلاً خاصاً. 6 في - ح- (خلقوه) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 يكون إيمانهم شيئاً واحداً بعضه خلقوه لأنفسهم، وبعضه خلقه الله فيهم وقد نفى الله أن يكون له شريك فيما خلق. وأما قول المخالف: إن بهذا الشرح يكون المؤمن أقرب إلى الاستقامة على ما هو عليه من الإيمان، فيقال له: فهل علم الله أن هذا المؤمن يستقيم على إيمانه قبل الشرح لو لم يشرح صدره، أو علم أنه لا يستقيم؟ فإن علم أنه لا يستقيم لو لم يشرح صدره أدى ذلك إلى أنه أجبره على الاستقامة بالشرح وأدى إلى أنه لا يستحق الشرح1، وإن قلتم: بل علم أنه يستقيم قبل الشرح، قلنا: فلا فائدة بهذا الشرح، ثم يقال لهذا المخالف ولأهل مذهبه: إذا جاز في العقل والشرع أن يشرح صدور خلقه للإيمان ثواباً منه في الدنيا على ما كان منهم من الإيمان ويثيبهم على هذه الزيادة في الآخرة فما المانع لكم من أن تصفوه بأنه يبتدئ الشرح في صدورهم للإيمان تفضلاً منه وإنعاماً عليهم في الدنيا على غير عمل سبق منهم ويثيبهم على ذلك في الآخرة، وتقولوا كما قال الله سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 2، وكقوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ3وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 4 وقال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 5 وليس فضل أفضل من الإيمان، وقوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} 6 وهلا قلتم كما أخبر الله عن أهل الجنة إذ استقروا في منازلهم فقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 7 وتأويله الذي هدانا بالإسلام8 إلى هذا الخير {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} فنفوا عن أنفسهم الاهتداء لولا   1 وذلك لأنه وضع الشرح في مكان لا يستفيد منه صاحبه فلا يستحقه. 2 النحل آية (53) . 3 في كلا النسختين (من يشاء من عباده) وهو خطأ. 4 الزمر آية (23) . 5 الحديد آية (21) . 6 آل عمران آية (74) في كلا النسختين (من يشاء من عباده) وهو خطأ. 7 الأعراف آية (43) . 8 في - ح- (للإسلام) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 أن هداهم الله، وهذا يرد قول القدرية، وبمثل هذا أخبر الله عن أهل النار بقوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ} وهم الأتباع {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهم القادة1 {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ} لدينه وطاعته {لَهَدَيْنَاكُمْ} 2 لدينه فنسبوا الهداية إلى الله سبحانه، والهدى في هذا كله لا يحتمل إلا التأييد والتوفيق إلى الإسلام. وروي أن الحسن بن علي – رضي الله عنه – قال: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدعو في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت ... "3 إلى آخر الكلمات. وهذا الخبر مما تلقته الأمة بالقبول، وعمل به الأئمة الأعلام4 وهو موافق لما أمر الله عباده أن يدعوه بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 5   1 قوله: "وهو القادة" إلى قوله: "قالوا" ليست في - ح- وفي كلا النسختين خطأ في الآية حيث كتبت هكذا (من عذاب الله من شيء قال الذين استكبروا..) . 2 إبراهيم آية (21) ، وانظر: كلام القرطبي في الآيات حيث شرحها بمثل ما ذكرنا هنا تفسير القرطبي 9/355. 3 أخرجه ت. أبواب الوتر (ب. ما جاء في القنوت من الوتر وقال: "هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الجوزاء السعدي، واسمه ربيعة بن شيبان"، سنن الترمذي 2/328، د. ابواب الوتر (ب. القنوت في الوتر) 1/225، جه. كتاب إقامة الصلاة (ب. ما جاء في القنوت في الوتر) 1/373، ن. قيام الليل (ب. الدعاء في الوتر 3/248. دي. كتاب الصلاة (ب. الدعاء في الوتر) 1/373 حم. 1/199 - 200) . 4 قال الترمذي - رحمه الله - بعد إيراد حديث الحسن المتقدم: "ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوتر شيئاً أحسن من هذا، واختلف أهل العلم في القنوت في الوتر، فرأى عبد الله بن مسعود القنوت في الوتر في السنة كلها، واختار القنوت قبل الركوع وهو قول بعض أهل العلم وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وإسحاق وأهل الكوفة، وقد روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه كان لا يقنت إلا في النصف الآخر من رمضان وكان يقنت بعد الركوع وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا وبه يقول الشافعي وأحمد" انتهى. سنن الترمذي 2/329. 5 الفاتحة آية (6) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 أي أرشدنا الطريق وعرِّفناه وثبتنا عليه، وقيل معناه وفقنا وسددنا1 فدل على أن الهداية من الله، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينقل التراب يوم أمر2 بحفر الخندق وهو يرتجز برجز عبد الله بن رواحة: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا3 وهذا موافق لقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} 4 {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 5. وأما تأويل المخالف لقول الله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ} الآية بأنه أراد من يعاقبه من العصاة يقدم له حرج الصدر6، فقد بينّا أن الإضلال لا يستعمل في موضع العقوبة7 وإن سلّمنا له ذلك تسليم جدل لا تسلم نظر قلنا: فهل أراد عقوبته بإحراج صدره قبل وجود الكفر منه أو بعد وجود الكفر منه؟ فإن قال: أراد ذلك قبل وجود الكفر منه، قلنا: فقد وافقت أن الله أراد العقاب والكفر الذي نهى عنه قبل وقوعه8، وإن قال: أراد ذلك بعد   1 انظر: تفسير ابن جرير 1/71، تفسير القرطبي 1/147. (أمر) ليست في - ح-. 3 أخلاجه ح. في الجهاد (ب. حفر الخندق 4/21، القدر (ب. وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) 8/108، م. الجهاد والسير (ب. غزوة الأحزاب) 3/1431 كلهم من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -. 4 آل عمران آية (73) . 5 صدر الآية {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ..} الأنعام آية (88) وفي كلا النسختين ربط هذه الآية بالتي قبلها بما يشعر أنها آية واحدة وهو خطأ. 6 في - ح- (في الصدر) . 7 انظر: ما تقدم ص 287. 8 هذا إلزام قوي ينقص قول المعتزلة في أن الله يجب عليه فعل الأصلح للعبد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 وجود الكفر من الكافر، قلنا لك: فقولك هذا يؤدي إلى أن الله خلق إرادته وأحدثها بعد أن1 لم تكن، وهو سبحانه ليس بمحل لحوادث2، ثم يقال له أراد تلك الإرادة بإرادة قبلها أم بغير إرادة؟ فإن قال: بل بغير إرادة – ولا يقول إن له إرادة بالجملة3 – قلنا: فيجوز وقوع الأفعال منه جميعاً وهو غير مريد لها فليس تقدم ما تقدم من الأشياء الحادثة بأولى من تأخرها، ومن قال: إن الله سبحانه خلق السموات والأرض ومن فيهن وهو غير مريد لخلقها أو لا إرادة له بخلقها يخرج من حيز العقلاء ويدخل في جملة البهائم والمجانين من بني آدم وقد سقط عنا جواب كلامهم فلا فائدة بالكلام معهم. ثم نقول له مع ذلك: فهل بخلق الله الحرج في صدره ازداد كفره أو لم يزدد؟ فإن قالوا: لم يزدد، قلنا: فلا عقوبة إذاً، وإن قالوا: بل ازداد كفره، قلنا: فقد وافقت4 أن الله خلق الكفر في صدور الكفار وهو كقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} 5 وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 6 وقد وجد الكفر في صدر الكافر، بعضه من خلق الكافر وبعضه من خلق الله، فهل يقدر الكافر على تمييز ما خلق في نفسه من الكفر عما خلقه الله فيه من الزيادة فيه؟ فإن ادعى مدّع أنه يقدر على ذلك ادعى البهت وعُلم خطؤه بذلك ضرورة، وإن قال: لا يقدر على ذلك ولا يقدر عليه إلا الله قلنا له: فهو الخالق للجميع بدليل قوله تعالى: {أَلا   1 في الأصل (بعد لم) وما أثبت من - ح- وهو الصواب لاستقامة العبارة. 2 تقدم بيان معنى الحوادث ومراد المصنف فيها. ص 265. 3 تقدم بيان معنى قول المعتزلة في الإرادة وأنهم ينكرونها ويزعمون أن الله مريد بإرادة محدثة لا في محل، وهذا ليس بإثبات للإرادة؛ لأن الصفة يجب أن تتعلق بالموصوف، وأما وصف الموصوف بصفة غير قائمة به فهذا باطل لا دليل عليه لا من الشرع ولا من العقل. انظر: ما تقدم ص 255. 4 في - ح- (على أن) . 5 البقرة آية (10) . 6 الصف آية (5) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} 1 وأيضاً فيقال له: فهل يعاقبه الله على ما خلق في صدره من الزيادة والحرج في الكفر في الآخرة كما عاقبه في الدنيا بزيادة الحرج؟ فإن قال: لا يعاقبه عليه، فلا عقوبة هاهنا أيضاً، وإن قال: بل يعاقبه على تلك الزيادة كما يعاقبه على الكفر الذي خلقه الكافر بنفسه. قلنا: فقد وافقت أن الله عذب الكافر على ما خلق فيه فدخلت فيما أنكرت على خصمك. وأما قول المخالف: إنما عاقبه بذلك2 ليكون أقرب إلى الانتقال عن الكفر الذي هو سبب ذلك الحرج، فإن هذا كلام متناقض يشهد على قائله بقلة التمييز، فكيف يكون خلق الله الكفر بصدر سبباً داعياً له لانتقال الكفر؟ هذا كقول القائل: خلق الله الحركة في المتحرك علة أو سبباً للسكون أو خلق السكون علة للتحرك، وكان اللائق بمذهب المخالف وتمويهه أن يقول خلق الله الإيمان بقلب الكافر ليكون أقرب له إلى الانتقال عن الكفر الذي خلقه الله بقلبه ولكن لم يقبله قلبه، ولو قال هذا، قلنا: لو خلق الله الإيمان في قلبه لانتفى عنه الكفر؛ لأنهما لا يجتمعان معاً3، مع أنهم لا يقولون خلق شيئاً من أفعال العباد طاعة ومعصية، وإنما يقولون أراد وقوع الطاعة لا غير. وأما استدلال المخالف على تأويله4 هذا بقوله تعالى: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} 5. فالجواب: أنه لا حجة له بأنه جعل عليهم الرجس بعد أن لم يؤمنوا، وما تنكر أن يقول خصمك: بل جعل الرجس على قلوبهم فمنعهم عن   1 الملك آية (14) . 2 في - ح- (على ذلك) . (معاً) ليست في - ح-. 4 وهو تأويل المخالف للضلال بأنه العقاب. انظر: ص 275. 5 الأنعام آية (125) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 الإيمان كما قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 1 وكقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} 2 مع أن الرجس: اسم لكل ما استقذر من عمل3، ويقال: الرجس المأثم ومنه قوله تعالى: {يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 4 أي المأثم والكفر5، ومنه قوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} 6 والرجس: العمل الذي يؤدي إلى العذاب7 ومنه قوله تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} 8 يعني اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة9. وإن حملنا الرجس في هذه الآية التي نحن فيها على المأثم والكفر وكل ما استقذر من العمل فهو حجة على الخصم لا له، وإن حملناه على اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة فهو عقاب من الله على ما سبق بعلمه وتقديره عليهم من الإضلال وجعله لصدورهم ضيقة حرجة.   1 البقرة آية (7) . 2 الأنعام آية (25) . 3 انظر: المفردات للراغب ص 188. 4 الأحزاب آية (33) . 5 انظر: فتح القدير 4/278. 6 التوبة آية (125) . 7 انظر: تفسير القرطبي 8/299. 8 يونس آية (100) والآية في كلا النسختين وردت هكذا (ويجعل الله) وهو خطأ. 9 انظر: فتح القدير 2/475. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 67- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 1. فأجاب المخالف عن هذه بنحو أجوبته فيما مضى على أن المراد بالإضلال العقاب في الدنيا والآخرة2 وبالختم العلامة على القلب3. والجواب عن هذا: ما مضى على أن الإضلال لا يستعمل في موضع العقاب4، ولا يستعمل الختم في موضع العلامة على القلب لما تقدم ذكره5. ويقال له: هذه الآية6 نزلت في النضر بن الحارث السهمي، كان من المستهزئين7 وكان يعبد الأوثان، فإذا رأى وثناً أحسن من الأول عبده وترك الأول8 فهذا معنى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى   1 الجاثية آية (23) . 2 انظر: ما تقدم ص 275. 3 انظر: ما تقدم ص 361. 4 انظر: ما تقدم ص 287. 5 انظر: ما تقدم ص 362. (الآية) ليست في - ح-. 7 في - ح- (المشركين) . 8 ذكر هذا القرطبي في تفسيره 16/167 عن مقاتل إلا أنه سماه الحارث بن قيس السهمي، ولم أقف عليه بهذا الاسم والنضر بن الحارث الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم صبرا بعد غزوة بدر وأرسلت أخنه قتيلة بنت الحارث أبياتا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مقتل أخيها، وقد نسبه ابن هشام في السيرة إلى عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي أما السهميون من قريش فهم أبناء عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. انظر: سيرة ابن هشام 2/7، الأنساب للسمعاني ص319، البداية والنهاية 3/336. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 عِلْم} 1 أي أضله الله عن الدين على علم، أي على ما سبق في علمه قبل أن يخلقه أنه ضال. وروي عن ابن عباس أنه قال: "علم قد علمه عنده"2، وقيل: "على علم أنه لا ينفعه ولا يضره) 3، {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} فلا يسمع4 الهدى، وعلى قلبه فلا يعقل الهدى {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} يعني5 الغطاء {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} إذا أضله، وهذا كقوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 6 وكقوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} 7 ويدل على صحة هذا التأويل أنه أراد به إضلالهم عن الدين في الدنيا ما أخبر به عن قولهم بعد هذا8 فقال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاّ الدَّهْرُ … } 9 الآية، أي وما يميتنا إلا طول العمر واختلاف الليل والنهار ولا نبعث، فقال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} 10 أنهم لا يبعثون11 {إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ} أي ما يستيقنون12.   1 في - ح- (على علم وختم) . 2 أخرجه ابن جرير 25/151، واللالكائي في السنة 3/566 نحوه. 3 ذكر هذا القول القرطبي في تفسيره ولم ينسبه إلى قائل معين. انظر: تفسير القرطبي 16/169. 4 في -ح- (أي طبع فلا يسمع) . (يعني) ليست في -ح-. 6 الزمر آية (33) وفي كلا النسختين كتبت الآية هكذا (يهدي من يشاء من عباده) وهو خطأ. 7 آل عمران آية (160) . 8 أي بعد آية الجاثية {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذ … } الآية. 9 الجاثية آية (24) . 10 في كلا النسختين (وما لهم به من علم) وهو خطأ. 11 في الأصل (لا أنهم لا يبعثون) وفي - ح- (إلى يبعثون) ولا يستقيم الكلام إلا بحذف (لا) كما أثبت ويكون معناها: إن إنكارهم للبعث قالوه بغير علم. 12 انظر: تفسير القرطبي 16/170-172. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 68- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الآيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} 1. (فامتن الله على المؤمنين بأنه حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان) 2، فلو كان فعل ذلك للكافر لم يكن لامتنانه بذلك على المؤمنين معنى. فأجاب المخالف عن ذلك وقال: لا حجة لهذا المستدل بذلك لأن عامة ما في ذلك أنه ذكر المؤمنين ولم يذكر الكفار، فإغفال ذكرهم لا يدل على أن حكمهم مخالف لحكم المؤمنين إلا عند من لا بصيرة له ممن تمسك بدليل الخطاب وهو باطل عندنا3. وقوله: لو فعل ذلك للكافر لم يكن لامتنانه على المؤمنين معنى، بل فيه فائدة من وجهين: أحدهما: أن المؤمنين أعظم انتفاعاً به من الكافر. والثاني: أنه4 خصهم بالذكر تعظيماً لمرهم، وإن كان الكفار قد شاركوهم في ذلك، لأن الله تعالى إنما زين الإيمان في قلوب المؤمنين بما علق به من الأحكام الشريفة5 والأسماء الحسنة والمدائح العظيمة في الدنيا، وبما وعد6 عليه من الثواب الجزيل، وقد اطلع الفار على ذلك ورغب الجميع غاية الترغيب وحسنه عند الجميع، ولذلك أسلم   1 الحجرات آية (7) . 2 ما بين القوسين من - ح- وليس في الأصل. 3 دليل الخطاب أو مفهوم المخالفة هو الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عما عداه مثل قوله عليه الصلاة والسلام في زكاة الغنم: "في سائمة الغنم زكاة" والجمهور على الاستدلال به، ورد الاستدلال به أبو حنيفة وأصحابه والباقلاني وابن سريج والقفال والشاشي وجماهير المعتزلة. انظر: نزهة الخاطر العاطر 2/203، الإحكام للآمدي 2/213، الوصول إلى علم الأصول 1/335. (أنه) ليست في - ح-. 5 في - ح- (الشرعية) . (وعد) ليست في - ح-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 كثير من الكفار، ولولا أنهم كانوا من جملة من حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان ما كانوا من الراشدين، ومن أصر منهم على الكفر فليس لأن الله زين له ما هو عليه، بل زينه الشيطان ما قال: {وَإِذْ1زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} 2 وقال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيل} 3، هذا نكتة قوله ومعتمده. والجواب أن يقال لهذا المخالف: طعنك على المستدل بدليل الخطاب بأنه لا بصيرة له طعن منك على الصحابة – رضي الله عنهم -، وهذا دأبك ودأب أهل مذهبك في الطعن عليهم، وهذا أدل دليل على قلة البصيرة من الطاعن4 عليهم، وذلك أن الصحابة – رضي الله عنهم - استدلوا بدليل الخطاب، يروى عن يعلى بن أمية أنه قال: قلت لعمر – رضي الله عنه -: ما لنا نقصر الصلاة في السفر وقد آمنَّا والله يقول: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} 5، فقال عمر – رضي الله عنه -: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته "6. وهذا يدل أنهما7 فهما من تعليق القصد على حال الخوف بأنه لا يجوز القصر في   1 في الأصل بدون (وإذ) وهي في - ح- كما أثبت. 2 الأنفال آية (48) . 3 النمل آية (24) ، العنكبوت آية (38) . 4 في - ح- (الطعن) . 5 النساء آية (101) . 6 أخرجه م. في الصلاة (ب. صلاة المسافرين وقصرها) 1/478، ت. تفسير القرآن (ب. من سورة النساء) 5/243، وقال: "حسن صحيح". د. الصلاة (ب. صلاة المسافرين) 1/187، جه. إقامة الصلاة (ب. تقصير الصلاة في السفر) 1/339 حم 1/25-36. 7 في - ح- (على أنهما) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 الأمن1 وأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الاستدلال. وروي: أن ابن عباس – رضي الله عنهما - خالف الصحابة –رضي الله عنهم - في توريث الأخت مع الابنة، واحتج بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} 2 وهذا تعلق منه بدليل الخطاب وأنها لا تستحق مع وجود الولد3، وهو ترجمان القرآن ومن فصحاء الصحابة وعلمائهم، ولم ينكر عليه أحد الاستدلال بدليل الخطاب، وإنما احتجوا عليه بما هو أقوى منه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " الأخوات مع البنات عصبة" 4. فدل على أن المراد بهذه الآية الذكر5، وروي أن جماعة من الصحابة – رضي   1 في - ح- (حالة الأمن) . 2 النساء آية (176) . 3 أخرج عبد الرزاق في مصنفه 10/255 عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: جاء ابن عباس مرة رجل فقال: رجل توفي وترك بنته وأخته لأبيه وأمه، فقال ابن عباس: لابنته النصف وليس لأخته شيء ما بقي هو لعصبته، فقال له الرجل: إن ابن عمر قد قضى بغير ذلك قد جعل للأخت النصف وللبنت النصف، فقال ابن عباس: أنتم أعلم أم الله؟.. قال اله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَك} قال ابن عباس:" فقلتم أنتم لها النصف وإن له ولد". وأخرجه الحكم من طريقه، وقال: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي المستدرك - الفرائض - 4/339. 4 لم أجد هذا من قول النبي صلى الله عليه سلم، إنما هو من قول العلماء في ميراث الأخوات مع البنات، فقد بوب البحاري لذلك في كتابه (باب ميراث الأخوات مع البنات عصبة) وهو استنباط من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقد روى البخاري بسنده عن هزبل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال: "لابنة النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود فسيتابعني" فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: "لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم". خ. في الفرائض (ب. ميراث ابنة ابن مع ابنة) 8/127 وفي (ب ميراث الأخوات مع البنات عصبة) 8/128، وروى الدارمي بسنده عن خارجة بن زيد أنه قال: "إن زيد بن ثابت كان يجعل الأخوات مع البنات عصبة لا يجعل لهن إلا ما بقي"، دي. الفرائض (ب. في بنت وأخت) 2/347، ونقل ابن حجر عن ابن بطال أنه قال: "أجمعوا على أن الأخوات عصبة البنات فيرثن ما فضل عن البنات"، ثم قال: "ولم يخالف في شيء من ذلك إلا ابن عباس فإنه كان يقول للبنت النصف وما بقي للعصبة وليس للأخت شيء" ثم قال: "ولم يوافق ابن عباس على ذلك أحد إلا أهل الظاهر". فتح الباري 12/24. 5 في - ح- (أن المراد بالولد في هذه الآية للذكور) وقول المصنف هنا إن المراد بهذه الآية الذكر لأن الولد الذكر إذا وجد حجب الأخت فلم ترث معه، أما إذا كان بنتا فإنها ترث معها كما بينته السنة. وقال ابن كثير: "إن الآية نصت على فرض الأخت في هذه الصورة أما وراثتها بالتعصب فقد بينته رواية البخاري لحديث ابن مسعود، وذكره". انظر: تفسير ابن كثير 1/593. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 الله عنهم - وهم: سعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبي وسعيد الخدري، وأبو أيوب الأنصاري، قالوا في الاكسال: وهو إنزال الذكر في الفرج من غير إنزال، لا يوجب الغسل1 واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الماء من الماء "2، وقال غيرهم من الصحابة: "يجب الغسل"3 واحتجوا عليهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا التقى4 الختانان وجب الغسل "5.   1 انظر هذه الأقوال عنهم في: المصنف لابن أبي شيبة 1/89-90، والمصنف لعبد الرزاق 1/249-253 إلا أنهما لم يذكرا زيد بن أرقم، كما أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ورد عنه أيضا أنه قال: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل". انظر: حم 5/115، المصنف لابن أبي شيبة 1/87، وقد نقل عن زيد بن ثابت وأبي بن كعب - رضي الله عنهما - الرجوع عن هذا القول إلى قول الجمهور. انظر: المصنف لابن أبي شيبة 1/88. 2 أخرجه م. في الحيض (ب. إنما الماء من الماء) 1/269، د. في الطهارة (ب. في الاكسال) 1/33، جه. في الطهارة (ب. الماء من الماء) 1/199، حم. 3/29، 5/416 كلهم من حديث أبي سعيد الخدري وأبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -. 3 وممن ورد عنه هذا القول أبو بكر وعثمان وعلي وعائشة وابن مسعود وأبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو موسى - رضي الله عنهم - وأكثر المهاجرين الأولين. انظر: المصنف لعبد الرزاق 1/245 - 249، المصنف لابن أبي شيبة 1/85-89. 4 في - ح- (فقد وحب) . 5 أخرجه م. كتاب الحيض (ب. نسخ الماء من الماء) 1/272 من حديث عائشة - رضي الله عنها - نحو د. كتاب الطهارة (ب. في الاكسال) 1/33 من حديث أبي هريرة نحوه، ت. أبواب الطهارة (ب. إذا التقى الختانان وجب الغسل) 1/181 من حديث عائشة - رضي الله عنها - نحوه، جه. كتاب الطهارة (ب. ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان) 1/199 من حديث عائشة - رضي الله عنها - نحوه، جه. كتاب الطهارة (ب. ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان) 1/199 من حديث عائشة - رضي الله عنها - مثله، حم. 2/178 من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - نحوه وفي 5/15 وفي 6/47 من حديث عائشة - رضي الله عنها -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 وقالت عائشة – رضي الله عنها -: " فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا "1، فأقرت الصحابة الأنصار على الاستدلال بدليل الخطاب2، واحتجوا عليهم بالنصر بالقول والفعل. وكذلك العلماء احتجوا بأن المطلقة البائن الحائل3 لا نفقة لها على الزوج بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} 4، وبأن شهادة غير الفاسق تقبل، واستدلوا عليه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 5 فدل على أنه إذا جاءهم من ليس بفاسق أن يقبل قوله6. فإذا تقرر هذا الاستدلال ممن ذكرنا من الصحابة والعلماء فكفى لهذا   1 أخرجه ت. كتاب الطهارة (ب. إذا التقى الختانان..) 1/181 من حديث عائشة - رضي الله عنها - وهو نحو تكملة الحديث السابق عنده. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وأخرج جه. كتاب الطهارة (ب. ما جاء في وجوب الغسل 1/199، وأخرج م. في كتاب الحيض (ب. نسخ الماء من الماء) 1/272 من حديث عائشة - رضي الله عنها - "أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما غسل وعائشة جالسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل". 2 قوله هنا "فأقرت الصحابة الأنصار.." يريد بهذا المهاجرين، لأن هذا القول ورد عن أكثرهم، أما الأنصار فهم من تقدم في التعليق ذكرهم. وقد ورد في صحيح مسلم، كتاب الطهارة 1/271 عن أبي موسى - رضي الله عنه - أنه قال: "اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل". الحديث، واستدلال الأنصار بمفهوم المخالفة من حديث "إنما الماء من الماء" واضح ظاهر. 3 الحائل: هي المرأة غير الحامل. انظر: لسان العرب 2/1057. 4 الطلاق آية (6) . وهذا استدلال من العلماء بمفهوم المخالفة، حيث نص هنا على أن النفقة للحامل، فغير الحامل لا نفقة لها. انظر: تفسير القرطبي 18/167، المغني لابن قدامة 7/518. 5 الحجرات آية (6) . 6 انظر: تفسير القرطبي 16/312 فقد ذكر ما يوافق هذا القول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 المخالف نقصاً انتقاصه لهم، ولم نسلك1 طريقهم في الاستدلال بما ذكرنا على2 دليل الخطاب وإن كان دليلاً صحيحاً عندنا، وإنما استدللنا بما أخبر الله بكتابه، وبأنه3 أنعم على المؤمنين بما لم ينعم به على الكافرين، فقال في هذه الآية: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} . ووصفهم بأنهم الراشدون بما فعله لهم، فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} وأخبرنا في4 آية أخرى بتخصيصه لهم أنه لولا فضل الله عليهم ورحمته ما زكوا بقوله تعالى: {وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} 5، ومثل هذا قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ} 6، وكذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 7، ومثل هذا قوله تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} 8 وهي النعمة التي أنعم الله بها عليه بالإيمان. وأخبر9 الله أنه فعل بالكفار ضد ما فعل بالمؤمنين فقال: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} 1 0، وقال في آية أخرى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} 11. قال الحسن البصري: "الشرك سلكه الله في قلوب المجرمين"12 وقال   1 في - ح (ولمن سلك) . 2 هكذا في النسختين والأصوب لاستقامة الكلام أن يقول (بدليل) بدل (على دليل) . 3 في - ح- (لأنه) . 4 في ساقطة من الأصل. 5 النور آية (21) . 6 الحجرات آية (17) . 7 المجادلة آية (22) . 8 الصافات آية (56-57) . 9 في - ح- (وقد أخبر) . 10 الحجر آية (12 - 13) ، وفي - ح- زاد: (حتى يروا العذاب الأليم) وهو خطأ حيث إن هذه في آية الشعراء، أما آية الحجر ففيها: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ} . 11 الشعراء آية (200) . 12 أخرجه ابن جير في تفسيره 14/9 و19/115، واللالكائي في السنة 1/555. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 مجاهد: "يسلك التكذيب والضلال"1 أي يدخله في قلوب المجرمين يقال سلكه وأسلكه لغتان يقال: سلكت الخيط في الإبرة إذا أدخلته فيها2، قال الشاعر: … … … … وقد سلكوك في أمر عصيب3 ويدل على صحة ما لنا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} 4، فأخبر سبحانه أنه زين للذين لم يؤمنوا أعمالهم وهو ضلالهم وكفرهم فهم لذلك يعمهون ويترددون في ضلالهم5، وهذا بخلاف ما أخبر الله عن صنعه بالمسلمين6 بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} 7 والطاغوت الأوثان8، {وَأَنَابُوا} أي رجعوا عن عبادة الأوثان إلى عبادة الله {لَهُمُ الْبُشْرَى} يعني الجنة {فَبَشِّرْ عِبَادِ} أي بالجنة، ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} يعني القرآن   1 ذكره القرطبي عن ابن جريج عن مجاهد ولم يذكر الضلال. انظر: تفسير القرطبي 10/7، وأسنده ابن جرير إلى ابن جريج. انظر: 14/9. 2 انظر: لسان العرب 3/2073. 3 هذا البيت لعدي بن زيد العبادي، وصدره: وكنت لزاز خصمك لم أعرد. ذكره ابن جرير في تفسيره 4/9. 4 النمل آية (4) . 5 انظر: تفسير القرطبي 13/155. 6 في - ح- (بالمؤمنين) . 7 الزمر آية (17) وفي - ح- زاد هنا (لهم البشرى) . 8 ورد في الطاغوت عدة أقوال غير هذا القول منها ما رواه ابن جرير عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "الطاغوت: الشيطان"، ومنها "الطاغوت: الساحر", وقيل: "الكاهن وهم الكهان الذين كان يتحاكم إليهم بعض القبائل". وقال ابن جرير: "والصواب من القول عندي في الطاغوت: أنه كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه إما بقهر فيه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له إنسانا كان ذلك المعبود أو شيطانا أو وثنا أو صنما أو كائنا ما كان من شيء". وقال ابن القيم: "الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع". انظر: تفسير ابن جرير 3/18-19، تيسير العزيز الحميد ص 33. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه} أي أحسن ما في القرآن من طاعة المطيعين لله ولا يتبعون المعاصي التي عملها من قبلهم من الأمم {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} لطاعته {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ} يعني أهل اللب والعقل في الدنيا1. وقيل: إن هذه الآية ونظيرتها في الأعراف نزلتا في ثلاثة نفر وهم: زيد بن عمرو بن نقيل، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله لم يأتهم كتاب ولا نبي إلا أنهم استمعوا أقوال الناس فكان أحسنها قول لا إله إلا الله فاتبعوه وتركوا أقوال من خالفه2. وأما قول المخالف: إن الله قد زين الإيمان في قلوب الكفار وحبه إليهم كم حببه وزينه في قلوب المؤمنين إلى آخر كلامه، فغير صحيح، لأنه لو ساوى بينهم في الهداية لاهتدوا لقوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} 3، ولأنه لو صح أن يقال: هداهم فلم يهتدوا لصح أن يقال: قد حركهم فلم يتحركوا، وقد سكن جوارحهم فلم يسكنوا، ولأن الله قال في آخر الآية في الذين حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} . ومعلوم أن الراشدين هم المؤمنون دون الكفار فكان نتيجة تحبيب الإيمان إليهم الرشد، كما أخبر عمن طبع على قلبه بأن نتيجة ذلك الغفلة والخسران بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 4 وفي أخرى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 5.   1 انظر: تفسير هذه الآيات في تفسير ابن جرير 33/205-206، تفسير القرطبي 15/243-244. 2 أخرجه ابن جير بسنده عن زيد بن أسلم 23/207 ولعل المراد بآية الأعراف هي قوله تعالى لموسى عليه السلام {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} . فقوله: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} هي نظير آية الزمر في المعنى كما ذكر ذلك القرطبي. أما سبب النزول الذي ذكره المصنف فلم أر من ذكره في آية الأعراف ولا يستقيم من ناحية سياق الآية. 3 الأعراف آية (178) . 4 النحل آية (108) 5 لعل المصنف يعني آية الأعراف رقم (178) {وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 وأما قول المخالف: بأن الله لم يزين للكافرين أعمالهم، وإنما زينها لهم الشيطان، فقد بينا أن الله زين لهم أعمالهم بقوله تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} 1، ونسب2 ذلك إلى الشيطان بأنه3 زينه لهم بوسوسة الشيطان، والشيطان ووسوسته خلق الله بدليل أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ به4 من الشيطان ومن وسوسته بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 5 وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} 6 ولولا أنهما خلق الله لما استعيذ به منهما. وأما قول المخالف: بأن التحبيب هو الترغيب بما وعد في الجنة من النعيم، وقد اطلع الكفار على ذلك ولهذا اسلم خلق منهم. فالجواب: أنا لا ننكر أنه قد ساوى بينهم في الدعاء إلى طاعته وفي الترغيب والترهيب، وإنما المختلف فيه هو الخصيصة في قلوب المؤمنين الذين قال الله فيهم: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} 7 وقوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} 8، فدل على أنه قد خص برحمته وفضله من يشاء من عباده ولم يعمهم بذلك كما عمهم بالخلق والدعاء إلى طاعته.   1 انظر: ما تقدم ص 403. 2 في - ح- (وليس) . 3 في - ح- (لأنه) . (به) ليست في - ح- 5 النحل آية (98) . 6 الناس آية (1-4) . 7 آل عمران آية (74) . 8 المائدة آية (54) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 69- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1، ففرق الله في هذه الآية بين من شرح2 صدره الإسلام وبين من لم يشرح صدره بتوعده لهم بالويل وأخبر أنهم في ضلال مبين. فأجاب المخالف القدري: بأنه لا حجة لنا في هذه الآية لأن الله نسب شرح الصدر إليه، وما نسب قسوة القلب غليه بل ذم عليها وتوعد3 أهلها وذلك يدل على أنها فعلهم. والجواب: أن في الآية إضماراً وتأويلها {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} يعنى وسع قلبه وفتحه للتوحيد فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته4. وروي أن رجلاً قال: يا رسول الله ما معنى قول الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّه} ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن النور إذا وقع في القلب انشرح الصدر"، فقال الرجل: فهل لذلك من علامة تعلم. قال: "نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والتأهب للموت قبل نزول الموت "5. ويدل على صحة قولنا، قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} 6 فنسب الله جعل القساوة في قلوبهم إليه في هذه الآية، كما   1 الزمر آية (22) . 2 في - ح- (شرح الله) . 3 في الأصل (تواعد) وهي في - ح- كما أثبت وهي الأصوب. 4 انظر: تفسير ابن جرير 23/209، تفسير القرطبي 15/247 فقد ذكرا نحوا من ذلك. 5 ذكره في الدرالمنثور 7/219 وعزاه إلى ابن مردويه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - نحوه، والحكيم في نوادر الأصول عن ابن عمر نحوه، وعبد الرحمن بن حميد وابن المنذر عن قتادة مرسلا نحوه. 6 المائدة آية (13) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 نسب شرح صدر المؤمنين إليه في هذه الآية. مثل قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} 1. وقد مضى بيان صحة2 تأويلنا فيها وفساد تأويل المخالف فيها3. وأما استدلال المخالف بقوله لما ذمهم الله على قسامة القلوب وتوعدهم عليها دل على أن ذلك خلقهم لا من خلقه. فالجواب أن يقال له: فقد مدحهم الله على انشراح صدورهم بالإسلام، ووعدهم الجزاء عليه، وأخبر أنه شرح صدورهم للإسلام، فإذا لم يمتنع أن يخلق فيهم الشرح في الصدر ويمدحهم عليه ويثيبهم عليه لم يمتنع أن يخلق فيهم القسوة ويذمهم عليها ويعذبهم عليها. وأما إضافة القساوة إليهم فلكونها كسباً لهم وقعت باختيارهم، ولأنهم محل لخلق الله لها.   1 الأنعام آية (125) . (بيان صحة) ليست في - ح-. 3 انظر: الفصل رقم (66) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 70- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} 1، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 2، وعند القدرية أن الله جعل النور لجميع المكلفين فهذا رد نهم لخبر الله سبحانه. فأجاب المخالف عن هذا وقال: قد سمى الله القرآن نوراً والإسلام نوراً والثواب في الآخرة نوراً، ولا شك أن بعض ذلك يخص المؤمنين وبعضه يعم المكلفين كنور القرآن والرسالة، وذلك متوجه إلى المكلفين، فمن قبله نفع نفسه ومن حاول إطفاء نور الله فالله متم نوره. والجواب: أن هذا تسليم من هذا المخالف لما أردنا أن الله سبحانه خص المؤمن بشيء من النور المذكور في القرآن، وهو النور في قلبه بمعرفة الله، لأن أصل النور هو الشيء الذي يبين الأشياء، فالله سبحانه نور. قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالآرْض} 3.   1 النور آية (35) . 2 النور آية (40) . 3 النور آية (35) ، وفي هذه الآية إثبات صفة النور لله عز وجل، ودل على هذا أيضا قوله عز وجل: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} ، قال ابن جير - رحمه الله - عند هذه الآية: "فأضاءت الأرض بنور ربها يقال أشرقت الشمس، إذا صفت وأضاءت، وأشرقت إذا طلعت، وذلك حين يبرز الرحمن لفصل القضاء بين خلقه". وروى بسنده عن قتادة أنه قال في هذه الآية: "فما يتضارون في نوره إلا كما يتضارون في الشمس في اليوم الصحو الذي لا دخن فيه" تفسير ابن جرير 24/22. وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا قام من الليل يتهجد قال: "اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد نور السموات والأرض ولك الحمد.." الحديث، خ. كتاب التهجد 2/43 واللفظ له، م. صلاة المسافرين 1/534. وروى مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل رأيت ربك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "نور أنى أراه"، وفي رواية أخرى قال: "رأيت نورا، م. الإيمان 1/161، كما روي أيضا عن أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حجابه النور - أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"، م. الإيمان 1/162. قال النووي في شرح مسلم في هذا الحديث: "السبحات بضم السين والباء ورفع التاء في آخره وهي جمع سبحة. قال صاحب العين والهروي وجميع الشارحين للحديث من اللغويين والمحدثين: معنى سبحات وجهه نوره وجلاله وبهاؤه". شرح مسلم 1/14، وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل، فكذلك أقول جف القلم على علم الله" أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/176، ت. الإيمان 5/26، وقال: "حديث حسنط. وروى الترمذي 5/359 عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "رأى محمد ربه، قلت: أليس الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَار} قال: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره) وروى ابن جير بسنده عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} قال: "فبدأ بنور نفسه فذكره، ثم ذكر نور المؤمن، فقال: مثل نور من آمن به" وقد صحح هذا الإسناد الحاكم ووافقه الذهبي حيث ذكر تفسير الآيات التي بعد الآية هذه عن أبي بن كعب - رضي الله عنه -. انظر في ذلك: تفسير ابن جرير 18/135، تفسير ابن كثير 3/290، المستدرك للحاكم 2/399. وذكر ابن كثير في تفسيره 3/290، عن السدي أنه قال في الآية: فبنوره أضاءت السموات والأرض. قال: ابن القيم - رحمه الله -: "إن النور صفة كمال وضده صفة النقص، لهذا سمى الله نفسه نورا وسمى كتابه نورا وجعل لأوليائه النور ولأعدائه الظلمة". انظر: مختصر الصواعق المرسلة ص 302، وقد أثبت اين القيم - رحمه الله - في هذا الكتاب هذه الصفة لله ورد على المخالفين من ص 188- 205. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 فقيل معناه: منور السموات والأرض1، وقيل: هادي أهل السموات والأرض2، {مَثَلُ نوٍٍٍٍرِِهِ} ِ أي الذي هدى به وأصاب سبيل الحق وأراد بقلب المؤمن3، أي مثل نور الله في قلب المؤمن4 {كَمِشْكَاةٍ} وهي الكوة غير   1 عزا هذا القول القرطبي إلى ابن عرفة والضحاك والقرظي وبمعناه ما روى ابن جرير بسنده عن مجاهد وابن عباس أنهما قالا: يدبر الأمر فيهما نجومهما وشمسهما وقمرهما تفسير القرطبي 12/257، تفسير ابن جرير 18/135. 2 روى ابن جرير بسنده 18/135 هذا القول عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وروى بسنده أيضا عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: "إن إلهي يقول: (نوري هداي) " وهو الذي اختاره ابن جرير، وليس في هذين القولين ما يعارض إثبات أن الله سبحانه موصوف بصفة النور جل وعلا بدليل الآيات والأحاديث السابقة الذكر، وهو سبحانه أيضا هادي أهل السموات والأرض ومنورهما. 3 هكذا في النسختين ولعلهما توضيحه، فيكون معناه أي النور في قلب المؤمن، ثم زادها توضيحا في العبارة بعدها. 4 اختلف في الضمير في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} القول الأول ما ذكره المصنف وهو قول أبي بن كعب وسعيد بن جبير والضحاك. والقول الثاني: أن الضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مروي عن كعب الأحبار وسعيد بن جبير. والقول الثالث: أن المراد بالنور هداية الله وبيانه وهو القرآن وهو مروي عن ابن عباس والحسن وابن زيد وزيد بن أسلم. والقول الرابع: أن النور الطاعة، وهو قول ابن عباس. انظر: تفسير ابن جرير 18/136، تفسير ابن كثير 3/291. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 نافذة1 وقيل: المشكاة2 من المشكاة القائم في وسط القنديل الذي يدخل فيه الفتيلة3 {فِيهَا مِصْبَاحٌ} والمصباح النور الذي في قلبه، {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} وهي قلبه فقد مضيء كأنه كوكب دري وهذا المضيء4، {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} ي عني شجرة الزيت، {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} . قال الحسن: والله ما هذه من شجر الدنيا، ولو كانت من شجر الدنيا لكانت شرقية أو غربية5، وقال غيره: بل في قلعة مرتفعة تصيبها الشمس عند الشروق والغروب فلم تخلص لأحدهما6، إلى قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ} أي للإيمان به من يشاء7 وهذا موضع التخصيص، ويدل عليه انه ضرب للكافر مثلاً، فقال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا … } ، ثم قال: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً} أي في قلبه كما جعله في قلب المؤمن {فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} فهذا يبطل قول القدرية في أن الله سوى بين المؤمن والكافر في تنوير القلوب.   1 روي هذا القول عن ابن عباس مجماهد وسعيد بن جبير وعزاه القرطبي إلى الجمهور. انظر: الدر المنثور 18/200، تفسير القرطبي 12/257. (من المشكاة) ليست في - ح-. 3 روي هذا القول عن محمد بن كعب وابن زيد ورجحه ابن جرير وابن كثير. تفسير ابن جرير 18/139، تفسير ابن كثير 3/290. 4 انظر: هذا في: تفسير ابن جرير. الموضع السابق، وله تفاسير أخرى ذكرها المفسرون. انظر: المواضع السابقة في تفسير القرطبي وابن كثير. 5 روى ذلك عنه ابن جرير في تفسيره 18/142. 6 ذكر هذا القول ابن جرير عن عكرمة وجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن عباس وهو الذي رجحه ابن جرير، ولأنه إذا كانت الشمس تشرق عليها وتغرب فهذا أجود لها. انظر: تفسير ابن جرير 18/141- 142، تفسير ابن كثير 3/290. 7 ذكر هذا ابن كثير في تفسيره 3/291 وأورد في الاستدلال له وتوضيحه حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة عليهم فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأ ضل، فلذلك أقول جف القلم على علم الله" أخرجه حم. 2/176، ت. الإيمان (ب. ما جاء في افتراق الأمة 5/26، وقال: "حديث حسن". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 وأما قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} 1 فأراد به اليهود والنصارى الذين غيروا صفة النبي صلى الله عليه وسلم وكتموها، والنور هاهنا دين الإسلام {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} يعني دين الإسلام يظهره {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وهم اليهود والنصارى2.   1 الصف آية (8) . 2 العموم هنا أظهر من أن يكون مخصوصا باليهود والنصارى كما هو قول ابن جرير والقرطبي، انظر: تفسير ابن جرير 18/88، تفسير القرطبي 18/85. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 71- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 1. فأخبر سبحانه أنه الميسر لليسرى والعسرى، والتيسير: التهيئة. فأجاب المخالف القدري وقال: لا حجة لهذا المستدل بهذه الآية لأنه أخبر أن من أعطى واتقى وصدق بالحسنى يسره للجنة، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى يسره للنار، فلولا أن الأفعال من المحسن منهم والمسيء لما استحق المحسن ثواباً ولا المسيء عقاباً، كما لا يثيبهم ولا يعاقبهم على ألوانهم التي هي خلق له. والجواب أن يقال: إضافة الله التصديق والتكذيب إليهم لا يدل أن لا يكون2 ذلك خلقاً لله فيهم، لأنه أخبر أنه إذا أنزل الماء على الأرض اهتزت وربت وأنبت، فقال تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} 3 ومعلوم أنها لا تهتز ولا تربو ولا تنبت بنفسها، وإنما يفعل الله ذلك كله، وقال الله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} 4، والله هو الممر لها وإن أضاف الفعل إليها، والتصديق والتكذيب منهم خلق لله وقع بمشيئته منهم لوقوعه، ومشيئتهم معلقة، بمشيئة الله قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 5، ولأن التصديق منهم نعمة وتفضل من الله بدليل قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 6، وقوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} 7   1 الليل آية (5010) . 2 في - ح- (إلا أن يكون) . 3 الحج آية (5) . 4 النمل آية (88) . 5 الإنسان آية (30) . 6 النحل آية (53) . 7 النور آية (21) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 ، وقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} 1، فأنعم الله عليه بالإسلام وأنعم على النبي صلى الله عليه وسلم بالعتق2، فأضاف الله الإنعام بالعتق إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كسبه ووقع بقدرة محدثة من الله فيه، وموضع الحجة لنا من الآيات3: أن الله أخبر أنه يسرهم لليسرى: أي للأمر السهل الذي لا يقدر عليه إلا المؤمنون، ويسرهم للعسرى والتيسير هو التهيئة، ومنه يقال يسرت الغنم للولادة إذا تهيأت لذلك وأنشد الفراء4: هما سيدانا يزعمان وإنما ... يسوداننا أن يَسَّرَتْ غنماهما5 وقال الأعشى6: ويَسًّر سهماً ذا غرار7يسوقه ... أََمِين القوى8في صلبة9 المتَرَنّم10   1 الأحزاب آية (37) . 2 المنعم عليه بالعتق هو زيد بن حارثة - رضي الله عنه -. انظر: تفسير ابن جرير 22/12. 3 في - ح- (الآية) ويقصد الآيات أو الفصل. 4 الفراء هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور أبو زكريا الفراء مولى بني أسد من أهل الكوفة، نزل بغداد قال الخطيب: كان ثقة إماما وكان يقال: النحو الفراء، والفراء أمير المؤمنين في النحو، وكان مؤدب ولدي مأمون توفي سنة (207?) ، وعمره (63?) سنة. تاريخ بغداد 14/149- 155. 5 انظر: معاني القرآن للفراء 3/271، وذكره في اللسان ونسبه إلى أبي أسيدة الدبيري وذكر قبله بيتا وهو: إن لنا شيخين لا ينفعاننا غنيين لا يجدي علينا غنماهما انظر: لسان العرب 6/4957. 6 هو ميمون بن قيس بن ثعلبة من بكر بن وائل كان أعشى العينين فلقب بالأعشى وذكر ابن هشام أنه خرج يريد الإسلام فقال أبياتا بمدح النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدم مكة أخبره القرشيون أن الإسلام يحرم الخمر، فقال: أنصرف وأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأسلم، فانصرف فمات من عامه. وقد استنكر ابن كثير القصة؛ لأن تحريم الخمر لم يكن إلا في المدينة، ثم إنه أشار أبياته المذكورة في القصة أنه يقصد يثرب، والله أعلم. انظر: سيرة ابن هشام 2/26، البداية والنهاية 3/111. 7 قال في اللسان: "الغرار حد الرمح والسيف والسهم، وقال: كل شيء له حد فحده غراره". اللسان 5/3235. 8 أمين القوى: أراد به وتر السهم. انظر: حاشية الديوان ص 180. 9 في كلا النسختين (اضالة) والتصويب من ديوان الأعشى. 10 المترنم من الترنم وهو صوت وتر القوس عند الرمي. انظر: اللسان 3/1746. وهذا البيت من ضمن قصيدة طويلة يهجو بها الأعشى عمير بن عبد الله بن المنذر ابن عبدان. انظرها في ديونه ص 180- 185. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 واليسرى هاهنا: الأعمال التي يستحقون بها الجنة، والعسرى: الأعمال التي يستوجبون بها النار في الآخرة. يدل على صحة ذلك ما روي في الصحاح عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقعد ونحن حوله وبيده مخصرة ينكت بها الأرض، وهو منكس رأسه ثم رفع رأسه وقال: "ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من الجنة والنار"، فقال رجل من القوم: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة، فسيصير إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل1 السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ … } الآية"2، وهذا تفسير من النبي صلى الله عليه وسلم يدل على صحة قولنا. ويقال: إن قوله: {أَعْطَى وَاتَّقَى} نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. قال ابن عباس: نزلت في أبي بكر خاصة وهي بعد في الناس عامة، وذلك أنه اشترى سبعة من المسلمين كانوا في أيدي المشركين لله3، فأنزل   1 في الأصل (أهل) غير موجودة وهي في - ح-. 2 أخرجه خ. كتاب الجنائز (ب. موعظة المحدث عند القبر) 2/83، م. القدر (ب. كيفية الخلق الآدمي) 4/2039. 3 لم أقف على هذه الرواية عن ابن عباس، وإنما وردت روايات أخرى عنه وعن غيره فيها التصريح بأن هذه الآيات نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه -، فقد روى ابن جرير في تفسيره 30/221 بسنده عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: "كان أبو بكر الصديق يعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن فقال له أبوه: أي بني أراك تعتق أناسا ضعفاء فلو أنك أعتقت رجالا جلدا يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك، فقال: يا أبت إنما أريد - أظنه قال - ما عند الله. قال: فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى..} الآية، وأخرجه الحاكم في المستدرك نحوه 2/525، وأخرجه مختصرا البزار. انظر: كشف الأستار 3/81. وذكر السيوطي في الدر المنثور 8/537 أن أبا حاتم أخرج عن عروة أنه قال: "إن أبا بكر الصديق أعتق سبعة كلهم يعذب في الله، بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وابنتها وزنينة وأم عيسى وأمة بني المؤمل وفيه نزلت {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى} " إلى آخر السورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 الله {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} من نفسه وماله ما كلفه1 الله عن طاعته {وَاتَّقَى} فيما كلفه من دينه {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي الجنة2. وقال الضحاك: "بلا إله إلا الله"3، وقال ابن عباس: "بالخَلَف من الله"4 {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} للحال اليسرى، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} قيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب بخل بماله واستغنى عن الله5 {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي للعمل بالعمل بالمعاصي. فدل على أن الله هو الموفق للأعمال.   1 في - ح- (ما يجب) . 2 روى هذا التفسير ابن جرير في تفسيره 30/220 بسنده عن مجاهد. 3 أخرجه ذلك عنه ابن جرير في تفسيره 30/220 بسنده وهو رواية عن ابن عباس - رضي الله عنه -. 4 أخرج هذه الرواية عنه ابن جرير في تفسيره 30/220، ورجحها وهو قول عكرمة. 5 ذكر هذا السيوطي في الدر المنثور من رواية ابن عباس أخرجها عنه عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه، ولا تصح فإن الكلبي كذاب، وروايته عن أبي صالح عن ابن عباس كذاب قال أبو حاتم ابن حبان في كتابه المجروحين قال سفيان الثوري قال: قال الكلبي ما سمعته مني عن أبي صالح عن ابن عباس فهو كذب، وذكر ابن حبان وغيره أن الكلبي كان سبئيا يقول بألوهية علي - رضي الله عنه - ورجعته قبل يوم القيامة وهؤلاء غلاة الرافضة. انظر: الدر المنثور 8/536، المجروحين لابن حبان 2/253، ميزان الاعتدال 3/556. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 72- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} 1 فأخبر أنه ألهمهم الفجور والتقوى. فأجاب المخالف القدري عن هذا وقال: لا حجة لهذا المستدل، لأنه أخبر أن الفجور والتقوى من أفعال العباد، لأن الإلهام هو: التعريف للفجور وللتقوى، فلولا أنها من فعلهم لما كان لتعريفهم معنى لذلك، لأنهم متى عرفوا منفعة التقوى خملوا أنفسهم عليه، ومتى عرفوا مضرة الفجور تجنبوه. والجواب: أن إضافة الفجور والتقوى إلى النفس لا يدل أنها خلق لهم، لأن الله قال: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} 2 فأضاف الماء والمرعى إلى الأرض، فلا يدل على أن ذلك من فعلها، بل أضافها إلى النفس لأنها3 محل لخلق الله ذلك فيها4 ولأنهما5 كسب لها6، كما أنه أضاف الماء والمرعى إلى الأرض لأنها محل لخلق الله ذلك7 فيها. وموضع الحجة من الآية لنا أن كثيراَ من أهل التفسير قالوا: ألهمها فجورها وتقواها أي جعل فجورها وتقواها8، واستدلوا على ذلك بما روي عن أبي الأسود الديلي9   1 الشمس آية (8) . 2 النازعات آية (31) . 3 في النسختين (لأنهما) والصواب ما اثبت لأن الضمير عائد إلى النفس. 4 في النسختين (فيهما) والصواب ما أثبت لأن الضمير عائد إلى النفس. 5 في الأصل (ولأنها) والصواب ما أثبت كما هو في - ح-، لأن الضمير يعود على الفجور والتقوى. 6 في الأصل (لهما) والصواب ما اثبت لأن الضمير يعود على النفس، كما هو في - ح-. (ذلك) ليست في - ح-. 8 ذكر ابن جرير في معنى الآية قولين، القول الأول: أن معنى ذلك بين لكل نفس الخير والشر وبه قال ابن عباس ومجاهد والضحاك. القول الثاني: أي جعل فيها فجورها وتقواها وبه قال ابن زيد. انظر: تفسير ابن جرير 30/210، وانظر أيضا: تفسير ابن كثير 4/516. 9 أبو الأسود الديلي ويقال الدؤلي البصري القاضي، اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان من كبار التابعين، وهو محضرم ممن أسلم زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وهو أول من تكلم بالنحو توفي سنة (69?) . انظر: تهذيب التهذيب 12/10، التقريب ص 393. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 أنه قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قد سبق، أو مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت به الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضى عليهم فمضى فيهم فقال: فهل يكون ذلك ظلماً؟ قال: ففزعت من ذلك فزعاً شديداً، فقلت: كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال: يرحمك الله إني لم أرد بمسألتك إلا لأحرز عقلك، إن رجلاً من مزينة أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: لا بل شيء قد قضي عليهم ومضى فيهم قال: ففيم العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "من كان خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} "1 وهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتمل غير ما قلناه. وأيضاً فإن ثبت بأن الإلهام المراد به التعريف، فلا يدل على أنهم خلقوا ذلك لأنفسهم بل هو كقول الله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 2 أي الخير والشر3 وكقول الله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 4، أي بينا له ودللناه عليه. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه ما روى ابن عمر5   1 أخرجه م. في القدر (ب. كيفية الخلق الآدمي..) 4/2041 وليس عنده قوله: "قال ففيم العمل فقال صلى الله عليه وسلم: "من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه لها"، وأخرجه حم. 4/438 مثله، وابن جرير في تفسيره 30/231. 2 البلد آية (10) . 3 روى ابن جرير بسنده هذا المعنى عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - ورواه عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. انظر: تفسير ابن جرير 30/200، وذكر هذا المعنى الفراء في معاني القرآن 3/266. 4 الإنسان آية (3) . 5) هكذا في النسختين وها الحديث يعرف بعبد الله بن عمرو بن العاص، ولم أقف عليه عن ابن عمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فرغ الله من مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف عام وكان عرشه على الماء" 1، وروى عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن نفراً من اليمن قالوا: أتيناك يا رسول الله لنتفقه في الدين ونسألك2 عن أول هذا الأمر كيف كان؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "كان الله ولم يكن شيء قبله3 وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض "4.   1 أخرجه م. في القدر (ب. كيفية الخلق الآدمي..) 4/2044، ت. في القدر باب منه) 4/458) ، حم. 2/169 من حديث عبد الله بن عمرو، وليس في رواية الترمذي والإمام أحمد (وكان عرشه على الماء) . 2 في الأصل (نسألك) بدون الواو، وأثبتها من - ح- وهي الموافقة لرواية البخاري. (قبله) ليست في الأصل وهي ملحقة في - ح- بخط مختلف وهي موافقة لرواية البخاري. 4 أخرجه خ. في التوحيد (ب. وكان عرشه على الماء) 9/100، حم. 4/431. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 73- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} 1، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} 2، وقوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} 3، وقال في آية أخرى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} 4. وهذا يدل على أنه لم يساو5 بين المؤمنين والكافرين في ذلك. فأجاب المخالف القدري عن الآية6 فقال: معنى إرسال الشياطين على الكافرين هو تخليته بينهم وبين الكافرين، ولم يحل بينهم كما حال بين الشياطين وبين المؤمنين. والجواب: أن هذا هو الحجة عليه، لأنه أخبر أنه لم يعصم الكافرين منهم وإنما أرسلهم عليهم ومكنهم من غوايتهم بالوسوسة، كما يقال أرسل السلطان عبيده على الناس، إذا لم يمنعهم من مضرتهم، وليس كذلك المؤمنين فإنه عصمهم منهم وأخبر بذلك بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} 7 ومعنى الاستثناء: فإن لك عليهم سلطانا على8 من اتبعك من الغاوين، فنسب الاتباع إليهم لأنه كسبهم،   1 مريم آية (83) . 2 الزخرف آية (36) . 3 فصلت آية (25) . 4 الحجر آية (42) . 5 في الأصل (لم يساوي) والصواب حذف حرف العلة للجزم كما أثبت وفي - ح- عدلت فوقها بخط مختلف بحذف الياء. 6 في - ح- (عن هذه الآية الأولى) . 7 الحجر آية (42) . 8 في الأصل (إلا من) ولا يستقيم الكلام بها وفي - ح- كما أثبت وهو أصح للعبارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 ومثل هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} 1، أي أرسلناهم وسلطانهم عليهم ليضلهم، وأخبر عن ذلك بالمؤمنين2 فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} 3. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا4 مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ} 5. قال سفيان6 بقضاء الله7، وقال غيره: "إلا بعلم الله"8 {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ9 مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 10 أي بمضلين إلا من سبق في علم الله أنه يصلي الجحيم". قال الحسن، ومحمد بن كعب11، والضحاك، وثعلب: "من قضيت عليه ذلك"12. قال عمر بن عبد العزيز: "لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، وإن في ذلك لعلما في كتاب الله جهله من جهله وعرفه من   1 الأعراف آية (27) . 2 هكذا في النسختين ولعل صوابها (وأخبر عن المؤمنين) . 3 الأعراف آية (196) . (منهما) ليست في كلا النسختين. 5 البقرة آية (102) . 6 سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي من ثورين عبد مناة ابن أد بن طابخة سماه غير واحد من العلماء أمير المؤمنين في الحديث. قال النسائي: "هو أجل من أن يقال فيه ثقة، هو أحد الأئمة الذين أرجو أن يكون ممن جعله الله للمتقين إماما"، كان مولده سنة سبع وتسعين، وتوفي بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة. انظر: تهذيب التهذيب 4/114. 7 في - ح- (إلا بقضاء الله وقدره) وما في الأصل أصوب لموافقة رواية ابن جرير عنه. انظر: تفسير ابن جرير 1/464. 8 نسب هذا القول القرطبي إلى الزجاج. انظر: تفسير القرطبي 2/55. 9 في الأصل (وما تعبدون من دون الله) وهو خطأ والصواب ما أثبت وكما هو في - ح-. 10 الصافات آية (161-162) . 11 محمد بن كعب بن سليم القرظي المدني ثقة عالم توفي في سنة (120?) التقريب ص 316. 12 تقدم ذكر هذه الأقوال انظر: ص263. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 عرفه، قوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين َإِلاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} "1. ثم قال هذا المخالف القدري: وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} فالمراد به من يعش عن ذكر الرحمن في الدنيا قيض2 له شيطانا في النار وقرنه، ولهذا قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْن} 3. والجواب: أن في الآية ما يدل على أنه أراد بأنه يقيض له شيطانا أي يسهل له شيطانا في الدنيا يزين له العاصي، والدليل عليه من وجوه: أحدهما: قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} 4 أي سبيل الهدى وهذا لا يمكن حمله على السبيل في النار. والوجه الثاني: قوله تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} يعني يظنون أنهم على هدى، وهذا لايكون إلا في الدنيا، فأما في النار فقد تيقنوا أنهم لم يكونوا في الدنيا على هدى، وفي هذا دلالة على أن الإنسان قد يفارق الحق ولا يعرف ذلك، وعلى أن المعرفة ليست اضطرارا، ومثل هذا قوله تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 5. والوجه الثالث: الدال على أن القرين قيض له في الدنيا قوله تعالى:   1 أخرجه عنه الآجري في الشريعة ص 158 مثله، وأخرجه اللالكائي في السنة 3/566 مختصرا، وقد تقدم إيراد بعضه منسوبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيه وضاع، انظر: ما تقدم ص 338. 2 في - ح- (الله) . 3 الزخرف آية (38) . 4 الزخرف آية (37) . 5 المجادلة آية (18) وأول الآية قوله عز وجل: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} قد قرئ بالتثنية في ضمير الفاعلين1 {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} فعبر عن قوله: حشرناهما وبعثناها، بأنهما جاء وهذا كقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} 2، وكقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} 3. فلو كان ابتداء اتخاذ الشيطان إنما كان في النار لما جمع بينهما في المجيء، وأيضاً فإن خَلَقَ الله القرين معه ابتداءاً في النار، فكيف يعذب القرين على غير ذنب كان منه في الدنيا؟ وهذا لا يجيء على أصل القدرية4، ولأنه قال: {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} ومعناه فبئس القرين كنت في الدنيا. والوجه الرابع: مما يدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} 5. فأخبر أنهم كانوا ظالمين في الدنيا، والمعنى ولن ينفعكم إذ ظلمتم الناس بأنكم في العذاب مشتركون، لأنكم مختلفون في العذاب6 لأن المبتلى في الدنيا إذا رأى من ابتلى بمثل بلائه تأسى به وسكن منه بعض ما هو فيه7، قالت الخنساء8: فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي   1 قرأ بالتثنية عامة قراء الحجاز سوى ابن محيصن والمعنى: حتى إذا جاءنا هذا الذي عشى عن ذكر الرحمن وقرينه، وقرأ بالتوحيد عامة قراء الكوفة والبصرة وابن محيض، والمعنى: حتى إذا جاءنا هذا الذي عشى من بني آدم عن ذكر الرحمن. انظر: تفسير ابن جرير 25/74. 2 الزمر آية (71) . 3 الزمر آية (73) . 4 وأيضا هو لا يجيء على أصل أهل السنة فإن الله لا يعذب إلا من استحق العذاب. 5 الزخرف آية (39) . 6 قوله: "لأنكم مختلفون في العذاب" ليست في الأصل وهي من-ح- ولا يستقيم المعنى بدونها. 7 ذكر ابن جرير والقرطبي نحو هذا المعنى. انظر: تفسير ابن جرير 25/75، تفسير القرطبي 16/91. 8 في - ح- كتب إضافة بخط مختلف (ترثى أخاها صخر بن … ) وفسر كلمة الخنساء بأن معناها البقرة الوحشية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 وما يبكون مثل أخي ولكني ... لأعزر النفس عنه بالتأسي1 ثم قال المخالف: وأما قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} فقد قيل: هو كالأول وتقدير الكلام وقرنا بهم في النار قرناء فزينوا لهم معصية الله2، وهذا لا حجة فيه لأنه أورد ذلك مورد الذم للكفار وبين استحقاقهم للعقوبة على فعلهم، فلو كانت مخلوقة لله لما ذمهم عليها لوما عاقبهم عليها كما لا يحسن ذلك في ألوانهم. والجواب: أن هذا من الكلام الغث الذي لا فائدة تحته ولا يساوي ما كتب فيه من بياض ومداد، والدليل على فساد قوله أن الله أخبر أن القرناء زينوا لهم: أي أحسنوا لهم العمل بالمعاصي {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم} أي فيما قد علموه وفيما يستقبلونه وزينوا لهم التكذيب بالبعث والنشور3 {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي العذاب لذلك في أمم، فهذا لا يمكن حمله على أنهم زينوا في النار أعمالهم، لأن الله أخبر أنهم أعداء في النار بقوله: {الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاّ الْمُتَّقِينَ} 4 فأخبر أنهم يتكاذبون في النار ويختصمون قال الله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ..} إلى قوله تعالى: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} 5، فبطل أنهم يزينون لهم في النار. وقول المخالف: وقرنا بينهم قرنا6 تفسيراً لقوله: قيضنا، فغير صحيح،   1 انظر: ديوان الخنساء ص 84. 2 ذكر هذا القول القرطبي بصيغة التمريض (قيل) وكذلك ذكره الشوكاني ورجح أن نقيض القرناء إنما هو في الدنيا. انظر: تفسير القرطبي 15/354، فتح القدير 4/513. 3 هذا القول هو الذي ذكره ابن جرير ولم يذكر غيره، وهو الذي رجحه الشوكاني. انظر: تفسير ابن جرير 24/111، فتح القدير 4/513. 4 الزخرف آية (67) . 5 ق آية (27-28) . 6 في - ح- (وقرناهم قرنا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 لأن معنى قيضنا: أي سببنا1، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أكرم شاب شيخا قيض الله له من يكرمه عند سنه"2 أي سبب الله له ذلك. وأما قول المخالف: لما كانت المعاصي أفعالهم ذمهم الله عليها وعاقبهم عليها بخلاف ألوانهم، فقد مضى عن ذلك في مواضع كثيرة فلا معنى لإعادته3.   1 ذكر هذا المعنى القرطبي ونحوه من المعاني وقال: "والتقييض الإبدال ومنه المقايضة قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع وهما قيضان كما تقول بيعان". تفسير القرطبي 15/354. 2 أخرجه ت. كتاب البر والصلة (ب. إجلال الكبير) 4/372 من طريق يزيد بن بيان العقيلي عن أبي الرجال الأنصاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ يزيد بن بيان، وأبو الرجال الأنصاري آخر"، انتهى. وأخرجه ابن عدي في الكامل وذكر أنه منكر من حديث أبي الرجال ويزيد بن بيان. الكامل لابن عدي 3/898 و7/2733. 3 انظر: ما تقدم فصل رقم: (20) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 74- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قول الله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ1 عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 2 ومثلها قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 3، ومثلها قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 4، ومثلها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} 5، ومثلها قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} 6. فأجاب المخالف القدري عن هذا وقال: لا حجة بهذا لأنه خبر عن قوم مخصوصين من الفساق والكفار علم أنهم7 لا يؤمنون، فأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بهم وليس ذلك يكون في كل فاسق8 وكافر9، لأن كثيرا منهم آمنوا وتابوا وكذلك قوله تعالى: {لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ} صحيح ولكن لا يدخل النار أحد إلا بعلمله، وهذا يدل على بطلان مذهب المستدل أن أفعال العباد مخلوقة لله إذ لو كانت مخلوقة لله لم يذمهم عليها ولا عاقبهم عليها. والجواب أن يقال لهذا المخالف: لا ننكر أن هذا خبر من الله عن قوم مخصوصين أنهم لا يؤمنون وأنه لم يرد به جميع المكلفين، وإنما الحجة لنا من هذه الآيات أن من لم يؤمن منهم إنما لم يؤمن بقضاء من الله سابق فيه   1 في - ح- (وكذلك حقت كلمة ربك) فزيادة الواو خطأ. أما قوله في الأصل (كلمات) على الجمع فهي قراءة نافع وابن عامر، وقرأ الباقون بالأفراد (كلمة) . انظر: تفسير القرطبي 8/340. 2 يونس آية (33) . 3 يس آية (7) . 4 السجدة آية (13) . 5 يونس آية (96-97) . 6 الزمر آية (19) . (علم أنهم) ليست في - ح-. 8 في - ح- (وليس ذلك في كله فاسق) . 9 في الأصل (ولا كافر) وما أثبت من - ح- وهو أفصح للعبارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 وكتاب ثابت بأنه لا يؤمن لأنه قال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} معناه لقد وجب القول على أكثرهم بالعذاب فهم لا يؤمنون، فأخبر سبحانه أن الذين وجبت عليهم الكلمة بأن لا يؤمنوا لا يؤمنون {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} يعني يوم القيامة، فإنه لا يمكنهم التكذيب. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه ما روي في الصحاح عن مسلم بن يسار1 أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 2 ف قال عمر - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: "إن الله خلق آدم عليه السلام فمسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقام رجل فقال يا رسول الله: ففيم العمل؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل أهل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل أهل النار فيدخل النار"3.   1 مسلم بن يسار الجهني ذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: "بصري تابعي ثقة"، وقال ابن حجر في التقريب: "مقبول من الثالثة". انظر: تهذيب التهذيب10/142، التقريب ص 336، وفي كلا النسختين كتبها (يسار بن مسلم) والصواب ما أثبت كما في مصادر الرواية. 2 الأعراف آية (172) . 3 أخرجه ت. كتاب تفسير القرآن، (ب. سورة الأعراف) 5/266، د. كتاب السنة (ب. القدر) 2/273، ط. كتاب الجامع (ب. النهي عن القول في القدر ص784، حم. 1/44، الحاكم في المستدرك كتاب الإيمان 1/27 وفي كتاب التفسير 2/324-544) ، وابن جرير في تفسيره 13/334 بتحقيق أحمد شاكر، والحديث من هذا الطريق منقطع لأن مسلم بن يسار لم يسمع عمر - رضي الله عنه - كما ذكر ابن حجر وغيره. انظر: التهذيب 10/142، وروي موصولا عند أبي داود ابن جرير من وراية مسلم عن نعيم بن ربيعة الأزدي عن عمر - رضي الله عنه -، ونعيم لا يعرف إلا بهذا الحديث وقد وثقه ابن حبان كما ذكر ذلك ابن حجر في التهذيب. انظر: 10/464. والحديث حسنه الترمذي وقال الحاكم مرة: "صحيح على شرطهما ولم يخرجاه"، وخالفه الذهبي بأن فيه إرسالا، ومرة قال: "صحيح على شرط مسلم"، ومرة قال: "على شرط الشيخين" وفي الموضعين وافقه الذهبي. وقال المنذري: "إنه حديث ليس إسناده بالقائم، لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعا غير معروفين بحمل العلم، ولكن معتى الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة يطول ذكرها من حديث عمر وغيره". انظر: مختصر السنن 7/73، وقد أورد ابن كثير جملة كبيرة من هذه الروايات في تفسيره، وأورد عن علماء السلف ما يوافق معنى الحديث مما يدل على قبولهم له واستشهادهم بمعناه. انظر: تفسير ابن كثير 2/261- 264. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 وروي أن عمر - رضي الله عنه - قال يا رسول الله: العمل في شيء نأتنفه أو في شيء قد فرغ منه، فقال: "بل في شيء قد فرغ منه"، فقال: ففيم العمل؟، قال: "يا عمر لا يدرك ذلك إلا بالعمل"، قال: إذاً نجتهد"1. وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله الخلق في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأ ضل "، قال عبد الله بن عمرو: فلذلك أقول جف القلم بما هو كائن2. وهذه الأخبار في الصحاح3 مروية عن الثقات وهي موافقة لهذه الآيات التي ذكرها، وأما قول المخالف: إنهم لم يدخلوا النار إلا بعملهم فقد مضى الجواب عنه في مواضعه فلا معنى لإعادته4.   1 أخرجه بهذا اللفظ الآجري في الشريعة ص170، وابن أبي عاصم في السنة 1/72 من حديث أبي هريرة عن عمر - رضي الله عنه -. قال الألباني في التعليق علي كتاب السنة: "حديث صحيح ورجاله ثقات رجال الشيخين غير هشام بن عمار فهو من رجال البخاري وحده مع ذلك ففيه كلام ولكنه لا بأس به في الشواهد". انتهى. وأخرج نحوه من حديث عمر - ت. كتاب القدر (ب. ما جاء في الشقاء والسعادة 4/445 وقال: "في الباب عن علي وحذيفة بن أسيد وأنس وعمران بن الحصين وهذا حديث حسن صحيح"، حم. 1/29، واللالكائي في السنة 4/600، والبزار. انظر: كشف الأستار 1/19. 2 أخرجه ت. كتاب الإيمان ب. ما جاء في افتراق هذه الأمة 5/56، وقال: "حديث حسن"، حم. 172- 197 والحاكم في المستدرك كتاب الإيمان 1/31، وقال: "حديث صحيح قد تداوله الأئمة وقد احتجا بجميع رواته ثم لم يخرجاه ولا أعلم له علة"، ووافقه الذهبي، وأخرجه الآجري في الشريعة ص 175، واللالكائي في السنة 4/604، والبزار كشف الأستار 3/21، وقال الألباني في حاشية المشكاة: "إسناده صحيح" 1/37. 3 تقدمت الإشارة إلى أن هذا القول من المصنف فيه تجوزن لأن الصحاح في عرف العلماء هي صحيح البخاري ومسلم. 4 انظر: ص 191. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 75- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنّ … } 1 الآية، فمن ذرأه الله لجهنم فهل ذلك إلا لأن الله أراد كفره ولم يرد إيمانه. فأجاب المخالف القدري عن هذا وقال: لا حجة لهذا المستدل، لأن الله أورد الاية مورد الذم لهم ولم يستحقوا الذم إلا بأعمالهم، وقد اختلف في معنى الآية فمن الناس من قال معنى قوله: {ذَرَأْنَا} أي ميزنا لجهنم، ومنه سميت الرياح الذاريات من حيث كانت تفصل بين كثير من الأشياء، وإنما ميزهم بعد أفعالهم بأسمائهم وأحكامهم، ومنهم من قال: بل المراد بالذري هو خلقهم بالآخرة بعد الموت، ولا شك أنه يخلق في ذلك الوقت خلقاً للنار، ولكنه قد أعلمنا أنه لا يبعث من الخلق إلى النار إلا من مات مصرا على الكفر، يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} الآية وقد علمنا أنهم لم يكونوا في الدنيا هكذا فيجري مجرى قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً … } 2 الآية، ومنهم من قال: بل المراد خلقهم في الدنيا إلا أن هذه اللام هي لام العاقبة، ومعناها أنه خلق الخلق للعبادة، إلا أنه علم أن عاقبة كثير منهم تصير إلى النار لكفرهم فصار كأنه ما خلقهم إلا لها كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} 3، ومتى حملت هذه الآية على أحد هذه الأوجه وافقت قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} 4. والجواب أن يقال لهذا المخالف: الآية وردت بلفظ الخبر وخبره لا يكون   1 الأعراف آية (179) . 2 الإسراء آية (97) . 3 القصص آية (8) . 4 الذاريات آية (56) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 بخلاف مخبره وهي كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر} 1. وقوله: إنهم لا يستحقون الذم إلا بأعمالهم إن سلمنا أن فيها ذماً فلا ننكر أنهم لايستحقون الذم ولا العقاب ولا الثواب إلا بأعمالهم، وأعمالهم خلق الله وكسب لهم لقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2، وقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 3، وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} 4. وقد مضى بيان الفرق بين الخلق والكسب ولكن لا يعقله إلا من جعل الله له نورا في قلبه5. وأما قول المخالف: إن من الناس من قال معنى قوله: {ذَرَأْنَا} أي ميزنا لجهنم ومنه سميت الرياح الذاريات، لأنها تفصل بين كثير من الأشياء، فغير صحيح ولا قال أحد من أهل اللغة ولا من أهل التفسير أن (ذَرَأْنَا) معناه: ميزنا، واستدلاله على ذلك بالذاريات يدل على قلة علمه بالعربية، لأن الذاريات من قولهم ذرت تذروا بغير همز ذروا فهي ذارية، والذاريات جمع ذارية وهي المفرقة للتراب6، وليس كذلك ذرا فإنه مهموز يقال ذرأ يذرأ ذرءاً7 فهو ذارئ، والمراد به خلقنا8 ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي   1 الإسراء آية (70) ووجه المشابهة بين الآيتين في كلام المصنف هو أن هذه الآية وقع مدلول خبرها وهو التكريم لبني آدم يرفعهم فوق سائر المخلوقات في الأرض وحملهم في البر والبحر، فكذلك الآية المذكورة {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} الآية لابد من وقوع مدلول خبرها. 2 الصافات آية (96) . 3 التوبة آية (95) . 4 المائدة آية (38) . 5 انظر: ما تقدم من بيان الفرق بين الخلق والكسب ص 225. 6 انظر: لسان العرب 3/1499. 7 في الأصل (يذري) وما أثبت من - ح- وهو الصواب. وانظره في: لسان العرب 3/1491. 8 انظر: لسان العرب 3/1491، والمعنى المذكور هنا هو ما ذكره المفسرون ولم يذكروا غيره، وقد رواه ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد والحسن والسدي. انظر: تفسير ابن جرير 9/131، تفسير القرطبي 7/324، تفسير ابن كثير 2/268. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ} 1 أي خلقكم في الأرض {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي بعد الموت ومثلها قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيه} 2 أي يخلقكم في أرحام الأزواج3، وقيل يكثركم بالتزويج4، وفي الحديث عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "إني أظنكم آل المغيرة ذرأ النار"5 أي خلقها، فهذا يبطل تأويله الأول. وأما الدليل على إبطال تأويله الثاني وأنه أراد خلقناهم بعد الموت فمن وجوه: أحدها: أنه أخبر قبل هذا6 بقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، ثم قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرا} الآية. فأخبر سبحانه أن من يهديه فهو المهتدي، والمراد به من يوفقه ويسدده للإيمان به وطاعته فهو المهتدي لذلكن ولا يجوز حمله على الثواب، لأن الثواب لا يسمى هدى على ما مضى7 ولو جاز أن يسمى الثواب هدى لم يقل هاهنا {فَهُوَ الْمُهْتَدِي} ، وإنما كان يقول فهو المُهدي8، فلما قال المهتدي نسب   1 المؤمنون آية (79) . 2 الشورى آية (11) . 3 ذكر هذا القول ابن جرير عن مجاهد والسدي. انظر: تفسير ابن جرير 25/11. 4 ذكر هذا القول القرطبي عن الزجاج. انظر: تفسير القرطبي 16/8. 5 أخرج هذا لأثر أبو عبيد في غريب الحديث 3/328، وهذا القول من عمر - رضي الله عنه - موجه لحالد بن الوليد - رضي الله عنه - ونصه: أن عمر كتب إلى خالد بن الوليد: (إنه بلغني أنك دخلت حماما بالشام وأن من بها من الأعاجم أعدوا لك دلوكا عجن بخمر وإني أظنكم آل المغيرة ذرأ النار) . (هذا) ليست في الأصل وهي في - ح-. 7 انظر: كلام المصنف في معنى الهدى ص 285. 8 المهدي بضم الميم وسكون الهاء وفتح الدال بمعنى المعطي الهدى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 الاهتداء إلى المَهدي1 ثم قال: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وأراد بالإضلال هاهنا ضد الهداية وهو الإضلال عن الدين ثم قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} فأخبر أن الذين أضلهم في الدنيا عن الدين هم الذين ذرأهم لجهنم، فيحمل كل خبر على فائدة متجددة ولو حملناه على صنعه بهم2 في الآخرة لكان الخبران خبراً3 عن شيء واحد. والوجه الثاني: مما يدل على أنه أراد بالذرء هو خلقهم في الدنيا أنه قال: {كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} وكثيراً لفظه لفظة النكرة يدل على أنه لا يعود على نكرة متقدمة4 فلو كان المراد به الذين ماتوا مصرين على الكفر لأخبر عنهم بلفظ المعرفة كقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ} 5. والوجه الثالث: أنه وصفهم بأنهم ليس لهم قلوب يفقهون بها، بل ختم على قلوبهم عن الهدى وعلى أسماعهم فلا تسمع آذانهم الإيمان، وعلى أبصارهم، فقال: {إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأنْعَامِ} ، لأن الأنعام ليس لها همة غير الأكل والشرب، بل هم أضل من الأنعام، لأن الأنعام تبصر مضارها ومنافعها وهم لا يعلمون، وهذه الصفات لا تصلح إلا لمن هو6 من أهل الدنيا، فأما أهل النار فلا تضرب الأنعام مثلا لهم لأنها ليست دار7   1 المهدي بفتح الميم وسكون الهاء وكسر الدال بمعنى المعطى الهدى. 2 في الأصل (لهم) وهي في - ح كما أثبت وهي أصوب. 3 في الأصل (لكان الخبر الآخر خبراً) وهي في - ح- كما أثبت وهي الأصوب. 4 في الأصل (تقدم) والمثبت من - ح-. 5 الزمر آية (71) ، ومراد المصنف هنا أن الآية على قول المخالف الأولى أن تكون هكذا لتدل على مراده (ولقد ذرأنا لجهنم الذين كفروا من الجن والإنس) كما هي في آية الزمر. (من) ليست في - ح-. 7 في - ح- (ذات) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 تكليف ولا ينفع فيها الاهتداء بالعقل1 والسمع والبصر. والوجه الرابع: أنه قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} أي ولا يوصف بالغفلة إلا أهل الدنيا الذين غفلوا عن الاعتبار بما يدلهم من خلق الله على معرفته. وأما قول المخالف: بأنهم لم يكونوا في الدنيا ليس لهم قلوب ولا سمع ولا بصر، فالجواب أنه أراد أنهم لمالم ينتفعوا بالاعتبار بقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم صاروا كمن لا قلب له ولا سمع ولا بصر كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 2، فوصفهم الله بوصف من في القبور حيث لم ينتفعوا بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وقال سبحانه: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} 3، فسماهم الله موتى وصما حين لم ينتفعوا بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكونوا كذلك وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم (تسمع) ولم يرد نفي أسماعهم في آذانهم، لأنهم قد سمعوا ذلك بآذانهم ضرورة، وإنما أراد بغض إسماع النبي صلى الله عليه وسلم لهم4 الهداية لهم5 بما أسمعهم بدليل قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} 6. وأما استدلال المخالف بقوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً..} الآية، فلا ننكر أن الله يحشرهم عمياً وبكماً وصماً يوم القيامة مجازاة منه على عماهم وصممهم في الدنيا عن الدين. وأما تأويل المخالف الثالث بقوله: إن الله خلقهم في الدنيا للعبادة إلا أن   1 في الأصل (للعقل) وهي في - ح- كما أثبت وهو الأصوب لاستقامة العبارة. 2 فاطر آية (22) . 3 النمل آية (80) . (لهم) ليست في - ح-. (لهم) ليست في - ح-. 6 النمل آية (81) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 هذه اللام لام العقبة، لأنه علم أن كثيراً منهم يصير إلى جهنم فصار كأنه ما خلقهم إلا لها. والجواب: أن هذا تناقض لا يخفى على عاقل فساده، وذلك أن العبادة ثوابها، كما أن الكفر جزاؤه جهنم لو قلنا إنه خلقهم للعبادة لكان تقدير الكلام (ولقد ذرأنا للعبادة والجنة كثيراً منهم، فصار عاقبتهم إلى جهنم) وهذا يخرج من التأويل إلى التبديل الذي قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} 1 ويدل على فساد هذا أنه قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ} ، ليدل أنه لم يذرأ لذلك جميع المكلفين بل هو كقوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} . وعند القدرية: أن الله خلق جميع المكلفين للعبادة، وكان ينبغي على هذا أن يقال (ولقد ذرأناهم) فصار2 لجهنم كثيراً من الجن والإنس وهذه اللام تسمى لام الاختصاص، كقولهم الباب للدار3، وكقول الله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ4 أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} 5. وإن وافقنا أنها لام العاقبة فالمراد أن الله خلقهم للدنيا وليأمرهم بعبادته وقضى وعلم أن عاقبتهم ومآلهم إلى جهنم، كما قال: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} 6 أي أعصر ما يؤول خمراً لا في حال عصره، كذلك هذا، فصار كقوله تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ} 7. وأما استدلاله بقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} 8   1 الفتح آية (15) . 2 هكذا في - ح- وفي الأصل بعد قوله: (فصار) كلمة غير واضحة. 3 في الأصل (النار والدار) وفي - ح- كما أثبت وهو الصواب. 4 في الأصل (سبع) وهو خطأ وهي في - ح- كما أثبت. 5 الحجر آية (44) . 6 يوسف آية (36) . 7 الحشر آية (17) . 8 القصص آية (8) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 فقال الفراء: "هذه لام كي وقعت مكان التمليك. والمعنى ليكون لهم عدواً وحزنا في علم الله لا في علمهم"1. وكذلك اللام في قول الشاعر: .............................. : ... فللموت ما تلد الوالدة2 أي للموت في علم الله لا في علمها ... ويدل على صحة ما ذكرناه من التأويل ما روى أبو صالح3 عن ابن عباس – رضي الله عنهما - قال: "الخلق أربعة، خلق للجنة لا يدخل النار منهم أحد وهم الملائكة، وخلق للنار لا يدخل الجنة منهم أحد وهم الشياطين، وخلقان بعضهم إلى الجنة وبعضهم للنار وهم الجن والإنس"4. وروي في الصحاح عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: "أتدرون ما هذان5 الكتابان؟ "، فقلنا: لا، يا رسول الله إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى: "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم   1 لم أجد هذا في معاني القرآن للفراء، وقد يكون في كتاب آخر والذي ذكره ابن جرير والقرطبي والشوكاني أن اللام هنا للعاقبة، لأنهم التقطوه راجين نفعه فصار عاقبة التقاطهم له أن صار عدواً وحزناً لهم. انظر: ابن جرير 20/32، تفسير القرطبي 13/253، فتح القدير 4/160. 2 عزا هذا البيت في شرح أبيات مغني اللبيب إلى نهيكة بن الحارث المازني أو شتيم بن خويلد الفزاري وشطره الأول يقول فيه: فإن يكن الموت أفناهم انظر: شرح أبيات مغني اللبيب 4/296. 3 هو باذام، ويقال باذان أبو صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب، قال ابن حجر في التقريب ص 42: ضعيف مدلس. 4 لم أقف عليه. 5 في - ح- (ما في هذين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً"، ثم قال للذي في شماله: "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص أبداً"، فقال الصحابة: ففيم العمل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان أمر قد فرغ منه؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال: فرغ ربك من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير"1. وروى أنس – رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، قيل وكيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت"2. وفي هذا من الأخبار المذكورة ما يضيق هذا المختصر عن ذكرها. وأما استدلال هذا المخالف بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} 3. فالجواب عن هذا من وجوه: إحداها: وهو المروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما - أنه قال: معناها إلا ليقروا له بالعبودية طوعاً وكرهاً4 مضاهاة لقوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي   1 أخرجه ت. كتاب القدر (ب. إن الله كتب كتاباً لأهل الجنة وأهل النار) 4/449، وقال: وفي الباب عن ابن عمر وهذا حديث حسن غريب صحيح، وأخرجه حم 2/167، والآجري في الشريعة ص 173، وابن أبي عاصم في السنة 1/154، وقال الألباني: "إسناده حسن". وهو مخرج في الأحاديث الصحيحة للألباني 2/528. 2 أخرجه ت. كتاب القدر (ب. ما جاء إن الله كتب كتابا لأهل الجنة) 4/450، وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه حم 3/106 - 120، والآجري في الشريعة ص 185، وابن أبي عاصم في السنة 1/175، وقال الألباني: إسناده صحيح على شرطهما. 3 الذاريات آية (56) . 4 أخرجه عنه ابن جرير ورجحه. انظر: تفسير ابن جرير 27/12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً} 1 ولقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} 2، وهذا كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3. والوجه الثاني: أن المراد بقوله تعالى: {إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} أي إلا لآمرهم بالطاعة والعبادة وأنهاهم عن الكفر والمعاصي4. والثالث: أن لفظه لفظ العموم والمراد به الخصوص وأراد بذلك الذين هداهم ووفقهم لطاعته وعبادته، يدل على هذا شيئان: أحدهما: أن فيهم الأطفال والمجانين ومن خرج من عموم الآية. والثاني: أنه قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} فأخبر بهذه الآية أنه خلق كثيراً منهم لجهنم، ومن خلقه الله لجهنم لم يخلقه للعبادة5، والقرآن لا يتناقض بل يؤيد بعضه بعضاً قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 6، ولا ينتفي عنه الاختلاف إلا إذا حملت الآيتان على ما ذكرنا.   1 آل عمران آية (83) . 2 الرعد آية (15) . 3 لقمان آية (25) . 4 هذا القول ذكره شيخ الإسلام عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومجاهد والربيع بن أنس وقال: "هو اختيار الزجاج"، وهو الذي اختاره ورجحه شيخ الإسلام وأبان أنه لا يصح حمل الآية على غير هذا المعنى، لأن العبادة هي الخضوع للأمر والنهي، وهي في هذا مثل قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} ، فهو لم يرسله إلا ليطاع، ثم قد يطاع وقد يعصى، وتشبه قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} . والذي ذكره شيخ الإسلام هنا هو الذي ذكره ابن كثير ورجحه أيضا. انظر: الفتاوى 8/39- 57 وقد أطال في بيان هذه الآية شيخ الإسلام. وانظر: تفسير ابن كثير 4/238، وانظر: فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد ص 17. 5 ذكر هذا القول مع تعليله القرطبي ونسبه إلى الضحاك والكلبي وابن قتيبة والفراء والقشيري. انظر: تفسير القرطبي 17/55، معاني القرآن 3/89. 6 النساء آية (82) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 76- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا قول الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} 1 وكذلك قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} 2 وكذلك قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 3. فأمر الله الخلق أن يسألوه بأن لا يزيغ قلوبهم، ولا يجعل في قلوبهم غلاً للذين آمنوا، وأن يهديهم إلى الصراط المستقيم، ولا يجوز أن يسأل العبد من الله إلا ما يجوز وقوع ضده منه، كما أمرهم أن يسألوه المغفرة والرحمة والرزق لأنه يجوز وقوع ضد ذلك منه. ألا ترى أنه لم يأمرهم بأن يسألوا بأن لا يظلمهم لأنه لا يجوز وقوع ضده منه4. فأجاب المخالف القدري عن ذلك وقال: لا حجة له بهذا، لأنه ليس فيما ذكر ما يقتضي نسبة شيء من هذه القبائح إلى الله، فكأنه يستدل بالشيء على عكس ما يدل عليه وهو غير صحيح. والجواب أن يقال لهذا المخالف: قد قدمنا أن كون تسمية المعاصي معاصي وقبائح وخبائث من العباد لكونهم مكتسبين لها لا يجب تسميتها بهذه الأسماء في حق الله لكونه خالقاً لها، ألا ترى أنه تعالى قال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 5. والخبائث هاهنا كلُّ ما حرم أكله كالميتة والدم والكلب والخنزير، وهذه الأشياء خلقها الله، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الكلب خبيثاً، وسمى ثمنه خبيثاً6.   1 آل عمران آية (8) . 2 الحشر آية (10) . 3 الفاتحة آية (5) . 4 قد ذكر اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة فصلا في سياق ما روي من الأدعية المأثورة في إثبات القدر. انظر: 4/647- 654. 5 الأعراف آية (157) . 6 تقدم الكلام عن هذين الحديثين ص 221 كما تقدم الرد على المخالف في قوله السابق. انظر: ص 209. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 فعلم أن هذه الأسامي1 إنما تنصرف إليها بحق العباد لا في حق الله، وقد أخبر الله عن يوسف عليه السلام أنه قال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْه} 2، وسجن يوسف عليه السلام سفه منهم وليس بسفه منه، وإن أحبه وأراد، وأخبر الله عن ابني3 آدم أنه قال لأخيه: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 4، فأراد من أخيه قتله ليكون القاتل له من أصحاب النار، ومعلوم أن قتله سفاهة من القاتل. ولا يقال إن المقتول سفيه لكونه مريداً لقتل نفسه، فثبت بذلك كله أنه ليس كل من أراد الظلم والسفه من غيره يسمى ظالماً وسفيهاً، يؤيد ذلك أن الله يوصف بأنه يريد الطاعة من العباد، ولا يوصف لذلك بأنه مطيع، ويوصف بأنه يخلق الموت في غيره، ولا يوصف بأنه ميت، فلم5 يمتنع لذلك أن6 بإرادته المعصية من غيره وبخلقه لأفعال المعصية من العباد والظلم منهم والسفه لا يسمى ظالماً ولا سفيهاً. وأما قول المخالف: ليس في استدلالنا بقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} وما أشبهها من الآيات ما يدل على وجود ضد ذلك من الله، غير صحيح، لأن الزيغ في القلوب وصرفها7 وإمالتها عن الهدى منه8، وقد أخبر الله بذلك عن فعله بمن لم يؤمن بقوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي   1 في - ح- (الأشياء) . 2 يوسف عليه السلام آية (33) . 3 هكذا في النسختين ولعل صوابها (أحد ابني) . 4 المائدة آية (29) . (فلم) ليست في - ح- والجملة هكذا فيها (فيمتنع ذلك بأن يريد بإرادته) . 6 هكذا في النسختين ولعل صوابها (أنه) ليستقيم الكلام. 7 في - ح- (هو صرفها) ولعل الصواب ما في الأصل لاستقامة المعنى. (منه) ليست في - ح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 الأرْضِ} 1 ومعناه سأمنع قلوبهم وأدفعها عن العلم والتفكر في آياتي. وقوله: {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ} أي الذين يرون أنهم أفضل الخلق، وأن لهم ما ليس2 لغيرهم وهذه الصفة لا تكون إلا الله، إلى قوله {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} ومثلها قوله تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} 3، فأخبر الله سبحانه أنه صرف قلوبهم عن فهم القرآن فلم يفقهوه لذلك، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 4، فنسب الزيغ5 الأول إليهم لكونه كسباً لهم ووقوعه بمشيئتهم، ومشيئتهم متعلقة بمشيئة الله لقوله تعالى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 6، ونسب الزيغ الثاني إلى نفسه ونسبه إليه لكونه خالقاً له، والزيغ الواحد لا يجوز أن يكون بعضه خلقاً لهم وبعضه خلقاً لله، لأنهم لا يقدرون على تمييز ما خلقوا7 من الزيغ عما خلقه الله فيهم منه. وأما قول المخالف: إن هذا الاستدلال بالعكس وهو غير صحيح، جهل منه بوجوه الاستدلال، والاستدلال8 من محاسن الشرع قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 9، وهذا الاستدلال بالعكس لأنه أخبر أن عدم وجود الاختلاف فيه دليل على صحة أنه من الله، وكذلك قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 10 فعدم الفساد فيهما يدل على أن المدبر لهما واحد.   1 الأعراف آية (146) . 2 في - ح- (وأنهم لهم من الحق ما ليس) . 3 التوبة آية (127) . 4 الصف آية (5) . 5 هكذا في النسختين والأولى أن يقال: (الإزاغة) لأنها مصدر (أزاغ) . 6 الإنسان آية (30) . 7 في - ح- (خلقوه) من انفسهم) . 8 أي الاستدلال بالعكس. 9 النساء آية (82) . 10 الأنبياء آية (122) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 ثم قال المخالف: وأما قول1 المستدل إنه لا يسأل من الله إلا ما يجوز وقوع ضده منه، فليس الأمر كذلك، لأن الله تعالى قال: {قَالَ2 رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} 3، فأمر نبيه أن يسأله أن يحكم بالحق وإن كان ضده الحكم بالباطل. والجواب أن يقال: إن الله أمره أن يسأله تعجيل النصفة منه4 بما كذبوه فقال {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَق} أي عجل حكمك بالحق ولا تؤخره، لأن لله أن يقدم ذلك وله أن يؤخره، فقتلوا يوم بدر ويوم الأحزاب ويوم أحد، ولم يسأله وهو شاك أنه يحكم بغير الحق، وإنما أمره الله أن يسأله بتعجيل ذلك منهم5، كما أخبر عن نوح {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} 6 وقد أخبر الله عن نوح أنه قال: {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاّ ضَلالاً} 7، والزيادة في الضلال عن الدين، فدل على أنه يجوز وقوع ذلك من الله.   (قول) ليست في الأصل وأثبتها من - ح-. 2 هكذا في النسختين بصيغة الأمر (قل) وهي قراءة الجمهور، كما ذكر ذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، وأن حفص وحده قرأ بفتح القاف واللام بينهما ألف بصيغة الماضي (قال) أضواء البيان 4/696. 3 الأنبياء آية (122) . 4 هكذا الضمير يرجع إلى الله ولو كانت (منهم) لكان المعنى أتم وأوضح يعني مشركي مكة. 5 يؤيد هذا ما روى ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في الآية: "لا يحكم بالحق إلا الله ولكن إنما استعجل بذلك في الدنيا يسأل ربه على قومه". وروى ابن جرير عن قتادة أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا شهد قتالا قال: "رب احكم بالحق". تفسير ابن جرير 17/108. 6 نوح آية (26) . 7 نوح آية (24) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 77- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا أن يقال لهم: أمر الله إبليس بالسجود لأدم وأمر الكفار بالإيمان، أكان يعلم أنه يكون1 منهم ما أمرهم به، أم كان عالماً بأنه لا يكون منهم ذلك مع إرادته لذلك منهم، فإن قالوا: كان غير عالم بأنه لا يكون منهم ذلك نسبوه إلى الجهل، وقد قال بذلك فرقة من القدرية2 وقد أكذبهم الله بقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر..} 3 الآية، وقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 4، وإن قالوا: بل كان عالماً بأنهم لا يفعلون ما أمروا به، قلنا لهم: فإرادته لوقوع ما يعلم أنه لا يكون تقع موقع تمني الحمقى كمن5 يقول: ليت الله يجعلني نبياً وما أشبه ذلك. فأجاب القدري عن ذلك وقال: هذا يدل على فقد المستدل للتمييز بين الإرادة والتمني، فإن الإرادة من المعاني التي تخص بالقلوب في حق العباد، وليست من جنس الكلام، والتمني جنس من الكلام وهو قول القائل: ليت لي كذا وكذا، فكيف تكون إرادة ما لا يكون تمنياً، وعلمنا بأنه أمرهم بذلك إرادة منه لوقوع ما أمرهم به على ما مضى. والجواب: أن يقال لهذا المخالف: هذه مغالطة لا يخفى فسادها على من له أدنى بصيرة، نحن قلنا: لو كان هذا6 لوقع موقع التمني من الحمقى والتمني مستحيل وقوعه من الله سبحانه. وأما قول المخالف: التمني بالقول وهو قول القائل: ليت لي كذا وكذا،   1 في - ح- (يعلم الله ما يكون) . 2 تقدم بيان القائلين بذلك وقول الأئمة فيهم. انظر: ص 340 والتعليق عليه. 3 الأنعام آية (59) وفي النسختين سقطت الواو من قوله (ويعلم) . 4 الأنعام آية (28) . 5 في - ح- (بل كمن) . 6 في الأصل (ونحن لو قلنا هذا) وما أثبت من - ح- وهو الموافق للرد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 فلا ننكر أن هذا من التمني، والتمني يقع على هذا ويقع في اللغة على التلاوة1، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيّ} 2، ويقع التمني على ما يتمناه الإنسان في نفسه ولا يتكلم به، ومنه يقال: تمنى فلان بنفسه أن يكون له كذا وكذا. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي يوماً بمكة فتمنى بنفسه شيئاً من الدنيا، وكان يقرأ سورة النجم {أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى} 3، فألقى الشيطان على لسانه، فإنهن عند الله لمن الغرانيق العلا وإن شفاعتهن4 لترتجى، والغرانيق الملائكة5. فوقعت هاتان الكلمتان في آذان المشركين واستبشروا وقالوا: إن محمدا قد رجع إلى دين قومه، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم آخر السورة سجد وسجد معه كل كافر ومسلم إلا الوليد بن المغيرة فإنه كان شيخاً كبيراً فرفع ملء كفه تراباً وسجد عليه، ففشا ذلك في الناس وأظهرهما6 الشيطان حتى بلغتا7 إلى أرض الحبشة، فلما سمع عثمان بن مظعون وعبد الله بن مسعود ومن كان معهما هنالك من الصحابة أقبلوا سراعاً، وعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى جبريل فشكى إليه، فقرأ عليه النجم فلما قرأ هاتين الكلمتين قال جبريل: معاذ الله أما هاتين ما أنزلهما ربي ولا أمرني بهما ربك، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أطعت الشيطان وشركني في أمر الله، فأنزل الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ   1 انظر: لسان العرب 6/4284. 2 البقرة آية (78) وذكر ابن جرير في معنى أماني أقوالا غير هذا، ورجح منها قول من قال إن المراد بالأماني هنا هو التخرص بالكذب والتقول بالباطل كذبا وزورا. انظر: تفسير ابن جرير 1/375. 3 النجم آية (20) . 4 في - ح- (شفاعتهم) . (والغرانيق الملائكة) ليست في - ح-. 6 في - ح- (وأظهرها) . 7 في - ح- (بلغ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} 1.   1 الحج آية (52) . وهذه الرواية هي المعروفة بقصة الغرانيق، وقد أخرجها الطبري بإسناده عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس وأبي العالية وسعيد بن جبير كلها مرسلة. تفسير ابن جرير 17/187، وأخرجها البزار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "فيما أحسب أشك في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة" فذكره. قال البزار: "لا نعلمه يروى بإسناد متصل يجوز ذكره إلا بهذا الإسناد، وأمية بن خالد ثقة مشهور، وإنما يعرف هذا من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس". كشف الأستار 3/72. قال ابن كثير: "قد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح". تفسير ابن كثير 3/229، وقال ابن حجر بعد أن أورد من أخرج القصة وبين ضعف الروايات وانقطاعها، قال: "لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا مع أن لها طرقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين، أحدهما: ما أخرجه الطبري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والثاني: ما أخرجه أيضا من طريق المعتمر سليمان وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية ثم قال: وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض. وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع منها بمستنكر وهو قوله: " (ألقى الشيطان على لسانه، تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى" فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره، لأنه يستحيل على النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن ما ليس منه، وكذا سهوا إذا كان مغايرا لما جاء به من التوحيد] هكذا في فتح الباري ولا معنى لهذا التخصيص لأن العصمة في االتبليغ حاصلة بكل وهذا ظاهر من قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ألفاظ القرآن الكريم، وكذلك قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [. لمكان عصمته، ثم نقل عن القاضي عياض وأبي بكر بن العربي تأويلات العلماء لهذه القصة، وكان أحسن هذه التأويلات وأقربها إلى الدليل قول من قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل القرآن فارتصده الشيطان في مكة في سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكيا نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله وأشاعها". ويؤيد هذا التأويل ما ذكره البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - نفي تفسير قوله تعالى: {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} قال: "إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم آياته". وبين ابن حجر أن هذا التأويل الأخير هو الذي استحسنه القاضي عياض وابن العربي، وأن الطبري حام حول هذا المعنى. انظر: فتح الباري 8/438- 440. وما استحسنه ابن حجر هنا هو أحسن ما قيل لو صحت الرواية وبما أنها لم تصح فلا حاجة إلى توجيه ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 وهذا يدل على1 أن لفظة التمني مشتركة، وإنما يتبرأ جبريل من ذلك ونسبها إلى الشيطان دون الله لأن الله ما أمره بذلك ولا أنزله جبريل عليه وإن كان الله قد خلقه على لسان الشيطان. ويقع التمني على السؤال أيضاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا2 تمنى أحدكم فليكثر فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته "3، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنى أحدكم الموت لضيق نزل به فإن كان لا بد متمنياً فليقل اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي"4. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء يسمى تمنياً، فعلم بذلك جهل هذا المعترض لانصراف لغة التمني إلى معان، فتصور ذلك في مسألتنا إذا أراد الله وقوع أمر يعلم أنه لا يكون وقوعه ألبتة صار من يقول اللهم اجعلني نبياً. وأما قول المخالف: إذا أمر الله بأمر علم أنه أراد وقوعه فغير صحيح،   (على) ليست في - ح-. 2 في الأصل (وإذا) وفي - ح- بدون الواو وهو كذلك في روايات الحديث. 3لم أجده بهذا اللفظ، وإنما هو عند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا "إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته" 3/357- 387، ونحوه أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص 268، وفي إسناده عمر بن سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وقد وثقه الإمام أحمد، قال: "هو صالح ثقة إن شاء الله وضعفه بعضهم"، وقال ابن حجر في التقريب: "صدوق يخطئ". انظر: التهذيب 7/457، التقريب ص 254، وبقية رجاله ثقات وقد رمز لتحسينه السيوطي في الجامع. انظر: فيض القدير 1/319، وروى نحوه الطبراني في الأوسط ذكره الهيثمي من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تمنى أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه "عزوجل قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح". مجمع الزوائد 10/150. 4 أخرجه خ. كتاب المرضى (ب. تمني المريض الموت) 7/104، م. كتاب الذكر (ب. كراهة تمني الموت لضر نزل به) 4/2064 من حديث أنس - رضي الله عنه - وفيه: (لضر نزل به) بدل (لضيق نزل به) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 لأنا قد بينا أنه أمر بما لم يرد وقوعه وهو ذبح إبراهيم صلى الله عليه وسلم ولده وغير ذلك1 فأغنى عن الإعادة.   1 انظر: الرد على المخالف في هذا وإثبات عدم التلازم بين الأمر والإرادة على ما يراه القدرية، فصل رقم (52) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 78- فصل ومن الأدلة المذكورة في الرسالة لنا قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً} 1، وهذه صيغة الأمر، وليس بأمر إيجاب ولا إباحة ولا ندب، بل هو تسليط (من الله لإبليس على الكفار) 2 كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} 3، ويدل4 على أنه تسليط من الله لإبليس على الكافرين والعصاة قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} 5 فمعنى قوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي استخف من استطعت منهم بدعائك، ويقال: بالغناء والمزامير6 {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِك} يعني اجمع عليهم بخيل المشركين، ويقال لكل راكب يسير في معصية الله أجلب. وقوله: {وَرَجِلِكَ} يعني كل راجل يمشي في معصية من الجن والإنس، {وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ} كل مال حرام، {وَالأوْلاد} كل ولد غير حل. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "وهم المخنثون وأولاد الزنا"7، {وَعِدْهُمْ} ومنِّهم الغرور أن لا بعث. فأجاب المخالف القدري: إن هذا ليس بتسليط وإنما هو تهديد، هذا نكتة قوله ومعتمده.   1 الإسراء آية (64) وفي - ح- كتب الآية إلى قوله: (ورجلك) وقال: (الآية إلى قوله: غرورا) . 2 ما بين القوسين من - ح- وليست في الأصل. 3 مريم آية (83) . 4 في - ح- (فدل) . 5 الحجر آية (42) ، الإسراء آية (65) . 6 روى القول الأول ابن جرير بسنده عن ابن عباس وقتادة، أما القول الثاني فرواه بسنده عن مجاهد. انظر: تفسير ابن جرير 15/118. 7 أخرجه عنه ابن جرير بسنده إلا أنه لم يذكر (المخنثون) . انظر: تفسير ابن جرير 15/120. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 والجواب عنه من وجوه: لأحدها: أن النقاش1 قال: ليس بتهديد ولا أمر وإنما هو ذكر ما يفعله الشيطان مما لا يضر في الملك كقول القائل لمن قدر عليه: كدني بما قدرت. والوجه الثاني: مما يدل على أنه ليس بتهديد أن التهديد الذي هو بصيغة الأمر هو ما يتبعه الوعيد من الله تعالى كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2، وقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} 3 الآية. والثالث: أنه قال بعدها {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} 4 وهذا صيغته صيغة الخبر، والمراد به منع إبليس من عبادة الصالحين عن أن يستفزهم بصوته، أو يجلب عليهم بخيله ورجله ويشاركهم في الأموال والأولاد، فدل على أنه لم ينفعه من ذلك5 غير عباده الصالحين، بل أرسله عليهم ولم يعصمهم منه فيكون كقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} .   1 هو محمد بن الحسن بن محمد بن زياد الموصلي ثم البغدادي المقرئ المفسر ولد سنة (266?) ، وهو مصنف كتابا شفاء الصدور في التفسير، وغريب القرآن وغيرها، قال الخطيب: "في أحاديثه مناكير بأسانيد مشهورة"، وقال الذهبي: "مع جلالته ونبله فهو متروك الحديث"، وقال اللالكائي: "تفسيره إشقاء الصدور لا شفاء الصدور" وذلك لكثرة ما يه من الموضوعات". توفي سنة (351?) . انظر: تاريخ بغداد 2/201، تذكرة الحفاظ 3/908. 2 فصلت آية (40) . 3 الكهف آية (29) . 4 هكذا العبارة في كلا النسختين و (ذلك) زائدة هنا لا معنى لها والكلام لها والكلام يستقيم بدونها. 5 هكذا العبارة في كلاالنسختين و (ذلك) زائدة هنا لا معنى لها والكلام يستقيم بدونها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 79- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} 1. فأجاب المخالف القدري وقال: المراد بالشر ههنا ما يصيبهم من مصائب الدنيا كالمرض والموت وذهاب الأموال والأولاد. والمراد بالخير ما ينالهم من نعم الدنيا، كالخصب وسعة المال وكثرة الأموال والأولاد يدل عليه قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ، والمراد بالفتنة الامتحان. والجواب: أن الشر اسم جنس يعم جميع الشر في الأعمال وغيرها، والخير اسم جنس يعم جميع الخير في الأعمال وغيرها، ويؤيد هذا قوله تعالى: {الَّذِي2 خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 3. وجواب آخر وهو أن يقال للقدرية: عندكم أن الله لا يفعل بالعبد إلا ما فيه صلاح له4، فإذا ثبت أنه ابتلاهم أي اختبرهم في الشر من المرض والمصائب في النفس والولد لينظر صبرهم، ويبتليهم بالخير بالنعم والخصب لينظر شكرهم فأي مصلحة لهم في تعريضهم بأن لا يصبروا أو لا يشكروا فيستوجبوا منه العقوبة، فعلم أن الأمر بخلاف ما ذكرتم وأن الله يفعل بعباده ما شاء سواء كان لهم فيه مصلحة أو مضرة5 ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.   1 الأنبياء آية (35) . 2 في كلا النسختين (هو الذي) وهو خطأ. 3 الملك آية (2) . 4 تقدمت الإشارة إلى هذا. انظر: ص 272. 5 الله جل وعلا لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، إلا أن أفعاله وما يقضيه جل وعلا إنما هو صار عن حكمة قد يعلمها الخلق وقد لا يعلمونها، وليس في أفعاله جل وعلا شر محض كما تقدم بيانه ص 348. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 80- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} 1 فأمر الله نبيه بالاستعاذة من الشر فدل على أنه مخلوق. فأجاب المخالف القدري: بأنه لا حجة بهذا لأنه لم يضف الشر إلى خلقه، وإنما أضافه إلى مخلوق ونحن نقول: إن هذه2 الشرور صادرة من المخلوقات. والجواب: أن الحجة لنا من الآية من وجهين: أحدها: أن ما لما لا يعقل، وما لا يعقل لا يتأتى منه الفعل بالشر ولا بالخير، فإذا أضيف الشر إليه وأخبر لله دل على أن الله خلقه، وما ينسب إليه من الشر يؤيده قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} 3. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي وأشار إلى القمر، وقال: " تعوذي بالله من شر هذا فإن هذا هو الغاسق إذا وقب" 4، تأويله أن شر القمر المتعوذ منه ما لحق قوماً من الكفر من أجله، فنسب الشر إليه اتساعاً وتجوزاً في الكلام. والوجه الثاني: أنه لما فسر نبيه صلى الله عليه وسلم ن يتعوذ به من شر ما خلق دل على أنه الخالق لما يتعوذ به عنه كما قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 5 والله الخالق المتعوذ منه، فكذلك هذا مثله.   1 الفلق آية (1-2) . 2 في الأصل (هذا) والتصويب من - ح-. 3 الفلق آية (3) . 4 أخرجه ت. كتاب التفسير (ب. من سورة المعوذتين) 5/452، وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه حم. 6/61، 206، 237، والحاكم في المستدرك كتاب التفسير 2/541، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. 5 النحل آية (98) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 وروى الآجري عن يوسف بن سهل الواسطي1 أنه قال: حججت فسمعت رجلاً يقول في تلبيته "لبيك لبيك والشر ليس إليك"، فدخلت مكة فلقيت سفيان فأخبرته بالذي سمعت فما زادني على أن قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} 2.   1 لم أقف له على ترجمة. 2 أخرجه الآجري في الشريعة ص 237. وقد تقدم الكلام عن نسبة الشر إلى الله ص 346، وذكر كلام الأئمة في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "والشر ليس إليك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 81- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة على أن، العباد غير ممكنين ولا مخيرين في أفعالهم1 لا كما قالت2 القدرية3 قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} 4.   1 المصنف - رحمه الله - أراد في هذا الفصل الرد على القدرية الذين يزعمون أن العبد له قدرة وإرادة مستقلة ليس لها تعلق بإرادة الله وقدرته، لأنه قد تقدم كلامه في فصل رقم (33) في إثبات قدرة العبد، وبيان الفرق بين قول السلف المثبتين لذلك، وبين قول الجبرية الذين ينكرون أن يكون للعبد فعل، والمسلم لا يسعه إنكار قدرة العبد وإرادته فإنها ظاهرة من أدلة الشرع والعقل وقد تقدمت الأدلة على ذلك ص 51، بل الأوامر والنواهي الشرعية مرتبطة بالإرادة والمشيئة والجزاء على الأعمال مترتب على ذلك، فمتى فقد الإنسان إرادته واختياره بحيث صار مكرهاً أو مضطراَ فلا يعتبر مؤاخذاً على فعله، إلا أن يكون سكراناً فهذا يؤاخذ لأنه هو الذي اكتسب هذا وفعله بنفسه، ومع هذا فإن السلف - رحمهم الله - أثبتوا ما ذكره الله في كتابه وذكره نبيه محمد صلى الله علي وسلم في الأحاديث الصحيحة من أن العبد له مشيئة تابعة لمشيئة الله وإرادته، وأن أفعاله هي خلق لله عزوجل، وهذا الذي تنكره المعتزلة القدرية. فأورد المصنف - رحمه الله - هذا الفصل في الرد عليهم، فقوله: "إن العباد غير ممكنين ولا مخيرين في أفعالهم" يقصد بذلك على الاستقلال بدون أن يكون تمكين واختيار من الله عزوجل. 2 في النسختين (كما قال القدرية) بدون (لا) وهو خطأ لا يصخ الكلام إلا بها كما أثبت. 3 في - ح- (القدرية والزيدية) . 4 القصص آية (68) ، واختلف المفسرون - رحمهم الله - في بيان المعنى من هذه الآية: ابن جرير - رحمه الله - يرى أن المراد بالخيرة هنا هو الاصطفاء والاختيار، وذكر أن (ما) في {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} موصولة. والمعنى وربك يختار يخلق ما يشاء أن يخلقه ويختار للهداية والعمل الصالح من خلقه ما هو في سابق علمه أنه من خبرتهم، وكذلك قال القرطبي ونقله عن ابن عباس ويحيى بن سلام والنقاش، وكذلك قال ابن القيم إلا أنهم خالفوا الطبري - رحمه الله - في أن (ما) ليست موصولة بل هي نافية ويكون المعتى بذلك أن الله يخلق ما يشاء ويصطفي منهم من شاء لطاعته ونبوته ولنصرة دينه وليس الاختيار إلى مشركي قريش، وهي على معنى قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} الزخرف آية (31) ، أما ابن كثير - رحمه الله - فيرى أن (الخيرة) هنا بمعنى الاختيار والمشيئة، وأن الله منفرد بالخلق والاختيار وهي كقوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم} وهو الموافق لكلام المصنف - رحمه الله - هنا، إلا أن دلالتها على القول الأول أوضح وأظهر، وهو أن المراد بها الاصطفاء والاختيار لأن أول الآية وهو قوله تعالى {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} معناه أن الله المنفرد بالخلق وهو المنفرد بالاصطفاء، فيكون الكلام بعدها من باب تأكيد اختصاص الله بذلك، ونفي أن يكون للمشركين دخل في الاصطفاء والاختيار، كما أن آية الأحزاب {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ليس المراد بها نفي المشيئة والاختيار، إنما المراد منها نفي أن يكون للمؤمنين اختيار حيال شرع الله وقضائه، بل هم ملزمون بالأخذ به وعدم استبداله بغيره، فإن فعلوا ذلك وبدلوا شرع الله وأمره فإنهم يكونون مخالفين وعاصين لله ورسوله. وهذا ظاهر في الآية أيضاً من وصف المخاطبين بصفة الإيمان، ومن سبب نزول الآية في قصة زينب بنت جحش - رضي الله عنها - في زواجها من زيد بن حارثة - رضي الله عنه -. انظر: تفسير الطبري 20/100، تفسير ابن كثير 3/397، تفسير القرطبي 13/305، زاد المعاد 1/39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 ومثلهما قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 1.   1 الأحزاب آية (36) ، وقد تقدم في التعليق على الآية قبلها بيان أن هذه الآية لا تصلح دليلا لنفي المشيئة والاختيار عن الخلق، وقد تقدم إيراد المصنف - رحمه الله - أدلة كثيرة شرعية على إثبات المشيئة والإرادة لله خاصة وعامة، فالمشيئة الخاصة كقوله عزوجل في الهداية والإضلال {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} الأنعام آية (125) ، وكقوله تعالى: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} المدثر آية (31) . انظر: ذلك في فصل (65- 66) . أما الآيات الدالة على إثبات المشيئة العامة لله عزوجل وأنه لا يخرج في هذا الكون شيء من مشيئته وإرادته فقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه} الكهف آية (23- 24) ، وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه} الإنسان آية (30) ، ونحوها من الآيات، فهذا مثبت لما يتعلق بالله جل وعلا، أما ما يتعلق ببني آدم فقد دل الشرع والعقل على أن له إرادة واختيار فقال عزوجل: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} الإسراء آية (19) ، {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} آل عمران آية (145) ، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} التوبة آية (32) ، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} الفرقان آية (62) ، {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَة} آل عمران آية (152) ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وغيرها كثير. فإذا جمع المسلم بين هذه الآيات تبين له الحق وظهر، وهو أن الله له المشيئة التامة في الخلق، وأن الخلق لهم مشيئة وإرادة تابعة لمشيئة الله عزوجل وإرادته لأنه سيدهم وخالقهم وأمرهم بيده. وقد جاء في القرآن الكريم خبر ذلك وتأكيده فلا يسع المسلم رده لشبه ووساوس كما هو حال المعتزلة، فالأدلة المتقدمة كافية في بيان الحق في هذا الأمر بدون ذكر هذه الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 قلنا: من الآية الأولى دليلان: أحدهما: أن الله أخبر أنه يخلق ما يشاء1 ومثلها قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء} 2، والمشيئة والإرادة معنى واحد3، وقد وافقت القدرية على أن الله أراد الطاعة من العباد، وقد أطاعه بعضهم، فيجب على هذا أن يكون الله هو الذي خلق أفعالهم في الطاعة، فإذا سلموا ذلك في أعمال الطاعة لزمهم ذلك في أفعالهم في المعصية لأن أحداً لم يفرق بينهما. والدليل الثاني: منها ومن الآية بعدها، أنه أثبت الخيرة لنفسه ونفاها عن العباد. فأجاب القدري المخالف عن هذا وقال: يحتمل أن يكون المراد أن الله متى اختار خلق الإنسان على صورة الذكور أو الإناث أو السواد أو البياض لم يكن الإنسان اختيار شيء في خلقه سوى ذلك.   1 في - ح- (ما يشاء ويختار) . 2 النور آية (45) . 3 المشيئة والإرادة بمعنى واحد إذا كانت تتعلق بالإرادة الكونية القدرية كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} البروج آية (16) ، {إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} الحج آية (16) ، فالإرادة هنا بمعنى المشيئة لأنها لا بمعنى تتخلف بل لابد من وقوعها، وهي على معنى قول المسلمين (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) ، أما الإرادة الدينية الشرعية مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الآنْسَانُ ضَعِيفاً} النساء آية (27- 28) ، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} المائدة آية (6) ، فهذه الإرادة لا تأتي بمعنى المشيئة لتعلقها بالمحبة والرضا والشرع والدين، وهذا قد يقع وقد يتخلف وهي المقصودة بقول المسلمين لمن يفعل القبائح (هذا يفعل ما لا يريده الله) أي ما لا يحبه ولا يرضاه، ولا يمكن أن يقال هنا (ما لا يشاؤه) لأن كل ما في الوجود إنما وقع لأن الله شاءه كقوله عزوجل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} البقرة آية (253) ، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} الأنعام آية (137) ، وغيرها من الآيات. فهذا يدل على أن المشيئة والإرادة ليستا بمعنى واحد في الحالتين، وإنما هما بمعنى واحد في الإرادة الكونية القدرية، والله أعلم. انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 115 - 117، وما تقدم ص 255. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 والجواب عن ذلك من وجوه: أحدها: أن هذا الخبر عام فيما ذكر وفي غيره من أمرهم فلا يجوز حمله على البعض من غير دليل. والثاني: أنه قال: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} وهذا ضمير المعرفة1 يقع على الخلق في وجودهم على صفة يصلحون للاختيار وحال خلقهم للذكور والإناث والسواد والبياض لا يصلح منهم اختيار ولا يصلحون للاختيار2 عنها3. والثالث: أنه قال: {مِنْ أَمْرِهِمْ} وحقيقة الأمر هو: استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه، وأضاف الأمر إليهم لأنهم المأمورون به وأراد به4 المأمور به، وكيفية صورهم لا تسمى أمراً حقيقة فلم يصح حمله عليه5. استدل المخالف على أنهم ممكنون بقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ..} 6 الآية، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً..} 7 الآية.   1 في - ح- مصححة (وهذا الضمير معرفة) والمراد ضمير الغائب (هم) في (لهم) . 2 في - ح- (للإجبار) . 3 الجملة تركيبها فيه خلل ما، ومراد المصنف - رحمه الله - أن يقول إن الضمير (هم) في قوله (لهم) يراد به الخلق وهذا بعد خلقهم فهم على صفة يصلحون أن يقع منهم الاختيار ولكنه نفى عنهم الاختيار وأثبته لنفسه. أما حال خلقه لهم وجعلهم ذكورا أو إناثا بيضا أو سودا فإن هذه الحال لا يصلح منهم الاختيار، كما لا يصلح أن يختاروا سوى ما قدره لهم فيها، والله أعلم. 4 في - ح- (وإرادته) . 5 وكذلك لا يصح حمله على المشيئة، انظر: التعليق على الآية نفسها في أول هذا الفصل، والأمر في الآية بمعنى الشأن، لأن الأمر يأتي بمعنى الشأن ويأتي بمعنى الأمر الذي هو واحد الأوامر. 6 الأعراف آية (10) . 7 الأحقاف آية (26) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 والجواب: أنه لم يرد في الآيتين التمكن في الأفعال، بل أراد استخلفناكم بعد الماضيين بدليل قوله تعالى في الآية الأولى: {فِي الأرْضِ} ، وقال في الآية الأخرى1 {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} أي فيما مكناهم فيه من الأموال و - أن - هاهنا زائدة2 ولو أراد به الأعمال لم يمكن أن تكون الأعمال التي مكن بها الأولين هي الأعمال التي مكن بها من بعدهم، لأن أعمالهم أعراض فيهم لا تقوم بغيرها، وإنما يمكن استعمالها في الأفعال بإضمار (مثل أعمالهم) . ومتى أمكن حمل الكلام على الحقيقة من غير إضمار لم يحمل على ما لا يستقيم إلا بإضمار.   1 في - ح- (الثانية) . 2 هكذا قال ابن قتيبة. وقال المبرد (ما) هنا بمعنى الذي و (أن) بمعنى (ما) ، والتقدير: ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه. وقيل: شرطية جوابها محذوف، والتقدير (ولقد مكناهم في ما إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد) . تفسير القرطبي 16/208. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 82- فصل خلق الله للعباد جائز غير واجب عليه، ولو لم يخلقهم أصلاً لم يظلمهم، وبعد أن خلقهم فبعثه الرسل إليهم أمر جائز منه ليس بواجب عليه، ولو لم يبعث إليهم رسلاً لم يظلمهم بذلك، وتكليفهم التكاليف أمر جائز منه ولو لم يكلفهم لم يظلمهم، والثواب على الطاعة أمر جائز غير واجب، ولو لم يثب المطيعين وأثاب العاصين لم يكن بذلك ظالماً1.   1 عند أهل السنة أن الله جل وعلا السيد والرب المطلق والمالك لكل شيء، وهذه السيادة والربوبية والملك المطلق لكل شيء لا يجعل لأحد أن يوجب عليه شيئاً ولا أن يلزمه بشيء، فلهذا قرر أهل السنة أن لا واجب على الله أصلاً وهذه قاعدة مطردة في كل شيء، وهذا ما قرره هنا المصنف بكلامه في خلق العباد وبعث الرسل والتكليف والثواب. والصحيح أن هذه الأمور ينطبق عليها ما قرر بعدم وجوب شيء على الله عزوجل، إلا أن الله سبحانه وتعالى تفضلاً منه ورحمة فقد أوجب على نفسه في كتابه أموراً يفعلها وأموراً لا يفعلها مثل تحريم الظلم على نفسه جل وعلا بقوله في الحديث القدسي: "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما" أخرجه م. كتاب البر والصلة 4/1994 من حدبث ابي ذر - رضي الله عنه -، وقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} فصلت آية (46) ، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} الكهف آية (49) . فعليه نقول: إن الله لا يظلم بمعنى أنه لا يفعل الظلم مع قدرته عليه عدلاً وتكرماً منه سبحانه وتفضلاً. ومما أوجب سبحانه على نفسه: أنه يثيب المطيعين ولا يضيع إحسانهم كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} البقرة: من الآية (143) ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} طه آية (112) ، وأنه جل وعلا لا يجازي الإنسان إلا بعلمه، ولا يحمله ما ليس من عمله وكسبه، وذلك في مثل قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلاّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} النجم آية (36-40) ، وأنه حرم الجنة على من مات مشركاً وأنه لا يغفر له بقوله: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} المائدة آية (48) ، وأنه جل وعلا كتب على نفسه الرحمة فقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة} الأنعام الآية (54) ، وأنه لا يعذب إلا من بعث إليه رسولاً في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} الإسراء: من الآية (15) . فهذه أمور قد أوجبها الله جل وعلا على نفسه منها ما هو تفضل ومنها ما هو عدل، وإيجابه على نفسه يدل على أنه لا يفعل إلا موجبه ولا يفعل خلاف موجبه فلا يظلم ولا يضيع عمل المحسن، ولا يضع عنه سيئات لم يعملها ولا يغفر للمشرك، فعلى هذا خلقه للخلق ابتداء تفضل وليس بواجب، وبعثه الرسل إليهم تفضل منه جل وعلا، وكذلك ما شرع لهم من الشرائع تفضلا منه ونعمة وهو غير واجب عليه. أما إثابة المطيعين فكما أنه تفضل منه سبحانه فإن الله لا يفعل خلافه لأنه أوجب على ذلك على نفسه سبحانه لا أن الخلق أوجبوه عليه، ولا أنه استحقاق للمطيعين كما زعم المعتزلة، لأن طاعتهم وقعت بتوفيق منه وهداية، ثم إنه أعطاهم من النعم ما لا يوفي حقه عليهم عبادتهم طوال حياتهم من ولادتهم إلى مماتهم. أما قول المصنف هنا (أنه لو لم يثب المطيعين وأثاب العاصين لم يكن ظالماً لهم) فهذا بالنسبة لمن نظر إلى أن الخلق وجميع ما في السموات والأرض ملك لله وتحت تصرفه، فعليه لو تصرف في ملكه بأي شكل فلا يقال عنه ظالم، لأن الظلم عند هؤلاء هو التصرف في ملك الغير بدون وجه حق، والخلق تحت ملكه وتصرفه فيهم واقع ضمن تصرف المالك في ملكه، وهو قول الأشاعرة ومن تبعهم، والصحيح أن هذا من الظلم الذي نفاه الله عزوجل عن نفسه وهو في الجزاء والحساب فلا يحمل الإنسان سيئات لم يعملها، ولا يضيع له أجر حسنات عملها يدل على هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} طه آية (112) ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} فصلت الآية (46) ، فهذا يدل على أن عدم إثابة المطيعين من الظلم الذي حرمه الله على نفسه تفضلاً منه ورحمة منه فلا يفعله، فعليه لا يصح أن يقال إنه لو لم يثب المطيعين لم يكن ظالماً لهم، أما قوله "وأثاب العاصين لم يكن ظالماً" فهذا داخل تحت تفضل الله ورحمته بعباده، فقد يفعله وقد لا يفعله، فإن فعله فلا يقال إنه عنه ظلم لأن له أن يتفضل على من يشاء بترك عقوبته لأن عقوبة العاصي حق له جل وعلا فإن شاء عاقبه عدلاً وإن شاء تركه فضلاً، وهذا إنما هو في المعاصي دون الشرك، أما الشرك فإنه لا يغفره جل وعلا كما قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام 18/137- 148، مفتاح دار السعادة 2/104- 113، لوامع الأنوار البهية 1/320- 333. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 وقالت المعتزلة: خلق الله للعباد وبعثه الرسل وتكليفه لهم أمر واجب لما فيه من المصلحة، ويجب عليه أن يثيبهم على الطاعة1.   1 هذا القول من المعتزلة راجع إلى قولهم بالتقبيح والتحسين العقليين، وقد مرت الإشارة إلى الأقوال فيه ص 209، وتبين القول الراجح منه، وأن العقل له أثر في التقبيح والتحسين في الجملة، إلا أن المعتزلة عمموا القول بالتحسين والتقبيح، وجعلوا العقل حاكماً في أفعال الله وشرعه وقاسوا أفعال الله على أفعال خلقه، فهم مشبهة الأفعال، فإنهم زعموا أن ما يحسن من المخلوق يحسن من الله عزوجل وما يقبح من المخلوق يقبح من الخالق، فعليه قالوا بإيجاب أشياء على الله لم يوجبها على نفسه ومنعوا أشياء عليه وقالوا فعلها قبيح والله لا يفعلها، مع صراحة الشرع فيما هو مخالف لقولهم كالشفاعة وإخراج الموحدين من النار وغير ذلك. ومن قاعدة التحسين والتقبيح العقليين عندهم قعدوا قاعدة أخرى وهي القول بوجوب الصلاح أو الأصلح على الله عزوجل، وبهذه القاعدة قالوا بوجوب خلق الله العباد لأن خلقه لهم فيه منفعة لهم وهو تعريفهم الثواب، ثم إنه لا يتم ثوابه لهم إلا ببعثة الرسل إليهم، وتكليفهم هو واجب عليه لأنه حسن وتركه قبيح، ومن هذه القاعدة في التحسين والتقبيح عندهم قالوا بوجوب اللطف من الله بالعبد، وهو عندهم كل ما يختار المرء عنده الواجب ويتجنب القبيح، ولأجل هذا زعموا أن الله لا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً، لأنه لو كان في قدرته لوجب عليه فعله وقبح تركه، وهذا كله افتراء وتحكم في الله عزوجل على حسب عقولهم وتشبيه للخالق بالمخلوق فيما يحسن منه ولا يحسن، والأدلة الشرعية التي ذكرها المصنف في هذا الكتاب ترد عليهم هذا القول وتبطله. أما قولهم إنه يجب عليه أن يثيبهم على الطاعة فإن هذا راجع إلى ما زعموه من أن العبد مستحق للثواب إذا قام بالواجب استحقاق العوض عن المعوض عنه، وأنه إذا لم يفعل يكون بذلك ظالماً للعبد، وهذا قياس عقلي فاسد فإن الطاعة من العبد لا تفي بحق نعم الله على العبد في الدنيا فضلاً عن ثواب الآخرة، ومع ذلك يتبجح المعتزلة في مسألة استحقاق الثواب على الطاعة وعلى الآلام الحاصلة في الدنيا. انظر أقوال المعتزلة في هذه المسائل في: المغني في أبواب العدل والتوحيد 1/72،100، 134، شرح الأصول الخمسة ص 564- 614، المواقف للإيجي ص 328- 330، المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص 154، مفاح دار السعادة لابن القيم ص 104- 112. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 وقول من قال هذا يشهد على قائله بالشناعة، لأن الواجب إنما يكون واجباً بالأمر والنهي من الأعلى لمن هو دونه وليس فوق الله آمر ولا ناه. إذا تقرر هذا وأن1 الله سبحانه متفضل على العباد بالخلق وبعثة الرسل والتكليف قد تفضل عليهم ولم يكلفهم من الأعمال إلا وسعهم وما لا يثقل عليهم لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} 2، وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ مَا آتَاهَا} 3، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} 4، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} 5،   1 في - ح- (فإن) . 2 البقرة آية (286) . 3 الطلاق آية (7) . 4 البقرة آية (185) . 5 الحج آية (78) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 وللمتفضل أن يترك التفضل بما تفضل به، فلو كلف الله العباد بما يثقل عليهم من العبادات وما لا طاقة لهم به كان ذلك جائزاً منه1 ولا يكون ظالماً لهم، وكذلك لو لم يثبهم على عمل الطاعة لم يكن ظالماً لهم، ولو أثاب من عصاه وأدخله الجنة لم يخرج بذلك عن الحكمة2، ولكنه سبحانه قد أخبر أنه ثيب المطيعين بفضل منه ويعذب الجاحدين بعدل منه، فاستحقاقه للحكمة، لذاته لا لفعله الحكمة3، إذ هو موصوف بالحكة قبل أن يفعل الحكمة، وقبل أن يخلق الواصفين له بها، وثبت له أن يتصرف بالعباد كيف شاء لأنهم ملكه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وقالت المعتزلة والقدرية: لا يجوز من الله في الحكمة إلا ما يجوز من الحكيم مِنَّا، ولا يجوز أن يوصف الله بتكليف العبد ما لا يطيقه، وقد خلق الله المكلفين تعريضاً للمنافع لهم ليصيروا إلى أسنى المنازل، ولا يفعل بهم إلا ما فيه لهم المصلحة، وإن فعل بهم غير ذلك فقد ظلمهم4.   1 في - ح- (وما لا طاقة لهم به لم يكن ظالماً لهم وكان جائزاً منه) . 2 تقدم الكلام على ذلك في التعليق على أول هذا الفصل. (الحكمة) ليست في - ح-. 4 ما ذكره المصنف هنا من قوله وقول المعتزلة يعود إلى مسألة اختلفت فيها أقوال الناس، وهي مسألة الحكمة والتعليل في أفعال الله ومأموراته والمشهور فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: قول نفاة التعليل والحكمة الذين يقولون إن الله لم يخلق هذا العالم لغاية ولم يخلق شيئا لشيء، وأوامره لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة والإرادة، وهذا قول الأشعري وأصحابه، وبه قال طوائف من أتباع الأئمة الأربعة منهم القاضي أبي يعلى الحنبلي وابن الزاغوني وغيرهم، ولهذا زعم هؤلاء أن جميع ما يفعله الله بالعباد لا علة فيه ولا حكمة سواء في ذلك من ناحية أمره وشرعه أو من ناحية فعله، فأجازوا من ناحية أمره أن يكلف العبد ما لا يطيق، وزعموا أن الأفعال ليس فيها حسن وقبيح قبل ورود الشرع، لأن الشرع هو المحسن والمقبح للأفعال، كما أجازوا من ناحية فعله أن يعذب الطائع ويثيب العاصي وينصر أعداءه ويخزي أولياءه وليس في ذلك خروج عن الحكمة ولا ظلم لأنه لا توجد حكمة عندهم في الفعل، أما الظلم فإن الظالم عندهم من تصرف بما لا يملك وجه حق - السموات والأرض وما فيهما ملك لله عزوجل فكيفما تصرف فيها فلا ظلم ولا خروج عن الحكمة - وهذا قول باطل فاسد يدل على فساده الشرع والعقل والواقع، فقد نص الله جل وعلا على أنه الحكيم العليم الخبير في آيات كثيرة، فإذا لم تكن الحكمة في أفعاله وأوامره يصبح وصفه بـ الحكيم اسماً على غير مسمى ووصفاً من غير صفة وهذا باطل، وهو تعطيل لأسماء الله وصفاته جل وعلا. وقول المصنف هنا: "فاستحقاقه الحكمة لذاته لا لفعله الحكمة" قول باطل لا دليل عليه، وهو تعطيل لهذه الصفة، لأن الحكمة لا تظهر إلا في الفعل والأمر كالكريم والخالق، وهي صفات ذاتية فعلية فهو موصوف بأنه الخالق وأنه الحكيم والكريم قبل وجود الخلق والأمر الدال على الحكمة والكرم، كما أن هذا الكون بكل ما فيه من سماء وأرض وكواكب وحيوان يدل على الحكمة ورحمة بالغة، وهذا ظاهر في التشريعات الإلهية من صلاة وزكاة وحج وصيام، كما هي أظهر في الأمور التي تتعلق بحياة الناس وتنظيمها من الناحية المالية والناحية الاجتماعية والجنايات والحدود، وغير ذلك وما خفي على الناس وجه الحكمة فيه فإن ذلك راجع إلى قصور الأذهان عن إدراك حكمته البالغة جل وعلا. أما قول هؤلاء إن الله قادر على على أن يوجد العباد صالحين وأن يزيل أسباب الفساد وأن يدخلهم الجنة مباشرة بدون تكليف وما إلى ذلك من القول فإن هذا حق من ناحية قدرته عزوجل فكما قال عن نفسه: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهي قدرة مطلقة لايحده شيء ولا يخرج عنها شيء، لكن الخلق خلقوا لغاية وهي كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} وقد تقدم ذكر الأقوال في (ليعبدون) والقول الراجح، فهذا يدل على أن الخلق خلقوا للعبادة وهي عبادة مطلوبة بالاختيار لا بالإكراه، والحياة جعلت للابتلاء ليظهر الصالح من الطالح كما قال عزوجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فمن تصور هذه الغاية من الخلق وهي العبادة الواقعة بالاختيار وأن الطريق إليها ضمن الابتلاء بالأوامر والنواهي ليظهر الصالحون ويتميزوا ويعرف غيرهم ويعرف غيرهم ويتميزوا، من أدرك هذا تمام الإدراك أدرك كثيراً من نواحي حكمة الله البالغة في خلقه الإنسان على هذه الكيفية المناسبة لهذه الغاية، وأدرك الحكمة من خلق وإيجاد الأمور الموصلة للخير من بعث الأنبياء وإنزال الكتب وما إلى ذلك، كما يدرك الحكمة من إيجاد الأمور الموصلة إلى الشر من خلق إبليس والشهوات والأهواء وما إلى ذلك وبهذا يتبين بطلان هذا القول. القول الثاني: قول المعتزلة ومن وافقهم الذين قالوا إن هذا العالم إنما خلق لحكمة وعلة وهي حكمة وعلة تعود إلى المخلوق، وهذه الحكمة هي نفع الخلق والإحسان إليهم، هكذا قال المعتزلة وأحسنوا بإثبات الحكمة وأخطأوا خطأ فاحشاً بتحديد الحكمة وأنها تعود إلى المخلوق وأنها النفع والإحسان إليه، وبناءأً على هذا القول انحرفوا في نواح كثيرة من مسائل القدر حيث زعموا أن الله ما دام خلق الخلق لينفعهم فإنه يجب عليه أن يفعل بهم كل ما يوصلهم إلى هذه الغاية، فقالوا بوجوب الصلاح والأصلح على الله عزوجل وأتوا بالطامات في هذا الباب، وشرعوا لله طريقاً زعموا أنه يجب عليه أن يسلكه مع عباه من ناحية الصلاح والأصلح، ولتقرر هذا الأمر عندهم أنكروا عموم قدرة الله عزوجل، فزعموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالاً ولا أن يضل مهتدياً، كما أنكروا عموم المشيئة وأن العبد هو الذي شاء الكفر أو الإيمان، ومشيئة الله لا تتعلق بهذا الأمر، وأنكروا عموم خلق الله لكل شيء، فقالوا إن العبد يخلق فعله، كما قرروا لأجل قولهم بهذه الغاية من الخلق قاعدة التحسين والتقبيح العقلي، فجعلوا كل ما يحسن في نظر العبد يحسن من الله عزوجل فيجب أن يفعله لأنه خلقه لينفعه، وكل ما يقبح في نظر العبد فإنه يقبح من الله فيجب أن لا يفعله لأنه خلقه لينفعه، ووقعوا بسبب هذا الانحراف في تشبيه فعل الله بفعل خلقه، إذ مدار التحسين والتقبيح عندهم على حسب الحال المشاهد من الإنسان، وهذا غاية في القبح والتحكم في أفعال الله عزوجل وكفى به انحرافاً وفساداً، كما أنه على القول بالتحسين والتقبيح العقليين عنهم أنكروا العفو عن المذنب في الآخرة أو إخراجه من النار بالشفاعة أو غيرها، لأن هذا في زعمهم إغراء بالمعصية قبيح لا يفعله الله عزوجل عندهم، وكل قول من هذه الأقوال يدل على انحرافهم في هذا الباب وفساد قولهم إذ الحق يجب أن ينسجم مع جميع لوازمه، وما يترتب عليه باطل فهو باطل. وهذا القول من المعتزلة في الحكمة والتعليل وما أداهم إليه من الأقوال المخالفة لصريح الشرع هو الذي جعل الأشاعرة ومن تابعهم ينفون الحكمة عن اللهعزوجل، ويقابلون المعتزلة في كل نقطة من نقاط انحرافهم مقابلة الضد، فأنكروا التحسين والتقبيح العقليينن ولم ينزهوا الله عن فعل ولا أمر لعدم الحكمة والغاية في خلقه وأمره عندهم ولأن الجميع ملكه وفي تصرفه، ولو نظر كل فريق من هؤلاء إلى الشرع لدلهم إلى الحق الذي لا يلزم منه اللوازم الفاسدة المخالفة للعقل والشرع في كلا القولين. القول الثالث: وهو قول أهل السنة الذين هم وسط في الأقوال فقالوا: بأن الله موصوف بانه حكيم فكل ما يصدر عنه جل وعلا إنما يصدر عن حكمة بالغة سواء في ذلك فعله أو أمره، وأن هذه الحكمة ترجع إليه جل وعلا، فهي صفة من صفات ذاته كما أقروا أن الخلق خلق لغاية ولم يخلق سدى ولا عبثاً وهذه الغاية هي عبادته، وأقروا بعموم قدرة الله على كل شيء ومشيئته النافذة في كل شيء وأنه الخالق لكل شيء، فعليه نزهوا الله عن إيجاب شريعة عليه يلزمه الالتزام بها ولم يوجبوا عليه إلا ما أوجبه هو جل وعلا على نفسه، كما أقروا له بالحكمة في كل فعل وأنه لم يأمر جل وعلا إلا بكل ما هو حسن ولم ينه إلا عن كل ما هو قبيح، كما أقروا بأنه المحمود في كل فعل وأمر، والأدلة على هذا القول ظاهرة بحمد الله في كل صغير وكبير من أمره وفعله. وقد استقصى الأدلة الدالة على الحكمة في الخلق والأمر وأنه المحمود في كل حال، الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه: شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل من ص 186- 206، ورد على النافين للحكمة بعد إيراد شبههم من ص 206-268، وانظر: مفتاح دار السعادة 1/187- 305، وانظر: الأقوال في الحكمة والتعليل في: مفتاح دار السعادة أيضاً 2/59 - 62، والفتاوى لشيخ الإسلام 8/81-158. وانظر قول المعتزلة في العدل والحكمة من الله وأنه يجب أن يترك القبيح ويفعل الحسن العقلي على وفق ما هو واقع من الإنسان: شرح الأصول الخمسة ص 301- 313. انظر قول الأشاعرة ومن وافقهم في: المواقف للإيجي ص 331، المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص 107، وانظر: لوامع الأنوار البهية 1/280-290. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 مفقودة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 مفقودة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 ودليلنا على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُم} 1،وقوله تعالى: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه} 2، فأمر الله الخلق أن يسألوه بأن لا يحملهم ما لا طاقة لهم به، يدل3 على أن له أن يحملهم ما لا طاقة لهم به. فأجاب المخالف القدري عن الآية الأولى وقال: لا حجة لهذا المستدل فيها، لأنه أخبر أنه ما أعنت أحداً، لأن من كان قاعداً في المسجد لا يجوز أن يقول4 لو شئت الآن لقعدت في المسجد، وعند المستدل أن الله قد خلق الكفر في أكثر الخلق وهو يسوقهم إلى النار وهو من أعظم العنت. والجواب أن يقال لهذا المجيب: هرفت قبل أن عرفت5 فقلت: أخبر الله أنه ما أعنت أحداً، وهكذا قلنا إنه ما أعنت العباد فيما شرع من الشرائع، وإنما أخبر أنه لو شاء لأعنت جميعهم، أي لو شاء لكلفهم ما يشق عليهم أداؤه لأن العنت المشقة يقال: عنت الفرس، يعنت عنتاً إذا حدث في قوائمه داء لأن العنت المشقة يقال: عنت الفرس يعنت عنتاً إذا حدث في قوائمه داء لا يمكنه الجري معه، وأكمة عنوت شاقة المصعد، وفلان يعنت فلاناً إذا شدد عليه وألزمه المشقة6. وأما قول المخالف: إذا7 قلنا إن الله قد خلق الكفر في الكافرين فقد أعنتهم.   1 البقرة آية (220) . 2 البقرة آية (286) . 3 في - ح- (فدل) . 4 في - ح- (يقول له) . 5 في - ح- كتب فوق هذا المثل (يقال لا تهرف ما لا تعرف) شرح مقامات، وقد تقدم هذا المثل والتعليق عليه ص 196. 6 انظر: لسان العرب 4/3120. (إذا) ليست في - ح-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 فالجواب أنا نقول له: إن أرادت أنا قلنا: إن الله خلق فيهم الكفر وألزمهم إياه إلزاماً لا محيص لهم عنه، فقد أعنتهم بذلك، فإنا لا نقول ذلك لأنه لم يجبرهم على ذلك، بل نقول وقع الكفر منهم باكتساب منهم وخلق الله ذلك فيهم ولم يعصمهم من الشيطان ولا خل فيهم اللطف الذي خلقه في المؤمنين. وإن أردت أنا قلنا: إن الله أراد عنتهم وهلاكهم في الآخرة بما خلق فيهم من الكفر بكسبهم له فكذا نقول: لأن التوفيق والثواب إفضال منه وإنعام وله ترك الإفضال والإنعام. ثم قال المخالف: وأما استدلاله بأنه أمر الخلق بأن يسالوه ألا1 يحملهم ما لا طاقة لهم به، فلا حجة لهم بذلك لأنه يجوز أن يأمر أن يسأله2 ما يعلم انه لا يفعل خلافه، وهو قوله {رَبِّ 3 احْكُمْ بِالْحَقّ} 4. والجواب: أنا قد بينا أن المراد بهذه الآية أنه أمره أن يسأله تعجيل النصر له عليهم بالحق الذي وعده إياه في الدنيا، ولم يسأله وهو شاك في أنه يحكم بغير الحق وهو الباطل5،6.   1 في - ح- (لئلا) . 2 في - ح- (أن يأمرهم أن يسألوه) . 3 في - ح- وهو كقوله (وقل رب) . 4 الأنبياء آية (112) . 5 تقدم الكلام على هذه الآية ص 440. 6 كلام المصنف هنا يتعلق بمسألة التكليف بما لا يطاق هل يجوز وقوعه عقلاً أم لا، على قولين: القول الأول: إنه لا يجوز وقوعه عقلاً فلا يجوز أن يكلف الله العباد إلا ما هو في طاقتهم، وبه قال المعتزلة وتعليلهم لهذا القول هو ما ذكره المصنف عنهم من أن الله خلق العباد لينفعهم وأنه يجب عليه مراعاة الأصلح لهم، وهو قول ظاهر البطلان إذ لو لم يجز وقوعه لم يتمدح الله بتركه في قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُم} ولم يأمرنا أن ندعوه بقوله: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} . القول الثاني: أنه يجوز وقوع التكليف بما لا يطاق، للأدلة التي ذكرها المصنف هنا، ولما تقدم بيانه من مخالفة أهل السنة لقول المعتزلة في مسالة الحكمة والتعليل واللوازم منا، والقائلون بهذا هم أهل السنة ويوافقهم في هذا الأشاعرة، إلا أن الأشاعرة يخالفون أهل السنة في نقاط تتعلق بتكليف ما لا يطاق فإن ما لا يطاق، أنواع: النوع الأول: هو ما لا يطاق لاستحالته كالجمع بين الضدين، وكأمر الأعمى بنقط المصحف والأخرس بالتكلم ونحوه، فهذا لهم فيه قولان. بعضهم كالرازي قال بجوازه ووقوعه في الشرع، وضربوا لذلك مثلاً: أمر الله عزوجل أبا لهب بالإيمان وقد أخبر أنه لا يؤمن فهو أمره أن يؤمن بأنه لا يؤمن. وهذا قول باطل، والمثال المضروب لذلك غير صحيح، لأن الخبر إنما كان موجهاً لمن كان يصدق بهذا وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، ويكون أبو لهب بهذا الخبر وهو أنه {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} فيمن حقت عليه كلمة العذاب وفرغ منه فلا يطلب منه إيمان، ومن المستحيل أن يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وتصديق كلام الله وقد جاء فيه ما جاء، لأن هذا من إضاعة الجهد في غير محله وفيه ما يدل على الشك في الخبر ومخالفة لقوله عزوجل: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} وحاشا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يظن به هذا، فعليه فإن هذا المثال مثال باطل، ويصح لو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعاء إلى التصديق والإيمان بعد نزول هذه الآية، وهو لا يصح لما تقدم بيانه. النوع الثاني: ما لا يطاق لا لاستحالته وإنما لتركه والاشتغال بضده. بيان ذلك أن الأشاعرة يقولون إن الاستطاعة مع الفعل ولا تكون قبله، فإذا كلف العاصي بالطاعة حال معصيته فيكون هذا تكليفاً بما لا يطاق لاشتغاله بضد الطاعة وهي المعصية، ولا يمكن أن يجمع بين الضدين فصار هذا تكليفاً بما لا يطاق لاشتغاله بضد الطاعة والمعصية، ولا تكون أن يجمع بين الضدين فصار هذا تكليفاً بما لا يطاق، وهذا النوع أجازوا وقوعه في الشريعة وهو واقع بالنسبة لكل من اشتغل عن الطاعة بمعصية، وجمهورهم على هذا القول. وقد تقدم الكلام في الاستطاعة وترجيح أن الاستطاعة تكون مع الفعل وقبله ص 165 لا كما يزعم الأشاعرة ومن وافقهم أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فعليه يكون هذا النوع لا يعد على الصحيح من تكليف ما لا يطاق، كما أن عده من التكليف بما لا يطاق واعتباره واقعاً في الشريعة مخالف للآيات الدالة على رفع الحرج وعدم التكليف بما لا يطاق. النوع الثالث: ما لا يطاق لعدم القدرة عليه عادة كحمل جبل والطيران في السماء، فهذا أجازوا وقوعه عقلاً مع قولهم بأنه لم يقع في الشريعة، وعليه حملوا قوله عزوجل: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه} وهذا القول في الواقع راجع إلى قولهم بنفي الحكمة في الخلق والأمر. انظر: هذه الأقوال في: التمهيد للباقلاني ص 383- 384، الاقتصاد للغزالي ص 112- 113، الإرشاد للجويني ص 204، المواقف للإيجي ص330- 331، المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص 146- 147، الفتاوى لشيخ الإسلام 8/302. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 استدل المخالف على أنه لايجوز أن يفعل الله بعباده إلا ما فيه المصلحة لهم، لأنه قد ثبت عند كل عاقل أن المالك منا ليس له أن يتصرف في ملكه إلا على الوجه الحسن دون القبيح. ألا ترى أن أحداً لو بنى داراً فلما تمت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 عمارتها أمر بإحراقها1 بغير علة موجبة ولا غرض صحيح فإن العقلاء يلومونه، ولو اعتذر إليهم أن ذلك ملكي لم يعذروه ولعد2 ذنباً آخر يستوجب عليه الملامة، وكذلك لو أخذ ماله فألقاه في البحر لغير مصلحة يجتلبها ولا مضرة يدفعها، فإن العقلاء يلومونه ولا يقبلون عذره (بأنه ملكي) ، فإذا لم يكن للمالك في الشاهد أن يتصرف فيما ملكه كيف شاء إلا بشرط أن يكون هناك غرض صحيح ثبت أن تعليلهم3 بالملك تعليل باطل. والجواب أن يقال لهذا المخالف: جمعت بين حكم ملك الله وبين حكم ملك العباد من غير علة تقتضي الجمع بينهما، وهذا لا يصح، ثم يقال له: الله مالك العباد ولجميع ما خلق من غير مُمَلِّك ملكه إياه، فله أن يتصرف به كيف شاء. والعقلاء مملوكون له وليس للمملوك أن يعترض على مالكه بما صنع، وليس كذلك العباد فإن ملكهم صدر عن مالك لهم مَلَّكَهم أموالهم، وحدّ لهم فيها حدوداً ورسم عليهم فيها رسوماً فإذا فعلوا فيها غير ما أذن لهم فيها مُمَلِّكهم لحقهم الذم والتوبيخ والتعنيف، والحسن والقبح يتصور في أفعالهم لأن لهم محسناً حسنها وهو ما أذن لهم فيه، ومقبحاً قبحها لهم وهو لم يؤذن لهم فيه4 فبان الفرق بينهما. وأيضاً فإن المالك منا به حاجة إلى ما يملكه لاستقامة جسمه وقوام أمره فلذلك لحقه اللوم والتعنيف إذا عمل فيه ما لا مصلحة له، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال5.   1 في - ح- (بإخرابها) . 2 في - ح- (وبعد) . 3 في - ح- (تعليله) . 4 هذا القول من المصنف يوافق فيه الأشعرية ومن وافقهم في أن الأفعال لا توصف بالحسن والقبح إلا بعد ورود الشرع، وقد تقدم الرد عليهم في هذا وبيان الحق في هذه المسألة ص 209. 5 ورد هذا من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عزوجل حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعاً وهات, وكره لكم ثلاثاً: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال". أخرجه خ. كتاب الاستقراض (ب. ما نهي عن إضاعة المال) 3/105، م. كتاب الأقضية (ب. النهي عن كثرة السؤال) 3/1341. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 والله سبحانه لا حاجة به1 إلى ما ملك من العباد وأموالهم، فبطل أن يجريا في التصرف مجرى واحداً. ويقال لهذا المخالف: أجريت الحكم من الله والحكمة من الحكيم منا مجرى واحداً، وجمعت بينهما في الحكم من غير علة تقتضي الجمع بينهما، وهذا لا يصح وهذا دأب القدرية في أصولهم الفاسدة، لأنهم شبهوا أفعال المخلوقين وأقوالهم بالله بكونهما غير مخلوقين، وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وهذا يقتضي أنه لا يشبهه شيء بذاته ولا بصفاته، ثم يقال له: حكمة الحكيم منا تقع2 عن تجربة وعن مشاورة وعن تعلم، ولا يسمى حكيماً إلا بعد أن وجدت منه الحكمة، والله سبحانه حكيم لذاته لا عن تجربة ولا عن مشاورة، بل هو موصوف بالحكمة قبل وجود الحكمة منه، وقبل وجود الواصف له بالحكمة. وأما استدلال المخالف: بمن بنى داراً ثم أمر بإحراقها. فنقول له: لو كان هذا الوصف جارياً على حكم الله لما حسن منه أن يخلق ابن آدم وصوره بأحسن من تصوير البناء في الدار، حتى إذا استكمل بنيانه خرب بناءه فيه وأماته، وقد يخلق الله ابن آدم في بطن أمه، فقبل أن يكمل خلقه يخرجه من بطن أمه، وقد يخرجه من بطن أمه كامل الخلق ميتاً، وقد يحييه المدة القريبة ثم يميته3، والحكيم منا لو ابتدأ بناء دار فعمر   1 في - ح- (له) . 2 في الأصل (الحكمة الحكيم متى تقع) وما أثبت من - ح- وهو الصواب لاستقامة العبارة. 3 هذا القول من المصنف راجع إلى نفي الحكمة عن الله عزوجل في فعله وأمره، وما ذكر هنا من المثال على إماتة الجنين وهو في بطن أمه وغيره لا ينفي أن يكون لله في ذلك الحكمة البالغة التي يظهر منها بعض الأوجه ويخفى على الإنسان فيها أوجه كثيرة، فمن هذه الأوجه في هذا الأمر بالنسبة لمن لم ينفخ فيه الروح هو إجراء السنة الكونية في الخلق بالتقاء ماء الرجل والمرأة وزوال الأسباب المانعة من الخلق فيتخلق الجنين ويكون ممن لم يقض الله عزوجل أن ينفخ فيه الروح فلا يحيا ويخرج ميتاً، وفي ذلك حكمة بالغة لمن عقلها، كما أن الأم تبتلى بالحمل ومتاعبه، فإن كانت مسلمة أجرت على هذا البلاء والمشقة التي تلحقها بسبب الحمل، وإن كانت غير ذلك لم تؤجر على ذلك في الآخرةن وقد تؤجر في الدنيا وقد يكون هناك حِكَم أخرى بهذا من ابتلاء الأبوين بالسراء والضراء وما يترتب على ذلك من الجزاء والعقاب، أما إن نفخ فيه الروح ثم مات في البطن أو مات بعد الخروج فإن ذلك لا شك لحكمة. ومن أوجه الحكمة ابتلاء الأبوين بالسراء أولاً بفرحهما بهذا الجنين ثم ابتلاؤهما بالضراء بسبب موت ابنهما، وابتلاء أمه بالحمل وما تبعه من مشقة وابتلاؤها بالوضع وما يترتب عليه من آلام وأوجاع في أثنائه وبعده، ولله في ذلك أبلغ الحكمة كما أنه سيكون نافعاً لوالديه إذا كانا مسلمين في الآخرة بشفاعته لهما، فالله جل وعلا له الحكمة في كل أمر وفعل وقد تظهر وقد لا تظهر، والغالب أنه يظهر منها للعباد أوجه تزيد المؤمن إيماناً أما الكافر فلا ينظر ولو نظر لم ينتفع وتكون عليه حجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 شيئاً منها ثم خربه لغير غرض1 للحقه الذم. فإن قال المخالف: إنما وقع ذلك من الله تعالى لعلة ومصلحة علمها. قلنا: هذا لا يصح أن العلل والأغراض إنما تتصور في أفعال العباد، لأن منتهى العلل في مصالح أفعالهم موافقة إذن المُمَلِّك لهم وهو الله، وهذا لا يوجد في أفعال الله2، ولو كان فعل الله الشيء لعلة لا قتضى وجود تلك العلة علة أخرى إلى ما يتسلل، فبطل أن أفعال الله لعلة مقتضية وجود الفعل منه3.   1 في - ح- (لغير غرض صحيح) . 2 لا مانع شرعاً ولا عقلاً من أن يفعل الله عزوجل ويأمر لحكمة ترجع إليه جل وعلا، وكون الله جل وعلا العلي الأعلى الذي لا يوجد فوقه من يسعى إلى موافقة إذنه لا يمنع أن يفعل لحكمة بمقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فإن الخبير لا يفعل إلا ما يدل على الخبرة، والعليم لا يفعل إلا ما يدل على العلم، والحكيم لا يفعل إلا ما يدل على الحكمة والمحمود لا يفعل إلا ما يستحق عليه الحمد، والرحيم لا يفعل إلا ما يدل على الرحمة. فمقتضى هذه الأسماء يدل على أنه لا يعمل إلا لحكمة تعود إليه كمحبته أن يحمد ويثنى عليه جل وعلا لا كما يزعم المعتزلة القائلون إن الله يفعل لحكمة تعود إلى الخلق وهي منفعتهم فقط، وقد تقدم ذكر ذلك عنهم. 3 استدلال الأشاعرة ومن وافقهم في نفي الحكمة والتعليل عن أفعال الله عزوجل بأنه يلزم منه التسلسل غير صحيح، إذ ما المانع أن تكون هذه الحكم ترجع إلى حكم قبلها حتى تنتهي إلى المحبة، فتكون المحبة للفعل من قبل الله عزوجل هي الحكمة الأولى أو الإرادة والمشيئة المحضة. وقد ثبت عندنا في الصحيحين ما يؤيد هذا، فقد روي عن المغيرة بن شعبة أنه قال: قال سعد بن عبادة: "لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله فقال: تعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله ومن أجل ذلك وعد الله الجنة". أخرجه خ. كتاب التوحيد (ب. قول النبي صلى الله عليه وسلم لا شخص أغير من الله) 9/99، م. كتاب اللعان 2/1136، فدل الحديث على أن الله يفعل لحكمة عائدة إلى ذاته جل وعلا، فمن أجل غيرته حرم الفواحش، ومن أجل حبه أن يعذر بعث الرسل، ولأجل حبه أن يمدح وعد المؤمنين الجنة، فما المانع أن تتسلسل الحكم إلى أن تنتهي إلى إرادته المحضة أو محبته جل وعلا لفعل من الأفعال، وللمسلم أن يقول إن الله خلق الخلق لعبادته لحبه جل وعلا أن يمدح، وبه يظهر فساد استدلال الأشاعرة ومن وافقهم بهذا الدليل على نفي العلة والحكمة عن أفعال الله وأمره، وقد رد عليهم ابن القيم - رحمه الله - بإجابات مطولة في هذا الأمر ورد على استدلالهم هذا بعشرة أجوبة فلتنظر في شفاء العليل ص 210-213. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 ويقال1 للقدرية: أليس الحكيم منا لو جمع بين عبيده وجواريه في دار وبيت، وعلم أن بعضهم يزني ببعض لا محالة، لخرج بذلك عن الحكمة ولحقه اللوم من العقلاء، فلا بد أن يقولوا نعم2. قيل لهم: فإن الله سبحانه قد جمع بين عبيده وإمائه في دار الدنيا وعلم لا محالة أن بعضهم يزني ببعض وكان قادراً على أن يفرق بينهم في المكان، فهل يعد بذلك سفيهاً3 أو يخرج بذلك عن الحكمة. فإن قالوا: إنما جمع بينهم ليعرضهم لفعل ما أمرهم به في اجتناب ما حرم عليهم من الزنا ويدخلهم بذلك جنته4. قلنا: فقد علم أن منهم من لا يمتثل ما أمرهم به من ذلك وكان قادراً على   1 في - ح- (وقد يقال) . 2 يقال: نعم يخرج عن الحكمة إذا لم يكن له غاية بذلك، أما إذا كان له غاية بهذا كأن يبتليهم ويمتحنهم ليؤهلهم إلى مقام أشرف وأعظم فيعلم من يصلح له ممن لا يصلح على وجه يعذر به. 3 في - ح- (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) . 4 هذا جواب صحيح فإن الابتلاء بالأوامر والنواهي ليتميز الصالح من غيره وليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، فالحكمة فيه ظاهرة إلا أنه يبين أيضاً فساد قول المعتزلة في أن الله يجب عليه أن يفعل بعباده الأصلح كما سيأتي من كلام المصنف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 أن يدخلهم جنته بغير تعريضهم لعصيانه ومخالفتهم أمره، فعلمنا بذلك أنه لا يجب عليه مراعاة الأصلح لهم. ويقال للقدرية: أليس الحكيم منا لو دفع سيفاً إلى عبده فأمره أن يقتل به عدوه وأخبره ثقة لا يشك في صدقه أنه لا يقتل عدوه وإنما يقتل به ولده أو صديقه لا محالة أيخرج عن الحكمة بذلك أم لا؟ فلا بد من قوله نعم. قلنا لهم: فإن الله سبحانه قد خلق الكفار وخلق فيهم قدرة وخلق سيوفاً ملَّكهم إياها وأمرهم بالإسلام وأن يقتلوا بتلك السيوف أعداءه الذين خالفوا أمره، وهو يعلم أنهم يكفرون به ويقتلون بها أنبياءه وأولياءه. أفيخرج بذلك عن الحكمة، فبطل بذلك أن حكمة الله جارية1 على حكمة المخلوقين2.   1 في الأصل (غير جارية) وفي - ح- كتبها مثل الأصل ثم طمس كلمة (غير) وهو الصواب لأن المراد بيان أن حكمة الله ليست جارية على حكمة المخلوقين كما هو قول المعتزلة. 2 هذا كلام صحيح من المصنف في أن هذا يدل على أن حكمة الله غير جارية على حكمة المخلوقين، ولو كان هذا تقرير المصنف لهذه المسألة لكان أخذ بالحق وترك الباطل، إلا أنه قرر أن الله لا يفعل لحكمة ولا غاية وهذا باطل كما تقدم، والمثال المذكور هنا لا يخرج فعل الله عن الحكمة، فإنه كما تقدم جعل الدنيا دار بلاء وامتحان وهو الطريق إلى الجنة، فناسبه التصارع فيها بين الحق وأهله والباطل وأهله، وقتال الكفار للمسلمين ومقاتلتهم لأولياء الله فيه حكم عظيمة من أظهرها أن فيه أموراً عظيمة ويحبها الله عزوجل، كالصبر وبذل النفس والمال في سبيله، كما أن في قتل المسلم بيد الكافر رفعة لمسلم عند الله عزوجل في الآخرة بحيث ينال به درجة لا ينالها بغيره، إلى غير ذلك من الحكم التي قد تظهر بعضها ويخفى على ابن آدم أكثرها لقلة علمه وإحاطته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 83- فصل ومن الأدلة لنا أن لله أن يفرض على عباده ما لا طاقة لهم به قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ} 1، ففرض الله على المؤمنين أن يقاتلوا الكفار على الإطلاق والعموم أي2 عدد كانوا، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً} وهذا أمر بلفظ الخبر3، فأمر الواحد بقتال العشرة ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} 4، فخفف الله عنهم وأمر الواحد بقتال الاثنين. والدليل على أنه أمر أن خبر الله لا يكون بخلاف مخبره، وقد يكون الواحد منهم يغلب العشرة منا5، وأيضاً فإنه قال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} والتخفيف لا يكون إلا فيما فرض وألزم6. فأجاب المخالف القدري عن هذا وقال: هذا لا حجة فيه للمستدل بل الحجة عليه، لأنه لم يكلفهم إلا ما كانوا يستطيعونه في ذلك الوقت فلما علم ضعفهم فيما بعد خفف عنهم. والجواب: أن الصحابة الذين نزل فيهم {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} هم الذين نزلت فيهم الآيتان الأوليان وحالتهم واحدة في قوة   1 الأنفال آية (15) . (أي) ليست في - ح-. 3 هذا أمر بلفظ الخبر ولكن فيه أيضاً وعد بشرط والوعد هو الغلبة والشرط هو الصبر. انظر: تفسير القرطببي 8/44. 4 الأنفال آية (65- 66) . 5 هذا صحيح أن خبر الله لا يقع مخبره، وإذا وجد الشرط وهو الصبر لا يتخلف الوعد وهو الغلبة إذ هي بيد الله عزوجل. 6 في - ح- (التزم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 أجسامهم وثباتهم على القتال، وما روي أنهم كانوا على حالة قوية في الأجسام والثبات، ثم حدث عليه ضعف، بل كان1 ثباتهم يزداد في القوة فيما أمروا، فدل على أن المراد بقوله {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} عن أن يقاتل الواحد أكثر من اثنين وقت افترض عليه أن يقاتل أكثر منهما2. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه أن الله أخبر بكتابه أن الله يأمر الخلق يوم القيامة بالسجود له، ولا يجعل للكافرين استطاعة على السجود له يومئذ، فقال سبحانه {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} 3، فقوله: {عَنْ سَاقٍ} يعني عن يوم القيامة لهولها وشدتها، فيستعار الساق عن الشدة ولهذا يقال: كشفت الحرب عن ساق أي عن شدة4. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يأمر الخلق له بالسجود فيسجد له كل   1 في الأصل (كانت) وما أثبت من - ح-. 2 ليس في الآية ما يدل على التكليف بما لا يطاق، لأن الله جل وعلا قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ مَا آتَاهَا} فهذا يدل على في طاقتهم هذا الأمر، ومع ذلك خفف عنهم فيما يعد رحمة منه وتفضلاً، ثم إن المطلوب منهم كان المقاتلة وعدم الفرار من القتال أمام عشرة أضعافهم وهذا في إمكانهم، إذ لا يحتاجون فيه إلا الصبر والثبات وعدم الفرار، أما النصر والغلبة فإنها مضمومة، وهي من الله عزوجل ولا تعنزى إلى قوتهم ولا إلى عتادهم وعددهم، وإنما متى صبروا وثبتوا نصرهم الله عزوجل على عدوهم. 3 سورة ن آية (43) . 4 الصحيح إثبات الساق صفة لله عزوجل، فإن الله سبحانه في هذه الآية قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق} وساق في الآية نكرة غير معروفة، إلا أن الحديث الصحيح جاء بتعريفها وإضافتها إلى الخالق جل وعلا كما في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - في حديث الرؤية الطويل قال: قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟، قال: "هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كان صحواً"، فذكر الحديث عن الناس يوم القيامة ثم قال: "حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس فيقولون فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم وإنا سمعنا منادياً ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه أول مرة فيها، فيقول: أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون الساق، فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً … " الحديث، أخرجه خ. كتاب التوحيد (ب. قول الله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 9/105، واللفظ له، وأخرجه م. كتاب الإيمان (ب. معرفة طريق الرؤية 1/168. وفي الصحيح للبخاري في كتاب التفسير 6/132 عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً". فهذا التفسير الواضح في هذا الحديث الصحيح يجب المصير إليه في بيان المراد من قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} . وقد روى القاضي أبو يعلى في كتابه إبطال التأويلات ورقة (43) بسنده عن إبراهيم، قال: كان ابن مسعود يقول: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قال: يكشف الرحمن عن ساقه، ورواه أيضاً البيهقي في الأسماء والصفات ص 428، واعلم أنه ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال في الآية: "إن المراد بها شدة القيامة وهولها وفسر الساق بالشدة"، روى ذلك عنه ابن جرير في تفسيره 29/38، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 436 إلا أن ابن عباس - رضي الله عنه - لم يسند هذا التقسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أسنده كما في بعض الروايات إلى لغة العرب حيث تجعل كشف الساق كناية عن الشدة، وهذا مقبول في حالة عدم ورود أدلة أخرى شرعية تبين المراد، وقد جاءنا الحديث الصحيح يبين المراد بأن الله جل وعلا (يكشف عن ساقه يوم القيامة) فوجب المصير إليه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - "وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف إلا في مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق} فروي عن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين، ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر". انتهى بتصرف. الفتاوى 6/394 - 395، وانظر: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ الغنيمان 2/121. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 مؤمن ومؤمنة ينحنون له حنية رجل واحد، وتقصم1 أصلاب المنافقين. قيل يجعل في أصلابهم مثل السفافيد2 من الحديد فيبقى ظهره طبقاً واحداً فلا   1 هكذا في النسختين وليست في شيء من روايات الحديث إلا رواية أخرجها عبد بن حميد عن الحسن، وهي مرسلة ذكرها السيوطي في الدر المنثور8/256، وفي اللسان قال: القصم، دق الشيء وكسره حتى يبين. انظر: اللسان 5/3656. والذي ورد في الحديث عند البخاري ومسلم (فيعود ظهره طبقاً واحداً) ، أي تصبح فقار ظهره مطبقة على بعض لا يستطيع أن يحني ظهره للسجود. وفي المستدرك للحاكم 4/590 عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً: "ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون". قال ابن الأثير: "صياصي البقر" أي قرونها واحدتها صيصية". النهاية في غريب الحديث 3/67. 2 كتب في - ح- تفسيراً للسفافيد بخط مختلف قال: "السفود العود الذي يخل به الشوي لطام (هكذا ولعلها الطعام) الغريب" انتهى. قلت: وفي اللسان "السفود بفتح السين المشددة وضمها حديدة ذات شعب معقفة يشوى بها اللحم وجمعه سفافيد". اللسان 3/2024، وهذا التشبيه ورد في عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - موقوفاً قال: "ويبقى المنافقون ظهورهم طبقاً واحداً كأنما فيها السفافيد" أخرجه عنه الطبري في تفسيره 29/39، والحاكم في المستدرك مطولاً 4/497. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 يقدر على السجود1، قال الله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} قيل في التفسير: يدعون إلى السجود في الدنيا مع الجماعة وهم سالمون من السفافيد23، ويدل على صحة ما ذهبنا إليه من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} 4، والمراد بذلك أعين القلوب لأنه قيل ما من إنسان إلا وله أربع أعين عينان في راسه يبصر بهما أمر دنياه، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر آخرته ودينه. فإذا أراد الله بالعبد خيراً فتح العينين فأبصر بهما5 وما وعده الله بالغيب، وإذا أراد   1 الحديث أصله في البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أخرجه خ. في كتاب التوحيد باب: قول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة) 9/105، م. كتاب الإيمان (ب. معرفة طريق الرؤية) 1/168. 2 ذكر هذا التفسير ابن جرير بسنده عن سعيد بن جبير وإبراهيم التيمي. تفسير ابن جرير 29/43. 3 يمكن أن يجاب عن هذا بأنه في الآخرة وليس بتكليف عبادة بل تكليف عقوبة وتعجيز جزاءاً لهم لعدم فعلهم ما كان في طاعتهم كلفوا ما لا طاقة به في الآخرة ليظهر خزيهم ويتضح نفاقهم وكفرهم. 4 الكهف آية (101) . (بهذا) ليست في - ح-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 به سوءاً أعمى عيني قلبه1. قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 2 قال الضحاك: (المؤمن له عينان في صدره بصيرتان يؤديان إلى العينين التين في الوجه، والكافر له عينان في صدره مطموستان لا يؤديان إلى عيني رأسه) 3. قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} 4 فعندها يصلون5. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه من ذلك أن الله سبحانه قال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} 6 فيقال: أمر الله أبا لهب بالإيمان، وأخبر سبحانه أنه لا يؤمن وأنه سيصلى ناراً ذات لهب فقد أمر أبا لهب أن يصدقه بجميع ما أخبر به وكأنه أمره أن يؤمن بأنه لا يؤمن وأنه سيصلى ناراً ذات لهب، وكأنه قيل له صدق بأنك لا تصدق، وهذا محال، وتحقيقه أن خلاف المعلوم محال وقوعه ولكن ليس محالاً وقوعه لذاته بل محالاً لغيره، والمحال في امتناع الوقوع كالمحال   1 أخرج الطبري في تفسيره 26/57 بسنده عن خالد بن معدان نحوه، ونحوه عزا أيضا القرطبي في تفسيره 12/77 إلى مجاهد. 2 الحج آية (46) . 3 لم أقف عليه عن الضحاك ورواية خالد بن معدان ومجاهد نحوها. 4 يس آية (66) . 5 لعل مراد المصنف - رحمه الله - هنا الاستدلال بهذه الآية على الأثر المذكور عن الضحاك فقد ذكر القرطبي عن عطاء ومقاتل وقتادة ورواية عن ابن عباس أنهم قالوا (ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم وأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فاهتدوا وأبصروا رشدهم وتبادروا إلى طريق الآخرة) تفسير القرطبي 15/50 ولم أقف عليه مسنداً. وهذه الآية أيضاً لا دليل فيها على تكليف ما لا يطاق، فإنهم قادرون على الرؤية والسماع، وإنما كانوا يتعاملون ويتغافلون عن الحق وقبوله بدليل أنه خصص الغطاء على الأعين هنا عن الذكر فيكون أيضاً المراد بالذي لا يستمعون إليه ولا يستطيعونه. 6 المسد آية (1- 3) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 لذاته، فمن قال إن الكافرين الذين لم يؤمنوا ما كانوا مأمورين بالإيمان فقد جحد الشرع، ومن قال: كان الإيمان منهم متصوراً فقد اضطر إلى القول بتصوير1 ما لا يتصور امتثاله2.   1 في - ح- (بتصور) . 2 تقدم ذكر هذا المثال في التعليق وبيان أنه لا يصح ص 464، ويمكن أن يضاف إلى ما ذكر المصنف هنا أن يقال: أيضاَ من زعم أن الله قد كلف ما لا يطاق فقد خالف نص القرآن والصواب في ذلك أن هذا ليس فيه خطاب موجه إلى أبي لهب حتى يطالب بالإيمان بما هو مستحيل، لسبق علم الله فيه أو لخبر الله فيه أنه لا يؤمن، وإنما هذا خبر من الله عزوجل لنبيه وعباده المؤمنين ليصدقوا بمضمونه، أما أبو لهب فقد قضى عليه وحقت عليه كلمة العذاب بعد أن تقدم الله إليه عن طريق رسوله بطلب الإيمان والتصديق وقامت عليه الحجة به، وهذا ظاهر، وادعاء أنه طلب منه الإيمان بأنه لن يؤمن قول فاسد لا يتصور وروده في شرع الله، إذ المطلوب الأساسي هو الإيمان بالله، فإذا لم يقم العبد بهذا الحق الذي يتفرع عنه كل أمر ونهي وخبر من الله لا يتصور من العبد القيام بما هو دونه، أما الكفار الذين لم يأت خبر خاص عنهم بعدم الإيمان، فالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من بعده يطالبونهم بالإيمان بالله ويدعونهم غليه لأن ما في علم الله متعلق به جل وعلا فلا اطلاع للمؤمنين عليه وهم عندنا يتصور منهم الإيمان ما لم يأتنا دليل خاص بعدم إيمانهم، فإذا أتانا دليل خاص بذلك فلا يجوز لنا أن ندعوهم إلى الإيمان، لأن هذا فيه تكذيب لخبر الله أو شك فيه ومن المثال على ذلك المسيح الدجال فإنه لا يدعى إلى الإيمان، ولا يطلب منه ذلك بل يسعى إلى اكتفاء شره أو قتاله نصرة لله ولدينه، والله أعلم. وانظر كلام شيخ الإسلام في الفتاوى 8/302، فقد أشار إلى الرد على من زعم أن تكليف أبي لهب بالإيمان من التكليف بما لا يطاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 84- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا أن الله سبحانه يفعل ما يشاء في العبد وإن لم يكن للعبد فيه مصلحة1 قوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} 2. فأخبر سبحانه أنه إنما أملى3 لهم ليزدادوا إثماً، ولم يمل لهم لما فيه خير وصلاح. فأجاب المخالف القدري، وقال: لا حجة لهذا المستدل بهذه الآية، بل الحجة منها، لأنها وردت مورد الذم للكفار والوعيد، بدليل قوله في آخر الآية: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} 4 لا يذمهم ولا يعذبهم إلا على فعلهم، وحذرهم الاغترار بالإملاء. ولم يكن الإملاء لخير استحقوه عند الله، وإنما أملى لهم ليرجعوا أو يتوبوا في مدة الإملاء5، فأما قوله: {لِيَزْدَادُوا إِثْماً} فإن هذه اللام للعاقبة. والجواب: أنا لا ننكر أنها وردت مورد الذم والوعيد، ولكن لا يدل أنهم خلقوا وأفعالهم في الإثم، بل أفعالهم خلق لله وكسب لهم6 على ما مضى، وأما قوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} فلا ننكر أنه أمرهم بالتوبة، ولكن   1 يرد المصنف في هذا الفصل على المعتزلة في قولهم بوجوب الأصلح. وقد تقدمت الإشارة في التعليق ص 457، كما أن في الاية المذكورة هنا والآيات التي يستدل بها المصنف هنا للرد على المعتزلة دليل على إثبات الحكمة في أفعال الله. 2 آل عمران آية (178) . 3 في - ح- (يملي) . 4 في - ح- (أليم) وهو خطأ. 5 هذا التصريح بالمخالفة من القدري يدل على انحرافه عن الأخذ من صريح القرآن فإن الآية ظاهرة في التعليل بأن الإملاء إنها هو ليزدادوا إثما، ومع ذلك حرفها المخالف بأن الإملاء إنما هو ليرجعوا ويتوبوا. 6 في الأصل (وكسبهم) وفي - ح- كما أثبت وهو الأولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 لو قدر لهم التوبة وتفضل عليهم بالتوفيق لها لتابوا، وأما قوله: إن اللام في قوله: {لِيَزْدَادُوا إِثْماً} أنها1 لام العاقبة كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} 2 فغير صحيح؛ لأن الله قد علم أنهم لا يتوبون، وإنما علم أنهم يكفرون وليس كذلك التقاط آل فرعون لموسى - عليه السلام -، فإنهم لم يعلموا أنه يكون لهم عدوا وحزنا، وإنما قدروا في أنفسهم التقاطه ليكون لهم قرة أعينهم وقد علم الله أنه لا يكون لهم3 إلا عدواً وحزناً. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 4، وهذه لام كي تقديرها: إنما يريد الله تعذيبهم. وفي الآية تقديم وتقديرها: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة، وهذا قول أكثر المفسرين5. وقال بعضهم: أراد إنما يريد الله ليعذبهم في الحياة الدنيا؛ لأنهم منافقون فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون6. ويدل على صحة ما قلنا ما أخبر الله عن موسى صلى الله عليه وسلم أن قال: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ   (أنها) ليست في - ح-. 2 القصص آية (8) . 3 في الأصل (له) وما أثبت من - ح- وهو الأصوب. 4 التوبة آية (55) . 5 ذكر هذا القول الطبري عن قتادة وابن عباس - رضي الله عنهما - وذكره القرطبي عن النحاس وقال: هو قول أكثر أهل العربية. تفسير ابن جرير 10/153، تفسير القرطبي 8/164. 6 ذكر هذا القول القرطبي ولم يعزه إلى معين، وذكر ابن جرير عن الحسن نحوه حيث قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال: "يأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله تعالى" انتهى. ورجح هذا القول الطبري واستحسنه ابن كثير والقرطبي. تفسير ابن جرير 10/153، تفسير ابن كثير 2/362، تفسير القرطبي 8/164. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} 1 فأخبر الله عن موسى أنه قال إن الله ما آتاهم الزينة والأموال إلا ليضلوا عن سبيله، وهذه لام كي، وموسى أعلم بما يجوز على الله من القدرية. وأيضاً فإنه دعا عليهم بأن يشد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فلا ينفعهم الإيمان فدل على الله شد على قلوب الكفار عن الإيمان، فلم ينكر الله عليه2 دعاءه بل قال: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} وذلك أن موسى عليه السلام دعا عليهم بذلك، وهارون يؤمن على دعائه3 ومثل هذا أخبر الله عن نوح - عليه السلام - أنه دعا قومه فقال: {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاّ ضَلالاً} 4، ومعلوم أن زيادة الله في ضلالهم هو خلقه للضلالة فيهم، وأنه يعذبهم فيما خلق فيهم من زيادة الضلال، وهذا كله يبطل قول القدرية. ويدل على صحة ما قلنا قوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِين نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} 5 وتأويلها، بل لا يشعرون أن الذي أعطيناهم من الأموال والبنين هو شر لهم كقوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} 6، ومثلها قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا 7 خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْم ٍ 8 بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} 9.   1 يونس آية (88) . 2 في الأصل (عليهم) وما أثبت من - ح- وهو الأصوب؛ لأن الضمير يعود إلى موسى عليه السلام. 3 روى ابن جرير هذا عن ابن عباس وعكرمة ومحمد بن كعب وأبي العالية والربيع بن أنس. تفسير ابن جرير 11/161. 4 نوح آية (24) . 5 المؤمنون آية (56) . 6 آل عمران آية (178) . 7 في كلا النسختين (إذا) وهو خطأ. 8 في الأصل (علم عندي) وهي في - ح- كذلك إلا أنه شطب على كلمة (عندي) . 9 الزمر آية (49) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 85- فصل يقال للقدرية: وأي صلاح لابن آدم في خلقه وبلوغه التكليف وتعريضه لمخالفة الأمر فيستحسن العذاب الدائم. وقد روي عن جماعة من الصحابة أنهم تمنوا بأنهم لم يكونوا شيئاً، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: "يا ليتني كنت حيضة في بطن أمي"1. وقال بعضهم: "يا ليتني كنت كبشاً سميناً فذبحني أهلي وأكلوني"2. وروي عن موسى عليه السلام أنه قال: "يا رب ما كان خيراً لابن آدم؟ فقال: لو لم أخلقه. قال: فبعد إذ خلقته ما كان خيراً؟ فقال: أن يموت صغيراً، قال: فبعد أن لم يمت صغيراً ما كان خيراً له؟ قال: أن يموت شيخاً كبيراً"3. فأجاب المخالف القدري عن هذا بجوابين أحدهما أن قال: قد علمنا حكمة الله بأفعاله ولولا ما ظهر من أفعاله ما علينا حكمتهن فصح لحكمته وعدله أنه4لم يخلقهم إلا لمصلحة ولا يضرنا ألا نعرف5 وجه المصلحة، كما نقول في طبيب6 حاذق في الطب أصابت ولده علة فدعاه إلى شرب دواء مر المذاق علم الولد نفعه وصلاحه لتلك العلة وإن لم يعلمه7 الولد.   1 لم أقف على هذا اللفظ، وإنما أخرج ابن سعد في الطبقات وأبو نعيم في الحلية عنها أقوالا عديدة نحو هذا المعنى منها قولها "يا ليتني كنت نسياً منسياً"، وقولها "والله لوددت أني كنت شجرة، والله لوددت أني كنت مدرة، والله لوددت أن الله لم يكن خلقني شيئاً قط" وغيره. انظر: الطبقات 8/74، والحلية 2/45. 2 وروي هذا عن أبي عبيدة عامر بن الجراح - رضي الله عنه -. أخرجه عنه ابن سعد في الطبقات 3/413. 3 لم أقف عليه. 4 ف - ح- (أنهم) . 5 في - ح- (أما لانعرف) . 6 في - ح- (كما يقال في أب طبيب) . 7 هذا في - ح- وفي الأصل (يعلم هو الولد) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 والجواب الثاني: أن وجه الصلاح في خلق الله للمكلفين ظاهر وهو أنه مكنهم من الخيرات التي يتوصلون بها إلى الثواب، وأراد منهم ذلك وأمرهم به، وساقهم بالأمر والنهي والوعد والوعيد إلى ما فيه صلاحهم فكان معرضاً لهم لأجل المراتب1 وإنما هلك منهم من هلك بسوء اختياره وإيثاره للمعصية. والجواب: أن يقال للمخالف: الله موصوف بالحكمة والعدل بذاته قبل أن يخلق الأشياء التي علم بها العباد حكمته، لأن ذلك من صفات الكمال، فهذا الذي ادعيته غير مسلم. وأما قوله إنه لم يخلقهم إلا للمصلحة وإن لم تعلم المصلحة واستدلاله بالأب الطبيب، فهذا موضع النزاع. ولا ننكر أن الله سبحانه أرحم بالعبد من الوالد لولده، وأن له عليه نعماً2 لا يحصيها ولا يقوم3 بشكرها، ومن نعمه الرحمة التي خلقها في قلوب الوالدين للولد، ولكن الإنعام منه بذلك وغيره تفضل وإنعام لا يجب عليه، وله ترك الإنعام والتفضل، ولهذا يؤلم الأطفال في المهد ويقطع أعضاءهم بأصناف العلل من الجذام وغيره، ولا يعد ذلك قبيحاً ولا ظلماً من أفعاله، بخلاف الأب فإنه لا يملك الولد ولا يفعل بعبده الذي يملك4 رقبته إلا ما أذن له فيه مملكه، فبطل الجمع بين حكم الله في التصرف بعباده وبين حكم الوالد الطبيب. وأما قول المخالف في جوابه الثاني: إن المصلحة في خلق المكلفين تمكينهم من الخيرات وإرادة الله منهم ذلك، فهذا موضع الخلاف ولا حجة له عليه غير مجرد الدعوى.   1 تقدم بيان فساد هذا التعليل من المعتزلة. انظر: ص 460. 2 في الأصل (نعم) وما أثبت من - ح-. 3 في - ح- (ولا يقوم له) . 4 في - ح- (الذي لا يملك) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 وأما قوله: إنه أمرهم وساقهم بالأمر والنهي والوعد والوعيد إلى ما فيه الصلاح، فقول لا معنى تحته فإن أراد بقوله ساقهم كقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ} 1 فهو الإجبار الذي يرمي به خصمه وهم براء مما رماهم به، وقد اعترف على نفسه بما أنكره على غيره، وجميع ما أورده من هذا وما أشبهه قول فارغ من المعاني المفيدة لمن تدبره. ثم قال المخالف: وأما ما حكاه عن الصحابة في تمنيهم أنهم لم يخلقوا فلم يقولوه اعتراضاً على الله في فعلهن ولو قصد أحد منهم ذلك فإنه عاص ضال لا يلتفت إليه، لأنهم يعلمون أن أحداً لا يهلك إلا بجنايته وإنما قصدوا بذلك مذمة النفس. والجواب: أنا لا نقول إنهم قصدوا الاعتراض على الله، وإنما لما خافوا على أنفسهم العطب في التقصير عما أمروا به تمنوا ما تمنت مريم بنت عمران فيما أخبر الله عنها بكتابه بقوله: {َلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} 2. أفتراها معترضة على الله؟. ثم قال المخالف: وأما الخبر المروي عن موسى عليه السلام فلا حجة فيه، لأنه إذا ثبت بإسناد صحيح فهو خبر آحاد لا يؤخذ به، ويجب تأويله على3 ما يوافق أدلة العقل إن أمكن، وإلا لم يضرنا اطراحه، لأن الواجب علينا الأخذ بما دلت عليه العقول. والجواب أن يقال له: وإن كان من أخبار الآحاد فإنه موافق لظاهر القرآن وهو ما أخبر الله عزوجل عن مريم بنت عمران، وقوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} وجزاء الإثم العذاب، والعدم عن الدنيا خير من العذاب.   1 الزمر آية (71) . 2 مريم آية (23) . (على) ليست في الأصل وهي في - ح-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 وأما قول المخالف: يجب تأويله على ما يوافق العقل وإلا وجب اطراحه، فهذا حقيقة مذهبه في رد ظواهر القرآن التي دلت على خلاف مذهبه أنه يحملها على تأويلات لا دليل عليها، والمعمول عليه اطراحها عنده لمخالفتها عقولهم الفاسدة التي بنوا عليها مذهبهم، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم1، لأن الله أمر باتباع الوحي وأمر باتباع أنبيائه ونهى عن اتباع الهوى، وعقل موسى عليه السلام أكمل من عقول القدرية، فكيف يجب اطراح قوله لما أوردته القدرية عن عقولهم!.   1 تقدمت الأحاديث في هذا ص 146. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 86- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة أنا نفرض الكلام مع القدرية في ثلاثة نفر خلقهم الله، فواحد منهم بلغ وآمن بالله وعمل العمل الصالح، وأطال الله عمره في العمل الصالح، فبحكم العدل عند القدرية أن الله يدخله الجنة ويرفع درجته فيها بقدر عمله. والثاني لم يبلغ الحلم بل مات صغيراً لم يعمل شيئاً من الطاعات، فبحكم العدل عندهم أن الله يدخله الجنة ولا يعطيه من الدرجات ما يعطي الأول. وأما الثالث: فإنه لم يؤمن بالله وأطال الله عمره فيدخله النار. فإذا نظر الصغير إلى ما أعطى الله الأول من الدرجات قال: يا رب لأي معنى لم تعطني من الدرجات مثل ما أعطيت الأول؟ فيقال: بحكم العدل أنك لم1 تعمل مثل الأول، فيقول: لو أطال الله عمري كعمر الأول لعملت مثل عمله، ولكن قصر عمري فقال له: لم يكن الصلاح لك في طول العمر بل الصلاح لك في إماتتك صغيراً، فيقول حينئذ الكافر من تحت أطباق جهنم فأي صلاح لي بطول العمر فليت الله أماتني صغيراً فأرضى بمنزلة هذا الذي سخطها، ولكن الله طوَّل عمري وبلَّغني حد التكليف مع علمه أني لا أؤمن فخالفت2 أمره حتى صرت إلى ما صرت إليه، فتقوم الحجة لكافر على الله3، وقد قال الله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} 4 فعلمنا لذلك أن الأمر بخلاف ذلك وأن لله5 أن يفعل بعباده ما شاء.   1 في الأصل (لن) والصواب ما أثبت كما هو في - ح-. 2 في الأصل (خالفت) وفي - ح- كما أثبت. 3 هذه مسألة الثلاثة إخوة منسوبة إلى أبي الحسن الأشعري في رده على المعتزلة، وقد ذكرها أبو حامد الغزالي في الاقتصاد في الاعتقاد ص 115، وأبو منصور البغدادي في أصول الدين ص 151. 4 الأنعام آية (149) . 5 في - ح- (بخلافه وأن الله) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 فأجاب المخالف القدري عن هذا بجوابين: أحدهما: قال إنما أمات الله الصغير، لأنه علم أنه لو بقي لأفسد دين غيره ممن يعلم أنه لولاه لما فسد، ولا يجوز في حكمته أن يبقى من هذه حاله1 لأن فساده حينئذ يكون في حكم المضاف إلى الله ولم يعلم في بقاء الذي بلغ وكفر ومات على الكفر مفسدة لغيره وإنما فسد هو باختياره، قال: ولا يلزم على هذا إبقاء إبليس وغيره من شياطين الجن والإنس، لأن الله علم أنهم لا يضلون إلا من كان يضل بنفسه لقوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} . والجواب الثاني: إن الله متفضل على الخلق بخلقه لهم وببعثه لهم وبتكليفه لهم، وله أن يتفضل بالقليل من ذلك والكثير، ولا اعتراض عليه لأن الاعتراض عليه بذلك جهالة2، فإذا قال الصغير لِمَ لَمْ تُبلِّغني درجة العامل؟ قيل له: لأنك لم تعمل، فإذا قال: لم يعمرني، قيل له: هو متفضل بذلك، والكافر إذا قال أبقاني مع علمه بأني أفسد. قيل له: كان بإمكانك أن تؤمن فلم تفعل، هذا نكتة قوله ومعتمده. والجواب عن جوابه الأول من وجوه: أحدها أن يقال: يجب أن يكون كل صغير أماته الله من أولاد الأنبياء وغيرهم إنما ذلك لأن الله علم أنهم لو بقوا لأفسدوا دين غيرهم، وهذا يخالف ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى على ابنه إبراهيم لأنه مات وهو ابن شهرين3 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أباك لنبي وإن جدك لنبي ولو بقيت لكنت   1 في الأصل (الحاله) وما أثبت من - ح-. 2 في الأصل هكذا (ولا اعتراض عليه بذلك جهالة) وما أثبت من - ح-. 3 ذكر ابن حجر أنه اختلف في عمره حين وفاته، فمنهم من قال: هو ابن سبعين يوماً ومنهم من قال: كان ابن ستة عشر شهراً أو ثمانية عشر شهراً. فتح الباري 10/579. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 نبياً" 1، ولم يقل لو بقيت لأفسدت دين غيرك. والجواب الثاني: أن يقال فكان ينبغي على هذا أن لا يميتهم حتى يقاربوا وقت الإفساد، وقد يميتهم حين يولدون ويميتهم في بطون أمهاتهم وفي ذلك تخريب لما عمر من غير معنى. والجواب الثالث: أن يقال: أفكان الله قادراً على أن يباعد بينهم في المساكن، أو يحول بينه وبين الإفساد من غير إجبار، ويعصم المفاسد عليه، ولا يميت هذا الصغير الضعيف لمصلحة هذا القوي الذي يقدر على الامتناع من إفساد هذا الصغير. والجواب الرابع: أن الإلزام الذي ألزم نفسه في إبقاء الله لإبليس وشياطين الجن إلزام صحيح، وجوابه عن ذلك بأنهم لا يضلون إلا من يعلم أنهم يضلون بأنفسهم غير صحيح. لأنه لو كان ما قاله من ذلك صحيحاً لما لحق إبليس وجنوده ذم ولا توبيخ ولا عقاب بإضلالهم2 الكاقرين والعاصين، لأنهم كانوا في علم الله يضلون بأنفسهم. وأما الآية التي احتج بها فقد قلنا قبل هذا، إنما تأويلها {إِلاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} إلا من سبق عليه القضاء بالضلال3، وعلى جميع هذه الإلزامات   1 لم اقف عليه بهذا اللفظ، وإنما الذي ورد هو ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن له مرضعاً في الجنة ولو عاش كان صديقاً نبياً ولو عاش لعتقت أخواله القبط وما استرق قبطي"، أخرجه جه. كتاب الجنائز (ب. ما جاء في الصلاة على ابن الرسول صلى الله عليه وسلم) ، الديلمي في مسند الفردوس. انظر: فردوس الأخار 3/420 وفي إسناده إبراهيم بن عثمان أبو شيبة العبسي قاضي واسط كذبه شعبة، وقال البخاري: "سكتوا عنه"، وقال أحمد: "ضعيف" وقال النسائي: "متروك الحديث". انظر: الميزان 1/47، وقال عنه ابن حجر: "متروكط. التقريب ص 22. وقد روى البخاري بسنده عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - أنه قال: "لو قضي أن يكون بعد النبي صلى الله عليه وسلم عاش ابنه ولكن لا نبي عده". كتاب الأدب (ب. من سمى بأسماء الأنبياء 8/37. وورد نحوه عن أنس - رضي الله عنه - عند الإمام في المسند 3/281. 2 في - ح- (وإضلالهم) . 3 انظر: ص 263. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 فإن الكافر يقول: يا رب إذا أمت هذا الصغير قبل أن يبلغ لمصلحة غيره، فهلا يا رب أمتني صغيراً لمصلحة نفسي، لأنك علمت أني لا أؤمن بك وموتي لمصلحتي أولى بالعدل من إماتة الصغير1 لمصلحة غيره. وأما قول المخالف في جوابه الثاني: إن الله متفضل على الخلق بالخلق والإبقاء والتكليف هذا مذهب أهل الحديث، وأما مذهب أسلافه من المعتزلة2 فقد مضى بيانه3، ولكن إذا قال هذا المخالف: إن الله لا يفعل إلا ما فيه صلاح لهم ولا يتفضل عليهم إلا بما فيه صلاح لهم، فإن هذا الكافر الذي بلغ ولم يؤمن يقول يا رب تفضلك عي يا رب بإماتتي صغيراً خير لي من إبقائك لي إلى البلوغ، وقد علمت أني لا أومن فتبقى له الحجة، والله تعالى يقول: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} 4.   1 في - ح- (أماتني صغيراً) . 2 في - ح- (وهم المعتزلة) . 3 تقدم قول المعتزلة في هذا ص 457. 4 الأنعام آية (149) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 87- فصل ومن الأدلة المذكورة لنا على الله أن يفعل بالعباد ما شاء، وإن لم يكن لهم فيه مصلحة أنا نرى في الشاهد أن الله يؤلم الأطفال بالعذاب الدائم، ويصيبهم بالعلل التي تنقطع منها أوصالهم من غير جناية سبقت منهم، وكذلك الحيوان المسخر لبني آدم في الركوب والذبح والطبخ وكذلك جعل بعض بني آدم ملكاً لبعض، ولا يستحيل في العقل أن يكون المالك مملوكاً والُمسخَر مُسخِراً، هل في ذلك للعقل مجال إلا أن المالك محكم في ملكه يفعل فيه ما يشاء. فأجاب المخالف القدري عن ذلك وقال: المصلحة في ذلك هو اعتبار للمكلفين والإنعام عليهم بالركوب والذبح والتنبيه لهم بإيلام البهائم والأطفال، ثم هو يعوض المؤمنين على ما أصابهم من الآلام والمشاق أعواضاً تستحقر الآلام بجنبها، فبالاعتبار1 تخرج الآلام عن أن تكون عبثاً، وبالعوض يخرج عن أن يكون المرض ظلماً2. والجواب: أن يقال: خلق الله الألم في الأطفال والبهائم ليعتبر به المكلفون فيينتبهوا به، لا مصلحة للأطفال والبهائم فيه بل المصلحة فيه لغيرهم، وعلى مقتضى قولكم إن الله يخلق في الدنيا ناراً كنار جهنم ويخلق أطفالاً وبهائم فيها ليراها المكلفون ويعتبروا بعذابهم وينبههم بذلك على عذاب جهنم في الآخرة، وأنتم لا تقولون بذلك. وأما قول المخالف: إن الله يعوض الأطفال والبهائم على ذلك بالآخرة، فالجواب عنه من وجوه: أحدها: أن قولهم هذا يؤدي إلى أن كل ذرة أو بقة أو برغوث خلقه   1 في الأصل في الكلمة زيادة (ل) هكذا (فبال لأعتبار) والصواب ما أثبت من - ح-. 2 عقد القاضي عبد الجبار المعتزلي فصلاً عن الآلام والأعواض في كتابه شرح الأصول الخمسة ص 483 وعلل إيلام الأطفال والبهائم بما ذكر هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 الله ووطأتها الإبل في الطرق وقتلتها فإنه يجب على الله أن يبعثها في الآخرة على صورة يصل إليها الثواب ويجعلها في الجنة. وهذا قول يرغب عنه كل عاقل، وقد ذكر المفسرون أن الله يحشر الطير وجميع البهائم ويقتص للجماء من ذات القرن ثم يقول اله لها كوني تراباً، فتعود تراباً، فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً1. والوجه الثاني: أن يقال إنكم اعترضتم على خصومكم وأنكرتم عليهم القول بأن الله يخلق في العباد أعمال الطاعات ويثيبهم عليها، فكيف ساغ لكم القول هاهنا بأن الله يخلق الآلام والآفات في الأطفال ويثيبهم على فعله بغير فعل منهم ولا كسب. والوجه الثالث: أن يقال من صفات الله الكرم والأفضال، وكان قادراً على أن يجزل لهم العطية من غير أن يبتليهم بألم ولا آفة، ولا يلزم على ذلك الثواب على الأفعال في التكليف، فإن الثواب على ذلك عندنا على كسبهم الأعمال وعندكم على خلقهم الأعمال. والجواب الرابع أن يقال: فما المعنى الذي اقتضى أن تكون هذه البهائم وهؤلاء الأطفال المخلوق فيهم الألم والآفة ليعتبر بذلك غيرها من المكلفين، وتكون المؤلمة هي المستحق للعوض، وما المانع أن تكون هي المستحقة للاعتبار بخلق الألم في المكلفين، ولم يخلق2 المكلفين بهائم وأطفالاً3   1 أخرج ابن جرير عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً "يقضي الله بين خلقه الجن والإنس والبهائم وإنه ليقيد يومئذ للجماء من القرناء حتى إذا لم يبق تبعة عند واحدة لأخرى قال الله كونوا تراباً فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً". تفسير ابن جرير 30/26 وهذا الحديث قطعة من حديث الصور الطويل، وقد ذكره ابن كثير في النهاية وتكلم عليه فليراجع في 1/172- 179. 2 في الأصل (ولم يخلق للمكلفين) وما أثبت من - ح- وهو أصوب لاستقامة العبارة. 3 في - ح- (ولا أطفالاً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 وخلق فيهم الألم وخلق الأطفال مكلفين لعتبروا بغيرهم، فعلم أن أفعال الله لا لعلة لازمة1. ثم قال المخالف: وما تمليك بني آدم لبعض فإن ذلك جعل جزاء للكفر وللتنفير عن الكفر. والجواب: أن الولد قد يسلم وهو تابع لأمه في الملك، وقد يكون أبوه مسلماً حراً وكيف يعاقب الإنسان على ذنب غيره، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2، ومع هذا فلا ننكر أن أصل الرق إنما يثبت على الكافر، ولكن أي مصلحة لولد الولد وإن بعد أن يكون مملوكاً لآدمي مثله من طريق الدين؟! فعلم بذلك أن الله يفعل بعباده ما شاء سواء كان لهم بذلك مصلحة أو لم يكن3.   1 قد تقدم ص 460 بيان أن الله حكيم في فعله وأمره ولا يصدر عنه إلا ما هو حكمة ولكن قد تعلم وقد لا تعلم فعدم العلم بها لا ينفي وجودها. 2 فاطر آية (18) . 3 اشتمال الأمر على حكمة أمر محقق وهو مشتمل على ما فيه مصلحة، فإن المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه أعطاه الله أجره مرتين كما في حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لهم أجران - وذكر منهم - والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه" أخرجه خ. كتاب العلم (ب. تعليم الرجل أمته وأهله) ، م. كتاب لإيمان (ب. وجوب الإيمان بالنبي صلى اله عليه وسلم 1/134. وهذا الرد من المصنف رد صحيح ملزم للمعتزلة في قولهم بوجوب فعل الأصلح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 88- فصل ذكر اللالكائي في مسنده1 عن أبي (العباس) سهل2 بن سعد - رضي الله عنه - قال: " تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 3، وغلام جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بلى والله يا رسول الله إن عليها لأقفالها فلا يفتحها إلا الذي أقفلها، فلما ولي عمر - رضي الله عنه - طلبه ليستعمله، وقال: لم يقل ذلك إلا من عقل"4. وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} 5 قال: "الشقاوة والسعادة والموت"6.   1 تقدمت ترجمة اللالكائي وكذلك التعريف بكتابه (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) ص 96، ولم أقف على شيء من كتبه يسمى بالمسند فلعل هذه الكلمة محرفة هنا والمراد بها "السنة" وهو الكتاب المتقدم وقد يكون أن إطلاقه عليه "المسند" لأن الأحاديث فيها مسندة. 2 في النسختين كتب "أبي سهل" وليس في الصحابة من يسمى أبو سهل ابن سعد، وعند اللالكائي عن سهل بن سعد الصحابي المعروف، فلعله سقط المضاف في الكنية وهو العباس فتكون عن أبي العباس سهل بن سعد كما أثبت. 3 سورة محمد صلى الله عليه وسلم آية (24) . 4 أخرجه اللالكائي في السنة 3/55، وإسناده ضعيف فإن مقدام بن داود الرعيني ذكره الذهبي في الميزان وقال: قال النسائي: "ليس بثقة"، وقال ابن يونس وغيره: "تكلموا فيه"، ميزان الاعتدال 4/176. وفيه أيضاً ذويب بن عمامة السهمي قال الذهبي: "ضعفه الدارقطني وغيره". ميزان الاعتدال 2/33، وأخرج الطبري نحوه في تفسيره 26/85 عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه مرسلاً. 5 الرعد آية (39) . 6 أخرجه اللالكائي في السنة 3/552، هكذا وهو من رواية المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عنه، والمراد هنا أن الشقاء والسعادة والموت يرجع إلى قوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} فلا محو فيها، فتوافق ما أخرجه الطبري في تفسيره 13/166 من عدة طرق عن المنهال بن عمرو بسنده إلى ابن عباس قال: "يدبر الله أمر العباد فيمحو ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والموت". فجميع الروايات عنه على استثناء الشقاوة والسعادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في هذه الآية {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1، قال: "كتب الله أعمال بني آدم وما هم عاملون إلى يوم القيامة والملائكة يستنسخون2 ما يعمل بنو آدم يوماً بيوم"3. وعن عبد الله بن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 4 قال: "نجد الخير ونجد الشر"5. وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 6 قال: "قد أفلح من زكى الله نفسه وقد خاب من دسا الله نفسه فأضله"7. وعن مجاهد في قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون} 8 قال: "علم من إبليس المعصية وخلقه لها"9. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} 10 قال: "إن الله قد11 خلق ابن آدم مؤمناً وكافراً، فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 12، ثم   1 الجاثية آية (29) . 2 في - ح- (تستنسخ) . 3 أخرجه اللالكائي في السنة 3/540، وبنحوه أخرج الطبري في تفسيره 25/156. 4 البلد آية (10) . 5 أخرجه عنهما اللالكائي في السنة 3/545 والطبري في تفسيره 30/211- 212. 6 الشمس آية (9- 10) . 7 أخرجه اللالكائي في السنة 3/545، والطبري في تفسيره 30/211- 212. 8 البقرة آية (30) . 9 أخرجه اللالكائي في السنة 3/546، والطبري في تفسيره 1/212، ورواه أيضاً عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. 10 الأعراف آية (29) . 11 هكذا في النسختين (قد) وعند الطبري واللالكائي (بدأ) وما عندهما أنسب. 12 التغابن آية (20) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم مؤمن وكافر"1. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {أَوَمَنْ2 كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} 3 "يعني من كان كافراً ضالاً فهديناه، و {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} يعني بالنور القرآن من صدق به وعمل به، {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَات} يعني الكفر والضلال"4. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} 5، قال: "إذا جاء القدر خلوا عنه"6. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 7، قال: "فرقين فريق رحم فلا يختلف وفريق لا يرحم مختلف فمنهم شقي وسعيد"8. قال مالك في قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال: "ليكون فريق في الجنة وفريق في النار"9.   1 أخرجه عنه اللالكائي في السنة 3/547، والطبري في تفسيره 8/156. 2 في كلا النسختين والمطبوع من كتاب شرح السنة للالكائي (أفمن) وهو خطأ. 3 الأنعام آية (122) . 4 أخرجه اللالكائي في السنة 3/547، والطبري في تفسيره 13/115. 5 الرعد آية (11) . 6 أخرجه اللالكائي في السنة 3/548، والطبري في تفسيره 13/115. 7 هود آية (118- 119) . 8 أخرجه اللالكائي في السنة 3/548، والطبري ف تفسيره 12/143. 9 أخرجه عنه اللالكائي 3/549، والطبري في تفسيره 12/143. ومعنى الآية على هذين القولين أن الله خلق الناس فريقان فريق مختلف وهم أهل الضلالة، وفريق لا يختلف وهم من رحم الله من أهل الهداية، ولذلك خلقهم يعني خلق فريق الاختلاف للاختلاف والضلالة، وفريق الرحمة للرحمة للاتفاق والهداية. وورد في معنى الآية أقوال أخرى وما تقدم عن ابن عباس ومالك أرجحها، وهو الذي رجحه ابن جرير والقرطبي وعزا ابن كثير إلى أبي عبيد الفراء أنه اختاره. والله أعلم. انظر: تفسير ابن جرير 12/144، تفسير القرطبي 9/115، تفسير ابن كثير 2/465. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 وعن مجاهد في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} ، قال: "إن الله ينزل كل شيء في ليلة القدر فيمحو ما يشاء من المقادير والآجال والأرزاق، إلا الشقاء والسعادة فإنه ثابت"1. وقال محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى: {كَلاّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} 2 قال: "رقم الله كتاب الفجار في اسفل الأرض فهم عاملون لما قد رقم عليهم في ذلك الكتاب، ورقم كتاب الأبرار فجعل في عليين فهم يعملون3 بما رقم لهم في ذلك الكتاب"4. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} 5، قال: "وما كان الله لعذب أقواماً وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم، ثم قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون} ؟ يقول: ومن سبق له من الله الدخول في الإيمان وهو الاستغفار، ويقول للكافر: {مَا كَانَ6 اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} 7 فيميز أهل السعادة من أهل الشقاوة"8.   1 أخرجه اللالكائي في السنة 3/553، والطبري في تفسيره 1/166. 2 الطففين آية (7) . 3 في - ح- (عاملون) . 4 أخرجه اللالكائي في السنة 3/556. 5 الأنفال آية (33) . 6 في كلا النسختين (وما كان) وهو خطأ. 7 آل عمران آية (179) . 8 أخرجه اللالكائي في السنة 3/557، والطبري في تفسيره 9/237 إلا أنه لم يذكر قوله في آية آل عمران، وإنما قال بعد قوله: (وهو الاستغفار) ثم قال: "وما لهم ألا يعذبهم الله" فعذبهم يوم بدر بالسيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 89- فصل ذكرت في الرسالة أن الصحابة بأجمعهم والتابعين وعلماء الأمصار كانوا يقولون إن أفعال العباد في الطاعة والمعصية خلق الله، وإن الله أراد من الخلق ما فعلوه من طاعة ومعصية. فأجاب المخالف القدري عن هذا بكلام مشوب بسفه لا يليق ذكره إلا منه ومن أسلافه. ومعتمده قوله أنه نفى أن يكون هذا قولاً للصحابة –رضي الله عنهم-، وادعى أنهم قائلون بقول القدرية، واحتج بأخبار أضافها إليهم لا أصل لأكثرها ولا ذكرها أحد من العلماء الذين أرصدوا أنفسهم لجمع أقوال العلماء في الأصول والفروع، واختار تأويلها على وفق مذهبه وكل ذلك ليري عامة أهل السنة أن له تعلقاً بالأخبار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم منقولة مروية في أصول صحت روايتها عن الثقات، والكذب عليهم لا تقوم به حجة مع أن كل أحد1 لا يجهل مذهب هذا المخالف وأسلافه من القدرية في الطعن على الصحابة فكيف يحتج بأخبارهم. وأنا أبين من أقاويل الصحابة والتابعين في ذلك ما تقر به ئاعين من يحبهم، ويرى القدوة بهم ديناً لازماً، ويبطل به قول القدرية ومن يبغضهم. ذكر اللالكائي في مسنده2 عن طاوس أنه قال: "أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر"3. وعن أيوب السختياني4 أنه قال: "أدركت الناس وما كلامهم إلا وإن قضى وإن قدر"5.   1 في - ج- (واحد) . 2 تقدم التعليق عليها ص 490. 3 اللالكائي في السنة 4/661، وأخرجه م. كتاب القدر (ب. كل شيء بقدر) 4/2045 إلا أنه قال: "أدركت ناساً". 4 هو الإمام الحافظ أبو بكر أيوب بن أبي تميمة بن كيسان العنزي مولاهم البصري، ويقال مولى جهينة رأى أنس بن مالك - رضي الله عنه -. توفي سنة (131?) بالبصرة. انظر: سير أعلام النبلاء 6/15، تهذيب التهذيب 1/397. 5 اللالكائي في السنة 4/747. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 وعن عبد الله بن يزيد بن هرمز1 أنه قال: "لقد2 أدركت وما بالمدينة متهم3 بالقدر إلا رجل من جهينة يقال له معبد"4. وقال أحمد ين يحيى بن5 ثعلب: "لا أعلم عربياً قدرياً قيل له: أيقع في قلوب العرب القول بالقدرة قال: معاذ الله ما في العرب إلا مثبت القدر خيره وشره أهل الجاهلية والإسلام وذلك في أشعارهم وكلامهم كثير"6. وعن عبد الملك7 عن8 عطاء9 قال: أتيت ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو ينزع في زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه قلت له: قد تكلم في القدر فقال: أو قد فعلوها؟، قلت: نعم، فقال: "والله ما أنزلت هذه الآية إلا فيهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 10، أولئك شرار هذه الأمة"11.   1 عبد الله بن يزيد بن هرمز الأصم. قال الذهبي: أحد الأعلام وقيل اسمه يزيد بن عبد الله، عداده في التابعين كان يتعبد ويتزهد توفي سنة (148?) . انظر: سير أعلام النبلاء 6/379. (لقد) ليست في - ح-. 3 في - ح- (أحد منهم) . 4 أخرجه الآجري في الشريعة ص 243. 5 هكذا في النسختين وكذلك في المطبوع من كتاب السنة للالكائي (بن ثعلب) والصواب (ثعلب) لأنه لقب. 6 أخرجه اللالكائي في السنة 4/704. 7 هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الإمام الحافظ شيخ الحرم أول من دون العلم بمكة المكرمة، توفي سنة (150?) . انظر: تاريخ بغداد 10/400، سير أعلام النبلاء 6/325. 8 في كلا النسختين (بن) وكذلك هو في شرح السنة للالكائي، وقد نبه على ذلك المحقق وقد رواه اللالكائي في موضعين أحدهما قال (عن) والآخر قال (ابن) وهو خطأ بين. 9 عطاء بن أبي رباح شيخ الإسلام ومفتي الحرم أبو محمد القرشي مولاهم. توفي سنة (115?) . انظر: سير أعلام النبلاء 5/88، التقريب ص 239. 10 القمر آية (49) . 11 أخرجه اللالكائي في السنة في موضعين 4/643، 746. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 قال الأوزاعي1: "أول من تكلم بالقدر في البصرة رجل من أهل العراق يقال له سوسن كان نصرانياً فأسلم، ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد"2. ومما موه به هذا المخالف القدري على العامة احتجاجه بحديث رواه عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال وقد سئل عن الكلالة؟ فقال: "أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان من ذلك"3. والجواب أنه لا حجة لهذا القدري بهذا الخبر بأن أبا بكر - رضي الله عنه - يقول إنه يخلق أفعاله، وإنما أراد إن كان صواباً فمن الله أي فهو من دين الله، وما وفقني لإصابته وإن كان خطأ فليس من دين الله وإنما هو من كسبي ومن خطئي وأضاف ذلك إلى الشيطان على سبيل التنزيه لله4، وإن كان الله خلقه، كما قال إبراهيم عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} 5، فأضاف جميع هذه الأشياء إلى الله إلا المرض فإنه أضافه إلى نفسه وإن6 كان الله خالقاً للجميع فيه، وعلى أنه إن كان إضافة أبي بكر - رضي الله عنه - للخطأ إليه وإلى إبليس يدل على أنه الفاعل7،   1 هو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي أبو عمرو الفقيه ثقة جليل توفي سنة (157?) . التقريب ص 207. 2 أخرجه اللالكائي في السنة 4/750، والآجري في الشريعة ص 242. 3 أخرجه الطبري عه في تفسيره 4/284. 4 وأيضاً أضافه إلى الشيطان لأنه هو الذي يدعو إلى الضلالة والانحراف عن الصواب بالوسوسة ونحوها. 5 الشعراء آية (78- 80) . (وإن) ليست في الأصل وهي في - ح-. 7 في - ح- (فدل أنه الفاعل) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 لذلك فقد أضاف الصواب إلى الله، فدل ذلك على أن الله هو الخالق للصواب من اجتهاده1. ثم نقول: المروي في الصحاح2 عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "أن رجلاً قال لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: أرأيت الزنا بقدر؟، قال: نعم، فقال له الرجل: فالله قدره علي ثم يعذبني عليه؟ قال: نعم يا بن اللخنا"3. ومما احتج به القدري ما روي "أن كاتباً كتب لعمر - رضي الله عنه -: هذا ما أرى الله عمر قال: امحه واكتب هذا ما رأى عمر فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمن عمر"4. وروي عنه أنه أتي بسارق فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: قضاء الله وقدره علي يا أمير المؤمنين، فقطع يده وضربه عشرين درة وقال: "قطعت يدك بسرقتك وضربتك بكذبك على الله"5.   1 هذا رد ملزم لأن القدرية لا يقولون بأن الله يخلق شيئاً من أفعال العباد لا الصواب ولا الخطأ. 2 تقدم أن هذه الكلمة من المصنف - رحمه الله - فيها تجوز. 3 اللخن هو نتن الريح عامة، ويقال اللخناء هي التي لم تختن. اللسان 5/4018، وفي المطبوع من شرح السنة (يا بن الخنا) والخناء هو الفحش ولعلها تحرفت عن (اللخنا) ، لأن المصنف أعاده عن ابن عمر (يا ابن اللخنا) . أخرج هذا الأثر اللالكائي في السنة 4/663، وأخرجه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - في 4/698 وفيه زيادة أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: "أما والله لو كان عندي إنسان أمرت أن يجأ أنفك". 4 لم أقف عليه. 5 قال الذهبي في الميزان في ترجمة حيان بن عبد الله أبو جبيلة الدارمي قال الفلاس: "كذاب"، وكان صانعاً فسمعت عمراً الأنماطي يقول سمعته يقول حديثاً أن الحسن قال: أتى عمر.. فذكره ولم يذكر قوله: (قطعت يدك … الخ) . انظر: الميزان 1/622. فالرواية على غير ثابتة من طريق صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 والجواب عن الأول أنه كره إضافة الرأي إلى الله، لجواز أن يكون أخطأ برأيه على ما مضى1. وأما حديثه الثاني: فلم يذكره أحد من أصحاب الحديث المشهورين فيجب إثبات سنده2، وإن صح عنه ذلك فإنه محمول على أن السارق أنكر على عمر قطع يديه مع كون ذلك بقضاء الله وقدره3، إذ لو لم يكن بقضاء الله سبحانه لا ستحق القائل به أكثر من ضرب العشرين4، والذي رواه أصحاب الحديث الصحاح عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "اللهم إن كنت كتبتني في السعادة فأثبتني فيها، وإن كتبتني على الشقاوة فامنحني منها وأثبتني في السعادة فإنك تمحو مت تشاء وتثبت وعنده أم الكتاب"5. وروي أن عمر - رضي الله عنه - خرج من المدينة إلى الشام ومعه جماهير الصحابة من المهاجرين والأنصار حتى قدم دمشق، فأخبر أن الطاعون وقع بالشام، فخاف عمر أن يتقدم بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فاستشار الصحابة بذلك   1 على ما مضى من الكلام على قول أبي بكر - رضي الله عنه - ص 496. 2 ولم يصح كما تقدم. 3 وهذا الاحتجاج من السارق باطل لأن احتجاجه بالقدر على المعصية من جنس احتجاج المشركين بالقدر الذين عابهم وكذبهم بقوله عز وجل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ} . 4 لعل مراد المصنف بهذا أن السارق لو كان منكراً للقضاء والقدر لقتله عمر - رضي الله عنه - لأنه سيأتي قوله للجاثليق ص500 لما أنكر أن يضل الله أحدأً: "أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك". 5 أخرجه الطبري في تفسيره 13/118، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 4/614. وهذا القول من عمر - رضي الله عنه - يدل على أنه يرى أن المحو يكون حتى للشقاوة والسعادة وهو خلاف ما روي عن ابن عباس مما تقدم ص 490 من أن المحو لا يدخل على الملائكة من الكتب، أما ما في اللوح المحفوظ فهو ثابت لا يتغير ولا يتبدل وهو المراد بقوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 فاختلفوا عليه، وكان أول من دعى المهاجرين، فقال بعضهم: خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال آخرون: إن معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى أن تقدم بهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني فارتفعوا عنه، ثم أمر أن1 يدعى له الأنصار فدعوا فاستشارهم، فلم يختلف عليه منهم رجلان2، وقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تدم بهم على هذا الوباء، فأذن عمر بالناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أفراراً من قدر الله، فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت بها وادياًً له عدوتان أحدهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت بالخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيتها بالجدبة رعيت بقدر الله3، فجاء عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وكان مغيباً في بعض حاجاته فقال: إن عندي من هذا علماً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه"، فحمد الله عمر ثم انصرف4، وخطبهم على باب الجابية ليقص عليهم ويعرفهم سبب انصرافه، وقال في خطبته: "من يضلل الله فلا هادي له ومن يهد الله فلا مضل له"، فقال جاثليق5 النصراني: إن الله لا يضل أحداً، مرتين أو ثلاثاً   1 في كلا النسختين (أمر فدعى) ولا يستقيم الكلام بدون (أن) . 2 هكذا في النسختين والذي في الرواية أن الأنصار اختلفوا عليه كما اختلف عليه المهاجرون، ثم إن عمر - رضي الله عنه - قال: "ادع لي من هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح"، فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فلعله سقط من النسخة جواب الأنصار ودعوة مسلمة الفتح. 3 في - ح- (رعيتها بقدرة الله وإن رعيتها بالجدبة رعيتها بقدرة الله) . 4 أخرجه إلى هنا خ. كتاب الطب (ب. ما يذكر في الطاعون 7/112، م. كتاب السلام (ب. الطاعون 4/1741 من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. 5 قال في القاموس: "الجاثليق بفتح الثاء المثلثة هو رئيس للنصارى في بلاد الإسلام ويكون تحت يد بطريق انطاكية". القاموس المحيط 3/224. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 ، فأنكر الصحابة عليه، فقال عمر - رضي الله عنه - لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما يقول؟، قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أن الله لا يضل أحداً، فقال عمر: كذبت بل الله خلقك والله أضلك ثم يميتك فيدخلك النار إن شاء، أما والله لولا ولث عهد لك لضربت عنقك. فتفرق الناس وما يختلف في القدر اثنان1. والوَلث: هو العهد الذي ليس بمحكم ولا مؤكد2. ومما موه به القدري أنه قال: روي أنه لما حصر عثمان - رضي الله عنه - في الدار كان القوم يرمونه ويقولون: الله يرميك، فقال عثمان: كذبتم لو رماني الله ما أخطأني. والجواب أن يقال له: هذا لا يعرف في مسند. على أنا نحمله إن صح على أنهم أرادوا الله يرميك أي يبلغ السهام ويصيبك3 بها، فقال لهم عثمان - رضي الله عنه -: لو رماني الله ما أخطأني: أي لو بلغ سهامكم إلي ما أخطأني. وهذا كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 4. وتأويل قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} أي ان المؤمنين لما رجعوا من بدر جعل رجل منهم يقول: قتلت، وآخر يقول: قتلت، فأنزل الله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} ، وأما الرمي فإن المشركين لما صافوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر دعى النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث قميصات من حصى الوادي ورمله فتأوله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فرماها في وجوه العدو، وقال: "اللهم ارعب قلوبهم وزلزل أقدامهم " فملأ الله وجوههم وأبصارهم من الرمية ولم يبق أحد منهم حتى أصابه5، فانهزموا عند الرمية   1 أخرجه اللالكائي من عند قوله (وخطبهم على الجابية) من حديث عبد الله بن الحارث بن نوفل. انظر: السنة 4/659، والآجري في الشريعة ص200. 2 انظر: اللسان 5/4912. (الواو) ليست في الأصل وإنما في - ح-. 4 الأنفال آية (17) . 5 هكذا قي كلا النسختين والأصوب (إلا أصابه) وهو الموافق لما عند الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 الثالثة فتبعهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، فأنزل الله {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 1. أي أن الله خلق الرمي بيدك يا محمد، وتولى إيصال ذلك إلى أبصارهم، فأضاف الله ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم إذ وقع كسباً له وأضافه إلى نفسه لكونه مخلوقاً له، وانفرد بإيصال التراب إليهم وهذا حجة لنا على القدرية.   1 ذكر الطبري في تفسيره نحو هذا بسنده عن محمد بن كعب القرظي، وعن قتادة والسدي وابن زيد وابن عباس - رضي الله عنهما - وليس في شيء منها ذكر الدعاء. انظر: تفسير الطبري 9/205. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 90- فصل استدل القدري بدامغه بخبر لا يعرف سنده عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يظن أنه حجة له وهو حجة لنا، وهو أنه قال: "روي أن علياً - رضي الله عنه - لما سأله الشيخ الشامي عن مسيره إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال علي - رضي الله عنه -: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما قطعنا وادياً ولا علونا أكمة وتلة إلا بقضاء وقدر، فقال الشيخ: عند الله1، أحتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئاً. فقال: علي عليه السلام: بل أيها الشيخ قد عظم لكم الأجر على مسيركم وأنتم سائرون وعلى منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين، فقال الشيخ: وكيف ذلك والقضاء والقدر ساقانا وعنهما كانا مسيرنا، فقال علي - رضي الله عنه -: لعلك ظننت قضاء لازماً وقدراً حتماً لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد والأمر والنهي من الله ولما كانت تأتي من الله محمدة لمحسن ولا مذمة لمسيء، ولما كان المحسن بثواب الإحسان أولى من المسيء، والمسيء بعقوبة الذنب أولى من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وخصماء الرحمن. إن الله أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، وكلف يسيراً ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يرسل الرسل هزلاً، ولم ينزل القرآن عبثاً، ولم يخلق السموات والأرض وعجائب الأمور باطلاً، فويل للذين كفروا، فقال الشيخ: ما القضاء والقدر اللذان ما وطئا إلا بهما؟ فقال علي - رضي الله عنه - الأمر من الله والحكم، فنهض الشيخ وهو مسرور"2.   1 في النسختين (عندي) ولا معنى لها وما أثبت من المنية والأمل لابن المرتضى. 2 ذكر في نهج البلاغة 4/17 طرف من هذا عند قوله: "لعلك ظننت … " إلى قوله: "ولم يخلق السموات والأرض وعجائب الأمور باطلاً" مع اختلاف في بعض الألفاظ وذكرها بطولها ابن المرتضى في المنية والأمل. انظره ضمن كتاب فرق وطبقات المعتزلة ص 240، كما ذكرها صاحب كتب مستدرك على نهج البلاغة لمؤلفه: الهادي كاشف الغطا ص 55، وعزاه في كنز العمال 1/344 إلى ابن عساكر عن محمد بن زكريا العلائي عن العباس بن بكار عن أبي بكر الهذلي عن عكرمة، وقال: "والعلائي وشيخه كذابان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 والجواب: أنا نقول للمخالف هذا الخبر كله حجة لنا وحجة عليكم إلا قوله "أمراً تخييراً" فإن الله تعالى قال: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} 1، وقد مضى بيان فساد قولهم إن العبد مخير2، ولكن قد أثبت علي - رضي الله عنه - القدر والقضاء في السير والانصراف والقضاء ينصرف إلى الخلق لقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} 3، وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 4، والمخالف لا يقول إن مسيرهم وانصرافهم كان بقضاء من الله وقدر، وإنما يقول هو يخلقهم وإنما ظن الشيخ أن علياً أراد5 أن الله أجبرهم على المسير والانصراف بقضاء الله وقدره وقال6: ":لم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين فاستثبته الشيخ وقال: "وكيف ذلك والقضاء والقدر ساقانا" يريد أنهما ساقانا سوقاً لا امتناع لنا عنه، فنفى علي - رضي الله عنه - ذلك وأنهم ليسوا بمجبرين، فقال: "لعلك ظننت قضاء لازماً وقدراً حتماً" أي إنما وقع ذلك باختيار منكم ولو كنتم مجبرين لبطل الثواب والعقاب إلى آخر كلامه، وهذا كله حجة لنا، لأنا لا   1 القصص آية (68) . 2 قد تقدم كلام المصنف على هذه الآية في فصل مستقل من رقم 81. وكذلك تقدم التعليق هناك بأن المراد إبطال قول المعتزلة الذين يقولون إن للعبد اختياراً دون إرادة الله ومشيئته. وقوله هنا "أمر تخييراً" أي أن الله لم يجبر العباد لأن الله جعل للإنسان إرادة في سلوك الطاعة أو طريق المعصية، إلا أن هذه الإرادة والمشيئة تابعة لإرادة الله ومشيئته كما أخبر جل وعلا بذلك في قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . 3 فصلت آية (12) . 4 القمر آية (49) . (أن علياً أراد) ليست في - ح. 6 في الأصل (قالوا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 نقول بالجبر وبطل أن يكون للمخالف علينا بذلك حجة، ولكن حمله على ذلك قلة بصيرته بالمذاهب وعدم البصيرة في وضع الحجج مواضعها. ثم نقول: المروي عن علي - رضي الله عنه - في الصحاح أنه مر بقوم فقال له رجل منهم: يا أمير المؤمنين إن هذا يزعم أنه يصنع ما يشاء، فأقبل علي - رضي الله عنه - على الرجل فقال له: هل ملكك الله شيئاً فأنت تملكه فقال: ملكني صلاتي وصومي وعتق رقبتي وطلاق امرأتي وحجي وعمرتي وما افترض علي فقال له علي: هذا الذي تزعم أنك تملكه أتملكه من دون الله أو تملكه مع الله؟ قال له الرجل: ما أدري ما تقول، قال: أكلمك بلسان عربي، وتقول ما أدري ما تقول، فأعادها علي عليه فلم يجبه الرجل، فقال له علي: إن زعمت أنك تملكه من دون الله فقد جعلت نفسك مع الله شريكاً ومالكاً وإلا فالملك لله الواحد القهار1. وكذلك روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: الأعمال ثلاثة: فرائض، وفضائل، ومعاصي، وقد مضى بيانهن وأن جميعها خلق لله سبحانه2.   1 لم أقف عليه. 2 تقدم بطوله ص 153 ولم أقف عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 91- فصل استدل المخالف القدري بما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: "من أضاف إلى الله ما تبرأ عنه فقد افترى على الله". وروي عنه أنه قال: "لعن الله قوماً يحملون ذنوبهم على الله ". وروي عنه أنه قال: "قاتل الله قوماً يعملون المعاصي ثم يزعمون أنها من الله ". والجواب: أن هذه الأحاديث لم يذكرها علماء الحديث في الأصول التي اتفق علماء الأمصار على صحتها والاحتجاج بها، فيجب على من احتج بها إثبات السند فيها، وعلى أنا نحمل هذه الأخبار على أنه لعن قوماً قالوا إن الله أخبر الخلق على أعمالكم وهلك من قال ذلك1. والذي ذكر أصحاب الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنه - ما قدمنا ذكره عنه. وروى عنه مجاهد أنه قيل لابن عباس: إن ناساً يقولون في القدر، فقال: "يكذبون بالقرآن لئن أخذت بشعر أحدهم لأنصونه2، إن الله عز   1 قوله (وهلك من قال ذلك) ليست في الأصل وإنما هي في - ح- ولكلام ابن عباس - رضي الله عنه - إن صح عنه معنى صحيح، وهو أن المراد به الذين يعملون المعاصي وينسبونها إلى الله عزوجل، كما قال عزوجل عن المشركين {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْء} فعملوا المعاصي واحتجوا لها بالقدر، فهذا من الفجور والكذب، فقد قال الله عزوجل بعد هذه الآية السابقة {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وقد تقدم بيان ذلك. ويحمل أيضاً قوله "من أضاف إلى الله ما تبرأ منه وتنزه عنه فقد افترى على الله" أي من يضيف إلى الله الأمر بالمعاصي أو محبتها فهذا ما تبرأ الله عزوجل منه في قوله: {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} وقال عزوجل: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} ، {لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} وما أشبهها فهذا الذي تبرأ الله منه، أما خلق المعاصي وتقديرها فهذا قد مرت الأدلة على أن كل ما في السموات والأرض فمن خلق الله وتقديره. 2 لأنصونه: أي لآخذن بناصيته. انظر: اللسان 6/4447. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فخلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة إنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه"1. وقال ابن عباس: "الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن وجد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره نقضاً للتوحيد، ومن وحد الله وآمن بالقدر كانت العروة الوثقى لا انفصام لها"2. وقال عطاء بن أبي رباح: كنت عند ابن عباس، فجاء رجل فقال: يا ابن عباس: أرأيت من صدني عن الهدى وأوردني دار الضلالة والردى ألا تراه قد ظلمني؟ فقال ابن عباس: "إن كان الهدى شيئاً كان لك عنده فمنعك فقد ظلمك، وإن كان الهدى هو له يؤتيه من يشاء فلم يظلمك، قم لا تجالسني"3. وروي عن أبي يحيى مولى بني عفراء4، قال: أتيت ابن عباس وعي رجلان من الذين يكذبون بالقدر وينكرونه، فقلت: يا ابن عباس ما تقول في القدر فإن هؤلاء أتوك ليسألوك عن القدر إن زنا وإن سرق وإن شرب، قال: فحسر قميصه حتى أخرج منكبيه فقال: يا أبا يحيى5، لعلك من الذين ينكرون القدر ويكذبون به، والله لو أعلم أنك منهم أو هذين معك لجاهدتكم، إن زنا فبقدر وإن سرق6 وإن شرب الخمر فبقدر7.   1 أخرجه اللالكائي في السنة 4/669. 2 تقدم هذا الأثر وتخريجه ص 253 وهو بهذا اللفظ عند اللالكائي في السنة 4/670. 3 أخرجه اللالكائي في السنة 4/670، ونحوها المناظرة التي حكاها السبكي في طبقاته 4/261 بين أبي إسحاق الإسفرائيني وعبد الجبار المعتزلي حيث انقطع عبد الجبار المعتزلي. 4 لم أجد له ترجمة. 5 في - ح- (يا باغي) . (وإن سرق) ليست في الأصل وأثبتها من - ح وهي ثابتة في مصدر الرواية. 7 أخرجه اللالكائي في السنة 4/671، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 2/425. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 وروى عكرمة قال: "كنت عند ابن عباس جالساً فجاء رجل فقال: يا ابن عباس أخبرني من القدرية فإن الناس قد اختلفوا عندنا بالمشرق. فقال ابن عباس: القدرية قوم يكونون في آخر الزمان دينهم الكلام، يقولون إن الله لم يقدر المعاصي على خلقه ويعذبهم على ما قدر عليهم، فأولئك هم القدرية، وأولئك هم مجوس هذه الأمة، وأولئك ملعونون على لسان النبيين أجمعين فلا تقاولوهم1 فيفتنوكم، ولا تجالسوهم ولا تعودوا مرضاهم، ولا تشهدوا جنائزهم، أولئك أتباع الدجال لخروج الدجال أشهى إليهم من الماء البارد، فقال رجل: لا تجد علي يا ابن عباس فإني سائل مبتلى بهم، قال: قل، قال2: كيف صار في هذه الأمة مجوس وهذه أمة مرحومة، فقال ابن عباس: أخبرك لعل الله ينفعك، فقال: افعل، قال: إن المجوس زعمت أن الله لم يخلق شيئاً من الهوام والقذر، ولم يخلق شيئاً يضر، وإنما يخلق المنافع وكل شيء حسن 3، وإنما القذر4 هو الشر، والشر كله خلق إبليس وفعله، وقالت القدرية: إن الله لم يخلق الشر ولم يبتل به، وإبليس رأس الشر وهو مقر بأن الله خلقه. وقالت القدرية: إن الله أراد من العباد أمراً لم يكن وأخرجوه من ملكه وقدره، وأراد إبليس من العباد أمراً فكان إبليس عند القدرية أقوى وأعز، فهؤلاء القدرية، فكذبوا أعداء الله. إن الله يبتلي ويعذب على ما ابتلى وهو غير ظالم، لا يسأل عما يفعل، وبمن ويثيب وهو فعال لما يريد، ولكنهم أعداء الله ظنوا ظناً فحققوا ظنهم عند أنفسهم، وقالوا: نحن العالمون والمثابون والمعذبون بأعمالنا ليس لأحد علينا منة وذهب عليهم المن من الله والخذلان. قال سويد بن سعيد5: لا إله إلا   1 في - ح- (فلا توالوهم) وما في الأصل يوافق ما عند اللالكائي ومعناه (لا تكلموهم) . (قال) ساقطة من الأصل وهي في - ح- وهي عند اللالكائي أيضاً. 3 في النسختين (حسناً) وما أثبت من اللالكائي. 4 في النسختين والمطبوع من شرح السنة (القدر) بالدال ولعل صوابها كما أثبت (القذر) بالذال. 5 سويد بن سعد بن سهل أبو محمد الهروي الحدثاني الأنباري، قال ابن حجر: "صدوق في نفسه إلا أنه عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه". وأفحش فيه ابن معين توفي سنة (240?) انظر: التقريب ص 140، وانظر: ميزان الاعتدال (/248. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 الله ما أوحشه من قول، وأن الله هو الهادي والمضل الراحم المعذب1. قال عطاء: قال ابن عباس: "كلام القدرية كفر وكلام الحرورية ضلال". قال ابن عباس: "لا أعلم الحق إلا في كلام قوم ألجوا ما غاب عنهم من الأمور إلى الله تبارك وتعالى، وفوضوا أمورهم إلى الله، وعلموا أن كلاً بقضاء الله وقدره"2. وروي أن ابن عباس - رضي الله عنه - مر على قوم يتنازعون في القدر فقال: "لا تختلفوا في القدر فإنكم إن قلتم إن الله شاء لهم أن يعملوا بطاعته فخرجوا من مشيئة الله إلى مشيئة أنفسهم فقد أوهنتم الله بأعظم ملكه، وإن قلتم إن الله جبرهم على الخطايا ثم عذبهم عليها قلتم إن الله ظلمهم"3. قال الأوزاعي: بلغني عن ابن عباس أنه ذكر عنده قولهم في القر فقال: "ينتهي بهم رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيراً كما أخرجوه عن أن يكون قدر شراً"4. وروي في الصحاح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال موسى عليه السلام: يا رب أبانا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة فأراه الله آدم عليه السلام فقال له: أنت أبونا آدم؟ قال: نعم، قال: أنت الذي نفخ الله فيك من روحه وعلمك الأسماء كلها وأمر ملائكته   1 أخرجه اللالكائي في السنة 4/694. 2 أخرجه اللالكائي في السنة 4/694. 3 أخرجه اللالكائي في السنة 4/694. 4 أخرجه اللالكائي في السنة 4/694. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 فسجدوا لك؟ ن قال: نعم، قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة، قال له آدم: من آنت؟، قال: أنا موسى، قال: أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب لم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه قال: نعم، قال: فهل وجدت في كتاب الله أن ذلك كائن قبل أن أخلق، قال: نعم، قال: فلم تلومني في شيء سبق من الله فيه القضاء قبل أن أخلق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى "1. استدل القدري بما روي عن ابن عمر أنه قال: "القدرية مجوس هذه الأمة، قيل: منهم يا أبا عبد الرحمن؟ قال: الذين يعملون بالمعاصي ويزعمون أنها من الله". والجواب: أن على هذا المستدل أن يثبت هذا بسند صحيح، ولم يذكره أحد من أصحاب الحديث. وعلى أنا نحمله على أنه أراد الذين يزعمون أن الله يجبرهم على المعاصي ولا حجة له علينا بذلك. ثم نقول للذي ذكره أصحاب الحديث عن ابن عمر أن يحيى بن يعمر2 قال: قلت لابن عمر: إنا نسافر فنلقى قوماً يقولون لا قدر، قال: "إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء وهم منه براء ثلاث مرات"3.   1 أخرجه د. كتاب السنة (ب. القدر) 2/273، وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - نحوه، كتاب القدر (ب. تحاج آدم موسى عند الله) 8/107. م. كتاب القدر (ب. حجاج آدم وموسى عليهما السلام) 4/2043. 2 يحيى بن يعمر أبو سليمان العدوان البصري قاضي مرو يكنى أبا عدي. قال الذهبي: كان من أوعية العلم وحملة الحجة، وكان ذا لسن وفصاحة أخذ ذلك عن أبي الأسود الدؤلي، توفي قبل التسعين من الهجرة. انظر: سير أعلام النبلاء 4/44، تقريب التهذيب ص 380. 3 أخرجه م. كتاب الإيمان 1/36 ومعه حديث جبريل وهو حديث الدين، وأخرجه حم. 1/52، واللالكائي في السنة 4/672. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 وروى ابن نافع1 أن رجلاً قال لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن إن قوماً يتكلمون في القدر بشيء، فقال ابن عمر: "أولئك يصيرون إلى أن يكونوا مجوس هذه الأمة، فمن زعم أن مع2 الله قاضياً أو قادراً أو رازقاً أو مالكاً لنفسه ضراً أو نفعاً أو موتاً أو حياة أو نشوراً لعنه الله وأخرس لسانه وأعمى بصره وجعل صلاته وصيامه هباء منثوراً قطع به الأسباب وكبه على وجهه في النار"3. وروى نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر قال: يا أبا عبد الرحمن الزنا بقدر؟ قال: نعم، قال: قدره الله علي ويعذبني به؟، قال: نعم، يا بن اللخنا4، لو كان عندي إنسان لأمرته أن يجأ أنفك"5. وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب6، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقد ذكر عنده يوماً7 القدر، فأدخل بأصبعيه السبابة والوسطى في فيه فرقم باطن يده فقال: "أشهد أن هاتين الرقمتين كانت في أم الكتاب"8. وروي أن رجلاً قال لعلي بن أبي طالب: ما تقول يا أمير المؤمنين في القدر؟ فقال: ويحك أخبرني عن رحمة الله أكانت قبل طاعة العباد أم لا؟، فقال: بلى، فالتفت علي إلى الصحابة وقال: أسلم صاحبكم بعد أن كان   1 نافع مولى ابن عمر أبو عبد الله المدني الإمام المفتي راوية ابن عمر - رضي الله عنه -، توفي سنة (117?) . انظر: سير أعلام النبلاء 5/95، تهذيب التهذيب 10/412. 2 في - ح- (أن يكون مع) . 3 أخرجه اللالكائي 4/698. 4 تقدم بيان معناها ص 497. 5 أخرجه اللالكائي في السنة 4/698، وتقدم مثله عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ص 497. 6 عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري، ذكره ابن حجر في تعجيل المنفعة، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. انظر: تعجيل المنفعة ص 227. (يوماً) ليست في - ح-. 8 أخرجه اللالكائي في السنة 4/666ن وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 2/432، والآجري في الشريعة ص 202. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 كافراً فقال الرجل: يا أمير المؤمنين أليس بالمشيئة الأولى التي أنشأ بها وقوم خلقى حتى أنا أقوم وأفعل وأقبض وأبسط وأفعل ما أشاء، فقال له علي: إنك بعد في المشيئة، أما إني أسألك عن ثلاث فإن قلت في واحدة منهن لا، كفرت، وإن قلت: نعم فأنت أنت، فمد القوم أعناقهم ليسمعوا ما يقول، فقال له الرجل: هات يا أمير المؤمنين. فقال: علي - رضي الله عنه - أخبرني1، هل خلقك الله كما شاء أو كما شئت؟، قال: بل كما شاء، قال: فخلقك الله لما شاء أو لما شئت؟، فقال الرجل: بل لما شاء، فقال: هل تأتيه يوم القيامة بما شاء أو بما شئت؟، فقال: بل بما شاء، فقال له: قم فلا مشيئة لك"2. وروي أن علياً - رضي الله عنه - خطب يوماً وذكر قاتله، فقال: ما يمنعه أن يقوم فيخضب هذه من هذا3 فقالوا4: يا أمير المؤمنين أما إذ عرفته فأرناه نفعل به كذا، فامتنع، قالوا: فما تقول لربك إذا قدمت عليه5 قال: "أقول وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم حتى توفيتني، وهم عبادك إن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم"6، وهذا كله يبطل القدرية.   (أخبرني) ليست في - ح-. 2 أخرج الآجري في الشريعة ص 202-204 هذا الأثر إلا أنه لم يذكر فيه صدر الرواية إلى قوله … (أسلم صاحبكم بعد أن كافراً) . والمراد بالمشيئة المنفية هنا في قوله: "قم فلا مشيئة لك" مشيئة مستقلة عن مشيئة الله لأن الله أثبت للإنسان مشيئة في قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . 3 المراد بقوله (فيخضب هذه من هذا) أي يخضب لحيته من دم رأسه كما جاء مصرحاً به في إحدى الروايات عند ابن سعد في الطبقات 3/34. 4 في الأصل (فقال) وما أثبت من - ح- وهو يوافق ما عند اللالكائي. 5 هكذا في النسختين ويوجد هنا سقط لا يتضح الخير إلا به وهو أنهم قالوا له: "استخلف علينا، قال لا، ولكن أترككم إلى ما تركتم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا فما تقول لربك … " الخ. 6 أخرجه اللالكائي في السنة 4/664، وابن سعد في الطبقات 3/34، وإسناد هذه الرواية فيه عبد الله بن سبع، قال عنه ابن حجر: مقبول. التقريب ص 175. وقد أخرج ابن سعد في الطبقات عن علي - رضي الله عنه - في إثبات أنه كان يعلم أنه سيقتل ومكان مقتله عدة روايات بأسانيدة جيدة، وفي إحدى الروايات صرح علي - رضي الله عنه - أن مقتله بهذه الصفة عهد النبي صلى الله عليه وسلم إليه، مما يدل أنه صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "لأن أعض على جمرة أو أقبض عليها حتى تبرد أحب إلي من أن أقول بشيء قضاه الله ليته لم يكن"1. وقال ابن مسعود - رضي الله - "أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فإن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره"2. وعن ابن الديلمي قال: "أتيت أبي بن كعب فقلت يا أمير المؤمنين إنه وقع في قلبي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه عني فقال: إن الله عزوجل لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإن مت على غير ذلك دخلت النار. قال: ثم أتيت ابن مسعود فحدثني بمثل ذلك، ثم أتيت حذيفة فحدثني بمثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم3. وروي أن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - لما حضرته الوفاة قال له ابنه   1 أخرجه اللالكائي في السنة 4/667. 2 أخرجه بعضه خ. كتاب الاعتصام ب. الاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم 9/75، وأخرجه جه. من كلام طويل له. المقدمة (ب. اجتناب البدع والجدل 1/18. واللالكائي في السنة، مثل اللفظ المذكور هنا 4/667. 3 تقدم هذا الحديث وتخريجه ص 143. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 عبد الرحمن: أوصني، فقال: أجلسوني، فأجلسوه ثم قال: يا بني اتق الله ولن تتقي الله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "القدر على هذا من مات على غير هذا أدخله الله النار"1. وبمثل هذا المعنى روي عن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي الدرداء، وعمران بن الحصين، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم -2.   1 أخرجه اللالكائي في السنة 4/673، والآجري في الشريعة ص 186، وابن أبي عاصم في السنة 1/52 مثله من حديث الوليد بن عبادة. قال الألباني في تعليقه على كتاب السنة: "حديث صحيح ورجاله ثقات غير عثمان بن أبي العاتكة فيه ضعف لكنه يتقوى بما سأذكر فذكر الطرق الأخرى عند الإمام أحمد وغيره، وهي في المسند 5/317 من طريق عبادة بن الوليد بن عبادة عن الوليد نحوه وإسناده صحيح". ومن طريق يزيد بن حبيب عن الوليد بن عبادة نحوه وفيه ابن لهيعة، وأخرجه د. كتاب السنة (ب. القدر 2/272 ورجال إسناده ثقات ما عدا أبي حفصة حبيش بن شريح ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حجر في التقريب: "مقبول". انظر: التقريب ص 64، والتهذيب 2/194. 2 أخرج اللالكائي الروايات عن هؤلاء الصحابة وفيها إثبات القدر، فروى بسنده عن عمرو بن العاص أنه قال: "انتهى عجبي إلى ثلاث: المرء يفر من القدر وهو لاقيه، ويرى في عين أخيه القذاء فيعيبها، ويكون في عينه مثل الجذع فلا يعيبها، ويكون في دابته الصعر ويقومها جهده، ويكون في نفسه الصعر فلا يقومها". شرح اعتقاد أهل السنة 4/674. أما الرواية عن عبد الله بن عمرو فهي أنه قال بعد أن ذكر أحوال الجنين في بطن أمه وكتابة أجله ورزقه وشقي أو سعيد قال: "فوالذي نفسي بيده لا ينال من الدنيا إلا ما قسم له، فإذا أكل رزقه قبض". السنة 4/675. أما الرواية عن أبي الدرداء أنه قال: "ذروة الإيمان أربع: الصبر للحكم والرضا بالقدر والإخلاص للتوكل والاستسلام للرب". السنة 4/676. وأما الرواية عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن أبا الأسود الدؤلي قال: "سألت عمران بن الحصين - رضي الله عنه - عن باب القدر فقال: "لو أن الله عذب أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحم أهل السموات والأرض لكانت رحمته أو سع من ذلك، ولو أن رجلاً له مثل أحد ذهباً ينفقه في سبيل الله ولا يؤمن بالقدر خيره وشره ما تقبل منه". السنة 4/676. أما الرواية عن سلمان - رضي الله عنه - فهي أن أبا الحجاج الأزدي، قال: سألت سلمان ما الإيمان بالقدر؟ فقال: "أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك". السنة4/677. أما الرواية عن جابر - رضي الله عنه - فهي قوله: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كله خيره وشره، ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه". السنة 4/678. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه عند الله مكتوب من أهل النار"1. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فأخلف يده ورائي وقال: "يا غلام أو يا غليم ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك إذا استعنت فاستعن بالله، إذا سألت فاسأل الله جرى القلم بما هو كائن، فلو أن الناس اجتمعوا على أن يعطوك شيئاً لم يعطك الله لم يقدروا عليه ولو أن الناس اجتمعوا على أن يمنعوك شيئاً قدره الله لك وكتبه لك ما استطاعوا، فاعبد الله بالصبر مع اليقين، وإن مع العسر يسراً إن مع اليسر يسراً".2. وروى علي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بالحق، ويؤمن بالموت وبالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر"3.   1 أخرجه اللالكائي 4/678، وأخرجه الإمام أحمد في المسند 6/107-108 عنها مرفوعاً ورجال إسناده ثقات. 2 أخرجه اللالكائي بهذا اللفظ شرح اعتقاد أهل السنة 4/614، وأخرجه ت. في الصلة (ب. منه) 4/667 نحوه وليس فيه قوله: "فأخلف يده ورائي" ولا قوله "فاعبد الله بالصبر … " الخ، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وأخرجه حم. 1/293، 303، 307، وقد أفرده ابن رجب - رحمه الله - في رسالة مستقلة سماها (نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس) وهي رسالة قيمة. 3 أخرجه ت. كتاب القدر (ب. الإيمان بالقدر خيره وشره 4/425 قال المباركفوري: رجاله رجال الصحيح. تحفة الأحوذي 6/358، جه. في المقدمة (ب. القدر) 1/32 نحوه، الحاكم في المستدرك 1/33، وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي واللالكائي في السنة 4/620. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 وروى سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله له، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله"1.   1 أخرجه ت. في كتاب القدر (ب. في الرضا بالقضاء) 4/455، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد، ويقال له أيضاً حماد بن أبي حميد وهو أبو إبراهيم المدني وليس هو بالقوي عند أهل الحديث"، وأخرجه حم. 1/168 وفيه محمد بن أبي حميد المتقدم. واللالكائي في السنة 4/620 من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مليكة قال فيه الإمام أحمد: منكر الحديث، وقال ابن حجر: "ضعيف". انظر: التهذيب 6/146 التقريب ص 199. ولفظه عند اللالكائي يدل على الانقطاع بين عبد الله بن أبي بكر وإسماعيل بن محمد بن سعد، لأن عبد الله قال: "يذكر عن إسماعيل، فلعل بينهم محمد بن حميد وقد تقدم قول الترمذي: "لا يعرف إلا من حديث محمد بن أبي حميد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 92- فصل استدل القدري بدامغه بأخبار أضافها إلى الفقهاء المشهورين من التابعين وغيرهم، مثل عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، والشعبي1 ومالك بن دينار2، وقتادة3 وغيرهم، ممن لا ينكر فضلهم أحد وهم برءاء مما أضافه إليهم. ولو طولب بسند خبر من ذلك لم يقدر عليه إلا بالتخرص.   1 هو عامر بن شراحيل بن عبد الله ذي كبار قيل: من أقيال اليمن الإمام علامة العصر أبو عمرو الهمداني ثم الشعبي، ولد لست سنوات من خلافة عمر - رضي الله عنه - توفي سنة (105?) . انظر: سير أعلام النبلاء 4/294. 2 مالك بن دينار أبو يحيى البصري الزاهد معدود في ثقات التابعين، توفي سنة (130?) وقيل غيرها. سير أعلام النبلاء 5/362، التهذيب 10/14. 3 قتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري الضرير، كان حافظ العصر وقدوة المفسرين والمحدثين ولد سنة (60?) وتوفي سنة (118?) وقد ذكر عنه الأئمة أنه يقول بالقدر واتهموه به. لهذا روى اللالكائي عن طاووس أنه كان يفر من قتادة إذا أتاه وقال وكيع: كان سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي وغيرهما يقولون قال قتادة: "كل شيء بقدر إلا المعاصي". سير أعلام النبلاء 5/277، ذكرها اللالكائي في السنة 4/699. ولكن روى اللالكائي بسنده عن الحكم بن عمر الرعيني قال: أرسلني خالد بن عبد الله إلى قتادة وهو بالجيزة أسأله عن مسائل، فكان فيما سألت قلت: أخبرني عن قول الله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} وهم مشركو العرب قال: "لا، ولكنهم الزنادقة الذين جعلوا لله شركاء في خلقه فقالوا إن الله يخلق الخير وإن الشيطان يخلق الشر وليس لله على الشيطان قدرة". السنة للالكائي 4/699. والحكم بن عمر قال عنه الذهبي في الميزان 1/578، قال يحيى: "ليس بشيء لا يكتب حديثه"، وقال النسائي: "ضعبف". فهذه الرواية لا تقوى على معارضة ما ذكره الأئمة وأثبتوه من أن قتادة اتهم بالقدر. وعندنا ولله الحمد لا يعرف الحق بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق، فمن قال بالحق قبل ومن خالفه رد عليه، وقتادة من الأئمة الكبار حتى قال فيه الإمام أحمد: "كان قتادة عالماً بالتفسير وباختلاف العلماء" ثم وصفه بالحفظ وأطنب في ذكره وقال: "قلما تجد من تقدمه". وقال سفيان: "وهل كان في الدنيا مثل قتادة" فمع قوله بالقدر لم يتركه الأئمة لجلالته واجتهاده، قال الذهبي: "ذكر قوله في القدر، ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده ولا يسأل عما يفعل، ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زَلَلُه ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ونرجو له التوبة من ذلك"، انتهى - وهذا كلام عدل فرحم الله أئمة الإسلام - انظر: سير أعلام النبلاء 5/270-277، التهذيب 8/351-356. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 وأنا أذكر ما ذكره عنهم أصحاب الحديث في الأصول المشهورة عند علماء الأمصار. يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: "لو أن الله كلف العباد العمل على قدر عظمته لما قامت لذلك سماء ولا أرض ولا جبل ولا شيء من الأشياء، ولكنه أخذ منهم اليسير، ولو أراد أن لا يعصى لم 1 يخلق إبليس رأس المعصية"2. وقال الأوزاعي: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن له كتاباً فكان فيما كتب إليه أن يسأل الله الذي بيده القلوب يصنع بها ما يشاء من ضلالة وهدى"3. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: "ما طن4 ذباب بين اثنين إلا بكتاب وقدر"5. وقال رجل للحسن البصري: لهذه أي للسماء خلق آدم أم للأرض؟، فقال: بل للأرض، فقال له: أرأيت لو اعتصم من الخطيئة فلم يعملها أكان يترك في الجنة؟ قال: سبحان الله كان له بد من أن يعملها، قال: قلت له:   1 في - ح- (لما خلق) . 2 أخرجه اللالكائي في السنة 4/679، وأخرج الآجري في الشريعة نحوه ص 231. 3 أخرجه اللالكائي في السنة 4/679. 4 طن من الطنين وهو صوت الذباب. مختار الصحاح ص 398. 5 أخرجه اللالكائي في السنة 4/680ن والآجري في الشريعة ص 230- 232. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 يا أبا سعيد قوله عزوجل: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} قال1: ما أنتم عليه بمضلين إلا من قدر له أن يصلي2 الجحيم3. وعن الحسن البصري في قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ4 فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} 5 قال: "الشرك يخلقه الله في قلوبهم"6. وروى تمام بن نجيح7 أن رجلاً أتى الحسن البصري وأخذ بعنان دابته وقال: زعمت أن من قتل مظلوماً فقد قتل في غير أجله، قال: "فمن يأكل بقية رزقه يا لكع خل الدابة، قتل في أجله"، قال: فقال الرجل: والله ما أحب أن لي بما سمعت منك اليوم ما طلعت الشمس عليه8. وروي عن الحسن البصري أنه قال: "الشقي من شقي في بطن أمه"9. وعن عاصم10 قال: سمعت الحسن البصري في موضعه الذي مات فيه يقول: "إن الله قدر أجلاً وقد معه مرضاً وقدر معه معافاة، فمن كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن، ومن كذب بالقرآن فقد كذب بالحق"11.   (قال) غير ظاهرة في الأصل وهي في - ح وكذلك في مصادر الأثر. 2 في - ح- (إلا من هو صال) . 3 أخرجه اللالكائي في السنة 3/568، والآجري في الشريعة ص 218 ولم يذكر قوله في الآية. 4 في النسختين (نسلكه) وهو خطأ. 5 الشعراء آية (200-201) . 6 أخرجه الطبري في تفسيره 19/115 نحوه، واللالكائي في شرح السنة 3/555. 7 تمتم بن نجيح الأسدي الدمشقي نزيل حلب. قال ابن حجر: ضعيف. التقريب ص 49. وانظر: ميزان الاعتدال 1/359. 8 أخرجه اللالكائي في السنة 4/680. 9 أخرجه اللالكائي في السنة 4/681. 10 لم أتبين من هو (عاصم) إذ لم ينسب عند اللالكائي. 11 أخرجه اللالكائي 4/682. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 وعن عوف1 قال: سمعت الحسن البصري يقول: "من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام، ثم قال: إن الله خلق خلقاً فخلقهم بقدره وقسم الآجال وقسم أرزاقهم بقدر والبلاء والعافية بقدر"2. وقال أيوب3: "كذب على الحسن البصري صنفان: قوم دأبهم4 القدر فكذبوا عليه أنه قدري لينفقوا قولهم بذلك. وقوم في قلوبهم له شنآن وبغض يقولون من قوله كذا 5، وليس من قوله كذا"6. وروي عن علي7 بن الحسين - رضي الله عنهما8- أنه قال: "إن أصحاب القدر حملوا مقدرة الله على ضعف رأيهم قالوا، لم، ولا ينبغي أن يقال لله لم"9. وروي أنه جاء رجل من أهل البصرة فسأل عن محمد ابن علي بن الحسين بن علي10 – رضي الله عنهم -11 فقيل هو ذاك الغلام قال: فجئت   1 عوف بن أبي جميلة العبدي الهجري أبو سهل البصري قال ابن حجر: ثقة رمي بالقدر والتشيع، توفي سنة (146?) ، التقريب ص 267. 2 اللالكائي في السنة 4/682. 3 هو أيوب السختياني. 4 هكذا في النسختين وعند اللالكائي (رأيهم) . (كذب) في النسختين في الموضعين ولا معنى لها، وفي المطبوع من السنة للالكائي (كذا) ومعناه ظاهر. 6 أخرجه اللالكائي في السنة 4/682، وذكره الذهبي في السير 4/580 نحوه. 7 علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبو الحسين زين العابدين. قال الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل من علي بن الحسين توفي (93?) . انظر: التهذيب 7/304. 8 في الأصل (عليهما السلام) وهي في - ح- كما أثبت وهو الأولى. 9 أخرجه اللالكائي 4/684. 10 محمد بن علي بن الحسين بن علي أبي طالب الهاشمي أبو جعفر الباقر أمه بنت الحسن ابن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه - معدود في فقهاء المدينة من التابعين توفي سنة (114?) . انظر: التهذيب 9/350. 11 في الأصل (عليهم السلام) وما أثبت من - ح-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 إليه قال: فقلت يا سيدي: إني وافد أهل البصرة إليك، وذاك أن القدر قد فشى في البصرة، وقد ارتد أكثر الناس وأريد أن أسالك عنه، قال: سل، فقلت: أحببت الخلوة، فقام ومشى معي حتى خلا، فقال لي: سل، قال قلت: الخبر؟، قال لي: "اكتب علم وقضى وقدّر وشاء1 وأراد ورضي وأحب"، قال: قلت زدني قال: فقال لي: هكذا أخرج إلينا سل، قال: قلت: الشر؟ قال: اكتب علم وقضى وقدر وشاء وأراد ولم يرض ولم يحب، قال: قلت: زدني، قال: هكذا أخرج إلينا. قال الرجل: فرجعت إلى البصرة فنصب لي منبر في المسجد الجامع، فاجتمع الناس فقرأت عليهم ما كتب، فرجع أكثر الناس2. وروي أن رجلاً من الشيعة جاء إلى جعفر بن محمد الصادق 3،فقال: إن القدرية يقولون لنا إنكم كفار قال: فقال له: "اكتب عن الله لا يطاع قهراً، وإن الله لا يعصى قهراً، فإذا أراد الله الطاعة كانت، وإذا أراد المعصية كانت فإن عذب بحق، وإن عفا فبالفضل"4. وروي أن رجلاً جاء إلى زيد بن علي بن الحسين5 - رضي الله عنهم - فقال: يا زيد أنت الذي تزعم أن الله أراد أن يعصى قال له زيد: "أفيعصى عنوة"6.   1 في الأصل (فشاء) وما أثبت يوافق ما في - ح- والمطبوع من السنة للالكائي. 2 أخرجه اللالكائي في السنة 4/685. 3 جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو عبد الله الصادق، قال ابن حبان: "كان من سادات أهل البيت فقهاً وعلماً وفضلاً يحتج بحديثه من غير رواية أولاده عنه"، توفي سنة (148?) . انظر: التهذيب 2/104. 4 أخرجه اللالكائي 4/685. 5 زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - الذي تنسب إليه الزيدية قال الذهبي: "كان ذا علم وجلالة وصلاح هفا وخرج فاستشهد سنة (122?) وعمره (42) عاماً". سير أعلام النبلاء 5/389، التهذيب 3/419. 6 أخرجه اللالكائي 4/686. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 وروي أن غيلان1 قال لربيعة بن أبي2 عبد الرحمن3: يا أبا عثمان أيرضى الله أن يعصى؟، فقال له ربيعة: "أفيعصى قسراً"4. وروي عن محمد بن الحنفية5 أنه قال: "من أحب رجلاً على عدل ظهر منه وهو في علم الله من أهل النار آجره الله كما لو كان من أهل الجنة، ومن أبغض رجلاً على جور ظهر منه وهو في علم الله من أهل الجنة آجره الله كما لو كان من أهل النار"6. قال إياس بن معاوية7 لرجل من القدرية: "ما الظلم فيكم؟، قال: أن يأخذ الإنسان ما ليس له، فقلت له: فإن لله كل شيء"8. وقال وهب بن منبه9: "قرأت نيفاً وتسعين كتاباً من كتب الله فوجدت فيها كلها أن من وكل إلى نفسه شيئاً من القدر فقد كفر"10.   1 غيلان بن أبي غيلان الدمشقي قتله هشام بن عبد الملك في القدر. قال عنه الذهبي: ضال مسكين كان من بلغاء الكتاب، وذكر عنه الإسفرائيني أنه يجمع بين القد والإرجاء. انظر: ميزان الاعتدال 3/338، الفرق بين الفرق ص 206. 2 في الأصل (ابن عبد الرحمن) وهو خطأ والتصويب من مصادر ترجمته. 3 ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ الإمام مفتي المدينة أبو عثمان المشهور بربيعة الرأي توفي سنة (136?) ز سير أعلام النبلاء 6/89، التهذيب 3/358. 4 أخرجه اللالكائي 4/686. 5 ابن الحنفية هو محمد بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحنفية امه وهي خولة بنت جعفر من موالي بني حنيفة قال إبراهيم بن الجنيد: لا نعلم أسند عن علي أثر ولا أصح مما أسند ابن الحنفية توفي سنة (81?) ، سير أعلام النبلاء 4/11، التهذيب 9/354. 6 أخرجه اللالكائي 4/690. 7 إياس بن معاوية بن قرة بن إياس بن هلال المزني أبو وائلة قاضي البصرة كان يضرب به المثل في الذكاء والدهاء والسؤدد والعقل. توفي سنة (121?) . سير أعلام النبلاء 5/155، التهذيب 1/391. 8 أخرجه الآجري في الشريعة ص 220، وأبو نعيم في الحلية 3/124. 9 وهب بن منبه بن كامل بن سيج بن ذي كبار أبو عبد اله الأبناوي اليماني الذماري الصنعاني أخو همام بن منبه، قال الذهبي: روايته للمسند قليلة، وإنما غزارة علمه في الإسرائيليات ومن صحائف أهل الكتاب. توفي سنة (110?) . السير 4/544. 10 أخرجه اللالكائي 4/683، وأبو نعيم في الحلية 4/24ن والآجري في الشريعة ص237، وفي إسناده عيسى بن سنان الحنفي ذكره في التقريب 271 وفال: لين الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 وقال يزيد بن زريع1 لعمر بن محمد العمري2: "رجل يثبت القدر ويعلم بقلبه أنه مؤمن به ولم يتكلم فيه، أحب إليك أو رجل مؤمن يتكلم فيه، قال: لا، والله إلا من تكلم به حتى يتبين ضلالتهم"3. وقال زيد بن أسلم4: "ما أعلم قوماً أبعد من الله عزوجل من قوم يخرجونه من مشيئته"5، ثم6 قال زيد بن أسلم: "والله ما قالت القدرية كما قال الله عزوجل، ولا كما قالت الملائكة، ولا كما قال النبيون، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه رَبُّ الْعَالَمِينَ} 7، وقالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاّ مَا عَلَّمْتَنَا} 8، وقال شعيب عليه السلام: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} 9، وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 10، وقال أهل النار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} 1 1. وقال أخوهم إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} 12".   1 وقع في اسمه خطأ في الأصل (يزيد بن ربيع) وفي - ح- زيد بن ربيع وهو يزيد بن زريع أبو معاوية البصري الحافظ. قال الإمام أحمد: "كان ريحانة البصرة توفي سنة (182?) "، التهذيب 11/325، التقريب ص 382. 2 عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمري العدوي قال سفيان الثوري: "لم يكن في آل عمر أفضل من عمر بن محمد" مات قبل سنة (150?) . التهذيب 7/496، التقريب ص256. 3 في - ح- (حتى تبين لهم ضلالتهم) ، وهو كذلك في المطبوع من السنة للالكائي، وهذه الرواية أخرجها اللالكائي في السنة 4/690. 4 زيد بن أسلم العدوي المدني ثقة عالم، وكان يرسل. توفي سنة (136?) . التقريب ص 112. 5 أخرجه الآجري في الشريعة ص 221. 6 هكذا في النسختين (ثم) والصواب أن يعطف بـ (واو) لأنهما روايتان وليست رواية واحدة. 7 التكوير آية (29) . 8 البقرة آية (32) . 9 الأعراف آية (89) . 10 الأعراف آية (43) . 11 المؤمنون آية (106) ، ومعنى الآية أن أهل النار يقولون: "ربنا غلب علينا ما سبق لنا في سابق علمك وخط لنا في أم الكتاب". انظر: تفسير ابن جرير 18/56. 12 الحجر آية (39) ، وأخرج هذا الأثر الآجري في الشريعة في موضعين ص 162- 22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 وسئل الحسن البصري عن القدر؟ فقال: "إن الله تعالى خلق الخلق للابتلاء لم يطيعوه بإكراه ولم يعصوه بغلبة ولم يهملهم من الملك، وهو القادر على ما أقدرهم عليه، والمالك لما1 ملكهم إياه، لأنه قال سبحانه: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} 2. فإنما يأتمروا بطاعة لم يكن الله مثبطاً لهم، بل يزيدهم هدى إلى هداهم وتقوى إلى تقواهم وأن يأتمروا بالمعصية فهو القادر على أن يصرفهم إن شاء، وإن خلى بينهم وبين المعصية فمن بعد إعذار وإنذار"3. وقيل لمحمد بن واسع4: يا أبا عبد الله ما تقول في القدر؟، قال: "أقول إن الله إذا جمع الخلائق سألهم عما افترض عليهم ولم يسألوه عما قضى عليهم"5. وقال رجل لإياس بن معاوية إلى متى يتوالد الناس ويموتون؟ قال: "إلى أن   1 في - ح- (على) . 2 آل عمران آية (178) . 3 لم أقف على من خرجه مع أنه ليس وافياً في بيان عقيد ة السلف في القدر، فإن الناس لا يأتمرون بطاعة ولا معصية إلا بمشيئة الله وإرادته وخلقه، فمن اهتدى فهو الذي هداه، ومن ضل فالله أضله وله عليه الحجة البالغة بالإعذار والإنذار ورفع الموانع الحاجة عن العمل قال عزوجل: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فلما ذكر الله عزوجل وعده بأن يملأ جهنم من الجنة والناس عقب على ذلك بأن ذلك كان أيضاً بسبب نسيانهم لله وما وقع منهم من تفريط وأعمال تغضبه جل وعلا. 4 محمد بن واسع بن جابر بن الأخنس أبو بكر الأزدي البصري. قال الذهبي: "الإمام الرباني أحد الأعلام"، وقال ابن حجر عن ابن حبان إنه قال: "كان من العباد المتقشفة والزهاد المتجردين للعبادة" وكان قد خرج إلى خراسان غازياً وفضائله ومناقبه كثيرة جداً، توفي سنة (123?) . انظر: السير 6/119، التهذيب 9/499. 5 أخرج أبو نعيم في الحلية 2/354 نحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 يتكامل العدتان عدة أهل الجنة وعدة أهل النار، قال: صدقت"1. وروي أنه اصطحب مجوسي وقدري، فقال القدري للمجوسي: مالك لا تسلم، قال: إذا شاء الله أسلمت، قال له القدري: قد شاء الله أن تسلم ولكن الشيطان لا يدعك، فقال المجوسي: فأنا مع أقواهما2 فرجع القدري عن مقالته3. وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير4: "نظرت فإذا ابن آدم ملقي بين يدي الله تعالى وبين يدي إبليس، فإن شاء الله أن يعصمه عصمه، وإن تركه ذهب به إلى إبليس"5. وقال مطرف: "نظرت في هذا الأمر فإذا بدوه من الله، ونظرت فإذا تمامه على الله، ونظرت ما ملاكه؟ فإذا ملاكه الدعاء"6.   1 أخرج أبو نعيم في الحلية 3/123 نحوه أطول منه. 2 في - ح- (أنا مع الشريك الأقوى) . 3 ذكر الآجري في السريعة ص 244 عن عمرو بن العيثم قال: "خرجت في سفينة إلى الآبله أنا وقاضيها هبيرة بن العديسي قال: وصحبنا مجوسي وقدري"، فذكره بنحوه. 4 مطرف بن عبد الله بن الشخير، قال الذهبي: الإمام القدوة ِأبو عبد الله الحرش العامري البصري، قال العجلي: "ثقة من كبار التابعين". انظر: سير أعلام النبلاء 4/187، التهذيب 10/173. 5 أخرجه اللالكائي في السنة 4/682، والآجري في الشريعة ص 220. 6 أخرجه اللالكائي في السنة 4/682. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 93- فصل شبهة لقدرية بقوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} 1. ولنا عن هذه الآية جوابان: أحدهما: ما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في تفسير هذه الآية {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} "يعني من فتح وغنيمة2 فمن الله، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة ٍ} أي من بلية {فَمِنْ نَفْسِكَ} أي فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك"3. وهذا كقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 4. وأصل هذا أن المنافقين كانوا إذا أصابهم فتح وغنيمة قالوا: هذا من عند الله، وإذا أصابهم بلية وهزيمة قالوا هذا من محمد صلى الله عليه وسلم ومن شنآنه، فأخبر الله عنهم بقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} ببدر يعني وهي الفتح والغنيمة {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} يعني القتل بأحد5 {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} ، فأكذبهم الله وقال: قل يا محمد: قُل {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} ، ثم قال بعد ذلك على وجه الإنكار   1 النساء آية (79) . 2 في الأصل (الغنيمة) وهي - ح- كما أثبت. 3 أخرجه ابن جرير 5/175 بنحوه، واللالكائي في السنة 3/553. 4 الشورى آية (30) . 5 ذكر القرطبي في تفسيره 5/284 خمسة أقوال في المراد بالحسنة والسيئة كلها ترجع إلى أن المراد بالحسنة السراء والمراد بالسيئة الضراء. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "بعض الناس يظن أن المراد هنا بالحسنات والسيئات الطاعات والمعاصي فيتنازعون، هذا يقول كل من عند الله، وهذا يقول الحسنة من الله والسيئة من نفسك، وكلاهما أخطأ في فهم الآية، فإن المراد بالحسنات والسيئات النعم والمصائب كما في قوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي امتحناهم واختبرناهم بالسراء والضراء". الفتاوي 8/239. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 عليهم: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} ومعناه أفمن نفسك، فحذف ألف الاستفهام وهو مراد في الكلام لدلالة الحال1، كقوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} 2. ومعناه ويقولون ربنا ما خلقت هذا باطلاً فحذف ويقولون لدلالة الحال عليه. والجواب الثاني: أن الآية تقتضي أن أفعال الطاعة خلق لله لأنه أضافها إلى نفسه، والقدرية يقولون إن أفعال العباد كلها في الطاعة والمعصية خلق للعباد، فإذا ثبت ذلك لله في أفعال الطاعة ولزمهم ذلك في أفعال المعاصي لأن أحداً لم يفرق بينهما3. فأجاب المخالف القدري عن هذا بأن قال: إنما أضاف الحسنات إليه لأنه أمر بها وأرادها، ولم يضفها إليه لأنه خلقها، ولم يضف السيئات إليه لأنه لم يأمر بها ولم يردها ولم يخلقها4.   1 ذكر هذا القول القرطبي من ضمن الأقوال في الآية ولم يبين قائله. انظر: تفسير القرطبي 5/285، وهذا القول يعتبر هنا قولاً ثانياً لأنه لا يتفق مع ما ذكره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - الذي هو الأظهر والأرجح في معنى الاية، وهو الذي ذكره ابن جرير وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير وغيرهم. انظر: تفسير ابن جرير 5/175، الفتاوى 8/239، تفسير ابن كثير 1/527. 2 آل عمران آية (191) . 3 ذكر الآجري - رحمه الله - رداً على القدرية غير ما ذكر هنا وهو أن الله قال: {مَا أَصَابَكَ} فدل على أن الله هو الذي فعل فيه هذا من خير أو شر ونص كلامه عزوجل: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} الآية، أليس الله أصابه بها خيراً أو شراً؟ فاعقل يا جاهل، أليس قال الله تعالى: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} ، وقال عزوجل: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} وقال عزوجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وهذا في القرآن كثير، ألا ترى أن الله عزوجل يخبرنا أن كل مصيبة تكون بالعباد من خير أو شر فالله عز وجل يصيبهم بها وقد كتب مصابهم في علم قد سبق وجرى به القلم. الشريعة ص 247. 4 لم يذكر أحد من المفسرين أن المراد هنا بالحسنة والسيئة أنها الطاعة والمعصية، والذي ذكره القرطبي من الأقوال تدور كلها حول النعمة التي ينعم الله به على الإنسان، أو البلية التي يبتليه الله بها فيكون على هذا المراد بالحسنة والسيئة في هذه الآية نحو المراد بها في قوله تعالى هن آل فرعون لما أصابهم الله بالحديث ونقص الثمرات {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} انظر: تفسير ابن كثير 1/527، وذكره القرطبي بتوسع 5/286. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 والجواب عن هذا أنه قد أضافها إلى نفسه بقوله تعالى: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ولا يمكن حمل إضافتها إلى نفسه هاهنا إلا على خلقه لهما وإرادته لهما لا على الأمر منه بهما، لأنه لا يأمر بالسيئات بالإجماع. ثم قال القدري بعد ذلك: وأما قوله: {فَمِنْ نَفْسِكَ} أي فمن ذنب أذنبته نفسك. وقد وافقت أيها المستدل أنه يوجد من النفوس ذنوباً لأجلها صار1 يعاقب، وهذا تسليم منه، وقد أنطقه الله الذي أنطق كل شيء. والجواب عن قوله هذا أن يقال له: لا ننكر أن الذنب يضاف إلى المذنب لكونه مكتسباً والله خالق لحركاته فيه ويعاقب ويثاب على اكتسابه فيه لا على خلق الله، ثم نقول له: وقد وافقت أيضاً أن الله أنطق المستدل الذي أنطق كل شيء وحقيقة الإنطاق هو خلق الله المنطق فيه2.   1 هكذا في الأصل وفي - ح- (صار بها يعقب) والمعنى واضح إلا أن الجملة ركيكة. (فيه) ليس في - ح-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 94- فصل شبهة للقدرية في قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} 1 ولهم في الآية تعلقان: أحدهما: أنه نسب المشيئة إليهم في الإيمان والكفر. والثاني: أنه خيرهم بين الإيمان والكفر2. ولنا على هذا جوابان: أحدهما: روي عن ابن عباس أنه قال: "من شاء الله فليؤمن ومن شاء الله فليكفر"3. والجواب الثاني: أن نسبة المشيئة إليهم لا يدل على أنها خلق لهم بل الله خالق لهم ولمشيئتهم، ومشيئتهم متعلقة بمشيئته4، لقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 5. وأما قولهم إن الله خيرهم بين الإيمان والكفر فهذا جهل منهم بصيغة الأمر وحكمته. فيقال لهم: لو كان هذا تخييراً من الله لهم لم يعذبهم على الكفر ولم يذموا عليه كما لا يعذبون ولا يذمون على التكفير بالإطعام أو الكسوة أو العتق لما خيرهم الله بذلك6.   1 الكهف ىية (29) . 2 انظر كلام القاضي عبد الجبار المعتزلي عن هذه الآية في: شرح الأصول الخمسة ص 362. 3 أخرجه ابن جرير 15/237، واللالكائي في السنة 3/551. 4 في - ح- (بمشيئة الله) . 5 الإنسان آية (30) ، التكوير آية (29) . 6 عني بذلك التخيير في كفارة اليمين وذلك في قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} المائدة آية (89) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 وأما قولهم: إن الله خيرهم بين الإيمان والكفر فهذا جهل منهم بصيغة الأمر وحكمته. فيقال لهم: لو كان هذا تخييراً من اله لهم لم يعذبهم على الكفر ولم يذموا عليه كما لا يعذبون ولا يذمون على التكفير بالإطعام أو الكسوة أو العتق لما خيرهم الله بذلك1. ويقال لهم2 المراد بهذا الأمر التهديد لا التخيير3. فأجاب القدري عن هذا وقال: أما قول المستدل إنه تهديد فيدل على أن الكفر فعلهم، إذ لو لم يكن فعلاً لهم لما تهددهم به. والجواب أن يقال: إنه تهديد بهذا كما يهددهم بقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ4 بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 5 ولم يخيرهم بالعمل وإنما توعدهم على العمل بغير بطاعة. ومثل ذلك قوله تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ6 قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} 7 الآية. وكذلك توعدهم في هذه الآية8 بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} ، فأضاف إليهم الإيمان والكفر لأنهما كسب لهم ومحل لخلق الله ذلك فيهم، كما أضاف الأفعال إلى الأرض والفلك لأنها محل لخلق الله ذلك فيها. ثم قال9: وأما تعليق مشيئتهم بمشيئة الله فإنما علق مشيئتهم بمشيئته في الطاعات بقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1 0 وكذلك قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ   (لهم) ليست في - ح-. (لهم) ليست في - ح-. 3 في الأصل (للتخيير) وفي - ح- كما أثبت. 4 في الأصل (إني) وهو خطأ. 5 فصلت آية (40) . (من دونه) ليست في الأصل، وهي في - ح- وهو الصواب. 7 الزمر آية (15) . 8 يعني بذلك قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} حيث ذكر عقبها {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} وقد ذكر ابن جرير - رحمه الله - أن الآية إنما هي تهديد ووعيد وليست تخييراً وأسند ذلك عن مجاهد. وقال ابن زيد في هذه الآية: وقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} "هذا كله وعيد ليس مصانعة ولا مراشاة ولا تفويضاً". تفسير ابن جرير 15/238. 9 أي للمخالف القدري. 10 الإنسان آية (29-30) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 اللَّهُ} 1 بالمعاصي التي وقع فيها الخلاف2. والجواب: أن قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وإن كان مذكوراً عقب الطاعة إلا أنه مستقل بنفسه تعم مشيئته في الطاعة والمعصية، ولأن الله تعالى قال في آية أخرى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 3 دل على أنه إذا لم يشأ الله ذكرهم4 له لم يذكروه. وروي أن غيلان القدري سأل عمر بن عبد العزيز عن قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 5. فقال له عمر بن عبد العزيز: إقرأ آخر السورة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . فقال غيلان: "قد كنت يا أمير المؤمنين أعمى فبصرتني وضالاً فهديتني"، فلما كان زمن هشام بن عبد الملك6 رجع إلى مقالته بالقدر، فقتله هشام ابن عبد الملك7. وقد روينا8 عن زيد بن أسلم أنه قال: "والله ما قالت القدرية كما قال الله ولا كما قالت الملائكة - إلى أن قال - قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه} "9، وهذا تصريح منه بأن الله شاء من العباد ما وقع منهم من طاعة ومعصية.   1 التكوير آية (28-29) . 2 قد تقدم بيان أن المعتزلة ينكرون المشيئة العامة، وكذلك الإرادة العامة لكل شيء في الفصول السابقة، ومعنى كلام المخالف هنا بإثبات المشيئة في الطاعة دون المعصية إثبات الإرادة، لأن المشيئة والإرادة عنده شيء واحد، والإرادة عنده تتعلق بنوع واحد من أفعال العباد وهي الطاعات الواجبة والمندوبة فقط. وقد تقدم بيان هذا وتفصيله. 3 المدثر آية (55056) . (ذكرهم) ليست في الأصل، وهي مثبتة في - ح-. 5 الإنسان آية (1-3) . 6 هشام بن عبد الملك أمير المؤمنين الخلبفة الأموي تولى الخلافة سنة (105?) بعد أخيه يزيد بن عبد الملك وتوفي سنة (125?) . البداية والنهاية 9/395. 7 أخرج هذه الرواية الآجري في الشريعة ص 228. 8 يقصد المصنف هنا أنه تقدم رواية زيد بن أسلم، أو أنه قال هذا اللفظ (روينا) لأنه عزاها إلى اللالكائي وكان عنده إسناد إلى اللالكائي، والله أعلم. 9 تقدم تخريجه ص 522. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 وروى الربيع1 أن الشافعي - رحمه الله - سمع قوماً يتجادلون في القدر فقال الشافعي: أخبر الله أن المشيئة له دون خلقه، والمشيئة إرادة الله، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه} 2. وروي في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يفتح آخر الزمان باب من القدر لا يسده شيء، يكفيكم منه أن تقولوا: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 3 "4. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً وخلق فرعون في بطن أمه كافراً"5.   1 الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي مولاهم أبو محمد المصري المؤذن صاحب الشافعي وراوية كتبه عنه، قال ابن حجر: "ثقة" توفي سنة (270?) . التهذيب 3/245، التقريب ص 101. 2 أخرجه اللالكائي 3/570. 3 الحج آية (70) . 4 أخرجه الديلمي في مسند الفردوس. انظر: فردوس الأخيار 2/458، واللالكائي في السنة 3/571 من حديث هشام بن سعد عن سليمان بن حفص القرشي، قال: "بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول … " فذكره، والحديث مرسل وسليمان بن حفص مجهول ما ذكر ذلك أبو حاتم والذهبي. انظر: الجرح والتعديل 4/105، الميزان 3/199. تنبيه: في المطبوع من السنة للالكائي كتب سليمان بن جعفر وقال محققه: "لم أجده والصحيح أنه سليمان بن حفص وهو القرشين فلعله تصحف عليه يبين هذا أن ابن حجر في ترجمة المذكور قال: "روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً مرسلاً في ذكر القدر وعنه هشام بن سعد". انظر: التهذيب 4/180. 5 أخرجه الطبراني في الكبير 1/276، وابن عدي في الكامل 6/2221، واللالكائي في السنة 3/573، والديلمي. انظر: فردوس الأخبار 2/303 كلهم عن أبي هلال الراسبي عن أبي قتادة حسان الأعرج عن ناجية بن كعب عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - به. وهذا الإسناد فيه ضعف فإن أبا هلال الراسبي وهو محمد بن سليم، أحاديثه عن قتادة غير محفوظة قال ذلك ابن عدي وقال فيه أيضاً: "في بعض رواياته ما لايوافقه عليه الثقات وهو ممن يكتب حديثه"، وقال ابن حجر: "فيه لين". انظر: الكامل 6/222) ، الميزان 3/574، التقريب ص 299. وأخرجه اللالكائي عن قتادة من طريق أخرى وإسناده ضعيف جداً، فإن الراوي عن قتادة نصر بن طريف أبو جَزْء القصاب ذكره في الميزان وقال: قال يحيى: "من المعروفين بوضع الحديث"، وقال الفلاس: "وممن أجمع عليه من أهل الكذب أنه لا يروى عنهم قوم منهم أبو جزء القصاب نصر بن طريف". الميزان 4/251. وأخرجه ابن عدي من طريفين آخرين عن قتادة به: الأول: من طريق يحيى بن بَسَطام العَبدي عن ابن هشام الدستوائي عن قتادة. ويحيى ابن بسطام ضعفه البخاري، وقال ابن حبان عنه: "كان قدرياً داعية إلى القدر لا تحل الرواية عنه لهذه العلة، ولما في روايته من المناكير التي تخالف رواية المشاهير". انظر: المجروحين لابن حبان 3/118، الميزان 4/366. أما الطريق الأخرى فعن أيوب بن خوط عن قتادة به. وأيوب قال فيه الدارقطني والنسائي: "متروك الحديث"، وقال الأزدي: "كذاب". انظر: الميزان 1/286. وأخرجه اللالكائي بإسناد آخر من طريق عبد العزيز بن عبد الله أبو وهب عن شعبة عن أبي إسحاق عن ناجية عن ابن مسعود - رضي الله عنه - به. وأبو وهب قال فيه ابن عدي: "عامة ما يرويه لا يتابعه عليه الثقات". الكامل 5/1931، ورمز السيوطي للحديث بأنه حسن. انظر: فيض القدير 2/449، وقال الهيثمي عن إسناد الطبراني: "إنه جيد". مجمع الزائد 7/193 وذكره الألباني في الأحاديث الصحيحة، وقال: "وجملة القول أن هذه الطرق عن قتادة كلها واهية جدً سوى طريق أبي هلال الراسي فهو خير منها بكثير، وهي في نقدي حسنة". سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/447. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 وعن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ1 الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2، قال: "هم الكفار الذين خلقهم الله للنار وخلق النار لهم فزالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة"3. وروى عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت داعياً ومبلغاً وليس إلي من الهدى شيء وخلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلالة شيء" 4.   1 في كلا النسختين وكذلك المطبوع من السنة للالكائي (أولئك الذين..) وهو خطأ. 2 الزمر آية (15) . 3 أخرجه ابن جرير في تفسيره 23/205، واللالكائي في السنة 4/577. 4 أخرجه اللالكائي في السنة 4/606، وابن الجوزي في الموضوعات 1/273. وفي إسناده خالد ابن عبد الرحمن أبو الهيثم، قال ابن الجوزي: "قال العقيلي: خالد بن عبد الرحمن ليس بمعروف النقل ولا يعرف لهذا الحديث أصل". وأورد الحديث الذهبي في الميزان 1/634 في ترجمة خالد ابن عبد الرحمن، ونقل عن الدارقطني قوله فيه: "لا أعلم روى غير هذا الحديث الباطل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 95- فصل روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما هلكت أمة قط إلا بالشرك بالله، وما أشركت بالله حتى يكون بدو شركها التكذيب بالقدر"1. وروي عن عمرو بن شعيب قال: "كنت عند سعيد بن المسيب فجاءه رجل فقال: إن الناس يقولون إن الله قدر كل شيء ما خلا الأعمال، قال: فغضب غضباً لم يغضب مثله، حتى هم بالقيام ثم قال: فعلوها ويحهم لو يعلمون. أما إني قد سمعت فيهم حديثاً كفاهم شراً، قلت: وماذا2 يا أبا محمد رحمك الله قال: حدثني رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون في أمتي قوم يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون قال: قلت: يقولون ماذا يا رسول الله، قال: يقولون: الخير من الله والشر من إبليس، ويقرأون على ذلك كتاب الله ويكفرون بالله وبالقرآن بعد الإيمان والمعرفة، فما تلقى أمتي منهم من العداوة والبغضاء، ثم يكون المسخ فيهم عاماً3 قردة وخنازير، ثم يكن الخسف قل من ينجو منهم، المؤمن يومئذ   1 أخرجه اللالكائي في السنة 4/624، وابن أبي عاصم في السنة 1/141، والآجري في الشريعة ص191، والطبراني في الصغير 2/104 كلهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. قال الطبري: "لم يروه عن عمر بن عبد العزيز إلا عمرو بن مهاجر ولا عن عمرو إلا عمر بن عبد العزيز النصري، تفرد به محمد ابن شعيب" انتهى. قلت: عمر بن عبد العزيز رواه عن يحيى بن القاسم بن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبيه عن جده. قال ابن حبان عن عمر ابن يزيد النصري: "كان ممن يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، لا يجوز الاحتجاج به على الإطلاق وإن اعتبر بما يوافق الثقات فلا ضير". المجروحين 2/88، وفي الإسناد يحيى بن القاسم بن عبد الله بن عمرو وأبوه كلاهما ذكرهما أبو حاتم ولم يذكر فيهما جرحاً ولا تعديلاً فهما مجهولا الحال. انظر: الجرح والتعديل 7/111، 9/182، وأخرج الحديث اللالكائي عن عمر بن عبد العزيز مرفوعاً وهذا إسناد منقطع، وفي إسناده مسلمة بن علي الخشني قال ابن حجر: "متروك". انظر: التقريب ص337. 