الكتاب: الأسلوب المؤلف: أحمد الشايب الناشر: مكتبة النهضة المصرية الطبعة: الثانية عشرة 2003 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الأسلوب أحمد الشايب الكتاب: الأسلوب المؤلف: أحمد الشايب الناشر: مكتبة النهضة المصرية الطبعة: الثانية عشرة 2003 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية عشرة: أريد بهذه المقدمة أن أبين في إجمالي هذا المنهج الجديد لعلم البلاغة العربية، وهو منهج أجملته في كتاب "الأسلوب" منذ ظهرت طبعته الأولى في سنة 1939 ودرسته في كليتي الآداب ودار العلوم بجامعة القاهرة. ويقوم هذا المنهج على ملاحظة أن الدراسة النظرية للبلاغة العربية انتهت عند المتقدمين إلى علوم المعاني، والبيان، والبديع، يدرسون في الأول الجملة منفصلة أو متصلة، ويدرسون في الأخيرين الصورة بسيطة أو مركبة من تشبيه ومجاز وكناية وحسن تعليل، مع توابع أخرى في علم البديع، وهذه الدراسات على خطرها لا تستوعب أصول البلاغة كما يجب أن تكون، لتساير الأدب الإنشائي في أساليبه وفنونه. لذلك أشرنا في هذا الكتاب إلى أن علم البلاغة العربية يجب أن يوضع وضعًا جديدًا يلائم ما انتهت إليه الحركة الأدبية في ناحيتيها العلمية والإنشائية. ورأينا أن يدخل علم البلاغة في بابين أو كتابين: الأول: باب الأسلوب أو كتابه ويتناول دراسة: الحروف، والكلمات، والجمل، والصور، والفقرات، والعبارات، على أن تدرس درسًا مفصلًا دقيقًا يعتمد على علم الصوت، والنفس، والموسيقى وما إليها مما يقَوِّم الأسلوب على أنه صورة فنية أدبية، وفي هذا الباب أو الكتاب تدخل موضوعات المعاني والبيان والبديع، لا على أنها علوم مستقلة، بل على أنها فصول في باب الأسلوب يتناول بحوثها كما يتناول غيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 الفهرس : الباب الأول: مقدمات صفحة 9 الفصل الأول: في البلاغة بين العلوم الأدبية اللغة الفصحة والعامية، العامية ليست لغة الأدب الرسمي، الأدب وعناصره، النقد الأدبي والبلاغة والقرق بينهما، تاريخ الأدب ومقوماته، متن اللغة، وفقه اللغة، والصرف، والنحو، والعروض. 19 الفصل الثاني: في التعريف بالبلاغة البلاغة كما عرفها المسلمون والفرنجة، علوم البلاغة العربية وقصورها، البلاغة وعلم النفس، القوى النفسية والفنون الأدبية، معنى مطابقة لمقتضى الحال، الوحدة النفسية والوحدة الأدبية. 26 الفصل الثالث: في علوم البلاغة النحو ومهمته الأولية، المنطق، ووظيفته الأولية، البلاغة تعتمد عليها وتمتاز بالجمال الفني أو المطابقة. 30 الفصل الرابع البلاغة بين العلم والفن الفرق بين العلم والفن، البلاغة علما، البلاغة والفنون العلمية، البلاغة والفنون الجميلة. 35 الفصل الخامس: موضوع علم البلاغة موضوع البلاغة متصل بغايتها، الأسلوب وعلوم البلاغة العربية، الفنون الأدبية، نواحي القصور في دراستنا البلاغة، حاجتنا إلى علم بلاغي جديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الباب الثاني: التعريف بالأسلوب 40 الفصل الأول: في حد الأسلوب المعنى اللغوي، رأى ابن خلدون وتحليله، التعريف الاصطلاحي، تعريف عام: تحصل وتقسيم وتعريف. 47 الفصل الثاني: تكوين الأسلوب الطالب المبتدئ، وتكون أسلوبه. صلته بطلاب الفنون. الكاتب المنتهي وإنشاؤه الأسلوب، ما يلزم الكاتب. 50 الفصل الثالث: عناصر الأسلوب الأسلوب العلمي وعنصراه، الأسلوب الأدبي شعرًا ونثرًا، عناصر الأسلوب الأدبي. الباب الثالث: الأسلوب والموضوع 56 الفصل الأول: الأسلوب العلمي والأدبي تكوين الأسلوب العلمي، خواص الأسلوب الأدبي، الفرق بينهما، شواهد 62 الفصل الثاني: في أسلوب الشعر بين الشعر والنثر، خواص أسلوب الشعر: الوزن، والقافية، والكلمات، والصور، والتراكيب، والعبارات. 73 الفصل الثالث: في اختلاف أساليب الشعر أساس الاختلاف هو اختلاف الانفعالات وطبيعتها، اختلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 أساليب الفن الواحد، شخصية الشاعر وتأثيرها في ذلك، مظاهر هذا الاختلاف، الانفعالات النفسية والفنون الشعرية، أساليب الحماسة، والنسيب، والرثاء والمدح والهجاء والوصف. 93 الفصل الرابع: في اختلاف أساليب النثر النثر العلمي ومقوماته، أساليب المقالة، والتاريخ والسيرة، والمناظرة، والجدل، والتأليف، أساليب النثر الأدبي: الوصف، والرواية، والمقامة، والرسالة، والخطابة. الفصل الرابع: الأسلوب والأديب 121 الفصل الأول: تمهيد الأسلوب هو الموضوع، الأسلوب هو الكاتب، الشخصية والأسلوب، الشخصية الفردية والاجتماعية في الأسلوب. 126 الفصل الثاني: الأسلوب والشخصية التعريف بالشخصية، مظهرها في أساليب القدامى والمحدثين، مقومات الشخصية، وآثارها الأسلوبية، الأصالة والتقليد. 137 الفصل الثالث: دلالة الأسلوب على الشخصية في الشعر، في الخطابة، في الكتابة، في التأليف، شواهد تحليلية للقدامى والمعاصرين. 157 الفصل الرابع: أثر الشخصية في اختلاف الأساليب نواحي هذه الدراسة: في العبارة، في مقدار الملاءمة بين اللفظ والمعنى في الصنعة البديعية، شواهد تحليلية شعرًا ونثرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الباب الخامس: صفات الأسلوب 185 الوضوح، القوة، الجمال 186 الفصل الأول: وضوح الأسلوب معنى الوضوح ومصدره الأول، وضوح الفكرة، وضوح العبارة. 194 الفصل الثاني: قوة الأسلوب معنى القوة ومصدرها الأساسي، قوة التصوير، قوة التركيب. 199 الفصل الثالث: جمال الأسلوب معنى الجمال ومصدره الأصيل، الناحية السلبية، الناحية الإيجابية 202 الفصل الرابع: تداخل الصفات وتعادلها معنى ذلك، صفات الأسلوب وأنغام الموسيقى، الأسلوب المثالي من هذا الوجه، أمثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الباب الأول: مقدمات الفصل الأول: البلاغة بين العلوم الأدبية 1- ليس من غرضنا في هذه الصفحات أن نعرض للقول في أصل اللغة العربية ونشأتها، وبيان الأطوار الأولية التي تعثرت فيها حتى استقامت، وصارت صالحة للتفاهم بين أفراد الأمة العربية، أو قبائلها المختلفة، تفاهمًا شفويا أو كتابيا. كذلك ليس من شأننا هنا أن نبحث فيما طرأ على هذه اللغة الفصحى بعد الإسلام من العوامل التي شوهت فصاحتها، وآذت سلامتها في أكثر الألسنة حتى شاع فيها اللحن، وانحط الأسلوب، وأصبحنا بذلك نرى لغتين: أحدهما لغة فصيحة ممتازة يقصد إليها الخاصة حين يتناولون الشئون الهامة: خطابة أو حوارًا أو مرسالة أو تأليفًا. والثانية: لغة عامية، هي لغة السواد الأعظم من هذه الشعوب المستعربة، ولغة الخاصة حين يرجعون إلى الحياة الاجتماعية العادية بين الناس. أقول: إن ذلك وغيره من أبحاث فقه اللغة وتاريخها، وحسبنا هنا أن نقف حيث نعيش، وعند نهاية هذه الأطوار لننظر في هاتين اللغتين، وماذا عسى أن يصل -أو يفصل- بينها وبين الأدب الرسمي، هذا الذي ندرسه في مراجعه المقررة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ونحمل الطلاب على تأثره أو الانتفاع به، ونزودهم بالوسائل تعينهم على فهمه وتذوقه، وعلى الإنشاء الأدبي الصحيح. 2- اللغة العامية هي لغة الحياة العامة، والتعاون الاجتماعي اللازم لسير الحياة السريعة ونظامها المطرد الشامل، وذلك لسهولتها وشيوعها، ولأنها القدر المشترك بين جميع الطبقات، فالكل يعرفها ويلجأ إليها في حرية ويسر، ولما كانت لغة الشعب ومن صنعه فقد أخضعها لحريته، وأزال عنها القيود العلمية والاصطلاحية وأعانها على أداء مهمتها كما تتطلب الحياة الجارية، فصارت لغة مرنة طيعة قابلة للتطور السريع، لا تنفر من لفظ دخيل، أو تركيب غريب، وإنما تقبله وتشربه روحها فيصقله الاستعمال ويصبح مألوفًا مقبولا، ومن الطبعي إذًا أن تختلف هذه اللغات العامية العربية باختلاف الأقطار والأقاليم وذلك لنفس الأسباب التي اختلفت من أجلها اللغات القديمة حين انفصلت من أصولها الأولى. فأهل مصر لهم عاميتهم، وأهل العراق لهم عاميتهم، وكذلك المغاربة، كما أن لأهل الصعيد لغتهم العامية التي تخالف لغة سكان الشمال، الذين يختلفون هم أيضًا في عاميتهم، باختلاف الأقاليم، ومعنى هذا أن العامية توشك أن تكون هي اللغة القومية لكل قطر من أقطار الشرق العربي، تتأثر بجوه، وطبيعته، ومزاج أهله، وثقافتهم وأخلاقهم، وتعود بذلك سجل حياتهم الصادق وأقدر على تشرب روحهم وتصوير أفكارهم ونزعاتهم، حين عجزت الفصحى أو عجزوا هم عن أن يلبسوها من شخصيتهم ثوبًا قوميًّا طريفًا ممتازًا. لذلك نشأت هذه الدراسات الحديثة التي تعنى بالعامية فتقيد ألفاظها، ونحوها، ولهجاتها، وآدابها نظمًا ونثرًا، إما لأنها طور من أطوار التاريخ اللغوي والأدبي والاجتماعي، وإما لأنها قد تكون أساسا لهذه اللغات الإقليمية التي قد ينتفع بها فيما بعد كما يرى بعض المفكرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ومع ذلك لا تعد العامية لغة رسمية ولا يعد أدبها أدبًا رسميًّا يدرس على أنه مقرر يحتذيه المتعلمون لسببين اثنين: أحدهما: شيوع الخطأ اللفظي والخروج على قوانين النحو والتصريف وعدم التحرج في قبول كل دخيل أو أعجمي من الألفاظ والتراكيب، حتى هجر فيها النحو العربي، وخضعت العبارات لصور أجنبية في تأليف الجمل، وتكوين الأساليب. ثانيهما: ما غلب على معانيها من التفاهة والعرف، فأغلبها أوامر ونواه وأخبار عادية تتصل بالحياة الجارية، وتتكرر كل وقت، وكل يوم مما لا يستحق درسًا أو تقييدًا: والأدب يجمع بين أمرين: 1- صحة اللفظ. 2- وقيمة المعنى أو سموه، حتى يستحق أن يسمع أو يقرأ في كتاب. وليس معنى هذا خلو العامية من الألفاظ الصحيحة أو المعاني القيمة، كلا، فاللغة العامية هي الفصحى طرأت عليها أخطاء، ودخلت عليها تراكيب، لم تستطع أن تمحو صوابها كله، كذلك نجد فيها فنونا أدبية من النثر والنظم -كالجدل والحكم والأمثال والأغاني والمواويل والأزجال- تجعلها معرضا لكثير من المعاني والموضوعات الأدبية القيمة، ولكنها من الأدب الشعبي على أية حال. ولسنا بذلك ننكر قيمة هذا الأدب في جماله وتصويره حياة الشعوب لذلك قامت له دراسات خاصة تقابل دراسات الأدب الفصيح. 3- أما اللغة الفصحى، التي لم تشوه بهذه الأخطاء اللفظية، فهي لغة الأدب الرسمي، يعتمد عليها الكتاب حين يريدون التعبير عن الأفكار أو تصوير الشعور؛ أو تأليف المسائل والآراء العلمية إذا كانت الفن الكلامي الذي يؤدي ما في النفوس من ثرات العقول ونوازع الانفعال والميول، فإذا حاولنا الظفر بمثال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 للأدب بحثنا عنه في المؤلفات المدونة باللغة الصحيحة، مهما يكن نوع هذا الأدب خاصا أو عاما؛ وليكن قول المتنبي: من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم وأن ترد الماء الذي شطره دم ... فتسقى إذا لم يسق من لم يزاحم ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى رمحه غير راحم فلا هو مرحوم إذا ظفروا به ... ولا في الردى الجاري عليهم بآثم فأول ما يلقانا من هذا المثال هو "عاطفة" أو انفعال السخط والعدوان الذي سيطر على نفس الشاعر فأنطقه بهذه الأبيات القوية الثائرة التي حشد فيها الظلم والدم وأنكر الإنصاف والتراحم. وهذه العاطفة نفسها قد سندتها فكرة هي لها كالبرهان المنطقي، فالجهل حتى إذا لم ينفع الحلم، والجهاد الأحمر واجب إذا لم يكن منه بد لتحقيق الرغبات، فالحق للقوة، والناس لا يؤمنون إلا بالرهبة، والويل للضعيف إذا هان. وهنا وقد ظفرنا بعنصرين من عناصر الأدب: العاطفة Emotion والفكرة Thought وبعد هذا نلاحظ أن هذه العاطفة القوية احتاجت في تصويرها هنا إلى عناصر وفنون بيانية من التشبيه، والاستعارة، والكناية، وذلك لعجز اللغة العادية عن تصوير القوة الانفعالية في نفس الشاعر فاحتال وكون من هذه العناصر الحربية لغة فنية هي كفاء ما في نفسه من شعور، فهذه الصور تؤلف عنصرًا ثالثًا هو الخيال Imagination وهو لازم في كثير من الأحيان للتعبير عن العاطفة. وأخيرًا نجد العبارة اللفظية التي قد تسمى الأسلوب Style وهي الوسيلة اللازمة لنقل أو إظهار ما نفس الأديب من تلك العناصر المعنوية فصار الأدب ينحل إلى هذه العناصر الرئيسية الأربعة؛ وهذا التحليل نفسه يتوافر في النثر كما توافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 لاحق، والأدب فن إنشائي إيجابي ينتج هذه القطع الممتازة التي نظفر بها بصدق الشعور وحسن التفكير والتعبير، ولكن النقد فن وصفي سلبي في أصله، يقوم بمحاسبة الأدب المنشئ، وكثيرًا ما يستحيل فنًّا نافعا يرشد الأدباء كما تقوم بذلك البلاغة. وقد زها النقد الأدبي منذ العصر الجاهلي وتواردت عليه فيما بعد جهود النحاة واللغويين والأدباء1، وألفت فيه كتب شتى تجمع مسائل مختلطة بغيرها من مسائل النحو والبلاغة والسير والأنساب. وكان الذوق هو الحكم الأول في ناحيته الفنية وإن حاول بعض المحدثين أن يضعوا له قوانين عامة تشبه القوانين العلمية2. 5- ولقد كان النقد الأدبي من أهم العوامل في إيجاد البلاغة وذلك أن هذه الملاحظات والأحكام النقدية أفادت جماعة العلماء فأحالوها قوانين وأصولا، ودونوها في فصول مختلطة بالنقد حينًا ومنفصلة أخيرًا، حتى كان أساسًا صالحًا لتكوين قواعد بلاغية قامت بوظيفتها فيما مضى وهي الآن آخذة في الاكتمال لعلها تنهض بالواجب عليها من الآن. ومن يقرأ المؤلفين في هذا الباب من عهد الجاحظ المتوفى سنة 355هـ، وابن المعتز 936هـ، وقدامه 310هـ، والعسكري 350هـ، وعبد القاهر الجرجراني 317هـ، والثعالبي 429هـ، وابن رشيق 463هـ، إلى الزمخشري 538هـ، والسكاكي 626هـ. يتراءى له مما قلنا من أن النقد كان عاملا هاما في هذا التقنين البياني: وأن هذين العلمين -أو الفنين- قد عاشا مختلطين لم ينفصلا إلا بعد جهد عنيف: وهذا الاختلاط بين مسائلهما طبعي ما دام موضوعهما واحدًا هو النصوص الأدبية من حيث توافر الجمال والتأثير. فالبلاغة ترشدنا بقواعدها   1 تاريخ النقد الأدبي عند العرب للمرحوم الأستاذ طه إبراهيم. 2 أصول النقد الأدبي للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 بقواعدها إلى الطرق والوسائل التي تجعل كلامنا نافعًا مؤثرًا والنقد يضع لنا المقاييس العامة التي نقدر بها ما في الكلام من فائدة أو قوة أو جمال. ومع ذلك فيمكن الفرق بينهما من وجهين: الأول: إن البلاغة أقرب إلى الناحية الفنية الإيجابية ما دامت قواعدها ترشدنا إلى الإنشاء الصحيح، وإلى الطرق المختلفة لتأليف الكلام الممتاز بالإفادة وقوة التأثير، وإلى نوع الفن الأدبي الذي يكون أوفق من سواه لمقتضى الحال. وأما النقد فإنه يفرض أن الكلام قد تم إنشاؤه، وانتهى منه صاحبه، ثم يعرض علينا مقاييسه العامة التي نقيس بها الكلام لبيان قيمته الفنية والحكم له أو عليه فهو متأخر الوظيفة، يُعنى كما قلنا، بمحاسبة الأديب بعد أن ترشده البلاغة إلى حسن التعبير. الثاني: إن البلاغة تعنى أكثر ما تعنى بالأسلوب. فهي كذلك تفرض أن الكاتب لديه ما يود أن يقوله أو يكتبه من المعاني والأفكار أيا كانت قيمتها أو درجتها، من السمو أو الضعة، ثم ترسم له خطة الأداء قولًا أو كتابة: ولكن النقد يتناول الاثنين: المعاني والأساليب فيسأل عن صحة المعاني وقيمتها، ومقدار آثارها في القراء أو السامعين، ثم يتبين في الأسلوب -ولكن من ناحية عامة- مقدار ما فيه من الوضوح والقوة والجمال. وهنا نلاحظ أن دائرة النقد أوسع، وإن كانت قوانين البلاغة أدق من مقاييس النقد الأدبي كما يمر بك بعد حين1. 6- هذا الأدب الذي أشرنا إليه كثيرًا ما يجاوز الباحثون نقده إلى معارف   1 راجع winehestsr principles of Ligerary Crtieism p16 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ومحاولات عدة تزيد جوانبه إيضاحًا وتعلل كثيرًا من مظاهره الأخرى فتجدهم مثلا يقفون عند الأدب الجاهلي، ويدرسون فنونه المختلفة ويحللون نصوصه إلى عناصرها، ويلاحظون على هذه الفنون والعناصر ملاحظات تتصل بسذاجتها، أو قوتها، أو شدة اتصالها بالبادية أو الحياة الصحراوية الفقيرة المضطربة، ثم يستخلصون من ذلك البحث الشامل العميق أحكامًا عامة تدون في فصول منسقة هي تاريخ الأدب الجاهلي، ومثل ذلك يقال في العصر الأموي والعباسي والعصر الحديث، ترى لكل عصر خواصه الأدبية، والمؤثرات المختلفة -العلمية والفنية والاقتصادية، والسياسية، والدينية، والشخصية- التي أكسبت الأدب هذه الخواص فامتاز بها من سواه وصار عصرًا أدبيًّا مستقلًّا عن سائر العصور، ونتائج هذه الأبحاث هي تاريخ الأدب الذي يمكن تعريفه بأنه بيان المشخصات الأدبية لكل عصر مع شرح أسبابها، ومن هنا نعرف أن تاريخ الأدب ليس قصصًا وأنسابًا ونوادر، وإنما هو نقد وتحليل وتعليل، شأنه شأن التاريخ الطبيعي حين يتناول الكائنات بالتحليل والتفسير والموازنة والاستنباط ليصل عن ذلك إلى أحكام عامة تكون التاريخ، وكذلك الشأن في التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي، كله نقد وتنسيق لا قصص وأساطير وعلى هذا الأساس قام الخلاف حول التاريخ أعلم هو أم أدب؟ فمن نظر إلى المسائل الواقعية التي يتناولها ويدرسها رأى فيه علما له حقائقه ونتائجه؛ ومن نظر إلى تدخل الشخصية ووجهة النظر في تصور الحوادث وتصورها قرر أنه أدب، والحق أنه أدب بالمعنى العام أو علم بالمعنى العام ففيه من كل شيء يقفه هذا الموقف الوسيط: ومما تقدم نستطيع استخلاص النتائج الآتية: الأول: أن الأدب فن خالص، وهو من الفنون الجميلة التي تعتمد على الجمال في التعبير عن عواطف الإنسان وأفكاره، أو عن شخصيته الفنية، ولكن تاريخ الأدب يجمع بين الناحية الفنية التي يلجأ إليها المؤرخ حين يحلل الأدب ويتبين خواصه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 خواصه الجميلة أو غيرها وبين الناحية العلمية التي تعنى بالتعليل والموازنات، واستنباط الأحكام، ولذلك سموا الأول أدبًا إنشائيًّا أو أدبًا بالمعنى الخاص، وسموا الثاني أدبًا وصفيًّا أو أدبًا بالمعنى العام. الثانية: أن النقد الأدبي كما رأيت جزء من تاريخ الأدب، أو هو أداته الرئيسية فعليه يعتمد المؤرخ قبل كل شيء ما دام يتعمق في درس الأدب وتحليله، وبيان خواصه التي يتخذها دارس التاريخ الأدبي موضوعا لعمله الوصفي الشارح، ثم يلجأ إلى المؤثرات الشخصية أو الجغرافية، أو السياسية، أو الدينية التي أكسبت الأدب ميزانه الخاصة. الثالثة: أن علم البلاغة نافع للأديب، والناقد، والمؤرخ، ولكل كاتب، أو متكلم، أو خطيب، أو مدرس، فإنه ينير أمام هؤلاء جميعًا، ويعينهم على أن تكون آثارهم اللغوية مفيدة، مؤثرة، ممتعة، تغذي العقل والشعور والأذواق وإن كان التشريع للأدباء غير مقبول دائمًا الآن. 7- وهناك علوم أدبية أخرى لا بد للأديب من الإلمام بها إلمامًا كافيًا ليقي نفسه شر الأخطاء في التعبير: اللغة، والصرف، والنحو، والعروض ونريد باللغة شيئين: متنها، وفقهها، فمتن اللغة كلماتها، وأمثالها، وحكمها، وعباراتها الاصطلاحية ولتلك معاجمها ومراجعها، ولسنا ندعو إلى حفظ ذلك واستيعابه فهو عسير أو مستحيل على أن تحصيله من قراءة النصوص أنفع لبيان المواقع المناسبة لاستعمال الكلمات والحكم والأمثال ولتفهم معانيها الواضحة الدقيقة مما يحيط بها من العبارات والمناسبات، وفقه اللغة تاريخها وفلسفتها، ومن النافع للأديب أن يعرف كيف نشأت اللغة وانفصلت عن أصلها القديم، وتكونت ببيئتها الخاصة وكيف تأثرت وانتقلت عبارتها من الاستعمال الحقيقي إلى المجازي وما هي وسائل إكثارها وضعًا أو تعريفًا أو توليدًا أو نحتًا فذلك أليق به وأنفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 له وبخاصة إذا كان مؤرخا أو ناقدًا، والصرف يفيد في التصرف في الكلمات تبعًا للمعاني المتباينة كما بقي الأديب الخروج عن الأصول المرعية حين التصرف والتصريف بالجمع والتصغير والنسب والإبدال والتوكيد وبناء المشتقات، وأما النحو فمهمته تصحيح التراكيب والعبارات متخذًا المعاني الجزئية مقياسه لذلك يظهر أثره الواضح في حسن التأليف وسلاسة العبارة والحرص على دقة المعنى ووضوحه، فالنحو لا يقف عند حركات الإعراب بل يشمل موسيقى العبارات ومنطق المعاني، والأذن تتأذى من الأخطاء النحوية. كما يتأذى العقل من التعقيد اللفظي والمعنوي جميعًا والعروض للناظم هو مقياسه الموسيقى والخطأ العروضي كالخطأ النحوي فهذه التفعيلة التي تتكرر في السطر تحفظ وحدته الوزنية ثم تحفظ وحدة البيت حين تتكرر في سطره الثاني، وتكرار الوزن في كل بيت يحفظ للقصيدة وحدتها الموسيقية، كما أن وحدة القافية ضبط لهذه النعمة الأخيرة التي تنتهي بها الأبيات جميعًا، هذا هو الكثير الشائع فإذا تركناه إلى تعدد البحور والقوافي لم نعدم الموسيقى العروضية، وإنما نكون قد ظفرنا منها بتنوع لا يرفضه الذوق على الإطلاق. 8- هذه هي العلوم الأدبية المباشرة أجملنا القول فيها لبيان مكانة البلاغة بينهما، ولهذه الصلات التي تربطها بالأدب ربطًا قويًّا مباشرًا لا يليق بالمتأدب تجاهله، على أن الأدب والأديب لا يكتفيان بما ذكرنا هنا، بل لا بد لكمالها من هذه الثقافة العامة التي قال عنها الأقدمون إنها الأخذ من كل فن بطرق1، وهذه الثقافة تتناول الفلسفة والتاريخ والدين والقانون والفنون الجميلة وغيرهما؛ إذ إن الأدب يختصرها في نصوصه، والأديب يحتاج إليها منشئًا أو ناقدًا أو مؤرخًا كما سبق بيانه وقد عقد ابن الأثير في صدر كتابه المثل السائر فصلًا في آلات علم البيان وأدواته يحسن الرجوع إليه لمن أراد.   1 راجع مقدمة ابن خلدون فصل: علم الأدب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الفصل الثاني: في التعريف بالبلاغة المشهور في كتب البلاغة1 أن البلاغة لغة تنبئ عن الوصول والانتهاء، يقال: بلغ فلان مراده إذا وصل إليه، وبلغ الركب المدينة إذا انتهى إليها، واصطلاحًا: تكون وصفًا للكلام والمتكلم؛ فبلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال، والحال هو الأمر الداعي للمتكلم إلى أن يميز بكلامه بميزة هي مقتضى الحال فإنكار المخاطب للمعنى حال يقضي أن تؤكد له الجملة فتقول: إن محمدًا ناجح، وذلك التأكيد هو مقتضى الحال. وبلاغة المتكلم ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ في أي معنى قصد، والبلاغة هذه تستلزم أمرين: الأول: احتراز الخطأ في تأدية المعنى المقصود خوفا من أن يؤدى بلفظ غير مطابق لمقتضى الحال فلا يكون بليغا. الثاني: تمييز الكلام الفصيح من غيره حتى نضمن سلامة العبارة من الخطأ والتعقيد، فمست الحاجة إلى علمين لتحقق سلامة اللفظ من ناحية، ولملاءمته لمقتضى الحال من ناحية أخرى؛ الأول علم البيان والثاني علم المعاني: وقد يسميان بعلم البلاغة لذلك، ولما كان علم البديع يعرف به وجوه تحسين الكلام جعل تابعًا لهذين العلمين فصارت مباحث البلاغة منحصر في هذه الثلاثة: المعاني والبيان والبديع.   1 راجع شروح التلخيص ج1 ص73 مطبعة السعادة بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 أما هذه التعريف فلا اعتراض لنا عليه في جملته؛ إذ كانت البلاغة في أصح وأحدث معانيها لا تخرج عما أورده هؤلاء الأقدمون من الناحية النظرية الإجمالية يقول الأستاذ Genung: "البلاغة فن تطبيق الكلام المناسب للموضوع وللحالة على حاجة القارئ أو السامع"1 فتجد أن الحدود واحدة في جوهرها وإن لوحظ في الأخير هذه الناحية العلمية في صراحة واضحة، ولكن المسألة هي: كيف فهم علماء البلاغة عندنا معنى المطابقة أولًا؟ وما الوسائل التي اعتمدوا عليها في دروس البلاغة لتحقيق هذه المطابقة ثانيا؟ وما هذه العلوم البلاغية ثالثا؟ إذا وقفنا عند هذه المسائل التي انتهت إليها أبحاثهم رأيناهم يذكرون أن خطاب الذكي يخالف خطاب الغبي، وخطاب الموقن غير خطاب المتردد، وعلى هذا الأساس غالبا، تقوم المطابقة لتغذية قوة الإدراك ووسيلة ذلك التصرف في الجملة وعناصرها، خبرًا وإنشاءً، فصلًا ووصلًا، تعريفًا وتنكيرًا، ذكرًا وحذفًا ثم الاختلاف بين التشبيه والمجاز والكتابة مما لا يتجاوز كله دراسة الجملة والصورة دراسة قاصرة، ومعنى ذلك أمور ثلاثة: 1- غاية البلاغة فيما يبدو من هذه الدراسة العلمية يغلب عليها الاتجاه إلى القوة الفكرية وإقناع العقل إقناعًا جزئيًّا قائمًا على ذكائه أو بلادته وعلى شكله أو إنكاره. 2- ووسيلة ذلك الصورة -التي تختصر علم البيان وقسما من البديع- والجملة الخبرية والإنشائية، وقد دُرستا في علم المعاني من بعض النواحي لا غيره.   1 راجع Genung The Working principles of Rhetoric. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 3- وعلم المعاني هو الكفيل بدراسةالجملة عندهمه، كما أن البيان يدرس الصورة تشبيهًا ومجازًا وكناية، وأما البديع فقد عدوه شيئًا ثانويًّا لا دخل له في صميم البلاغة لأنه قائم على دراسة طرق التحسين الذي يلحق بالكلام، كالسجع، والجناس، والمقابلة، وأسلوب الحكيم، والتقسيم وما إلى ذلك مما يعرف بالمحسنات اللفظية والمعنوية. أما عن غاية البلاغة فليس المراد من الكلام وقفًا على تغذية الفكر وحده فهناك قوي نفسية أخرى تعني بالبلاغة بها لتغذيتها وتهذبها، من ذلك قوة الانفعال وقوة الإرادة. ولا نقول إن الأدب العربي قصر في ذلك، وإنما نقول إن الدراسة النظرية فيما انتهت إليه هي التي ضاقت عن العناية بهذه المواهب النفسية كما يتضح ذلك مما يلي: وأما عن الوسيلة فلم تكن اللغة العربية محصورة في الصورة الجملة وحدها فهناك الحرف والكلمة والعبارة والأسلوب عامة، وهناك هذه الفنون الأدبية المختلفة شعرًا ونثرًا كالخطابة، والرسالة، والوصف، والجدل، وغيرها مما أهملته هذه الدراسة -أو العلوم البلاغية- في اللغة حسبما انتهى إليه وضعها الأخير. لنفهم المطابقة لمقتضى الحال فهمًا عميقًا شاملًا يجب أن نقيمه -من حيث الغاية والوسيلة- على طبيعة النفس الإنسانية ومواهبها من ناحية، وعلى الأدب: أسلوبه وفنونه المختلفة من ناحية أخرى. علم النفس ينفعنا هنا، ويعاون مع النقد الأدبي والبلاغة في تفسير مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وفي بيان موضوع دراسة البلاغة بيانًا مفصلًا منظمًا، فكيف نوضح ذلك.   1 المرجع السابق 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 1- هناك أولا قوة الإدراك The power of intellect تلك القوة التي بها يعرف الإنسان ويفكر ويعلل ويستنبط، وهذه القوة تحتاج في ثقافتها والتأثير فيها إلى الحقائق الصحيحة المعقولة بالبراهين الصادقة، ومعنى المطابقة بالنسبة لهذه القوة تمكين القراء والسامعين من إدراك المعاني وفهمها والاقتناع بها وهي القوة التي تغلب على رجال العلم، والفلسفة والسياسة، ويشتد سلطانها أيام الاستقرار وفي البيئات الخصبة الغنية. وأما الكلام الذي يلائم هذه القوة فهو النثر العلمي أو الأدب بالمعنى العام، كالتاريخ والنقد والعلوم والفلسفة: من كل ما يزود بالحقائق الحيوية النافعة. 2- قوة الانفعال "العاطفة" The power of emotion: وبها يشعر الإنسان ويتخيل، وهي الظاهرة التي تتحكم كثيرًا في حياة الشبان والفنيين والنساء وتوقظها البيئات الجميلة والمواقف العنيفة، والحوادث القوية وأيام الثورات، والكلام الذي يتجه إلى العاطفة يجب ألا يقف عند إفهام الحقائق، بل لا بد من إيقاظ الشعور وبعث الخيال وذلك هو الشعر والنثر الأدبي الممتاز، كالقطع الوصفية، والرسائل الشاكية أو الغزلية والقصص القيمة، والروايات المؤثرة، مما يسود فيه عنصر العاطفة. 3- ثالثًا قوة الإرادة The power will: وهي القوة العملية التي يعتمد عليها الإنسان في تنفيذ ما يعتقد، وفي الاتصال العملي بالحياة والكلام الذي يلائم هذه القوة يجب أن يجمع بين أمرين: الإفهام والتأثير، عن طريقي الإدراك والوجدان، وبذلك يدفع الإنسان إلى العمل ويؤثر في سلوكه وأخلاقه، وهي كما تعلم موهبة الجند والقواد، ورجال المغامرات، وذوي المذاهب والآراء الحديثة، وأكثر ما تلزم أيام المحن والانقلاب. والخطابة هي الفن الكلامي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الذي يعد أنسب الفنون لقوة الإرادة، ولذلك تعد فنًّا عمليًّا، وهي تجمع بين قوتي الإقناع والتأثير الذين يدفعان الإرادة إلى العمل الحاسم. وهنا نرى أن معنى المطابقة البلاغية قد اتسع فتناول مظاهر النفس الإنسانية ومواهبها المختلفة، كما اشتمل على الفنون الأدبية جميعًا، ولاحظ فوق ذلك الزمان، والمكان، والنوع الذي نتحدث إليه، وإذا تقدمنا قليلا فلاحظنا الفرد ومواهبه الخاصة، والأساليب وعناصرها التفصيلية، وأنواعها المتعددة تراءى لنا هذا المدى الواسع الذي تنبسط فيه الناحية التطبيقية لفن البلاغة، وأدركنا إدراكًا صحيحًا، ما قيل إن المتكلم مع المخاطب كالطبيب مع المريض يجب أن يفحصه فحصًا دقيقًا، وأن يفرض له من الدواء -أو الكلام- ما يلائمه وإلا أضر به، ونقول إن البليغ مع المخاطبين كالقائد أمام الحصن يجب أن يهاجمه من حيث ينتظر الظفر، وبالسلاح الذي به يفوز. وإتمامًا لهذه المسألة نقول: من المقرر الثابت في علم النفس أن هذه القوى المعنوية ليست منفصلة إحداها عن الباقي في الطبيعة النفسية، بل هي خاضعة لنظرية الوحدة الروحية؛ فهي مظاهر تتوارد على نفس الإنسان حسب الدواعي والمؤثرات، فالإنسان مرة يفكر بنفسه، وأخرى منفعل بها، وثالثة مريد معتزم والنفس هي هي، إلا أنها تلبس لكل حال ثوبًا يناسبها، وهي مع ذلك متواصلة متعاونة، فالفكر يشد أزر العاطفة، وهي توقظه، وهما يبعثان الإرادة، ويندر أن توجد فكرة لا تثير عاطفة ولا تحرك إرادة، ومثل ذلك يقال عن الفنون الأدبية التي تغذي هذه المواهب النفسية، وهذا بيان ما تريد: 1- فليست هذه الفنون متضادة بحيث لا يلتقي فن بالآخر ولا يصل إليه بسبب، كلا، فكل فن منهما يتصل بالباقي أشد الاتصال؛ إذ تتألف من عناصر واحدة هي اللفظ والمعنى الذي ينحل إلى العاطفة والخيال والفكرة، وإن كانت تتفاوت في مقدار ما يحويه كل منهما من هذه العناصر تفاوتًا يقوم على طبيعتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وغايتها، على أنها جميعا تصدر عن الإنسان وترمي إلى تهذيبه كذلك، وقد رأيت أنها جميعًا تندرج تحت هذا المعنى العام لكلمة الأدب. 