2 هكذا في النسختين وفي مصادر الرواية (وما ذاك) . 3 في النسختين (عام) وما أثبت كما في اللالكائي وهو الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 قليل فرحه شديد غمه، ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بكينا لبكائه قيل يا رسول الله: ما هذا البكاء، قال رحمة لهم الأشقياء، إن فيهم المجتهد وفيهم المتعبد وليسوا بأول من سبق إلى هذا القول وضاق بحمله ذرعاً. إن عامة من هلك من بني إسرائيل هلك بالتكذيب بالقدر، قيل يا رسول الله: فما الإيمان بالقدر؟، قال: أن تؤمن بالله وحده وتؤمن بالجنة والنار، وتعلم أن الله خلقهما قبل خلق الخلق، ثم خلق الخلق لهما، ثم جعل من شاء منهم للجنة، وجعل من شاء منهم للنار، وكل من يعمل على أمر قد فرغ منه وصائر لما خلق له"1. وروي أن عيسى بن مريم لقي إبليس فقال له عيسى: "أما علمت ألا يصيبك إلا ما قدر لك، فقال إبليس: فأوف2 بذروة هذا الجبل فترد منه، فقال: إن العبد لا يبتلي ربه ولكن الله يبتلي عبده فخصمه"3. روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قد مر رجل4 بمكة في أول الإسلام وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذا الريح، فأبصر سفهاء من الناس ينادون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: مجنون، فقال: لو لقيت هذا الرجل، فلقيه فقال: يا محمد إني رجل إذا رقيت من هذه الريح يشفي الله على يدي   1 أخرجه اللالكائي في السنة 4/617، والآجري في الشريعة 192-193، والطبراني في الكبير 4/245 كلهم من طريقين، الرواية الأولى من طريق ابن لهيعة عن عمرو ابن شعيب، وفي رواية ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب كلام للعلماء في أنه لم يسمع منه. انظر: التهذيب 5/347، وقال ابن أبي حاتم في علل الحديث بعد أن ذكر هذه الرواية: "سمعت أبي يقول هذا حديث عندي موضوع". علل الحديث 2/434، والرواية الأخرى من طريق عطية عن عطاء بن أبي رباح عن عمرو بن شعيب قال الذهبي في الميزان 3/80: "عطية بن عطية عن عطائ لا يعرف وأتى بخبر موضوع طويل"، قلت: فلعله يعني هذا الحديث. 2 في - ح- (قف) وفي الأصل كأنها ها، قف) وهي في مصادر الرواية كما أثبت. 3 أخرجه عبد الرزاق في المصنف 11/113، واللالكائي في السنة 4/619 كلهم عن ابن طاووس عن أبيه. وروى نحوه أبو نعيم في الحلية 4/52، عن وهب بن منبه. 4 الرجل هو ضماد الأزدي كما صرح بذلك مسلم والإمام أحمد في المسند. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 من شاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله نحمده ونستعينه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً1 عبده ورسوله أما بعد: فقال: أعد علي هؤلاء الكلمات فأعادهن، فقال: لقد سمعت قول السحرة وقول الكهنة وقول الشعراء وما سمعت مثل كلمات هؤلاء، ولقد بلغت قاموس البحر2 أرني يدك لأبايعك على الإسلام قال: وعلى قومك، قال: وعلى قومي " أخرجه مسلم في صحيحه3. روى حيان بن عبيد الله التميمي عن أبيه4 قال: "شهدت عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - وقد أدخل عليه غيلان، فقال: ويحك يا غيلان أراني أُبَلَّغُ عنك (ويحك يا غيلان أراني أُبلغ عنك، ويحك يا غيلان أراني أبلغ عنك) 5 أحقاً ما ابلغ عنك، فسكت، فقال: هات فإنك آمن فإن يكن الذي تدعو الناس إليه حقاً فأحق من دعى إلى الله الناس نحن، فسكت طويلاً، فقال له عمر: تكلم فإنك آمن وأمره أن يجلس فجلس فتكلم بلسان ذلق، فقال: إن الله لا يوصف إلا بالعدل، ولم يكلف نفساً إلا ما آتاها، ولا يكلف6 الله المسافر صلاة المقيم، ولا يكلف الله المريض عمل الصحيح، ولم يكلف الله إلا ما جعل إليه السبيل وأعطاهم المشيئة فقال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر} وقال: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} . فلما فرغ من كلام كثير قال له عمر في آخر كلامه: يا غيلان ما تقول في قول الله تعالى: {يس7   1 في - ح- (وأشهد أن محمداً … ) . 2 قال أبو عبيد: "قاموس البحر وسطه وذلك لأنه ليس موضع أبعد غوراً في البحر منه ولا الماء فيه أشد انقماساً منه في وسطهن وأصل القمس الغوص". غريب الحديث 2/200. 3 أخرجه م. في كتاب الجمعة (ب. تخفيف الصلاة والخطبة) 2/593، حم. 1/302، واللالكائي في السنة 4/649 وهو لفظه. 4 لم أقف على ترجمة لهما. 5 ما بين القوسين ليس في -ح-. 6 في -ح- (ولم يكلف) وكذلك عند اللالكائي. 7 في الأصل كتبها هكذا (ياسين) والذي اثبت يوافق رسم المصحف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} . أنت تزعم يا غيلان -كلاماً سقط من الكتاب1- فأسكت غيلان لا يجيبه، فقال: ما منعك أن تتكلم وقد جعلت لك الأمان، فقال غيلان: أستغفر الله وأتوب إليه يا أمير المؤمنين، ادع الله لي بالمغفرة، فقال عمر: اللهم إن كان عبدك صدقك فوفقه وسدده، وإن كان كاذباً أعطاني بلسانه ما ليس في قلبه بعد أن نصفته وجعلت له الأمان فسلط عليه من يمثل به2، فلم يتكلم زمن عمر، فلما كان يزيد بن عبد الملك لا يهتم بهذا3 ولا ينظر فيه فتكلم غيلان، فلما ولي هشام بن عبد الملك تكلم وأرسل إليه فجاء، فقال له: أليس قد كنت عاهدت الله لعمر ألا تتكلم بشيء من هذا أبداً؟، قال: أقلني فوالله لا أعوده، فقال: لا أقالني الله إن أقلتك، هل تقرأ فاتحة الكتاب؟ قال: نعم: قال: اقرأ، فقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فقال: قف على ما استعنته على أمر بيده لا يستطيعه أو على أمر بيدك؟ اذهبا فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه4 فحلت به دعوة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - فبلغ إلى عبادة بن نُسي5 ما فعل هشام مع غيلان فقال عبادة: أصاب فيه والله   1 هكذا في كلا النسختين وفي المطبوع من السنة للالكائي هكذا (أنت تزعم يا غيلان ذكر كلاماً كثيراً سقط من الكتاب) . 2 إلى هنا رواية حيان بن عبد الله التميمي عن أبيه وقال بعد هذا (فصار من أمره بعد أن قطع لسانه وصلب) ، والذي بعدها من رواية أبي جعفر الخطمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعى غيلان لشيء بلغه في القدر، فذكر نحوه. 3 في - ح- (إن كان لا يهتم لهذا) . 4 أخرج هذا الأثر اللالكائي في السنة 4/713-717. 5 عبادة بن نسي بضم النون وفتح السين الكندي أبو عمر الشامي قاضي طبرية وهو من التابعين قال ابن حجر: ثقة، فاضل توفي سنة (118?) . التهذيب 5/113، التقريب ص165. أنت تزعم يا غيلان -كلاماً سقط من الكتاب1- فأسكت غيلان لا يجيبه، فقال: ما منعك أن تتكلم وقد جعلت لك الأمان، فقال غيلان: أستغفر الله وأتوب إليه يا أمير المؤمنين، ادع الله لي بالمغفرة، فقال عمر: اللهم إن كان عبدك صدقك فوفقه وسدده، وإن كان كاذباً أعطاني بلسانه ما ليس في قلبه بعد أن نصفته وجعلت له الأمان فسلط عليه من يمثل به2، فلم يتكلم زمن عمر، فلما كان يزيد بن عبد الملك لا يهتم بهذا3 ولا ينظر فيه فتكلم غيلان، فلما ولي هشام بن عبد الملك تكلم وأرسل إليه فجاء، فقال له: أليس قد كنت عاهدت الله لعمر ألا تتكلم بشيء من هذا أبداً؟، قال: أقلني فوالله لا أعوده، فقال: لا أقالني الله إن أقلتك، هل تقرأ فاتحة الكتاب؟ قال: نعم: قال: اقرأ، فقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فقال: قف على ما استعنته على أمر بيده لا يستطيعه أو على أمر بيدك؟ اذهبا فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه4 فحلت به دعوة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - فبلغ إلى عبادة بن نُسي5 ما فعل هشام مع غيلان فقال عبادة: أصاب فيه والله   1 هكذا في كلا النسختين وفي المطبوع من السنة للالكائي هكذا (أنت تزعم يا غيلان ذكر كلاماً كثيراً سقط من الكتاب) . 2 إلى هنا رواية حيان بن عبد الله التميمي عن أبيه وقال بعد هذا (فصار من أمره بعد أن قطع لسانه وصلب) ، والذي بعدها من رواية أبي جعفر الخطمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعى غيلان لشيء بلغه في القدر، فذكر نحوه. 3 في - ح- (إن كان لا يهتم لهذا) . 4 أخرج هذا الأثر اللالكائي في السنة 4/713-717. 5 عبادة بن نسي بضم النون وفتح السين الكندي أبو عمر الشامي قاضي طبرية وهو من التابعين قال ابن حجر: ثقة، فاضل توفي سنة (118?) . التهذيب 5/113، التقريب ص165. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 القضية والسنة، والأكثرين إليه ولأحسن رأيه"1. وكذلك رجاء بن حيوة2 كتب إلى هشام بن عبد الملك: "بلغني يا أمير المؤمنين إنه وقع في نفسك شيء من قبل3 غيلان وصالح4 فوالله لقتلهما أفضل من القتل5 في الروم والترك6". عن حكيم بن عمير7 قال: قيل لعمر بن عبد العزيز إن قوماً ينكرون من القدرشيئاً، فقال عمر - رضي الله عنه -: "بينوا لهم وارفقوا بهم حتى يرجعوا، فقال قائل: هيهات، هيهات يا أمير المؤمنين لقد اتخذوه ديناً، يدعون الناس إليه، ففزع لها عمر فقال: أولئك أهل أن تُسَل ألسنتهم من أقفيتهم سلاً، هل طار ذباب بين السماء والأرض إلا بمقدار"8. روي أن رجلاً قال لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: يا أبا الحسن ما تقول في القدر؟ فقال: "طريق مظلم لا تسلكه"، فقال له: ما تقول في القدر؟ قال: بحر عميق فلا تلجه، قال: ما تقول في القدر؟ قال: "سر الله فلا تكلفه"9.   1 أخرجه اللالكائي 4/717، والآجري في الشريعة ص229. 2 رجاء بن حيوة بفتح الحاء وسكون الياء وفتح الواو بن جرول، ويقال جندل بن الأحنف بن السمط بن مرئ القيس الكندي من التابعين قال ابن حبان: "كان من عباد الشام وفقهائهم وزهادهم" توفي سنة (112?) . انظر: التهذيب 3/265، التقريب ص102. 3 في - ح- (قتل) . 4 هو صالح بن محمد بن قبة صاحب لغيلان قتله هشام بن عبد الملك مع غيلان وعده في طبقات المعتزلة من الطبقة السابعة وعده الإسفرائيني من القدرية المرجئة. انظر: طبقات المعتزلة ص 38 - 78، الفرق بين الفرق ص 205. 5 هكذا في الأصل تقريباً وفي - ح- (الفيتين) وعند اللالكائي (أفضل من قتل الفين من..) وفي الشريعة (ألفين من) . 6 أخرجه اللالكائي في السنة 6/707، والآجري في الشريعة ص229. 7 حكيم بن عمير بن الأحوص العنسي، ويقال الهمداني أبو الأحوص الحمصي. قال ابن حجر: "صدوق يهم". التهذيب 2/450، التقريب ص81. 8 أخرجه الآجري في الشريعة ص230. 9 أخرحه اللالكائي 4/629، والآجري في الشريعة ص202. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 وقال طاووس لرجل: "إن القدر سر الله عزوجل فلا تدخلن فيه". ولقد سمعت أبا الدرداء يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام لما خرج من عند فرعون متغير الوجه، استقبله ملك من خزان النار وهو يقلب كفيه متعجباً لما قال له الروح الأمين: إن ربك عزوجل أرسلك إلى فرعون مع أنه قد طبع على قلبه فلا يؤمن1، قال جبريل2: فدعائي ما هو؟ قال: أمض لما أمرت، قال: صدقت ثم قال: يا موسى نحن اثنا عشر ملكاً من خزان النار قد جهدنا أن نسأل في هذا الأمر، فأوحى الله إلينا أن القدر سر الله فلا تدخلوا فيه"3. وفي هذا كله إبطال لما أورد هذا القدري وبيان لمن نور الله بصيرته.   1 في - ح- (فلن يؤمن) . 2 في - ح- (قال لجبريل) عند الآجري (قال يا جبريل) . 3 أخرجه الأجري في الشريعة ص236 من طريق سهل بن عثمان العسكري، قال: حدثنا سعيد ابن النعمان عن نهشل عن الضحاك بن عثمان عن طاووس ولم أقف على ترجمة لسعيد بن النعمان ونهشل إن يكن ابن سعيد البصري فقد قال عنه إسحاق بن راهويه: "كان كذاباً"، وقال أبو حاتم والنسائي: "متروك"، وقال يحيى والدارقطني: "ضعيف". انظر: الميزان 4/275، ومع سقوطه من ناحية الإسناد هو منكر من ناحية معناه إذ هذا بعيد من حال الملائكة الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 96- فصل قد ذكرنا أن الله سبحانه يوصف بأنه متكلم1.   1 ابتدأ المصنف - رحمه الله - في هذا الفصل في تفصيل عقيدة السلف في المسائل الأخرى غير القدر، وكذلك تفصيل الرد على مخالفيهم وكان أجمل عقيدة السلف في أول الرسالة ص98. وابتدأ هنا بإثبات أن الله عزوجل متكلم، وهو مذهب السلف، والذي قامت عليه الأدلة من الكتاب والسنة كما ستبين خلال عرض المصنف - رحمه الله - لهذه المسألة. ومسألة الكلام هي من أطول المسائل وأكثرها تشعباً وأوسعها اختلافاً، ولم يكن بين سلف الأمة من الصحابة والتابعين اختلاف في أن الله عزوجل متكلم، وأن هذا القرآن الكريم كلامه، حتى أظهر الجعد بن درهم إنكار ذلك وزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، وذلك في أوائل المائة الثانية من الهجرة، وقتله على مقالته هذه خالد بن عبد الله القسري بواسط في العراق في عيد الأضحى، وذكر غير واحد من العلماء أن الجعد أخذ هذه المقالة عن بيان بن سمعان التميمي رأس الفرقة البيانية الذي ادعى النبوة وادعى أن روح الآية حلت به، وهو معدود في غلاة الروافض، وقتله خالد بن عبد الله القسري أيضاً وصلبه بعد المائة الأولى بالعراق، وبيان هذا أخذه مقالته عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ عن الجعد هذه المقالة جهم بن صفوان الترمذي، وأخذ بشر المريس عن الجهم بن صفوان، وأخذ أحمد بن أبي داود عن بشر المريسي. فهذه السلسلة تبين أصل مقالة إنكار الكلام ونفي الصفات، وهي أن المعتزلة أخذت عن الجهمية، والجهمية أخذت عن الجعد بن درهم، الذي أخذ عن اليهود. وقد تصدى علماء الإسلام لهذه المقالة منذ ظهورها وألفوا وصنفوا في الرد عليها وبيان زيغ أصحابها، وحذروا الناس منها، وبينوا أن الله عزوجل موصوف بالصفات الكاملة، وأن كل صفة وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم هي ثابتة لله على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته لا يشبه في شيء من صفاته المخلوق ولا المخلوق يشبهه جل وعلا، ومن هذه الصفات صفة الكلام التي أنكرها الجهمية والمعتزلة، وحتى الأشعربة لم يثبتوا هذه الصفة وإنما أثبتوا كلاماً ليس بكلام، وما أثبتوه مجرد دعوى لا دليل عليه ألبتة من القرآن ولا من السنة، وإنما حاولوا أن يوافقوا ما عند السلف وخافوا الشناعة عليهم بإنكار الكلام فقالوا بالكلام النفسي. وسيأتي تفصيل المصنف لمقالتهم والرد عليهم، وقد ذكر شارح الطحاوية اختلاف الناس في مسألة الكلام وذكر في هذا تسعة أقوال فمن أراد الاستزادة فليراجعها. انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 12/26، البداية والنهاية لابن كثير 9/394، الفرق بين الفرق ص 236-237، ميزان الاعتدال 1/357، شرح الطحاوية ص170-179. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 وقالت الجهمية والمعتزلة والقدرية: لايوصف الله بأنه متكلم1. ودليلنا قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 2، فأخبر الله تعالى أنه كلم موسى، وأتى بالمصدر توكيداً ليدل أنه كلمه بغير رسول ولا ترجمان، لأن الإنسان إذا قال: ضربت زيداً جاز أن يكون ضربه بنفسه، وجاز أن يكون ضربه غيره بأمره له، فإذا قال: ضربت زيداً ضرباً، كان ذلك خبراً عن ضربه له بنفسه. ويدل على ما قلنا ما أخبر الله سبحانه عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين كسر أصنام قومه – إلى قوله3 - {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُون فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} فيما قال إبراهيم فقال بعضهم لبعض {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُون ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} يقول رجعوا إلى أمرهم الأول4 بالشرك وقالوا له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ} 5. والنطق عبارة عن الكلام، فدل على أن الكلام غير مستحيل من الله، إذ لو كان مستحيلاً منه الكلام لكان دليل إبراهيم منقلباً عليهن ولكان للكفار إلى إبطال حجته دليل بأن يقولوا: فإن إلهك الذي تدعونا إليه لا يوصف بالكلام أيضاً.   1 الجهمية والمعتزلة تنفي عن الله عزوجل سائر الصفات، ويثبتون له الوجود ومن هذه الصفات الكلام، فينفي الجهمية والمعتزلة أن الله عزوجل تكلم أو يتكلم بشيء، وزعم المعتزلة أنه إذا أراد الكلام خلق الكلام في محل فيصدر الكلام من ذلك المحل، لهذا زعموا أن القرآن مخلوق. انظر: قولهم وإنكارهم لصفة الكلام وفي: المغني لبعد الجبار 7/68-63، وفرق وطبقات المعتزلة 2/147، الفرق بين الفرق ص211، مقالات الإسلاميين1/267. 2 النساء آية (164. 3 هكذا في كلا النسختين. 4 في الأصل (بالأول) وفي - ح- كما أثبت وهي الأصوب. 5 الأنبياء: آية 63-66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 دليل ثان يقال: من أنكر أن يكون الله متكلماً، فإنه ينكر تصور الرسول منه لأن معنى الرسول هو المبلغ لكلام المُرسِل إلى المرسَل إليه، فإذا قال الرسول: أرسلني إليكم من لا يتكلم كان1 كما لو قال أرسلني إليكم الجبل أو الماء. دليل ثالث: أن الخرس آفة ولا يجوز أن يوصف الله بالخرس، وإذا لم يوصف بالخرس تعين وصفه بالكلام لأنه ضد الخرس، كما أن الله سبحانه يوصف بالوجود لأن الوجود ضد العدم ولما لم يوصف بالعدم تعين وصفه الوجود. فإذا تقرر هذا فإن كلام الله هو القرآن، وهو هذه السور التي هي آيات لها أول وآخر، وهو القرآن المنزل بلسان العرب تكلم الله به بحروف لا كحروفنا وصوت يسمع لا كأصواتنا، وهو صفة لله قديم يقدمه غير مخلوق2.   (كان) ليست في - ح-. 2 قول السلف - رحمهم الله - في الكلام والقرآن هو أن الله متكلم جل وعلا متى شاء كيف شاء، وأن كلامه جل وعلا بصوت يسمع وحرف لا كأصواتنا ولا كلامنا، وأن القرآن الكريم الذي هو موجود بين دفتي المصحف وهو السور والآيات من كلامه جل وعلا وهو من علمه سبحانه وتعالى غير مخلوق. وهذا قول السلف قاطبة، كما ذكر ذلك الأئمة، نقل عنهم ذلك الأئمة ودونوه في كتبهم كالإمام البخاري واللالكائي والآجري في الشريعة وشيخ الإسلام وغيرهم. فإذا تبين هذا فهنا عدة ملاحظات على كلام الشيخ العمراني: أولاً: قوله: إن كلام الله هو القرآن: هذا فيه إيهام أن الله لم يتكلم إلا بالقرآن فقط، وهذا قول باطل فإن كلام الله لا نهاية له كما ضرب لنا في المثل الواضح {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} لقمان آية (27) ، وقوله عزوجل: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} الكهف آية (109) . وقوله: "بحروف لا كحروفنا لم أجد من ذكر ذلك من السلف وإنما قولهم: "تكلم الله بحرف وصوت" والله عز وجل قطعاً تكلم بهذا القرآن الذي هو حروف والله أعلم. وقوله: "وهو صفة لله قديم بقدمه" الضمير هنا يعود على القرآن، والقرآن من كلام الله كما تقدم والكلام صفة لله عزوجل، ويتكلم الله به عزوجل متى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم متى شاء والأدلة على أن الله متصف بصفة الكلام كثيرة، وهي ظاهرة بحمد الله عزوجل فكلامه جل وعلا بالقرآن دليل على أنه يتكلم متى شاء، ثم كلامه جل وعلا مع موسى عليه السلام وقوله جل وعلا لجهنم: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ، وكلامه مع أهل الجنة: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} وكلامه مع عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} الآية، وكذلك أمره بخلق الأشياء: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، فهذا صريح في أن الله يتكلم بـ {كنُ} وقت غرادته خلق الأشياء ولم يتكلم بذلك قبل إرادة خلقه وإيجاده. وورد أيضاً من السنة ما يدل على ذلك وهو كثير، منها حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال صلى اله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان" أخرجه خ. الرقاق 8/95، م. الزكاة 2/703. وحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول: هل رضيتم … " الحديث، أخرجه خ. كتاب التوحيد 9/121، ومما ورد عن السلف في ذلك ما ذكره الإمام أحمد في كتابه الرد على الجهمية قال: "نقول إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء". انظره ضمن عقائد السلف ص 90. ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل 2/77 عن أبي إسماعيل الأنصاري قوله عن ابن خزيمة في رده على الكلابية في نفيهم المشيئة في الكلام قوله "فطار لتلك الفتنة ذلك الإمام أبوبكر فلم يزل يصيح بتشويهها ويصنف في رده كأنه منذر جيش، حتى دوّن في الدفاتر وتمكن في السرائر، ولقن في الكتاتيب، ونقش في المحاريب أن اله متكلم إن شاء الله تكلم وإن شاء سكت، فجزى الله ذلك الإمام وألئك النفر الغر عن نصرة دينه وتوقير نبيه خيراً". ونقل أيضاً شيخ الإسلام بعد هذا الكلام كلام أبي نصر السجزي في الإبانة وهو "فأما الله تعالى فإنه متكلم فيما لم يزل ولا يزال متكلماً بما شاء من الكلام يسمع من يشاء من خلقه ما شاء من كلامه إذا شاء ذلك ويكلم من شاء تكليمه بما يعرفه ولا يجهله". ونسب شيخ الإسلام هذا القول إلى السلف وقال: "فالسلف وأهل السنة يقولون إنه يتكلم بمشيئته وقدرته وكلامه غير مخلوق". الفتاوى 6/251 فهذا كله ظاهر بحمد الله في إثبات أن الكلام قديم النوع حادث الإفراد كما عبر عن ذلك شارح الطحاوية. انظر: ص180. والذين أثر عنهم وصف كلام الله بأنه قديم هم الكلابية والأشاعرة، وذلك لإنكارهم الصفات الفعلية، وزعمهم أن كلام الله معنى قائم بالنفس، وقد تأثر بهم بعض من يأخذ بقول السلف في إثبات الحرف والصوت، إلا أنهم يقولون إن كلام الله قديم كما يذكر ذلك القاضي أبو يعلى الحنبلي، وشيخه عبد الله بن حامد، وابن عقيل، وابن الزاغوني، وعليه أيضاً السفاريني في لوامع الأنوار البهية، وهذا المذهب في الواقع لا يتمشى مع القائل إن الله يتكلم بحرف وصوت، إنما هو مجرد تقليد، ولقول بعضهم إن الله لا تحل به الحوادث فلهذا ينكرون الكلام بالمشيئة. أما قول المصنف هنا "إن القرآن قديم" فهذا باطل ولا دليل عليه، ولم يقل بذلك أيضاً أحد من السلف، وهو في الواقع راجع إلى قول من أنكر أن الله يتكلم حيث شاء وهم الأشاعرة ومن تأثر بهم، وقد بين شيخ الإسلام - رحمه الله - أن هذا القول ليس من قول السلف فقال: "إن السلف قالوا القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وقالوا لم يزل متكلماً إذا شاء، فبينوا أن كلام الله قديم أي جنسه قديم لم يزل، ولم يقل أحد منهم إن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم القرآن قديم، بل قالوا إنه كلام الله منزل غير مخلوق وإذا كان منزلاً غير مخلوق، ولم يكن مع ذلك أزلياً قديماً بقدم الله وإن كان الله لم يزل متكلماً إذا شاء فجنس كلامه قديم" انتهى. الفتاوى 12/54. انظر: كلام السلف في الكلام: خلق أفعال العباد للبخاري ص 7-16، السنة للالكائي 1/151- 185، والشريعة للآجري ص 75- 83، شرح العقيدة الأصفهانية ص 31-36، شرح العقيدة الطحاوية ص180. وانظر قول الكلابية والأشعرية ومن وافقهم: مقالات الإسلامييين 1/449-250، اللمع ص 22- 23، الفتاوى 12/366-369، درء تعارض العقل والنقل 2/255، لوامع الأنوار البهية 1/133-134، مختصر المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص 86، إبطال التأويلات للقاضي أبي يعلى ورقة 135/أ- ب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 مفقود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 وقال جهم والمعتزلة والقدرية: هو مخلوق1 ولا يتصور على أصلهم2 أن ما يتلونه من القرآن يصفونه بأنه مخلوق لله كسائر مخلوقاته من السماء والأرض، وهما من الأجسام، بل هو خلق لهم كخلقهم لجميع أقوالهم التي ينطقون بها من الشعر والنثر وسائر الكلام. وقالت الكلابية ........................................................................................   1 تقدمت الإشارة إلى قول الجهمية والمعتزلة في الكلام وقولهم في القرآن فرع عن قولهم في الكلام، فلما نفوا أن يكون الله متكلماً قالوا: إن الله يخلق كلامه في الأجسام على وجه يسمع ويفهم معناه وبناء عليه قالوا في القرآن إنه مخلوق. انظر: مقالات الإسلاميين 1/338ن المغني لعبد الجبار 7/3، الملل والنحل للشهرستاني بهامش الفصل 1/109. 2 المراد بأصلهم هنا هو قولهم إن العباد يخلقون أفعالهم، فعلى هذا لأصل يكون من لازم قولهم خلقاً لقارئه لأن القراءة فعل القارئ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 والأشعرية1: كلام الله الذي ليس بمخلوق هو معنى قائم بنفسه لا يفارق ذاته، وهذا القرآن المتلو المسموع عبارة وحكاية عن الكلام القائم بنفسه، وكذلك القول عندهم في كلام البشر هو معنى قائم بذات المتكلم وهذه الحروف والأصوات المسموعة منهم عبارة عن المعنى القائم بالذات لا تسمى كلاماً حقيقة بل مجازاً أو توسعاً. والأشعرية موافقة للمعتزلة في أن هذا القرآن المتلو المسموع مخلوق2.   1 يوجد بهامش - ح- تعليق في شرح قول الأشاعرة في الكلام أشار كاتبه إلى أنه منقول من كلام التفتازاني. 2 يصرح الأشعرية بأن الكلام هو المعاني الموجودة في النفس، ويجعلون النطق بالحروف والأصوات تعبير عن الكلام النفسي، فمن هنا قالوا إن الله يتكلم يعني بكلام نفسي قائم بذاته جل وعلا، وأنكروا الحرف والصوت. وبعضهم يزعم أن الكلام النفسي معنى واحد كالجويني، وبعضهم يزعم أنه أمر ونهى وخبر واستخبار كالكلام وأبي الحسن الأشعري والآمدي. فما جاءوا للقرآن قالوا هو كلام الله غير مخلوق، ومرادهم الكلام النفسي، أما هذه الحروف المجموعة والموجودة بين دفتي المصحف فهو عبارة عن كلام الله، وهي مخلوقة وقليل منهم الذي يصرح بذلك أي بخلق القرآن خوف الشناعة عليهم وأكثرهم تجد في كلامه الرد على المعتزلة في خلق القرآن ومراده ما في نفس الله عزوجل من المعاني وهذا كلام بعيد عن كلام لسلف وعن الحق، فإن الكلام النفسي أول من قال به عبد الله بن كلاب، وأخذ عنه ذلك الأشعري ثم أخذ أتباعه. وقد رد عليهم السلف بهذا وهم المعنيون في الردود الواردة عن السلف في إثبات أن الله متكلم بحرف وصوت ومن هذه الردود كتاب السجزي (الرد على من أنكر الحرف والصوت) ، ورسالة لأبي محمد عبد الله بن يوسف والد إمام الحرمين في إثبات الحرف والصوت، وقد رد عليهم شيخ الإسلام وغيره في مواطن كثيرة من كتبه في هذا، وبين أنه لا فرق بين قولهم وقول المعتزلة إلا ابتداعه الكلام النفسي، وانظر: كلام الأشاعرة في الكلام والقرآن في اللمع للأشعري ص 22، التمهيد للباقلاني ص 268-284، الإرشاد للجويني ص 103-107، وانظر قوله فيه ص 117: "فإن معنى قولهم يعني المعتزلة وهذه العبارات كلام الله إنها خلقه ونحن لا ننكر إنها خلق الله ولكن نمتنع من تسمية خالق الكلام متكلماً به فقد أطبقا على المعنى وتنازعا بعد الاتفاق في تسميته". انتهى. وانظر كلام الآمدي في: غاية المرام وتصريحه بأن القرآن ليس كلام الله الحقيقي ولم يجرؤ على القول بالخلق ص 88، 107، 108، وانظر: قواعد العقائد للغزالي ص 82، والاقتصاد في الاعتقاد له ص 73، وقد قال فيه بعد أن صان وجال في الكلام النفسي، وحمل كل قول ورد عن السلف في (أن كلام الله غير مخلوق) على أن المراد به (الكلام النفسي) ، مع أن ذلك لم يعرف عن أحد منهم، ثم قال بعد ذلك: "فهذا ما أردنا أن نذكره في إيضاح مذهب أهل السنة في كلام النفس المعدود من الغوامض". وانظر كلام الإيجي في: المواقف ص 292 - 294 حيث صرح أن القرآن مخلوق إما في اللوح المحفوظ أو في جبريل أو محمد صلى الله عليه سلم، وأنه لا فرق بينهم وبين المعتزلة إلا إثبات الكلام النفسي. وانظر: شرح جوهرة التوحيد ص 94 حيث صرح شارحها أن القرى، المقروء مخلوق، وقد صرح بخلق القرآن الموجود بين أيدي الناس من المتأخرين محمد أبو زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الإسلامية ص 504 بعد أن نسب إلى الإمام أحمد أنه كان أول الأمر متوقفاً في القرآن، وهذا كلام باطل لا يقوله أحد اطلع على أقوال الإمام أحمد والأئمة قبله في كلام الله والقرآن الكريم، وقد كان الإمام أحمد يعتبر المتوقف في القرآن جهمياً شاكاً وسيفرد المصنف للواقفة في القرآن فصلاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 وزعم أن هذا القرآن كلام الله ووقفوا، وقالوا: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق وهم الواقفة1. وقد كان سبق لي قبل هذا الاستدلال بكتاب مختصر في هذه الرسالة في الرد على الأشعرية والقدرية2، وأنا أعيد من ذلك ما يتضح به الحق لمن هداه الله إلى الرشد.   1 الوقفة: هم قوم وقفوا في القرآن لأنه لما ظهرت مقالة المعتزلة بالقول بخلق القرآن وأظهر أهل السنة الرد عليهم توقف بعض الناس وقالوا: القرآن كلام الله لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، فذمهم العلماء والأئمة واعتبروا قولهم شكاً في القرآن، لأن التوقف والتورع عن الكلام ليس هذا مكانه، لأن الحق ظاهر يجب اتباعه وعدم الوقوف سلباً فإن هذا مما يقوي البدعة، وقد يكون الوقوف شكاً والشك كفر كما صرح بذلك الأئمة، وقد عقد اللالكائي - رحمه الله - في كتابه شرح اعتقاد أهل السنة فصلاً خاصاً نقل فيه كلام الأئمة في الواقفةز انظر: 1/323-329، وكذلك الآجري في كتابه الشريعة ص 87-88 وغيرهم، وسيورد المصنف - رحمه الله - بعض الآثار في الواقفة. 2 لم أقف على هذا الكتاب، ولم أر من ذكره غير المصنف هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 وأقول: الدليل على أن القرآن غير مخلوق، وأن الله تكلم بالحروف قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1. فأخبر سبحانه أنه خلق الأشياء بقوله تعالى {كُن} وهما حرفان، فلو كان قوله وهو {كُن} مخلوقاً لاقتضى أن يكون مخلوقاً بـ {كُن} أخرى، وكذا2 {كُن} الثانية تقتضي أن تكون مخلوقة بـ {كُن} إلى ما لا نهاية له. وهذا يؤدي إلى المحال3. ومن الدليل على ما ذكرناه قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ} 4 والأمر هو القرآن بدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} 5، ففرق سبحانه بين الخلق والأمر. فلو كان القرآن مخلوقاً لكان خلقاً، لأن المخلوق هو الخلق، والخلق هو المخلوق ولكان المعنى في الآية ألا له الخلق والخلق، وهذا خلف في الكلام6. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَان} َ7، والبيان هو القرآن8 بدليل قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} 9، فأخبر الله أنه خلق الإنسان وأنه علم البيان، ولم يصفه بأنه خلقه،   1 النحل آية (40) . 2 في الأصل (وذكرى) وما أثبت من - ح-. 3 ذكر هذا الاستدلال اللالكائي عن البويطي أنه قال: "إنما خلق الله كل شيء بكن فإن كانت "كن" محلوقة فمخلوق خلق مخلوقاً. ثم فصل اللالكائي هذا القول بنحو ما ذكر المؤلف هنا. انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/217. 4 الأعراف آية (54) . 5 الطلاق آية (5) . 6 ذكر هذا الاستدلال الإمام أحمد في الرد على الجهمية ص73 ضمن عقائد السلف، وذكره اللالكائي في السنة 2/219 عن ابن عيينة ونعيم بن حماد ومحمد بن يحيى ومحمد بن يحيى الذهلي وغيرهم. 7 الرحمن آية (1-3) . 8 هذا تفسير بعيد ولم أر من ذكره، والذي ورد هو أن المراد بالبيان النطق أو الخير والشر، وقيل: إن المراد به الحلال والحرام. انظر: تفسير ابن جرير 27/114، تفسير ابن كثير 4/27. 9 آل عمران آية (138) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 وقد ذكر الله الإنسان في القرآن في ثماني عشر آية وإجرائه خلقه، وذكر القرآن في أربع وخمسين آية ولم يذكر في شيء أنه خلقه. ومن الدليل لنا قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} 1 وروى المفسرون عن ابن عباس أنه قال: "تأويله غير مخلوق"2. ومن الدليل على ما ذكرناه قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} 3 وما كان من الله فهو غير مخلوق4. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 5. فأخبر الله سبحانه أن كلماته لا تنفذ والمخلوقات تنفذ وتفنى، وتصديق ذلك ما روى في الصحاح أن الله يقول حين يفنى الخلق يقول الله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيجيب الله بنفسه {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} 6.   1 الزمر آية (28) . 2 أخرجه عنه اللالكائي في السنة 2/217، والآجري في الشريعة ص77، والبيهقي في الأسماء والصفات ص311 وهو من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وفيه علتان: العلة الأولى: عبد الله بن صالح كاتب الليث، قال عنه ابن حجر: صدوق كثير الخطأ ثبت في كتابه وكانت فيه غفلة. التقريب ص177. والعلة الثانية الانقطاع بين علي بن أبي طلحة وابن عباس فإنه لم يلقه كما قال ذلك ابن حجر في التهذيب 7/339. ورواه اللالكائي من طريق مكحول عن ابن عباس وفي إسناده الحسين بن محمد بن عبادة الواسطي، ومسلم بن عيسى الأحمر، ولم أقف لهما على ترجمة. وهذه الرواية عن ابن عباس مما يستنكر لأن الكلام في القرآن لم يقع في الصدر الأول ولا الثاني وإنما وقع الكلام فيه بعد ظهور المعتزلة قال ابن عدي - رحمه الله - بعد أن ذكر رواية عن أنس في القرآن غير مخلوق "وهذا الحديث وإن كان موقوفاً على أنس فهو منكر لأنه لا يعرف للصحابة الخوض في القرآن" الكامل 1/409. 3 السجدة آية (13) . 4 ذكر هذا الاستدلال اللالكائي في السنة 2/219 وروي عن وكيع بن الجراح أنه قال: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أشياء من الله مخلوق، فقلت: يا أبا سفيان من أين قلت هذا؟ قال: لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} ولا يكون من الله شيء مخلوق. 5 لقمان آية (27) . 6 غافر آية (16) . وهذا الاستدلال أورد اللالكائي في السنة 2/220 مثله إلا أنه لم يقل (ما روى في الصحاح) . ولعل المصنف - رحمه الله - يقصد بذلك حديث الصور المشهور وفيه بعد ذكر إمامة الخلق "فإذا لم يبق إلا الله الواحد القهار الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، كان آخراً كما كان أولاً طوى السموات والأرض كطي السجل للكتاب ثم دحاه ثم لفها ثلاث مرات، وقال: أنا الجبار ثلاثاً ثم هتف بصوته: لمن الملك اليوم، ثلاث مرات فلا يجيبه أحد، فيقول لنفسه: لله الواحد القهار"الحديث. وهذا الحديث روي عن أبي هريرة ومداره على إسماعيل بن رافع قاص أهل المدينة، أخرجه عنه اللالكائي في السنة 2/222، وابن جرير في تفسيره 24/30، وذكره ابن كثير بطوله في النهاية 1/172- 179، وإسماعيل بن رافع ضعفه الإمام أحمد ويحيى بن معين وجماعة، وقال الدرقطني: "متروك الحديث". انظر: الميزان 1/227، وقد ضعف الحديث البيهقي وعبد الحق كما ذكر ذلك ابن حجر في الفتح 11/368، وروى ابن عدي عن البخاري أنه قال: في حديث الصور: "مر سل لا يصح"، وقال ابن عدي: "ولإسماعيل بن رافع أحاديث غير ما ذكرته، وأحاديثه كلها مما فيه نظر إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء". الكامل 1/277. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 وسأل رجال أبا الهذيل العلاف المعتزلي عن القرآن، فقال: مخلوق، فقال له: يموت أو يخلد، قال: لا، بل يموت، قيل له فمتى يموت القرآن، قال: إذا مات من يتلوه فهو موته، قيل: فقد أخبر الله سبحانه أه يقول بعد أهل الدنيا: لمن الملك اليوم، وهذا هو القرآن، فقال: لا أدري وبهت1. ومن الدليل على مما قلناه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ومنه بدأ وإليه يعو ومن قال إنه مخلوق فهو كافر"2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "يا معاذ العرش والكرسي وحملتهما والسموات السبع وسكانها والأرضون وسكانها إلى الثرى الأسفل إلى الريح الهفافة إلى ما انتهت إليه لمخلوق ما خلا القرآن فهو كلام الله"3.   1 أخرجه اللالكائي 2/221. 2 روي نحو هذا عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وأبي الدرداء - رضي الله عنهم - مرفوعاً. وقد أخرجه عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - البيهقي في الأسماء والصفات ص 3- 8 وقال بعد أن ذكر أنه روي عن الصحابة السابق ذكرهم: "ولا يصح شيء من ذلك أسانيده مظلمة لا ينبغي أن يحتج بشيء منها". انتهى. وأخرجه الحطيب البغدادي عن عبد الله بن مسعود وجابر، قال الخطيب في حديث عبد الله: "هذا الحديث منكرجداً". تاريخ بغداد 1/360. وقال في حديث جابر: "فيه محمد بن عبد السغُدي وهو متهم بالوضع". تاريخ بغداد 2/389. وأخرجه الديلمي عن أنس وابن مسعود ومعاذ. انظر: فردوس الأخبار 3/389. قال السخاوي عن حديث أنس: "إنه من جميع طرقه باطل". المقاصد الحسنة ص304. وذكر هذه الرواية ابن الجوزي في الموضوعات. انظرها فيه 1/107-108. 3 لم أقف على من أخرجه بهذا اللفظ، وعند الديلمي في مسند الفردوس عن معاذ مرفوعاً: "القرآن كلام الله وسائر الأشياء خلقه". انظر: فردوس الأخبار 3/280، وفي إسناده أبو غانم يونس بن نافع. ذكره الذهبي في الميزان، وقال: قال السليماني: "منكر الحديث". الميزان 4/484. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 . وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي1 أنه قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يخطب على المنبر ويقول: "إن هذا القرآن كلام الله فلا أعرفن ما عظمتموه على أهوائكم، فإن الإسلام قد خضعت له رقاب الناس فدخلوه طوعاً وكرهاً قود وضعت لهم السنن فاتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم اعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه"2. وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال في التحكيم لما أنكر عليه فيه "إني لم أحكم مخلوقاً وإني حكمت القرآن"3. وهذا كان منه بمحضر من الصحابة فلم ينكر عليه أحد قوله بل قال شاعره: أيها الحاضرون إن علياً لم يحكم في دينه مخلوقاً ... إنما حكم القرآن وقدكان بتحكيمه القرآن حقيقاً4 وروي عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: سئل علي بن الحسين عن القرآن؟ فقال: "ليس بخالق ولا مخلوق"5. وروي عن عكرمة قال: كان ابن عباس - رضي الله عنه - في جنازة فلما وضع الرجل في لحده قام رجال فقال: اللهم رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس فقال: "مه القرآن منه"6.   1 أبو عبد الرحمن السلمي هو عبد الله بن جبيب بن ربيعة بفتح الباء وتشديد الياء الكوفي القاري، لأبيه صحبة وهو من التابعين ثقة ثبت توفي سنة (70?) . انظر: التهذيب 5/183، التقريب ص170. 2 أخرجه الآجري في الشريعة ص76، وفيه زيادة ألفاظ. 3 أخرجه اللالكائي في السنة 3/228-229، والبيهقي في الأسماء والصفات ص313. 4 لم يتبين لي قائله. 5 أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/153، واللالكائي في السنة 2/237، والبيهقي في الأسماء والصفات ص316. 6 أخرجه اللالكائي في السنة 2/230، والبيهقي في الأسماء والصفات ص312. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: "القرآن كلام الله غير مخلوق"1. وروي عن حنظلة بن خويلد العنزي2 أن قال: أخذ عبد الله بن مسعود بيدي فلما أشرفنا على السدة3 إذ نظر إلى السوق فقال: "اللهم إني أسألك خبرها وخير أهلها وأعوذ بك من شرها وشر أهلها"، فمر برجل يحلف بسورة من القرآن أو آية، فغمز عبد الله بيدي فقال: "أتراه مكفراً أما إن كل آية فيها يمين"4. والكفارات لا تجب إذا حلف بمخلوق. وقال عمرو بن دينار5: "أدركت تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون من قال القرآن مخلوق فهو كافر"6   1 أخرجه اللالكائي في السنة 2/231. 2 في النسختين (العبدي) وعند اللالكائي وفي التهذيب (العنزي) كما أثبت وهو الأصوب، قال عنه ابن معين: "ثقة" وعده ابن حجر من الطبقة الثالثة. انظر: التهذيب 3/59، التقريب ص86. 3 السدة بضم السين وفتح الدال المشددة أمام باب الدار، وقيل هي السقيفة وقيل هو الفناء أمام الباب. انظر: اللسان 3/1970. 4 أخرجه اللالكائي في السنة 2/231، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف من عدة طرق عن ابن مسعود من قوله "أنه مر برجل يحلف … " المصنف 8/472. 5 عمرو بن دينار المكي أبو محمد الأثرم ثقة ثبت، توفي سنة (126?) . التقريب ص259. 6 ذكر هذا اللالكائي ولم يسنده 2/228، وهذه الرواية لو ثبت لدلت على أن الصحابة تكلموا في هذا الأمر. وقد تقدم كلام ابن عدي - رحمه الله - أن الصحابة لم يعرف لهم خوض في هذا الأمر، مما يوحي بأن هذه الرواية عن عمرو بن دينار غير ثابتة. وقد روى اللالكائي في السنة 2/234، والبيهقي في الأسماء والصفات ص315 عن سلمة بن شبيب عن عمرو بن دينار قال: سمعت مشيختنا منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وهو الأثر بعد هذا، فهذا وإن كان ليس فيه التصريح الموافق للفظ الذي ذكره المصنف، وذكره اللالكائي بتكفير من قال بخلق القرآن إلا أن فيه التصريح من الصحابة بأن القرآن غير مخلوق، إلا أن هذا الأثر عن سفيان رواه البخاري في أول كتابه خلق أفعال العباد فقال حدثني الجكم بن محمد الطبري كتبت عنه بمكة قال ثنا سفيان بن عيينة قال: "أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة منهم عمرو بن دينار يقولون القرآن كلام الله وليس مخلوق". وروي أيضاً نحوه عن عبد الرحمن بن عفان عن سفيان. خلق أفعال العبا ص907. فهذا يدل على أن القول كان قول سفيان ولم يكن قول عمرو بن دينار. والبخاري في هذا أثبت من سلمة ابن شبيب ومن محمد بن إسحاق بن راهويه القاضي بمرو الذي روى عنه البيهقي في الأسماء والصفات ص315 أنه قال: "سئل أبي وأنا أسمع عن القرآن وما حدث فيه من القول بالمخلوق فقال: القرآن كلام الله وعلمه ووحيه ليس بمخلوق، ولقد ذكر سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار"، قال فذكره. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 وروي عن عمرو بن دينار أنه قال: "أدركت مشائخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود"1. وكتب ملك الروم إلى أبي جعفر المنصور2 يسأله عن أشياء فسأله عن لا إله إلا الله أهي خالقة أم مخلوقة، فكتب إليه أبو جعفر: "ليست خالقة ولا مخلوقة ولكنها كلام اللهعزوجل "3. وسئل جعفر بن محمد عن القرآن أخالق هو أو مخلوق؟ فقال: "لو كان خالقاً لعبد، ولو كان مخلوقاً لنفد هو كلام الله"4. وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: "سمعت الناس منذ تسعة وأربعين عاماً يقولون من قال القرآن مخلوق فامرأته تطلق5 بتة، قيل له: ولم ذلك؟، قال: لأن امرأته مسلمة والمسلمة لا تكون تحت كافر"6. ولقد لقي ابن المبارك جماعة من التابعين مثل: سليمان التيمي7 وحميد الطويل8 وغيرهما، ولم يكن وقته رجل مثله وأكثر طلباً لعلم وأجمعه   1 أخرجه اللالكائي 2/234، والبيهقي في الأسماء والصفات ص315. 2 أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ثاني خلفاء بني العباس وأعظمهم تولى الخلافة سنة (136?) إلى أن توفي سنة (158?) البداية والنهاية 10/152. 3 أخرجه اللالكائي في السنة 2/245. 4 أخرجه اللالكائ 2/242، وأخرجه - مختصراً - عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/152، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 316- 317 من عدة طرق. 5 في - ح- (طالق تطلق) . 6 أخرجه اللالكائي في السنة 2/244. 7 سليمان بن بلال التيمي أبو محمد وأبو أيوب المدني ثقة توفي سنة (177?) . التقريب ص132. 8 حميد الطويل أبو عبيدة البصري ثقة مدلس توفي سنة (143?) التقريب ص84. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 له ولعله يروي عن ألف شيخ من أتباع التابعين1. وروى الربيع عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال: "القرآن كلام الله غير مخلوق" وقال لحفص الفرد2 حين قال بخلق القرآن: "كفرت"3. قال مالك: من قال بخلق القرآن فهو زنديق يقتل"4. وقال الليث بن سعد: "من قال القرآن مخلوق فهو كافر5 ومن لم يقل هو كافر فهو كافر". ولو ذهبت إلى ذكر من قال بهذا من التابعين والعلماء الذين لا يستوحش من ذكرهم لطال الكتاب6، وفيما ذكرته مقنع لمن طلب القدوة بأهل الحديث. ومن الدليل على ما قلناه أن يقال لهم: لو كان القرآن مخلوقاً لم يخل إما أن تقولوا إنه خلقه في غير محل، أو خلقه في نفسه، أو خلقه في غيره. فبطل أن يكون خلقه في غير محل لأنه صفة والصفة لا تقوم بتفسها، وبطل أن يكون خلقه في نفسه إذ يستحيل أن تكون نفسه سبحانه محلاً للمخلوقات. وبطل أن يكون خلقه في غيره إذ لو كان كذلك لوجب أن يشق لذلك الجسم الذي خلق فيه الكلام اسم من أخص أوصاف الكلام اللازمة له   1 ذكر هذا أيضاً اللالكائي في السنة 2/244. 2 في الأصل (المنفرد) وفي - ح- كما أثبت كما هو عند اللالكائي. 3 أخرجه اللالكائي في السنة 2/252، والآجري في الشريعة ص81، والبيهقي في الأسماء والصفات ص323. 4 أخرجه عنه اللالكائي 2/249- 314، والبيهقي في الأسماء والصفات 318. 5 أخرجه عنه اللالكائي 2/249 وليس فيه قوله "ومن لم يقل هو كافر فهو كافر" وإنما هذا مروي عن أبي بكر بن عياش رواه عنه اللالكائي في السنة 2/249. 6 في الأصل (لطال ذكر الكتاب) وما أثبت في - ح- وهو الأنسب وقد عد اللالكائي - رحمه الله - القائلين بتكفير القائل بخلق القرآن وذكر أسماءهم فبلغوا قراية خمسمائة وخمسين نفساً. انظر: السنة للالكائي 2/272- 312. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 لنفسه وأخص الكلام1 أنه كلام ذلك الجسم، ويكون ذلك الجسم هو القائل {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} وإذا بطل ذلك كله ثبت أنه غير مخلوق، بل هو صفة لذات الله سبحانه2.   1 هكذا في كلا النسختين ولعله سقط من الجملة كلمة "أوصاف" فتكون هكذا وأخص أوصاف الكلام. 2 ذكر نحو هذه الحجة عبد العزيز الكناني في مناظرته لبشر المريسي أمام المأمون، ونقلها عنه أيضاً شارح الطحاوية. انظر: الحيدة ص 59-60، شرح الطحاوية ص 183-184. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 97- فصل إذا تقرر ما ذكرنا أن القرآن غير مخلوق، وأن القرآن عند أصحاب الحديث هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن العربي السور والآيات المتلو باللسان والمسموع بالآذان المعقول بالأذهان المحفوظ في الصدور المكتوب بالمصاحف بالسطور له أول وآخر وبعض، فمن قال بخلقه فهو كافر كفراً يخرجه عن الملة، لما تقدم ذكره في الفصل قبل هذا، وقد وافقنا الأشعرية على أن القرآن غير مخلوق، ومن قال بخلقه فهو كافر، وردوا على قوله المعتزلة والقدرية إنه مخلوق1. إلا أن الأشعرية قالوا: كلام الله الحقيقي هو معنى قائم في نفسه لا يفارقه، لا يدخل كلامه النظم والتأليف والتعاقب، ولا يكون بحرف وصوت ولا يتكلم الله بالعربية ولا بغيرها من اللغات، وليس له أول ولا آخر ولا بعض، بل هو شيء واحد لم ينزله الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا على أحد من الأنبياء، ولا يتلى ولا يكتب ولم يسمعه أحد إلا موسى عليه السلام2، وهذه السور والآيات عبارة وحكاية عن كلام الله وتسمى قرآناً،   1 انظر رد الأشعرية على القائلين بخلق القرآن في التمهيد للباقلاني ص 268- 284. أما المتأخرون منهم فقد تقدم تلميح البعض وتصريح البعض بخلق القرآن. انظر: ما تقدم ص 544. 2 اختلف الأشاعرة في موسى عليه السلام هل سمع كلام الله أم لا على أقوال: القول الأول: أن موسى عليه السلام سمع كلام الله وبه قال الغزالي وذكره شارح جوهرة التوحيد، إلا أن الإثبات بالنسبة لهم إثباتاً لا يستقيم مع زعمهم أن الله لا يتكلم بحرف وصوت، وأن كلام الله معنى قائم في نفس الله عزوجل، لهذا حين أراد الغزالي في الاقتصاد في الاعتقاد ص78 إثبات السماع مع الكلام النفسي أتى بكلام في غاية السقوط والرداءة وسيورد المصنف كلامه فيما يأتي ويرد عليه ولعل المصنف عزا إلى الأشاعرة القول بسماع موسى للكلام لقول الغزالي بذلك، أما شارح جوهرة التوحيد فإنه زعم أن الله أزال الحجاب وأسمع موسى كلامه القديم ثم أعاد الحجاب، ثم زعم أنه ليس المراد أنه تعالى يبتدئ كلاماً ثم يسكت، لأنه لم يزل متكلماً أزلاً وأبداً. وهذا كلام باطل يرده القرآن الكريم فقد قال عزوجل: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} … الآيات إلى قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} الآيات. طه آية (11-219، فقد ذكر الله عزوجل الكلام الذي كلم به موسى وما قال موسى لله وما رد الله عليه، فهذا كله كلام وفيه سكت. وادعاء أن الله أزال الحجاب حتى سمع الكلام القديم ادعاء فارغ لا دليل عليه لا من القول ولا من السنة ومخالف لقوله عزوجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} الشورى آية (51) . القول الثاني: أن موسى لم يسمع كلام الله عزوجل وكذلك جبريل عليه السلام وإنما خلق الله لهما إدراكاً فهما به كلام الله فلهذا - على زعم هؤلاء سمي موسى عليه السلام كليم الله - وعندهم أن جبريل عليه السلام نزل بهذا الذي فهمه على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبلغ النبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم للناس قال بهذا الجويني في الإرشاد ص 129-130، والآمدي في غاية المرام. ص110- 111. وهذا الكلام باطل ويكفي في بطلانه قوله عزوجل {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} في الآيات المتقدمة، وسيأتي رد المصنف على قولهم بالكلام النفسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 وكذلك التوراة عبارة عن كلام الله بلغه موسى وقومه، والإنجيل عبارة عن كلام الله بلغه عيسى قومه12 فادعوا أن كلام الله غير القرآن وأن القرآن غير كلام الله3. فقولهم إن القرآن غير مخلوق تلاعب وخلف من الكلام. والدليل على أن هذا القرآن يسمى كلام الله قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 4 ولا خلاف أنه أراد حتى يسمع منك هذا القرآن فإن قبله ودخل في الإسلام فهو منكم، وإلا فأبلغه مأمنه.   1 انظر: ما تقدم ص544 حيث ذكرت مراجع القول في التعليق. 2 يوجد في هامش - ح- تعليق في تأييد قول الأشاعرة. 3 لأنهم يزعمون أن كلام الله هو الكلام النفسي القائم بذات الله عزوجل، والقرآن هو الحروف والأصوات المنظومة فعلى هذا يكون عندهم القرآن من نظم جبريل عليه السلام أو نظم محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا نفس قول المشركين الذي حكاه الله عنهم {إِنْ هَذَا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ} وهو أيضاً نفس قول المعتزلة في القرآن. 4 التوبة آية (6) ، وقد استدل بهذه الآية كثير من لسلف منهم سفيان بن عيينة، والإمام أحمد والبيهقي واللالكائي وغيرهم. انظر: السنة لعبد الله بن الإمام أحمد 139- 155، السنة للالكائي 2/331، الأسماء والصفات للبيهقي 331. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 ومن الدليل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} 1. ومعلوم أن المشركين لا سبيل لهم إلى سماع ما في نفس الله من الكلام ولا إلى تبديله. فتقرر بهذا أن المراد بهذا كله هو القرآن المتلو المسموع. ويدل على ما قلناه قوله تعالى {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوه} 2، والمراد بكلام اله في هذه الآية التوراة، ويدل على هذا أن المتلو يسمى كلام الله قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} . الآية إلى قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} 3، أي لا تغيير لما وعد الله أولياءه من كريم ثوابه. وأما الدليل على أن هذا المتلو يسمى قرآناُ فقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} 4. فالذي تحدى الله العرب أن يأتو بمثله وجعله معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم واخبر أنهم لا يأتون بمثله هو هذا القرآن والسور والآيات، فأما ما في نفس الباري من الكلام فلا سبيل للعرب، ولا لأحد من الخلق إلى سماعه، ولا إلى معارضته. ويدل على ما قلنا قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ} 5. فقال: {هَذَا الْقُرْآنُ} وهذه إشارة إلى شيء موجود مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما في نفس الباري ليس بموجود معه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنذرهم بما يتلى في هذه السور والآيات. وأيضاً فإنه قال: {وَمَنْ بَلَغ} وأراد من بلغه القرآن من غاب عني أو حدث   1 الفتح آية (15) . 2 البقرة آية (75) . 3 يونس آية (62-64) . 4 الإسراء آية (88) . 5 الأنعام آية (19) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 بعدي فأضمر الهاء والعرب تضمر الهاء في الصلات مع "من والذي وما" فتقول: من أكرمت زيداً، أي من أكرمته زيداً، والذي أكلت خبزاً، أي الذي اكلته خبزاً، وما أخذت مالك، الذي أخذته مالك. ويدل على ما قلنا قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ1 فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} 2. والذي سمعته الجن هو القرآن والسور والآيات دون ما في نفس الباري، ويدل على ما فقلناه أن المشركين لما سمعوا من النبي صلى اله عليه وسلم القرآن سمعوه شعراً، وسموا النبي صلى الله عليه وسلم شاعراً، فأكذبهم عزوجل فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} 3، فسمى الله4 ما سماه المشركون شعراً قرآناً وذكراً، هو هذه السورة والآيات. ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} 5، والاستماع لا يكون إلا إلى هذه السور التي هي حروف ولا يسمع إلا الصوت أيضاً، وقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} 6 {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} 7. وهذا يدل على أن القرآن هو هذه السور وأنه متبعض، لأنه قال: {مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ، بدليل قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض} 8. وعند الأشعرية، أن القرآن لا تتبعض9. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ   1 في الأصل الآية إلى هنا أما في - ح- فاكمل الآية كما أثبت. 2 سورة الجن آية (1) . 3 يس آية (69) . 4 في الأصل (فسماه الله) وهو خطأ والصواب كما في - ح- وهو ما أثبت. 5 الأعراف آية (204) . 6 المزمل آية (20) . 7 المزمل آية (20) . 8 البقرة آية (85) . 9 يوجد في نسخة - ح- تعليق منقول عن الأشعرية في تفضيل مقالتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} 1، فسماه عربياً، وفسره ابن عباس - رضي الله عنه - غير مخلوق2. وعند الأشعرية أن القرآن العربي مخلوق3. وقال في آية أخرى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 4، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} 5. وعند الأشعري أن الله ما أنزل على نبيه القرآن، وإنما عليه مفهوم القرآن ومعنى القرآن6. والدليل على بطلان قوله قو الله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} 7 وقوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَان} 8. فذكر الله أنه أنزل القرآن والتوراة والإنجيل، ولم يقل أنزل مفهوم القرآن ولا معناه. ويدل على أن القرآن حروف قول الله: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً   1 الزمر آية (17- 28) . 2 تقدم تخريجه ص 547 والتعليق عليه. 3 تقدم التعليق على هذا انظر: ص 544. 4 الشعراء آية (195) . 5 يوسف آية (2) . 6 يقول الجويني في الإرشاد ص130 "المعني بالإنزال أن جبريل صلوات الله عليه أدرك كلام الله تعالى وهو في مقامه فوق سبع سموات، ثم نزل إلى الأرض فأفهم الرسول صلى الله عليه سلم ما فهمه عند سدرة المنتهى من غير نقل لذات الكلام" انتهى. وهذا الكلام هو من الخرص والتخمين الذي لم يقم عليه دليل سوى إرادتهم دفع ما توهموه باطلاً وهو أن الله يتكلم بحرف وصوت يسمع. 7 الإنسان آية (23) . 8 آل عمران آية (3-4) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 لِلْمُتَّقِينَ} 1، {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} 2، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين} 3، {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 4. فذكر الحروف المتصلة المقطعة في أول السور، وأخبر أنه الكتاب والقرآن وأنها منزلة. وهذا كله يبطل قول الأشعري ومن قال به. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، أما إني لا أقول الم حرف، ولكن الألف حرف واللام حرف واليم حرف" 5. وهذا نص في موضع الخلاف. والدليل على إثبات الصوت قول الله لموسى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} 6. والله سبحانه كلمه من وراء حجاب ولا ترجمان بينهما واستماع البشر في الحقيقة لا يقع إلا للصوت7، ومن زعم أن غير الصوت يجوز في المعقول أن يسمعه من كان على هذه8 البنية إلى دليل. وقد روى الزهري9 عن أبي بكر   1 البقرة آية (1-2) . 2 الأعراف آية (1-2) . 3 يوسف آية (1) . 4 هود آية (1) . 5 أخرجه ت. كتاب فضائل القرآن (ب. ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآ،) 5/175 من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وقال: "حسن صحيح غريب من هذا الوجه". ويروى هذ الحديث من غير هذا الوجه عن ابن مسعود، ورواه أبو الأحوص عن ابن مسعود رفعه بعضهم ووقفع بعضهم على ابن مسعود. انتهى. 6 طه آية (13) . 7 في - ح- (بالصوت) . 8 في الأصل (هذا) وفي - ح- كما أثبت. 9 هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب القرشي أبو بكر الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه توفي سنة (125?) . التقريب ص 318. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 بن عبد الرحمن بن الحارث1 عن جزء2 بن جابر3 عن كعب الأحبار4 أنه قال: "لما كلم الله موسى كلمه بالألسنة كلها قبل لسانه فطفق موسى يقول والله يا رب ما أفقه هذا حتى كلمه بلسانه ففهمه"5. وروى وهب بن منبه أنه قال: "لما سمع موسى كلام الله أنس بالصوت فقال: يا رب أسمع ولا أرى مكانك فأين أنت؟، فقال: أنا فوقك وعن يمينك وعن شمالك وأمامك وخلفك ومحيط بكل شيء"6. وقال: "إن قوم موسى كانوا يحدقون النظر إلى أذن موسى عليه الصلاة والسلام فقال لهم موسى: ما لكم تنظرون إلى أذني، فقالوا ننظر إلى أذن سمعت كلام الله"7. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة غرلاً8   1 أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي قيل ايمه محمد، وقيل المغيرة، وقيل سمه كنيته ثقة فقيه عابد، توفي سنة (94?) . التقريب ص 396. 2 في - ح- (جرير) وهو خطأ. 3 جزء بن جابر الخثعمي ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. الجرح والتعديل 2/546. 4 كعب بن مانع الحميري أبو إسحاق ثقة مخضرم كان من أهل اليمن فسكن الشام، توفي في خلافة عثمان - رضي الله عنه - سنة (32?) . التقريب ص 286. 5 أخرجه ابن جرير في فسيره 6/29- 30، والديلمي في الرد على الجهمية ص 93، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/283، وهذا الحديث فيه مجهول الحال وهو "جزء بن جابر" ثم لو ثبت إلى كعب الأحبار لا يعتد به لأنه من الإسرائيليات. قال ابن كثير: فهذا موقوف على كعب الأحبار وهو يحكي عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسارئيل وفيها الغث والسمين. تفسير ابن كثير 1/588. 6 إلى هنا أخرجه ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص 185. 7 ذكر هذه الرواية أبو نصر السجزي في كتابه الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 202، إلا أنه عزاها إلى أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية الأنصاري الزرقي المدني، ولم يذكر الإسناد. 8 الغرل: جمع أغرل وهو الأقلف أي غير مختون والغرلة الفلقة. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/362. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 بهماً1 فيناديهم الله بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان"2. وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجداً لله"3. وحد الصوت عندنا: هو ما يتحقق سماعه، فكل ما يتحقق سماعه صوت، وما لا يتأتى سماعه فليس بصوت. ويدل على ما قلناه ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى4 قرأ سورة طه ويس قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالت طوبى لأمة ينزل عليهم، وطوبى لأجواف تحمل هذا،   1 البهم: جمه بهيم وهو في الأصل الذي لم يخالط لونه سواد، ومراده هنا والله أعلم الذين ليس بهم شيء من عاهات وأعراض الدنيا. النهاية لابن الأثير 1/167. 2 هذا حديث عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه -، أخرجه البخاري تعليقاً، كتاب التوحيد 9/113، وأخرجه مسنداً في خلق أفعال العباد ص 192 ضمن عقائد السلف، وأخرجه حم. 3/495، والحاكم 3/575، وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وابن أبي عاصم في السنة 1/225. وقال الألباني في التعليق: "حديث صحيح". 3 أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/281 بسنده، وذكره البخاري تعليقاً، انظر: فتح الباري 13/452، وذكره السجزي في كتابه الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 207 وقال: وما في رواته إلا إمام مقبول، وأخرجه باختلاف في اللفظ أبو داود مرفوعاً. انظر: مختصر السنن 7/128، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 262 مرفوعاً وموقوفاً، وذكره الألباني في الأحادي الصحيحة، وقال عن المرفوع: "إنه على شرط الشيخين والموقوف أصح". انظر: الأحاديث الصحيحة 3/283. ولهذه الرواية عن ابن مسعود شاهد صحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائك بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم، قالوا الحق وهو العلي الكبير" أخرجه خ. كتاب التوحيد (ب. ولا تنفع الشفاعة..) 9/113-114. 4 قوله: "قال إن الله تعالى" ليست في الأصل وهي مثبتة في - ح-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 وطوبى لألسنة تنطق بهذا "1، ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين، وقد ذكره غيره من المصنفين. وهذا يدل على فساد قول الأشعرية أن كلام الله الحقيقة2 ليس بسور3 وأنه لا ينطق بالحروف وأن الأجواف لا تحمله ولا تنطق به الألسن. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخراب" 4. وهذا يدل على أن القرآن محفوظ بدليل قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم} 5. ويدل على أنه مكتوب قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 6،   1 أخرجه اللالكائي في السنة 2/226، وابن أبي عاصم في السنة 1/270، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 301، وابن عدي في الكامل 1/219 كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وفي إسناده إبراهيم بن مهاجر قال ابن عدي: "ولم أجد له أنكر من حديث "قرأ طه ويس"، لأنه لم يوه إلا إبراهيم بن مهاجر، ولا يروي بهذا الإسناد ولا يغير هذا الإسناد وهذا المتن إلا إبراهيم بن مهاجر وباقي أحاديثه صالحة". وقال ابن حبان في المجروحين: "هذا متن موضوع"، المجروحين 10/108، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات 1/110 وقال: حديث موضوع. 2 هكذا في النسختين والصواب أن يقال: (الحقيقي) . 3 في الأصل (بسورة) وما أثبت كما هو في - ح-. 4 أخرجه ت. في كتاب فضائل القرآن (ب. منه) 5/77، دي. كتاب فضائل القرآن (ب. فضل من قرأ القرآن 2/429، حم. 1/223، والحاكم في المستدرك، كتاب فضائل القرآن 1/554 كلهم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - وصحح الحديث الترمذي والحاكم إلا أن في إسناده قابوس بن أبي ظبيان، قال عنه ابن حجر: "لين الحديث"، وكذلك قال الذهبي في التلخيص على المستدرك. انظر: التقريب ص277. 5 العنكبوت آية (49) . 6 البروج آية (21- 22) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} 1، وقوله تعالى: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} 2. وروي أن النبي صلى الله عليه سلم قال: "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر"3. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو"4، وأراد به السفر بالمصاحف. ويدل على ما قلناه أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت صادقاً لكلمت الله، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} 5.   1 الواقعة آية (77- 78) . 2 الطور آية (1-3) . 3 هذا حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده. وروي أيضاً من حديث حكيم بن حزام وابن عمرو - رضي الله عنهم -، وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/485 عن حكيم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والدارقطني في سننه 1/121، واللالكائي في السنة 2/344 أخرجاه عن الرواة الثلاثة. والطبراني في الكبير عن حكيم في 3/205 وعن ابن عمر في 12/314، وفي الصغير أيضاً عن ابن عمر 2/139. والحديث للعلماء فيه كلام كثير وذلك لما في رواته من الكلام أو الإرسال في الإسناد ونحو ذلك. وقد درس الشيخ الألباني الحديث في إرواء الغليل 1/158 وصححهن ثم نقل الكلام في رواياته وأسانيده ثم قال: "وجملة القول أن الحديث طرقه كلها لا تخلو من ضعف ولكنه ضعف يسير إذ ليس في شيء منها من اتهم بالكذب، وإنما العلة الإرسال أو سوء الحفظ ومن المقرر في علم المصطلح أن الطرق يقوي بعضها بعضاً إذا لم يكن فيها متهم وعليه فالنفس تطمئن بصحة هذا الحديث لا سيما وقد احتج به الإمام أحمد وصححه أيضاً صاحبه الإمام إسحاق بن راهويه". انتهى. 4 أخرجه خ. كتاب الجهاد (ب. السفر بالمصاحف إلى أرض العدو) 4/45، م. كتاب الإمارة (ب. النهي عن السفر بالمصاحف إلى أرض الكفار..) 3/149 من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - ولفظه عندهم: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو". 5 الشورى آية (51) ، وذكر سبب النزول للآية كما هنا الواحدي في أسباب النزول ص 266، وحكاه أيضاَ القرطبي في التفسير 16/53، ونسبه إلى النقاش والواحدي والثعلبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 قال مجاهد: "الأنبياء على ثلاثة أصناف: نبي أوحي إليه بقلبه فحفظ عن الله، وداود عليه السلام إنما حفظ الوحي بقلبه ثم زبره بكتبه ومعنى زبره أي أتقنه. ونبي كلمه الله من وراء حجاب وهو موسى عليه السلام. ونبي أرسل الله إليه رسولاً وهو جبريل فيوحي بإذنه ما يشاء وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان جبريل يأتي إلى بعض الأنبياء في منامه وكان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة كما يأتي الرجل صاحبه"1. وموضع الدليل لنا من هذه الآية: لو كان كلام اله لا يؤخذ إلا مخلوقاً لم يكن للنفي في2 هذه المعاني معنى3. ويقال للأشعري إذا قرأ آية من القرآن هذا قول الله أم قول البشر؟ فإن قال: هو قول الله فقد رجع إلى ما عليه السلف وأهل الحق. وإن قال: بل هو قول البشر4، قلنا عن ذلك أجوبة:   1 لم أقف على من عزاه إليه مسنداً. 2 في - ح- (للبشر) . 3 يعني أن الآية تثبت أن تكليم الله للرسل إنما هو على ثلاثة أنحاء، فلو كان كلام الله مخلوقاً لا حاجة إلى هذا التقسيم حيث يكون التناول من طريق واحد وهو إرسال الرسول. 4 هذا لازم مذهب الأشاعرة وقد صرح به كما تقدم متأخروهم، وممن صرح بذلك الجويني قال في معنى إنزال القرآن "إن جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - أدرك كلام الله تعالى وهو في مقامه فوق سبع سموات، ثم نزل إلى الأرض فأفهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما فهمه عند سدرة المنتهى من غير نقل لذات الكلام". الإرشاد ص130. معنى هذا الكلام أن جبريل أدرك بطريقة ما معاني مختلطة فأفهم الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المعاني وعبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بما سماه قرآناً، فعلى هذا هو قول البشر وعليه لا فرق عندهم بين ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم من بيان الشرع وهو وحي من الله، وما يتكلم به على أنه قرآن سوى أنه يسمي هذا قرآناً وذاك لا يسميه قرآناً. ويوضح الإيجي هذا بصراحة أكثر حيث يقول عند قول المعتزلة في الكلام: "وقالت المعتزلة أصوات وحروف يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي صلى الله عليه وسلم وهو حادث. وهذا لا ننكره ولكنا نثبت أمراً وراء ذلك وهو المعنى القائم بالنفس". المواقف للإيجي ص 294. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 أحدها: أن يقال له: فهذه أقوال الوليد بن المغيرة فيما أخبر الله عنه بقوله: {إِنْ هَذَا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ} ، فقال الله متوعداً له على قوله هذا {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} 1. فلو كان قوله بذلك صحيحاً لما توعد2 الله عليه. الجواب الثاني: أن يقال له: فمن البشر الذي هذا قوله، فليس أحد يدعي أن هذا قوله بل الكل منهم يقولون هذا قول الله، وإذا سمعوا القارئ بهذا الكلام قالوا صدق الله، من البشر الذي يقول {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} . والجواب الثالث: أن يقال له: إذا كان هذا من قول البشر فأت بسورة من مثله، وإن قال: بل هو كلام البشر عبارة عن كلام الله والمفهوم منه كلام الله قيل له: فمن البشر الذي سمع كلام الله القديم القائم بنفس الله فعبر عنه بهذا الكلام، فيضاف هذا الكلام إليه، ويقال هذا عبارة فلان فإن أحداً لا يدعي أنه عبارته. فإن قال هو عبارتي عن كلام الله3. قلنا له فحقيقة المعبر أن يسمع كلاماً فيعبر عنه، وأنت لم تسمع كلام الله حقيقة، وإنما سمعت قول معلمك فعبرت عن قول معلمك ومعلمك سمع قول معلمهن فصرت معبراً عن عبارة معلمك إلى أن يتناهى4 إلى الصحابة - رضي الله عنهم - وهو لم يسمعوا قول الله حقيقة، وإنما سمعوا عبارة النبي صلى الله عليه وسلم عن عبارة جبريل ولا أدري عما عبر عنه جبريل5.   1 المدثر آية (26) وذكر سبب النزول المذكور هنا ابن جرير في تفسيره 29/156. 2 في الأصل (قواعد) وهي في - ح- كما أثبت. 3 أي إن قال الأشعري هو عبارتي عن كلام الله. 4 في - ح- (ينتهي) . 5 تقدم النقل عن الجويني أن جبريل عليه السلام أدرك كلام الله فقط، انظر: ص 564 تعليق (4) . ثم إن الأشاعرة يطلقون الكلام النفسي. وهذا الوصف يدل على اختصاص الكلام بالنفس، ومعلوم أن ما في نفس الإنسان لا يطلع عليه إلا الله عز وجل، أما ما في نفس الباري جل وعلا فقد بين ذلك نبي الله عيسى عليه السلام كما حكى صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} . فيقال للأشعرية فمن الذي أطلع على ما في نفس الباري جل وعلا؟ وهذا لا جواب عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 فقول الأشعري هذا لا يستقيم أنه عبارة عن كلام الله. وقول الأشعري: إن المفهوم من هذا الكلام كلام الله فغير صحيح لأن مفهوم كل إنسان معه ولا سبيل للخلق1 إلى العلم بفهم ما في نفس الباري سبحانه، قال الله تعالى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِك} 2. ولأن ما في النفس لا يسمى كلاماً حقيقة وإنما يسمى حديث نفس3. بدليل: أن رجلاً لو حلف بطلاق امرأته أن لا يتكلم فحدث نفسه بشيء أو نظم في نفسه كلاماً لم تطلق امرأته بإجماع الفقهاء، فدل ذلك على أن حقيقة الكلام هو المسموع المفهوم، ولا يكون ذلك إلا بحروف وصوت. ويقال الأشعري إذا قرأ آية ن كتاب الله أهذا كلام أم كلامان4 فإن قال بل   1 يوجد تعليق في هامش -ح- في بيان قول الأشاعرة منقول عن الإيجي وهو من الكلام الذي لا طائل تحته ولا دليل عليه. 2 المائدة آية (116) . 3 ابتدأ المصنف - رحمه الله - يرد على الأشاعرة ودعواهم أن الكلام هو حديث النفس وأبو الحسن الأشعري بين يدي له ثلاثة كتب: اللمع، ورسالة إلى أهل الثغر، والإبانة، ولم يذكر في واحد منها الكلام النفسي، بل صرح أن كلام الله غير مخلوق، وأن القرآن غير مخلوق، لكنه لم يقل في واحد من هذه الكتب إن اله تكلم بحرف وصوت، بل أغفل هذه المسألة تماماً وتحاشى إيرادها والكلام عليها وكلامه في الإبانة أصرح من كلامه في غيرها، حيث صرح بالتكليم فقال: "وقد قال الله عزوجل {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} والتكليم هو المشافهة بالكلام". الإبانة ص 58. وقد نسب إليه القول بالكلام النفسي أبو نصر السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت فقال: "وقال في غير ذلك من كتبه - يعني أبا الحسن الأشعري -: الكلام معنى قائم بنفس المتكلم كائناً من كان ليس بحرف ولا صوت"، الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 96، رسالة ما جستير. وعزا إليه نحوه الشهرستاني في نهاية الإقدام ص320، كما بين أبو نصر السجزي - رحمه الله - في كتابه هذا أن الكلابية والأشاعرة هم أول من قال بهذه المقالة في الكلام. انظر: ص 91 من الرد على من أنكر الحرف والصوت. أما أتباع أبي الحسن الأشعري فهذا ظاهر في كتبهم ومصرح به. انظر: التمهيد للباقلاني ص 283، والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 75، الإرشاد للجويني ص 109، وغاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 97. 4 هكذا في النسختين ولعل فيها سقطاً وصوابه (أهذا كلام أم ليس كلاماً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 كلام، قيل له: أهو كلام الله أم كلامك؟ فإن قال: كلام الله رجع إلى ما عليه أهل الحق، وإن قال بل كلامي بان كفره لأنه خلاف المسلمين، وإن قال: كلامي أعبر به عن كلام الله. قلنا له: فكلام الله قديم1 وكلامك محدث، فميزنا لنا كلامك لنوقع عيه الحدث2 عن كلام الله لنسميه قديماً، ولا سبيل له إلى ذلك بالجملة. ويقال للأشعري: ما القرآن الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وادعى أنه كلام ربه، فقال: "من ينصرني حتى أبلغ كلام ربي"3، وجعله الله معجزة لنبي صلى الله عليه وسلم ودليلاً على صحة نبوته، أهو كلام الله القائم بذاته أم هو هذه السور والآيات؟. فإن قال هو هذه السور والآيات رجع إلى الحق وإلى ما عليه كافة المسلمين، وإن قال: بل هو المعنى القائم بذات الله، قيل له: فإن هذا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ولا سمعه عندك4، فكيف يكون معجزة له وكان للعرب أن يقولوا: إن هذا الكلام القائم بذات الله لم نسمعه فكيف تأتي بسورة من مثله، وإنما نأتي بمثل ما سمعناه5.   1 تقدم التعليق على هذا عند قول المصنف عن القرآن "وهو صفة لله قديم بقدمه غير مخلوق" ص 541. 2 أي لنصف بأنه مخلوق. 3 تقدم تخريجه ص 134. 4 في - ح- (غيرك) . 5 الواقع أن الأشاعرة في مسألة القرآن اختلط قولهم فلا تكاد نرى لهم فيه عبارة ولضحة. والإزام بأن القرآن وهو السور والآيات هو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الذي تحدى الجن والإنس أن يأتوا بمثله إلزام قوي جعلهم يلمحون ويصرحون بالقول بخلق القرآن، فالغزالي طرح على نفسه ومن معه هذا السؤال، فذهب إلى أن هناك ثلاثة أشياء قراءة ومقروء وقرآن، فقال: "القراءة فعل القارئ، والمقروء الكلام النفسي، والقرآن مشترك بين المقروء وفعل القارئ"، وقال: "كل وصف يتعلق بقدم القرآن فالمراد به المقروء، وكل وصف يتعلق بما لا يحتمله القديم فالمراد به العبارات الدالة على القديم"، ثم قال: "وقال كافة السلف القرآن كلام الله غير مخلوق، وقالوا القرآن معجزة وهي فعل الله تعالى إذ علموا أن القديم لا يكون معجزاً". الاقتصاد ص 81-82. وبما هو أعقد منه فصل الكلام الجويني في الإرشاد. انظر: ص 124. وكذلك الآمدي بعد أن تكلم مع المعتزلة قسم كما قسم الغزالي من أن القرآن مقروء وقراءة ثم قال: "فلما وقع الاشتراك في الاسم ارتفع التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد، فإن ما أثبتوه - يعني المعتزلة - معجزة لا نثبت له القدم وما أثبتنا له القدم لا تثبتونه" انتهى. غاية المرام ص 108، والغزالي صرح بأن القرآن فعل الله تعالى وهو المعجزة وليس كلامه صريحاً في إثبات أن القرآن مخلوق عنده، إذ الفعل يمكن أن يكون فعل الكلام والفعل الخلق، لكنه لايقول بالكلام المعروف فلهذا يمون مراده أن المعجزة هو الكلام المخلوق. ونحو ذلك قال الجويني حيث قال بعد أن رد على المعتزلة: "ونحن نقول الكلام الذي فعله معجزة للرسول". وهذا تصريح بالخلق حيث لا يرى أن الكلام القديم من قعل الله، أما الآمدي فجعل الخلاف في غير محل واحد، إلا أنه صرح أن القرآن لا يثبت له القدم، ومعنى ذلك عنده وعند الأشاعرة الحدوث وهو الخلق. وهذا الكلام منهم يدل على أنهم يقولون بخلق القرآن، كما صرح بذلك عنهم العمراني - رحمه الله - وإن أظهروا أنهم يردون على القائلين به. ثم إن قول الغزالي وغيره: القرآن مشترك بين القراءة والمقروء، ثم يجعل القراءة حادثة والمقروء قديم تقسيم في غير محله، فإن الكلام في المقروء نفسه وهو القرآن، أما القراءة فهي أصوات القراءة ولا علاقة لها بالمقروء، والتقسيم الصحيح الذي يوافق مذهبه أن يقول إن المقروء يقصد به الكلام النفسي ويقصد به الحروف المنظومة في هذه السور والآيات وعنده الكلام النفسي غير مخلوق، أما الحروف المنظومة التي يتلوها الناس مخلوقة كما تقدم بيانه عنهم. أما عند السلف فإن المقروء كلام الله لفظه ومعناه وحيثما وجد فهو كلام الله وهو المعجزة التي تحدي العرب أن يأتوا بمثله، أما أصوات القراءة فلا علاقة لها بالقرآن بل هي فعل الناس وأصواتهم. وسيأتي مزيد إيضاح لمسألة اللفظ بالقرآن ولكن الأشاعرة كثيراً ما يموهون ويخلطون الحق بالباطل كالتقسيم السابق ذكره عن الغزالي، ثم هم بعد ذلك يحملون على القائل إن القراءة هي القرآن وهي قديمة وما إلى ذلك من الخرافات التي يذكرونها ولا ينسبونها إلى معين. كل ذلك فراراً من بيان الحق في المقروء وهو القرآن السور والآيات والله المستعان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 ويقال للأشعري: قد أقررت بأن لله سمعاً وبصراً وعلماً وقدرة وحياة وكلاماً لتنفي عنه ضد هذه الصفات، فلما كان السمع الذي أثبته لله هو السمع المعهود في لغة العرب، وهو إدراك المسموعات وكذلك ضجه المنفي عنه هو المعهود في كلام العرب وهو الصمم، وكذلك البصر الذي أثبته لله هو المعهود في كلام العرب وهو إدراك المبصرات، والعلم هو إدراك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 المعلومات، وجب أن يكون الكلام لله هو الكلام المعهود في كلام العرب، وهو ما كان بحرف وصوت، كما أن ضده المنفي وهو الخرس المعهود عندهم، فأما إثبات كلام لا يفهم ولا يعلم فمحال. ولا يلزم على ما قلنا إذا أثبتنا لله كلاماً بحرف وصوت أن يثبت له آلة الكلام، لأنه لا يتأتى الكلام بذلك إلا من له آلة الكلام، لأنا قد أثبتنا نحن والأشعري لله السمع والبصر والقدرة وإن لم نصفه بأن له آلة ذلك، وعلى أن الله سبحانه قد أخبر أن السموات والأرض قالتا {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 1، وأخبر أن جهنم تقول {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} 2 وأخبر أن الجوارح تنطق يوم القيامة بالشهادة3. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذراع المشوية أخبرته أنها مسمومة4.   1 وذلك في قول الله عزوجل: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} فصلت آية (11) . 2 وذلك في قوله عزوجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ق آية (30) . 3 وذلك في قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النور آية (24) . 4 روى أخبار الذراع المسمومة للنبي صلى الله عليه وسلم د. كتاب الديات (ب. فيمن سقى رجلاً سماً) 2/245، دي. في المقدمة (ب. ما أكرم النبي من كلام الموتى) 1/32 من طريقين: الطريق الأولى عن الزهري عن جابر بن عبد الله وهي منقطعة بين الزهري وجابر، والأخرى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهي مرسلة. انظر: مختصر السنن للمنذري 6/307. ورواه أيضاً البزار من حديث أنس وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما -. انظر: كشف الأستار 3/140 وفي إسناد حديث أنس مبارك بن فضالة البصري. قال عنه ابن حجر: صدوق يدلس. انظر: التقريب ص328. وحديث أبي سعيد إسناده حسن قال الهيثمي عنه: رجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد 8/295، ورواه أيضاً الطبراني في الكبير 19/70 من حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه -، وفي إسناده أحمد بن بكر البالسي. قال ابن عدي روى مناكير عن الثقات، وقال الأزدي: كان يضع الحديث. انظر: الميزان 1/86، والحديث له أصل في الصحيح عن البخاري كتاب الطب (ب. ما يذكر في سم النبي صلى الله عليه وسلم 7/120، حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ولم يذكر فيه (أن الذراع أخبره) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 وشيء من هذا كله لا يوصف بأن له آلة الكلام فبطل قوله بذلك. وهذه أخبار رويت عن السلف: قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي - رحمه الله - يقول: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق أو القرآن بلفظي مخلوق فهو جهمي"1. وقال أحمد بن حنبل: "اللفظية جهمية قال الله {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه} ممن يسمع"2. قال ابن جرير3: "سمعت جماعة يحكون عن أحمد بن حنبل أنه قال: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع"4. وسئل إسحاق بن راهويه5 عن الرجل يقول: "القرآن ليس بمخلوق ولكن قراءتي إياه مخلوقة لأني أحكيه وكلامي مخلوق، فقال إسحاق: "هذه بدعة لا يقر على هذا حتى يرجع عنه"6. قال أبو عبيد القاسم بن سلام7: "كلام الله ليس بداخل في شيء من كلام الناس ولا مختلط به ولو كان يشبه8 في شيء من الحالات لكان القرآن   1 أخرجه اللالكائي عنه في السنة 2/354. 2 أخرجه اللالكائي في السنة 2/355 وروى عنه عبد الله ابنه عدة روايات في السنة بهذا المعنى 1/163-165. 3 محمد بن جرير أبو جعفر الطبري صاحب التفسير والتاريخ، قال الخطيب: كان أحد أئمة العلماء. انظر: تاريخ بغداد 2/162. 4 ذكره اللالكائي في السنة 2/355. 5 إسحاق بن إبارهيم بن مخلد الحنظلي أبو محمد بن راهويه المروزي حافظ مجتهد قرين الإمام أحمد بن حنبل. توفي سنة 238. التقريب ص 27. 6 أخرجه اللالكائي في السنة 2/356. 7 أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام المشهور ثقة فاضل توفي سنة (224?) . التقريب ص 278. 8 هكذا في النسختين وفي المصدر (يشبهه) والمعنى واضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 يقطع الصلاة لأن كل متكلم في صلاته قاطع لها، ولو قال رجل: والله لا تكلمت اليوم بشيء وقرأ القرآن لم يحنث"1. وروي أن رجلاً سأل محمد بن إسماعيل البخاري فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في القرآن؟، فقال: "القرآن كلام الله غير مخلوق"، فقال: إن الناس يزعمون أنك تقول ليس في المصحف قرآن ولا في صدور الناس، فقال: "أستغفر الله أن يشهد علي بما لم يسمع مني أني أقول كما قال الله تعالى: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} أقول في المصاحف قرآن، وفي صدور الناس2 قرآن، فمن قال: غير هذا فيستتاب فإن تاب وإلا فسبيله سبيل الكفر"3. وروي عن محمد بن جرير أنه قال: "القرآن كلام الله غير مخلوق كيف كتب وتلي وفي أي موضع وجد في اللوح المحفوظ أو في ألواح صبيان الكتاتيب مرسوماً بحجر أو في رق أو في4 القلب حفظ، فمن قال غير هذا أو ادعى أن قرآناً في الأرض أو في السماء غير الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا أو اعتقد ذلك بقلبه فهو بالله كافر حلال الدم برئ من الله والله برئ منه قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} ، وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} فأخبر سبحانه أنه في اللوح المحفوظ وأنه مسموع من لسان محمد صلى الله عليه وسلم وهو قرآن واحد"5. فهؤلاء الأئمة نقلة الأخبار والاثار، الذين شهروا بالعلم والفضل، ولو تتبعت ذكر من قال بهذا أو صرح بكفر من قال بخلق القرآن وبكفر من   1 أخرجه اللالكائي في السنة 2/357 وفي كلامه تقديم وتأخير. 2 في - ح- (الرجال) . 3 أخرجه اللالكائي في السنة 2/358، والخطيب في تاريخ بغداد 2/32. (أو) ليست في الأصل وهي في - ح-. 5 أخرجه اللالكائي في السنة 2/359. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 قال بأن هذا المتلو عبارة عن القرآن لطال الكتاب، وفيمن ذكرته منهم مقنع1.   1 ما ذكر المصنف - رحمه الله - هنا هو رد على اللفظية الذين يقولون لفظي بالقرآن مخلوق، فرد عليهم الأئمة بما تقدم ذكره وغيره كثير، وقد أفرد عبد الله في كتابه السنة ص 163-166. وكذلك الآجري في الشريعة ص 89، واللالكائي في السنة من ص 349- 362 وأكثر هذه النقول هنا منه. وهذه المسألة من المسائل التي تولدت بسبب فتنة القول بخلق القرآن، ولم تظهر إلا في زمن الإمام أحمد وهو الذي تصدى لها أولاً وبين كفر قائلها، يدل على هذا ما رواه اللالكائي عن ابن جرير - رحمه الله - أنه قال: "وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا اثر فيه نعلمه عن صحابي مضى ولا عن تابعي قفى إلا أن عمن في قوله الشفا والغناء وفي اتباعه الرشد والهدى ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، ثم ذكر القول المتقدم ص () ثم قال: "ولا قول عندنا في ذلك يجوز أن نقول غير قوله إذ لم يكن لنا إمام نأتم به سواه وفيه الكفاية والمقنع وهو الإمام المتبع". السنة 2/355. فهذا يدل على أنها ظهرت في زمنه وأنه أول من رد على قائلها. ومسألة اللفظ بالقرآن مسألة متداخلة إذ قول الإنسان "لفظي بالقرآن مخلوق" يحتمل أن المراد به "المقروء" وهو القرآن فيكون هذا عين قول الجهمية والمعتزلة، ويحتمل أن يكون المراد به "فعل القارئ" وهو قراءته وصوته وهو مخلوق وهو من أفعال العباد التي صرح السلف بأنها مخلوقة كما مر في الفصول السابقة، ولهذا التداخل فيها وعدم وضوحها لكل أحد نهى الإمام أحمد عن هذا وقال: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع"، وقد تقدم تخريجه ص 570. وهذا سد منه - رحمه الله - لهذا الباب، وتمسك جماعة من أهل الحديث بهذا وخالفهم غيرهم وتوقف أناس. فصار هناك ثلاثة أقوال: القول الأول: قول إن التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء، فعلى هذا لا يفرقون بين صوت القارئ بالقرآن ولا المقروء فيجعلونها شيئاًُ واحداً وكلاهما غير مخلوق. وهو قول القاضي أبي يعلى في المعتمد. والقول الثاني: من فرق بين القراءة والمقروء والكتابة والمكتوب والتلاوة والمتلو فقالوا: القراءة فعل القارئ وأفعال العباد مخلوقة والمقروء هو كلام الله عزوجل وهو غير مخلوق. والقول الثالث: قول من توقفوا فيها وقالوا: هذه بدعة لم يتكلم الناس فيها ولم يتعاطوها فتوقفوا فيها. والقول الأسعد بالحق من هذه الأقوال من فرق بين بين ان هناك فرقاً بين القراءة والمقروء والتلاوة والمتلو، وقد قامت الأدلة واضحة على هذا مما سبق بيانه أن أفعال العباد مخلوقة. وقد دلت الأدلة أيضاً على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وممن فصل هذا القول ووضحه شافياً كافياً الإمام البخاري صاحب الصحيح - رحمه الله -، فقد وقعت عليه محنة بسبب ما نسب إليه من القول إن لفظي بالقرآن مخلوق، فتبرأ من هذا القول وبين أنه لم يقله وإنما قال أفعال العباد مخلوقة وألف كتابه خلق أفعال العباد لبيان هذه المسألة، فأقام الأدلة صريحة واضحة من القرآن والسنة على أن القراءة غير المقروء والتلاوة غير المتلو والكتابة غير الكتوب، وكذلك بينها ابن قتيبة في كتابه الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية، كما بينها شيخ الإسلام ابن تيميية وتلميذه ابن القيم - رحمهم الله - وغيرهم. انظر: خلق أفعال العباد ص 139-140، 167، 200-202 ضمن عقائد السلف، الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية ص 245-250 ضمن عقائد السلف، وانظر محنة البخاري في هذه المسألة في: تاريخ بغداد 2/30-33، وانظر في بيان مسألة اللفظ: الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 12/170، 210- 211، 306، 373، والصواعق المرسلة لابن القيم 2/306- 317. والملاحظ هنا أن المصنف - رحمه الله - أورد هذه المسألة وهي اللفظ بالقرآن. للرد على الأشعرية القائلين: إن القرآن عبارة عن كلام الله وأن كلام الله معنى قائم بنفس الله عزوجل ليس بحرف ولا صوت، ولا شك أنه يلزمهم ما ورد عن الأئمة بأنهم جهمية لأنهم لا يفرقون بين القراءة والمقروء ولا التلاوة والمتلو بل يجعلونه شيئاً واحداً مخلوقاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 وسئل أحمد بن حنبل عمن قال القرآن كلام الله ووقفوا وقالوا لا نقول إنه مخلوق ولا غير مخلوق، فقال: "هم شر ممن قال القرآن مخلوق لأنهم شكوا في دينهم"1 ثم قال: "لولا ما وقع فيه الناس كان يسعهم السكوت ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا لأي شيء لا يتكلمون"2. ومعنى قوله: لما أحدث الناس الكفر بالقول بحلق القرآن لم يسع العلماء إلا الرد عليهم والتصريح بالقول بضد قولهم بأنه غير مخلوق بلا شك ولا توقف3. فمن وقف كان شاكاً في دينه.   1 روى عنه هذا الخلال في كتاب السنة له ورقة 152/أ، وقد تقدم بيان الواقفة والتعليق على ذلك. انظر: ص 545. 2 هذه رواية أخرى عنه أخرجها عنه الخلال أيضاً في كتاب السنة ورقة 152/ب، والآجري في الشريعة ص 87. (ولا توقف) ليست في - ح-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 وقال هارون بن أبي علقمة1: سمعت عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون2 وغيره من علماء المدينة يقولون: "من وقف في القرآن بالشك فهو كافر وهو مثل من قال بخلق القرآن"3. وقال محمد بن مسلم4، قال أبو مصعب5: "من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال لا أدري أنه مخلوق أو غير مخلوق فهو مثله وشر منه"، فذكرت له رجلاً كان يظهر مذهب مالك فقلت إنه أظهر الوقف، فقال: "لعنه الله ينتحل مذهبه وهو بريء منه"، فذكرت ذلك لأحمد بن حنبل فسر به وأعجبه6.   1 هارون بن موسى بن أبي علقمة الفروي المدني لا بأس به، توفي سنة (250?) . التقريب ص362. 2 عبد الملك بن عيد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمةالماجشون أبو مروان المدني الفقيهن مفتي أهل المدينة صدوق له أغلاط في الحديث، توفي سنة (213?) . التقريب ص219. 3 أخرجه اللالكائي في السنة 2/323-329. 4 محمد بن مسلم بن واره الرازي، ثقة حافظ توفي سنة (270?) . التقريب ص 319. 5 هو أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف أبو مصعب الزهري المدني الفقيه، صدوق، توفي سنة (342?) . التقريب ص 11. 6 أخرجه اللالكائي في السنة 2/324. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 98- فصل وقد لبست القدرية على من لا يعرف الأصول واستدلوا على خلق القرآن بقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} 1 فقالوا: نقول إن القرآن محدث يفنى ويذهب كما تفنى سائر المحدثات، ولا نقول إنه مخلوق لأن الخلق يقع على الكذب قال الله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاقٌ} 2 أي إلا كذب، وقال سبحانه: {إِنْ هَذَا إِلاّ خُلُقُ الأوَّلِينَ} 3 أي إلا كذب الأولين4. وهذا منهم تمويه على من لا خبرة له بمذهبهم ومعنى الحدث معنى الخلق عند المتكلمين، وقد ذكرت قبل هذا أن تحقيق مذهبهم وقولهم فيما سمع منهم5 من القرآن أنه خلق لهم كسائر كلامهم6. وأما استدلالهم بالآية قلنا عن ذلك أجوبة: أحدها: أن نقول: إنه لا يرد بالذكر هاهنا القرآن، لأن كل ذكر في القرآن أراد به القرآن فإنه معروف بالألف واللام أو ممدوح أو موصوف بأنه منزل ليفرق بينه وبين غيره بالذكر، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 7 وقال: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} 8. وقال: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} 9، وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ   1 الأنبياء آية (2) وذكر هذا الاستدلال القاضي عبد الجبار المعتزلي في شرح الأصول الخمسة ص530. 2 سورة ص آية (7) . 3 الشعراء آية (137) . 4 في هامش - ح- تعليق منقول من كتاب (شرح الشهاب) لطاهر بن يحيى العمراني فيه الرد على المعتزلة في استدلالهم بالآية السابقة. 5 في الأصل (أن) وما اثبت من - ح- وهو الأصوب. 6 يعني بذلك ما تقدم من ذكر قول المعتزلة والقدرية أنهم يخلقون أفعالهم، فلزمهم على هذا إذ لم يكن القرآن عندهم كلام الله أنهم إذا تكلموا وقرأوه به فهو خلق لهم، وهذا ما لم يقل به أحد. 7 الحجر آية (9) . 8 ص آية (1-2) . 9 آل عمران آية (58) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاس} 1، وقال: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} 2، وقال {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} 3، فذكر الذكر في هذه الآية مُنَكَّراً4 إلا أنه مدحه بالبركة ووصفه بأنه منزل ليدل على أنه القرآن. وفي هذه الآية التي استدلوا بها ذكر منكر ولم يمدحه إلا وصفه بأنه منزل ليدل على أنه غير القرآن فيحمل على أحد معنيين: إما على النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله سماه ذكراً بقوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُم} 5، ويدل على هذا التأويل أنه قال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ} فذكر أن الذكر يأتيهم، والذي يأتيهم بنفسه هو النبي صلى الله عليه وسلم في المواعظ والتخويف من كلامه لا من كلام الله6، ويدل على هذا أن قريشاً كانوا إذا سمعوا القرآن   1 النحل آية (44) . 2 القلم آية 51. 3 الأنبياء آية (50. 4 في - ح- (متكرراً) . 5 الطلاق آية (10) . 6 ذكر الإمام أحمد في الرد على الجهمية استدلال الجهمية بهذه الآية ورد عليهم بإجابة مطولة مما جاء فيها (أن الشيئين إذا اجتمعا في اسم مدح كان أعلاهما أولى بالمدح وأغلب عليه، وإن جرى عليهما اسم ذم فأدناهما أولى به فضرب الأمثلة لذلك ثم قال: فلما قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِن ْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} فجمع بين ذكرين ذكر الله وذكر نبيه، فأما ذكر الله إذا انفرد لم يجر عليه اسم الحدث ألم تسمع إلى قوله {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} وإذا انفرد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه جرى عليه اسم الحدث ألم تسمع إلى قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون} فذكر النبي صلى الله عليه وسلم له عمل والله له خالق ومحدث والدلالة على أنه جمع بين ذكرين لقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} ، فأوقع عليه الحدث عند إتيانه إيانا، وأنت تعلم أنه لا يأتينا بالأنبياء إلا مبلغ ومذكر وقال الله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} فلما اجتمعوا في اسم الذكر جرى اسم الحدث، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم إذا انفرد وقع عليه اسم الخلق وكان أولى بالحدث من ذكر الله الذي انفرد لم يقع عليه اسم خلق ولا حدث، فوجدنا دلالة من قول الله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} أي النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يعلم فعلمه الله، فلما علمه الله كان ذلك محدثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم) انتهى. الرد على الجهمي ص80 - 82 ضمن عقائد السلف. كما ذكر هذين الوجهين في الآية ابن حجر عن ابن بطال. انظر: فتح الباري 13/497. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 . قسموا آراءهم فيه، ولم يقابلوه بالضحك1 واللعب. فدل على أن الذي ضحكوا منه ولعبوا هو ذكر غير القرآن2. والجواب الثاني أن يقال: لو سمعنا أنه أراد بالذكر هاهنا القرآن لم يجب كونه مخلوقاً لوصفه بالمحدث لأن المحدث ضد القديم، وقد أخبر الله سبحانه عن بعض المخلوقات أنه قديم بقوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 3، فلما جاز في4 المخلوقات ما سمى قديماً كان في القديم ما يسمى محدثاً ولا يكون مخلوقاً. والجواب الثالث: إن المحدث يقع في اللغة على الواضح الجلي، ولهذا تقول العرب: أحدث السَيْقَل5 السيف والمرآة إذا جلاهما، وقال جرير6: ضربت عند الأمام فاُرعشت ... يداك وقالوا محدث غير صارم7 أي جلي غير قاطع.   1 في - ح- (إلا بالضحك) ولا معنى لـ (إلا) . 2 لعل مراد المصنف هذا بقوله: (إن قريشاً كانوا إذا سمعوا القرآن قسموا رأيهم فيه) الإشارة إلى قول الله عز وجل: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} الحجر آية 090-91) حيث ذكر ابن حجر - رحمه الله - عدة اقوال في المراد بالمقتسمين منها: أن المراد بها رهط من قريش عضنوا كتاب الله أي قالوا في القرآن إنه شعر وسحر وما اشبه ذلك. انظر: تفسير ابن جرير 14/63- 66، وذكر هذا المعنى بنحو ما هو هنا الباقلاني في كتاب التمهيد ص280. 3 يس آية (39) . 4 في الأصل (بالمخلوقات) وما أثبت من - ح- وهو أصوب. 5 السيقل لغة من (الصيقل) بالصاد وهو أفصح وهو الذي يصقل السيوف ونحوها أي يشحذها. انظر في معنى أحدث: اللسان 2/798، وفي معنى سقل 3/2041، وفي معنى صقل 4/2483. 6جرير بن عطية الخطفي من بني تميم الشاعر المشهور توفي سنة (110?) . البداية والنهاية 9/292. 7 انظر: شرح ديوان جرير لمحمد بن إسماعيل الصاوي ص563. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 والجواب الرابع: أن المحدث قد يراد به المظهر ولا يراد به المخلوق بدليل ما أخبر الله عن الخضر أنه قال لموسى عليه الصلاة والسلام: {فَلا1 تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} 2 يعني أظهر وأبدي لا أخلق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحدث من أمره شيئاً وإن مما أحدث الله أن لا تتكلموا في الصلاة "3.   1 في كلا النسختين (لا تسألني) . 2 الكهف آية (70) . 3 أخرجه خ. كتاب التوحيد (ب. قول الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ) 9/123 من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - تعليقاً، وأخرجه عنه مسنداً د. كتاب الصلاة (ب. رد السلام في الصلاة) 1/146 حم 1/435- 463. والحديث مروي من عدة طرق كلها عن عاصم بن بهدلة بن أبي النجود عن أبي وائل عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وعاصم قال عنه الإمام أحمد: كان خيراً ثقة، وتكلم فيه بعض العلماء من ناحية حفظه، وقال ابن حجر في التقريب ص 158: "صدوق له أوهام"، وانظر: التهذيب 5/38. وصحح الحديث ابن حبان انظر: نصب الراية 2/69 وقد استدل البخاري - رحمه الله - بهذا الأثر على إثبات أن القرآن محدث أي جديد بالنسبة لمن أنزل إليهم، وقد استدل أيضاً لهذا بما رواه بسنده في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله محضاً لم يُشَب..". وقد ذكر - رحمه الله - في خلق أفعال العباد عن أبي عبيد القاسم بن سلام في معنى قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} قال: قائماً حدث عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما علمه الله ما لم يكن يعلم، ونحو هذا في معنى الآية نقل ابن حجر في الفتح عن ابن أبي حاتم أنه أخرج عن هشام بن عبيد الله، الرازي أن رجلاً من الجهمية احتج لزعمه أن القرآن مخلوق بهذه الآية فقال له هشام: "محدث إلينا محدث إلى العباد) ، وأخرج عن نعيم بن حماد أنه قال: (محدث عند الخلق لا عند الله". انتهى. وابن جرير - رحمه الله - لم يذكر في الآية معنى غير أنه محدث نزوله للخلق فقال: (يقول تعالى ذكره: ما يحدث الله من تنزيل شيء من هذا القرآن للناس ويذكرهم به) ، وروى بسنده عن قتادة أنه قال في الآية: "ما ينزل عليهم شيء من القرآن إلا استمعوه وهم يلعبون". قال ابن كثير - رحمه الله - في الآية {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} أي جديد إنزاله، وقد تقدم النقل عن الإمام أحمد نحو هذا، وهو أولى الأقوال وأظهرها، وإن كان ما ذكره المصنف من الأقوال الأخرى له وجه، والله أعلم. انظر: صحيح البخاري مع الفتح 13/496- 497. خلق أفعال العباد ص 151، تفسير ابن كثير 3/172. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 ومن تمويه القدرية في الاستدلال على أن القرآن مخلوق أن قالوا: ق سمى الله القرآن أمراً بقوله تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} 1، وقال في آية أخرى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} 2، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} 3. والمفعول والمقدور عبارة عن المخلوق4. والجواب أنه لم يرد بالأمر هاهنا قوله، وإنما أراد به ما أحدثه الله في الأرض من الأمور، وهو نكاح النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة زيد بن حارثة5، وعقوبته لأهل السبت من اليهود6 لأن العرب تسمي الشيء باسم سببه فلا مُكَوَنَ ولا مفعول إلا بأمر الله وهو قوله للشيء (كن فيكون) ، والفعل يسمى أمراً. قال الشاعر: فقلت لها أمري إلى الله كله ... وإني إليه في الإياب لراجع7 يريد فعلي وشأني، وهذا الأمر يجمع أموراً، والأمر من القول يجمع أوامر8. وهذا يدل على أن أمر الله الذي هو القول ليس بمخلوق قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ} 9 أي بقوله، فلو كان أمره يقوم بأمر غيره لأدى ذلك إلى ما لا يتناهى وذلك محال. واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} 10 والجعل عبارة عن   1 الطلاق آية (5) . 2 النساء آية (470) . 3 الأحزاب آية (380) . 4 ذكر هذا الاستدلال عنهم الباقلاني في التمهيد ص 281 على طريق السؤال. 5 في الأصل (زيد بن أرقم) وهو خطأ وفي - ح- عدلت من أرقم إلى حارثة. 6 وذلك لأن الآية وارد فيهم وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} . 7 بحثت عنه فلم أقف عليه. 8 ذكر هذا الجواب بنحو ما ذكر هنا الباقلاني في التمهيد ص 481. 9 الروم آية (25) . 10 الزخرف آية (9) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 الخلق لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} 1. والجواب: أن الجعل في القرآن يعبر به عن الخلق، ويعبر به عن التسمية وهو المراد هاهنا قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} 2 أي سموهم، وذلك قوله تعالى: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} 3 وأراد به سموه كفيلاً. وقد قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} 4 ولم يرد ما خلقها، وإنما أراد ما سماها، فبطل أن يكون كل جعل في القرآن عبارة عن الخلق5. واستدلوا بقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 6 والقرآن شيء فوجب أن يكون مخلوقاً7.   1 الأنبياء آية (32) وذكر هذا الاستدلال عنهم الإمام أحمد في الرد على الجهمية ص 69 ضمن عقائد السلف، وكذلك شارح الطحاوية ص 186 والباقلاني في التمهيد ص 282. 2 الزخرف آية (19) . 3 النحل آية (91) . 4 المائدة آية (103) . 5 بمثل هذا رد عليهم الإمام احم في الرد على الجهمية، وكذلك الدارمي في الرد على بشر المريسي، وذكر شيخ الإسلام كلام الإمام أحمد في الرد على الجهمية في الرد على هذه الشبهة وهو رد واضح بيِّن، وذكر شارح الطحاوية وجهاً آخر فقال: "إن جعل إذا تعدت إلى مفعول واحد كانت بمعنى خلق مثل قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وإذا تعدت إلى مفعولين لم تكن بمعنى خلق مثل {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} ومثلها قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} . انظر: الرد على الجهمية للإمام أحمد ص 69 - 72، رد الإمام الدارمي على بشر المريسي ص 481 كلاهما ضمن عقائد السلف، وانظر: مجموع الفتاوى 8/29، شرح الطحاوية ص 186. 6 الرعد آية (16) . 7 ذكر هذا الاستدلال عنهم الإمام أحمد في الرد على الجهمية ص 76 ضمن عقائد السلف، وكذلك ذكره شارح الطحاوية انظر: ص 183. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 والجواب أن نقول: إن القرآن صفة لله سبحانه، وقد سمى الله نفسه شيئاً بقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} 1، فلما لم تكن ذات الله سبحانه داخلة في جملة المخلوقات، لم يكن القرآن الذي هو صفة له داخلاً في المخلوقات2. واستدلوا بقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 3، وقال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} 4، وقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} 5، فلما سوى الله بين القرآن وبين الحديد والماء في الإنزال دل على أن حكم الجميع في الخلق واحد6. والجواب أن يقال: لا يمتنع أن يتفق الشيئان في الاسم لمعنى ويختلفان في الصفة لمعنى، ألا ترى أن الله سبحانه يوصف بالوجود والإنسان وغيره من الأجسام يوصف بالوجود وإن اختلفا في الخلق والجسمية7 وغيرهما، ويوصف الله أنه حي عالم قدير بصير سمين ويوصف الإنسان بذلك وإن اختلفا في الخلق والجسمية، ولم يكن الحديد والماء مخلوقين لكونهما   1 الأنعام آية (19) . 2 ذكر الإمام أحمد، وكذلك شارح الطحاوية وجهاً آخر في الرد عيهم، فقال شارح الطحاوية: إن عموم كل في كل موضع بحسبه، ويعرف ذلك بالقرائن، ألا ترى قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاّ مَسَاكِنُهُمْ} . ومساكنهم شيء فلم تدخل في عموم كل شيء دمرته بل كل شيء قابل للتدمير، وكذا قال تعالى عن بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك وهذا القيد يفهم من القرائن. والمراد من قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي كل شيء مخلوق، وكل موجود سوى الله فهو مخلوق، فلم يدخل في العموم الخالق تعالى وصفاته. انتهى مختصراً ص185. 3 القدر آية (1) . 4 الحديد آية (25) . 5 الفرقان آية (48) . 6 ذكر نحو هذا الاستدلال القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة ص 532، وانظر: شرح الطحاوية ص 195. 7 تقدم التعليق على مثل هذه الألفاظ في الفصل الأول من هذا الكتاب ص 97. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 منزلين1 ولو جاز لهم ذلك لجاز لغيرهم أن يدعي أن القرآن جسم كالحديد والماء لاجتماع الجميع بالوصف بالإنزال2. استدلت القدرية والمعتزلة بقوله: لما كان القرآن حروفاً متغايرة يدخلها التعاقب والترتيب والتأليف، وذلك لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون من المتكلم ومن له آلة الكلام ومن كان بهذه الصفات لا يجوز أن يكون صفة لله فثبت أنه مخلوق3.   1 يعني أن الحديد والماء لم يكونا مخلوقين بسبب أنهما منزلان، فهذا الوصف ليس هو الدليل على الخلق. 2 ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذلك شارح الطحاوية وجهاً آخر وهو أن النزول ورد في القرآن على ثلاثة أنحاء: أولاً: نزول مقيد بأنه منه وهو القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ} {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ} . ونحوها من الآيات. ثانياً: نزول مقيد بأنه من السماء مثل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} . ثالثاً: إنزال مطلق كإنزال الحديد والأنعام والسكينة على قلوب المؤمنين وغيرذلك. فهذا يدل على الفرق بينهما، وبين شيخ الإسلام أن جميع ما ورد من لفظ النزول والإنزال في القرآن والسنة إلا وفيه معنى النزول المعروف في لغة العرب، أي الهبوط من أعلى إلى أسفل ولا يكون معناه الخلق". انظر: الفتاوى 12/246- 257، شرح الطحاوية ص 195- 196. 3 ذكر هذا الاستدلال القاضي عبد الجبار المعتزلي في شرح الأصول الخمسة ص 531، وهذا الكلام أهم ما عولوا عليه في نفي أن الله يتكلم، لأن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت، ويلزم فيه التعاقب وما إلى ذلك وقاعدتهم أن الله لا تحل به الحوادث، أي كل صفة يرون أنه يلزم منها وصفه بالحركة أو الفعل ينفونها على أنها حادثة، والله عندهم لا تحل به الحوادث، وبسببها أيضاً نفى الأشعرية الكلام وقالوا بالكلام النفسي، وهي قاعدة باطلة فاسدة لزم منها رد ما دل عليه القرآن من صفات الله عزوجل، وكذلك إنكار كثير من الأحاديث الدالة على صفات الله عزوجل ومن نظر في القرآن والسنة أدنى نظرة ورام معرفة صفات الله عزوجل أيقن يقيناً قاطعاً أن الله يفعل الفعل بعد الفعل فأكثر الصفات تدل على هذا، فمثلاً صفة البصر لها متعلق وهي المبصرات، والمبصرات متجددة وحادثة وهي المخلوقات، فالله يرى هذه الأشياء الحادثة وهذا هو ما يسميه المتكلمون (حلول الحوادث) فهذه القاعدة التي قعدوها من أفسد القواعد وأبطلها، فكم من صفة في القرآن لله عزوجل عطلوها، وكم من حديث صحيح ردوه مع أن هذه القاعدة لم ترد في القرآن ولا السنة ولا في كلام أحد من السلف، ومع ذلك تشبثوا بها وجعلوها أصلاً وغيرها فرعاً فلا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 فضاق بالأشعري وابن كلاب النفس عن الجواب عن هذا، فوافقوهم أن هذا القرآن المتلو مخلوق كما قالوا، وادعوا أن هاهنا1 قرآناً قديماً يوصف بأنه كلام الله ينتفي عنه ضده2 وهو المعنى القائم بنفسه فهم قائلون بخلق القرآن الذي لا يعرف المعتزلة ولا غيرهم من المسلمين قرآناً غيره. وادعت الأشعرية قرآناً وكلاماً لله لا يعقل ولم يسبقهم إلى هذا القول أحد من أهل الملل والنحل فردهم على المعتزلة بخلق القرآن تمويه وتستر بقول أصحاب الحديث، وهو مذهب مسقف باطنه الاعتزال وظاهره التستر3. وأما الجواب عما أورده من الاستدلال فمن وجوه: أحدها: أن يقال لهم جميعاً: ما الدليل على أن الكلام إذا كان ذا تأليف وترتيب كان مخلوقاً، فإنهم لا يجدون عليه دليلاً من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من الإجماع ممن قبلهم من أهل العلم، فإن قالوا: لأنه4 بصفة كلام المخلوقين، قلنا لهم، فليس اجتماع الشيئين في صفة يدل على اجتماعها في جميع الصفات، فيلزمكم أن لا تصفوا الله بأنه متكلم لهذا المعنى5 كما قالت المعتزلة، ويلزم المعتزلة أن لا يصفوا الله بأنه موجود ولا شيء لأن ذلك صفات للمحدثات6.   1 في الأصل (أن هنا) وفي - ح- كما أثبت ضده وهو صفة الحدوث. 2 يعني ينتفي عن القرآن القديم وهو الكلام النفسي ضده وهو صفة الحدوث. 3 انظر: الفصل السابق من ص 544 وفيه بيان قول الأشعرية والكلابية في القرآن وصفة الكلام. 4 في -ح- (بأنه) . 5 يعني بذلك الأشاعرة. 6 ما ذكر المصنف - رحمه الله - هنا قاعدة عظيمة في بيان الحق في مسألة الصفات والرد على المتكلمين بجميع طوائفهم. وهي أن كون الشيئين اتفقا في الاسم أو في شيء من الصفة لا يلزم اتفاقهما في جميع الصفات وجميع الوجوه. وقد ذكر هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في رسالته العظيمة التدمرية، وضرب لذلك مثلاً وهو أن الله أخبر عما في الجنة من المخلوقات من مطاعم وملابس ومناكح ومساكن وما إلى ذلك، وأخبر أن فيها لبناً وعسلاً وخمراً وماءاً ولحماً وحريراً وغير ذلك، وهذه الأشياء موجودة في الدنيا، ولا شك أن بينهما فرقاً عظيماً ومباينة شديدة. وورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء" فإذا كان هذا في المخلوقات فهو بين الخالق والمخلوق أعظم تبياناً من جميع الوجوه، فصفات الخالق تليق بكماله وعظمته وصفات المخلوق تليق بضعفه وعجزه وحاجته. والقاعدة الثانية التي ذكره المصنف هنا هي أن الكلام في بعض الصفات كالكلام في البعض الآخر، فلماذا يثبتون البعض وينفون البعض ما دام أنهم يجعلون السبب في النفي هو عدم المماثلة والمشابهة، فالمعتزلة تثبت الأسماء وتثبت صفة الوجود، والأشاعرة يثبتون السبع الصفات المعروفة عندهم، فيلزم المعتزلة أن ينفوا صفة الوجود والأسماء، لأن المخلوق موصوف بذلك، ويلزم الأشاعرة أن ينفوا السبع الصفات التي ذكروا لأن هذه الصفات يوصف المخلوق بها أيضاً وإلا فليثبتوا الجميع وينفوا المماثلة والمشابهة كما هو مذهب السلف". انظر: الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ص 11-17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 والجواب الثاني أن يقال لهم: قد ورد الشرع بأن كلام الله مرتب، قوله تعالى {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} 1 وثم للترتيب في كلام العرب، ودليل العقل إذا خالف القرآن وجب تقديم دليل الكتاب على دليل العقل. والجواب الثالث: أن أزمان المخلوقات مترتبة شيء بعد شيء، وقد أخبر الله سبحانه أنه يقول لكل شيء إرادة منها (كن) فقال سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2، فأخبر أنه قال لعيسى بعد خلقه لآدم (كن) فمن قال: إنه لم يقل لكل واحد منهما عند خلقه (كن) فقد رد على الله خبره. والجواب الرابع: أن يقال لهم إنما وقع الترتيب في القرآن ويسره الله على على ألسنتنا عن النطق بغير هذا الترتيب لقوله سبحانه: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} 3   1 هود آية (1) . 2 آل عمران آية (59) . 3 مريم آية (97) ، الدخان آية (58) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} 1 ولا يقضي بأنه وقع مرتباً على هذا الترتيب من الله2، فلا يجوز لذلك أن نقول إنه مخلوق. وأما قولهم إن النطق بالحروف والأصوات لا يكون إلا ممن تكون له آلة الكلام، فغير صحيح. وقد بينا أن الكلام قد3 وجد ممن لا يوصف بآلة الكلام وهو السموات   1 القمر آية (17-22) ، (32، 40) . 2 هذا كلام باطل فإن القرآن تكلم الله به على ما هو مثبت في القرآن الكريم، ولا يوجد دليل يدل على غير هذا فالسلف يقولون: "إن القرآن كلام الله غير مخلوق"، فإذا كان كلام الله ونعتقد أن الله يتكلم بحرف وصوت يسمع، وثبت عندنا أن القرآن كلامه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك جبريل لم يدلا ولم يغيرا شيئاً مما أمرا بتبليغه، فقد وصف جبريل عليه السلام بقوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فهذه الصفات تدل على أنه بلغ كما سمع، ولما توعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} دل هذا على أن البلاغ كان كما سمع وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} والمراد بكلام الله هنا القرآن الكريم، دل هذا كله على أن هذا القرآن الذي بين أيدينا تكلم الله به لم يزد منه حرف ولم ينقص منه حرف ولم يبدل منه حرف، ومن قال غيرذلك أو زعم غير هذا فعليه الدليل، ولا دليل هنا ولا شك أن كلام الله عزوجل ليس ككلام خلقه، كما أن سمعه وبصره ليس كسمع المخلوق ولا بصره، والله أعلم. أما قوله تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} فمعناه هوناه وبيناه وسهلناه كما ذكر ذلك ابن جرير في تفسيره 27/96. وذكر شبهتهم بالتعاقب السجزي ورد عليها بقوله: "دخول التعاقب إنما ينبغي فيما يتكلم بأداة والأداة تعجز عن أداء شيء إلا بعد الفراغ من غيره، وأما التكلم بلا جارحة فلا يتعين في تكلمه التعاقب، وقد اتفقت العلماء على أن الله سبحانه يتولى الحساب بين خلقه يوم القيامة في حالة واحدة وعند كل واحد منهم أن المخاطب في الحال هو وحده وهذا خلاف التعاقب. ثم لو ثبت التعاقب لم يضرنا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما خرج من باب الصفا "نبدأ بما بدأ الله به، ثم قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} " وبين أن الله بدأ بذكر الصفا، والقرآن كله بإجماع المسلمين كلام الله سبحانه". الرد على من أنكر الحرف والصوت ص210 - 211. 3 في الأصل (وقد) وما أثبت من -ح- وهو الأقوم للعبارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 والأرض وأعضاء بني آدم والذراع المشوية1، فبطل بذلك قولهم واستدلالهم. احتجت الأشعرية بأن قالوا: لما كان سمعه بلا انخراق أذن، وبصره بلا انفتاح حدقه، وعلمه بلا فكر وجب أن يكون كلامه بلا صوت ولا حرف2. والجواب: أن هذا جمع بغير معنى جامع، وعلى مقتضى دليلكم هذا أن يقال لما كان سمعه بلا انخراق أذن، وبصره بلا انفتاح حدقه، وجب أن يكون كلامه بلا جارحة3، وهكذا نقول4. احتجت الأشعرية بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} 5، وبقوله تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُم} 6، ويقول الرجل في نفسي كلام، فدل على أن ما في نفس الإنسان يسمى قولاً7.   1 انظر: ما تقدم ص 569. 2 ذكر هذه الشبه أبو نصر السجزي عن الأشعري نفسه. انظر: الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 94- 95. وهذا الكلام فيه تمويه وقول بلا علم، لأننا اتفقنا أن الله له سمع وبصر، واتفقنا أن سمعه وبصره لا يشبه سمع المخلوق وبصره، وقول الأشاعرة هنا سمعه بلا انخراق أذن وبصره بلا انفتاح حدقه بلا دليل، فعليهم أن يأتوا بالدليل على هذا النقي فنقول به معهم، وإلا فنحن لا نوافقهم على النفي كم أننا لا نقول به حتى يأتينا الدليل بإثباته فنقف حيث وقفت النصوص. 3 قول المصنف: "وجب أن يكون كلامه بلا جارحة" من النفي الذي لا دليل عليهن فالأولى عدم نفي ذلك إلا أن يوضح المقصود بلفظ الجارحة، فإن دل على معنى مرفوض في الشرع رد، وغن دل على معنى صحيح قبل، وإن لم يدل على هذا أو هذا سكت عنه وتوقف فيه، لأنه لا يجوز القول على الله بغير علم. وقد تقدم التعليق على مثل قول المصنف هنا في أول الرسالة ص 97. 4 قد أجاب السجزي - رحمه الله - عن هذه الشبه بنحو هذا الكلام. الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 185. 5 المجادلة آية (8) . 6 يوسف آية (77) . 7 تقدمت الإشارة إلى هذا الاستدلال والتعليق عليه ص 566، وانظر هذا الاستدلال في التمهيد للباقلاني ص 284، والإرشاد للجويني ص 107، وقواعد العقائد للغزالي ص 183، وانظر الرد على من أنكر الحرف والصوت للسجزي ص 91- 93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 والجواب عنه من وجوه: أحدها: أنا نعارضه بقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} 1، وكذلك قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} 2، وكذلك قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِم} 3، فأخبر في هذه الآيات أنهم قالوا بألسنتهم قولاً لم يقولوه بقلوبهم، ولم يخبر في هذه الآية التي احتجوا بها أنهم لم4 يقولوا بألسنتهم ما قالوه بقلوبهم، فيجوز أن يكون المراد بالآية التي احتجوا بها أنهم زوروا قولاً بأنفسهم وقالوه بألسنتهم فسمى المزور بقلوبهم قولاً لهم لأنه يؤول5 إلى القول باللسان كما قال تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} 6 فسمى العصير خمراً لأنه يؤول إليه. والجواب الثاني: يجوز أن يكون معنى قوله: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} 7 أي قالوه بألسنتهم أسر به بعضهم إلى بعض كقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} 8 أي يسلم بعضكم على بعض9 كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 10 أي لا يقتل بعضكم بعضاً 11، والدليل عليه: أن الآية12. وردت في اليهود،   1 آل عمران آية (167) . 2 الكهف آية (5) . 3 الفتح آية (11) . (لم) ليست في - ح-. (يؤول) ساقطة من الأصل وهي مثبتة في - ح-. 6 يوسف آية (36) . 7 في - ح- (في قلوبهم) . 8 النور آية (61) . 9 ذكر هذا المعنى ابن جرير عن الحسن البصري وغيره وهو الذي رجحه. انظرك تفسير ابن جرير 18/172. 10 النساء آية (29) . 11 ذكر هذا المعنى ابن جرير ولم يذكر غيره في تفسيره. انظر: 5/34. 12 يعني بذلك قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 وذلك أن قوماً منهم قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فنشتمه علامية كما نشتمه في السر لننظر هل يعذبنا الله على ذلك، فجاءوا إليه فقالوا السام عليك يا محمد، يريدون الموت عليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وعليكم، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: السلام عليكم يا إخوة القردة والخنازير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة عليك بالرفق فإنه ما وضع في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه أما سمعتني قد قلت: وعليكم، فأنزل الله {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} 1. فسمى الله كلامهم بألسنتهم قولاً لهم وتوعدهم عليه بجهنم، فدل على أنه هو القول حقيقة وما في النفس لا يسمى قولاً ولا كلاماً، وإنما يسمى حديث نفس ولا يتعلق به حكم. ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تتكلم به" 2، فنفى أن يكون حديث النفس كلاماً.   1 لم أقف عليه بهذا اللفظ وإنما ورد مفرقاً من حديث عائشة - رضي الله عنها -، فقد أخرج البخاري ومسلم تسليم اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم ورده عليهم بدون قوله: "يا عائشة عليك بالرفق فإنه ما وضع … ". وإنما لفظه عند البخاري "فقالت عائشة: عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم، قال: مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والفحش والتفحش قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: أو لم تسمعي ما قلت رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيَّ". خ. كتاب الأدب (ب. لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً) 8/11. وعند مسلم نحوه وزاد في رواية (فأنزل الله عزوجل {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْك … } ) الآية. كتاب السلام (ب. النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام) 4/1706. أما قوله (يا عائشة عليك بالرق فإنه ما وضع..) الحديث. فقد أخرجه م. كتاب البر (ب. فضل الرفق) 4/2004، د. كتاب الجهاد (ب. ما جاء في الهجرة وسكنى البدو) 1/388، حم. 6/112- 125. 2 أخرجه خ. كتاب العتق (ب. الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه) 3/127، م. كتاب (ب. تجاوز الله حديث النفس والخواطر 1/116 كلهم من حيديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 والجواب الثالث: أن حديث التفس لا يسمى كلاماً ويدل عليه شيئان: أحدهما: أنه لو حلف رجل أن لا يكلم هذا اليوم فجلس يزور الكلام في نفسه وينظمه لم يحنث في يمينه، ولو نوى طلاق امرأته وعتق عبده لم يحكم عليه بطلاق ولا عتاق. الثاني: أنه لو كان كلاماً لما صح نفيه عن الكلام بان تقول ما تكلمت وإنما وردت ذلك في نفسي. والجواب الرابع: لو كان ما في النفس كلاماً لكان الساكت أو الأخرس إذا زور في نفسه كلاماً سمى متكلماً فيؤدي إلى كونه أخرس متكلماً أو متكلماً ساكتاً في حالة واحدة وهذا محال. والجواب الخامس: أن الله أخبر عن السماء والأرض أنهما قالتا {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} ، وأخبر عن الجوارح أنها تنطق يوم القيامة، وأخبر عن جهنم أنها تقول {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذراع المشوية أنها قالت: (إني مسمومة فلا تأكلني) ، وجميع ذلك ليس له نفس فعلم أن الكلام يتصور وجوده ممن لا نفس له1. ويقال للأشعرية: قد قلتم إن كلام الله شيء واحد لا يتبعض، وقلتم: إن كلام الله ينقسم إلى أمر ونهي وخبر واستخبار، وهذه المعاني متغايرة متعددة وكذلك قلتم: إن لله صفات متعددة، وهي العلم والإرادة والحياة والقدرة والسمع والبصر والكلام، فلم نفيتم أن يكون القرآن ذو السور والآيات كلاماً لله حقيقة لكونه متعدداً مترتباً. فإن قالوا إنما ينقسم الكلام إلى الأمر والنهي والخبر والاستخبار في القرآن الذي هو عبارة وحكاية عن كلام الله القائم بذاته، ولا ينقسم الكلام القائم بالذات إلى هذه المعاني2، قيل لهم: من شرط العبارة والحكاية أن   1 تقدم ذكر الآيات الدالة على هذا والحديث الذي يدل على كلام الذراع. انظر: ص 569. 2 الكلابية والأشعرية متفقون على أن كلام الله نفسي بلا حرف ولا صوت واختلفوا هل كلام الله معنى واحد أم معاني متعددة. قال عبد الله بن كلاب: "إن الكلام الأزلي لا يتصف بكونه أمراً ونهياً وخبراً، إلا عند وجود المخاطبين واستجماعهم شرائط المأمورين المنهيين". وقال الحسن الأشعري: "إن الكلام الأزلي لم يزل متصفاً بكونه أمراً ونهياً وخبراً، يعني بذلك أن الكلام الأزلي معنى واحد موصوف بهذه الصفات كما يوصف الشخص الواحد بأنه ابن لزيد وعم لعمرو وخال لبكر، وبهذا قال الجويني أيضاً". انظر: الإرشاد ص 119، مجموع الفتاوى 12/166. وقال الإيجي: "إن كلامه واحد عندنا وانقسامه إلى الأمر والنهي والاستفهام والخبر والنداء بحسب التعليق، وذكر شارح جوهرة التوحيد تو ضيحاً لهذا بقوله: وكلامه تعالى صفة واحدة لا تعدد فيها لكن لها أقسام اعتبارية، فمن حيث تعلقه لطلب فعل الصلاة مثلاً أمر، ومن حيث تعلقه بطلب ترك الزنا مثلاً نهي، ومن حيث تعلقه بأن فرعون فعل كذا مثلاً خبر، ومن حيث تعلقه بأن الطائع له الجنة وعد، ومن حيث تعلقه بأن العاصي يدخل النار وعيد، وهكذا". انظر: المواقف في علم الكلام ص 295، شرح جوهرة التوحيد ص 72. والناظر في هذه الأقوال يتبين له فسادها لأنه كلام لا يمكن عقله وإدراك المراد به ولا تطبيقه إلا في الخيال، أما الواقع فلا يمكن، فكيف تكون الأشياء شيئاً واحداً والمتباينات متفقات هذا ما لا يعقل، فالكلام سواء كان بحرف وصوت أو كان كلاماً نفسياً فلابد أن يكون متعدداً مترتباً وإلا لم يكن كلاماً ولا يصح وصفه بحال من الأحوال أنه كلام. ولئن قالوا إن التعدد والتعاقب صفة كلام المخلوق وكلام الله لا يشبه كلام المخلوق. قلنا لهم: إننا لا نشبه كلام الخالق بكلام المخلوق وإنما نصفه بما وصف به نفسه، حيث ثبت عندنا أن القرآن كلامه وهو حروف ويلزم منها التعاقب فوصفنا لكلامه بما دلنا علي كلامه، وأنتم وصفتم بها كلام الله، مع العلم أن ما وصفتم به كلام الله أمر لا يمكن معرفته بحال إلا عن طريق الوحي لأنه يختص بما في ذاته جل وعلا من المعاني. والحق أنه لا يوجد عندهم دليل شرعي على ما توهموه وموهوا به، وإنما هي قاعدة نفي حلول الحوادث بذات الله عزوجل، وهي قاعدة فاسدة ولا أدل على فسادها من مصادمتها لصريح القرآن والسنة والعقل في صفات الله عزوجل. وقد فصل شيخ الإسلام بيان فسادها فلينظر قوله في مجموع الفتاوى 12/140-161. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 تؤدي معنى المعبر عنه وإن كان المعنى القائم شيئاً واحداً فمن المعبر عنه بهذه1 العبارة المفهومة وكيف تعلقت الأحكام بالعبارة دون المعبر عنه وبالمعنى دون المَعْني2.   1 في الأصل (هذه) وفي - ح- (لهذه) كما اثبت وهو الأقوم. 2 في الأصل (المُمَعْنى) وفي - ح- كما أثبت والمراد منها واضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 وأيضاً فإن في القرآن ما يحتاج في فهم معناه إلى كلام أو ضح منه وهو الحروف في أوائل السور، الم، كهيعص، حم، وما أشبهه فإن كان ذلك عبارة عن كلام الله القائم بذاته1 فهلا عبر عنه بكلام أبين منه، وهذا باطل بقوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} 2، فوصف (الر) بأنه الكتاب المبين. ويقال للأشعرية: هل أسمع الله موسى وأفهمه جميع كلامه أو بعض كلامه فإن قالوا: أفهمه وأسمعه جميع كلامه، فقد جعلوا موسى عالماً بما في نفس الله وعالماً بالغيب، وقد أخبر سبحانه أنه لا يعلم ما في نفسه أحد، ولا يعلم الغيب إلا هو، وأخبر سبحانه أنه لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله، ويؤدي قولهم هذا أن موسى عليه السلام قد فهم التوراة والإنجيل والفرقان، وأن المشروع بالقرآن والإنجيل كان مشروعاً على بني إسرائيل وهذا باطل بالإجماع. وإن قالوا: أسمع عليه السلام وأفهمه ما شاء من كلامه، رجعوا إلى ما عليه أهل الحق وأن كلام الله ليس بشيء واحد. وإن قالوا لم يسمع الله موسى كلامه القائم بذاته وإنما أسمعه العبارة عن كلامه وهي التوراة، أدى قولهم هذا إلى معان فاسدة، منها أن الله سبحانه بعض3 عن كلامه، ولو جاز هذا لقيل فيجوز أن يكون لعبارته عن كلامه عبارة عنها إلى ما لا يتناهى. ومنها أن موسى يخرج عن أن يسمى كليم الله، وهذا ترك ورد لما ورد به نص القرآن وأجمع عليه المسلمون، ورجعوا بذلك إلى قول المعتزلة الذين هم حوله يدرون وعليه يعولون، وهو أن الله ما كلم موسى وإنما خلق كلاماً في الشجرة أسمعه موسى عليه السلام.   (بذاته) من - ح- وليست في الأصل. 2 يوسف آية (1) . 3 هكذا في النسختين ولعلها (عبر) فيكون المراد أو ضح، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 99- فصل وقد ألزم الغزالي في الاقتصاد الأشعرية ونفسه لأهل الحديث إلزامات حسنة صحيحة، وأجاب عنها بأجوبة فاسدة. منها: إن قال قائل كيف سمع موسى صلى الله عليه وسلم كلام الله تعالى؟. فإن قلتم سمع صوتاً وحرفاً، فإذا لم يسمع كلام الله، لأن كلامه ليس بصوت ولا حرف، وإن قلتم لم يسمع صوتاً وحرفاً فكيف سمع ما ليس بحرف ولا صوت، وهذا إلزام صحيح. فأجاب عنه على قوله وقول الأشعرية وقال: سمع موسى كلام الله، وهو صفة قديمة بذات الله ليس بحرف وصوت، فقول من قال: كيف سمع ذلك كقول القائل: كيف أدركت بحاسة الذوق حلاوة السكر، وهذا القول1 لا يستند إلى شفاية إلا بأن نسلم سكراً إلى هذا السائل حتى يذوقه فيدرك طعمه وحلاوته، وكذلك نقول لهذا السائل: لا يمكن شفاؤك إلا بأن تسمع كلام الله القديم، وهو متعذر لأن ذلك من خصائص الكليم فنحن لا نقدر على استماعه أو تشبيه2 ذلك بشيء من مسموعاته التي ألفها، والأصوات3 لا تشبيه ما ليس بأصوات فيتعذر تفهيمه، فعلم أن هذا السؤال محال، هذا معنى قوله ومعتمده فيما أجاب4. ولنا عن هذا أجوبة: أحدها أن يقال: ما المعنى الجامع بين فهم حلاوة السكر، وفهم سماع موسى لكلام الله، ومحال أن يكون فهم حلاوة السكر وغيره من الطعوم المعتادة غير معلوم من غير ذوق.   1 في - ح- (السؤال) وهو كذلك في الاقتصاد للغزالي. 2 في كلا النسختين (وتشبه) والتصويب من الاقتصاد للغزالي حيث لا يستقيم الكلام بدون أو. 3 في النسختين بدون الواو، وهي في الاقتصاد ولا يتم المعنى إلا بها. 4 انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 78 وقد اختصر المصنف هنا الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 والجواب الثاني: أن يقال لو كان فهم سماع موسى لكلام الله محالاً عند النبي صلى الله عليه وسلم وعند الخلق، لما أخبر الله بذلك بكتابه لأنه لا يخبر بالمحال ومما لا يعقل، فإن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك ليدل على فضيلة موسى صلى الله عليه وسلم، فلو كان غير معقول ولا معلوم عند الخلق لما علموا فضيلته. والجواب الثالث: أن يقال قولك إن الله أسمع موسى بغير حرف ولا صوت مخالف لما أخبر الله عن ذلك بكتابه فقال: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} 1، فأمر الله بالاستماع إلى ما يوحى، والاستماع عند العرب لا يكون إلى صوت وحرف، ولا يكون الاستماع إلى الصفة القائمة بالذات لأن ذلك لا يعقل، ألا ترى أنه لو قال استمع إلى بصر الله وسمعه وحياته وقدرته لكان ذلك محالاً من الكلام وهي صفات قائمة بالذات، وأيضاً فإن الله أخبر عما أمره بالاستماع إليه فقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} فجمع بالآية بين الإخبار بأنه لا إله إلا هو، وأن الساعة آتية وأنه يخفيها وتجزي كل نفس بما تسعى، وبين أمره له بالعبادة وإقامة الصلاة لذكره، وهذه معان مختلفة. فإن قال: ليس في هذا كله دليل على أن الله أسمعه هذا الكلام على هذا النظم، قلنا: إذا لم يكن في هذا دليل على أنه أسمعه هذا النظم لم يكن قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 2 دليلاً على أنه كلمه ولا أنه كليمه. إلزام واعتراض ذكره الغزالي أيضاً في الاقتصاد. إن قال قائل: هل كلام الله حال في المصحف أم لا، فإن كان حالاً فكيف حل القديم في المحدث، إن قلتم لا فهو خلاف الإجماع (أن في   1 طه آية (13-15) . 2 النساء آية (164) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 المصحف قرآن) بدليل أنه يحرم على المحدث مسه. فأجاب عن هذا وقال: كلام الله مكتوب في المصاحف محفوظ في القلوب مقروء بالألسنة، فأما الكاغد والحبر والكتابة والحرف والصوت فكلها حادثة. فإذا قلنا: إنه مكتوب في المصاحف أعني صفة القديم لم يلزم أن يكون القديم في المصحف، كما إذا1 قلنا النار مكتوبة لم يلزم أن تكون ذات النار حالة فيه فالنار جسم حار، وعليه دلالة هي الأصوات المقطعة تقطيعاً يحصل منه النون والألف والراء، فالحار المحرق ذات النار لا نفس الدلالة، والحروف أدلة القرآن وللأدلة حرمة إذ جعل2 الشرع لها حرمة، لأن ما فيها دال على صفة الله3 هذا تحقيق قوله4. والجواب أن يقال: أما قولك إنه5 حال في المصحف عبارة غير مرضية، لأن الحلول صفة الأجسام يقال حل يحل بالمكان بضم الحاء في المستقبل إذا نزل به، وحل الدين يحل بكسر الحاء في المستقل إذا وجب6، وحل   1 في - ح- (كما أنا إذا) . 2 في النسختين بدون (إذ) وهي في الاقتصاد. 3 هذا كلام غريب وقياس عجيب من الغزالي، فإنه زعم أن الكلام له ذات لها ثقل وكيان حيث قاسه على النار المحرقة، ثم زعم أنه لا يمكن أن يكون الكلام حالاً في المصحف، كما أن النار لا يمكن أن تحل في المكان الذي يكتب فيه لفظها وهذا سفسطة وكلام فاسد، فإن الكلام ليس له ذات لا عند السلف ولا عند الأشعرية ولا غيرهم، وإنما هو عند الأشاعرة معنى واحد في النفس الواحد في النفس ليس ذاتاً وكياناً يمكن أن يوصف بما توصف به الذات، ولا يجوز أن يقال عنه إنه حال في المصحف حلول الذوات في الأشياء وهو- أي الكلام - عند السلف صفة فعل لله عزوجل، وهو سبحانه تكلم بهذا القرآن فالذي في المصحف كلام الله حرفه ومعناه، ولا يقال إنه حل في المصحف وإنما يقال هو كلام الله مكتوب ومقروء وموجود. 4 الاقتصاد في الاعتقاد ص 79-80. 5 في الأصل (إنها) وما أثبت من - ح- والضمير يرجع إلى كلام الله. 6 في - ح- (وجد) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 الشيء يحل بكسر الحاء إذا حل1 فعله، وإنما يقال القرآن موجود2 في المصاحف ومكتوب ومسطور. وأما قوله إن الكاغد والحبر محدثان فلا ينكر ذلك وليس الحرف هو نفس الحبر ولا نفس الكاغد. وأما قوله: إن القرآن مكتوب في المصاحف محفوظ بالقلوب مقروء بالألسنة، فإن أراد بذلك القرآن الذي هو كلام الله حقيقة قلنا هذا صحيح وبطل أن يكون لله كلاماً قائماً بذاته لا يفارقه وكان هذا قول أصحاب الحديث. وإن أراد بذلك العبارة عن القرآن الذي هو قائم بذات الباري كان قوله هذا قولاً فارغاً لا معنى تحته غير التستر بقول أصحاب الحديث، وعليه يدل قوله إن القرآن مكتوب في المصاحف، لأنه لو صرح وقال ليس القرآن مكتوباً في المصاحف، وإنما المكتوب به أدلة القرآن لكان مخالفاً لما عليه أدلة3 المسلمين ولكنه سقّف4 قوله. والأشعرية قدموا رِجلاً إلى الاعتزال ووضعوها حيث وضعت المعتزلة أرجلهم، وأموا بالرجل الأخرى إلى حيث وضع أهل الحديث أرجلهم5، وهذا مثال عقلي يفقهه من فهم قولهم.   1 في النسختين (حال) وصوابها ما أثبت فإنه لا يستقيم المعنى إلا به. 2 في الأصل (مكتوب) وما أثبت في - ح- والعبارة به أقوم. 3 هكذا في النسختين ولعلها (أئمة) . 4 هكذا في النسختين ولعل مراده بها (الستر والتغطية) . 5 الأشعرية نتيجة لتأثرهم بالمعتزلة نفوا كثيراً من الصفات عن الباري جل وعلا كما شأن المعتزلة بدعوى أنها تدل على الحدث، وأظهر مثال على ذلك نفيهم للصفات الفعلية عن الله وهي الرضا والمحبة والغضب والإتيان والنزول والاستواء ونحوها، وقالوا في صفة الكلام قولاً فاسداً لم يسبقهم إليه سابق، أعني قولهم بالكلام النفسي. وأخذوا من أهل الحديث إثبات الصفات الذاتية وهي السمع والبصر والإرادة والقدرة والحياة، فأصبحوا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ويظهر عورهم أكثر ما يظهر عند التطبيق لأقوالهم في الصفات، وأكثر ما يظهر فيه ذلك قولهم في الكلام لأن القرآن الكريم من كلام الله عزوجل وليس كلاماً نفسياً يزعمون، وبه يتضح فساد قولهم وتخبطهم في صفات الباري جل وعلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 ومن إلزامات الغزالي في الاقتصاد قوله: إن قال قائل هل القرآن1 كلام الله أم لا، فإن قلتم لا فقد خرقتم الإجماع، وإن قلتم نعم فما هو سوى الحروف والأصوات. فأجاب عن هذا وقال ها هنا ثلاثة ألفاظ قراءة ومقروءة وقرآن. أما المقروء فهو كلام الله القائم بذاته، وأما القراءة فهي عبارة القارئ، وأما القرآن فهو اسم مشترك يقع على صفة الله وهو الكلام بذاته وهو الذي أراده السلف بقولهم القرآن غير مخلوق، ويقع على القراءة التي هي أفعال القارئ وهي مخلوقة 2، هذا تحرير قوله. والجواب أن يقال له: قد أقررت أن القرآن هو هذه السور والآيات، ودعواك أن المقروء هو كلام الله القائم بذاته، غير مسلم ولا دليل له على ذلك من كتاب ولا من سنة ولا إجماع، بل إجماع السلف أن لا قرآن إلا هذا المسموع المتلو الذي جعله الله معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم أن لا قرآن إلا هذا المسموع المتلو الذي جعله الله معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم وشاهداً على صدقه وعلق عليه الأحكام فقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 3، والعرب لا تشير بقولهم (هذا) إلا إلى شيء موجود ومدعى قرآن لا لغة فيه جاهل غبي، وأما قراءة القارئ فهو تحريكه آلته وفعله المسموع المفهوم هو القرآن المجمع عليه، وأما القائم بذات الله فلا سبيل لأحد إلى العلم به ولا إلى العبارة عنه. وأيضاً فإن ذات الله ليست بمحل أن تقوم بها المعاني، والقائل بذلك مشبه4، لأن الله لا يسمى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به نبيه صلى الله عليه وسلم أو   1 في الأصل (الكلام) وهي في -ح- وفي الاقتصاد كما أثبت. 2 الاقتصاد في الاعتقاد ص 80. 3 النمل آية (76) . 4 قول المصنف هنا: "إن ذات الله ليست بمحل أن تقوم بها المعاني". الصحيح أن المضاف إلى الله معان وأعيان، فإضافة المعاني إضافة صفة إلى موصوف، كعلم الله وسمع الله وبصر الله وكلام الله، أما إضافة الأعيان فهي إضافة مخلوق إلى خالق كبيت الله وناقة الله ونبي الله ونحو ذلك. وفي النفس من عبارة المصنف شيء فلعل فيها سقطاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 أجمع المسلمون على التسمية به، وهذه التسمية خارجة عن ذلك كله فكانت باطلة1. ومن إلزامات الغزالي في الاقتصاد قوله: إن قال قائل أجمعت الأمة على أن القرآن معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كلام الله وأنه سور وآيات ولها مقاطع ومفاتح، وكيف يكون للقديم مقاطع ومفاتح، وكيف يكون القديم معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعجزة: فعل خارق للعادة، وكل فعل مخلوق2. فأجاب عن هذا بجواب تحريره ما مضى، أن القرآن اسم مشترك بين المقروء وبين الدال عليه وكلما وصفوه مما لا تحتمله الصفة القائمة، فإن3 المراد به العبارات الدالة عليه، وكذلك السماع الذي قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 4، فالمراد به العبارة الدالة على الصفة القائمة، وسماع موسى هو كان إلى الصفة القائمة بذات الله وإلا لم يكن لموسى فضيلة على المشركين إذا كان مسموعهم واحد5. والجواب أن نقول: لا نسلم أن المراد بالقرآن وبقول الله وبكلام الله في جميع الإطلاقات إلا6 هذا المسموع المفهوم المتلو. والدليل على ذلك نص   1 هذا الكلام من المصنف لم يتضح لي مراده به. 2 تقدمت الإشارة إلى قول الغزالي هنا (والمعجزة فعل خارق للعادة وكل فعل مخلوق) . 3 في - ح- (وإنما) . 4 التوبة آية (6) . 