2- كذلك لا تتعارض هذه الفنون من حيث صلتها بقوى النفس الإنسانية فالخطابة مثلا تغذي الفكر والعاطفة وإن كانت تتجه إلى الإرادة اتجاها أساسيًّا مقصودًا لذاته، فهي تستخدم هاتين القوتين لتنفذ خلالهما إلى الإرادة لتبعثها وتحمل صاحبها على العلم، كذلك الشعر يؤثر في الفكر والإرادة مباشرًا وغير مباشر، لما فيه من الحقائق والعواطف، وبخاصة إذا كان شعرًا خطابيًّا تهذيبيًّا، والنثر العلمي يتجه بحقائقه مباشرة إلى الفكر، ولكن الحقائق عماد العاطفة وسبب قوتها وصدقها، وهي كذلك أساس العقيدة التي تتكئ عليها الإرادة ونتيجة ذلك أن أي هذه الفنون يؤثر في قوى النفس جميعا وإن تفاوتت الآثار بتغير الفنون فهي متعاونة متواصلة شأن القوى النفسية ذاتها. 3- ويقال نحو ذلك بالنسبة لطبقات الناس وبيئاتهم، فكما أن هذه الطبقات الإنسانية -مهما تختلف مواهبها في الدرجة- ذات وحدة روحية أو نفسية عامة، وبينها قدر مشترك منها مهما تتباين بها الأزمنة والأمكنة، كذلك الفنون الأدبية، يجد كل نوع بل كل فرد في أي نوع منها ناحية تغذي نفسه وتؤثر فيه، فالناس جميعا لهم عقول، وعواطف، وعزائم، والفنون فيها ما يفيد المرأة ويثير الرجل، وفيها ما ينفع الشاب ويهيج الفيلسوف، وفيها ما يشجي الجنيد ويستفز الحليم، إذا كان الأدب صادرًا عن الإنسان ومتجهًا إلى الإنسان. 4- وسنرى في غضون هذا البحث أن صفة القوة ألزم للأسلوب الحضاري، والوضوح أظهر في الأسلوب العلمي، والجمال أخص صفات الأسلوب الأدبي، فليس معنى ذلك أن الخطابة تستغني عن الوضوح أو الجمال وإلا فلن تفهم، ولن يحتملها الناس، فتفقد إقناعها وتأثيرها، وبذلك لا تتحقق غايتها العملية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ولا يمكن أن ينكر الأسلوب العلمي القوة والجمال، فرارًا من الثقل والجفأ فلا يقبل عليه القراء ولا يفيدون منه شيئا، ولن يكتفي الشعر مثلا بجمال الأسلوب دون الوضوح والقوة، وإلا فقد ميزته الأدبية التي هي أداء المعاني العقلية، وميزته الفنية الهامة التي هي إثارة العواطف في نفوس القراء، فلا بد إذًا من توافر هذه الصفات في كل أسلوب وإن كان يجبهك منها أوضحها في الفن الذي تدرسه. 5- وخلاصة هذا الفصل أن هناك وحدتين: وحدة نفسية، ووحدة أدبية والأولى تتوافر في طبيعة النفس الإنسانية وتتراءى لنا مظاهر شتى تتعاقب عليها فكرًا أو عاطفة أو إرادة، وأي قوة في إحداها تفيد سائرها ما دام الإنسان حريصًا على حفظ التوازن بينها، والثانية تظهر في طبيعة الكلام وصدوره عن نفس البليغ واشتماله على تلك العناصر الأدبية التي هي في الأصل عناصر نفسية صالحة لتثقيف الإنسان وتهذيبه من أي طبقة كان، وفي أي بيئة من البيئات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الفصل الثالث: في علوم البلاغة رأينا في الفصل الأول أن البلاغة -في ناحيتها النظرية- علم من العلوم الأدبية، وهنا نذكر أنها -في ناحيتها الفنية- في حاجة إلى علوم أخرى تعد وسائل لها، ويجب أن تقوم كل منها بواجب أولى في الإنشاء البليغ ثم يتقدم الفن البلاغي بعد ذلك ليتم ما عليه من حسن التعبير ومطابقته لمقتضى الحال، وأهم هذه العلوم البلاغية أنثان: هما النحو والمنطق. 1- فالنحو -ومنه الصرف- يرشدنا إلى بناء الكلمات اللغوية وتصريفها وبيان علاقاتها معًا في الجمل والعبارات، ثم يعيننا كذلك في تكوين التراكيب الصحيحة، والفِقَر المترابطة الأجزاء، وبذلك تنتهي مهمته ما دام قد حقق لنا صحة العبارة في ذاتها بصرف النظر عن صلتها بالقراء أو السامعين، وعلى الفن البلاغي بعد ذلك أن يتصرف العبارة -مع بقاء صحتها- تصرفًا يجعلها سلسة، قوية التأثير، بعيدة عن التنافر سهلة قريبة الفهم، فقد تكون العبارة صحيحة التكوين النحوي ولكنها مع ذلك سقيمة التراكيب صعبة الفهم، لا ترضي الذوق، وإذًا فلا يمكن أن تسمى بليغة لأن البلاغة تستلزم أمرين: هذا الصواب النحوي الذي أشرنا إليه، ثم الجمال والملائمة لأذواق المخاطبين وعقولهم من أمثلة ذلك قول المتنبي: وشيخٌ في الشباب وليس شيخًا ... يُسَمَّى كلُّ من بَلغَ المشيبا لكثرة الاضطراب في تكوين العبارة حتى صارت بطيئة الفهم، وترتيبها الطبيعي هكذا: "هو شيخ في الشباب، وليس كل من بلغ المشيب يسمى شيخًا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فهذه الصحة النحوية، والمطابقة لقواعد لإعراب لا تكفي لتحقيق البلاغة ما دام التقديم والتأخير قد مزق أوصال العبارة كما رأيت، وكذلك قول ابن المقفع: "ليعلم إخوانك والعامة أنك إن استطعت أن تكون إلى أن تفعل ما لا تقول أقرب منك إلى أن تقول ما لا تفعل فعلت"، وهذا الذي ذكرناه هنا هو ما ألم به الأستاذ عبد القاهر الجرجاني في معرض القول في نظم الكلام وتأليفه حيث يقول1: "فإن قلت: أفليس هو كلامًا قد اطرد على الصواب، وسلم من العيب؟ أفما يكون في كثرة الصواب فضيلة؟ قيل: أَمّا والصواب كما ترى فلا؛ لأنا لسنا في ذكر تقويم اللسان، والتحرز من اللحن، وزيغ الإعراب فنعتد بمثل هذا الصواب وإنما نحن في أمور تدرك بالفكر اللطيفة، ودقائق يوصل إليها بثاقب الفهم فليس درك صواب دركا فيما نحن فيه حتى يشرف موضعه، ويصعب الوصول إليه، وكذلك لا يكون ترك خطأ تركا حتى يُحتاج في التحفظ منه إلى لطف نظر، وفضلِ روية، وقوة ذهن، وشدة تيقظ، وهذا باب ينبغي أن تراعيه وأن تعُنى به، حتى إذا وازنت بين كلام وكلام دريت كيف تصنع، فضممت إلى كل شكل شكله، وقابلته بما هو نظير له وميزت ما الصنعة منه في لفظه مما هي منه في نظمه، ثم ذكر مثالا لحسن التأليف قول الشاعر: سَالتْ عليِه شِعاب الحيّ حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير "فإنك ترى هذه الاستعارة على لطفها وغرابتها، وإنما تم لها هذا الحسن وانتهى إلى حيث انتهى، بما توخى في وضع الكلام من التقديم والتأخير، وتجدها قد ملحت ولطفت بمعاونة ذلك، ومؤازرته لها، وإن شككت فاعمد إلى الجارين والظرف، فأزل كلا منهما عن مكانه الذي وضعه الشاعر فيه   1 ص77 دلائل الإعجاز. ويلاحظ أن نظم الكلام يقابل الأسلوب ولكننا آثرنا الثانية لخفتها وشيوعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فقل: سَالت شعاب الحي بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره، ثم انظر كيف يكون الحال وكيف تعدم أريحيتك التي كانت وكيف تذهب النشوة التي كنت تجدها؟ "1. 2- وأما المنطق فإنه يعلمنا طرق التفكير الصحيح، ويشرح لنا خواص الفكرة الصحيحة في ذاتها، لا يعنيه بعد ذلك أكانت مفهومه للناس أم لا، استطاعوا أن يدركوا الفكرة واضحة قوية رائعة أم سطحية فاترة فعلى البلاغة بعد تسلم هذه الأفكار الصحيحة أن تقوم بجهد فنِّي خطير فتبسط الأفكار، وتحسن ترتيبها، وعرضها، وأداءها بعبارة واضحة جميلة، وتلائم بينها وبين من كتبت لهم، وبذلك تتحقق البلاغة من هذه الجهة المعنوية أيضًا، وهنا نقول كما قلنا قبلا: إن الأفكار قد تكون صحيحة في ذاتها، مسلمة المقدمات والبراهين، وهي مع ذلك أبعد ما تكون عن البلاغة وحسن البيان؛ لأنها ليست في مستوى القراء، غربية عن بيئتها الزمانية أو المكانية، تعوزها الروعة والقوة أو العبارة المناسبة لها، ومن هنا عيب التحدث إلى العامة بأفكار الخاصة كما أن عكس ذلك عيب أيضًا. مهمة البلاغة إذًا الحرص على صحة الأفكار والمعلومات، ثم عرضها عرضا واضحًا قويًّا ملائمًا للمخاطبين، ومن كلام بشر بن المعتمر2 "ومن أراد معنى كريما، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما أو يهجنهما، وعما تعود من أجله أن كون أسوأ حالًا منك قبل أن تلتمس إظهارهما وترتهن نفسك بملابستهما، وقضاء حقهما، وكن في ثلاث منازل، فإن أوى الثلاث أن يكون لفظك رشيقا عذاب، وفخما   1 المرجع السابق ص78. 2 البيان والتبيين للجاحظ ج1 ص105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا وقريبًا معروفًا، إمَّا عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإمَّا عند العامة إن كنت للعامة أردت. والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة وكذلك ليس يتضح بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال، وكذلك اللفظ العامي والخاصي فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك ولطف مداخلك واقتدارك على نفسك على أن تفهم العامة معاني الخاصة وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء ولا تجفو عن الأكفاء فأنت البليغ التام". وخلاصة هذا الفصل أن هنا مسألتيين يجب أن تتوافرا في الكلام البليغ هما الصحة والمناسبة. فالأولى من وحي المنطق والنحو، والثانية هي الميزة التي يختص بها الفن الجميل. وهنا ننتبه إلى هذا الفرق بين علوم البلاغة كما وردت في كتب البلاغة العربية وبين علوم البلاغة كما ذُكرت هنا، فليست الأولى إلا فصولا في باب الأسلوب حسب منهجنا الحديث، وإنّ كُلًّا من النحو والمنطق علم مستقل لا يدخل في صميم البلاغة ولكنه يمهد لها، ويسبقها إلى تحقيق الصحة في العبارة والفكرة، وبعد ذلك تتقدم البلاغة لتوفير المناسبة أو المطابقة التي هي وظيفة الفن البلاغي الأصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الفصل الرابع: البلاغة بين العلم والفن حينما يدرس الطالب قواعد البلاغة ومسائلها دراسة نظرية منظمة، يقال: إنه يدرس علم البلاغة، كما يدرس مواضع الفصل والوصل، وقوانين التشبيه والمجاز، وأصول الخطابة والرواية والوصف، فإذا ما أخذ يطبق هذه القواعد تطبيقًا عمليًّا بإنشاء الكلام البليغ، قيل: إنه يعالج فن البلاغة؛ كأن يرتجل الخطابة، أو يكتب القصة، ويبدع الوصف: فالعلم هو المعارف الإنسانية في أسلوب منسق، والفن هو هذه المعارف في شكل عملي تطبيقي، والفن نوعان: نافع كالصناعات التي يكون عمل الجسم فيها أظهر من عمل الذوق، وفن جميل، وفيه يكون أثر الذوق، ومظهره أشد من أثر الجسم كالموسيقى والأدب والرسم والتصوير؛ فهذه كلها لغات حسية جميلة تعبر عن عاطفة الإنسان وشخصيته الفنية تعبيرًا جميلًا بوسائلها المختلفة، كألحان الموسيقى، وعبارات الأدب، وألوان الرسم، وأدات التصوير، وهو عمل الصور -أي التماثيل- وهناك كلام كثير في الفروق بين العلم والفن ليس هنا موضع الخوض فيه1. وإنما نذكر في هذا الفصل صلة البلاغة بكل من العلم والفن مع الإشارة إلى فوائدها في كل ناحية من هذه النواحي متوخين الإيجاز ما دام كافيًا. 1- وقد أسبقنا القول في أن البلاغة علم أدبي، وكنا نلاحظ هناك نسبتها إلى الأدب بمعناه الخاص غالبًا، أي هذه النصوص الممتازة من الشعر والنثر، وقرناها   1 راجع للمؤلف: أصول النقد الأدبي ص65 طبعة ثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 بالنقد الأدبي؛ فكلاهما نافع في إرشاد الكتاب والشعراء إلى خير المثل التي تهب لآثارهم الفنية خاصتي الإفادة والتأثير، ونستطيع هنا أن ننسبها إلى الأدب بمعناه العام فتدخل دائرة العلوم التي تبحث في علاقة الإنسان بالزمان والمكان، وعلاقة أفراده وجماعاته بعضهم ببعض كالتاريخ، والجغرافيا، والقانون، والاجتماع، والأخلاق. وليس من شك في أن البلاغة تبحث في هذه الصلات وتقيم عليها مسألتها الرئيسية وهي كيفية مطابقة الكلام لمقتضى الحال كما اتضح ذلك في الفصل الثاني من هذه المقدمات، فأصول الخطابة قائمة على العلاقة بين الخطيب والسامعين، وبينه وبين البيئة الزمانية والسياسية والاجتماعية التي نعيش فيها، وكذلك الكاتب والشاعر والراوي وكل صاحب قلم أو لسان. ولكن ما فائدة هذه الدراسة النظرية؟ ألا يستطيع الإنسان أن يكون بليغًا دون أن يدرس قواعد البلاغة؟ مثل ذلك قيل لعلماء المنطق لما وضعوا للناس طرق التفكير الصحيح، وليس من ينكر على بعض الناس صحة التفكير وحسن التعبير دون الرجوع إلى قواعد المنطق وعلم البلاغة، وقد أجاب المناطقة بأن علمهم من الوسائل للتربية العقلية والمرانة على طرق البحث العلمي الصحيح على أن الإنسان يمكنه الاستغناء عن المنطق ما دام تفكيره صوابًا، ولكن من يستطيع أن يضمن لنفسه أو لغيره اطراد الصواب وعدم التورط في الأخطاء، ولا سيما في المسائل الملتوية العويصة؟ ومثل ذلك يقال عن النحو والعروض وعلم الصحة1. ولما وجه هذا السؤال إلى رجال البلاغة، قالوا: إننا نعترف بأن هناك من ذوي المواهب البيانية، والاستعداد الفطري لإنشاء الأدب الجميل، ولكن هؤلاء   1 أصول علم النفس للأستاذ قنديل ج1 ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أنفسهم معرضون للوقوع في أخطاء شتى حين يتناولون فنون الخطابة والرواية والقصة؛ إذ لا يعقل أن يستوعب الإنسان بفطرته تجارب العلماء والفنيين والنقاد. فهذه الدراسة العلمية تختصر وقت الطالب وتوفر عليه كثيرًا من التجارب الواسعة وهي ضمان يقي الأديب الزيغ الذي لم ينتبه له، ويهديه إلى أقوم الطرق البيانية، ويرسم له المثل الصالحة للأداء فيفيد الأدباء من ذلك أجل الفوائد وأغزرها ويضيفون إلى عمرهم الحالي أعمار السابقين من العلماء والأدباء، أما غير الموهوبين فلم ييأسوا لأن هذه الدراسة النظرية تصقل مواهبهم الأولية فتعلمهم طرق القراءة والفهم والنقد وتظهرهم على نوح في الأدب مستورة وتجعل قراءتهم عميقة نافعة، هذا من الناحية الأولى، ومن جهة ثانية يكتسبون ذوقًا مهذبًا يجعل أحاديثهم وأحكامهم وكتاباتهم أقرب إلى المعقول، وأوفق للذوق الجميل، ومن هنا نجد مسائل البلاغة شديدة الصلة بأصول النقد الأدبي من حيث الإرشاد والإفادة حتى تسمى أحيانًا البلاغة النقدية Critical rhetoric. ب- وإذا ذكر الفن العمل أو النافع فلا تعدم البلاغة ما يصل بينها وبينه، ويبدو ذلك في ناحيتين: الأولى: من حيث طبيعتهما، فالبلاغة تحوي هذه الناحية التطبيقية التي تبدو واضحة الملائمة بين الكلام وبين حاجة القارئ أو السامع في هذه الأحوال المتباينة؛ فالخطابة لها مواقفها ورجالها وأساليبها، والكتابة تحسن حيث لا يحسن الشعر والحوار يجود حين لا تنفع المحاضرة بشيء، حتى حركات الخطيب والممثل كثيرًا ما تكون جزءًا من التعبير البلاغي. الثانية: من حيث غايتهما، فإذا كانت غاية الصناعات النفع المادي وكسب المال، فذلك يمكن توافره في الفن البلاغي كما في الصحافة العادية، والتقارير الاقتصادية، والكتب العلمية التي ترمي إلى غاية نفعية مادية كالزراعة والصناعة، وناحية أخرى حين يتخذ الأدب نفسه وسيلة استجداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وكسب، وفي ذلك زراية به، ونقل له من ميدان الفن الجميل إلى دائرة الحرف والصناعات. ج- والبلاغة بعد ذلك أشد ما تكون صلة بالفن الجميل؛ لأنها في الحقيقة أحد هذه الفنون كالرسم، والتصوير، والموسيقى، والنقش، ونستطيع هنا أن نذكر بعض نقاط المشابهة بين البلاغة وبين سائر هذه الفنون1: 1- القدرة على التعبير الجميل هبة طبعية، كحاسة السمع للموسيقى، والبصر للألوان والتناسب بينها، وهذه القدرة متفاوتة الدرجات بين الناس وفي الأحوال المختلفة، فقد تكون مرهفة يقظى تدرك الفصاحة، ومواطن الجمال بداهة كما تحسن ارتجال القول المؤثر الجميل، وقد تكون فاترة هادئة، فهي محتاجة إلى ما يوقظها ويشحذها من قراءة عميقة أو استماع إلى نصوص جميلة، ولكنها على أية حال كافية للإنشاء العادي والكتابة العلمية الواضحة، وهذه الموهبة الطبعية هي السر الأول في النبوغ البياني والعبقرية، وقد أسبقنا أن ذوي الملكات الفنية أقدر الناس على الابتكار، وأصدقهم حكما على الآثار الكتابية، وأكثرهم انتفاعا بالدراسات النظرية. 2- طالب البلاغة كغيره من طلاب الفنون الأخرى، لا يكتفي بهذه الموهبة الطبعية بل يحاول دائمًا صقلها، وتهذيبها، وترقيتها لتقوى، ويطرد نموها لتجاوز الدرجة الوسطى إلى مستوى النبوغ والابتكار، وهنا نرى طرافة الأساليب وجدتها، وفرضها على الأدب والأدباء -فعل ذلك الجاحظ قديمًا، ويحاوله كثير من المعاصرين والمحدثين- ولولا ذلك لعاش الناس في درجة ابتدائية ووقفت حركة التجديد.   1 راجع صحيفة دار العلوم عدد 2 من السنة الثالثة للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 3- الأسلوب البلاغي -كالأسلوب الموسيقي والتصويري- معرض لأخطاء يقع فيها الطالب ويجب التنبه لها والحرص منها بإخلاص شديد، منها التهاون الذي يدفع بالأديب إلى التعابير المحفوظة والتراكيب المبتذلة دون التفكير في معانيها ومقدار ملاءمتها للغرض المقصود، وهذا هو التقليد الأعمى والكسل الضار، ومنها الثقة العمياء بالنفس والاعتداء بالمهارة الشخصية وعدم الصبر على المرانة اللازمة لتقويم الأساليب يظهر عند من تسهل عليهم الكتابة وتكون طبائعهم فياضة، فيظنون -خطأ- أن استعدادهم كفيل بالنجاح. ومنها الشغف بالمحسنات البديعية وتكلف الإغراب والمبالغة، ومعنى هذا أن الكاتب يعنى بالثوب الذي يلبس المعنى أكثر من عنايته بالمعنى ذاته؛ فيصبح الأدب أشبه بالحرف اليدوية يعمل لذات الألفاظ، مع أن الفن البلاغي لم يوجد إلا لنشر الأفكار وخدمة المعاني التي يجب أن تستقر في نفوس الآخرين، وقد وجد في تاريخ الأدب العربي جماعة من الكتاب جعلوا همهم الصناعة اللفظية وغلبوا جانب الألفاظ على ناحية المعاني والموضوعات، ستجد أمثلة منهم فيما يرد عليك في دراسة الأساليب. 4- هناك فكرة شائعة بين الفنيين كثيرًا ما يتشبث بها طلاب البلاغة، هي أن تقييد الفن ورجاله بالقوانين الموضوعة يطغى على حرية الطالب ويحد من كفايته -وقد يكبت نبوغه المرجو- على أن هذه الأساليب التي تتراءى أول ظهورها شاذة غريبة كثيرًا ما تصبح بعد حين مألوفة مقررة أو مستحبة متبعة، فإذا خرجنا البلاغة على النظرية ألغينا جهود السابقين وعرضنا الناشئ لتجارب خطيرة قد تضره، وخير للطالب أن ينتفع بآراء السابقين لتكون له نقطة ابتداء وإرشاد، وله بعد ذلك أن يبتكر ما شاء في ظل هذه الآثار وعلى هدى من أصول البلاغة حتى لا يصاب بالشطط، وعن هذا الأساس تجد المعاهد العلمية تأخذ الطالب بدراسة الأدب القديم والحديث معًا لعلها تعرض عليه بذلك ما يختار منه خير مساعد له على الإفادة والنبوغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 5- وإذا لاحظنا النصوص البيانية من ناحية عناصرها التي ألممنا بها في الفصل الأول من ناحية غايتها التي هي غاية الأدب التعليمية والتهذيبية ومن ناحية صلتها بالموسيقى الأدبية، رأينا البلاغة تسيطر على ميزات الفنون الجميلة الأخرى وتمتاز بهذا الإفصاح الواضح. هذا وقد درسنا هذا الموضوع دراسة مفصلة في كتابنا "أصول النقد الأدبي" -الفصل الخامس من الباب الأول- فيحسن الرجوع إليه لزيادة الإيضاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الفصل الخامس: موضوع علم البلاغة رأينا أن البلاغة العربية انتهت في أبحاثها إلى علمين أساسيين: المعاني، والبيان، وجعلت البديع ملحقًا بهما، كما لاحظنا أن مباحث هذه العلوم لا تخرج في جملتها عن دراسة الجملة والصورة لتغذية قوة الإدراك النفسية، وسنرى هنا -كما بينا من قبل- أن موضوع البلاغة أعم من ذلك وأشمل وأنه لا حاجة بنا مطلقًا إلى هذه الأسماء العلمية: كالمعاني، والبيان، البديع، التي تطلق على نقط جزئية لا تستوجب هذه العنوانات. يعرف موضوع البلاغة بالرجوع إلى أهم خواصها، وهي مطابقة الكلام لمقتضى الحال1، فأبحاث علم البلاغة تدور حول هذه المسألة وبيان ما يناسب وما لا يناسب؛ لأن ما يحسن في خطاب جماعة أو في حال ما، قد لا يحسن مع جماعة أو في حال أخرى، وما قد يصلح لغرض علمي من الأساليب لا يصلح لغرض أدبي، فالمسألة هي بيان الأنسب، لذلك يعترضنا دائما هذان السؤالان: ماذا نقول؟ وكيف نقول؟ والإجابة عن السؤال الأول تتناول القواعد الخاصة بمادة الكلام البليغ من حيث موضوعاته وأفكاره، وعواطفه وأخيلته، كما أن الإجابة عن السؤال الثاني تقوم على طريقة التعبير عن هذه المادة أدائها. ويجب أن نلاحظ أن قوانين التعبير تشمل المادة أو تمسها، إذا كانت المادة مقياس العبارة وسبب تنوعها فالأسلوب يختلف خطابة عنه مراسلة، والعبارة   1 راجع 8 Cenung p. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الاستفهامية تخالف الإخبارية، وكذلك دراسة المادة لا تخلو من القول في التعبير، فالمادة لا تدرس على أنها شيء منفصل مستقل، وإنما يراعى أنسبها، وصلته باللغة التي تؤديه تقريرًا كانت أو حوارًا، ومن الناحية النقدية لا أستطيع وصف الكلام بالوضوح أو الجمال إلا إذا نظرت إلى معانيه فهي مقياس هذه الأوصاف كما يمر بك في الكلام على صفات الأسلوب. ومعنى هذا أن ناحيتي الدراسة البلاغية تلتقيان كما رأيت، وقد تفترقان افتراقًا جزئيًّا حين نتأخر إلى الوراء لننظر في مسألة الصحة وحدها، أي حين نبحث في صواب الفكرة في ذاتها، أو في سلامة التركيب نحويًّا لكن الدرس البلاغي لا يرى فصلهما بحال. ومهما يكن من الأمر فإن الدراسة العلمية تبيح لنا أن نتناول كل جانب ونخصه بدراسة عالية فية، وبذلك ينحصر موضوع البلاغة في بابين أو كتابين: الأسلوب، والفنون الأدبية. 1- الأسلوب Style وفي هذا القسم من علم البلاغة ندرس القواعد التي إذا اتبعت كان التعبير بليغًا أي واضحًا مؤثرًا، فندرس الكلمة والصورة والجملة والفقرة والعبارة والأسلوب من حيث أنواعه وعناصره وصفاته ومقوماته وموسيقاه، وقد يجد الطالب في هذا الدرس شيئا من التفاصيل المحتاجة إلى أناة وصبر لكنها خطيرة النتائج في فن البيان. وفي هذا القسم نضع البلاغة العربية، فعلم المعاني يدخل كله في بحث الجملة وعلم البيان وأغلب البديع يدخل في باب الصورة، وتبقى المباحث الأخرى مهملة في هذه الكتب التي انتهت إليها الدراسة البلاغية، نعم إنك واجد بلا شك في كتب الأقدمين كالصناعتين، ودلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، والمثل السائر مباحث قيمة تتصل بالعبارة من الناحية الفنية العامة ولكنها غير مستوفاة ولا منظمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 2- الفنون الأدبية وقد تسمى قسم الابتكار Invention وهنا ندرس مادة الكلام من حيث اختيارها وتقسيمها وقسميها وما يلائم كل فن من الفنون الأدبية، وقواعد هذه الفنون كالقصة والمقالة والوصف والرسالة والمناظرة والتاريخ وليلاحظ أن الدراسة هنا شكلية كذلك فهي لا تخلق المادة للطالب ولا تعد له الأفكار والآراء؛ فذلك من عمل الطالب وقراءته الخاصة وتجاربه الحيوية التي تمده بالآراء وتكشف له عن الحقائق، وعلى البلاغة أن تشير فقط إلى ما يتبع في تأليف المعاني وتنظيم الفنون أقسامًا لتنتج الآثار المرجوة. وهنا أشير إلى مسألة هي نتيجة لما أسلفنا، تلك أن علم البلاغة يميل في جملته إلى الناحية الشكلية أو الأسلوبية فهو لن يعرض لقيمة الفكرة بل لملاءمتها ولا يخلقها لكن ينسقها وهو يعنى كثيرًا بالعبارات والأساليب حتى إن بعض الباحثين يطلق عليه كلمة الأسلوب، ومهما تختلف وجهات النظر فقد أصبحت البلاغة تبحث الآن في هذه الموضوعات التي ذكرنا ولن تستطيع الإفلات من الإجابة عن هذين السؤالين: ماذا نقول؟ وكيف نقول؟ وكما لاحظنا قصور علم البلاغة عندنا في قسم الأساليب كذلك نجدها قاصرة في قسم الفنون الأدبية إلا فقرات مفرقة أو فصول درست لأغراض غير أدبية كما في آداب البحث والمناظرة. وبالموازنة بين أبحاث البلاغة كما دونتها الكتب العربية الأخيرة، وبين موضوعها كما يجب أن يكون، نستطيع أن نقرر النتائج الآتية: 1- إن نصف البلاغة النظرية مفقودة في اللغة، أكثره في قسم الفنون الأدبية، وباقية في باب الأسلوب على أن ما ترجم من خطابه أرسطو وشعره إنما نقل على أنه فلسفه لا أدب، وكانت الترجمة قاصرة فلم تفد كثيرًا. 2- إن شطرًا من الأسلوب قد درست تحت عنوان المعاني والبيان والبديع وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 شطر على خطورته يعوزه التنسيق، ولا حاجة بنا الآن إلى هذه الأسماء التي تسمى علومًا خاصة لأنها فصول بلاغية يسيره. 3- إن البلاغة العربية في حاجة إلى وضع علمي جديد يشمل هذه الأبواب والفنون التي أشرنا إليها، ويصل بينها وبين الطبيعة الإنسانية لملابستها الزمانية والمكانية، حتى يخدم الأدب، وذلك كله غير البحث التاريخي الذي يفرد له درس خاص، وقد نوهنا في مقدمة هذه الطبعة بهذا المنهج الجديد الذي ينبغي أن يوضع على أصوله علم البلاغة العربية ونعيد ذلك هنا؛ لا نمل الدعوة إليه فقد مضت القرون ونحن متخلفون في هذا الميدان، وها نحن أولاء ننتظر كتاب البلاغة الجديد حتى لا نعيش على ترديد ما سبقنا إليه في غير فائدة ولا تجديد. 4- إن الأدباء هم أولى الناس بدرس البلاغة حتى يخلصوها من أساليب الفلاسفة ومذاهبهم وألغازهم فذلك هو الذي أفسد بلاغتنا وحولها بحوثًا لفظية عقيمة أشبه بالرياضة والكيمياء. وليست أدعى أني أفعل شيئًا من ذلك في هذا الفصول وحسبي أمران: الأول: هذه الإشارة إلى ما يجب أن ننهض به. الثاني: أني تناولت الأسلوب من بعض نواحيه العامة فاتخذت الدرس فاتحة لمواصلة البحث علنا ننتهي إلى وضع علم البلاغة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الباب الثاني: في التعريف بالأسلوب الفصل الأول: في حد الأسلوب 1- إذا سمع الناس كلمة الأسلوب فهموا منها هذا العنصر اللفظي الذي يتألف من الكلمات فالجمل والعبارات، وربما قصروه على الأدب وحده دون سواه من العلوم والفنون، وهذا الفهم -على صحته- يعوزه شيء من العمق والشمول ليكون أكثر انطباقًا على ما يجب أن يؤديه هذا اللفظ من معنى صحيح، وذلك أن هذه الصورة اللفظية التي هي أول ما تلقى من الكلام لا يمكن أن تحيا مستقلة، وإنما يرجع الفضل في نظامها اللغوي الظاهر إلى نظام آخر معنوي انتظم وتألف في نفس الكاتب أو المتكلم فكان بذلك أسلوبًا معنويًّا، ثم تكون التأليف اللفظي على مثاله، وصار ثوبه الذي لبسه أو جسمه إذا كان المعنى هو الروح، ومعنى هذا أن الأسلوب معانٍ مرتبة قبل أن يكون ألفاظًا منسقة، وهو يتكون في العقل قبل أن ينطق به اللسان أو يجري به القلم، فهذا وجه. والوجه الثاني: أن كلمة الأسلوب صارت هذه الأيام حقًّا مشتركًا بين البيئات المختلفة، يستعملها العلماء ليدلوا بها على منهج من مناهج البحث العلمي، ويستعملها الأدباء في الفن الأدبي قصصًا أو جدلًا أو تقريرًا وفي العنصر اللفظي سهلًا أو معقدًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وفي إيراد الأفكار منطقية أو مضطربة، وفي طريقة التخييل جميلة ملائمة أو مشوهة نابية. وكذلك الموسيقيون يتخذونها دليلًا على طرق التلحين وتأليف الأنغام للتعبير عما يحسون أو يخالون، ومثلهم الرسامون فهي عندهم دليل على طريق تأليف الألوان ومراعاة التناسب بينها، وهكذا حتى أصبحت هذه الكلمة "أسلوب" تكاد ترادف كلمة الشخصية في المعنى. لهذا كله كان إطلاقها على هذا العنصر اللفظي ضرورة اقتضاها التعليم أولا، ولأنه هو مظهر العناصر الأخرى ومعرضها ثانيًا.. فما الأسلوب؟ في لسان العرب: ويقال للسطر من التخيل أسلوب. وكل طريق ممتد في أسلوب، والأسلوب: الطريق، والوجه، والمذهب. يقال: أنتم في أسلوب سوء، ويجمع على أساليب، والأسلوب الطريق تأخذ فيه، والأسلوب الفن يقال: أخذ فلان في أساليب من القول، أي أفانين منه. هذه المعاني التي نقلناها عن ابن منظور قسمان: قسم حسي يمثل الوضع الأسبق للفظ، كسطر النخيل والطريق الممتد أو المسلوك، والأسلوب عليه خطة يسلكها السائر. وقسم معنوي هو الخطوة الثانية في الوضع اللغوي حين تنتقل الكلمات من معانيها الحسية إلى هذه المعاني الأدبية، أو النفسية، وذلك هو الفن من القول أو الوجه والمذهب في بعض الأحيان. على أن هذه المعاني كلها تنتهي بنا عند فكرة إذا أردنا استعمالها في باب الأدب كانت ملائمة، فالأسلوب هو فن من الكلام يكون قصصًا أو حوارًا، تشبيهًا أو مجازًا أو كناية، تقريرًا أو حِكمًا وأمثالا. فإذا صح هذا الاستنباط كان للأسلوب معنى أوسع إذ يتجاوز هذا العنصر اللفظي فيشمل الفن الأدبي الذي يتخذه الأديب وسيلة للإقناع أو التأثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 2- وإذا تركنا لسان العرب إلى مقدمة ابن خلدون رأيناه يتناول الأسلوب في فصل صناعة الشعر ووجه تعلّمه حيث يقول: "ولنذكر هنا سلوك الأسلوب عند أهل الصناعة -صناعة الشعر- وما يريدون بها في إطلاقهم، فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي ينسج فيه التراكيب، أو القالب الذي يفرغ فيه ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الإعراب، ولا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التركيب الذي هو وظيفة البلاغة والبيان، ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية، وإنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها، ويصيّرها في الخيال كالقلب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان فيرصّها فيه رصًّا كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال، حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكه اللسان العربي فيه، فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به، وتوجد فيه على أنحاء مختلفة؛ فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول، كقوله: "يَا دَار مَيَّةَ بالعليْاَءِ فالسندِ" ويكون باستدعاء الصحب للوقوف والسؤال، كقوله: "قِفَا نَسْألِ الدارَ التي خَف أهْلُها" أو باستبكاء الصحب على الطلل، كقوله: "قِفَا نَبْك من ذكْرَى حبيب ومنزل" وأمثال ذلك كثير في سائر فنون الكلام ومذاهبه، وتنتظم التراكيب فيه بالجمل وغير الجمل إنشائية وخبرية، اسمية وفعلية، متفقة وغير متفقة، مفصولة وموصولة على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي، في كل مكان كلمة من الأخرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 يعرفك فيه "كذا" ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب من القالب الكلي المجرد في الذهن من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور، فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنيين وجاءوا به مفصلا في النوعين ففي الشعر بالقطع الموزونة والقوافي المقيدة واستقلال الكلام في كل قطعة، وفي المنثور يعتبرون الموازنة والتشابه بين القطع غالبًا وقد يقيدونه بالأسجاع وقد يرسلونه وكل واحدة من هذه معروفة في لسان العرب". هذا النص الذي نقلناه عن ابن خلدون يضع أمامنا عدة قوانين قيمة في الدراسات الأدبية: أولها: أن هناك فارقًا بين الوجهين العلمي والفني في تكوين الأسلوب الأدبي فعلوم النحو والبلاغة والعروض تنفعنا على أنها نظريات ترشدنا في إصلاح الكلام ومطابقته لقوانين النظم والنثر. وقد يعرفها الطالب ولا يحسن معها الإنشاء أو ينشئ الصحيح فقط. وأما صياغة الأسلوب الجميل فهي فن يعتمد على الطبع والتمرس بالكلام البليغ1، وتتكون من الجمل والعبارات والصور البيانية. ثانيها: أن الأسلوب في الأصل صورة ذهنية تتملأ بها النفس وتطبع الذوق من الدراسة، والمرانة وقراءة الأدب الجميل، وعلى مثال هذه الصورة الذهنية تتألف العبارات الظاهرة التي اعتدنا أن نسميها أسلوبًا لأنها دليله، وناحيته الناطقة الفصيحة. ثالثها: أن هذه الصورة الذهنية -التي هي الأصل الأول للأسلوب-   1 راجع المثال السائر ص30 والصناعتين ص147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ليست معاني جزئية، ولا جملا مستقلة، بل طريقة من طرق التعبير يسلكها المتكلم، كخطاب الطلل، أو استدعاء الصحب للوقوف والسؤال أو الدعاء له بالسقيا، كقوله: أسقى طلوهُم أجَشُّ هزيمُ ... وَغَدتْ عليهم نَضرة وَنَعيمُ أو بتسجيل المصيبة على الأكوان عند فقد شجاع كقوله: مَنابتَ العُشب، لا حاَمٍ ولا رَاع ... مَضَى الردى بطويل الرمح والباعِ رابعها: هذه الفروق اللفظية والمعنوية بين المنظوم والمنثور من حيث الأسلوب، وأهم ما ذكره امتياز النظم والوزن، والقافية، واستقلال كل بيت بمعنى تام، كما هو مذهب العرب، وسيأتي تفصيل القول في ذلك. والذي يعنينا هنا أن الأسلوب منذ القدم كان يلحظ في معناه ناحية شكلية خاصة هي طريقة الأداء أو طريقة التعبير التي يسلكها الأديب لتصوير ما في نفسه أو لنقله إلى سواه بهذه العبارات اللغوية. ولا يزال هذا هو تعريف الأسلوب إلى اليوم، فهو طريقة الكتابة، أو طريقة الإنشاء، أو طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الإيضاح والتأثير، أو الضرب من النظم والطريقة فيه. هذا تعريف الأسلوب الأدبي1 بمعناه العام. وأما إذا أردنا أن يكون التعريف عاما يتناول العلوم والفنون. فإنا نعرفه بأنه طريقة التعبير؛ لأن الفنون الأخرى لها طرق في التعبير يعرفها الفنيون، ويتخذون وسائلها أو عناصرها من الألحان والألوان والأحجار، وكذلك العلماء لهم رموزهم، ومصطلحاتهم، ومناهجهم في البحث والأداء.   1 راجع دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني ص361 وGen. p16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 3- ومع ذلك ففي الأدب وحده نرى -كما يمر بك تفصيله- أن التصرف والاختلاف يكون في صوغ العبارات بين إيجاز وإطناب، وسهولة وإغراب، وبساطة وتعقيد، وجمال وتنافر، ويكون قبل ذلك في اختيار الأفكار، وكيفية ترتيبها ترتيبًا منطقيًّا أو مضطربًا، ووضوحها أو غموضها، وصحتها أو خطئها، وإخضاعها لطريقة الاستقراء أو الاستنباط، ويكون بعد هذا في طريقة التخييل والتصوير: هل يسلك الكاتب طريقة التشبيه غالبا أو الاستعارة أو الكناية، وما مقدار ابتكاره في ذلك أو تقليده، فلكل كاتب مذهبه في ذلك أو أسلوبه الخاص، فالشيب في رأي المعري: والشيبُ أزهار الشبابِ فماله ... يخفى، وحسنُ الروضِ في الأزهار وهو في رأي الفرزدق: تَفارِيقُ شيب في الشباب لوامعُ ... وما حُسْنُ ليلٍ ليس فيه نجوم لكن الشريف الرضي يقول: غالطوني عن المشيب وقالوا ... لا ترع إنه جلاء حسام قلت ما أمْنُ على الرأس منه ... صارم الحد في يد الأيام انظر بعد ذلك إلى كتاب السيرة المعاصرين؛ كيف اختلفوا في طريقة العرض بين البحث العلمي المنسق، والتمثيلي المقسم، والقصصي الجميل1، وانظر إلى هذه الشخصيات المتباينة في الخطابة كعلي ومعاوية وزياد والحجاج وفي الكتابة كالجاحظ وبديع الزمان وابن خلدون وفي الشعر كأبي تمام وابن الرومي والبحتري والمتنبي فإنا نجد أنماطا شتى، وأساليب متباينة تجعل لكل فرد طابعا، أفيكون من الغريب إذا قلنا: إن الأسلوب هو طريقة التفكير والتصوير والتعبير؟   1 حياة محمد لهيكل، ومحمد لتوفيق الحكيم، وعلى هامش السيرة لطه حسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الحق أن هذا التعريف الأخير يتناول عناصر الأسلوب كلها ويقوم على أساس الصلة بينها وإن كان العنصر اللفظي مظهر الفكر والصورة؛ لأنه الجانب الحسي لهما زيادة عما يتوافر له جمال خاص: وهو أيضًا يتضمن المراد من الأسلوب في سائر الفنون، فهو تفكير وتصوير وتعبير. 4- وأعود مرة ثانية إلى تعريف الأسلوب فقد غم الأمر على بعض الدارسين بصدد ذلك؛ أعود لأقول: إن تعريف الأسلوب يَنْصَبُّ بداهة على هذا العنصر اللفظي فهو الصورة اللفظية التي يعبر بها عن المعاني أو نظم الكلام وتأليفه لأداء الأفكار وعرض الخيال، أو هو العبارات اللفظية المنسقة لأداء المعاني إلا أننا -حين نريد الإيضاح والتقسيم- مضطرون إلى ملاحظة أمرين: أولهما: وحدة النص الأدبي الذي لا يمكن الفصل بين عناصره، فاللفظ لا يتصور بدون سائر العناصر الأدبية كما أنها لا تبدو بغير اللفظ. ثانيهما: أن الفرق بين الأسلوب العلمي والأدبي مثلا لا يمكن إلا بملاحظة ما وراء اللفظ من فكرة أو عاطفة أو خيال، لذلك كان هناك فرق بين تعريف الأسلوب، وتحليله، وبين تقسيمه ... هو فرق أساسه وجهة النظر فقط، وإن النص الأدبي وحدة لا تتجزأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الفصل الثاني: تكوين الأسلوب وهنا نجد فرقًا واضحًا -في تكوين الأسلوب واستكمال عناصره- بين الطالب المبتدئ والأديب المنتهي؛ فالطالب الذي يأخذ في دراسة الكتابة يسلك الطريق الذي يسلكه زميله طالب الموسيقى أو الرسم؛ تجد تلميذ الموسيقى يبدأ درسه بتعرف الأدوات الموسيقية والفرق بينها، وطرق استخدامها، وأنواع الألحان والأنغام التي تنتجها كل أداة، ثم ينتقل من ذلك إلى تأليف الألحان المركبة واستخدام أداتين أو أكثر مع مراعاة الانسجام والتأليف بين الأنغام ... وآخر الأمر يتعلم كيف يؤلف الدور الموسيقي العام ويتخذ من الأدوات وأنغامها وسائل لتوقيع المقطوعات وقد يصل به الأمر إلى التجديد والابتكار. كذلك طالب الأدب يبدأ دروسه بتعلم الحروف وتأليف الكلمات منها، ثم تأليف الجمل من الكلمات تأليفًا خبريًّا أو إنشائيًّا فعلية كانت أو اسمية، إيجابية أو سلبية، مع ملاحظة الفروق الدقيقة بينها وينتقل من الجمل إلى الفقرات المؤلفة من الجمل مفصولة أو موصولة حسب مقتضيات المعاني ... ولا ينسى طرائق المجاز والتشبيه والاستعارة والكناية والمطابقة وحسن التعليل ... وأخيرًا هذه الأساليب القصصية أو الجدلية أو التقريرية أو الوصفية منثورة ومنظومة ... ومعنى هذا أنه يبدأ بالألفاظ وينتهي إلى الفنون الأدبية. أما الكاتب المنتهي فإنه يسير في طريق عكسية، شأنه شأن الموسيقار البارع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 تعرض له القطعة الأدبية أو يبدو له تصوير معنى نفسي أو مظهر طبعي فيفهم المراد ثم يسمعك ألحانًا منسجمة منسقة، تؤدي ما وراءها في دقة وجمال، كذلك الأديب إذا شاء قولا في الوصف، أو الرثاء، أو القصص، اختار معانيه، ورتبها، وفسرها طوع مزاجه تفسيرًا فنيًّا، ثم عبر عنها بالألفاظ التي تجذبهاالمعاني. هذا الكاتب كما رأيت يبدأ باختيار الفن وينتهي بالألفاظ، عكس التلميذ الناشئ. وسواء أعنينا بحال الطالب أم الكاتب، فإن تكون الأسلوب أهم المظاهر لبراعة الكتاب والشعراء، وأوضح معرض لقوة الإدراك ويقظة الشعور وجمال الذوق؛ لذلك كان الكاتب الأمين ذو الطبع الأدبي الصادق، منصرفًا إلى تخير الكلمات الفصيحة الدقيقة المعنى، المتلائمة مع أخواتها، حتى تطمئن عناصر العبارة في موضعها دون إكراه، وحتى يجمع الأسلوب بين وضوح التفكير وجمال التصوير. وهذه الدرجة تتطلب من غير شك مرانة دائبة، وصبرًا طويلًا، وذوقًا جميلا صادقًا وتملأ بخير الأساليب الأدبية فهمًا، ونقدًا، وتمثلًا، ويمكن للكاتب أن يلزم نفسه بأمرين اثنين ليوفر لنفسه الفوز بحسن التعبير. الأول: الحرص الشديد على الدقة سواء في أداء الفكرة أو صوغ الخيال فلا يسمح بكلمة أو عبارة هي أقل أو أكبر من فكرته كما يرفض استعارة قبيحة، أو كناية غامضة، أو تعليلا غير حسن. الثاني: التصرف السديد في بناء الجمل والعبارات بتقديم بعض العناصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 أو تأخيرها، وبالقصر أو الفصل أو الوصل، حتى تكون العبارة صورة صادقة لما في نفسه من المعاني وما في وجدانه من تصور وموسيقى. ذلك يتلخص في أن يكون الأسلوب للكاتب طبيعته الثانية، وبذلك يكون سهل الإنشاء؛ يصدر عن صاحبه حديثًا أو محاضرة أو تأليفًا، كأنه يتنفس أو يبصر، وهذه آخر درجات القدرة البيانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الفصل الثالث: عناصر الأسلوب رأينا في الفصل الماضي أن الخطوة الأولى للكاتب إنما هي اختيار الفن الأدبي الذي يعتمد عليه لأداء ما في نفسه من المعاني، فهو مقالة أو قصيدة أو رسالة أو قصة أو خطابة عامة أو محاضرة أو كتاب مؤلف، وبعد ذلك يختار المعاني أو الأفكار والحقائق التي يعتبرها هامة جديرة بموضوعه لجدتها أو قوة تأثيرها أو ملاءمتها لقرائه وسامعيه، ثم يرتب هذه الأفكار ترتيبًا يصل به إلى نتائجها المرادة، سواء اختار طريقة التحليل أم التركيب، فإذا انتقل من ذلك إلى التعبير عنه بعبارات واضحة تكشف عنه فقد تكون له الأسلوب العلمي أو الأدبي بمعناه العام، كما قيل في وصف الشمس: "الشمس كوكب مضيء بذاته وهي أعظم الكواكب المرئية لنا منظرًا، وأسطعها ضوءًا، وأغزرها حرارة، وأجزلها نفعًا للأرض التي نسكنها، والشمس كرة متأججة نارًا، حرارتها أشد من حرارة أي ساعور أرضي، ويبلغ ثقلها ثلاثمائة وزن من ثقل الأرض، وهي أكبر منه جرمًا بثلاثمائة ألف وألف ألف مرة، وتدور الشمس على محورها من الغرب إلى الشرق مرة واحدة في نحو خمسة وعشرين يومًا وتبعد عنا بنحو اثنين وتسعين ألف ألف ميل وخمسمائة ألف ميل، وهي مع كل هذا العِظَم الهائل لا تعد في النجوم الكبرى، بل إن أكثر ما نشاهده من النجوم الثابتة شموس أكبر من الشمس بألوف، والشمس بسياراتها تابع من توابع أحدها"1.   1 أحمد الإسكندري: نزهة القارئ ج1 ص166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فالفن هنا مقالة اقتبس منها هذا النص، ويلاحظ أن الكاتب كان حريصا على إيثار الحقائق القيمة الدقيقة، ثم رتبها ذاكرًا مسائل عامة تميز الشمس من الكواكب الأخرى، وأتبع ذلك بذكر الخواص المتصلة بشكلها وحرارتها وحركتها، وأخيرًا هذه العبارة الواضحة المؤلفة من الكلمات والتراكيب، وهنا نستطيع أن نقول إن الأسلوب العلمي يتكون من عنصرين أساسيين: الأفكار والعبارات. وأما اختيار الأفكار وتنسيقها، وإيثار الكلمات الدقيقة والجمل الواضحة، فذلك عمل أسلوبي لأنه طريقة يقوم بها الكاتب متأثرًا بموضوعه من جهة وبشخصيته من جهة أخرى. وقد يتوافر للأسلوب خاصة أخرى، حين يلجأ الكاتب إلى الخيال يصور به انفعاله -عاطفته- فيضيق دائرة الأفكار ويأخذ منها أجلها وأشملها على أسباب القوة والجمال، ثم يفسرها تفسيرًا أديبًّا كما يشاء خياله ويملي عليه طبعه ومزاجه، وبذلك نقرأ أسلوبًا أدبيًّا خالصًا تبدو فيه شخصية الكاتب أشد وضوحًا وأبعد تأثيرًا كما قيل في الشمس كذلك: "سَلِ الشمس من رفعها نارًا، ونصبها منارًا، وضربها دينارًا؟ ومن عقلها في الجو ساعة، يدب عقرباها إلى يوم الساعة؟ ومن الذي آتاها معراجها وهداها أدراجها، وأحلّها أبراجها، ونقل في سماء الدنيا لمسراجها؟ الزمان هي سبب حصوله، ومنشعب فروعه وأصوله، وكتابه بأجزائه وفصوله، وُلد على ظهرها، ولعب على حجرها، وشاب في طاعتها وبرها ولولاها ما اتسقت أيامه، ولا انتظمت شهوره وأعوامه، ولا اختلف نوره وظلامه، ذهبُ الأصيل من مناجمها، والشفق يسيل من محاجمها وتحطمت القرون على قرنها، ولم يعل تطاول السنين بسنها، ولم يمح التقادم لمحة حسنها"1. هذا النص يختلف عن سابقة مع اتحاد موضوعهما؛ فالأول وقف عند الحقائق   1 أحمد شوقي: أسواق الذهب ص2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 والعبارات وصاغ منها الأسلوب العقلي الخالص، والثاني تجافى عن الحقائق التفصيلية الدقيقة كالأعداد والمقاييس ووقف عند رءوس الأفكار وأهمها، ثم تصورها أشياء جميلة لإعجابه بها، وصورها بخياله فكانت جميلة مؤثرة، فالشمس دينار مضروب وساعة معلقة عقربها الليل والنهار، وهي كتاب الزمن ومهده وأمه، وهذا الأصيل ذهب من مناجم الشمس والشفق سائل من محاجمها ... إلى غير ذلك مما نفصله بعد، وبذلك نقول: إن الأسلوب الأدبي ينحل إلى عناصر ثلاث: الأفكار والصور والعبارات، وكذلك يكون الاختيار الذي يتناول الأفكار والصور والعبارات عملًا أسلوبيًّا، هو طريقة الصياغة التي تتصرف في تلك العناصر بما تراه أليق بموضوع الكلام. فإذا كان الفن شعرًا كقول حافظ إبراهيم في الشمس: لاحَ منها حاجبٌ للناظرين ... فَنسُوا بالليل وضّاع الجبين ومحت آيتُها آيتُه ... وتبدَّت فتنة للعالمين هي أم النار والنور معا ... هي أمَّ الريح والماء المعين هي طَلعُ الروض نورًا وجنَى ... هي نشر الورد طيب الياسمين هي موتٌ وحياة للورى ... وضلالٌ وهدى للغابرين1 لاحظت الوزن والقافية يلزمان الشعر فوق هذه العناصر التي ذكرت في الأسلوب الأدبي والتي سنجد أنها في بيان النظم تختص بميزات فنية نشرحها في الكلام على أنواع الأساليب. وهناك عنصر العاطفة الذي يعد في الأدب الدافع المباشر إلى القول وروحه، وهذا العنصر هام إلى درجة أنه احتاج غالبًا، لأجل أدائه، إلى الخيال الذي هو لغة العاطفة ووسيلة تصويرها من ناحية الأديب، وبعثها في نفس القارئين، فالعاطفة في الأدب عنصر أسلوبي يُحسّ دون أن يشرح أو يعرض عرضًا مباشرًا صريحًا   1 الديوان ج1 ص207 وضاح الجبين: القمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فإذا أراد الكاتب درس عاطفة وتحليلها، وبيان مبعثها وآثارها، كان كاتبا عالما. هذه هي عناصر الأسلوب كما نتصوره نصًّا أدبيًّا لا يتجزأ، وكما نتصوره أقسامًا لكل قسم خواصه المترتبة على ما فيه من أفكار وانفعالات وأخيلة. وأما إذا وقفنا عند الجانب اللفظي فقط وهو ما يتصرف إليه اللفظ عند الإطلاق فيمكن أن تعتبر العناصر هي الكلمة، والجملة، والصورة "التشبيه، والاستعارة، والكناية ... " والفقرة والعبارة، وعلى ذلك يدرس الأسلوب للتلاميذ، دراسة تطبيقية، وتكون هذه العناصر -التي ذكرت سابقًا في التحليل- خصائص يتميز كل قسم ببعضها، ولا مشاحة في الاصطلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الباب الثالث: الأسلوب والموضوع مدخل ... الباب الثالث: الأسلوب والموضوع نذكر في هذا الباب وما يليه أسباب اختلاف الأساليب، ومظاهر هذا الاختلاف، ونعني بالأساليب هنا هذه العبارات اللفظية التي هي المظهر لطريقتي التفكير والتصوير كما سبق، وإنما يرجع اختلاف الأساليب إلى سببين رئيسين: الأول: الموضوع. الثاني: الأديب. وهناك أشياء أخرى يذكرها بعض الباحثين كاختلاف الصنعة، ومقدار الملائمة بين اللفظ والمعنى وغير ذلك، ولكنها في الواقع مظاهر تطبيقية لأحد هذين السببين أو لكليهما كما يتضح ذلك أثناء الكلام الآتي. فالموضوع هو السبب الأول الذي يقوم عليه اختلاف الأساليب، ويراد بالموضوع الفن الذي يختاره الكاتب ليعبر به عما في نفسه، علمًا أو أدبًا، نظما أو نثرًا مقالة أو قصة أو رسالة أو خطابة ... فلكل فن منها أسلوبه الخاص الذي يلائم طبيعته. وأما الأديب فإن اختلاف الأساليب بالنسبة له راجع إلى اختلاف شخصيات الأدباء من حيث أذواقهم ومواهبهم العقلية ودرجة انفعالهم، وطبعائهم الخشنة أو الرقيقة، وطريقة تفكيرهم وتصويرهم؛ إذ كان لكل ذلك معنى خاصًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ونفرد هذا الباب للكلام في السبب الأول وهو الموضوع، فنلاحظ أن: ونذكر في الفصول التالية خواص كل أسلوب، وما يميزه من سواه، بناء على اختلاف هذه الفنون، وليلاحظ أن بعض فنون النثر أدب خاص والآخر أدب عام يمكن عده في الأسلوب العلمي العام أيضًا كما يمر بك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الفصل الأول: الأسلوب العلمي والأسلوب الأدبي الخطوة الأولى لاختلاف الأساليب تبدأ بالفرق بين الأسلوبين: العلمي والأدبي. وقد رأيت فيما مضى أن الكاتب حين يريد الكتابة في موضوع يجب عليه أولًا أن يختار الأفكار التي يريد أداءها لجدتها أو قيمتها أو ملاءمتها لمقتضى الحال، ثم يرتب هذه الأفكار ترتيبًا معقولًا ليكون ذلك أدعى إلى فهمها وحسن ارتباطها في ذهن القارئ وأخيرًا يعبر عنها بالألفاظ اللائقة بها، فإذا ما فعل ذلك حصل على الأسلوب العلمي، وقد ذكرنا مثال ذلك قبل ونذكر هنا مثالًا آخر نستعين به على بيان ما يمتاز به كل من النوعين؛ فالأسلوب العلمي، كما قيل في وصف الأهرام: "كان القصد من بناء الأهرام إيجاد مكان حصين خفي يوضع فيه تابوت الملك بعد مماته؛ ولذلك شيدو الهرم الأكبر وجعلوا فيه أسرابًا خفية زَلِقَة صعبة الولوج لضيقها، وانخفاض سقفها وإملاسها حتى لا يتسنى لأحد الوصول إلى المخدع الذي به التابوت، ومن أجل ذلك أيضًا سُدَّ مدخل الهرم بحجر هائل متحرك، ولا يَعرف سر تحريكه إلا الكهنة والحراس، ووُضِعَت أمثالُ هذا الحجر على مسافات متتابعة في الأسراب المذكورة. وبهذه الطريقة بقي المدخل ومنافذ تلك الأسراب مجهولة أجيالا من الزمان. ويُعد الهرم الأكبر من عجائب الدنيا. قرر المهندسون والمؤرخون أن بناءه يشمل 2.300.000 حجر، متوسط وزن الحجر منها طنان ونصف طن، وكان يشتغل في بناء الهرم مائة ألف رجل يستبدل بهم غيرهم كل ثلاثة أشهر، وقد استغرق بناؤه عشرين عاما. وجميع هذا الهرم شيد من الحجر الجيري الصب ما عدا المخدع الأكبر فإنه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الصخر المحبب وكَان الهرم مغطى بطبقة من الجرانيت فوقها أخرى من الحجر الجيري المصقول ووضع الملاط بين الأحجار في غاية الدقة حتى كان الناظر إلى الهرم يكاد يظنه صخرة واحدة"1. فليس من شك أن كاتب هذه القطعة. 1- قد اختار هذه الحقائق أو المعارف لأهميتها في تاريخ الأهرام. 2- ثم رتبها هذا الترتيب الذي رأيته فعرض لسبب البناء، ولهذا الوصف الذي يطابق سر هذا البناء، ثم انتقل إلى ذكر هذه الأفكار التفصيلية المتصلة بالبناء. 3- وأخيرًا عبر عنه بهذه العبارة السهلة الكاشفة، وهذا هو الأسلوب العلمي الذي يتخذ وسيلة لنشر المعارف وتغذية العقل دون أن تطغى شخصية الكاتب فيه. وأحيانًا يقف الكاتب عند هذه الحقائق والمعارف ولا يجعل قصده الفذّ تغذية العقل بالأفكار، وإنما يعرف هذه الحقائق، ويختار أهمها وأبرزها الذي يستطيع أن يجد فيه مظهرًا لجمال ظاهر أو خفي أو معرضًا لعظة واعتبار أو داعيًا لتفكير وتأثير ثم يفسر ما اختار تفسيرًا خاصًّا به، بما يخلع عليه من نفسه المتعجبة أو المتعظة، الراضية أو الساخطة، ثم يحاول نقل هذا الانفعال -أو إثارة مثله- إلى نفوس القراء والسامعين ليكونوا معجبين أو مغتبطين، راضين أو ساخطين، وبذلك يدخل في الأسلوب هذا العنصر الجديد الذي يصور الشعور وهو الخيال. وهنا نرى الأسلوب الأدبي كما قيل في الأهرام:   1 تاريخ مصر إلى الفتح العثماني ص16، 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 "ولما وقفتْ بنا الركاب في ساحة الأهرام، وقفنا هناك موقف الإجلال والإعظام، قبالة ذلك العَلم الذي يطاول الروابي والأعلام، والهضِبة التي تعلو الهضاب والآكام والبِنية التي تشرف رَضْوى وشمام، وتُبلى ببقائها جدة الليالي والأيام، وتطوى تحت ظلالها أقوامًا بعد أقوام، وتفنى بدوامها أعمار السنين والأعوام، خَلِقت ثيابُ الدهر وهي لا تزال في ثوبها القشيب، وشابت القرون وأخطأ قرنها وخط المشيب، ما برحت ثابتة تناطح مواقع النجوم، وتسخر بثواقب الشهب والرجوم"1. موضوع النصين واحد، هو وصف الأهرام إلا أننا رأينا في عبارات القطعة الثانية خواص لا نجدها في عبارات الأولى سواء في هذه الكلمات الجزلة الفخمة البريئة من المصطلحات العلمية، والتحديد الدقيق، وفي هذه الجمل المختارة القوية المسجوعة، وهذه الصور المتتابعة تشابيه واستعارات فالهرم مرة جبل، وأخرى حرب الدهر، وثالثة فتاة شابة خالدة الشباب.. وأخيرًا هذه الموسيقى العامة الفخمة التي هي في الحقيقة صوت هذا الانفعال النفسي الذي ملك على الكاتب شعوره الباطني ففاض على قلمه ألفاظًا وعبارات. هذا الإعجاب هو -هنا- ما منح الأسلوب صفته الأدبية، وأيدي شخصية الكَاتب في هذا الموقف فإذا بها تُكبِرُ الأهرام، تعجب بقوة الإنسان، ثم تدل على درس للأدب القديم واعتزاز بهذه الصنعة اللفظية والجزالة اللغوية والصور البيانية القديمة. وهذا الإعجاب -باعتباره انفعالا- تعجز اللغة العادية عن تصويره؛ لأنها وضعت بأزاء الأفكار لتعبر عن هذا الفعل الهادئ المحدود، أما الانفعال فهو قوة تعوزه لغة خاصة به وهي التي يحتال لها الأديب فيؤلفها -مستعيًنا بالخيال- من   1 حديث عيسى بن هشام: ص405 طبعة ثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 تشبيه واستعارة وكناية وحسن تعليل، ونحو ذلك لتكون ملائمة لما تؤدي من روعة وسخط وحب وما إليها. وبالموازنة بين هذين النصين نستطيع أن نفرق بين الأسلوبين: العلمي والأدبي فيما يلي: 1- الأصل الأول الذي قام عليها الخلاف بين الأسلوبين هو دخول الأنفعال "أو العاطفة" في الأسلوب الأدبي بجانب أهم الحقائق والأفكار. وأما العلمي فإن المعارف العقلية هي الأساس الأول في بنائه، وقلما تجد للانفعال أثرًا واضحًا؛ لذلك كانت عنايته باستقصاء الأفكار بقدر عناية زميله بقوة الانفعال، ولسنا نعدو الصواب إذا قلنا: إن الأسلوب العلمي لغة العقل والأدبي لغة العاطفة. 2- ويتبع ذلك أن يكون الغرض من الأسلوب العلمي أداء الحقائق قصد التعليم وخدمة المعرفة، وإنارة العقول، ولكن الغاية في الأسلوب الأدبي هي إثارة الانفعال في نفوس القراء والسامعين، وذلك بعرض الحقائق رائعة جميلة كما أدركها أو تصورها الكاتب الأديب، وبهذا يجمع الأسلوب الأدبي بين الإفادة والتأثير. 3- تمتاز العبارة الأولى بالدقة والتحديد والاستقصاء، ولكن الثانية تعنى بالتفخيم والتعميم والوقوف عند مواطن الجمال والتأثير. 4- هذه المصطلحات العلمية، والأرقام الحسابية، والصفات الهندسية التي هي في الأسلوب العلمي مظهر العقل المدقق، يقابلها هذه الصور الخيالية والصنعة البديعة والكلمات الموسيقية التي هي في الأسلوب الأدبي مظهر للانفعال العميق. 5- والعبارة الأولى تمتاز بالسهولة والوضوح إذا كانت صادرة عن عقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 رزين فاهم كما تمتاز بالجزالة والقوة ما دامت تعبر عن عاطفة قوية حية، فكانت كل منهما موسيقى صادقة لمعناها. 6- ومن ناحية التكرار لا ترى في الأسلوب العلمي تكرار الفكرة وترديدها، ولكن الأسلوب الأدبي يأخذ المعنى الواحد ويعرضه علينا في عدة صور بيانية مختلفة، تُمثل الإجلال والإعظام، ثم انظر إلى فكرة الضخامة تجدها مرة في صورة علم، وأخرى في صورة هضبة، وثالثة فوق الجباب والهضاب، وكذلك فكرة الخلود تجدها مصورة عدة صور، والخلاصة أن بين الأسلوبين فرقًا في المصدر والغاية والوسيلة، ونورد لك هنا ما قال شوقي في الأهرام ليكون مثالًا تطبيقيًّا. "ما أنت يا أهرام؟ أشواهق أجرام أم شواهد إجرام، وأوضاع معالم أم أشباح مظالم؟ وجلائل أبنية وآثار، أم دلائل أنانية واستئثار؟ وتمثال منصب من الجبرية أم مثال صاح من العبقرية؟ يا كليل البصر عن مواضع العِبر، قليل من البصر بمواقع الآيات الكبر: قف ناج الأحجار الدوارس وتعلم فإن الآثام مدارس، هذه الحجارة حجور لعب عليها الأول، وهذه الصفائح صفائح ممالك ودول، وذلك الركام، من الرمال، غبار أحداج وأحمال، من كل ركب ألم ثم مال. في هذا الحرم درج عيسى صيبًّا، ووقعت بين يديه الكواكب جثيا، وههنا جلال الخلق وثبوته، ونفاذ العقل وجبروته، ومطالع الفن وبيوته، ومن هنا نتعلم أن حُسن الثناء، مرهون بإحسان البناء"1. هذا هو الأصل العملي للأسلوبين والفرق بينهما.   1 أسواق الذهب ص69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وقد يتجه بعض الباحثين اتجاها آخر، لعله نوع من المراء والجدل النظري الممقوت، فيقول: إن مواهب النفس وحدة واحدة، والإنشاء كله صنف واحد لا فرق بينه فنونه شعرًا أو نثرًا، فهو تعبير عن النفس أو عن تفاعلها مع الطبيعة أو هو أدب وكفى، ولكن هل تنبهوا إلى أن النفس البشرية لا تكون بحال واحدة دائمًا كما قلنا؟ ألم يلاحظوا أن هذه الفنون الأدبية ذات خواص متباينة؟ فيم هذا التباين؟ وما سره؟ الذي أخشاه أن تكون مثل هذه الدعاوى فرارًا من دقة النقد الأدبي، وهربًا من تحليل النصوص واستخلاص ما فيها من ميزات أسلوبيه هي التي تفرق بين الفنون الأدبية وكتابها، وهذا هو الخطر الخطير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الفصل الثاني: في أسلوب الشعر أ- وقد يكون الأسلوب الأدبي شعرًا، فتبدو فيه مظاهر لفظية تلائم طبيعة هذا الفن الشعري، وإن لم تكن في أصلها خاصة به، بل يشاركه النثر الأدبي فيها إلى حد ما، وبيان ذلك بالإيجاز، أن النثر الأدبي يمتاز من النثر العلمي بدخول عنصر العاطفة "الانفعال" في تكوينه، فكان لذلك آثاره الأسلوبية التي ذكرت في الفصل الماضي، فإذا تجاوزناه إلى الشعر رأينا أن الشعر كذلك يعبر عن العاطفة والفكرة ويتخذ الخيال المصور، العبارة الموسيقية، وسيلة إلى هذه الغاية البيانية، وهذا طبعي إذا كان الفنان -الشعر والنثر والأدبي- أدبًا، يصور العقل والشعور كما سبق بيانه، فليس هناك إذًا تضاد مطلق بين الشعر والنثر، وإنما تقوم الصلة بينهما على اتحاد موضوعي واختلاف شكلي. ب- ناحية الاتحاد تظهر أن كلا منهما يتناول الموضوعات التي يتناولها صاحبه مما يتصل بالإنسان والطبيعة؟ فالحماسة والعتاب والمدح والهجاء والغزل والرثاء والوصف والاعتذار، فنون الشعر كما هي فنون النثر الأدبي.. وكل منهما يتناول الأشياء بالطريقة الفنية التي تبدو فيها شخصية الأديب، وتكون معرضًا لانفعالاته وأخيلته وعباراته الخاصة ومزاجه الممتاز، وقد رأيت أن العناصر التي يتألف منها النثر الأدبي تتوافر في الشعر أيضًا ومعنى هذا أن طبيعة كل منهما تتصل بالأخرى، وأنهم جميعاً غذاء العقل والشعور، وأن هذه الظواهر اللفظية التي تذكر في أسلوب الشعر إنما تعد فيه أقوى مظهرًا، وأحسن ملاءمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 جـ- وأما ناحية الاختلاف فتقوم على اعتبار أن النثر تغلب عليه صفة الإفادة والشعر تسوده صفة التأثير؛ فمهما يكن النثر أدبيًّا فنيًّا فإنه ينزع دائما إلى طبيعته التقريرية وأصله العقلي النافع الذي يظهر واضحا في النثر العلمي في حين أن الشعر مهما يكن عقليا فإنه يتشبث دائما بطبيعته الرمزية وأصله الموسيقي الجميل الذي تسمعه حماسة قوية، ونسيبا رقيقا، ووصفا جميلا، ورثاء حزينا، حتى قيل: إن الفكرة أصل في النثر والعاطفة مساعد، وعكس ذلك في الشعر حيث تتصدر العاطفة متكئة على حقيقة تسندها وتبعث فيها الصدق والقوة والبقاء، وعلى ناحية الخلاف الشكلية هذه تقوم المظاهر التي تتراءى في أسلوب الشعر، وهي ظواهر تميزه كما لا كيفا، أي أنها ترى الشعر بدرجة أسمى مما ترد في النثر الأدبي. ولنذكر لأسلوب الشعر هذا المثال من قول شوقي في الأهرام: قف ناج أهرام الجلال وناد ... هل من بناتك مجلس أو ناد نشكو ونفزع فيه بين عيونهم ... إن الأبوة مفزع الأولاد ونبثهم عبث الهوى بتراثهم ... من كل ملق للهوى بقياد ونبين كيف تفرق الإخوان في ... وقت البلاء تفرق الأضداد إن المغالط في الحقيقة نفسه ... باغ على النفس الضعيفة عاد قل للأعاجيب الثلاث مقالة ... من هاتف بمكانهن وشاد لله أنت! فما رأيت على الصفا ... هذا الجلال، ولا على الأوتاد لك كالمعابد روعة قدسية ... وعليك روحانية العباد أسست من أحلامهم بقواعد ... ورفعت ممن أحلاقهم بعماد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 تلك الرمال بجانبيك بقية ... من نعمة وسماحة ورماد1 وقبل الكلام في الخواص اللفظية نلاحظ أن الانفعال الذي تبعثه هذه الأبيات يتوزع بين الحزن في القسم الأول والإعجاب في الثاني. وذلك لأن القصيدة قيلت في الحفاوة بأديب سوريا الأستاذ أمين الريحاني أيام الاضطرابات التي شملت بلاد الشرق العربي عقب الحرب العظمى، وكانت "مصر" مسرحًا لكثير منها فشكا شاعرنا ذلك في مطلع قصديته. ولعل الإعجاب أسبق انفعال إلى النفس حين ترى الأهرام؛ فبدا واضحا في الأبيات الأخيرة وهذا الاعجاب أحسسته من قبل عند المويلحي، وعند شوقي آخر كلمته المنثورة الواردة في الفصل السابق، ومع ذلك فإنك ترى في النثر المذكور ميلا إلى استخراج العظات والعبر وإلى إيراد الحقائق التاريخية، وبيان اختلاف الرأي فيما تدل عليه الأهرام من مجد ينسب إلى الفراعنة أو ظلم نال المصريين، على أن هذه النماذج النثرية من النوع الذي علا وأخذ يقرب من الشعر حتى كاد ينسى طبيعته الأولى ويعود شعرًا منثورًا. وأول ما يلقانا بعد ذلك هذه العبارات الموسيقية التي تمتاز بالوزن والقافية، ورقة الكلمات أو جزالتها، وتخير التراكيب وتجنب الفضول والابتذال، حتى عادت العبارات أصلح للأسلوب الشعري الجامع بين التهذيب وقوة التأثير. وهذا القدر الذي ذكرناه يسمح لنا أن نتقدم قليلا، فنذكر الخواص الآتية على أنها أشد ظهورًا في الشعر وأقوى به اتصالا:   1 الشوقيات ج1 ص229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 1- فالوزن أخص ميزات الشعر وأبينهما في أسلوبه ويقوم على ترديد التفاعيل المؤلفة من الأسباب والأوتاد والفواصل، وعن ترديد التفاعيل تنشأ الوحدة الموسيقية للقصيدة كلها، فأبيات شوقي المذكورة آنفًا قائما على هذه التفعيلة -متفاعلن- فلما كررت ثلاث مرات كان الشطر، ولما كررت ستًّا كان البيت أو الوزن الذي يسمى في علم العروض -بحر الكامل- والقصيدة كلها من هذا الوزن. وللشعر العربي أوزان -أو بحور- أساسية بلغ عددها ستة عشر بحرًا عدا ما استحدث من أوزان مخترعة فصيحة وعامية، منها الطويل، والبسيط، والمديد، والوافر، والهزج، والسريع والخفيف، والمجتث، والرمل، كما هو موضح في علم العروض. وليس معنى ذلك أن النثر خال من الوزن مطلقًا، فلا نزال نحس فيه وزنًا أيضًا وإن كان أقل من وزن الشعر ظهورًا وانتظامًا، فهو في النثر مظهر لقوة العبارة وجمالها تجده في الخطابة ذات العبارة المقسمة المفصلة، وفي الوصف الرائع الرقيق والتقرير الواضح، فإذا رجعت إلى نثر شوقي مثلا في الأهرام تراءى لك هذا الوزن النثرى واضحًا في عبارته المقسمة: "ما أنت يا أهرام، أشواهق أجرام؟ أم شواهد إجرام؟ وأوضاح معالم أم أشباح مظالم؟ " فتجد شواهد إجرام على مثال شواهد إجرام وكلاهما على وزن: فواعل أفعال، وهكذا في الباقي، واقرأ هذه الأسطر لطه حسين متمثلًا معانيها بين أخذ ورد، وجذب ودفع، واستعجال وحماسة وتجد واستفزاز، تحس هذه التيارات النفسية واضحة متتابعة في موسيقى هذه العبارة: "والشعوبية، ما رأيك فيهم، وفيما يمكن أن يكون لهم من الأثر القوي في انتحال الشعر والأخبار؟ " فالكلمة الأولى تقوم وحدها مقام تفعيلة والاستفهام بعدها تفعيلة أخرى تمهيدية وليتها عبارة منسقة انتهت بهم بهذا الوقف والقافية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الموسيقية، فلما بدأ يعد ذلك علت موسيقاه وعادت مقسمة تدل على عقيدة قوية، واعتزاز واضح "أما نحن فنعتقد أن هؤلاء الشعوبية قد انتحلوا أخبارًا وأشعارًا كثيرة وأضافوها إلى الجاهليين والإسلاميين"1. ويظهر أن الوزن ظاهرة طبيعية للعبارة ما دامت تؤدي معنى انفعاليًّا، فقد ثبت في علم النفس أن الإنسان حين يملكه انفعال تبدو عليه ظاهرات جثمانية عملية كاضطراب النبض، وضعف الحركة أو قوتها وسرعة التنفس أو بطئه، وحركة الأيدي قبضًا وبسطا، وهذه نفسها دليل على ما في النفس من قوة قوية طارئة، فاللغة التي تصور هذا الانفعال لا بد أن تكون موزونة، ذات مظاهر لفظية متباينة لتلائم معناها وتكون صداه الصحيح، وسيأتي تفصيل ذلك في الفصل الآتي. 2- والقافية كذلك ظاهرة شعرية تصور المقطع الذي تنتهي به أبيات القصيدة، ويبقى وزنه مرددا آخر كل بيت ليحفظ لها وحدتها أو نغمتها الأخيرة، وقد غلبت على الشعر العربي القديم وحدة القافية والتزامها في جميع الأبيات كما غلبت عليه وحدة الوزن العروضي، وهذه قصيدة شوقي السابقة، جميعها من بحر الكامل، وقافيتها دالية لم يشذ عن ذلك بيت ولا مقطع في آخره ولا شك أن الروي أهم حروف القافية لتكراره بذاته مع حركته الخاصة، على أن القافية تكون في النثر أيضًا وإن لم تكن لازمة، وذلك في الكلام المسجوع حيث تتوارد القوافي على حرف واحد، مع الاعتدال في مقاطع الكلام، كما قال شوقي في الجندي المجهول: "ذلك الغفل في الرمم، صار نارًا على علم، جمع ضحايا الأمم، كما جمع الكتابة القلم أو الكتيبة العلم"2 على أن لو فرضنا تحلل الشعر   1 في الأدب الجاهلي ص166 طبعة ثالثة. 2 أسواق الذهب ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 من وحدة القافية في القصيدة وترك النثر حيلة السجع، فلا زال هناك حسن الانتهاء آخر البيت أو الفقرة وفيه يجب أن تتوافر نغمة ملائمة قد تتحقق بحروف الوصل أو الخروج أو الردف التي تجعل الوقف لينًا رشيقًا كقول الشاعر: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفعُ فالوصل هو هذه الواو المولدة عن إشباع حركة العين في "تنفع" وهي علامة الراحة وحسن الانتهاء؛ ومن ذلك ما ورد في آخر رسالة للجاحظ كتبها إلى قليب المغربي يعاتبه: "والله يا قليب لولا أن كبدي في هواك مقروحة، وروحي بك مجروحة، لساجلتك هذه القطيعة، وماددتك حبل المصارمة، وأرجو الله تعالى أن يُديل صبري، من جفائك، فيردك إلى مودتي، وأنف القِلا راغم، فقد طال العهد بالاجتماع، حتى كدنا نتناكر عند اللقاء". 3- كذلك كلمات الشعر يجب أن تكون منتقاة، غير مبتذلة، تدل بجرسها وبمعناها على ما تصور من أصوات، وألوان، أو نزعات نفسية، وبذلك يحاول الشعر أن يكتسب صفة الموسيقى والرسم وبخاصة حين تحكي الكلمات صوت الطبيعة أو الحركة، أو تكون ذات صفة حسية، فقد رأيت في وصف الأهرام كلمات الروعة، والجلال، والقدسية والروحانية، وإذا قرأت لابن المعتز قوله يصفُ سحابة: وسارية لا تمل البكا ... جرى دمعها في خدود الثرى فلما دنت جلجلت في السما ... ء رعد أجش كجرس الرحا رأيت كلمات: الخدود وتقدح وبرق وهندية وجلجلت وأجش وجرس الرحا، التي تعد كلمات لونية وصوتية صادقة في نقل ما تعرض له من أوصاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 والنثر الأدبي يحرص على تحقيق هذه الخاصة وإن لم يبلغ فيها مبلغ الشعر لحاجته إلى التقرير النسبي الذي يسدل عليه صفة عقلية تحد من موسيقاه وتصويره. وقد لاحظ ابن الأثير1 أن من الألفاظ ما يحسن استعماله في الشعر دون النثر ومما مثل به لذلك كلمة مشمخر الواردة في قصيدة للبحتري يصف إيوان كسرى: مشمخر تعلو له شرفات ... رفعت في رءوس رضوى وقدس ولعل السر في ذلك، عندي، أن مثل هذا اللفظ وجد في موسيقى الشعر أولًا في عدم تقيده بالصفة التقريرية العقلية الواضحة ثانيًا، ما جعله ملائمًا لأسلوب الشعر دون النثر. 4- أما الصور الخيالية كالتشبيه، والمجاز، والكناية، والمطابقة، وحسن التعليل فإنها تكون في الشعر أشد قوة وأروع جمالًا، وهي في النثر أميل إلى الإيضاح والإيجاز ثم التأثير أيضًا، لذلك كانت الكناية والاستعارة أكثر ورودًا في النظم وكان التشبيه أكثر دورانًا في النثر وهذا الفرق يقوم كما ذكر على أن وظيفة الشعر التأثير وبعث الانفعال أولًا ووظيفة النثر الإفادة وتغذية العقل أولًا؛ فاحتاج الشعر إلى هذه الصور الخيالية القوية لتكون وسيلته الصالحة، واعتمد عليها النثر حين تفيده في الدقة والوضوح، فإذا غلا النثر وسلك سبيل الشعر في استخدام الأنواع البيانية هذه، كان ذلك منه بعدًا عن طبيعته الأولى ونزوعًا إلى طبيعة الشعر قال البحتري: إذا ما نسبت الحادثات وجدتها ... بنات زمان أرصدت لبنيه من أردت الدنيا نباهة خاملٍ ... فلا ترتقب إلا خمول نبيه فالاستعارة في البيت الأول قائمة على أن الزمان يبتلي الناس بحوادثه وغايتها   1 المثل السائر ص64 المطبعة البهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 التشنيع والبرم بهذه الحادثات لا التفسير والإيضاح حتى إذا قرأت البيت الثاني رأيت في هذه المقابلة مثلا من آثار هذه البلاء وهو أثر سيئ شنيع، ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: $"إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاء ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار تقع فيها، فجعل ينزعن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها". فهذا التمثيل البياني يراد به التوضيح والإفهام. فالرسول في إخراج الناس من ظلمات يتهافتون عليها، إلى الهدى والنور كأنه ينزع فراشًا ودوابَّ من نار تتهالك عليها، هذا هو الأصل في كل من النظم والنثر. 5- تراكيب الشعر أكثر حرية في تأليف كلماتها من حيث التقديم والتأخير، وذلك ناشئ عن قصد التوفيق بين وزن الشعر وحركات العبارة فتبدو الجمل في نظام غير طبيعي؛ على أن شيئًا من ذلك قد يكون لغرض معنوي أو فني كالقصر أو التفاؤل. أما النثر فلا يخرج نظم الكلام فيه عن الأصل إلا لباعث معنوي، ومن ذلك في الشعر ما قال المتنبي: وشيخ في الشباب وليس شيخًا ... يُسمَّى كل ممن بلغ المشيبا ففصل بين ليس واسمها "كل" وقدم المعمول "شيخًا" على عامله "يسمى" ليستقيم له الوزن ومن ذلك قوله: وكان أطيب من سيفي مضاجعة ... أشباه رونقة الغيد الأماليد فأخر اسم كان "أشباه" وأضافه إلى المتصل بضمير السيف ليعود هذا على متقدم في الذكر. ومن ذلك في النثر قول زيادة: "حرام على الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدمًا وإحراقًا فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا" مما التقديم فيه للإلزام والإرهاب أو للقصر والتوكيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 6- وفي محاولة التوفيق بين الأوزان الشعرية والتراكيب اللغوية، يضطر الشاعر إلى إحدى اثنتين: إما أن يجوز على الأوزان فتنشأ العلل والزحاف، وإما أن يجوز على الكلمات فتنشأ الضرورات، أو الضرائر التي تجوز للشاعر دون الناثر1، ومعنى ذلك أن أسلوب الشاعر يمتاز بجواز قصر الممدود، ومد المقصور، وتحريك الساكن وعكسه، ومنع المصروف وصرف الممنوع، ومجاوزة بعض القوانين النحوية، كل ذلك قصد الملاءمة بين موسيقى الوزن وحركات العبارات فنحو قول الشاعر: سيروا معًا إنما ميعادكم ... يوم الثلاثاء ببطن الوادي تغير فيه وزن البسيط فالعروض مجزوءة2 والضرب مقطوع3 هذا من جهة، ومن جهة ثانية حذفت همزة "الثلاثاء" كما ترى لتحصيل الوزن، وفي قول امرئ القيس: ويوم دخلت الخدرَ خدر عنيزة ... فقالت: لك الويلات إنك مرجلي فصرف كلمة "عنيزة" لضرورة الوزن. ومع ذلك يحسن الشاعر أن ينزه شعره عن الضرورات وكثرة الفصل والتقديم والتأخير بدون داعٍ أدبي حتى لا يشوه شعره أو يتورط في التعقيد، يقول أبو هلال العسكري4: والمنظوم الجيد ما خرج مخرج المنثور في سلامته وسهولته وقلت ضرورته، ومن ذلك قول بعض المحدثين:   1 راجع الضرائر للألوسي والعمدة ج2 ص108. 2 الجزء حذف التفعيلة الأخيرة من الشطر الأول. 3 تحويل فاعلن إلى فاعل. 4 النصاعتين ص157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وقوفك تحت ظلال السيوف ... أقر الخلافة في دارها كأنك مطلع في القلوب ... إذا ما تناجت بأسرارها فكرات طرفك مردودة ... إليك يغامض أخبارها وفي راحتيك الردى والندى ... وكلتاهما طوع ممتارها وأقضية الله محتومة ... وأنت منفذ أقدارها ولأبي العتاهية، والبهاء زهير، والبحتري، وغيرهم أمثلة لهذه المحمودة. 7- ولما كان الشعر أدخل في باب الفن وأشد تمثيلا له كان أميل إلى الإيجاز والقصد في تأليف العبارات؛ فمن حقه الاكتفاء بالعناصر الرئيسية كالمسند والمسند إليه دون التزام الفضلة، وكثرة الروابط مثل حروف العطف، والجر، والضمائر، كذلك يكتفي الشعر بالمقدمات دون النتائج، وعكس ذلك أيضًا، مائلا بذلك إلى الرمز والإشارة واللمحة دون التصريح والتفسير. ولنذكر مثالا لذلك قول المتنبي: ومراد النفوس أصغر من أن ... تتعادى فيه وأن تتفانى غير أن الفتى يلاقي المنايا ... كالحاتٍ ولا يُلاقي الهوانا فإن نثر هذين البيتين يبين لنا العبارات المحذوفة إيجازًا واكتفاء، يقول: إن ما تبتغيه النفوس "من طعام وشراب ولباس" أصغر من أن يحتاج الناس في "الحصول عليه" إلى التعادي والتفاني، ولكن الناس مع ذلك لا يكفون عن التحارب والتباغض فما سر ذلك إذًا؟ السر هو الحرص على الحرية والكرامة والعزة التي "يفضل الإنسان الموت في سبيلها عن أن يقبل المذلة والهوان" مسلمًا راضيًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 من ذلك ترى مقدار ما بين الشعر والنثر من الفرق في العناية بعناصر العبارة، اكتفاء وإيجاز في الأول، وتصريح واكتمال في الثاني. 8- لأسلوب الشعر بعد ذلك صفة خاصة هي خلاصة هذه الميزات المذكورة مع طبع الشاعر وذوقه، فهو الذي يطبع العبارة بطابع القوة، أو الجمال ويكسبه روح الشاعر وشخصيته الفنية الممتازة، وفيها يحار النقاد ويسمونها مرة عبقرية الشاعر، ومرة أخرى شيئًا يدرك ولا يمكن تعليله وتفسيره تدركه في قوة المتنبي، وجمال البحتري ورقة جرير في النسيب، وسهولة أبي العتاهية والبهاء زهير، ويكفي هنا أن أشير إلى مثل قول جرير: بان الخليط ولو طووعت ما بانا ... وقطعوا من حِبال الوصلِ أقرانا حي المنازل إذ لا نبتغي بدلًا ... بالدار دارًا ولا الجيران جيرانا لا بارك الله في الدنيا إذا انقطعت ... أسباب دنياك من أسباب دنيانا إن العيون التي في طرفها حور ... قتلتنا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن عن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا1 وعندي أن مصدر هذه الموسيقى الرائعة الأول هو عاطفة الشاعر الرقيقة التي تبدو هنا في الأسف، والوفاء، وإدراك ما في الجمال من روعة وقوة آثار، وهذه الموسيقى النفسية هي التي استدعت هذا الوزن الغنائي وتلك القافية المطلقة، مع رقة العبارة فتنامت بذلك أسباب الجمل.   1 ص953 ديوان حرير، مطبعة الصاوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الفصل الثالث: في اختلاف أساليب الشعر مدخل ... الفصل الثالث: في اختلاف أساليب الشعر -1- وهنا نشير إلى مسألة أخرى هي اختلاف أساليب الشعر باختلاف الموضوعات التي يتناولها؛ إذ كان من الملاحظ أن أسلوب الحماسة أو الفخر قوي جليل، وأن أسلوب العتاب أو النسيب، رقيق جميل، وأسلوب الوصف الطبيعي رائع جذاب؛ فما سبب هذا الاختلاف، وما مظاهره اللفظية؟ من المقرر الثابت أن الشعر فن جميل ينشأ عن الناحية الوجدانية للنفس الإنسانية فيعبر بلغته الكلامية الموسيقية عن أنواع الانفعال والعواطف. والانفعال قوة وجدانية تسيطر على النفس وتصحبها تغبيرات جثمانية ظاهرة وأخرى عقلية باطنة، واضطرابات عصبية من الممكن أن يلحظها الإنسان في نفسه، وفي غيره، في أحوال الغضب والرضا، والفرح والحزن، والتفاؤل والتشاؤم، والفزع والهدوء، على تفاوت في الكم والكيف، وفي طبيعة الانفعال لذة وألما، وبساطة وتركيبًا إلى غير ذلك. لاحظ الخائف وما يحل به من انقباض عام، وضيق نفسي، وجفاف في الحلق، وخفة في النفس، وارتعاد في العضلات، ثم ضيق دائرة الشعور وقصره على ما يتصل بموضوع الانفعال، وقد يبلغ به الأمر إلى نسيان عهوده ومواثيقه، واكتسابه شخصية أخرى. فالانفعال يؤثر في الجسم والعقل والسلوك سواء أكان خوفًا أم حبًّا، أم بغضًا أم إعجابًا.. ولكن بدرجات مختلفة كما أسلفنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ولعلماء النفس كلام كثير في تفسير الانفعالات، وصلتها بالغرائز، وفي أقسامها المختلفة القائمة على أسس متباينة1 فهي مثلًا لذيذة أو مؤلمة، بسيطة أو مركبة، قوية أو ضعيفة. ولعل أهم ما يعنينا هنا أن هذه الانفعالات -التي هي موضوع الشعر- تختلف في طبيعتها واتجاهها، قوة وضعفًا إيجابًا وسلبًا، إقدامًا وإحجامًا، ويتبع ذلك اختلاف مظاهرها في جسم الإنسان وفي نفسه؛ فالغضب أقوى من الحزن، وهذا أقوى من الأسف، والفرح أقوى من الإعجاب، كل ذلك غالبي؛ لهذا يصحب الغضب مثلًا نشاط عام في القول والعمل يتجه نحو العدو، كما أن الفرح تصحبه حركات طروبة بهيجة، وعبارات مؤثرة وغناء ورقص أحيانًا. والحزن واليأس كثيرًا ما يصحبهما فتور وبكاء. وهذا ينتهي بنا إلى تقسيم الانفعالات الأدبية قسمين رئيسيين: قسم إيجابي أو إقدامي، وقسم سلبي أو إحجامي، فالأول قوة دافعة كالغضب والقلق، والثاني ضعيف متخلف كالحزن والأسف، والخوف في بعض الأحيان. -2- وحينما تعرض اللغة لتصوير هذه الانفعالات تصويرًا صادقًا يلائم طبيعتها كانت هذه اللغة موزونة حتما لتكون عبارتها صدى لقوى العواطف والانفعالات التي تؤديها، فهي ذات موسيقى قوية أو ضعيفة، خشنة أو رقيقة ناعمة، منسجمة أو مختلفة، كل تلك ظواهر طبيعية لما يحويه الأسلوب من معنى هو هنا قوة الوجدان أو موسيقاه.   1 راجع كتاب في علم النفس ج3 ص158 و214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ولولا أن عبارات اللغة كلمات موضوعة لمعان فكرية محدودة، لكانت العبارات غناء وألحانًا كما كانت قديمًا، أو كانت موسيقى مجلجلة، أو جميلة مؤثرة، أو متنوعة. ومع ذلك -أو على الرغم من ذلك- نجد العبارات الأدبية تحتال دائمًا -مع تأثرها بالمعاني العقلية- لتكون صورة لموسيقى النفس إلى درجة محمودة. فالكلمات رشيقة ذات جرس خاص، تحكي صوت الطبيعة التي تصفها، والألوان التي تصورها، والجمل موجزة مقسمة حرة في تكوين عناصرها تخضع لشيئين: الصحة النحوية، والموسيقى الأدبية، وعن ذلك نشأت البحور في الشعر، والقافية فيه وفي النثر.. وعن ذلك ينشأ الأسلوب المثالي الذي يختصر في هذه الكلمة القديمة: ائتلاف اللفظ والمعنى. والنتيجة الطبعية لكل ما سبق من: 1- اختلاف درجة الانفعال في القوة. 2- وصدق التعبير عنها باللغة، أن الأسلوب نفسه يختلف باختلاف معناه الوجداني، فالعبارة التي تصور الغضب أو السخط أقوى من تلك التي تعبر عن الحزن أو الخوف أو الوله أو الخذلان. ومعنى هذا أيضًا أن أسلوب الحماسة أو الوعيد أقوى من أسلوب النسيب أو الاعتذار أو الرثاء؛ ونجد وصف الطبيعة أو المدح أو الخمريات أو الحكمة متوسطًا، كما أن الوصف العام الذي يتناول كل شيء مختلف حسبما يتناول من قائع حربية، أو أصوات طبعية، أو حوادث هامة، فهو صادق على كل هذه الفنون. هذا هو القانون العام الذي تخضع له الأساليب الأدبية عامة، وأساليب الشعر خاصة، ولنسرع فنذكر هنا مثالا يوضح ما ذكر. قال بشار بن برد مفتخرًا: إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلةٍ ... ذرا منبر صلى علينا وسلما وإنا لقوم ما تزال جيادنا ... تاسور ملكا أو تناهب مغنما فأسمعك هذا الصخب العالي الذي يصور الاعتزاز بالقبيل، كما يصور العنف والتحفز، ويبعث الرهبة في النفوس، وذلك هو ما في نفس الشاعر من انفعال قد طبع العبارة بطابعه أو -على الأصح- خلقها وألفها على وفقه ومثاله، فكانت صداه الصادق، وثوبه اللائق، ولغته الطبيعية الجميلة، وبشار نفسه هو القائل ينسب بمن تدعى "عبدة": لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيف ألم وإذا قلت لها: جودي لنا ... خرجت بالصمت عن لا ونعم رفهي يا عبد عني واعلمي ... أنني يا عبد من لحم ودم إن في بردي جسما ناحلا ... لو توكأت عليه لانهدم فتحس هنا نفسا متألمة ذليلة تترضى أخرى أقوى منها وأشد، فلان الأسلوب لذلك ورق، وكأنك ترهب بشارًا وتفر منه أولًا، ثم ترق له وتعطف عليه ثانيًا وهو القائل: هل تعلمين وراء الحب منزلة ... تدنى إليك فإن الحب أقصاني يقول ابن الأثير: "الألفاظ تنقسم في الاستعمال إلى جزلة ورقيقة، ولكل منها موضع يحسن استعماله فيه؛ فالجزل منها يستعمل في وصف مواقف الحروب، وفي قوارع التهديد والتخويف وأشباه ذلك، وأما الرقيق منها فإنه يستعمل في وصف الأشواق وذكر أيام البعاد، وفي استجلاب المودات وملاينات الاستعطاف وأشباه ذلك"1 وربما كانت الدقة العلمية تقتضي أن يعكس الوضع فيقول: إن مواقف الحروب تنتج أسلوبًا ذا ألفاظ جزلة، والأشواق تنشئ أسلوبًا ذا ألفاظ   1 المثل السائر ص65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 عذبة رقيق. وللقاضي الجرجاني كلام في هذا المعنى تجده في مقدمة الوساطة1 ومع ذلك هناك أمور يحسن أن نسرع فنلاحظها هنا: الأول: أن الفن الشعري الواحد يختلف أسلوبه باختلاف معانيه وأنواعه فالنسيب الوصفي يخالف الشاكي الحزين أو الثائر، وكلهما يختلف من القصص، ونحو ذلك يقال في المديح، والحماسة، والهجاء كما يأتي بيانه. الثاني: أن لشخصية الشاعر تأثيرًا قويًّا في لون الأسلوب فتضيف إليه مزايا خاصة فوق هذه المزايا الموضوعية العامة؛ فرقة النسيب أو العتاب قد تتوارى خلف قوة الشخصية وجفائها كما قد تلحظ عند المتنبي، على أن تفصيل ذلك يلقاك في الباب التالي. الثالث: أن هذا الاختلاف العام الذي نشعر به في الأساليب يبدو في الكلمات، والصور، والتراكيب، والعبارات مع طيف موسيقي عام، هو في الأصل من عبقرية الشاعر وموسيقى نفسه الشاعرة، وستجد مثلًا لذلك فيما يلي. -3- علينا بعد ذلك أن نبين هذه الصلة بين العواطف الإنسانية والفنون الغنائية للشعر، فأي عاطفة تنتج الحماسة، وأيها تنتج العتاب، وأيها تنتج الرثاء؟ وما القاعدة التي يقوم عليها تقسيم الشعر الغنائي إلى فنون مختلفة، وكيف تختلف أساليبه لذلك؟ نستطيع مثلًا، أن نقول: الحماسة ثمرة الغضب أو الطموح، والعتاب ظاهرة المودة والإبقاء، والرثاء نتيجة الحزن والوفاء، والنسيب ينشأ عن المحبة والغزل، والمديح ينشأ عن الإعجاب والاحترام، وهكذا نستطيع رد كل فن إلى عاطفة ما   1 ص29 مطبعة صبيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ولكن ذلك تقسيم عام غير دقيق؛ إذ ليست هناك حدود واضحة بين فنون الشعر ولا بين العواطف والانفعالات فكثيرًا ما تتداخل ويمتزج بعضها ببعض، فلا يخلو الغضب من الحزن، ولا يسلم النسيب من الشكوى ولا المديح من الوصف. لذلك كان من العسير أن نظفر بقاعدة علمية دقيقة لتقسيم مظاهر الوجدان أو لتقسيم الشعر إلى فنونه المختلفة، وهذا هو سبب اضطراب النقاد القدماء والمحدثين في ذكر أبواب الشعر العربي وحصر أقسامه. تجد ذلك في مثل نقد الشعر لقدامه، وديوان الحماسة لأبي تمام، والعمدة لابن رشيق، ومختارات البارودي، وغيرها. ويمكن رد مذاهبهم في التقسيم إلى أصلين: الأول: أن يذكروا الانفعالات ثم ما تنتجه من فنون كقولهم: قواعد الشعر أربعة: الرغبة وتنتج المدح والشكر، والرهبة وتنتج الاعذار والاستعطاف والطرب وينتج الشوق ورقة النسيب، والغضب وينتج الهجاء والتوعد والعتاب. الثاني: أن يذكروا الفنون نفسها، ملاحظين ما تثيره من انفعالات في نفوس السامعين، فقالوا: الشعر نسيب، ومدح، وفخر، ووصف إلى غير ذلك. وأما حديثهم عن الأسلوب فكان مقتضبًا غير قائم على أصول نفسية عميقة ولا منظمة1. وليس هناك تضاد بين الأصلين في حقيقة الأمر، فعاطفة الشاعر القوية تثير مثلها في نفوس القراء والسامعين بوساطة الأسلوب، لذلك ليس ما يمنع أن نساير القدماء في مذهبهم الأول، ونذكر هنا بعض الانفعالات وما يلابسها من فنون:   1 راجع العمدة لابن رشيق ج1 ص77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فالغضب -أو السخط- ينتج الحماسة، والتهديد، والشكوى، والهجاء. والإعجاب ينتج المديح، والوصف الجميل. والحب ينتج النسيب، والمديح والشكران. والازدراء -أو البغض- ينتج الهجاء. والحزن ينشئ الرثاء والعتاب. والطرب ينشئ الفخر والخمريات. ومطلق الانفعال ينتج الوصف العام أو أي فن من الفنون ويمكننا أن نقول بوجه عام: إن هناك أسلوبًا قويًّا كالحماسة، وأسلوبًا رقيقًا كالنسيب والعتاب وأسلوبًا وسطًا كالمديح والهجاء، ورابعًا مختلفًا كالوصف. -4- ولنتقدم قليلًا فنذكر بعض هذه الفنون مشيرين إلى خواصها الأسلوبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 أولًا: الحماسة 1- الحماسة من حمس بمعنى اشتد وقوي، وفن الحماسة في الشعر هو فن القوة أو فن الأسلوب القوي الشديد، ولسنا بحاجة لنعيد هنا ما أسبقنا من أن هذه القوة مصدرها الأول قوة العاطفة أو الانفعال النفسي الشديد. وإذا نظرنا في حماسة أبي تمام رأينا هذا الفن عنده عريضا يتناول، حقًّا، كل مظاهر القوة في الحياة؛ حربية، وخلقية، واستماعية، وغزلية، وكل نزعة قوية إيجابية تمثل السمو والعزة الفردية والقبلية، من ذلك وصف المعارك وأدواتها وآثارها والحث على القتال والجرأة على الموت، والفخر بالنصر، والاعتذار عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 مقاتلة الأقارب، والتأسي للقتلى، والصبر على الشدائد وهجاء الجبان ومدح العصبية والعفة، وهجر المواطن الذليلة، ونفي الضيم والخلوص إلى الحبيب وركوب الصعاب في سبيله.. كل ذلك ونحوه حشده أبو تمام في الباب الأول من مختاراته وبه سمى الديوان جميعه. 2- وطبيعي أن يكون أسلوب الحماسة قويًّا كذلك. فالكلمات قوية الجرس، إيجابية المعنى هي رماح وسيوف، وطن وضرب، وقتل، وأسر وانتصار ودماء وأشلاء ووقائع. والصور تتخذ عناصرها -ألوانها وأجزاءها وحركاتها- من الدماء الجارية، والسيوف اللامعة، والرماح المشتجرة، والجيوش الكثيفة كقطع الليل. والجمل جزلة، موجزة، ضخمة. والعبارة على العموم تحكي موسيقى النفس العالية الإيجابية، ولا يتسع المقام هنا لإيراد مُثل لهذه المعاني الحماسية كلها، ولا بعضها وهي شائعة في كتب المختارات ودواوين الشعراء، وقد مر مثال من قول بشار، وهذا أبو الغول الطهوي1 يقول: فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارس صدقوا فيهم ظنوني فوارس لا يلمون المنايا ... إذا دارت رحى الحرب الزبون2 ولا يجزون من حسن بسيء ... ولا يجزون من غلظ بلين ولا تبلى بسالتهم وإن هم ... صلوا بالحرب حينا بعد حين   1 ديوان الحماسة لأبي تمام ج1 ص16. 2 الزبون: الناقة تزين حالبها أي تدفعه بشدة شبه بها الحرب لأنها تدفع الرجال لشدة هولها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 هم منعوا حمي الوقبي بضرب ... يؤلف بين أشتات المنون1 فنكب عنهم درء الأعادي ... ودووا بالجنون من الجنون2 ولا يرعون أكناف الهويني ... إذا حلوا ولا أرض الهدون3 فقد جمع في أبياته بين الفخر والوصف، والقصص، ولكنها جميعا تنتهي إلى القوة والبسالة في وزن طروب مرقص، وعبارات جزلة ملائمة.. 3- ومن الحماسة قطع تدعى المنصفات يعرف فيها للعدو قوته وصبره أو ظفره كقول زفر بن الحارث الكلابي القيسي في ملحمة مرج راهط المشهورة، وكان الشاعر مع الضحاك بن قيس وقومه يحاربون مروان بن الحكم الأموي ومعه بنو تغلب وفيها انتصر مروان: وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... ليالي لا قينا جذام وحميرا4 فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا5   1 الوقبي: ماء لبني مازن منعوا حماه أن يطأه أحد. أشتات المنون: صنوفه المختلفة بالضرب والطعن. 2 نكبه: حوله، الدرء: الدفع واعوجاج الأعداء وخلافهم، ومعنى الشطر الثاني أنهم دفعوا الشر بالشر. 3 الأكناف، النواحي جمع كنف. والهويني: الدعة، تصغير الهوني مؤنث الأهون، والهدون، السكون والصلح، يريد أنهم لعزهم لا يرعون النواحي التي أباحتها المسالمة بل المحمية. 4 حسبنا: ظننا، وقوله: كل بيضاء شحمة مثل مشهور، وأصله "ما كل بيضاء شحمة ... " أي كنا ظننا أعداءنا ضعافًا كغيرهم، جذام قبيلة معد بن عدنان، حمير: قبيلة يمنية مشهورة. 5 النبع: شجر صلب تتخذ منه القسي والسهام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ولما لقينا عصبة تغلبية ... يقودون جردًا للمنية ضمرا1 سقيناهم كأسًا سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا2 هذه الأبيات على إنصافها، تخيل إليك اصطدام القسي والرماح وملاقاة الفرسان والأقران، وتساقي المنون، والثبات في مواطن الهلاك كأنك تسمع قعقعة السلاح وتشهد مطاردة المقاتلين ومصارع المقتولين ذلك لجزالة الأسلوب وحسن تصويره ما وراءه من عواطف وأفكار فكان عبارات قوية لموضوع قوي. 4- ولبحور الشعر وأوزانه أثر في الأداء وفي قوة الأسلوب وموسيقى العبارة، فقد لوحظ مثلا، أن الطويل3 يتسع للفخر والحماسة ومنه القطعة الثانية وقصيدة السموءل المشهورة: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عِرضُه ... فكل رداء يرتديه جميل وأن الوافر4 ألين البحور يشتد إذا شددته ويرق إذا رققته، وأكثر ما يجود به النظم في الفخر ومنه القطعة الأولى5 وقصيدة عمرو بن كلثوم التي يقول فيها: ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وماء البحر نملؤه سفينا ويمكنك أن تقيس على الحماسة سائر الفنون القوية التي لم يستع المجال هنا للخوض فيها وتمثيلها، كالوعيد، والسخط، والطموح وما إليها.   1 الجرد: الخيل لا رجالة فيها، ضمر: قليلة اللحم. 2 الكأس هنا الموت وأسبابه فكلا الجيشين أبلى في حرب الآخر، وفي البيت اعتراف للعدو بالصبر على مكاره الحروب. 3 وزن فعولن مفاعيلن أربع مرات. 4 وزن مفاعلتن ست مرات. 5 راجع مقدمة الإلياذة ص89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ثانيًا: النسيب 1- ويسمى التشبيب والتغزل، وهو الفن الذي يتناول الحب الإنساني وما يتصل به، وقد يسمى الغزل، والغزل مصدر من معانيه الضعف في السعي وإلف النساء، والتخلق بما يوافقهن من شمائل حلوة، وكلام مستعذب ومزاج مستغرب والتعبير عن ذلك يسمى النسيب1 ومهما يكن فالنسيب أو الغزل فن رقيق لين، طريف يصور عاطفة اجتماعية طبيعة تنحل إلى شعور بالنقص ورغبة في إكماله، والتلطف في ذلك إلى أبعد غاية، لذلك كان الشاعر فيه ذليلا إذا طلب، شاكيًا إذا حُرِم، ثابتًا لا ييأس مأخوذًا بمن يهوى يكاد يفنى فيه والشاعر إما أن يصف المرأة وما يتعلق بها معجبًا مشببًا، وإما أن يصف نفسه شاكيًا حرقة الجوى وتباريح الهجر، وآلام الدلال والحرمان. وإما أن يصف نفسه والمرأة معا وما قد يحدث بينهما عف اللسان أو مسفا مرذولا. فالأول وصف، والثاني شكوى، والثالث قصص. وإذا كانت المرأة هي الشاعرة الغزلة فالأصل أنها تعشق في الرجل جماله وفضائله ومواهبة القوية السامية ويظهر أن قلة الغزل الصادر عن المرأة في الشعر العربي راجعة إلى خجلها قديما فكتمت حبها في نفسها حتى ماتت معها وإلى غرورها حديثا فلا زالت ترجو أن تكون معبودة مدللة وإلى قلة الشواعر وضعفن في الإنتاج الأدبي. على أن المرأة كثيرًا ما تكتم شعور الحب فإذا مات من تحب   1 راجع نقد الشعر لقدامه ص42 والعمدة لابن رشيق ص93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 رثته فإذا الرثاء نوع من النسيب، تلم فيه بالفضائل التي كانت تعشقها في الرجل أو تعشق الرجل من أجلها1. 2- وعلى أية حال فأسلوب الغزل يمتاز على العموم بالرقة واللين والسهولة في غير ابتذال ما دام عبارة عن هذه العاطفة الرقيقة، ولن تخرجه الشكوى أو الثورة عن رقته وعذوبته لأن مداره الأول إلف النساء، والتعلق بهن، وخضوع النفس لداعي المحبة والغرام؛ فالكلمات رقيقة، خفيفة، عذبة تحكي نوازع نفسية رقيقة، كالشوق، والدلال، والفتنة، والهيام. أو حادة مقبولة كالصد، والجوى، والسهاد لأن هذه الألفاظ جاءت في الأصل مشربة هذه المعاني. والصور كذلك مشتقة من الشمس المشرقة، والبدر السافر، والأزهار الناضرة، والبلابل الغريدة، أو من الهجر القاتل، والنار المضطرمة، والحرقة الممضة، أو من اللهو الحلو والعبث السخيف، والجمل سهلة بسيطة، لا تعقيد ولا إغراب. وبخاصة في هذا الغزل الصادق الذي لم يصدر عن القلب فلا يعوزه صنعه ولا يتوارى خلف التراكيب، وعبارة النسيب تتمثل في الموسيقى الجميلة. يقول القاضي الجرجاني: "وترى رقة الشعر أكثر ما تأتيك من قبل العاشق المتيم. والغزل المتهالك فإن اتفقت لك الدماثة والصبابة. وانضاف الطبع إلى الغزل فقد جمعت لك الرقة من أطرافها"2. يقول العباس بن الأحنف: وإني ليرضيني قليل نوالكم ... وإن كنت لا أرضى لكم بقليل بحرمة ما قد كان بيني وبينكم ... من الود إلا عدتمو بحميل   1 راجع في ذلك ديوان أنيس الجليس، والشاعرات العربيات في الجاهلية والإسلام، جمع وترتيب بشير يموث. 2 الوساطة ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وقول عروة بن أذينة: إن التي زعمت فؤادك ملتها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقها وأجلها حجبت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها وإذا وجدت لها وساوس سلوةٍ ... شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها فالأول يستعطف النفوس بلغة النساء في البيت الثاني، والثاني يجمع بين وصفها بالجمال والدلال، ووصف نفسه بالوفاء والإخلاص، وأما ابن الطثرية فإنه على خشونة عيشة قد أتى "بما ترقص له الأسماع ويرن على صفحات القلوب" كما يقول ابن الأثير: بنفسي من إن مر برد بنانه ... على كبدي كانت شفاء أنامله ومن هابني في كل شيء وهبته ... فلا هو يعطيني ولا أنا سائله ومن خير أمثلة ذلك قصيدة ابن الدمينة التي مطلعها: قفي يا أميم القلب نقض لبانة ... ونشك الهوى ثم أفعلى ما بدا لك ولجرير وعمر بن أبي ربيعة، وجميل، والمجنون وسواهم أمثلة تصور هذا الأسلوب الرقيق أصدق تمثيل.   1 مهذب الأغاني ج3 ص92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ثالثا: الرثاء الرثاء فن الموت، ولغة الحزن، ومجال اليأس، ومعرض الوفاء، والحزن في الأصل عاطفة سلبية تحمل الإنسان على العكوف على النفس، والتفكير في شأنها فهو انهزام أمام الكوارث، ومدعاة إلى العظة والاعتبار لذلك يكون أسلوب المرائي رقيقًا لينًا وبخاصة إذا صدر عن شاعرة لأن "النساء أشجى الناس قلوبا عند المصيبة وأشدهن جزعا على هالك لما ركب الله عز وجل طبعهن من الخور وضعف العزيمة، وعلى شدة الجزع يبنى الرثاء، فانظر إلى جليلة بنت مرة ترثي زوجها كليبًا حين قتله أخوها جساس ما أشجى لفظها وأظهر الفجيعة فيه وكيف يثير كوامن الأشجان ويقدح شرر النيران"1. والرثاء كغيره خاضع للتنوع ولقبول معانٍ أخرى متصلة به كوصف الكارثة، وتفخيم آثارها، وذكر فضال الميت واتخاذ مصرعه موعظة، وقد يتسع أفقه فيشمل فلسفة الموت والحياة؛ وينتقل الشاعر فيه من رثاء فرد إلى بكاء قبيلة أو أمة أو دولة أو الدنيا جميعا2 تبعا لمكانة المتوفى. لذلك يتعرض الأسلوب لشيء من الاختلاف واضح تبعا لهذه المعاني والأغراض ولكنه مع ذلك لا يكون في قوة الحماسة ولا عذوبة النسيب، فالكلمات تدل على معان سلبية مؤلمة كالفجيعة والكارثة، والجزع، والبكاء، والخراب، والصور من وادي الموت فالبيوت كالقبور والأطفال مروعون والنهار ليل، والأزهار ذابلة واليأس قاتل والأمل مقتول، وأما الجمل فرقيقة تصور الجزع، أو شاكية صاخبة تحكي الفزع. أو جزلة تعبر عن هول المصاب، ومن ذلك تكون العبارة شجية مؤذنة بالأسى والحسرة. ومن ذلك رثاء ابن الرومي ابنه، وأبو تمام محمد بن حميد الطوسي، والبحتري المتوكل على الله. والمتنبي أمه والمعري فقيها. وكلها مشهورة ومعروفة. ونذكر هنا أبياتًا لديك الجن يرثي جاريته بعد أن قتلها:   1 ابن رشيق: العمدة ج3 ص32. 2 المؤلف: هلال أغسطس سنة 1938: الرثاء في شعر أبي العلاء؛ وأصول النقد الأدبي ص288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 يا مهجة جثم الحمام عليها ... وجنى لها ثمر الردى بيديها رويت من دمها التراب وربما ... روى الهوى شفتي من شفتيها حكمت سيفي في مجال خناقها ... ومدامعي تجري على خديها1 ومن ذلك قول حافظ إبراهيم في رثاء محمد فريد رئيس الحزب الوطني المتوفى في برلين سنة 1919: من ليوم نحن فيه، من لغد ... مات ذو العزة والرأي الأسد لهف نفسي هل "بيرلين" امرؤ ... فوق ذاك القبر صلى وسجد هل بكت عين فروت تربه ... هل على أحجاره خط أحد ههنا قبر شهيد في هوى ... أمةٍ أيقظها ثم رقد2 والعزاء قرب من الرثاء، وإن كان مذهبه تهوين المصاب، وبث السلوى والتأسي بالسلف الهالك. وقد سلك البحتري في ذلك مذهبًا طريفًا حين عزى محمد بن حميد الطوسي عن ابنته، فقال من قصيدة مطلعها: ظلم الدهر فيكم وأساء ... فعزاء بني حميد عزاء أتبكي من لا ينازل بالسيـ ... ـف مشيحًا ولا يهز اللواء3 والفتى من رأى القبور لما طا ... ف به من بناته أكفاء4 قد ولدن الأعداء قدما وورثـ ... ـن التلاد الأقاصي البعداء5 وتلفت إلى القبائل فانظر ... أمهات ينسبن أم آباء ولعمري ما العجز عندي إلا ... أن تبيت الرجال تبكي النساء ومن خير النماذج القديمة في هذا الفن ما أورده أبو تمام في حماسته لجماعة من الشعراء والشاعرات ومنها قصيدة تأبط شرًّا: إن بالشعب الذي دون سلعٍ ... لقتيلًا دمه ما يطل6   1 العمدة ج2 ص119. 2 الديوان: ج2 ص197. 3 مشيح: مجد مدافع، اللواء لواء الحرب كناية عن القتال. 4 يريد أن موت البنات خير من حياتهن. 5 التلاد: المال الموروث أو القديم في بيتك. 6 الشعب الطريق في الجبل، سلع: جبل في بلاد هذيل، وآخر عند المدينة ما يطل: لا يذهب هدرًا دون الثأر له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 رابعًا: المدح والهجاء والمديح فن الاحترام والمحبة كما أن الهجاء فن الازدراء والبغض، وهما متعادلان في الأسلوب وإن كانا متقابلين في باعثهما الوجداني، وللنقاد السابقين كلام كثير في أصول هذين الفنين نجده في العمدة لابن رشيق ونقد الشعر لقدامة الوسطاة للقاضي الجرجاني. فالمديح يكون ملائمًا لطبقة الممدوح: لوظيفته في الحياة ملكًا كان أو قاضيًا أو قائدًا أو كاتبًا كما يحسن أن يتجه إلى الأعمال والآثار فيكون موضوعيًّا. ويحسن أن يبرأ الهجو من الفحش والسباب، وأن يخرج مخرج السخرية والتعريض مع قرب المعاني وسهولة الحفظ، ومع اختلاف العبارات باختلاف المعاني التي يتناولها كل من الفنين، نجد أسلوبهما متوسطًا على العموم فليس كالحماسة العنيفة ولا النسيب الرقيق، وإنما يخضع للجزالة غالبًا وللسهولة أحيانًا، ويذكرون زهيرًا والنابغة والحطيئة من السابقين الموفقين في هذا الباب لما اجتمع لهم من جزالة الأسلوب والقصد في المعاني والأوصاف كقول الحطيئة يمدح بني بغيض ويعرض بقرنائهم من بني سعد: يسوسون أحلامًا بعيدًا أناتها ... وإن غضبوا جاء لحفيظة والجد1   1 الأحلام: العقول، الأناة: الوقار والحلم، الحفيظة: المحافظة، يقول إنهم يحلمون ما لم يضاموا وإلا فزعوا يدفعون عن كرامتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 أقلوا عليهم، لا أبا لأبيكم ... من اللوم أوسدوا المكان الذي سدوا أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا1 كما يذكر البحتري من المحدثين لرقه شعره وحلاوة معانيه، فمن ذلك قوله في الفتح بن خاقان من قصيدة مدح وعتاب: بلونا ضرائب من قد نرى ... فما إن وجدنا لفتح ضريبا2 هو المرء أبدت له الحادثا ... ت عزمًا وشيكًا ورأيًا صليبًا3 تنقل في خلقي سؤدد ... سماحًا مرجى وبأسًا مهيبا فكالسيف إن جئته صارخا ... وكالبحر إن جثته مستثيبا ومن أمثلة الهجاء قول جرير في الراعي النمري: ولو وزنت حلوم بني نمير ... على الميزان ما وزنت ذبابا4 فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا5 ولبيان خواص الأسلوبين نذكر فيهما الجزالة والوضوح وشدة التأثير، وإن اختلفت الكلمات والصور بين مجد وهوان، وانتصار وخذلان، وكرم وبخل، وشجاعة وجبن، وأثرة وإيثار، وشرف وضعة، وبلاغة وعي، وظلم وعدالة من هذه الكلمات التي تستدعيها المعاني. ثم بين السيف الصارم والرعديد الجبان، ومضاء العزيمة وتخاذل الإرادة، والبحر في الجود، والمغلول المنكود، والبدر وضاءة والقرد دمامة، إلى نحو هذه الصور المشهورة.   1 إن عقدوا شدوا: إن قالوا كلمة تمسكوا بها. 2 الضرائب جمع ضريبة: الطبيعة والسجية، والضريب: الشبيه. 3 وشيك: سريع، وصليب: قوي حازم. 4 الحلوم: العقول. 5 كعب وكلاب: قبيلتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 خامسًا: الوصف وهو الكشف والإظهار، والمراد هنا الوصف الأدبي الذي يتناول الطبيعة والإنسان، والآثار القائمة، والمنشآت الجميلة، والحوادث الكبيرة وكل ما يعن للإنسان تسجيله باللغة فهو نظير الرسم والتصوير، يعتمد على الخيال وصدق التعبير والعاطفة الأساسية التي تنشئ الوصف هي الإعجاب والروعة بما يشهده الأديب فيفسره تفسيرًا خاصًّا متأثرًا بمزاجه ووجهه نظره، ويخلع عليه من نفسه تفاؤلها أو تشاؤمها، إكبارا أو ازدراءها. ولما كان هذا الفن واسعا يتناول كل شيء كان أسلوبًا متنوعًا كثيرًا1 فوصف الحسيات غير وصف المعنويات، ووصف الحروب يختلف عن وصف المناظر الجميلة، ولغة الأصوات المدوية تغاير لغة الألوان الزاهية، وفوق ذلك لا يخلو فن من الوصف، فهو في الحرب حماسة وفي الجمال نسيب وفي الفضائل مديح وفي الحزن رثاء. وهكذا تجد الشعر إلا أقله راجعا إلى باب الوصف. يختلف أسلوب الوصف إذًا باختلاف ما يوصف فهو جزل قوي في وصف الحروب وأصوات الطبيعة وحوادثها المفزعة. ولين سلس في وصف العواطف الرقيقة حبًا وعتبًا واعتذارًا ولهوًا وطربًا. ورائع جذاب في وصف البروق اللامعة والكواكب النيرة والأزهار النضرة والأنغام الحلوة والجمال كيف كان، وقد سبق أكثر ذلك إلا وصف المشاهد الطبيعية، والآثار الضخمة فيجب أن تكون كلماته حاكيه صوت الطبيعة من لون وصوت وحركة حتى إذا قرأه الإنسان أو سمعه تمثل له الموت كأنه يراه بعينه؛ ويسمعه بأذنه. ويحس في نفسه بجماله، أو بجلاله، وأما الصور الخيالية فإنها تعتمد على الطبيعة والإنسان. فالماء فضة، والوجه بدر، والخد ورد أو العكس. والبلابل غريدة. والإنسان الرخيم الصوت كالكروان والنسيم أنفاس الأحبة.. إلى نحو ذلك حتى تجد الجمل والعبارات موسيقى   1 راجع الوساطة ص29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 طبيعة ولن يتوافر ذلك إلا لقدير ذي لغة طيعة مواتية. من ذلك قول البحتري في الربيع: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما وقد نبه النيروز في غسق الدجى ... أوائل ورد كن بالأمس نوما1 يُفَتِّقها برد الندى فكأنه ... يبث حديثًا كان قبل مكتما ومن شجر رد الربيع لباسه ... عليه كما نشرت وشيًا منمنما2 ورق نسيم الريح حتى حسبته ... يجيء بأنفاس الأحبة نعما وقول شوقي في إحدى خمائل الجزيرة: وخميلة فوق الجزيرة مسها ... ذهب الأصيل حواشيا ومتونا3 كالتبر أفقًا والزبرجد ربوة ... والمسك تربا واللجين معينا4 وقف الحيا من دونها مستأذنًا ... ومشى النسيم بظلها مأذونا وجرى عليه النيل يقذف فضة ... نثرًا، ويكسر مرمرًا مسنونًا5 في هذين المثالين نجد الوصف يتناول الألوان، والحركات، كما نجد الربيع، والنيل، والمطر، والنسيم، كائنات حية، لها إرادة وشعور كالأناسي حتى لا يبعد الفرق بين هذه الأبيات وبين لوحة الراسم، إلا أن الثانية تعرض عليك النظر دفعة واحدة، ولكن الأبيات تعرضه متتابعًا في كل شطر أو بيت جزء، وهي مع ذلك مُفصحة واضحة. ومن الأوصاف المعنوية ما قاله ابن خفاجة الأندلسي يصف جبلًا:   1 النيروز أول أيام السنة معرب نوروز. 2 الوشي: نقش الثوب. منمنم: مزخرف. 3 الخميلة: الموضع الكثير الشجر. الحواشي: الجوانب. المتون: الظهور والأعالي. 4 المعين: الماء الجاري الظاهر. 5 المسنون: السائل، والمراد الماء الشبيه بالمرمر لونًا وشكلًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وقور على ظهر الفلاة كأنه ... طوال الليالي ناظر في العواقب أصخت إليه وهو أخرس صامت ... فحدثني ليل السرى بالعجائب وقال: إلى كم كنت ملجأ قاتل ... وموطن أواه تبتل تائب1 وكم مر بي من مدلج ومؤوب ... وقال بظلي من مطي وراكب2 فما كان إلا أن طوتهم يد الردى ... وطارت بهم ريح النوى النوائب فما خفق أيكي غير رجفة أضلع ... ولا نوح ورقي غير صرخة نادب3 وما غيض السلوان دممي وإنما ... نزفت دموعي في فراق الصواحب4 فقد خلع على الجبل صفات الإنسان الوقور الواعظ وفسر ما يتصل به من نوح وجدب تفسيرًا فنيًّا ملائمًا.   1 الأواه النائب: الراهب الذي يبني صومعته في رءوس الجبال. 2 المدلج: السائر ليلا والمؤوب: السائر نهارًا. 3 خفق أيكي: خفق غصون الأيك أي الشجر المتكاثف. والورق جمع: ورقاء هي الحمامة، وقيل الرمادية اللون. 4 غيض: حبس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الفصل الرابع: في اختلاف أساليب النثر النثر العلمي ... الفصل الرابع: في اختلاف أساليب النثر تقدم القوم في الفرق بين النثر العلمي والأدبي، وقد لوحظ أن الأول لغة العقل والثاني لغة العاطفة على الأصل فيهما، وعلى هذا الفرق الأساسي قامت أوجه الخلاف بين أسلوبيهما كما مر. وفي هذا الفصل نتقدم قليلًا فنذكر بعض فنون -أو موضوعات- كل من النوعين وما قد يكون بينهما من الفروق الأسلوبية. النثر العلمي: وإذا كان الأصل في هذا النوع قيامه على العقل، ونشر الحقائق الفكرية، والمعارف العلمية والفلسفية فليس يخلو من العاطفة خلوًّا ما، حتى قال بعض النقاد: ليست هناك نصوص خالية من العاطفة إلا أن تكون الأرقام الحسابية، والرموز الجبرية، والعلمية. ويمكن للقارئ أن يتبين مظاهر العاطفة في الآثار الفلسفية والتاريخية والسياسية، الاقتصادية، والاجتماعية فيما يحس به من حرص الكاتب على نشر آرائه، وصدق عقيدته فيها، وترجيحه بعض الأفكار، وإعجابه بشخص أو عمل ثم ازدرائه آخر واستخدامه الخيال في سد النقص الروائي وإكمال ما فات المؤرخين. وإذا كابد من الإشارة إلى هذه الصفة العامة اللازمة لأسلوب النثر العلمي أو الأدب بمعناه العام فهي الوضوح Clearness؛ ولكن هذا لا يعفينا من الإلمام هنا ببعض الخواص التي تميز كلام من أهم فنون النثر العلمي تاركين بعضها الآخر إلى الكلام في صفات الأسلوب. ونذكر هنا: المقالة ، والتاريخ، والسيرة، والمناظرة ثم التأليف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 المقالة : وتطلق في الحديث على الموضوع المكتوب الذي يوضح رأيًا خاصًّا وفكرة عامة، أو مسألة علمية أو اقتصادية أو اجتماعية يشرحها الكاتب ويؤيدها بالبراهين. والمقالة من الأدب بمعناه العام أو العلم بمعناه العلوم تقوم على عنصرين رئيسيين: المادة والأسلوب "العبارة"؛ ولها بعد ذلك خطة "أو أسلوب عقلي". ولما كانت المادة من المسائل الفكرية التي ترمي إلى التعليم والإقناع؛ وجب أن تكون صحيحة، بريئة من الأخطاء والتناقض، حتى تؤدي إلى نتائج معقولة ولا بد من الحيطة في تقرير الأحكام والنتائج، فإذا تحقق الاستقرار أمكن تعميم الأحكام وإلا اقتصد الكاتب فيما يقول، وبقدر كمية المعلومات وجدتها تكون قيمة المقالة. وأما خطأ المقالة plan فهي أسلوبها المعنوي من حيث تقسيمه، وترتيبه لتكون قضاياه متواصلة، بحيث تكون كل قضية نتيجة لما قبلها مقدمة لما بعدها حتى تنتهي جميعًا إلى الغاية المقصودة. وهذه الخطة تقوم على المقدمة والعرض والختام. فالمقدمة تتألف من معارف مسلم بها لدى القراء، قصيرة متصلة بالموضوع معينة عليه بما تعد النفس له، وما تثير فيها من معارف تتصل به. والعرض -أو صلب الموضوع- هو النقط الرئيسية أو الطريقة التي يؤديها الكاتب سواء انتهت إلى نتيجة واحدة أم إلى عدة نتائج هي في الواقع متصلة معًا، وخاضعة لفكرة رئيسية واحدة ويكون العرض منطقيًّا، مقدمًا الأهم على المهم، مؤيدًا بالبراهين، قصير القصص أو الوصف أو الاقتباس، متجهًا إلى الخاتمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 لأنها مناره الذي يقصده. والخاتمة هي ثمرة المقالة عندها يكون السكوت؛ فلا بد أن تكون نتيجة طبيعية للمقدمة والعرض، واضحة صريحة، ملخصة للعناصر الرئيسية المراد إثباتها، حازمة تدل على اقتناع ويقين. لا تحتاج إلى شيء آخر لم يرد في المقالة. وأهم ما يعنينا هنا هو الأسلوب أو العبارة اللفظية، والصفة العامة اللازمة لأسلوب المقالة هي الوضوح، وإن لم يخل من القوة والجمال ونرجئ القول في ذلك إلى مكانه من هذا البحث، ومن كتب المقالات: الفصول ومطالعات للعقاد، وفيض الخاطر لأحمد أمين وحصاد الهشيم للمازني والمختار للبشري. فإذا اتخذنا مقالة -أكاذيب المدينة- لأحمد أمين1، مثلًا تطبيقيًّا لهذا الفن الكتابي، لاحظنا، أولًا، المقدمة التي استغرقت الصفحة الأولى لبيان جانبي المدنية: المادي والروحي، وثانيًا هذا العرض الذي سلك فيه طريقة التركيب إذ قال رأيه في الموضوع مقدما، ثم أخذ يؤيده بالبراهين فكرة فكرة، كما كان يفعل ابن خلدون في أهم فصول مقدمته، وقد انتهت به البراهين إلى أن المدنية عرجاء تمشي على ساق واحدة هي الناحية المادية دون الناحية الروحية، وإن علة ذلك ضيق النظر بتغليب القومية على الإنسانية. وثالثًا هذه الخاتمة التي تقوم على الدعوة إلى جعل "الإنسانية" المذهب الذي يعتنقه الجميع ويخضع له كل ما في الحياة حتى يسعد الناس وإلا فالمدينة مجموعة أكاذيب. مهما يكن من قيمة هذه المقالة من الناحية العلمية، فلا شك أن أسلوبها مثال الوضوح الناشئ عن دقة الكلمات، وسهولة التراكيب، وتواصل الفقرات لفظيًّا ومعنويًّا! فكانت العبارة واضحة، بمعونة أو على الرغم من العبارات العلمية.   1 فيض الخاطر ج1، ص131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 التاريخ : وقد كثر الكلام فيه: أعلم هو أم أدب1، فمن نظر إلى أنه يتناول الحقائق الواقعية، ويعنى بتجميعها، ونقدها نقدًا موضوعيًّا قال بأنه علم يشبه علم طبقات الأرض "الجيولوجيا". ومن لحظ أنه لا بد للتاريخ من خيال الشاعر لنشر الحوادث وبعث الحياة فيها، ثم لا بد له من براعة الكاتب البليغ لتعرض هذا الواقع بالثوب اللائق بها قال بأنه أدب. على أن من قال بعلميته يعترف بأنه ليس كالفلك علم معاينة مباشرة، ولا كالكيمياء علم تجربة واختبار، ولكنه علم نقد وتحقيق. ويمكن أن يعد التاريخ علمًا بالمعنى العام أو أدبا بالمعنى العام، ما دام خاليًا من التجارب الدقيقة التي تدخله دائرة العلوم الطبيعية. ولم تستأثر به العاطفة أدبًا خالصًا. وللتاريخ -كالمقالة- خطة ومادة وعبارة "أو أسلوب لفظي". أما مادة التاريخ فهي الشئون الماضية التي يرجع إليها في الآثار الباقية، والسجلات القديمة والتقاليد التي سلمت من عدوان الدهر وصروفه، فعليها يقيم أبحاثه، وينهض بما يجب عليه من تحقيق، وتأويل، وتعبير. حتى إذا أشرف على ذلك وجد أن الحوادث الماضية مغمورة بكثير من الآراء والانفعالات، فلجأ إلى الخيال لاستحضار الماضي، وإلى العاطفة لبعثه حيا كما كان يقع سابقا. وأما خطة   1 راجع علم التاريخ للأستاذ هرنشو ترجمة الأستاذ عبد الحميد العبادي الفصل الأول، منهج البحث التاريخي لحسن عثمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 التاريخ أو أسلوبه العقلي فتقع في ثلاث مراحل: جمع الوثائق التاريخية، ونقدها لتعرف قيمتها، وصلاحيتها للتصديق، ثم تفسيرها تفسيرًا معتمدًا على طبيعتها وعلى الخيال المكمل، وعلى ما قد ينفع من أصول العلم الحديثة كعلم النفس، والاجتماع، والجغرافيا. أما الأسلوب اللفظي، فيجب أن يكون واضحًا جميلًا، كما يذكر ذلك بعد، ومع هذا فنذكر هنا بعض الخواض الشديدة الاتصال بالكتابة التاريخية: 1- يجب على المؤرخ أن يحرص على استعمال المصطلحات التاريخية في مواضعها، فإنها تحدد المعاني والعصور، وتصل بين الكاتب وسواه وتريحه من عناء التفصيل والتكرار ما دامت هذه المصلطحات ألفاظا مقررة تشبه الحدود وعلامات الطريق، مثل الجاهلية والعصر العباسي، وعصر النهضة والقرون الوسطى والميلاد والهجرة وعصر الأهرام. 2- يجب أن يكون واضحا في منهجه وآرائه وعباراته فلا تكرار ولا صنعة؛ إذ إن النثر العلمي يرفض التكرار، ويمقت التكلف لما في ذلك من الغموض، وضياع المعنى، وتنفير القراء الذين ينتظرون الحقائق التاريخية منطقية واضحة. 3- ليحذر المؤرخ أن يتخذ التاريخ معرضًا للخطب والمواعظ؛ لأن التاريخ كالرواية تؤخذ العظة منه بطريق غير مباشر. على أن ذلك يعد نقلا للتاريخ من دائرة النثر العلمي إلى مجال النثر الأدبي الخالص وذلك خلط واضطراب لا يليق بالكاتب البليغ. 4- ولما كان التاريخ بعث الماضي من ناحية، ونقدًا فلسفيًّا من ناحية أخرى، كان أسلوبه وسطا بين العلمي الدقيق والأدبي الرقيق، لا يسلم من مظاهر القصص أو الروايات حتى لا يجف ويثقل، ولا يخلو من النقد والتقرير ليؤدي مهمته الرئيسية. لذلك يقصر فيه الوصف والحوار والاقتباس وإن ظهرت آثار العاطفة والخيال في عبارته الجامعة بين الوضوح والجمال. ومن أمثلة الكتب التاريخية: في الأدب الجاهلي لطه حسين، وفجر الإسلام، وضحاه لأحمد أمين، وتاريخ الأمم الإسلامية للخضري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 السيرة : وهي التاريخ الخاص بحياة الأفراد في الغالب: وتخضع في خطتها لطرق ثلاثة: الأولى: أن يكتب المؤرخ في سيرة غيره، فيختار الحوادث والآثار وينسقها ويفسرها، ثم يصدر أحكامه على صاحبها تعديلًا أو تجريحًا، وهي طريقة نافعة تبدو السيرة فيها متجانسة العناصر ذات وحدة واحدة، ونغمة متسقة، تهب للكاتب حرية النقد والاختيار، ولكنها مع ذلك معرضة للغلو في المدح أو الثلم وسوء الأحكام، ما دام متأثرًا بوجهه نظره هو. من ذلك: تراجم لهيكل، وحياة محمد له، وذكرى أبي العلاء لطه حسين، وحديث الأربعاء له، وكثير من البحوث الجامعية. الثانية: يسلك مسلكًا غير مباشر ويتوارى هو خلف الموضوع ليجعله يدل على نفسه بنفسه، فيعرض علينا أقوال الفرد وآراءه ومذهبه الخلقي، ويذكر أصدقاءه وأساتذته وشعره ونثره دون أن يلح عليها بالنقد والتحليل وهي طريقة معرضة لعدم الإنصاف الناشئ عن سوء الاختيار أو الإيجاز فيه ونقص المختارات أو عدم تجانسها، أو إيراد أشياء تافهة ثانوية لا تمثل رأيًا ولا حياة جدية، وتجد مثلا لذلك في نحو الأغاني، ومعجم الأدباء ووفيات الأعيان لابن خلكان؛ وكتب الطبقات. الثالثة: أن يكتب المؤرخ سيرته بقلمه مثل الأيام لطه حسين وحياة ابن خلدون التي أثبتها آخر تاريخه المشهور، وحياتي لأحمد أمين، وهي طريقة مفيدة في إيراد الحقائق وتفسير الحوادث بوجهة نظر صاحبها، وصدق الشعور في تصوير المواقف المختلفة ولكنها معرضة للقصور إذا حابى الكاتب نفسه أو أخفى بعض أسرارها، أو استعمل الرياء والصنعة فيما يقول أو عجز عن استحضار ماضيه دقيقا، ومهما تكن السيرة فأسلوبها كأسلوب التاريخ في وضوحه، وجماله وترتيبه، وإن كانت السيرة أميل إلى أسلوب القصة وسيأتي الكلام فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 المناظرة والجدل : يقول ابن خلدون: وأما الجدل -وهو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم- فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعًا وَكَلَ واحدًا من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج، ومنه ما يكون صوابا ومنه ما يكون خطأ فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابًا وأحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول1 وسميت هذه الآداب فيما بعد "أدب البحث والمناظرة"، والخلاف والجدل في عرف العلماء الآن يخالفان البحث والمناظرة من حيث إن الغرض منها الإلزام، والغرض من المناظرة إظهار الصواب2 فهي تعنى بخدمة الحقيقة والصواب؛ لا يعنيها الناس كما يعنيها إثبات الحق وبيان وجه الصواب، وعلى أية حال فنحن هنا أمام ضرب من الكلام يشترك فيه اثنان على الأقل يحاول كل منهما إثبات رأيه وإبطال رأي   1 المقدمة ص91 مطبعة التقدم. 2 الشيخ حسين والي؛ الموجز ص32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 خصمه بالحجة والبرهان ويتناول المسائل العلمية والسياسية والاجتماعية والفلسفية وغيرها. وقد كان فيما مضى وسيلة الفرق الإسلامية، وأصحاب المقالات الفلسفية والأدبية في الحوار وتقرير الآراء، بدأ شفويًّا كالحديث والخطابة، ثم صار كتابيًّا يسجل في كتب ورسائل حتى الآن. وقد زادته المطبعة انتشارًا وقوة حتى ملأ الصحف والمجلات، والكتب العلمية والأدبية، وهو فن نافع في كشف الحق وإزهاق الباطل بالحجة الصحيحة، والمنطق والصواب. والنوع الأدبي منه الحقيقي كهذه المناظرة التي حدثت في نيسابور بين الهمذاني والخوارزمي1، ومنه الخيالي الذي يكتبه الأديب لبيان رأيين مختلفين في مسألة بهذا الأسلوب الجدلي كمناظرة صاحب الديك وصاحب الكلب التي كتبها الجاحظ في الحيوان، والمناظرة التي كتبها الآمدي في الموازنة بين أبي تمام والبحتري والمناظرة بين السيف والقلم لابن الوردي وغيرها كثير. والناظر في هذا الفن يجد له أصولًا خاصة به دونها العلماء تتناول المتن والسند والمقدمة والدليل والتقسيم وغيرها من مسائله الموضوعية والمعنوية2، والذي يعنينا هنا العبارة أو الأسلوب اللفظي الذي يؤدي هذه المعاني وهو لا يمتاز في الواقع بشيء جديد غير ما نجده في المقالة والخطابة إذا كانت كلها فنونا إقناعية، ولكنه مع ذلك ذو مظاهر ثانوية أشد اتصالا به. 1- منها أن المناظر مرتبط بخصمه، مقيد بأفكاره إلى حد ما، فهو   1 رسائل بديع الزمان الهمذاني ص18، طبعه بيروت 1921. 2 راجع في ذلك نقد النثر 102 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 يستمع إليها، أو يقرؤها ثم يناقشها، ولذلك يردد في عبارته كثيرًا من ألفاظ نظيره وعباراته إذا كانت موضوع الحوار. 