5 الاقتصاد في الاعتقاد ص 81- 82 وقد أدمج المصنف هنا الجواب عن الالتزام الرابع مع الجواب عن الإلزام الخامس الذي يتعلق بالسؤال عن السماع للأصوات. وقد تقدم قول الأشاعرة في سماع كلام الله. انظر: التعليق ص () ، ودعوى الغزالي هنا بأنه إذا كان المسموع واحداً فليس هناك فضيلة لموسى عليه السلام دعوى باطلة، لأن الفضيلة هنا ليست مترتبة على المسموع، وإنما هي مترتبة على التكليم مباشرة من الله عزوجل، فهناك فرق بين الرسالة التي تبلغ بواسطة، وبين الرسالة التي تبلغ مباشرة، أما المسموع فليس فيه فرق إذ الجميع كان دعوة لتوحيده جل وعلا وإخلاص العبادة له. 6 في الأصل (إلى) وهي في -ح- كما أثبت وهي الأصوب، لأن المراد بيان أن القرآن وكلام الله وقوله عندنا المراد به القرآن في حالة الإطلاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 الكتاب والسنة وإجماع الأمة والعقل، أما الكتاب فقوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} 1، وقال في آية أخرى: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} 2، وقال في آية أخرى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} 3، وقال في ثلاث آيات من البقرة: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة} 4، ولا يجوز أن يقال قال الله ما لم يقله حقيقة. وأما السنة فالخبر الذي مضى ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قرأ طه ويس قبل أن يخلق الخلق بألفي عام" 5، وقد ذكره الغزالي في الإحياء وهو مشهور بالسنن فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورتين. وأما الإجماع فإن أحداً من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء إلى أن حدث ابن كلاب والأشعري ومن تابعهما أطلقوا اسم القرآن على هذه السور والآيات، وقالوا من قال بخلقه فهو كافر، وقد كان حدث الكلام في خلقه ولا يعرف أحد القرآن القائم بذات الله حتى أحدث ذلك ابن كلاب6. وأما دليل العقل: فإنا نقول لهم لم قلتم: إذا كان القرآن سوراً وآيات وله 7 فواتح وخواتم كان مخلوقاً، فإن قالوا لأن هذا صفة الكلام المخلوق لبني آدم، قلنا لهم: هذا جمع بين الشاهد والغائب من غير دليل ومعنى موجب للجمع بينهما ولو كان هذا صحيحاً، قلنا: إن الله فاعل للأشياء   1 المائدة آية (115) . 2 المائدة آية (116) . 3 المائدة آية (119) . 4 البقرة آية (68، 69، 71) . 5 تقدم تخريجه ص 561. 6 تقدم بيان أن ابن كلاب أول من قال بالكلام النفسي وتابعه عليه أبو الحسن الأشعري. انظر: ص 544. 7 في الأصل (فله) والتصويب من - ح- حيث لا يستقيم الكلام (بالفاء) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 ورأينا في الشاهد أن كل فاعل جسم لا تجد فاعلاً غير جسم أن نقول بأن الله جسم لذلك1، وأيضاً فإن العقل إذا أدى إلى خلاف ما في الكتاب والسنة والإجماع وجب تقديم هذه الأدلة على العقل، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 2، الآية. وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3، وقد بينا أن القرآن والسنة والإجماع دل كل4 واحد منهما5 أن القرآن هو هذه السور والآيات6 دون ما تدعي الأشعرية بعقولهم وتأويلهم الذي يؤدي إلى خلاف ذلك.   1 نفي هذا من الأمور المبتدعة كما أن إثباته لا يجوز إلا أن يدل دليل من القرآن والسنة على إثباته أو نفيه، وقد تقدم التعليق على ذلك أول الرسالة ص 97. 2 النساء آية (59) . 3 النساء آية (65) . 4 في - ح- (أدل على) . 5 في الأصل (منهم) وما أثبت من ح. 6 انظر: الفصل رقم (95) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 100- فصل وعندنا أن القرآن يرفع من المصاحف ومن الصدور، وأنكر الأشعري ذلك1. والدليل على ما قلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من حفظ القرآن فعمل به وعلمه الناس، وهو كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود"2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما رفع الله كلاماً أحب إليه من كلامه "3. وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "إقرأوا القرآن قبل أن لا تقدروا على آية منه"، فقيل وكيف نحن نعلمه أبناءنا وأبناؤنا يعلمون أبناءهم، فقال: "يسرى عليه في ليلة واحدة فينسخ من صدور الرجال والمصاحف فيصبح الناس كالبهائم لا يقدرون على آية منه"4. وروي عن ابن مسعود أنه قال: "أقرأني سول الله صلى الله عليه وسلم آية فأثبتها في   1 ينكر الأشاعرة ذلك لأن القرآن عندهم هو معنى واحد في ذات الله وهو قديم، فعليه يرون استحالة مزايلته للموصوف به وكذلك استحالة الانتقال عليه. انظر: الإرشاد للجويني ص 130. 2 لم أجده بهذا اللفظ، وإنما أخرج نحو الجزء الأول منه البخاري في كتاب فضائل القرآن (ب. خيركم من تعلم القرآن وعلمه) 6/158 من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". 3 أخرجه دي. كتاب فضائل القرآن (ب. القرآن كلام الله) 2/440 عن أبي بكر بن أبي مريم عن عطية بن قيس الكلابي ولفظه: "وما رد العباد إلى الله كلاماً.." والحديث مرسل وفيه أبو بكر بن أبي مريم الغساني الشامي. قال عنه ابن حجر: "ضعيف وكان قد سرق بيته فاختلط". التقريب ص 396. وأخرج حم. 5/268، ت. في فضائل القرآن 5/176 عن أبي أمامة نحوه بلفظ "ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه" قال الترمذي: "حديث غريب لا نعرف إلا من هذا الوجه". وأخرج الترمذي أيضاً نحوه من حديث جبير بن نفير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم لن ترجعوا إلى الله بأفضل مما خرج منه" يعني القرآن، وهو مرسل. ت. 5/177. 4 أخرج نحوه دي. كتاب فضائل القرآن (ب. تعاهد القرآن) 2/438، وعبد الله بن المبارك في الزهد ص 277، والبيهقي في الشعب الشعبة التاسعة عشرة في تعظيم القرآن ص 207 رسالة ماجستير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 مصحفي، فلما كان الليل جئت لأقرأها فلم أقدر على قراءتها، فعدت إلى المصحف فوجدت مكان الآية أبيض فأخبرت بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أما علمت أنها رفعت البارحة "1.   1 لم أقف على من أخرجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 101- فصل اللغة توقيف عن العرب1 قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا} 2، والأسماء على ثلاثة أضرب: ألقاب3 كزيد وعمرو، وأسماء مشتقة كعالم وقادر وظالم، وأسماء وضعت للتمييز بين الأجناس كالبر والبحر وغير ذلك، والاسم مشتق من السمو والعلو.   1 مراد المصنف هنا أن مبدأ اللغة كان بتعليم من الله ووقف الخلق على معاني الألفاظ. وفيه خلاف معروف كان ابتداؤه من أبي هاشم الجبائي المعتزلي حيث زعم أن اللغة اصطلاحية. وخالفه أبو الحسن الأشعري حيث قال إنها توقيفية، ثم خاض العلماء في هذه المسألة فصار فيها أربعة أقوال: قول إنها توقيفية وبه قال الأشعري وابن فورك وأبوبكر عبد العزيز والشيخ أبو محمد المقدسي وهما من الحنابلة وآخرين من الحنابلة أيضاً. والقائلون بهذا القول اختلفوا في التوقيف هل هو بخطاب الله أولاً بهذه اللغة وتكلمه بها أو هو بتعريف ضروري وإلهام من الله كما هو قول المصنف هنا، والدليل المذكور يدل عليه. وقالت المعتزلة: إن مبدأ اللغات اصطلاحي. وقال بعضهم: إن بعضها توقيفي وبعضها اصطلاحي وهو منسوب إلى القاضي أبي يعلى الحنبلي. وله قول آخر وهو جواز أن تكون توقيفية وأن تكون اصطلاحية، ويجوز أن يكون بعضها توقيفاً وبعضها اصطلاحياً، وأن يكون بعضها ثبت قياسياً، فإن جميع ذلك متصور في العقل، أما الواقع فلا مطمع في معرفته يقيناً إذ لم يرد به نص ولا مجال للعقل والبرهان في معرفته، وبهذا قال أيضاً البالقلاني. انظر: نزهة الخاطر شرح كتاب روضة الناظر 2/2، مذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص 171، شرح الأوصول الخمسة ص 704، المعتمد في أصول الفقه 1/16، العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى 1/192، الفتاوى لشيخ الإسلام 7/90- 91، 12/446-447. 2 البقرة آية (31) . 3 هكذا في النسختين (ألقاب) ولعل مراده هنا باللقب ما كان من الأسماء جامداً غير مشتق كزيد وعمرو، أما اللقب فإنه ما أشعر بمدح أو ذم قال الراغب: اللقب اسم يسمى به الإنسان سوى اسمه الأول ويراعى فيه المعنى وهو على ضربين: ضرب على سبيل التشريف كألقاب السلاطين، وضرب على سبيل النبز. المفردات ص 452. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 وقال قوم: بل هو مشتق من السمة وهي العلامة1. والصحيح هو الأول، لأنهم قالوا في تصغيره سُمَيْ والتصغير يرد الشيء إلى أصله. واختلف الناس في الاسم هل هو المسمى أو غيره: فذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه إلى أن الاسم للمسمى2. وقال بعضهم هو صفة للمسمى. وقال بعضهم: هو علم للمسمى، والجميع واحد3. وقال المعتزلة: الاسم غير المسمى4. وقال أبو الحسن الأشعري: الاسم هو المسمى5.   1 ذكر القولين الباقلاني في التمهيدن ورجح الأول ونسب الثاني إلى المعتزلة وأهل الأهواء. التمهيد ص 255. 2 لم أجد من نسب هذا القول للإمام أحمد، وإنما الذي ورد هو أن الإمام أحمد والشافعي وغيرهم كفروا القائلين بأن أسماء الله مخلوقة وهم المعتزلة الذين زعموا أن أسماء الله غيره، ونسب هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية إلى المنتسبين للسنة من أصحاب الإمام أحمد وغيره، وهو الذي أشار إليه ابن جرير الطبري في رسالته (صريح السنة) وهو الذي يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد ذكر ابن جرير - رحمه الله - أن هذا الخلاف في هذه المسألة من الأمور الحادثة بعد زمن الأئمة فقال: "وأما القول في الاسم أهو المسمى أو غير المسمى فإنه من الحماقات الحادثة التي لا أثر فيها يتبع ولا قول من إمام فيستمع، والخوض فيه شين، والصمت عنه زين وحسب امرئ من العلم به والقول فيه أن ينتهي إلى قول الصادق عزوجل وهو قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} وقوله: {وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} انظر: شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي 1/185، 2/207- 215، الفتاوى لشيخ الإسلام 6/185- 188، لوامع الأنوار البهية 1/119. 3 ذكر هذه القول ابن حمدان من الحنابلة كما نقل عنه السفاريني. لوامع الأنوار البهية 1/119. 4 نسب هذا القول يإليهم أبو الحسن الأشعري، كما نسبه إلى الخوارج وكثير من المرجئة وكثير من الزيدة. مقالات الإسلاميين 1/253. 5 نسب أبو الحسن الأشعري هذا القول إلى كثير من أصحاب الحديث وهو يقول بقولهم، وكذلك نسبه شيخ الإسلام إلى كثير من المنتسبين للسنة وممن قال به اللالكائي وأبو محمد البغوي صاحب شرح السنة. انظر: مقالات الإسلاميين 1/252، الفتاوى 6/188، شرح اعتقاد أهل السنة 2/204، وانظر: التمهيد للباقللاني ص 258، الإرشاد للجويني ص 135. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 ومنهم من قال: الاسم للمسمى1. وقال بعض الناس: إذا خرج الاسم عن اللقب واسم الجنس فهو على قسمين: قسم هو المسمى كتسمية الأعيان المنفردة مثل قولنا شيء وموجود، وجوهر وحياة وعلم وقدرة وسواد وقديم ومحدث. وقسم ليس هو المسمى وإنما هو معنى يقوم به، فيكون حكمه حكم ما قام به في إيحائه للوصف، وهو على ضربين: فضرب بني على المجاز، كقولهم فلان عدل مرضي يعنون به أنه عادل ومرضي. والعدل والرضا في الحقيقة اسمان للفعل أجريا على الفاعل مجازاً، ومثله قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} 2 أي فعل من آمن بالله. والضرب الثاني: وضع للأشياء في الحقيقة، كقولك سواد وبياض وحمرة وصفرة لا سيما في الحقيقة إلا ما كان من جنسه3.واستدل من قال الاسم للمسمى بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 4. فأضاف الأسماء إليه بلام الاستحقاق والشيء لا يضاف إلى نفسه.   1 لم يتبين القائل بهذا القول من الأشاعرة، وذكر الإيجي لأبي الحسن الأشعري قولاً آخر، وقال شيخ الإسلام: "هو المشهور عنه وهو أن الأسماء ثلاثة أقسام: قسم يكون الاسم عين المسمى كاسم الله والموجود، وقسم يمون الاسم غير المسمى كاسم الخالق والرازق وهو الذي يدل على نسبته إلى غيره، وقسم لا يكون هو ولا غيره كالعليم والقدير مما يدل على صفة حقيقية. وذكر الإيجي أن من مذهب الأشعري أنها لا هي ولا غيره". المواقف للإيجي ص 333، الفتاوى 6/188. 2 البقرة (177) . 3 يعني (إلا ما كان من جنسه فإنه يكون هو المسمى) ولم يتبين لي القائل بهذا القول. 4 الأعراف آية (180) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الج نة"1. فلو كان الاسم هو المسمى لكان لنا تسعة وتسعين رباً. وأما الدليل على من قال إن الاسم غير المسمى أن يقال: لو كان كذلك لكان الله سبحانه غير مسمى في الأزل واحد فرد موجود لأن حقيقة الغير ما جاز مفارقته صاحبه2 وإذا ثبت هذا فأسماء الله تعالى على ثلاثة أضرب: منها ما يرجع إلى ذاته كقولنا (الله موجود وشيء قديم) . ومنها ما يرجع إلى صفات ذاته كعالم وقدير وحي وسميع وبصير، ومريد، ومتكلم. ومنها ما يرجع إلى صفات فعله كخالق، ورازق، وقابض، وباسط، وهذه الصفات لله سبحانه يستحقها في الأزل، وهو موصوف في الأزل بأنه سيخلق، ويرزق ويقبض ويبسط قبل أن يخلق ويرزق3.   1 أخرجه خ. كتاب الدعوات (ب. لله مائة اسم غير واحد) 8/74، م. كتاب الذكر والدعاء (ب. في أسماء الله..) 4/2062 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. 2 قال شارح الطحاوية في بيان مسألة الاسم والمسمى: "وكذلك قولهم الاسم عين المسمى أو غيره، وطالما غلط كثير من الناس في ذلك وجهلوا الصواب فيه، فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، أو سمع الله لمن حمده، ونحو ذلك، فهذا المراد به المسمى نفسه، وإذا قلت: الله اسم عربي والرحمن اسم عربي والرحيم من أسماء الله تعالى ونحو ذلك، فالاسم هاهنا هو المراد لا المسمى، ولا يقال غيره لما في لفظ الغير من الإجمال، فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق وإن أريد أن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه أسماء، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم، فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى" شرح الطحاوية ص 131. فبين هنا شارح الطحاوية - رحمه الله - فصل القول في الاسم هل هو المسمى أو غيره على ضوء مراد المتكلم، أما واقع الحال فإن الاسم هو للمسمى، لأن المراد به الدلالة على هذا المسمى أو هذه الذات، فيكون للمسمى نصيب من معنى اسمه وقد يكون بعكسه، أما بالنسبة لله عزوجل الذي دار الخلاف حول علاقة أسمائه به جل وعلا فكل اسم له جل وعلا فيه المطابقة التامة لمدلوله في أكمل وأتم صورها. 3 قول المصنف: "وهو موصوف في الأزل بأنه سيخلق ويرزق ويقبض ويبسط قبل أن يخلق ويرزق" معناه أن الله فعل بعد أن لم يكن يفعل، وهذا يعود إلى مسألة تسلسل الحوادث وفيها ثلاثة أقوال: القول الأول: منع تسلسل الحوادث في الماضي والمستقبل وهو قول الجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف. القول الثاني: منع تسلسل الحوادث في الماضي والقول بدوامها في المستقبل، وهو قول أكثر أهل الكلام ومن وافقهم من الفقهاء وبهذا القول أخذ المصنف هنا - رحمه الله -. القول الثالث: تسلسل الحوادث في الماضي والمستقبل، وبه قال أئمة أهل الحديث، وهو الحق الذي دلت عليه النصوص الشرعية، ومن ذلك قوله عزوجل: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فوصفه جل وعلا بهذا يدل على أنه موصوف بالفعل في الأزل، لأن الله عزوجل ذكر ذلك في معرض المدح والثناء، وبين جل وعلا أن الفعل متعلق بإرادته سبحانه، والله موصوف بالإرادة في الأزل، وقال عزوجل: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} فبين هنا الفرق بين من يخلق ومن لا يخلق. ومن قال بعدم تسلسل الحوادث في الماضي فقد زعم أن الله عزوجل كان في وقت من الأوقات معطلاً عن الخلق والفعل وهذا طعن في الله عزوجل، ومن أوضح الأدلة على تسلسل الحوادث في الماضي: أن هذا وصف كمال لأنه بالاتفاق أن من هو موصوف بالفعل على الدوام في الماضي والمستقبل أكمل ممن وصف بأنه معطل ثم فعل بعد أن لم يفعل، والله عزوجل أحق بصفات الكمال. كما أن الذين نفوا عن الله عزوجل تسلسل الحوادث في الماضي أرادوا بذلك نفي قدم العالم أو أنه يوجد قديم مع الله، وهذا غير صحيح وليس بلازم، لأن اتصاف الله جل وعلا بأنه الخالق وما سواه مخلوق يمنع هذا إذ لا بد أن يتقدم الخالق على المخلوق، لأن الخالق هو السبب في وجود المخلوق فلا يتقدم المسَبَّب على السبب". انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام 18- 210، 243ن شرح العقيدة الطحاوية ص 132-141. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 وعند المعتزلة أن أسماء الله كلها مخلوقة1. والدليل على بطلان قولهم لوكانت أسماؤه مخلوقة لم يخل إما أن يكون خلقها في ذاته أو في ذات غيره، أو لا في ذاته ولا في ذات غيره. فبطل أن يكون خلقها في ذاته؛ لأن ذاته ليست بمحل للحوادث، ولا يجوز أن يكون أحدثها في ذات غيره؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يسمى أن يسمى من أحدثها فيه بشيء منها، فيسمى فرداً وصمداً، ولا يجوز أن يكون أحدثها بنفسها في غير ذات؛ لأنها صفة والصفة لا تقوم بنفسها.   1 قد صرح كثير من الأئمة بكفر القائلين بأن أسماء الله مخلوقة منهم الإمام الشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه واللالكائي وغيرهم. انظر: شرح اعتقاد أهل السنة 2/204- 215. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 102- فصل قد ذكرنا في أول الكتاب أن عند أصحاب الحديث والسنة أن الله سبحانه بذاته بائن عن خلقه، على العرش استوى فوق السموات، غير مماس له، وعلمه محيط بالأشياء كلها1.   1 ابتدأ المصنف في هذا الفصل ببيان صفة العلو والاستواء على العرش لله عزوجل، وصفة العلو لله سبحانه من صفات الذات التي دل الكتاب والسنة والعقل والفطرة عليها كما سيظهر من كلام المصنف - رحمه الله. أما الاستواء فهو من صفات الفعل لله عزوجل، وثبت بالقرآن الكريم في سبعة مواضع، ويؤمن بذلك السلف من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تكييف. وأنكرت المعطلة بجميع طوائفها العلو لله عزوجل، وهو الجهمية والمعتزلة والأشاعرة فمنهم من قال: إنه في كل مكان ولا يخلو منه مكان، كما هو قول بشر المريسي والنجارية من المعتزلة والسالمية، ونسب هذا القول شيخ الإسلام إلى صوفية وعباد الجهمية. ومنهم من قال إنه ليس في مكان، فلا يقال عنه إنه فوق ولا تحت ولا بذي جهة، وهذا قول الجهمية والمعتزلة والأشعرية ومن وافقهم، ومن المخالفين للحق في هذا الأمر طوائف من الناس زعموا أن الله فوق العرش وهو مع ذلك في كل مكان، ونسب هذا القول أبو الحسن الأشعري إلى زهير الأثر، ونسبه شيخ الإسلام إلى بعض السالمية والصوفية. انظر: الملل والنحل للشهرستاني بهامش الفصل 1/55، 113-114، مقالات الإسلاميين 1/236، 286، 351، المغني لعبد الجبار المعتزلي 5/215- 216، التمهيد للباقلاني ص300، الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 164، الإرشاد للجويني ص 58- 59، المواقف للإيجي ص 270. أما الاستواء على العرش فالمعطلة على إنكاره ودفعه واختلفوا في تأويله وصرفه إلى أقوال: القول الأول: تأويل الاستواء بالاستيلاء والقهر والغلبة، وبهذا قال أكثر الجهمية والمعتزلة وأكثر الأشاعرة مثل الغزالي والجويني والإيجي والآمدي. القول الثاني: أن معنى استوى قصد العرش بأمر مثل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} وهو قول للجويني في الإرشاد. وأثبت الاستواء السلف وغيرهم. أما السلف فهم على أن الله عزوجل كما ذكر عن نفسه أنه استوى على العرش استواء يليق بجلاله وعظمته، مع أنه بائن من خلقه لغناه عن كل شيء وحاجة كل شيء إليه جل وعلا. أما غير السلف فلهم في الاستواء أقوال: القول الأول: قول المشبهة ومنهم الكرامية والهشامية من الشيعة، أما الكرامية فلهم أقوال في الاستواء، فقد ذكر الشهرستاني عن أبي عبد الله بن كرام أنه كان يقول عن الله عزوجل إنه أحدي الذات أحدي الجوهر وأنه مماس للعرش من الصفحة العليا. ومنهم من قال: إنه على بعض أجزاء العرش. ومنهم الذي يقول: إن العرش امتلأ به. أما الهشامية فذكر الشهرستاني نقلاً عن أبي عيسى الوراق أنه قال: إن هشام بن الحكم صاحب المقالة في التشبيه قال: إن الله تعالى مماس لعرشه لا يفضل منه شيء من العرش ولا يفضل عن العرش منه شيء. القول الثاني: قول من أثبت الاستواء على أنه فعل فعله الرب في العرش فهو صفة للعرش، وهو قول محكي عن أبي الحسن الأشعري حكاه البيهقي وشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو لازم لكل من أثبت الاستواء وهو ينكر الأفعال الاختيارية من الكلابية وأتباع الأئمة. القول الثالث: قول من أثبت الاستواء على ما ورد به النص ونفى سائر المعاني اللازمة للاستواء من العلو والرفعة ونحوها، كالبيهقي في الاعتقاد، والقاضي أبي يعلى في المعتمد، وهو مذهب لمن هو متأثر بأهل الحديث والسلف ومتأثر بما عليه قول المتكلمين من الكلابية والأشاعرة فيثبتون اللفظ كالنزول والاستواء والمجيء والإتيان، وينفون المعاني المتعلقة باللفظ الدالة على الفعل بالمشيئة والاختيار. انظر قول المعتزلة في: مقالات الإسلاميين 1/236، شرح الأصول الخمسة ص277، المغني لعبد الجبار المعتزلي 5/216، وقول الأشاعرة في: الاقتصاد في الاعتقاد ص164 - 166، والإرشاد للجويني ص 58 - 59، والآمدي ص141، المواقف للإيجي ص 273، وانظر: قول السلف في شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي 3/387، رد الدارمي على بشر المريسي ص 23، التوحيد لابن خزيمة ص 101، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 5/136- 142، وقد استقصى النقل عن السلف في إثبات العلو والاستواء كل من شيخ الإسلام في رسالة التدمريةن والذهبي في كتابه العلو للعلي الغفار، وابن القيم في كتابه إجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية. وانظر: قول الكرامية في الملل والنحل للشهرستاني بهامش الفصل 1/145- 146، 2/21- 22، وانظر قول الأشعري المحكي عنه في الأسماء والصفات للبيهقي ص517، مجموع الفتاوى 5/386، وانظر: قول البيهقي في الاعتقاد ص44، وقول القاضي أبي يعلى في المعتمد في أصول الدين ص54. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 وقالت الكرامية1: إنه مماس للعرش.   1 الكرامية: أتباع محمد بن كرام بتشديد الراء السجستاني وهم من مثبتة الصفات، إلا أنه غلا في الإثبات حتى شبه، ويزعم أن الإيمان قول اللسان قال الذهبي عن محمد بن كرام: ساقط الحديث على بدعته، وقد سجن بنيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام، ثم أخرج وسار إلى بيت المقدس ومات بالشام سنة (255?) ، وعكف أصحابه على قبره مدة، ونقل عن ابن حبان أنه قال عنه: خذل حتى التقط من المذاهب أردأها ومن الأحاديث أوهاها. انظر: الملل والنحل للشهرستاني بهامش الفصل 1/144، الفرق بين الفرق ص 215- 216، ميزان الاعتدال 4/21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 وقالت المعتزلة: إن ذات الله بكل مكان حتى بالحشوش وأجواف الحيوان1. قيل لبشر المريسي2 فهو في جوف حمارك هذا؟ قال: نعم3، وهذا قول الحلولية4 وهو كفر صريح لا إشكال فيه. وقالت الأشعرية: لا يجوز وصفه بأنه على العرش ولا في السماء5. والدليل على ما قلناه قوله تعالى: {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 6.   1 تقدم بيان القائلين بهذا القول في التعليق رقم (1) أما المعتزلة فقد ذكر عنهم الأشعري ثلاثة أقوال: القول الأول: قول أبي الهذيل وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب والجبائي بأنه في كل مكان بمعنى أنه مدير لكل مكان. القول الثاني: قول هشام الفوطي وعباد بن سليمان وأبي زفر بأن الباري لا في مكان بل هو على ما يزل عليه. القول الثالث: قول بعضهم بأن الباري في كل مكان بمعنى أنه حافظ للأماكن وذاته مع ذلك موجودة في كل مكان. مقالات الإسلاميين 1/236 - 286. فهذا القول الأخير يتفق مع ما ذكره المصنف هنا عنهم، وقد تقدم بيان أن النجارية وهم من المعتزلة على هذا القول، وأن صوفية وعباد الجهمية على هذا القول وهو قول جميع أهل وحدة الوجود من الصوفية. 2 بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي، قال عنه الخطيب: كان من أصحاب الرأي أخذ الفقه عن أبي يوسف القاضي، إلا أنه اشتغل بالكلام وجرد القول بخلق القرآن وحكى عنه أقوال شنيعة ومذاهب مستنكرة أساء أهل العلم قولهم فيه بسببها، وكفره أكثرهم لأجلها. مات سنة (218?) . انظر: ترجمته في تاريخ بغداد 7/56، ميزان الاعتدال 1/322. 3 ذكر الخطيب عنه قوله: إن إلهه معه في الأرض. انظر: تاريخ بغداد 7/58 ولم أجد من ذكر عنه العبارة السابقة وهي لازم قوله. 4 الحلولية: هم الذين يزعمون أن الله تعالى عما يقولون حل بذاته في كل شيء، وهو قول محكي عن قدماء الجهمية الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان. انظر: مجموع الفتاوى 2/298، 466. 5 تقدم بيان قول الأشعرية في هذا وهم من أصناف المعطلة الذين ينفون علو الله على خلقه. 6 طه آية (4- 5) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 وروى الحسن البصري عن أم أن سلمة - رضي الله عنها - زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سئلت عن هذه الآية، فقالت: "الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار إيمان والجحود به كفر"1. وبعضهم ذكر أنها رفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم2. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 3. وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 4. وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 5. وقوله تعالى حكاية عن فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} 6. وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ} 7. والعرش فوق السماء فلذلك قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 8.   1 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 3/397 إلا أنه قال فيه عن الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة - رضي الله عنها -، وهكذا ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح عن اللالكائي 13/406. وقال شيخ الإسلام عن هذه الرواية أن إسنادها مما لا يعتمد عليه. الفتاوى 5/365. 2 لم أجد من ذكره مرفوعاً، وإنما ذكر شيخ الإسلام ذلك كما ذكره شارح الطحاوية أيضاً، وقال شيخ الإسلام عن المرفوع: "إنه لا يصح إسناده". انظر: مجموع الفتاوى 5/365، شرح الطحاوية ص314. 3 فاطر آية (10) . 4 النساء آية (158) . 5 السجدة آية (5) . 6 غافر آية (36- 37) . 7 الملك آية (16) . 8 على التقدير الذي ذكره المصنف تكون (في) في قوله: (في السماء) بمعنى (على) مثل قوله تعالى: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي على جذوع النخل. والقول الثاني: أن السماء المقصود بها العلو فلا تحتاج إلى تقدير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 1، وقوله تعالى لعيسى عليه السلام: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 2، وقال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 3. وروي عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت يا رسول الله: إن لي جارية ترعى غنيمات لي وأنا أطلعتها يوماً اطلاعة، فوجدت ذئباً قد ذهب منها بشاة وأنا من بني آدم أسف كما يأسفون فصككتها صكة، فعظم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت أفلا أعتقها، فقال: ادعها لي، فدعوتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أين الله؟ "، قالت: الله في السماء، قال: فمن أنا، قالت: أنت رسول الله، فقال: "اعتقها فإنها مؤمنة"4. وروى أبو هريرة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء أعجمية، فقال: يا رسول الله: إن لي عتق رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟، فأشارت بأصبعها السبابة إلى السماء فقال لها: من أنا؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعتقها "5.وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من توضأ فأحسن وضوءه، ثم رفع نظره إلى السماء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسولهن فتحت له ثمانية أبواب   1 الأنعام آية (18، 61) . 2 آل عمران آية (55) . 3 النساء آية (158) . 4 أخرجه خ. كتاب المساجد (ب. تحريم الكلام في الصلاة) 1/382، د. كتاب الصلاة (ب. تشميت العاطس) 1/147، حم. 5/447- 448، اللالكائي في السنة 3/392. 5 أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/291، واللالكائي في السنة 3/392، وابن خزيمة في التوحيد 1/285. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 الجنة يدخل من أي باب شاء "1. وقال صلى الله عليه وسلم: "ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء "2. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي"3. وروى (جبير بن محمد بن) 4 جبير بن مطعم عن أبيه عن جده أنه قال: "إني لعند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه أعرابي فقال يا رسول الله: جهدت الأنعام وجاع العيال استسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدري ما تقول سبحان الله فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال: "ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد شأن الله أعظم من ذلك إنه لفوق سمواته وهو على عرشه "5.   1 أخرجه دي. كتاب الصلاة (ب. القول بعد الوضوء) 1/182، حم. من حديث عقبة عن عمر - رضي الله عنه - 1/208 بتحقيق أحمد شاكر ومن حديث عقبة 4/151، واللالكائي في السنة 3/393، والحديث فيه مجهول لأنه من رواية زهرة بن معبد عن ابن عم له أنه سمع عقبة، والحديث أصله في صحيح مسلم وغيره بدون قوله: (ثم رفع نظره إلى السماء) . انظر: م. كتاب الطهارة (ب. الذكر المستحب عقب الوضوء) 1/209. 2 أخرجه اللالكائي في السنة 3/394، والحاكم في المستدرك، كتاب التوبة والإنابة 4/238 من حديث أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، وهو منقطع لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، انظر: التهذيب 5/75، والحديث له شاهد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" أخرجه ت. كتاب البر والصلة (ب. رحمة الناس) 4/324 حم. 2/160، والحاكم كتاب البر والصلة 4/159 وقال: "حديث صحيح" ووافقه الذهبي. 3 أخرجه خ. كتاب بدء الخلق (ب. ما جاء في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْق} 4/84، م. كتاب التوبة (ب. سعة رحمة الله) 4/2107. 4 ما بين القوسين إضافة لا بد منها لسقوطها من النسختين. 5 أخرجه اللالكائي في السنة 3/394، والدارمي في الرد على بشر المريسي ص 447 ضمن عقائد السلف. وأخرجه بأطول مما هنا أبو داود في سننه، كتاب السنة (ب. في الجهمية) 2/276، وابن أبي عاصم في السنة 1/252، وابن خزيمة في التوحيد ص103، والدارقطني في الصفات ص 51، والحديث سنده ضعيف لأنه من طريق محمد بن إسحاق وقد عنعنه وهو مدلس. انظر: التهذيب 9/38. وقد ضعفه لهذه العلة كل من المنذري في مختصر سنن أبي داود 7/97، وابن عساكر كما ذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية 1/11 وقال: "إنه صنف جزءاً في الرد على هذا الحديث سماه (بيان الوهم والتخليط الواقع في حديث الأطيط) وقال الذهبي في العلو ص 39: "هذا حديث غريب جداً فرد، وابن إسحاق حجة في المغازي إذا أسند وله مناكير وعجائب". انتهى. والذي استنكره العلماء في هذا الحديث هو الزيادة في الروايات الأخرى وهي قوله "إن عرشه على سمواته هكذا وقال بأصابعه مثل القبة وأنه لئيط أطيط الرحل بالراكب". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "والذي نفس عمر بيده لو أن أحدكم أشار إلى السماء بأصبعه إلى مشرك، ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله لقتلته به"1. وروي عن عبد الله أنه قال: "ما بين السماء القصوى وبين الكرسي خمسمائة سنة، وما بين الكرسي وبين الماء خمسمائة سنة، والعرش فوق الماء والله فوق العرش، ولا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم"2. وروي عن مجاهد أنه قال: "قيل لابن عباس إن ناساً يقولون بالقدر، فقال يكذبون بالكتاب لئن أخذت شعر أحدهم لأنصونه3 إن الله على عرشه قبل أن يخلق شيئاً4، فخلق الخلق وكتب ما هو كائن إلى يوم   1 أخرجه اللالكائي في السنة 3/395 ومعناه - والله أعلم - أنه إذا أحاط المسلم بمشرك وحاصره، ثم أشار إلى السماء يعني أن ينزل من حصنه إليه وله أمان من في السماء، ثم نزل المشرك على هذا العهد والأمان فغدر به المسلم فقتله فإن عمر يقتله به. 2 أخرجه اللالكائي في السنة 3/396، وابن خزيمة في التوحيد 105، 156، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 507، والدارمي في الرد على الجهمية ص 26 عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، فقد صرح به البيهقي في الأسماء والصفات. 3 قوله: "لأنصونه" أي لأخذن بناصيته. 4 قوله: "إن الله على عرشه قبل أن يخلق شيئاً" هكذا عند اللالكائي، وفي سائر الروايات ما عدا الآجري فإنه رواه بلفظ: "إن الله عزوجل كان عرشه على الماء قبل أن يخلق شيئاً" وهي تتفق مع ما ورد في القرآن من قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} هود آية (7) . أما لفظ الرواية المذكورة فإنه يخالف ما دل عليه قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} السجدة آية (4) . فاستواؤه على العرش كان بعد خلق السموات والأرض، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 القيامة، وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه"1. وروي أن رجلاً جاء إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله، قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2. فما رأى مالك وجد من شيء كوجده من مقالته هذه وعلاه الرحضاء - يعني الورق - وأطرق ملياً فسري عنه، وقال: "الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"3. وسئل ربيعة عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق"4. وروي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اشتكى منكم شيئاً أو اشتكى أخ له فليقل ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء اغفر لنا حوبنا وخطايانا رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على الوجع، فيبرأ" 5.   1 أخرجه اللالكائي 3/396، والآجري في الشريعة ص 17، 29، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة في العرش ص 258 رسالة ماجستير. 2 هكذا في النسختين وأصل الرواية أن السائل سأل عن كيفية الاستواء فقال: (كيف استوى؟) . 3 أخرجه اللالكائي في السنة 3/398، والبيهقي في السماء والصفات ص 505، والدارمي في الرد على الجهمية ص33. 4 أخرجه اللالكائي في السنة 3/398، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 516. 5 أخرجه د. كتاب الطب (ب. كيف يرقى) 2/155، والحاكم في المستدرك كتاب الجنائز 1/344، واللالكائي في السنة 3/389، وفي إسناده زيادة بن محمد الأنصاري قال عنه في التقريب ص 111"منكر الحديث"، وللحديث شاهد عند الإمام أحمد في المسند 6/12 من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن الأشياخ عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - وسنده ضعيف فقد قال ابن حجر عن أبي بكر: "إنه ضعيف". انظر: التقريب ص 396 وفيه مجهول وهو قوله عن الأشياخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 وروي أن حارثة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا مؤمن حقاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ "، قال: كأني بعرش ربي بارزاً، وكأني بالخلائق قد حشروا لفضل القضاء، واستوى عندي حجرها ومدرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عرفت فالزم"1. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن عبد الله بن رواحة كان نائماً مع امرأته في الفراش، فقام إلى جارية له في جانب البيت فاتاها، فانتبهت زوجته فطلبته فلم تجده، فقامت تطلبه فوجدته مع الجارية فرجعت وأخذت الشفرة فتلقاها، فقال: ما هذه الشفرة التي معك فقالت: لو وجدتك في الموضع الذي رأيتك فيه لوجأتك بها بين كتفيك، فقال: وأين كنت؟، قالت: مع الجارية، فقال: ما كنت معها، فقالت: بلى. فقال: أليس قد نهى رسول الله صلى الله عليه سلم الجنب عن القراءة؟، قالت: اقرأ فأنشدها: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا فقالت: صدق الله وكذب بصري، فغدى عبد الله بن رواحة على النبي   1 أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان ص 38، والطبراني في الكبير 3/266، والبزار عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وقال: تفرد به يوسف بن عطية وهو لين الحديث. كشف الأستار 1/26، وقال الألباني عن رواية ابن أبي شيبة: "وهو معضل وروي موصولاً عن الحارث بن مالك نفسه رواه عبد بن حميد والطبراني وأبو نعيم وغيرهم بسند ضعيف". الإيمان لابن أبي شيبة ص 38. وقد استوفى طرق الحديث مع الكلام عليها ابن حجر في الإصابة 1/289، ونقل عن ابن صاعد أنه قال: "لا يثبت هذا الحديث موصولاً". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك كله، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: "زوجتك أفقه منك"1. ولقد قال أوس بن ثعلبة2 قبل الإسلام قصيدة فيها: فإن تكن الأيام أبلين أعظمي ... وشيبن رأسي والمشيب مع العمر فإن لنا رباً علا فوق عرشه ... عليما بما نأتي من الخير والشر ولأن المسلمين مجمعون عند الدعاء على رفع أبصارهم وأكفهم إلى نحو السماء3 فدل على صحة ما قلناه. وروي عن عكرمة في قوله تعالى إخباراً عن إبليس {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} 4، قال ابن عباس: "ألم يستطع أن يقول من فوقهم علم أن الله فوقهم"5. ويقال لهم: إذا لم يكن الله فوق العرش بمعنى يختص بالعرش كما قال أصحاب الحديث، وكان بكل مكان، فقولوا: إنه تحت الأرض والسماء   1 ورد هذا الخبر من عدة طرق ولكنها منقطعة أو مرسلة، فقد أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية ص 27 عن قدامة بن إبراهيم بن محمد بن حاطب وهو منقطع. وأخرجه الموفق ابن قدامة في (إثبات صفة العلو) ص100 عن نافع وهو مرسل. وذكره الذهبي في السير مسنداً عن عبد العزيز ابن أخي الماجشون قال: بلغنا أنه كانت لعبد الله بن رواحة جارية، فذكره وهو منقطع، انظر: سير أعلام النبلاء 1/238، وذكره أيضاً في العلو ص 41، وقال: "روي من وجوه مرسلة"، كما أن هذه الرواية لم تثبت مسندة فإن فيها نكارة من حيث المعنى، وهو أنه قرأ شعراً موهماً زوجته أنه قرآن فهذا معنى مستبعد على هذا الصحابي، والله أعلم. 2 أوس بن حارثة جدّ قبيلة الأوس، وذكر الأبيات السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 156. 3 هذا ما يسميه العلماء دليل الفطرة وقد ذكر هذا الاستدلال الدارمي في الرد على الجهمية ص 21، وابن خزيمة في التوحيد ص110، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 325. 4 الأعراف آية (17) . 5 أخرجه اللالكائي في السنة 3/397. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 فوقها فهو تحت التحت وأنه فوق الفوق والأشياء تحته وهذا متنقاض، فإن احتجوا بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 1، وبقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 2. فالجواب: أن المراد بالآية {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ} أي من حديث بين ثلاثة إلا هو رابعهم بالإحاطة والعلم لا في العدد لأنه واحد لا من عدد ولا واحد في معناه3، وكذلك المعنى في قوله تعالى: {وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ} . إلى قوله: {إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ، يريد بالإحاطة والعلم لا بالذات والحلول. يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ} الآية.. إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فبدأ الآية بالعلم وختمها بالعلم، فدل على أن المراد بذلك كله الإخبار عن علمه وإحاطته بهم في جميع هذه الحالات4. فإن احتجوا بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ} 5 فأخبر أنه إله بكل واحد منهما.   1 المجادلة آية (7) . 2 الحديد آية (4) ، وقد ذكر احتجاج الجهمية القائلين أنه بكل مكان بهذه الآية الإمام أحمد في رده على الجهمية. انظر: ص 95 ضمن عقائد السلف، وذكره الدارمي عنهم في رده على بشر المريسي ص 79. 3 مراده بقوله: (لأنه واحد لا من عدد) أي ليس واحد من عدد معدود كالواحد من الاثنين أو الثاني من ثلاثة، وهكذا. وقوله: (ولا واحد في معناه) أي لا يشركه جل وعلا في صفة الوحدانية أحد. 4 ذكر هذا الرد الإمام أحمد في الرد على الجهمية ص 95، وكذلك الدارمي في الرد على بشر المريسي ص80. وروى البيهقي بإسناده في الأسماء والصفات ص 541 إلى سفيان الثوري والضحاك ومقاتل بن حيان أنهم قالوا في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أي بعلمه. 5 الزخرف آية (84) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 فالجواب أن المراد بالآية أنه عند أهل السماء إله وعند أهل الأرض إله1 كما يقال: فلان نبيل مطاع في العراق ونبيل مطاع في الحجاز، يعنون أنه نبيل مطاع فيهما وليس يعنون أن ذاته في العراق وفي الحجاز. فإن احتجوا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} 2 وبقوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 3. فالجواب: أن المراد على أنه أراد بالحفظ والرعاية والنصر والتأييد مع الذين اتقوا ومع المحسنين ومع موسى وهارون صلى الله عليه ةسلم، فلا يقاس على هذا أنه مع الفساق والكفار4، ولا مع الكلاب والخنازير تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً5.   1 روى البيهقي بإسناده عن قتادة أنه فسر هذه الآية بقوله: (هو الذي يعبد في السماء ويعبد في الأرض) ، الأسماء والصفات ص 542. 2 النحل آية (128) . 3 طه آية (46) . 4 في - ح- (الفجار) . 5 أورد المصنف - رحمه الله - هنا الرد على الجهمية والحلولية القائلين بأن الله في كل مكان مستدلين بالآيات المتقدمة الدالة على معية الله لخلقه. والناظر في معنى المعية في اللغة يتضح له أن كلمة (مع) تطلق ويراد بها عدة معان: قال الراغب الأصفهاني في المفردات: مع تقتضي الاجتماع إما في المكان نحو (في الدار) ، أو في الزمان نحو (ولدا معاً) ، أو في المعنى كالمتضايقين كالأخ فإن أحدهما صار أخاً للآخر في حال ما صار الآخر أخاه. وأما في الشرف والرتبة: نحو (هما معاً في العلو) . وتقتضي معنى النصرة نحو {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} المفردات ص470. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً ألبتة مثل أن بقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه في الظاهر قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه" ونحو ذلك، فإن هذا غلط وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ثم قال.. "وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو النجم معنا، أو يقال: هذا المتاع معين لمجامعته لك وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة، ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب المراد فلما قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم شهيد عليكم مهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف أنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته، وكذلك في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} إلى قوله: {إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} كان هذا أيضاً حقاً على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ، وكذلك قوله لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} هنا المعية على ظاهرها وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد وقد يدخل على صبي من يخيفه فيبكي ويشرف عليه أبوه من فوق السقف فيقول: لا تخف أنا معك، أو أنا هنا أو أنا حاضر ونحو ذلك ينبهه على المعية الموجبة بحكم الحال دفع المكروه ففرق بين معنى المعية وبين مقتضاها، وربما صار مقتضاها من معناها فيختلف باختلاف المواضع فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أموراً لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها، وإن امتاز كل موضع بخاصية، فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عزوجل مختلطة بالخلق حتى يقال قد صرفت على ظاهرها" انتهى. نقلته بتمامه لما فيه من التحقيق والتدقيق حول مسألة العلو والمعية من الفتوى الحموية الكبرى ص60- 62، وانظر: كلامه - رحمه الله - في مجموع الفتاوى 5/102- 106. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 وتأولت المعتزلة ومن تابعهم فول الله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} على أن الاستواء هو الاستيلاء والقهر بقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ولا دم مهراق1 والجواب: أنه لا يقال هذا إلا لمن كان عاجزاً عن قهر شيء ثم قهره   1 تقدم بيان القائلين بإنكار الجهة لله عزوجل ص 478 في التعليق، وجميع الذين زعموا بأن الاستواء هو الاستيلاء استدلوا بالبيت المذكور هنا وزعموا أن معنى (استوى) فيه استولى وكذلك هو المعنى عندهم في جميع الآيات المصرحة باستواء الله على عرشهن فحكموا بهذا البيت على ألفاظ القرآن الكريم وحملوها ما لا تحتمل مع أنه بيت لا يعرف قائله، وسيأتي بيان أن استوى لا تأتي بمعنى استولى، وأن استولى لا تصح إلا في حالة المغالبة والله لا مغالب له، وقد رد على الجهمية ومن وافقهم في هذا التحريف ابن القيم - رحمه الله - باثنين وأربعين وجهاً. انظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 2/126-152. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 واستولى عليه والله سبحانه قاهر ومستول على كل شيء. وروي أن رجلاً سأل ابن الأعرابي1 ما معناه قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال: "هو على عرشه كما أخبر، فقال: يا أبا عبد الله ليس هذا معناه2 استولى؟ فقال: اسكت ما أنت وهذا3 ولا يقال استولى على الشيء أو يكون له فيه مضاد فإذا غلب أحدهما على الآخر قيل استولى أما سمعت قول النابغة: إلا لمثلك أو من أنت سَابِقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد4 ولو كان ما ذكره صحيحاً لجاز أن يقال: إن الله مستو على الحشوش والأمكنة التي يرغب عن ذكرها لأنه مستول عليها، ولو كان كذلك لم يكن لذكره للعرش معنى. وأما الأشعرية فقالوا: إذا قلتم إنه على العرش أفضى إلى أنه يكون محدوداً أو أنه يفتقر إلى مكان وجهة تحيط به وتعالى الله عن ذلك5.   1 هو أبو عبد الله محمد بن زياد بن الأعرابي إمام اللغة. قال ثعلب: انتهى إليه علم اللغة والحفظ توفي سنة (231?) . البداية والنهاية 10/348، سير أعلام النبلاء 10/688. 2 هكذا في النسختين وعند اللالكائي هكذا (ليس هذا معناه استولى) وما عند المصنف هنا صحيح أنه استفهام حذفت منه الهمزة. 3 هكذا في النسختين وعند اللالكائي بدون الواو. 4 الأمد في اللغة: هو الغاية والمراد هنا بالأمد الغاية التي ينتهي إليها السباق بين المتسابقين. انظر: اللسان 1/125. وقد أخرج هذا الأثر اللالكائي في السنة 3/399، والذهبي في العلو ص 133، وذكره ابن منظور في لسان العرب 3/2164، وانظر: ديوان النابغة ص 13. والنابغة هو زياد بن عمرو بن معاوية بن ضباب الذبياني يكنى أبا ثمامة، وهو قول شاعر جاهلي صاحب أحد المعلقات العشر. انظر: شرح القصائد العشر ص 349. 5 هذه من شبه الجهمية ومن تابعهم كالأشعرية في نفيهم العلو عن الله عزوجل، فزعموا أن من قال إنه في العلو أو فوق العرش فقد حدده، وقال بافتقار الله إلى المكان وأن الجهة والمكان تحيط به. وهذا من الخرص الباطل ونفي الحق الثابت بالتموهات الفاسدة، والكلام المخالف لصريح الكتاب والسنة، ولهذا قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" وقد تقدم ص 129. فهذه اللوازم المذكورة هنا ليست مما ورد في القرآن والسنة حتى يعتمد على إثبات مدلولها والقول بمفهومها أو نفي ما ثبت لأجلها، فلهذا يستفسر عن مراد قائلها، فإن فسرها بالحق قبل، وإن فسرها بالباطل رد، فإن أرادوا بقولهم بأن القول بأنه على العرش يفضي إلى أنه يكون محدوداً بحد على قدر العرش أو حد يعلم به قدر ذاته جل وعلا، فهذا باطل لم يقله أحد من سلف الأمة ولم يقصدوه في كلامهم. وإن أرادوا أنه لا حد له ولا غاية بحيث يقال: إنه في كل شيء فهذا باطل، فإن الله عزوجل ليس داخلاً في ذاته شيء من مخلوقاته، وليس هو في شيء من مخلوقاته، بل هو بائن عنها. وقد ثبت عن عبد الله بن المبارك - رحمه الله - أنه قال: "نعرف ربنا فوق سبع سموات على العرش بائن من خلقه ولا نقول كما قالت الجهمية أنه ههنا - وأشار إلى الأرض - ". الأسماء والصفات ص 538. فأثبت - رحمه الله - مباينة الله لخلقه بحيث لا يدخل فيهم ولا يدخلون فيه، ورد على الجهمية والحلولية القائلين إنه في كل مكان، وهو معنى قول الإمام أحمد - رحمه الله - "إن الله على العرش فوق السماء السابعة بائن من خلقه، وقدرته وعلمه في كل مكان". انظر: السنة للالكائي 3/401. وإن أرادوا بأنه يفضي إلى إثبات الجهة بمعنى أنه محصور داخل الكائنات بحيث صارت تحده فهذا لم يرد عن السلف ولا هو في قولهم بل استنكروه وردوه وهو مراد باطل. وإن أرادوا بالجهة أنه مباين للعالم وفوقه فهذا ما دل عليه القرآن والسنة والعقل والفطرة ولا تترك هذه الأدلة والبراهين لتوهمات باطلة وشبه فاسدة. وكذلك قولهم في المكان إن أرادوا به مكاناً يحويه ويحيط به جل وعلا ويتمكن منه فهذا لم يقله السلف بل صرحوا بأنه جل وعلا بائن من خلقه، وأنه الغني بذاته جل وعلا وكل شيء يفتقر إليه. وإن أرادوا بالمكان أنه ليس فوق العرش ولا في السماء فهذا النفي باطل لأنه قد جاء القرآن والسنة والعقل والفطرة بإثباته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 والجواب: أنا وإن قلنا إنه على العرش كما أخبر بكتابه وأخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم فلا نقول إنه محدود، ولا إنه يفتقر إلى مكان، ولا تحيط به جهة ولا مكان، بل كان ولا مكان ولا زمان ثم خلق المكان والزمان، واستوى على العرش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 بلا كيفية، ولم يخلق العرش لحاجة، بل كما حكي عن ذي النون المصري1 لما قيل له: ما أراد الله بخلق العرش؟ فقال: أراد الله أن لا تتيه قلوب العارفين ولم يخلقه لحاجته إليه، فإذا قيل للعبد المؤمن أين الله؟ قال: على العرش2، وقد صرح القاضي أبو بكر الباقلاني الأشعري 3 في التمهيد بالقول في هذه المسألة كما قال أصحاب الحديث4. وأما الغزالي فخالفهم في الاقتصاد وقال: "أما رفع الأيدي في الدعاء إلى السماء فلأنها قبلة الدعاء كما أن البيت قبلة الصلاة"5.   1 هو أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم المصري أحد المشايخ المشهورين كان حكيماً فصيحاً، توفي سنة (245?) . انظر: ترجمته في البداية والنهاية 10/393، وفي حلية الأولياء 9/231. 2 لم أقف على هذه الحكاية عنه. 3 هو محمد بن الطيب الباقلاني رأس المتكلمين على مذهب أبي الحسن الأشعري قال ابن كثير: كان غاية في الذكاء والفطنة. توفي سنة (403?) . البداية والنهاية 11/391. 4 صرح الباقلاني في التمهيد ص 301 بأن الله على العرش ونفى الملاصقة والمجاورة وما ذكره في كتابه الإبانة أكثر تفصيلاً وتوضيحاً، وقد نقله عنه شيخ الإسلام والذهبي وغيرهم. ومما نقله الذهبي عن الإبانة للباقلاني قوله: "فإن قيل فهل تقولون إنه في كل مكان: قيل معاذ لله بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وقال: "ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه وفي الحشوش، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يمن ويصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا ويميننا وشمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله" انتهى. وقد نقل عنه ابن القيم أيضاً هذا وزيادة ذكر فيها رده على القائلين بأن معنى استوى استولى وبين فساد هذا القول. وقد صرح بإثبات العلو من المتكلمين متقدموهم كابن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري تلميذ الأشعري وابن فورك. وقد نقل ذلك عنهم كل من شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذيه الذهبي وابن القيم، لتقزم بذلك الحجة على منأخريهم الذين خالفوا نهج أئمتهم كالغزالي والجويني والآمدي وغيرهم الذين أخذوا قول الجهمية والمعتزلة في هذا الباب. انظر: الفتوى الحموية الكبرى ص 58، العلو للذهبي ص 168، 173- 174، اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص 111-121. 5 الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص32، وانظر: أيضاً قواعد العقائد للغزالي أيضاً ص 165. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 وهذا تمويه منه ومعاندة لما ورد به القرآن والسنة، وما عليه العلماء من الصحابة والتابعين. وأما قوله: "إن السماء قبلة الدعاء"، فيقال له1: لو كان هذا كما قلت لم يصح الدعاء إلا لمن توجه بيديه إلى السماء كما لا تصح الصلاة إلا لمن توجه إلى الكعبة2،3. ثم قال: "ولما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بإيمان الجارية لما أشارت إلى السماء فلأنه لا سبيل للأخرس إلى تفهم علو المرتبة إلا بإشارة إلى جهة العلو، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يظن أنها من عبدة الأوثان فاستنطقت بمعبودها"4. فعرّفت بالإشارة إلى السماء أن معبودها ليس من الأصنام5، وهذا غير   (فيقال له) ليست في - ح-. 2 في - ح- زيادة بعد هذا (وما حكم النبي صلى الله عليه وسلم إلا لمن توجه إلى الكعبة) ولا معنى لها بل هي مكرر خطأ. 3 ذكر شارح الطحاوية ص 327 هذا الاعتراض ورد عليه بثلاثة أوجوبة: الأول: إن القول بأن السماء قبلة الدعاء قول لم ينزل الله به سلطاناً، ولم يرد عن أحد من السلف وهو من الأمور الشرعية الدينية التي لا يجوز أن تخفى عن الأمة وعلمائها. الثاني: أن هذا خلاف الثابت الصحيح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فإنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة، ومن زعم أن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة فقد ابتدع بالدين وخالف جماعة المسلمين. الثالث: أن القبلة هي ما يستقبله العابد بوجهه كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء والذبح وتوجيه المحتضر والمدفون إليها، أما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فلا تسمى قبلة لا حقيقة ولا مجازاً. انتهى بتصرف. فبان بهذا مع ما ذكره المصنف أن القول بأن السماء قبلة الدعاء نخرص وقول باطل. 4 في الاقتصاد هكذا (فاستنطقت عن معتقدها) . 5 الاقتصاد في الاعتقاد ص 33، وهذا التأويل من الغزالي تأويل باطل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألها عن الله ولم يسألها عن معبوده، ثم إن السؤال لو كان عن المعبود فقط لكانت الإشارة إلى السماء غير كافية في الدلالة على الإيمان بالله، لأن في جهة العلو من عبد دون الله كمن عبد الشمس أو القمر أو الملائكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 صحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: أين الله فأشارت إلى السماء، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فلو كان لا يجوز أن يقال: إن الله في السماء لبين لها النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يجوز له الإقرار على الخطأ، لا سيما وكان ذلك بحضور جماعة من الناس، أو لو كان هذا لكونها عجمية لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لمن حضر مع أنه كان يمكنه صلى الله عليه وسلم أن يسأل من تعبد. وكيف يصح هذا التأويل، وقد روى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا حتى ذكر سبع سموات، وفوق ذلك بحر ما بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، وفوق ذلك ثمانية أوعال كواهلهم تحت العرش وأقدامهن تحت الأرض السابعة السفلى وفوق ذلك العرش والله سبحانه فوق ذلك "   1 الرواية هنا ليست كما هي عند أبي داود فالمصنف ذكرها مختصرة مع اختلاف في الألفاظ. وهذا الحديث يسمى حديث الأوعال، وهو من رواية العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، أخرجه د. كتاب السنة (ب. في الجهمية) 2/276، ت. في التفسير (ب. تفسير سورة الحاقة) 5/424 وقالك حسن غريب، جه. في المقدمة (ب. فيما أنكرت الجهمية) 1/68، حم. 3/389، والدارمي في الرد على بشر المريسي ص 911، وابن أبي عاصم في السنة 1/253، وابن خزيمة في التوحيد ص 101، والجوزقاني في الأباطيل 1/77، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة في العرش ص 274 رسالة ماجستير مقدمة من الأخ محمد بن خليفة التميمي. والحديث بجميع طرقه مداره على سماك بن حرب عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس به. وعلته عبد الله بن عميرة، فقد قال عنه الذهبي في الميزان 2/469: "فيه جهالة" قال ابن حجر في التهذيب: "روى عن الأحنف بن قيس عن العباس حديث الأوعال، وعنه سماك بن حرب، وفيه عن سماك اختلاف، قال البخاري: لا نعلم له سماع من الأحنف". التهذيب 5/344. وللحديث علة أخرى وهي انفراد سماك برواية هذا الحديث، وقد قال النسائي فيه: "كان ربما لقن فإذا انفرد بأصل لم يكن حجة لأنه كان يلقن قيتلقن". انظر: التهذيب 4/234، وقد حسن الحديث كما مر الترمذي وصححه الجوزقاني. انظر: الأباطيل 1/79، ومال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى إلى تصحيحه معتمداً على إيراد ابن خزيمة له في التوحيد، وأن هذا دليلاً على اتصال الحديث وعدم انقطاعه بين عبد الله بن عميرة والأحنف. انظر: الفتاوى 3/192، وضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/9، بل قال: "هذا حديث لا يصح" معتمداً على رواية ضعيفة ومنقطعة عند الإمام أحمد، كما ضعف الحديث الألباني في تخريج أحاديث السنة لابن أبي عاصم بناءاً على جهالة عبد الله بن عميرة وعدم سماعه من الأحنف. السنة لابن أبي عاصم 1/254 وهذا هو الأظهر في الحديث وهو ضعف إسناده، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 والطرق في الرواية والأخبار بذلك1 مشهورة ولا تبطل بتأويل من تأولها ولا برد من ردها.   1 في الأصل (والطرق في الرواية في ذلك) وما أثبت من - ح- وهو الأنسب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 103- فصل قد ذكرنا أن في الكتاب والسنة صفات لله نؤمن بها كما جاءت ولا نفسرها1 منها قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} 2، وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} 3، 4، وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ} 5، وقال سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} 6، وقال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 7، وقال: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 8,9 1 تقدم هذا أول الكتاب ص 99 وتقدم التعليق على قوله: "ولا نفسرها".   2 الرحمن آية (27) . 3 القصص آية (88) . 4 صفة الوجه ثابتة لله عزوجل من صفات ذاته جل وعلا ثبتت بالقرآن والسنة، وأجمع السلف على إثباتها لله من غير تشبيه ولا تكييف ولا تأويل وجهاً يليق بجلال الله وعظمته، وقد أنكرت الجهمية والمعتزلة أن يكون لله جل وعلا وجهاً، أما الأشاعرة فإن متقدميهم كالأشعري في الإبانة والباقلاني في التمهيد أثبتوا ذلك صفة لله عزوجل من غير تأويل، وردوا على المؤولين قولهم، وكذلك الجويني في العقيدة النظامية أثبت هذه الصفة ومنع التأويل والخوض في المعنى اتباعاً للسلف، أما المتأخرون من الأشاعرة كالغزالي والجويني في غير النظامية والآمدي والشهرستاني وغيرهم فهم على تأويلها متبعين في ذلك قول الجهمية والمعتزلة. انظر: الإبانة للأشعري ص95، التمهيد للباقلاني ص295، العقيدة النظامية ص34. 5 ص آية (75) . 6 المائدة آية (64) . 7 الفتح آية (10) . 8 الزمر آية (67) . 9 استدل المصنف - رحمه الله - بالآيات المذكورة أن لله عزوجل يدين وأن كلتي يديه يمين كما ورد بذلك الحديث - وسيأتي ذكره - وإثبات السلف - رحمهم الله - لصفة اليد لله عزوجل إثباتاً من غير تشبيه وتنزيهاً من غير تعطيل، فيقولون لله يد كما ورد ذلك بالكتاب والسنة على ما يليق بجلال الله وعظمته ولا نكيف ولا نشبه ولا نؤول، وأنكر المعطلة من الجهمية والمعتزلة وأكثر الأشعرية أن لله يداً، وقالوا المراد باليد إما النعمة أو القدرة والمراد باليمين القوة، فردوا صريح القرآن والسنة وعطلوا الله عزوجل أن يوصف بالصفات الدالة على الكمال. انظر: قول السلف في المراجع المذكولاة في التعليق رقم (3) ص 627 ومذلك قول المعطلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 وقال سبحانه: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 1، وقال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} 2،3. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق آدم على صورته "4،5.   1 القمر آية (14) . 2 هود آية (37) . 3 أثبت المصنف بهذه الآيات أن الله جل وعلا يوصف بأن له عيناً، وقد ذكر هذه الصفة لله عزوجل السلف - رحمهم الله - واستدلوا لها بالآيات المذكورة هنا وبقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} طه آية (39) ، وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال: "إن الله ليس بأعور إلا أن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية" أخرجه خ. كتاب الأنبياء 4/133، م. كتاب الإيمان 1/155، وأنكر ذلك المعطلة من الجهمية ومن تابعهم، وزعموا أن المراد بالعين في الآيات، إما العلم كما قال بذلك القاضي عبد الجبار، أو الحفظ والرعاية كما هو قول الجويني في الأرشاد، فردوا هذه الصفة وعطلوا الله عزوجل. انظر: قول السلف في هذه الصفات في: التوحيد لابن خزيمة ص 10-18، 42، 43، 53- 76، شرح السنة للالكائي 3/412- 429، رد الدارمي على بشر المريس ص 48، 154- 162، العقيدة الواسطية ضمن عقائد مجموع الفتاوى 3/133، وانظر: قول المعطلة في شرح الأصول الخمسة ص 227- 228، الإرشاد للجويني ص 146- 148، المواقف للأيجي ص 298، أصول الدين للبغدادي ص 109- 112. 4 أخرجه خ. كتاب الاستئذان (ب. يد والسلام) 8/43، م. كتاب الجنة وصفة نعيمها (ب. يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير) 4/2183، حم. 315. 5 أورد المصنف - رحمه الله - هذا الحديث وحديث أبي هريرة وابن عمر بعد الحديث الآتي، وإيراده لهذه الأحاديث هنا يثبت أنه يستدل بها على إثبات الصورة لله عزوجل، وأن ابن آدم خلق على صورة الرحمن جل وعلا كما ورد ذلك مصرحاً به في رواية ابن عمر: "لا تقبحوا الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن" وسيأتي تخريجها وقد صحح هذه الرواية الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه. قال القاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات ورقة 48/أقال أحمد في رواية ابن منصور: "لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورته" صحيح. وقال في ورقة 54/ب وقد ذكر عبد الرحمن بن مندة في كتاب الإسلام فقال: قال أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن فراس في كتابه عن حمدان بن علي قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول وسأله رجل فقال: يا أبا عبد الله الحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم على صورته" على صورة آدم، فقال أحمد بن حنبل: "فأين الذي يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن عزوجل " ثم قال أحمد: "وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلق الخلق". وقال في ورقة 48/أوقد روى عبد الله بن مندة بإسناده عن إسحاق بن راهويه قال: "قد صح عن رسول الله صلى اله عليه وسلم أنه قال: "إن آدم خلق على صورة الرحمن" وإنما علينا أن ننطق به" انتهى. ونقل الآجري في الشريعة ص 307 تصحيح الإمام أحمد وإسحاق للحديث، وصحح الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية وانتصر له، وقال الحافظ في الفتح 5/183 عن إسناد الحديث: "رجاله ثقات". وقال شيخ الإسلام في رده على الرازي في تأويله للحديث: "لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك". انظر: نقض تأسيس الجهمية مخطوط في مكتبة الشيخ حماد الأنصاري ورقة 57/ب من القسم الأول، ج3، وهو غيرموجود في المطبوع ونقل اكثره الشيخ حمود التويجري في كتابه (عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن) من ص 48. قال ابن حجر في الفتح في معرض الأقوال في مرجع الضمير في الحديث السابق: "وقيل المراد بالصورة الصفة. والمعنى أن الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك وإ كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء". الفتح 11/3. والناظر في كتب الأئمة التي ألفوها لبيان صفات الله عزوجل وما يستحقه جل وعلا من نعوت الجلال والكمال يجد أكثرهم أورد هذه الأحاديث. فقد أوردها ابن أبي عاصم في السنة، والآجري في الشريعة، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة، والدارقطني في الصفاتن وعبد الله ابن الإمام أحمد في السنة، ولا معنى لإيرادهم لهذه الأحاديث إلا إثباتهم لمدلولها، وهو أن الله يوصف بأن له صورة جل وعلا لا كالصور، وأن ابن آدم خلق على صورة الرحمن عزوجل، إذ ليس في هذه الأحاديث مما يتعلق بصفات الله عزوجل إلا هذين المدلولين، وهو أئمة ناقدون بصيرون متبوعون، فلو كان لهم فيها رأي أو قول يخالف مدلولها أو شك في صحتها لبينوه ما فعل ذلك ابن خزيمة - رحمه الله - فإنه أنكر أن يكون ابن آدم خلق على صورة الرحمن في كتابه التوحيد ص 37 وأعل الحديث وذكر أيضاً له تأويلات فيما لو ثبت. كما أوله أيضاً من الأئمة محمد بن إسحاق بن مندة في كتابه التوحيد ومعرفة أسماء الله عزوجل وصفاته على الاتفاق والتفرد ص 222- 224، وهذا الإنكار والتأويل من الإمام ابن خزيمة - رحمه الله- لم يقبله كثير من العلماء واعتبروه زلة من هذا الإمام، ومما ذكر في هذا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في نقض تأسيس الجهمية ورقة 60/ب من القسم الأول ح (3) . قال: "وقد ذكر الحافظ أبو موسى المديني فيما جمعه من مناقب الإمام الملقب بقوام السنة أبي القاسم إسماعيل بن محمد التيمي صاحب كتاب "الترغيب والترهيب" قال: سمعته يقول: "أخطأ محمد بن إسحاق بن خزيمة في حديث الصورة ولا يطعن عليه بذلك بل لا يؤخذ عنه هذا فحسب" وانظره في عقيدة أهل الإيمان للتويجري ص 61. كما أوله أيضاً المعطلة بسائر طوائفهم من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وذكروا له تأويلات عديدة ذكرها القاضي أبو يعلى في إبطال التأولات لأخبار الصفات ورقة 46/?-62/ب ورد عليها أيضاً. وذكرها أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية عن الرازي وغيره ورد عليها في 33 ورقة في كتابه نقض تأسيس الجهمية من ورقة 56/أإلى 89/أمن القسم الأول ج (3) . وكتب في هذا الحديث شيخنا حماد الأنصاري مقالاً في مجلة الجامعة السلفية في ذي القعدة سنة (1396?) العدد الرابع بعنوان "تعريف أهل الإيمان بصحة حديث صورة الرحمن"، وقد نقله بنصه د. علي بن ناصر فقيهي في تعليقه على كتاب الصفات للدارقطني ص 58- 62. كما ألف الشيخ حمود التويجري كتاباً سماه (عقيدة أهل الإيمان بخلق آدم على صورة الرحمن) فمن أراد الاستزادة فليراجع ما ذكره ففيه الغنية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 مفقودة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 وروي عن أبي موسى أنه قال: " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ويرفع1 إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفها2 لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره" 3،4. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته"، أخرجه مسلم5.   1 هكذا عند اللالكائي بالواو وليست في مصادر الرواية الأخرى. 2 هكذا في النسختين وعند مسلم "حجابه النور - أو النار- لو كشفه" وعند اللالكائي "حجابه النار لو كشفها" فالصواب أن تكتب هنا كما في رواية اللالكائي (النار) أو يكتب (لو كشفه) بضمير التذكير ليعود على النور. 3 أخرجه م. في كتاب الإيمان (ب. قوله عليه السلام إن الله لا ينبغي له أن ينام) 1/161، حم. 4/401- 405، جه. المقدمة (ب. فيما أنكرت الجهمية 1/70، اللالكائي في السنة 3/414. 4 هذا الحديث فيه إثبات صفة الوجه لله عزوجل، كما دل على ذلك أيضاَ الآيات المتقدمة، وإثبات أن وجه ربنا عزوجل له سبحات هي النور المتلألئ من وجهه جل وعلا وبهاؤه، وأن هذه السبحات من العظمة بحيث جعل الله جل وعلا حجاباً من نور أو نار يحجبه عن خلقه وإلا أحرقت هذه السبحات جميع خلقه جل ربنا وعز للطيف الرحيم. انظر: شرح مسلم للنوي في معنى السبحات 3/14. 5 م. كتاب البر والصلة (ب. النهي عن ضرب الوجه) 4/2017، حم. 2/251- 463. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورته" 1. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، قال له آدم: أنت   1 هذا الحديث ورد بلفظين: اللفظ الأول هو المذكور هنا، وأخرجه به فقط اللالكائي في شرح السنة 3/423، والبيهقي في لأسماء والصفات ص 371. واللفظ الثاني: "لا تقبحوا الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن عزوجل"، وأخرجه الآجري في الشريعة ص 315، وابن خزيمة في التوحيد ص 38، وابن أبي عاصم في السنة 1/228، والدارقطني في الصفات ص 64، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/268. والحديث مداره على جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء بن أبي رياح عن ابن عمر - رضي الله عنهما- به. وقد أعله ابن خزيمة - رحمه الله- بثلاث علل: أولاً: أن الثوري رواه عن حبيب عن عطاء مرسلاً بخلاف رواية الأعمش الموصولة. ثانياً: أن حبيب بن أبي ثابت أيضاً مدلس لم يعلم أنه سمعه من عطاء. انظر: التوحيد لابن خزيمة ص38، وسلسلة الأحاديث الضعيفة 3/316. قلت: أما تدليس الأعمش فقد زال برواية الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، أما مخالفة الأعمش للثوري حيث وصله وأرسله الثوري عن عطاء فإن هذا لا يضعف به الحديث، لأن الأعمش ثقة حافظ كما قال ابن حجر في التقريب ص 136، بقي تدليس حبيب بن أبي ثابت، قال الشيخ التويجري: "الظاهر أنه لم يدلس في هذه الرواية، ويدل على ذلك أنه كان يروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما- مباشرة، فلو كان قد دلس في هذا الحديث لكان جديراً أن يرويه عن ابن عمر بدون واسطة بينه وبينه ليحصل علو الإسناد، ولكن لما رواه عن عطاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما- دل ذلك على أنه لم يدلس في روايته". انظر: عثيدة أهل الإيمان ص23، وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- مرفوعاً "إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه فإن صورة الإنسان على صورة الرحمن عزوجل" أخرجه الدارقطني في الطبقات ص65، وابن أبي عاصم في السنة 1/230 وفي إسناده ابن لهيعة. وقد صحح الحديث كما مر في التعليق على حديث الصورة الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه. واستدل بهذه الرواية مع رواية أبي هريرة الحافظ في الفتح 5/183 على إثبات الصورة على ما يليق بجلال الله، كما في صححه شيخنا الشيخ حماد الأنصاري على ضوء تصحيح الأئمة له فيي الرسالة السالفة الذكر ص868 والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده، وتلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى " أخرجه البخاري ومسلم1. وروى أبو موسى - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها " أخرجه مسلم2. وروى ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول3 شيء خلقه الله القلم فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين قال: فكتب الدنيا وما يكون فيها من عمل معمول بر أو فجور رطب أو يابس فأحصاه عنده في الذكر، وقال: اقرأوا إن شئتم {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} " 4، 5. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السموات بيمينه يقول: أنا الملك "6.   1 تقدم تخريجه ص 509. 2 أخرجه م. كتاب التوبة (ب. قبول التوبة من الذنوب) 4/2113، حم. 4/395 - 404، واللالكائي في السنة 3/414، ويلاحظ أن نسخة - ح- قدمت هذا الحديث على الذي قبله حديث أبي هريرة - رضي الله عنه-. 3 في الأصل (أول كل) وما أثبت من - ح- ويوافق رواية الآجري. 4 الجاثية آية (29) . 5 أخرجه الآجري في الشريعة ص 175، وابن أبي عاصم في السنة 1/49 وزاد في آخره "فهل يكون النسخ إلا من شيء قد فرغ منه"، وقال الألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم: "إسناده حسن وفي ابن مصفى كلام لا ينزل حديثه عن مرتبة الحسن وهو وبقية مدلسان وقد صرحا بالتحديث وأخرجه الآجري من طريق الربيع بن نافع عن بقية بن الوليد قال: حدثنا أرطأة بن المنذر به فصح الحديث". انتهى. 6 أخرجه خ. كتاب التوحيد (ب. قول الله: هو الله الخالق البارئ المصور) 9/98، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 3/417 من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني1 فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له2، حتى يطلع الفجر"3.   1 في النسختين (يدعني) وما أثبت موافق للرواية عند البخاري ومسلم. 2 في الأصل (من، من، حتى يطلع الفجر) وما أثبت كما هو في - ح إذ ليس هذا اللفظ في شيء من روايات أحاديث النزول. 3 قال اللالكائي في السنة 3/434: "حديث النزول رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرون نفساً"، ثم أورد الروايات في النزول، وصنف فيه الدارقطني - رحمه الله - كتاباً سماه (كتاب النزول) وهو مطبوع مع كتابه الصفات. وأخرج الحديث هنا خ. في كتاب التهجد (ب. الدعاء والصلاة من آخر الليل) 2/47، م. كتاب صلاة المسافرين (ب. الترغيب في الدعاء والذكر آخر الليل) 1/521 من حديث أبي هريرة. وصفة النزول أثبتها السلف - رحمهم الله - على ضوء ما ورد من الأحاديث الدالة على ذلك من غير تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، فقد ذكر اللالكائي عن حنبل بن إسحاق قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا" فقال أبو عبد الله: "نؤمن بها ونصدق بها ولا نرد شيئاً منها إذا كانت بأسانيد صحاح ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ونعلم أن ما جاء به الرسول حق". شرح السنة للالكائي 3/455. وقال ابن خزيمة - رحمه الله - في كتابه التوحيد ص 125: "باب ذكر أخبار ثابتة السند صحيحة القوام رواها علماء الحجاز والعراق عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب جل وعلا إلى سماء الدنيا كل ليلة، نشهد شهادة مقر بلسانه مصدق بقلبه مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب من غير أن نصف الكيفية، لأن نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى سماء الدنيا". ونقل شيخ الإسلام عن أبي عمر الطلمنكي أنه قال: "وأجمعوا على أن الله جل وعلا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا على ما أتت به الأثار كيف شاء لا يحدون في ذلك شيئاً". مجموع الفتاوى 5/577. أما المعطلة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة فقد أنكروا النزول ولهم فيع تأويلات: التأويل الأول: ما ذكره الدارمي في الرد على بشر المريسي من قولهم: إن الله لا ينزل بنفسه إنما ينزل أمره ورحمته. وقد رد عليه الدارمي وغيره بأن الرحمة والأمر من الله ينزل في كل ساعة ولماذا تنزل فقط في ذلك الوقت المعين من الليل، ثم هي أيضاً تصعد عند طلوع الفجر، ثم أيضاً: هل الرحمة والأمر يناديان ويطلبان من أصحاب الحاجات أن يرفعوا حاجاتهم دون الله جل وعلا، هذا كلام باطل وتأويل ساقط. انظر: رد الدارمي على بشر المريسي ص20، مجموع الفتاوى 5/415. التأويل الثاني: هو ما ذكره الجويني في الإرشاد ص 151، والآمدي في غاية المرام في علم الكلام ص143 أنه قد يكون المراد به نزول ملك من الملائكة. وهذا في الواقع تأويل أبطل من الذي قبله، إذ الملائكة لا يمكن بحال أن تقول "من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه..". انظر: مجموع الفتاوى 5/415- 416. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 وأخبار الصفات من هذا كثيرة، والمعتزلة والأشعرية يردون شيئاً منها، ومنها ما يتأولونه. ومذهب السلف والعلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الأعصار كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل ينزهون الله عن الجسمية1 والتصديق بما ورد من هذه الآي والأخبار والسكوت عن تفسيرها والاعتراف بالعجز عن علم المراد بذلك2، والتسليم والإيمان بذلك إيماناً جملياً كما آمنا وصدقنا بإثبات الذات من غير تكييف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بما يجوز على الله من الصفات، وكذلك الصحابة - رضي الله عنهم -، فإذا سكتوا عن تفسير هذه الصفات وتأويلها وسعنا ما وسعهم3 قال الله تعالى: {وَمَا   1 تقدم بين أن نفي الجسمية من النفي المبتدع، وأنه لم يرد عن السلف في هذا شيء لا بالإثبات ولا بالنفي وإنما هي من عبارات المتكلمين. انظر: ص97. 2 المصنف - رحمه الله - ليس من المفوضة بل هو من مثبتي الصفات ومن المفوضين في علم الكيفية ومراده بقوله "والسكوت عن تفسيرها" يعني بذلك تفسيرها الذي يفسر به المؤولة والمعطلة، وقوله: "والاعتراف بالعجز عن علم المراد بذلك" هو الاعتراف بالعجز عن علم الكيفية، وهو مذهب السلف كما يأتي بيانه، لأن المعطلة من الأشاعرة الذين يذكرون مذهب التفويض إنما يلتزمونه بالنسبة للجهلة والعوام، أما بالنسبة للعلماء منهم فإنهم يصرحون بمعرفة المراد من هذه الصفات حيث يخوضون في تأويلها فيذكرون أوجه التأويل، ويفسرون الصفات تفسيراً يخرجها عن الإثبات إلى التعطيل، كقولهم في اليد إنها النعمة، والاستواء الاستيلاء، والوجه الذات، والضحك الرحمة، وغير ذلك. انظر: الاقتصاد في الاعتقاد ص 35- 36، شرح البيجوري على جوهرة التوحيد ص81. 3 هذا مذهب السلف عامة في الصفات، فقد روى اللالكائي بسنده عن وكيع أنه قال: "إذا سئلتم: هل يضحك ربنا؟ فقولوا كذلك سمعنا". وروى أيضا بسنده عن الزهري ومكحول أنهما كانا يقولان: "أمروا الأحاديث كما جاءت". وروي عن سفيان بن عيينة أنه يقول "كل شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره لا كيف ولا مثل". وروي أيضاً بسنده عن محمد بن الحسن أنه قال: "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عزوجل من غير تغيير، - هكذا في المطبوع، ولعلها تفسير - ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئاً من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقارق الجماعة فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا". انظر: شرح اعتقاد أهل السنة 3/430 - 432 فمذهب السلف - رحمهم الله - إثبات من غير تشبيه وتنزيه من غير تعطيل، فيثبتون الصفة لله عزوجل ولا ينفونها كما يفعل المعطلة، وينفون التشبيه والتكييف لا كما يفعل المشبهة. رر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1. وقال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} 2. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتبعوا ولا تبتدعوا فإنما أهلك من كان قبلكم لما ابتدعوا في دينهم وتركوا سنن أنبيائهم وقالوا بآرائهم فضلوا وأضلوا "3. فإن قال قائل: فلم تأولتم قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ} 4 الآية. قلنا له: لأن القرآن يعاضد بعضه بعضاً ولا يتناقض، وقد أخبر الله تعالى أنه على العرش استوى، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فعلمنا أن هناك معنى يختص به العرش دونه5، فقلنا هو على العرش استوى. ولا نكيف الاستواء ولا نفسره بل نصدق به ونؤمن به إيماناً مجملاً، وأنه تعالى الله أن يكون في الحشوش والأمكنة الدنيئة فنزهناه عنها، وحملنا هذه الآية على الإحاطة والعلم لذكره العلم في ابتداء الآية وآخرها، كما حملنا قوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 6 على النصر والتأييد وإن كان يسمع كلام   1 الحشر آية (7) . 2 الإسراء آية (85) . 3 لم أقف على من أخرجه. 4 المجادلة آية (7) . 5 هكذا في النسختين والمعنى والله أعلم (أن هناك معنى يختص به العرش دون غير العرش) . 6 طه آية (46) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 فرعون ويراه كما يسمع كلامهما ويراهما1، وليس كذلك هذه الآيات والأخبار التي وردت بصفات الذات فإن العقول تقصر عن معرفة المراد بها2 فلزمنا بالضرورة التصديق بها والإمساك عنها.   1 تقدم الكلام على المعية. انظر: ص 617- 618. 2 مراد المصنف - رحمه الله - بقوله: "فإن العقول تقصر عن معرفة المراد بها" أي تقصر عن معرفة كيفيتها، وليس المراد نفي فهم المعنى فإن المعنى من هذه الألفاظ معلوم من لغة العرب المراد به. قال الإمام مالك وشيخه ربيعة - رحمهما الله -: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة"، وقد تقدم تخريجه. والمصنف - رحمه الله - من المثبتين للصفات كما تقدم بيان ذلك ص 633 متفقاً في ذلك السلف، ولا يظن به أنه يقصد بذلك التفويض كما هو القول الآخر للأشاعرة في الصفات فإنه أثبت الصفات، ونفى التأويل وأثبت المعاني التي ينكرها الأشاعرة المفوضة كالعلو والحرف والصوت والنزول ونحوها، إلا أنه - رحمه الله - استعمل بعض الألفاظ وخاصة النفي المفصل، كقوله "ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض" ونحو ذلك مما هو من الألفاظ التي يستعملها المبتدعة. انظر: ص 97 ونفيه هنا لمعرفة المراد بدون تخصيصه بالكيفية من الألفاظ التي لا يرتاح لها وتركها أولى. انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص238- 244. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 104- فصل وقد1 ذكرنا أن المؤمنين يرون الله يوم القيامة بأبصارهم ولا يراه الكفار2. وقالت السالمية: "يراه المسلمون والكفار"3.   1 قد تقدم ذكر هذا إجمالاً في أول الرسالة ص 99. 2 اتفق سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من الأئمة المهتدين بهدي سيد المرسلين على الإيمان بأن الله عزوجل يراه المؤمنون في عرصات القيامة وفي الجنة رؤية تنعم وإكرام، بل لا يعدلها نعيم ولا إكرام، فهي أعلى مراتب النعيم في الآخرة، معتمدين في ذلك على النص الصريح من كلام الله عزوجل وكلام نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وسيورد المصنف - رحمه الله - الأدلة على ذلك ومن أراد الاستزادة فليراجع التوحيد لابن خزيمة ص 167-197، الشريعة للآجري ص 251- 276، شرح اصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 3/45- 511، وانظر: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراج لابن القيم ص 196- 240. أما رؤية الكفار لله عزوجل في القيامة فالمثبتون للرؤية على ثلاثة أقوال: القول الأول: كبار الأئمة ومتقدموهم على أن الله لا يراه إلا المؤمنون، وأن الكفار لا يرونه، وقد روي هذا عن الحسن ومالك ومحمد بن عبد الله بن الحكم وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ووكيع وعبد الله بن المبارك والشافعي، قال شيخ الإسلام: "وعليه أكثر العلماء المتأخرين وجمهور أصحاب الإمام أحمد". انظر: اللالكائي في السنة 3/467- 502-505، 510، مجموع الفتاوى 6/487. القول الثاني: وهو قول ابن خزيمة: إن الله يراه من أظهر التوحيد من هذه الأمة مؤمنهم ومنافقهم في عرصات القيامة ثم يحتجب عن المنافقين فلا يروه. التوحيد لابن خزيمة ص 172. القول الثالث: إن الكفار يرون الله يوم القيامة رؤية تعريف وتعذيب كاللص إذا رأى السلطان ثم يحتجب عنهم ليعظم عذابهم ويشتد عقابهم، وهو قول السالمية وأبي سهل عبد الله التستري. انظر: المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص 83- 219، وانظر هذا القول مع أدلة كل فريق منهم في: رسالة لشيخ الإسلام ضمن مجموع الفتاوى 6/485- 506، وحكى الأقوال الثلاثة أيضاً ابن القيم في حادي الأرواح ص 198، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 212. 3 تقدمت حكاية قولهم، والسالمية هم أتباع أبي الحسن أحمد بن محمد بن سالم الزاهد البصري شيخ السالمية قال الذهبي: وكان له أحوال ومجاهدات، وعنه أخذ أبو طالب المكي صاحب قوت القلوب، وهو آخر أصحاب سهل التستري وفاة، وقد خالف أصول السنة في مواضع، وبالغ في الإثبات في مواضع، وعمر دهراً وبقي إلى سنة بضع وخمسين وثلاثمائة. العبر 2/109. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 وقالت المعتزلة: "لا يجوز وصف الله بأنه يرى"1. وقالت الأشعرية: "المؤمنون يرونه ولكن لا يرونه عن مقابلة"2. ودليلنا قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 3، قال أنس بن مالك: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى هذه الآية فقال: "للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى وهي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى "4.   1 أجمعت المعتزلة على إنكار رؤية الله عزوجل في الآخرة وبه قال أيضاً الجهمية والخوارج والروافض وطوائف من المرجئة وطوائف من الزيدية. انظر: شرح الأصول الخمسة ص238، مقالات الإسلاميين 1/289، حادي الأرواح ص 196، شرح العقيدة الطحاوية ص 204. 2 الأشاعرة: لما كانوا يأخذون الشيء من السنة والشرع وهم ملتزمون بقواعد الجهمية والمعتزلة في كثير من أقوالهم أثبتوا رؤية الله عزوجل في الآخرة للمؤمنين ونفوا أن تكون الرؤية في جهة العلو أو غيرها لأنهم موافقون للمعتزلة في إنكار هذا الأمر، فلهذا لزمهم في إثبات الرؤية إثبات الجهة إذ المرئي لا بد أن يكون في جهة، وفراراً من هذا الإلزام زعموا أن الرؤية ليست رؤية بصر وعين بل هي نوع إدراك وهو كمال ومزيد كشف واستيضاح لذات الله عزوجل يعبر عنه بالرؤية والمشاهدة. وهذا قول باطل يعلم بطلانه ببديهة العقل حيث لا يمكن للإنسان أن يرى إلا في جهة، والمرئي لا بد أن يكون في جهة. ثم إن الشرع دل على ذلك كما سيأتي في الأدلة التي يذكره المصنف، والله جل وعلا قد ثبت له صفة العلو سبحانه ثبوتاً قاطعاً بدلالة القرآن والسنة والعقل والفطرة فزعم أنه يرى لا في جهة قول معلوم الفساد كقولهم إنه لا فرق ولا تحت ولا بذي جهة. كما أن تفسيرهم للرؤية بنوع إدراك وكشف وليس هو رؤية بصر وعين تخوض بالباطل وقول لا دليل عليه وتحكم بأمر لم يطلعوا عليه ولم يعاينوه، فعليهم أن يثبتوا دليلهم عليه من القرآن أو السنة، لأنهما جاءا بالرؤية بالعين والبصر، وهم زعموا أنها رؤية قلبية ونوع كشف فعليهم أن يأتوا بالدليل على ذلك أو يكون تخرصاً بالباطل وقول بلا علم. انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 44- 46، غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 166، المواقف للإيجي ص 299- 300، مجموع الفتاوى 2/82- 89. 3 يونس آية (26) . 4 أخرجه اللالكائي في شرح السنة 3/456، وسنده ضعيف فإن فيه نوح بن أبي مريم، قال عنه أبو حاتم ومسلم والدولابي والدارقطني: "متروك الحديث"، وقال الخليلي: "أجمعوا على ضعفه"، وكذبه ابن عيينة. التهذيب 10/487، وذكره ابن القيم في حادي الأرواح وعزاه إلى الدارقطني في الرؤية من طريق آخر إلا أنه ضعيف، فإن في إسناده عمر بن سعيد البصري الأبح، قال عنه البخاري وابن عدي: "منكر الحديث". انظر: الأرواح ص 218 الكامل لابن عدي 5/1704، الميزان 3/200. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 وروي عن صهيب أنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فقال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريدون أن ينجزكموه. يقولون: ما هو، ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار، فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله فما شيء أعطوا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة "، أخرجه مسلم في صحيحه1. وكذلك روى أبي بن كعب2 وكعب بن عجرة3 وأبو موسى الأشعري4 عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية.   1 م. كتاب الإيمان (ب. إثبات الرؤية) 1/163، ت. كتاب صفة الجنة (ب. ما جاء في الرؤية) 4/687، جه. في المقدمة (ب. فيما أنكرت الجهمية) 1/67، حم. 4/332، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 3/455. 2 أخرج رواية أبي بن كعب اللالكائي في السنة 3/456، 492 من طريقين: عن أبي العالية الرياحي يحدث عن أبي بن كعب - رضي الله عنه -، نحو حديث أنس المتقدم، وفيها مجهول وهو الراوي عن أبي العالية. ومن هذا الطريق أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره 11/107 أما الطريق الأخرى فعن أبي خلدة عن أبي العالية وفي إسناده من لم أجده. 3 أخرجه اللالكائي في السنة 3/457، وابن جرير في تفسيره 11/107، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/262. كلهم من طريق إبراهيم بن المختار عن ابن جريج عن عطاء الخرساني عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - نحو حديث أنس المتقدم. قال أحمد شاكر في تعليقه على تفسير ابن جرير: "هذا خبر ضعيف الإسناد لضعف إبراهيم بن المختار ولأنه من مرسل عطاء عن كعب بن عجرة". 4 أخرجه اللالكائي في السنة 3/457، وابن جرير في تفسيره 15/65، عن أبان بن أبي عياش فيروز عن أبي تميمة الهجيمي أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يبعث الله عزوجل يوم القيامة منادياً ينادي أهل الجنة بصوت يسمع أولهم وآخرهم إن الله وعدكم الحسنى والحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجهه عزوجل ". وأبان بن أبي عياش قال ابن حجر: "متروك"، التقريب ص 18 فسنده بناء عليه ضعيف. وتفسير الزيادة في الآية بأنها النظر إلى وجه الله عزوجل ثابت من حديث صهيب المتقدم، ومن قول أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وأبي موسى الأشعري وابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم - وعدد كبير من التابعين وغيرهم. انظر: اعتقاد أهل السنة للالكائي 3/458- 463. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1. فقوله: "ناضرة" أي حسنة مشرقة يعلوها النور كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} 2، قال محمد بن كعب القرظي: "نضر الله تلك الوجوه للنظر إليه"3. وروى عطية4 عن ابن عباس في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} قال: "يعني حسنة"، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: "نظرت إلى الخالق عزوجل"5. وقال الحسن البصري: "نظرت إلى ربها فَنَضُرَت لنوره"6. فهذا قول المفسرين في تفسير هذه الآية. ويدل على ذلك من المعنى أن النظر إذا قرن بالوجه وَصْفُه بالنضارة علم أنه أراد به الجارحة الذي فيه7 العينان وعدى ذلك بحرف جر، فانصرف   1 القيامة آية (22-23) . 2 عبس آية (38- 39) . 3 أخرجه الآجري في الشريعة ص 256، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/260. 4 عطية بن سعد العوفي قال الذهبي: "تابعي شهير ضعيف". توفي سن (111?) . الميزان 3/79. 5 أخرجه الآجري في الشريعة ص256، واللالكائي في السنة 3/464، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/261. 6 الآجري في الشريعة ص 256، واللالكائي في السنة 3/464، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/261. 7 في الأصل (أراد الجارحة الذي فيه العينان) وما أثبت من - ح- وهو الأصوب لأن المقصود الوجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 ذلك إلى رؤية البصر، وصار كقوله تعالى: {فَانْظُرْ1 إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} 2 أي انظر بعينك، وصار كقول الشاعر: انظر إلي بوجه لا خفاء به ... أريك تاجاً على سادات عدنان3 وكل نظر لم يعده بحرف جر ولا قرنه بالوجه فإنه لا يقتضي نظر العين، وهذا كقوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} 4، كذلك قوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} 5، فإنه يريد بذلك الانتظار دون نظر العين، ولا يجوز حمل الآية على الانتظار، لأن أهل الجنة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلا يجوز أن يحمل أمرهم على الانتظار، لأنهم كلما خطر ببالهم أتاهم من الله. وأما النظر في قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} 6. فإنه أراد به الاعتبار، ولا يجوز أن يحمل النظر هاهنا عليه، لأن الآخرة ليست بدار اعتبار. وأما النظر في قول الله: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} 7، فإنه أراد به التعطف والرحمة، فلا يحمل النظر في الآية على هذا، لأن المؤمنين في الجنة لا يوصفون بالرحمة لربهم فثبت أنه أراد النظر بالعين8.   1 في النسختين (انظر) وهو خطأ. 2 البقرة آية (259) . 3 لم أقف عليه. 4النمل آية (35) . 5 يس آية (49) . 6 الغاشية آية (17) . 7 آل عمران آية (77) . 8 انظر: الاعتقاد للبيهقي فقد أبان أيضاً عن المراد بمعنى النظر ص 45- 46، وذكر الاستدلال أبو شامة ونقل كثيراً من اعتراضات المعتزلة على هذا الدليل ورد عليها. انظر: ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري ص30- 64، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 205. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 ويدل على ما قلناه: أن الله وصف المشركين ثم قال: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1، وهذا يبطل قول السالمية2. ويدل على أن المؤمنين عن ربهم غير محجوبين، إذ لو كانوا عنه محجوبين لما كان لوصف المشركين بذلك معنى. قال الحسن البصري: "إذا كان يوم القيامة برز ربنا تبارك وتعالى فيراه الخلق ويحجب الكفار فلا يرونه، وهو قوله تعالى: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} "3. وقال رجل لمالك: يا أبا عبد الله هل يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة؟ قال: "لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعبر الله الكفار بالحجاب فقال: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} " 4 وكذلك روي عن الشافعي - رحمه الله -5. يدل على ما قلناه ما روى علي بن أبي طالب وأنس بن مالك أنهما فسرا قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 6، قالا: "يظهر الرب لهم يوم القيامة"7. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 8، وذلك أن موسى عليه السلام لما سمع كلام الله اشتاق   1 المطففين آية (15) . 2 تقدم ذكر قولهم ص 636. 3 أخرجه اللالكائي في السنة 3/467. 4 أخرجه اللالكائي في السنة 3/468. 5 أخرجه عنه البيهقي فقد روي عن ابن هرم القرشي أنه قال: "سمعت الشافعي يقول في قول الله عزوجل: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ، قال: "لما حجبهم في السخط كان هذا دليلاً على أنهم يرونه في الرضا". الاعتقاد ص 53، وبمعناه روى اللالكائي عن المزني عنه. انظر: شرح اعتقاد أهل السنة 3/468. 6 ق آية (35) . 7 أخرجه اللالكائي عن علي وأنس بن مالك - رضي الله عنهما - تفسير قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} أنه النظر إلى وجه الله عزوجل، واللفظ المذكور أخرجه اللالكائي عن أنس - رضي الله عنه -. شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي 3/469. 8 الأعراف آية (143) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 إلى رؤيته فسأل الرؤية، فلو كانت رؤية الله مستحيلة لما سألها موسى عليه الصلاة والسلام. فقال: {لَنْ تَرَانِي} في الدنيا ولا تطيق1 عليها في الدنيا، وإنما منعه الله إياها في الدنيا لمعان: أحدها: أن النظر الذي في عينه خلقه الله للفناء فلا ينظر به إلى الله الذي هو باق ولا يفنى. والثاني: أن الدنيا دار تكليف فمعرفة الخلق له إنما هي عن غيب ليكون لهم الثواب لا معرفة ضرورية2. والثالث: أن رؤية الله تعالى من أجل النعم التي ادخرها الله لأهل الجنة في الآخرة فلم يعطها أحداً في الدنيا. ولا يجوز أن يكون المراد بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} من3 رؤيته في الدنيا والآخرة، لأنه لو أراد ذلك لقال: "لا تراني"، ولأنه لو كان سؤال موسى مستحيلاً لأخبره الله بذلك وقال: لا تسألن عما ليس لك به علم، كما قال لنوح عليه السلام: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 4، ولنهى موسى عن ذلك. ثم قال الله لموسى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} أي اجعل الجبل علماً بيني وبينك لأنه أقوى منك، فإن استقر مكانه فسوف تراني، وإن لم يستقر الجبل مكانه لن تطيق رؤيتي في الدنيا. وفي قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} دليل على جواز رؤية   1 في الأصل (نطلق) وفي -ح- كما أثبت وهي أقرب إلى وضوح المعنى المراد وهو (أي لا تقدر عليها) . 2 المراد هنا معرفة ضرورية تحصل بالمشاهدة. 3 هكذا في النسختين ولعل صوابها (نفي) . 4 هود آية (46) وهذه الآية ليست في -ح-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 الله سبحانه لأن الله قادر على أن يقر الجبل مكانه1. {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} فقيل: إن الله رفع الجبل الآفة المانعة له من النظر وأحياه وخلق فيه الإدراك2، وتجلى الله للجبل، أي رفع الله الحجاب3 {جَعَلَهُ دَكّاً} يعني قطعاً ستة أجبل ثلاثة بمكة: ثبير، وغار ثور، وحراء، وثلاثة بالمدينة: رضوى، وورقان، وأحد4.   1 ذكر بعض هذه الأجوبة عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية ص 65. وذكرها بأوسع مما هنا ابن القيم في حادي الأرواح ص 197- 198، وانظر أيضاً: ضوء الساري إلى رؤية الباري لابن شامة ص 134-154، وشرح العقيدة الطحاوية ص 206- 207. 2 ذكر هذا القول أبو شامة في ضوء الساري ص 147 - 148 عن ابن سينا وعن القاضي الباقلاني، كما حكاه القرطبي في تفسيره 7/278 عن الباقلاني أيضاً. والصحيح أن الأمر لا يحتاج إلى ما ذكر، لأنه لم يرد أنه خلق للجبل نظر رؤية، ولكن الجبل اندك لتجلي الله عزوجل له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" تقدم تخريجه ص 629. 3 روى الترمذي بسنده عن حماد بن سلمة عن ثابت - رضي الله عنه -: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَل} ، قال حماد: هكذا وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة أصبعه اليمنى قال: فساخ الجبل وخر موسى صعقاً". قال الترمذي: "حديث حسن غريب صحيح"، وأخرجه من طريق آخر عن حماد وقال: "حديث حسن"، ت. كتاب تفسير القرآن (ب. من سورة الأعراف 5/165، وأخرج الحديث ابن جرير في تفسيره 9/53، والإمام أحمد في المسند 2/125، والحاكم في مستدركه 2/320 وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووفقه الذهبي، وذكره ابن كثير في تفسيره، فليراجع في 2/244. وأخرح ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية: "ما تجلى منه إلا قدر الخنصر جعله دكاً" 9/53. 4 ذكر هذا ابن كثير في تفسيره من رواية ابن أبي حاتم بسنده عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفوعاً "لما تجلى الله للجبل طار لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة، وثلاثة بمكة، بالمدينة أحد، وورقان ورضوى ووقع بمكة حراء وثبير وثور" قال ابن كثير: "هذا حديث غريب بل منكر". تفسير ابن كثير 2/245. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 وأراد الله بهذا إعلام موسى أن أحداً لا يراه في الدنيا إلا لحقه ما لحق الجبل، فلما رأى موسى تدكك الجبل خر صعقاً أي مغشياً عليه1، وقيل ميتاً2، فلما أفاق قيل من غشيته، وقيل: ردت عليه نفسه، قال: {سُبْحَانَكَ} كلمة تنزيه لله وإجلال له {تُبْتُ إِلَيْك} أي من سؤالي الرؤية في الدنيا3 لهول ما أصابني لا لأنها مستحيلة ولا لأني عاص بسؤالي، كما يقول القائل: تبت إليك من ركوب البحر، ومن تكليم فلان ومعاملته، وإن كان ذلك كله مباحاً، ويحتمل أن يكون سؤاله الرؤية ذكرته ذنوباً قد كان تاب منها فجدد التوبة منها عند ذكرها لهول ما رأى، كما يسارع الناس إلى التوبة عند مشاهدة الأهوال4. وقوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} يعني أول المصدقين من هذه الأمة أنك لا ترى في الدنيا5، وقال الحسن: "أنا أول المؤمنين بك لأنه أول من آمن في زمانه"6. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 7، أي ما يحيون به سلام، ومثله {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} 8   1 بهذا قال ابن عباس وابن أبي زيد، ذكر ذلك ابن جرير في تفسيره 9/53. 2 هو قول قتادة وابن جريج روى ذلك عنهم ابن جرير 9/53. 3 هذا ما رجح ابن جرير من الأقوال وأسنده من قول ابن عباس ومجاهد وأبي العالية. تفسير ابن جرير 9/55. 4 ذكر القرطبي عن القشيري أنه ذكر أن التوبة كانت من قتل القبطي. تفسير القرطبي 7/279. 5 ذكر ابن جرير هذا عن ابن عباس ي رواية وأبي العالية واستحسن هذا ابن كثير. تفسير ابن جرير 9/55، تفسير ابن كثير 2/245. 6 لم أقف على هذه الرواية عن الحسن، وقد روى ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أن معناه أول المؤمنين من بني إسرائيل، وهو الذي رجحه ابن جرير. انظر: 9/55- 56. 7 الأحزاب آية (43- 44) . 8 الفرقان آية (75) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 وموضع الحجة من الآية قوله: {يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ} واللقاء في اللغة لا يكون إلا بالمعاينة يراهم الله ويرونه ويسلم عليهم ويكلمهم ويكلمونه1. ويدل على ما قلناه ما روى جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم ستعرضون على ربكم عزوجل فترونه كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا "2. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن أناساً قالوا يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضامون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب" قالوا: لا، قال: " فإنكم ترونه كذلك"3. وروي مثل ذلك عن أبي سعيد الخدري4 وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم -5. وعن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا   1 ذكر هذا الآجري في الشريعة ص 252 فقال: "واعلم - رحمك الله - أن عند أهل العلم باللغة أن اللقى هاهنا لا يكون إلا معاينة يراهم الله عزوجل ويرونه ويسلم عليهم ويكلمهم ويكلمونه". وقال البيهقي في الاعتقاد ص 47 بعد ذكر الآية المذكورة هنا: "واللقاء إذا أطلق على الحي السليم لم يكن إلا رؤية العين وأهل هذه التحية لا آفة بهم"، وذكر إجماع أهل اللغة على هذا ابن القيم في حادي الأرواح ص 198. 2 أخرجه خ. كتاب مواقيت الصلاة وفضلها (ب. فضل صلاة الفجر) 2/99، وفي كتاب التوحيد (ب. قول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة) 9/103، م. كتاب المساجد (ب. فضل صلاة الصبح والعصر 1/439. 3 أخرجه خ. كتاب التوحيد (ب. قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة..) 9/103، م. كتاب الإيمان (ب. معرفة طريق الرؤية) 1/163. 4 رواية أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أخرجها خ. كتاب التوحيد (ب. قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة..) 9/104، م. كتاب الإيمان (ب. معرفة طريق الرؤية) 1/167. 5 انظر: ما تقدم أول هذا الفصل والمراجع المثبتة لقول أهل السنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 يا أهل الجنة: إن لكم عند الله موعداً لم تروه قال: فيقولون ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويزحزحنا1 عن النار ويدخلنا الجنة، قال: فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله ما أعطاهم شيئاً هو أحب إليهم مما هم فيه ثم قرأ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم ارزقني لذاذة النظر إلى وجهك" 3. ولا يسأل النبي صلى الله عليه وسلم مستحيلاً. وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "من تمام النعمة دخول الجنة والنظر إلى وجه الله تعالى في جنته"4.   1 هكذا في الأصل وفي - ح- (وتجرنا عن النار) . 2 تقدم تخريجه ص638. 3 ورد هذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمار - رضي الله عنه - أخرجه حم. 4/264، ن. كتاب السهو (ب. الدعاء بعد الذكر) 3/55، وابن أبي عاصم في السنة 1/158 مختصراً من طريقين عن عمارة - رضي الله عنه -، وقال الألباني في التعليق: "إسنادهما صحيح". وكذلك أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب الدعاء 1/524 وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/254، واللالكائي في السنة 3/489. كما روي من حديث زيد بن ثابت من دعاء طويل علمه إياه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يتعاهده ويتعاهد به أهله، وجاء فيه "اللهم إني أسألك الرضا بع د القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك وشوقاً إلى لقائك". أخرجه حم. 5/191ن واللالكائي في السنة 3/89 مطولاً، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة مختصراً 1/185، وفي إسناده أبو كر بن أبي مريم. قال ابن حجر عنه: "ضعيف وكان قد سرق بيته فاختلط"، التقريب ص396. كما روي من حديث فضالة بن عبيد أخرجه عنه اللالكائي في السنة 3/491، وابن أبي عاصم في السنة 1/186، وقال الألباني في التعليق: "إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات". وليس في روايات الحديث لفظ (لذاذة) كما أورده المصنف هنا بل كلها بلفظ (لذة) . 4 ذكره اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 3/496، وعزاه إلى عبد الرحمن بن أبي عاصم بسنده عن علي، وكذلك ذكره ابن القيم في حادي الأرواح ص 232. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 وفي هذا من الأخبار الثابتة في الصحاح ما لو ذكرتها لطال الكتاب بذكرها. ويدل على ذلك من جهة العقل أن الله تعالى موجود، وإنما يخالف الموجود الموجودات في استحالة كونه حادثاً أو موصوفاً بما يدل على الحوادث، فلما صح أنه يوصف بأنه معلوم صح بأن يوصف1 بأنه مرئي2. إن قيل: لو كان مرئياً لرأيناه في الدنيا، قلناك لا يلزم، ألا ترى أن ملك الموت يراه المحتضر ولا يراه من عنده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى جبريل عليه السلام ولا يراه أحد ممن يحضره من الصحابة - رضي الله عنهم -. فإن قالوا: لو كان مرئياً لكان جسماً أو جوهراً أو عرضاً، لأنه لا ترى إلا الجواهر والأجسام. قلنا: فقد اتفقنا أنه معلوم وإن كان في الشاهد لا يعلم إلا الجواهر والأجسام والأعراض. وأما الدليل على إبطال قول الأشعرية فهو: أن الشرع ورد بثبوت الرؤية لله تعالى بالأبصار فَحُمِل ذلك على الرؤية المعهودة، وهو ما كان عن مقابلة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "كما ترون القمر ليلة البدر "3 ولا يقتضي ذلك تحديداً ولا تجسيماً لله، كما لا يقتضي العلم به تحديداً له4 ولا تجسيماً. وإن قالوا: إن الرؤية لا تختص بالأبصار5، رجعوا إلى قول المعتزلة، في نفي الرؤية، وأن المراد بالرؤية العلم به علماً ضرورياً6، وقد حكي عن   1 قوله (بأن يوصف) ليست في الأصل وهي مثبتة في - ح-. 2 ذكر هذا الاستدلال من جهة العقل أبو الحسن الأشعري في الإبانة ص 42. 3 تقدم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ص 645. 4 المراد بذلك التكييف أو الإحاطة وقد تقدم التعليق على نفي الجسمية في أول الكتاب. 5 في الأصل (لا تختص بالرؤية) وما أثبت من - ح- وهو أقوم للعبارة. 6 تقدم ذكر قول الأشعرية والتعليق على ذلك ص637. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 بعض متأخري الأشعرية أنه قال: لولا الحياء من مخالفة شيوخنا لقلت إن الرؤية العلم لا غير1. وهكذا قالوا في سماع موسى لكلام الله أنه لا يختص الأذن، وإذا لم يختص الأذن رجع إلى معنى العلم. وأقوال الأشعرية مثبتة على أصول المعتزلة لأن أبا الحسن كان معتزلياً2. واستدلت المعتزلة على نفي الرؤية لله سبحانه بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ} 3، فنفى أن تدركه الأبصار وهو عام4. والجواب: أنه إنما نفى الإدراك، والإدراك الإحاطة بدليل قوله تعالى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} 5. أي أنا لمحاط بنا، وكذلك قوله تعالى: {لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} 6، ومعلوم أنه لم يخف الرؤية وإنما خاف الإحاطة، ويحتمل أنه أراد نفي الرؤية في الدنيا لأن الرؤية، إليه7 أفضل اللذات، فلا تكون إلا في أفضل الدارين بدليل ما ذكرنا من الآيات والأخبار لأن الخاص يقدم على العام8.   1 كل من نفى الجهة وأثبت الرؤية لا بد أن يحاول تحريف المراد بالرؤية، وهم أكثر الأشاعرة لأن الرؤية بالبصر تحتاج إلى مقابلة وجهة، لهذا زعموا كما مر ص 637 أن الرؤية نوع إدراك وكشف ورزيادة استيضاح لذات الله عزوجل، ويوضح الآمدي في غاية المرام ص 168 هذا المعنى مؤكداً على نفي المقابلة والجهة بقوله: "ليس الإدراك إلا نوعاً من العلوم يخلقه الله تعالى في البصر وذلك لا يوجب في تعليقه بالمدْرَك مقابلة ولا جهة أصلاً" انتهى. ما عهد العقلاء أن العلم يضاف إلى البصر إلا في هذا التحريف العجيب. 2 تقدم بيان هذا في الترجمة للأشعرية أول الكتاب ص 94. 3 الأنعام آية (103) . 4 انظر: شرح الأصول الخمسة ص 233. 5 الشعراء آية (61) . 6 طه آية (77) . 7 هكذا في النسختين ولعل الصواب (النظر إليه أو رؤيته) لأن الفعل (رأى) يتعدى بنفسه. 8 للعلماء في الرد على استدلال المغتزلة بالآية ثلاثة مسالك: المسلك الأول: أن الإدراك معنى زائد على الرؤية فالله عزوجل يرى كما ثبت بالآيات والأحاديث الصريحة في ذلك بالآخرة، ولا يدرك بمعنى لا يحاط به كما أنه يعلم ولا يحاط به علماً جل وعلا، وهو قول مأثور عن ابن عباس - رضي الله عنه - وقتادة وبه قال كثير من العلماء. انظر: تفسير ابن جرير 7/299، أضواء البيان 10/ 121، حادي الأرواح ص202، شرح العقيدة الطحاوية ص208. المسلك الثاني: أنه عام مخصوص برؤية المؤمنين لله في الآخرة. انظر: دفع إيهام الاضطراب، ملحق باضواء البيان 10/121. المسلك الثالث: أن المنفي بالآية الرؤية في الدنيا، أما الرؤية المثبتة فهي رؤية الآخرة فعليه لا تعارض بين الآية والآيات الدالة على ثبوت الرؤية في الآخرة. وهذا مراد أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في استدلالها بالآية على نفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، كما روى ذلك عنه البخاري ومسلم أنها قالت: "من حدث أن محمداً رأى ربه فقد كذب ثم قرأت: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ} " الآية أخرجه خ. كتاب التفسير، تفسير سورة النجم 6/117، وبه قال أيضاً الحسن وإسماعيل بن علية، وبه قال عثمان بن سعيد الدارمي. انظر: الدر المنثور 3/335، ورد الدارمي على بشر المريسي ص 58. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 ثم استدلوا بقول الله تعالى: {يسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَة} 1، فلولا أن رؤية الله مستحيلة لما أنكر الله عليهم سؤالهم الرؤية2. والجواب أن يقال: إن الله لم ينكر عليهم سؤالهم الرؤية لأنها مستحيلة، وإنما أنكر عليهم سؤالهم ذلك على وجه التكذيب له لكونه نبياً، وأنهم لا يؤمنون به حتى يروه ويعاينوه جهرة في الدنيا، ألا ترى أن الله أنكر على من سأل النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب3 نزول الكتاب معه، وأنكر على من قال: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ4 جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً}   1 النساء آية (153) . 2 ذكر هذا الاستدلال لهم الدارمي عن بشر المريسي انظر: رد الدارمي على بشر المريسي ص 58. 3 في - ح- (أهل مكة) وهو خطأ فإن المراد سؤال أهل الكتاب كما هو في الآية المذكورة في استدلال المعتزلة. 4 في الأصل (له) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 إلى قوله: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} 1. ومعلون أن نزول الكتاب وتفجير الأنهار وكون الجنة من النخيل والعنب معه وغير ذلك مما سألوه ليس بمستحيل، وإنما سألوا ذلك على وجه التعنت، وأخبر الله سبحانه أنه لو فعل لهم لم يؤمنوا بقوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ} 2 وذلك لعلم الله وقضائه السابق فيهم.   1 الإسراء آية (90- 93) . 2 الأنعام آية (7) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 105- فصل وعند أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرى به في اليقظة لا في المنام من المسجد الحرام1 أي الحرام، وقيل: أسرى به من بيت خديجة بنت خويلد، وقيل: من بيت أم هانئ بنت أبي طالب، وقيل: من بين زمزم والمقام إلى بيت المقدس وركب البراق، ثم عرج به إلى السماء حتى بلغ سدرة المنتهى ورأى ربه. واختلفت الرواية عن الصحابة - رضي الله عنهم -، فروي عن ابن عباس –رضي الله عنه- أنه قال: "رأى ربه بعيني رأسه". وروي عن أبي ذر وعائشة - رضي الله عنهما - أنهما قالا رآه بعيني قلبه2، وقد أنكر المعتزلة والقدرية الإسراء، وقالوا إنما كان ذلك رؤية في المنام3، والقرآن والروايات تبطل   1 الذي عليه جمهور المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن الإسراء كان في اليقظة أسري بجسده وروحه صلى الله عليه وسلم من المسجد إلى المسجد الأقصى، وقيل: إن الإسراء كان بالروح لا بالجسد وهو مروي عن عائشة - رضي الله عنها - ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - والحسن البصري. ذكر ذلك عنهم ابن إسحاق، وقيل إن الإسراء كان بالمنام، ذكر ذلك ابن حجر عن ابن ميسرة التابعي، وقيل إنه وقع أكثر من مرة منها ما هو منام ومنها ما هو يقظة، وهذا قول من رام الجمع بين روايات الأحاديث المختلفة. ومن العلماء من توقف في تحديد أي الأمرين كان، وهو قول ابن إسحاق صاحب المغازي، والذي عليه المعول عند العلماء هو قول الجمهور لتظاهر الأدلة على ذلك وصراحتها فيه. انظر: تفسير ابن جرير 15/16، سيرة ابن هشام 2/32- 36، زاد المعاد 3/34- 42، شرح العقيدة الطحاوية ص 246، فتح الباري 7/197. 2 سيورد المصنف الأدلة على هذه الأقوال في الصفحات الآتية. 3 مراده بذلك المعراج لأنه يطلق عليه اسم الإسراء، فقد ترجم البخاري في كتاب الصلاة (ب. كيف فرضت الصلاة في الإسراء) ، وكذلك فعل النووي في شرح مسلم في كتاب الإيمان حيث ترجم (ب. الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات) . والمعتزلة يثبتون الإسراء من مكة إلى بيت المقدس بالجسد والروح، فإن القاضي عبد الجبار المعتزلي قال في كتابه "تثبيت دلائل النبوة" ما نصه في بيان المعجزات الحسية: "إنه صلى الله عليه وسلم أسري به في ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عاد من ليلته إلى مكة، ومدة السفر في ذلك مقدار شهرين أي ذهاباً وإياباً، وهذا لا يفعله الله إلا للأنبياء في زمن الأنبياء" تثبيت دلائل النبوة 1/46. فقد صرح هنا بأن الذهاب إلى المسجد الأقصى يحتاج لشهرين وهذا بالطبع خاص بالجسد والروح، وقد بين هنا أيضاً أن الله خرق العادة للنبي صلى الله عليه وسلم فذهب وعاد من ليلته، فلو كان يرى أن الإسراء كان مناماً لم يجعله من دلائل النبوة، لأن المنام يقع فيه مثل هذا وأكثر للأنبياء وغيرهم، أما المعراج، فإنهم لا يثبتونه ولا يصرحون بعدم وقوعه، فقد قال القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني 16/419 في الكلام على المعجزات ما نصه: "ومن ذلك ما خبر به صلى الله عليه وسلم، وشهد القرآن بصحته ووقع التصديق من الكافة، من أنه أسري به إلى بيت المقدس حتى خبرهم بالأمور التي شاهدها، فإن ثبت مع ذلك ما يروى في حديث المعراج أو بعض ذلك فهو أوكد في الدلالة، وإن كان القدر الذي شهد القرآن بصحته فهو ما قدمناه". وصاحب كتاب إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم أبي الحسن أحمد بن الحسين الهاروني الزيدي أثبت في كتابه الإسراء إلى بيت المقدس وأغفل الكلام عن المعراج. والذي يظهر أن إغفالهم للمعراج ليس سببه عدم ثبوت نصوصه، لأنهم أثبتوا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أقل شهرة وأضعف إسناداً من قصة المعراج، لأن قصة المعراج ثابتة متواترة كما سيأتي بيان المصنف لذلك، وإنما السبب لإغفالهم المعراج أن فيه إثباتاً لأمور ينكرونها وهي إثبات العلو لله عزوجل والكلام والنسخ قبل التمكن من الامتثال، يدل على هذا كلام أبي الحسين البصري في المعتمد في أصول الفقه 1/412 في إنكاره للنسخ قبل الفعل قال: "ومنها - يقصد من أدلة المثبتين - قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء فرض الله عزوجل عليه وعلى أمته خمسين صلاة صلاة، فأشار عليه موسى عليه السلام بالرجوع وأن يشفع في النقصان وأنه قبل ما أشار عليه، فردت الصلاة إلى خمس بعد رجعات وذك نسخ قبل الوقت. والجواب: أن ذلك خبر واحد لا يجب قبوله فيما يجب أن نعلم، وأيضاً فإن الخبر يتضمن من أنواع التشبيه ما يدل على أن أكثره موضوع" انتهى. فهذا يدل على أن إنكارهم له لما تضمن من إثبات الصفات لله عزوجل، وهذا رد منهم بالهوى لأن المعراج ثبت بالأحاديث الصحيحة المتوترة كما سيأتي بيانه. وقد عزا الإسفرائيني في التبصير في الدين ص 66 إلى المعتزلة إنكار المعراج، وأن هذا من الأمور التي أجمعوا عليهان وتابعه على هذا صاحب فرق وطبقات المعتزلة انظره ص 134. ولم أقف على من عزا إليهم القول بأن المعراج كان مناماً، فلعل المصنف - رحمه الله - وقف على شيء من هذا، لأن القول بأن المعراج كان مناماً لا يورد عليهم ما ينكرونه من الصفات وغيرها، فلعلهم قالوا به، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 قولهم، قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} 1.   1 الإسراء آية (1) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 وروى حديث الإسراء جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: أبي بن كعب1، وأبو ذر2، وأبو سعيد الخدري3، وأنس4، وصهيب5، وحذيفة6، وعثمان7، ومالك بن صعصعة8، وابن مسعود9، وابن عباس10، وأبو الحمراء11، وعلي12، وعائشة13، وأم هانئ14،   1 أخرجه حم. 5/122 مختصراً من حديث أنس عنه وهو من زوائد عبد الله على المسند، وأخرجه جه. في كتاب الفتن (ب. الصبر على البلاء) 2/337 من حديث ابن عباس عنه مختصراً. 2 أخرجه خ. كتاب الأنبياء (ب. ذكر إدريس عليه السلام) 4/108 من حديث أنس، م. كتاب الإيمان (ب. في الإسراء) 1/148. 3 أخرجه عنه مطولاً ابن جرير الطبري في تفسيره 15/11، والبيهقي في دلائل النبوة 3/236. 4 أكثر الروايات الثابتة في الإسراء مدارها على أنس - رضي الله عنه - وقد اخرجه عنه خ. كتاب التوحيد (ب. قوله تعالى وكلم الله موسى تكليما) 9/120، م. كتاب الإيمان (ب. الإسراء) 1/145، حم 3/148. 5 أخرجه عنه الطبري في الكبير 8/46 رواية في عرض اللبن والخمر على النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء. 6 أخرجه عنه ت. كتاب التفسير (ب. تفسير سورة الإسراء) 5/307، حم. 5/387. 7 في الأصل الأسماء هكذا (وأنس وحذيفة وعثمان بن صهيب) وما أثبت من -ح- لأنه ليس في الصحابة من اسمه عثمان بن صهيب فهو خطأ، وكذلك لم أقف على رواية لعثمان في الإسراء، والله أعلم. 8 أخرجه خ. كتاب بدء الخلق (ب. ذكر الملائكة) 4/87، م. كتاب الإيمان (ب. الإسراء) 1/150. 9 أخرجه عنه حم. 1/422، جه. كتاب الفتن (ب. طلوع الشمس من مغربها 2/1365، والبيهقي في دلائل النبوة 2/122. 10 أخرجه خ. كتاب بدء الخلق (ب. إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة آمين..) 4/92 م. كتاب الإيمان (ب. الإسراء) 1/151. 11 أبو الحمراء هو هلال الحارث مولى النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه عنه ابن قانع والطبراني وابن مردويه كما ذكر ذلك السيوطي في الدر المنثور 5/219. 12 أخرجه عنه البزار. انظر: كشف الأستار، كتاب الصلاة (ب. بدء الأذان) 1/178. 13 أخرجه عنها الحاكم وصححه في المستدرك. كتاب معرفة الصحابة 3/62، والبيهقي في الدلائل 2/112. 14 أخرجه عنها ابن جرير الطبري في تفسيره 15/12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 وأبوحنة الأنصاري1، وعمرو بن العاص2، وسمرة بن جندب3، وبريدة الأسلمي4، وجابر بن عبد الله5، وأبو هريرة6، وعبد الله بن الحارث7. ولا ينكر ذلك إلا من ينكر القرآن والأخبار الواردة فيه. ومن الدليل على ما ذكرناه قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلَى} 8 -يعني جبريل عليه السلام9- {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} و {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} بتشديد الذال في كذب، وقيل: معناه ما كذب الفؤاد ما رآه بعيني   1 هكذا في الأصل وفي -ح- (أبو حبيبة) والذي وقع ذكره في صحيح مسلم أبو حبة الأنصاري (بالباء) فقد روى عنه الزهري رواية الإسراء، أخرجها عنه مسلم في كتاب الإيمان (ب. الإسراء) 1/149، وقد ذكر ابن حجر في الإصابة الاختلاف في كنيته فمنهم من قال: أبو حبة بالباء ومنهم من قال أبو حنة - بالنون - كما اختلف في اسمه أيضاً. انظر: الإصابة 11/78. 2 لم أقف على من أخرج ذلك عنه. 3 له رواية في الإسراء ذكرها السيوطي في الدر المنثور 5/213 أخرجها عنه ابن مردويه. 4 أخرجه عنه الترمذي كتاب التفسير باب سورة الإسراء 5/301، والحاكم في المستدرك 2/360. 5 أخرجه عنه خ. كتاب فضائل الصحابة (ب. حديث الإسراء) 5/44، م. كتاب الإيمان (ب. ذكر المسيح بن مريم والمسيح الدجال) 1/156. 6 أخرجه عنه خ. كتاب الأنبياء (ب. وهل أتاك حديث موسى) 5/44، م. كتاب الإيمان (ب. الإسراء 1/154، وهو في صفة موسى وعيسى عليهما السلام. وروى عنه قصة الإسراء مطولة البزار. انظر: كشف الأستار 1/238، وابن جرير الطبري في تفسيره 15/6. 7 لم أقف على من أخرج ذلك عنه. تنبيه: الروايات المخرجة عن الصحابة المذكورين هنا بعضها مطولاً في ذكر الإسراء وما وقع فيه وبعضها في ذكر شيء مما حدث في الإسراء وبعضها صحيح وبعضها ضعيف. 8 النجم آية (4- 7) . 9 ذكر هذا القول ابن جرير الطبري عن الربيع وقتادة والحسن، وذكر قولاً آخر ولم يعزه وهو أن المراد به جبريل والنبي محمد صلى الله عليه وسلم. تفسير الطبري 27/43-44. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 رأسه، ومن قرأ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} بالتخفيف قيل معناه ما كذب الفؤاد ما رأى بعيني قلبه1. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "رأى محمد ربه مرة بقلبه ومرة ببصره". فسمع ذلك كعب الأحبار، فقال: "أشهد بالله إن هذا لفي التوراة، وأن الله فسم كلامه ورؤيته بين موسى وبين محمد صلى الله عليه وسلم، موسى سمع كلام الله مرتين، ومحمد صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين "2. وأما عائشة - رضي الله عنها -، فروي عنها أنها أنكرت ذلك وقالت: "ثلاث من قال واحدة منهم فقد أعظم على الله الفرية، من قال: إنه يدري ما يكون في غد قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} 3، ومن زعم أن محمداً كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم على الله الفرية والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} 4، ومن زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ   1 قراءة التخفيف قراءة الجمهور وقرأ عاصم الجحدري، وأبو جعفر القارئ والحسن البصري بالتشديد. انظر: تفسير ابن جرير 27/49، ولم أقف على من فرق في المعنى بين القراءتين. 2 أخرجه ت. كتاب التفسير (ب. سورة النجم) 5/394 نحوه وفي إسناده مجالد بن سعيد الهمداني، قال ابن حجر: ليس بالقوي. التقريب ص328 كما أخرجه مختصراً ابن خزيمة في التوحيد 1/496. واللالكائي في السنة 3/500 وإسناده حسن، وليس في شيء منها الإشارة إلى قول ابن عباس "رأى محمد ربه مرة بقلبه ومرة ببصره" وقد أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان 1/158 إثبات الرؤية بالقلب. ولم أقف على روابة مسندة عن ابن عباس فيها إثبات الرؤية مقيدة بالبصر، وإنما أخرج عنه الحاكم وصححه أنه قال: "أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم" المستدرك 1/65، وقد روى عنه ذلك ابن خزيمة من عدة طرق. انظره في كتاب التوحيد 1/479. 3 لقمان آية (34) . 4 المائدة آية (67) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} 1، فقيل لها يا أم المؤمنين: ألم يقل الله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} 2، وقال: {رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ} 3، قالت: أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: " رأيت جبريل عليه السلام سادا الأفق على خلقته وهيئته التي خلق عليها فيها"4. فهذا اختلاف الصحابة في جواز الرؤية عليه في الدنيا5.   1 الشورى آية (51) . 2 النجم آية (13) . 3 التكوير آية (23) . 4 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب. قوله تعالى ولقد رآه نزلة أخرى) 1/159، وأخرجه حم. 6/236، 341 مختصراً وليس في شيء من الروايات قوله "فيها" وهي مثبتة في النسختين ولا معنى لها. 5 رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا اختلف فيها الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى قولين: القول الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه وهذا قول ابن عباس ومن وافقه من أصحابه وغيرهم كالحسن وعكرمة وكعب الأحبار وأبي ذر في رواية عنه والزهري ومعمر وهو قول الأشعري وعامة أتباعه. القول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه عزوجل ليلة أسري به وإنما الرؤية الواردة في آية النجم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} إنما كانت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها كما تقدم في حديث عائشة. وهذا قول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة - رضي الله عنهم -، ورواية عن أبي ذر - رضي الله عنه -، وقال النووي في شرح مسلم 3/7: "إن أكثر العلماء على أن المراد بقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام على خلقته، ثم قال: إن العلماء بعد ذلك منهم من قال بقول ابن عباس، ومنهم من قال بقول عائشة - رضي الله عنها - كما صار هناك قولان آخران وهما: قول من توقف في المسألة لعدم وضوح الدليل، وبه قال سعيد بن جبير وهو قول القرطبي في المفهم. وقول من جمع بين الروايات وذلك بإثبات الرؤية بالقلب ونفيها عن البصر وقالوا: إن ابن عباس ثبت عنه إثبات الرؤية مطلقاً غير مقيدة بالبصر، كما ثبت عنه إثبات أنها رؤية قلبية فيحمل المطلق على المقيد، وعائشة - رضي الله عنها - نفت الرؤية بالبصر، فلا يكون بينهما تعارض. وبهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والحافظ ابن حجر وغيرهم. انظر: مجموع الفتاوى 6/509، زاد المعاد 3/37، البيان في أقسام القرآن ص160- 164، فتح الباري 8/608، وهذا أرجح الأقوال لجمعه بين القولين، فإن الرؤية القلبية لا تعارضها الأدلة الشرعية وممكن وقوعها. وقد ثبت عن ابن عباس القول به، وقد ورد في حديث معاذ إثبات الرؤية وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال: يا محمد، قلت: لبيك يا رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى.." الحديث، أخرجه ت. في التفسير 5/368- 369 وقال: "حسن صحيح"، وقال: "سألت محمد بن إسماعيل عنه" فقال: "حسن صحيح"، وأخرجه حم. 1/368 عن ابن عباس، ورجال إسناده ثقات إلا أن أبا قلابة الراوي عن ابن عباس قيل إنه لم يسمع منه. انظر: التهذيب 5/224. وقد أخرجه ابن جرير من طريق عطاء عن ابن عباس وزاد في آخره من قوله صلى الله عليه وسلم: "فذلك قوله في كتابه يحدثكموه {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت إليه بفؤادي" تفسير ابن جرير 27/48. وفي إسناده سعيد بن زربي، وهو منكر الحديث. انظر: التقريب ص1210، فهذا الحديث يدل على ثبوت الرؤية المنامية، أما رؤية العين فليس فيها دليل صريح، ويؤيد عدم وقوعها حديث أبي ذر عند مسلم 1/161 قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه" وفي رواية أخرى "رأيت نوراً". وقيل: إن المراد بهذا النور هو الحجاب الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى "حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". أخرجه م. 1/162. ومما يدل على عدم وقوع الرؤية بالعين أنها مقام رفيع وميزة عظيمة، فلو أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم لذكرها واشتهر ذلك عنه كما ذكر غيرها من النعم، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 وأما رؤية أهل الجنة له في الآخرة فلم يختلفوا بل الرواة لذلك لا ينحصر عددهم، ولو كان الإسراء به مناماً لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم فيه فضيلة، ولما أخبر الله أنه أسري به بل كان يقول بروحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 المجلد الثالث تابع: النص المحقق ... 106 ـ فصل وعندنا أن الجنة والنار مخلوقتان1، وأن الجنة في السماء والنار تحت الأرضين2.   1 ذكر اتفاق أهل السنة على هذا الآجري في الشريعة ص (387) ، وأبو الحسن الأشعري في مقالاته 1/349،168، وابن حزم في الفصل 4/81، والقاضي أبو يعلى في المعتمد في أصول الدين ص (180) ، وابن القيم في حادي الأرواح ص (11) ، والطحاوي وشارح عقيدته ص (476) ، وصديق حسن خان في يقظة أولى الاعتبار ص (35) . 2 قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} النجم آية: (13-15) وثبت في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ". أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (باب وكان عرشه على عرش الماء 9/101 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. فالآية والحديث يدلان على أن الجنة في السماء ويدل الحديث على أن سقفها عرش الرحمن. أما النار فقد روى أبو نعيم في صفة الجنة (165 - 170) عن ابن عباس أنه قال: "الجنة في السماء السابعة ويجعلها حيث شاء يوم القيامة وجهنم في الأرض السابعة ". وفي إسناده محمد بن عبد الله الراوي عن سلمة بن كهيل ولم أقف على ترجمته وفي إسناده أبو الزعراء عبد الله بن هاني. قال عنه البخاري: "لا يتابع في حديثه"، ووثقه العجلي وابن سعد وابن حبان انظر: التهذيب 6/61. كما روي أيضا عن مجاهد، قال: "قلت لابن عباس: أين الجنة؟ قال: فوق سبع سموات، قلت: فأين النار؟ قال: تحت سبع أبحر مطبقة". وفي إسناده أبو يحيى القتات الكوفي الكناني قال ابن حبان: "فحش خطؤه، وكثر وهمه حتى سلك غير مسلك العدول في الروايات"، وقال ابن حجر في التقريب: "لين الحديث". انظر: التهذيب 12/278، التقريب ص 432. فهذه الآثار كما هو ظاهر لا يقوم بها الاستدلال على أن النار في الأرض السابعة لضعفها، فلهذا التوقف في هذا أسلم، وقد حكى الوقف فيها الشيخ صديق حسن خان عن السيوطي وعن الشيخ أحمد ولي الدين المحدث الدهلوي ورجحه. انظر: يقظة أولى الاعتبار مما ورد في ذكر النار ص (43 - 46) ، وانظر: حادي الأرواح ص (46) ، لوامع الأنوار البهية 2/237 - 239. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 658 وأنكرت المعتزلة أنهما مخلوقتان1، دليلنا قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} إلى قوله: {فَأَزَلَّهُمَا2 الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} 3. وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} 4. وقال الله لإبليس: {فَاخْرُجْ5 مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} 6 فأخبر الله سبحانه أنه أخرج آدم وحواء من الجنة، ثم تاب عليهما ووعدهما أن يردهما إلى الجنة، وأخبر أنه أهبط إبليس وأخرجه من الجنة، وأنه لعنه وآيسه من الرجوع إليها. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} 7 قال: أي رب لألم تخلقني؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ في من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسبق رحمتك إلي قبل غضبك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: رب أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم"8. فأما آدم فسأل التوبة فتيب عليه، وأم إبليس فسأل النظرة فانظر.   قال سعيد بن جبير ومجاهد والضحاك: " الكلمات التي تلقها آدم من 1 المراد أنهم أنكروا مخلوقتان الآن. وهو قول طائفة من القدرية المعتزلة حكاه عنهم ورد عليهم فيه ابن حزم في الفصل 4/81، والبغدادي في أصول الدين ص (238) ، وابن القيم في حادي الأرواح ص (11) ، والسفاريني في لوامع الأنوار البهية 2/210 - 232، والشيخ صديق حسن خان في يقظة أولى الاعتبار ص (35) . 2 في كلا النسختين (فوسوس) وهو خطأ والصواب ما أثبت. 3 البقرة آية (35 - 36) . 4 طه آية (116 - 117) . 5 في كلا النسختين (أخرج) وهو خطأ. 6 الحجر آية (34) ، وآية (77) . 7 البقرة آية (37) . 8 أخرجه ابن جرير في تفسيره من عدة طرق 1/243، والآجري في الشريعة ص (388) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 659 ربه {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} 1. وروي عن عبيد2 بن عمير3 قال " قال آدم وذكر خطيئته فقال: رب أرأيت معصيتي التي عصيت أشيء كتبته عليّ قبل أن تخلقني أم شيء ابتدعته من نفسي؟ قال: بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك، قال فكما كتبته عليّ فاغفر لي "4.وروي عن حسان بن عطية5 قال: " بكى آدم على خطيئته ستين عاما وعلى ابنه حين قتل أربعين عاما6، فقيل له في بكائه على خطيئته فقال: أبكي على جوار ربي في دار تربتها طيبة أسمع فيها أصوات الملائكة "7 8. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله الجنة   1 أخرجه عن مجاهد ابن جرير في تفسيره 1/244، كما أخرجه أيضا عن أبي العالية والحسن، وأخرجه عبدة بن حميد عن الضحاك ذكر ذلك السيوطي في الدرر المنثور 1/144، وحكى هذا القول عن سعيد بن جبير القرطبي في تفسيره 1/324، وابن كثير في تفسيره 1/81. 2 في - ح - (عبد الله) وهو خطأ. 3 هو عبيد بن عمير بن قتادة الليثي من كبار التابعين مجمع على ثقته. التقريب ص (229) 4 أخرجه ابن جرير في تفسيره 1/244. 5 حسان بن عطية بضم العين المحاربي مولاهم أبو بكر الدمشقي ثقة عابد. توفي بعد (120هـ -) . التقريب (68) . 6 إلى هنا أخرجه عنه الآجري 7 روى الآجري في الشريعة عن يزيد الرقاشي مع رواية حسان، فلعل نسخته سقط منها إسناد رواية يزيد لأنه ذكر أول الرسالة أنه ينقل عن الآجري، أو يكون السقط من ناسخ كتاب الانتصار، والله أعلم أي ذلك كان. 8 ظاهر من إيراد المصنف لهذه الأدلة على أن الجنة والنار مخلوقتان أنه يرى أن جنة الخلد هي الجنة التي دخلها آدم عليه السلام، وأخرج منها وأنها في السماء، والمسألة خلافية قد نقلها ابن القيم في كتابه حادي= = الأرواح ونقل الأدلة والأقوال فيها، ولم ينتصر فيها لقول من الأقوال، مع أنه - رحمه الله - قد أثبت في الميمية أن جنة الخلد هي الجنة التي كان يسكن فيها آدم عليه السلام حيث يقول: - فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم. ولكنها سبى العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونُسَلَّم. انظر: حادي الأرواح ص (19 - 34) ، شرح القصيدة الميمية ص (22) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 660 أرسل جبريل إليها فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، قال: فحفت بالمكاره، فقال: اذهب فانظر فنظرها ورجع وقال: وعزتك لقد حبست ألا يدخلها أحد, ولما خلق الله النار وما وأعد الله لأهلها فيها قال لجبريل: اذهب إليها فانظرها فنظر إليها فإذا هي تركب بعضها بعضا فرجع وقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر الله فحفت بالشهوات، ثم قال له انظر إليها فنظر إليها فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد "1. وقال صلى الله عليه وسلم: " اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء "2، فقالت امرأة لم يا رسول الله؟ قال: إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير"3. والعشير الزوج. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: " كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمعنا وجبة فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا، قلنا: الله ورسوله أعلم   1 أخرجه د. كتاب السنن (ب في خلق الجنة والنار) 2/279، ت. كتاب صفة الجنة (ب ما جاء حفت الجنة بالمكاره) 1/639وقال: هذا حديث حسن صحيح، حم 2/333 - 354، الحاكم في المستدرك كتاب الإيمان 1/26، وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، الآجري في الشريعة ص (389) . 2 إلى هنا أخرجه خ. كتاب بد الخلق (ب ما جاء في صفة الجنة) 4/93، وفي الرقاق (ب فضل الفقر) 8/80 عن عمران بن الحصين - رضي الله عنه - في الموضعين، م. كتاب الرقاق (ب أكثر أهل الجنة الفقراء) 4/2096 من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ولم أجد في شيء من الروايات ما يوافق الرواية كاملة كما أوردها المصنف هنا. 3 قوله فقالت امرأة: الحديث ورد في حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - ولفظه: "يا معشر النساء تصدقن فأني أريتكن أكثر أهل النار فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن وتكفرن العشير … " الحديث خ. كتاب الحيض - ب (ترك الحائض الصوم) 1/57، م. كتاب الإيمان (ب نقصان الإيمان بنقص الطاعات) 1/86. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 661 قال: هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفا الآن حين انتهى قعرها"1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوقد على النار ألف عام فاحمرت، وأوقد عليها ألف عام فابيضت، وأوقد عليها ألف عام فاسودت فهي سوداء مظلمة "2، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من نار جنهم، فقيل: والله يا رسول الله إن كانت لكافية، فقال: إنها فضلت3 بتسعة وستين4 جزءا كلها مثل حرها "5. ويدل على ما قلنا قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} 6. والمعد في اللغة لا يكون إلا حاضرا موجودا، ومن زعم أن المعد بمعنى يعد غير صحيح، لأن هذا مجاز فلا تترك له الحقيقة. وأما قوله: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} يعني سعتها وإنما ذكر الله هذا تمثيلا للعباد بما يعقلونه ويفهمونه، والعادة أن العرض دون الطول، فإذا كان   1 أخرجه م. كتاب الجنة (ب في شدة حر نار جهنم..) ، 4/2184، جم. 2/371، الآجري في الشريعة ص (394) . 2 أخرجه ت. صفة جهنم (ب ناركم جزء من سبعين جزء من جهنم 4/710 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا وموقوفا. قال الترمذي: "هذا موقوف أصح ولا أعلم أحدا رفعه غير يحيى بن أبي بكير عن شريك عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة به"، وهو إسناد ضعيف لضعف عاصم، فقد قال عنه في التقريب: "صدوق له أوهام" ص (159) ، وكذلك القاضي شريك قال عنه في التقريب: "صدوق يخطئ كثيرا" ص (145) وقد ضعفه السيوطي في الجامع أنظره مع فيض القدير 3/80. (فضلت) ليست في الأصل وهي ثابتة في - ح - وفي مصادر الحديث. 4 في - ح - (وتسعين) وهو خطأ. 5 أخرجه خ. بدء الخلق (ب صفة النار وأهلها مخلوقة) 4/96، م. كتاب الجنة (ب شدة حر نار جهنم … ) 4/2184، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - 6 آل عمران آية (133) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 662 العرض على هذا فالطول أكثر، قال الشاعر: كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المذعور كفة1حابل وروى طارق بن شهاب2 أن اليهود قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: " تقولون جنة عرضها السموات والأرض فأين تكون النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم إذا جاء النهار فأين يكون الليل، وإذا جاء الليل فأين يكون النهار - يريد لذلك حيث يشاء الله - فقالوا: لقد برعت3 بما في التوراة "4. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} 5، ومعلوم أنه لم يتمن قومه بذلك إلا لكونهم في الدنيا، ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 6، والمعد: المستعد المهيأ7. وعن حسان بن عطية8 قال: " الأرض التي تحت هذه فيها حجارة أهل النار "9.   1 في الأصل (كفت) بالتاء المفتوحة وفي - ح - كما أثبت وهو الصواب وقد ذكر هذا البيت القرطبي 4/205 ولم يعزه إلى معين، وهذا البيت يستدل به على أن معنى عريضة واسعة، فعليه لا حاجة لذكر الطول في المعنى فقد فسر العرض هنا بأنه السعة تفسير القرطبي 4/205. 2 طارق بن شهاب بن عبد الشمس البجلي الأحمص الكوفي. قال أبو داود: "رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه"، توفي سنة (83 هـ) . التقريب ص (156) . 3 في - ح - (نزعت) وهو يوافق ما عند ابن جرير، إلا أن الرواية عنده هكذا "لد نزعت بمثله من التوراة" والمراد ب - نزعت، استخرجت واستنبطت. 4 أخرجه ابن جرير في تفسيره 7/211 بتحقيق أحمد شاكر. 5 يس آية (27) . 6 البقرة آية (24) . 7 هكذا في النسختين والمهيأ كافية في بيان المعنى. 8 في الأصل حسان بن عطا وفي - ح - حسان بن عطية، فأثبت ما في - ح - فإني لم أقف على من يسمى حسان بن عطا فلعلها خطأ من الناسخ. 9 لم أقف على من ذكره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 663 قال ابن مسعود: "حجارة النار حجارة من كبريت يجعلها كيف يشاء"1، وذكر أهل التفسير أن موسى صلى الله عليه وسلم ذكر الله له في الهاوية فيها حجارة توقد منذ استويت على عرش أعدت لكل جبار عنيد ولمن حلف باسمي كاذبا، قال: وما تلك الحجارة؟ قال: كبريت في النار عليها مستقر قدمي فرعون، قال: رب وما الكبريت؟ قال: غضبي وعزتي لو قطرت منها قطرة في بحور الدنيا لأخمدت كل بحر ولهدت كل جبل ولسعت2 الأرضين من حرها"3. وفي بعض الأخبار: "أن الحجر يتعلق في عنق الكفار فإذا اشتعل بالنار أحرق وجهه وفروة رأسه وهو أشد العذاب"4. أعوذ بالله وأستجير به منها ونسأله الحنة. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سأل الله الجن ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار بالله من النار ثلاث مرات قالت النار: اللهم أجره من النار"5. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الجنة بيضاء وإن أحب   1 أخرجه ابن جرير في تفسيره 1/169 عنه وعن ابن عباس وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 في - ح - (لأيست) . 3 لم أقف على من ذكره. 4 لم أقف عليه. 5 أخرجه ت كتاب صفة الجنة (ب ما جاء في صفة أنهار الجنة) 4/699 جه. في الزهد وب صفة الجنة 2/1453، حم 3/117 - 141 - 155، والحاكم في المستدرك كتاب الدعاء 1/535 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 664 الزي إلى الله البياض فلبسوه أحياءكم وكفنوا به موتاكم"1.   1 أخرجه الآجري في الشريعة ص (393) عن هشام بن زياد عن يحيى بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس، واخرجه البزار من طريق هشام وليس فيه قوله: " فلبسوه أحياءكم.." الحديث" انظر: كشف الأستار 3/360، وهشام قال فيه الهيثمي في مجمع الزوائد 2/128: "متروك"، وكذلك قال ابن حجر في التقريب ص (364) ، وضعف الحديث السيوطي في الجامع الصغير انظر: فيض القدير 2/229 وقد ورد من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكنفوا فيها موتاكم" أخرجه ت. كتاب الجنائز (ب ما يستحب من الأكفان 3/319) وقال: "حديث حسن صحيح". وأخرجه نحوه من حديث سمرة بن جندب، كتاب الأدب (ب. ما جاء في لبس البياض) 5/117 وقال: "حسن صحيح"، وأخرجه عن ابن عباس، جه كتاب الجنائز (باب ما يستحب من الكفن 1/473. د. كتاب الطب (ب الأمر بالكحل) 2/153،حم. 1/247. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 665 107 - فصل ومذهب أهل السنة أن الموحدين لا يكفرون بفعل شيء من المعاصي الصغائر والكبائر، وإذا عملوا الكبائر وتابوا لم تضرهم وإن ماتوا قبل التوبة منها فأمرهم إلى الله إن شاء عذبهم عليها وإن شاء غفرها لهم، وإن عذب العباد على الصغائر لم يكن ظالما لهم بذلك1.   1 انظر قول أهل السنة في: التوحيد لابن خزيمة ص (353 - 355) ، الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام ص (89 - 1) مقالات الإسلاميين 1/347 العقيدة الطحاوية مع شرحها ص (416 - 417) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 666 وقالت المرجئة: "لا يوصف الله بأنه يعذب عباده على ذنب غير الكفر"1.   1 المرجئة: يطلق هذا الوصف على كل من أخر العمل عن الإيمان، وهو مشتق من الإرجاء وهو على معنيين: 1- الإرجاء بمعنى التأخير. 2- الإرجاء بمعنى إعطاء الرجاء. ويصدق الوصف عليهم بكلا المعنيين، لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان ولأنهم يعطون الرجاء للفاسق، وعلى هذا الأخير يتفقون مع السلف فإن الفاسق تحت المشيئة. والمرجئة أصناف عدهم أبو الحسن الأشعري على التفصيل اثنتي عشرة فرقة وهم: (1) الجهمية (2) أبو الحسن الصالحي (3) أصحاب يونس السمري (4) قول يونس وأبي شمر (5) أصحاب أبي ثوبان (6) النجارية وهم الحسين بن محمد النجار وأصحابه (7) أصحاب غيلان (8) أصحاب محمد بن شبيب (9) أبو حنيفة وأصحابه (10) أصحاب أبي معاذ التومني (11) أصحاب بشر المريسي (12) الكرامية أصحاب محمد بن كرام وهذه الإثنا عشر فرقة ترجع إلى ثلاثة أصناف كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهي: أولا: الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب، ومنهم من يدخل أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة، حيث هو قول أصحاب أبي شمر ويونس السمري والغيلانية أصحاب غيلان بن مروان الدمشقي، وأصحاب محمد بن شبيب، ومنهم من لا يدخل أعمال القلوب كجهم ومن اتبعه والصالحي وهو الذي نصره الأشعري وأكثر أصحابه. ثانيا: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا قول هو المشهور عن أهل الفقه كأبي حنيفة وأصحابه في هذا النجارية وبشر المريسي. وقد قسمت المرجئة إلى تقسيم غير المذكور هنا وذلك باعتبار مذاهب الفرق قي غير الإيمان، كتقسيم الشهرستاني إياهم إلى مرجئة الخوارج، مرجئة القدرية، مرجئة الجبرية، المرجئة الخالصة، وهي ترجع في الواقع إلى ما تقدم ذكره عن شيخ الإسلام. أما الحكم على الفاسق في الآخرة فأكثرهم على أنه تحت المشيئة إلا قولا ذكره الأشعري ولم يذكر قائليه وهو: إنه ليس في أهل الصلاة وعيد إنما الوعيد في المشركين، ثم قال: وزعم هؤلاء أنه لا ينفع مع الشرك عمل كذلك لا يضر مع الإيمان عمل ولا يدخل النار أحد من أهل القبلة، ونسب هذا القول الشهرستاني لأصحاب يونس السمري، حيث زعموا أن سوى المعرفة من الطاعة فليس من الإيمان، ولا يضر تركها حقيقة الإيمان ولا يعذب على ذلك إذا كان الإيمان خالصا واليقين صادقا ونحوه حكى ذلك أيضا عن العبيدية أصحاب عبيد المكبت أنهم قالوا: ما دون الشرك مغفور لا محالة وأن العبد إذا مات على توحيده لم يضره ما افترق من الآثام واجترح من السيئات، ولعل هؤلاء الذين عناهم المصنف بقوله هنا: "لا يوصف الله بأنه يعذب عباده على ذنب غير الكفر" والله أعلم انظر: مقالات الإسلاميين 1/213 - 223 - 227 الملل والنحل بهامش الفصل 1/186 - 195 الفرق بين الفرق ص (202 - 207) الفتاوى 7/195. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 667 وقالت الخوارج: "من أذنب متعمدا كفر بالله سواء فعل صغيرة أو كبيرة"1. وقالت المعتزلة والقدرية: "لا يجوز أن يعذب الله العباد على الصغائر وإن عذبهم عليها ظلمهم، ومن فعل كبيرة فإنه يخلد في النار، ولا يوصف الله بأنه يغفر الكبائر"2. فعند القدرية من عبد الله ألف سنة بأنواع العبادات من الصلاة والصوم والجهاد وغير ذلك لم يعص الله فيها ثم ركب معصية من الكبائر مرة واحدة   1 المؤلف - رحمه الله - جعل الخوارج على قول واحد في مرتكب الكبيرة، والناظر فيم ذكر عنهم من أقوال في مرتكب الكبيرة يجدهم على عدة أقوال: أولا: التكفير على الصغيرة في حالة الإصرار، وبه قال طائفة من الإباضية، وبه قال النجدات وقالوا: إذا لم يصر على الكبيرة فهو مسلم. ثانيا: التكفير على كل ذنب صغير أو كبير، وهذا يحكى عن اليزيدية منهم، ولعل هؤلاء الذين عناهم المصنف بقوله هنا. ثالثا: التكفير على ارتكاب الكبيرة، وبه قال الأزارقة والمكرميه من الثعالبة والصفرية والبهيسية وأكثر الخوارج. رابعا: أن ارتكاب الكبائر كفر نعمة لا كفر شرك وبه قال الإباضية. خامسا: طائفة من الصفرية قالوا: ما كان من الذنوب عليه حد فيسمى به كالزنا والقذف فيقال زان قاذف، وما كان من الكبائر ليس فيه حد كترك الصلاة فيقال كفر، وفي الحالتين لا يسمى مؤمنا. سادسا: من واقع ذنبا لا يكفر حتى يرفع إلى الوالي ويحد في ذنبه وقبل ذلك لا يسمى مؤمنا ولا كافرا وبه قال بعض البهيسية وفرقة من الصفرية، والله أعلم. انظر: مقالات الإسلاميين 1/174 - 198، الفرق بين الفرق ص (82 - 109) ، الملل والنحل بهامش الفصل 1/164 - 181، الفصل لابن حزم 3/229 - 4/190. 2 المعتزلة والزيدية على أن الذنوب منها صغائر وكبائر. أما الصغائر فإن صاحبها مستحق أن تكفر عنه في مقابل ماله من ثواب. وأما الكبائر فإنها لا تكفر عن صاحبها بل يجب أن يعاقب عليها. انظر: شرح الأصول الخمسة ص (66 - 632) ، مصباح العلوم بعرفة الحي القيوم ص (19 - 20) ،تاريخ الفرقة الزيدية ص (328 - 329) ، الملل بهامش الفصل 1/56. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 668 غير مستحل لها، إنه يخرج من إيمانه ويخلد في النار، كمن لم يؤمن بالله طرفة عين، وهذا مع تسميتهم لأنفسهم أهل العدل، وجعلوا حكم الشاهد أصلا لهم، وهذا في الشاهد خلاف العدل، وحكم العدل في الشاهد إن لم يعف الله عنه ويصفح عن هذا العبد الذي هذا صفته أن لا يظلمه من حسناته التي عملها لأنه قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} 1،ويعاقب على المعصية التي عملها بقدرها. وحكى عن بعضهم أنه قال: صاحب الكبيرة يوما في الجنة ويوما في النار2. والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3. ومعنى الآية أن الله لا يغفر لمن يشرك به فيموت على الشرك، ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء من أهل التوحيد4. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 5. وهذه الآية في وحشي قاتل حمزة6، ولكنها وإن نزلت بسببه إلا أنها عامة في جميع العباد وجميع الذنوب.   1 النساء آية (40) . 2 لم يتبين لي قائل هذا القول. 3 النساء آية (48 - 116) . 4 هذه الآية أظهر الأدلة من القرآن على قول السلف وأقواها في إثبات أن ما دون الشرك من الذنوب تحت المشيئة. 5 الزمر آية (53) . 6 ذكر القرطبي عن ابن عباس وعطاء. تفسير القرطبي 15/268. والثابت عن ابن عباس كما في البخاري ومسلم أنه قال: " إن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية، ونزل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} خ. التفسير باب تفسير سورة الزمر 6/104، م. الإيمان (ب أن الإسلام يهدم ما قبله) 1/113. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 669 والدليل عليه ما روي عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما يسرني بهذه الآية الدنيا وما فيها {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} 1 يقول لا تيأسوا من رجمة الله أنه لا توبة لكم {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} يعني الشرك والقتل والزنا الذي ذكر الله في سورة الفرقان2 {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ،وقال قوم: إنها لم تنزل بسبب وحشي لأنها مكية، ووحشي أسلم بعد ذلك بعد قتل حمزة بالمدينة، وبين نزولها وإسلامه قدر عشرين سنة، ولكنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل لي من توبة، فقال له نعم وقرأ عليه هذه الآية3. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} 4. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} 5 وهذا عام، ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ   1 أخرجه حم 5/275 بلفظ (ما أحب أن لي الدنيا … .) ، وابن جرير الطبري في تفسيره 24/16، والطبراني في الأوسط ذكر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد 7/100 ومدار إسناده على ابن لهيعة. 2 يعني بذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} . 3 أخرجه الطبراني في الأوسط ذكر ذلك الهيثمي وقال: "فيه أبين بن سفيان وضعفه الذهبي". مجمع الزوائد 7/100 وضعف أبين أيضا ابن عدي وقال: "مقدار ما يرويه غير محفوظ وما يرويه عمن رواه منكر كله، ونقل عن البخاري أنه قال: لا يكتب حديثه. الكامل 1/384.وهذه الآية التي ذكرها المصنف هنا لا تصلح دليلا، لأن المراد بها من تاب من الذنب حيث يدخل في الذنوب الشرك، والشرك لا يغفر إلا بالتوبة منه ويدل عليه أيضا حديث ابن عباس المتقدم في التعليق والمعتزلة كغيرهم لا ينكرون أن توبة صاحب الكبيرة مقبولة. 4 النساء آية (110) وهذه الآية أيضا لا تصلح دليلا هنا لوجود النص على الاستغفار. 5 الرعد آية (6) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 670 السَّيِّئَاتِ} 1 وهذه الآية نزلت في أبي نفيل عباد بن قيس الأنصاري2: أتته امرأة تشتري منه تمرا فراودها على نفسها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني خليت بامرأة فما من شيء يفعل الرجل بالمرأة إلا وقد فعلته بها إلا أني لم أنكحها فنزلت هذه الآية {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَار} يعني صلاة الصبح والظهر والعصر {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} يعني المغرب والعشاء {إِنَّ الْحَسَنَاتِ} يعني الصلوات الخمس {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فقال معاذ بن جبل - رضي الله عنه ـ: يا رسول الله أهذا خاص له أم عام للناس؟ فقال: بل عام للناس "3. ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} 4 والكبائر ها هنا الشرك5، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .   1 هود آية (114) . 2 الذي عند الترمذي أن الرجل اسمه أبو اليسر كعب بن عمرو، ولم أجد من ذكر أنها نزلت في أبي نفيل عباد بن قيس سوى القرطبي، الذي قال إنها نزلت في رجل من الأنصار قيل: هو أبو اليسر بن عمرو، وقيل: اسمه عباد. انظر: تفسير القرطبي 9/110. 3 أخرجه م. كتاب التوبة (ب إن الحسنات يذهبن السيئات) 4/2116 من حديث عبد الله بن مسعود وأنس وأبي أمامة نحوه، وأخرجه ت. كتاب التفسير (ب تفسير سورة هود) 5/292 من حديث ابن مسعود، والرجل الذي وقعت منه الحادثة هو أبو اليسر كعب بن عمرو، وأخرجه ابن جرير في تفسيره بروايات متعددة 12/134 - 148. 4 النساء آية (31) . 5 الجمهور على أن المراد بالآية هنا أن الصغائر تكفر إذا اجتنبت الكبائر، فعليه فلا تصلح دليلا للمسألة هنا، لأن المعتزلة لا ينكرون هذا. وقول المصنف هنا والكبائر هاهنا الشرك، هذا يدل على قول من منع أن يكون هناك صغائر وزعم أن الذنوب كبائر فقط وذكر القرطبي هذا القول عن القاضي الباقلاني والإسفرائيني وأبي المعالي وأبي نصر عبد الرحيم القشيري. وزعم هؤلاء أن المراد بالكبائر ها هنا (الشرك) واحتجوا بقراءة {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} وقال عنه: الكبير الشرك، فعليه يرون أن اجتناب الشرك يجعل مرتكب الذنب تحت المشيئة وأنه لا تكفر الصغائر بترك الكبائر، وهو خلاف الحق الذي نصت عليه هذه الآية والأحاديث التي تدل على تكفير الذنوب بكثير من الأعمال كالصوم والصدقة والحج وغير ذلك. انظر: تفسير القرطبي 1/158 - 159، فتح الباري 10/409. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 671 من الدليل على ما قلنا ما روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل فبشرني أن من مات من أمتي لا يشرك بالله دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق. قال: وإن زنى وإن سرق " أخرجه البخاري ومسلم1. وروى جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله ما الموجبتان، قال: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات وهو يشرك بالله شيئا2 دخل النار" 3. عن أبي موسى الأشعري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليجيئن ناس من أمتي بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ثم يضعها على اليهود والنصارى"4. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن رجلا أذنب   1 أخرجه خ كتاب التوحيد (ب كلام الرب مع جبريل) 9/114، م. كتاب الإيمان (ب من مات لا يشرك بالله … ) 1/94. (شيئا) ليست في الأصل، وهي في - ح - وكذلك عند مسلم وغيره. 3 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب من مات لا يشرك بالله … ) 1/94. حم 3/391. 4 أخرجه م. كتاب التوبة (ب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله) 4/2120، الحاكم في المستدرك 4/253، واللالكائي في السنة 6/1066.وفي الحديث إشكال وهو قوله صلى الله عليه وسلم " ثم يضعها على اليهود والنصارى" فإن هذا في ظاهره يخالف قوله عزوجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال النووي في شرح مسلم 17/85: "معناه أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين"، ثم قال: "ويحتمل أن يكون المراد آثاما كان للكفار سبب فيها بأن سنوها فتسقط عن المسلمين بعفو الله ويوضع على الكفار مثلها لكونهم سنوها، ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها" انتهى. وهذا القول الثاني أقرب وأوضح لقوله عزوجل عن الكفار {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} قال ابن جرير في تفسيره 20/35 "وليحملن هؤلاء المشركون بالله أوزار أنفسهم وأثاما وأوزار من أضلوا وصدوا عن سبيل الله مع أوزارهم".انتهى مختصرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 672 ذنبا فقال: أي رب أذنبت ذنبا فاغفر لي، فقال الله: عبدي عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي " 1. وعن علقمة عن عبد الله مسعود قال: "لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْن} اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه فقال: ألم تسمعوا إلى قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 2. وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا"3. وروي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال المغفرة تحل على العبد ما لم يقع الحجاب، فقيل: يا نبي الله وما الحجاب؟ قال: الشرك به، قال فما نفس تلقاه لا تشرك به إلا حلت لها المغفرة من الله، فإن شاء غفر لها وإن شاء عذبها، ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ … } 4 الآية. وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا   1 أخرجه خ. كتاب التوحيد (باب قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ) 9/117،م. كتاب التوبة (ب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت) 4/112. 2 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا … ) ، م. كتاب الإيمان (ب صدق الإيمان وإخلاصه) 1/114. 3 أخرجه الحاكم في المستدرك 4/262 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورده الذهبي بأن فيه حفص بن عمر العدني واه من طريق حفص، أخرجه أيضا اللالكائي في السنة 6/1068، وأخرجه الطبراني في الكبير 11/241 من طريق إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه وقال ابن حجر عن إبراهيم: ضعيف. انظر: التقريب ص (19) . 4 أخرجه اللالكائي في السنة 6/1068،وعزاه ابن كثير في تفسيره 1/509 إلى أبي يعلى الموصلي في مسنده، ومدار الحديث على موسى بن عبيدة الربذي. وقال فيه أحمد: "لا يكتب حديثه"، وقال النسائي: "ضعيف"، وقال ابن حجر: "ضعيف". انظر: ميزان الاعتدال 4/213، التقريب ص (315) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 673 الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} 1، قال: "كلهم في الجنة"2. وروي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} 3 قال لهم: "ما تقولون فيها؟ قالوا: استقاموا فلم يذنبوا، قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: حملتم الأمر على أشده استقاموا لم يرجعوا إلى عباده الأوثان"4. وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "أربع آيات في سورة النساء خير للمسلمين من الدنيا وما فيها قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} 5، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 6،وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} 7، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ   1 فاطر آية (32) . 2 أخرجه ت. تفسير القرآن، سورة الملائكة 5/363 وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وأخرجه حم 3/78، وابن جرير في تفسيره 22/137، واللالكائي في السنة 6/1071، وفي إسناده رجلان لم يسمياه، حيث روى عن الوليد بن العيزار عن رجل من ثقيف عن رجل من كنانة عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، وقد أورد ابن كثير روايات عديدة في هذا المعنى منها المرفوع ومنها الموقوف. انظر: تفسير ابن كثير 3/555. 3 فصلت آية (30) . 4 أخرجه ابن جرير من عدة طرق عنه في تفسيره 24/114، واللالكائي في السنة 6/1071، وقد روى ابن جرير عن عمر بن الخطاب وغيره أن معنى استقاموا أي على الطاعة بفعل المأمور وترك المحظور. 5 النساء آية (31) . 6 النساء آية (48) . 7 النساء آية (64) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 674 اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} 1،2 قال الحسن البصري: "وأنا أقول آية خامسة فيها3 للمسلمين خير من الدنيا وما فيها قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} 4،5. وعن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يرجون لأهل الكبائر. وروي عقبة بن علقمة اليشكري6 قال: "شهدت مع علي - رضي الله عنه - صفين فأتي بخمسة عشر رجلا أسرى من أصحاب معاوية وكان من مات منهم غسله وكفنه وصلى عليه"7.   1 النساء آية (110) . 2 أخرجه اللالكائي في السنة 6/1072، وابن جرير في تفسيره 5/45 إلا أنه قال خمس آيات وذكر الخامسة {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} . 3 في - ح - (فيها خير للمسلمين) . 4 النساء آية (147) . 5 أخرجه ابن جرير بسنده عن ابن عمر أنه قال: "كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس وآكل مال اليتيم وشاهد الزور وقاطع الرحم حتى نزلت هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فأمسكنا عن الشهادة، وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله إن شاء عفا عاقبه عليه ما لم تكن كبيرة شركا بالله. تفسير ابن جرير 5/126، وروي ابن أبي عاصم في السنة 2/471 بسنده عن ابن عمر أنه قال: "كنا نوجب لأهل الكبائر النار حتى نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نوجب لأحد من أهل الدين النار"، قال الألباني: "إسناده جيد ورجاله كلهم ثقات"، وروى اللالكائي بسنده عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود من الصحابة وغيرهم الرجاء لأهل الكبائر. انظر: شرح اعتقاد أهل السنة 6/1-73 - 1074. 6 عقبة بن علقمة اليشكري أبو الجنوب الكوفي روى عن علي وشهد معه الجمل. ضعفه ابن حبان وابن حجر. انظر: التهذيب 7/247، التقريب ص (241) . 7 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1076. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 675 وعن ثابت بن أبي الهذيل1 قال: "سألت علي بن الحسين2 عن أصحاب الجمل، فقال: مؤمنون وليسوا بكفار"3. ويدل على ما قلناه أن من وعد الله ثوابا على عمل عمله بفضل من الله ونعمة ولا يوصف الله بأنه يخلف وعده لقوله تعالى: {إِِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} 4، ومن أوعده عذابا على ذنب أذنبه فإن الوعيد حق له وترك الوفاء بالوعيد كرم وجود، وربنا موصوف بالجود والكرم، وكيف لا يحسن من الله العفو عن الذنب وقد أمرنا به وحظنا عليه ومدح فاعله. قال الله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} 5، وقال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 6، قال {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 7، وأخبر عن نفسه بالعفو فقال {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} 8. وروي أن عمرو بن عبيد9 كان يقول بالوعيد، فناظر أبا عمرو بن العلاء10، فاحتج عمرو بن عبيد بأن إخلاف الوعيد قبيح وذم عند أهل اللسان وأنشد لأعرابي يمدح رجلا: أن أبا ثابت لمجتمع الرأي ... شريف الآباء والنسب لا يخلف الوعد والوعيد ... ولا يبيت من داره11 على قرب   1 لم أجد له ترجمة. 2 هكذا في النسختين وعند اللالكائي (أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين) . 3 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1078. 4 آل عمران آية (9) والرعد (31) . 5 البقرة آية (109) . 6 البقرة آية (237) . 7 آل عمران آية (134) . 8 الشورى آية (25) . 9 عمرو بن عبيد بن باب التميمي مولاهم المعتزلي المشهور كان داعية إلى بدعته مع أنه كان عابداً، توفي سنة (143هـ) . التقريب (261) . 10 أبو عمرو بن العلاء بن عمار المازني النحوي القاري، ثقة من علماء العربية. توفي سنة (154هـ) . التقريب ص (419) . 11 هكذا في النسختين وعند اللالكائي (من ثارة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 676 . ... فقال أبو عمرو: وإن كان هذا الشاعر قد مدح بالأمرين، فإن كعب بن زهير مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد توعده فأنشده قصيدته: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول .......................... إلى قوله: أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله بل وقع موقعا منه فعفى عنه1، وأعطاه بردة كانت له فابتاعها منه معاوية - رضي الله عنه - بعشرة آلاف ردهم كانت مع الخلفاء خلفية بعد خليفة. وروي أن أبا عمرو قال له يا أبا عثمان: أليس لك علم بمعاني كلام العرب. العرب لا تعد العافي مخلفا ثم أنشده: وما يرهب المولى ولا الجار صولتي ... ولا أختفي من سورة2 المتهدد وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لأخلف ايعادي وأنجز موعدي3 وروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وعد الله على عمل4ثوابا فهو منجزه ومن أوعده على عمل عقابا فهو الخيار"5.   1 إلى هنا ما ذكر اللالكائي من هذه الحكاية 6/1082. 2 هكذا في النسختين وذكره السفاريني فقال (ولا يخشى) ، وعند اللالكائي كما ذكرها المصنف هنا إلا أنها مصوبة إلى (اخشى) . 3 ذكرها اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة بسنده 6/1082، كما حكاها السفاريني قي لوامع الأنوار البهية 1/370. (علي عمل) ساقطة من الأصل، وهي في - ح - وكذلك في مصادر الحديث. 5 أخرجه اللالكائي في السنة 6/1083، وابن أبي عاصم في السنة 2/466، والبزار. انظر: كشف الأستار 4/775، ونسبه الهيثمي إلى أبي يعلى الموصلي والطبراني في الأوسط، مجمع الزوائد 10/370. ومدار الرواية على سهيل بن حزم وهو ضعيف، قاله ابن حجر في التقريب ص (139) وزاد في - ح - بعده (إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) وليست في شيء من مصادر الرواية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 677 والعرب تذم من يفي بوعيده قال الشاعر: كان فؤداي بين أظفار طائر ... من الخوف في جو السماء معلق حذار امرئ قد كنت اعلم أنه ... متى ما يعد من نفسه الشر يصدق1 فان احتجوا بقوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} 2. فالجواب عنه أن روي عن ابن عباس أنه قال في تفسيرها قال: "من يشرك بالله"3. وروي عن الحسن البصري أنه قال: لمن أراد الله هوانه فأما من أراد كرامته فلا، قد ذكر الله قوما فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} 4.وروي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: "يا رسول الله أخبرني بأمر من يعمل سوءاً يجز به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبكر ألست تنصب، ألست تجزع، ألست تمرض، أليس يصيبك اللأواء قال: بلى قال: ذلك5 تجزون به"6. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: " ما سألني أحد عنها منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: هذه الآية ما يصيبه الله من العبد في   1 ذكره الباقلاني في التمهيد ص (401) . 2 النساء آية (123) ، وقد ذكر الاستدلال بها القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة ص (662) . 3 أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره 5/293. 4 الأحقاف آية (16) ، والرواية أخرجها ابن جرير في تفسيره 5/293،ولم يذكر الآية. 5 في - ح - (قد) بدل (ذلك) . 6 أخرجه حم 1/182 بتحقيق أحمد شاكر، وابن جرير في تفسيره 9/293، والحاكم في المستدرك 3/74 ومدارها على أبي بكر بن زهير الثقفي عن أبي بكر وقد ضعفها الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند للانقطاع بين أبي بكر بن زهير وأبي بكر الصديق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 678 نفسه من الهم والنكبة والشركة حتى البضاعة يضعها في كم قميصه فيفقدها فيجزع لذلك فيجدها في جيبه، حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج البتر الأحمر من الكير"1. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: "لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا يا رسول الله: ما أبقت هذه الآية من شيء، فقال صلى الله عليه وسلم: " أما والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت ولكن ابشروا وقاربوا وسددوا فإنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة إلا كفر الله عنه بها خطيئة حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه "2. استدلت القدرية بآي الوعيد كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} 3الآية، وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} 4 الآية، وقوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 5، وما أشبه ذلك من الآيات6. والجواب: أن لهم القرآن يعاضد بعضه ولا يتناقض بدليل قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 7،فنحمل هذه   1 أخرجه ت. كتاب التفسير (ب تفسير سورة البقرة) 4/221 وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد، وأخرجه، حم 6/218، وابن حرير في تفسيره 5/295. 2 أخرجه م. كتاب البر والصلة (ب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض) 4/1993كتاب التفسير (ب. تفسير سورة المائدة) 5/247،ابن جرير في تفسيره 5/294وقد ذكر المصنف - رحمه الله - في الآية الأقوال الثلاثة التي ذكرها ابن جرير وهي أن المراد بالسوء الشرك، أو أن المقصود بها الكفار، أو أن المراد بها عموم المعاصي من صغير وكبير، وأن الجزاء يكون بكل ما يصيب الإنسان في الدنيا من المصائب الصغيرة والكبيرة. وهو الذي رجحه ابن جرير ودل الدليل الصحيح عليه وهي الآثار المذكورة عن النبي صلى الله عليه وسلم هنا. 3 يونس آية (27) . 4 السجدة آية (20) . 5 الانفطار آية (14) . 6 ذكر بعض هذه الآيات وما أشبهها القاضي عبد الجبار المعتزلي في شرح الأصول الخمسة ص 657 - 663. 7 النساء آية (82) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 679 الآية التي أوردها القدرية وما أشبهها من آي الوعيد على من لا إيمان معه، فأما من مات مؤمنا فلا يحكم بتخليده في النار بفعل كبيرة غير مستحل لها، بل إذا لم يغفرها لم يظلمه من حسناته لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} 1.وقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاّ مِثْلَهَا} 2 وجاء في التفسير أن الحسنة هو قول لا إله إلا الله، والسيئة هو الشرك3 ومثلها قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ4 وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 5 وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 6.وقوله تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} 7وقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات} 8. فإن قالوا: من فعل الكبيرة لا يسمى مؤمنا9. قلنا: بل يسمى مؤمنا لأنه مصدق بالله وبرسوله وباليوم الآخر، وكيف يخلد في النار من عبد الله مائة سنة في معصية واحدة غير مستحل لها، مع أن ظواهر الأي ألا يدخل النار إلا الكفار، قال الله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} 10 وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} إلى قوله   1 النساء آية (40) . 2 سورة الأنعام آية (160) . 3 ذكر هذا ابن جرير عن جماعة من السلف منهم عبد الله بن مسعود وابن عباس وشقيق بن عبد الله والحسن وعطاء وإبراهيم النخعي وأبو صالح، وغيرهم. انظر: تفسير ابن جرير 8/108 - 109. 4 في الأصل (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) .وفي - ح صوبت كما أثبت. 5 النمل آية (89 - 90) . 6 الزلزلة آية (7 - 8) . 7 آل عمران آية (195) . 8 هو آية (114) . 9 المعتزلة على أن الفاسق من أهل الملة في منزلة بين المنزلتين فلا يسمى مؤمنا ولا كافرا في الدنيا، وسيعقد المصنف فصلا للتسمية يذكر فيه قولهم. 10 التوبة آية (49) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 680 تعالى: {ذُوقُوا1عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} 2، وقوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلاّ الأشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 3،وقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} إ لى قوله: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيم} 4قوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} إلى قوله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 5 وأوجب النار لمن يكذب بالبعث6. وقد احتجت المرجئة بهذه الآيات وأن الله لا يعذب إلا على الكفر به، وقالت المرجئة: لما كان توحيد ساعة7 يهدم ما قبله من الكفر وجب أن يهدم التوحيد ما معه من المعاصي. وقالت المعتزلة: لما كان الكفر ساعة في آخر عمره يهدم ما قبله من التوحيد، فكذلك سائر المعاصي تهدم ما معها.   1 في كلا النسختين (فذوقوا) وهو خطأ. 2 السجدة آية (20) . 3 الليل آية (14 - 16) . 4 سورة الحاقة آية (33) . 5 الواقعة آية (41 - 47) . 6 قول المصنف - رحمه الله - هنا " مع أن ظواهر الآي ألا يدخل النار إلا الكفار ثم ذكر الآيات على ذلك، وقد ذكر هذا الباقلاني في التمهيد ص 409 وهو قول غير صحيح إلا أن يقصد به دخول التخليد لأنه قد وردت آيات دلت على دخول النار في بعض الأعمال كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} . وقوله عزوجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} , وقوله عزوجل: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} . 7 في - ح - (ساعة في آخر عمره) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 681 والجواب: أن يقابل أحد هذين المذهبين بالآخر ويسقطان ويبقى لنا المذهب بينهما وهو مذهب أهل الحديث. ثم يقال للقدرية: تسويتكم بين الشرك وبين المعاصي بهذا مخالف لنص القرآن وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1، فنفى أنه يغفر2الشرك ويغفر ما دونه لمن يشاء وتعليق مغفرته لما دون الشرك لمن يشاء يبطل قول المرجئة أيضا. فإذا وقف المذهبان موقفا واحدا في البطلان ثبت ما قلناه. فإن قالت القدرية: فيجب حمل آي الوعيد في المغفرة لأهل الصغائر دون أهل الكبائر بدليل آي الوعيد. قلنا: آي الوعيد بالمغفرة عامة للسيئات كلها والشرك يخرج بدليل الآي التي ذكرنها والإجماع، وبقي العموم متناولا لما دون الشرك من السيئات وعلى أن عند القدرية لا يجوز أن يعذب الله العباد على الصغائر وإن عذبهم عليها ظلمهم3، فإن كانت غير متوعد عليها4لم يخص بها العموم في الذنوب وعلى أنه يلزم القدرية إذ قالوا: بتخليد أصحاب الكبائر القول بمذهب الخوارج وهو تكفير أصحاب الذنوب وتخليدهم في النار، وهذا رد لما به القرآن والسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار5.   1 النساء آية (48 - 116) . 2 في النسختين (لا يغفر) ولا يستقيم المعنى إلا بحذف أداة النفي. 3 تقدم حكاية هذا القول عنهم انظر: ص 668، وانظر: شرح الأصول الخمسة ص 663 - 664. 4 في - ح - (أصحاب الذنوب والصغائر والكبائر) . 5 ثبت هذا من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن مثقال شعيرة من إيمان ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من إيمان ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان". أخرج خ كتاب الإيمان (ب زيادة الإيمان ونقصانه 1/14، م. كتاب الإيمان (ب أدنى أهل الجنة) 1/182 والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وثابتة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 682 استدلوا بأنا لو لم نقل بالتخليد لأدى ذلك إلى الفساد، لأن المذنب متى علم أنه لا يخلد في النار لم يبال بالمعصية لأنه يعلم أنه يصير إلى الجنة فلهذا بُولِغَ بإدامة العذاب عليه1. والجواب عليه أن يقال: فعلى مقتضى استدلالكم هذا أن تقولوا لا تصح توبته ولا تقبل منه، لأنه متى علم أن توبته تصح وتقبل منه ولم ييأس من البقاء بعد ارتكاب المعصية حمله ذلك على ركوب الكبائر اتكالا منه على التوبة في آخر عمره، فإذا كانت توبته صحيحة الإجماع، ولم يكن بها فساد، فكذلك القول بعدم تخليده. استدلوا بأن الفاسق عدو لله وأمرنا بلعنه والبراءة منه، وبأن لا تأخذنا به رأفة فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} 2. مع أن الله وصف نفسه بالرحمة للمؤمنين بقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 3 ولا يكون صاحب الكبيرة مؤمنا مرحوما. والجواب: أنا لا نحكم للفاسق بأنه عدو لله وأن الله لعنه إلا بشرط أن يكون في معلوم الله أنه يعذبه ولا يغفر له، لأن العداوة والبغض هو إرادة الله عذابه4 وهذا كما تعبدنا بلعن من ظهرت منه كلمة الكفر والحكم عليه بأنه عدو الله بشرط أن يكون في معلوم الله أنه يموت كافرا، وكما تعبدنا   1 ذكر نحو هذا القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة ص 961. 2 النور آية (2) . 3 الأحزاب آية (43) . 4 قوله هنا: "والبغض هو إرادة الله عذابه" هذا من تأويل المعتزلة والأشعرية الذين ينكرون أن الله يوصف بالصفات الفعلية كالغضب والرضا والحب والبغض ويفسرون ذلك بلوازم هذا الصفات من إرادة الثواب وإرادة العقاب، والمصنف - رحمه الله - نقل هذه العبارة على علتها من التمهيد للباقلاني. انظر: ص 410 ويأتي التعليق على هذا في نهاية جواب المصنف عن هذا الاعتراض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 683 ببغض شهود الزنا والبراءة منهم إذا قصر عددهم أو اردت شهادتهم والحكم بفسقهم إن كانوا كذبة عند الله1، مع أنا نقول إن الفاسق من المؤمنين لا يكون معاديا لله بمعصيته مع إقراره بتوحيده وإيمانه بربه، لأن العداوة متضمنة للكفر به ويمكن أن يكون الله تعبدنا2بذم الفاسق ولعنه محبة له3، فيكون ردعا له عن فسقه لا لكونه مستحقا للتخليد في النار4.   1 في النسختين الجملة هكذا (أوردت شهادتهم إن كانوا والحكم بفسقهم كذبة عند الله) والخلل فيها ظاهر لأنه أدخله جملة (والحكم بفسقهم - بين أن كانوا كذبة عند الله) والجملة الصحيحة ذكرها الباقلاني في التمهيد ص 411. والمقصود هنا هو أن البراءة من شهود الزنا وبغضهم مشروط بكونهم كذبة عند الله. (تعبدنا) ليست في الأصل وهي في - ح -. 3 في الأصل (لهم) وما أثبت من - ح -. 4 المصنف - رحمه الله - عن قول المعتزلة بجواب صحيح والسؤال والجواب هنا منقول من التمهيد للباقلاني مع تغيير لبعض العبارات، وهذا جعل المصنف يقع في أقوال باطلة لا تتفق مع ما دل عليه الشرع في هذه المسائل فلهذا نبين هنا الحق في هذا. فالجواب عن استدلال المعتزلة هو أن يقال: إن هذا الكلام هو عمدة من أوجب على مرتكب الكبيرة الخلود في النار، وذلك أنهم ظنوا أنه لا يصح أن يجتمع في الإنسان إيمان وكفر ولا طاعة ومعصية حيث زعموا أن الإيمان شيء واحد متى زال بعضه زال كله، وبناءا عليه أنكروا أن يجتمع في الإنسان طاعة ومعصية لأن أحدهما تقابل الأخرى، وهذا باطل لأن الإيمان مركب من أجزاء وزوال بعضها لا يلزم منه زوال الكل، ويضرب لذلك مثال الشجرة فإنه إذا زال منها بعض الأغصان لا يزول عنها الاسم بل يبقى الاسم وإنما يزول عنها اسم الكمال لأنها أنقص من غيرها، بل ذكر شيخ الإسلام أن سائر المركبات من هذا النوع لا يلزم من زوال بعض أجزئها زوال الاسم عنها. وقد دلت الأدلة الشرعية على أن الإنسان قد يجتمع فيه إيمان ونفاق وطاعة ومعصية، ومن ذلك حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا اخلف وإذا خاصم فجر". أخرجه خ. الإيمان وقوله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (ب علامة المنافق 1/12 م. الإيمان (ب. خصال المنافق 1/78 وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: " إنك امرؤ فيك جاهلية" أخرجه خ. الإيمان (المعاصي من أمر الجاهلية 1/12. أخرجه م. الإيمان (ب قول النبي صلى الله عليه وسلم سباب المسلم) 1/81 في حديث أبي هريرة: " ثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت ". أخرجه م. الإيمان (ب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة) 1/82. وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على أن المعصية لا تنافي الإيمان، وإنما تنافي كماله، وتبعا لهذا فإن الإنسان قد يكون محبوبا من وجه ومبغضا من وجه فيحب لما عنده من الطاعة ويبغض لما عنده من المعصية. ومن الدليل الواضح على هذا ما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال رجل من القوم: اللهم إلعنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله". هكذا ورد في رواية البخاري المطبوع وقد ورد كما ذكر الحافظ في روايات أخرى للصحيح "فول الله ما علمت إلا أنه يحب … " وله لفظ آخر ورد عند غير البخاري وهو " فإنه يحب الله ورسوله ". فتح الباري 12/78. خ. الحدود (ب ما يكره من لعن شارب الخمر) 8/133، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنه لاتصافه بصفات صالحة وهي حب الله ورسوله، فهو يحب لهذا الوجه ويبغض من وجه آخر لمعصيته. وقد دلت الأدلة الشرعية على أن صاحب الكبيرة في الآخرة تحت المشيئة، فقد يكون مرحوما من أول وهلة ولا يعذب، وقد يعذب ويغضب عليه في أول الأمر ثم يخرج وصاحب الكبيرة لا يكون الأمر بالنسبة إليه على وتيرة واحدة كالمؤمن الصادق أو كالكافر، بل هو محتمل الأمرين لأنه خلط الصالح بالسيئ، فقد ترجح له حسناته فينجو وقد ترجح سيئاته فيعذب حتى يطهر من هذه السيئات ثم يخرج وهذا من عدل الله ورحمته. ولا يجوز إطلاق أن الفاسق عدو لله متبرأ منه لأن هذه الأمور بالنسبة لمن معه أصل الإيمان على حسب ما يرتكب من الأعمال السيئة، فعداوته لله نسبية وليست مطلقة كعدواة الكفار، وكذلك الأمر بالنسبة له في الآخرة فما دام أتى بأصل الإيمان فإنه ستصله الرحمة إما مباشرة وإما بعد أن يتطهر من ذنوبه بالعذاب الذي يحكم الله به عليه. وهذا التعميم من المعتزلة بأن الفاسق عدو لله هو موطن الخلاف بيننا وبينهم، فالأدلة الشرعية على خلاف قولهم ف حكمه في الدنيا وحكمه في الآخرة، وسبب ضلالهم في هذا أنهم أخذوا بنصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، أما أهل السنة فإنهم أخذوا بالنصوص كلها واستظهروا الحق من مجموعها فهداهم الله إلى أن مرتكب الكبيرة في الدنيا ليس خارجاً من الإسلام وفي الآخرة أمره إلى الله عز وحل. أما قول المصنف في جوابه "إنا لا نحكم للفاسق بأنه عدو لله وأن الله لعنه إلا بشرط أن يكون في معلوم الله أنه يعذبه ولا يغفر له … " الخ. هذا كلام غير صحيح، فإنه تضمن نفي صفات الباري جل وعلا بالغضب والرضا والحب والكره لجنس الأعمال الواقعة من العباد، وإنما الغضب اتصاف والرضا والحب والكره يتعلق بذوات الأشخاص فمن علم الله موته على الكفر فهو المبغض، ومن علم الله موته على الإيمان فهو المحبوب، وقد دلت الأدلة الشرعية على خلاف هذا وهو أن الله يرضى ويحب ويفرح عند وقوع الفعل من بني آدم، ويغضب ويكره عند وقوع الأفعال الموجبة لذلك من بني آدم. ومن الأدلة الواضحة في هذا قوله عزوجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} فحدد الرضا جل وعلا هنا بوقوع المبايعة من المؤمنين، وقوله عزوجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فجعل شرط محبته جل وعلا اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله عزوجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} . وكذلك ما روى البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله" أخرجه خ. منافق الأنصار 5/27، م. الإيمان 1/85. وحديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رضى الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد" أخرجه ت. في البر والصلة 4/310. فهذا يدل على أن السخط والرضا تبع لسخط الوالد ورضاه. وكذلك حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع " أخرجه حم 2/70، د. في الأقضية 2/117، جه. في الحكام 2/778. وكذلك الآيات القرآنية كقوله عزوجل: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فمن اتصف بهذه الصفات لا يحبه الله عز وجل ما دام متصفا بها، فإذا قلع عنها إلى ما يحب الله ويرضى من الأقوال والأفعال أحبه الله عز وجل. فهذه كلها تدل على عدم ارتباط الحب والبغض بالخاتمة كما هو كلام المصنف - رحمه الله - هنا، ثم إن هذه الصفات وهي الحب والبغض والغضب والرضا من صفات الأفعال التي تتعلق بالمشيئة والاختيار، والمصنف - رحمه الله - هنا زعم أن هذه الصفات هي إرادة الثواب أو إرادة العقاب، وهذا تأويل الجهمية والأشعرية، كما أن الأشاعرة ومن تابعهم يزعمون أن الإرادة قديمة وهذا باطل، فقد دلت الأدلة على أن الإرادة ليست قديمة من ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وقوله عزوجل: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} وقوله عزوجل {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فهذه الأدلة صريحة في أن الإرادة هي التي تسبق وقوع الفعل، ولو كانت الإرادة كما زعموا قديمة لوجب وجود الأشياء في القدم وهذا باطل، بل الإرادة قديمة النوع حادثة الأفراد. كما دلت الأدلة على أن صفة الحب والبغض والغضب والرضا ليست قديمة بل هي تتعلق بالمشيئة والاختيار. يدل على هذا حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ". أخرجه خ. في الرقاق 8/97، م. صفة الجنة 4/2176، وكذلك ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديث الشفاعة أن آدم عليه السلام وغيره من الأنبياء يقولون: " إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله " أخرجه خ. في الأنبياء 4/107، م. في الإيمان 1/184. فهذا يدل على أن هذه الأمور تقع بمشيئة الله في الوقت الذي يشاء ربنا جل وعلا، وتدل على أن كلام المصنف - رحمه الله - في هذا كلام باطل لا دليل عليه، وهو في هذا أتى من أخذه لكلام الباقلاني على علاته بدون تمحيص، مع أنه - رحمه الله - أثبت لله عز وجل الصفات الفعلية كالكلام والنزول والاستواء مما لا يثبته الأشعرية، والله أعلم. وقول المصنف: "مع أنا نقول إن الفاسق من المؤمنين لا يكون معاديا لله لمعصيته مع إقراره بتوحيده وإيمانه بربه لأن العداوة متضمنة للكفر له". هذا القول ليس على إطلاقه، لأن مرتكبي الكبائر فيهم عداوة لله بحسب جرمهم، ولكنها لا تكون كعداوة الكافر، وقد نص الله عز وجل على هذا في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فالمحاربون أعداء لله، مع أنهم لا يكفرون لهذا، وعدواتهم لله ليست كعداوة الكفار بل عداوتهم بحسب جريمتهم. وقول المصنف: " ويمكن أن يكون الله تعبدنا بذم الفاسق ولعنه محبة له … . " الخ. الصحيح أننا لم نتعبد بلعن الفاسق المعين قال النووي - رحمه الله -: " اتفق العلماء على تحريم اللعن لأنه يعني الإبعاد والطرد من رحمة الله، فلا يجوز أن يبعد من رحمة الله من لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطعية، فلهذا قالوا: لا يجوز لعن أحد بعينه مسلما كان أو كافرا أو دابة إلا من علمنا بنص شرعي أنه مات على الكفر أو يموت عليه كأبي جهل وإبليس، وأما اللعن بالوصف فليس بحرام كلعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله إلى غير ذلك مما جاءت به النصوص الشرعية بإطلاقه على الأوصاف لا على الأعيان ". شرح مسلم 2/67. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 684 .............................................................................................   وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على أن المعصية لا تنافي الإيمان، وإنما تنافي كماله، وتبعا لهذا فإن الإنسان قد يكون محبوبا من وجه ومبغضا من وجه فيحب لما عنده من الطاعة ويبغض لما عنده من المعصية. ومن الدليل الواضح على هذا ما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال رجل من القوم: اللهم إلعنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله". هكذا ورد في رواية البخاري المطبوع وقد ورد كما ذكر الحافظ في روايات أخرى للصحيح "فول الله ما علمت إلا أنه يحب … " وله لفظ آخر ورد عند غير البخاري وهو " فإنه يحب الله ورسوله ". فتح الباري 12/78. خ. الحدود (ب ما يكره من لعن شارب الخمر) 8/133، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنه لاتصافه بصفات صالحة وهي حب الله ورسوله، فهو يحب لهذا الوجه ويبغض من وجه آخر لمعصيته. وقد دلت الأدلة الشرعية على أن صاحب الكبيرة في الآخرة تحت المشيئة، فقد يكون مرحوما من أول وهلة ولا يعذب، وقد يعذب ويغضب عليه في أول الأمر ثم يخرج وصاحب الكبيرة لا يكون الأمر بالنسبة إليه على وتيرة واحدة كالمؤمن الصادق أو كالكافر، بل هو محتمل الأمرين لأنه خلط الصالح بالسيئ، فقد ترجح له حسناته فينجو وقد ترجح سيئاته فيعذب حتى يطهر من هذه السيئات ثم يخرج وهذا من عدل الله ورحمته. ولا يجوز إطلاق أن الفاسق عدو لله متبرأ منه لأن هذه الأمور بالنسبة لمن معه أصل الإيمان على حسب ما يرتكب من الأعمال السيئة، فعداوته لله نسبية وليست مطلقة كعدواة الكفار، وكذلك الأمر بالنسبة له في الآخرة فما دام أتى بأصل الإيمان فإنه ستصله الرحمة إما مباشرة وإما بعد أن يتطهر من ذنوبه بالعذاب الذي يحكم الله به عليه. وهذا التعميم من المعتزلة بأن الفاسق عدو لله هو موطن الخلاف بيننا وبينهم، فالأدلة الشرعية على خلاف قولهم ف حكمه في الدنيا وحكمه في الآخرة، وسبب ضلالهم في هذا أنهم أخذوا بنصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، أما أهل السنة فإنهم أخذوا بالنصوص كلها واستظهروا الحق من مجموعها فهداهم الله إلى أن مرتكب الكبيرة في الدنيا ليس خارجاً من الإسلام وفي الآخرة أمره إلى الله عز وحل. أما قول المصنف في جوابه "إنا لا نحكم للفاسق بأنه عدو لله وأن الله لعنه إلا بشرط أن يكون في معلوم الله أنه يعذبه ولا يغفر له … " الخ. هذا كلام غير صحيح، فإنه تضمن نفي صفات الباري جل وعلا بالغضب والرضا والحب والكره لجنس الأعمال الواقعة من العباد، وإنما الغضب اتصاف والرضا والحب والكره يتعلق بذوات الأشخاص فمن علم الله موته على الكفر فهو المبغض، ومن علم الله موته على الإيمان فهو المحبوب، وقد دلت الأدلة الشرعية على خلاف هذا وهو أن الله يرضى ويحب ويفرح عند وقوع الفعل من بني آدم، ويغضب ويكره عند وقوع الأفعال الموجبة لذلك من بني آدم. ومن الأدلة الواضحة في هذا قوله عزوجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 685 .............................................................................................   الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} فحدد الرضا جل وعلا هنا بوقوع المبايعة من المؤمنين، وقوله عزوجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فجعل شرط محبته جل وعلا اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله عزوجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} . وكذلك ما روى البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله" أخرجه خ. منافق الأنصار 5/27، م. الإيمان 1/85. وحديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رضى الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد" أخرجه ت. في البر والصلة 4/310. فهذا يدل على أن السخط والرضا تبع لسخط الوالد ورضاه. وكذلك حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع " أخرجه حم 2/70، د. في الأقضية 2/117، جه. في الحكام 2/778. وكذلك الآيات القرآنية كقوله عزوجل: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فمن اتصف بهذه الصفات لا يحبه الله عز وجل ما دام متصفا بها، فإذا قلع عنها إلى ما يحب الله ويرضى من الأقوال والأفعال أحبه الله عز وجل. فهذه كلها تدل على عدم ارتباط الحب والبغض بالخاتمة كما هو كلام المصنف - رحمه الله - هنا، ثم إن هذه الصفات وهي الحب والبغض والغضب والرضا من صفات الأفعال التي تتعلق بالمشيئة والاختيار، والمصنف - رحمه الله - هنا زعم أن هذه الصفات هي إرادة الثواب أو إرادة العقاب، وهذا تأويل الجهمية والأشعرية، كما أن الأشاعرة ومن تابعهم يزعمون أن الإرادة قديمة وهذا باطل، فقد دلت الأدلة على أن الإرادة ليست قديمة من ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وقوله عزوجل: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} وقوله عزوجل {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فهذه الأدلة صريحة في أن الإرادة هي التي تسبق وقوع الفعل، ولو كانت الإرادة كما زعموا قديمة لوجب وجود الأشياء في القدم وهذا باطل، بل الإرادة قديمة النوع حادثة الأفراد. كما دلت الأدلة على أن صفة الحب والبغض والغضب والرضا ليست قديمة بل هي تتعلق بالمشيئة والاختيار. يدل على هذا حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ". أخرجه خ. في الرقاق 8/97، م. صفة الجنة 4/2176، وكذلك ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديث الشفاعة أن آدم عليه السلام وغيره من الأنبياء يقولون: " إن ربي قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 686 ..............................................................................................   غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله " أخرجه خ. في الأنبياء 4/107، م. في الإيمان 1/184. فهذا يدل على أن هذه الأمور تقع بمشيئة الله في الوقت الذي يشاء ربنا جل وعلا، وتدل على أن كلام المصنف - رحمه الله - في هذا كلام باطل لا دليل عليه، وهو في هذا أتى من أخذه لكلام الباقلاني على علاته بدون تمحيص، مع أنه - رحمه الله - أثبت لله عز وجل الصفات الفعلية كالكلام والنزول والاستواء مما لا يثبته الأشعرية، والله أعلم. وقول المصنف: "مع أنا نقول إن الفاسق من المؤمنين لا يكون معاديا لله لمعصيته مع إقراره بتوحيده وإيمانه بربه لأن العداوة متضمنة للكفر له". هذا القول ليس على إطلاقه، لأن مرتكبي الكبائر فيهم عداوة لله بحسب جرمهم، ولكنها لا تكون كعداوة الكافر، وقد نص الله عز وجل على هذا في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فالمحاربون أعداء لله، مع أنهم لا يكفرون لهذا، وعدواتهم لله ليست كعداوة الكفار بل عداوتهم بحسب جريمتهم. وقول المصنف: " ويمكن أن يكون الله تعبدنا بذم الفاسق ولعنه محبة له … . " الخ. الصحيح أننا لم نتعبد بلعن الفاسق المعين قال النووي - رحمه الله -: " اتفق العلماء على تحريم اللعن لأنه يعني الإبعاد والطرد من رحمة الله، فلا يجوز أن يبعد من رحمة الله من لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطعية، فلهذا قالوا: لا يجوز لعن أحد بعينه مسلما كان أو كافرا أو دابة إلا من علمنا بنص شرعي أنه مات على الكفر أو يموت عليه كأبي جهل وإبليس، وأما اللعن بالوصف فليس بحرام كلعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله إلى غير ذلك مما جاءت به النصوص الشرعية بإطلاقه على الأوصاف لا على الأعيان ". شرح مسلم 2/67. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 687 108 - فصل قد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة في أهل الكبائر من أمته يخرجون بشفاعته من النار، وله شفاعة في جميع الخلق في فصل الحساب، وكذلك الشفاعة للملائكة والأنبياء ولسائر العلماء. ولكن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أعم وأكبر. وأنكرت المعتزلة والقدرية وأهل الزيغ الشفاعة1، وهذا لاعتمادهم على   1 المعتزلة والزيدية والخوارج ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لما زعموا وتوهموه من أن الفاسق الملي لا يستحق العفو بل يجب عقابه، وزعموا أن ترك عقابه قبيح، وأن هذا العقاب يجب أن يكون الخلود في النار فيناء عليه زعموا أن الشفاعة فيه لا تجوز بل عدوها من القبيح. وتَعجبُ من المعتزلة ومن تابعهم كيف تحكموا في فضل الله عز وجل فحدوده بحسب ما عقلوه هم من حال الإنسان وقاسوا فضل الله ورحمته بفضل الإنسان ورحمته، فأوجبوا على الله عقوبة الفاسق وحجروا فضله بتقبيحهم العفو عن الفاسق، ثم زعموا أن هذا العقاب يحب أن يكون دائما وأبدا قياسا فاسدا وقولا بالباطل، وحرموا بناء عليه أن يشفع في أهل الكبائر شافع، فحجروا واسع رحمة الله، وردوا ما ثبت من الأحاديث الصحيحة في الشفاعة تحكما وتخرصا، وإلا ماذا عليهم لو قالوا إن الفاسق ظالم وعاص ومستحق للعقوبة، والجنة والنار ملك الله وتحت تصرفه فيدخله أيهما شاء إما تفضلا أو عدلا، وإذا أدخله النار بعدله ونال جزاءه أخرجه وأدخله الجنة تفضلا منه ورحمة وهم الحكم العدل ولا معقب لحكمه الفعال لما يريد. انظر: قول المعتزلة والزيدية في الشفاعة وتحجيرهم لواسع رحمة الله بإنكار الشفاعة في أهل الكبائر وإيجاب خلودهم في النار: شرح الأصول الخمسة ص 687 - 689، تاريخ الفرقة الزيدية ص 327، مصباح العلوم بمعرفة الحي القيوم ص 20. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 688 عقولهم الفاسدة وأخذهم بالمتشابه من القرآن وتركهم الأخبار المروية الثابتة في الصحاح. ودليلنا قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ} 1. وذلك أن المشركين قالوا لآلتهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فأنزل الله {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ} 2 ومثلها قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 3 ومثلها قوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى} 4. وذكر أهل التفسير أن الكفار إذا دخلوا النار نظروا إلى قوم من الموحدين من أهل الكبائر معهم في النار فيعيرونهم بذلك ويقولون: ما أغنى عنكم إسلامكم في الدنيا فيشتد غم الموحدين لذلك وحزنهم، فيطلع الله على ما   1 البقرة آية (255) . 2 انظر: تفسير ابن جرير الطبري 3/8. 3 طه آية (109) . 4 الأنبياء آية 28وهذه الآيات الثلاث يستدل بها العلماء على أن للشفاعة شرطين: أولهما: إذن الله للشافع أن يشفع. ثانيهما: رضاه عن المشفوع له. انظر: فتح المجيد ص 211. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 689 نالهم من ذلك، فيأذن في الشفاعة للملائكة والأنبياء والشهداء والعلماء، فيخرجون بشفاعتهم، فإذا نظر الكفار إليهم قد خرجوا قالوا: فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ويودون لو كانوا مسلمين، قال الله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} 1، فيكبكبون هم وآلتهم فيها قال الله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ، قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} إلى قوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} 2. وقال الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 3 وهذه الآيات كلها تدل على ثبوت الشفاعة. وروى يزيد الفقير4 قال: "كنا بمكة من قطانها وكان معي أخ لي يقال له طلق بن حبيب5، وكان يرى رأي الحرورية في إبطال القول بالشفاعة، فبلغنا أن جابر بن عبد الله قدم مكة فأتيناه، فقلنا له: بلغنا عنك قول في الشفاعة، وقول الله تعالى يخالفك، فنظر في وجوهنا وقال: من أهل العراق أنتم؟ فقلنا: نعم، فتبسم وقال: أين تجدون ذلك في كتاب الله؟   1 الحجر آية (2) ، وقد ذكر ابن جرير - رحمه الله - في معنى الآية أن هذا القول يقوله المشركون إذا أخرج عصاة الموحدين من النار، فذكر نحو ما ذكر هنا ونقل هذا عن أبي موسى وأنس بن مالك وابن عباس - رضي الله عنهم - وعن غيرهم من التابعين. تفسير ابن جرير 14/2 - 4، وانظر: الشريعة للآجري ص 335 - 337. 2 الشعراء آية (94 - 101) . 3 المدثر آية (48) . 4 هو: يزيد بن صهيب الكوفي أبو عثمان، المعروف بالفقير لأنه كان يشكو فقار ظهره، ثقة. التقريب ص 383. 5 طلق بن حبيب العنزي البصري، صدوق عابد رمي بالإرجاء، هكذا ذكر ابن حجر وذكره عن أبي حاتم وحماد وأبي زرعة وابن سعد وغيرهم، وهذا غريب فإنه ذكر هنا بأنه على رأي الخوارج، وروايات أخرى ذكرها اللالكائي أيضا فقد يكون برأي الخوارج أولا، ثم أخذ برأي المرجئة وكلا القولين على طرفي نقيض ذكر ابن حجر أن وفاته بعد التسعين. انظر: التهذيب 5/31. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 690 قال، قلنا: قال الله تعالى في كتابه: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} 1، وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} 2 وقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} 3 وأشباه هذا من القرآن، فقال جابر: أنتم أعلم بكتاب الله أم أنا؟ قلنا: بل أنت أعلم به منا، قال: فوالله لقد شهدت تنزيل هذا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد شهدت تأويله من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الشفاعة في كتاب الله لمن عقل، قال: قلنا وأين؟ قال: في سورة المدثر، فقرأ علينا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ، فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 4، ثم قال: لا ترونها5 حلت لمن لم يشرك بالله شيئا"6. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وأخرت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا". 7 وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله: "من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، إن   1 آل عمران آية (192) . 2 المائدة آية (37) . 3 السجدة آية (20) . 4 المدثر آية (43 - 48) . 5 في - ح - (أما ترونها) . 6 أخرجه الآجري بإسناده مثله هنا في الشريعة ص 33، وأخرج مسلم نحوه في الإيمان (ب أدنى أهل الجنة منزلا) 1/179، وأخرج اللالكائي في شرح إعتقاد أهل السنة 6/1094، نحوه عن يزيد الفقير وعن طلق بن حبيب مفرقا مختصرا. أخرجه الآجري بإسناده مثله هنا في الشريعة ص 33، وأخرج مسلم نحوه في الإيمان (ب أدنى أهل الجنة منزلا) 1/179، وأخرج اللالكائي في شرح إعتقاد أهل السنة 6/1094 نحوه عن يزيد الفقير وعن طلق بن حبيب مفرقا مختصرا. 7 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوته الشفاعة لأمته) 1/188، جه؟ كتاب الزهد باب ذكر الشفاعة 2/1440. حم 2/426، والآجري في الشريعة ص 340. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 691 أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله الله مخلصا من قبله "1. وروى أنس بن مالك وجابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"2. وروي أن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - سمع رجلا يقول: "اللهم اجعلني ممن تصيبه شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله يغني المؤمنين عن شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ولكن الشفاعة للمذنبين من المؤمنين والمسلمين"3. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيرني ربي بين أن يدخل نصف أمتي الجنة أو الشفاعة فاخترت الشفاعة"4.   1 أخرجه خ. كتاب العلم (ب الحرص على الحديث) 1/29، حم 2/373، وابن أبي عاصم في السنة 2/394، والآجري في الشريعة ص 340. 2 حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أخرجه عنه، ت. في صفة الجنة (ب من الشفاعة) 4/625 وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وأخرجه د. في السنة (ب الشفاعة) 2/9279، حم 3/213، والحاكم في المستدرك كتاب الإيمان 1/399 وقال الألباني في التعليق: حديث صحيح، أما حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - فقد أخرجه ت. كتاب صفة القيامة (ب من الشفاعة) 4/625 وقال: حسن غريب من هذا الوجه يستغرب من حديث جعفر بن محمد، وأخرجه جه. كتاب الزهد (ب الشفاعة) 2/1441، والحاكم في المستدرك في الإيمان 1/69 وقال: "صحيح على شرط مسلم" وسكت عنه الذهبي، وأخرجه الآجري في الشريعة ص 338. 3 أخرجه عنه الآجري في الشريعة ص 399 مثله، وأخرج اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1110 وفيه سقط، ورجال إسناده ثقات ما عدا الفضيل بن سليمان النميري. قال في التقريب ص 276: صدوق له خطأ كثير"، ومراده هنا بقوله: "يغني المؤمنين" أي الذين سلموا من كبائر الذنوب. 4 هذا الحديث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة من الصحابة، فقد روى من حديث عوف بن مالك، أخرجه عنه ت. صفة القيامة 4/626 وفيه زيادة "وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا"، قال الترمذي: "وفي الحديث قصة طويلة"، وأخرجه، حم 6/28 من حديث طويل، والحاكم في المستدرك كتاب الإيمان 1/66 وقال: "صحيح على شرط مسلم"، والآجري في الشريعة ص 342، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1105 كما روي عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أخرجه عنه. حم 4/404، جه. كتاب الزهد (ب ذكر الشفاعة) 2/1441، وفيه زيادة وهي "لأنه أعم وأكفى أترونها للمتقين لا ولكنها للمذنبين الخطائين المتلوثين". قال البوصيري: "هذا إسناد صحيح". مصباح الزجاجه 3/320. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 692 وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 1 قال: "هو مقام الشفاعة الذي أشفع فيه لأمتي"2. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة ويقولون لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقولون من أحق بذلك من أبيكم آدم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، فيأتون آدم صلى الله عليه وسلم فيقولون: أنت أبونا خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء3، وأسكنك جنته، اشفع لنا إلى ربك يريحنا من مكاننا، واشفع لذريتك حتى لا تحرق اليوم بالنار، فيقول: ليس ذلك إلي - وروي لست هناكم - ويذكر لهم خطيئته، ولكن ائتوا نوحاً   1 الإسراء آية (79) . 2 أخرجه ت. كتاب التفسير (ب سورة الإسراء) 5/303 حم. 2/528، 444، 441وابن جرير في تفسيره 5/146، 145، وابن أبي عاصم في السنة 2/364، واللالكائي في شرح اعقتاد أهل السنة 6/1114 وإسناده ضعيف فإن مداره على داود بن يزيد الأودي وهو ضعيف كما في التقريب ص 97، وله شاهد من حديث كعب بن مالك مرفوعاً: "إذا كان يوم القيامة كنت أنا وأمتي على تل فيكسوني حلة خضراء، ثم يأذن لي تبارك وتعالى أن أقول ما شاء الله أن أقول وذلك المقام المحمود". أخرجه: حم 3/456، والحاكم 4/570 وقال: "صحيح الإسناد على شرط الشيخين"، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة 2/364 وقال الألباني: "إسناده جيد ورجاله كلهم ثقات"، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1112. 3 في النسختين (أسماءه) وهو خطأ والصواب ما أثبت وكما هو عند اللالكائي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 693 فإنه أول نبي بعث الله إلى الأرض، فيأتون نوحاً فيسألونه فيقول لهم: لست هناكم ويذكر لهم خطيئته ولكن ائتوا عبداً اتخذه الله خليلاً، فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا إبراهيم أنت عبده اتخذه اله خليلا فاشفع لذرية آدم لا تحرق بالنار، فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته ولكن ائتوا عبداً اصطفاه الله بكلامه، وألقى عليه محبة منه وكلمه تكليماً، ائتوا موسى، فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول: ليس ذلك إلي - وروي - لست هناكم - ويذكر لهم خطيئته، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه، فيأتون عيسى صلى الله عليه وسلم فيقول: لست هناكم وروي - ليس ذلك إلي - ولكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال فيأتوني فيقولون: يا أحمد خلقك الله رحمة للعالمين، اشفع لنا إلى ربك فيقول: نعم أنا صاحبها، فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، ثم يفتح لي من التحميد والثناء على الرب ما لا يفتح لأحد من الخلق، ثم يقول: سل تعط واشفع تشفع فقال: يا رب ذرية آدم لا تحرق بالنار وروي أنه قال أمتي أمتي، فيقول الله: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من الإيمان أخرجوه ثم أسجد ثانياً فيفتح علي من التحميد ما لا يفتح على أحد، فيقال لي كما قيل لي في الأولة، وأقول كما قلت، فيقول الله تعالى: أخرجوا من في قلبه قيراط من الإيمان فيخرجون ما شاء الله، ثم أقع الثالثة، فأقول مثل ما قلت في الأولة والثانية، فيقال لي ما قيل لي فيهما، ثم يقول الله: اذهبوا فأخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، فيخرج منها ما لا يعلم عدده إلى الله، ثم يؤذن لآدم في الشفاعة فيشفع لعشرة آلاف ألف، ثم يؤذن للملائكة والنبيين فيشفعون حتى إن المؤمن ليشفع لأكثر من ربيعة ومضر، ولا يبقى في النار إلا من لا خير فيه"1.   1 أصل الحديث متفق عليه فقد أخرجه خ. كتاب التوحيد (ب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} 9/98، م. كتاب الأيمان (ب أدنى أهل الجنة منزلة) 1/180، والرواية هنا مأخوذة من رواية سعيد بن أبي هلال عن أنس عند الآجري في الشريعة ص 3470، ورواية قتادة عن أنس عند اللالكائي في شرح اعقتاد أهل السنة 6/1099. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 694 وروي عن المقدام1 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للشهيد عند الله تسع خصال، يغفر له بأول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى بحلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه"2. وعن عثمان - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يشفع يوم القيامة ثلاثة، الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء"3. وروى علي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ القرآن واستظهره وحفظه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار"4.   1 في النسختين (المقداد) وهو خطأ والصواب ما أثبت كما هو عند الترمذي والآجري وغيرهم. 2 أخرجه بهذا اللفظ الآجري في الشريعة ص 349 - 350 ورجال إسناده ثقات، وقد أخرجه من طريقين، الطريق الأول عن خالد بن معدان عن المقدام وخالد ثقة عابد، إلا أن روايته عن المقدام مرسلة، ذكر ابن حجر. انظر: التهذيب 3/118، أما الطريق الأخرى فهي عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - وهذا إسناد جيد موسول، وأخرجه ت. كتاب فضائل الجهاد (ب ثواب الشهيد) 4/181 عن خالد عن المقدام به، إلا أنه قال: "للشهيد ست خصال"، وقال الترمذي: "حديث صحيح غريب"، ومثله أخرجه جه. كتاب الجهاد (ب فضائل الشهادة) 2/935. 3 أخرجه جه. كتاب الزهد (ب ذكر الشفاعة) 2/1443، والآجري في الشريعة ص350 وسنده ضعيف فإن فيه عنسبة بن عبد الرحمن بن عنسبة الأموي، قال في التقريب ص 266: "متروك رماه أبو حاتم بالوضع". 4 أخرجه ت. كتاب فضائل القرآن (ب ما جاء في فضل قارئ القرآن) 5/171، قال الترمذي: "هذا جديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس له إسناد صحيح"، وأخرجه جه. في المقدمة (ب فضل من تعلم القرآن وعلمه) 1/78، واخرجه حم. 2/312 - 319 بتحقيق الشيخ أحمد شاكر وقال في تعليقه: "إسناده ضعيف جدا وعلته ضعيف أبي عمر حفص القارئ"، وأخرجه الآجري في الشريعة ص 350. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 695 ومن الدليل على ما ذكرناه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على المذنب وعلى غير المذنب من أمته، وكذلك أصحابه وإلى يومنا هذا، فلو كان الميت المذنب لا يشفع فيه ولا ينفعه الدعاء لما كان للصلاة عليه معنى. فإن قيل: فقد رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من الصلاة على من عليه درهمان ديناً1، فلو قبلت شفاعته في الكبائر لكان في الدرهمين أولى. والجواب: أن هذا كان في أول الإسلام، ثم بعد ذلك لم يمتنع من الصلاة على أحد، فما داوم عليه من الفعل أولى. ويحتمل أن يكون امتناعه من الصلاة عليه ليعلمهم أن حقوق بني آدم لا بد من قضائها، وأن السيئات التي بين العبد وبين الله إذا غفرها الله فإنه يبدل السيئات حسنات، ومن مات وعليه دين فإنه يؤخذ من حسناته وتجعل لمن له الدين، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يصلوا على ذلك الميت. وقال: "صلوا على صاحبكم" 2، فلو لم تنفعه صلاتهم عليه لكان أمره لهم بالصلاة عبثا.3   1 روى الحاكم وغيره عن جابر - رضي الله عنه - قال: "مات رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه فجاء معنا خُطَىَ ثم قال: لعل علي صاحبكم ديناً، قالوا: نعم ديناران، فتخلف، فقال له رجل منا يقال له أبو قتادة: يا رسول الله هما عليّ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هما عليك وفي مالك والميت منهما بريء فقال: نعم فصلى عليه. . . " الحديث. المستدرك 2/58. وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وأخرجه حم. 3/330 قال الألباني في أحكام الجنائز ص 16: "إسناده حسن". 2 ورد هذا في رواية سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة ليصلى عليها فقال: هل عليه من دين فقالوا: لا فصلى عليه ثم أتي بجنازة أخرى فقال: هل عليه دين قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: عليّ دينه يا رسول الله، فصلى عليه". أخرجه خ. في الكفالة (ب من تكفل عن ميت ديناً" 3/84. 3 قال ابن القيم - رحمه الله -: "وكان إذا قدم عليه ميت يصلي عليه سأل هل عليه دين أم لا؟، فإن لم يكن عليه دين صلى الله عليه وسلم عليه، وإن كان عليه دين لم يصل عليه، وأذَن لأصحابه أن يصلوا عليه، فإن صلاته شفاعة وشفاعته صلى الله عليه وسلم موجبة، والعبد مرتهن بدينه ولا يدخل الجنة حتى يقضى عنه، فلما فتح الله عليه كان يصلي على المدين ويتحمل دينه، ويدع ماله لورثته". انظر: زاد المعاد 1/504. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 696 ومن الدليل على ما ذكرناه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قل: "يخرج الله قوماً من النار بعد ما محشتهم النار بشفاعة الشافعين فيدخلهم الجنة فيسمون الجهنميين"1، وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم "يخرجون منها ضبائر ضبائر2فيلقون على نهر الحياة فينبتون كما تنبت الطراثيث3 والحبة في حميل السيل فيدخلون الجنة مكتوباً على جباههم4 الجهنميون - وروي مكتوباً عليهم - عتقاء الله من النار"5. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آخر من يخرج من النار رجل يقول فيها يا حنان يا منان" 6.   1 أخرجه حم. 5/402، وابن خزيمة في التوحيد ص 275، والآجري في الشريعة ص 346، وابن أبي عاصم في السنة 2/402 كلهم من حديث حذيفة - رضي الله عنه -، قال الألباني في التعليق على كتاب السنة لابن أبي عاصم: "إسناده حسن رجاله ثقات رجال مسلم على كلام في حماد بن أبي سليمان، ولكنه توبع من أبي عوانة عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة به، كما في مسند الطيالسي". 2 قال ابن الأثير: "ضبائر ضبائر: هم الجماعات في تفرقة واحدتها صبارة مثل عمارة وعمائر، وكل مجتمع ضبارة". النهاية 3/71. 3 الطراثيث جميع طرثوث وهو نبت رملي طويل مستدق كالفطر. انظر: اللسان 4/2650. 4 في - ح - (وجوههم) . 5 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب إثبات الشفاعة. . .) 1/172، جه كتاب الزهد (ب الشفاعة) 2/1441، حم 3/78 من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - نحوه، وليس في شيء من روايات الحديث قوله: "مكتوباً على جباههم الجهنميون، أو عتقاء الله من النار"، وإنما ورد ذلك في حديث الرؤسة الطويل عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وجاء فيه قوله: "فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عقتاء الله. . . " خ. كتاب التوحيد (ب وجوه يومئذ ناضرة) 9/105. وروى من حديث جابر عند الإمام أحمد في الشفاعة (فيكتب في رقابهم عتقاء الله عز وجل) ، حم 3/325، ونحوه عند اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1094. 6 هذا معنى ما روى الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لم يذكر أنه آخر أهل النار خروجاً. انظر: حم 3/230، واخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص 316. وإسناده ضعيف فإن فيه أبو ظلال هلال بن أبي هلال القسملي الراوي عن أنس - رضي الله عنه -، قال عنه ابن حجر: "ضعيف". انظر: التقريب ص 366. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 697 والأخبار في الشفاعة كثيرة وإن اختلفت ألفاظها، إلا أنها متفقة المعنى وأطبق سلف هذه الأمة على تصحيح هذه الروايات، لم ينكرها أحد من الصحابة والتابعين، ولو كانت غير صحيحة لكان الصحابة والتابعون1 أشد إنكاراً لها من المعتزلة، ولو كان ذلك لنقل عنهم كما نقل عنهم الاختلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه2 بعيني رأسه، وكما نقل عنهم الخلاف في المسائل الفقهية. وقد احتجت المعتزلة بخبر يروونه عن الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تنال الشفاعة أهل الكبائر من أمتي". قلنا: هذا خبر لم يذكره أحد من أئمة الحديث، ولا ذكر في شيء من الأصول المشهورة في الأمصار كمسلم، والبخاري، وسنن أبي داود والترمذي والآجري، وإنما ذكرته المعتزلة ليرو أتباعهم أن معهم رواية يعارضون بها الأخبار المشهورة عند أهل السنة3، مع أنا نحمل هذه الرواية على المرتدين من أمتي لأنهم كانوا من أمته فاستصحب الاسم فيهم4. فإن قالوا: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تحسى سماً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً". وروي مثله فيمن قتل نفسه بحديدة أو تردى من جبل5.   1 في الأصل، (والتابعين) وما أثبت من - ح - وهو الصواب. 2 في الأصل هكذا (الاختلاف في رواية النبي صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه) وما أثبت من - ح -. 3 قال أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب ص 122 عن هذا الحديث: إنه من أكاذيب المعتزلة. 4 لا يحتاج هذا التأويل مع سقوط الحديث. 5 هذا ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أخرجه خ. كتاب الطب (ب من شرب السم والدواء به) 7/121، م. كتاب الأيمان (ب تحريم قتل الإنسان نفسه. . .) 1/104. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 698 وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق الوالدين"1. قلنا: هذه الأخبار محمولة على من فعل هذه المعاصي وهو مستحل لها، لأنه يكون كافراً بدليل الأخبار الثابتة في الشفاعة2.   1 ورد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بروايات عدة منها حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: "لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولديه ولا مدمن خمر". أخرجه حم. 2/203، 201، دي، كتاب الأشربة (ب في مدمن الخمر) 2/112، كما روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - نحوه. أخرجه عنه، حم. 2/28، ن. كتاب الزكاة (ب المنان بما أعطى) 5/80. والحاكم في المستدرك كتاب الأشربة 4/147 وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. 2 الذي اتفق عليه السلف أن العاصي من أهل الملة لا يخلد في النار خلود الكافرين لما تقدم من الآيات والأحاديث الدالة على خروجهم من النار وهي آيات محكمة وأحاديث صحيحة، وجاءت أحاديث أخرى تبين الخلود في النار وتحريم الجنة على بعض مرتكبي الكبائر. والذي عند العلماء في هذا الحمع بين جميع الأدلة وعدم رد شيء منها كما يفعل المعتزلة والخوارج الذين يردون أحاديث الشفاعة والخروج من النار، أو المرجئة الذين يردون أحاديث الوعيد. وقد اختلف العلماء في بيان المعنى المراد من مثل هذه الأحاديث إلى أقوال: القول الأول: ما حكاه المصنف هنا وهو أنها تحمل على المستحل لها وهو كفر مخرج من الملة فيكون مستحقاً للخلود في النار. القول الثاني: إنها محمولة على أنها وردت مورد التغليظ وحقيقتها غير مرادة وقد استنكر كثير من العلماء هذا القول لأنه جععل الخبر الوارد عن الله ورسوله في هذه المعاصي وعيداً لا حقيقة له، وهذا يؤدي إلى إبطال العقاب لأنه إن أمكن في واحد أمكن في العقوبات كلها. القول الثالث: إن المراد بالخلود طول المدة لا حقيقة الدوام كانه يقول يخلد مدة معينة، وقد استعبده ابن حجر. القول الرابع: إن المراد أن هذا جزاؤه لكن قد تكرم الله على الموحدين فأخرجهم من النار بتوحيدهم. القول الخامس: إن الحديث فيه تقدير وهو أنه مخلد فيها إلا أن يشاء الله عز وجل. أما ما ورد فيه بلفظ لا يدخل النار فللعلماء فيه أقوال: القول الأول: إنه يحمل على المستحل لذلك. القول الثاني: إنه لا يدخلها دخول الفائزين. القول الثالث: إنه لا يدخل بعض الجنان التي لأهل الصلاح والتقى. القول الرابع: إنه لا يدخل الجنة في الوقت الذي يدخلها من لم ترتكب تلك الموبقات. القول الخامس: إن هذا عقابه عدم دخول الجنة إلا أن يشاء الله أن يعفو ويصفح. وأرجح هذه الأقوال هو قول من قال إنها تحمل على المستحل، أو أنها تحمل على أن هذا عقابه، إلا أن يعفو ويتكرم فيغفر ذلك، أما ما عداها فإن الضعف فيه ظاهر، والله أعلم انظر في هذا: التوحيد لابن خزيمة ص 367 - 373، فتح الباري 3/227، صحيح مسلم بشرح النووي 1/113، 125. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 699 فإن قالوا فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يسرق السارق وهو مؤمن ولا يزني الزاني وهو مؤمن "1. وكيف يشفع النبي صلى الله عليه وسلم لغير المؤمن. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس منا من بات بطيناً وجاره خميصاً".2 "ومن غشنا فليس منا"3.   1 أخرجه خ. كتاب المظالم (ب النهب بغير إذن صاحبه) 3/118، م. كتاب الإيمان (ب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي) 1/76 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. 2 لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإنما ورد بلفظ: "ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع"، وهو حديث ابن عباس أخرجه عنه الطبري في المعجم الكبير 12/154، والحاكم في المستدرك 4/167 وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان ص 33، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/167: "رواه الطبراني وأبو يعلى ورواته ثقات"، وكذلك قال المنذري في الترغيب والترهيب 3/358 وورد بلفظ: "ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به"، وهو حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، أخرجه الطبراني في الكبير 1/259والبزار. انظر: كشف الأستار 1/76، وحسن الحديث المنذري في الترغيب والترهيب 3/358. وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 1/69. 3 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب قول النبي صلى الله عليه وسلم من غشنا. . .) 1/99، د. في البيوع، (ب النهي عن الغش) 2/99. جه. في التجارات (ب النهي عن الغش) 2/749. حم. 2/417 كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 700 والجواب: أن نقول: إن السارق والزاني يفارقهما إيمناهما حين السرقة وحين الزنا، ثم يرجع إليهما لأنه روي أنه قال:"لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن". ويحمل أنه عبر ذلك عن نقصان إيانه، ويحتمل أنه أخرجه مخرج التغليظ والمبالغة في الزجر عن هذه المعاصي كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"1، و"ولا إيمان لمن لا أمانة له"2، 3.   1 أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب الصلاة 1/246، والدارقطني في سننه 1/420 من حديث جابر - رضي الله عنه -، وقال في التعليق المغني: "فيه محمد بن مسكين"، قال الذهبي: "لا يعرف وخبره منكر" وضعف الحديث العقيلي. كما روي عندهما من حديث أبي هريرة وفيه سليمان بن داود اليمامي. قال بن معين: "ليس بشيء"، وقال البخاري: "منكر الحديث". انظر: التعليق المغني على الدارقطني 1/420، وضعف الحديث الألباني. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/217. 2 أخرجه حم. 3/135، 154، والبغوي في شرح السنة 1/75، وابن أبي شيبة في الإيمان ص 5 من حديث أنس - رضي الله عنه -. وحسن الحديث البوصيري، وكذلك الألباني في التعليق على كتاب الإيمان لابن أبي شيبة ص 5. 3 الذي تقرر عند السلف أن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وسيأتي تقريره من كلام المصنف وأن المسلم لا يكفر بارتكاب كبيرة، ولا يخرج من الإسلام بفسق. واختلفوا في بيان معنى الأحاديث الواردة في مرتكبي الكبائر بنفي الإيمان عنهم. فالذي عليه كثير من العلماء أن المنفي هو كماله، وبعضهم يمر الروايات كما جاءت من غير تعرض لتأويلها ليكون أبلغ في الزجر، وهو مروي عن الزهري. وكذلك الإمام أحمد، ونسبه ابن حجر إلى كثير من السلف. أما الحديث المذكور هنا "لا يزني الزاني وهو مؤمن". فمنهم من قال: إن المنفي عنه هنا الكمال الواجب، وهو قول أبي عبيدة في كتابه الإيمان، ومنهم من قال: يرتفع عنه حال الفعل لورود الحديث بلفظ: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن". ويؤيد ما ورد من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان كان عليه كالظلة فإذا انقطع رجع إليه الإيمان". أخرجه د. كتاب السنة (ب زيادة الإيمان ونقصانه) 2/270. والحاكم في المستدرك 1/22، وقال: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي. وهو قول مأثور عن ابن عباس وعطاء وطاووس والحسن والإمام أحمد - رحمهم الله تعالى -. ومنهم من قال: إنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، وهو مروي عن أبي جعفر الباقر، ورواية عن الإمام أحمد. أما قول المصنف هنا يحمل على التغليظ والمبالغة في الزجر، فقد نسبه ابن حجر إلى الطبي، واستنكر هذا القول أبو عبيد في كتابه الإيمان، لأنه يؤدي إلى أن يجعل الخبر عن الله وعيداً لا حقيقة له. وأرجح الأقوال في هذا القول الأول بدلالة اللغة عليه، وإجماع العلماء على عدم كفر مرتكب الكبيرة، قال النووي - رحمه الله -: "فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله، ومختاره كما يقال لا علم إلا ما نفع ولا مال إلا الأبل ولا عيش إلا عيش الآخرة، وإنما تأولناه على ما ذكرنا لحديث أبي ذر وغيره:"من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق"، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح والمشهور: "أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا ولا يعصوا. . . " إلى آخره، ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: "فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئاً من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله تعالى عفا عنه وإن شاء عذبه"، فهذان الحديثان ونظائرهما في الصحيح مع قول الله عزوجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء آية48 مع إجماع أهل الحق أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان إن تابوا أقسطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولا، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة. وكل هذه الأدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه، ثم إن هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها كثير، وإذا ورد حديثان مختلفان ظاهراً وجب الجمع بينهما وقد وردا هنا فيجب الجمع وقد جمعنا. ثم ذكر - رحمه الله - الأقوال السابق ذكرها عن العلماء في وجه معنى الأحاديث شرح مسلم للنووي 2/41 - 42 وهو موجود على هامش نسخة - ح - بنصه من شرح مسلم، ونظر في هذا: الإيمان لأبي عبيد 84 - 98، فتح الباري 12/60 - 62، مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص 306 - 322. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 701 وقوله: "ليس منا من بات بطيناً وجاره خميصاً" و"ومن غشنا فليس منا " أي ليس من أخلاقنا1.   1 قال أبو عبيد في الإيمان له ص 92 في معنى هذا الحديث: "لا نرى شيئا منها يكون معناه التبرؤ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من ملته، إنما مذهبه عندنا أنه ليس من المطيعين لنا ولا من المقتدين بنا ولا من الحافظين على شرائعنا وهذه النعوت وما أشبهها"، وروي عن السلف حمله على ظاهره. فقد روى الإمام أحمد عن الزهري أنه سئل عن معنى قول النبي صلىالله عليه وسلم: "ليس منا من لطم الخدود" وما أشبهه فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال: "من الله عز وجل العلم وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم". وروي عن الإمام أحمد أنه قال في هذا الحديث: "على التأكيد والتشديد ولا أكفر أحداً إلا بترك الصلاة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 702 مع أنا نعارضه بما روي أبو الدراداء أن البي صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" قال، قلت يا رسول الله: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، فرددت عليه ذلك حتى قال في الثالثة: نعم، وإن رغم أنف أبي الدرداء".1 فإن قالوا: ما معنى قوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى} قلنا: معناه لا يشفعون إلا لمن رضي عمله من الموحدين. فإن قالوا: فما معنى قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ} 2. قلنا: أراد بالظلم هناهنا الكفر لقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3. فإن قالوا: فما أنكرتم أن4 تكون الأخبار الواردة في الشفاعة من النبيين والملائكة مستحقة للمؤمنين الذين تابوا من الذنوب على وجه الجزاء على أعمالهم وطاعتهم، لأن الله تعالى قال: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} 5.   1 أخرجه حم. 6/442 وعزاه الهيثمي إلى البزار والطبراني في الكبير والأوسط، وقال: "إسناد أحمد أصح وفيه ابن لهيعة وقد احتج به غير واحد". مجمع الزوائد 1/16، ورواية البزار في كشف الأستار 1/11، والحديث متفق عليه من رواية أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - أخرجه خ. في الجنائز (ب من كان آخر كلامه لا إله إلا الله) 2/63، م. في الإيمان (ب من مات لا يشرك بالله شيئا) 1/94. 2 غافر آية (18) . 3 لقمان آية (13) . 4 في الأصل (عن أن) وما أثبت كما في - ح - وهو الأصوب. 5 غافر آية (7) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 703 فأما أن يشفعوا لأهل الكبائر الذين ماتوا مصرين عليها فلا يجوز أن يكون المراد بذلك الشفاعة لمؤمنين الذين ماتوا ولا ذنوب لهم، فتكون الشفاعة زيادة لهم1 في النعم على ما يستحقونه بأعمالهم، ويجوز أن يكون المراد بالشفاعة لأه الصغائر الذين واقعوها مع اجتنابهم الكبائر. والجواب: أن هذا تبديل لا تأويل، لأن الأخبار المروية أنه يخرج من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان2، وفي بعض الروايات "من قال لا إله إلا الله"3، وهذا يدل على أنه لم يعمل شيئا من الطاعات المأمور بها مثل الصلاة4 والزكاة وغيرهما5. وأما الآية التي ذكروها فإن المراد بها التوبة من الكفر بدليل قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ، وكذلك قوله تعالى: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} . وسبيل الله هو الإسلام بدليل قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} . وأما قولهم إنهم يستغفرون لأهل الصغائر أو لمن لا ذنب له، فعندهم أن الله إن6   1 في الأصل (في زيادة) وفي - ح - كما أثبت. 2 تقدم هذا من حديث أنس في الشفاعة. انظر: ص 549. 3 تقدم ذكر هذه الرواية في التعليق ص 682 رقم 6. 4 هذا على قول من يرى أن ترك الصلاة ليس كفرا مخرجا من الملة وستأتيت الأقوال ص 754. 5 وقد يأتي الإنسان المسلم بهذه الأشياء ويأخذ أجرها الدائنون يوم القيامة، كما ورد في حديث المفلس الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلس قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليهم ثم طرح في النار". أخرجه م. في البر والصلة. (ب تحريم الظلم) 4/1997، ت في صفة القيامة 4/613. (أن) - غير موجوده في الأصل، وهي في - ح -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 704 عذبهم على الصغائر ظلمهم1، ومن لا تستحق عليه العقوبة على الصغير أو من لا ذنب له لا معنى للشفاعة له، لأن الشافع يقول يا رب لا تظلمه ولا تعذبه على ما لا يستحق العذاب عليه، وهذا لا يليق بالنبيين والملائكة، فثبت أنهم إنما يشفعون لمن استحق العقاب من الموحدين فإن قالوا: فقولوا: إنهم يشفعون للكفار2 وإن لله يوصف بأن3 يدخل الكفار الجنة. والجواب: أنا نقول: أما في العقل فلا يستحل أن الله يدخل الكفار الجنة، لأن ذلك إنعام من الله وتفضل على خلقه، وقد أنعم عليهم في الدنيا والداران مكله، فما لم يستحل منه في الدنيا لم يستحل منه في الآخرة، إلا أن القرآن والسنة قد وردا بخلاف ذلك، فأخبر أنه لا يغفر لمن أشرك به، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخلهم الجنة ولا تنفعهم شفاعة الشافعين، واجمعت الأمة على قبول هذه الأخبار وموجبها. فإن قالوا: فإذا كانت الشفاعة تقبل في أهل الكبائر، فمات تقولون فيمن حلف بطلاق امرأته ثلاثاً ليعمل ما تنال به الشفاعة، فما تأمرونه بعمل لئلا تطلق عليه امرأته، أتأمرونه أن يعمل بالمعاصي، فهذا لا يجوز، أم لا تأمرونه بذلك؟ فما المخرج له حتى لا تطلق عليه امرأته؟. فالجواب: أنا لا نأمره بعمل المعصية وإنما نأمره بالإرزاء4 بهذا السائل، لأنه أورد سؤاله هذا على سبيل الشناعة لجهله بالأخبار الواردة في الشفاعة، ونأمره بأن يتعلم الرد على القدرية والإستقامة على الإيمان، لأن ذلك طاعة لله والشفاعة إنما هي للمؤمنين على ما ابتلوا به من المعاصي،   1 انظر: حكاية هذا عنهم فيما تقدم ص 668. 2 في الأصل (بالكفار) وما اثبت من - ح -. 3 هكذا في كلا النسختين. 4 الإزراء: الإنتقاض. انظر: اللسان 3/1634. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 705 ولا يخلوا أحد من المعاصي. قال النبي صلى اله عليه وسلم: "ما منا إلا من عصى أو هم بمعصية إلا يحيى ابن زكريا"1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن إلا وله ذنب قد اعتاده الفينة بعد لفينه ثم يتوب "2. أي الحين بعد الحين.   1 أخرجه حم. من حديث ابن عباس مرفوعاً ولفظه: "ما من أحد من ولد آدم إلا قد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا". أخرجه في مواضع من مسنده 4/260، 240، 228، 80 بتحقيق أحمد شاكر، والحاكم في المستدرك كتاب التاريخ 2/591 وسكت عنه، وأخرجه الطبراني في الكبير 2/216، والبزار من حديث طويل. كشف الأستار 3/108، وابن عدي في الكامل 5/1843 ومدار هذه الرواية على علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس، وعلي ضعيف كما في التقريب ص 246 وللحديث طريق آخر عن ابن عباس من راوية محمد بن عون الخراساني عن عكرمة عنه، أخرجها البزار. انظر: كشف الأستار 1/109، وابن عدي في الكامل 6/2248 وعلة هذه ما يرويه لا يتابع عليه. وقال ابن حجر عنه: "متروك". انظر: التقريب ص 314، وللحديث شاهد جيد من حديث سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمر وأخرجه البزار. انظر: كشف الأستار 3/109 قال الهيثمي: "إسناده ثقات". انظر: مجمع الزوائد 8/209. وأخرجه الحاكم عن الحسن مرسلاً بإسناد جيد المستدرك 2/591 ولعله الذي عناه الذهبي في تلخيص المستدرك بعد أن ذكر رواية الحسن ورواية علي بن زيد عن ابن عباس قال: "إسناده جيد"، والله أعلم. 2 أخرجه الطبراني الكبير 11/304 من حديث عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ورجاله ثقات ما عدا شيخ الطبراني في الكبير، الحسين بن العباس الرازي لم أجده، وذكر الحديث الهيثمي وقال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط وأحد أسانيد الكبير رجاله ثقات"، وله السياق. مجمع الزوائد 10/201. وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس. انظر: فردوس الأخبار 4/311، وأخرجه القضاعي في مسنده 2/24 من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس وفي إسناده عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني، قال الدارقطني: "كذاب". انظر: الميزان 3/495، وقد رمز السيوطي للحديث بالحسن. انظر: الجامع الصغير ومعه فيض القدير 5/491 وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 5/172. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 706 وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن خلق مفتناً" 1أي ممتحناً يمتحنه بذنب ثم يتوب ثم يعود في الأحاديين ثم يتوب. وأيضاً فإنا قد روينا أن للنبي2 صلى الله عليه وسلم شفاعة في جميع الخلق من النبيين وغيرهم في فصل القضاء يوم القيامة، وهذا المخالف من جملتهم. فإن قالوا: إذا قلتم إن النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة في أهل الكبائر من أمته فقولوا إنه يشفع لمن نفى شفاعته وأبطلها. فالجواب: أنا نقول إنه لا يشفع فيمن نفى شفاعته لمعنيين: أحدهمما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كذب بالشفاعة لم ينلها "3. والثاني: أن من كذب بالشفاعة فقد رد الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فصار كمن رد على النبي صلى الله عليه وسلم قوله، فصار بذلك كافراً لأنه أبطل شرف النبي صلى الله عليه وسلم الذي خصه الله به في القيامة.   1 هذا بعض الحديث المتقدم عن ابن عباس عند الطبراني في الكبير، كما أخرجه الطبراني في الكبير 10/342، وابن عدي في الكامل 3/958 - 959، وأبو نعيم في الحلية 3/211 والديلمي في مسند الفردوس. انظر: فردوس. الأخبار 1/236 وهو من رواية داود بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده مرفوعاً: "إن المؤمن خلق مفتناً" الحديث، قال أبو نعيم: "هذا حديث غريب من حديث داود بن علي عن أبيه عن جده. لا أعلم أحداً رواه غير ابن نمير عن عتبة به"، وقال ابن عدي في داود بن علي: "عندي أنه لا بأس برواياته عن أبيه عن جده، فإن عامة ما يرويه عن أبيه عن جده". 2 في الأصل (عن النبي) وما أثبت من - ح - وهو أقوم للعبارة. 3 أخرجه الآجري في الشريعة ص 337 عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - موقوفاً بلفظ: "من كذب بالشفاعة فليس له فيها نصيب" ونسبه ابن حجر في الفتح إلى سعيد بن منصور في سننه وقال: "سنده صحيح". فتح الباري 11/426. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 707 109 - فصل وعند أهل الحديث أن العذاب في القبرحق، وأن مسألة منكر ونكير في القبرحق على ما جاء في الأخبار. وأنكر المعتزلة وأهل الزيغ ذلك كله1. ودليلنا قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} 2، قال أهل التفسير: تثبيتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا هو قول لا إله إلا الله وفي الآخره عند المسألة في القبر3. وروى البراء بن عازب قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمَّا يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير، وبيده عود ينكت به الرض، ثم رفع رأسه وقال: "استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً ثم قال: إن المؤمن إذا   1 عذاب القبر حق ثابت وبهذا قال أهل السنة وأكثر الفرق الإسلامية، ولم يخالف في ذلك إلا ما يحكى عن ضرار بن عمرو كان من المعتزلة ثم ترك قولهم، أما المعتزلة فإنهم على إثباته كما حكى ذلك عن نفسه وأسلافه القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة ص 730، وقال ابن حزم: "ذهب ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر وهو قول من لقينا من الخوارج، وذهب أهل السنة وبشر بن المعتزلة والجبائي وسائر المعتزلة إلى القول به، وبه نقول لصحة الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك". الفصل في الملل والنحل والأهواء 4/66، ونسب أبو الحسن الأشعري في المقالات 2/116 نفي عذاب القبر إلى المعتزلة والخوارج، كما نسبه البغدادي في أصول الدين ص 245 إلى الجهمية والضرارية، ونسب الملطي في التنبيه والرد على أهل الأهواء ص 124 إلى جهم بن صفوان إنكار عذاب القبر ومنكر ونكير. والأرجح بالنسبة للمعتزلة حكاية القاضي عبد الجبار عن نفسه وأسلافه إذ هو أخبر بذلك وأعرف، كما أنه قد بين أن ابن الراوندي هو الذي كان يشنع عليهم إنكار عذاب القبر وعدم الإقرار به، كما أنه أورد الأدلة على إثباته من القرآن والسنة، والله أعلم. 2 إبراهيم آية (27) . 3 أسند هذا القول ابن جرير إلى طاووس وقتادة وهو الذي رجحه، وذكر قولا آخر وهو أن المراد بالحياة الدنيا المسألة في القبر وفي الآخرة المراد بها عند التثبت الحساب، وعزا هذا القول إلى البراء ابن عازب - رضي الله عنه -. تفسير ابن جرير 23/213. وانظر: تفسير القرطبي 9/363. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 708 كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يقعدوا منه مد النظر1، ثم يجيء ملك الموت فيقعد عند رأسه فيقول: "أيتها النفس المطمئنة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفه عين حتى يأخذوها ويجعلونها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، فتخرج منه كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: هذا فلان بن فلان بأحسن أسمائه الذي كان يسمى بها في الدنيا، حتى يصعد إلى سماء الدنيا فيستفتح له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى تنتهي إلى السماء السابعة، فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة، واعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان ويقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ويقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله فيقولان له: ما علمك2؟ فيقول: قرأت كتاب الله، وآمنت به وصدقت. فينادي مناد في السماء صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من طيبها وروحها ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: ابشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت فوجهك وجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: يا رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي. وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه   1 هكذا في الأصل، وفي - ح - (البصر) . 2 في - ح - ما عملك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 709 ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتتفرق في جسده فيخرجها تتقطع معها العروق والعصب كما ينزع السّفود من الصوف المبلول فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يدها طرفة عين حتى يأخذوها يجعلوها في تلك المسوح فتخرج كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون على ملآ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟، فيقولون: هذا فلان بن فلان بأقبح أسمائه الذي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى سماء الدنيا، فيستفتحون له فلا يفتح له، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} 1، قال: فيقول الله اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدوهم ومنها نخرجهم تارة أخرى، قال: فتطرح روحه ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 2 فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ها3 لا أدري، فيقولان له ما دينك؟ فيقول هاها4 لا أدري، فينادي مناد من السماء، افرشوا له من النار وألبسوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه في قبره حتى تختلف عليه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب نتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسؤوك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك وجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث فيقول: رب لا تقم الساعة"5.   1 الأعراف آية (40) . 2 الحج آية (31) . 3 في - ح - (هاه هاه) . 4 في - ح - (هاه هاه) . 5 أخرجه د. في السنة (ب في المسئلة في القبر) 2/281 مختصراً، وأخرجه بطوله حم. 4/287، والحاكم في المستدرك كتاب الإيمان 1/37 وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 3/580، والآجري في الشريعة ص 367 وصحيح الحديث ابن القيم ورد على من ضعفه، ونقل عن أبي نعيم تصحيحه، وعن أبي موسى الأصبهاني أنه حسنه. انظر: تهذيب سنن أبي داود بهامش مختصر السنن 7/139 - 141، وصححه الألباني في تعليقه على شرح الطحاوية ص 449. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 710 ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} .1 وروى أبو هريرة وأبو سعيد الخدري - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير هذه الآية قال: "هو الكافر يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه اضلاعه وذلك المعيشة الضنكا التي قال الله"2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل"3. وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة أو من أهل النار يقال له هذا مقعدك إلى يوم القيامة "4.   1 طه آية (124) . 2 رواية أبي هريرة أخرجها مطولة الحاكم في المستدرك كتاب الجنائز 1/379 وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، كما ذكر الرواية الهيثمي في مجمع الزوائد 3/51 وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن". أما رواية أبي سعيد الخدري فذكرها ابن كثير في تفسيره 3/169 عن ابن أبي حاتم بسنده مرفوعاً: "فإنه له معيشو ضنكا" قال: "ضمة القبر له"، وفي إسناده ابن لهيعة. وقد روي هذا عنهما موقوفاً. أخرج ابن جرير رواية أبي هريرة والحاكم في المستدرك. انظر: تفسير ابن جرير 16/227 المستدرك 1/381. أما رواية أبي سعيد الخدري فقد أخرجها ابن جرير في تفسيره 16/227، وعبد الرزاق في مصنفه 3/584 وإسنادها جيد ورواتها ثقات. 3 أخرجه د. كتاب الجنائز (ب الاستغفار عند القبر للميت) 2/71 مثله، الحاكم كتاب الجنائز 1/370 كلهم من حديث عثمان - رضي الله عنه - ولفظه عند الحاكم "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة عند قبر وصاحبه يدفن، فذكره". قال الحاكم: "صحيح ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص 156. 4 أخرجه خ. كتاب الجنائز (ب الميت يعرض عليه مقعده) 2/86، م. كتاب صفة الجنة (ب عرض مقعد الميت عليه) 4/2199. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 711 وروى زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له فحادت به فكادت تقلبه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة فقال: "إن هذه الأمة لتبتلى في قبورها فلولا ألا تدافنوا دعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع منه، ثم قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر قلنا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: تعوذوا بالله من الفتن، قلنا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: تعوذوا بالله من الدجال قلنا: نعوذ بالله من الدجال"1. وروى أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى أنه يسمع خفق نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمداً صلى الله عليه وسلم، فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقولان: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة فيراهما كلاهما2، وذكر أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وأما الكافر والمنافق فيقولان له3: ما كنت تقول في هذا الرجل، فيقول: لا أدري كنت أقول كما يقول الناس، قال فيقال له: لا دريت ثم يضرب بطراق من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة فيسمعه من يليه غير الثقلين، فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه"4. وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبيرة أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر   1 أخرجه م. كتاب صفة الجنة (ب عرض مقعد الميت عليه) 4/2200، حم 5/190واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1131. 2 هكذا في النسختين وكذلك عند اللالكائي وعند الآجري في الشريعة (فيراهما كليهما) . 3 في الأصل (فيقول له) وفي - ح - (فيقولان ما كنت) . 4 أخرجه خ. كتاب الجنائز (ب ما جاء في عذاب القبر) 2/86، م. كتاب صفة الجنة (ب عرض مقعد الميت عليه ... ) 4/2200 مختصراً إلى قوله: (سبعون ذراعاً) ، وأخرجه الآجري في الشريعة ص 366، واللالكائي في شرح اعقتاد أهل السنة 6/1131 بطوله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 712 فكان يمشي بالنميمة، ثم أخرج جريدة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة، فقيل: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا"1. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "دخلت علي عجوز من عجائز يهود المدينة، فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم قالت: فكذبتها فخرجت، ودخل عليّ رسول الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إن عجوزاً من عجائز يهود المدينة دخلت علي فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: صدقت إنهم يعذبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم كلها، قالت: فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر"2. وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في دعائه ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وفتنة القبر ومن عذاب القبر ومن فتنة الغنى والفقر ومن شر فتنة المسيح الدجال، اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمغرم والمأثم". أخرجه البخاري ومسلم وأبو عيسى3. وفي الباب عن أنس4 وزيد ابن أرقم5.عن ميمون بن أبي ميسرة6،   1 أخرجه خ. كتاب الجنائز (ب عذاب القبر من الغيبة ... ) 2/86، م. كتاب الطهارة (ب نجاسة البول) 1/240. 2 أخرجه خ. كتاب الجنائز (ب ما جاء في عذاب القبر) 2/85 نحوه، م. كتاب المساجد (ب استحباب التعوذ من عذاب القبر) 1/411. 3 أخرجه خ. كتاب الآذان (ب الدعاء قبل السلام) 1/137، م. كتاب المساجد (ب ما يستعاذ منه في الصلاة) 1/412، ت. كتاب الدعوات (ب منه) 5/525. 4 حديث أنس أخرجه خ. كتاب الدعوات (ب التعوذ من فتنة المحيا والممات) 8/66، م. كتاب الذكر والدعاء (ب التعوذ من شر الفتن) 4/2079. 5 أخرجه عنه م. كتاب الذكر (ب التعوذ من شر ما عمل. . .) 4/2088. 6 هكذا في النسختين وعند اللالكائي، وذكره ابن أبي حاتم فقال ميمون بن ميسرة: "روى عن أبي هريرة روى عنه يعلى بن عطاء سمعت أبي يقول ذلك". الجرح والتعديل 8/235. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 713 قال: كان لأبي هريرة صيحتان في كل يوم، أول النهار يقول: ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار، وإذا كان العشي قال: ذهب النهار وعرض آل فرعون على النار فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله من النار"1. وعن عطاء بن يسار قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:"يا عمر كيف أنت إذا أعد2 لك أهلك ثلاثة أذرع وشبراً في عرض ذراع وشبر، ثم قام إليك أهلك فغسلوك وكفنوك وحنطوك ثم حملوك حتى يغيبوك فيه، ثم يهيلوا عليك التراب ثم انصرفوا عنك، وأتاك مسائلا القبر منكر ونكير أصواتها كالرعد القاصف وأبصارها كالبرق الخاطف وقالا: من ربك، وما دينك قال: يا نبي الله ويكون معي قلبي3 الذي هو معي اليوم؟ قال: نعم، قال: إذا أكفيكهما بإذن الله"4. وروي أن رجلا قال لأنس بن مالك - رضي الله عنه -: "إن قوماً يكذبون بالشفاعة، فقال: لا تجالسوهم، فسأله آخر وقال: إن قوماً يكذبون بعذاب القبر فقال: لا تجالسوهم"5. وروى أو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الحافظ اللالكائي في كتابه عن محمد بن نصر الصائغ6: "كان أبي مولعاً بالصلاة على الجنائز من عرف ومن لم يعرف، فقال: يا بني خرجت يوماً إلى السوق أشتري حاجة فصادفت جنازة رجل معها خلق كثيراً ما أعرف منهم أحداً،   1 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1137. 2 في الأصل (إذا عد) وما أثبت من - ح -. 3 هكذا في الأصل، وفي - ح - (عقلي) وكذلك عند الآجري. 4 أخرجه الآجري في الشريعة ص 366 وهو مرسل ورجال إسناده ثقات. 5 أخرجه اللالكائي في شرح اعقتاد أهل السنة 6/1138. 6 لم أقف له على ترجمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 714 فقلت أمضي مع هذه أصلي عليها وأقف حتى أروايها فتبعها وصلوا عليها وصليت معهم وأدخلوها المقبرة وجاؤا بها إلى قبره محفور، فنزل إلى القبر نفسان وجذبوا الميت1 فأخذوه وسرحوا عليه التراب وخرج واحد وبقي واحد وحثى الناس التراب عليه، فقلت: يا قوم يدفن حي مع ميت - لا يكون شبه لي2 - ثم رجعت فقلت: ما رأيت إلا اثنين خرج واحد وبقي الآخر، لا أبرح من هاهنا حتى يكشف الله لي ما رأيت، فجئت إلى القبر فقرأت عشرات مرات يس وتبارك وبكيت ورفعت يدي، وقلت: يا رب اكشف لي عما رأيت فإني خائف على عقلي وديني، فانشق القبر وخرج منه شخص فولى مبادرا3، فقمت وراءه وقلت: يا هذا بمعبودك إلا وقفت حتى أسألك فما التفت إلي وولى ومضيت خلفه، فقلت: يا هذا بمعبودك إلا ما وقفت حتى أسألك فما التفت إلي وولى فقلت: أنا رجل شيخ ليس بمكنتي النهوض، فبمعبودك إلا وقفت حتى أسألك فالتفت إلي وقال: نصر الصائغ؟ فقلت: نعم قال: لا تعرفني؟ قلت: لا، قال: فنحن ملكان من ملائكة الرحمة قد وكلنا بأهل السنة إذا وضعوا في قبورهم حتى نقلنهم الحجة، وغاب عني"4. وروى اللالكائي أيضا عن إبراهيم بن أدهم5 قال: "تبعت جنازة بالساحل فقلت: بارك الله لي في الموت، فقال قائل من السرير: وما بعد   (الميت) ساقطة من كلا النسختين وهي ثابتة عند اللالكائي. 2 كذا ومراده (أن يكون اشتبه الأمر عليه فظنها اثنان وهما واحد) وعند اللالكائي (ليت لا يكون شبه لي) . 3 هكذا وعند اللالكائي أيضاً ولعلها (مدبراً) . 4 انظر: شرح اعتقاد أهل السنة 6/1138 وقد رواه عن عبيد الله بن أحمد بن علي عن أبي عبد الله الصفار عن محمد الصائغ ومحمد الصائغ مجهول وأبوه لم أقف على كلام عنه إلا عند أبي حاتم حيث قال: نصر بن عمر أبو سلمة الصائغ روى عن روى عنه وكيع ويحيى الحماني سألت أبي عنه فقال شيخ. الجرح والتعديل 8/470، فإن يكن هو فهو مجهول الحال. 5 إبراهيم بن أدهم بن منصور العجلي وقيل التميمي أبو إسحاق البلخي الزاهد صدوق. توفي سنة 162 هـ - التقريب ص 18. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 715 الموت، قال إبراهيم: فدخل على منه رعب حتى ما قدرت أحمل قائمة السرير، فدفن الميت وانصرفوا، وقعدت عند القبر مفكرا في القائل من السرير وما بعد الموت، فغلبتني عيناي على ركبتي، فإذا أنا بشخص من القبر أحسن الناس وجها وأطيبه ريحا وأنقاه ثيابا وهو يقول: يا إبراهيم، قلت: لبيك فمن أنت يرحمك الله؟ قال: أنا لقائل من السرير وما بعد الموت، قلت: فبالذي خلق الحبة وبرأ النسمة وتردى بالعظمة1 إلا قلت لي من أنت، فقال: أنا السنة أكون لصاحبي في الدنيا حافظا وعليه رقيبا وفي القبر نورا ومؤنسا وفي القيامة سائقا وقائدا إلى الجنة"2. قلت: وهذا الخبر موافق للخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمل ابن آدم يأتيه على صورة شخص في القبر على ما مضى3. وذكر اللالكائي فيما روي عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "بينما أنا أسير بجنبات بدر إذ خرج رجل من الأرض في عنقه سلسلة يمسك4 بطرفها أسود في يده مرزبة فقال: يا عبد الله أسقني، قال ابن عمر: فلا أدري أعرفني أم كما يقول الرجل للرجل يا عبد الله، فقال لي الأسود: يا عبد الله لا تسقه، ثم اجتذبة جذبة ودخلا في الأرض جميعا". وفي رواية فضربه بمرزبة حتى غيبه في الأرض، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذاك فقال: وقد رأيته ذاك أبو جهل وذاك عذابه إلى يوم القيامة"5.   1 أي توشح رداء العظمة. انظر: لسان العرب 3/1630. 2 شرح اعتقاد أهل السنة 6/ 1139. 3 انظر: حديث البراء بن عازب ص 708. 4 في - ح - (ممسكاً) . 5 شرح اعتقاد أهل السنة 6/1141 وسنده ضعيف فإن فيه عبد الله بن محمد بن المغيرة الكوفي الراوي عن مالك بن مغول عن نافع به. ذكره الذهبي في الميزان، ونقل عن أبي حاتم أنه قال: "ليس بالقوي"، وقال ابن يونس: "منكر الحديث"، وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه لا يتابع عليه"، وقال النسائي: "روى عن الثوري ومالك بن مغول أحاديث كانا أتقى لله من أن يحدثا بها". ميزان الاعتدال 2/487. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 716 وروى أبو هريرة وأبو سعيد الخدري - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتدرون ما الضنك الذي قال الله؟ قلنا: الله ورسوله أعلم فقال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده أنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً. أتدرون ما التنين، قال: حيات كل حية لها تسعة وتسعون رأسا تنهشه وتلدغه حتى تقوم الساعة، ولو أن تنينا نفخ في الأرض ما أنبتت خضرا"1. وروي عن عبد الحميد بن محمود2 قال: "كنت عند ابن عباس فأتاه رجل فقال أقبلنا حجاجاً فلما صرنا في الصفاح3 توفي صاحب لنا، فحفرنا فإذا أسود قد أخذ اللحد فحضرنا آخر، فإذا الأسود قد أخذ اللحد، قال: فحفرنا قبرا آخر فإذا الأسود قد أخذ اللحد فتركناه وأتيناك فما تأمرنا؟ قال: ذلك عمله الذي كان يعمل اذهبوا فادفنوه في بعضها، فوالله لو حفرتم الأرض كلها لوجدتم ذلك، قال: فألقيناه في قبر منها فلما قضينا سفرنا أتينا امرأته فسألناها عنه فقالت: كان رجل4 يبيع الطعام فيأخذ قوت أهله كل يوم، ثم ينظر مثله من قصب الشعير فيقطعه فيخلطه في طعامه مكان ما كان يأخذ"5.   1 حديث أبي هريرة أخرجه الآجري في الشريعة ص 358، وابن جرير الطبري في تفسيره 16/228، كلهم من طريق دراج بن سمعان أبو السمح، قال أحمد عنه: "منكر"، وكذلك قال النسائي، وضعفه أبو حاتم والدارقطني، ووثقه ابن معين وأورده ابن حبان في الثقات. انظر: التهذيب 3/208، وقال ابن كثير في تفسيره 3/169: "رفعه منكر جداً"، وأخرجه البزار بنحوه. كشف الأستار 3/58، وفي إسناده محمد بن عمر فإن يكن الواقدي فهو متروك. انظر: دراج بن أبي الهيثم عن أبي الهيثم عن أبي سعيد، وهذا سند ضعيف للكلام في ابي السمح، وأيضاً روايته عن أبي الهيثم عن أبي سعيد ضعفها الإمام أحمد وأبو داود. انظر: التهذيب 3/208. 2 عبد الحميد بن محمود المعولي البصري أو الكوفي. قال النسائي: ثقة. انظر: التهذيب 6/122. 3 الصفاح: بكسر الصاد، موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة. انظر: معجم البلدان 3/412. 4 هكذا في النسختين. 5 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1143. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 717 وروى صدقة بن خالد1 عن بعض مشايخ دمشق قال: "حججنا مع محمد بن سريد الفهري2 فهلك صاحب لنا في بعض الطريق على ماء من تلك المياء قال: فأتينا أهل الماء نطلب شيئا نحفر له، فأخرجوا إلينا فأساً ومجرفة، وقالوا: نحن في هذا الموضع الذي ترون انقطاعه، وإنما وضع هذان لمثل ما طلبتم، فأعطونا عهداً لتردونهما إلينا ففعلنا، فلما وارينا صاحبنا في القبر نسينا الفأس في القبر، فأعظمنا أن ننبشه فقلنا: نرضي القوم من ثمن فأسهم، فأخبرناهم الخبر وعرضنا عليهم ثمن الفاس فأبوا أن يقبلوه، وقالوا: ليس نجد في موضعنا هذا منه عوضاً وقد أعطيتمونا ما علمتم، فرجعنا إلى القبر فنبشناه فوجدنا الرجل قد جمع عنقه ويداه ورجلاه في حلقة الفأس، فسوينا عليه التراب، وعدنا إلى القوم فأخبرناهم أنه ليس إلى الفأس سبيل وأرضيناهم من الثمن، فلما انصرفنا جئنا امرأته فسألناها عنه بما كان يخلو فيما بينه وبين الله عز وجل قالت: قد كان على ما رأيتم من حاله يحج ويغزو فلما أخبرناها الخبر، قالت: صحبه رجل معه مال فقتل الرجل وأخذ المال"3. وروى ابن عمر قال: "خرجت في سفر فرفع في الطريق إلي مقبرة، فأويت إلى امرأة فلما جن الليل سمعت صوتاً من القبر وهو يقول: شن وما شن بول وما بول، فجزعت من ذلك فقلت للمرأة: ما هذا؟ فقالت: ولدي، قدم علينا رجل في يوم شديد الحر فاستقانا فقال ولدي: قم إلى الشن فأشرب منه ولم يكن في الشن شيء، فقام ليشرب فلم يجد فيه شيئاً فمات، وكان لا يستبري من البول وكنت أنهاه عن ذلك فلا ينتهي، فلما مات دفنته في هذه فكلما جنّ الليل يصيح شن وما شن بول وما بول4،   1 صدقة بن خالد الأموي مولاهم أبو العباس الدمشقي ثقة. توفي سنة 171هـ -. التقريب ص 152. 2 محمد بن سويد الفهري صدوق توفي سنة بعد المائة. التقريب ص 300. 3 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1143. 4 لم أقف على ذكر لهذه القصة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 718 فحدثت به النبي صلى الله عليه وسلم، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر الرجل وحده1. فقيل: إنّما نهى عن ذلك عند ذكر هذه الصفة، لن ابن عمر جزع مما2 أصابه، وقيل: لأجل الرجل الذي مات من العطش، لأنه لو كان معه رفيق لأعانه على طلب الماء. وهذه الأخبار كلها وإن اختلفت ألفاظها فهي متفقه في المعنى.   1 ورد هذا من حديث ابن عمر أخرجه عنه الإمام أحمد 8/49 بتحقيق الشيخ أحمد شاكر، وقال: في تعليقه إسناده صحيح، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/104 رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. 2 في الأصل (خرجا عما) وما أثبت من - ح -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 719 110ـ فصل وعند أهل الحديث أن الحسنات والسيئات للموحدين توزن بميزان يوم القيامة، وأن الصراط حق، وأن حوض النبي صلى الله عليه وسلم حق. وأنكرت المعتزلة والقدرية وأهل الزيغ ذلك كله1.   1 اتفق أهل السنة على إثبات الوزن للحسنات والسيئات وإثبات الصراط وحوض النبي صلى الله عليه وسلم، وخالف في ذلك أو بعضه بعض أهل البدع. أما الميزان فقد نسب الملطي إلى جهم بن صفوان إنكاره، ونسب الإيجي في الموافق والقاضي أبو يعلى في المعتمد في أصول الدين إلى المعتزلة إنكاره، كما نسب إنكاره ابن حزم في الفصل إلى قوم، ونسبه أبو الحسن الأشعري في المقالات إلى أعل البدع وقال: "وحقيقة قول المعتزلة في الموازنة أن الحسنات تكون محبطة للسيئات وتكون أعظم منها، وأن السيئات تكون محبطة للحسنات أعظم منها". وقد أثبت القاضي عبد الجبار المعتزلي الإيمان بالميزان في الآخرة فقال: "أما وضع الموازين فقد صرح به الله تعالى في محكم كتابه، ثم ذكر الآيات الدالة على ذلك وقال: ولم يرد الله تعالى وقال: ولم يرد الله تعالى بالميزان إلا المعقول منه المتعارف فيما بيننا دون العدل وغيره على ما يقوله بعض الناس" شرح الأصول الخمسة - ص 735. فهذا يدل على إثباته للميزان، إلا أن مفهوم الموازنة بين الحسنات والسيئات عند المعتزلة يختلف هو عليه عند أهل السنة، بل الميزان في الواقع لا فائدة منه سوى أنه يخفف العذاب على رأي أبي هاشم وعبد الجبار المعتزلي، وعلى رأي الجبائي لا فائدة منه البتة، لأن في أصل مذهبهم أن الحسنات تحبطها السيئات الكبيرة، فمن فعل كبيرة ولم يتب فإن حسناته كلها تحبط في مقابلها ولا أمل له بالنجاة يوم القيامة. انظر: شرح الأصول الخمسة ص 643 - 644، والذي اختلفوا فيه هو هل يسقط ثواب الطاعة أجزاءه من عقاب المعصية بقدرة أم لا وهو مفهوم الموازنة عندهم، فنفى ذلك أبو علي الجبائي، وزعم أن الحسنات مهدرة أمام السيئات، وزعم أبو هاشم أنه يسقط من العقوبة أجزاء على قدر الطاعة، وهو الذي نصره عبد الجبار المعتزلي وضرب له مثلاً فقال: صورته أن يأتي المكلف بطاعة استحق عليها عشرة أجزاء من الثواب، وبمعصية استحق عليها عشرين جزءاً من العقاب، فمن مذهب أبي علي أنه يحسن من الله تعالى أن يفعل به في كل وقت عشرين جزءاً من العقاب، ولا يثبت لما كان قد استحقه على الطاعة التي أتى بها تأثير بعد ما ازداد عقابه عليه. وقال أبو هاشم: لا بل يقبح من الله تعالى ذلك ولا يحسن منه أن يفعل به من العقاب إلا عشرة أجزاء، فأما العشرة الأخرى فإنها تسقط بالثواب الذي قد استحقه على ما أتى به من الطاعة. شرح الأصول الخمسة ص 628، وهذا كله باطل وأقرب للظلم منه للعدل، فأين ثواب الإيمان وثواب الصلاة والطاعات، وهم يزعمون أن هذا كله يحبط بشربه خمر أو ما أشبهها لم يتب منها الإنسان، وما ذكروه في الواقع لا معنى له في الموازنة، لأن كفة السيئات راجحة وكذلك في حالة الطاعات كفتها راجحة، لأنه لا توجد سيئات توضع في الكفة الأخرى. وما تقدم نقله عن أبي الحسن الأشعري هو حقيقة مذهبهم. أما الصراط، فلم يذكر الأشعري خلافاً إنما اختلف في وصفه، وعزا الأيجي إنكاره إلى أكثر المعتزلة وأن الجبائي تردد فيه نفياً وإثباتاً. وذكره القاضي عبد الجبار المعتزلي وقال: هو طريق بين الجنة والنار يتسع على أهل الجنة ويضيق على أهل النار إذا راموا المرور عليه، وأنكر أن يكون الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف، كما أنكر أن يجوزه المكلفون فيكون من مرّ عليه من أهل الجنة ومن لم يتمكن فهو من أهل النار. شرح الأصول الخمسة ص 737. وهذا المعتزلي وإن كان أثبت الصراط في الجملة، إلا أنه أنكر الصفات الواردة في الأحاديث عن صفته. أما الحوض فقد ذكر أبو الحسن الأشعري أن قوماً أنكروه ودفعوه ولم يبين من هؤلاء، ولا متعلق لمن أنكره إذ هو كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم ثبتت بالأخبار الصحيحة. انظر في هذا كله: التنبيه للملطي ص 110، مقالات الإسلاميين 2/164ـ 165، الفصل لابن حزم 4/65 - 66 الموافق للأيجي ص 383 - 383، أصول الدين للبغدادي ص 175، المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص 175 - 176. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 720 والدليل على الميزان قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} 1. وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} 2، وقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُم} 3، وقوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وبحمده" 5.   1 الأنبياء آية (47) . 2 القارعة آية (6 - 9) . 3المؤمنون آية (102 - 103) . 4 الأعراف آية (8) . 5 أخرجه خ. كتاب التوحيد (ب قول الله تعالى ونضع الموازين القسط) 9/130، م. كتاب الذكر (ب فضل التهليل والتسبيح) 4/2072 وقوله "وبحمده" في آخر الحديث ليست في البخاري ومسلم وهي مثبتة عند اللالكائي 6/1171. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 721 وروي عن سلمان أنه قال: "يوضع الصراط يوما لقيامة وله حد كحد الموسا، ويوضع الميزان له كفتان لو وضع في أحدهما السموات والأرض وما فيهن لوسعهن، فتقول الملائكة: ربنا لمن تزن بهذا؟ فيقول: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: ما عبدناك حق عبادتك"1. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ملكا موكل بالميزان فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان، فإن رجح نادى الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خفت نادى الملك شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً"2. وروى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أثقل شيء يوضع في الميزان الخلق الحسن"3. وروي عن حذيفة أنه قال: "صاحب الميزان يوم القيامة جبريل يرد بعضهم على بعض، قال فيؤخذ من حسنات الظالم فترد على المظلوم، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فردت على الظالم"4. وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يصاح يوم القيامة برجل من أمتي على رؤوس الخلائق، فيؤتى به إلى الميزان فينشر له تسعة وتسعين سجلا كل سجل منها مد البصر فيها خطاياه، فيقال له: أتنكر من هذا شيئا فيقول: لا   1 أخرجه الحاكم في المستدرك 4/586 وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، والآجري في الشريعة ص 382، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1173. 2 أخرجه اللالكائي 6/1172، والبزار، وقال: "لا نعلم رواه عن ثابت إلا صالح المري ولا عن جعفر إلا صالح المري" انظر: كشف الأستار 4/160 فالحديث ضعيف جدااً لأن صالح المري هو ابن بشير أبو بشر الواعظ. قال البخاري: "منكر الحديث"، وضعفه ابن معين والدارقطني وقال أحمد: "صاحب قصص ليس هو صاحب حديث ولا يعرف الحديث". ميزان الاعتدال 2/289. 3 أخرجه د. كتاب الأدب (ب في حسن الخلق) 2/289، حم 6/442 - 446، ت. كتاب البر والصلة (ب. ما جاء في حسن الخلق) 4/362 وقال حديث حسن صحيح. 4 أخرجه اللالكائي 6/1173. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 722 يا رب، فيقول: للك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب، فيقول الله: بلى إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم اليوم عليك، فتخلاج له بطاقة بقدر أنملة فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول الرجل: ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت الطباقة"1. والبطاقة هي الرقعة الصغيرة. وروى أبو أمامة قال: "لما نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} 2 جمع النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم فأجلسهم على الباب، وجمع نساءه وأهله وأجلسهم في البيت ثم اطلع وقال: يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من الله لا يغرنكم قرابتكم مني، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، ثم أقبل على أهله فقال: يا عائشة ابنة أبي بكر، يا حفصة بنت عمر، يا أم سلمة، يا فاطمة ابنة محمد، يا أم الزبير عمة النبي صلى الله عليه وسلم، يا فلانة يا فلان اشتروا أنفسكم من الله، واسعوا في فكاك رقابكم فإني لا أملك لكم من الله شيئاً فبكت عائشة - رضي الله عنها - ثم قالت: "وهل يكون ذلك يوم لا يغني عني شيئاً؟ قال: نعم، في ثلاثة مواطن يقول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 3، وقال عز وجل: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} 4 فعند ذلك لا أغني عنكم من الله شيئاً، وعند النور من شاء الله أتم نوره ومن شاء تركه في الظلمة يَعْمَه فيها، ولا أملك لكم من الله شيئاً، وعند الصراط من شاء الله عز وجل سلمه وأجاره ومن شاء كبكبه في النار، قالت عائشة: أي حبيب قد علمنا   1 أخرجه ت. كتاب الإيمان (ب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله) 4/24 وقال: "حديث حسن غريب"، جه كتاب الزهد (ب ما يرجى من رحمة الله) 2/1437، حم 11/175 بحتقيق أحمد شاكر وقال: "إسناده صحيح"، والحاكم في المستدرك كتاب الدعاء 1/529 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 2 الشعراء آية (214) . 3 الأنبياء آية (47) . 4 المؤمنون آيتي (102 - 103) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 723 أن الميزان هي الكفتان يوضع في هذا الشيء وفي هذا الشيء فيرجح أحدهما وتخف الأخرى وقد علمنا النور والظلمة، فما الصراط؟، قال: طريق بين الجنة والنار يجوز الناس عليها وهي مثل حد الموسا والملائكة صافين يميناً وشمالاً يتخطفونهم بكلاليب مثل شوك السعدان، يقولون: رب سلم رب سلم1 وأفئدتهم هواء، فمن شاء سلمه ومن شاء كبكبه"2. وأما الدليل على الحوض، فما روى ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر حوضه، فقلت: يا رسول الله من أول الناس وروداًله؟ قال: المهاجرين3 الشعثة رؤوسهم، الدنسة ثيابهم، الذين لا تفتح لهم السدد، اولا ينكحون المنعمات"4.   1 هكذا العبارة في النسختين ومصادر الرواية. 2 أخرجه الطبراني في الكبير 8/268، والآجري في الشريعة ص 385 وهو ضعيف فإنه من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة به، قال ابن عدي عن عثمان: "يروي بهذا الإسناد ثلاثين حديثاً عامتها غير مستقيمة". الكامل 5/1813. وقال ابن حجر: "عثمان بن أبي العاتكة ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد الألهاني". التقريب 2345. كما أن الذي تدل عليه هذه الرواية أن الآية نزلت بعد زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة وحفصة - رضي الله عنها-، مع أن الثابت كما في البخاري في كتاب التفسير (ب سورة تبت يدا أبي لهب) 6/148 من حديث ابن عباس أن الآية نزلت في مكة، فقد قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} الشعراء آية (214) ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه، فقالوا: من هذا فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي، قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب: تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا ثم قام فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} المسد آية (1) . 3هكذا في الأصل - وفي - ح - المهاجرون - وما في الأصل صحيح إلا أنه سقط منه كلمة (فقراء) كما هي الرواية في مصادر الحديث. 4 أخرجه ابن أبي عاصم في السنة عن أبي سلام عن ثوبان 2/348 قال الألباني في التعليق: "حديث صحيح رجاله ثقات رجال البخاري على ضعف في حفظ هشام بن عمار"، وأخرجه الآجري في الشريعة بإسناد آخر عن أبي سلام عن ثوبان - ص 353 وقال الألباني في التعليق على السنة لابن أبي عاصم: إسناده صحيح ص 348، وأخرج نحوه، ت. كتاب القيامة (ب ما جاء في صفة أواني الحوض 4/629 وقال: حديث غريب، جه. في الزهد (ب ذكر الحوض) 2/1438،حم 5/275 وعند هؤلاء زيادة من كلام عمر بن عبد العزيز، وانظر: للاستزادة سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/70. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 724 وروى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن حوضي لأبعد ما بين1 أيله2 وعدن. والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد النجوم، ولهو أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، والذي نفسي بيده إني لأذود عنه الرجال كما يذود الرجل عن حوضه، قيل: يا رسول الله هل تعرفنا يومئذ؟ قال: نعم تردون عليّ غراً محجلين من أثر الوضوء ليست لأحد غيركم"3. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا فرطكم على الحوض "4. وروي أنه ذكر الحوض عند عبيد الله بن زياد5 فأنكره فبلغ أنساً، فقال: "لا جرم والله لأفعلن به، قال فاتاه فقال ما ذكرتم من الحوض ما أنكرتم من الحوض6، قال عبيد الله: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكره؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من كذا وكذا مرة يقول: " حوضي ما بين أيلة   1 هكذا في النسختين وعند اللالكائي ولعل صوابها (مما) . 2 أيله قال ياقوت: مدينة على ساحل بحر القلزم (البحر الأحمر) مما يلي الشام. معجم البلدان 1/292. 3 أخرجه م. كتاب الطهارة (ب استحباب إطالة الغرة ... ) 1/218 من رواية ربعي عن حذيفة وليس فيه قوله: "لآنيته أكثر ... " وإنما فيه قوله: "لأذودن عنه الرجال ... "، وأخرجه جه. كتاب الزهد (ب ذكر الحوض) 2/1438 بلفظه هنا، وأخرجه حم. 5/390 - 394 نحوه. وابن أبي عاصم في السنة 2/336 قال الألباني في التعليق: "إسناده حسن رجاله ثقات رجال مسلم"، وأخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1121. 4 أخرجه خ. كتاب الرقائق (ب في الحوض) 8/101 - 102 من حديث عبد الله بن مسعود وسهل ابن سعد - رضي الله عنهما -، م. كتاب الفضائل (ب إثبات الحوض) 4/1792 من حديث ابن مسعود وسهل وعائشة وعقبة بن عامر وجابر بن سمرة - رضي الله عنهم -، وقال ابن الأثير في معنى قوله: "أنا فرطكم" أي متقدمكم إليه، يقال: فرط يفرط فهو فارط إذا تقدم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء ويهيء لهم الدلاء والأرشية. النهاية 3/434. 5 عبيد الله بن زياد بن عبيد أمير العراق بعد أبيه. قال ابن كثير: وكانت فيه جرأة وإقدام ومبادرة إلى ما لا يجوز وما لا حاجة له به، قتله إبراهيم بن الأشتر سنة 67هـ. البداية والنهاية 8/305. 6 هكذا في النسختين وعند الإمام أحمد "ذكرتم الحوض" وهو من قول أنس لعبد الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 725 ومكة وما بين صنعاء ومكة وأن آنيته أكثر من نجوم السماء"1. وفي بعض الروايات أنه قال: "إن حوضي من مقامي إلى عمّان"2، قاله أبو منصور3 بنصب العين وتشديد الميم وهي بالشام. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لي حوضا ما بين الكعبة إلى بيت المقدس، له ميزابان من الجنة ذهب وميزاب من ورق، أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، فيه أباريق عدد نجوم السماء، من يشرب منه لم يظمأ حتى يدخل الجنة، ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام من الناس - والفئام الجماعة - ومنهم من يأتيه العصب4، ومنهم من يأتيه النفر، ومنهم من يأتيه الرجلان والرجل، ومنهم من لا يأتيه أحد، وإني أكثر الناس تبعا يوم القيامة "5.   1 أخرجه خ. كتاب الرقاق (ب ما جاء في الحوض) 8/102، م. كتاب الفضائل (ب إثبات الحوض) 4/1800) كلهم من حديث ابن شهاب عن أنس - رضي الله عنه -. أما القصة مع عبيد الله بن زياد فقد رواها الإمام أحمد في المسند 3/230 وهي من رواية علي بن زيد بن جدعان عن أنس وعلي ضعيف كما في التقريب ص 246 ورواها مختصرا ابن أبي عاصم في السنة عن ثابت عن أنس، قال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم. السنة 2/31، وأخرج نحوه أيضاً الآجري في الشريعة مختصراً ص 354. 2 هذه الرواية أخرجها م. من حديث معدان بن أبي طلحة عن ثوبان - رضي الله عنه - 4/1799. 3 هكذا في الأصل وفي - ح -. (ابن منصور) . ولم يتبين لي من هو. 4 العصب: جع عُصَابَة وهم الجماعة من الناس من العشرة إلى الأربعين. النهاية لابن الأثير 3/243. 5لم أقف عليه بهذا اللفظ المذكور ولأكثر شواهد صحيحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 726 111 – فصل: في ذكر فضائح القدرية وذلك أنهم ردوا السنة كلها وأبطلوا وتأولوها على آرائهم الفاسدة فهم كمن رد على النبي صلى الله عليه وسلم قوله في حياته، ولما م يمكنهم رد القرآن قالوا إنه مخلوق لهم إذا قرؤوه ويقدرون على مثله لو جمعوا هممهم، ومن كان هذا قوله فهو كافر1 لا تقبل فيه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. وروي أن بعض أئمة الحديث قدم ليصلي على بعض دعاة القدرية، فقام عنده ولم يكبر، وقال بأعلى صوته: اللهم إن هذا ما كان يؤمن بعذاب القبر فلا تنجه منه، اللهم إن هذا ما كان يوؤمن بمنكر ونكير فلا تلقنه حجته عند مسألتهما إياه، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بأن الجنة والنار قد خلقا فلا تفتح له باباً من الجنة إلى قبره وافتح له باباً إلى النار وقد سمعك تقول: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} 2 اللهم والباب لذي يفتح له إلى النار فلا تغلقه عنه إلى المحشر، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بالنظر إلى وجهك الكريم فلا تره وجهك، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بالحوض الذي وعدته نبيك فلا تسقه منه يوم العطش الأكبر، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بأن الحسنات والسيئات توزن بميزان له كفتان وقد سمعك تقول: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقّ} 3 اللهم فلا تثقل ميزانه ولا تترك في صحيفة عهمله حسنة يرجح بها الميزان، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بالعقاب الذي مع المساءلة فلا تنجه منها، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بالصراط الذي يعبر عليه الخلق إلى الجنة من المحشر فلا يجاوزه عليه، اللهم إن هذا ما كان يزعم أنه كان مستغيثاً عنك في دار الدنيا فيما كان من مقدرواته على زعمه غير مفتقر إليك في شيء من   1 تقدم كلام المصنف على قول المعتزلة في القرآن، ونقله عن كثير من السلف تكقير القائلين بخلق القرآن. انظر: الفصل 95. 