2- ومنها أن موضوع المناظرة والجدل يكون مقسما إلى فصول ونقط يدور عليها الحوار واحدًا بعد الآخر، حتى يستحيل الأسلوب الشفوي أحيانًا إلى سؤال فجواب، وإذا عرضت نقط الجدل كلها أولًا، أعيدت ثانيًا لتأييدها أو رفضها، فالترديد واستعمال الأقيسة المنطقية من عناصر المناظرة. 3- ولا بد من الحرص على الألفاظ الاصطلاحية الخاصة بموضوع المناظرة تسهيلا للتفاهم، وتحديدًا للأفكار. كذلك يجب أن تكون العبارة دقيقة واحدة ليس فيها إسهاب مخل ولا تكرار غير مفيد. 4- إذا اضطر المتناظر إلى استخدام الأسلوب الخطابي للتأثير فليحذر الغلو فيه أو الصنعة؛ لأن المناظرة موضوع عقلي إقناعي قبل كل شيء. وكل من الغلو والصنعة داعية إلى السخرية والسقوط. 5- وأما القوة والجمال الأسلوبي فسيأتي القول فيهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 التأليف : وهذا الفن من أبواب المنطق التطبيقي. يخضع لما يسمى مناهج البحث والتأليف باختلاف موضوعاتها: الرياضية والطبيعية، والاجتماعية، والأدبية1 ولكل أثره في الأساليب ما دامت العبارة صورة للمعاني والموضوعات. هذا من ناحية؛ ومن الناحية الثانية نرى أن للشخصية أثرًا واضحًا في منهج التأليف والبحث فاقتضى ذكره هنا. وإذا كان لا بد من الإشارة إلى نحو من ذلك مقارب، فهؤلاء كتاب السيرة النبوية المعاصرون، محمد حسين هيكل، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، فالصفة التقريرية العلمية كانت لأولهم، فظهر كتابه خاضعًا لمناهج البحث العلمي الواضح في الفصول والأقسام، وفي عرض الآراء ومناقشتها، وفي الاستقصاء والعناية بالحق وتخليصها من الأساطير وتفسيرها بروح العلم والدين، وكان أسلوبه لذلك ممتاز بالوضوح، والدقة العلمية، والمساواة، وإن لم يخلص من الشعور الديني. وقد أخلص ثايها لفنه القصصي فاستلهم المراجع القويمة التي صاحبت حوادث السيرة وانتقل إلى أماكنها كذلك. وعاش مع أهلها يتلقى عنهم الحقائق والخرافات والتورايخ والأساطير، حتى اندمج في هذا الماضي وأعاده إلينا قصصًا جميلًا حقًّا، بأسلوبه الفياض، الموسيقى، المستقصي، فلم يتقيد بالمنهج العلمي في التحقيق، والتقسيم، وفي مجانبة الخيال ومناقشة الآراء والأقوال. وأما ثالثهم فكان عالمًا أديبًا "ممثلا" استخلص الحقائق ولكن بالروح الإسلامية، واختار رءوسها الهامة، وقسمها فصولا ومناظر، وأداها بهذا الأسلوب الحواري الذي هو أسلوب القصص التمثيلية، مع الاحتفاظ بعباراته القديمة ما أمكنه ذلك. الأول عالم، والآخران أديبان: قصاص وممثل.   1 راجع المنطق التوجيهي تأليف أبو العلاء عفيفي: الفصل الثاني عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 النثر الأدبي : وأما النثر الأدبي فيمتاز بقوة العاطفة التي تؤثر في عباراته تأثيرًا واضحًا يبدو في الكلمات والصور، والتراكيب، وليس معنى ذلك خلوه من الأفكار القيمة والحقائق المبتكرة؛ كلا فإن الحقيقة عنصر أدبي هام وهي في النثر ألزم، لذاتها أولًا، ولأنها تسند العاطفة وتبعث فيها القوة ثانيًا. لذلك نجد هذه الفنون الأدبية للنثر تعتمد على العنصر العقلي مهما تتوسل بقوة الشعور، وجمال التعبير، نجد ذلك في الرواية، والرسالة، والخطابة، و الوصف والمقامة ونحوها. وإذا كان الوضوح هو الصفة الأصلية في الأسلوب العلمي. فهو هنا لازم كذلك للأسلوب الأدبي مع صفتي القوة والجمال. ولكل صفة وسائل لتوافرها، تراها قريبًا. ونذكر هنا بعض فنون النثر الأدبي مشيرين إلى أهم قوانينها ذالت الأثر الواضح في عباراته؛ تاركين تفصيل هذه القوانين إلى مناسبة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الوصف : سبق أن معناه في اللغة الكشف والإظهار، ومعناه الأدبي تصوير خواص الأشياء الحسية والمعنوية باللغة، وهو كالرسم في أنهما من الفنون الجميلة وفي اعتمادها على الألوان للإفهام والتأثير، وفي انقسامهما من إلى نوع واقعي وآخر مثالي جميل، وكلاهما يتناول الأشياء في حاليها المستقرة الثابتة والمتغيرة المتتابعة. والوصف -فوق ما له من قيمة فنية تظهر في نصوصه نظمًا ونثرًا- يدخل في تكوين الفنون الأدبية الأخرى ك الرواية ، والرحلات، والتاريخ، والخطابة، والرسالة. ولهذا الفن قوانين متصلة بأقسامه، وتكوينه، نذكر منها هنا أهم ما يؤثر في أسلوبه اللفظي: 1- يقوم الوصف الأدبي على اختيار أهم العناصر التي تميز الموصوف وتكون مصدر الجمال، والتأثير، تاركا الأشياء التافهة أو التفاصيل العلمية الدقيقة. ثم يفسر هذه العناصر تفسيرًا عاطفيًّا خياليًّا متأثرًا بمزاج الأديب. وذكائه: فالزهرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 بألوانها الجميلة، وشكلها المنسق، وعبيرها الفياح، ثم ما تبعثه في النفوس من معاني الذل، والشباب، والأمل، والإعجاب: ومائسة تزهى وقد خلع الحيا ... عليها حلي حمرًا وأردية خضرا يذوب لها ريق الغمائم فضة ... ويسكن في أعطافها ذهبًا نضرا 2- ولما كان هذا الفن معتمدًا على الخيال في التصوير كانت عبارته حاوية هذه الصورة الخيالية من تشبيه، ومجاز، واستعارة ومبالغة، ومقابلة؛ لأن في كل صورة من هذه ميزة لتقوية المعنى أو تجسيده، أو إلحاقه، بما هو أقوى منه استجابة لقوة العاطفة والانفعال. وقد رأيت في المثال السابق كيف استحالت الزهرة فتاة مزهرة بنفسها، معجبة بما خلع عليها المطر من حلي وحلل، وكيف فتن بها الغمام، فسال ريقه فضة، ثم أحالته ذهبًا حين استقر في أعطافها، كل تلك صور خيالية متتابعة، لا بد منها لتصوير إعجاب الشاعر -ابن خفاجة الأندلسي- بالزهرة؛ وما بعثت في نفسه من معان وانفعالات. وكذلك الشأن في المنثور. يقول السيد توفيق البكري في وصف البحر: "فإذا كان الأصيل1 وسرى البسيم العليل؛ رأيت البحر كأنه مبرد؛ أو درع مسرد2؛ أو أنه ماوية3 تنظر السماء فيها وجهها بكرة وعشية؛ وكأنما كسر فيه الحلي أو مزج بالرحيق القطربلي4 وكأنما هو قلائد العقيان5، أو زجاجة   1 قبيل الغروب. 2 متداخلة الحلق. 3 مرآة. 4 نسبة إلى قطر بل موضع بالعراق ينسب إليه الشراب الجيد. 5 الذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 المصور يؤلف عليها الأصباغ والألوان. حتى إذا أخضل1 الليل، وأرخى الذيل، يدا الهلال كأنه خنجر من ضياء، يشق الظلماء"2 وقد غلب التشبيه على هذا النص وإن لم يخل من الصور الأخرى. 3- يجب أن يكون الكلمات من الدقة بحيث تكون صدى صادقا لما تحكي من صوت، أو تؤدى من معنى ولون، لذلك حسن الاستعانة بالنعوت التي تزيد في التحديد أو الروعة ليكون الوصف كاشفًا حاكيًا ما وراءه، يسمعه الإنسان فكأنما يشهد الطبيعة في ائتلافها، والصور في ائتلافها، وكأنما يسمع الرعد القاصف أو الآذي الصاخب، أو البلابل الغريدة، أو نجوى النفوس، وهمسات الفؤاد، وخواطر الضمير. ومن ذلك خصت اللغة كل صوت باسم، وكل لون بميزة، وكل طور في الحياة يعلمه، وكثرت فيه الكلمات والتراكيب التي تحكي صوت الطبيعة، وتدل بجرسها على معانيها. ومن ذلك الصخب لصوت الخصومة، والزجل رفع الصوت عند الطرب، واللجب صوت العسكر، والهتاف رفع الصوت بالدعاء، وزئير الأسد. ونباح الكلب, وضُباح الثعلب. ومواء الهرة. ويقال: جيش لجب وعسكر جرار. كما يقال أصفر فاقع. وأحمر قان. وأسود حالك إلى غير ذلك. ويحسن مثالًا لذلك ما ورد لأبي زبيد الطائي في صفة الأسد. "وأقبل أبو الحارث من أجمته3. يتظالع4 في مشيته، كأنه مجنوب أو في هجار5 لصدره نحيط ولبلاعمه غطيط6.   1 أظلم. 2 معراج البيان ج1 ص35. 3 مأوى الأسد. 4 يغمز. 5 به ذات الجتب أو مشدود في حبل. 6 البلاعم مجاري الطعام في الحلق والغطيط الهدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ولطرفه وميض. ولأرساغه نقيض1 كأنما يخبط هشيما، أو يطأ صريما2، وإذا هامة كالمجن3، وخد كالمسن4، وعينان سجراوان5 كأنهما سراجان يتقدان"6 ولا يظن أن ذلك إغراب في اللفظ وإنما هي الدقة في تحديد الأفكار، وتصوير العواطف، وحكاية الحوادث. 4- يجب أن تكون التراكيب والعبارات ذات نغمة عامة ملائمة لما يوصف سواء أكان منظرًا رائعًا يبعث الإعجاب، أم معركة حامية تثير الرهبة أو حوادث متتابعة تملك العقل، أو يأسًا قاتلا أم أملا عريضًا، بحيث يكون الأسلوب اللفظي حكاية الأسلوب المعنوي، ويتحقق بذلك ائتلاف اللفظ والمعنى كما بينا ذلك في فنون الشعر ولذلك تجد الوصف النثري مختلف العبارات قوة ولينًا باختلاف الموضوعات كما رأيت في الموضعين السابقين. روعة في الأول. ورهبة في الثاني. وقد أورد ابن الأثير7 في هذا المعرض مثال لقوة الأسلوب وجزالته وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى   1 صوت شديد. 2 الأرض المحصود زرعها. 3 المجن: الترس. 4 ما يسن عليه من حجر ونحوه. 5 السجن في العين أن يخالط بياضها حمرة. 6 مهذب الأغاني ج1 ص9. 7 المثل السائر ص65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} . وأورد مثال الرقيق ممن الألفاظ قوله تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} . 5- وكما يكون الوصف حسيًّا يتناول مظاهر الأشياء ثابتة ومتحركة كذلك يتناول النواحي المعنوية، كالفضائل النفسية والعواطف النبيلة والآلام المبرحة، والآمال البهيجة، وما يدور في النفس من شك ويقين، ومن أمثلة ذلك ما كتبه طه حسين في وصف الفيلسوف الحائر "ثم يخيل إلى الفتى كأن عقله قد وقف عن التفكير، وكأن قلبه قد عجز عن الشعور حينا، كأن في نفسه شيئًا يشبه النوم، وليس بالنوم، وكأنه يسمع الصوت الغليظ الخشن وهو يبعث في الفضاء قهقهة عالية ملؤها السخرية والاستهزاء. فيعود الفتى إلى شعوره الأليم وتفكيره العقيم، وإذا هو يسأل نفسه مرة أخرى فيها سخرية مرة واستهزاء حزين فهو يسأل نفسه ألا يمكن أن يكون هذا الصوت: ما هو؟ وما عسى أن يكون؟ وترتسم على ثغره ابتسامة أخرى عن هذا الصوت الذي أغراه بالعودة صوت إله من هؤلاء الآلهة القدماء الذين كان يعبدهم، ويقبل عليهم في المدينة مع صاحبيه ثم لم يلبث أن شك فيهم وتنكر لهم وأعرض عنهم، واستجاب لصديقه الشيخ وجعل يبحث عن آله جديد دون أن يبلغه أو يهتدي إليه، فأضاع نفسه بين قديم كان يعرفه، وجديد لا يألفه"1. وللجاحظ قطع رائعة من هذا الضرب منبثة في البخلاء والحيوان2.   1 على هامش السيرة ج131. 2 من ذلك وصف قاضي البصرة ج3 ص106 من كتاب الحيوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الرواية : إذا كان الأصل في الوصف تصوير المشاهد والمشاعر؛ فإن الأصل في الرواية حكاية الحوادث والأعمال بأسلوب ينتهي إلى غرض مقصود وكلا الفنين يتناول ما يحيط بالإنسان، وإذا كان الوصف يقابل الرسم فإن الرواية تشبه الخيالة "السينما". والرواية -أو القصة- فن طبعي قديم صاحب الأمم من عهد البداوة إلى ذروة الحضارة، ولا يزال إلى اليوم يمثل مكانة ممتازة بين الفنون الأدبية الأخرى لاتصاله بحياة الناس الماضية أو الحاضرة، ولمرونته واتساعه للأغراض المختلفة ولجمال أسلوبه وخفته على النفوس. وقد كان هذا الفن سمر العرب في الجاهلية حتى بلغ القرآن الكريم أسمى درجة بأبلغ أسلوب وأفصح بيان، ثم نشط بعد ذلك وتعددت أنواعه وأغراضه فكان حقيقيًّا كقصص الرحل والملوك والأدباء، وخياليًّا مثل كليلة ودمنة وفاكهة الخلفاء، ومنه نوع أدبي قصير كالمقامات، وحماسي طويل كقصة عنترة1. وفي العصر الحديث أخذت الرواية وضعًا فنيًّا، وخضعت لبعض القوانين في التأليف والأسلوب، فكثرت أشخاصها وحوادثها وتشابكت ثم تعدد مواقفها ونتائجها، ودونها في ذلك القصة Story ثم الأقصوصة أو الحكاية ذات المغزى الواحد والفكرة الواحدة على قصرها وقلة حوادثها وأشخاصها وبساطتها فهي للرواية كالمقطوعة من الشعر بالنسبة للملحمة الكبيرة. ثم تنوعت من   1 راجع المختصر لجورجي زيدان ص138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ناحية موضوعها إلى رواية تاريخية واجتماعية وفلسفية وفكاهية ومنها النوع التمثيلي والقصصي للقراءة إلى غير هذا. ويعنينا هنا أن نذكر أهم الخواص المتصلة بأسلوب الرواية وخطتها العامة. 1- الصفة العامة التي تخضع لها خطة الرواية plot هي التسلسل والاطراد بحيث يشعر القارئ أنه مسوق دائمًا إلى غاية فهو في ترقب وانتظار شائق، وكل قسم أو فصل يُعِدّ لما يتلوه حتى تتوالى الحوادث والمناظر وتنتهي إلى الغاية المقصودة. 2- لذلك يحسن أن تختار الحوادث الهامة -من التاريخ القديم أو المعاصر- وتنسق تنسيقًا منطقيًّا، وتوجز فتحذف تفاصيلها التافهة، كل ذلك ليطرد سياق الرواية، ولا يبدو فيها عرقلة أو اضطراب، وتسير مختلفة بين السرعة والبطء حسن المواقف، وإن كانت السرعة أليق بنهاية الرواية. 3- تكون الرواية ذات مغزى رئيسي يفهم من السياق وبطريق غير مباشر حتى لا تستحيل القصة خطابة، أو مقالة، وهناك عظات أو غايات أولية تظهر أثناء الرواية، وتندمج فيها لتحقيق الغرض الرئيسي، كخبر جديد أو حادثة هامة، أو نقد سياسي أو اجتماعي. 4- يجب أن تكون العبارات سهلة واضحة، لا تحوج القارئ ولا السامع إلى توقف لأنه معني بمجرى الحوادث، ومغازيها. فهي هنا كالخطابة إذا تعقدت تراكيبها أو غربت ألفاظها ذهبت فائدتها وروعتها. 5- العبارة منوعة بين الرقة والقوة حسب المواقف والشخصيات فلغة الرجل غير لغة النساء، ومواقف الوعيد تخالف مواقف العتاب ولكنها مع ذلك قوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 تصور العواطف والأفكار والمناظر أصدق تصوير وتجعل القارئ كالمشاهد كأنه يشترك في حوادث الرواية. 6- يتنوع الأسلوب بين القصص، والوصف، والحوار، وقد تكون خطابة أيضًا ولكن الوصف يقصر ويوجز -لأن مهمته التمهيد وتصوير البيئات- حتى لا يعرقل سياق القصة. والحوار يكون بسيطًا دقيقًا، يخلص القصة من الرتابة، وهو عماد الروايات التمثيلية، وإذا كان لا بد من الخطابة فلتكن قصيرة غير مملة. 7- من مظاهر الأسلوب القصصي المبالغة أحيانًا للتنبيه إلى النقط الهامة، والمفاجأة وذلك حين تتحقق النتائج قبل أوانها لطارئ من الطوارئ، والرمز حينما يكتفي بأول الحادثة أو الإشارة إليها ثم يترك للخيال مجال التصوير والإتمام. 8- يدخل عنصر الحب في الروايات والقصص -ولو أنه ثانوي- لقوته، وسلطانه العام على النفوس، ولأنه في الغالب سمة الشباب المحبوب، ولكل إنسان فيه مشاركة، على أنه قد ينفرد بالقصة فيكون موضوعها. والقصص التمثيلية وغيرها مشهورة متداولة بين أيدينا منها المترجم والموضوع، تراها في آثار المنفلوطي، وتوفيق الحكيم، وهيكل، وطه حسين: في العبرات، والفضيلة، وأديب، وعلى هامش السيرة، وإبراهيم الكاتب، وسارة وغيرها كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 المقامة : وهي نوع من القصص الأدبية القصيرة التي تعتمد على الخيال في تأليف حوادثها، وترمي إلى غاية مثل تعليم اللغة، وسرد الموعظة، ووصف الأشياء ونقد الأدب، والعناية بالعبارات الجزلة البديعة، واشتقاقها من المقام أي مكان القيام، وكل ذلك في الخطب والتكلم في المحافل ثم قيل لما يقال فيها من خطبة أو موعظة مقامة1. وقد ترقى هذا الفن على يد بديع الزمان الهمذاني "395هـ" إذ أنشأ مقاماته ونحلها أبا الفتح الإسكندري على لسان عيسى بن هشام، ثم تبعه الحريري "516هـ" فأنشأ خمسين مقامة نحلها أبا زيد السروجي على لسان الحارث بن همام ثم تبعهما فيها الأدباء على مر العصور كالسيوطي، وابن الجوزي، والقلقشندي، وغيرهم كثير، وحتى أطلقها المعاصرون على مقالات فكاهية عامية نشرتها ولا تزال تنشرها بعض الصحف الأسبوعية في النقد والفكاهة. وقد ترجمت مقامات الحريري إلى اللاتينية، والفرنسية، والإنجليزية والألمانية، والفارسية والتركية، ولا تزال تدارس في الجامعات الأوربية بشرح سلفستردساسي الذي وضعه سنة 1822م. ويمكن تمييز المقامات بما يلي: 1- أنها تدور في الغالب على حادث عادي واحد يتكرر فيها، فالبطل -كأبي الفتح الإسكندري في مقامات البديع أو أبي زيد السروجي في مقامات الحريري- يبدو للراوي متنكرًا ثم يكون بينهما في حوار في موضوع ما، وأخيرًا يعرفه الراوي، فكأن السر هو عرفان البطل بعد ما كان متنكرًا مجهولًا. 2- وتتناول -موضوعيًّا- مسائل منوعة من النقد الأدبي؛ والاجتماعي والديني، والخلقي، ثم العظات، والفكاهات، والأوصاف، والحكايات التي تصور كثيرًا من خواص البيئات التي أنشئت فيها كالمقامة القريضية والعراقية والأسدية لبديع الزمان.   1 راجع تاريخ الأدب العربي للزيات، ص443، الطبعة الخامسة: والنثر الفني لزكي مبارك، الباب الثالث ص197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 3- وعباراتها تقوم على الصنعة البديعية من سجع وجناس، وازدواج وطباق ومبالغة، واستعارات على اختلاف يعد ذلك في الإغراب اللغوي، ودرجة التكلف، فلا شك أن الحريري كان أكثر إغرابًا، وأشد تكلفًا ومبالغة من بديع الزمان. 4- يختلف الأسلوب بعد ذلك بين الوصف، والقصص، والحوار، فيه المديح والهجاء، والجد والمجون، وهو -على صنعته- مختلف بين الرقة واللين والجزالة والقوة، وكثيرًا ما تجد النوعين في مقامة واحدة. 5- تجمع المقامات إلى هذا النثر الجزل البديعي قطفًا من نظم الرجز وغيره، وليس المنظوم هذا في روعة الشعر الممتاز الذي نجده عند البحتري والمتنبي مثلًا، فهو من إنشاء مؤلفي المقامات، وقد عرفت طبعهم الصناعي ووقوفهم عند غرائب المنثور. وقد يظن الناس أن المقامات من باب القصة كما يعرفها الأدب الحديث، والحق أن المقامات لا تثبت لقصة من كل ناحية، نعم فيها الحكاية، والحوار والوصف والمغزى النقدي أو الوعظي، ولكنها تنقصها أشياء أخرى تبعدها عن طبيعة القصة، من ذلك عدم التنويع فيها فالأشخاص لا يتغيرون، والحادثة واحدة والحرص على المال سائد فيها. ومن ذلك التجافي عن التحليل النفسي أو عرض المشاكل وعلاجها، أو الابتكار في تصوير المواهب والأشخاص. ومن ذلك عدم استكمالها عنصري الحياة -الرجل والمرأة معًا- بأسلوب يبعث المشاكل أو يثير العواطف أو يدرس المسائل الاجتماعية. على أن المواعظ ترد فيهم صريحة مباشرة مقصودة لذاتها. وفوق ذلك فعندي أن أسلوبها في صنعته وغرابته ليس أسلوب الرواية أو القصة التي تعنى بالموضوعات والأفكار التي تهم القراء وحسبها أنها من هذه الناحية مدرسة لغوية أدبية، وليس من اللازم أن نورد هنا أمثلة للمقامات، ونعرض لها بالشرح والتحليل، فهي مشهورة ذائعة، على أن المقام لا يتسع هنا لمثل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الرسالة : المراد بالرسالة هنا هو الخطاب المكتوب في غرض جزئي، يبعث به صاحبه إلى آخر. وقد عرفت الرسائل منذ الجاهلية في بعض البيئات التي عرفت فيها الكتابة، ولما جاء الإسلام كتب الرسول عليه السلام إلى ملوك العرب والعجم يدعوهم إلى الدين وتبعه الخلفاء من بعده. وأخذ هذا الفن يرقى، ويتنوع مع تقدم الحياة الإسلامية حتى صار من أكثر فنون الأدب شيوعا، وأغلبها على حياة الدواوين وبين الأفراد. وكان كتاب الرسائل من أخص الرجال، وأقربهم إلى الخلفاء والملوك، وأسبقهم إلى مناصب الوزارة، كما كان لهم ذوق أدبي جميل، ورأي في النقد محترم سديد وتوالت منهم طبقات كانوا عماد الدولة وألسنتها الناطقة، ومستشاريها المأمونين، في وقت لم تكن هناك صحف منشورة، ولا منتديات عامة، ولا خطب قائمة. وأشهر أنواع الرسائل اثنان: الرسائل الديوانية، والرسائل الإخوانية. فالأولى هي ما تصدر عن الدواوين أو ترد إليها خاصة بشئون الدولة وصوالحها تيسيرًا للعمل، وتثبيتًا للنظام العام؛ ويغلب على هذا النوع، الدقة والسهولة في التعبير، والتقيد بالمصطلحات الحكومية والفنية، والمساوة في العبارة والبراءة من التهويل والتخيل؛ إذ كانت صورة موضوعات وزارية وأفكار خاصة، ومع ذلك كانت في العصور الإسلامية الأولى مجالًا للبلاغة، وحسن التقسيم والتعبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وأما الأخوانية فهي ما يدور بين الأفراد في تعزية أو تهنئة أو توصية أو عتاب وشوق أو تحذير ووعيد إلى نحو ذلك مما يصور العواطف والصلات الخاصة بين الأفراد؛ لذلك كانت أدخل في الأدب وأقبل للتخييل، والصور البيانية، والصنعة البديعية، تحتمل الاقتباس من المنثور والمنظوم وتنافس الشعر في جل أغراضه، فالفرق بين النوعين يشبه الفرق بين الأدب العام والخاص، وكلا النوعين لا بد فيه من مراعاة الأصول1 التي يجري عليها الناس فيما يتراسلون: 1- من ذلك الإطناب والإيجاز والمساواة حسب مقتضيات الأحوال فكتب المرءوسين مفصلة، وكتب الرؤساء موجزة حتى إنها تكون في بعض الأحوال توقيعًا، ومن أمثلة الإيجاز ما كتب به جعفر البرمكي إلى عامل شكال له: "قد كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت". 2- ملاحظة الألقاب الخاصة بكل فرد، وكانوا قديمًا يكتبون: إلى ركن الإسلام والجناب الكريم والحضرة الطاهرة، أو إلى الحضرة السنية، وإلى عهد قريب كانوا يستعملون: صاحب العزة، أو صاحب السعادة أو الدولة، أو المقام الرفيع، أو حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم!! والآن يكتبون السيد فلان. 3- تنوع العبارة بين السهولة والجزالة حسب الموضوع، والمكتوب إليه؛ وقد تكون مسجوعة، موشاة بالبديع، فيها أبيات من الشعر وأمثال وحكم، ولكنها يجب أن تبرأ من التكلف والإغراب، ومن ذلك ما كتب بديع الزمان معتذرًا "يعز علي -أطال الله بقاء الرئيس- أن ينوب في خدمته قلمي عن قدمي، ويسعد برؤيته رسولي دون وصولي، ويرد مشرع الأنس به كتابي، قبل ركابي، ولكن ما الحيلة والعوائق جمة:   1 راجع الصناعتين للعسكري ص146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وعليَّ أن أسعى وليس عليَّ إدراك النجاح وقد حضرت داره وقبلت جداره، وما بي حب الجدران، ولكن شغفًًا بالقطّان ولا عشق الحيطان، ولكن شوقًا إلى السكان، وحين عدت العوادي عنه. أمليت ضمير الشوق على لسان القلم معتذرًا إلى الشيخ على الحقيقة. لا عن تقصير وقع. أو فتور في الخدمة عرض. ولكن أقول: إن يكن تركي لقصدك ذنبًا ... فكفي ألا أراك عقابًا 4- ملاحظة صور البدء والختام. وكانوا قديمًا يفتتحون رسائلهم بمثل: أما بعد أو من فلان إلى فلان. أو أدام الله نعمتك. أو كتابي إليك. وكانوا يختمونها بمثل قولهم: والسلام. أو السلام عليك. أو إن شاء الله. وفي عصرنا الحديث يقولون: بعد ذكر الألقاب في الافتتاح؛ ثم ينهون الرسائل بمثل قولهم: وتقبلوا تحياتي، وتفضلوا بقبول أصدق تحياتي، وسلامي إليك، ودمت للمخلص. إلى غير ذلك مما كان بعضه ترجمة عن التقاليد الأوربية. وهناك نظم الكتابة والترقيم. كذكر عنوان الكاتب، وتاريخ الرسالة، والتوقيع، ثم نظام الكتابة على ظهر الرسالة. وعنوان المرسل إليه، وغير ذلك مما يقره العرف. هذا وقد تتخذ صورة الرسالة. وسيلة لتأليف الروايات، أو الكتب، كما يبدو ذلك في رواية ماجدولين. ومن الكتب العربية التي استوفت الكلام على نظام الرسائل وأدبها كتاب صبح الأعشى للقلقشندي المصري المتوفى سنة 821هـ ومختصرة ضوء الصبح المثمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الخطابة : 1- وهي الكلام الذي يلقى في جمهور الناس للإقناع والتأثير. وهي فن قديم وجد مع الإنسان يلجأ إليه النابهون في الإرشاد. والخصومات والحث على الحروب والسلام. ويرقى كلما استجدت دواعيه. واستقرت الحرية الفكرية والكلامية للشعوب. وهي أنواع: دينية وسياسية وقضائية واجتماعية. وقد تكون علمية فيهدأ أسلوبها وتسمى محاضرة وقد كانت الخطابة عدة العرب في الجاهلية. ثم ترقت في صدر الإسلام. واستمرت أداة للدين والسياسة والحكم من زمن الأمويين صدرًا من العصر العباسي. ثم خفت صوتها لما طامن الحكم من حرية الجماهير. ولكنها استردت مكانتها في العصر الحديث لمكان الحرية في حياة الشعوب والأفراد. ولنشأة النظم الدستورية في الحكومات. وقيام دور القضاء والندوة "البرلمان" وإباحة الاجتماع والجدل. والمنافسة في الانتخاب والمناظرة في المسائل العلمية والاجتماعية. ولعل الناحية الفنية أهم ما يعنينا هنا. وتشمل عناصر الخطابة وأسلوبها. للخطابة عناصر معنوية ثلاث: المقدمة والعرض والختام. 2- فالمقدمة للاتصال بالسامعين. وإعداد نفوسهم للموضوع وبخاصة إذا كان جديدًا أو كانوا متأثرين بشعور مضاد، وقد يتركها الخطيب إذا لم يجد داعيًا من هذه الدواعي. ولا بد أن تكون موجزة جذابة متصلة بالموضوع كهذه المقدمة من خطبة علي بن أبي طالب لما بلغه أن خيلا لمعاوية وردت الأنبار وقتلوا عاملًا له: "أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع لله الحصينة، وجنته الوثيقة"1. 3- والعرض هو العنصر الأساسي في الخطابة. يذكر فيه الخطيب آراءه مقسمة منسقة مؤيدة بالبراهين، ويرد على خصمه مفندًا آراءه معتمدًا دائمًا على حجج منطقية حاسمة أو خطابية مشهورة، مع مراعاة اللياقة والتجافي عن السباب ذاهبًا إلى الإقناع والتأثير، كما قال علي في هذه الخطبة: "ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلًا ونهارًا، سرًّا وإعلانًا، وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غُزِي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم حتى شُنت عليكم الغارات، ومُلِكت عليكم الأوطان". 4- والختام أو النتيجة هام لأنه تلخيص للموضوع، وتسجيل على السامعين واجتذاب لعواطفهم، ويجب أن يكون موجزًا واضحًا، قويًّا داعيًا إلى مذهب الخطيب، جامعًا لأهم عناصر الموضوع. كما ختم زياد خطبته البتراء بقوله: "وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على إذلاله وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي"2. وأما أسلوب الخطابة -أو عباراتها اللفظية- فيقوم على طبيعة هذا الفن الذي يرمي إلى الإقناع والتأثير. لذلك كان لا بد فيه من البراهين العقلية لتحقيق الغاية الأولى، والانفعالات الوجدانية لتحقيق الغاية الثانية. وهذه الخاصة وحدها تجعل أسلوب الخطابة منوّعًا يجمع بين تقرير الحقائق وإثارة العواطف، فيستخدم الفكر والوجدان وينفذ منهما إلى الإرادة يدفع بها إلى عمل من الأعمال.   1 المنتخب ج2 ص16. 2 نفس المرجع ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ولذلك تسمى الخطابة الفن العملي كما تسمى الفن الكامل لجمعه -في الإلقاء- بين شخصيتي الخطيب الحسية والمعنوية، ولاستخدامه جميع مواهب السامعين؛ فإن الخطيب يستخدم جسمه في الخطابة؛ فيشير بيديه، ويحرك رأسه، ويشكل أسارير وجهه. وكل هذه الحركات عنصر هام في التأثير الخطابي، حتى إذا قرئت الخطابة مكتوبة كانت فاقدة هذا العنصر الجسماني، مع صوت الخطيب، وحسن إلقائه. فيذهب شيء من روعتها وقوتها الإنشائية. وعلى هذا الأساس من طبيعة الفن الخطابي نستطيع تمييز أسلوبه بما يلي: 1- الصفة العامة للأسلوب الخطابي هي القوة. ومصدرها الأول انفعال الخطيب. وقوة عقيدته ويقينه بما يقول. ثم تظهر في عباراته المسجوعة أو المزدوجة وكلماته المؤثرة الجزلة لتكون موسيقى قوية. على تفاوت في ذلك. يقول زياد في مطلع خطابته: "أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء. والغي الموفى بأهله على النار. ما فيه سفهاؤكم. ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير". 2- التكرار المعنوي جائز في الخطابة لتثبيت الأفكار في الأذهان، وتمكين السامعين من الفهم، والقوة والتأثير. ولكن لا بد من تغيير العبارات كما رأيت في المثال السابق إذ الفكرة الواحدة وردت في عدة جمل. وكما رأيت عند علي. وكقول زياد: "أتكونون كمن طرفت عينيه الدنيا. وسدت مسامعه الشهوات. واختار الفانية على الباقية؟ ". 3- يختلف الأسلوب فيكون خبرًا. وأمرًا. ونهيًا. واستفهامًا. وتفجعًا. حتى لا يكون رتيبًا. وليمثل الانفعالات اللازمة للخطابة، والتي تمتلئ بها نفس الخطيب. يقول زياد: "ما أنتم بالحلماء ولقد تبعتم السفهاء. فلم يزل بكم ما ترون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كئوسًا في مكانس الريب ... حرام على الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدمًا وإحراقًا". 4- والخطابة فيها التقرير لبيان الرأي ودعمه البرهان، وفيها القصص والوصف الموجزان يستعين بهما الخطيب في الإقناع والتأثير كما رأيت كقول علي في خطبته السابقة: "ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها". 5- يجب أن تكون العبارة -مع قوتها- سهلة مفهومة للسامعين، خالية من الإغراب أو التعقيد حتى يستطيع الجمهور متابعة الخطيب ومسايرته؛ إذ ليست هناك فرصة للسامعين سوى لحظات الاستماع، ولا يستطيعون إيقاف الخطيب ليفهموا عنه، ولا يملك هو سوى فرصة الإلقاء؛ فإن الخطابة فن شفوي، على أنه إذا كتب نقص بهاؤه، وربما مضت ظروفه المناسبة فضاعت فائدته. 6- يستطيع الكاتب أن يبين بالترقيم وسواه، كل قسم وموقف، ولكن الخطيب يستبدل بذلك النبر الصوتي على النقط الهامة، والعناية بالانتقال من نقطة إلى أخرى بالتنبيه، وتغيير الأسلوب ولهجة الخطاب، وتوكيد مواضع القصر. كل ذلك في جمل قصيرة سهلة. خالية من الاعتراضات وتفرق العناصر اللفظية التي إذا جازت في الكتابة فلن تجوز في الخطابة. 