2 الأعراف آية (19) . 3 الأعراف آية (8) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 727 ذلك، فكن له في الآخرة كما كان يعتقد في دار الدنيا فيك فكله إلى حوله وقوته، اللهم إن هذا يزعم أنك ساويت بين حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل وسائر الكفار فيما أنعمت عليه من العون على الإيمان، وزعم أنك ساويت بين حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل عدوك، فساو يا رب بينه وبين الشيطان في النار كما كان مساويا له في دار الدنيا على زعمه فإنه قد أعظم الفرية عليك، اللهم إن هذا كان يزعم أنه خالق لعمله وما كان يفعله في دار الدنيا فلا تخلق فيه ما يميز به بين الخير والشر، واختم على سمعه وبصره وقلبه فإنه زعم أنما يدرك بسمعه وبصره الذي ركبت فيه كان خلقاله فأحجبه أن يدرك شيئا من المدركات أو المسموعات والمبصرات، فإنه زعم أن كل ذلك كان من مقدوره ولا يقدر معبوده على شيء من أفعاله لا الخير ولا الشر، وقد سمعك أمرت عبادك أن يسألوك استعانتك1 على طاعتك وهو قولك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2 فكان يزعم أنه مستغن عنك غير محتاج إليك في حال ما كان يفعل أفعاله من الإيمان والطاعات وغير ذلك، وكله يا رب إلى حوله وقوته كما كان يزعم ولا تعنه في عرصات القيامة، اللهم إن هذا كان يزعم أنه لا علم لك بعد أن3 سمعك تقول: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ} 4 قوله: {أََنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 5 فلا تحطه بشيء من علمك في الآخرة، واجعله اضل سبيلا من الأنعام في الآخرة، اللهم إن هذا كان ينفي يديك وقد سمعك تقول: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 6 اللهم فاجعل يديه مغولولتين إلى عنقه، اللهم إن هذا كان يزعم أن معبوده لا وجه له وقد سمعك تقول: {إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} 7 و {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} 8، فحول وجهه إلى قفاه مسوداً منكلاً به، اللهم إن هذا كان يزعم أن له مشيئة دون مشيئتك فيما كان يشاء من أفعاله أو بعضها وقد سمعك تقول: {وَمَا تَشَاءُونَ   v 1 هكذا في النسختين وصوابها (إعانتك) لأن الاستعانة هي السؤال. 2 الفاتحة آية (5) . (أن) ليست في الأصل وهي في - ح -. 4 فاطر آية (11) . 5 النساء آية (116) . 6 ص آية (75) . 7 القصص آية (88) . 8 الانسان آية (9) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 728 إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1. فكله إلى مشيئته، اللهم إن هذا كان يزعم أنك أردت ما لم تعلم وخروج الأشياء عن علمك وعلمت ما لم ترده، وأنك لم ترد شهادة حمزة وغيره وقد سمعك تقول: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} 2 وأنك لم تأمر إبراهيم خليلك بذبح ولده حيث لم ترد ذبحه، وقد سمعك تقول مخبراً عنهما: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} 3 اللهم فلا تحشره في زمرتهما، اللهم إن هذا كان يزعم أن من عبدك ألف سنة وأتى كبيرة غير مستحل لها ولا جاحد لحقك أنك تخلده في النار مع فرعون وقارون والشياطين، فلا تقبل فيه شفاعة4 نبيك وخلده مع فرعون وهامان وقارون، فقد أتاك بهذه المعضلات والكفر الصريح فاحشره مع زمرة من زعم أنه يكون معهم فلقد أعزم الفرية عليك تعاليت يا رب عما يقول الظالمون علوا كبيراً، ثم التفت إلى من خلفه بعد كلامه هذا وقال: إنما فعلت هذا لتعلموا أنها سنة فإن الله تعالى يقول لنبيه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} 5، وكما فعل ابن عباس لما صلى على جنازة فجهر بفاتحة الكتاب وقال: أما أني لم أجهر فيها لأن الجهر مسنون، ولكن جهرت لتعلموا أن فيها قراءة"6.   1 الانسان آية (30) . 2 آل عمران آية (140) . 3 الصافات آية (102) . (شفاعة) ليست في الأصل وهي مثبتة في - ح -. 5 التوبة آية (84) . 6 لم أقف عليه على هذه الرواية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 729 112 - فصل: الدين يتصرف إلى وجوه: أحدهما الجزاء والحساب لقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 1، أي يوم2 الحساب والجزاء ومثله قوله تعالى: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} 3، أي بيوم الحساب ومثله قوله تعالى: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} 4، أي غير محاسبين ومثله قوله تعالى: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} 5، أي لمحاسبون، وقوله تعالى: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} 6. ومن هذا يقال: دنت فلانا بما صنع، أي جزيته، ومنه قولهم كما تدين تدان، قال الشاعر: واعلم وايقن أن ملك زائل ... واعلم بأن كما تدين تدان7 وقد يكون الدين بمعنى الحكم ومنه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} 8، أي في حكم الملك، وقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} 9، أي في حكم الله. وقد يكون الدين بمعنى: القهر والإذلال، ومن هذا يقال: دنت القوم أي قهرتهم وأذللتهم، فدانوا قال القطامي10: ... ... ... ... ... كانت11 نوار تدينك الأديان12.   1 الفاتحة آية (4) . 2 في - ح - (ملك) . 3 المطففين آية (11) . 4 الواقعة آية (86) . 5 الصافات آية (53) . 6 الانفطار آية (15) . 7 ذكره في اللسان 2/1469، من شعر خالد بن نوفل الكلابي يقصد به الحارث بن أبي شمر الغساني. 8 يوسف آية (76) . 9 النور آية (2) . 10القطامي هو عمير بن شييم التغلبي، شاعر غزل كان نصرانياً فأسلم، وفاته نحو 130هـ -. انظر: سمط اللآلئ شرح أمالي القالي 1/13. 11 في - ح - (كأن) . 12 انظر: ديوان القطامي ص 15 وفيه البيت، هكذا: رميت المقاتل من فؤادي بعدما كانت جنوب تدينك الأديان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 730 أي تذلك. والدين لله إنما هو هذا، ومنه قولهم: فلان يدين بدين الإسلام، أو بدين اليهود، أي يعتقده وينطوي عليه. وقد يكون الدين بمعنى الإنقياد والاستسلام، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلام} 1، وقد يكون الدين بمعنى الملة، ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 2، أي الملة المستقيمة3. وأما الكفر فأصله: التغطية:، يقال: كفرت الشيء أي غطيته، ومنه يقال: تكفر فلان بالسلام، أي تغطي به. وسمي الليل كافراً لأنه يستر كل شيء ويغطيه. قال لبيد4 في الشمس: حتى إذا ألقت يداً في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها5 وأراد بذلك ألقت الشمس يدها في الليل. وقال آخر يصف ظليما6ً ونعامة: فتذكرا ثَقَلاً7رثيداً8 بعدما ... ألقت ذُكَاءُ يمينها في كافر9   1 آل عمران آية (19) . 2 الروم آية (30) . 3 انظر: في هذه المعاني لسان العرب 2/1468، المفردات للراغب ص 175. 4 لبيد بن ربيعة بن عامر الكلابي أبو عقيل الشاعر المشهور أسلم زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه وفد عليه في وفد بني كلاب توفي سنة 41هـ -. الإصابة 9/96. 5 انظر: البيت ضمن معلقة لبيد في شرح القصائد العشر ص 246. 6 الظليم: الذكر من النعام. اللسان 4/2760. 7 الثقل بفتح الثاء والقاف بيض النعامة المصون. انظر: اللسان 1/494. 8 رثيداً: مرتباً مرصوصاً. انظر: اللسان 3/1581. 9 عزاه في اللسان 5/1510، إلى ثعلبة بن صغير المازني يصف ظليماً ونعامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 731 وأراد بالثقل النبات، ورثيداً من صفات ارتوائه1، وذكاء هي الشمس ومنه يقال للصبح: ابن ذكاء لأن وضوءه من الشمس2.ومما يدل على أن الكفر التغطية قول الله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} 3، والكفار هاهنا الزراع الواحد كافر، لأنه إذا زرع غطى بذره بالتراب، وسمي الكافر بالله كافراً لتغطية نعم الله بالجحود، وقيل: لأنه يستر بكفره الإيمان4.والشرك في اللغة مصدر أشركته في الأمر أشركه شركاً, ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} 5، أي نصيباً، وأراد باسم الولد أنهما سمياه عبد الحارث، فكان الشرك بالله هو أن يجعل له شركاً6. واليهود سموا يهداً لأنهم انتسبوا ببعض الملوك إلى يهوذا بن يعقوب لأمر خافوه7، وسموا8 النصارى باسم القرية التي نزل فيه المسيح وهي ناصرة من أرض الجليل9.   1 هكذا قال المصنف. وقد ورد في معنى ثقل بفتح الثاء وضم القاف قولهم: ثقل النبات تروت عيدانه، وكذلك ورد في رثد بفتح الراء وكسر الثاء والماء أي كدر. انظر: المعجم الوسيط 98 - 328، وهذا المعنى لم يذكره ابن منظور في معنى البيت، وإنما ذكر أن المراد به البيض المرتب المرصوص، والله أعلم. 2 ذكاء بضم الدال. انظر: اللسان 3/1510. 3 الحديد آية (20) . 4 انظر: هذه المعاني في لسان العرب 5/3867، والمفردات للراغب 433. 5 الأعراف آية (190) . 6 انظر: اللسان 4/2248، المفردات 259. 7 هكذا قال في المعجم الوسيط 998، ولم يذكر (لأمر خافوه) وعليه فيكون اسم اليهود أعجمي وليس عربي، وقال في اللسان: "سموا اليهود اشتقاقاً من هادوا أي تابوا". اللسان 6/4718. 8 هكذا في النسختين ولعلها (سما) . 9 انظر: اللسان 6/444، المعجم الوسيط 925. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 732 والفسق في اللغة: الخروج ماخوذ من قولهم فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، وسمي الفاسق في الدين فاسقاً لخروجه عن طاعة الله تعالى، قال الله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} 1 أي عن طاعته2. والمنافق هو من يدخل في الإسلام باللفظ ويخرج منه بالاعتقاد، وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال: أحدها: إنما سمي بذلك لأنه مأخوذ من النفق وهو السرب في الأرض قال الله تعالى: {نَفَقاً فِي الآرْضِ} 3، أي مدخلا تحت الأرض، والمنافق ستر كفره وغيبه فشبه بالذي يدخل وهو السرب. والقول الثاني: إنما سمي به لأنه مأخوذ من نافقا اليربوع وهو جحره، لأن له جحراً يقال له النافقا وجحراً يقال له القاصعا، فإذا طلب من النافقا فضبح خرج من القعصاء فشبه باليربوع لأنه يخرج من الإيمان عن الوجه الذي يدخل فيه. والثالث: إنما سمي بذلك لإظهاره غير ما يضمر تشبيهاً باليربوع، وذلك أنه يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض أرق التراب، فإذا رابه ريب رفع ذلك التراب برأسه فخرج فظاهر جحره تراب كالأرض وباطنه حفر، كذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر4.   1 الكهف آية (50) . 2 انظر: لسان العرب 5/3413. 3 الأنعام آية (35) . 4 انظر: في هذا اللسان 6/4508، المفردات 502. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 733 113- فصل والإسلام في اللغة: هو الانقياد والاستسلام ومنه قوله تعالى: {وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} 1 أي المقادة2، وقوله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3 أي ينقادون لحكمك4 ويقال سلم واستسلم وأسلم إذا انقاد5. والإيمان في اللغة هو التصديق لقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} 6 أي بمصدق لنا7،وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} 8,9 أي تصدقوا ويقال: فلان يؤمن بعذاب القبر والشفاعة، أي يصدق به10.واختلف الناس في الإسلام والإيمان هل هما شيئان أو شيء واحد: فقال بعضهم: هما شيء واحد11.   1 النساء آية (91) . 2 هكذا في النسختين والمراد (قيادهم) انظر: تفسير ابن جرير 15/199. 3 النساء آية (65) . 4 في الأصل بحكمك وما أثبت من - ح -. 5 انظر: اللسان 3/2080. 6 يوسف آية (17) . 7 انظر: لسان العرب1/141، تاج العروس 9/135. 8 في النسختين (ذلك إذا ذكر الله) وهو خطأ. 9 غافر آية (12) . 10 ذكر شيخ الإسلام وغيره أن الإيمان في اللغة ليس مرادفاً للتصديق وإن كان يأتي بمعناه. انظر: مجموع الفتاوى 7/290 - 293 شرح الطحاوية ص 380. 11هذا القول قال به محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح، ومحمد بن نصر النرودي، وابن منده، وبه قال ابن عبد البر وقال: "وعلى هذا جمهور أصحابنا وغيرهم من الشافعية، وهو قول داود وأصحابه وأكثر أهل السنة". انظر: التمهيد لابن عبد البر 3/226، الإيمان لابن منده 1/321، لوامع الأنوار البهية 1/427، الفصل 3/226، وممن لا يفرق بينهما أيضاً المعتزلة وبعض الأشعرية إلا أن هؤلاء يختلف تفسيرهم للإيمان عن تفسير السلف، وسيأتي بين قولهم. انظر: شرح الأصول الخمسة ص 705، تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد ص 47. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 734 وقال آخرون: هما شيئان لا تواصل بينهما1. وقال آخرون: هما شيئان بينهما ارتباط وتواصل2.   1 لم يتبين لي القائلين بهذا القول لأن القائلين بالفرق بينهما يقولون بوجود ترابط بينهما. 2 القول بالفرق بين الإسلام والإيمان جاء عن ابن عباس والحسن البصري ومحمد بن سيرين والزهري وعبد الرحمن بن مهدي وابن أبي ذئب ومالك وشريك وحماد بن زيد والإمام أحمد، وبه قال ابن جرير وابن كثير وشيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: "ولا علمت أحداً من المتقدمين خالف هؤلاء ولهذا كان عامة أهل السنة على هذا الرأي". انظر: الإيمان للإمام أحمد ورقة 101/أ، السنة لعبد الله 1/311، تفسير ابن جرير 9/26 - 28اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/812 تفسير ابن كثير 4/419، الفتاوى 7/359. وقد ورد عن القائلين بهذا القول عادة أقوال في بيان وجه الفرق بين مسمى الإسلام والإيمان: القول الأول: قول الزهري وابن أبي ذئب وقول عن الإمام أحمد: "أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل" انظر: للإمام أحمد ورقة 103/أ، السنة لعبد الله 1/351، ومعنى قول الزهري - والله أعلم - أن الإسلام يطلق على من أتى بالكلمة وهي الشهادتان فإنه يصح أن يقال عنه مسلم، أما الإيمان لا يكون إلا بالعمل. انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام 3/358، فتح الباري1/76. القول الثاني: قول حماد بن زيد، واللالكائي: "الإسلام عام والإيمان خاص". انظر: اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/812، الإيمان منده 1/311، ولعل معنى قوله هنا - والله أعلم - أن الإسلام عام من ناحية أهله إذ كل من أتى بالشهادتين فهو مسلم، أما الإيمان فإنه خاص من ناحية أهله، لأن فيه شروطاً وهي العمل، وذكر ابن منده أن معنى قول حماد أن الإيمان خاص، أي أن معرفة الإيمان عند الله دون خلقه فهو خاص له إذ هو متعلق بالباطن وأن الإسلام عام، لأن الخلق يطلعون عليه إذ هو متعلق بالظاهر. قلت: هذا التفسير لا يتفق مع النصوص الواردة في الإيمان والإسلام الشرعي، فإن الأعمال الظاهرة من الإيمان كما هو دون ثابت عن السلف، إلا إذا كان يقصد الإيمان القلبي والأعمال القلبية من الخوف والرجاء والتوكل التي هي أعظم شعب الإيمان. القول الثالث: أن الإسلام والإيمان بينهما فرق وتلازم، فإنهما حيث اجتعما في كلام الشارع افترقا بالمعنى فصار الإسلام اسماً للأعمال الظاهرة والإيمان اسماً للأعمال الباطنة، كما في حديث جبريل. وإذا افترقا دخل أحدهما في الآخر كما في حديث وفد عبد القيس حيث فسر الإيمان بالأعمال الظاهرة، وكقوله تعالى: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} فإنه يدخل فيه الإيمان. وهذا أرجح الأقوال لأن فيه جمعاً بين النصوص التي جمع فيها بين ذكر الإسلام والإيمان والنصوص التي أفرد فيها أحدهما عن الآخر، وقد ذكر هذا القول جماعة من العلماء ورجحوه. انظر: قول الخطابي في معالم السنن بهامش مختصر أبي داود 7/49، وانظر: شرح مسلم للنووي وقول المصنف هنا "بينهما ارتباط وتواصل" يعني بذلك انه لا يصح إيمان إلا بإسلام ولا إسلام إلا بإيمان. وقدشبه شيخ الإسلام التلازم والتباين بين افسلام والإيمان بالروح والبدن، فالروح شيء والبدن شيء، إلا أنه لا حياة للبدن بلا روح، والروح لا بد لها من بدن، فالإيمان كالروح، والإسلام كالبدن فهما متلازمان، إلا أن مسمى أحدهما غير الآخر الفتاوى 7/367.وقال الشارح الطحاوية موضحاً ارتباط الإسلام بالإيمان: "لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه ولا يخلو المسلم من إيمان يصح به إسلامه". شرح الطحاوية ص 392. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 735 واختلف الناس في الإيمان الشرعي أيضاً على ثلاثة مذاهب: فذهب الأشعرية: إلى أن الإيمان الشرعي هو التصديق بالقلب لا غير1. وذهب المرجئة: إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان بالشهادتين، وإن لم يعرف بقلبه من غير عمل2. وقيل إن المرجئة يقولون: الإيمان هو القول باللسان والتصديق بالقلب من غير عمل3.   1 هذا هو القول المشهور عنهم ونسبه البيجوري في تحفة المريد إلى محققي الأشعرية، وذكر قولا آخر وافق فيه بعض الأشعرية أبا حنيفة في إدخال القول بالإيمان. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن بعض متقدمي الأشاعرة يذهب إلى قول السلف في الإيمان كأبي علي الثقفي وأبي العباس القلانسي وأبي عبد الله بن مجاهد. انظر: تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد ص 42، أصول الدين للبغدادي ص 248، التمهيد للباقلاني ص 389، غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 309، الفتاوى 7/144. 2" القائلون بهذا من المرجئة الكرامية، ولا يعرف هذا القول لأحد قبلهم. انظر: مقالات الإسلاميين 1/223، الملل والنحل بهامش الفصل 1/144، الفرق بين الفرق ص 215. 3" هذا القول هو المشهور عن مرجئة الفقهاء وهم أبو حنيفة وأصحابه، ويوافقهم في هذا النجارية وبشر المريسي. انظر: مقالات الإسلاميين 1/219،الفرق بين الفرق ص 203 - 208 شرح الفقه الأكبر ص 68. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 736 وقالت الجهمية: الإيمان التصديق بالقلب لا غير1. وذهب أهل الحديث وجماهير العلماء إلى أن الإيمان: هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان بالشهادتين والأعمال بالجوارح2،وأقل ما يقبل من الإيمان هو المعرفة التي لا تخالطها الشكوك3. والإسلام عام والإيمان خاص4، والإيمان بعض الإسلام وهو أشرف   1" المشهور عن جهم ومن اتبعه كأبي الحسين الصالحي أن الإيمان هو المعرفة فقط، والمعرفة المراد بها العلم والتصديق مرتبة زائدة على المعرفة. انظر: مقالات الإسلاميين 1/214، الفرق بين الفرق ص 211. 2" هذا قول السلف في تعريف الإيمان، وقد نقل عنهم الإجماع على ذلك ابن عبد البر فقال: "أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها إيمان إلا ما ذكر عند أبي حنيفة وأصحابه، فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيماناً".انظر: التمهيد لابن عبد البر 9/238،وانظر: مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلىص 152، مقالات الإسلاميين 1/347،شرح العقيدة الطحاوية ص 372. 3" قول المصنف هنا "المعرفة" لعله يقصد به التصديق، لأن التصديق مرتبة زائدة على المعرفة إذ لا يجهل الله أكثر الكفرة وعلى رأسهم إبليس وفرعون وغيرهم، ومع ذلك لا يعدون مصدقين ولا مؤمنين، وقد ذكر الإمام أحمد أن المعرفة ليست هي التصديق، بل مرتبة أخرى في رسالته إلى أبي عبد الرحيم الجوزجازني فمما قال: "من زعم أن الإيمان الإقرار فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار. وهل يحتاج أن يكون مصدقاً بما عرف: فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقراً ومصدقاً بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، فإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد قال قولاً عظيماً، ولا أحسب أحداً يدفع المعرفة والتصديق كذلك العمل مع هذه الأشياء". انظر: الإيمان للإمام أحمد ورقة 104/أ، ونقلها شيخ الإسلام في الفتاوى 7/390. فعلى هذا معنى كلام المصنف هنا أن أقل ما يقبل من الإيمان هو التصديق الذي لا يخالطه ريب ولا شك، إذ التصديق يقع فيه التفاوت بين الناس أيضاً، فإذا انحدر إلى الشك فقد كفر ولا يقبل منه عمل، لأن التصديق هو أصل الإيمان واعظم أجزائه، فإن صح صح به العمل، وإن فسد بالشك والريب لم يصح معه عمل، والله أعلم. 4" تقدم بيان معنى هذا القول في التعليق ص 735 وهو قول حماد بن زيد، وبه قال اللالكائي الذي ينقل عنه كثيراً المصنف - رحمه الله -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 737 أجزائه1، فكل تصديق تسليم2 وليس كل تسليم تصديقا3،وكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، والإسلام ظاهر الأمر، والإيمان باطنه4 وحقيقة الإسلام الطاعة قال الله تعالى: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} 5،أي مطيعين. وقد ورد ذكر الإسلام الطاعة في الشرع على وجهين: أحدهما: المراد به الإخلاص وهو قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} وأراد به"أخلص" {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 6 يعني فقل: أخلصت، ومثله قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} يعني فقل: أخلصت يعني أخلصت ديني لله - إلى قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا} ،7 والمراد أأخلصتم فإن أخلصوا8، ومثلها قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} 9.   1" هذا القول لا يستقيم إلا على قول من يزعم أن الإيمان هو التصديق وهم الجهمية والأشاعرة ومن تابعهم، والمصنف - رحمه الله - قد أثبت أن الإيمان قول اعتقاد وعمل، وانتصر لهذا القول واستدل له فلا يستقيم هذا القول المذكور هنا مع ذلك، كما أن المصنف ذكر في أول الرسالة ما يناقض هذا حيث قال ص 19 "وأن الأيمان أعلى رتبة من الإسلام والإسلام بعض الإيمان" وهو قول صحيح متفق مع قول السلف. 2" معنى هذا القول أن كل من انقاد وأذعن في الظاهر مصدق بالباطن وهو ينطبق على المنافقين مصدقون إلا أنهم فرطوا بالإذعان والانقياد. 3" يعني بهذا أن ليس كل من انقاد وأذعن في الظاهر مصدق بالباطن وهو ينطبق على المنافقين الذين أظهروا الانقياد، وأضمروا الجحود والكفر. 4" قوله: "والإسلام ظاهر الأمر والإيمان باطنه" يصح في حالة اجتماع الإسلام والإيمان في كلام الشارع كما في حديث جبريل، أما إذا فترقا فإن الإيمان يدخل فيه الإسلام ويدخل الإسلام في الإيمان وقد تقدم بيان هذا في التعليق ص 735. 5 البقرة آية (128) وانظر كلام ابن جرير على معنى الآية 1/553. 6" البقرة آية (131) وقد ذكر ابن جرير المعنى المذكور هنا في تفسيره 5601. 7" آل عمران آية (20) . 8" انظر: هذا المعاني في تفسير ابن جرير 3/214. 9" لقمان آية (22) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 738 الوجه الثاني: المراد به الإقرار، وهو قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْض} 1 يعني أقر بالعبودية، وقوله تعالى: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} يعني من الملائكة وقوله تعالى: {وَالأرْضِ} يعني المؤمنين {طَوْعاً} ثم قال {وَكَرْهاً} يعني أهل الأديان2يعلمون أن الله خلقهم لأن الله قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3، ومما ورد بذكر الإسلام والمراد به الإقرار باللسان قوله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 4، لأنهم أقروا باللسان ولم يصدقوا بقلوبهم5. وقد ورد الشرع بذكر الإيمان مفرداً على أوجه:   (1) آل عمران آية (83) . 2" ذكر هذا القول ابن جرير عن مجاهد وأبي العالية كما ذكر أقوالاً أخرى. انظر: تفسير ابن جرير 3/336، وذكر القرطبي أن معنى الآية استسلم وانقاد وخضع وذل وكل مخلوق فهو منقاد مستسلم لأنه مجبول على ما لا يقدر أن يخرج عنه فالقرطبي هنا أرجع معنى أسلم إلى الانقياد والخضوع. انظر: تفسير القرطبي4/127. 3" الزخرف آية (87) . 4" الحجرات آية (14) . (5) القول المذكور هنا هو أحد القولين في الآية وقال به الإمام البخاري وابن عبد البر والقرطبي وغيرهم، ومعنى هذا أن هؤلاء غير مسلمين وإنما هم منافقون. انظر: فتح الباري 1/79، التمهيد 9/248، تفسير القرطبي 16/348 القول الثاني: أن هؤلاء الأعراب مسلمون وليسوا منافقين، وإنما ادعو الإيمان وهي مرتبة أعلى من الإسلام فعنفوا على هذا الادعاء، لأنهم لم يصلوا إلى هذه المرتبة، وقال بهذا الزهري وابن جرير. قال ابن كثير: "وهذا معنى قول ابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة". انظر: تفسير ابن جرير 26/89، تفسير ابن كثير 4/219. والراجح من هذين القولين الثاني وذلك لعدة أدلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 739 أحدها: المراد به الإقرار باللسان لا غير، وذلك لما أخبر الله عن إيمان المنافقين مثل قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه} - إلى قوله: - {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّة} 1، والمراد به إقرارهم بألسنتهم دون تصديقهم بقلوبهم2. والوجه الثاني: ما ورد والمراد به التصديق والأعمال كقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} 3، وبقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} 4 وما أشبهها مما وعد الله عليه الثواب والجزاء، فالمراد به التصديق باللسان والجوارح. والوجه الثالث: ما ورد والمراد به التوحيد وذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} 5، والمراد بكفره بالتوحيد6، كقوله تعالى: {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} 7 والمراد يدعون إلى التوحيد. والوجه الرابع: ما ورد والمراد به به التصديق ببعض دون بعض كقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 8 يعني مشركي العرب، لأنك إن سألتهم من خلقهم قالوا الله وهم يجعلون لله شركاء9، وأهل الكتاب   1 المنافقون آية (2) . 2 هذه الآية ليس فيها ذكر للإيمان إنما ذكر الإيمان في الآية التي تليها وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} ، فقد روى ابن جرير بسنده عن قتادة أنه قال في معناها "أقرو بلا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقلوبهم منكرة تأبى ذلك"، وذكر القرطبي نحوه أيضاً. انظر: تفسير ابن جرير 28/107، تفسير القرطبي 18/125. 3 البقرة آية (25) . 4 التوبة آية (72) . 5 المائدة آية (5) . 6 انظر: هذا المعنى في تفسير ابن جرير 6/109. 7 غافر آية (10) . 8 يوسف آية (106) . 9 انظر: هذا المعنى في تفسير ابن جرير 13/77. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 740 يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض قال الله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا ... } 1 يعني إيمانهم ببعض الكتب2 والرسل دون بعض3. وورد ذكر الإيمان والإسلام في الشرع على سبيل الترادف والتوارد وعلى سبيل الاختلاف، فأما على سبيل الترادف فقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 4، ولم يكن فيها بالاتفاق إلا بيت واحد وهم أهل بيت لوط5، لقوله6 تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} 7 ومثلها قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 8. ومن السنة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان "9.   1 غافر آية (85) . 2 في - ح - الجملة هكذا (فلم يك ينفعهم إيمانهم يعمي لما رأو إيمانهم ببعض الكتاب) . 3 ليس في الآية ما يدل على هذا المعنى، وما ذكره المفسرون هو أن الإيمان لا ينفع وقت معاينة العذاب. انظر: تفسير ابن جرير 24/89، تفسير القرطبي 15/336. 4 الذاريات آية (35) . 5 هذا من أدلة من قال من العلماء إن الإسلام والإيمان مترادفان ولا فرق بينهما، وقد رد من قال بالفرق بينهما بأن الآية لا دليل فيها، لأن البيت المخرج كانوا متصفين بالإسلام والإيمان، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما. انظر: شرح الطحاوية ص 395. 6 في الأصل (وقوله) وما أثبت من - ح - وهو الأصوب. 7 هود آية (81) . 8 يونس آية (84) ، وهذه الآية أيضا لا دليل فيها على الترادف فقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} أي صدقتم به وأقررتم له بالربوبية والألوهية ومعنى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} أي مذعنين منقادين لأمره. انظر: تفسير ابن جرير 11/151. 9 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب. الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام .... ) 1/8، م. كتاب الإيمان (ب. بيان أركان الإيلام (1/45 من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 741 وروى ابن عباس "أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان فقال: أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تطوا الخمس من المغنم"1. وروي أنه فسر الإيمان بالخمس التي قال بني الإسلام عليها2. وأما وروده على الاختلاف والتداخل3 فقوله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 4 فأراد بالإيمان هاهنا التصديق بالقلوب، لأنهم ادعوا ذلك فأخبر الله أنهم ليسو كذلك، وأمرهم بأن يقولوا أسلمنا ومعناه استسلامهم في الظاهر باللسان والجوارح5 بدليل قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، لأن هذه الآية نزلت   1)) أخرجه ح. كتاب الإيمان (ب أداء الخمس من الإيمان) 1/16م. كتاب الإيمان (ب الأمر بالإيمان بالله ... ) 1/46. 2)) ورد هذا في رواية البيهقي في السنن الكبرى لحديث وفد عبد القيس حيث جاء فيه (أتدرون ماالإيمان: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتصوموا رمضان وتحجوا البيت الحرام قال: وأحسبه قال: وتعطوا الخمس من الغنائم ... " الحديث, السنن الكبرى 4/199، وهذه الرواية من طريق أبي قلابة الرقاش عن أبي زيد الهروي عن قرة بن خالد عن أبي حمزة عن ابن عباس، قال ابن حجر عن هذه الرواية: "إنها رواية شاذة"، ثم قال: "أبو قلابة تغير حفظة في آخر أمره فلعل هذا مما حدث به في التغير". فتح الباري 1/134. 3)) كلمة التداخل هنا لا معنى لها إذا التداخل دخول أحدهما في الآخر وهذا يصح في المذكور قبله وهو الترادف أما هنا فإن الاختلاف بينهما لا يجعل هناك تداخلاً إلا أن يكون الاختلاف خاصاً بالآية وحديث أبي برزة بعده - وخاصة أنه يفسر الإسلام هنا مع عدم التصديق والاختلاف والتداخل يكون في حديث جبريل والذي بعده إذ الإسلام لا بد له من تصديق يصححه والإيمان لا بد له من إسلام يصدقه. (4) الحجرات آية (14) . 5)) تقدم بيان أن الصحيح أن هؤلاء ليسوا منافقين ص 739. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 742 بقوم من أعراب بني أسد بن خزيمة نزلوا المدينة وادعوا الإسلام وعلم الله منهم غير ذلك فقال: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ، مخافة القتل والسبي1. وروى أبو برزة2 السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عروته يفضحه في بيته "3. وروى عبد الله بن عمر عن أبيه - رضي الله عنهما - قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فألزق ركبته بركبته ووضع كفيه على فخذيه، ثم قال: أخبرني يا محمد عن الإسلام، وما الإسلام4؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا   1" انظر: تفسير ابن جرير 26/89، تفسير القرطبي 16/348. 2)) في - ح - (بريدة الأسلمي) . 3 أخرجه د. كتاب الأدب (ب في الغيبتة) 2/298، حم 4/421 - 424 واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 4/813، ورجال اسناده ثقات ما عدا عبد الله بن سعيد بن جريج مولى أبي برزة ذكره ابن حبان في الثقات، وصحح له الترمذي حديثاً وقال فيه أبو حاتم: "مجهول"، وقال ابن حجر: "صدوق ربما وهم". انظر: التهذيب 4/52، التقريب ص 123. وللحديث شواهد: منها: حديث ابن عمر أخرجه ت. كتاب البر والصلة (ب تعظيم المؤمن) 4/378.وقال: "حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد"، ومنها أيضاً حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند الطبراني في الكبير 11/186، وفي إسناده إسماعيل بن شية الطائفي قال الذهبي: "واه". انظر: الميزان 1/233، ومنها أيضاً حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - عند الطبراني في الطبير 2/21 قال الهيثمي: وفيه رميح بن هلال الطائي. قال أبو حاتم: "مجهول ولم يرو عنه غير أبي ثميلة يحيى بن واضح"، مجمع الزائد 8/94 ومنها حديث البراء - رضي الله عنه - عزاه الهيثمي إلى أبي يعلى الموصلي في مسنده وقال: "رجاله ثقات". مجمع الزوائد 8/93. 4 قوله: "وما الإسلام" هكذا في النسختين وليست في شيء من روايات الحديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 743 فقال: صدقت قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: "فأخبرني عن الإيمان قال: تؤمن بالله وملائكته وكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال فأخبرني عن الساعة قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال عمر: فلبثنا ملياً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من السائل فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم"1. وروى سعد - رضي الله عنه - "أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم قسْما فأعطى ناساً ومنع آخرين، فقلت: يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ومنعت فلاناً وهو مؤمن فقال: لا تقل مؤمن بل مسلم. وروي في هذا أنه قال صلى الله عليه وسلم: أو مسلم فأعدته عليه ثلاثاً وهو يقول: أو مسلم"2. وروي " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل، فقال صلى الله عليه وسلم الإسلام فقيل: أي الإسلام أفضل فقال: الإيمان"3. وروي عن الحسن البصري وابن سيرين أنهما كانا يهابان أن يقولا مؤمن ويقولان مسلم4.   1 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب بيان الإسلام والإيمان) 1/36، وأخرجه خ. كتاب الإيمان (ب سؤال جبريل عن الإيمان) 1/15من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. 2 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب. الدين عند الله الإسلام) 1/11، م. كتاب الإيمان (ب تأليف قلب من يخاف على إيمانه) ا/132،واللفظ الأول قوله: "لا تقل مؤمن بل مسلم" هو عند النسائي كتاب الإيمان (ب تأويل قوله تعالى (قالت الأعراب آمنا) 8/104. 3 هذا قطعة من حديث عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - أخرجه حم 4/114، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الكبير مجمع الزوائد 1/59، وليس هو في المطبوع من المعجم، ورجال الحديث ثقات، إلا أن أبا قلابة لم يسمع من عمرو. انظر: تهذيب الكمال 2/1041، وأخرجه اللالكائي 5/931، من رواية أبي قلابة عن رجل من أسلم عن أبيه وفيه رجل مجهول. 4 أخرجه اللالكائي 4/815. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 744 وفي جميع ما ذكرته دليل على أن الإسلام اسمه عام والإيمان أخص منه1.قال الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} 2 فثبت الإيمان بالتوبة وهو الإقرار باللسان والتصديق بالقلب وبعمل الشرائع في الجواح3 على موافقة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان التسليم بالقلب ثمرة التسليم باللسان والجوارح4، فإذا عبر بالإيمان عن تسليم القلب فكأنه عبر عن ثمرة الإيمان5 وإذا عبر بالإسلام عن تسليم اللسان والجوارح والقلب كان جائزاً كما يطلق اسم الشجرة على الشجرة وثمرها. ومما يدل على أن الصلاة من الإيمان6 أن القبلة لما حولت من بيت المقدس إلى الكعبة قالت الصحابة - رضي الله عنهم - كيف بإخواننا الذين ماتوا وهو يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} 7، 8 واللام في ليضيع لام الجحود نصب به الفعل المستقبل، وأراد بالإيمان هاهنا صلاتهم إلى بيت المقدس. ومن الدليل على ما ذكرناه ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "إن الله بعث نبيه محمداً عليه السلام بشهادة أن لا إله إلا الله فلما صدق به المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا زادهم   1 تقدم بيان هذا ص 735. 2 طه آية (82) . 3 في - ح - (وبعمل الجوارح) . 4 الصحيح أن عمل الجوارح ثمرة التسليم بالقلب إذ هو الملك متى صلح صلح الجسد كله ومتى فسد فسد الجسد كله. 5 الأولى أن يقول (عبر عن أصل الإيمان وأساسه) لما تقدم من أن الاعتقاد هو الأساس وعمل الجوارح تبع للقلب في ذلك. 6 ابتدأ المصنف بالرد على طوائف المرجئة. 7 البقرة آية (143) . 8 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب الصلاة من الإيمان) 1/13 من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 745 الصيام، فلما صدقوا زادهم الزكاة فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم فقال عزوجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} 1،2. وقيل: إن أول ما فرض الله عليهم من الصلوات ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي، ثم فرضت الصلوات الخمس بمكة ليلة المعراج3. قالت عائشة - رضي الله عنها -: كان المعراج قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً4، وفرضت الزكاة بالمدينة، وصوم رمضان بعد الهجرة في السنة الثانية في شعبان، وفرض الحج في سنة تسع، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر نزلت هذه الآية يوم عرفة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} 5، وهي أخر آية نزلت في التحليل والتحريم، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إحدي وثمانين ليلة6، ثم توفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول. وروي أن رجلاً سأل سفيان الثوري7 عن الإيمان فقال: "الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فقال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن   1 المائدة آية (3) . 2 أخرجه الآجري في الشريعة ص 102، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة مطولاً 5/896 ولفظه فيه نكارة حيث جعل الجهاد آخر الفرائض، مع أن فرضيته متقدمة على الحج، والرواية من طريق علي بن أبي طلحة، وهو لم يلق ابن عباس. وقال ابن حجر عنه: "صدوق قد يخطئ". انظر: التقرييب ص 247. 3 ذكر هذا ابن حجر وعزاه إلى الحربي. انظر: فتح الباري 1/464 وقد ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - قولها "فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر". أخرجه خ. في الصلاة 1/66،م. صلاة المسافرين 1/478. 4 لم أقف على من عزا إليها هذا، وإنما الذي ذكره ابن الجوزي عنها أنها قالت: "إن الإسرار وقع ليلة سبع عشرة من ربع الأول قبل الهجرة بسنة". الوفاء في أحوال المصطفى 1/349. 5 المائدة آية (3) . 6 ذكر هذا ابن جريج رواه عنه ابن جرير في تفسيره 6/81. 7 هكذا في النسختين والرواية عند الآجري وابن بطة عن سفيان بن عيينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 746 الإيمان قول بلا عمل، فقال سفيان: كان هذا قبل أن تنزل أحكام الإيمان وحدوده، إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة أن يقولوا لا إله إلا الله وأنه رسول الله، فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، فلما علم صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالصلاة فأمرهم ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمره بالهجرة إلى المدينة، فأمرهم ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم إقرارهم الأول ولا صلاتهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمرهم بالرجوع إلى مكة فيقاتلوا آباءهم وأبناءهم حتى يقولوا كقولهم ويصلوا صلاتهم ويهاجروا كهجرتهم، فأمرهم ففعلوا حتى أتى أحدهم برأس أبيه، فقال: يا رسول الله هذا رأس الشيخ الكافر، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم إقرارهم الأول ولا صلاتهم ولا مهاجرتهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبداً وأن يحلقوا رؤوسهم تذللاً ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم إقرارهم الأول ولا صلاتهم ولا مهاجرتهم ولا قتلهم آباءهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها ولا مهاجرتهم ولا قلتهم آباءهم ولا طوافهم، فلما علم الله الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده قال عزوجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} . قال سفيان: "فمن ترك خلة من خلال الإيمان جاحداً كان بها عندنا كافراً، ومن تركها كسلاً وتهاوناً أدبناه وكان بها عندنا ناقصاً، هكذا السنة أبلغها عني من أسلك من الناس"1.   1 أخرجه الآجري في الشريعة عن محمد بن عبد الملك المصيصي عن سفيان بن عيينة ص 103، وابن بطة في الإبانة الكبير 2/630. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 747 وروي "أن رجلاً من اليهود قال لعمر - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين لو علينا أنزلت هذه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية لا تخذنا ذلك اليوم عيداً. فقال عمر - رضي الله عنه -: "إني لأعلم أي يوم أنزلت هذه الآية، أنزلت يوم عرفة في يوم جمعة ونحن بعرفات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. ومن الدليل على ما ذكرنا ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إلا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان "2، فجعل إماطة الأذى والحياء من الإيمان. وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان"3. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من ولده والده والناس أجمعين"4. وروى أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن   1 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب زيادة الإيمان ونقصانه) 1/14 عن طارق بن شهاب. 2 أخرجه خ. كتاب الإيمان (أمور الإيمان) 1/9، مختصراً وليس فيه شك في قوله: "أو بضع وسبعون"، م. كتاب الإيمان (ب بيان عدد شعب الإيمان) 1/63 مثله. 3 أخرجه اللالكائي 4/840 وفي إسناده عبد الله بن أيوب، وذكر في الميزان عبد الله بن أيوب بن أبي علاج. قال: "متهم بالوضع كذاب"، وذكر آخر هو عبد الله بن أيوب بن زادان الغربي، قال الدارقطني: "متروك" 20/394 وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الكبير ولفظه "لا يقبل إيمان ... " وقال: "في إسناده سعيد بن زكريا اختلف في ثقته وجرحه". مجمع الزوائد 1/35. قلت: وليس هو في المطبوع. 4 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان) 1/9م. كتاب الإيمان (ب وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم) 1/67. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 748 يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع في الكفر كما يكره أن توقد نار فيقذف فيها"1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"2. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"3. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم افشوا السلام بينكم"4. عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإيمان فقال: "فمن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن"5.   1 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب حلاوة الإيمان) 1/9، م. كتاب الإيمان (ب خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان) 1/66، واللفظ المذكور هنا رواية اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 5/914. 2 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب من الإيمان أن يحب لأخيه..) 1/9، م. كتاب الإيمان (ب من خصال الإيمان أن يحب..) 1/67 من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. 3 أخرجه خ. كتاب الأدب (ب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ... ) 8/10، م. كتاب الإيمان (ب الحث على إكرام الجار ... ) 1/66. 4 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب لا يدخلالجنة إلا امؤمنون) 1/74، ت. كتاب الاستئذان (ب ما جاء في إفشاء السلام) 5/52 وقال: "حسن صحيح"، د. كتاب الأدب (ب إفشاء السلام) 2/342، جه. في المقدمة (ب في الإيمان) 1/26، حم 2/491 - 512. 5 أخرجه حم 5/251 - 252 - 256، والحاكم كتاب الإيمان 1/14 عن أبي أمامة - رضي الله عنه - وقال: "صحيح متصل على شرط الشيخين" وافقه الذهبي، ولفظ الحديث عندهما "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ما الإيمان قال: إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن"، وقد ورد لهذا الحديث عدة شواهد عن عبد الله بن عمر عن أبيه - رضي الله عنهما - أخرجه ت. كتاب الفتن (ب. ما جاء في لزوم الجماعة) 4/466 وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وله شاهد آخر من حديث عامر بن ربيعة أخرجه حم. 3/446 وفي إسناده عاصم بن عبد الله بن عاصم بن عمر، قال عنه في التقريب: "ضعيف" انظر: ص 159 من التقريب، وله شاهد أيضا من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أخرجه حم. 4/398، والحاكم في كتاب الإيمان 1/13، وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 749 وروى أنس - رضي الله عنه - قال: "ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له"1. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قال: وما ذاك؟ قال: جار لا يأمن جاره بوائقه" أخرجه البخاري2. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تمام إيمان العبد أن يستثني في كل حديثه"3. وروى أبو قلابة عن رجل من أسلم عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يسلم4، قال، قلت يا رسول الله وما الإسلام؟ قال: أن تسلم لله عز وجل ويسلم المسلمون من لسانك ويدك، قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: الهجرة قال: وما الهجرة؟ قال: أن تهجر السوء، قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد، قال: قلت وما الجهاد؟ قال: أن تجاهد الكفار إذا   1 تقدم تخريجه في (701) . 2 أخرجه في كتاب الأدب (ب اثم من لا يأمن جاره بوائقه) 8/10. 3 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 5/930 وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الأوسط، مجمع الزوائد 4/182، وذكره في مسند الفردوس. انظر: فردوس الأخبار ص 303 والحديث من طريق معارك بن عباد القيسي عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبي هريرة به، وقد أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات وقال: "لا يصح"، قال البخاري: "معارك بن عباد منكر الحديث"، وقال يحيى ابن معين عن عبد الله بن سعيد المقبري: "ليس بشيء ولا يكتب حديثه". الموضوعات 1/135، وذكره الذهبي في الميزان في ترجمة معارك وقال: "هذا الحديث باطل". انظر: الميزان 4/134. 4 هكذا في النسختين وعند اللالكائي "قال النبي صلى الله عليه وسلم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 750 لقيتهم ولا تغل ولا تجبن، قال: ثم عملان وهما من أفضل الأعمال وأكملها ثلاث مرات: حجة مبرروة أو عمرة" 1. وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان"2. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر بالقلب وصدقه والعمل، والذي نفسي بيده لا يدخلن الجنة أحد إلا بعمل يتقنه قالوا: يا رسول الله وما يتقنه؟ قال: يحكمه"3. وفيما ذكرته من الأخبار دليل على أن الإيمان أخص من الإسلام وهو   1 أخرجه اللالكائي شرح اعتقاد أهل السنة 5/931 وسنده ضعيف لجهالة الذي روى عنه أبو قلابة، وقد روى الإمام أحمد في المسند 4/114 من حديث أبي قلابة عن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - قال: "قال رجل يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك لله عز وجل وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك" ... فذكره نحوه، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الكبير مجمع الزوائد 1/59 وليس هو في المطبوع من المعجم، ورجال الحديث ثقات إلا أن فيه انقطاعاً لأن أبا قلابة لم يسمع من عمرو بن عبسة وهو مدلس أيضاً. انظر: تهذيب الكمال 2/1041. 2 أخرجه اللالكائي في السنة 5/933 من رواية عروة بن رويم اللخمي عن عبد الرحمن بن غنم عن عبادة بن الصامت به. وكذلك أخرجه أبو نعيم في الحلية 6/124 وقال غريب من حديث عروة لم نكتبه إلا من حديث محمد بن مهاجر، واخرجه الطبراني في الأوسط وقال: لم يروه عن عروة إلا محمد بن مهاجر تفرد به عثمان بن سعيد بن كثير. معجم الطبراني الأوسط ورقة 429/أج2 مصور في مكتبة الشيخ حماد الأنصاري والحديث رواته ثقات وإسناده جيد إلا أن عروة بن رويم يرسل عن عبد الرحمن بن غنم. انظر: التهذيب 7/179. 3 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 4/839، وابن عدي في الكامل 6/2290 وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن بحير (مجبر) بن عبد الرحمن قال ابن عدي: "روى عن الثقات بالمناكير وعن أبيه عن مالك بالبواطيل". قلت: وهذه الرواية من طريق أبيه عن مالك. قال الذهبي: "قال ابن يونس ليس بثقة"، وقال الخطيب: "كذاب". انظر: ميزان الاعتدال 3/621. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 751 بعض منه1. والإسلام المأمور به بقوله تعالى: {فَلَهُ أَسْلِمُوا} 2 وما يستحق به الثواب بالآخرة هو أعم من الإيمان3. وقد يقع الإسلام على من أتى بلفظ الشهادتين وإن لم يصدق بقلبه، ويستفيد بذلك عصمة دمه وماله في الدنيا لقوله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 4. ولهذا قال الله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ومن فرق من العلماء بين الإسلام والإيمان فمرادهم هو هذا5.   1 ليس في الأدلة المذكورة ما يدل على قول المصنف هذا، بل هي دليل على أن الإيمان عام دخل فيه جميع الطاعات التي تكون بالقلب والجوارح، وانظر: ما تقدم ص 737. 2 الحج آية (34) . 3 هذا ليس أعم من الإيمان، وإنما هو والإيمان هنا شيء واحد لا فرق بينهما، وهذا على ضوء التحقيق المتقدم عن بعض العلماء ص 735 أن لفظ الإسلام والإيمان إذا افترقا دخل أحدهما في الآخر. 4 أخرجه خ. كتاب الزكاة (ب وجوب الزكاة) 2/91، م كتاب الإيمان (ب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) 1/51 من حديث أبي هريرة وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - والحديث ليس فيه دليل على أن الإسلام يطلق على من أتى بالشهادتين بدون تصديق القلب، فإن هذا نفاق ولا يسمى إسلاماً، وإنما النطق بالشهادتين هو مفتاح الدخول في الإسلام، ولم نؤمر بالتنقيب عن قلوب الناس إنما من قالها قبلت منه إلا أن يظهر منه ما يخالف مدلولها، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد لما قتل رجلاً "أقال لا إله إلا الله وقتلته قال: إنما قالها خوفاً من السلاح قال: أفلا شققت عن قلبه لتعلم أقالها أم لا"، أخرجه م. كتاب الإيمان 1/96، وهو عند البخاري بغير هذا اللفظ فهذا دليل على أن الشهادة تقبل منه إذ لا يعلم ما في القلوب إلا الله، أما من اختلف باطنه عن ظاهره بحيث أخفى الكفر وأظهر الإسلام فإنه منافق ولا يسمى مسلماً، وقد رد الله عز وجل على المنافقين شهادتهم في قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} المنافقون آية (1) ، فلم يقبل منهم ولم يصفهم بالإسلام، إذ من شرط الإسلام تصديق القلب ونطق الشهادتين، أما الآية المذكورة {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا} الحجرات: من الآية (14) فقد تقدم بيان أن الراجح أنهم ليسوا منا فقين ص 739. 5 تقدم بيان أن قول العلماء في التفريق بين الإسلام والإيمان ووجه الفرق بينهما في أقوالهم ص 734. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 752 روي عن حماد بن زيد أنه كان يفرق بين الإسلام والإيمان، ويجعل الإسلام عاماً والإيمان خاصاً1. وروي عن أحمد بن حنبل أنه كان يفرق بين الإسلام والإيمان2. وروي عن الحسن وابن سيرين أنهما كانا يهابان أن يقولا مؤمن ويقولان مسلم3. فالكفر4 الذي هو الجحود هو ضد الإسلام، وهو مبيح للدم والما، ويستحق به التخليد في النار، ويسمى من ترك الصلاة كافراً. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة فمن تركها فهو كافر "5. وروي أن عمر - رضي الله عنه - لما طعن أخذته غشية، فقال بعض الصحابة: إنكم لن تفزعوه إلا بالصلاة فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين، قال: ففتح عينيه وقال: أصلي الناس؟ قلنا: نعم قال: أما إنه لاحظ في الإسلام لأحد أضاع الصلاة، ثم صلى وجرحه يثعب دماً"6. وكذلك روي عن علي وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء - رضي الله عنهم - أنهم قالوا: "من ترك الصلاة فقد كفر"7، وهذا حجة لمن قال العمل من الإيمان.   1 أخرجه عنه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 4/814. 2 أخرجه عنه اللالكائي 4/815، وانظر: مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى الحنبلي ص 426 - 428 في قول الإمام أحمد في الفرق بين الإسلام والإيمان. 3أخرجه اللالكائي 4/815 ومعنى هذا أنهما كانا يخافان أن يصفا أنفسهما بالإيمان لما فيه من التزكية، وخشية أن لا يكونا قد أتيا بالعمل على الوجه المطلوب. أما الإسلام فهو متحقق بالشهاديتين فلهذا لا يهابان من الوصف به. 4 هكذا في النسختين والأولى أن يكون (بالواو) . 5 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب إطلاق اثم الكفر على ترك الصلاة) 1/88، ت. كتاب الإيمان (ب. ما جاء في ترك الصلاة) 1/342 كلهم من حديث جابري - رضي الله عنه - وليس في شيء من الروايات قوله "فمن تركها فهو كافر". 6 أخرجه اللالكائي 4/825 وبنحوه أخرجه الآجري في الشريعة ص 143. 7 انظر: هذه الروايات عند اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 4/826 - 829، وابن بطة في الإبانة 2/678 - 680. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 753 وقد اختلف العلماء فيمن ترك الصلاة عامداً مع اعتقاده وجوبها: فمنهم من قال: إنه يحكم بكفره ويجب عليه القتل في الدنيا واحتجوا بهذه الأخبار. ومنهم من قال: يجب قتله ولا يحكم بكفره، وتأولوا هذه الأخبار على أن أحكامه أحكام الكفار في القتل. ومنهم من قال: لا يقتل ولا يحكم بكفره، وتأولوا هذه الأخبار على من تركها جاحداً لوجوبها1. والفسق اسم ذم وهو ضد الإيمان يقع على من فسق بالاعتقاد والجحود فيكون كافراً، هو المراد بقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} 2، وقال في آية أخرى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدكُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} 3 وقال   1 عزا ابن القيم - رحمه الله - القول الأول إلى أبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وعمر ابن الخطاب، وبه قال سعيد بن جبير وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي وأبو عمرو الأوزاعي وأيوب السختياني وعبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وعبد الملك بن حبيب من المالكية وأحد الوجهين في مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد. أما القول الثاني وهو أنه يقتل حداً لا كفراً فهو قول مالك والشافعي. أما القول الثالث وهو أنه لا يقتل ولا يحكم بكفره فقال به ابن شهاب الزهري وسعيد بن المسيب وعمر بن العزيز وأبو حنيفة وداود بن علي والمزني، وقال هؤلاء: يحبس حتى يموت أو يتوب ولا يقتل. كتاب الصلاة لابن القيم ضمن مجموعة الحديث النجدية ص 482 - 496، وانظر: الفصل لابن حزم 3/229. 2 السجدة آية (20) . 3 الحج آية (19 - 22) ولم يرد في الآية ذكر للفاسق، ولعل مراد المصنف أن الوصف الذي حصل في آية السجدة كالوصف الموجود هنا في آية الحج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 754 فيهم {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1 وقال في آية أخرى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 2، وفي جميع هذا المراد بالفسق الكفر وقد يقع الفسق على من ارتمب المعاصي من الموحدين مع علمه بتحريمها، فهذا عندنا لا يخرجه من الإيمان بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه3 لا يخلد في النار بذلك، خلافاً للمعتزلة والقدرية وبهذه المسألة سموا معتزلة: وذلك أن واصل بن عطاء رئيس المعتزلة كان من أصحاب الحسن ابن أبي الحسن البصري، وكان ممن لا يلازم مجلسه فوجد الناس قائلين فيها: فأهل الحديث قالوا هو مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه لا يضاد فسقه الذي ليس بكفر إيمانه الذي في قلبه، وإن كان ينقص من دينه إلى ما هو دونها ولا ينزلون جنة ولا نار، بل إن عذبه الله بفسقه وإن عفى عنه فبفضله وإحسانه4. وقالت الخوارج: بل كل من ارتكب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً خرج به من الإيمان إلى ضده وهو الكفر ويخلد في النار5. فأحدث واصل بين عطاء قولا ثالثا وقال: أقول إنه فاسق ولا أسميه مؤمنا ولا كافرا ويخلد في النار، فأخرجه الحسن من مجلسه، واعتزله فسمي معتزليا لاعتزاله عما عليه كافة الأمة6.   1 النور آية (55) . 2 النساء آية (145) ، والمراد هنا أن المنافقين في الظاهر مسلمون وهم في الحقيقة فساق وفسقهم فسق كفر وعقوبتهم أنهم في الدرك الأسفل من النار. 3 في - ح - (لا يخلد بالنار بذلك لا يضاد) وليست في الأصل. 4 تقدم قول أهل السنة في مرتكبي الكبيرة ص 666. 5 تقدم قول الخوارج في مرتكبي الكبيرة ص 668. 6 هذا ما يسميه المعتزلة ب - (المنزلة بين المنزلتين) وهو الأصل الرابع من أصولهم. انظر: شرح الأصول الخمسة - ص 697، وقد تقدم بيان هذا ص 68 وواصل بن عطاء، هو الغزال المتكلم توفي سنة 131هـ -. ميزان الاعتدال 4/329. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 755 والدليل على بطلان قولهم قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} 1، فسماهم مؤمنين بعد اقتتالهم، وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} 2 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} 3 الآية، فسماهم مؤمنين مع إنكاره عليهم لما فعلوه، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 4 الآية. واحتجت الأشعرية ومن قال إن الإيمان هو التصديق بالقلب لا غير5 بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي بمصدق لنا، وبقول الناس: فلا يؤمن بعذاب القبر وبالشفاعة وما أشبهها، وأراد به التصديق. والجواب: أنا لا ننكر أن هذا حد الإيمان، في اللغة6. وأما في الشرع فهو أشرف خصال الإيمان ولا يمتنع أن يكون للشيء اسم في اللغة واسم في الشرع، وإذا ورد في الشرع به فإنه يجب حمله على ما تقرر اسمه في الشرع كالصلاة فإنها في اللغة المراد بها الدعاء، وهي في الشرع عبارة عن هذه الأفعال المشروعة في الصلاة، وكذلك الصيام فهو في اللغة اسم للإمساك عن جميع الأشياء، وهو في الشرع اسم للإمساك عن أشياء مخصوصة، والزكاة في اللغة اسم للزيادة، وهي في الشرع اسم لأخذ شيء من المال، والحج في اللغة القصد، وهو في الشرع اسم لهذه الأفعال المشروعة، والغائط في اللغة اسم للموضع المطئمن، وفي الشرع اسم لما يخرج من   1 الحجرات آية (9) . 2 الصف آية (3) . 3 الحجرات آية (2) . 4 الممتحنة آية (1) . 5 انظر: التعليق (1) ص 736. 6 تقدم التعليق على هذا ص 734. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 756 الإنسان1، وإذا أورد الشرع بشيء من هذه الأشياء فإنما يحمل على ما تقرر في الشرع لا على مقتضاه في اللغة. واحتجت المرجئة ومن قال إن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب دون الأعمال2 بالأخبار المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله محمد رسول الله دخل الجنة" 3. وبما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم على النار"4. والجواب عن هذه الأخبار من وجهين: أحدهما: أن نقول كما قال الزهري: "الأخبار كانت قبل نزول الفرائض والأمر والنهي"5.   1 الصحيح أنه في العرف إذ ليس تحديده في هذا المعنى وارد عن الشرع، بل هو في عرف اللغة، والشرع ذكره على ما هو معروف به عند أهل اللغة. 2 تقدم بيان القائلين بهذا ص 736. 3 أحرجه د. (كتاب الجنائز ب في التلقين) 2/57، حم 5/233 - 247، والحاكم في المستدرك كتاب الجنائز 1/351 وفي كتاب الدعاء 1/500 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد لم يخرجاه" ووافقه الذهبي - كلهم من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ورمز له السيوطي بالصحة بالجامع الصغير انظر: مع فيض القدير 6/206، والألباني في صحيح الجامع 5/342 وليس في شيء من هذه الروايات قوله: "محمد رسول الله". 4 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب من مات على التوحيد دخل الجنة) 1/58،ت. كتاب الإيمان (ب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله) 1/17 وقال: "حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، حم 5/318. 5 أخرج هذا الأثر عنه الآجري في الشريعة ص 146 بسنده عن عطاء بن السائب عنه قال: قال لي عبد الملك بن مروان الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة وإن زنا وإن سرق" قال، فقلت له: أين يذهب بك يا أمير المؤمنين؟ هذا قبل الأمر والنهي، وقبل الفرائض". كما روى أيضا الآجري في الشريعة ص 144 هذا القول عن الضحاك بن مزاحم وعزاه النووي في شرح مسلم 1/219 إلى ابن المسيب وقد رد هذا التأويل النووي، وكذلك الحافظ في الفتح 1/226لأن بعض هذه الأحاديث الواردة في دخول الجنة لمن مات على التوحيد وردت من طريق أبي هريرة كحديث مسلم "من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة" الحديث كتاب الإيمان 1/60 وأبو هريرة - رضي الله عنه - متأخر الإسلام بعد نزول الفرائض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 757 والثاني: أن نقول هذا خبر عما يؤول إليه أمر الموحدين بأن الله سيدخل الموحدين الجنة، وإن عذبهم فبذنوبهم ولا يخلدون في النار1 كما قالت الخوارج والمعتزلة والقدرية. وقد أخبر الله سبحانه في القرآن أنه إنما يدخل العباد الجنة بالإيمان والعمل في آيات كثيرة منها في البقرة قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} 2، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 3 وقوله تعالى في آل عمران: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} 4، وفي النساء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 5 وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} 6، وفي المائدة قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ   1 هذا القول الثاني من أقوال العلماء في هذه الأحاديث وما كان في معناها، وقد ذكر العلماء أقوالاً أخرى في هذا، منها ما ذكره النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض أن الحسن البصري قال: "معناه: من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها. وهذا ما ذكره صاحب كتاب تيسير العزيز الحميد واستحسنه، وعزاه إلى شيخ الإسلام وابن القيم وابن رجب والقاضي عياض، ومنها أنه قيل: إن ذلك لمن نطق بالشهادتين حال الندم والتوبة ومات على ذلك، ومنها أنه قيل: إن ذلك خاص فيمن نطق بها عند الموت وكانت آخر كلامه، ومنها أن المراد بالتحريم على النار نار الكافرين لا الطبقة التي أفردت لعصاة المؤمنين. انظر: شرح مسلم للنووي 1/219 - 220، فتح الباري 1/226، تيسير العزيز الحميد 66 - 69. 2 البقرة آية (25) . 3 البقرة آية (277) . 4 آل عمران آية (57) . 5 النساء آية (57) . 6 النساء آية (174) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 758 لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ،1 وفي الأنعام قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2 وفي الأعراف قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .... } إلى قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 3، وهذا كثير في القرآن وآخره قوله تعالى: {إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 4، ولم يذكر الله في القرآن دخول الجنة بغير عمل بل أخبر أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وأخبر أنه لا يغفر الشرك، فالقرآن لا يتناقض وإنما يؤيده بعضه بعضاً. وروي أن رجلاً سأل أبا ذر عن الإيمان فقرأ عليه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِر ... } 5 الآية حتى ختمها وقال: "إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ عليه هذه"6. وروى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان ويقين بالقلب"7.   1 المائدة آية (9) . 2 الأنعام آية (48) . 3 الأعراف آية (42 - 43) . 4 العصر آية (2 - 4) . 5 البقرة آية (177) . 6 أخرجه الإمام أحمد في كتاب الإيمان له ورقة (114/ب) ، والآجري في الشريعة ص 121 عن مجاهد عن أبي ذر وهو منقطع، لأن مجاهداً لم يسمع من أبي ذر. انظر: التهذيب 10/42، وقال ابن كثير: "أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد عن أبي ذر، واخرجه ابن مردويه عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي ذر وهو منقطع أيضاً". تفسير ابن كثير 1/207. 7 أخرجه. جه كتاب المقدمة (ب الأيمان) 1/26، الآجري في الشريعة ص 131، وابن عدي في الكامل 5/1968، وابن بطة في الإبانة الكبير 2/796، وابن الجوزي في الموضوعات وقال: "هذا حديث موضوع لم يقله الرسول صلى الله عليه وسلم". قال الدارقطني: "المتهم بوضع هذا الحديث أبو الصلت الهروي" 1/128.وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر الحديث: "هو من الموضوعات على النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل العلم. مجموع الفتاوى 7/505، وكذلك قال ابن القيم. انظر: تهذيب السنن 7/59. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 759 وروي عنه بلفظ آخر أنه قال: "الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية"1. وروي عن علي وابن مسعود - رضي الله عنهما - أنهما قالا: "لا ينفع قول إلا بعمل ولا عمل إلا بقول ولا قول وعمل إلا بنية ولا نية إلا بموافقة السنة"2. وكذلك روي مثل هذا عن الحسن البصري وسفيان الثوري وابن جريج ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان3 ومالك بن أنس وفضيل بن عياض4وكيع والشافعي وأحمد بن حنبل والوليد5 وأبي بكر بن عياش6 وعبد الله بن المبارك7. وهؤلاء هم العلماء الذين لا يُسْتوحَشُ مِنْ ذِكْرِهِم. قال وكيع8: "وأهل السنة والجماعة يقولون: "الإيمان قول وعمل"9،   1 لم أقف على من ذكره. 2 أخرجه الآجري في الشريعة ص 131، وابن بطة في الإبانة 2/803. 3 محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان المدني يلقب الديباج صدوق. قتل سنة 145 هـ -. التقريب ص 305. 4 فضيل بن عياض محمد بن عبد الله بن مسعود التيمي أبو علي أصله من خراسان، وسكن مكة. ثقة عابد إمام. توفي سنة 187هـ - التقريب 277. 5 هكذا في النسختين ولعل المقصود بقية بن الوليد لأنه هو الذي ذكر في الرواية مع أبي بن عياش عند الآجري في الشريعة فسقط من الناسخ الاسم الأول وهو (بقية) . 6 أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي المقرئ ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابه صحيح. توفي سنة 194هـ -. التقريب ص 398. 7 انظر: هذه الروايات عند الآجري في الشريعة - ص 131 - 132. 8 في - ح - (هم) . 9 ما بين القوسين ساقط من النسختين وأثبته من الشريعة للآجري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 760 والمرجئة يقولون الإيمان قول، والجهمية يقولون الإيمان المعرفة1، ولو لم يكن عليهم من الدليل إلا قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 2 فأخبر الله أنه لا يتم الإيمان إلا بالإخلاص والعمل لكان كافياً في الاستدلال.   1 الشريعة للآجري ص 131. 2 البينة آية (5) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 761 114 - فصل وعند أهل السنة والحديث أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأهل الإيمان على مراتب ولم يكلف الله الخلق أن يعرفوه كمعرفته لنفسه، لأن معرفته لنفسه بغير دليل1 ومعرفة الخلق له من جهة الدليل، وأقل درجة في الإيمان هي المعرفة التي لا يجامعها الشك بالله2، وأكبر معارف الحلق معرفة الأنبياء لله سبحانه، والأنبياء متفاضلون بذلك قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 3، وأراد في درجات المعرفة4، ومعارف سائر الخلق دون معرفة الأنبياء، والمؤمنون متفاتون في المعرفة5 وذلك لتفاوتهم في طرق الاستدلال عليه. هذا قول السلف. قال الغزالي: "والسلف هم الشهود العدول وما لأحد عن قولهم عدول6، والإيمان7 يقع على التصديق بالقلب وعلى العمل، فأما زيادة العمل ونقصانه فلا إشكال فيه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون8   1 هذا التعليل لا يحتاج إليه. 2 تقدم التعليق على هذا. انظر: ص 737. 3 الإسراء آية (55) . 4 لا يختص التفضيل بالمعرفة، فقد نص الله عز وجل على أنواع من التفصيل في قوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُس} البقرة: من الآية (253) ، فنص هنا على التكليم ورفع الدرجات والتأييد بروح القدس، وكذلك في الآخرة يكون التفضيل أيضاً. يدل على هذا حديث الشفاعة وأن الوسيلة مرتبة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وقال صلى الله عليه وسلم: "وأرجو أن أكون أنا هو". 5 تقدم بيان الفرق بين المعرفة والتصديق ص (737) وقد نص الإمام أحمد على أن المعرفة نفسها تزيد وتنقص، فقد روى الخلال بسنده عن أبي بكر المروزي قال: "قلت لأبي عبد الله في معرفة الله عز وجل في القلب يتفاضل فيه قال: تعم، قلت: ويزيد، قال: "نعم". كتاب الإيمان للإمام أحمد ورقة 95/ب. 6 قواعد العقائد ص 260. 7 هكذا في النسختين ولعل الأولى أن يقول (والزيادة) . 8 في - ح - (وستون) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 762 خصلة"1 وروي "تسع وتسعون2 باباً أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"3. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الطهور نصف الإيمان"4. وأما التصديق والاعتقاد بالقلب فإن هذا الاعتقاد تارة يشتد ويقوى بالعمل الصالح وتارة يضعف5 ويسترخي بالمعاصي، فالعمل للاعتقاد كالسقي للشجرة لأنه ينمي6 بالسقي ويضعف7. وقالت المرجئة والكرامية وأهل الزيغ من القدرية وغيرهم: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وإن إيمان الأنبياء كإيمان سائر العصاة من الخلق8.   1 تقدم تخريجه ص 748. 2 في - ح - (بضع وسبعون) . 3 بهذا اللفظ والعدد المذكور ورد في الإيمان للإمام أحمد ورقة 114/ب، وأخرجه ابن منده في كتاب الإيمان بسنده عن الإمام أحمد 1/297 ولم أقف على اللفظ عند غيرهما، وقد ذكر محقق كتاب الإيمان لابن منده. د. علي بن ناصر الفقيهي أنه كتب فوق (تسعون) في الأصل حرف (ض) وأشار المحقق أنها علامة التمريض، وهذه الرواية هي رواية بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة، وقال ابن حجر عن عبد الرحمن: "صدوق يخطئ". التقريب ص 204، وقد انفرد هنا برواية هذا الحديث بهذا اللفظ مخالفاً في ذلك من هو أوثق منه فإن هذا الحديث رواه عن عبد الله بن دينار أربعة سهيل بن أبي صالح وابن عجلان ويزيد بن الهاد وعبد الرحمن ابنه وبين ذلك ابن حجر في التهذيب 5/202، وهؤلاء أوثق منه فروايته بهذا اللفظ منكرة. 4 أخرجه ت. كتاب الدعوات (ب منه) 5/536 وقال: حديث حسن، وأخرجه حم 5/363 من حديث رجل من بني سليم واصل الحديث عند مسلم وغيره من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - بلفظ: "الطهور شطر الإيمان" انظر: م. كتاب الطهارة (ب فضل الوضوء) 1/203. 5 في الأصل، (يضع) وما أثبت من - ح -. 6 هكذا في النسختين وهي لغة فصيحة في (نمى) . انظر: اللسان 4551. 7 في الأصل (يضعه) وما أثبت من - ح -. 8 قد أحسن المصنف - رحمه الله - بدمجه أقوال أهل البدعة في الإيمان بنفي الزيادة والنقصان عن الإيمان، مع أنهم على طرفي نقيض في تعريف الإيمان إذ المرجئة بطوائفهم الأربع تخرج العمل عن الإيمان، وتجعل من ارتكب المعاصي مؤمناً كامل الإيمان، أما المعتزلة والخوارج فإنهم يجعلون الأعمال شرطاً في صحة الإيمان لهذا من ارتكب منهياً فقد بطل إيمانه وخرج من الإيمان إلى الكفر عند الخوارج، وصار في منزلة بين الإيمان والكفر عند المعتزلة. وسبب اتفاقهم على القول بعدم الزيادة والنقصان في الإيمان هو ما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - من أن طوائف المبتدعة في الإيمان ترى أن الإيمان كل لا يتجزأ، وهو متلازم الثبوت، فعلى هذا إذا ذهب بعضه ذهب كله انظر الفتاوى 7/510 - 233، فقالت المرجئة إن الإيمان التصديق أو القول والتصديق، وهذا لو نقص صار شكاً وأهله فيه متساوون الأنبياء وغيرهم. وقالت الخوارج والمعتزلة: هو قول واعتقاد وعمل ومن أخل من ذلك بشيء زال عنه الاسم. وقد رُد على المبتدعة في تأصليهم الفاسد ومن ذلك كلام شيخ الإسلام فنذكره لأهميته، حيث قال ما مختصره:" إن الحقيقة الجامعة لأمور سواء كانت في الأعيان أو الأعراض إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول، ثم قال: أما زوال الاسم فإن المركبات في ذلك على وجهين: أولاً: ما يكون التركيب شرطاً في إطلاق الاسم وذلك مثل اسم العشرة، فإن التركيب شرط في هذا الاسم فلو نقص واحداً زال الاسم وأصبحت تسعة. ثانيا: ما يكون التركيب ليس شرطاً في إطلاق الاسم بل يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء وأكثر المركبات من هذا النوع وذلك مثل الميكلات والموزونات، فالحنطة تسمى حنطة وهي بعد النقص حنطة، وكذلك التراب والماء لا يتغير اسمه بالنقص، كذلك الطاعة وكذلك القرآن فإنه يقال لجميعه قرآن، كما يقال لبعضه قرآن، واسم الإيمان من هذا النوع، فلا يلزم من زوال بعض شعبه زوال الاسم بالكلية، مثل الصلاة فيها أجزاء تنقص بزوالها عن الكمال المستحب وأجزاء واجبة تنقص بزوالها عن الكمال الواجب مع الصحة في مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك، وفيها ما له أجزاء إذا زالت جبر نقصها بسجود السهو، ثم قال: يبقى أن يقال أن بعض الزائل قد يكون شرطاً في بقاء الاسم، فإذا زال زال الاسم مثال ذلك من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض وقد لا يكون شرطاً في زواله كارتكاب بعض المنهيات وترك بعض الواجبات فعندئذ يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق وطاعة ومعصية. انظر: الفتاوى 7/52،514 مختصراً، وانظر: مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص 382 - 384 بهذا يتبين فساد قول المبتدعة في الإيمان وهذا الفساد نتج عن فساد القول في أصل الإيمان. بقي أن نبين هنا قول المعتزلة والأشعرية في الزيادة والنقصان، إذ لعله يتوهم المطلع على أقوالهم أنهم يقولون به كما يقول به أهل السنة لتصريحهم بذلك في كتبهم، أما المعتزلة فقد قال عبد الجبار المعتزلي في كتابه متشابه لاقرآن في قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا ... } الأنفال: من الآية (2) الآيات، إن هذه الآية تدل على أن الإيمان يزيد زينقص على ما نقول به، لأنه إذا كان عبارة عن هذه الأمور التي يختلف التعبد فيها على المكلفين فيكون اللازم لبعضهم أكثر مما يلزم الغير فتجب صحة الزيادة والنقصان" ص 312 - 313 طبع دار النصر. وقال في المختصر في أصول الدين أيضاً "فإن قال أفتقولون في الإيمان إنه يزيد وينقص قيل له: نعم، لأن الإيمان كل واجب يلزم المكلف القيام به، والواجب على بعض المكلفين أكثر من الواجب على غيره، فهو يزيد وينقص من هذا الوجه"، ضمن مجموعة رسائل العدل والتوحيد تحقيق محمد عماره 1/247 مؤسسة الهلال فمرادهم بهذا القول أن الزيادة والنقصان تكون من ناحية تكليف البعض بأكثر من البعض الآخر، كمن يملك نصاب الزكاة فإيمانه أكثر ممن لا يملك النصاب فيكون المالك إيمانه أزيد وغير المالك إيمانه أنقص. وهذا القول لا يتفق مع قول أهل السنة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، لأن أهل السنة يجعلونه من ناحية الطاعات وأؤلئك يجعلونه من ناحية التكليف. وما ذكره المعتزلة وجه من أوجه الزيادة والنقصان يذكره أهل السنة ويمثلون له بقول النبي صلى الله عليه وسلم في النساء "إنكن ناقصات عقل ودين" وفسر نقصان الدين بترك الصلاة حال الحيض والنفاس، إلا أنه على حسب قول المعتزلة أن النساء لا يمكن أن يكون فيهن من تكون أعلى إيماناً من أي رجل مسلم وهذا باطل، فإن عند أهل السنة أن هذا عام في جنس النساء أنقص إيماناً من جنس الرجال. أما الأفراد فإن في النساء من هن أكمل إيماناً وأرفع من كثير من الرجال، حيث يرتفع إيمانها بالطاعات حتى يغطي هذا النقص، وينقص إيمان كثير من الرجال بسبب المعاصي حتى يصبح أقل إيماناً من كثير من النساء، ومن المثال الواضح على ذلك في النساء أمهات المؤمنين ومريم بنت عمران والنساء المشهورات بالديانة والصلاح من الصحابيات وغيرهن، وعلى قول المعتزلة إن أي رجل مسلم يكون أرفع إيماناً من أمهات المؤمنين ومريم بنت عمران وغيرهن وهذا باطل. أما الأشعرية فإنهم يعرفون الإيمان بأنه التصديق ولا يدخلون العمل في الإيمان، فلهذا الفاسق عندهم مؤمن كامل الإيمان. ولهم في الزيادة والنقصان بالنسبة للتصديق قولان: القول الأول: إن التصديق القلبي لا يزيد ولا ينقص، لأنه متى قبل ذلك كان شكاً ومن القائلين بهذا الباقلاني وذكر الرازي أنه قول أكثر الأشعرية. انظر: العقيدة النظامية ص 90ن الموافق في علم الكلام ص 388، مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص 399. والقول الثاني: إنه يقبل الزيادة والنقصان من حيث الغفلة والذكر ووضوح الأدلة والبراهين، وبه قال الرازي والغزالي والإيجي ونصره في تحفة المريد. انظر: أصول الدين للبغدادي ص 252، الموافق في علم الكلام ص 388، والاقتصاد في الاعنتقاد للغزالي ص 143 تحفة المريد ص 51. وهذا القول يقول به السلف كما هو ظاهر من كلام المصنف - رحمه الله - هنا، وهو أن الزيادة والنقصان تكون في تصديق القلب، وقد ذكر شيخ الإسلام عدة أوجه من التفاضل في تصديق القلب ومعرفته. انظر: الفتاوى 7/564 - 566. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 763 مفقود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 764 والدليل على ما قلناه قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 765 أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} 1. ويدل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} 2، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} 3 وقوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} 4، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 5، وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 6 وأثنى الله تعالى على أهل الكهف بقوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدى} 7. ويدل عليه قوله تعالى فيما أخبر الله عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 8. أي ليزداد إيمان قلبي9، ويقال إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم مر بحيفة هلى ساحل البحر فجعلت الدابة تخرج من البحر فتأكل منها ثم تسترجع10إلى البحر، وتجيء الدابة من دواب البر فتأكل منها ثم تذهب ويجيء الطير فيأكل منها ثم يذهب، فهيجه ذلك على ما سأل فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} لتعجبه من تفرق   1 التوبة آية (124 - 125) . 2 الأنفال آية (2 - 3) . 3 الفتح آية (5) . 4 المدثر آية (31) . 5 محمد صلى الله عليه وسلم آية (17) . 6 آل عمران آية (173) . 7 الكهف آية (13) . 8 البقرة آية (260) . 9 ذكر هذا ابن جرير عن سعيد بن جبير والضحاك وقتادة وغيرهم. انظر: تفسير ابن جرير 3/50. 10 هكذا في النسختين وأصوب منها (ترجع) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 766 ذلك الميت في البر والبحروأنواع الدواب، فقال الله {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ، يعني ألم تصدق بإحياء الموتى1، وقيل: أراد أو لم تؤمن بالخلة وأنك خليل2 وقيل معنى {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} أي أنك قد آمنت، وذلك على3 معنى إيجاب الإيمان له قال: {بَلَى} ولكن كان إيمانه من طريق الاستدلال لا من طريق المشاهدة، والمستدل لا تزول عنه الخواطر والوسواس، وهو في ذلك يقمع الشيطان ويقهره بالحجة، فأراد إبراهيم أن يستريح إلى المشاهدة والمعاينة، وهذا قول ابن عباس - رضي الله عنه - وأجلة العلماء4، فأجاب الله إلى ذلك لما علم فيه من المصلحة له ولأمته قال ابن المبارك {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ليرى من أدعوه إليك منزلتي ومكانتي منك فيجيبوني إلى طاعتك وما أجابه من إجابتهم إليه"5. وقال سعيد بن جير: "ليطمئن قلبي بأني إذا سألتك أجبتني"6. وللأنبياء زيادة في المعارف من الوقت الذي بعثوا فيه إلى أن قبضوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا بورك لي في يوم لا أزداد فيه علما"7. وأمر الله نبيه أن يسأله زيادة علم8 فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} 9.   1ذكر هذا ابن جرير في تفسيره عن قتادة والضحاك وابن جرير تفسير ابن جرير 3/47. 2 ذكر هذا ابن جرير في تفسيره 3/48 عن السدي وعن سعيد بن جبير. (على) ليست في الأصل ظاهرة وهي في - ح -. 4 يعني بذلك أن الراجح أن المسألة كانت رغبة في الاستزاد من اليقين والإيمان، وذلك بالمعاينة البصرية، وهو ما رجحه ابن جرير وذكره عن العديد من السلف. انظر: تفسيره 3/50. 5 هكذا في النسختين ولم يتبين لي معنى هذه الجملة ولم أقف على هذا الأثر. 6 لم أقف على هذا الأثر عن سعيد بن جبير، وإنما روى ابن جرير هذا عن ابن عباس بأنه قال في قوله تعالى: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} قال: "أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك" وقد روي عن سعيد بن جبير أن معناه "ليزداد يقيني". انظر: تفسير ابن جرير 3/50 - 51. 7 تقدم تخريجه ص 371. 8 في - ح - (زيادة في العلم) . 9 طه آية (114) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 767 وأجل المعارف المعرفة بالله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المعرفة بالله رأس المعرفة" 1. وروي "أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني من غرائب العلم فقال صلى الله عليه وسلم: ما صنعت في رأس العلم؟ فقال: وما رأس العلم؟ قال صلى الله عليه وسلم: هل عرفت الرب سبحانه؟ قال: نعم، قال: وما صنعت في حقه؟ قال: ما شاء الله، فقال صلى الله عليه وسلم: هل عرفت الموت؟ قال: نعم، قال: فما أعددت له؟ قال: ما شاء الله، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب فاحكم ما هنالك ثم تعال تعلم من غرائب العلم"2. وما أثنى أحد من الصحابة على نفسه بمثل ما أثنى حارثة حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنا حقاً فقال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك، فقال: استوى عندي من الدنيا حجرها وذهبها، وكأني بعرش ربي بارزاً، وأهل الجنة يتنعمون فيها، وأهل النار في النار يتضاغون3، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: عرفت فالزم "4. ومما يدل على أن العلم الحاصل بالمشاهدة أزيد من العلم الحاصل عن الاستدلال قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمشاهدة أخي موسى أخبره الله بما كان من قومه من بعده من عبادة العجل، ومع ذلك أخذ الألواح فحين شاهد ما صاروا إليه ألقى الألواح"5.   1 لم أقف على من خرجه. 2 أخرجه ابن عبد البر بسنده في جامع بيان العلم وفضله 2/5 عن عبد الله بن المسور مرفوعاً، والحديث مرسل وهو موضوع أيضاً، فإن عبد الله بن المسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب قال عنه الإمام أحمد وغيره: أحاديثه موضوعة، وقال الدارقطني والنسائي: "متروك". انظر: ميزان الاعتدال 2/504. 3 في النسختين (يتضرعون) وما أثبت هو الأصوب كما عند الطبراني، ويتضاغون أي يتصايحون ويضجون من ضغا يضغو ضغواً وضغاء إذا صاح وضجّ. انظر: النهاية لابن الأثير 3/92. 4 تقدم تخريجه في ص (615) . 5 أخرجه حم. 4/147 بتحقيق أحمد شاكر وقال في التعليق: "إسناده صحيح"، والحاكم في المستدرك 2/321، وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وأخرجه البزار 1/111، بنحوه، والطبراني في الكبير 12/54 وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح". مجمع الزوائد 1/153 كلهم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 768 وأخذ برأس أخيه وتغير حاله، ولم يكن ذلك منه لأنه كان شاكاً في خبر الله بل كان عالماً بخبره وكذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم أراد العلم بالمشاهدة1. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أكان عيسى صلى الله عليه وسلم يمشي على الماء؟ فقال: "نعم، ولو ازداد يقيناً لمشى على الهواء"2 وقد مشى النبي صلى الله عليه وسلم على الهواء ليلة أسري به، ولا شك أنه أشار بذلك إلى نفسه، وأن حاله فوق حال عيسى صلى الله عليهما3، قال الله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 4، وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 5، ومعارف الخلق على قدر عقولهم لأن العقل نور يجعله الله في القلب يفرق به بين حقائق المعلومات. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل، ثم قال ادبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم منك بك آخذ وبك أعطي، ولك أثيب ولك أعاقب "6.   1 يعني في طلبه الذي ذكره الله تعالى في قوله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} البقرة: من الآية (260) 2 أخرجه محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/808 من حديث طويل عن أبي صالح كاتب الليث عن ابن لهيعة ورشدين بن سعد عن ابن أنعم عن عبادة بن نسى عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ - رضي الله عنه -، وإسناده ضعيف فإن فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي ضعيف كما في التقريب ص 203، بالإضافة إلى ضعف ابن لهيعة ورشدين بن سعد، وقد روى الديلمي في المسند بسنده عن وهيب المكي عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه – مرفوعاً: "لو أن أخي عيسى كان أحسن يقيناً مما كان لمشى في الهواء وصلى على الماء". انظر: فردوس الأخبار 3/408 وإسناده منقطع بين وهيب ومعاذ لأن وهيباً كما في التقريب ص 372 من كبار أتباع التابعين. 3 النبي صلى الله عليه وسلم لم يمش على الهواء وإنما كان راكباً على البراق ليلة الإسراء، وكونه صلى الله عليه وسلم فوق عيسى في المرتبة معلوم قطعاً، ومما يدل عليه حديث الشفاعة وقصة المعراج وغيره من الأحاديث. 4 البقرة آية (253) . 5 الإسراء آية (55) . 6 أخرجه ابن عدي في الكامل 2/798، و 6/2040 من حديث أبي هريرة، وفي إسناده الفضل ابن عيسى الرقاشي وحفص بن عمر قاضي حلب أما الفضل فقال الذهبي: "ضعفوه". الميزان 3/356، وأما حفص فقال عنه أبو حاتم: ضعيف، وقال أبو زرعة: "منكر الحديث"، وقال ابن حبان: "يروي عن الثقات الموضوعات لا يحل الاحتجاج به". الميزان 1/563 وأخرج الحديث ابن الجوزي عن العقيلي بسنده من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -. قال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح فيه سعيد بن الفضل الرقاشي وعمر العتكي وأبو غالب مجهولون منكروا الحديث لا يتابع أحد منهم على حديثه"، ثم نقل عن الإمام أحمد قوله: "هذا حديث موضوع ليس له أصل"، وقال العقيلي: "ولا يثبت في هذا المتن شيء" الموضوعات 1/175 وانظر: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص 478. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 769 وروى أنس - رضي الله عنه - أن قوماً اثنوا على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالغوا، فقال صلى الله عليه وسلم: "كيف عقله؟ فقالوا: يا رسول الله نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الأحمق يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرفع العباد غداً في الدرجات الزلفى عند ربهم على قدر عقولهم" وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته أما سمعتم قول الفجار1 {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه، واعملوا أن العاقل من أطاع الله وإن كان دميم المنظر رث الهيئة، وأن الجاهل من عصى الله وإن كان جميل المنظر شريف المنزلة". وروي أن عمر وأبي بن كعب وأبا هريرة - رضي الله عنهم - دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: "يا رسول الله من أعلم الناس؟ قال: العاقل، قالوا: فمن أعبد الناس؟ قال: العاقل، قالوا: فمن أفضل الناس؟ قال: العاقل، فقالوا: أليس العاقل من تمت مروءته وظهرت فصاحته وجادت كفه وعظمت منزلته فقال صلىالله عليه وسلم: "إن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين، إن العاقل هو التقي وإن كان في الدنيا خسيساً دنياً". وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما العاقل من آمن بالله وصدق برسوله وعمل بطاعته".   1 في - ح - (قول أهل النار) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 770 وروى أبو هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة أحد فسمع الناس يقولون كان فلان أشجع من فلان وفلان أبلى ما لم يبل غيره فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فلا علم لكم به، فقالوا: كيف يا رسول الله؟ فقال: إنهم قاتلوا على قدر ما قسم الله لهم من العقل، وكان نصرتهم ونيتهم على قدر عقولهم فأصيب منهم من أصيب على منازل شتى فإذا كان يوم القيامة اقتسموا المنازل على قدر نياتهم وقدر عقولهم". وقالت عائشة - رضي الله عنها -: " يا رسول الله بم يتفاضل الناس؟ قال: العاقل، قلت: ففي الآخرة؟ قال: بالعقل، قالت، قلت: أليس إنما يجزون بأعمالهم؟ قال: يا عائشة وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم الله من العقل وبقدر ما عملوا يجزون"1. وقال الشافعي - رحمه الله -: مقادير علوم الناس على قدر سعة عقولهم، فمن وقع له صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأول والإيمان بالله علم أن عقله أوفر ممن بقي على الجاهلية2، ولهذا مدح الله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ثم قال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} 3، ووعد الكل بالحسنى، وكذلك فضل من أنفق من قبل الفتح على من أنفق بعده ومن سبق بالإيمان على من تأخر، ثم قال: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} 4 فللخائفين المطيعين5 في المعرفة درجة   1 الروايات الواردة في العقل من حديث أن "أنس قوماً أثنوا على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " إلخ - إلى حديث عائشة "بم يتفاضل الناس" ذكرها الغزالي في الإحياء في الباب السابع والثامن في العقل وشرفه وأقسامه 1/88 - 62 وعزاها العراقي في التخريج في حاشية الإحياء إلى ابن المحبر في كتاب العقل، وابن المحبر هو داود بن المحبر بن مُخدم وقد وصف بالضعف، وقال الدارقطني والحاكم والنقاش عن كتابه العقل: "بأنه موضوع". انظر: ميزان الاعتدال 2/20، تهذيب التهذيب 3/199. 2 لم أقف على هذا الكلام عن الشافعي. 3 التوبة آية (100) . 4 الإسراء آية (21) . 5 في الأصل (فالخائفون الميطعون) وما أثبت من - ح - وهو الأصوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 771 لم يبلغها العاصون، ولا ننكر أن العارفين بالله تلحقهم معارضات الشيطان، إلا أنهم يدفعون معارضته بالدلائل الواضحة. وقد رروي أن الصحابة - رضوان عليهم - قالوا: "يا رسول الله إنا نجد في أنفسنا شيئاً لا نقدر على ذكره ولو قطعت آذاننا1 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأصابكم ذلك؟ قالوا: نعم، قال: ذلك محض الإيمان" 2. وروي أنه قال: "ذلك صريح الإيمان"3،ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن معارضة الشيطان هي محض الإيمان، وإنما أراد أن دفع ذلك بالحجج والدلائل من محض الإيمان4. وروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - "أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطا ثم قال هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمين الخط وعن يساره وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه "، وتلا قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} 5 يعني الخط الأول، {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 6،7 ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن التفكير في ذات الله فقال:   1 هكذا في الأصل وفي - ح - (وإن قطعت أراباً) ولم أجد هذا اللفظ فيما نظرت من مراجع. 2 الحديث أصله في م. كتاب الإيمان (ب الوسوسة في الإيمان) 1/119 من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. 3 أخرجه م. في الموضع المتقدم، د. كتاب الأدب (ب رد الوسوسة) 2/331، حم 2/397 - 441 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. 4 ويمكن أن يقال أن مدافعة هذه الوسوسة وكراهتها والخوف منها من الإيمان، وقد عدّها ابن شاهين من شعب الإيمان، فقال وأن يكون إذا وجد الوسوسة من العدو لأن يخر من السماء، فتخطفه الطير أحب إليه من أن يتكلم به. انظر: مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص 213. 5 الأنعام آية (153) . 6 الأنعام آية (153) . 7 أخرجه حم 6/89 بتحقيق أحمد شاكر وقال في التعليق: "إسناده صحيح"، وأخرجه دي في المقدمة (ب كراهية أخذ الرأي) 1/67، والحاكم في المستدرك كتاب التفسير 2/318 وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وعنده أيضاً في 2/239 من حديث زر عن عبد الله وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 772 "تفكروا في عظمة الله ولا تتكفروا في الله"1. قال: "الناظر في الله كالناظر في عين الشمس كلما ازداد نظراً ازداد عمى"2. ومن الدليل على أن الإيمان يزيد وينقص بالطاعة وينقص بالمعصية ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، والتوبة معروفة"3. والمراد به كمال الإيمان4 كقوله: "لا إيمان لمن لا أمانة له"5. وفي وراية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة، فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان"6.   1 أخرجه اللالكائي في السنة 3/525 من حديث ابن عمر مرفوعاً ولفظه: "تفكروا في آلاء الله ... "، وأخرجه ابن عدي في الكامل 7/2556 وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الأوسط مجمع الزوائد 1/18. وإسناده ضعيف فإن فيه الوزاع بن نافع العقيلي قال البخاري: "منكر الحديث"، وقال النسائي: "متروك" انظر: الكامل 7/2556 وللحديث عدة شواهد منها: حديث ابن عباس أخرجه محمد بن عثمان ابن أبي شيبة في كتابه العرش ولفظه "فكروا في كل شيء ولا تفكروا في الله ... " وفيه زيادة. انظر: محمد بن عثمان بن أبي شيبة وكتابه العرش ص 307 تحقيق محمد خليفة التيميمي. كما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ص 360 وفي إسناده عطاء بن السائب قال في التقريب ص 239 صدوق اختلط، وضعف الإسناد السخاوي في المقاصد الحسنة ص 159،وقال بعد ذكر هذه الأحاديث: "وأسانيدها ضعيفة لكن اجتماعها يكتسب قوة والمعنى صحيح"، كما حسن الحديث الألباني بمجموع الطرق. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/297. 2لم أقف على من عزاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكر ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله عن جعفر بن محمد أنه قال: "الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس كلما ازداد نظراً ازداد حيرة".جامع بيان العلم وفضله 2/97. 3 تقدم تخريجه ص (700) . 4 تقدم بين الأقوال في ذلك ص 701. 5 تقدم تخريجه ص 701. 6 أخرجه د. كتاب السنة (ب الإرجاء 2/270) ، والحاكم في المستدرك كتاب الإيمان 1/22 وقال: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن منده في الإيمان 2/579 وقال محققه د. علي ناصر "إسناده صحيح"، وذكر الحديث الترمذي معلقاً بدون إسناد 5/15. وصحح الحديث السيوطي وكذلك الألباني انظر: الجامع الصغير مع فيض القدير 1/367، سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/22 6 المطففين آية (14) . 6 المطففين آية (14) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 773 ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أذنب العبد كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها قلبه، فإن زاد زادت حتى تعلو2 قلبه"، وروي "حتى يسود" وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم {كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .3 وقال مجاهد: "هذا مثل قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} "4. وقال الحسن: "هو الذنب على الذنب يرين على القلب حتى يسود"5. والرين هو الإحاطة والغلبة يقال: ران عليه النعاس إذا غلبه، وران به النعاس. قال علقمة:   1 سورة المطففين آية (14) . 2 في - ح - (تغلق) . 3 أخرجه ت كتاب التفسير (ب سورة المطففين 5/434 وقال: "حديث حسن صحيح"، وأخرجه جه. كتاب الزهد (ب ذكر الذنوب) 2/1418، حم 2/297، وابن جرير في تفسيره 30/98 والحاكم في المستدرك، كتاب التفسير 2/517. وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. 4 البقرة آية (81) وأخرجه ذلك عنه ابن جرير في تفسيره 30/100. 5 أخرجه أبو عبيدة في غريب الحديث 3/270،وأخرج ابن جرير عنه نحوه، كما أخرج مثله عن قتادة 30/98 - 99. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 774 "أوردته القوم قد ران النعاس بهم فقلت إذ نهلوا من مائه قيلوا"1. ومنه قول عمر - رضي الله عنه - في أسيفع جهينة لما ركبه الدين: "قد رين به"2. وروي عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه قال: "الإيمان يبدو لمظة في القلب فكلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة"3، واللمظة مثل النكتة أو نحوها من البياض، ومنه قيل: فرس ألمظ إذا كان تحجيله بياض4. ومن الدليل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله"5. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فوعظهم ثم قال: "يا معشر6 النساء تصدقن فإنكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: لكثرة لعنكن وكفركن العشير، ثم قال: وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب، (وروى لذوي الرأي منكن) ، فقالت امرأة منهن وما نقصان عقلها ودينها؟ قال:7 أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين بشهادة   1 لم يتبين لي من هو علقمة ولم أقف على من ذكر هذا البيت , 2 أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث 3/268، وانظر: فيه أيضاً المعنى اللغوي ب - (رين) ، وكذلك في لسان العرب 3/1796. 3لم أره معزواً إلى حذيفة - رضي الله عنه - وإنما أثر هذا عن علي - رضي الله عنه -، أخرجه عنه ابن أبي شيبة في الإيمان ص 5، وأبو عبيد في الإيمان ص 64 - 65، كما أخرجه أيضاً الهروي في غريب الحديث 3/460. 4 انظر: عريب الحديث للهروي 3/460. 5 أخرجه ت كتاب الرضاع (ب حق المرأة على زوجها) 3/466، د. كتاب السنة (ب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه) 2/268، دي، في الرقاق (ب في حسن الخلق) 2/323، حم 2/250 - 472 كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. 6 في - ح - (معاشر) . 7 ما بين القوسين سقط من - ح -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 775 رجل واحد، ونقصان دينها الحيض فتمكث إحداكن الثلاث والأربع لا تصلي"1. فموضع الحجة من الخبر أنه وصفهن بنقصان الدين، فدل على أنه ينقص ويزيد، وأما العشير فإنه الزوج لأن المرأة إذا رأت منه أمراً تكرهه قالت: ما رأيت منك خيراً قط. ومما يدل على ما قلناه ما روي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يخرج من النار في الشفاعة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان"2. وروي عن ابن عباس وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أنهما قالا: "الإيمان يزيد وينقص"3. وكذلك روي عن عمر بن الخطاب - وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وابن عمرو، وعمار، وحذيفة، وسلمان الفارسي وأبي أمامة، وعبد الله بن رواحة، وجندب بن عبد الله، وعمير بن حبيب وعائشة - رضي الله عنهم - أنهم قالوا: "الإيمان يزيد وينقص"4. قال ابن أبي مليكة "أردكت كذا وكذا من الصحابة - رضي الله عنهم - ما مات   1 أخرجه خ. كتاب الحيض (ب ترك الحائض الصوم) 1/57 من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. وأخرجه م. كتاب الإيمان (ب نقصان الإيمان ينقص بالطاعات) 1/78 من حديث أبي سعيد وابن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهم -. 2 تقدم ذكر هذا في حديث الشفاعة الطويل عن أنس - رضي الله عنه - ص 693 3 أخرجه ابن ماحه في المقدمة 1/28، والآجري في الشريعة ص 111 عن مجاهد عنهما، كما أخرج الآجري ص 111، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/314 من طريق عبد الله بن ربيعة الحضرمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. 4 عزا إليهم هذا القول اللالكائي في السنة 5/892، ثم ذكره على التفصيل مسنداً إليهم انظره: في 5/941 - 948، كما أخرج الآجري ذلك مسنداً إلى عمر بن الخطاب وابن مسعود وعمير بن حبيب - رضي الله عنهم -. الشريعة 111 - 112. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 776 رجل منهم إلا ويخشى على نفسه النفاق"1، وكذلك روي عن التابعين كعب الأحبار وعروة بن الزبير، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وابن أبي مليكة2، وميمون بن مهران3، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، والحسن والزهري، وقتادة، وابن جريج، وفضيل بن عياض وغيرهم من العلماء الذين لا يستوحش من ذكرهم أنهم قالوا الإيمان يزيد وينقص4. وروي عن جندب أنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة5 فكان يعلمنا الإيمان قبل أن يعلمنا القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً"6. وعن أبي سعيد الفريابي7 أنه قال: "سألت المزني8 في مرضه الذي مات فيه وهو يومئذ ثقيل من المرض يغمى عليه مرة ويفيق أخرى، وقد كانوا صرخوا عليه تلك الليلة وظنوا أنه قد مات، فقلت: أنت أمامي بعد كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وإن الناس قد اختلفوا في الإيمان فمنهم   1 أخرجه عنه اللالكائي في السنة 5/955 وذكره البخاري إلا أنه قال: "أدركت ثلاثين ... "، خ. (ب. خوف المؤمن من أن يحبط عمله) . 1/15. 2 عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة بن عبد الله بن جدعان. أدرك ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثقة فقيه. توفي سنة 117هـ -. التقريب 181. 3 ميمون بن مهران الجزري الكوفي ثقة فقيه، ولي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، توفي سنة 117هـ -. التقريب ص 354. 4 انظر: الروايات عنهم وعن غيرهم مسندة عند اللالكائي في السنة 5/951 - 964 5 حزاورة: جمع حزور وهو الغلام إذا اشتد وقوي وخدم، وقيل: هو الذي قارب البلوغ. انظر: اللسان 3/855. 6 أخرجه ابن ماجه في المقدمة (ب في الإيمان) 1/23، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/369، وابن منده في الإيمان 2/370، واللالكائي في السنة 5/946. 7 هو محمد بن عُقَيل أبو سعيد الفريابي من أصحاب المزني وفقهاء الشافعية بمصر، توفي بها سنة 285هـ -.طبقات الشافعية للسبكي 2/243. 8 هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري تلميذ الشافعي. قال الذهبي: "هو قليل الرواية ولكنه كان رأساً في الفقه". توفي سنة 264هـ -. سير أعلام النبلاء 12/494، طبقات الشافعية للسبكي 2/93. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 777 من قال الإيمان قول وعمل يزيد زينقص، ومنهم من قال: هو قول وعمل يزيد ولا ينقص، ومنهم من قال هو قول والعمل شرائعه، فقال مجيباً بلسان ثقيل: من الذي قال إنه قول وعمل يزيد زينقص؟ قلت: مالك، والليث بن سعد وابن جريج فذكرت له جماعة، ثم قال: لا يعجبني ولا أحب أن أكفر أحداً لما قال: تسألني عن الاسم أو معنى الاسم؟ فتعجبت من سؤاله إياي مع ما هو فيه ثم قال: كم أخطأ في الاسم ليس من أخطأ في المعنى، الخطأ في المعنى أصعب، ثم قال: ما يقول هذا فيمن عمل بعض الأعمال هو مثل من جهل1 - يريد التوحيد كله - ثم قال: هذا باب لم أعمل فيه فكري ولكن انظر لك فيه، ثم أغمي عليه فرجع إليه بعد العصر، فقال ابن أخيه عتيق: إنه سأل عنك وقال: قل له: الإيمان قول وعمل، فقعدت عنده حذاء وجهه ففتح عينيه فتحاً ثقيلاً، ثم قال: الفريابي؟ قلت: نعم قال: لا خلاف بين الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت فقال: إيماناً2 وتصديقاً بكتابك". وهذا دليل على أن جميع الأعمال من الإيمان قال: "وهذه آخر مسألة سألت عنها المزني ومات بعدها بثلاثة أيام"3. وروي أن عبد الله بن مسعود كان يقول في دعائه "اللهم زدني إيماناً ويقيناً وفقهاً"4. وعن عمير بن حبيب أنه قال: "الإيمان يزيد وينقص. قيل له: ما زيادته ونقصانه قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحانه5 فذلك زيادته، وإذا أغفلنا وضيعنا ونسينا فذلك نقصانه"6.   1 عند اللالكائي (من جهل المعرفة) . 2 هكذا في النسختين وعند اللالكائي (إيماناً بك) لم أقف على هذا الحديث. 3 أخرجه اللالكائي في السنة 5/887. 4 أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/369.والإيمان للإمام أحمد ورقة 108/أ. 5 هكذا في النسختين والمروي في الأصول (وخشيناه) . 6 أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان ص 7، والآجري في الشريعة ص 111، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/314. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 778 وعن محمد بن علي1 - رضي الله عنهما - أنه قال: "هذا الإسلام ودور دارة في وسطها أخرى، وقال: هذا الإيمان مقصور في الإسلام، وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن" قال: يخرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام، فإذا تاب2 تاب الله عليه ورجع إلى الإيمان"3. وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال لغلمانه: "من أراد4 منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم زان إلا نزع منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده عليه رده وإن شاء أن يمنعه منعه".5   1 في النسختين (علي بن محمد) وهو خطأ فإن هذه الرواية عن محمد بن علي أبو جعفر الباقر. (تاب) ليست في - ح -. 3 أخرجه الآجري في الشريعة ص 113، والإمام أحمد في الإيمان ورقة 102/أ، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/342 وابن باطه في الإبانة الكبير 2/713. 4 في - ح - (أردك) . 5 أخرجه الآجري في الشريعة - ص 114 وابن أبي شيبة في الإيمان ص 32 وابن بطة في الإبانة الكبير 2/715. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 779 115 - فصل لا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز للإنسان أن يقول: "أنا مؤمن عند الله أو أنا مؤمن عند الله حقاً" لأنه لا يدري ما حكمه عند الله. وعلى هذا المعنى يحمل ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "من قال أنا مؤمن حقاً فهو كافر حقاً"1. وأما ما روي عن حارثة حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف أصبحت يا حارثة فقال: أصبحت مؤمناً حقاً" فإنه يحمل على أنه أراد مؤمناً حقا عن نفسي، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك " قال: استوى عندي من الدنيا حجرها وذهبها" 2. الخبر الذي مضى ذكره، ففسر إيمانه بما عنده من اليقين فأقره النبي صلى الله عليه وسلم. ولا خلاف بين السلف أن الاستثناء في الإيمان على جهة الشك في التوحيد لا يجوز، لأن أقل ما يقبل من الإيمان ما لا يخالطه الشك3.   1 أخرجه اللالكائي في السنة 4/974 عن نعيم بن أبي هند عنه وهو منقطع، فإن نعيماً لم يدرك عمر - رضي الله عنه. انظر: التهذيب 10/468، كما أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبير 2/869 من طريق قتادة عن عمر، إلا أنه منقطع أيضاً لأن قتادة لم يسمع من صحابي غير انس بن مالك - رضي الله عنه -، كما ذكر ذلك ابن حجر في التهذيب 8/355. 2 تقدم تخريجه - ص 768. 3 الاستثناء في الإيمان فيه ثلاثة أقوال: القول الأول: جواز الاستثناء في الإيمان، وهو قول كثير من السلف وسيفصل المصنف قولهم. القول الثاني: وجوب الاستثناء في الإيمان، وتعليل من قال بهذا هو أن الإيمان المعتبر عندهم ما يموت عليه صاحبه، والإنسان لا يعلم هل يموت مؤمناً أم كافراً، فعلى هذا قالوا بوجوب الاستثناء بلنسبة للمستقبل، فاستثناؤهم على الشك في الثبات على الإيمان إلى الموت، وطمعاً في أن يوفقوا للثبات عليه إلى الممات. وسيأتي بيان القائلين به عند كلام المصنف على المعنى الرابع من معاني الاستثناء. القول الثالث: قول من يحرمه وينكره، ويقول: " من استثنى فقد شك والشك كفر" وهؤلاء يزعمون أن الإيمان شيء واحد يعلم الإنسان من نفسه الإتيان به وهو التصديق عندهم، كما يعلم أنه متكلم بالشهادتين أو أنه قرأ الفاتحة. وقال بهذا الجمهية وطوائف من المرجئة، ونسب البغدادي في أصول الدين إنكار الاستثناء إلى أبي عبد الله بن مجاهد وأبي بكر الباقلاني وأبي إسحاق الإسفرائيني، ونسب ملا القاري في شرح الفقه الأكبر تحريمه بل تكفير قائله إلى صاحب التمهيد والكفاية من الحنفية. وهؤلاء هم الذين عناهم السلف في بيان مأخذ الاستثناء، وأنه ليس على الشك. انظر: شعب الإيمان للحيلمي 1/127، أصول الدين للبغدادي ص 253، الفضل في الملل والنحل لابن حزم 4/228، المعتمد في أصول الدين ص 190، شرح الفقه الأكبر ص 117، الفتاوى لشيخ الإسلام 7/253 - 256 - 429 - 453. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 780 واختلف العلماء في جواز إطلاق الاستثناء في الإيمان: فمنهم من قال: لا يجوز1، واحتج القائلون بهذا بما روي أن ابن عمر أمر رجلاً أن يذبح له شاة، فقال: له أنت مؤمن؟ فقال: نعم إن شاء الله، فاسترد منه الشاة2. وذهب أكثر العلماء إلى جواز الاستثناء بأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله لا على جهة الشك، بل على معنى أنه لا يدري ما حكمه عند الله وما عاقبته عند الله. وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، وابن مسعود3، وعائشة4. وقال ابن أبي مليكة: "أدركت كذا وكذا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فما مات منهم رجل5 إلا وهو يخشى النفاق على نفسه"6.   1 لعل مراد المصنف بهؤلاء من كره من السلف المسألة واعتبرها بدعة، فقد نقل كراهية السؤال عن الإيمان الآجري عن سفيان بن عيينة وإبراهيم النخعي والأوزاعي. انظر: الشريعة ص 140 - 142. 2 لم أقف على هذه الرواية. 3 يأتي ذكر الروايات عنهما ص 785. 4 روى عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/349 بسنده عن عبد الرحمن بن عصمة قال: كنت عند عائشة - رضي الله عنها - فأتاها رسول معاوية - رضي الله عنه - بهدية فقال: أرسل بها إليك أمير المؤمنين فقالت: "أنتم المؤمنون إن شاء الله تعالى وهو أميركم وقد قبلت هديته"، وأخرجه ابن أبي شيبة ص 9 مختصراً. 5 في - ح - (أحد) . 6 تقدم تخريجه - ص 776. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 781 وروي أن رجلاً قال عند عبد الله مسعود - رضي الله عنه -: "أنا مؤمن، فقال له ابن مسعود: أفأنت من أهل الجنة؟ قال: أرجو، فقال ابن مسعود أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى"1. وقال رجل لعلقمة2: "أمؤمن أنت؟. قال: أرجوا إن شاء الله"3. وروي أن أحمد بن حنبل سئل عن الاستثناء في الإيمان ما تقول فيه؟ قال: أما أنا لا4 أعيبه، وقال: إنما يستثني في العمل قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} . واحتج بمساءلة الملكين في القبر للمؤمن ومجاوبتهما5 فيقولان له: على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث يوم القيامة إن شاء الله، ويقولان للكافر: على الشك كنت وعليه مت وعليه تبعث يوم القيامة إن شاء الله"6. وروي "أن رجلاً قال: أنكر الاستثناء في الإيمان فقال: "إنما الناس رجلان مؤمن وكافر، فقال له أحمد: فأين قول الله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} وقال سمعت يحيىبن سعيد7 يقول: "ما أدركت أحداً إلا على الاستثناء"8.   1 أخرجه الآجري في الشريعة ص 137، وأبو عبيد في الإيمان ص 67. 2 علقمة بن قيس النخعي الكوفي ثقة ثبت فقيه عابد توفي بعد التسين. التقريب ص 243. 3 أخرجه الآجري في الشريعة ص 137، وأبو عبيد في الإيمان ص 68، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/341. 4 هكذا في النسختين وفي مصادر الرواية (فلا أعبيه) . 5 في الأصل (ومحاورتهما) وما أثبت من - ح - وهو يوافق ما في المصادر. 6 أخرجه الآجري في الشريعة ص 137. 7 يحيى بن سعيد القطان البصري ثقة متقن حافظ إمام قدوة. توفي سنة 298هـ -. التقريب ص 375. 8 أخرجه الآجري في الشريعة ص 137، وهو في كتاب الإيمان للإمام أحمد ورقة 99/أ، وأخرج اللالكائي عنه قوله عن يحيى بن سعيد. انظر: السنة 50/981. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 782 وروي عن سفيان الثوري أنه قال: "من قال أنا مؤمن عند الله فهو من الكاذبين، ومن قال أنا مؤمن حقاً فهو بدعة، وقيل له: فماذا نقول؟ قال: قولوا آمنا بالله وما أنزل علينا"1. وقال سفيان: "الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث ولا ندري كيف هم عند الله، وأرجو أن نكون كذلك ولا ندري ما حالنا عند الله"2. وكان سفيان3 إذا سئل أمؤمن أنت لم يجبه، أو يقول: سؤالك إياي بدعة ولا أشك في إيماني وقال إن شاء الله ليس يكره، وليس بداخل في الشك4. وقيل للحسن البصري: "أمؤمن أنت؟ فقال: إن شاء الله، فقيل: تستثني يا أبا سعيد في الإيمان؟ فقال: أخاف أن أقول نعم فيقول الله كذبت يا حسن فتحق علي الكلمة. فكان يقول: ما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي في بعض ما يكره فمقتني وقال اذهب لا أقبل لك عملا"5. وروى كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: " ما تقولون في رجل قتل في سبيل الله. قالوا: الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله، قال: ما تقولون في رجل مات في سبيل الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال   1لم أقف عليه بهذه الألفاظ عن سفيان الثوري، وقد ورد استنكار البت في وصف النفس بالإيمان عن ابن مسعود كما تقدم، وعن الحسن وسفيان بن عيينة كما سيأتي وغيرهم، أما قوله: "قولوا آمنا بالله ... " فهذا وارد عن طاووس وعن محمد بن سيرين. انظر: في هذا الشريعة للآجري ص 141. 2 السنة لعبد الله 1/311، الشريعة للآجري ص 141. 3 هو سفيان بن عيينة. 4 الإيمان للإمام أحمد ورقة 101/أ، والسنة لعبد الله 1/310، الشريعة للآجري ص 138 السنة اللالكائي 5/981. 5 لم أقف على من أخرجه عنه بهذا اللفظ وإنما روى أبو نعيم في الحلية 2/134 عن علقمة بن مرثد عن الحسن أنه قال: "نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا فقال، لا أقبل منكم شيئاً" وذكره الذهبي أيضاً في سير أعلام النبلاء 4/585. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 783 الجنة إن شاء الله، قال: فما تقولون في رجل مات فقام رجلان عدلان1 ذوا عدل فقالا: لا نعلم إلا خيراً، فقالوا: الله ورسوله أعلم؟ فقال: الجنة إن شاء الله، قال: فما تقولون في رجل مات فقام رجلان فقالا لا نعلم إلا شراً؟ فقالوا: في النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد مذنب ورب غفور رحيم"2. وكان الأعمش3 والليث4، وعطاء بن السائب5، وإسماعيل بن أبي خالد6، وعمارة بن القعقاع7، العلاء بن المسيب8، وابن شبرمة9، وحمزة الزيات10، يقولون: "نحن مؤمنون إن شاء الله ويعيبون على من لا يستثني"11.   1 هكذا في النسختين وليست في مصادر الحديث. 2 أخرجه الطبراني في الكبير 19/147، واللالكائي في السنة 5/971 وسنده ضعيف فإن فيه إسحاق بن إبراهيم بن نسطاس، قال النسائي عنه: "ضعيف"، وقال ابن حبان: "كان يخطيء لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد". انظر: المجروحين 1/134، والميزان 1/178، والراوي عن كعب ابنه إسحاق قال ابن حجر في التقريب ص 29: "مجهول الحال". 3 الأعمش هو سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي أبو محمد ثقة حافظ عارف بالقراءة لكنه يدلس توفي سنة 147هـ -. التقريب ص 136. 4 الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث المصري ثقة ثبت فقيه إمام مشهور توفي سنة 175هـ -. التقريب ص 287. 5 عطاء بن السائب أبو محمد الثقفي الكوفي صدوق اختلط توفي سنة 136هـ -. التقريب ص 239. 6 إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي مولاهم البجلي ثقة ثبت توفي سنة 146هـ -. التقريب ص 33. 7 عمارة بن القعقاع بن شبرمة الضبي الكوفي ثقة من السادسة. التقريب ص 251. 8 العلاء بن المسيب بن رافع الكاهلي ويقال الثعلبي الكوفي ثقة ربما وهم من السادسة. التقريب ص 269 9 هو عبد الله بن شبرمة بن الطفيل بن حسان الضبي أبو شبرمة الكوفي القاضي ثقة فقيه. توفي سنة 144هـ -. التقريب ص 176. 10 حمزة بن حبيب الزيات القاري أبو عمارة الكوفي التيمي مولاهم صدوق زاهد، ربما وهم، توفي سنة156 هـ -. التقريب ص 83. 11 أخرجه الآجري في الشريعة عن جرير بن عبد الحميد ص 139، وكذلك اللالكائي في السنة 5/979 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 784 وقال إبراهيم النخعي1: "إذا قيل لك أنت مؤمن فقل: آمنت بالله وبملائكته وكتبه ورسله"2. وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "من قال أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال أنا عالم فهو جاهل، ومن قال هو في الجنة فهو في النار"3. وقال علي - رضي الله عنه -: "الإرجاء بدعة والشهادة بدعة والبراءة بدعة"4. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "من شهد على نفسه أنه مؤمن فليشهد أنه في الجنة"5. إذا تقرر هذا فإن الاستثناء المحكي عن السلف يحتمل أربعة معان: أحدها: أنهم كرهوا الإطلاق لما فيه من التزكية، قال الله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} 6 الآية، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} 7.   1 إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي أبو عمران الكوفي الفقيه ثقة إلا أنه يرسل كثيراً، توفي سنة 196هـ -. التقريب ص 24. 2 أخرجه الآجري في الشريعة ص 141، وأبو عبيد في الإيمان ص 68، واللالكائي في السنة 5/979. 3 تقدم تخريجه - ص 780. 4 أخرجه اللالكائي في السنة 5/976، وأخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/319. ووجه الاستدلال: هنا قوله"والشهادة والسنة" وهو الشهادة بالجنة أو النار، ووصف الإيمان وصف مدح وعد الله عليه بالجنة، فعلى هذا من شهد لنفسه بهذا الوصف فقد شهد لها بأنه في الجنة، وقد أرود هذا الأثر عنه اللالكائي في فصل إثبات الاستثناء. والمراد بالبراءة - والله أعلم - أنها براءة الخوارج ممن خالفهم حيث يجمعون على البراءة ممن خالفهم، وبعضهم يتبرأ من بعض في حال المخالفة كما يتبرؤون ممن قعد ولم يحلق بعسكرهم، كما أنهم يتبرؤون من عثمان وعلي - رضي الله عنهما - ويجعلون البراءة منهما مقدماً على كل طاعة. انظر: مقالات الإسلاميين 1/169. الملل والنحل 1/115. 5 أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان ص 46، واللالكائي في السنة 5/976 , 6 النجم آية (32) . 7 النساء آية (49) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 785 وقيل لبعض الحكماء: ما الصدق القبيح قال: "ثناء الإنسان على نفسه"1. والإيمان من أعلى صفات الحمد، وإطلاق القول به تزكية مطلقة، والاستثناء فيه خروج من التزكية كما يقال للإنسان: أنت فقير أو مفسر؟ فيقول: نعم إن شاء الله لا في معرض الشك ولكن الإخراج نفسه عن التزكية. والمعنى الثاني في الاستثناء: التأدب بذكر الله في كل حال وإحالة الأمور كلها إلى مشيئة الله تعالى، وقد أدب الله نبيه فقال: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً، إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من تمام إيمان المرء استثناؤه في كل كلام "3. وقال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 4 والله سبحانه عالم بأنهم يدخلون لا محالة، وأنه شاء دخولهم، وقوله إن شاء الله ليس على سبيل الشك، ولكن أدب الله نبيه والمؤمن في أن لا يتركوا الاستثناء ورد المشيئة إليه، فتأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم (بما أدبه الله من ذكر الاستثناء في كلامه، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) 5 دخل المقبرة في البقيع قال6: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله7 بكم لاحقون" 8.فالاستثناء منه صلى الله عليه وسلم عائد إلى الإيمان أي على الإيمان بكم إذ9 الموت لا يشك فيه.   1 لم يتبين لي قائله. 2 الكهف آية (23) . 3 تقدم تخريجه ص 750 وبين أنه حديث موضع. 4 الفتح آية (27) . 5 ما بين القوسين ساقط من الأصل وهو في - ح -. 6 في الأصل (فقال) . 7 في - ح - (عن قريب بكم .... ) . 8 أخرجه م. كتاب الجنائز (ب ما يقال عند دخول القبور) 2/670 من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وأخرجه حم 2/300، جه كتاب الجنائز (ب ذكر الحوض) 2/1439 كلاهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. 9 في الأصل جملة (بما أدبه الله من ذكر الاستثناء في كلامه) وليست في - ح - وإنما هي الموضع المتقدم، ومعنى كلامه هنا أن الاستثناء في الحديث هو في اللحوق بهم على الإيمان، وروي عن الإمام أحمد أنه قال: "الاستثناء هنا على البقاع لا يدري أيدفن في الموضع الذي سلم عليهم فيه أو غيره"، وقيل: إنها على سبيل التبرك والامتثال لأمر الله. انظر: كتاب الإيمان للإمام أحمد ورقة 100/أ، شرح السنة للبغوي 5/470. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 786 ومثل هذا ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب1 له، وأنا أريد إن شاء الله أن أدخر دعوتي شفاعة2 لأمتي يوم القيامة" 3. وروي أن رجلاً قال يا رسول الله إني أصبح جنبا وإني أريد الصيام، فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم: "وإني أصبح جنبا وأريد الصيام وأغتسل وأصبح من ذلك اليوم صائما، فقال الرجل: إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي"4. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخشاهم لله وأعلمهم بما يتقي من جهة القطع فلم يخبر بذلك عن نفسه قطعا، وإنما ربط بالرجاء والمشيئة من الله5.   1 في الأصل (استجيب) . (شفاعة) ساقطة من - ح -. 3 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته) 1/189 نحوه وتقدم نحوه. 4 أخرجه م. كتاب الصيام (ب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب) 2/781، د. كتاب الصيام (ب فيمن أصبح جنبا في رمضان) 1/374، حم 6/67 كلهم من حديث عائشة - رضي الله عنها -. 5 هذا الوجه من معنى الاستثناء في الإيمان غير صحيح، والسلف لم يرد في أقوالهم ما يدل عليه بل أقوالهم تدل على الاستثناء لأمرين: - الأول: خشية التزكية وجهلهم بحالهم عند الله تعالى يدل على هذا ما روى الآجري عن أنس ومحمد بن سيرين أنهما كانا يهابان أن يقولان مؤمن ويقولان مسلم. الشريعة ص 139 وما تقدم من كلام عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يدل عليه أيضاً. ثانياً: احتياطا للعمل لا يدري هل قام بالعمل على الوجه الكامل أم لا، يدل على هذا ما ورد عن الإمام أحمد أنه قال: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان قول والعمل الفعل فقال جئنا بالقول ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل. الإيمان للإمام أحمد ورقة 100/أويدل على أن السلف لم يكونوا يقصدون المعنى الذي ذكر المصنف ان كثيرا منهم عاب من لم يستثن، بل وصف تاركه بالإرجاء فقد روي الآجري بسنده عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: "إذا ترك الاستثناء فهو أصل الإرجاء". الشريعة ص 139. أما الأدلة التي ذكر المصنف فقد ذكرها السلف أيضا في استدلالاتهم على الاستثناء، ومرادهم بإيرادها هو إثبات أن الاستثناء ليس على الشك في هذه المواضع المستدل بها، والله أعلم، وانظر: كلام أبي عبيد في الإيمان ص 68 - 68، والآجري في الشريعة ص 136. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 787 والمعنى الثالث: أن الاستثناء في هذه يرجع إلى كمال الإيمان بالأعمال، لأن الناس لا يخلون من تقصير بالعمل أو من نفاق أو قلة إخلاص، ولا يرجع إلى أصل الاعتراف، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون بابا أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق "1، 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه فهو منافق خالص وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وإذا خاصم فجر "3. وقال صلى الله عليه وسلم: "أكثر منافقي أمتي قراؤها"4.   1 في - ح - (من طريق المسلمين) . 2 تقدم تخريجه - ص 748. 3 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب علامة المنافق) 1/12، م. كتاب الإيمان (ب خصال المنافق) 1/78 من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. وليس في شيء من روايات الحديث قوله: "وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن"، وإنما وردت في حديث أبي هريرة مرفوعا: "آية المنافق ثلاث .... ". أخرجه م. في الموضع المتقدم. 4 أخرجه حم 2/175 من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، كما أخرجه أيضا عن عقبة ابن عامر - رضي الله عنه - في 4/151 - 155، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الكبير من حديث عبد الله وعقبه. انظر: مجمع الزوائد 6/229، وأخرجه الفريابي في صفة النفاق وذم المنافقين ص 39 - 41 من حديث عقبة، وأخرجه ابن عدي في الكامل 4/1466 من حديث عقبة وفي 5/2041 من حديث عصمة بن مالك، قال الهيثمي عن حديث عبد الله بن عمرو: "رجال ثقات"، وحسن الحديث السيوطي. انظر: الجامع الصغير مع فيض القدير 2/80، وصحح حديث عبد الله بن عمرو الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند 10/122، وصححه بمجموع الطرق الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/386. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 788 وقال صلى الله عليه وسلم: "الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا"1. وروي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: "من القلوب قلب أجرد2، فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب مسطح3 فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كالبقلة يمدها الماء العذب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد فأي المدتين غلب عليه حكم بها"4.   1 أخرجه البزار. انظر: كشف الأستار 4/217 عن عائشة - رضي الله عنها - وسنده ضعيف فإن في إسناده عبد الأعلى بن أعين الكوفي، قال الدارقطني: "ليس بثقة"، وقال العقيلي: "جاء بأحاديث منكرة وليس فيها شيء محفوظ". انظر: الميزان 2/259، وللحديث شاهد عن ابن عباس أخرجه عنه أبو نعيم في الحلية 3/36، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 3/232، وله شاهد آخر بإسناده حسن وهو حديثأبي علي الكاهلي عن أبي موسى الأشعري. أخرجه أحمد في المسند 4/403، وعزاه الهيثمي والمنذري للطبراني في الأوسط والكبير، وقال المنذري: "ورواته إلى أبي علي محتج بهم على في الصحيح وأبو علي وثقه ابن حبان ولم أر أحدا جرحه". مجمع الزوائد 10/223، الترغيب والترهيب 1/76، وانظر: النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد ص 222. 2 أجرد أي ليس فيه غل ولا غش فهو على أصل الفطرة فنور الإيمان فيه يزهر. النهاية لابن الأثير 1/56. 3 مسطح أي منبسط. انظر: اللسان 3/2006. 4 لم أقف عليه من قول أبي سعيد، وإنما أخرجه الإمام أحمد والطبراني عن أبي سعيد مرفوعاً وأوله: "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن وسراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ... " الحديث. حم 3/17، الطبراني في الصغير 2/110، وفي إسناده ليث بن أبي سليم قال في التقريب: "صدوق اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك". التقريب ص 287 كما أنه من رواية أبي البختري سعيد بن فيروز عن أبي سعيد، ولم يسمع أبو البختري من أبي سعيد فهو مرسل، وأخرجه ابن بطة في الإبانة الكبير 2/696 وابن أبي شيبة في الإيمان ص 17 من قول حذيفة - رضي الله عنه - نحوه، قال الألباني في التعليق على كتاب الإيمان: "حديث موقوف صحيح". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 789 وقال حذيفة - رضي الله عنه -: "كان الرجل يتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصير بها منافقاً إلى أن يموت، وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشرات مرات"1. وقال بعض العلماء: "أقرب الناس من النفاق من يرى أنه بريء من النفاق"2. وقيل للحسن البصري يقولون: "إن لا نفاق اليوم، فقال الحسن: يا أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في الطرق"3. وروي عنه أو عن غيره من العلماء أنه قاله: "لو نبت للمنافقين أذناب لما قدرنا أن نطأ على الأرض"4، ولا ينجو من هذه الأمور إلا الأنبياء والصديقون فلذلك حسن الاستثناء". والمعنى الرابع في الاستثناء: أنه راجع إلى الشك في الخاتمة، فإنه لا يدري ما يختم له. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحمدوا عمل الرجل حتى تنظروا بم يختم له" 5، قال الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 6.   1 أخرجه حم 5/386، ووكيع في الزهد 3/790، وابن بطة في الإبانة الكبير 2/692 وليس في شيء منها "إلى أن يموت". 2 روي الفريابي في صفة النفاق ص 60 بسنده عن الحسن أنه قال: "ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق ولا مضى منافق ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن" وأخرجه الإمام أحمد في الإيمان ورقة 43 /أ، وأورده البخاري في صحيحه مختصرا "معلقا". انظر: خ - الإيمان (ب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر) 1/15. 3 أخرج الفريابي في صفة النفاق ص 71 أنه قيل للحسن" يا سعيد اليوم نفاق؟ قال لو خرجوا من أزقة البصرة لاستوحشت فيها"، ونحوه أخرج ابن بطة في الإبانة الكبير 2/698. 4 روي هذا من قول مالك بن دينار أنه أقسم لو نبت للمنافقين أذناب ما وجد المؤمنون أرضا يمشون عليها. أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبير 2/699. 5 أخرجه حم 3/120 - 123 - 130 - 257) ، وابن أبي عاصم في السنة 1/174، والآجري في الشريعة ص 185، والبزار. انظر: كشف الأستار 3/26 كلهم من حديث أنس - رضي الله عنه -, ولفظه عندهم "لا تعجبوا بعمل أحد" - فذكره وعزاه الهيثمي إلى أبي يعلى والطبراني في الأوسط وقال: "رجاله رجال الصحيح". مجمع الزوائد 7/211 وصححه الألباني. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/323. 6 الأعراف آية (99) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 790 وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما رفع رأسه إلى السماء قال: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك" 1. وقيل: ما من نبي إلا ودعى بدعاء يوسف عليه السلام "أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين"2. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبين الجنة إلا شبر3 فيسبق عليه كتاب الشقاوة فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار "4. وروي أن إبليس عَبَدَ الله خمساً5 وعسرين ألف سنة فكانت عاقبته في النار6. وقيل: في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} 7 صدقاً لمن مات   1 أخرجه ت. كتاب القدر (ب إن القلوب بين أصبعي الرحمن) 4/448 من حديث أنس - رضي الله عنه - وقال: "حديث حسن" وأخرجه أيضا في كتاب الدعوات (ب منه 5/538) من حديث أم سلمة - رضي الله عنها - وقال: "حديث حسن"، وأخرجه جه. في المقدمة (ب ما أنكرت الجهمية) 1/72 من حديث النواس بن سمعان، حم 4/182 من حديث النواس وفي 6/91 من حديث عائشة - رضي الله عنها - وفي 6/294 من حديث أم سلمة - رضي الله عنها -، وابن أبي عاصم في السنة عن عبد الله وأم سلمة وعائشة 1/104 قال الألباني في التعليق عليه: "أحاديث صحيحة, وليس في شيء من هذه الروايات قوله "كلما رفع رأسه إلى السماء". 2 يوسف آية (101) ولم أقف على من ذكر ما قال المصنف هنا. 3 في - ح - (ذراع) . 4 في - ح - أورد بعد هذا تكملة الحديث: "وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها". وهذا الحديث قطعه من حديث عبد الله بن مسعود "حدثني الصادق المصدوق ... " وقد تقدم تخريجه ص 264. 5 في النسختين كتب (خمسة) وهو خطأ. 6 لم أر من ذكر هذا وإنما ورد عن ابن عباس وغيره أنه كان يعبد الله عز وجل حتى أبى السجود لآدم. انظر: تفسير ابن جرير 1/224. 7 الأنعام آية (115) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 791 على الإيمان وعدلا لمن مات على الشرك1. وكان أبو الدرداء يحلف بالله ما أحد أمن أن يسلب إيمانه إلا سلبه2، ويقال من الذنوب عقوبتها سوء الخاتمة ... أعوذ بالله منها، وقيل: هي عقوبة دعوى الولاية والكرامة بالإفتراء3.   1 ذكر المفسرون هنا قول قتادة: "صدقاً فيما وعد وعدلاً فيما حكم" والمعنى المذكور داخل ضمن هذا. انظر: تفسير ابن جرير 8/9، تفسير ابن كثير 2/168. 2 أخرجه اللالكائي في السنة 6/1020، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/344، والحافظ أبو عمر العدني في كتاب الإيمان - ص 108. 3 التعليل هنا للاستثناء بالجهل بالخاتمة تعليل صحيح إلا أنه لم يرد عن السلف ملاحظة هذا المعنى في الاستثناء في الإيمان، وإنما هو تعليل من قال بوجوب الاستثناء وهم الكلابية وأبو الحسن الأشعري وأكثر أصحابه وبه قال القاضي عبد الجبار المعتزلي ونسب شيخ الإسلام هذا القول إلى المتأخرين من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم. انظر: أصول الدين للبغدادي ص 253، لوامع الأنوار البهية 1/432 - 438، شرح الفقه الأكبر ص 116 - 117، المعتمد في أصول الدين ص 190، شرح الأصول الخمسة ص 728 الفتاوى لشيخ الإسلام 7/253 - 256. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 792 116 – فصل: في ذكر فضائح المرجئة روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بعث الله نبياً قبلي فاستجمعت له أمته إلا كان فيهم مرجئة وقدرية يشوشون أمر أمته من بعده ألا وإن الله لعن المرجئة والقدرية على لسان سبعين نبياً أن آخرهم"1. وروى أبو هريرة أن ال صلىالله عليه وسلم قال: " صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية "2. وروى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صنفان من أمتي في النار قوم يقولون الإيمان كلام وإن زنى وإن سرق وقتل وآخرون يقولون إن أو لينا لضلال يقولون خمس صلوات في يوم وليلة وإنهما صلاتان"3.   1 الحديث ضعيف أخرجه الآجري في الشريعة ص 148 - 193 وابن بطة في الإبانة الكبير 2/884 من حديث سويد بن سعيد الحدثاني وقد قال عنه في التقريب: "صدوق في نفسه إلا أنه عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه". التقريب ص 140 وقد ذكر الحديث الذهبي في الميزان 2/250 في ترجمة سويد ونقل عن البخاري قوله في سويد: "منكر الحديث" وقول النسائي: "ضعيف". 2 أخرجه الآجري في الشريعة ص 193 وهو من طريق علي بن نزار بن حيان عن أبيه عن عكرمة عن أبي هريرة به، وأخرجه ت كتاب القدر (ب ما جاء في القدرية) 4/454، جه في المقدمة (ب الإيمان) 1/24 - 48، وابن أبي عاصم في السنة 1/147، 2/461، واللالكائي في السنة 4/641 من طريق علي بن نزار عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس وهذا سند ضعيف فإن علي قال فيه يحيى: "ليس بشيء"، وقال الأزدي: "ضعيف جداً واشتهر بهذا". الحديث الميزان 3/159 وقال ابن حبان: عن أبيه "شيخ يروي عن عكرمة قليل الرواية منكر الحديث يأتي عن عكرمة بما ليس من حديثه حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها". المجروحين 3/56. وللحديث طريق أخرى عن سلام بن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس عند الترمذي واللالكائي وسندها ضعيف فإن سلاماً ضعيف كما ذكر ابن حجر في التقريب ص 141 وقد ضعف الحديث الألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم 1/147. 3 أخرجه اللالكائي في السنة 5/987 وسنده ضعيف فإنه من رواية عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن حذيفة وعبد الوهاب قال فيه يحيى: "لا يكتب حديثه" وقال أحمد: "ليس بشيء ضعيف"، وقال البخاري: "قال وكيع يقولون لم يسمع من أبيه". انظر: الميزان 4/682، وورد هذا الحديث عن حذيفة موقوفاً أخرجه عنه الآجري في الشريعة ص 143 وأبو عبيد القاسم بن سلام في الإيمان ص 81 من طرق يحيى بن عمرو الشيباني عن حذيفة وهو مرسل. انظر: التقريب ص 378. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 793 وقال ابن عباس: "اتقوا الإرجاء فإنه شعبة من النصرانية"1. وقال مجاهد: "يبدؤون فيكونون مرجئة ثم يكونون قدرية ثم يكونون مجوساً"2. وقال محمد بن علي بن الحسين: "ما ليل بليل ولا نهار بنهار أشبه من المرجئة باليهود"3. وقال محمد بن يوسف4: "دخلت على سفيان الثوري وفي حجره المصحف وهو يقلب الورق فقال: ما أجد أبعد منه من المرجئة"5. روي أن عبد الملك بن مروان6 ذكر الحديث عن النبي صلىالله عليه وسلم، " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة وإن زنى وإن سرق"، فقال له الزهري: "أين ذهب بك يا أمير المؤمنين؟ هذا قبل الأمر والنهي وقبل الفرائض7، وذكروا عند الضحاك بن مزاحم من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: هذا قبل   1 أخرجه اللالكائي في السنة 5/987. 2 أخرجه اللالكائي في السنة 5/998. 3 أخرجه اللالكائي في السنة 5/991. ولعل وجه الشبه والله أعلم بينهما من ناحية أن اليهود يعتقدون أنهم ناجون يوم القيامة وإن لم يعلموا، حيث زعموا أن الجنة لهم والنار لغيرهم ولو دخلوا النار سيدخلونها أياماً معدودة وكذلك المرجئة يزعمون أنهم قد نالوا الإيمان بدون عمل وأنهم سينجون يوم القيامة ويكونون من أصحاب الجنة، والله أعلم. 4 محمد بن يوسف بن واقد الفريابي ثقة فاضل توفي 112هـ -. التقريب ص 325. 5 أخرجه اللالكائي في السنة 5/995. 6 عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، توفي سنة 186هـ - التقريب ص 220. 7 أخرجه الآجري في الشريعة ص 146. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 794 أن تحد الحدود وتنز ل الفرائض1، قال الأوزاعي: "ثلاث هي بدعة من قال أنا مؤمن مستكمل الإيمان، ومن قال أنا مؤمن حقاً، ومن قال أنا مؤمن عند الله"2. ويلزم المرجئة الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل أن إبليس مؤمن لأن الله أخبر أنه قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} 3 وقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} 4 فأخبر الله أنه قال بلسانه أن له رباً، ويلزم الجهمية الذين يقولون: إن الإيمان معرفة بلا قول ولا عمل أن اليهود مؤمنون لأن الله تعالى أخبر عنهم بقوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُم} ْ5 وقد علمنا أن الكفار عرفوا بعقولهم أن الله خلقهم وأنه خلق السموات والأرض6، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَق7 السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 8 ويعرفون أيضاً أنه لا ينجيهم من ظلمات البر والبحر إلا الله ويدعون إلى الله أن ينجيهم وبذلك أخبر الله عنهم. وروي عن زبيد9 أنه قال: لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل10 فحدثني   1 أخرجه الآجري في الشريعة - ص 144، ووجه الاستدلال من هذا الدليل والذي قبله أن المرجئة يزعمون أن من نطق بالشهادة فهو مؤمن كامل الإيمان وأن الزنى والسرقة لا تضره - وقد تقدم ص 757 النقل عن العلماء في هذه المسألة وردهم قول الزهري والضحاك بن مزاحم. 2 فلينظر الشريعة للآجري - ص 146. 3 الحجر آية (39) . 4 الحجر آية (36) . 5 البقرة آية (146) . 6 لم يعرفوا هذا فقط بعقولهم بل بفطرتهم وببقية دين إبراهيم الخليل عليه السلام الذي كانوا عليه. 7 ما بين القوسين ساقط من الأصل، وهو مثبت في - ح -. 8 الزمر آية (38) . 9 في - ح - (زيد) والصواب وزبيد وهو ابن الحارث بن عبد الكريم اليامي قال في التقريب ثقة عابد مات سنة 122هـ -. التقريب 106. 10 هو شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي ثقة مخضرم مات في خلافة عمر بن عبد العزيز وله مائة سنة التقريب ص 147. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 795 عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"1. وسئل ميمون بن مهران عن كلام المرجئة فقال: "أنا أكبر من ذلك"2، يريد أن هذا الكلام حدث بعد ولادتي، وكذلك قال أيوب: أنا أكبر من المرجئة أول من تكلم في الإرجاء رجل يقال له الحسن بن محمد3 وذكروا المرجئة عند سفيان فقال: رأي محدث أدركت الناس على غيره4، وقيل لابن أبي مليكة: إن قوماً يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل فغضب عبد الله بن أبي مليكة فقال: ما رضي الله لجبريل عليه السلام حتى   1 قول زبيد أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/319 والإمام أحمد في الإيمان، ورقة 102/أواللالكائي في السنة 5/1001 أما الحديث فقد أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب خوف المؤمن من أن يحبط عمله) 1/15م. كتاب الإيمان (ب: قول النبي صلى الله عليه وسلم سباب المسلم ... ) 1/81. 2 أخرجه اللالكائي في السنة 5/1001. 3 أخرجه اللالكائي في السنة 5/1003 والحسن هو ابن محمد بن علي بن أبي طالب ثقة فقيه قال عمرو بن دينار: "ما كان الزهري إلا من غلمان الحسن بن محمد". انظر: التقريب ص 72 والتهذيب 2/320 وورى ابن سعد في الطبقات بسنده أن زاذان وميسرة دخلا على الحسن بن محمد بن علي فلاماه على الكتاب الذي وضع في الإرجاء فقال لزاذان يا أبا عمر لوددت أني كنت مت ولم أكتبه الطبقات 5/328. فهذا يبين رجوعه عن هذا القول. وقد ذكر ابن حجر في ترجمته في التهذيب أن الإرجاء الذي نسب إلى الحسن هو إرجاء أمر المتقاتلين في الفتنة بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - وهذا بناء على رواية أبي عمر العدني في كتاب الإيمان له ص 145 عن عبد الواحد بن أيمن أنه قال: كان الحسن بن محمد بن الحنفية يأمر أن أقرأ هذا الكتاب على الناس، فذكر كتاباً مطولاً فيه الأمر بتقوى الله وموالاة الشيخين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - وإرجاء أمر المتقاتلين وذم فيه الروافض وتشيعهم لآل البيت وكذبهم وافتراءاتهم، قال ابن حجر: "وأما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان فلم يعرج عليه فلا يلحقه عاب". وهذا كلام جيد من ابن حجر - رحمه الله - إلا أن اللالكائي ذكر عنه ذلك في معرض الكلام على الإرجاء في الإيمان فلو كان هو المقصود لأفصح عنه العلماء فالإرجاء إذا أطلق لا يتجه إلا إلى الإرجاء في الإيمان، والله أعلم. 4 الشريعة للآجري ص 144، السنة للالكائي 5/1004. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 796 فضله بالثناء على محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} 1. يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، قال ابن أبي مليكة: أو أجعل إيمان جبريل وميكائيل كإيمان فهدان؟ لا؟ ولا كرامة ولا حباً، قالوا: وفهدان هذا كان رجلا في وقته لا يصحوا من الشراب2، ومن زعم أن من قال لا إله إلا الله لم تضره الكبائر إن عملها وأنه كالبر التقي الذي لم يباشر من ذلك شيئاً مخالف لقول الله سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 3 الآية. وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 4. وروى أبو القاسم هبة الله بن الحسن اللالكائي عن سفيان5 عن عباد بن كثير6 أنه قال: "استتيب أبو حنيفة7 مرتين قال مرة: "لو أن رجلاً قال أشهد أن لله بيتاً إلا أني لا أدري أهو هذا أو بيت8 بخراسان كان عندي مؤمناً، ولو أن رجلاً قال: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أني لا أدري أهو هذا الذي بالمدينة أو رجل بخراسان كان عندي مؤمناً"9، قال الحميدي10   1 التكوير آية (19 - 22) . 2 أخرج هذا الآجري في الشريعة ص 147. 3 الجاثية آية (21) . 4 ص آية (28) . 5 في النسختين (عن سفيان بن عباد ... ) وهو خطأ والصواب ما أثبت كما في مصادر الرواية. 6 عباد بن كثير الثقفي البصري متروك مات بعد 140هـ -. التقريب ص 163. 7 في الأصل (أبي) والصواب من - ح -. 8 في الأصل (بيتي) والتصويب في - ح - وكما في مصادر الرواية. 9 أخرجه اللالكائي في السنة 5/996 وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/194 وهو أثر باطل كما هو ظاهر من ترجمة عباد. 10 هو عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي الحميدي أبو بكر ثقة حافظ فقيه توفي سنة 219هـ -. التقريب ص 173. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 797 حمد بن حنبل: "من قال هذا فقد كفر"1. روي أيضاً أن أبا إسحاق الفزاري2 قال، قال أبو حنيفة: "إيمان أبي بكر وإيمان إبليس واحد؛ قال إبليس: يا رب, وقال أبو بكر: يا رب"3. وروي عن وكيع ابن الجراح4 قال: اجتمع ابن أبي ليلى5والحسن بن صالح6وسفيان بن سعيد الثوري وشريك بن عبد الله النخعي7 وأرسلوا إلى أبي حنيفة   1 روى هذا عنهما اللالكائي في السنة 5/998 وذكر قول الحميدي فقط عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/195 وفي إسناده الحارث بن عمير من آل عمر بن الخطاب وثقه ابن معين وأبو حاتم والدارقطني وغيرهما، وقال الأزدي: "ضعيف منكر الحديث"، وقال ابن خزيمة: "الحارث بن عمير كذاب" وقال ابن حبان: "كان يروي عن الأثبات الموضوعات"، وقال ابن حجر: "لعله تغير حفظه بالآخر". انظر: التهذيب 2/153 التقريب ص 60. 2 هو إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الفزاري ثقة حافظ إمام له تصانيف توفي سنة 185هـ -. التقريب ص 22. 3 أخرجه اللالكائي في السنة 5/998 وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/219 وإسناده عند عبد الله إسناد صحيح فقد رواه عن إبراهيم بن سعيد الجوهري الطبري عن أبي ثوبة الربيع بن نافع عن أبي إسحاق وهؤلاء كلهم أئمة ثقات. انظر: ترجمتهم في التقريب. ولعل مراد الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - التساوي بالإقرار إلا أن هذا لا يسلم له إن صح عنه ذلك وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم. وسيأتي موقف المصنف - رحمه الله - من هذه الروايات مع أنه كان في غناء عن إيرادها في كتابه وأبو حنيفة - رحمه الله - إمام من أئمة المسلمين أثنى عليه الأئمة وقد ثبت عنه القول بأن الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالقلب إلا أنه يرى أن الأعمال واجبة وأن تارك الأعمال ومرتكب المنهيات مذموم وقد تقدم بيان أن المرجئة أكثرهم على ان الفاسق مغفورة ذنوبه بالإيمان. انظر: ص 527. 4 وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي أبو سفيان الكوفي ثقة حافظ عابد توفي سنة 196هـ -. التقريب ص 369. 5 محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن صدوق سيء الحفظ جداً توفي سنة 148هـ -. التقريب ص 308. 6 الحسن بن صالح بن صالح بن حي الهمداني ثقة فقيه عابد رمي بالتشيع توفي سنة 199هـ -. التقريب 70. 7 شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي بواسط ثم الكوفة صدوق يخطيء كثيراً تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة وكان عادلاً فاضلاً عابداً شديداً على أهل البدع توفي سنة 178هـ -. التقريب ص 145. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 798 فجاءهم فقالوا له: "ما تقول فيمن نكح أمه وقتل أباه ورب الخمر؟ فقال: مؤمن, فقال ابن أبي ليلى: لا أقبل لك شهادة أبداً، وقال الحسن بن صالح: وجهي من وجهك حرام، وقال شريك: لو كان لي من الأمر شيء لضربت عنقك، وقال له الثوري: كلامك علي حرام أبداً"1. وقال سليمان بن حرب2: "مر أبو حنيفة بسكران فقال له السكران: يا أبا حنيفة يا مرجيء، فقال له أبو حنيفة: صدقت الذنب منى حين سميتك مؤمناً مستكمل الإيمان"3. قلت: وهذه مقالة شنيعة والخطأ فيها ظاهر من قائلها، وأنا أشرف أبا حنيفة من هذه المقالة، لأن الله سبحانه جعله إماماً لخلق كثير من أهل الأرض والله أكرم أن يجعل الناس تابعين في الدين لرجل من أهل النار، ولعله كان يقول بهذا ثم تاب عنه، أو حكي ذلك عن المرجئة مطلقاً فنسب إليه، كما نسب قوم4 لا بصيرة لهم محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - إلى الاعتزال لقوله وإشهاده من يرى أن كذبه شرك بالله ومعصية تجب بها النار أولى أن تطيب النفوس بقبولها من شهادة من يخفف المأثم فيها، وهذا جهل ممن نسب الشافعي إلى الاعتزال بهذا الكلام لأن الشافعي أراد بذلك أن من يرى كذبه شرك بالله ومعصية هم الخوارج5 ولم يرد أن شهادتهم   1 أخرجه اللالكائي في السنة 5/998، وفي إسناده طاهر بن محمد بن الحسن التميمي عن علي بن الحسن النسائي لم أقف لهما على ترجمة. 2 في الأصل (حرم) وفي - ح - (الحارث) والتصويب من السنة للالكائي وهو سليمان بن حرب الأزدي الواشجي القاضي بمكة ثقة أمام حافظ مات سنة 224هـ -. التقريب ص 133. 3 أخرجه اللالكائي في السنة 5/1000 وفي إسناده عمران بن محمد الهروي ولم أقف له على ترجمة. 4 في الأصل (قوماً) وما أثبت من - ح - وهو الصواب. 5 تقدم ذكر قولهم ص 668. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 799 تقبل وإنما أراد أن شهادتهم لا ترد لأجل قولهم هذا لأنه أدعى1 إلى قبول قولهم، والذي يخفف المأثم فيها هم المرجئة لأن الكبائر عندهم لا تضر إذا أتى التوحيد2، والمعتزلة يقولون إن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر3، وكلهم في باب الذم واحد إلا أن منهم من يستحق اسم الكفر بقوله ومنهم من يستحق اسم الفسق ومنهم من يستحق اسم التبديع، وليس إذا قدم بعضهم على بعض في الذم يكون مدحاً لبعضهم كما قال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} 4 فلا يدل5 الترجيح هاهنا6 في أنهم أقرب مودة للذين آمنوا على انهم على حق بغير هذا بل الجميع منهم على كفر، كما أخبر عنهم في آي كثيرة منها قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 7. أما الدليل على بطلان قول من نسب الشافعي - رحمه الله - إلى الاعتزال فما روي عن الشافعي في كتب كثيرة صح إسنادها عنه أنه كفر القدرية، وكفر من قال بخلق القرآن وكفر الفرد8 بقوله. وحكى عنه المزني: هما جماعان أحدهما يوجب العقوبة في الدنيا وهو الحد والعذاب في الآخرة   1 في الأصل (دعا) وما أثبت من - ح - وهو أقوم للعبارة. 2 تقدم التعليق على هذا ص 667. 3 تقدم ذكر قولهم ص 68. 4 المائدة آية (82) . 5 في الأصل (فلا يدخل) وما في - ح - أصوب. 6 في - ح - زيادة (للنصارى) . 7 التوبة آية (30) . 8 تقدم قوله في تكفير القائل بخلق القرآن وتكفير حفص الفرد لأنه قال بخلق القرآن ص 552. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 800 إلا أن يغفر الله، وأراد به الزنا، وقال في الرجل إذا فر من الأسر1 غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة فإن كان هربه على غير هذا المعنى حقت عليه إلا أن يعفو الله تعالى أن يكون قد باء بغضب من الله2، وهذا تصريح منه أن مذهبه كمذهب أهل الحديث أن من ارتكب كبيرة أثم، ولكن إن شاء الله عاقبه وإن شاء عفا عنه، والمعتزلة يقولون إنه يستوجب النار ويكون خالدا مخلداً فيها3 وقد رمي حماد4 بالإرجاء "كان المغيرة5 يقول: حدثنا حماد قبل أن يصير مرجئاً وقال: حدثنا حماد قبل أن يفسد6. قال سفيان الثوري: "اتقوا هذه الأهواء قيل له: فبين لنا رحمك الله، فقال سفيان: المرجئة يقولون الإيمان كلام بلا عمل من قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فهو مؤمن مستكمل الإيمان على إيمان جبريل والملائكة وإن قتل كذا وكذا مؤمنا وإن ترك الغسل من الجنابة وإن ترك الصلاة وهم يرون السيف على أهل القبلة"7. وقال الأوزاعي من آمن وعصى إيمانه بإيمان إبليس أشبه منه بإيمان جبريل، لأن جبريل آمن وأطاع وإبليس آمن وعصى8. وقيل إن عون بن عبد الله بن   1 هكذا في النسختين ولعله يقصد (القتال) أو (الزحف) . 2 في - ح - (إلا أن لا يعفو الله تعالى وأن يكون قد باء ... ) وهو غير مستقيم وما أثبت كما في الأصل ويظهر أن في الكلام سقطا مع أن المعنى المراد واضح وهو أن الذي يفر من الزحف تحت المشيئة. 3 تقدم ذكر هذا ص 668. 4 هو: حماد بن أبي سليمان مسلم الأشعري مولاهم أبو إسماعيل الكوفي الفقيه صدوق له أوهام رمي بالإرجاء مات سنة 120هـ -. التقريب ص 82. 5 المغيرة بن مقسم - بكسر الميم - الضبي مولاهم أبو هاشم الكوفي الأعمى ثقة متقن إلا أنه كان يدلس توفي سنة 136هـ -. التقريب ص 345. 6 أخرجه اللالكائي في السنة 5/1002. 7 أخرجه اللالكائي في السنة 5/999 ومراده بقوله (يرون السيف على أهل القبلة) أنهم يروون الخروج على أئمة الجور. 8 أخرجه اللالكائي في السنة 5/999. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 801 عتبة بن مسعود1 كان مرجئاً فرجع عن الإرجاء وأنشأ يقول: لأول ما تفارق من غيرك شك ... تفارق ما يقول المرجئونا وقالوا مؤمن من آل جور ... وليس المؤمنون بجائرينا وقالوا مؤمن دمه حلال2 ... وقد حرمت دماء المؤمنينا3 وأنشد سليمان بن منصور بن عمار4: أيها القائل إني مؤمن ... إنما الإيمان قول وعمل إنما الإرجاء دين محدث ... سنة جهم بن صفوان تحل إن دين الله دين قيم ... فيه صوم وصلاة تعتمل وزكاة وجهاد لا مرئ ... حارب الدين اعتدى وقتل ليس بالمستكمل الإيمان من ... إن رأى صلى وإلا لم يصل اسم هذا مؤمن الإقرار لا ... مؤمن حقا وحقا لم يقل إن رأي سفيان وما ... كان سفيان على رأي فضل5   1 عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي أبو عبد الله. ثقة عابد. توفي قبل 120هـ - التقريب ص 267. 2 أخرجها عنه اللالكائي في السنة 5/1006. 3 في الأصل (حرام) وفي - ح - وعند اللالكائي كما أثبت وهو الصواب إذ المراد بيان شناعة قول من كان يرى السيف في الأمة من المرجئة والخوارج حيث أباحوا دم المؤمن. 4لم أقف له على ترجمة. 5 فضل بفتح الفاء والضاد من الفضلة بفتح الفاء وسكون الضاد أي الزائد الذي لا قيمة له. وأخرج هذه الأبيات اللالكائي في السنة 5/1007. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 802 117 - فصل وعند أهل1الحديث أن الجن وإبليس خلق من خلق الله يراهم من أراه الله إياهم وقالت المبتدعة: لا حقيقة للجن، وإبليس2 كل رجل سوء3 والدليل على ما ذكرناه أن الله سبحانه أخبر بكتابه عن إبليس وَأَمْرِه له بالسجود لآدم وتكبره عن السجود وإخراجه له من الجنة وسؤاله النظرة إلى يوم القيامة، وأخبر بكتابه عن الجن بقوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِن} 4 الآيات كلها في هذه السورة. ومن السنة ما روى أبو ثعلبة الخشنى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجن على ثلاث فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وثلث حيات5 وكلاب، وثلث يحلون ويظعنون"6.   1 في - ح - (أصحاب) . 2 في الأصل (وإبليس عند) وفي - ح - كما أثبت ولا معنى لقوله هنا (عند) . 3 الجن مخلوقات من مخلوقات الله عز وجل وهم مكلفون ومعاقبون إن فرطوا، وفيهم الصالحون والفاسقون، وهم يتناسلون ولهم قدرة على التشكل بهيئات غير هيئاتهم الحقيقية هذا مجمل اعتقاد السلف فيهم وأدلة هذا في الشرع ظاهرة، وأقر بوجودهم أكثر طوائف بني آدم وعزا شيخ الإسلام إنكار وجودهم إلى شرذمة قليلة من جهال الفلاسفة والأطباء، وقد زعم الجويني في الإرشاد أن معظم المعتزلة ينكرون وجودهم ولم أقف على من عزا إليهم ذلك غيره. وقال الأشعري في مقالاته: "وذهب إلى إنكار وجودهم ذاهبون". وقد أنكر وجودهم بعض المتأخرين من الذين يحكمون عقولهم الذين تابعوا ملاحدة أهل الكتاب كما نقل عنهم ذلك صاحب كتاب (منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير) . أما رؤيتهم ففي حال تشكلهم بصورة غير صورة خلقتهم الأصلية فإنهم يرون فيها كما في قصة أبي هريرة مع الشيطان والتي سيوردها المصنف، أما صورتهم الأصلية فقد ورد عن الشافعي - رحمه الله - إنكار أن يروا بها. فروى عنه البيهقي في المناقب أنه قال: "من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبياً" والله أعلم. انظر: مق - الات الإسلاميين 2/127 - 128، الفصل لابن حزم 5/12، مجموع الفتاوى 19/32، الإرشاد للجويني ص 270، منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير - ص 631 - 647 عالم الجن والشياطين ص 8. 4 سورة الجن آية (1) . 5 في - ح - زيادة (وعقاب) وليست في الأصل ولا في شيء من مصادر الرواية. 6 أخرجه الحاكم في المستدرك 2/456 وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ص 492 واللالكائي في السنة 7/1218 وأبو نعيم في الحلية 5/137 والديلمي في مسند الفردوس، انظر: فردوس الأخبار 2/200 وعزاه الهيثمي والسيوطي إلى الطبراني في الكبير، ولم أجده في المطبوع. انظر: مجمع الزوائد 8/136 والجامع الصغير مع فيض القدير 3/364 وصحح الحديث العراقي والسيوطي. انظر: فيض القدير 3/364 وصححه الألباني. انظر: التعليق على مشكاة المصابيح 2/1206 وصحيح الجامع الصغير 3/85. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 803 وروى أبو هريرة قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحفظ زكاة رمضان فأتى آت من الليل فجعل يحثوا من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعني إني محتاج وحالي شديد وعلي عيال فرحمه وخلى سبيله، فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك الليلة، قال: يا نبي الله زعم أنه محتاج وحاله شديد فرحمته، فقال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فلما كان الليلة الثانية رصده فجاء يأخذه وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعمت أنك لا تعود وقد عدت فقال كما قال في الليلة الأولى، فرحمه وخلى سبيله، فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال له في الليلة الأولى، فلما كان في الليلة الثالثة رصدهه فجاء يأخذه فقال له كما في الليلة الثانية، فقال له: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، وكانوا حريصين - على الخبر - فقال: ما هن قال: إذا أخذت مضعجك فاقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما فعل أسيرك الليلة فقال: يا بني الله علمني كلمات وأخبره الخبر فقال: أما أنه قد صدقك وهو كذوب. أتدري يا أبا هريرة من تخاطب قال: لا، قال: ذلك شيطان" أخرجه البخاري1. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل2: "لما حضر أبي الوفاة كنت عنده وكان   1 خ. كتاب الوكالة (ب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل) 3/88. 2 هو الحافظ عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل أبو عبد الرحمن كان إماما خبيرا بالحديث وعلله مقدما أروى الناس عن أبيه وهو الذي رتب مسند والده، توفي سنة 290هـ -. العبر في خبر من غبر 1/418. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 804 يعرق مما هو فيه وبيدي خرقة أمسح بها عينيه ساعة فساعة ففتح أبي عينيه وحدق بها وأومأ بيده وقال لا بعد دفعات، فقال: يا أبت من تخاطب فقال: هذا إبليس قائماً يحضرني عاضا1 على أنامله يقول: يا أحمد فتني فقال: لا حتى أموت"2.   1 في الأصل (عاض) وما أثبت من - ح -. 2 أخرجه اللالكائي في السنة 7/1219. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 805 118 - فصل وعند أهل الحديث أن خروج الدجال حق وقالت المبتدعة الدجال كل رجل خبيث1. والدليل على ما ذكرناه ما روى أبو عبيدة بن الجراح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم يكن نبي بعد نوح إلا قد أنذر قومه الدجال وإني أنذركموه"، فوصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لعله سيدركه بعض من رآني وسمع كلامي"، قالوا: يا رسول الله فكيف قلوبنا يومئذ، قال: "مثلها اليوم أو خير"2. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بعث نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب إلا أنه أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل من كره عمله"3، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدجال يخرج من أرض المشرق يقال لها خراسان يتبعه أقوام كأن وجوههم4 المجان المطرقة"5.   1 ذكر النووي في شرح مسلم 18/58 عن القاضي عياض أنه قال: "هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده وأنه شخص بعينه ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء تقع بقدرة الله ومشيئته، ثم يعجزه الله عز وجل ويبطل أمره ويقتله عيسى صلى الله عليه وسلم ويثبت الله الذين آمنوا، وهذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار خلافا لمن أنكره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة". اتنهى ملخصا. كما أنكر الدجال المدرسة العقلية الحديثة محمد عبده ومن تابعه في هذا النهج وزعموا أن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها. انظر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير ص 521 والأحاديث الصحيحة الصريحة التي سيذكرها المصنف - رحمه الله - هنا ترد على هذا التأويل الباطني المنحرف. 2 أخرجه ت. كتاب الفتن (باب ما جاء في الدجال) 4/507 د. كتاب السنة (ب في الدجال) 2/282، والحديث منقطع فإن عبد الله ببن سراقة الأزدي لم يسمع من أبي عبيدة كما ذكر ذلك البخاري. انظر: التقريب - ص 175. 3 أخرجه خ. كتاب الفتن (ب ذكر الدجال) 9/50 م. كتاب الفتن (ب ذكر الدجال) 4/2248 وليس في روايتهما قوله (يقرأه كل من كره عمله) وإنما ذكرها مسلم من حديث ابن شهاب عن عمر ابن ثابت الأنصاري عن بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يوم حذر الناس من الدجال "إنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل من يكره عمله". 4 في الأصل (عيونهم) والصواب ما أثبت كما في - ح - ومصادر الحديث. 5 أخرجه ت. كتاب الفتن (ب علامة الدجال) 4/509 من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وقال الترمذي حديث حسن غريب وقد وقد رواه عبد الله بن شوذب وغير واحد عن أبي التياح ولا نعرفه إلا من حديث أبي التياح، انتهى. وأبو التياح عو يزيد بن حميد الضبعي ثقة ثبت. انظر: التقريب ص 381، كما أخرجه عنه جه. كتاب الفتن (ب فتنة الدجال) 2/1353 حم. 1/13 بتحقيق أحمد شاكر، الحاكم في المستدرك (كتاب الفتن والملاحم) 4/527 وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وصحح الحديث الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 806 وقال صلى الله عليه وسلم: " يأتي الدجال المدينة فيجد الملائكة يحرسونها فلا يدخلها الطاعون ولا الدجال إن شاء الله".1 والدجال قد خلق وهو في الدنيا موثق بالحديد إلى الوقت الذي يأذن الله بخروجه.2 وعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أكل الطعام ومشى في الأسواق يعني الدجال"3. وروى أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يمكث أبو الدجال وأمه ثلاثين عاما لا يولد لهما ولد ثم يولد لهما ولد أعور أضر شيء وأقله منفعة تنام عيناه ولا ينام قلبه، ثم نعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: "أبوه طوال ضرب اللحم كان أنفه منقار وأمه امرأة طويلة اليدين" قال أبو بكرة فسمعنا بمولود في اليهود بالمدينة فذهبت أنا والزبير بن العوام فدخلنا على أبويه فإذا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما فقلنا هل لكما ولد فقالا: مكثنا ثلاثين عاما لا يولد   1 أخرجه خ. كتاب الفتن (ب الدجال لا يدخل الجنة) 9/51 نحوه. وأخرجه ت. كتاب الفتن (ب ما جاء في الدجال لا يدخل المدينة (4/514 من حديث أنس مثله. 2 لعل مراد المصنف هنا الإشارة إلى حديث فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها - في قصة تميم الداري ورؤية ابن عمه للدجال موثقا في جزيرة من جزر البحر وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، وقد أخرج هذه القصة مسلم في صحيحه في كتاب الفتن (ب قصة الجساسة) 4/2261. 3 أخرجه الآجري في الشريعة ص 374، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الأوسط. مجمع الزوائد 8/2، وإسناده ضعيف لأنه من طريق علي بن زيد بن جدعان قال عنه في التقريب ص 246: "ضعيف"، وقد روى الحديث من طريق علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن عمران بن الحصين أخرجه، حم 4/444 والطبراني في الكبير 18/155 والحميدي في مسنده 2/368 والآجري في الشريعة 374 وهو ضعيف لضعف علي بن زيد - كما تقدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 807 لنا ولد ثم ولد لنا غلام أعور أضر شيء وأقله منفعة تنام عيناه ولا ينام قلبه قال فخرجنا من عندهما فإذا هو منجدل في الشمس في قطيفة وإذا له همهمة فكشف عن رأسه فقال: ما قلتما قلنا: هل سمعت ما قلنا، قال: نعم تنام عيني ولا ينام قلبي"1. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأنبياء أمهاتهم شتى ويدنهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وأنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بللل وأنه يدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في إمارته الملل كلها2 غير الإسلام، ويهلك الله في إمارته3 المسيح الأعور الكذاب، وتقع الأمنة في الأرض حتى يرعى الأسد مع الإبل والنمر مع البقر والذئاب   1 أخرجه ت. كتاب الفتن (باب ما جاء في ذكر ابن صائد) 4/517 حم 5/ 40 - 49 - 50) ، وسنده ضعيف لأنه من رواية علي بن زيد بن جدعان وقد تقدم في الحديث قبله بيان حاله، وقد ضعفه ابن حجر ونقل عن البيهقي تضعيفه أيضا. انظر: فتح الباري 13/326. وابن صياد وقع في أمره اشتباه وقد شك فيه النبي صلى الله عليه وسلم هل هو الدجال أم هو غيره لهذا قال لعمر حين استأذنه في قتله: "إن يكنه فلن تسلط عليه وإن لم يكنه فلا خير لك في قلته". أخرجه م.، 4/2244 وكان النبي صلى الله عليه وسلم يترصده كما روى ذلك عبد الله بن عمر أن النبي صلوات الله وسلامه عليه كان يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا وكان ابن الصياد في قطيفة مضطجع وله همهمة، فرأت أم ابن الصياد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتقي بجذوع النخل فقالت لابن صياد (يا صاف) هذا محمد فثار ابن صياد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو تركته بين". أخرجه م. 4/2244، وقوله: " لو تركته بين" أي لو لم تناده أمه تركته على حاله لبان أمره وعرف. وقد جزم بعض الصحابة ومنهم عمر وجابر وابن عمر - رضي الله عنهم - أنه دجال. والصحيح أن ابن صياد ليس هو المسيح الدجال وإنما هو دجال من الدجاجلة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه من أمره بشيء فلهذا لم يكن ظهر له من أمره شيء ثم ظهر له صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن الدجال غيره وذلك في قصة تميم الداري ورؤية الدجال في جزيرة من جزر البحر، والله أعلم. انظر: شرح مسلم للنووي 18/46، فتح الباري 13/325 - 327. 2 في الأصل (اأمارتها كلها) وما أثبت من - ح - ويتفق مع المصادر. 3 في الأصل (إمارتهم) وما أثبت من - ح - ويتفق مع مصادر الرواية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 808 مع الغنم ويلعب الصبيان بالحيات لا يضر بعضهم بعضا، يلبث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون"1. وقيل: إنه يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر2 وعمر، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقتل ابن مريم الدجال بباب لد" 3.   1 في الأصل (المسلمين) وهو خطأ، والحديث أخرجه د. كتاب الملاحم (ب خروج الدجال) 2/214 حم 2/437 والآجري في الشريعة ص 380 ومداره على عبد الرحمن بن آدم الراوي عن أبي هريرة قال عنه في التقريب ص 198 صدوق وقال ابن كثير هذا إسناد جيد قوي النهاية 1/188. 2 ذكر هذا الآجري وروى أيضا بإسناده عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - أن القبور أربعة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وقبر عمر وقبر رابع يدفن فيه عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم الشريعة ص 381. 3 أخرجه ت. كتاب الفتن (ب قتل عيسى بن مريم الدجال) 4/515 من حديث مجمع ابن جارية الأنصاري - رضي الله عنه - وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". حم 3/420. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 809 119 - فصل صارت المعارف مختلفة على حسب ما وجدنا السبيل إليها1، فعندنا أن معرفة الله سبحانه حصلت للمخلوقين مكتسبة2، والعلم المتكسب هو: كل علم وقع بعد نظر واستدلال.   1 هذا الفصل لم يتبين لي وجه اقحامه في هذا المكان مع أنه من كلام أهل الكلام الذي يختلف التعبير فيه وقد يكون المراد صواباً إلا أن العبارة لا تفيده. وقول المصنف "صارت المعارف مختلفة على حسب ما وجدنا السبيل إليها" يقصد به أن من المعارف ما يكون ضرورياً وهو ما يعرفه الباقلاني في التمهيد ص 26 بأنه ما يلزم النفس لزوماً لا يمكن الخروج عنه ولا الانفكاك عنه ولا الشك فيه، كمعرفة الانسان لوجوده وفنائه وبوجود الأرض والسماء وما إلى ذلك. ومعرفة مكتسبة وهي: ما يتم تحصيله إما بخبر أو دليل أو تجربة ونحو ذلك من طرق تحصيل المعارف، وذكر ابن حزم في الفصل 5/108 أن ما كان من المعارف ثبت ببرهان فمعرفة النفس به اضطرارية وأن الاكتساب هو طلب الدليل" - انتهى. وقول ابن حزم هنا اظهر وأوضح من ناحية وصفه لما ثبت من المعارف بالبرهان بأنه ضروري، إلا أن هذا النوع من المعارف يصح وصفه بأنه مكتسب على التعريف السابق، والصحيح أن جميع العلوم مكتسبة إلا معرفة الخالق جل وعلا المعرفة الفطرية كما سيأتي بيانه. أما سائر المعارف الأخرى فإنها مكتسبة بدليل قوله عزوجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا} البقرة: من آية (31) وكذلك قوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} النحل من آية (78) إلا أن من العلوم ما يكون بدهي ظاهر لا يحتاج إلى كدّ ذهن واستدلال كفوقية السماء ووجود الإنسان وفنائه وحاجته وما إلى ذلك، ومنها ما يحتاج إلى دليل وبرهان حتى إذا استقر في النفوس صار علما ضروريا لا ينفك عن النفس ولا يقع فيه الشك إلا من باب الوسوسة الشيطانية. 2 قول المصنف هنا بأن معرفة الله مكتسبة هو قول المتكلمين ومن أخذ بقولهم فقد ذكر شيخ الإسلام أن كثيراً من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم من الطوائف من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم ذهبوا إلى أن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر. انظر: درء تعارض العقل والنقل 7/353، والدليل الشرعي على خلاف قولهم حيث دل على أن معرفة الله فطر عليها الخلق وكذلك الإقرار بربوبيته. قال عزوجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} الأعراف آية (172) ، وكذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" قال أبو هريرة: "اقرؤوا إن شئتم قوله عزوجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الروم آية (30) . أخرجه خ. الجنائز 2/87، م. كتاب القدر 4/2047 وحديث عياض بن حمار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي". أخرجه م. صفة الجنة 4/2197 فهذا ظاهر منه أن القلوب مفطورة على الإقرار بالخالق ومعرفته، وأن الانحراف عن هذه المعرفة والإيمان تكون من قبل الأبوين والمجتمع أو بسبب الغفلة والشياطين، إلا أن هذه المعرفة ليست معرفة كافية وافية فتحتاج إلى معرفة مكتسبة وهي ما يحصله الإنسان بتعلم دين الله عز وجل والنظر في آياته الشرعية والكونية فيحصل له بذلك معرفة جديدة تنمو وتزداد كلما ازداد نظراً وعلما قال عزوجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فاطر آية (28) . فالعلم بالله ومعرفته يزيد من خشيته ومراقبته جل وعلا. فهذا يدل على أن معرفة الله منها ما هو فطري ومنها ما هو مكتسب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 810 أما علمنا بادعاء النبي صلى الله عليه وسلم النبوة فهو علم ضروري، لأنا علمنا ذلك بالنقل المتواتر الذي لا يمكن دفعه بشك وشبهة، وأما صدقه فيما ادعاه فهو علم مكتسب، لأنه فكر وتأمل ونظر1 كعلمنا بأن العالم محدث وأن له محدثاً. وأن الموجب لذلك علينا هو السمع وهو المرشد إليها والمنبه عليها، ولا نستغني بالعقل عن السمع المنبه، كما لا يستغني في الصنائع الدقيقة واالأفعال المحكمة عن المرشد إليها والمنبه عليها، فالرسل هم المرشدون إلى ذلك والمنبهون عليه، وهم المؤيدون بالآيات والمعجزات ولا يجب علينا شيء إلا بدعائهم، ولا نستغني بالعقول عن إرشادهم، وما من عصر إلا وفيهم2 نبي أو شريعة نبي. قال الله تعالى: {لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 3، وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} 4.   1 تفريق المصنف بين دعوى النبي صلى الله عليه وسلم النبوة وبين صدقه فيما أخبر بأن الأول ضروري والثاني مكتسب لا يظهر منه فرق واضح، إذ الجميع متكسب لأن العلم بالنقل المتواتر علم مكتسب، إلا أن هذا العلم بعد اكتسابه يصير ضرورياً لا ينفك عن النفس بشهبة سأو شك، وكذلك العلم بصدقه إذا اكتسب عن طريق النظر والاستدلال صار علماً ضرورياً لا ينفك عن النفس ولا يزول منها، والله أعلم. 2 في - ح - (إلا فيه) . 3 النساء آية (165) . 4 فاطر آية (24) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 811 وقد اختلف أهل الزيغ في ذلك فمنهم من قال: إن معرفة الخلق لله حصلت ضرورة1 ومنهم من قال: إن معرفة الخلق لله طباع2، ومنهم من قال: إن معرفة الله تقع بعد البلوغ من غير تطويل بفعل الله فيه3، ومنهم من قال: إن المعرفة في ذلك ليس باضطرار ولا اختيار ولا كسب وإنما هي فعل لا فاعل لها4، وجميع هؤلاء يقولون: إن معرفة الله لا يصح الأمر بها، وأحالوا الأمر بها جملة، وهذه الفرق كلها فرق المعتزلة وهم موافقون للبراهمة في قولهم إنهم يستغنون بما في عقولهم عن الرسل وإرشادهم5، ولهذا6 أبطلت المعتزلة والقدرية كثيراً من ظاهر7 القرآن والسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما خالفت عقولهم الفاسدة، وأولوا ذلك على خلاف مقتضاها. والدليل على صحة ما قلنا قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 8، ولم يخل العقلاء من رسل يدعونهم إليه ويدلونهم بآيات   1عزا هذا القول الإسفرائيني إلى أبي الهذيل العلاف، وقال شيخ الإسلام عن هذه المعرفة: "إن جمهور طوائف المسلمين قالوا إنها يمكن أن تقع ضرورة ويمكن أن تقع بالنظر، بل قال كثير من هؤلاء إنها تقع بهذا تارة وبهذا تارة". انظر: الفرق بين الفرق ص 129، درء تعارض العقل والنقل 7/354. 2 قال بهذا من المعتزلة أيضاً الجاحظ وأبو علي الأسواري. انظر: المغني لعبد الجبار 12/316، شرح الأصول الخمسة ص 52. 3 لعل المراد بهذا أن معرفة الله وقعت بالإلهام وهو قول ذكره عبد الجبار المعتزلي في المغني 12/230، وعزاه شيخ الإسلام إلى كثير من أهل الكلام والصوفية والشيعة وصالح قبة وفضل الرقاشي وهما من المعتزلة. انظر: درء تعارض العقل والنقل 7/353. 4لم يتبين لي قائل هذا مع أن من المعتزلة كالقاضي عبد الجبار من صرح بأن معرفة الله مكتسبة والقائلون منهم بأنها ضرورية يوجبون العقاب ولو لم يبعث الله الرسل. انظر: شرح الأصول الخمسة ص 52، الملل والنحل للشهرستاني 1/52 - 70. 5 تقدم الكلام على هذا - ص 117 أول الكتاب. 6 في - ح - (ولهذا المعنى) . 7 في - ح - (ظوهر) . 8 الإسراء آية (15) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 812 يظهرها لهم أو يخاطبهم بل واسطة1 كمخاطبته لملائكته الذين هم السفرة بينه وبين رسله، ومعرفتهم له إما بمشاهدة منهم له أو بما يجري مجرى المشاهدة مما هو أعلم بما تقع لهم المعرفة به معرفة قطعية2، وعلى هذا الأمر جرى الأمر لآدم صلى الله عليه وسلم لما خلقه بيده واسكنه جنته وقال له: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة} 3 فأرشده إلى ما أباحه له، وزجره عما نهاه عنه، وعلمه الأسماء وما يتضمنه4 كل اسم من المعنى، ثم قضى عليه ما وقع منه وأخرجه من الجنة إلى الدنيا واخبر سبحانه عما كان منه إليه بقوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} 5 والنسيان إنما يكون من المكلفين فيما سبق عليهم فيه الأمر فأهبطه الله إلى الأرض بعد أن غفر له زلته، وجعله رسولاً إلى أولاده يرشدهم إليه ويدلهم على طرق الاستدلال عليه، فانقادوا لطاعته، وحصلت لهم المعرفة بالله بما نبههم عليه، فقبض بعد أن أوضح لهم السبيل، وأبان لهم الدليل، وجعلهم الحجة على ما يأتي بعده من أولادهم، واستحفظهم حجج الله، ووكلّهم بنقل ذلك إلى من بعدهم، فأقاموا على ذلك لا تلحقهم سآمة في نقله، فلما طال العهد وضعفت البصائر وثب الشيطان ودعاته يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، فبعث إليهم رسولاً يذكرونهم ما نسوا من العهد، ويدعونهم إلى ما أغفلوا من طاعة ربهم، ولم6 يُخْلِ الله عصراً من قائم بحجة، وأمرهم باتباعه قال الله   1 يعني أو يخاطب الله رسله بلا واسطة وهو التكليم كما وقع لموسى عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم في المعراج وهو التكليم من رواء حجاب الوارد في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} الشورى آية (51) . ويقصد هنا بيان أن المعرفة التي تقع للأنبياء عليهم السلام معرفة مكتسبة إما عن طريق الآيات التي يظهرها الله، أو عن طريق التكليم، لكن هذا لا يدل على عدم وجود معرفة فطرية سابقة. 2 المراد بهذا معرفة الملائكة عليهم السلام لربهم عز وجل. 3 البقرة آية (35) ، الأعراق آية (19) . 4 في - ح - (مما يتضمنه) . 5 طه آية (115) . 6 في الأصل (ولن) وما أثبت من - ح -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 813 تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} 1 فمن قال: إن الخلق يستغنون عن الرسل، وأن معرفة اله لا يصح الأمر بها فقد خالف الكتاب وأبطله، ومن قال إن معرفة الله بالإلهام أو بالطباع أو بغير كسب المأمور يلزمه أن يقول إن الكفار الذين عاندوا الرسول صلى الله عليه وسلم في زمانه وقتلهم أنهم مخلدون في الجنة إذا لم يكن لهم طباع أو إلهام أو لم يفطروا على المعرفة، وإلى هذا ذهب ثمامة بن أشرس النميري2 شيخ المعتزلة بعد إذ زعم أنه يجوز أن يكون كثير3 من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين في الجنة4، ومن كان هذا مقتضى قوله فلا شك في كفره لمخالفته نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.   1 في كلا النسختين هكذا (وَأَطِيعُوا اللَّهَ َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ الرَّسُولَ وما أنزل إليكم) وهو خطا والآية في المائدة (92) والتغابن آية (12) كما أثبت. 2 قال عنه الذهبي: "من كبار المعتزلة ومن رؤوس الضلالة كان له اتصال بالرشيد ثم بالمأمون وكان ذا نوادر وملح". ميزان الاعتدال 1/371. 3 في الأصل (كثيرا) وما أثبت من - ح - وهو الصواب. 4هكذا في النسختين والذي نقل عن ثمامة أن هؤلاء الناس يصيرون تراباً، وذلك لعدم معرفتهم لله فيكونون كالحيوانات الذين خلقوا للسخرة. نقل هذا عنه الاسفرائيني في الفرق بين الفرق ص 172 وهو الذي يتناسب مع المسألة إذ الإعراض عن الأمر الفطري لا يستحقون عليه المثوبة فأقل ما فيه أن تسقط عنهم العقوبة ومنه يتبين أن قول المصنف في الكفار الذين قلتهم النبي صلى الله عليه وسلم يلزم أنهم مخلدون في الجنة خطأ لا يتأتى على هذا القول. وقد نفي صاحب كتاب الانتصار في الرد على ابن الراوندي أن يكون ثمامة قال هذا القول، وزعم أن ثمامة يرى أن الكافر هو من يعرف الله ويقصد معصيته، أما من لم يعرف الله ولا يقصد معصيته فليس بكافر انظر: الاتنصار والرد على ابن الراوندي الملحد للخياط ص 139. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 814 120 - فصل معرفة الإمام من الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ليس بشرط في اعتقاد الإيمان1، ولو أن رجلا آمن بالله وبصفاته وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به وبالبعث والنشور كان مؤمنا وإن لم يعرف اسم أحد من الصحابة أبا بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم -، ولا من كان يستحق الخلافة منهم والإمامة، بل قد منع بعض العلماء من الكلام في ذلك، واحتج بأن ذلك انقضى وحكم قد مضى فلا معنى للاشتغال به، ولعل الكلام فيه مثار الشر والتباغض في التعصب، فالإعراض من الخوض فيه أسلم من الكلام فيه2. وذهب أكثر أهل العلم إلى تجويز الكلام فيه وإباحته، لأنه يفيد أحكاماً في الدين ومعرفة ما كان عليه أمر الصحابة - رضي الله عنهم -، والكلام في الإمامة من فروع الدين الومسائل الفقهية التي تكلم بها أهل العلم، ومذهب أصحاب الحديث وأكثر أهل العلم إلى أن نصب الإمام واجب3. وقال بعض المتكلمين لو تكاف الناس عن الظلم لم يجب نصب الإمام، وهذا خطأ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على نصب   1 هذا الفصل عقده المصنف للكلام على الإمامة والخلاف فيه مع الروافض وقوله هنا: "ليس بشرط في اعتقاد الإيمان" هو في مقابل دعوى الروافض أن معرفة الإمام أحد أركان الدين بل أهمها عندهم. انظر: مقالات الإسلاميين 1/121، وانظر: قول ابن المطهر الحلي في منهاج الكرامة ورد شيخ الإسلام عليه في منهاج السنة النبوية 1/73/123. 2 قال بهذا الغزالي في: الاقتصاد ص 147 والآمدي في غاية المرام ص 363. 3 هذا مذهب جمهور المسلمين، وحكى خلاف في ذلك عن النجدات من الخوارج وعبد الرحمن بن كيسان الأصم. انظر: الأحكام السلطانية للماوردي ص 5، مقالات الإسلاميين 2/149، الفصل في المل والنحل 4/87، الإمامة العظمى عند أهل السنة ص 45. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 815 الإمام1، ولأن تكاف الناس عن المظالم مستحيل، لأن الظلم من شيم النفوس وإنما يظهره القدرة2 ويخفيه العجز. إذا ثبت هذا فليس من شرط الإمام الاختصاص بشيء من العلوم لا يشاركه فيها غيره، بل هو وسائر الخلق في علم الشريعة وأحكامها شيء واحد، لأن الأئمة في عصر الصحابة - رضي الله عنهم -3 لا يدعون لأنفسهم ولا يدعي لهم مدع منهم اختصاصاً بشيء من العلوم لا يشاركهم غيرهم فيه4. فإن قيل: إذا لم يكن الإمام يختص بشيء من ذلك فما المقصود، وما المعنى الذي نصب لأجله؟ قيل: المعنى الذي نصب الإمام أجله هو انتظام أمر الدنيا والدين، لأن نظام الدين لا يحصل إلا بانتظام الدنيا من تدبير الجيوش، وسد الثغور، وردع الظالم، وأخذ الحق للمظلوم، ونصب القضاة وجمع شتات الآراء وإقامة الحدود، فجملة الدنيا في حق الإمام كبلدة في حق قاض من القضاة. ولا تنعقد الإمامة إلا لمن وجدت فيه شروط منها: أن يكون ذكراً، بالغا، عاقلاً، حراً، مسلماً عدلاً، عالماً من الفقه ما يخرجه عن أن يكون مقلداً، لأن هذه الشرائط تعتبر في حق القاضي، فلأن تعتبر في حق الإمام أولى. ومن شرطه أن يكون: سميعاً بصيراً، ناطقاً، لأن الأصم والأعمى والأخرس لا يكمل لتدبير الأمور التي نصب الإمام لأجلها، ومن شرطه أن يكون: قرشياً من أي قبائل قريش كان، ولا يختص ببني هاشم وبني   1 نسب هذا القول أبو الحسن الأشعري في المقالات إلى الأصم وإلى النجدات من الخوارج، وذكر الإسفرائيني أن الفوطي هشام بن عمرو من المعتزلة زعم أن الأمة إذا اجتمعت كلمتها وتركت الظلم والفساد احتاجت إلى إمام يسوسها، وإذا عصت وفجرت وقتلت إمامها لم تعقد الإمامة لأحد في تلك الحال. انظر: مقالات الإسلاميين 1/205 2/149، الفرق بين الفرق ص 163 الفصل لابن حزم 4/87 2 في الأصل (القدرية) وفي - ح - كما أثبت وهو الأصوب. 3 في الأصل زيادة (منهم من) ولا معنى لها وفي - ح - كما أثبت. 4 في هذا رد على الروافض الذين يزعمون أن أئمتهم لهم علم خاص لدني بل يزعمون أن جميع الصفات النبوية جارية في الإمام ما عدا النبوة فقط. انظر: حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شُبَر 1/205. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 816 عبد المطلب1. وقال أبو المعالي الجويني2: "يجوز أن يكون من غير قريش"3، وهذا خطأ والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش "4 وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان "5، 6. ولما خطب النبي صلى الله عليه وسلم آخر خطبة خطبها7 يوصي بالأنصار، فقال له   1 اشتراط القرشية في الإمامة مجمع عليه من الصحابة والتابعين. قال النووي في شرح مسلم 12/200 في كلامه على حديث: "الناس تبع لقريش" هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر أن الخلافة مختصة بقريش لا يجوز عقدها لأحد غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة فكذلك من بعدهم. ونقل عن القاضي عياض حكاية الإجماع، وحكاه الماوردي في الأحكام السلطانية ص 6. 2 إمام الحرمين عبد الله بن أبي محمد الجويني الشافعي أحد الأئمة الأعلام وأذكياء العالم واحد أوعية العلم. توفي سنة 478هـ -. العبر 2/339. 3 ادعى الجويني في كتابه (غياث الأمم) ص 63 أن الأدلة في أن الأئمة من قريش ليست متواترة، وأنها لا تفيد القطع وإنما هي أخبار آحاد، ثم زعم أن هذه الأحاديث لا تفيد العلم باشتراط النسب في الإمامة وفي كتابه الإرشاد ص 359 ذكر أن شرط القريشية في الإمامة فيه احتمال عنده، كما خالف في هذا الشرط الخوارج وضرار بن عمرو من المعتزلة، فحكي عنهم جوازها في غير قريش، بل حكي عن ضرار قوله إذا اجتمع حبشي وقرشي قدمنا الحبشي لأنه أسهل لخلعه إذا حاد عن الطريقة. انظر: الفصل لابن حزم 4/89، مقالات الإسلاميين 2/151، شرح النووي على مسلم 12/200. وانظر: كتاب الإمامة العظمى ص 274. 4 أخرجه حم 3/129 - 183، من حديث أنس - رضي الله عنه -، والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 4/76 من حديث علي - رضي الله عنه -، وابن أبي عاصم في السنة 2/531 - 532 من حديث أنس وأبي برزة - رضي الله عنهما، وصحح الحديث الألباني في تعليقه على كتاب السنة كما أطال في بيان طرقه في كتابه أرواء الغليل 2/298. 5 في الأصل (قريشا) وفي - ح - (اثنان قرشيان) وما أثبت كما هو في مصادر الرواية. 6 أخرجه خ. كتاب المناقب (ب مناقب قريش) 4/143، م. كتاب الإمارة (ب الناس تبع لقريش) 3/1452، حم. 2/29، وابن أبي عاصم في السنة 2/532 من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -. (خطبها) من - ح - وليست في الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 817 العباس: "يا رسول الله توصي بقريش فقال: إنما أتوصى قريشاً بالناس وبهذا الأمر وإنما الناس تبع لقريش بر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم "1 ويدل على ذلك ان الأنصار لما اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة وطمع من طمع منهم بذلك وطال الكلام بينهم حتى روى لهم أبو بكر2 وعمر - رضي الله عنهم - قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش "، فرجعوا عن قولهم واذعنوا وانقادوا، ولولا أنهم3 علموا صحة هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لردوا ذلك وظعنوا به لا سيما في مثل هذا الموقف. وقد وقع التنازع والحجاج وإشهار السيوف4 وإختلاط القول، بل رجعوا5 وقال سعد بن عبادة وهو من رؤساء الأنصار لأبي بكر وعمر: "أنتم الأمراء ونحن الوزراء"، 6 فثبت أن ذلك إجماع. ومن شرطه: أن يكون عالماً بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية بيضة الإسلام وما يتصل بذلك من الأمور، لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة لحق الخلل، وتتعدى الضرر إلى الأمة، وطمع بهم عدوهم، وأدى إلى إبطال ما نصب لأجله. ومن شرطه: أن لا يكون فيه رقة ولا هوادة في إقامة الحدود وضرب الرقاب المستحقة، لأنه إذا لم يكن7 بهذه   1 لم أقف عليه عن العباس بهذا السياق وقوله: "الناس تبع لقريش بر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم" نحوه في الصحيحين من حديث أبي هريرة أخرجه في كتاب المناقب (ب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} الحجرات آية (13) 4/143، م. كتاب الإمارة (ب الناس تبع لقريش) 3/1451، ولفظه عندهما "الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم". 2 في الأصل (أبي بكر) والصواب ما أثبت كما في - ح -. (أنهم) ليست في الأصل وهي في - ح -. 4 لم يقع بين الصحابة إشهار السيوف في السقيفة، وإنما الذي ذكر كثرة اللغط واختلاف القول. انظر: البداية والنهاية 5/275 - 281. 5 يعني رجعوا إلى مدلول الحديث فأقروا لقريش بالأمر. 6 أخرج هذا الخبر وقول سعد بن عبادة حم 1/5 من رواية حميد بن عبد الرحمن، إلا أن أبا بكر قال فيه: "قريش ولاة هذا الأمر". قال الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند 1/164 إسناده ضعيف لانقطاعه، فإن حميد بن عبد الرحمن التابعي لم يسمع من أبي بكر، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 5/191 وقال: رجاله ثقات إلا أن حميد بن عبد الرحمن لم يدرك أبا بكر. 7 في الأصل (يكون) وما أثبت كما في - ح - وهو الصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 818 الصفة قصر عما لأجله أقيم وانبسطت أيدي الظلمة إلى الدماء واخذ الأموال وارتكاب المحارم، ولم يصل المظلوم إلى حقه. ومن شرطه: أن يكون ورعاً، وهذه أعز الصفات وأجلها وأولاها بالمراقبة وأجدرها، لأنه إذا لم يكن كذلك أخذ ما لم يحل له أخذه وارتكب المحارم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ملاك دينكم الورع" 1 وليس من شرطه أن يكون معصوماً من الخطأ والزلل، عالماً بالغيب، ولا بجميع الدين حتى لا يشذ عنه شيء2، وإنما كان كذلك لأن طريق العلم بالعصمة عن الخطأ والعلم بالغيب إنما يحصل من خبر الصادق وهو الشارع، ولم يرد ذلك في القرآن ولا في السنة المتواترة بالأخبار من3 أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يصح اشتراط ذلك في المنصوب للإمامة، ولأنه لو احتيج إلى كونه معصوماً عن الخطأ لاحتيج أن يكون قاضيه وجابي خراجه وصدقته وأصحاب مصالحه   1 أخرجه الطبراني في الكبير 11/38 عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. قال الهيثمي: "فيه سوار بن مصعب ضعيف جداً". مجمع الزوائد 1/120 وقد ورد الحديث من طريق حذيفة وسعد - رضي الله عنهما - بلفظ: "وخير دينكم الورع" أخرج حديث حذيفة الحاكم في المستدرك 1/92 وسكت عنه وأخرحه البزار، وقال: "لا نعلمه مرفوعاً إلا عن حذيفة من هذا الوجه" كشف الأستار 1/85. وفي إسناده عبد الله بن عبد القدوس التميمي. قال ابن حجر: "صدوق رمي بالرفض وكان أيضاً يخطيء". التقريب ص 180. أما حديث سعد بن أبي وقاص فقد أخرجه الحاكم في المستدرك 1/92 وقال: "صحيح على شرطهما" ووافقه الذهبي، كما صحح الحديث السيوطي والألباني. انظر: الجامع الصغير مع فيض القدير 4/434، صحيح الجامع 3/86. 2 هذه الشروط يشترطها الروافض ويزعمون أنها موجودة في أئمتهم وقد تقدم ص 816 حكاية قولهم إن الإمام له جميع صفات النبي ما عدا النبوة. 3 في الأصل (ممن) وما أثبت من - ح - وهو أوضح في المراد ولعل صوابها (عن) لأن الكلام يستقيم بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 819 وأمراء جيوشه أن يكونوا كذلك، لئلا يفسدوا ما يتولونه من الأعمال. وفي اشتراط ذلك إبطال لنصبهم بذلك، ويدل على بطلان ذلك اعتراف الخلفاء الراشدين بأنهم غير معصومين، وترك إنكار الأمة أو واحد منهم ولا يتهم للأمر مع اعترافهم بذلك. إذا تقرر هذا ووجدت شروط الإمامة في واحد من العصر تعين العقد له وتعين له القيام والطلب، وإن وجدت هذه الشروط في أكثر من واحد فينبغي أن تعقد الإمامة للفاضل إن لم يكن هناك عذر يمنع من إمامة الأفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أفضلهم "1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعوا "2، وروي في خبر آخر "أئمتكم شفعاؤكم إلى الله فقدموا خيركم"3، وقال صلى الله عليه وسلم: "من تقدم على قوم من المسلمين وهو يرى أن فيهم من هو خير منه فقد خان الله ورسوله والمسلمين".4 وأعظم الإمامة هي الإمامة الكبرى، لأن الإمام الأعظم أولى بإمامة الصلاة من غيره، فيجب أن يكون أفضلهم. ويدل عليه إجماع الصدر الأول على طلب الأفضل. وقال عبد الرحمن بن عوف: "لا يعدلوا بعثمان أحداً"5 وقول أبي عبيدة لعمر: "مد يدك لأبايعك، فقال له عمر: تقول   1لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإنما أخرج الطبراني في المعجم الكبير 22/56 عن واثلة بن الأشقع - رضي الله عنه - مرفوعاً: "اصطفوا وليتقدمكم في الصلاة أفضلكم فإن الله عز وجل يصطفي من الملائكة ومن الناس". وفي إسناده أيوب بن مدرك ذكره الذهبي في الميزان 1/293، وقال: قال ابن معين: "ليس بشيء ومرة كذاب"، وقال أبو حاتم والنسائي: "متروك". 2 لم أقف على من أخرجه بهذا اللفظ، وذكره الباقلاني في التمهيد ص 486. 3 روى الطبراني في المعجم الكبير 20/328 بسنده عن مرثد بن أبي مرثد مرفوعاً: "إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم". وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/222، وفي إسناده يحيى ين يعلى الأسلمي قال في التقريب ص 381: "شيعي ضعيف". 4 لم أقف عليه مسنداً، وقد ذكر نحوه شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية 6/196 وعزاه إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - موقوفاً عليه. 5 يعني بذلك أهل المدينة، وسيأتي في قصة مبايعة عثمان - رضي الله عنه - ص 882. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 820 هذا وأبو بكر حاضر والله ما كان في الإسلام فَهّه1 غيرها" 2. فإن خيف من عقد الإمامة للفاضل فتنة جاز عقدها للمفضول، والدليل عليه أن عمر - رضي الله عنه - جعل الإمامة إلى أهل الشورى وهم ستة، ولا شك أن فيهم فاضلاً ومفضولاً، وأجاز العقد لكل واحد منهم إذا3 أدى إلى صلاحهم وجمع كلمتهم من غير إنكار أحد، ولأن الإمام إنما نصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل، فإذا خيف بإمامة أفضلهم الهرج والفساد والتغالب كان ذلك عذراً في العدول عن الفاضل إلى المفضول، ولأنه لا خلاف أنه يجوز تقديم المفضول على الفاضل في إمامة الصلاة فكذلك في الإمامة العظمى. فإن قيل: قد ذكرت صفة الإمام فبماذا تنعقد له الإمامة؟. قلنا تنعقد له الإمامة بأمور، منها: أن يستخلفه إمام قبله. والدليل على ذلك أن أبا بكر - رضي الله عنه - وصى بالخلافة لعمر - رضي الله عنه -، ووصى عمر - رضي الله عنه - إلى أهل الشورى ورضيت الصحابة بذلك لوم ينكروه، وأيضاً فإن الأب لما ملك النظر في أمر أولاده الصغار بحياته ملك الوصية بأمرهم إلى من بعده4 إذا لم يكن لهم ولي في الشرع بعده وهو الجد، فكذلك الإمام مثله.   1 فهة: قال أبو عبيد هي مثل السقطة والجهلة ونحوها. غريب الحديث 4/24. 2 هذا من قول أبي عبيدة لعمر - رضي الله عنه - فلعل الأسماء انقلبت على المصنف. وقد أخرج هذه المقالة أبو عبيدة في غريب الحديث 4/24، وابن سعد في الطبقات عن إبراهيم التيمي قال: "لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عمر أبا عبيدة بن الجراح فقال ابسط يدك فلأبايعك فإنك أمين هذه الأمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة لعمر: "ما رأيت لك فهة قبلها منذ أسلمت أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين". طبقات ابن سعد 3/181. وهي منقطعة بين إبراهيم التيمي وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. انظر: التهذيب 1/176. 3 في الأصل (إلى أدى) وما أثبت كم في - ح - وهو الأصوب. 4 في الأصل (بعدهم) وما أثبت من - ح - وهو الأصوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 821 وتنعقد الإمامة بعقد أهل الحل والعقد لمن وجدت فيه شروط الإمامة1، واختلف في عدد العاقدين فمنهم من قال: أقلهم ثلاثة، لأن ذلك أقل الجمع2، وقال اكثر أهل العلم: تنعقد بواحد لأنه إذا ثبت أن فضلاء الأمة هو ولاة عقد الإمامة، وثبت أنه لا يجب اعتبار حضور جميع أهل الحل والعقد وجميع الأمصار، لأن الصحابة لم يعتبروا ذلك فيمن عقدوا له الإمامة منهم لم يتعذروا تعدد3 انعقاد ذلك بواحد4.   1 هذا الطريق الثاني من طرق انعقاد الإمامة وهي الطريقة التي تم بها تنصيب الخليفة الراشد أبو بكر - رضي الله عنه - وكذلك علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وسيأتي بيان المصنف لبيعتهم في الفصول القادمة، وانظر: في هذين الطريقين كتاب الأحكام السلطانية للماوردي، ص 6، المعتمد في أصول الدين ص 223 - 251، الإمامة العظمى ص 158 - 184. 2 نسب الماوردي هذا القول إلى علماء الكوفة الأحكام السلطانية ص 7. 3 هكذا في النسختين والجملة فيها خلل ظاهر. 4 لم أقف على من عزا هذا القول إلى أكثر العلماء، وفي عزوه القول إليهم نظر، فإن هذا القول نسب إلى أبي الحسن الأشعري وقال به الباقلاني والغزالي، وهو قول مرجوح في المسألة، لأن اعتبار الواحد في التنصيب في الإمامة لا يقوم مقام الجماعة والجمهور، وأيضاً هو خلاف مبدأ التشاور الذي أمر الله به، وهو خلاف ما وقع من حال الصحابة في استخلافهم للخلفاء، فإنهم لم تتم إلا ببيعة عدد كبير وتشاور مع كثير من الناس، لأن أبا بكر - رضي الله عنه - بويع له في السقيفة ثم بويع له بيعة عامة في المسجد وبهاتان البيعتان ثبتت خلافته وإمامته، أما عمر - رضي الله عنه - فقد استشار فيه أبو بكر - رضي الله عنه - كبار الصحابة. وكذلك فعل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - في تنصيب عثمان - رضي الله عنه -، أما علي فقد تمت مبايعته بعد طلب من عدد من الناس ليس بقليل، وقد قال عمر - رضي الله عنه -: "من بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا". أخرجه خ. كتاب الحدود (ب رجم الحبلى من الزنا) 8/142. وأولى ما يكون في عدد أهل الحل والعقد هو الجمهور لأنهم يترجمون مشاعر الأمة كلها وأبعد للفتنة والاختلاف وتحقيقاً لمبدأ التشاور واتباعاً لسنة الخلفاء الراشدين، ومخالفة الأقل أو الواحد لا تضر وإنما الذي يعود على الأمة بالضرر مخالفة الأكثر، وقال بهذا القول أعني اعتبار الأكثر القاضي أبو يعلى الحنبلي وشيخ الإسلام ابن تيمية والجويني. انظر: التمهيد للباقلاني ص 467، غِيّاث الأمم للجويني ص 54 - 57، المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص 248، الأحكام السلطانية للماوري ص 7، منهاج السنة النبوية 1/530، الإمامة العظمى ص 173 - 183. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 822 ومن شرط العاقد أن يكون ذكراً حراً بالغاً عاقلا مسلماً مجتهداً عدلاً ظاهراً وباطناً، لأنه من الأمور المهمة في الدين، فاعتبر أن يكون على أكمل الأحوال. وهل من شرط العقد أن يكون بحضوره شهود؟. اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: لا يعتبر حضور شهود، ومنهم من اعتبر حضور شاهدين، لأن أمر الإمامة أعظم من أمر النكاح، فإذا اعتبر الشهود في النكاح ففي الإمامة أولى، ومنهم من اعتبر حضور أربعة بعد العاقد والمعقود له1، لأن عمر - رضي الله عنه - اعتبر ذلك في أهل الشورى، وهذا ليس بشيء لأن عمر لم يعتبر حضور الستة لذلك، وإنما أخبر أنهم أفاضل وأن الأمر لا يعدوهم ولا يتجاوزهم. وقال أصحابنا: وقد ثبتت الإمامة من وجه غير ما تقدم ذكره، فإن لم يكن هناك إمام فقام رجل له شوكة وفيه شروط الإمامة فقهر الناس بالغلبة فأقام فيهم الحق، فإن إمامته تثبت وتجب طاعته والدخول تحت حكمه، لأن المقصود قد حصل بقيامه، إلا إن قهره من هو بمثل صفته وصارت له الشوكة والغلبة فإن الأول يخلع ويصير الثاني أولى بالطاعة لما ذكرنا في الأول2.   1 انظر: الأقوال في ذلك في غياث الأمم للجويني ص 57 - 58. 2 هذا مذهب أهل السنة وقد حكاه القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك "ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله أن يبيت ولا يراه عليه إماماً عادلاً كان أو فاجراً فهو أمير المؤمنين". المعتمدا في أصول الدين ص 238، وقال ابن حجر: "قد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء وحجتهم هذا الخبر". يعني حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند البخاري - "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية" فتح الباري 13/7. كما حكى الإجماع على ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - حيث يقول: "الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء". الدر السنية 7/239، وكتاب الإمامة العظمى ص 222. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 823 121- فصل اختلف الناس في الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أهل الحديث وعلماء السلف أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه1 - وأن إمامته ثبتت بعقد الصحابة - رضي الله عنهم - الإمامة له بظواهر أدلة استنبطوها من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينص النبي صلى الله عليه وسلم على إمامته ولا عهد بها إليه ولا إلى أحد من الصحابة، وأنه هو أحق الناس بالإمامة في وقته2 وأن الإمام الحق بعده هو عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -، ودرجاتهم في الفضل على درجاتهم في الإمامة. وقالت الخوارج بإمامة أبي بكر وعمر وبإمامة عثمان إلى الوقت الذي ادعوا أنه أحدث، وبإمامة علي بن أبي طالب إلى أن حكّم وتبرؤوا منهما بعد ذلك3. وادعت فرقة منهم يقال لهم البكرية منسوبة إلى شيخ لهم يسمّى بكراً4   1 هذا مذهب أهل السنة والجماعة وعليه أيضاً الأشاعرة والخوارج والمرجئة والمعتزلة، ولم يخالف في هذا إلا الروافض وبعض الزيدية. انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 533، المعتمد في أصول الدين ص 225، مقالات الإسلاميين 1/204/2/144 التمهيد للباقلاني ص 480، شرح الأصول الخمسة ص 758. 2 هذا قول أكثر أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية، وهو أن خلافة الصديق - رضي الله عنه - ثبتت بالاختيار وليس بالنص، وروي عن الحسن البصري أنه ثبتت إمامته بالنص الخفي والإشارة، وقول ثالث في المسألة وهو أن خلافته ثبتت بالنص الجلي وهو رواية عن الإمام أحمد وجماعة منهم معاوية بن قرة وأبو عبد الله بن حامد وابن حزم وشارح الطحاوية، وأوردوا على ذلك أدلة ونصوصاً. انظر: شرج الطحاوية ص 533 - 539، المعتمد في أصول الدين ص 226 - 228، منهاج السنة النبوية 1/486 - 526، الفصل في الملل والنحل لابن حزم 4/107. 3 وهم أيضاً يكفرون عثمان وعلياً - رضي الله عنهما - انظر: مقالات الإسلاميين 1/204، الفرق بين الفرق ص 73. 4 البكرية هم أتباع بكر بن. ياد الباهلي قال عنه ابن حبان في المجروحين 1/196 "شيخ دجال يصنع الحديث وهو ابن أخت عبد الواحد بن. يد شيخ الصوفية وواعظهم". قال عنه البخاري: "تركوه". انظر: في ترجمة ميزان الاعتدال 2/673 وقد عدّ البكرية أصحاب المقالات كالأشعري. والإسفرائيني فرقة مستقلة، لأن لهم أقوالاً لا ينتسبون بها إلى فرقة معينة، وفيهم شبه من الخوارج لزعمهم أن مرتكب الكبيرة في الدنيا منافق، وفي الآخرة في الدرك الأسفل من النار مخلداً فيها. انظر: مقالات الإسلاميين 1/342، الفرق بين الفرق ص 213. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 824 أن النبي صلى الله عليه وسلم وصى بالإمامة إلى أبي بكر - رضي الله عنه - ونص عليه1. وقالت المعتزلة بإمامة أبي بكر وعمر2 وفسقوا عثمان وعلياً وقاتلي عثمان وخاذليه وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية وأبا 3موسى الأشعري4. وقال   1 لم أقف على هذا القول عنهم - وقد تقدم ذكر القائلين بالنص في إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - التعليق رقم 2 ص 824، وهو يختلف عن القول بالوصية إذ الوصية عهد واستخلاف كاستخلاف أبي بكر لعمر - رضي الله عنهما -. 2 في الأصل (عثمان) وفي - ح - كما أثبت وهو الصواب. 3 4 المعتزلة ليسوا على قول واحد في الخلفاء الراشدين والإمامة، فإن المنسوب إلى واصل بن عطاء ومعمر والجاحظ التوقف في علي وأصحابه والزبير وطلحة وعائشة وسائر أصحاب الجمل، وأن أحدهما فسق وانه لا يعرف الفاسق بعينه كالمتلاعنين. وعزا هذا عبد الجبار المعتزلي إلى قوم من المتقدمين والمتأخرين، أما أبو الهذيل فإنه توقف في عثمان وقاتيله وخاذليه، وكذلك في علي - رضي الله عنه - ومقاتليه توقف الشاك في حالهم، وحكى عنه الملطي أنه يجعل أبا بكر وعلي - رضي الله عنهما - في الفضل سواء، أما عمرو بن عبيد فإنه حكي عنه فسق تفسيق كلا الفريقين علي - رضي الله عنه - ومقاتليه. أما النظام فإن المحكي عنه تفسيق أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، والطعن في كبار الصحابة كعمر وعثمان وعلي وأبي هريرة وابن مسعود - رضي الله عنهم - ونسب الملطي إلى الجعفرين والإسكافي من معتزلة بغداد بأن علياً أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الجبائي أبو هاشم والقاضي عبد الجبار ومن تابعهم فالمحكي عنهم موافقة أهل السنة في الخلفاء الراشدين وأن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الإمامة. أما معاوية - رضي اله عنه - فَعُزِيَ الطعن فيه إلى المعتزلة ووصفهم له بالبغي والفسق. انظر: الفرق بين الفرق ص 120 - 121/146، الملل والنحل للشهرستاني بهامش الفصل 1/61 - 72ـ107، المغني لعبد الجبار المعتزلي 20/58 - 78 - 93، المعتمد في أصول الدين ص 234 التنبيه والرد على أهل الأهواء ص 41. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 825 استاذهم عمرو بن عبيد: لو شهد عندي علي بن أبي طالب على شراك نعل ما قبلت شهادته1. وذهب فرقة الرواندية2 إلى أن3 الإمامة للعباس بن عبد المطلب، وقد نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم4. وقالت الروافض والشيعة5 بإمامة علي بن أبي طالب، فادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامته نصاً لا يحتمل التأويل، ورفضوا إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وكفروا الصحابة كلهم إلا أربعة: علي بن أبي طالب وأبا ذر والمقداد وسلمان الفارسي. ثم افترقت الرافضة والشيعة في الإمامة بعد علي - رضي الله عنه - على ثلاث فرق فقالت الغالية منهم: علي هو الإله وحكى أن قوماً أتوه وقالوا: أنت إلهنا وخالقنا ورازقنا وإليك معادنا فقتلهم وحرقهم وهذه الفرقة يقولون هو حي وهو في السحاب6.   1 عُزِيَ هذا القول إلى عمرو بن عبيد، والعلة عنده في رد الشهادة التفسيق. وحُكِيَ عن واصل مثل هذا القول وعلته عنده أنه فسق واحد من المتقاتلين علي بن أبي طالب أو عائشة - رضي الله عنها - ومن معها من غير تعيين كالمتلاعنين. انظر: الفرق بين الفرق ص 121. 2 نسب هذه الفرقة النوبختي إلى أبي هريرة الرواندي وهم الشيعة. انظر: فرق الشيعة ص 47. (أن) ليست في الأصل وهي في - ح -. 4 ذكر هذا عنهم أبو الحسن الأشعري في المقالات 1/96، وابن حزم في الفصل 4/90ـ91 والقاضي أبو يعلى في المعتمد في أصول الدين ص 225، والقاضي عبد الجبار المعتزلي في المغني 20/113. 5 الروافض هم الذين شايعوا علياً - رضي الله عنه - وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية وقدموه على جميع الصحابة، ويطعنون في خلافة الخلفاء الثلاثة ويكفرونهم وأكثر الصحابة، ويعتقدون أن الإمامة هي في أولاد الحسين بن علي بعد الحسن بن علي، ويعتقدون بعصمة أئمتهم ولهم أقوال كثيرة منحرفة. انظر: مقالات الإسلاميين 1/65، الملل والنحل 1/146. 6 الغالية من الروافض هم الذين يزعمون أن الإله هو علي - رضي الله عنه -، وبعضهم. عم أن الألوهية حلت في الأئمة من أبنائه. وقد عدهم أبو الحسن الأشعري خمسة عشر صنفاً، وليسوا من الإسلام في شيء، بل هم أعداؤه. وأول من قال بألوهية علي رجل يهودي يقال له عبد الله بن سبأ دخل الإسلام ليفسد على المسلمين دينهم كما أفسد بولس اليهودي على النصارى دينهم، فادعى هذا الرجل التشيع لعلي - رضي الله عنه -، ثم. عم أن علياً الإله وتابعه على ذلك جماعة من الزنادقة وصارحوا علياً - رضي الله عنه - بذلك فأحرقهم علي - رضي الله عنه - بالنار وقال قولته المشهورة: لما رأيت الأمر أمراً منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا. وقنرا عبد من عبده. فأحرق - رضي الله عنه - من واجهة بهذا الكلام، إلا أنه لم يقتل ابن سبأ ونفاه إلى ساباط المدائن. وبعد مقتل علي - رضي الله عنه -. عم هذا اليهودي أن علياً لم يقتل ولم يمت وأنه صعد إلى السماءكما صعد عيسى بن مريم صلوات الله وسلامه عليه وسيعود، وزعم هؤلاء أيضاً أن الرعد صوته وأن البرق سوطه، فإذا رأو السحاب ردوا عليه السلام يزعمون أن علياً فيه. انظر: مقالات الإسلاميين 1/65 - 88، التنبيه والرد على أهل الأهواء ص 18، الملل والنحل للشهرستاني 2/11، الفرق بين الفرق ص 233. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 826 وقالت فرقة منهم وهم الزيدية1: الإمامة لعلي، ثم بعده ابنه الحسن، ثم ابنه الحسين، ثم علي بن الحسن، ثم زيد بن علي، ثم يحيى بن زيد2، ثم محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن الذي يسمى النفس الزكية3، ثم أخوه إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن4، ثم المثلث وهو الحسن بن   1 سبق التعريف بهم في قسم الدراسة - ص 68. وعلي بن الحسين من أئمة الرافضة وليس من أئمة الزيدية، لأن شرط الإمامة عندهم أن يكون من أولاد الحسن والحسين ويدعون إلى نفسه وينابذ الظلمة. انظر: نصرة مذاهب الزيدية ص 143، مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم ص 22. 2 يحيى بن. يد بن علي بن الحسين كان مع أبيه حين خرج في خلافة هشام، ثم بعد مقتل أبيه سار إلى خراسان واختفى بها، إلى أن قبض عليه نصر بن سيار، ثم سيره بأمر الوليد إلى دمشق، إلا أنه انقض عليه نصر بن سيار في الطريق بعد أن أوجس منه غدراً وتقاتلوا هناك فقتل يحيى وذلك عام 125هـ. البداية والنهاية 12/7. 3 محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني الملقب النفس الزكية. ثقة قتل سنة 145هـ، وله ثلاث وخمسون سنة، وكان خرج على المنصور وغلب على المدينة، وتسمى بالخلافة فقتل. التقريب ص 304. 4 إبراهيم بن عبد الله بن حسن أخو النفس الزكية خرج بعد ظهور أخيه في البصرة على الخليفة أبي جعفر المنصور، وغلب على مناطق عديدة، إلا أنه قتل في نفس السنة 145هـ - في ذي الحجة بعد قتال شديد بينه وبين جيش المنصور بين البصرة والكوفة. البداية والنهاية 10/111. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 827 علي، وإنما قيل له مثلث لأنه حسن بن حسن بن حسن1، ثم يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن2، ثم محمد بن إبراهيم3، ثم بعده الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم4. فهؤلاء ورثة الكتاب المخصوصون بالإمامة، ثم بعد ذلك يتبعون كل قائم يقوم من ولد علي، وهم أكثر الفرق نفوراً مع كل قائم حتى إنهم ينتقلون من إمام إلى إمام. وقالت فرقة منهم: تسمى الباطنية5 كانت الإمامة لعلي - رضي الله عنه   1 الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي، قال الخطيب: "مات في حبس المنصور بالهاشمية ببغداد سنة 145هـ"، قال ابن حجر في التقريب: "مقبول". تاريخ بغداد 7/293، التقريب ص 69، ولم يكن من أئمة الزيدية لأنه لم يخرج ولم يدع لنفسه، بل كان المنصور قبض عليه وعلى أخيه عبد الله بن حسن ومجموعة من آل البيت، وذلك لما اختفى محمد بن عبد الله واخوه إبراهيم السابق ذكرهما تأهباً للخروج، فأودعهم المنصور السجن، وماتوا فيه واحداً تلو الآخر. انظر: البداية والنهاية 10/95. 2 يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب خرج على الرشيد في الديلم ثم قتل، ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. انظر: الجرح والتعديل 9/161، مقالات الإسلاميين 1/155. 3 محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن علي، الملقب ابن طباطا، الذي خرج في الكوفة في ولاية المأمون سنة 199هـ - ومات في أثناء خروجه. انظر: مقالات الإسلاميين 1/157، البداية والنهاية 10/236. 4 يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي الملقب بالهادي خرج في اليمن وأسس فيها دولة الزيدية، وذلك عام 284هـ. توفي سنة 298. انظر: اللطائف السنية في أخبار الممالك اليمنية ص 12 - 15. 5 الباطنية: لقب من ألقاب الشيعة الغالية الذين أظهروا الإسلام والتشيع، وأضمروا الكفر وهم دعاة ضلالة أرادوا هدم الإسلام فتستروا بالتشيع لآل البيت، وقد أضروا بالمسلمين من وقت ظهورهم إلى وقتنا الحاضر أضراراً بالغة في السر والعلن، وكانت لهم في بعض الأحيان والأقطار دول تغلبوا بها على الناس فأظهروا الكفر والإباحية والفجور وسفك دماء المسملمين، وهذا ديدنهم كلما تمكنوا وغلبوا على مكان في قلوبهم غل وحقد على الإسلام وأهله. وقد عني علماء المسلمين ببيان أساليبهم وفضح مؤامراتهم وخداعهم للمسلمين. ومراد المصنف - رحمه الله - هنا بالباطنية الإسماعيلية، لأنه ذكر أئمتهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق وبعضهم يقف عليه ويسمون الإسماعيلية الواقفة، وفرقة نقلت الإمامة بعده إلى ابنه محمد بن إسماعيل ويقال لهم المباركية، ومن هؤلاء من وقف على محمد بن إسماعيل، ومنهم من. عم أن الإمامة لا. الت موجودة في المستورين ثم في الظاهرين ومن فرقهم القرامطة والنصيرية والدرزية والحشاشون وإخوان الصفا ومن يسمون أنفسهم الإسماعيلية. انظر: في بيان هذه النحلة الخبيثة الفرق بين الفرق: 281/312، الملل والنحل 1/167 - 191، فرق الشيعة للنوبختي ص 67 - 76، لوامع الأنوار البهية 1/83، الحركات الباطنية في العالم الإسلامي د. محمد أحمد الخطيب، عقيدة الدروز د. محمد أحمد الخطيب ص 13 - 17. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 828 - ابتداءاً، ثم الحسين بن علي دون الحسن، لأنه أسلم الأمر إلى معاوية، ثم علي بن حسين، ثم محمد بن علي بن الحسين، ثم جعفر بن محمد1، ثم موسى بن جعفر2، ثم علي بن موسى3، ثم محمد بن علي4، ثم علي5 بن محمد6، ثم الحسن7   1 الكلام هنا غير منتظم ويظهر فيه سقطاً وتداخلاً أيضاً، لأن الإسماعيلية يسوقون الإمامة إلى جعفر ابن محمد الصادق، ثم يجعلونها في ابنه إسماعيل دون موسى، ثم محمد بن إسماعيل وبه تنتهي سلسلة الأئمة لديهم، وإسماعيل وابنه محمد ذكرهما المصنف في آخر السلسلة، فقد يكون فيه تداخل حيث ذكرت بقية سلسلة أئمة الإمامية الإثنا عشرية. 2 موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي أبو الحسن الهاشمي المعروف بالكاظم صدوق عابد توفي سنة 183هـ. التقريب ص 350 وهو الذي خالفت الشيعة الإثنا عشرية بالقول بإمامته الإسماعيلية وهو الإمام السابع لديهم. 3 علي بن موسى بن جعفر الملقب بالرضا توفي سنة 203هـ. التقريب ص 249، وهو الإمام الثامن لدى الإمامية الإثني عشرية، وهو الذي قلده المأمون ولاية العهد إلا أنه مات قبله. انظر: البداية والنهاية 10/282. 4 محمد بن علي بن موسى بن جعفر وهو الإمام التاسع للشيعة الاثنا عشرية، وهو الملقب بالجواد. وجه الخليفة المأمون ابنته، ثم استدعاه الخليفة المعتصم إلى بغداد وتوفي فيها سنة 220هـ، وعمره خمسا وعشرين سنة. انظر: البداية والنهاية 10/305، فرق الشيعة ص 91، التحفة الاثنا عشرية ص 21. 5 في النسختين هكذا (ثم محمد بن علي بن علي بن محمد) وهو خطأ بين، لأن المراد ب - علي الأول هو ابن موسى، أما الثاني فهو علي بن محمد بن علي بن موسى لهذا حذفت (بن) وأثبت أداة العطف ثم. 6 علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الملقب بالهادي وهو الإمام العاشر عند الشيعة الإثنا عشرية. قال ابن كثير: "كان عابداً. اهداً نقله المتوكل إلى سرمن رأى، وتوفي بها في سنة 254هـ، وله من العمر أربعون سنة". انظر: البداية والنهاية 11/17، فرق الشيعة ص 93. 7 في كلا النسختين (الحسين) وهو خطأ وصوابه الحسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 829 ابن علي1 وبعدهم إسماعيل بن جعفر2 ثم ابنه محمد بن إسماعيل3. وللروافض في الإمامة كلام كثير، لكنا نتكلم على إبطال ما ادعوه من النص عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بطل النص ثبت الاختيار. فنقول: لو كان هناك نص من النبي صلى الله عليه وسلم على إمام بعينه بأن يقول هذا خليفتي والإمام من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا لم يخل: إما أن يكون هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم بمحضر من الصحابة ممن يقع العلم بخبرهم أو كان ذلك منه بمحضر الواحد والاثنين والعدد الذين لا يقع العلم بخبرهم، فلو كان قد قال ذلك بمحضر جماعة يقع العلم بخرهم، لنقل ذلك نقل مثله ولشاع وذاع كما نقل أعداد الركعات وفرض الحج والصيام والزكاة التي لا خلاف بين الأمة في وجوبها، لأن الإمامة من الفروض العامة اللازمة   1 هو الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر، وهو الإمام الحادي عشر لدى الروافض الإثنا عشرية. توفي وعمره ثمان وعشرون سنة وذلك عام 260هـ، ولم يخلف عقبا ولا ذرية، فاختلفت الرافضة بعده إلى ثلاثة عشر قولا، ومن هذه الأقوال قول الإمامية الإثني عشرية التي ترى أن للحسن ولدا وهو محمد بن الحسن، ويزعمون أنه الإمام الثاني عشر، وانه المهدي الذي سيظهر آخر الزمان. وهم أكثر روافض اليوم. انظر: فرق الشيعة للنوبختي ص 96 - 112، التحفة الإثنا عشرية ص 21. 2 هو: إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. توفي في حياة أبيه جعفر بن محمد الصادق وإليه تنتسب الإسماعيلية. انظر: فرق الشيعة ص 67. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 830 للجميع ولتوفرت الدواعي في كل عصر على نقل ذلك إلى يومنا هذا، وعدم ذلك يضطر إلى عدم النص منه، وإن كان قال ذلك بمحضر ممن لا يقع العلم بخبرهم فعند الروافض أن أخبار الآحاد لا توجب العمل في العبادات، فكيف توجب العمل في الإمامة، ولأنه لو كان كذلك لما وسع علياً - رضي الله عنه - عنه السكوت عن الاحتجاج به، ولما وسع بني هاشم وبني عبد المطلب الإغضاء على ذلك وترك نصرة علي، وفي عدم ذلك منهم ومنه ما يدل على عدم النص، ولأنه لو كان للنص أصل لكان يؤدي إلى أن الحق بذلك خفي على عصر الصحابة - رضي الله عنهم - وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجمتع أمتي على الخطأ"1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما كان الله ليجمع هذه الأمة على الخطأ"2 وفي انقياد الصحابة - رضي الله عنهم - لأبي بكر وكونهم تحت طاعته وفيهم علي والعباس وعمار والمقداد وأبو ذر والزبير بن العوام دليل على عدم النص على غيره، ولأن كثيراً من القائلين بإمامة علي من الزيدية3 والمعتزلة البغدادين4 وغيرهم ينكر5 النص ويجحده مع تفضيلهم لعلي على غيره وهذا في بابه أوضح دليل على عدمه. ثم نعارض روايتهم هذه برواية البكرية أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة أبي   1 لم أقف عليه بهذا اللفظ وإنما هو وارد بلفظ "لا تجتمع أمتي على ضلالة أبداً" وقد تقدم تخريجه ص 113. 2 تقدم تخريجه ص 113. 3 أكثر الزيدية يرون أن الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب بالنص، وبعضهم كما هو قول يحيى بن حمزة المؤيد بالله يرى أن النص لعلي - رضي الله عنه - نصاً خفياً. انظر: كتاب نصرة مذاهب الزيدية ص 25، مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم ص 21، وانظر قول يحيى بن حمزة في نقل صاحب كتاب الزيدية ص 319 عنه من كتابه الرسالة الوازعة للمعتدين ص 22. 4 معتزلة بغداد منهم الجعفران: جعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر الشقفي والإسكافي وقد حكى عنهم الملطي تفضيل علي على أبي بكر - رضي الله عنهما -. التنبيه والرد على أهل الأهواء ص 41. 5 في الأصل (ينكرون) وفي - ح - كما أثبت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 831 بكر - رضي الله عنه1 - أو برواية الراوندية، حيث قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة العباس - رضي الله عنه - 2. وكل جواب للشيعة عن هاتين الروايتين فهو جواب لنا عن روايتهم في النص على إمامة علي - رضي الله عنه -، وعلى أن فرقة من الرافضة يقال لهم الكاملية3 كفروا خلقاً من الصحابة - رضي الله عنهم -، وكفروا علياً معهم، وذلك أنهم قالوا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي - رضي الله عنه - فردت الصحابة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فكفروا بذلك، ولم ينازعهم علي ولم يقاومهم فكفر، وهذا يدل على أنهم أرادوا الطعن على الجميع وإبطال ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به ويدل على عدم النص ما روى ابن عباس - رضي الله عنه -: "أن علي بن أبي طالب خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي مات فيه، فقال له الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبح بحمد الله بارئاً فأخذ بيده العباس ابن عبد المطلب فقال: ألا ترى أنك بعد ثلاث عبد العصا4 والله إني لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتوفى في وجعه هذا، وإني لأعرف في وجوه بني عبد المطلب الموت، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله فيمن يكون هذا الأمر، فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا، فقال علي - رضي الله عنه -: والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها   1 تقدم ذكر البكرية ص 824 وكذلك ذكر القائلين بالنص على أبي بكر - رضي الله عنه -، وانظر: بعض هذه الروايات التي تنص على خلافة أبي بكر في المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص 227. 2 تقدم ذكر هذا ص 826. 3 الكاملية أتباع أبي كامل وهم معدودون من فرق الإمامية إلا أنهم تميزوا بتكفير علي - رضي الله عنه -، إضافة إلى تكفير الصحابة بسبب تركه القيام على ابي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -، وقد عد من أتباع هذه الفرقة بشار بن برد الشاعر. انظر: الفرق بين الفرق ص 56 التبصير في الدين ص 35. 4 هذا القول كناية عمن يصير تابعاً لغيره والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم يموت بعد ثلاث وتصير أنت مأموراً عليك، وهذا من قوة فراسة العباس - رضي الله عنه -. انظر: فتح الباري 8/143. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 832 الناس أبداً، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً1. وهذا يدل على عدم النص إذ لو له أصل لكان عندهما منه علم. وأما بيان عقد الإمامة لأبي بكر - رضي الله عنه - فما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات اختل الناس لموته فاعتزلت الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، واعتزل علي - رضي الله عنه - في رجال من قريش في بيت فاطمة - رضي الله عنها -، فقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين: يا معشر الأنصار إن تقدموا قريشاً اليوم يتقدموكم إلى يوم القيامة، وأنتم الأنصار وفيكم كتاب الله وإليكم الهجرة، وفيكم أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلبوا رجلاً تهابه قريش وتأمنه الأنصار، فقال القوم: وما ذاك إلا سعد بن عبادة، قال: فسعد نريد وقام أسيد بن حضير الأوسي وهو من أهل الطاعة فيهم والرأي فقال: يا معشر الأنصار إنه قد عظمت نعمة الله عليكم بأن سماكم الأنصار، وجعل فيكم الهجرة، وقبض فيكم الرسول صلى الله عليه وسلم فاجعلوا ذلك2 لله شكراً، وإن هذا الأمر في قريش فمن قدموه فقدموه ومن أخروه فأخروه، فلم يقبلوا منه فلحق بالمهاجرين ثم قام عويم3 بن ساعدة الأنصاري فقال: "يا معشر الأنصار إن يكن هذا الأمر فيكم دون قريش فانفروا حتى نبايعكم عليه، وإن كان لهم دونكم فسلموا لهم ذلك، فوالله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفنا أن أبا بكر خليفته حين أمره أن يصلي بالناس فلم يقبلوا منه، فلحق بالمهاجرين فاجتمع المهاجرون إلى أبي بكر - رضي الله عنه - وفيهم عمر وقال عمر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، قال عمر:   1 أخرجه خ. كتاب المغازي (ب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته) ، حم 1/263، واللالكائي في السنة 7/1289، وابن سعد في الطبقات 2/245، والطبراني في تاريخ الأمم والملوك 3/193. 2 ذلك ليست في - ح -. 3 في الأصل (عمير) وفي - ح - (عوير) وكلاهما خطأ والصواب ما أثبت، فقد ذكره ابن حجر في الإصابة باسم عويم بن ساعدة 7/181. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 833 فانطلقنا فلقينا رجلان صالحان1 من الأنصار قد شهدا بدراً فقال: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا من الأنصار، قال: فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم، فقلت: والله لنأتينهم فإذا هم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة بين أظهرهم رجل مزمل فقلت؟ من هذا؟ قالوا: سعد ابن عبادة، فقلت: ما شأنه فقالوا: إنه وجع، فقام خطيب الأنصار فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر قريش رهط منا وقد دفت إلينا منكم دافة2، فإذا هم يريدون أن يخزلونا3 من أصلنا ويحضنونا4 من الأمر، قال: وقد زورت في نفسي مقالة وكنت أردت أن أقوم بها بين يدي أبي بكر، وكان أوقر مني واحلم، فلما أردت الكلام، قال: على رسلك وكرهت أن أعصيه، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه ثم والله ما ترك كلمة كنت زورتها إلا جاء بها أو أحسن منها في بديهته ثم قال: "أما بعد فما ذكرتم فيكم من خير يا معشر الأنصار فأنتم له أهل، ولكن لم5 تعرف العرب هذا الأمر إلا بهذا الحي من قريش وهم أوسط العرب داراً ونسباً، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح، فوالله ما كرهت مما قال شيئاً6 غير هذه   1 في الأصل (رجلين صالحين) وما أثبت كما في - ح - والرجلان هما عويم بن ساعدة ومعن بن عدي - رضي الله عنهما -. انظر: فتح الباري 12/151. 2 الدافة: القوم يسيرون جماعة سيراً ليس بالتشديد، ومراده هنا أن عدداً قليلاً منكم ساروا إلينا. انظر: غريب الحديث للهروي 3/390. 3 يخزلونا أي يقتطعونا عن الأمر وينفردوا به دوننا. فتح الباري 12/151. 4 يحضنونا: بالحاء والضاد بعدها نون معناها يخرجونا عن الأمر ويستبدون به ويحبسونا عنه. المرجع المتقدم. 5 هكذا في النسختين وعند البخاري (لن) . 6 في الأصل (شيء) وما أثبت من - ح -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 834 الكلمة، وكنت1 لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر، فلما قضى أبو بكر خطبته قام رجل من الأنصار يقال له حباب ابن المنذر فقال: أنا جذيلها المحكك2 وعذيقها المرجب3 منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فقال عمر: إنه لا يصلح سيفان في غمد، ولكن منا الأمراء ومنكم الوزراء، قال: فارتفعت الأصوات وكثر اللغط حتى أشفقت الاختلاف، فقلت: يا أبا بكر أبسط يدك أبايعك، قال: فبسط يده فبايعته بايعه المهاجرون وبايعه الأنصار. وزعم الأوس أن أول من بايعه بشير أبو4 النعمان، وزعمت الخزرج أن أول من بايعه أسيد بن حضر، فلما بلغ أهل السقيفة ازدحم الناس على أبي بكر ليبايعوه، فقال قائل منهم: قتلتهم سعداً، فقال عمر: قتل الله سعداً، 5 ثم زفوه إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا قبل دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أهله حجبوه فلما رقى أبو بكر المنبر نظر في وجوه اقوم فلم ير علياً - رضي الله عنه -، فسأل عنه فقام زيد بن ثابت وجماعة من الأنصار فأتوا به فقال أبو بكر: أنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأردت أن تشق عصا المسلمين فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه6، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير الزبير فقال: أين الزبير، فقام زيد وجماعة فجاؤوا به فقال له: أنت ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه وأردات أن تشق عصا المسلمين، فال: لا تثريب يا خليفة رسول الله ثم   1 في الأصل (بدون الواو) وما أثبت من - ح -. 2 الجذيل بضم الجيم وفتح الذال تصغير جذل بكسر الجيم أو فتحها، وهو عود ينصب للإبل لتحتك به من الجري، فأراد هنا أنه يستشفي برأيه كما تشتفي الإبل بالاحتكاك بذلك العود. 3 العذيق بضم العين وفتح الذال تصغير عذق بفتح العين وهو النخلة والموجب من الترجيب، وهو البناء الذي يبنى لدعم النخلة الكريمة إذا مالت حنى لا تسقط والمراد أنه كريم يرجع إلى قوله. انظر في الموضعين غريب الحديث للهوري 4/153. 4 في النسختين (بشير بن النعمان) والصواب ما أثبت لأنه بشير بن سعد والد النعمان بن بشير وهو من الخزرج، وقد ذكره ابن حجر في الإصابة 1/262 بأنه أول من بايع أبا بكر - رضي الله عنه - بالخلافة. 5 أكثر هذا الخبر من قوله: "وقال عمر يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار" إلى هنا أخرجه خ. كتاب الحدود (ب رجم الحبلى من الزنا) 8/141، حم 1/55 من حديث ابن عباس. 6 مبايعة علي والزبير - رضي الله عنهما - بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل دفنه رواها الحاكم في المستدرك 3/76 وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين" وسكت عنه الذهبي، وذكره ابن كثير - رحمه الله - في البداية والنهاية 5/280 من رواية الحافظ البيهقي بسنده عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وقال: "هذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد، وفيه فائدة جليلة وهي مبايعة علي بن أبي طالب، إما في أول يوم أو في اليوم الثاني من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا حق، فإن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع عن صلاة من الصلوات خلفه". ثم قال: "ولكن لما حصل من فاطمة - رضي الله عنها - عتب على الصديق بسبب ما كانت متوهمة من أنها تستحق الميراث، ولم تعلم بقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا نورث ما تركناه صدقة". وهي امرأة من البشر ليست براجية العصمة، فحصل لها عتب وتغضب ولم تكلم الصديق حتى توفيت - رضي الله عنها -، واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها النبي صلى الله عليه وسلم رأى علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر - رضي الله عنه - كما في الصحيحين - مع ما تفدم له من البيعة قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم". انتهى مختصرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 835 بايعه، ثم رجع علي - رضي الله عنه - إلى بيته وأقام حيناً من الدهر يسكن فاطمة - رضي الله عنها - من حزنها على أبيها إلى أن مرضت وماتت، فلما فرغ من دفنها - رحمة الله عليها - جاء إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فبايعه ثانياً البيعة المشهورة"1. فنحن نقول لما بايع عمر - رضي الله عنه - أبا بكر انعقدت له الإمامة لا بمجرد مبايعته ولكن لتتابع الأيدي إلى المبايعة لسبب مبادرته، ولو لم يبايعه عمر وبقي الناس مخالفين وانقسموا انقساماً لا يتميز فيه الغالب من المغلوب لما انعقدت إمامته، لأن شرط ابتداء الانعقاد قيام الشوكة وانصراف القلوب إلى المبايعة ومطابقة البواطن والظواهر على ذلك المقصود الذي يراد له الإمام، وهو جمع شتات الآراء ولا تتفق الإرادات المتناقضة على مبايعة ذي رأي واحد إلا إذا ظهرت شوكته ورسخت في النفوس رهبته ومهابته ولم يخالفه إلا من لا يكترث بمخالفته2.   1 البيعة المشهورة رواها خ. كتاب المغازي (ب غزوة خيبر) 5/9115م. (كتاب الجهاد) (ب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث.." 3/1380. 2 انظر في تأييد هذا المعنى والأدلة عليه بأوسع مما هنا كلام شيخ افسلام ابن تيمية في رده على الرافضي في منهاج السن النبوية 1/526 - 532. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 836 ومما يدل على تقديم أبي بكر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مرض مرضه الذي توفي فيه أغمي عليه ذات يوم في مرضه فأفاق فقال: " حضرت الصلاة قالوا: نعم قال: مروا بلالا فليؤذن وأمروا أبا بكر فليصل بالناس، ثم أغمي عليه فأفاق وقال مثل ذلك، فقالت عائشة يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع فأمر عمر فليصل الناس، فقال مثل قوله الأول فقالت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف1 ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع فأمر عمر قليصل بالناس، فقال مثل قوله الأول فقالت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع فأمر عليا2 فليصل بالناس، فقال: إنكن صواحبات يوسف مروا بلالاً فليؤذن وامروا أبا بكر فليصل بالناس"3. وروى عبد الله بن زمعة قال: لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعة الذي مات فيه كنت عنده ونفر من المسلمين فبينا نحن كذلك إذ دعى بلال إلى الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فخرجت فإذا بعمر بن الخطاب في الناس وكان أبو بكر غائباً عنهم، ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده يقدم على أبي بكر وعمر، فقلت في نفسي إن كان أبو بكر غائباً فهاهنا عمرفقلت: يا عمر صل بالناس، قال فقام وكبر وكان جهوري الصوت فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فقال: أين أبو بكر يأبى الله ذلك والمسلمون إلا أبا بكر، يأبى الله ذلك والمسلمون إلا أبا بكر، فبعث إلى أبي بكر فجاء من حيث كان وصلى بالناس بعد ذلك سبعة أيام"4. وفي بعض الروايات أنه أقام يصلي   1 جاء تفسيرها في بعض روايات مسلم بدل أسيف (رقيق) . 2 هكذا في النسختين ولم أقف عليه فيما اطلعت عليه من المصادر فلعله وهم أو أخطأ من الناسخ. 3 أخرج الحديث خ. كتاب الآذان والجماعة (ب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة) 1/113م. كتاب الصلاة (ب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر) 1/311 من حديث عائشة - رضي الله عنهما -. 4 لم أقف على من ذكر أنه صلى الله عليه وسلم سبعة أيام في شيء من الروايات، وإنما الذي ورد "أن أبا بكر - رضي الله عنه - جاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 837 بالناس سبعة عشر يوماً1. قال عبد الله بن زمعة: فقال لي عمر ويحك ماذا صنعت بي يا عبد الله ما ظننت إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تامرني، قلت: والله ما أمرني بذلك وإنما أمرني إلى أبي بكر فحين لم أره رأيتك أولى من حضر بالصلاة بالناس"2. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه عند صلاة الصبح يوم العاشر خفة فخرج يهادي بين الفضل بن العباس وأسامة بن زيد3 عاصباً رأسه، وأبو بكر يصلي بالناس، ففرح الناس بدخوله صلى الله عليه وسلم، فلما أحسن به أبو بكر ذهب ليستأخر فنكص عن مصلاه، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم في ظهره وقال: صل بالناس وجلس إلى جنبه قاعداً عن يمينه4.   1 لم أقف على من ذكر هذا وقد روى البخاري 1/113 عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: "لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه ... " الحديث، وفي رواية أخرى عن أنس أيضاً ذكر أنه توفي في يومه ذلك، فهذا يدل على أنه صلى بهم ثلاثة أيام. وقال ابن كثير: "قال الزهري عن أبي بكر بن أبي سبرة أنه قال: "إن أبا بكر صلى بهم سبع عشرة صلاة. وقال غيره: عشرين صلاة". البداية والنهاية 5/265 فلعل المصنف كان منه سبق قلم، فبدل أن تكتب "صلاة" كتب "يوماً" أو أخطأ من ناسخ. 2 إلى هنا تنتهي رواية عبد الله بن. معة - رضي الله عنه -، واخرجها عنه د. كتاب السنة (ب استخلاف أبي بكر - رضي الله عنه -) 2/266، حم 4/322، والحاكم في المستدرك 3/641، وابن أبي عاصم في السنة 2/553 وقال الألباني في التعليق: "إسناده صحيح". 3 هذه رواية الدارقطني في سننه 1/402 عن الحسن البصري وهي مرسلة. وقد تقدم قول الزهري أن أبا بكر صلى الله عليه وسلم بهم سبع عشرة صلاة، وكذلك قوله هنا: إن الرجلين هنا الفضل بن العباس وأسامة بن. يد - رضي الله عنهما -، والذي جاء في البخاري ومسلم أنهما العباس بن عبد المطلب وعلي ابن أبي طالب - رضي الله عنهما -. وفي رواية أخرى عند مسلم أنهما الفضل بن العباس وعلي، قال الحافظ ذاك في حال مجيئه إلى بيت عائشة، والله أعلم. فتح الباري 2/154. 4 الذي روى البخاري 1/112، ومسلم 1/314 في هذا من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس عن يسار أبي بكر" وقد ذكر الحافظ ابن حجر خلافاً في هذا فلينظر. فتح الباري 2/154. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 838 وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بأبي بكر، وأبو بكر يصلي بالناس1، وكان ذلك بحضور علي - رضي الله عنه -. وروي أن عبد الله بن الكوا2 وقيس بن عباد3 دخلا على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بعدما فرغ من قتال الجمل فقالا له: أخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت، فإن كان رأياً رأيته أجبناك في رأيك، وإن كان عهداً عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنت الموثوق المأمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عنه. قال: فتشهد علي وكان القوم إذا تكلموا تشهدوا، فقال: أما أن يكون عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا والله، ولو كان عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركت أخاتيم بن مرة ولا ابن الخطاب على منبره ولو لم أجد إلا يدي هذه، ولكن نبيكم صلى الله عليه وسلم نبي رحمة لم يمت فجأة ولم يقتل قتلاً مرض ليالي وأياماً يأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فيقول: مروا أبا بكر فليصل بالناس وهو يرى مكاني، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فإذا الصلاة عضد الإسلام وقوام الدين فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فولينا الأمر أبا بكر فأقام أبو بكر - رضي الله عنه - بين أظهرنا الكلمة جامعة والأمر واحد لا يختلف عليه منا اثنان ولا يشهد أحد منا على أحد بالشرك، وكنت والله آخذ إذا أعطاني وأغزوا   1 هذه رواية عائشة وهي في الصحيح في الموضع السابق. 2 قال عنه الذهبي: "من رؤوس الخوارج". ميزان الاعتدال 2/474. 3 قيس بن عباد القيسي الضبعي أبو عبد الله البصري قدم المدينة في خلافة عمر - رضي الله عنه -، وروى عنه وعن علي وعمار وغيرهم من الصحابة قال النسائي وابن فراش: "ثقة وكانت له مناقب وحلم وعبادة"، وذكر ابن حجر أنه فيمن قتله الحجاج ممن خرج مع ابن الأشعث بعد الثمانين من الهجرة. انظر: التهذيب8/400. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 839 إذا أغزاني وأضرب بيدي هذه الحدود بين يديه، فلما حضرت أبا بكر الوفاة ولاها عمر - رضي الله عنه -، فأقام عمر بين أظهرنا الكلمة جامعة والأمر واحد لا يختلف عليه منا اثنان ولا يشهد أحد منا على أحد بالشرك، فكنت والله آخذ إذا أعطاني، وأغزوا إذا أغزاني وأضرب بيدي هذه الحدود بين يديه، فلما حضرت عمر الوفاة ظن أنه إن يسختلف خليفة فيعمل ذلك بخطيئة إلا لحقت عمر في قبره، فأخرج منها ولده وأهل بيته وجعلها في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان فينا عبد الرحمن بن عوف فقال: هل لكم أن أدع نصيبي على أن أختار لله ولرسوله وآخذ ميثاقاً على أن نسمع ونطيع لمن ولاه أمرنا، فضرب بيده يد عثمان - رضي الله عنهما - فبايعه، فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا الميثاق في عنقي لعثمان، فابتعت عثمان - رضي الله عنه - بطاعته حتى أديت له حقه1. وروي الحسن البصري عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: " قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فصلى بالناس وقد رأى مكاني وما كنت غائباً ولا مريضاً، ولو أراد أن يقدمني لقدمني فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا"2. وروي شقيق3 بن سلمة أنه قال: قيل لعلي - رضي الله عنه - "استخلف علينا فقال: ما أستخلفت ولكن إن يرد الله بهذه الأمة خيراً يجمعهم على خيرعم كما جعهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيرهم"4.   1 ذكره أبو يعلى في المعتمد في اصول الدين ص 224، وعزاه إلى ابن بطة عن الحسن، ولم أجده في المطبوع ولا المخطوط من الإبانة لابن بطة، وذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء ص 177 وعزاه إلى ابن عساكر عن الحسن، وأخرجه الخلال في السنة مختصراً ص 282 عن أبي بكر الهذلي عن الحسن وهو لا يصح من ناحية السند، لأن أبا بكر سُلمي بن عبد الله الهذلي قال عنه ابن حجر: "إخباري متروك الحديث". التقريب ص 397. 2 أخرجه الخلال في السنة مختصراً ص 274. 3 في - ح - (سفيان) وهو خطأ وشقيق بن سلمة هو أبو وائل. 4 أخرجه الحاكم في المستدرك 3/79 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وأخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/404، وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة 7/223 قال ابن كثير: "إسناده جيد ولم يخرجوه". البداية والنهاية 5/282. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 840 وروي أنه قيل: لعبد الله بن أبي أوفى: "هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قيل: فكيف أمر المسلمين بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله، وقال1: أبو بكر يتوثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ودّ أبو بكر أنه وجد عهداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخزم2 أنفه منها بخزامة". 3 ويدل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول} ؟ الآية، وهذا خطاب للصحابة - رضي الله عنهم -". 4 لأنهم هم المستخلفون الله عنهم -، ثم قال بعدها: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} 5 الآية، قال الضحاك: "هذا العهد لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - لأنهم هم المستخلفون بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنجز له ما وعدهم وجعلهم خلفاء بعد نبيه صلى الله عليه وسلم، ومكن لهم في الأرض ففتحوا الفتوح وغنموا الغنائم وسبوا الذراري، وكان سيف أبي بكر - رضي الله عنه - في أهل الردة سيف حق، وسيف علي - رضي الله عنه - في الخوارج سيف حق، وظهر بهم في دين الله بعد نبيه صلى الله عليه وسلم.   1 القائل هذا كما في مصادر الرواية (الهزيل بن شرحبيل من رواية طلحة بن مصرف عنه) . 2 قال ابن منظور: "خزم الشيء شكه والخزامة حلقة تجعل في أحد جانبي منخري البعير". لسان العرب 2/1152، والمراد هنا خضوعه - رضي الله عنه - للموصى له والمعهود إليه. 3 أخرج الحديث خ. كتاب الوصايا (ب الوصايا ... ) 4/1، م. كتاب الوصية (ب ترك الوصية لمن ليس له شيء ... ) 3/1256 بدون قوله: "وقال أبو بكر يتوثب ... "، وأخرج مثله حم 4/381، جه (كتاب الوصايا) (ب هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم) 2/900، دي كتاب الوصايا (ب من لم يوصي) 2/403، واللالكائي في السنة 7/1290، وإسناده صحيح. 4 عزا الرواية القرطبي في تفسيره 12/297 إلى النقاش في تفسيره وذكر عن ابن العربي ترجيحه لهذا القول وانه قول علماء المالكية. 5 النور آية (54 - 55) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 841 يؤيد ذلك ويوضحه ما روى أبو بكرة وسفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا" قال سفينة: أمسك1، "خلافة أبي بكر سنتين وعمر عشراً وعثمان اثنتي عشرة وعلي ستاً". 2 وروى عبد الله عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليكونن منكم اثنا عشر خليفة أبو بكر الصديق لا يلبث إلا قليلاً، وصاحب رحادارة العرب يعيش حميداً ويموت شهيداً فقال رجل: من هو يا رسول الله، فقال: عمر بن الخطاب، ثم التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان، فقال: يا عثمان وأنت يسألك الناس أن تخلع قميصاً كساكه الله فلا تخلعه، فوالذي نفسي بيده لإن خلعته لا ترى الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط "3. ويدل على ما قلناه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" 4. فسمى الخلفاء بعده الراشدين، وأمر باتباع سنتهم، ولم يكن بعده من الخلفاء إلا هؤلاء الأربعة، فدل على أن خلافتهم خلافة حق.   1 هكذا في النسختين ولم أقف على رواية لأبي بكرة لهذا الحديث. 2 أخرجه ت. كتاب الفتن (ب ما جاء في الخلافة) 4/503 وقال الترمذي: "حديث حسن"، وأخرجه د. كتاب السنة (ب الخلفاء) 2/564، حم 5/220-221. مداره على سعيد بن جمهان وذكره ابن حجر في التقريب ص 120 وقال: "صدوق له أفراد". 3 أخرجه ابن أبي عاصم في السنة في 2/548 مختصراً ورواه في 2/557 مطولاً، وليس فيه قوله يا عثمان ... ) الخ. وأخرجه ابن عدي في الكامل 4/1524. وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الكبير والأوسط مجمع الزوائد 5/178 وفي إسناده من تكلم فيه فإن فيه ربيعة بن سيف المعافري قال في التقريب ص 101 صدوق له مناكير. وفيه سعيد بن أبي هلال قال عنه في التقريب ص 126 صدوق، وحكى الساجي عن الإمام أحمد أنه اختلط. وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث. قال ابن حجر: صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة. التقريب ص 177. 4 تقدم تخريجه ص 106. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 842 ومما يدل على خلافه أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - من القرآن قوله سبحانه: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 1، وهذه الآية نزلت في المخلفين من الأعراب عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، فقيل إن القوم الذين وصفهم الله بأولى بأس شديد هم أهل اليمامة2، 3 جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار والذي دعى إلى قتالهم وقاتلهم هو أبو بكر - رضي الله عنه -، وقيل: إنهم فارس وقد قاتلهم عمر - رضي الله عنه - فوعد الله المطيع على قتالهم أجراً حسناً، وأوعد من أعرض عن قتالهم عذاباً أليماً. فدل على أن الداعي لهم إلى قتالهم محق فيما دعاهم إليه4. ومما يدل على خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - ما روي عن جبير بن معطم: "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته في شيء، فأمرها أن ترجع إليه فقالت: يا رسول الله أرأيت إن لم أجدك كأنها تعرض بالموت فقال لها: "إن لم   1 الفتح آية (16) . 2 اختلف في المقصود بالموصوفين بالبأس الشديد، فعن الزهري أنه قال هم بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب وهم أهل اليمامة. وقال ابن عباس وابن أبي يعلى ومجاهد وغيرهم هم فارس والروم. وعلى هذين القولين تكون الآية دليلاً على خلافة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، لأن أبا بكر هو الذي دعا إلى قتال أهل اليمامة والروم. ودعا عمر - رضي الله عنه - إلى قتال فارس وأكمل قتال الروم، وقيل: إن المراد بالقوم هم هوازن وثقيف، وروي هذا عن سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة، فيكون الداعي النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: الروايات في تفسير ابن جرير 26/82 - 83. 3 هكذا في النسختين والكلام فيه سقط هنا ولعله (والمدعون هم ... ) لأن الذي ذكره المفسرون أن المخلفين عن غزوة الحديبية هم من أعراب المدينة جهينة ومزينة وأسلم ... ) ، انظر: تفسير ابن جرير 26/77، تفسير القرطبي 16/272. 4 ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء ص 65 أبن ابن أبي حاتم وابن قتيبة وأبو العباس بن شريح وابن كثير استدلوا بهذه الآية على خلافه الصديق - رضي الله عنه -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 843 تجديني فأت أبا بكر "1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"2 ومما يدل على صحة إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - أن الله أثنى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 3 وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} 4، الآية، وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 5. ومعنى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي: أنتم خير أمة6، ويقال: أراد كنتم في اللوح المحفوظ7، ويقال: في علم الله8.   1 أخرجه خ. كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (ب لو كنت متخذاً خليلاً..) 5/5. م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضائل أبي بكر - رضي الله عنه -) 4/1856. 2 تقدم تخريجه ص 105. 3 الفتح آية (18) . 4 الفتح آية (29) . 5 آل عمران آية (110) . 6 بهذا قال الحسن البصري رجحه ابن جرير الطبر للحديث الآتي، وقد ورد عن عمر - رضي الله عنه - أنه جعلها خاصة فيمن أدى شرطها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي الآية أقوال أخرى أرجحها ما ذكره الحسن، وهو أن المراد به هذه الأمة، وهو الذي رجهه ابن كثير للحديث الآتي وللحديث الذي رواه أحمد في مسنده 1/98 - 158 عن علي - رضي الله عنه - قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء قبلي" فقلنا يا رسول الله وما هو؟ قال: نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل التراب لي طهوراً وجعلت أمتي خير الأمم". قال ابن كثير تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه وإسناده حسن. تفسير ابن كثير 1/391. 7 ذكر هذا القول القرطبي ولم يعزه إلى قائل معين: تفسير القرطبي 4/170. 8 لم أقف على قائل هذا وهو يتفق مع القول قبله لأن ما في اللوح المحفوظ هو من علم الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 844 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" 1 وهؤلاء الذين أثنى الله عليهم بايعوا أبا بكر - رضي الله عنه - وأطاعوه وانقادوا له وسموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قال: إن خلافة أبي بكر كانت باطلاً فقد ضلل من أثنى الله عليه وشهد لهم أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فدل على أن ما أمروا به معروف. فإن قيل: فما الدليل على أن أبا بكر بصفة من تعقد له الإمامة، وما المعاني التي اقتضت تقديمه على غيره في عصره؟. قيل: أما سببه ونسبه فلا ينكره منكر2، وظهر من النبي صلى الله عليه وسلم معان تدل على تقديمه على غيره، وظهرت من أبي بكر - رضي الله عنه - في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند موته أمور تدل على علمه وشجاعته وقوة عزيمته. فأما ما ظهر للصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم فما ذكرناه من تقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الإمامة بالصلاة وتعظيمه لأمره بذلك، وقوله لعائشة وحفصة: "إنكن لصواحب يوسف" حين راجعنه في إمامة غيره3، وقوله مع ذلك "يأبى الله ورسوله والمسلمون إلا أبا بكر"4   1 أخرجه ت. كتاب التفسير (ب تفسير آل عمران) 5/226 وقال: "حديث حسن". وأخرجه جه. كتاب الزهد (ب صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم) 2/1433. دي رقاق (ب قول النبي صلى الله عليه وسلم أنتم خير الأمم) 2/313، حم 5/3ـ5، وابن جرير في تفسيره 4/45، والحاكم في المستدرك (ب معرفة الصحابة) 4/84 وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي كلهم من حديث معاوية بن حيدة - رضي الله عنه -، وحسن الحديث السيوطي. انظر: الجامع الصغير مع فيض القدير 2/553، والألباني في صحيح الجامع 1/272. (منكر) ليست في - ح -. 3 تقدم تخريجه ص 837. 4خرجه خ. كتاب الأحكام (ب الاستخلاف) 9/66، م. فضائل الصحابة (ب فضائل أبي بكر - رضي الله عنه -) 4/1857 من حديث عائشة - رضي الله عنها - وذلك حين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتاباً في استخلاف أبي بكر - رضي الله عنه -، ثم ترك ذلك وقال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر. وورد ذلك أيضاً من حديث عبد الله بن. معة وقد تقدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 845 مع قوله الله صلى الله عليه وسلم: " يوؤ القوم خيرهم"1. وقوله: " أئمتكم شفعاؤكم"2 وقوله: "من تقدم على قوم من المسلمين وهو يرى أن فيهم من هو أفضل منه فقد خان الله ورسوله"3 وقوله صلى الله عليه وسلم:" ما من نبي يموت حتى يؤمه رجل من قومه" 4، وقد أمَّ أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة5. وروى عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت متخذاَ أحداً من أهل الأرض خليلاً لأتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلاً - رضي الله عنه - ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا عني كل خوجة غير خوجة أبي بكر"6 وروي ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عاصباً رأسه بخرقة في مرضه الذي توفي فيه فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه   1 تقدم تخريجه ص 820. 2 تقدم تخريجه ص 820. 3 تقدم الكلام عنه ص 820. 4 أخرج الحاكم في المستدرك كتاب الصلاة 1/244 وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وأخرج الدارقطني في سننه كتاب الصلاة (ب الصلاة في الثوب الواحد) 1/282 كلهم من حديث المغيرة بن شعبة، وأعله الدارقطني ب - عبد الله بن أبي أمية قال: ليس بالقوي، وذكر الحديث الذهبي في الميزان 2/393 ونقل كلام الدارقطني في عبد الله. 5 أخرج هذا الترمذي في سننه من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعداً"، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب" وروي أيضاً ذلك عن أنس - رضي الله عنه - قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه خلف أبي بكر قاعداً في ثوب متوشحاً به". قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". انظر: سنن الترمذي (كتاب الصلاة) (ب إذا صلى الله عليه وسلم الإمام قاعداً) 2/196 - 198، كما أخرج هذه الروايات أيضاً البيهقي في دلائل النبوة 7/191 - 192. 6 أخرجه خ. كتاب الصلاة (ب الخوجة والممر في المسجد) 1/84، فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/97 - 152. وورد هذا الحديث من حديث ابن مسعود وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما -، ايضاً أخرجه عنهما خ - كتاب فضائل الصحابة (ب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذاً خليلاً) 5/4. م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضائل أبي بكر) 4/1854. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 846 فقال: ليس أحد أمنّ عليّ بنفسه وماله من أبي بكر"1، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما نفعني مال أحد ما نفعني مال أبي بكر" قال: فبكى أبي بكر وقال: "يا رسول الله أنا ومالي لك" 2، قالت عائشة3: كان مال أبي بكر4 قد بلغ الغاية5 ألف أوقية فضة لم يزد عليها مال قرشي فأنفق ذلك كله في الله6 وقالت: "كان بلغ ماله في الجاهلية ألف ألف أوقية ففخرت بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسكني يا عائشة إني كنت لك كأبي زرع لأم زرع"7. وروي أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للجنة ثمانية أبواب فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب   1 هذا مقدمة حديث ابن عباس المتقدم. 2 أخرجه جه في المقدمة 1/36 وقال في الزوائد: "إسناد رجاله ثقات". مصباح الزجاجة 1/16، وأخرجه الإمام أحمد في المسند 2/253، وفي فضائل الصحابة 1/65، وابن أبي عاصم في السنة 2/577. 3 هكذا في النسختين والأثر عن عبد الله بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة بن الزبير. 4 في الأصل (مال أبي) وما أثبت من - ح - وهو يوافق ما في مصدر الرواية. 5 لمراد بالغاية غاية الغنى كما ورد ذلك مفسراً عند اللالكائي عن فليح بن سليمان قال: "أخبرت أن الغاية في الجاهلية غاية الغنى ألف أوقية فضة وفي الأنصار جذاذ ألف وسق بالصاع الأول والوسق ستون صاعاً". السنة 7/1275. 6 أخرجه اللالكائي في السنة 7/1275 عن عروة بن الزبير. 7 أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 2/578، واللالكائي في السنة 7/1274. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير 23/174 إلا أنه. زاد فيه قصة أبي زرع وإسناده ضعيف في إسناده محمد بن محمد بن نافع الطائفي. قال الذهبي في الميزان 4/25 "شيخ أيام عبد الرزاق لا يكاد يعرف". وقال ابن حجر: "مقبول". التقريب ص 317. ملاحظة: وقع خطأ في اسمه في السنة لابن أبي عاصم حيث كتب (محمد بن عمر الطائفي) ، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كنت لك كأبي زرع لأم زرع" في الصحيحين مع قصة أبي زرع، أخرجه خ. في كتاب النكاح (ب حسن المعاشرة) 7/24، م. كتاب فضائل الصحابة (ب ذكر حديث أم زرع) 4/1896. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 847 الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وهو باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر: ما على من دعي من تلك الأبواب كلها من ضرورة، وهل يدعى أحد منها كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم وأرجو أن تكون منهم "1. وروي عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه قال: قلت يا رسول الله: من أحب الناس إليك قال:" عائشة فقال: إني لست أعني النساء إنما أعني الرجال، قال: أبوها قال ثم من؟ قال: ثم عمر"2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله أبا بكر زوجني ابنته ونقلني إلى دار الهجرة وأعتق بلالاً من ماله" 3. وروي أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هارباً من أهل مكة خرج ليلاً فتبعه أبو بكر - رضي الله عنه - فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا أبا بكر ما أعرف هذا من فعلك، قال: يا رسول الله اذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك، لا   1 أخرجه اللالكائي في السنة 7/1275 وفي الصحيحين ليس فيه قوله: "إن للجنة ثمانية أبواب"، وإنما قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة ... " فذكره. أخرجه خ. في فضائل الصحابة (ب فضل أبي بكر) 5/6، م. كتاب الزكاة (ب من جمع الصدقة وأعمال البر) 2/712. 2 أخرجه خ. في الموضع المتقدم 5/5، م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضل أبي بكر) 4/1856. 3 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) 5/633، السنة لابن أبي عاصم 4/577، واللالكائي في السنة 7/1277 من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وإسناده ضعيف قال الترمذي حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والمختار بن نافع شيخ بصري ثير الغرائب. وضعفه به ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/354. وضعفه أيضاً به المناوي ورد على السيوطي تصحيحه. فيض القدير 4/18. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 848 آمن عليك، قال فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه، فلما رآه قد حفيت رجلاه حمله على كاهله وجعل يشتد به، حتى أتى به الغار فأنزله، وقال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، فدخل فلم ير شيئاً فحمله فأدخله، وكان في الغار خروق فيهن حيات وأفاعي، فشق أبو بكر - رضي الله عنه - ثوبه فحشى في كل خرق منها قطعه من ثوبه، فبقي خرق فوضع أبو بكر عقبه عليه فجعلت الحيات والأفاعي تضربه وتلسعه، وجعلت دموعه تنحدر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا"1. فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ما صنع ثوبك فأخبره بما صنع به فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة فأوحى الله إليه أني قد استجبت لك"2.   1 إلى هنا أخرجه اللالكائي في السنة 7/1278 وذكره المحب الطبري بتمامه في الرياض النضرة 1/105 وعزاه إلى الحافظ أبو الحسن بن بشران في سيرته عن ضبة بن محصن عن عمر أنه قال له: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر، قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أما ليلته، فذكره، وسنده ضعيف جداً فإن فيه فرات بن السائب قال البخاري: "منكر الحديث"، وقال الدارقطني: "متروك". انظر: ميزان الاعتدال 3/341 وفيه عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي قال الذهبي: "يروي عن مالك أتى بخبر باطل طويل وهو المتهم يه، وأتي عن فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ضبة بن محصن عن أبي موسى بقصة الغار وهو يشبه وضع الطرقية". ميزان الاعتدال 2/545، ومراد الذهبي هنا هذا الحديث إلا أنه عزاه إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - لأنه ورد ذكر له في القصة كما ذكرها المحب الطبري في الرياض النضرة 1/105. 2 من قوله: "فلما أصبح ... إلخ" هذه من رواية أخرى أخرجها اللالكائي 7/1279 بسنده عن علي ابن. يد بن جدعان عن ابن المسيب عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - وإسنادها ضعيف لضعف علي بن. يد بن جدعان. انظر: التقريب ص 246، كما أخرج هذه الرواية أبو نعيم في الحلية 1/33 بسنده عن هلال بن عبد الرحمن عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس به وإسنادهما ضعيف جداً، فإن هلال بن عبد الرحمن قال عنه العقيلي: "منكر الحديث"، وقال الذهبي: "الضعف لائح على أحاديثه فليترك". ميزان الاعتدال 4/315. وقد أدمج المصنف - رحمه الله، هنا الرواية عن عمر مع ارواية عن أنس وكتاب السنة للالكائي سقط منه بقية الرواية عن عمر لأنه انتهى عند قوله: "لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته وهي طمأنينة لأبي بكر فهذه ليلة وأما يومه" وانتهى الخبر هنا وقد أوردها بتمامها المحب الطبري في الرياض النضرة 1/105 وذكر أن يومه موقفه من أهل الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 849 وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت: "هل قلت في أبي بكر؟ "، قال نعم قال: "قل وأنا أسمع"، فقال: وثاني اثنين في الغار المنيف ... وقد طاف العدو بهم إذ أصعدوا الجبلا وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: "صدقت يا حسان" 1. ومما يدل على تقديم أبي بكر - رضي الله عنه - في الفتيا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ما روى أبو قتادة أنه قال: لما التقى المسلمون بالمشركين يوم حنين كانت للمسلمين جولة يعني اضطراباً فرأيت رجلاً من المشركين وقد علا رجلا من المسلمين فاستدبرت له من روائه فضربت على حبل عنقه بالسيف، فأرسله ورجع إلي فضمني ضمة شممت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني ثم رجعنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلاً له به بينة فله سلبه" فقمت وقعدت2، فقال النبي صلىالله عليه وسلم: "أبا قتادة؟ " فقلت: قتلت رجلاً فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله وسلب ذلك الرجل عندي فارضه منه، فقال أبو بكر: لاها الله إذا3 لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن   1 أخرجه ابن سعد في الطبقات 3/174، واللالكائي في السنة 7/1279 عن الزهري مرفوعاً وهو منقطع. وقد أخرجه الحاكم في المستدرك 3/64 وفي إسناده عمرو بن. ياد بن عبد الرحمن الثوباني. قال الذهبي عن الدارقطني بأنه يضع الحديث. ميزان الاعتدال 3/260. 2 رواية الصحيحين "فقمت فقلت من يشهد لي ثم جلست". 3 معناها (لا والله حينئذ) أو (لا والله إذا) وقد أطال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في بيان معناها وذكر الخلاف فيها. انظر فتح الباري: 8/37 - 40. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 850 رسوله فيعطيك سلبه أردده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق فأعطه إياه" فأعطاني، فبعت الدرع فابتعت به مخرفاً1 في بني سلمة، فإنه أول مال تأثلته2 في الإسلام"3 ولا يتقدم في الفتيا بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم إلا من له منزلة في العلم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوماً فقال: " إن رجلاً خيره ربه بين أن يعيش، في الدنيا ما شاء الله4 أن يعيش ويأكل في الدنيا ما شاء أن يأكل، وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه "، فبكى أبو بكر - رضي الله عنه - وقال: فديناك يا رسول الله بأبائنا وأمهاتنا، فقال أصحاب النبي صلىالله عليه وسلم: ألا تعجبون من هذا الشيخ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً صالحاً خيره الله بين لقاء ربه فاختار لقاء ربه، فكان أبو بكر هو أعلمهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أراد صلى الله عليه وسلم أنه هو الذي خيره الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد أمنّ إلينا في صحبته وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذته خليلاً"5. وروى أبو الدرداء قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا امشي أمام أبي بكر - رضي الله عنه - فقال: " يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة؟ ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر"6.   1 مخرفاً بفتح الميم والراء ويجوز كسر الراء أي بستاناً صغيراً. لسان العرب 1/1139. 2 تأثلته أي اقتنيته وصار له أصل عندي، من أثل ماله أصله. لسان العرب 1/28. 3 أخرجه خ. كتاب الجهاد (ب من لم يخمس الأسلاب) 4/183، م. كتاب الجهاد (ب استحقاق القاتل السلب) 3/1370. 4 في الأصل (ما شاء فهو يعيش) وما أثبت كما في - ح - ويوافق رواية الترمذي. 5 أخرجه خ. كتاب فضائل الصحابة (ب قول النبي صلى الله عليه وسلم سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر) 5/4، م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضل أبي بكر) 4/1854، ت. كتاب المناقب (ب مناقب أبي بكر) 5/607 من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. 6 أبو بكر - رضي الله عنه - خليق بهذا، أما الحديث فقد أخرجه اللالكائي في السنة 7/1281 وأبو نعيم في الحلية 3/325، والإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/152 وابن أبي عاصم في السنة 2/576، والإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/152، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الكبير. انظر: مجمع الزوائد 6/44 ولم أجده في المطبوع من المعجم، والحديث روي عن ابن جريج عن عطاء عن أبي الدرداء، ورواه عن ابن جريج ثلاثة بقية بن الوليد وعبد الله بن سفيان الواسطي وهوذه بن خليفة، أما ابن جريج فهو ثقة إلا أنه يدلس، وقال الدارقطني: "تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح". انظر: الميزان 2/659، تهذيب التهذيب 6/405، أما الرواة عنه فبقية بن الوليد مدلس عن الضعفاء. انظر: التقريب ص 46 وعبد الله بن سفيان الواسطي قال العقيلي: "لا يتابع عليه". الميزان 2/430، هوذة بن خليفة قال في التقريب: "صدوق" ص 365، وقد جاء ما يوافق هذا المعنى من حديث جابر أخرجه ابن حبان في المجروحين 1/127، وابن الجوزي في العلل المتناهية 1/187، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الأوسط مجمع الزوائد 9/44 وهو حديث موضوع فإن فيه إسماعيل بن يحيى التيمي قال عنه أبو علي النيسابوري الحافظ والدارقطني والحاكم: "كذاب"، وقال صالح جزرة: "كان يضع الأحاديث". انظر: الميزان 1/253. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 851 وروي أن أبا بكر1 - رضي الله عنه - أول من أسلم. وروي أنه سئل ابن عباس من أول من أسلم؟ فقال: أبو بكر - رضي الله عنه - أما سمعت قول حسان بن ثابت: إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأفضلها ... إلا النبي وأولاها بما حملا والثاني التالي المحمود شيمته ... وأول الناس منهم صدق الرسلا2 وروي عن ابن مسعود أنه قال: "أول من ظهر الإسلام سبعة النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأمه وصهيب وبلال والمقداد3، وروي أبو سعيد الخدري: "أن أبا بكر قال لعلي - رضي الله عنهما -: قد علمت إني كنت في هذا الأمر قبلك قال: صدقت يا خليفة رسول الله فمد يده فبايعه، فلما جاء الزبير قال له   1 في - ح - (ولأن أبا بكر) . 2 أخرجه الطبراني في الكبير 12/89 عن الشعبي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. 3 أخرجه حم 1/404 جه 1/53 قال البوصيري هذا إسناد رجاله ثقات. مصباح الزجاجة 1/23 وأخرجه أبو نعيم في الحلية 1/149 والحاكم في المستدرك 3/284 وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وأخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/182. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 852 أبو بكر: قد علمت أني كنت في هذا الأمر قبلك قال: صدقت، فمد يده فبايعه1. وأما ما ظهر من أبي بكر - رضي الله عنه - من العلم وشدة الجأش بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتجت المدينة واختل الناس وأفحموا ودشهوا وطاشت عقولهم وذهلوا، فروي أن عمر - رضي الله عنه - كذب بموته وقال: ما مت رسول الله صلى الله عليه وسلم وليرجعنه الله2 وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم من المنافقين يتمنون موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما وعده ربه كما وعد موسى ربه وهو آتيكم3. وأما علي - رضي الله عنه - فإنه قعد في البيت ولم يبرح، وأما عثمان فجعل لا يكلم أحداً حتى أنه يؤخذ بيده فيذهب به ولا يعقل، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - بالسنح4 وتواتر أهل البيت إليه بالرسل، فلما أخبر بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل وعيناه تهملان وغصصة تترجع في حلقة، وهو مع ذلك ثابت العقل حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه وقبله، وقال: يأبى وأمي طبت حيا وميتا انطقع الوحي بموتك ما لم ينقطع بموت أحد من الأنبياء فعظمت عن الصفة5 وجللت عن البكاء بكلام له طويل، ثم خرج والنبي صلى الله عليه وسلم مسجى، فقام في الناس خطيبا فخطب خطبة خللها بالصلاة على   1 تقدم ذكر هذا ص 836 وليس فيه قوله: "قد علمت أني كنت .... " إلخ. 2 لفظ الجلالة - ليست في الأصل وإنما هو في - ح -. 3 روى البيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - حدثه بالسبب الذي لأجله أول الأمر أنكر موت النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "كنت أول هذه الآية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} البقرة آية (143) فوالله إن كنت لآظن أنه سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها، وإنه للذي حملني على أن قلت ما قلت"، دلائل النبوة للبيهقي 7/219 وفي إسناده حسين بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي قال في التقريب ص 74: "ضعيف". 4 السُنح بضم السين وسكون النون في عوالي المدينة وبينها وبين مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ميل. معجم البلدان 3/264. 5 مراده بهذا والله أعلم فأنت اعظم من أن تذكر أوصافك مدحاً لك لظهور هذا الأمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 853 رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيها: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء، وأشهد أن الكتاب كما أنزل، وأن الدين كما شرع وأن الحديث كما حدث"1 في كلام طويل، ثم قال: "أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 2، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} 3. قال عمر: "والله لكأني لم أسمع بها في كتاب الله قبل الآن"4. فرجعوا صابرين محتسبين بقوة نفوس وسكون جاش في الدين، ولو لم يظهر منه غير هذا لكان ذلك كافياً في الدليل على علمه وفضله، ثم لما عقدت له الخلافة نادى مناده في المدينة بخروج جيش أسامة الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بخروجه فاجتمع إليه قوم من الصحابة - رضي الله عنهم - فقالوا له: إن هذا الجيش فيه الحامية من نقباء المهاجرين والأنصار، وإن أهل الردة قد اطلعوا رؤوسهم وساقبوا5 المدينة فانتظر بانفاذه6 انكشاف الردة فقال: "والله لأن أخر من السماء على أم رأسي فتخطفني الطير وتنهشني السباع أحب إلي من أن أكون أول حال عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم. أنفذوا جيش أسامة   1 أخرج بعض هذه الخطبة والتشهد البيهقي في دلائل النبوة 7/218 وفي إسناده ابن لهيعة. 2 الزمر آية (30) . 3 آل عمران آية (144) . 4 أخرج البخاري في فضائل الصحابة (ب فضل أبي بكر) 5/6 نحو هذا الخبر من حديث عائشة - رضي الله عنها -. 5 ساقبوا أي قاربوا قال في اللسان: السقب القرب، وقد سبقت الدار بكسر القاف سقوباً أي قربت وأبياتهم متساقية أي متدانية ومنه الحديث "الجار أحق بسقبه". اللسان 3/2036. 6 في الأصل غير ظاهرة وفي - ح - كتبت (بانفاذه) فأثبت هاء الضمير لتستقيم العبارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 854 وأمرهم بالخروج1، فسأل نقباء المهاجرين والأنصار عمر أن يسأل أبا بكر أن يصرف أسامة ويولي من هو أسن منه وأدري بالحرب فسأله عمر ذلك، فقال أبو بكر: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب وعدمتك، أيوليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أعزله؟ والله لا يكون ذلك أبداً فشيعهم أبو بكر حافياً والعباس معه ومن بقي من الصحابة في المدينة فما زال يدعوا لهم ويؤمن العباس ومن معه على دعائه وأسامة يقول: إما أن تركب يا خليفة رسول الله أو أنزل وهو يقول: لا أركب ولا تنزل وماذا عليّ أن تغبر قدماي في سبيل الله فنفذ الجيش وفتح وغنم ورجع في نيف وستين يوماً ولقي بهم أهل الردة"2. ومن فضائله أن العرب لما ارتدت ومنعت الزكاة وقالوا لا نؤدي الزكاة إلى أبي بكر لأن الله قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} 3، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم هي التي كانت طهارة وزكاة دون ابن أبي قحافة، فعزم على قتالهم، فقال له عمر: كيف تقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها"، 4 فقال أبو بكر: "الصلاة من حقها والزكاة من حقها، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عناقاً5، وروي عقالاً6مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه7، فرجع عمر وباقي الصحابة إلى قوله وعلموا أن الحق بقوله، وهذا يدل على أنه كان أفقه منهم، وأشجع منهم ولولا قتاله مانعي الزكاة لانحلت قوى الشريعة وعزائمها كالصلاة والصيام   1 روى نحو هذا الطبري في تاريخ الأمم والملوك 3/225. 2 أخرج نحوه الطبري في تاريخ الأمم والملوك 3/225 عن الحسن البصري وهو منقطع، وانظر: البداية والنهاية 6/305. 3 التوبة آية (103) . 4 تقدم تخريج الحديث ص 752. 5 العناق: هي الأنثى من ولد المعز ما لم يتم له سنة وهي السخلة. النهاية لابن الأثير 3/311. 6 العقال: هو الحبل الذي يعقل به البعير. النهاية لابن الأثير 3/280. 7 أخرج هذا خ. كتاب الزكاة (ب وجوب الزكاة) 2/90، م. كتاب الإيمان (ب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) 1/51. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 855 والحج1، ولكن الله شد بعزيمته الدين فقاتل أهل الردة فقاتل أهل الردة وأثر فيهم2 بالقتل وأبادهم واستأصل خضراءهم3، حتى ألقى الله في قلوبهم من الهيبة والفشل منه ما كان في قلوب الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم حتى قال شاعرهم: ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ... لعل منايا نا قريب ولا ندر لعل جيوش المسلمين وخليهم ... ستطرقنا قبل الصباح من الفجر4 فكيف لا يصلح للخلافة من هذه صفته، هذا وقد كان مقدماً في الجاهلية تحتكم إليه العرب وترضى بحكمه وقوله5. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخلوا به ويستشيره في كثير من أمور التي أمر الله أن يستشير بها6بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} 7، ولا يستشير إلا من يحمد لذلك بالعقل والعلم.   1 ذكر ابن كثير والسيوطي أن ابن عساكر والبيهقي أخرجا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قوله: "والله الذي لا إله إلا الله هو لولا أن أبا أبكر استخلف ما عبد الله ثم قال الثانية ثم قال الثالثة، فقيل له مه يا أبا هريرة فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن. يد في سبعمائة إلى الشام ... " فذكر قصة الردة وخروج أسامة. البداية والنهاية 6/305، تاريخ الخلفاء ص 73. 2 هكذا في - ح - وفي الأصل غير ظاهرة تماماً. 3 في - ح - (حصادهم) . 4 هذه أبيات قالها حرقوص بن النعمان النمري وكان قد وضع لبنيه وبناته وامرأته جفنة خمر ودعاهم للشرب قبل وصول جيش خالد إليهم وذلك في قتاله في العراق، فقتل هذا الرجل على جفنته وسبي أهل. الكامل لابن الأثير 2/280، البداية والنهاية 6/351. 5 نقل السيوطي عن الزبير بن بكار وابن عساكر عن معروف بن خربوذ قال: "إن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أحد عشرة من قريش اتصل بهم شرف الجاهلية والإسلام فكان إليه أمر الديات والغرم". تاريخ الخلفاء ص 31. والمراد بأن إليه أمر الديات والغرم أي الذي يحكم فيها ويرضي الأطراف بالآراء الحكيمة التي يبديها في حل منازعاتهم. 6 روى الحاكم بسنده عن سعيد بن المسيب قال: "كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - من النبي صلى الله عليه وسلم مكان الوزير، فكان يشاروه في جميع أموره وكان ثانية في الإسلام، وكان ثانية في الغار، وكان ثانية في العريش، وكان ثانية في القبر، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم عليه أحداً" قال الذهبي في رواته مجهول. المستدرك. كتاب معرفة الصحابة 3/63. 7 آل عمران آية (159) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 856 122 - فصل وقد تعلقت القدرية والروافض بمعان ضعيفة وأخبار غير صحيحة في الطعن على إمامة أبي بكر وعمر. فمن ذلك أن علياً والزبير - رضي الله عنهما - تخلفا عن بيعة أبي بكر ثم بايعا مكرهين. والجواب: أن هذا طعن على علي - رضي الله عنه - ونسبته إلى النفاق، لأنه إذا عام أن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه في الإمامة وأمره بذلك كيف حلّ له ترك إظهار ذلك والقيام به، وكيف ساغ ترك نصرته لبني هاشم وبني عبد المطلب وغيرهم من قبائل قريش، مع أن المروي عنه أنه قال: "والله لو كان عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركت أخاتيم بن مرة ولا ابن الخطاب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم أجد إلا يدي هذه، وذكر استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الصلاة مع كونه حاضراً يرى مكانه"1. وروي أنه قال لأبي عبيدة بن الجراح يوم وصله: "والله ما قعودي في كسر بيتي قصداً مني لخلاف ولا إنكاراً لمعروف ولا زراية على مسلم، بل لما وقذني2 رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقة وأودعني من الحزن بعده، وأنا غاد إلى جماعتكم غداً إن شاء الله بفراق ومبايع صاحبكم، فلما كان صباح ذلك اليوم وافى عليه السلام يخرق الجماعة إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فبايعه طائعاً غير مكره، وقال خيراً ووصف جميلاً وجلس طويلاً واستأذن للقيام، فقام وشيعه عمر تكرمة له، فقال له علي - رضي الله عنه -: والله ما قعدت كاراهاً ولا أتيته فرقاً منه ولا أقول ما أقول تقية مني في كلام له طويل"3.   