7- السامعون هم المقياس السديد لمستوى اللغة ودرجتها. فقد يكونون من الخاصة. وبذلك يكون الأسلوب ساميًا عاليًا. وإذا كانوا من العامة كان الأسلوب بسيطًا سهلًا. وإذا كان جمهورًا عامًا غلب الخطيب ناحية السهولة ليضمن الفهم للجميع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 8- ولا بد أن يكون الخطيب جهير الصوت، صافية، حسن الإلقاء، مناسبة الهيئة، حسن الوقوف، متزن الحركات، خبيرًا بنفسية السامعين، قادرًا على الاندماج فيهم. وعلى فهم ما يطرأ عليهم أثناء الخطابة من فتور فيعالجه. أو غضب فيتلافاه. ويحسن انتهاز الفرص, واختيار الأوقات، والانتفاع بكل ما يفيده. جادًا مرة ومازحًا أخرى حتى يظفر بما يريد. ويمكن بيان ذلك في خطب العصر الحديث لمصطفى كامل، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، ومكرم عبيد. وتوفيق دياب. وغيرهم كثير. وتجد في الجزء الثاني من العقد الفريد جملة صالحة من خطب السابقين تعد شواهد لما قلنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الباب الرابع: الأسلوب والأديب الفصل الأول: تمهيد ... الباب الرابع: الأسلوب والأديب الفصل الرابع: تمهيد 1- ذكرنا في الباب الثالث كيف يختلف الأسلوب باختلاف الموضوع، وقد رأينا أن ذلك الاختلاف اللفظي إنما كان ظاهرة محتومة لاختلاف طبيعية الفنون الأدبية من حيث عناصرها المعنوية أولًا، وغاياتها التعليمية أو التأثيرية أو كلتيهما ثانيًا، فكان لكل من المقالة، والقصيدة، والخطابة، والرواية أسلوب خاص، وانتهى بنا القول إلى صحة هذه الكلمة المأثورة: "الأسلوب هو الموضوع". وهنا نقول في ناحية ثانية هي اختلاف الأساليب تبعًا لاختلاف المنشئين سواء كانوا كتابًا أم خطباء أم شعراء أم مؤلفين إلى غير هذا، فالموضوع هنا واحد -خطابة أو كتابة أو شعر- ولكن الأشخاص يتعددون، فإذا بالأسلوب يختلف في الفن الواحد باختلاف هؤلاء الأدباء؛ إذ نرى لكل منهم طابعًا خاصًا -في تفكيره، وتعبيره، وتصويره- ممتازًا به من الآخر في هذه العناصر. وقد يصح لنا بعد ذلك أن نقول مع القائلين: "الأسلوب هو الأديب" أو هو الرجل إلى نحو ذلك من العبارات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ومع ذلك ينبغي ألا ننسى أن المرجع الأول لهذين النوعين من اختلاف الأسلوب هو نفس الإنسان، وما يعرض له من دواع ينشئ فيها الأدب، فإذا أردنا بيان ذلك في الفنون الأدبية رأينا أن الأديب نفسه يعتمد على عقله، ليشرح نظرية علمية، أو مسألة اجتماعية، أو قاعدة قانونية؛ فهو في هذه الحالة منشئ المقالة "كاتب" ومرة أخرى نجده نفسه منفعلًا ثائر العاطفة يتغنى آماله وآلامه بهذه اللغة الموسيقية الخاصة فإذا هو شاعر، ومرة ثالثة يلجأ إلى العقل والعاطفة معًا للإقناع والتأثير مستعينًا جسمه ومظهره الحسي فيكون خطيبًا، وأسلوبه الكتابي يخالف الشعري، وكلاهما غير الخطابي، وهكذا تتشكل النفس أشكالًا شتى، فتصدر عنها فنون متباينة لكل أسلوبه الخاص وغايته الممتازة، فالشخص واحد والفن مختلف. 2- وإذا رأينا بيان ذلك بالنسبة للأديب عكسنا الوضع فالفن واحدة، ولكل الأشخاص يتعددون. وبذلك نجد لهؤلاء الأدباء آثارهم المتباينة في تكييف الأسلوب تبعًا لما يمتاز به كل أديب في عقله وشعوره وخلقه وثقافته ومذهبه في الحياة، وبناء على ذلك يستطيع قراء الأدب أن يتبينوا في الفن الواحد، وفي الموضوع الواحد من الفن أساليب مختلفة في الكلمات، والصور، والعبارات، وفي طرق التفكير، ولون المزاج، ومستوى الرقي والتهذيب. وخلاصة ما ذكر هنا تنتهي إلى أمرين اثنين: الأول: أن مقتضى الحال -أو الدواعي- يحمل الإنسان على اختيار الفن الأدبي الذي يؤدي به ما يشاء: رسالة، أو مقالة، أو خطابة، أو قصيدة فيسلك في أسلوبه مسلكًا خاصا هو هذه العبارات اللفظية التي تلائم فنه. وقد مضى القول في ذلك. الثاني: أن الأديب في حدود هذا الفن، ومع التزامه خواصه الأدبية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 العامة يطبع الأسلوب طابعًا آخر ممتازًا، وخاصًّا به هو بحيث لا يتوافر لصاحبه في نفس الفن أو الموضوع، وبذلك يتحقق للأسلوب ميزتان: ميزة عامة من حيث هو خطابة أو شعر أو كتابة، وميزة خاصة من حيث هو أثر لأديب ممتاز؛ فالخطابة لها خواصها الأسلوبية العامة التي ذكرت، وخطابة الحجاج لها فوق الخواص العامة، ما يمتاز به الحجاج في مزاجه، وخلقه، ومذهبه في الحكم وكلماته، وعباراته. والشعر كذلك ذو أسلوب مميز بالوزن والقافية والموسيقى وغيرهما، ولكن المتنبي مثلًا في أسلوبه -زيادة على ذلك- خواص في التفكير والتعبير والسلوك تفرقه عن أبي تمام والبحتري والمعري. وللكتابة أسلوب خالٍ من قيود الشعر وتقاليد الخطابة، أما الجاحظ مثلًا فيمتاز مع ذلك بلوازم في تعبيره وتصويره وإسهابه، لا تراها عند البديع مثلًا، ولا ابن العميد، ولا ابن خلدون، والأمر واضح في الكتَّاب المعاصرين، فكل من طه حسين، وأحمد أمين، والعقاد، والمازني، والبشري، له ميزاته في تفكيره وتعبيره، وطريقة عرضه الآراء، وطابع أسلوبه العام من الوضوح والقوة والجمال. 3- على أن هذه الميزات -أو الشخصية الأدبية- لا تكون فردية فقط بل تكون كذلك اجتماعية. فنجد العصر الواحد من العصور الأدبية له طوابع عامة شائعة بين أدبائه. منها تتكون ميزاته الأدبية، أو شخصيته الأسلوبية التي يخالف بها سائر العصور. ونجد الشعب الواحد له خواصه الأدبية التي تفرقه من آخر يوافقه في لغته، وجنس أدبه. فالعصر الجاهلي له شخصيته الأدبية التي تتلخص في أنها صحراوية بدوية. خشنة، جاهلة، مضطربة، ذكية، تعتمد على الحس أكثر من غيره. وتشتق عناصرها الخيالية من المفاوز العريضة، والجبال الشماء والوعول الممتنعة، والظباء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وذلك مشاهد بيننا الآن، فالأدب العربي يعيش الآن في مصر، والشام، والعراق، والمغرب، وبلاد العرب، ومهاجر أمريكية، ومع ذلك نجد في كل من هذه الأقطار يخضع لثقافة أهله وبيئتهم، وأحوالهم السياسة والاجتماعية ودرجتهم في الرقي، ويتأثر أسلوبه اللفظي بذلك إلى حد كبير. ولعل الأسلوب في مصر أقواها وأبرها وأخصبها جميعًا، لما أتيح لها من معاهد كبيرة، ومكتبات كثيرة، ودراسات منظمة، وعناية بالثقافة شاملة. أما اللغات العامية في هذه الأقطار فالاختلاف فيها أوضح وأوسع مدى، لخضوعها للحياة الموضعية، واختلاف الطارئين على كل قطر، وتباين نظام الحياة ومشاهدها، وعدم خضوعها لوحدة عامة مشتركة بين هذه الشعوب، ولولا هذه اللغة الفصيحة العامة التي توحد بين الأساليب العربية في التأليف العلمي والإنشاء الأدبي لكان اختلاف الأدب قويا ولضعف التفاهم بين المتأدبين كما ضعف بين العوام في هذه البلاد المتباينة. نعم، نجدنا الآن أمام دعوة لتحقيق الوحدة العربية الثقافية أو الأدبية، وعندي أن هذه الوحدة ستتم بسرعة بتأثير المطبعة والإذاعة، وتقارب مناهج التعليم، وكثرة البعوث العلمية؛ ولكن ذلك لن يمحو أبدًا مظاهر الأدب الإقليمية إلا إذا اتحدت مواهب هذه الشعوب العربية وبيئاتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الفصل الثاني: الأسلوب والشخصية 1- كيف يختلف الأسلوب في الموضوع الأدبي الواحد؟ ذلك راجع إلى اختلاف الأشخاص الذين يتناولون الموضوع، أو اختلاف الشخصيات. ما الشخصية؟ وما عناصرها؟ وكيف تختلف باختلاف الأفراد؟ وما مظاهر هذا الاختلاف في الأدب؟ ذلك ما نحاول بيانه في هذا الفصل وما يليه. الشخصية1 ما يميز الفرد من سواه، أو هي مجموعة الصفات الجسمية والعقلية والخلقية التي يتصف بها الإنسان، أو هي المميزات التي تفرق الشخص من الآخر خيرة كانت أو شريرة، فالتعاريف قائمة على هذه الخواص التي نجدها في فرد ولا نجدها في غيره كما هي الأول، وتكون خلقية: كالصدق، والشجاعة، والكرم أو ضد ذلك. وعقلية: كالذكاء، وصحة الاستنباط، وعمق التفكير أو عكسها. وجسمية: كاعتدال القامة، وقوة البنية، وحسن الهيئة، وما سواها وتكون اجتماعية: كالإيثار، والتحاب، والطاعة. ومزاجية: كالدموي والسوداوي، والبلغمي، والصفراوي إلى غير ذلك مما يدخل في تكون الإنسان ويميزه من سواه. وكثيرًا ما تتجلى قوة الشخصية في الذكاء والجاذبية، والحكمة والصراحة، والثقة بالنفس، والشجاعة، وقوة البيان، من تلك العناصر التي تدعو إلى المحبة والاحترام وتسمو بصاحبها إلى ذروة المجد في هذه الحياة.   1 راجع علم النفس: ج3 ص370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 والناس يختلفون في الشخصية بين قوي وضعيف، نابه وخامل، ثابت ومتقلب، جبار صارم ورقيق وديع. ومبتكر نشيط ومقلد بليد. وقد حفظت الأخبار التاريخية بعض الصفات التي غلبت على سواها وكانت رمزًا لشخصيات أصحابها كعدل عمر. وكرم حاتم. ودهاء معاوية، وجبروت الحجاج. وشجاعة عنترة. وتكون الشخصية للرجال والنساء. والمتعلمين والجهال. والأخيار والأشرار. وللأفراد والشعوب، كالنظام الألماني، والثقة بالنفس الإنجليزية والفكاهة المصرية. والجندية التركية وهكذا. 2- والأدب معرض لظهور الشخصية واضحة؛ فمن المقرر أن العاطفة هي التي تميز من العلم. وهي التي تبعث فيه الخلود. وتشربه شخصة الأديب1 ففي ديوان الشاعر -مثلًا- تجد مزاج الأديب. وطبعه وخلقه، ومذاهبه في الحياة. ومستوى ثقافته. وظل روحه. ونظرته إلى الحياة. وتفسيره للأشياء تفسيرًا أدبيًّا أو فلسفيًّا. كذلك تعرف نوع كلماته وجمله. طريقة تصويره وتعبيره. ولست تجد اثنين يتفقان في كل هذه الخواص أو جلها. كما وكيفا. إذ كل إنسان أمة واحدة فيما يصله بالحياة متأثرًا ومؤثرًا ذلك لأنه شخصية واحده فطرها الله ممتازة. وكونتها ملابسات بعينها. فاستقامت ذات طبيعة محدودة وخطة خاصة. وكانت هي هذا الفرد الممتاز، ونتيجة ذلك أن الأديب حين يعبر عن شخصيته تعبيرًا صادقًا يصف تجاربها ونزعاتها ومزاجها وطريقة اتصالها بالحياة ينتهي به الأمر إلى أسلوب أدبي ممتاز في طريقة التفكير والتصوير والتعبير؛ هو أسلوبه المشتق من نفسه هو: من عقله. وعواطفه. وخياله. ولغته؛   1 أحمد الشايب: أصول النقد الأدبي ص19 طبعة سابعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 تلك العناصر التي لا تتوافر لغيره من الأدباء، ومن ذلك تكثر الأساليب بعدد الكتاب والمنشئين. فالجاحظ1 -مثلًا- كاتب متعمق مستقص يلح وراء المعاني، والأوصاف والخواطر لا يترك منها شيئًا. يطوع اللغة لعقله وشعوره وخياله فيوردها ألفاظًا دقيقة، ويرددها جملًا مزدوجة مقسمة، ويسهب فيها بعبارات موسيقية فياضة حتى يشتفى. يجد فيبلغ من التحقيق والإحاطة جهد العقول. ويهزل عابثًا، وداهية ماكرًا. يبكي ويسخر ما شاءت له براعته ومرونته الخلقية والدينية حتى كأن الجاحظ هو الدنيا جميعًا. وابن خلدون -في مقدمته- كاتب عالم وشيخ وقور. معني بالأسباب والنتائج، ذو عقل رياضي يعرض النظريات ويأخذ في إثباتها بعبارات متشابهة لا تخلو من الأكلاف اللفظية. والركاكة الموسيقية. فليس في روعة الجاحظ ولا صفائه واستفاضته، ولا فكاهته وعبثه الماكر. وطه حسين2 متأثر بالجاحظ في أسلوبه، لا يهجم عليك برأيه فيلقيه إلقاء الآمر، وإنما يلقاك صديقًا لطيفًا، ثم يأخذ بيدك أو بعقلك وشعورك ويدور معك مستقصيًا المقدمات محللًا ناقدًا، يشركك معه في البحث حتى يسلمك الرأي ناضجًا ويلزمك به في حيطة واحتياط، ثم يتركك ويقف غير بعيد متحديًا لك أو ضاحكًا منك، وذلك في عبارات رقيقة عذبة، أو قوية جزلة، فيها ترديد الجاحظ وتقسيمه؛ فإذا قص أو وصف أخذ عليك أقطار الحوادث والأشياء. ودخل إلى   1 اقرأ الحيوان والبخلاء والوسائل. 2 اقرأ في الأدب الجاهلي، وعلى هامش السيرة. والأيام، وحديث الأربعاء ومن بعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 أعماق الشعور وجوانب النفوس مدققًا، مستقصيًا يخشى أن يفوته شيء، ولا يخشى الملال في شيء دقيق الشعور صافي النفس، نبيل الجدل جاد يسير مع خصمه حتى إذا آنس منه الغضب أو التدلي تركه وانصرف. أما أحمد أمين1 فرجل يريح قراءه ولا يندمج فيهم، يعرض أدلته، ويستأثر باستغلالها وينتهي إلى نتائجه، ويقدمها إليهم مستوية ناضجة بأسلوب واضح كل الوضوح، دقيق كل الدقة، ثم يعتكف دونهم ويغلق في وجوههم الباب، ويلقى الحياة بعقله أكثر من قلبه، ويقف منها على أرض من الحديد، يؤمن بالحقائق، ويؤديها بلفظها كما تعرفه الحياة الاجتماعية الواقعية ولو تورط في العامية لأنه مفتون بالاستعمال الإقليمي، وبتأثير الجو في العبارات والتراكيب. هذا، والمشيب في رأي المعري أزهار الرياض وزينتها: والشيب أزهار الشباب فما له ... يُخفى وحسن الروض في الأزهار ولكنه في رأي الشريف الرضي سيف مصلت على الرءوس تحمله بدون عناء: غالطوني عن المشيب وقالوا: ... لا ترع، إنه جلاء حسام قلت: ما أمن من على الرأس منه ... صارم الحد في يد الأيام ذلك لأن المعري فيلسوف حكيم يعرف الدنيا ويقبل قوانينها الطبيعية مهما يضمر في نفسه من سخط واستيئاس، ولكن الشريف محب للحياة، حريص على الشباب متصل بالنعيم فلما أنذره المشيب فزع وارتاع وتوقع النازلة.   1 اقرأ فجر الإسلام وضحى الإسلام وفيض الخاطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ومهما يكن من تأثير الوراثة أو التربية في تكوين الشخصية1، فإنا نستطيع هنا أن نذكر بعض عناصر الشخصية وما قد يكون لها من أثر في الأسلوب: 1- الطبع: فالرقيق الطبع ترق ألفاظه، وتسهل فقره، وتلين عباراته، والخشن الجافي تجزل ألفاظه، وتوجز جمله، وتقوى تعابيره. إذ كانت الطبائع تجذب إليها من التراكيب والألفاظ ما يلائمها رقة وجفاء كما نجده عند المتنبي والبحتري وعند جرير والفرزدق، والعقاد والمازني. قال القاضي الجرجاني في ذلك: "وقد كان القوم يختلفون في ذلك وتتباين فيه أحوالهم، فيرق شعر أحدهم ويصلب شعر الآخر، ويسهل لفظ أحدهم ويتوعر منطق غيره، وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع وتركيب الخلق، فإن سلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع, ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة. وأنت تجد ذلك ظاهرًا في أهل عصرك وأبناء زمانك وترى الجافي الجلف منهم كز الألفاظ. معقد الكلام، وعر الخطاب. حتى إنك ربما وجدت ألفاظه في صوته ونغمته. وفي جرسه ولهجته"2. 2- أثر البيئة: فابن البادية المقيم في الفلاة حيث يرى الجدب الغالب والطبيعة القاحلة الجرداء. والجبال الشم. والصخور الجامدة، والوعول الممتنعة. لن يكون كابن الحاضرة المترفة الخصبة يلقى العيش رقيقًا والملبس ناعمًا. والمزارع ناضرة. والإخوان ظرفاء؛ إذ إن ذلك يطبع الذوق والشعور بطابعه. فلا يقع   1 راجع "علم النفس" ج3 ص372. 2 الوساطة، ص32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 اللسان إلا على كفائه من العبارات، فما كان عَدِيُّ بن زيد والمنخّل اليشكري كطرفة بن العبد والحارث اليشكري. ويقول الجرجاني في أعقاب كلامه السابق: "ومن شأن البداوة أن تحدث بعض ذلك، ولأجله قال النبي -صلى الله عليه وسلم: $"من بدا جفا". ولذلك تجد شعر عدي وهو جاهلي أسلس من شعر الفرزدق ورجز رؤية. وهما آهلان، لملازمة عدي الحاضرة، وإيطانه الريف وبعده عن جلافة البدو، وجفاء الأعراب، فلما ضرب الإسلام بجرانه واتسعت ممالك العرب وكثرت الحواضر، ونزعت البوادي إلى القرى ونشأ التأدب والتظرف اختار الناس من الكلام ألينه، وأسلهه، وجاوزوا الحد في طلب التسهيل حتى تسمَّحوا ببعض اللحن، وحتى خالطتهم الركاكة والعجمة وأعانهم على ذلك لين الحضارة وسهولة طباع الأخلاق فانتقلت العادة وتغّير الرسم وانتسخت هذه السنة، واحتذوا بشعرهم هذا المثال وترققوا ما أمكن، وكسوا معانيهم ألطف ما سنح من الألفاظ فصارت إذا قيست بذلك الكلام الأول تبين فيها اللين، فيظن ضعفًا فإذا أفرد عاد ذلك اللين صفاء ورونقا، وصار ما تخيلته ضعفا رشاقة ولطفا ... ". ومن شواهد آثار البيئة في الأفراد واستحالتهم ما روي أن شاعرًا بدويًّا قدم حاضرة عامرة فأكرمه صاحبها فمدحه بهذين البيتين: أنت كالدلو لا عدمناك دلوا ... من كثير العطايا قليل الذنوب أنت كالكلب في حفاظك للود ... وكالتيس في قراع الخطوب فهم بعض أعوان الأمير بقتله، فقال الأمير: خل عنه، فذلك ما وصل إليه علمه ومشهوده، ولقد توسمت فيه الذكاء فليقم بيننا زمنا، وقد لا نعدم منه شاعرًا مجيدًا، فما أقام بضع سنين في سعة عيش وبسطة حال حتى قال الشاعر الرقيق، ونسبت إليه هذه الأبيات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 يا من حوى ورد الرياض بخده ... وحكى قضيب الخيزران بقده دع عنك ذا السيف الذي جردته ... عيناك أمضى من مضارب حده كل السيوف قواطع إن جردت ... وحسام لحظك قاطع في غمده إن رمت تقتلني فأنت مخير ... من ذا يعارض سيدًا في عبده1 ومهما يشك في صحة هذه القصة التي تعددت رواياتها فليس من شك أن هناك جماعة من الأدباء والشعراء تغيرت آثارهم كلما تغيرت عليهم آثار البيئة. 3- الثقافة والتربية، فالمهذب المثقف يكون أعمق تفكيرًا، وأحسن ترتيبًا للمعاني، وأحرص على جمال التصوير، وصفاء التعبير، وبذلك تعزز معانيه وتهذب عبارته، ويتوافر له الملائمة بين الألفاظ والمعاني. والجاهل الذي لم تصقله التربية أو لم يزود بثقافة كافية. يقف عند حدود الطبع ويتوجه في الغالب إلى جمال اللفظ وإشراق الديباجة لعلها تعوض عليه ما فاته من ابتكار المعاني والغوص وراء الأفكار. ولذلك وجد في الأدب العربي طبقات من كتاب العصر العباسي بلغوا بالترسل مكانة مهذبة. وتأثر شعرهم بذلك التهذيب والصقل كما يقول ابن رشيق: "والكتاب أرق الناس في الشعر طبعًا، وأملحهم تصنيعًا وأحلاهم ألفاظًا وألطفهم معاني. وأقدرهم على تصرف وأبعدهم من تكلف"2. وليس من شك أن ثقافة الجاحظ مما يميزه من البديع والخوارزمي، وكذلك وجد شعراء المعاني الذين أغنوا بها الشعر كأبي تمام والمتنبي والرومي كما وجد الممتازون بجزالة اللفظ ورقته كالبحتري والشريف الرضي، حتى إن أبا تمام إذا   1 مقدمة ترجمة الألياذة، ص138. 2 العمدة، ج2 ص84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 فرغ لطبعه، وترك التكلف أتى بالعجب ودل على شخصية تجيد التفكير، وتحسن التصوير والتعبير لما ظفر به من ثقافة إسلامية جديدة أخصبت عقله، وكثرت معانيه. ولا شك أنك تجد فرقًا واضحًا جدًّا بين أدباء مصر الذين عاشوا أول هذا العصر الحديث وبين من يعيشون بيننا الآن، أولئك ضعفت ثقافتهم فكانت آثارهم لفظية وهؤلاء ظفروا بثقافة قوية متنوعة فجمعوا إلى سلامة العبارة جدة الموضوعات وثروة المعاني فصار الأدب قيمًا نافعًا. 4- الابتكار: فمن الأدباء من يلتفت إلى نفسه، ويثق بها ويحاول أن يفتح بها أو فيها آنفاقًا من التفكير أو الشعر أو التخييل ليعرضها كما هي في أقوى أحوالها وأوضح خواصها دون تحرج أو تكلف، ثم يطوع أساليب اللغة لطريقة تفكيره وتصويره فإذا به شيء جديد وشخصية ممتازة وقد يلقى إنكارًا وعنتًا، ولكن ما دام مذهبه قويًّا خليقًا بالبقاء فإن الثورة عليه لا تكون إلا فترة تجتازها النفوس لقبول الجديد وإقراره ثم يصبح سبيلًا معبدة مسلوكة، وقانونًا متبعًا محبوبًا وقد لقي أسلوب الجاحظ إنكارًا ولكنه عاد مدرسة المتأدبين وواجه أبو نواس ثورة ثم عاد قديمًا، ووجد أبو تمام والمتنبي من أخرجهما من زمرة الشعراء. وكم يلقى المجددون من حرب المحافظين ولكن الأصلح منتصر غلاب. هولاء المبتكرون هم أصحاب الشخصيات البارزة الذين أنشئوا مدارس أدبية غيرت مجرى تاريخ النظم والنثر وبقيت خالدة على الأيام. ومما سبق يمكن ذكر الملاحظات الآتية: أولًا: أن أسلوب الكاتب أو الشاعر أو الخطيب نتيجة طبيعية لمواهبه وصورة لشخصيته هو، وإذًا لا يمكن أن يكون صادقًا، قويًّا، ممتازًا إلا إذا استمده من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 نفسه وصاغه بلغته، وعبارته، دون تقليد سواه من الأدباء؛ لأن كل أسلوب صورة خاصة بصاحبه تبين طريقة تفكيره، وكيفية نظره إلى الأشياء وتفسيره لها وطبيعة انفعالاته، فالذاتية هي أساس تكون الأسلوب، والمقلد يفنى في غيره ويصبح شخصية منكرة ثقيلة على النفس لا تستحق عناية، ينصرف عنها الناس إلى أصلها الأول وبه يكتفون. نعم هناك كتاب كبار يستطيعون طبع عصورهم الأدبية بطابعهم والتأثير في نفوس الناشئين بقوة أدبهم وبراعة أسلوبهم، كالجاحظ والبديع قديمًا. وطه حسين، والعقاد، والرافعي، وسعد زغلول، حديثًا. ولكن ذلك لا يعفي المتأدبين من الاعتماد على أنفسهم وإظهار سماتهم الأسلوبية مع الإفادة من هؤلاء أو من بعضهم. ثانيًا: قد يبدو لبعض الناس التردد في أن الأسلوب صورة صادقة لصاحبه حين يرون حسان بن ثابت شجاعا في شعره، جبانا في عمله، والبحتري جميل الذوق، في أسلوبه. قذرًا، رث الثياب، والمتنبي كريمًا في قوله بخيلا في حياته. وهذا من غير شك تناقض واضح يعرض ما قيل هنا للرد والتجريح. ولكن الشيء الجدير بالنظر أن هذه النصوص الأدبية التي تعد مظهرًا قويًّا لميزات الأديب وسماته قد صدرت عنه في حالة نفسية خاصة هي حال الانفعال والتنبه العاطفي، وسلطان الوجدان على العقل فيقول ما يشاء بوحي الساعة، حتى إذا ثاب إلى عقله عاش بطبيعته العاقلة الأصلية دون الشاعرة الطارئة، وربما أنكرت حياته الثانية حياته الأولى مما يعد شبيهًا بانقسام الشخصية1. فالأسلوب الأدبي معرض الشخصية الانفعالية التي تسيطر على الإنسان سواء أكان منشئًا يصدر عن عواطفه   1 في علم النفس ج3 ص164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 المستيقظة أم قارئًا ثارت عواطفه إثر ما قرأ من أدب قوي صادق فصدرت عنه لذلك حركات أو أعمال، أو أقوال طريفة غير مألوفة، وقد تنبه لذلك ابن الأثير1 حيث يقول ما نصه: وأعجب ما في العبارة المجازية أنها تنقل السامع عن خلقه الطبعي في بعض الأحوال حتى إنها ليسمح بها البخيل، ويشجع الجبان، ويحكم بها الطائش المتسرع، ويجد المخاطب عند سماعها نشوة كنشوة الخمر، حتى إذا قطع عنه ذلك الكلام أفاق وندم على ما كان منه من بذل مال أو ترك عقوبة أو إقدام على أمر مهول، وهذا هو السحر الحلال المستغني عن إلقاء العصا والحبال" فإذا كان ذلك شأن السامع فكيف بالمنشئ الذي صدر عنه هذا الكلام الساحر وكان ثمرة انفعاله الأصيل وعاطفته الإيجابية؟ ثالثًا: أن بيان هذه الصلة بين الأديب وأسلوبه وتوضيح جوانبها يقتضينا أن نتناولها من وجهين: الأول: أن نعرض النصوص الأدبية لجماعة من الكتاب أو الخطباء أو الشعراء أو المؤلفين. ونحاول تعرف شخصياتهم المتباينة استنباطا من هذه النصوص. والثاني: أن نفرض أننا نعرف هذه الشخصيات ثم نتبين مظاهرها المختلفة في الأسلوب: ألفاظه وتراكيبه وصورها البيانية وهذا ما نحاوله في الفصلين التاليين. وليس من شك أن هذين الوجهين شيء واحد أمام الناقد الذي لا يعرف غير النصوص الأدبية التي يدرسها؛ فالنصوص أمامنا كالدينار هو واحد ولكنه ذو وجهين؛ نرى في كل منهما شكلًا خاصًّا يخالف الآخر وإن كانت المادة واحدة   1 المثل السائر ص26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 كذلك نحن أمام الآثار الأدبية، نقلبها على وجهين لنرى فيها من وجه شخصية الكاتب، ونتبين أثر هذه الشخصية فيها من وجه آخر. وسبب هذا اللجوء والاحتيال أننا في الأصل لا نعرف هذه الشخصيات إلا من الآثار الأدبية فنضطر إلى الوقوف عندها لمعرفة كل شيء على أنه لو أتيح لنا تعرف شخصيات الأدباء الفنية، عن طريق أخرى كالعشرة الصادقة، ثم كانوا طبيعيين في تعبيرهم، تبين لنا صدق هذه الصلة التي ندعيها بين الأدباء وبين ما ينتجون من أساليب؛ يعرف ذلك النقاد الذين عاشروا الأدباء ثم قرءوا آثارهم الأدبية، فيقولون لك: هذا هو فلان كما أعرفه في سلوكه ومزاجه، ومع هذا فلن تنسى أن الأديب حال الكتابة مثلًا، يكون خاضعًا لبعض ضروب الأنفعال أو التفكير فتجده في آثاره أقوى وأروع، وإن لم ينفصل مطلقًا عن طبعه الأصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الفصل الثالث: دلالة الأسلوب على الشخصية أولا: في الشعر ... الفصل الثالث: دلالة الأسلوب على الشخصية نحاول في هذا الفصل أن نتعرف بعض عناصر الشخصية الأدبية من النصوص الكتابية والخطابية، والنظمية، ويلاحظ أن عناصر هذه الشخصية لا تظهر جميعها للقارئ إلا إذا درس آثار الأديب أو أكثرها، قراءة نقدية عميقة، ثم وازن بينه وبين غيره، وبخاصة في الفنون المشتركة بينهما، ليعرف كيف يختلف الأدباء في تفسير الأشياء والتعبير عما يتصورون، ومن هذا الاختلاف يفرق بين الشخصيات. وليس من المستطاع أن نورد هنا جملة صالحة لكل أديب ونجعلها معرضًا للدرس والاستنباط، فذلك من عَمِل القارئ الذي يجد في الكتب والدواوين كفايته، وحسبنا أن نورد في كل فن ثلاثة أمثلة جزئية متوخين أن تتحد في الغرض، ثم نتلمس فيها ما يميز أصحابها، على أن يكون ذلك مثالًا يقاس عليه. أولًا: في الشعر 1 قال أبو تمام يعاتب محمد بن عبد الملك الزيات: لئن همي أوجدنني في تقلبي ... مالًا لقد أفقدتني منك موئلا وإن رمت أمرًا مدبر الوجه إنني ... لأترك حظا في فنائك مقبلا   1 راجع العمدة: ج2 ص129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وإن كنت أخطو ساحة المحل إنني ... لأترك روضًا من جداك وجدولا كذلك لا يُلقي المسافر رحله ... إلى منقل حتى يحلف منقلا ولا صاحب التطواف يعمر منهلا ... وربعًا إذا لم يخل ربعًا ومنهلا ومنذ يداني أو بنائي، وهل فتى ... يحل عرى الترحال أو يترحلا فمرني بأمر أحوذي فإنني ... أرى الناس قد أثروا وأصبحت مرملًا1 فسيان عندي صادفوا لي مطعنا ... أعاب به، أو صادفوا لي مقتلا وقال البحتري يعاتب الفتح بن خاقان: يريبني الشيء تأتي به ... وأكبر قدرك أن أستريبا وأكره أن أتمادى على ... سبيل اغترار فألقى شعوبا2 أكذب ظني بأن قد سخطت ... وما كنت أعهد ظني كذوبا ولو لم تكن ساخطًا لم أكن ... أذم الزمان وأشكو الخطوبا ولا بد من لومة أنتحي ... عليك بها مخطئًا أو مصيبا أيصبح وردي في ساحتيـ ... ـك طرفا ومرعاي محلا جديبا3 أبيع الأحبة بيع السوام ... وآسي عليهم حبيبًا حبيبا4 ففي كل يوم لنا موقف ... يشقق فيه الوداع الجيوبا وما كان سخطك إلا الفراق ... أفاض الدموع وأشجى القلوبا ولو كنت أعرف ذنبًا لما كا ... ن خالجني الشك في أن أتوبا   1 الأحوذي: الخفيف الحاذق، والمشمر للأمور لها لا يشذ عليه شيء. 2 شعوب: الموت. 3 طرق: ما خوضته الإبل 4 السوام: الماشية، آسي: أحزن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 سأصبر حتى ألاقي رضا ... ك إما بعيدًا وإما قريبا أراقب رأيك حتى يصح ... وأنظر عطفك حتى يثوبا1 وقال المتنبي يعاتب سيف الدولة الحمداني: يا أعدل الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم أنا مل جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم2 وجاهل مده في جهله ضحكي ... حتى أتته يد فراسة وفم3 إذا رأيت نيوب الليث بارزة ... فلا تظنن أن الليث يبتسم الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم ما كان أخلقنا منكم بتكرمة ... لو أن أمركم من أمرنا أمم4 إن كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم وبيننا -لو رعيتم ذاك- معرفة ... إن المعارف في أهل النهى ذمم   1 يثوب: يعود. 2 شواردها: نوادرها يردي أشعاره، جراها أي من أجلها، يقول أنام ملء جفوني عن شوارد الشعر لأني أدركها سهلة متى شئت، وغيري من الشعراء، يسهرون ويتخاصمون على ما يتاح لهم منها لعزته عليهم. 3 يد فراسة: باطشة. 4 أمم: قريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 كم تطلبون لنا عيبًا فيعجزكم ... ويكره الله ما تأتون والكرم ما أبعد العيب والنقصان من شرفي ... أنا الثريا، وذان الشيب والهرم1 هذا عتابك إلا أنه مقة ... قد ضمن الدر إلا أنه كلم2 موضوع القصائد واحد، وهو العتاب، والأصل فيه تصوير الوفاء والبقيا على ماضي الصداقة، ثم الأسف والاستنكار لما حدث. لهذا كان موقفًا دقيقًا يحتاج إلى براعة، حتى لا يعود هجاء وقطيعة، وحتى يجمع صاحبه بين الوفاء لصديقه، والانتصار لنفسه فلا يفرط في اللوم فيعود خشنًا ثقيلًا، ولا يفرِّط في الانتصاف فيعود هيِّنًا ذليلًا. ومع هذا فقد وقف كل من هؤلاء الثلاثة موقفًا أدبيًّا يدل على شخصية واضحة ممتازة. 1- فأما أبو تمام فكان واقفًا في منتصف الطريق لم يقرب من صاحبه جدًّا ولم يبعد عنه كذلك وأخذ يعرض عليه الأمر مستأذنًا، راضيًا بما يقع، مشيرًا إلى إيثاره على سواه وهم كثير، معنيا بنفسه وبفنه يصنعه بدقة وإتقان، يوسط عقله بينه وبين صديقه. وإذا كان لا بد من ذكر ميزاته الشخصية كما تشير هذه الأبيات، فأبو تمام إنسان ذكي حذر يعتد بقلبه فيبخل به، ويؤمن بعقله فيعتمد عليه، مخلص لنفسه وفنه أكثر من عنايته بالناس، يرضى بما يكون ويقتصد في اتصاله بالحاية، قوي الطبع مؤمن بالقضاء. 2- وأما أبو عبادة البحتري فقد تقدم إلى صاحبه يكاد يحتضنه، ويلقي بنفسه بين يديه، لولا براءته من الذنوب، واعتزازه بأن الحق في جانبه، قد   1 يريد أنهما بعيدان عنه كبعد الشيب والهرم عن الثريا وهي النجم المعروف. 