1 تقدم هذا من حديث قيس بن عبادة وعبد الله بن الكوا ص 839. 2 الوقذ شدة الضرب وقذه وقذاً ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت، والوقيذ والموقوذ الشيديد المرض الذي أشرف على الموت وقد وقذه المرض والغم. لسان العرب 6/4889. 3 لم أقف عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 857 وروي أن أبا بكر - رضي الله عنه - بعد ما بويع له وبايعه علي - رضي الله عنه - أقام ثلاثاً يقول: يا أيها الناس قد أقلتكم بيعتكم، هل من كاره، فيقوم عليّ في أوائل الناس فيقول: والله لا نقيلك ولا نستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذا الذي يؤخرك1. واحتجوا بما روي أنا أبا بكر - رضي الله عنه - قال في بعض خطبه: "وليتكم ولست بخيركم فإذا استقمت فاتبعوني، وإن اعوججت2 فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم"3. قالوا فاعترف على نفسه أنه ليس بخيرهم وأنه يعصي الله. والجواب على ذلك من وجوه: أحدهما: أنه أراد وليتكم بالإمامة في الصلاة "وليست بخيركم" يومئذ لأن فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه أراد لست بخيركم قبيلة ولا عشيرة، لأن بني هاشم وبني عبد المطلب أعلى منه في ذروة النسب، ليدلهم بذلك أن الأمر لا يستحق بعلو النسب. والثالث: أنه أراد التواضع وكره أن يزكي نفسه4 لأن الله قال: {فَلا   1 أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/131 عن أبي الجحاف من طريقين، وهو منقطع لأن أبا الجحاف لم يلق أبا بكر - رضي الله عنه - ولا علي بن أبي طالب، وأبو الجحاف هو داود بن أبي عوف وثقه الإمام أحمد ويحيى بن معين، وقال النسائي: "ليس به بأس"، وقال ابن عدي: "ليس عندي ممن يحتج به شيعي عامة ما يرويه في فضائل أهل البيت". الميزان 2/18. (وإن اعوججت) ليست في الأصل وهي من - ح -. 3 أخرجه ابن سعد في الطبقات 3/212 عن الحسن البصري وهو منقطع لأن الحسن البصري لم يسمع من أبي بكر - رضي الله عنه -. 4 هذا الحق، وهو أن أبا بكر - رضي الله عنه - قصد التواضع وعدم تزكية النفس بقوله: "لست بخيركم" وله في هذا التواضع أسوة حسنة بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "لا تخيروني على موسى". أخرجه خ. كتاب الأنبياء (ب وفاة موسى عليه السلام) 4/126 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىقَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ، ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي". أخرج خ. كتاب الأنبياء (ب قوله عزوجل {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} الحجر آية (51) 4/11ولا شك أنه - رضي الله عنه - خير هذه الأمة بعد نبيها لما تقدم من الأحاديث في فضله والإجماع الذي وقع على مبايعته، فلم يدع أحد أنه أفضل منه، وروى البخاري في فضائل الصحابة 5/4 عن ابن عمر - رضي الله عنهم - قال: "كنا نخير بين الناس في. من النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان - رضي الله عنهم -". وروي البخاري أيضاُ في فضائل أبي بكر 5/7 عن محمد بن علي بن أبي طالب بن الحنفية قال: "قلت لأي أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، فخشيت أن يقول عثمان قلت ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين". فهذا يدل على أنه أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وأن قوله هذا إنما قاله من باب التواضع وهضم النفس، وانظر: كتاب الإمامة لأبي نعيم ص 268ـ273. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 858 تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 1، وإذا شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لأبي الدرداء: "ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر"2 كان ذلك كافياً في بيان درجته وفضيلته على غيره. وأما قوله: "فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم"، فإنه نفي عن نفسه أن يكون معصوماً عن الخطأ، وليس من شرط الإمام عندنا أن يكون معصوماً3، وكيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وما منا معاشر الأنبياء إلا من عصا أو هم بمعصية إلا يحيى بن زكريا" 4، وقال لنبيه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ   1 النجم آية (22) . 2 تقدم تخريجه ص 851. 3 الروافض يزعمون أن الأئمة كالأنبياء في العصمة ولا يقع منهم سهو ولا خطأ، وهذا من افتراءاتهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه السهو في الصلاة، وقال بعد سجوده للسهو "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني". أخرجه خ. كتاب الصلاة (ب التوجه نحو القبلة حيث كان) 1/74، م. كتاب المساجد (ب السهو في الصلاة) 1/400. ولا يستطيع الروافض أن يوردوا على إثبات هذه العصمة دليلاً صحيحاً بالنسبة لأئمتهم، مع العلم أن أئمتهم في. عمهم لم يتول منهم الأمر سوى علي - رضي الله عنه - وكذا الحسن فترة وجيزة، فعصمتهم المزعومة لا أثر لها في الأمة على فرض وجودها. انظر: قولهم في العصمة كتاب حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر ص 191 - 255، ونقل شيخ الإسلام ذلك عن صاحب منهاج الكرامة ورد شيخ الإسلام عليه في منهاج السنة النبوية 6/457 - 474. 4 تقدم تخريجه ص 706. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 859 ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} 1، فإذا كانت هذه حالة الأنبياء فكيف الأئمة2. احتجوا بما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه خطب وقال: "إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها"3، وقالوا: وكيف يستحق الخلافة وبيعته بهذه الصفة.   1 الفتح آية (2) . 2 المراد بهذا ما يصدر من الأنبياء مما هو خلاف الأولى، ولا يقرون عليه وليس المراد به الوقوع في الكبائر. 3 أخرج هذا عنه خ. كتاب الحدود (ب رجم الحبلى من الزنا) 8/141، وذلك ضمن قصة مبايعة أبي بكر - رضي الله عنه - وقال فيها "فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت إلا وإنها كانت كذلك ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر. من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسملين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تفرة أن يقتلا"، ثم ذكر قصة السقيفة والمبايعة. وسبب ذكر هذه الخطبة من عمر - رضي الله عنه - أنه بلغه عن أناس قولهم: "لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت"، فبين عمر - رضي الله عنه - أن بيعة أبي بكر كانت فجأة بسبب ظروفها وملابساتها من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أذهل كثيرا من المسلمين ومن قول الأنصار "منا أمير ومنكم أمير"، فاحتاج الأمر إلى عجلة يحسم بها الموقف، فكانت بيعة أبي بكر ثم بين - رضي الله عنه - أن أبا بكر لا يوجد مثله، وأنه لا يختلف فيه اثنان، وأن المسملين لمكانة أبي بكر - رضي الله عنه - لا يختلفون فيه، وهذا تصديق لقول النبي صلى الله عليه وسلم "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر". وقد تقدم وهذا الذي كان. لهذا قال - رضي الله عنه - بعد ذلك "وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر" يبين في هذا - رضي الله عنه - أن أقوى الأمور وأفضلها وأحسمها للخلاف والنزاع كانت مبايعة أبي بكر - رضي الله عنه - الذي تتفق عليه جميع الأطراف، لهذا علل بعدها فضيلة هذه المبايعة وحسمها للشر بقوله: "خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما نخالفهم فيكون فساد". وللمسلم أن يتصور لو أن هذا الاختلاف وقع كما وقع في. من علي ومعاوية - رضي الله عنهما - كيف يكون حال هذه الأمة، فهذا يدل على ما لأجله كانت بيعة أبي بكر - رضي الله عنه - بهذه الصورة وبركة هذه البيعة وفضيلتها. وإن الناظر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ الأمة المسلمة لا يجد أبرك على هذه الأمة بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم من الصديق أبي بكر - رضي الله عنه -، فقد كانت حياته وموافقة كلها بركة على هذه الأمة تجني الأمة ثمارها اليانعة إلى يوم الدين ولا يشاركها في هذه الميزات والخصائص بهذا الحد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه - وعنهم أجميعن. ولكن الروافض قوم بهت يُكذبون بالمنقول وينكرون المعقول، ولم يقصدوا بالطعن في سادات هذه الأمة إلا الطعن على الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، فلما لم يقدروا على طعن المبي صلى الله عليه وسلم علانيته جهارا، لأن فيه إظهارا لكفرهم وكذبهم توصلوا إليه بالطعن في سادات المؤمنين أبر هذه الأمة وأفضلها أصحاب النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وتستروا بحب علي - رضي الله عنه - وأهل بيته، وإلا فكل عاقل نظر في حال الصحابة وأعمالهم وآثارهم يدرك الفرق بين أبي بكر وعمر وبين علي - رضي الله عنهم - أجمعين. فلو أُخفي اسم كل واحد من هؤلاء وعرضت أعماله وآثاره ثم طلب من أي عاقل عادل أن يبين أفضلها وأبركها على هذه الأمة لما تردد في تفضيل أبي بكر وعمر على غيرهما من الصحابة عثمان وعلي ومن دونهما. إضافة إلى أن عليا - رضي الله عنه - لم يكن بينه وبينهما خلاف، ولا يرى أنه أفضل من أبي بكر ولا عمر وهذا يدل عليه أقواله وأفعاله - رضي الله عنهم - أجمعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 860 والجواب: أن يقال لهذا المحتج: بهذا سهوت وجهلت مراد عمر - رضي الله عنه - بذلك، أنه لم يرد بذلك الطعن على بيعة أبي بكر، والا زدراء بها وكيف يليق به هذا وإمارة عمرة صدرت من أبي بكر وإنما أراد بها كانت فلتة أي تمت وانتظمت لم يحتج فيها إلى مشاورة الأحلاف ومن يريد شق عصى المسلمين، وقى الله شرها بتمامها ولم يتم من أراد من الأنصار نصب إمام منهم1 حيث قال الحباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير2. واحتج من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي - رضي الله عنه - بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألست أولى المؤمنين من انفسهم، من كنت مولاه فعلي مولاه وإلى الله من والاه وعادى من عاداه"3   1 هكذا في النسختين والكلام فيه عدم انسجام فلعل فيه سقطا. 2 انظر: أيضا في الرد عليهم في هذا الاحتجاج كتاب الأمة لأبي نعيم الأصفهاني ص 258، وكتاب منهاج السنة النبوية 8/277. 3 أخرجه ت. كتاب المناقب. (ب مناقب علي - ضي الله عنه - 5/633 من حديث أبي الطفيل عن أبي شريحة أو. يد بن أرقم - رضي الله عنهما - مختصرا وقال: "حديث حسن صحيح"، جه في المقدمة (ب فضل علي - رضي الله عنه -) 1/43 من حديث البراء بن عازب، حم 1/118 - 119 من حديث علي - رضي الله عنه -. وأخرجه في 4/281 من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - وفي 4/368 - 370 - 372) من حديث. يد بن أرقم - رضي الله عنه - وأورد الألباني الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة وقال بعد أن أورد طرق الحديث وتكلم على أسانيدها: "وللحديث طرق أخرى كثيرة جمع طائفة منها الهيثمي في مجمع الزوائد، وقد ذكرت وخرجت ما تيسر لي منها مما يقطع الواقف عليها بعد تحقيق الكلام على أسانيدها بصحة الحديث يقينا وإلا فهي كثيرة جدا". سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/330 - 344. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 861 قالوا: فأوجب1 لعلي من الطاعة على المؤمنين ما أوجبه عليهم لنفسه، ثم قال: "وإلى الله من والاه وعادى من عاده"، ومن أئتم بغيره فقد عاداه. والجواب عنه من وجوه: أحدهما: أن نقول للراوفض والقدرية أنتم ل تقولون بأخبار الآحاد فإنها لا توجب العمل2. فكيف يمكنكم الاحجناج علينا بما لاتقولون به. والثاني: أنا نقول لهم النص هو القول الذي لا يحتمل التأويل3 - حتى إن بعض العلماء قال: النص بعد وجوده4 وهو مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 5 {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 6 فهو نص فى الثلاثة وفي القرء غير منصوص لأن القرء لفظ مشترك7، فقولكم بأن هذا القول نص من النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة علي قول صدر ممن لا يميز بين النص والظاهر8.   1 في الأصل (فأجب) ، والتصويب من - ح -. 2 ينكر الروافض التعبد بخبر الواحد. انظر: قولهم والرد عليهم في الوصول إلى الأصول 2/163، نزهة الخاطر العاطر 1/268. 3 انظر: في هذا نزهة الخاطر العاطر 2/27. 4 هكذا ولم يتبين لي المراد منه ولم أقف على من ذكره. 5 الإخلاص آية (1) . 6 البقرة آية (228) . 7 القرء لفظ مشترك بين الطهر والحيض. انظر: تفسير القرطبي 3/113. 8 النص والظاهر والمجمل: هذه تقسيمات للأصوليين يقسمون بها الكلام المفيد وتقدم تعريف النص، أما الظاهر فهو: ما يسبق إلى الفهم منه عند الإطلاق معنى مع تجويز غيره، أو تقول هو: ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر، أما المجمل فهو ما احتمل معنيين لا مزية لأحدهما على الآخر، أو هم ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى معين وذلك مثل الألفاظ المشتركة كالعين والقرء ونحوها. نزهة الخاطر العاطر 2/26 - 43. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 862 والجواب الثاني: أن يقال لهم قولكم بأنه صلى الله عليه وسلم أوجب لعلي على الخلق ما أوجبه لنفسه عليهم غير صحيح، لأنه قال في هذا الخبر: "ألست نبيكم والمخبر لكم بالوحي عن ربكم، وناسخ شرائع من كان قبلكم". فأثبت لنفسه النبوة، والإخبار بالوحي، وأنه ناسخ الشرائع، كما أثبت لنفسه الولاية عليهم، فلما لم يشاركه علي - رضي الله عنه - بالنبوة ولا بالوحي ولا بنسخ الشرائع لم يشاركه بالولاية، وعلى أنه لو كان صحيحاً لكان علي ثابت الولاية عليهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يقوله أحد، فثبت أن قوله "من كنت مولاه فعلي مولاه "ليس المراد به الواي، لأن المولى لفظة مشتركة تقع على معان مختلفة منها: المولى: يقع علي المولى من أعلى وهو المعتق، وهذا لا إشكال فيه ويقع على المولى من اسفل وهو المنعم عليه، قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُم} ْ1 والمولى: يقع على ابن العم والعصبة، قال الله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} 2. قال في التفسير: بني العم3. قال الشاعر: مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لا تظهروا بيننا ما كنا مدفونا لا تحسبوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا4 وأراد بالمولى هنا: ابن العم، والمولى يقع على الناصر، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أي ناصرهم {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} 5أي لا ناصر لهم.   1 الأحزاب آية (5) . 2 مريم آية (5) . 3 ذكر هذا ابن جرير في تفسيره 16/46. 4 ذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف ص 35 وعزاه إلى الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب وهو من شعراء بني هاشم في عهد بني أمية. 5 سورة محمد صلى الله عليه وسلم آية (11) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 863 والمولى يقع على المحب والموالي، ومنه قوله صلىالله عليه وسلم:" مزينه وجهينة وأسلم وغفار موال الله ورسوله"1. أي محبون موالون لهما. والمولى يقع على الجار2، قال مربع بن وعوعة الكلابي وكان جار كليب ابن يربوع فأحسنوا جواره: - جزا الله خيرا بكفه ... كليب بن يربوع وزادهم حمدا هم خلطونا بالنفوس وألجموا ... إلى نصر مولاهم مسومة جردا3 وأراد إلى جارهم. وإذا كانت لفظة المولى مشتركة بين هذه المعاني حمل قوله صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" أي من كنت ناصره ومحبه أو ابن عمه فعلي مولاه4، ولا يكون ذلك إلى الوالي. وأما قوله: "وإلى الله من والاه وعادي من عاداه" فما أحد من الصحابة ولا من أهل الحديث عاداه، وليس من ائتم بإنسان سمى معاديا لسائر الناس، وإنما المعادي لهم هم الخوارج. واحتجوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي بقوله صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"5.   1 أخرجه خ. كتاب المناقب (ب مناقب قريش) 4/143 وفي (ب ذكر أسلم وغفار ومزينة..) 4/145، م. كتاب فضائل الصحابة (ب من فضائل غفار واسلم) 4/954 من حديث أبي هريرة ولفظه "قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار واشجع موالي ليس لهم مولى دون الله ورسوله". 2 انظر: هذه المعاني في لسان العرب 6/4921. 3 ذكره في لباب الأداب ص 268. 4 ذكر احتجاج الروافض بالحديث المذكور أبو نعيم في الإمامة ص 218 ورد على استدلالهم بأن المراد به "من كان النبي صلى الله عليه وسلم مولاه فعلي والمؤمنون مواليه يدل على ذلك قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ثم قال: وإنما هذه منقبة من النبي صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه، وحث على محبته وترغيب في ولايته لما ظهر من ميل المنافقين عليه وبغضهم له"، انتهى. وذكر نحوه شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية5/36 5 أخرجه خ. كتاب فضائل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) 5/17، م. كتاب فضائل الصحابة (فضائل علي - رضي الله عنه -) 4/1870. من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 864 والجواب أن يقال: إن هذا ليس بنص على إمامته، لأن النص ما لا يحتمل التأويل، وإنما الخبر ورد على سبب، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في غزوة تبوك خلفه على المدينة فقال المنافقون: إنه أبغض عليا وقلاه حين لم يخرجه معه، فتبعه علي - رضي الله عنه - وقال: يا رسول الله أتتركني مع الذرية والعيال فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"1، وأراد بذلك حين خلفه على قومه يوم توجه لكلام ربه، ولم أخلفك بغضا ولا قلا، ولم يرد أنك تَخْلفُنُى بعد موتى، لأن هارون لم يخلف موسى صلى الله عليه وسلم بعد موته بل مات فقبل موسى وإنما خلفه يوسع بن نون2. فإن قالوا: فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة يومئذ، وما روي أنه عزله عن ولايته عليها فيجب أن تكون ولايته ثابتة عند موته وبعد موته. قيل لهم: هذا لا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع عن3 غزوته كان حكم المدينة وأمرها إليه، ولم يقل أحد إن عليا كان يملك الولاية عليها بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوته، ويعارض هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم ولى أبا بكر الإمامة في   1 أخرجه بذكر هذا السبب أبو نعيم في الإمامة ص 222 عن عطية عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وعطية هو العوفي وهو ضعيف. انظر: الميزان 3/80 والذي عند البخاري ومسلم أن عليا - رضي الله عنه -، اعترض على هذا التخليف بقوله: "تخلفني في النساء والصبيان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا ترضى ... " الحديث، وهذا السبب الثابت في الصحيحين لا يغير المعنى إذ المراد هو تشبيه التخليف، فكما خلف موسى هارون عليهما السلام خلف النبي صلى الله عليه وسلم عليا - رضي الله عنه -، وليس في ذلك دلالة على استحقاقه الخلافة بعده فإن من سنته صلى الله عليه وسلم أنه إذا سافر استخلف على المدينة. 2 ذكر هذا الاحتجاج ورد عليه بنحو ما ذكر هنا أبو نعيم الأصفهاني في كتابه الإمامة ص 221 وذكر هذا الاستدلال أيضا الحافظ ابن حجر في الفتح 7/74 وعزا إلى الخطابي الجواب عنه بنحو ما ذكر هنا. كما ذكره شيخ الإسلام وأطال في الرد عليهم بما يشفي ويكفي في منهاج السنة النبوية 7/325، 340. 3 هكذا في النسختين والأولى (من) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 865 الصلاة بالمدينة1 وأقامه على الحاج في الموسم2 وما روي أنه عزله فكل جواب لهم عن هذا فهو جوابنا لهم3. احتجوا على النص على إمامة علي بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أتت أخي وخليفتي في أهلي وقاضي ديني ومنجز عداتي"4. والجواب: أن هذا ليس بنص على الإمامة بعده لا يحتمله التأويل5، لأن هذا الخبر إذا ثبت حملنا قوله: "أنت أخي" أنه أراد التعظيم له، وهو كذلك لأنه ابن عمه. وقوله: "خليفتي على أهلي" أي على فاطمة وولديها وهم أهل له صلى الله عليه وسلم، وأما قوله: " وقاضي ديني" يحتمل أنه أمره بقضاء دين عليه بعد موته أو في حياته6، وكذلك قوله: "منجز عداتي" وليس في هذا كله نص على الإمامة، بدليل أن إمامة لو قال لرجل بهذا القول لم   1 تقدم ذكر الروايات في ذلك ص 837. 2 كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أميراً على الحج سنة تسع من الهجرة قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بسنة وثلاثة أشهر، وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - تأمير النبي صلى الله عليه وسلم أبي بكر على الحج سنة تسع في كتاب المغازي (ب حج أبي بكر بالناس) 5/137. 3 ذكر الاحتجاج المتقدم شيخ الإسلام عن الروافض صاحب منهاج الكرامة، ورد عليه وبين جهل الروافض وافتراءاتهم، وبين - رحمه الله - أن هذا القول غير صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يولي كلما خرج من المدينة ويستخلف عليها، وبعد تبوك خرج إلى حجة الوداع، وكان علي - رضي الله عنه - في اليمن ثم أدركه بمكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استخلف على المدينة. انظر: منهاج السنة النبوية 7/341 - 353. 4 أخرجه ابن حبان في المجروحين 3/5 وابن الجوزي في الموضوعات 1/347 عن أنس - رضي الله عنه -، وهو حديث موضوع، والمتهم به مطر بن ميمون الإسكاف. قال عنه ابن حبان: "يروي عن أنس ما ليس من حديثه في فضل علي وغيره لا تحل الرواية عنه". وقال البخاري وأبو حاتم والنسائي: "منكر الحديث". ووصف ابن الجوزي والذهبي الحديث بأنه موضوع. انظر: ميزان الاعتدال 4/127. 5 لا يحتاج إلى بيان معنى الحديث ما دام ثبت أنه موضوع. 6 هذا أحد ما يدل على أن الحديث موضوع، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عليه دين يحتاج إلى قضاء، فقد وردت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاٍ من شعير". خ. كتاب الجهاد (ب ما قيل في درع النبي..) 4/33، فهذا لادين عليه صلى الله عليه وسلم يستوفيه اليهودي من الدرع المرهونة لديه ولا حاجة إلى أحد أن يقوم بسداده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 866 يكن ذلك وصية إليه بالإمامة بلا خلاف بين أحد من أهل الفقه، فكذلك من النبي صلى الله عليه وسلم. ونعارض هذه1 الأخبار بأخبار هي أصرح منها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" 2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة "3 وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بأم الناس4، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لقوم يكون فيهم أبو بكر أن يتقدمه غيره "5 وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا "6 ورشدت أمتهم، وإن يعصموهما غووا وغوت أمتهم".   (هذه) ليست في الأصل وهي من - ح -. 2 تقدم تخريجه ص 105. 3 تقدم تخريجه ص 842. 4 تقدم تخريجه الروايات في ذلك ص 837. 5 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب مناقب أبي بكر - رضي الله عنه -) 5/614. وأخرجه أبو نعيم في الإمامة ص 253، عن عائشة - رضي الله عنها - ومداره على عيسى بن ميمون. قال ابن حجر في التقريب: ص 272 "ضعيف". 6 إلى هنا أخرجه م. كتاب المساجد (ب قضاء الصلاة الفائتة) 1/472 من حديث أبي قتادة مطولا. ولم أقف على رواية تذكر بقية الحديث المذكور هنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 867 123- فصل: في خلافة أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - وذلك أنه لما حضرت أبا بكر - رضي الله عنه - الوفاة قال: "يا معاشر المسلمين إنه قد حضرني من قضاء الله ما ترون، ولا بد لكم من رجل يلي أمركم ويصلي بكم ويقاتل عدوكم ويجمع فيكم، فإن شئتم فاجتمعتم هنا وأتمرتم، وإن شئتم اجتهدت لكم برأيي فبكوا وقالوا: أنت خيرنا وأعلمنا فاختر لنا، قال عثمان بن عفان: لقد أحضرني أبو بكر فقال لي اكتب: هذا ما عهد به عبد الله بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا وقت يسلم فيه الكافر ويبر فيه الفاجر، وثقل لسانه فلم1 يبين عن نفسه وإغمي عليه، قال: فكتب اسم عمر، فأفاق أبو بكر، فقال لي: أكتبت أحداً؟ فقلت: خشيت الفرقة فكتبت عمر، فقال: يرحمك الله أصبت ما في نفسي ولو كتبت نفسك لكنت أهلا لها"2.   1 في الأصل (فلما) وما أثبت من - ح -. 2 قوله: "يا معاشر المسلمين إنه قد حضرني من قضاء الله ما ترون. . . " إلى قوله: "أنت خيرنا وأعلمنا فاختر لنا" لم أقف عليه بألفاظه زإنما ذكر ابن شبة عن الحسن البصري أنه جمع الناس فخيرهم بين أن يختاروا لهم أو يختار لأنفسهم، فاختاروا أن يختاروا لأنفسهم فلم يتفقوا فجعلوا الأمر إليه. تاريخ المدينة 2/665. أما بقية الرواية فقد أخرجها الطبري في تاريخ الأمم والملوك 3/429، من طريق محمد بن عمر الواقدي، كما ذكرها ابن شبة من عدة طرق أخرى لم يذكر إسنادها. كما أخرجها اللالكائي في السنة 7/1324 بسنده عن زيد بن أسلم عن أبيه وعن عثمان بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب. كما أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه 12/46 عن عائشة - رضي الله عنها - كتابة عثمان لوصية أبي بكر - رضي الله عنهما - وقول أبي بكر لعثمان مثل ما هنا وجعلها ابن أبي شبة من فضائل عثمان - رضي الله عنه -. وإسناده هذه الرواية حسن فإن فيها عاصم بن بهدلة وهو صدوق له أوهام. انظر: التقريب ص 159. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 868 وروي "أنه خرج معصوبا رأسه فخطب خطبته المشهورة وقال: سأخبركم باختياري فوصف فيها عمر ونعته فذكر شدته من غير عنف، ولينه من غير ضعف، وقدرته على الأمر، وكل الصحابة - رضي الله عنهم - صوب رأيه فيه ورضوا بوصيته1 إلا طلحة فإنه قال: أذكرك الله واليوم الآخرأنك استخلفت علينا رحلا فظا غليظا، ماذا تقول لربك إذا لقيته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني فأجلسوه، فقال: أتفرقوني2 بالله أقول له إذا لقيته اسختلفت عليهم خير أهلك3، فقال عثمان وعبد الرحمن4 لأبي بكر: امض لشأنك وأنفذ أمرك وأعهد إلى عمر فإنه أهل لها"5. وروي أن عليا - رضي الله عنه - قام وقال: "ما6 نرضى إلا عمر بن الخطاب"7 وروي أن طلحة - رضي الله عنه - صوب رأي أبي بكر بعد ذلك في استخلافه لعمر وذكر عمر بأجمل الذكر8.   1 ذكر ابن شيبة في تاريخ المديينة 2/666 عن عاصم بن عدي - رضي الله عنه -. الخطبة ووصف عمر والتنصيص على استخلافه له. 2 أتفرقوني أي أتخوفوني. 3 أخرج قول طلحة لأبي بكر في عمر ورد أبي بكر ابن سعد في الطبقات 3/274 عن عائشة - رضي الله عنها -، والطبري في تاريخ الأمم والملوك 3/433 عن أسماء بنت عميس - رضي الله عنها. 4 يعني عثمان بن عفان وعبد الرحمن - رضي الله عنهما - لأنه استدعاهما وشاروهما في الاستخلاف. 5 هذا معنى كلام عثمان وعبد الرحمن - رضي الله عنهما -، فإنه قد روى ابن سعد في الطبقات 3/199، وابن شبة في تاريخ المدينة 2/667، والطبري في تاريخ الأمم والملوك 3/428 عن الواقدي عن أشياخه أن أبا بكر - رضي الله عنه - استدعاهما واستشارهما في عمر فأثنيا عليه خيرا وشجعاه على استخلافه. 6 في الأصل (من نرضى) وما أثبت من - ح - وهو الأصوب. 7 أخرجه اللالكائي في السنة 7/1327، وابن أبي شيبة في مصنفه 12/38. 8 هذا الظن بالصحابة - رضي الله عنهم -، ولم أقف على كلامه في عمر - رضي الله عنهما - وطلحة لم ينقم على عمر إلا شدته، وهذه الشدة على المسلمين زالت بعد توليه - رضي الله عنه -، وقد أخرج الطبري 3/428 عن الواقدي بسنده أن عبد الرحمن بن عوف لما استشاره أبو بكر في عمر قال: "هو والله أفضل من رأيك فيه، ولكن فيه غلظة فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه، ويا أبا محمد قد رمقته، فرأتيني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 869 وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على خلافة عمر بعد أبي بكر - رضي الله عنهماـ بقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" 1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب"2. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك إما عمر ابن الخطاب أو أبي جهل بن هشام" 3. فسبقت الدعوة في عمر فدل أن الله يحبه. وقال ابن عباس: "لما أسلم عمر - رضي الله عنه - نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا محمد لقد استبشر أهل السماء اليوم بإسلام عمر"4.   1 تقدم تخريجه ص 105. 2 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب مناقب عمر - رضي الله عنه -) 5/619 وقال: "حديث حسن"، حم 4/154 وفي فضائل الصحابة 1/346 - 356، الحاكم في المستدرك 3/85 كلهم من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وأخرجه الطبراني في الكبير 17/180 من حديث عصمة بن مالك - رضي الله عنه -، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 327 وحسنه. 3 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب مناقب عمر - رضي الله عنه -) 5/9617 وقال: "حسن صحيح غريب"، وأخرجه حم 2/95 وفي فضائل الصحابة 1/250، وابن حبان في صحيحه - انظر: موارد الظمآن ص535 كلهم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - وصحح الحديث الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند 8/76، وأخرجه ت 5/168 من حديث ابن عباس وقال: "غريب من هذا الوجه" وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/83 من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - وسكت عنه. 4 أخرجه جه في المقدمة (ب فضل عمر - رضي الله عنه -) 1/39، والإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/258، وابن حبان في صحيحه. انظر: موارد الظمآن ص 535، وابن عدي في الكامل 4/1525، والحاكم في المستدرك 3/84 وإسناده ضعيف فمداره على عبد الله بن خراش ابن حوشب الشيباني قال عنه ابن حجر: "ضعيف وأطلق عليه ابن عمار الكذب". التقريب ص 172، وضعف الحديث ابن عدي في الكامل 4/1526، والبوصيري في مصباح الزجاجة 1/170 والذهبي في تلخيص المستدرك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 870 وقال ابن مسعود: "لما أسلم عمر - رضي الله عنه - قال المشركون لقد انتصف المسلمون منا"1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه"2. "وقد كان يكون في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر بن الخطاب"3. وقال علي - رضي الله عنه -: "ما كنا نبعد أن السكينة4 تنطق على لسان عمر"5.   1 أخرجه الحاكم في المستدرك 3/85 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/248. 2 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب فضائل عمر) 5/617 وقال: "حديث حسن غريب"، حم 2/95 وفي فضائل الصحابة 2/250،وابن حبان في صحيحه انظر: موارد الظمآن ص 536 كلهم من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وورد من رواية أبي هريرة أخرجه عنه ح - م 2/401، وفي فضائل الصحابة 1/251 والبزار انظر: كشف الأستار 3/174، وابن أبي عاصم في السنة 2/581، وأبو نعيم في الحلية 1/42 قال الهيثمي عن رجال البزار: "رجاله رجال الصحيح غير الجهم بن أبي الجهم وهو ثقة". مجمع الزوائد 9/66. وورد من طريق أبي ذر أخرجه الحاكم في المستدرك 3/87 وقال: "صحيح على شرط الشيخين" وقال الذهبي: "هو على شرط مسلم" وصحح الحديث السيوطي والألباني. انظر: الجامع الصغير مع فيض القدير 2/220، صحيح الجامع الصغير 1/103. 3 أخرجه خ. كتاب فضائل الصحابة (ب مناقب عمر - رضي الله عنه -) 5/11 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأخرجه م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضائل عمر) 4/1864 من حديث عائشة - رضي الله عنها -. وقد ربط في النسختين بين الحديثين كأنهما حديثا واحدا. 4 اختلف في معنى السكينة فقيل هي مخلوق لها وجه كوجه الإنسان وهي روح هفافة، وهذا مروي عن علي - رضي الله عنه - وقيل: هي الرحمة، وقيل: الوقار، وقيل: روح من الله يتكلم. ذكر هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره 2/611 ورجح أنها ما تسكن إليه النفوس وتطمئن إليه وقد ورد عن علي - رضي الله عنه - عند أبي نعيم في الحلية 1/42 قال: "كنا نتحدث أن ملكا ينطق على لسان عمر - رضي الله عنه -". 5 أخرجه حم 1/106، وفي فضائل الصحابة 1/249، وأبو نعيم في الحلية 1/42، وعبد الرزاق في مصنفه 11/222 وابن أبي شيبة في مصنفه 12/23 من عدة طرق عن علي - رضي الله عنه - وإسناده صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 871 وروي عن أنس بن مالك أنه قال: "نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أقرئ عمر السلام وأخبره أن غضبه عز ورضاه عدل"1. وقال ابن مسعود: "كان إسلام عمر - رضي الله عنه - عزا، وكانت هجرته نصرا، وكانت خلافته رحمة، والله ما استطعنا أن نصلي ظاهرين حتى أسلم عمر2، وإني لأحسب أن بين عينيه ملكا يسدده"3 وروي أن أبا بكر لما استخلف عمر - رضي الله عنهما - قال له: "إني موصيك بوصية إن حفظتها، إن لله عز وجل حقا في الليل لا يقبله بالنهار، وحقا بالنهار لا يقبله في الليل، وإنه لا تقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم، وحق4 لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم، وحق لميزان5 لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفا، ثم قال في آخر وصيته: فإن حفظت قولي هذا لم يكن غائب أحب إليك من الموت، ولا بد لك منه، وإن ضيعت قولي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت، ولا بد لك منه ولن تعجزه"6.   1 أخرجه أبو نعيم في الإمامة ص 293، وابن عدي في الكامل 1/261، واخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 12/38 عن سعيد بن جبير مرسلا. 2 إلى هنا أخرجه الطبراني في الكبير 9/178 - 182، وابن سعد في الطبقات 3/270 عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود وهو منقطع. 3 قوله: "وإني لأحسب. . " روي ذلك عن ابن مسعود - رضي الله عنه - من عدة طرق أخرجها الطبراني في الكبير 9/181، والإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/247، وأبو نعيم في الإمامة ص 286. 4 في - ح - (وحق على الميزان) . 5 في الأصل (أن لا يو ضع) وما أثبت من - ح - وهو أقوم. 6 أخرجه الخلال في السنة ص 275 عن إسماعي - ل بن أبي خالد عن زبيد وهو ابن الحارث اليامي ثقة ثبت عابد، إلا أن روايته مرسلة حيث لم يسمع من أحد من الصحابة. انظر: التهذيب 3/310، وذكره ابن شبة في تاريخ المدينة 2/670 عن زبيد بدون ذكر السند، وذكر الروايتين ابن الجوزي في تاريخ عمر ص 71. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 872 فحفظ عمر - رضي الله عنه - وصية أبي بكر في نفسه ورعيته، فكان في الدنيا زاهدا، وفي الآخرة راغبا. فروي أنه أتي له بلبن فشربه فقيل له: إنه من إبل الصدقة فتقيأه، وذلك أنه كره بقاءه في جوفه1. وروي أنه أتى إليه بمسك من بيت المال فقسم بحضرته فسد على أنفه، فقيل له: يا أمير المؤمنين إنما يتجاوز إليك ريحه فقال: وهل يراد من المسك إلا رائحته".2 وهذا غاية في الورع. وروي أنه قال: "لو شئت أن أدعو بصلاء3 وصناب4 وأفلاذ5 وأسنمة6 وأكباد لو شئت أن يدهمق7 لي لفعلت، ولكن الله عاب قوما ذلك فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} 8.   1لم أقف على من ذكره على هذا النحو، وإنما روي ابن شبة في تاريخ المدينة 2/703 بسنده عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن نجيح قال: "نزلت على عمر - رضي الله عنه -، فكانت له ناقة يحلبها فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنا أنكره فقال: ويحك من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها فحلبت لك ناقة من مال الله، فقال: ويحك تسقيني نارا، واستحل ذلك اللبن من بعض الناس" وذكر ابن الجوزي في تاريخ عمر ص 184 أن الذي أفتاه بحله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. 2 لم أقف على من ذكره، وقد روى ابن شبة في تاريخ المدينة 2/703 أن مسكا وعنبرا قدم عليه فقالت زوجته عاتكه بنت زيد: "هلم أزن لك فإني جيدة الوزن"، قال: "لا، إني أكره أن تصيب يدك فتقولين هكذا على صدرك بما أصابت يداك فضلاً على المسلمين". 3 الصلاء: الشواء وسمي بذلك لأنه يصلى بالنار. 4 الصناب: هو الخردل بالزبيب وهو طعام يؤتدم به. 5 الأفلاذ: واحدتها فلذ وهي قطعة من الكبد. 6 أسنمة: جمع سنام. 7 يدهمق: من دهمق الطعام أي لينه وطيبه ورققه. انظر: في هذه المعاني غريب الحديث للهروي3/264، والمعجم الوسيط ص 524. 8 الأحقاف آية (20) وأخرج هذا الأثر أبو عبيد الهروي عن الحسن البصري عن عمر - رضي الله عنه -، في غريب الحديث 3/263، وأخرج نحوه أيضا عن الحسن ابن سعد في الطبقات 3/279، وعمر بن شبة في تاريخ المدينة 2/696، وهو مرسل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 873 وروي أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - دخل على عمر بعد قتله وقد سجي بثوبه، فقال: "ما أحد إليّ أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى بينكم1، ثم قال: "يرحمك الله يا ابن الخطاب إن كنت بذات الله لعليما، وإن كان الله بصدرك لعظيما، وإن كنت لتخشى الله في الناس ولا تخشى الناس في الله، كنت جوادا بالحق بخيلا بالباطل، خميصا من الدنيا، بطينا من الآخرة، لم تكن عيابا ولا مداحا"2. وروي عن ابن مسعود أنه قال: "كانت خلافة عمر رحمة"3 وروي عنه أنه قال: "أفرس الناس ثلاثة العزيز الذي تفرس بيوسف عليه السلام وابنة شعيب في تفرسها4 بموسى عليه السلام بقولها يا أبت استأجره إن خير من   1 إلى هنا أخرجه عنه البخاري في صحيحه (فضائل الصحابة) (مناقب عمر - رضي الله عنه -) 5/11 ولظفه عنده "ما خلفت أحدا أحب إليّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وحسبت أني كنت كثيرا أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر"، ورواها ابن سعد في الطبقات عنه من عدة طرق 3/369 - 371 2 ذكره المحب الطبري وعزاه إلى ابن السمان في الموافقة. انظر: الرياض النضرة في مناقب العشرة 2/419، وروى ابن شبة في تاريخ المدينة 3/940، وابن سعد في الطبقات 3/369 عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - بعض هذا الثناء. 3 تقدم تخريجه ص 872. 4 هكذا في النسختين والذي في مصادر الرواية "والمرأة التي تفرست في موسى" وفي بعضها "وصاحبة موسى حين قالت: استأجره" وليس في شيء منها ذكر شعيب عليه السلام، فلعل هذا من تصرف المصنف - رحمه الله - حسب ما تبادر من المقصود بالمرأة، والذي يظهر أن موسى عليه السلام لم يدرك شعيبا عليه السلام، فقد كان في الزمان الذي بينه وبين لوط فقد قال الله عز وجل في سورة هود آية (88) من قول شعيب لقومه: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} ثم ذكر الله بعده قصة موسى، وفي سورة الأعراف بعد أن ذكر الله قصة شعيب والعذاب الذي حل على قومه قال في آية (100، وما بعدها) {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِين، ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا} الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 874 استأجرت القوي الأمين، وأبو بكر - رضي الله عنه - في استخلافه عمر"1. وأما شدته وصرامته فما لم يخف على أحد، جندّ الأجناد وفتح البلاد ومصر الأمصار، واستأصل الكفار، واستولى على الديار، وصلح بنظره الحاضر والبادي والقاصي والداني حتى قال: لئن عشت ليبلغن الراعي حقه بصفنه2 بسر وحمير3 لم يرق به جبينة4، ولما فتح أرض السواد قسمها بين الناس فاستغلوها ثلاث سنين فخاف أن يشتغل الناس بذلك فقال: لولا أخشى أن يكون الناس بَبّانا واحدا لكنتم على ما قسم لكم، وأرى أن تردوها5 فمنهم من طابت نفسه ورد ما بيده6، ومنهم من لم تطب نفسه   1 لأخرجه اللالكائي في السنة 7/1235، والطبراني في الكبير 9/185، وعمر بن شبة في تاريخ المدينة 2/669، والخلال في السنة ص 277. 2 الصفن: بضم الصاد وقيل بفتحها وسكون الفاء خريطة يكون للراعي فيها طعامه وما يحتاج إليه. غريب الحديث للهروي 3/267. 3 سرو حمير: السرو هو ما انحدر من حزونة الجبل وارتفع عن منحدر الوادي فما بينهما، يقال له سرو، وسرو حمير المراد به منازل حمير من أرض اليمن. انظر: غريب الحديث للهروي 3/268، معجم البلدان 3/217. 4 أخرجه عنه أبو عبيد في غريب الحديث 3/266، وأخرج نحوه ابن سعد في الطبقات 3/300 ومراده - رضي الله عنه - أنه يوصل إلى الراعي حقه من بيت مال المسلمين في مكانه الذي يكون فيه، من غير أن يلجأه إلى عرق الجبين بسبب الطلب، وهو كناية عن حفظه لماء وجه المسلمين عن الطلب، فرحمه الله رحمة واسعة وألحقنا به في الصالحين. 5 في - ح - زيادة (بغير عوض) . 6 في - ح - (من طابت نفسه أن يردها بغير عوض) . والمصنف هنا دمج بين روايتين فإن الرواية عند الهروي في غريب الحديث عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر - رضي الله عنه - قال: "لئن عشت إلى قابل لألحقن آخر الناس بأولهم حتى يكونوا بَبّانا واحدا". ورواية قيس بن أبي حازم عند أبي عبيد القاسم بن سلام في الأموال أن عمر قال لجرير بن عبد الله - رضي الله عنهما -: لولا أني قاسم مسؤل لكنتم على ما جعل لكم وأرى الناس قد كثروا، فأرى أن ترده، يعني ما نفله من أرض السواد عليهم"، ففعل جرير ذلك، فأجازه عمر بثمانين دينارا. انظر: غريب الحديث 3/268، الأموال ص 78. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 875 بالرد إلا بعوض إعاضة، فردها على أهلها وضرب عليهم خراجا1يؤخذ منهم كل سنة إلى وقتنا هذا، فساوى بين الأولين والآخرين في ارتفاع2 هذه الأرض، وهذا معنا قوله: لولا أخشى أن يكون الناس ببانا أي شيئا واحدا. هكذا الرواية ببائين مجموع3 كل واحدة منقطة من تحتها والثانية مشددة ونون4. وما شيء يلزم القيام به إلا قام به، حتى إنه ليباشر الأعمال بنفسه في الإنفاق على الأرامل والصغار، ويطوف في سكك المدينة ليلا ونهارا ليستمع، أو يرى ما يتوجه عليه فيه حق، فسمع امرأة ذات ليلة تقول: ألا طال هذا الليل وازور جانبه وأرقني أن لا حليل ألا عبه   1 المراد هنا أن عمر - رضي الله عنه - كان قد رأى بعد استشارة الصحابة أن الأرض التي فتحها المسلمون عنوة كأرض العراق ونحوها لو قسمها بين الفاتحين لآلت إلى عدد قليل من المسلمين وبقي أكثر الناس لا يصلهم من نفعها شيء وخاصة الذين يأتون فيما بعد، فأعاد - رحمه الله - الأرض إلى أهل البلاد وفرض عليهم الخراج، حتى يكون ما يؤديه هؤلاء إلى بيت المال قوة للمسلمين ويصل نفعها وخيرها عموم المسليمن، وكان هذا رأي علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما -، والذين استغلوا الأرض سنتين أو ثلاث هم الذين قاتلوا يوم القادسية، وكان أكثرهم قبي - لة بجيلة الذين منهم جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -، فقد كانوا ربع الناس فجعل لهم عمر ربع أرض السواد ثم استردها منهم عمر وأرضاهم عنها. وممن كان عارض هذا الرأي بلال بن رباح - رضي الله عنه - وجماعة معه. انظر: كتاب الأموال لأبي عبيد ص 72 - 80. 2 هكذا في الأصل وفي - ح - انتفاع - ولعل صوابها أرياع يعني ريعها وما تنتجه وتغله. 3 هكذا في كلام النسختين والكلام يستقيم بدونها. 4 انظر: غريب الحديث للهروي 3/268، وقال: "ولا أحسب هذه الكلمة عربية ولم أسمعها في غير هذا الحديث". انظر: لسان العرب 1/203. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 876 فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه مخافة ربي والحياء يكفني ... وإكرام بعلي أن تنال مراكبه فسأل عنها، فقيل: إن زوجها في الغزو، فسأل عمر حفصة ونساء معها: كم تصبر المرأة عن الزوج؟ فقلن: شهرين وفي الثالث يقل الصبر وفي الرابع ينفر، فكتب إلى أمراء الجيوش في الآفاق أن لا يحبس الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر1. وله من المحافظة والمراعاة للرعبة ما يطول ذكره، وفيما ذكرته دلالة على ما لم يذكر والله أعلم.   1 أخرج ذلك عنه ابن شبة في تاريخ المدينة 2/759، وروي أن حفصة ذكرت له أن المرأة تصبر من أربعة إلى ستة أشهر فجعل مغازي الناس ستة أشهر، وذكر هذه الأبيات ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر} تفسير ابن كثير 1/269. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 877 124- فصل: في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. وذلك أن عمر - رضي الله عنه - بلغه أن قوما كانوا يخوضون في الخلافة ويقولون: لئن مات عمر لنولين فلانا ويريدون إخرجها عن الستة الذين جعلها عمر إليهم، وكان شديد الاحتياط في أمر المسلمين، فقام خطيبا يوم الجمعة فحمد اله أثنى عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر - رضي الله عنه - وقال: إني رأيت في النوم كأن ديكا نقرني نقرتين وما أراه إلا لحضور أجلي، ألا وإني قد جعلت الأمر في هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وقد بلغني أن قوما يقولون إن مات عمر لونلين فلانا، أولئك أعداء الله الضلال الجهال، والله لقد جالدتهم بيدي هذه على الإسلام، وأرى أقواما يأمرونني أن استخلف ويطعنون في هذا الأمر، فإن أعهد فقد عهد من هو خير مني يعني أبا بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لبث بعد ذلك إلا قليلا حتى أصيب1 فدخل2 يوماً المسجد لصلاة الصبح، وكان إذا أراد الصلاة قام بين الصفوف، وقال: استووا فإذا استووا تقدم وصلى، فلما فعل ذلك وكبر بالصلاة طعنه العلج، فقال: قتلني الكلب فأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه ليتم الصلاة بالناس وكان بيد العلج سكين ذات طرفين لا يمر برجل يمينا وشمالا إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنساً ليأخذه، فلما ظنّ أنهُ يأخذه طعن نفسه، فصلوا صلاة الفجر صلاة خفيفة، فأما من في نواحي المسجد   1 أخرجه م. كتاب المساجد (ب النهي عن أكل الثوم … ) 1/396، حم 1/15 - 48، وابن سعد في الطبقات 3/335، وابن شبة في تاريخ المدينة 3/888 إلا أنهم لم يذكروا قول المصنف: "إن قوما يخوضون في الخلافة. . . . ". 2 هذه بداية عمرو بن ميمون لمقتل عمر - رضي الله عنه - وبيعة عثمان - رضي الله عنه -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 878 فلا يدرون ما الأمر، غير أنهم فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله، فلما انصرفوا. قال عمر لابن عباس: انظر من قاتلي فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة بن شعبة وكان نجارا، فقال عمر: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يد رجل من المسلمين، لأنه كان نصرانيا1، ثم قال: قاتله الله لقد كنت أمرت به معروفا، فأسقوه لبناً فخرج من جرحه، فعلم أنه يموت فقال لابنه عبد الله: احسب ما عليَّ من الدين فحسبه، فإذا هو ستة وثمانون ألفا، وقال: إن وفى بها مال عمر فأدها، وإلا فاسأل في بني عدي ابن كعب، فإن لم يف من أموالهم فسل قريشا ولا تَعْدُهم إلى غيرهم، ثم قال لابنه عبد الله: ايت عائشة - رضي الله عنها - فسلم2 وقل: يستأذن عمر، - ولا تقل أمير المؤمنين فلست لهم اليوم بأمير - بأن3 يدفن مع صاحبيه، فأتاها ابن عمر فوجدها قاعدة تبكي، فأخبرها بذلك فقالت: بقي موضع قبر كنت أريده لنفسي، ولأؤثرنه على نفسي، فلما جاء قالوا جاء عبد الله بن عمر قال: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك، قال: قد أذنت، قال: ما شيء أهم إليّ من ذلك المضجع إذا قبضت فجهزوني واحملوني، ثم استأذنوا فإن أذنت فأدخلوني، وإلا ردوني إلى مقابر المسلمين، فلما مات فعل ذلك فاذنت ودفن مع صاحبيه، ولما حضره الموت قال: لآ أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وسمى: عليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، فذكر ابنه عبد الله بن عمر لأجل فضله وعمله فقال: شاوروه وليس له من الأمر شيء".   1 كذا في النسختين وذكر ذلك أيضا الطبري في تاريخ الأمم الملوك 4/190 عن المسور بن مخرمة. وذكر ابن كثير في البداية والنهاية 7/151 أن أبا لؤلؤة اسمه فيروز مجوسي الأصل رومي الدار. 2 في - ح - (فسلم عليها) . 3 في - ح - (تاذني أن) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 879 وروي أنه قال: لم أكن بالذي أتحملها حيا وميتا، وقال: يكفي آل الخطاب أن يسأل منهم رجلا واحدا، وكان طلحة غائبا فقال لهم عمر: إن استقام أمركم قبل أن يقدم طلحة فامضوه على ما استقام عليه، وإن قدم طلحة قبل أن يستقيم أمركم فآذنوه، فإنه رجل من المهاجرين وقال لهم: لا تنتظروا أكثر من ثلاثة أيام، ثم منعهم أن يصلي رجل منهم بالناس قبل أن يستقيم أمرهم خوفا أن يظن هو أو غيره أنه نص عليه، وأمر صهيبا أن يصلي بالناس أيام مشورتهم حتى قال شاعرهم: صلى صهيب ثلاثا ثم أسلمها ... إلى ابن عفان ملكا غير مردود1 ثم إن الرهط الذين ولاهم عمر - رضي الله عنهم - اجتمعوا وتشاروا وكانوا خمسة - فقال لهم عبد الرحمن بن عوف: إنكم لا تستقيمون على أمر وإنكم خمسة فليعادكل رجل رجلا وأنا عديد الغائب، فتعاد علي والزبير وولى الزبير أمره عليا، وتعاد عثمان وسعد وولى سعد أمره عثمان، وخلا علي وعثمان وعبد الرحمن2 فقال لهم عبد الرحمن: إما أن تتبرآ من الأمر فأوليكما الأمر فتختارا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم رجلا، وإما أن تولياني ذلك وأبرأ من الأمر، فولياه ذلك. وروي "أن عبد الرحمن قال لهم: لست أنافسكم هذا الأمر، ولكن إن شئتما اخترت لكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن وقد كان قال لهم عمر: إن انقسم الناس شطرين فكونوا في حيز عبد الرحمن بن عوف لعلمه بفضله وأمانته وانه مرضي عند الكافة وأزهدهم في هذا الأمر. قال المسور ابن مخرمة: فلما ولوا ذلك عبد الرحمن مال الناس عليه يشاورونه ويناجونه فطرقني عبد الرحمن بعد هزيع من الليل فضرب الباب فاستيقظ، فقال: ألا أراك نائما فوالله ما اكتحلت بكثير نوم فادع لي   1 ذكر هذا البيت الطبري في تاريخ الأمم والملوك 4/234 وعزاه إلى الفرزق. 2 في - ح - (وخلا عبد الرحمن وعثمان وعلي) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 880 الزبير فدعوته، فناجاه حتى ابهارّ الليل1، ثم قام منه على طمع ثم قال لي: ادع عثمان فناجاه طويلا حتى فرق بينهما المؤذن، فلما كانت الليلة التالية وعبد الرحمن في دار القضاء قال له سعد: يا أبا محمد ما كان أحد أحق بهذا الأمر منك قال: إنك يا سعد تحب أن يقال ابن عمه خليفة، وإنك يا مسور تحب أن يقال خاله خليفة والله لئن توجد مدية فتوضع هاهنا وأشار إلى لبته2 وأمر بيده إلى لبته أحب إلي من أن أليّ من أمر الناس شيئا، فقام سعد فقال له عبد الرحمن: يا أبا إسحاق اشهد الصبح والبس السيف، ثم قال لي عبد الرحمن: اذهب إلى علي وعثمان وأتني بهما، قال المسور: وكان هواي مع علي فأحببت أن أعلم ما في نفسه فقلت: له بأيهما أبدا، فقال: بأيهما شئت، قلت: آتيك بهما جميعا أو فرادى قال: لا بل جميعا قال: فبدأت بعلي فقلت له: أرسلني إليك خالي قال: أرسك إلى غيري معي؟ فقلت نعم. إلى عثمان. قال: بأينا أمرك أن تبدأ؟ قلت: قد سألته فقال بأيهما شئت فبدأت بك، قال: جميعا أو فرادى قال: لا بل جميعا فخرج معي في موضع الجنائز، وقال: اذهب إلى صاحبك فخرجت إلى عثمان فوجدته يوتر في بيت شيبة بن ربيعة، فخرج إلي عاقدا إزاره في عنقه آخر الليل، فقلت إن خالي أرسلني إليك، فقال: أرسلك إلى غير معي؟ قلت: نعم إلى علي، فسألته بأيهما أبدأ؟ قال: بأيهما شئت، فبدأت بعلي وهو ينتظرك في موضع الجنائز، فخرجت أنا وعثمان حتى جئنا عليا، ثم دخلنا على عبد الرحمن فحمد الله وأثنى عليه، ثم أقبل عليهما، وقال: أشيرا علي وأعيناني على أنفسكما هل أنت يا علي متابعي على سنة الله ورسوله وبعهد الله وميثاقه وسنة الماضين قبلي، - وروي سنة الشيخين قبلك - فقال علي: لا، ولكن أبايعك على طاقتي، قال: فصمت ثم تكلم كلاما دون كلامه الأول، ثم قال: هل أنت يا علي مبايعي على إن وليتك   1 ابهار الليل: أي انصف. النهاية لابن الأثير 1/165. 2 اللّبة: بفتح اللام والباء وتشديدهما وسط الصدر والمنحر. اللسان 5/3981. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 881 هذا الأمر على سنة الله سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعهد الله وميثاقه وسنة الماضين قبلي، قال: لا، ولكن على طاقتي، ثم قال: هل أنت يا عثمان مبايعي إن وليتك على سنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعهد الله وميثاقه وسنة الماضين قبلك؟ فقال عثمان: نعم، قال: فأحب أن تقوما عني إن شئتما، فقاما عنه، فقام عبد الرحمن فاعتم ولبس السيف وخرج المسجد، وقد جاءت المهاجرون والأنصار من دورهم، وصار المسجد كالرمانة، وأرسل إلى من تخلف وإلى الأمراء، وكان قد وافق تلك الحجة مع عمر1، فصلى الصبح وتشهد ولا أشك أنه مبايع لعلي لما رأيت من حرصه على علي، ثم أخذ بيد علي فقال: الله عليك راع إن أنا بايعتك لتعدلن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولتتقين الله عز وجل، وإن أنا لم أبايعك لتسمعن ولتطيعن لمن بايعت؟ قال علي: نعم، ثم أخذ بيد عثمان فقال: الله عليك راع إن أنا بايعتك لتعدلن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولتتقين الله عز وجل، وإن أنا بايعت غيرك لتسمعن ولتطيعن؟ قال عثمان: نعم، فقال عبد الرحمن: إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، ثم صفق علي يد عثمان فقال: أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده، وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد وسائر المسلمين وبايعه طلحة لما قدم وانقادوا له وسموه أمير المؤمنين"2. فروى سعيد بن كعب3 والليث بن سعد عن عبد الرحمن أنه قال:   1 مراد المصنف - رحمه الله - الأمراء الذين كانوا موجودين في المدينة لم ينصرفوا إلى ديارهم بعد الحج مع عمر - رضي الله عنه -، لأن قتلة عمر - رضي الله عنه - كانت لثلاث بقين من ذي الحجة سنة 23هـ -، وقيل: في غرة محرم سنة 24هـ -. 2 أخرج البخاري في كتاب مناقب الصحابة (ب مناقب عثمان - رضي الله عنه -) 5/13 قصة قتل عمر - رضي الله عنه - ومبايعة عثمان عن عمرو بن ميمون وهي بأخصر مما هنا، وأخرجها مطولة ابن شبة في تاريخ المدينة 3/924 - 931، والطبري في تاريخ الأمم والملوك 4/227 - 338. 3 هكذا في النسختين والذي عند اللالكائي (أفلح بن سعيد بن كعب) في المطبوع والمخطوط، ولم أقف له على ترجمة ولعل فيه سقطا لأن أفلح بن سعيد وهو المدني القُبَاني يروي عن محمد بن كعب، فلعل اسم محمد وصيغة التحمل سقطتا من النسخة، فصار كانه اسما واحدا، وأفلح بن سعيد القُبَاني قال عنه ابن حجر: "صدوق" مات سنة 156هـ -. انظر: ترجمته في التقريب ص 38، ميزان الاعتدال ص 274. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 882 "والله ما بايعت عثمان حتى شاورت كل أحد حتى صبيان الكتاب فكل يقول عثمان فبايعته"1. فعبد الرحمن في فضله وعلمه وسابقته مما لا حاجة لنا إلى الإطالة بذكره يصلح لعقد هذا الأمر، وعثمان - رضي الله عنه - ممن يصلح له العقد لكون الشرائط كلها موجودة فيه، ومن فضله أن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه ابنتيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني أن أزوج كريمتي عثمان"2، ولما ماتت الثانية قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان لنا ثالثة لزوجناك" 3. وروي أنه قال: "لو أمدنا الله بالبنات لأمددناك يا عثمان بالأزواج"4.   1 أخرجه من هذين الطريقين اللالكائي في السنة 7/1341. 2 أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/512، والطبراني في الصغير 1/148، وابن عدي في الكامل 5/1725، واللالكائي في السنة 7/1345 من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وإسناده ضعيف لأنه من طريث عمير بن عمران الحنفي عن ابن جريج، قال: قال ابن عدي عن عمير: "حدث بالبواطيل عن الثقات وخاصة عن ابن جريج، وقال بعد أن أورد الحديث: "والضعف بين على حديثه" 3 أخرجه الطبراني الكبير 17/184 عن عصمة بن مالك - رضي الله عنه - ولفظه: "زوجوا عثمان لو كان لي ثالثة لزوجته. . . "، وهو ضعيف جدا فإن في إسناده الفضل بن المختار أبو سهل البصري. قال أبو حاتم: "أحادثيه منكرة يحدث بالأباطيل"، وقال الأزدي: "منكر الحديث جدا". ميزان الاعتدال 3/358، وفي فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/481 من حديث عبد الله بن الحسين قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أبو أيم ألا أخوأيم يزوج عثمان لو كانت عندي ثالثة لزوجته. . . "، وهو منقطع. وفيه أيضا 1/508 من حديث عبد الله بن الحر الأموي وهو منقطع أيضا، وفيه أيضا 1/159، وعند ابن أبي عاصم في السنة 2/592 من كلام عثمان - رضي الله عنه - لمحمد بن أبي بكر، وقال فيه: "يا ابن أخي أنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني ابنتيه. إحداهما بعد الأخرى ثم قال: فذكر نحو حديث عبد الله بن الحسن". وهذا أثر باطل فإنه من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه. قال الذهبي عن الدارقطني: "هما ضعيفان"، وقال أبو حاتم: "متروك"، وقال ابن حبان: "يضع الحديث" الميزان 2/666. 4 لم أقف عليه بهذا اللفظ وإنما أخرج ابن عساكر بسنده عن عقبة بن علقمة عن علي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان: "لو أن لي أربعين بنتا زوجتك واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى منهن واحدة". تاريخ دمشق. قسم (عثمان بن عفان) ص 36، وإسناده ضعيف فإن عقبة قال عنه في التقريب ص 241: "ضعيف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 883 وإنما سمي ذا النوريين لأن أحدا من لدن آدم لم يتزوج ابنتي نبي غير عثمان1، فهذه أشرف مناقبه. وروى ربعي بن خراش: "أن عثمان - رضي الله عنه - خطب إلى عمر ابنته حفصة، فأبى عليه، فلبغ ذلك بني الله صلى الله عليه وسلم، فلما راح عليه عمر قال: يا عمر ألا أدلك على خير لك من عثمان، وأدل عثمان على خيرله منك؟ قال: نعم. قال زوجني ابنتك وأزوج عثمان ابنتي"2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي رفيق ورفيقي في الجنة عثمان"3،   1 ذكر هذا اللالكائي بسنده عن الحسين بن علي الجعفي. شرح إعتقاد أهل السنة 7/1353. 2 أخرجه اللالكائي في السنة 7/1346، والبيهقي في دلائل النبوة 2/428 طبعة دار الفكر، نقل الحافظ ابن حجر عن الحافظ الضياء أنه قال: "إسناده لا بأس به". وهذا الحديث يختلف عن رواية البخاري 7/13 التي ورد فيها أن عمر عرض ابنته على عثمان فردها عثمان قال الحافظ في الجمع بينهما: "يحتمل أن يكون عثمان خطب أولا إلى عمر فرده كما في الرواية، وسبب رده يحتمل أن يكون من جهتها مما ليس فيه غضاضة على عثمان - رضي الله عنهما - ثم لما ارتفع السبب عرضها عمر عليه تطييبا لخاطره كما في رواية البخاري، ولعل عثمان بلغه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها فصنع أبو بكر من ترك إفشاء السر". فتح الباري 9/176. 3 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب مناقب عثمان - رضي الله عنه -) 5/624 من حديث طلحة - رضي الله عنه - قال الترمذي: "حديث غريب ليس إسناده بالقوي" وهو منقطع بين الحارث بن عبد الرحمن ابن أبي ذياب وطلحة بن عبيد الله" انظر: التهذيب 2/148، وهو في مسند أحمد 1/74 من زيادات عبد الله من حديث طلحة ومعه قصة في حصار عثمان - رضي الله عنه - وأخرجه الحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/97. والإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/482، وابن أبي عاصم في السنة 2/589، وإسناده ضعيف جدا فإن فيه أبو عبادة الزرقي عيسى بن عبد الرحمن بن فورة الزرقي. قال عنه أبو حاتم: "منكر الحديث شبه بالمتروك". الجرح والتعديل 6/281 وضعف الحديث ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/200، وورد من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه - أخرجه جه في المقدمة (ب فضل عثمان - رضي الله عنه -) 1/40، وابن أبي عاصم في السنة 2/589 وإسناده ضعيف فإنه فيه عثمان بن خالد بن عمر الأموي. قال ابن حجر: "متروك". التقريب ص 233، وضعف الحديث البوصيري في مصباح الزجاجة 1/180، وابن الجوزي في العلل المتناهية 1/201. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 884 وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة تستحي من عثمان"1. وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - معه، فرجف بهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أثبت أحد فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان"2. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت بهم الصخرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد"3. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقتل شهيدا، وأن الله يقمصه قميصا، فإن أرادوك على خلعه فلا تفعل4، وسبحت الحصى بكفه5، وله من الفضائل ما يكثر ذكره.   1 أخرجه م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضائل عثمان) 4/1866 من حديث عائشة - رضي الله عنها - ولفظه "ألا استحى من رجل تستحي منه الملائكة". 2 أخرجه خ. كتاب فضائل الصحابة (ب مناقب عثمان - رضي الله عنه -) 5/13 من حديث أنس ابن مالك. 3 أخرجه م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضائل طلحة والزبير - رضي الله عنهما -) 4/1880، حم. 2/419، وفي فضائل الصحابة 1/217. 4 سيأتي إيراد هذا الحديث بلفظه ص 888. 5 تقدم ذكر هذا الحديث ص 205 في الحاشية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 885 125- فصل ومذهبنا أن القوم الذين اجتمعوا على قتل عثمان - رضي الله عنه - وقتلوه فسقة، وهو مظلوم وكلما تأولوه عليه لا يبيح قتله لهم ولا خلعه، لأن أكثر ذلك باطل لا أصل له، ولا يصح شيء منه فلا يقتضي قتله، وذلك لما ثبت من إيمانه وثبوت بيعته ووجوب طاعته والقوم الذين قصدوه من غير أهل الحل والعقد في الإمامة، وإنما حملهم على ذلك أمور دنيوية فمنهم من طلب امرأة فمنع منها، ومنهم من حمله على ذلك الغيظ على أمرائه وعماله1. ومما يرويه الشيعة وأهل البدعة من الأخبار أن عليا وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة كاتبوا أهل الآفاق وأمروهم بخلعه أو قتله2 فأخبار آحاد لا يثبتها أهل النقل ولا يبطل بها ما ثبت من نزاهة الصحابة وفضلهم. وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله"3. وروي أنه قيل لعائشة - رضي الله عنها ـ: إن الناس قد أكثروا في عثمان وشتموه ولعنوه، قالت: لعن الله من لعنه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسندا ظهره إلى صدري وجبريل يوحي إليه وعثمان عن يمينه وهو يقول4:   1 انظر: بعض أخبار هؤلاء الحانقين على عثمان - رضي الله عنه - (تاريخ الأمم والملوك للطبري) 4/317 وهم الأشتر النخعي وابن ذي الحبكة وجندب بن صعصعة وابن الكواء وكميل بن زياد وعمير بن ضابي وما كان منهم مع سعيد بن العاص وآل الكوفة ومع معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وآل الشام من قبل عثمان - رضي الله عنه -. 2 ذكر ابن جرير في تاريخ الأمم والملوك 4/336 من طريق الواقدي أن الصحابة كتب بعضهم إلي بعض في عثمان، والواقدي قال فيه الذهبي:" استقر الإجماع على وهن الواقدي"، وقال ابن حجر: "متروك". انظر: ميزان الاعتدال 3/666 التقريب ص 313. 3 أخرج ابن شبة في تاريخ المدينة 4/1258 - 1268، وابن سعد في الطبقات 3/82 عدة روايات بهذا المعنى. (وهو يقول) ساقطة من الأصل وهي مثبتة في - ح -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 886 " اكتب يا عثمان فما1 نزل تلك المنزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كريم على الله ورسوله"2. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت حين قتل عثمان: تركتموه كالثوب النقي من الدنس ثم ذبحتموه كما تذبح الكبش، فقال لها مسروق: هذا عملك كتبت إلى الناس تأمرينهم أن يجروا3 إليه، فقالت: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم سوداء ولا بيضاء4 حتى جلست مجلسي هذا".قال الأعمش: وكانوا قد كتبوا على لسانها5. وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ابن عفان اللهم لا أرضى قتله ولا آمر به"6.ويدل على ما ذكرناه ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تكون بعدي أمور فقلنا فأين المنجى منها يا رسول الله؟ قال: إلى الأمير وحزبه فأشار إلى عثمان بن عفان"7.   1 في الأصل (فلما) وما أثبت كما هو في - ح - ومصادر الرواية. 2 أخرجه حم 6/250 - 261، وفي فضائل الصحابة 1/498 - 499 وابن أبي عاصم في السنة 2/592، واللالكائي في السنة 7/1346، وسنده ضعيف فإن مدار الرواية على فاطمة ابنت عبد الرحمن اليشكرية عن أمها، قال ابن حجر عنها وعن أمها: "لا تعرف" تعجيل المنفعة ص 559. 3 في - ح - (يخرجوا) وكذلك في مصادر الرواية. 4هكذا في النسختين وكذلك عند اللالكائي في المطبوع والمخطوط، وفي مصادر الرواية الأخرى "سوداء في بيضاء" وهو التعبير المعروف في نفي الكتابة. 5 أخرجه ابن سعد في الطبقات 4/82، وابن شبة في تاريخ المدينة 4/1225، واللالكائي في السنة 8/1356، وابن أبي شيبة في مصنفه 12/51. 6 أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة 40/1264، ابن سعد في الطبقات 3/68، والإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/452، وأبو نعيم في الإمامة ص 328. 7 أخرجه حم 2/345 وفي فضائل الصحابة 1/450، وابن أبي شبة في المصنف 12/50، والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/99، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وأخرجه اللالكائي في السنة 7/1349. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 887 وروى كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال: "ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فتنة فمر بنا رجل مقنع1، فقال: "هذا يومئذ على الهدى فأخذت بضبعه فقتلته أو قلبته، فاستقبلت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا يا رسول الله قال: هذا فإذا هو عثمان ابن عفان"2. وروت عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعثمان: "إن الله سيقمصك قميصا إن روادوك على خلعه فلا تخلعه"3.   1 في - ح - (مقنع رأسه) . 2 أخرجه جه في المقدمة (ب فضائل عثمان - رضي الله عنه -) 1/41، حم 4/243، وفي فضائل الصحابة 1/450، واللالكائي في السنة 7/1351، وابن أبي عاصم في السنة 2/591 كلهم من حديث محمد بن سيرين عن كعب. قال البوصيري: "هذا إسناد منقطع"، قال أبو حاتم: "محمد بن سيرين لم يسمع من كعب بن عجرة، ورجال الإسناد ثقات". مصباح الزجاجة 1/18، والحديث له شواهد بعضه صحيح منها ما أخرجه حم 4/236، والترمذي 5/628 من طرق أبي الأشعث الصنعاني أن خطباء قامت بالشام ومنهم رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقام آخرهم رجل يقال له مرة بن كعب فقال: "لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قمت"، وذكر الفتن فقربها ثم ذكر نحو حديث كعب بن عجرة قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وأخرجه حم 4/235 من حديث أبي قلابة عن مرة، وأخرجه في 4/236 وابن أبي عاصم في السنة 2/591 من حديث سليم بن عامر من جبير بن نفير عن مرة ابن كعب النهري نحوه وإسناده ثقات. وأخرجه ابن حبان: انظر: موارد الظمآن ص 539، وابن أبي عاصم في السنة 2/591 من حديث عبد الله بن شقيف. قال: "حدثني هرم بن الحارث وأسامة بن خريم وكانا يقاربان فحدثاني حديثا ولا يشعر كل واحد منهم أن صاحبه حدثنيه عن مرة النهري أنه مرة قال. . " فذكره. وهرم وأسامة ذكرهما أبو حاتم ولم يذكر فيهما درحا ولا تعديلا، الجرح والتعديل 2/283، 9/111، وللحديث شاهد آخر من حديث عبد الله بن حوالة - رضي الله عنه - أخرجه حم 4/109، وفي فضائل الصحابة 1/448 وابن أبي عاصم في السنة 2/590، وذكره الهيثمي وقال: "أخرجه أحمد والطبري، ورجالهما رجال الصحيح" مجمع الزوائد 9/88. 3 أخرجه ت كتاب المناقب (ب عثمان - رضي الله عنه -) 5/628 وقال: حسن غريب، وأخرجه حم 6/86 - 149، وفي فضائل الصحابة 1/500، وابن حبان. انظر: موارد الظمآن ص 539، وابن أبي عاصم في السنة ص 559 من طريق عبد الله بن عامر اليحصبي أو عبد الله بن قيس الحمصي. قال الألباني في التعليق على السنة: "إسناده صحيح على شرط مسلم"، وورد من طريق آخر عنها أخرجه جه في المقدمة (ب فضل عثمان - رضي الله عنه -) 1/41، حم 6/75، وفي فضائل الصحابة 1/500، والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/100 وقال: "حديث صحيح عالي الإسناد ولم يخرجاه"، والحديث مداره على الفرج بن فضالة، قال عنه في التقريب ص 247 "ضعيف" وقد تعقب الذهبي الحاكم بقوله: "أنى له الصحة ومداره على الفرج بن فضالة" وأخرجه حم 6/114 عن عائشة رواية إسحاق بن سعيد بن عمرو بن العاص عن أبيه عن عائشة، وإسناده حسن فإن فيه محمد بن كناسة الأسدي أبو يحيى. قال عنه في التقريب: صدوق عارف بالآداب". التقريب ص 305، وأخرجه اللالكائي 7/1350 من حديث عروة عن عائشة وإسناده جيد. ورجاله ثقات ما عدا المنهال بن بحر، فقد وثقه أبو حاتم ولينه ابن عدي، وقال العقيلي: "في حديثه نظر". انظر: الجرح والتعديل 8/357، الميزان 4/191. وللحديث شاهد عند الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/453 من حديث جبير بن نفير مرفوعا وإسناده ثقات، إلا أنه مرسل، لأن جبير بن نفير مخضرم وهو ثقة جليل. انظر: التقريب ص 54. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 888 وروى ابن عمر أن عثمان - رضي الله عنه - أصبح يحدث الناس فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: يا عثمان أفطر عندنا فأصبح صائما وقتل من يومه"1. وروي عن أبي جعفر الأنصاري2 قال: "لما دخل علي عثمان يوم الدار مررت مجتازا في المسجد، فإذا رجل عليه عمامة سوداء وحوله نحو من عشرة فإذا هو علي، قال: ما فعل الرجل؟ قلت: قتل، قال: تبا لهم3 آخر الدهر4، وروي أنه قال: "لو أعلم ان بني أمية يذهب ما في أنفسهم لحلفت لهم خمسين يميناً مرردة بين الركن والمقام أني لم أقتل عثمان ولم آمال على قتله"5.   1 أخرجه اللالكائي في السنة 8/1354، وقد أخرج ابن سعد في الطبقات 3/74، وابن شبة في تاريخ المدينة 4/1226 عدة روايات عن ابن عمر بهذا المعنى. 2 أبو جعفر الأنصاري المدني المؤذن وهو ممن دخل على عثمان مع المصريين قال ابن حجر: مقبول. انظر: التهذيب 12/55، التقريب ص 399. 3 في الأصل (له) وفي - ح - وفي مصادر الرواية كما أثبت. 4 أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة 4/1229، وأبو نعيم في الإمامة 334، واللالكائي في السنة 8/1357. 5 أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة 4/1269، واللالكائي في السنة 8/1357. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 889 فإن قيل: فإذا كان الأمر في الصحابة1 فما منعهم عن نصرته ولم خذلوه. قيل لهم: معاذ الله أن يكون فيهم من خذله أو قعد عن نصرته، وإنما نهاهم عن ذلك وناشدهم الله، وعرف أن الجيوش قد سارت إليه من الأمصار، ولم ير أن في الصحابة من يماثل عددهم، وخاف إراقة دماءهم، لما روي أن المغيرة بن شعبة قال له: إنه قد نزل بك ما ترى، وأنا أعرض عليك خصالا ثلاثا: إن شئت خرقنا لك بابا من الدار سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، أو تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، وإن شئت خرجت بمن معك فقاتلهم وإن معك عدة وقوة، وإنك على حق وهم على باطل، فقال عثمان: أما قولك تخرق لي بابا من الدار فاقعد على رواحلي فألحق بمكة فإنهم لن يستحلوني وأنا فيها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يلحق2 رجل من قريش بمكة3عليه نصف عذاب العالم فلن أكون إياه4، وأما قولك الحق بالشام فهم أهل الشام وفيهم معاوية فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وأما قولك: إن معي عدة فأخرج فأقاتلهم فإني على الحق وهم على الباطل فلن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بإهراق ملء5 محجم من دم بغير حق"6.   1 هكذا في النسختين وهي تحتاج لخبر كان ولعل تقديره (ما ذكرتم) ، فيكون المعنى فإذا كان شأن الصحابة وامرهم ما ذكرتم، يعني من عدم تواطؤهم على قتله. 2 هكذا في النسختين وفي مصادر الرواية (يلحد) وهي الأصوب، وقد نص ابن حجر في تعجيل المنفعة ص 370 على أنها (يلحد) ونقل ذلك أيضا عن البخاري. (بمكة) ليست في الأصل وهي في - ح - وفي مصادر الرواية. 4 روى ابن أبي شبة نحوه عن ابن عمر في كلامه لابن الزبير. المصنف 11/139. 5 في - ح - (مثل) . 6 أخرجه حم 1/67، وابن شبة في تاريخ المدينة 4/1212، وابن عساكر في تاريخ دمشق قسم (عثمان بن عفان - رضي الله عنه -) ص 387 من حديث الأوزاعي عن محمد بن عبد الملك بن مروان عن المغيرة - رضي الله عنه -، ومحمد بن الخليفة عبد الملك بن مروان وثقه علي بن الحسين بن الجنيد وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عساكر: "كان ناسكا أمه أم ولد قتل سنة 132هـ - فتكون روايته عن المغيرة مرسلة، لأن المغيرة - رضي الله عنه - توفي 50هـ" - تعجيل المنفعة ص 370. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 890 وروي أن ابن عمر دخل على عثمان - رضي الله عنه - وعرض عليه نصرته وذكر بيعته1، وكذلك أبو هريرة - رضي الله عنه - دخل وعرض عليه نصرته، وقال: اليوم طاب أمضرب2 فقال: أنتم في حل من بيعتي وإني لأرجوا أن ألقى الله سالما مظلوما3 وقال لعبيدة وكانوا أربعمائة عبد من أغمد سيفه فهو حر، بل4 منعهم من القتال فأغمدوا كلهم سيوفهم إلا العبد الأسود الذي قاتل حتى قتل معه، وقاتل معه الحسن بن علي حتى حمل من الدار مغلوبا من الجراحات5. وإنما فعل عثمان ذلك لما علم أنه مقتول فبذل دمه دون دماء الصحابة والمسلمين6. والدليل عليه ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادعوا لي بعض أصحابي قلت: ادعو لك أبا بكر فسكت، قلت: أدعو لك فسكت قلت: أدعو لك ابن عمك عليا فسكت قلت: ادعو لك عثمان فقال: نعم، فجاء عثمان فقال لي: هكذا أي   1 أخرجه أبو نعيم في الإمامة ص 332. 2 أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة 4/1207، وابن سعد في الطبقات 3/70، وأبو نعيم في الإمامة ص 33 وقوله: "طاب أمضرب" هكذا في الأصل وفي - ح - وفي النسخ المطبوعة من مصادر الرواية (طاب أم ضرب) ، والصواب ما أثبت ومعناه (طاب الضرب) وقوله أمضرب: على لغة حمير إبدال لام التعريف ميما 3 من قوله (فقال أنتم في حل. . .) هو من بقية الرواية المتقدمة عن ابن عمر. 4 في - ح - (أراد) . 5 ذكر عددا من الروايات في هذا المعنى ابن شبة في تاريخ المدينة 4/1206 - 1215، ولم أقف على ذكر عدد الموالي الذين ذكروا هنا في كلام المصنف، وإنما ذكر ابن سعد عن ابن سيرين قال: كان مع عثمان يومئذ في الدار سبعمائة لو يدعهم لضربوهم إن شاء الله حتى يخرجوهم من أقطارها منهم ابن عمر والحسن بن علي وعبد الله بن الزبير وغيرهم. اطبقات 3/71، وأخرجه الخلال في السنة 335. 6 ذكر هذا أيضا ابن كثير في البداية والنهاية 7/199. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 891 تنحي عني، قال: فرأيته يقول لعثمان ولونه يتغير ووجهه، فلما كان يوم الدار قيل له: ألا تقاتل؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا وإني صابر نفسي"1. قال عبد الرحمن بن مهدي2: "لو لم يكن في عثمان إلا خصلتان لكفتاه جمعه المصحف وبذله دمه دون دماء المسلمين"3. وروي "أن عليا وطلحة والزبير وكثيرا من الصحابة - رضي الله عنهم - خاطبوا هؤلاء القوم وأغلظوا عليهم القول بسبب ما يريدونه، فلما أحسوا منهم نصرته وأنهم منكرون عليهم فعلهم أظهرت فرقة منهم موالاة علي ولزموا باب علي، وأظهرت فرقة منهم موالاة طلحة ولزموا بابه، وأظهرت فرقة منهم موالاة الزبير ولزموا بابه ومنعوهم من الخروج وقد برأهم الله منهم، وكان قتله بذي الحجة سنة خمسين وثلاثين من الهجرة، وله إحدى وثمانون سنة وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة ولم يستخلف أحدا ... "4.   1 أخرجه جه في المقدمة (ب فصل عثمان - رضي الله عنه -) 1/43، حم 6/52، وفي فضائل الصحابة 1/494، وابن حبان. انظر: موارد الظمآن ص 540 والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/99 قال الحاكم: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. قال البوصيري: "إسناده صحيح ورجاله ثقات". مصباح الزجاجة 1/19، واخرجه حم 1/58 - 69، ت كتاب المناقب (ب مناقب عثمان - رضي الله عنه -) 5/631 مختصرا بذكر قول عثمان - رضي الله عنه - "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا. . " من حديث أبي سهلة مولى عثمان - رضي الله عنه - عن عثمان أنه قال يوم الدار. . فذكره. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن أبي خالد". 2 عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري مولاهم أبو سعيد البصري، ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث. قال ابن المديني: "ما رأيت أعلم منه" توفي سنة 298 هـ -. انظر: التقريب ص 210. 3 أخرجه الآجري في الشريعة 3/149 وقال محققه: "إسناده صحيح". 4 انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري 3/349 - 350/415 - 418. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 892 126- فصل: في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. ذلك أنه لم يكن أحد بعد عثمان - رضي الله عنه - أحق بالخلافةمن علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - لما جمع الله به من الفضائل وشرفه به من سني المنازل ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم وزوج فاطمة البتول وأبو الحسن والحسين ريحانتي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من السابقين ممن عظم بلاؤه وجهاده في سبيل الله، فختم الله به الخلافة كما ختم بمحمد صلى الله عليه وسلم النبوة، قال صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة" 1. وتمام الثلاثين بخلافة علي - رضي الله عنه -. وأما بيان عقد إمامته فما روي: "أن عمثان - رضي الله عنه - لما قتل مظلوما ودخل علي - رضي الله عنه - داره وأغلق عليه بابه غضبا منه على ما فعل بعثمان فاستولى الغافقي ومن معه من قتلة عثمان وأهل الفتنة على المدينة وهم بالفتك بهم، وحلفوا للصحابة2. لإن لم يعقدوا الإمامة لرجل منهم ليعيدوها جَذّعَة3 فيهم، فأتى المصريون منهم إلى علي فعرضوها عليه فأبى، وأتى البصريون إلى طلحة فعرضوها عليه فأبى، ثم عرضوها على الزبير فأبي، وكل ذلك منهم إنكار وإعظام لما فعلوا بعثمان، فلما كان عشي يوم الثالث من قتل عثمان - رضي الله عنه - خاف أهل المدينة المهاجرون والأنصار من فتك أهل الفتنة4 بالمدينة، فاجتمعوا وأتوا إلى باب علي، فضربوا عليه   1 تقدم تخريجه ص 842. 2 في النسختين (وحلفوا الصحابة) ولا معنى لها إلا بإضافة اللام. 3 أي يعيدوا الفتنة فيهم مرة أخرى. 4 في - ح - (أهل المدينة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 893 الباب واستأذنوا بالدخول عليه، فدخولوا وقالوا: إن عثمان قد قتل ولا بد للناس من خليفة، ولا نعلم أحدا أحق بها منك فامتنع عليهم وقال: كوني وزيرا خيرا من أمير، قالوا: لا والله ما نعلم أحدا أحق بها منك، قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سرا ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني، فخرج إلى المسجد، فبايعه خزيمة بن ثابت وأبو الهيثم النبهان ومحمد بن مسلمة وعمار ورجال يكثر عددهم وبايعه الناس1، فلما بايعوه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أما بعد: فإن الدنيا قد أدبرت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت باطلاع، وإن المضمار اليوم وغدا السباق، ألا وإنكم في أيام أمل ومن ورائها أجل، فمن قصر في أيام عمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله، ثم إن الله في سمائه وعرشه ليعلم أني كنت كارها للولاية على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأني سمعته يقول: "أيما وال ولي أمر أمتي بعدي أقيم على الصراط ونشرت الملائكة صحيفته، فإن كان عادلا نجاه الله تعالى بعدله، وإن كان جائرا انتقض به الصراط انتقاضا يتزايل ما بين مفاصله حتى يكون بين كل عضو من أعضائه مسيرة مائة عام، ثم ينحرف به الصراط فأول ما يتقي به النار أنفه وحر وجهه"2 ولكن لما اجتمع رأيكم علي لم يسعني ترككم. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، ونزل"3 والدليل على علو منزلة علي عندي النبي صلى الله عليه وسلم ما روي أنه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر   1 انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/427 - 434. 2 عزا في كنز العمال 6/20 هذا الحديث إلى أبي القاسم بن بشران في أماليه، وأخرج نحوه أبو نعيم في الحلية 6/136 من طريق الأوزاعي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، وفي إسناده أحمد بن عبيد بن ناصح لين الحديث. التقريب ص 14، وفيه الراوي عن عبد الرحمن ابن أبي عمره واسمه جابر ولم أتبين من هو. 3لم أقف على من ذكر هذه الخطبة بألفاظها، وإنما ذكر ابن جرير في تاريخه 4/436 عنه خطبة أخرى ليس هذا مضمونها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 894 قال: "لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" قال عمر: فما أحببت الإمارة إلا يومئذ فتطاولت لها، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا فدفع اللواء إليه، وقال: "اذهب فلا تلتفت حتى يفتح الله عليك فمشى هنيئة، ثم قام ولم يلتفت للعزمة فقال: علام أقاتل الناس؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "علي مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي"2. وروي عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه"3. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وأعتق بلالا من ماله، رحمه الله عمر يقول الحق وإن كان4 مرا تركه الحق وماله من صديق، رحم الله عثمان تستحي منه الملائكة, رحم الله عليا، اللهم أدر الحق معه حيث دار"5.   1 أخرجه خ. كتاب فضائل الصحابة (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) 5/16 من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -، م. كتاب الفضائل (ب فضائل علي) 2/1871 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. 2 أخرجه ت. كتاب مناقب الصحابة (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) 5/632، حم 4/437، وفي فضائل الصحابة 2/605 - 649 من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - وفي إسناده جعفر بن سليمان الضبعي. قال عنه في التقريب: "صدوق كان يتشيع". التقريب ص 56، واخرجه حم 5/356 من حديث بريدة بن الحصيب، وفي إسناده أجلح الكندي قال عنه في التقريب: "صدوق شيعي". التقريب ص 25. 3 تقدم تخريجه ص 861. (كان) ليست في الأصل وهي في - ح - ومصادر الرواية. 5 تقدم ذكر الشطر الأول منه في فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وقد ذكر تخريجه ص 848. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 895 قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه ـ: "إن كنا لنعرف المنافقين نحن معاشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب".1 وقالت أم سلمة - رضي الله عنها ـ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول2: " لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن".3 وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ربي أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم قيل يا رسول الله: منهم قال علي منهم، قالها ثلاثا وأبو ذر والمقداد وسلمان" 4. وروى أنس بن مالك قال: "كان عند النبي صلى الله عليه وسلم طير فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي - رضي الله عنه - فأكل   1 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب مناقب علي) 5/635 قال الترمذي: حديث غريب إنما نعرفه من حديث أبي هارون العبدي وقد تكلم شعبة في أبي هارون. 2 في الأصل (قال) وما أثبت من - ح -. 3 أخرجه ت كتاب المناقب (ب فضل علي - رضي الله عنه -) 5/635،حم 6/692، وفي فضائل الصحابة 2/619، وابن أبي عاصم في السنة 2/597 ومدار إسناده على مساور الحميري عن أمه عن أم سلمة - رضي الله عنها - ومساور الحميري مجهول ذكر ذلك الذهبي وابن حجر. انظر: ميزان الاعتدال 4/95، التقريب ص 333. وأمه مجهولة أيضا قال عنها ابن حجر: "لا يعرف حالها" التقريب 476 وقد حسن الحديث الترمذي وقال: "حسن غريب من هذا الوجه". والصحيح أن هذا الإسناد ضعيف للجهالة وقد وصف الذهبي الخبر بأنه منكر. انظر: ميزان الاعتدال 4/95. وللحديث شاهد صحيح من حديث علي - رضي الله عنه - قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق" أخرجه م. كتاب الإيمان (ب الدليل على أن حب الأنصار وعلي من الإيمان) 1/86. ت. كتاب المناقب (ب فضل علي - رضي الله عنه - 5/643) وقال: "حسن صحيح". 4 أخرجه هذا الحديث عن بريدة - رضي الله عنه - ت. كتاب المناقب (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) 5/636، جه 1/53، حم 5/356، وفي فضائل الصحابة 2/689، والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/130 وأبو نعيم في الحلية 1/172 وحسن الحديث الترمذي وقال الحاكم: "هو على شرط مسلم وفي إسناده شريك بن عبد الله القاضي". قال ابن حجر: "صدوق يخطئ كثيرا تغير حفظه منذ ولى القضاء" التقريب ص 145. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 896 معه"1. وروي أن عمر - رضي الله عنه - قال: "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فجاء علي - رضي الله عنه - تدمع عيناه فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم توآخي بيني وبين أحد، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت أخي في الدنيا والآخرة"2. وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا دار الحكمة وعلي بابها"3. وروي عن سعيد بن أبي وقاص أنه قال: "ثلاث قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) 5/636 وقال: "غريب". وأخرجه الحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/130 قال الذهبي في تلخيصه: "لقد كنت زمانا طويلا أظن أن حديث الطير لم يجسر الحاكم أن يودعه في مستدرك، فلما علقت هذا الكتاب رأيت الهول من الموضوعات التي فيه فإذا حديث الطير بالنسبة إليها سماء" انتهى. وأخرج الحديث ابن الجوزي في العلل المتناهية من طرق عديدة عن أنس، وقال: "وقد ذكره ابن مردويه من نحو عشرين طريقا كلها مظلم وفيها مطعن"، ونقل عن محمد بن طاهر المقدسي قوله في الحديث: "كل طرقة باطلة معلولة" ثم قال: "حديث الطائر موضوع إنما يجئ من سقاط أهل الكوفة عن المشاهير والمجاهيل عن أنس وغيره". العلل المتناهية 1/225 - 234. وقال ابن كثير في البداية والنهاية 7/383 - 387 بعد أن أورد جميع رواة الحديث: "الجميع بضعة وتسعون نفسا أقربها غرائب ضعيفة وأردؤها مختلفة مفتعلة وغالبها طرق واهية". 2 أخرجه ت كتاب المناقب (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) 5/636، وابن عدي في الكامل 2/558 وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، وهذا الحديث يروى عن جميع بن عمير التيمي عن ابن عمر، قال البخاري عن جميع بن عمير التيمي عن ابن عمر: "فيه نظر"، وقال ابن عدي: "وعامة ما يرويه لا يتابعه غيره". انظر: المجروحين 1/218، الكامل 2/558، ميزان الاعدال 1/421، ضعيف الجامع الصغير 2/14 3أخرجه ت. كتاب المناقب (ب فضائل علي - رضي الله عنه -) 5/637، والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/126، وابن عدي في الكامل 1/193 - 195، وابن الجوزي في الموضوعات 1/349 – 354: "والحديث يروي عن علي وابن عباس وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم –". قال الترمذي بعد أن ذكر حديث علي: "هذا حديث غريب منكر"، وقال الحاكم: صحيح"، ورد عليه الذهبي بقوله: "بل موضوع"، وقال ابن الجوزي بعد أن ذكر طرق الحديث: "هذا حديث لا يصح من جميع الوجوه"، ثم نقل عن العلماء بيان ذلك. كما بين أنه منكر سندا ومتنا المعلمي في تعليقه المطول على الفوائد المجموعة ص 349 - 353. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 897 في علي لأن يكون لي واحدة منهن إلي من حمر النعم. سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي وخلفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي". وسمعته يقول يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فتطاولنا لها فقال: ادعوا عليا فأتي وبه رمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه، وأنزلت هذه الآية {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ... } 1. الآية، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم فقال: هؤلاء أهلي"2. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عليا ليقرأ براءة على المشركين بمكة وقال: "لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي" 3. وهذا كله يدل على أنه يصلح للخلافة. وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء بين أهل اليمن فقال رسول الله: "إنك بعثتني للقضاء إلى أقوام ذوي أسنان، وإني شاب لا أحسن القضاء وإني أخاف ألا أصيب، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: اللهم علمه القضاء، وقال له: إن الله سيثبت قلبك ويهديك، ثم قال له: إذا جلس الخصمان بين يديك فلا تقضين حتى تسمع كلام آخر منهما، قال علي: "فما شككت في قضاء بعده"4.   1 آل عمران آية (61) . 2 أخرجه م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضل علي - رضي الله عنه -) 4/1871 ت. كتاب المناقب (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) . 5/638. 3 أخرجه ت. كتاب التفسير (ب من سورة براءة) 5/275 حم 3/212، وفي فضائل الصحابة 2/562 من حديث أنس - رضي الله عنه -. قال الترمذي: "حديث حسن غريب من حديث أنس بن مالك"، وله شاهد صحيح من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. أخرجه حم 1/3، وابن جرير الطبري في تفسيره 14/106 بتحقيق أحمد شاكر، وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند 1/156: "إسناده صحيح". 4 أخرجه د. كتاب الأقضية (ب كيف القضاء) 2/114، جه كتاب الأحكام (ب ذكر القضاة) 2/774، حم 1/83 - 88 - 11 - 136، وفي فضئل الصحابة 2/580 - 699 والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/135 وأبو نعيم في الحلية 4/381، والحديث عند ابن ماجة والحاكم وأبي نعيم وبعض الطرق عند الإمام أحمد من طريق أبي البختري عن علي - رضي الله عنه -، وهو إسناد منقطع فإن أبا البختري لم يسمع من علي شيئا كما قال ابن معين. انظر: التهذيب 4/73، وورد بإسناد آخر متصل عند أبي داود والإمام أحمد في المسند وفضائل الصحابة وفيه القاضي شريك وهو صدوق يخطئ كثيرا - انظر التقريب - ص 145، ورواه الإمام أحمد بإسناد آخر صحيح حيث تابع شريكا زائدة بن قدامة وهو ثقة ثبت. انظر: التقريب ص 105، ورواه أيضا من طريق آخر عن يحيى بن آدم قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي - رضي الله عنه -، وهذا إسناد صحيح قاله الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند 2/677، وقوله في الحديث: "اللهم علمه القضاء" لم أقف عليه في شيء من الروايات في الكتب المتقدم ذكرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 898 ولقد ظهر منه من الفقه في قتال أهل البغي وفي مناظرته لهم ما لم يسبقه إليه أحد، حتى قال الشافعي - رضي الله عنه -: لولا حرب علي لمن خالفه ما عرفت السنة في قتال أهل القبلة1. هذا مع ما2 فيه من الشجاعة وتدبير الحرب والجيوش على ما عرفه3 المخالف والمؤالف، حتى إنه بلغه عن بعض أهل زمانه أنه قال إن ابن أبي طالب رجل شجاع، لكن لا رأي له في الحرب فقال: "من ذا يكون أبصر بها مني وأشد لها مراسا، والله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا اليوم قد زدت على الستين ولكن لا إمرة لمن لا يطاع"4. احتجت الخوارج ومن يطعن في إمامة علي - رضي الله عنه - من أهل الزيغ بأن بيعته لم تقع عن إجماع من الصحابة، لأنه روي أن طلحة والزبير قعدا في بيوتهما عن بيعته، فأخرج أهل البصرة طلحة فجاؤا به وخلفه حكيم بن جبلة يحذوه بالسيف، وأحدق أهل الكوفة بالزبير واخرجوه من بيته وخلفه   1 لم أقف عليه. 2 في الأصل (معنى فيه) وما أثبت من - ح - وبه يستقيم الكلام. 3 في الأصل (والجيوش ما عرفوا) وما أثبت كما في - ح - وبه تستقيم العبارة. 4 لم أقف عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 899 مالك بن الأشتر يحدوه بالسيف، فقيل لهما: بايعا فبايعا مكرهين، ولهذا قال طلحة: بايعت واللّج يعني السيف1 على قفىّ"2 والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما أن نقول: هذه الرواية من الخوارج من قبيل الرواية التي يرويها الشيعة أن عليا وطلحة والزبير أكرهوا علي بيعة أبي بكر، وأن عمر أتى بعلي يقوده بحبل أسود في عنقه مما لا يثبته أهل النقل وأصحاب الحديث، وبمثل هذه الرواية الشاذة لا يحكم بتفسيق اصحابة مع صحة الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بتفضيلهم وشهادته لهم بأنهم من أهل الجنة. ويحمل قول طلحة واللج على قفىّ - يعني سيفه لنصرة علي - على لالج غيري3. والجواب الثاني أن نقول: قد ثبتت بيعة علي وإمامته بيعة الجمهور من الصحابة قبل ذلك، وانقادوا له وصارت له الشوكة بطاعتهم له، فلا يقدح بها تخلف الواحد والاثنين وإكرههما على بيعته إكراه على حق كالحربي إذا أكره على كلمة الإسلام.4 احتجوا بأن طلحة والزبير قال: "إنما بايعنا عليا على أن يقتل قتلة عثمان". وهذه مبايعة على شرط فإذا لم يوجد كانت باطلة ولهذا قال علي - رضي الله عنه -: "بايعاني في المدينة وخلعاني بالعراق".   1 ذكر هذا أبو عبيد في غريب الحديث 4/10. 2 قفّى: هذا على لغة طي والمراد قفاى. انظر: غريب الحديث لابن عبيد 4/11. 3 هكذا في النسختين ولم يتبين لي معناها. 4 ما ذكر المصنف هنا غير وارد مع ما للصحابة - رضوان الله عليهم - من المكانة، واستحقاق علي - رضي الله عنه - للخلافة بعد ثمان أمر متفق عليه، فقد كانت الشورى بينهما بعد أن تنازل عنها بقية الستة، فلما قتل عثمان - رضي الله عنه - لم يكن أحد من الصحابة أولى منه، كما لم يعلم أن أحدا من الصحابة تخلف عن البيعة، وما حدث من عائشة - رضي الله عنها - ومن كان معها إنما هو مطالبة بقتلة عثمان الذين كان بعضهم في جيش علي - رضي الله عنه -، وكذلك ما وقع من معاوية - رضي الله عنه - لم يكن منازعة في الخلافة وإنما كان مطالبة بدم عثمان - رضي الله عنه -، مع أن الأمر كانت فيه فتنة عظيمة دخل فيها أصحاب الأهواء والأغراض فأكثروا الدس والكذب الذي تلبسه به الحق على بعض الناس والجميع كان مجتهدا. انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 545 - 547. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 900 والجواب: أنه لا يظن بعلي وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - عقد الإمامة على الحكم بمذهب بعينه كما لا يصح عقد القضاء على الحكم بمذهب بعينه، وقتل الجماعة بالواحد مسئلة فقهية مختلف فيها والاعتماد فيها هلى حكم الإمام أو الحاكم وعلى أن قتلة عثمان كانوا قوما متفرقين في العسكر غير معنيين لم تقم عليهم بينه، ولا ثبت إقرارهم ولا حضر أولياء دم عثمان فكيف يجوز عقد الإمامة على حكم مخالف للشريعة1، والله أعلم.   1 هذا الكلام فرع عن ثبوت أصله وهو الأثر السابق، لأن الفتنة في ذلك الوقت خاض فيها أصحاب الأهواء والأغراض الخبيثة وقد مر الكتابة على لسان عائشة - رضي الله عنها - ص 887، وردها - رضي الله عنها - ذلك وبراءتها منه وما قتل عثمان - رضي الله عنه - إلا مكيدة دبرت بليل من أعداء الإسلام، وكذلك كان الذي وقع بين الصحابة في الجمل، إنما الذي حمل الناس فيها على القتال قتلة عثمان ومن شايعهم من الجهال وأصحاب الأغراض. وكما تقدم فإن طلحة والزبير لم ينازعا عليا - رضي الله عنه - في الخلافة، وإنما طالباه بالقصاص من قتلة عثمان - رضي الله عنه -، ولم يعرجا على مسألة الخلافة، ولم يستنكرا عليه توليها فإنه أولى من بقي مع إعراضه - رضي الله عنه - أول الأمر وامتناعه عنها. انظر ما ذكره انب كثير عن موقعة الجمل في: البداية والنهاية 7/260. وبه ينتهي التعليق على الكتاب والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله علي سيدنا محمد وآل وصحبه وسلم تسليما كثيرا. المدينة النبوية 9/جمادى الأولى/1409هـ -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 901 تم الكتاب بحمد الله ومنّه وحسن توفيقه وكان الفراغ منه في يوم الإثنين لثمان عشرة ليلة من شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعمائة غفر الله لكاتبه ولمالكه ولمقابله وللناظر إليه ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 902 ورد في آخر النسخة اليمانية - ح - ما نصه: وكان الفراغ من زبرة نهار الجمعة تاسع عشرة من شعبان الكريم الواقع في سنة ست بعد الألف، وذلك في كنف تربة المؤلف سيدي الشيخ الإمام العالم العامل والنور الكامل والضياء الشامل العارف بالله الولي الرباني من شيد للملة أركان المباني، عماد الدين يحيى بن أبي الخير العمراني مصنف هذا الكتاب المسمى بالانتصار، رحمه الله رحمة الأبرار ودمّث الله مسالكه، وجعل الفردوس فذالكه. غفر الله لكاتبه وأصلح أحواله، وجعل استقباله أحسن من ماضيه وحاله، رحم الله عبدا قال، آمينا. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد من للرسل ختم، وعلى آله وصحبه وسلم عدد كل حرف جرى به القلم، وما نسجت السحب بمعذوذق الديم ومن يجد عيبا سد الخللا ... فجل من لا عيب فيه وعلا   يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فبمن يلوذ ويستجير المجرم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. بخط محصله لنفسه الفقير إلى الله الباري عبد القادر بن أحمد الفناضي. عفى الله عنهما وتولاهما بحسن ولايته إنه على كل شيء قدير وصلى الله على من .... ختم. بلغ مقابلة على الأصل المنقول عنه بحسب الطاقة والإمكان خامس عشر شهر شوال في سنة ست بعد الألف من الهجرة النبوية وحسبنا هو الله ونعم الوكيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 903 مصادر ومراجع ... قائمة المراجع 1 - الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية - تأليف الإمام أبي عبد الله بن بطة العبكري - تحقيق رضاء بن نعسان معطي - دار الراية للنشر والتوزيع - الطبعة الأولى 1409هـ. 2 - الإبانة عن أصول الديانة - تأليف أبي الحسن الأشعري - تحقيق عبد القادر الأرناؤوط - مكتبة دار البيان - الطبعة الأولى 1401هـ. 3 - إبطال التأويلات لأخبار الصفات - تأليف القاضي أبي يعلى - مخطوط مصور في الجامعة الإسلامية المنورة. 4 - أبو الحسن الأشعري وعقيدته - تأليف الشيخ حماد بن محمد الأنصاري - الطبعة الثانية 1395هـ. 5 - إثبات صفة العلو - تأليف الإمام موفق الدين بن قدامة - تحقيق بدر بن عبد الله بن البدر - الدار السلفية - الطبعة الأولى 1406هـ. 6 - اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية - تأليف الإمام ابن قيم الجوزية - الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 7 - الأحكام السلطانية - تأليف أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي - راجعه محمد فهمي الشرجان - الناشر المكتبة التوفيقية. 8 - الإحكام في أصول الأحكام - تأليف سيف الدين علي بن محمد الآمدي - دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - الطبعة الأولى 1401هـ. 9 - إحياء علوم الدين - تأليف أبي حامد الغزالي - مطبعة مصطفى البابي الحلبي - بمصر 1358هـ. 10 - أخبار البحتري - تأليف أبي بكر محمد الصولي - تحقيق د. صالح الأشتر - دار الفكر بدمشق - الطبعة الثانية 1384هـ. 11 - الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية - تأليف الإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة - ضمن عقائد السلف. 12 - أديان الهند الكبرى - تأليف د. أحمد شلبي - الطبعة الثانية 1984م مكتبة النهضة المصرية. 13 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل - تأليف محمد ناصر الدين الألباني - بإشراف محمد زهير الشاويش - المكتب الإسلامي - الطبعة الثانية 1405هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 947 14 - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد - تأليف إمام الحرمين أبي المعالي الجويني - تحقيق أسعد تميم - مؤسسة الكتب الثقافية - الطبعة الأولى 1405هـ. 15 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب بهامش الإصابة - تأليف الإمام أبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر - تحقيق طه محمد الزينى - الناشر مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة - الطبعة الأولى. 16 - الإصابة في تمييز الصحابة - تأليف الحافظ ابن حجر - تحقيق طه محمد الزيني - الناشر مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة - الطبعة الأولى. 17 - أصول الدين - تأليف أبي منصور عبد القاهر البغدادي - دار الكتب العلمية - بيروت لبنان - مصورة عن الطبعة الأولى في استنبول 1346هـ. 18 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - تأليف الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - طبع وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية الرياض 1403هـ. 19 - الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد - تأليف الحافظ أبي بكر البيهقي - تعليق كمال يوسف الحوت - عالم الكتب. 20 - الإمامة والرد على الرافضة - تأليف الحافظ أبي بكر نعيم الأصبهاني تحقيق د. علي بن محمد ناصر الفقيهي - مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة - الطبعة الأولى 1407هـ. 21 - الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة - تأليف عبد الله بن عمر بن سليمان الدميحي - دار طيبة للنشر والتوزيع - الرياض - الطبعة الأولى 1407هـ. 22 - الأموال - للحافظ أبي عبيد القاسم بن سلام - تحقيق محمد خليل هراس - مكتبة الكليات الأزهرية 1395هـ. 23 - الأنساب - تأليف أبي سعيد عبد الكريم بن محمد التميمي السمعاني - اعتنى بنشره المستشرق د. س مرجليوت - أعادت طبعة بالوفست مكتبة المثنى ببغداد. 24- الإيمان - تأليف الحافظ أبي بكر بن أبي شيبة - تحقيق محمد ناصر الدين الألباني - نشر وتزيع دار الأرقم - الكويت. 25- الإيمان معالمه وسننه - تأليف الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام - تحقيق محمد ناصر الدين الألباني - نشر وتوزيع دار الأرقم - الكويت. 26- الإيمان - تأليف الحافظ محمد بن إسحاق بن منده - تحقيق د. علي بن محمد ناصر الفقيهي - مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة - الطبعة الأولى 1401هـ. 27 - الإيمان - تأليف الحافظ محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني - تحقيق حمد بن حمدي الجابري الحربي - الدار السلفية - الكويت - الطبعة الأولى 1407هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 948 28 - البداية والنهاية - تأليف المؤرخ الحافظ عماد الدين بن كثير - تحقيق محمد عبد العزيز النجار - دار الصمعي للنشر والتوزيع - الرياض - مطبعة السعادة. 29 - البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان - تأليف عباس بن منصور السكسكي الحنبلي - تحقيق خليل إبراهيم الحاج - دار التراث العربي للطباعة والنشر - الطبعة الأولى 1400هـ. 30 - بغية المستفيد في تاريخ مدينة زبيد - تأليف عبد الرحمن بن علي ابن الربُيَع - تحقيق عبد الله الحبشي مركز الدراسات اليمانية - صنعاء 31 - بيان تلبيس الجهمية - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - تصحيح وتكميل محمد بن عبد الرحمن بن قاسم - الطبعة الأولى 1392هـ مطبعة الحكومة - مكتبة المكرمة. 32 - تاريخ الأمم والملوك - تأليف الإمام أبي جعفر بن جرير الطبري - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - دار سويدان - بيروت، لبنان. 33 - تاريخ بغداد - تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي - دار الكتب العلمية - بيروت العلمية. 34 - تاريخ الخلفاء - تأليف جلال الدين السيوطي - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. 35 - تاريخ الفرقد الزيدية بين القرنين الثاني والثالث الهجري - د. فضيلة بنت عبد الأمير الشامي - مطبعة الآداب - النجف 1394هـ. 36 - تاريخ المدينة المنورة - تأليف أبي زيد عمر بن شبه النميري - تحقيق عبد الله محمد الحبشي. 37 - تاريخ اليمين المسمى بهجة الزمن في تاريخ اليمن - تأليف تاج الدين عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني - تحقيق مصطفى حجازي - دار العودة - بيروت - دار الكلمة - صنعاء. 38 - تأويل مختلف الحديث - تأليف الإمام ابن قتيبة الدينوري - دار الكتاب العربي بيروت. 39 - التبصير في الدين - تأليف أبي المظفر الاسفرائيني - تحقيق كمال يوسف الحوت - عالم الكتب - الطبعة الأولى 1403هـ. 40 - التبيان في أقسان لاقرآن - تأليف الإمام ابن القيم - علق عليه محمد حامد الفقي - المكتبة التجارية -، مصر - الطبعة الأولى 1352هـ. 41 - تبيين كذب المفتري - تأليف الحافظ ابن عساكر الدمشقي - دار الفكر بدمشق - الطبعة الثانية 1399هـ. 42 - تحفة المريد على جوهرة التوحيد - تأليف إبراهيم البيجزري - مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح - القاهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 949 43 - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - تأليف جلال الدين عبد الرحمن السيوطي - حققه عبد الوهاب عبد اللطيف - دار الكتب الحديثة - الطبعة الثانية 1385هـ. 44 - تذكرة الحفاظ - تأليف الحافظ الذهبي - دار إحياء التراث العربي. 45 - تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة - تأليف الحافظ أحمد بن علي بن حجر - الناشر دار الكتاب العربي - بيروت، لبنان. 46 - التعريفات - تأليف علي بن محمد الجرجاني - ضبط جماعة من العلماء - الناشر دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 1403هـ. 47 - تعظيم قدر الصلاة - تأليف الإمام محمد بن نصر المروزي - حققه د. عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي - مكتبة الدار بالمدينة المنورة الطبعة الأولى 1406هـ. 48 - تفسير الجلالين - تألأيف جلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلى بهامش تفسير البيضاوي - مطبعة مصطفى البابي الحلبي - الطبعة الثانية 1388هـ. 49 - تفسير الطبري - تأليف الإمام أبي جعفربن جرير الطبري - تحقيق أحمد محمد شاكر - دار المعارف - مصر. 50 - تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) . تأليف الحافظ أبي الفداء إسماعيل ابن كثير - طبع دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه. 51 - تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) تأليف الإمام أبي عبد الله محمد القرطبي - تحقيق أبي إسحاق إبراهيم اصفيش. 52 - تقريب التهذيب - تأليف الحافظ ابن حجر العسقلاني - دار نشر الكتب الإسلامية - كوجرانواله - باكستان - الطبعة الأولى 1393هـ. 53 - تلبيس إبليس - تأليف الإمام أبي عبد الرحمن بن الجوزي - الناشر مكتبة المدني للطباعة والنشر. 54 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - تأليف أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري - طبع وزارة الأوقاف المغربية. 55 - تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل - تأليف القاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني - تحقيق عماد الدين أحمد حيدر - مؤؤسة الكتب الثقافية - الطبعة الأولى 1407هـ. 56 - التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع - تأليف أبي الحسين محمد بن أحمد الملطي الشافعي - قدم له محمد زاهد الكوثري - مكتبة المثنى ببغداد 1388هـ. 57 - تهافت الفلاسفة - تأليف أبي حامد الغزالي - تحقيق سليمان دنيا - دار المعارف - الطبعة السادسة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 950 58 - تهذيب التهذيب - تأليف الحافظ شهاب الدين بن حجر العسقلاني - مطبعة مجلس دائر المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن - الطبعة الأولى 1326هـ. 59 - تهذيب الأسماء واللغات - تأليف الإمام أبي زكريا النووي - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان. 60 - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد - تألأيف الشيخ سليمان ابن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - مكتبة الرياض الحديثة. 61 - توالي التأسيس لمعالي محمد بن إدريس - تأليف الحافظ ابن حجر - تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي - دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى 1406هـ. 62 - التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل - تأليف الإمام أبي بكر بن خزيمة - دراسة وتحقيق د. عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان - دار الرشد - الرياض - الطبعة الأولى 1408هـ. 63 - تفسير ابن جرير (جامع البيان) تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري - مطبعة مصطفى البابي الحلبي - الطبعة الثالثة 1388هـ. 64 - جامع بين العلم وفضله - تأليف ابن عبد البر النمري - دار الكتب العلمية - بيروت لبنان. 65 - جامع العلوم والحكم - تأليف أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي - الناشر مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي الرابعة 1393هـ. 66 - الجرح والتعديل - تأليف شيخ الإسلام أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم - الطبعة الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية - بحدير آباد الدن - الهند. 67 - جلاء العينين في محاكمة الأحمدين - تأليف السيد نعمان خير الدين ابن الألوسي - مطبعة المدني - القاهرة. 68 - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - تأليف ابن القيم - دار الكتب العلمية بيروت، لبنان. 69 - الحركات الباطنية في العالم الإسلامي - تأليف د. محمد أحمد الخطيب - الطابعون: - جمعية عمال المطابع التعاونية - الطبعة الأولى 1404هـ. 70 - حق اليقين في معرفة أصول الدين - تأليف عبد الله شبر - دار الأضواء - بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1404هـ 1983م. 71 - حلية الأولياء - تأليف الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 951 72 - الحيدة - تأليف عبد العزيز الكناني - من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 73 - الخطط للمقريزي (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) - تأليف تقي الدين أبي العباس المقريزي - دار صادر - بيروت. 74 - خلق أفعال العباد - تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري - الناشر أبو خالد عبد الوكيل الهامشي - طبع النهضة الحديثة 1389هـ. 75 - خلق أفعال العباد - تأليف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - ضمن عقائد السلف. 76 - درء تعارض العقل والنقل - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - تحقيق د. محمد رشاد سالم - طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الطبعة الأولى 1401هـ. 77 - الدر المنثور في التفسير المأثور - تأليف جلال الدين السيوطي دار الفكر - بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1403هـ. 78 - دلائل النبة - تأليف الحافظ أبي نعيم الأصبهاني - خرج أحاديثه المعطى قلعجي - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان - الطبعة الأولى 1405هـ. 79 - دلائل النبوة - تأليف أبي بكر البيهقي - تعليق د. عبد المعطي قلعجي - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان - الطبعة الأولى 1405هـ 80 - ديوان الخطيئة، برواية وشرح ابن السكيت - تحقيق د. نعمان محمد أمين - مكتبة الخانجي - القاهرة - الطبعة الأولى 1407هـ. 81 - ديوان الخنساء - دار صادر - بيروت. 82 - ديوان العجاج - تحقيق د. عبد الحفيظ السطلي - توزيع مكتبة أطلس - دمشق. 83 - ديوان القطامي - تقديم ميسو برت - ليدن 1902م. 84 - ديوان النابغة الذبياني - شرح وتقديم عباس عبد الساتر - دار الكتب العلمية - بروت، لبنان. 85 - رد الدارمي علي بن بشر المريسي - تأليف الإمام عثمان بن سعيد الدارمي - علق عليه محمد حامد الفقي - دار الكتب العلمية - بيروت - عن الطبعة الأولى 1358هـ. 86 - الرد على الزنادقة والجهمية - تأليف الإمام أحمد بن حنبل - ضمن عقائد السلف - بعناية، علي سامي النشار ورفقه - الناشر منشأة المعارف بالاسكندرية. 87 - الرد على من أنكر الحرف والصوت - تأليف الإمام أبي نصر السجزي - تحقيق محمد كريم ابن عبد الله - رسالة ماجستير في الجماعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 88 - رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري - تأليف أبي القاسم عبد الملك بن درباس مع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 952 كتابه الأربعين في التوحيد - تحقيق د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي - الطبعة الأولى 1404هـ. 89 - الرسالة التدمرية - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - الكبعة الثالثة 1400هـ. 90 - الرسالة - تأليف الإمام محمد بن إدريس الشافعي - تحقيق أحمد محمد شاكر. 91 - الروح - تأليف الإمام ابن القيم - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان. 92 - روضة الناظر مع شرحها - موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي - المطبعة السلفية - الطبعة الرابعة 1391هـ. 93 - الرياض النضرة في مناقب العشرة - تأليف المحب الطبري - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان - الطبعة الأولى 1405هـ. 94 - زاد المعاد في هدي خير العباد - تأليف الإمام ابن القيم - تحقيق شعيب الأرنوؤط وأخيه - مؤسسة الرسالة - الطبعة الثانية 1405هـ. 95 - الزهد - تأليف الإمام وكيع بن الجراح - تحقيق د. عبد الرحمن الفريوائي مكتبة الدار - الطبعة الأولى 1404هـ. 96 - الزيدية - د. أحمد محمود صبحي - الناشر - الزهراء للأعلام العربي الطبعة الثانية 1404هـ. 97 - سنن ابن ماجة - تأليف الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه - تحقيق وترقيم - محمد فؤاد عبد الباقي - دار الفكر للطباعة والنشر. 98 - سنن الدارقطني - تأليف الإمام علي بن عمر الدارقطني مع التعليق المغني - طبع مطبعة فالكن - لاهور بكستان. 99 - سنن الدارمي - تأليف الحافظ عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي - بعناية محمد أحمد دهمان - المطبعة الحديثة - دمشق عام 1349هـ. 100 - سنن الترمذي (الجامع الصحيح) تأليف الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة - تحقيق أحمد شاكر وجماعة - دار إحياء التراث العربي - بيروت. 101 - سنن النسائي مع شرح السيوطي وحاشية السندي - تألأيف الحافظ أبي عبد الرحمن أحمد ابن شعيب النسائي - دار الفكر - بيروت 1398هـ. 102 - السنة - تأليف الإمام أبي عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل تحقيق د. محمد بن سعيد القحطاني دار ابن القيم الطبعة الأولى 1406هـ. 103 - السنة تأليف الحافظ ابن أبي عاصم النبيل - تحقيق محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي - الطبعة الأولى 1400هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 953 104 - السنة - تأليف أبي بكر أحمد بن محمد الخلال - تحقيق د. عطية الزهراني - دار الراية للنشر الوتزيع - الرياض - الطبعة الأولى 1410هـ. 105 - سير أعلام النبلاء - تأليف سمش الدين محمد بن أحمد الذهبي - أشرف علي التحقيق شعيب الأرناؤوط - مؤسسة الرسالة - بيروت - الطبعة الأولى 1402هـ. 106 - السيرة النبوية تأليف أبي محمد عبد الملك بن هشام - تقديم طه عبد الرؤوف - مطبوعات مطبعة الحاج عبد السلام شقرون. 107 - سلسلة الأحاديث الصحيحة - تأليف محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي دمشق - بيروت - الطبعة الثانية 1399هـ. 108 - سلسلة الأحاديث الضعيفة - تأليف محمد ناصر الألباني - المكتب الإسلامي دمشق - بيروت - الطبعة الرابعة 1389هـ. 109 - الأسماء والصفات - تأليف الحافظ أبي بكر البيهقي - دار الكتب العلمية بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1405هـ. 110 - شرح أبيات مغني اللبيب - عبد القادر بن عمر البغدادي - تحقيق عبد العزيز رباح ورفيقه - دار المأمون للتراث - الطبعة الأولى 1398هـ. 111 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - تأليف الإمام أبي القاسم هبة الله اللالكائي - تحقيق د. أحمد سعد حمدان - الناشر دار طيبة للنشر والتوزيع - الرياض. 112 - شرح الأصول الخمسة - تأليف القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني تحقيق د. عبد الكريم عثمان - مكتبة وهبه - مصر - الطبعة الأولى 1384هـ. 113 - شرح ديوان جرير - محمد إسماعيل الصاوي - منشورات مكتبة الحياة بيروت، لبنان. 114 - شرح ديوان الفرزدق - جمع وتعليق عبد الله الصاوي - مطبعة الصاوي - الطبعة الأولى 1354هـ. 115 - شرح السنة - تأليف الإمام البغوي - تحقيق زهير الشاويش - توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية - الرياض - الطبعة الأولى 1400هـ. 116 - شرح العقيدة الأصفهانية - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - دم له حسين محمد مخلوف - دار الكتب الإسلامية - القاهرة. 117 - شرح العقيدة الطحاوية - تحقيق جماعة من العلماء - خرج أحاديثها محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي - الطبعة الرابعة 1391هـ. 118 - شرح القصائد العشر - تأليف أبي زكريا يحيى التبريزي - ضبطه وصحح عبد السلام الجوفي - توزيع دار الباز - مكة المكرمة - الطبعة الأولى 1405هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 954 119 - شرح القصيدة الميمية - تأليف الإمام ابن القيم - عرض وتحليل مصطفى عراقي - الناشر مكتبة ابن تيمية - القاهرة. 120 - شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري - تأليف الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان - توزيع مكتبة الدار بالمدينة المنورة - الطبعة الأولى 1405هـ. 121 - شرح الكوكب المنير - تأليف أبي البقاء محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي - تحقيق محمد حامد فقي - مكتبة السنة المحمدية - الطبعة الأولى عام 1372هـ. 122 - شرف أصحاب الحديث - تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي - تحقيق د. محمد سعيد أوغلي - نشر دار إحياء السنة النبوية نشر كلية الألهيات - جامعة انفزة. 123 - الشريعة - تأليف الإمام أبي بكر محمد بن الحسن الآجري - تحقيق محمد حامد الفقي - الناشر حديث أكادمي باكستان - الطبعة الأولى 1403هـ. 124 - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - تأليف الإمام ابن القيم - دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت، لبنان 1389هـ. 125 - صحيح البخاري - تأليف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - تحقيق وتعليق محمود النواوي ورفاقه - الناشر مكتبة النهضة الحديثة، مطبعة الفجالة الجديدة 1376هـ. 126 - صحيح مسلم - تأليف الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج - تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي - دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه. 127 - صحيح مسلم بشرح النووي - تأليف الإمام محي الدين أبو زكريا النووي دار إحياء التراث العربي - بيروت. 128 - الصفات - تأليف الإمام الحافظ الدارقطني - تحقيق د. علي بن محمد الفقيهي - الطبعة الأولى 1403هـ. 129 - الصفات الإلهية في الكتاب والسنة - د. محمد أمان بن علي الجامي - مطبعة الجامعة الإسلامية - المجلس العلمي - الطبعة الأولى 1408هـ. 130 - صفة النفاق وذم المنافقين - تأليف أبي بكر الفريابي - تحقيق محمد عبد القادر عطا - دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى 1405هـ. 131 - الصلة بين الزيدية والمعتزلة - تأليف د. أحمد عبد الله عارف - تقديم د. محمد عمارة - المكتبة اليمنية - صنعاء - الطبعة الأولى ذ407هـ. 132 - الصواعق المرسلة - تأليف الإمام ابن القيم - تحقيق د. علي بن محمد الدخيل الله - دار العاصمة - الرياض - النشرة الأولى 1408هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 955 133 - ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري. 134 - طبقات الشافعية الكبرى - تأليف تاج الدين عبد الوهاب بن علي السكبي - تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو ورفيقه - الطبعة الأولى 1385هـ - بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. 135 - طبقات الشافعية - تأليف أبي بكر أحمد بن محمد ابن قاضي شهبة علق عليهد. الحافظ عبد العليم خان - مكتبة العلم - مكة المكرمة - الطبعة الأولى - مطبعة مجلس دائرة المعارف - الهند. 136 - طبقات فقهاء اليمن - تأليف عمر بن علي بن سمرة الجعدي - تحقيق فؤاد سيد - دار القلم - بيروت، لبنان. 137 - الطبقات الكبرى - تأليف محمد بن سعد بمن منيع - دار صادر - بيروت. 138 - طريق الهجرتين وباب السعاتين - تأليف الإمام ابن القيم - مراجعة السيد محب الدين الخطيب - المطبعة السلفية - القاهرة - الطبعة الثالثة 1400هـ. 139 - عالم الجن والشياطين - تأليف عمر سليمان الأشقر - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان - الطبعة الثانية 1405هـ. 140 - العبر في خبر من غبر - تأليف الحافظ الذهبي - تحقيق وضبط أبو هاجر محمد بسيوني - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1405هـ. 141 - عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن - تأليف حمود بن عبد الله التويجري - دار اللواء للنشر والتوزيع - الرياض. 142 - عقيدة الدروز - تأليف محمد أحمد الخطيب - الطابعون - جمعية عمال المطابع التعاونية - الطبعة الأولى 1400هـ. 143 - العقيدة النظامية - تأليف أبي المعالي عبد الملك الجويني - تقديم وتحقيق د. أحمد حجازي السقا - الناشر مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة 1399هـ. 144 - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية - تأليف الإمام أبي الفرج بن الجوزي - تحقيق إرشاد الحق الأثري - الناشر إدارة العلوم الأثرية فيصل أباد - الباكستان الثانية 1401هـ. 145 - العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ - تأليف صالح بن محمد المقلبي - دار الحديث للطباعة والنشر - بيروت - الطبعة الثانية 1405هـ. 146 - العلو للعلي الغفار - تأليف الحافظ الذهبي - الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 147 - العنوان في القراءات السبع - تأليف أبي طاهر إسماعيل بن خلف الأنصاري - تحقيق د. زهير زاهد ورفيقه - عالم الكتب - الطبعة الثانية 1406هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 956 148 - غاية المرام في علم الكلام - تأليف سيف الدين الآمدي - تحقيق حسن محمود عبد اللطيف - مطبوعات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في مصر. 149- غربال الزمان في وفيات الأعيان - تأليف يحيى بن أبي بكر العامري الحرضي اليماني - تصحيح وتعليق محمد ناجي زعبي العمر - دار الخير للنشر والتوزيع - دمشق 1405هـ. 150- غريب الحديث - تأليف أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي - مصور عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن 1396هـ. 151- غياث الأمم في التياث الظلم - تأليف إمام الحرمين أبي المعالي الجويني - تحقيق مصطفى حلمي ورفيقه - دار الدعوة للطبع والنشر الاسكندرية - أول مطبعة. 152- الفرق بين الفرق - تأليف عبد القاهر بن طاهر الإسفرائيني - تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد - الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت - لبنان. 153- فرق الشيعة - تأليف الحسن بن موسى النوبختي - منشورات دار الأضواء بيروت - لبنان - الطبعة الثانية 1404هت. 154- فرق وطبقات المعتزلة - تحقيق د. علي سامي النشار - الأستاذ عصام الدين محمد علي - دار المطبوعات الجامعية 1972 م. 155- فردوس الأخبار- تأليف الحافظ شيرويه بن شهر دار الديلمي - قدم له فواز أحمد الزولي ورفيقه - الناشر دار الكتاب العربي - بيروت - الطبعة الأولى 1407هـ. 156- فتح الباري شرح صحيح البخاري - تأليف الحافظ ابن حجر - تصحيح وتعليق الشيخ عبد العزيز بن باز - نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية بالمملكة العربية السعودية. 157- فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد - تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - الناشر المكتبة السلفية بالمدينة - الطبعة السابعة 1399هـ. 158- فتح القدير الجامع بين فن الرواية والدارسة - تأليف محمد بن علي الشوكاني - مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر - الطبعة الثانية 1383هـ 159- الفتوى الحموية الكبرى - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - نشر قصي محيي الدين الخطيب - المطبعة السلفية - القاهرة - الطبعة الرابعة 1401هـ. 160 الفصل في الملل والأهواء والنحل - تأليف أبي محمد علي بن حزم الناشر مكتبة الخانجي بمصر. 161 فضائل الصحابة - تأليف الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل - تحقيق وصي الله بن محمد عباس مؤسسة الرسالة - الطبعة الأولى - 1403هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 957 162 الفقه الأكبر - تأليف الإمام أبي حنيفة النعمان مع شرحه لملا علي القاري - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان 1399هـ. 163 الفهرست لابن النديم - توزيع دار الباز للنشر والتوزيع - مكة المكرمة الناشر - دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت، لبنان. 164 فيض القدير شرح الجامع الصغير - تأليف المحدث عبد الرؤوف المناوي دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت لبنان - الطبعة الثانية 1391هـ. 165- القاموس المحيط - تأليف مجد الدين الفيروز آبادي - مؤسسة الرسالة الطبعة الثانية 1408هـ. 166- قواعد القاعدة - تأليف أبي حامد الغزالي - تحقيق موسى محمد علي - عالم الكتب - الطبعة الثانية 1405هـ. 167- الكامل في التاريخ - تأليف أبي الحسن علي بن الأثير - الناشر دار الكتاب العربي بيروت، لبنان. 168- الكامل في ضعفاء الرجال - تأليف الحافظ أبي أحمد بن عدي - دار الفكر للطباعة والنشر - بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1404هـ. 169- الكشاف - تأليف أبي القاسم جار الله محمود الزمخشري - دار المعرفة بيروت، لبنان. 170- كشف الأستار عن زوائد البزار - تأليف الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي - تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي - مؤسسة الرسالة - الطبعة الأولى 1405هـ. 171- الكفاية غب علم الرواية - تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي - تقديم محمد الحافظ التيجاني - طبع ونشر - دار الكتب الحديثة بالقاهرة - الطبعة الثانية. 172- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال - تأليف علي المتقي بن حسام الدين الهندي - ضبطه الشيخ بكري حيان - مؤسسة الرسالة - بيروت لبنان 1399هـ. 173- لباب الآداب - تأليف الأمير أسامة بن منفذ - تحقيق أحمد شاكر - دار الكتب السلفية - القاهرة 1407هـ. 174- لسان العرب - تأليف أبي منظور - دار المعارف. 175- لسان الميزان - تأليف الحافظ ابن حجر - دار الفكر للطباعة والنشر. 176- اللطائف السنية في أخبار الممالك اليمنية - تأليف محمد بن إسماعيل الكبسي الصنعاني - بعناية عبد الله بن محمد الكبسي - مطبعة السعادة. 177- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع - تأليف أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري - نشر وتشارد يوسف مكارتي - المطبعة الكاثوليكية - بيروت 1952م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 958 178- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية - تأليف الشيخ محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي - مطبعة المدني بمصر - القاهرة. 179- المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين - تأليف الحافظ محمد ابن حبان بن أحمد أبي حاتم البستي - تحقيق محمود إبراهيم زايد الناشر - دار الوعي - حلب، سوريا - الطبعة الثانية 1402هـ. 180- مجمع المثال - تأليف أبي الفضل أحمد بن محمد الميداني - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - طبع عيسى البابي الحلبي وشركاه. 181- مجمع الزوائد - تأليف الحافظ نور الدين الهيثمي - الناشر - دار الكتاب العربي - بيروت، لبنان - الطبعة الثالثة 1402هـ. 182- مجموع الفتاوى - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - طبعة الرئاسة العامة للأفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية - صورة عن الطبعة الأولى 1398هـ. 183- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي - تأليف الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي - تحقيق محمد عجاج الخطيب - دار الفكر للطباعة والنشر الطبعة الثالثة 1404هـ. 184- محمد بن عثمان بن أبي شيبة وكتابه العرش - دراسة وتحقيق د. محمد بن خليفة التميمي - رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 185- مختار الصحاح - تأليف زين الدين محمد الرازي - ترتيب محمود خاطر ورفيقة - دار البصائر - مؤسسة الرسالة 1405هـ. 186 - مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري - تحقيق أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي - توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية - الناشر دار المعرفة - بيروت، لبنان. 187- مختصر الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة- تأليف الإمام ابن القيم - دار الفكر. 188- مختصر العلو للعلي الغفار - اختصار محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي - الطبعة الأولى 1401هـ. 189- مختصر المعتمد في أصول الدين - تأليف أبي يعلى الحنبلي - دار المشرق - بيروت - تحقيق وديع زيدان حداد. 190- المدارس الإسلامية في اليمن - تأليف إسماعيل بن علي الأكوع - منشورات جامعة صنعاء 1400هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 959 191- مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر - تأليف الشيخ محمد الأمين بن المختار الشنقيطي - المكتبة السلفية - المدينة المنورة. 192- المؤتلف والمختلف - أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي - تعليق د./ف. كرنكو - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان - الطبعة الثانية 1402هـ. 193- مسائل الإيمان - تأليف القاضي أبي يعلى الفراء الحنبلي - تحقيق سعود بن عبد العزيز الخلف - دار العاصمة - الرياض - النشرة الأولى 1410هـ. 194- المساعد على تسهيل الفوائد - تأليف الحافظ بهاء الدين بن عقيل - تحقيق د. محمد كامل بركات - مركز البحث العلمي في كلية الشريعة بمكة المكرمة مطبعة دار الفكر بدمشق 1400هـ. 195- المستدرك على الصحيحين - تأليف الحافظ أبي عبد الله الحاكم - بأشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي - دار المعرفة - بيروت، لبنان. 196- مستدرك على نهج البالغة - تأليف الهادي الكاشف الغطا - منشورات مكتبة الأندلس - بيروت، لبنان. 197- المستصفى من علم الأصول - تأليف أبي حامد محمد بن محمد الغزالي - الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت، لبنان - المطبعة الأميرية ببولاق - مصر 1324هـ الطبعة الأولى. 198- مسند الإمام أحمد بن حنبل - تأليف الإمام أحمد بن حنبل - دار صادر بيروت، لبنان. 199- مسند الشهاب - تأليف القاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي - تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي - مؤسسة الرسالة - الطبعة الأولى 1405هـ. 200- مصادر الفكر الإسلامي في اليمن - تأليف عبد الله محمد الحبشي المكتبة المصرية - صيداً بيروت 1408هـ. 201- مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم - تأليف أحمد بن الحسن الرصاص - أعده للطبع محمد عبد السلام كفافي - طبع دار الأحد - بيروت 1971م. المصنف - تأليف الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني - تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي - توزيع المكتب الإسلامي - الطبعة الثانية 1403هـ. 202- المصنف في الأحاديث والآثار - تأليف الحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة - بتحقيق مختار أحمد الندوي - الدار السلفية - محمد علي بلديج - بومباي الهند - الطبعة الأولى 1401هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 960 203- معارج القبول - تأليف حافظ بن أحمد الحكمي - أشرف على طبعه أحمد بن حافظ الحكمي - المكتبة السلفية القاهرة - الطبعة الثالثة 1404هـ. 204- معالم السنن بهامش مختصر سنن أبي داود - تأليف أبي سليمان الخطابي تحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي - توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية - الرياض - الناشر دار المعرفة - بيروت، لبنان. 205- معاني القرآن - تأليف أبي زكريا يحيى بن زياد الفراء - عالم الكتب بيروت، لبنان - الطبعة الثالثة 1403هـ. 206- معتزلة اليمن دولة الهادي وفكره - تأليف علي محمد زيد - دار الكلمة صنعاء - الطبعة الثانية 1406هـ. 207- المعتمد في أصول الفقه - تأليف أبي الحسين البصري المعتزلي - تهذيب وتحقيق محمد حميد الله ورفيقه - نشر المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية بدمشق 1384هـ. 208- معجم البلدان - تأليف شهاب الدين أبي عبد الله باقوت الحموي - دار صادر للطباعة والنشر - بيروت 1404هـ. 209- المعجم الصغير - تأليف الحافظ ابن القاسم سليمان الطبراني - صححه عبد الرحمن محمد عثمان - الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة 2110- المعجم الكبير - تأليف الحافظ أبي القاسم سليمان الطبراني - تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي - الطبعة الثانية 1405هـ. 211- معجم المدن والقبائل اليمنية - إعداد إبراهيم أحمد المقحفي - منشورات دار الكلمة - صنعاء 1985م. 212- المعجم الوسيط. جمع اللغة العربية - المكتبة الإسلامية - استانبول - تركيا. 213- المغني في أبواب التوحيد والعدل - القاضي أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد الهمداني - تحقيق مصطفى السقا ورفاقه - المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر 1385هـ. 214- مفتاح دار السعادة - تأليف الإمام ابن القيم - دار الكتب العلمية - بيروت لبنان. 215- المفردات في غريب القرآن - تأليف أبي القاسم الحسين بن محمد الراغب - دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت، لبنان. 216- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة - تأليف الحافظ السخاوي دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان تعليق عبد الله محمد الصديق ورفيقه - الطبعة الأولى 1399هـ. 217- مقالات الإسلاميين - تأليف الشيخ أبي الحسن الأشعري - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد - مكتبة النهضة المصرية - الطبعة الثانية 1389هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 961 218- الملل والنحل - تأليف أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني - تحقيق محمد سيد كيلاني - شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي 1396هـ. 219- الملل والنحل - تأليف أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني بهامش الفصل. 220- مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - تأليف أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي - تحقيق د. زينب إبراهيم القاروط - دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الثالثة 1407هـ. 221- المنتظم في تاريخ الأمم والمملوك - تأليف ابن الجوزي - مطبعة دائرة المعارف العثمانية - الهند - الطبعة الأولى 1359هـ. 222- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - تحقيق د. محمد رشاد سالم - منشورات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1406هـ. 223- منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير - تأليف فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي - مؤسسة الرسالة - الطبعة الثانية 1403هـ. 224- موارد الظمآن إلى زوائد بن حبان - تأليف الحافظ نور الدين الهيثمي تحقيق ونشر - محمد عبد الرزاق حمزة - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان. 225- المواقف في علم الكلام - القاضي عبد الرحمن بن أحمد الإيجي - عالم الكتب - بيروت. 226- الموسوعة العربية الميسرة - بإشراف محمد شفيق غرباب - دار الشعب ومؤسسة فرانكلين للطباعة صورة عن طبعة 1965م. 227- الموضوعات - تأليف أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي - تقديم عبد الرحمن محمد عثمان - الناشر المكتبة السلفية - المدينة المنورة. 228- ميزان الاعتدال في نقد الرجال - تأليف أبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي - تحقيق علي ابن محمد البجاوي - دار المعرفة - بيروت، لبنان. 229- نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر وجنة المناظر - تأليف الشيخ عبد القادر بن أحمد ابن بدران - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان. 230- نصب الراية لأحاديث الهداية - تأليف العلامة جمال الدين أبي محمد الزيلعي - الناشر المكتبة الإسلامية - الطبعة الثانية 1393هـ. 231- نصرة مذاهب الزيدية - تأليف الصاحب بن عباد - تحقيق د. ناجي حسن. 232- النهاية في غريب الحديث والأثر - تأليف مجد الدين أبي السعادات المبارك الجزري ابن الأثير - الناشر المكتبة الإسلامية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 962 233- النهاية في الفتن والملاحم - تأليف الحافظ عماد الدين بن كثير تصحيح وتعليق الشيخ إسماعيل الأنصاري - مطابع مؤسسة النور الرياض - الطبعة الأولى 1388هـ. 234- نهج البلاغة - مختارات الشريف الرضى، مع الشرح للشيخ محمد عبده - دار الكتاب العربي - سورية. 235- الوافي بالوفيات - صلاح الدين الصفدي - الناشر فرانز شتاير - الطبعة الثانية 1394هـ. 236- الوصول إلى الأصول - تأليف أحمد بن علي بن برهان البغدادي تحقيق د. عبد الحميد علي أبو زنيد - مكتبة المعارف - الرياض - الطبعة الأولى 1404هـ. 237- الوفاء في أحوال المصطفى - تأليف الإمام أبي الفرج بن الجوزي علق عليه محمد زهري النجار - المؤسسة السعيدية - الرياض. 238- يقظة أولى الاعتبار - تأليف صديق حسن خان - تحقيق أحمد حجازي السقا - الناشر دار التراث الإسلامي - الأزهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 963