2 مقة: حب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ملك عليه الأسف والطمع نفسه، فعجب أن يرنق ورده، صمم على البقاء حيث كان، واثقًا من ظهور الحق ومعاودة الصفاء، البحتري، إذًا رقيق الطبع جميل الذوق، لين الجانب، وفي حسن الظن بالأيام، بارع، شديد الاتصال بالحياة، قريب المثال، طبعي الفن، متفائل ليس في حذر أبي تمام ولا سخط المتنبي. 3- وأبو الطيب شيء آخر فقد نفر من صاحبه ساخطا، متوعدا، متعاليا، يرميه بالغفلة والتحيز، معتزًا بنفسه فخورًا بخلقه وفنه، مزريًا بالرؤساء والشعراء، ولاهم ظهره غير مباليهم إذ لم يحسنوا تقديره، ولم يدركوا مكانته، وإذًا فهو يودعم نادمين، وسبب ذلك دالة له على سيف الدولة، وعرفانه مكانة نفسه، وهذه السعاية التي خضع لها أمير بني حمدان، فالمتنبي جافي الطبع، طموح، مغرور، بعيد الأمل، قليل الوسائل، ساخط على الحياة والأحياء، يؤمن بالقوة، ويعتز بها، يثق بشعره إلى أبعد حد، ولا يرى نفسه دون الملوك ولا من طراز الناس. ولعل البحتري أرق الثلاثة وأرضاهم، والمتنبي أجفاهم وأسخطهم، وأبو تمام أوسطهم وأشدهم حذرًا واحتياطا. وقد سئل الشريف الرضي عنهم فقال: "أما أبو تمام فخطيب منبر، وأما البحتري فواصف جؤذر، وأما المتنبي فقائد عسكر"1.   1 المثل السائر ص315 والجؤذر، ولد البقر الوحشية مثل به ظرف شخصيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ثانيًا: الخطابة خطب علي بن أبي طالب في استنفار الناس إلى أهل الشام1: "أفّ لكم! لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضًا وبالذل عن العز خلفًا؟ إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة ومن الذهول في سكرة، يرتج عليكم حواري فتعمهون2، فكأن قلوبكم مألوسة3، فأنتم لا تعقلون، ما أنتم لي ثقة سجيس الليالي4، ولا زوافر5 عز يفتقر إليكم، وما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها، فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر، لبئس، لعمر الله، سعر6 نار الحرب أنتم، تكادون ولا تكيدون، وتنتقص أطرافكم فلا تمتعضون، لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون. أيها الناس، إن لي عليكم حقًّا، ولكم عليَّ حق، فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم7، وتعليكم، كي لا تجهلوا. وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة عندما أدعوكم، والطاعة حين آمركم". وخطب معاوية حين قدم المدينة عام الجماع8، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإني والله ما وليتها9 بمحبة علمتها منكم، ولا مسرة بولايتي عليكم، ولكني جالدتكم بسيفي10 هذه مجالدة، ولقد رضت11 لكم   1 راجع المنتخب ج1، ص84-88. 2 يرتج: يغلق فلا تهتدون لفهمه. 3 مألوسة: مختلطة مضطربة. 4 طول الليال أي أبدا. 5 جمع زافرة، عشيرة الرجل أو ركن البناء. 6 الوقود. 7 الخراج وما يحويه بيت المال. 8 هو عام 41 وفيه صالح معاوية الحسن بن علي، على أن يبقى معاوية خليفة. 9 أي الخلافة. 10 أي ضاربتكم به. 11 ذللت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 نفسي على عمل ابن أبي قحافة1، وأردتها على عمل عمر، فنفرت من ذلك نفارًا شديدًا، وأردتها على سنيات عثمان فأبت علي، فسلكت بها طريقًا لي ولكم فيه منفعة: مؤاكلة حسنة، ومشاربة جميلة، فإن لم تجدوني خيركم فإني خيرٌ لكم ولاية، والله ما أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يشتفى2 به القائل بلسانه فقد جعلت ذلك له دبر أذني3 وتحت قدمي، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فاقبلوا مني بعضه، فإن أتاكم مني خير فاقبلوه، فإن السيل إذا جاء أثرى4، وإن قل أغنى، وإياكم والفتنة فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة". ومن خطبة زياد بالبصرة: "أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء5، والضلالة العمياء6، والغي الموفى بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير، كأنكم لم تقرءوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي7 الذي لا يزول، أتكونون كمن طرفت عينيه الدنيا8   1 يعني أبا بكر الصديق. 2 يذهب غيظه. 3 خلف أذني أي أطرحه ولا أباليه. 4 أثرى أغنى. 5 الشديدة. 6 الشديدة المستهلكة. 7 الدائم. 8 جعلته لا يبصر شيئًا ولا يعنى إلا بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وسدت مسامعه الشهوات1، واختار الفانية على الباقية؟ ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه: من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله ... إني رأيت آخر هذا الأمر2 لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وأني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى3، والمقيم بالظاعن4، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد5 أو تستقيم قناتكم6 ... أيها الناس إنَّا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء7 الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا، واعلموا أني مهما قصرت عنه فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبًا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقًا بليل، ولا حابسًا عطاء، ولا رزقًا عن إبانة، ولا مجمرًا8 لكم بعثًا، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنهم ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك غيظكم، ويطوله له حزنكم.   1 سار أسير شهواته. 2 الحكومة الإسلامية. 3 أعاقب السيد بذنب خادمه. 4 الظاعن: المسافر. 5 مثل يضرب في تتابع الشر. 6 القناة الرمح أو عود يشبهه والمراد أن يستقيموا في سلوككم. 7 الفيء: أموال الحرج. 8 تجمير الجند إبقاؤهم في عملهم وحبسهم في أرض العدو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ولا تدركوا له حاجتكم؛ مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرًّا لكم، أسأل الله أن يعين كلا على كل". هذه الخطب الثلاثة تدور حول الحكومة الإسلامية وإقرارها بعد الثورة التي انتهت بمقتل عثمان بن عفان، والنزاع بين علي ومعاوية، ونشأة الأحزاب السياسية وعناية معاوية وأعوانة بإقرار الحكومة في البيت الأموي. 1- فأما علي فساخط على العراقيين، يائس من صلاحهم، يرميهم بالجبن والهوان لا تجمعهم كلمة، ولا يغضبون لكرامة، ومع ذلك تراه يبين لهم هذه الصلة التي تربطه بهم. وهذه الخطبة صورة لكثير من آثاره الخطابية التي ألقاها إبان النزاع على الخلافة وهي تدل على شخصية علي، فقد كان شجاعا، قوي البأس، ذكي الفؤاد، واسع العلم، شديد الإيمان، متحرجا في الدين، حدبًا على المسلمين، حزينًا على حقه المسلوب صريحًا في القول، غلبت نزعته الدينية على كياسته السياسية حتى غلب على أمره بعكس معاوية، وكان مثله الأعلى قائمًا على الشجاعة والتحرج في الدين مع دالة على المسلمين لمكانته من الرسول وماضيه في خدمة الإسلام، لم يظفر من العراقيين بشعب يعتمد عليه ويخلص له، فعاش مجاهدًا حزينًا ومات دون تحقيق مآربه. 2- وأما معاوية، فقد كلم أهل المدينة بلغة المنتصر الشامت، الذي يرميهم بعدم الكفاية لحسن سيرة الحكام فيهم لأنهم تغيروا وفسدت نفوسهم فلا بد من سياسة جديدة تلائم نفسيتهم الجديدة، وهي تقوم على الحيلولة بينهم وبين السياسة العليا ورضاهم بالواقع، وحلمه على سفه الكلام، واعتداده بالسلوك العملي. فهو شخصية سياسية حليمة، عملية مرنة، تصطنع الأناة، وتبرر الوسائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 في سبيل الغايات لم يتسبث بتحرج علي وسرعة غضبه، اعتمد على قوة عقله أكثر من قلبه، تلمسه حريرًا ولكنك تلبسه شوكًا وقتادًا. هذه هي الشخصية السياسية المرنة التي غلبت شخصية علي المتحرجة فكانت النتيجة انتصار البراعة الأموية على الشجاعة الهاشمية. 3- ولكن زيادًا رفع في وجوه البصريين -والعراقيين جميعًا- سيفًا صارمًا، ولقيهم بأيد خشنة، وأقام عليهم الحجة بما عملوا من آثام ثم رسم الخطة التي يحكم بها مقلدًا عمر بن الخطاب ومتجاوزه في الشدة إذ أخذ بالشبهة وفرض النظام فرضًا فلا مفر للناس من اعتناقه، وإن تهاونوا فالسيف أو الباطل يخوضه ليصل إلى الحق. زياد -كهتلر وموسوليني ومصطفى كمال- حازم الرأي، صارم العزيمة ذكي عملي، إذا اقتنع بالرأي فرضه، حاد الذكاء واللسان، منظم التفكير حسن التدبير، هو وسط بين عمر بن الخطاب والحجاج في سياسته، مخلص لمصالح الدولة، غضب من الناس وألزمهم ما شاء ولكن عليا سخط عليهم وتحاشاهم فكان زياد أصلح حاكم للعراقيين. ويمكن تلخيص ذلك في أن عليًّا شجاع ساخط، ومعاوية سياسي بارع، وزيادًا حاكم حازم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ثالثًا: الكتابة للجاحظ1 رسالة التربيع والتدوير التي كتبها إلى أحمد بن عبد الوهاب: 1- كان أحمد بن عبد الوهاب مفرط القصر ويدعي أنه مفرط الطول. كان مربعًا وتحسبه لسعة جفرته2 واستفاظة خاصرته مدورًا، وكان جعد3 الأطراف، قصير الأصابع، وهو في ذلك يدعي البساطة والرشاقة، وأنه عتيق4 الوجه أخمص5 البطن، معتدل القامة، تام العظم، وكان طويل الظهر، قصير عظم الفخذ، وهو مع قصر عظم ساقه يدعي أنه طويل الباد6، رفيع العماد، عادي القامة، عظيم الهامة، قد أعطي البسطة في الجسم والسعة في العلم، وكان كبير السن متقادم الميلاد، وهو يدعي أنه معتدل الشباب حديث الميلاد، وكان ادعاؤه لأصناف العلم على قدر جهله بها. وتكلفه للإبانة عنها على قدر رغبته فيها. وكان كثير الاعتراض. لهجا7 بالمراء. شديد الخلاف. كلفا بالمجاذبة متتابعا في العنود. مؤثرًا للمغالبة، مع إضلال الحجة. والجهل بموضع الشبهة. والخطرفة عند قصر الزاد والعجز عند التوقف. والمحاكمة مع الجهل بثمرة المراء ومغبة فساد القلوب، ونكد الخلاف، وما في الخوض من اللغو الداعي إلى السهو. وما في المعاندة من الإثم الداعي إلى النار. وما في المجاذبة من النكد. وما في المغالبة من فقدان الصواب. وكان قليل السماع غمرا8 وصحفيا غفلا9 لا ينطق عن فكر. ويثق بأول خاطر. ولا يفصل بين اعتزام الغمر واستبصار المحق. يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها. ويحسد العلماء من غير أن يتعلق منهم بسبب، وليس في يده من جميع الآداب إلا الانتحال لاسم الأدب   1 رسائل الجاحظ للسندوبي ص187. 2 وسطه. 3 ملتو. 4 جميل. 5 ضامر فارع. 6 باطن الفخذ. 7 ملازمًا له. 8 عديم التجارب. 9 مجرد من المزايا والصحفي من أخذ علمه من الصحف ولم يلق العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 أطال الله بقاءك وأتم نعمته عليك وكرامته لك، قد علمت حفظك الله أنك لا تحسد على شيء حسدك على حسن القامة، وضخم الهامة، وعلى حور العين، وجودة القد، وعلى طيب الأحدوثة، والصنعة المشكورة، وأن هذه الأمور هي مِنْ خصائصك التي بها تكلف، ومعانيك التي بها تلهج، وإنما يحسد أبقاك الله، المرء شقيقه في النسب، وشقيقه في الصناعة، ونظيره في الجوار على طارف1 قدره أو تالد حظه أو على كرم في أصل تركيبه ومجاري أعراقه، وأنت تزعم أن هذه المعاني خالصة لك، مقصورة عليك، وأنها لا تليق إلا بك ولا تسحن إلا فيك، وأن لك الكل، وللناس البعض، وأن لك الصافي، ولهم المشوب. هذا سوى الغريب الذي لا نعرفه، والبديع الذي لا نبلغه، فما هذا الغيظ الذي أنضجك؛ وما هذا الحسد الذي أكمدك؛ وما هذا الإطراق الذي قد اعتراك؛ وما هذا الهم الذي قد أضناك؟ ". ب- وكتب بديع الزمان2 الهمداني إلى أبي الطيب في شأن شخص متغير عليه: "أنا -أطال الله بقاء الشيخ الإمام- بصير بأبناء الذنوب وأولاد الدروب3 أعرفهم بشامةٍ؛ وأثبتهم بعلامةٍ؛ والعلامة بيني وبينهم أن يفسدوا الصنيع على صانعه؛ ويحرفوا الكلم عن مواضعه؛ ويرموا في الحكاية بهم الشكاية، ويجيلوا في الشكاية قدح النكاية4؛ ثم لا يرون النكاية إلا السعاية   1 الحديث وضده التليد. 2 رسائل بديع الزمان ص106 طبعة بيروت. 3 اللقطاء. 4 أي أنهم حين يشكون ظلمًا يدسون لغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وإن أعوزهم الصدق مالوا إلى الكذاب، وإن حلم لهم الجد عرضوا باللعب، ومن علاماتهم قبح مقاماتهم، وإيراد ظلاماتهم موارد النصيحة لكبرائهم، ومن آياتهم كثرة جناياتهم على الفضلاء، وشدة حنقهم على من لم يخطرهم بباله، ولا يحطبهم في حباله1، فإذا انضاف إلى ضيق أكنافهم سعة آنافهم2 وإلى قبح مقاماتهم صغر قاماتهم، وإلى خبث محضرهم خبث منظرهم، وإلى صعر خدودهم، غلظ جلودهم3، وإلى لين فقاحهم، غلظ ألواحهم، فذلك من أعلى القوم طبقة في السفال، وأبعدهم غاية في النكال، والذي فاوضني القاضي في معناه جلي في باب ما حكاه، لا يجمع هذه الخصال وقيادة، وينظم هذه الأوصاف وزيادة. فلم يبعد الشيخ عن مثله أن يكذب؟ ألطهارة أصله، أم نجابة نسله، أم خشانة أهله، أم رجاحة عقله، أم ملاحة شكله، أم غزارة فضله؟ ولم يجوز علي ما حكاه؟ ألم يؤوني طريدًا، ويلمني حصيدً4، ويؤنسني وحيدًا، ويصطنعني5 مبديًا ومعيدًا، وكان بقدري أنه إذا رآني أفعل شنيعًا، أو سمع أني ألفظ بمنكر لم يأل6 في تحسين أمري فعل الوالد بولده جهته، ونظر المولى لصنيعه أقرب. والآن إذا عاد الأمر إلى العتاب فهلم إلى الحساب؛ إن كنت أخللت بطرف   1 أي لم ينتصر لهم ويحميهم. 2 مطمع مع العجز. 3 التكبر مع الهون. 4 حصيد أي محصود مهمل. 5 يحسن إلي. 6 لم يقصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 من طاعتي من جهة فقد نقصن ما عودني من وجوه. وذلك أنه كان لا يتجاسر أحد على أن يفريني1 عنده، فقد صار يقريني عنده ويبرئ جلده، وكان يقوم قناتي2 فقد صار يحبط حسناتي، وكان يثمر مالي فقد صار يبطل آمالي، وكان يحشد3 لأمري احتشاده لأمره؛ فقد نبذت وراء ظهره، وقد كان يحتمل فقد صار يتحامل، وكان لا يضايقني في الألوف من الدراهم والدنانير، فقد ضايقني في الشعير في حمل بعير. والعبودية ذل اليهودية وذل المردوية4 والإدلال مع الإذلال5. والطاعة مع الإفضال6. فليستأنف الشيخ حالي المولى ليستأنف حال العبد7 والله من وراء التسديد8 ونعم الوكيل". جـ- ومن فصل كتبه ابن خلدون9 -في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب- وكان في ذلك متاثرًا بعصبية بربرية أو تكريبة سلت الملك من العرب. وبجالية من عرب المغرب الجاهلين:   1 يفريني يغتابني ويجرحني. 2 يصلح من شأني ويستر عيوبي. 3 يحشد يجمع أي كان يعنى بشئوني. 4 المردوية كون الإنسان أمرد ناشئا. 5 أي لا يدل علي إلا من أذلني بالإنعام علي. 6 أي أطيع من أفضل علي. 7 ليعد النظر في حال صديقه حتى ينظر في حال عبده هذا. 8 التقويم والتوفيق. 9 المقدمة ص165 مطبعة التقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 "والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خلقا وجبلة وكان عندهم ملذودًا، لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافيه للعمران، ومناقضة له، فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومنافٍ له، فالحجر مثلا إنما حاجتهم إليه لنصبه أثاقي1 للقدر فينقلونه من المباني ويخربونها عليه ويعدونه لذلك، والخشب أيضًا إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم، ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخربوا السقف عليه لذلك، فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران. هذا في حالهم على العموم، وأيضًا، فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس وأن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه، فإذا ما تم اقتدارهم على ذلك بالتغلب والملك بطلت السياسة في حفظ أموال الناس وخرب العمران. وأيضًا، فلأنهم يتلفون على أهل الأعمال من الصنائع والحرف أعمالهم. لا يرون لها قيمة ولا قسطًا من الأجر والثمن. والأعمال -كما سنذكره- هي المكاسب وحقيقتها وإذا فسدت الأعمال وصارت مجانًا ضعفت الآمال في المكاسب وانقبضت الأيدي عن العمل وابذعر السكان2. وفسد العمران وأيضًا فإنهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض. إنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس نهبًا أو مغرمًا فإذا توصلوا إلى ذلك وحصلوا عليه أعرضوا عما بعده من تسديد أموالهم والنظر في مصالحهم وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد وزجر المعترض لها بل يكون   1 جمع أثقية: حجر يوضع عليه القدر لطهي الطعام. 2 تفرقوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ذلك زائدًا فيها لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض فتبقى الرعايا في مملكتهم كأنها فوضى، وحكم الفوضى مهلكة للبشر، مفسدة للعمران. وأيضًا، فهم متنافسون في الرياسة، وقل أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل وعلى كره من أجل الحياة فيتعدد الحكام منهم والأمراء وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام فيفسد العمران وينتقض". هذه فصول يجمعها موضوع واحد هو الإنكار والهجاء ومع ذلك فهي دالة على كتاب ثلاثة متمايزين. 1- الجاحظ فقد سلك في رسالته طريق التصوير المضحك، والسخرية المرة، معتمدًا على المقابلات وعرض المتناقضات، يقلب صاحبه بين يديه، ويعبث به، قبل أن يقتله، فإذا به شكل غريب، وخلق عجيب، وغرور وحسد، وجهل ولجاجة، مع حسن القامة وعظم الهامة، وحور العين وطيب الأحدوثة. ثم يلح فيما يتناول، ويبالغ في سرد النكتة، ويدس السم في الدسم حتى تركه صورة أو قصة تضحك القارئين وتعجب المتأدبين على مر العصور. فالجاحظ داهية، ماكر عابث، ساحر. يغيظ عدوه وهو يضحك ملء شدقيه، ويقتله وهو آمن مستريح. دقيق الملاحظة، واسع النظرة بارع في الأسلوب طيعه، خبير بدخائل النفوس. لا يبالي ما ضحى به في سبيل فنه ومآربه. متنوع الثقافة. فيلسوف الحياة يهزأ بها وبالناس ومذاهبهم وعصبياتهم يتأنى فيما يتناول حتى لا يترك لغيره مجالًا لا يتحرج ولا يتشدد، خبر الحياة من جميع نواحيها. فكان صورتها المخلوقة ولغتها الناطقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 2- وأما البديع فقد هاجم خصمه هجومًا مباشرًا، ونال منه بالسب البذيء إذ رماه بالكذب والجمود، والسفاية، وسوء الخلق، وضعة الأصل وضعف العقل، مع سخرية قليلة بأسلوب إنكاري عنيف. وأخذ يوازن بين حاليه: الأولى أيام كان راضيًا، والثانية بعد أن صار ساخطًا، كل ذلك وهو غاضب عابس الوجه حاقد القلب ثائر العاطفة ليس فيه هدوء الجاحظ ومرونته وسعه صدره وبراعة حيلته، وسلامه أسلوبه. فالبديع، إذا، ذكي، صريح، قوي الطبع، عنيف، هجاء، حريص على المال، ضيق الصدر، شديد الحس، ينصرف ذكاؤه إلى التصوير الفني، وذكاء الجاحظ منصرف إلى الإحاطة النفسية والجسمية. كلاهما يردد.. ولكن ترديد الجاحظ استكمال وتجديد، وترديد البديع تكرار وتصوير. وليس البديع في دهاء الجاحظ ومكره وسخريته، وإن كانت براعته الفنية ممتازة بجزالة العبارة، وقوة التصوير. 3- وأما ابن خلدون فقد ذهب في مهاجمة العرب مذهب العلماء، والمناطقة؛ إذ اعتمد على التقرير، وإقامة الدعوى، وتأييدها بالبراهين، مستعينًا في ذلك بما شهد من أحداث، وعرف من نظريات، في أسلوب عادي بسيط وموجدة متوارية مكبوتة، لا تكاد تظهر، لا يعمد إلى التكرير والتهويل؛ فهو إذًا، رجل عالم وقور، يلقى الحياة بعقله الفاهم، هادئ، له عقله الرياضي المنتظم، بأسلوب رتيب، لا يتنوع، كأنه قياس منطقي مقرر لا يسب خصمه، وإن نال منه بما هو شر من السباب، لم يتوافر له دهاء الجاحظ وبراعته. ولا عنف البديع وجزالته، يستملي الحياة ويكتب، وكلاهما يتصور الحياة ويسطر وهو عالم، وهما أديبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 رابعًا: التأليف وربما لم تكن هناك حاجة إلى الكلام في هذه النقطة بعد ما سبق من أن الأسلوب العلمي -ومنه التأليف- لا يعد معرضًا قويًّا لظهور الشخصية كما هو الشأن في الأسلوب الأدبي؛ إذ العلم يرتكز على العقل أكثر من سواه، ومظهر العاطفة فيه ثانوي أو شكلي لا غير، والعقل مهما يتفاوت الناس في قوته وانتظام تفكيره، لا تبلغ أشكاله، وألوانه، مبلغ العاطفة، التي تعرض علينا الأمزجة، والأخلاق، والأخيلة، والأذواق، والمذاهب الاجتماعية والأدبية وغيرها. على أن الأساليب العلمية الخالصة لا تكون الفروق اللفظية فيها كثيرة. ولا قوية. وربما كان خضوعها لمناهج البحث وموضوعاته أشد وأوضح. ومع ذلك فليس ما يمنع -اعتمادًا على اختلاف مناهج البحث العلمي، وعلى مقدار تفرد العقل في التأليف، وأثر ذلك في العبارة- أن نشير هنا إلى مظاهر اختلاف الشخصيات في الكتب العلمية أيضًا. ولكن في إيجاز. طه حسين في "الأدب الجاهلي" وأحمد أمين في "فجر الإسلام وضحاه"، ومصطفى عبد الرازق في "البهاء زهير". ثلاثة مؤلفون. وزملاء علميون. تجمعهم رابطة الثقافة العالية. والقيام على دعم وتنظيم طرائق البحث العلمي في هذه البلاد. ولكنهم مع ذلك كله يتغايرون فيما سلكوه من مناهج. وفيما تحروا من غاية. وفيما سطروا من أساليب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 طه حسين يضع مراجعه خلفه، ومصطفى عبد الرازق يضعها أمامه، وأحمد أمين يضعها بجانبه. طه حسين يدعو إلى المناهج الحديثة، ويتحدى المحافظين مستفزًا ثائرًا، وأحمد أمين يطبق هذه المناهج، ويقنع المحافظين هادئًا معتدلًا، ومصطفى عبد الرزاق يختار من هذه المناهج، محتاطًا محبوبًا رزينًا. طه حسين يعرض نفسه فقط، ويكتب بأسلوبه القوي، وأحمد أمين يعرض نفسه وغيره، ويكتب بأسلوبه الواضح، ومصطفى عبد الرزاق يعرض العلم والعلماء بأسلوبه الجميل. وإذ أردت أن تعرف ذلك فارجع إلى هذه الكتب التي ذكرت تجد طه حسين داعيًا، جريئًا، متحديًّا، يعرض نظرياته وآراءه في سرعة كأنه يريد من الزمن الإسراع، ويفرض على بنيه الفروض، يشير إلى المراجع جملة، كأنها معروفة ومقروءة، ثم يبني ما شاء من النتائج في ثقة وبراعة لم تسلم من السخرية والفكاهة، وأسلوبه هنا يغلب عليه التقرير العلمي، وإن لم يسلم من الصفات الأدبية المعروفة. وأحمد أمين هادئ، موضوعي، مخلص للحقائق، يساير الزمن، ويعرض مصادره، وشواهده، مستشيرًا ناقدًا، ثم يستعين بها أمامك وينتهي إلى نتائجه في قصد بأسلوبه العلمي الخالص. ومصطفى عبد الرزاق يجمع الوثائق في أمانه ونظام، ويعرضها عليك منسقة في سلك منطقي، وذوق أدبي، تتحدث بنفسها عن حقيقتها، وينتهي إلى نتائجها، دون أن يلح في الظهور، فكأن الحياء الجميل، والتواضع الجم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 والحيطة الشديدة قد غلبت عليه فقدم الماضين أمامه كما كانوا، وذلك في أسلوب صاف، دقيق جميل. وارجع إلى القدماء لترى "عبد القاهر الجرجاني" في كتابيه "دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة" العالم الأديب، الواثق بنفسه. والمعتز بمذاهبه البلاغية، و"ابن الأثير" في "المثل السائر" الأديب المغرور، الفخور بفنه دائمًا، والمبرد الجيل ذا الذوق الأدبي الجزل.. وهكذا تجد الشخصيات مظاهرها فيما يترك الأدباء من آثار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الفصل الرابع: أثر الشخصية في اختلاف الأساليب الناحية الأولى ... الفصل الرابع: أثر الشخصية في اختلاف الأساليب وأما في هذا الفصل فالمراد بيان آثار هذه الشخصية في الأسلوب. ومعنى ذلك أننا نفرض معرفتنا شخصيات جماعة من الأدباء كتابا وشعراء وخطباء، ثم نلتمس مظاهر هذه الميزات الفردية فيما ينشئون من نصوص أدبية، ونقصر الكلام في هذا على نواح ثلاثة: الأولى: من حيث الألفاظ حين يختلف الأدباء في الألفاظ والجمل، والفقر والعبارات. الثانية: من حيث المعاني، كالمطابقة بين اللفظ والمعنى، أو ترجيح جانب اللفظ على جانب المعنى، وعكس ذلك. الثالثة: من حيث الصنعة حيث يعمد الأدباء إلى الأسلوب الطبعي أو المصنوع صنعة بديعية، قوامها السجع، والجناس، والمطابقة، ونحو ذلك. وسنحرص هنا على الإيجاز مكتفين بالإشارة إلى بعض الأمثلة ومحيلين على ما سبق ذكره في الفصول السابقة. الناحية الأولى: وتتناول الاختلاف في الألفاظ، والجمل، والفِقَر، والعبارات. والمراد بالألفاظ الكلمات المفردة التي تتألف منها الجمل، وهي أسماء، وأفعال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 مع ذلك ذات خواص متباينة، كأن تكون دقيقة محدودة أو مبهمة مشتركة، اصطلاحية علمية. أو فينة عامة، رقيقة أو خشنة، عامية، أو فصحى، موسيقية رشيقة، أو عادية جافة، لونية أو صوتية إلى نحو ذلك. وتتألف الجملة من الألفاظ لتؤدي فكرة واحدة تامة، وتكون الجملة اسمية أو فعلية، خبرية أو إنشائية، طويلة أو قصيرة، جزلة أو رقيقة، تامة العناصر أو مختصرة، مثبتة أو منفية، أصلية أو فرعية؛ وغير ذلك. والفقرة عدة جمل تكون فصلا من المقالة، وهي تقوم على الصلات بين الجمل، وتنوعها، وربطها معًا، ففيها الفصل والوصل، والإيجاز والإطناب والمساواة، وفيها الرابطة اللفظية والمعنوية التي تصلها بما قبلها وما بعدها. وتكون بسيطة سهلة أو معقدة مضطربة؛ وهي تختلف بحسب موقعها من الموضوع مقدمة أو نتيجة أو غرضًا. وأما العبارة فهي العنصر اللفظي من الأسلوب، أو هي هذا الأسلوب اللفظي الذي يقابل الأسلوب العقلي والصوري، والعبارات تقوم على هذه العناصر المذكورة قبلًا ثم تتأثر بمنهج البحث وبالموضوع وبمزاج الكاتب، وذوقه وطبيعته كلها، والأدباء يختلفون في ذلك كله تبعًا لطبائعهم وأذواقهم وثقافتهم وبيئاتهم فترى الموضوع الواحد من الفن الأدبي، يتوارد عليه أصحابه فإذا كل طراز بعينه في اختيار الكلمات، وصوغ التراكيب والعبارات التي تمثل نفسه وخلقه ودرجة انفعاله. يقول ابن الأثير1: "أعلم أن الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر فالألفاظ الجزلة تتخيل في السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذوي دمائة ولين أخلاق. ولطافة   1 المثل السائر ص69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 مزاج، ولهذا نرى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم واستلأموا سلاحهم وتأهبوا للطراد، وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي". وهذا القانون طبعي في الخطابة والكتابة إذ كانت شخصية الأديب تتخذ من هذه العناصر اللفظية وسيلة للتعبير عن طبيعتها وعرض مزاياها. 1- فإذا رجعت1 إلى هؤلاء الشعراء الثلاثة "أبي تمام، والبحتري، والمتنبي" وهم يعتبون. تبين لك: رقة البحتري، وجزالة أبي تمام، وقوة المتنبي في الألفاظ المفردة، ثم سهولة البحتري وتدقيق أبي تمام وصرامة المتنبي في الجمل، والبحتري بعد ذلك سلس العبارة عذب الموسيقى له، ديباجة الحرير واطراد الماء الجاري. وأبو تمام محكم العبارة. مركب الموسيقى بطيء متئد يتقن الصنعة، ويؤلف التراكيب بحكم العقل، وأما المتنبي فعبارته كخطته في الحياة، سريعة موجزة عجلى، لا تبالي بما قد تتعثر فيه من أخطاء وتعقيد، فاضطراب العبارات عند أبي تمام نتيجة صنعته المقصودة، وهو عند المتنبي ثمرة سرعته الشديدة وهجومه العنيف أو -كما يرى بعض النقاد- مفارقات محبوبة، ومع ذلك فاقرأ هذه الأمثلة للبحتري: ذاك وادي الأراك فاحبس قليلا ... مقصرًا من صبابةٍ أو مطيلا قف مشوقًا أو مسعدًا اوحزينًا ... أو معينًا أو عاذرًا أو عذولا إن بين الكثيب فالجزع فالا ... رام ربعًا لآل هند محيلا لم يكن يومنا طويلا بنعما ... ن ولكن كان البكاء طويلا تجد العبارات متدفقة متواصلة، تمر كالنسيم العليل أو الألحان العذبة،   1 راجع الفصل الثالث من هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 لا توقف فيها، ولا تكلف؛ لأن البحتري يستلهم طبعه السمح ونفسه الراضية وعاطفته الرقيقة الصادقة، وذوقه الفني الجميل1. ولأبي تمام: لو حار مرتاد المنية لم يجد ... إلا الفراق على النفوس دليلا قالوا: الرحيل، فما شككت بأنها ... نفسي من الدنيا تريد رحيلا الصبر أجمل غير أن تلددًا ... في الحب أحرى أن يكون جميلا أتظنني أجد السبيل إلى العزا؟ ... وجد الحمام إذًا إلي سبيلا رد الجموح الصعب أسهل مطلبا ... من رد دمع قد أصاب مسيلا ذكرتكم الأنواء ذكرى بعضكم ... فبكت عليكم بكرة وأصيلا إني تأملت النوى فوجدتها ... سيفًا على أهل الهوى مسلولا ترى آثار عقله وصنعته وحذره وأناته وذكائه2، في التنسيق المنطقي وإحكام التركيب شرطًا، وجزاء، واستثناء، وترتيبًا، واستنباطًا، فعبارته كالموسيقى المقسمة المتئدة، أو الماء الجاري بين الصخور، يتمهل ليظفر بالمنافذ والمسارب. وللمتنبي: وللسر مني موضع لا يناله ... نديم ولا يفضي إليه شراب وللخود مني ساعة ثم بيننا ... فلاة إلى غير اللقاء تجاب3 وما العشق إلا غرة وطماعة ... يعرض قلب نفسه فيصاب   1 راجع في الفصل السابق ما كتب عن شخصية البحتري. 2 راجع ما كتب عن شخصية أبي تمام في الفصل السابق. 3 الخود: الفتاة الناعمة، والفلاة: الصحراء الواسعة. تجاب: تقطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وغير فؤادي للغواني رمية ... وغير بناني للزجاج ركاب1 وتركنا لأطراف القنا كل شهوة ... فليس لنا إلا بهن لعاب2 فهذه الشخصية العجلة العنيفة، الطامحة المتعالية3 قد جعلت الكلمات قوية متحركة، والتراكيب موجزة منوعة والعبارة منساقة بسرعة كالريح العصاف أو الموسيقى الصاخبة، أو السيل يجرف ما يصادفه لا يبالي كيف تكون النتيجة. فالشعر عند البحتري فن التصوير والتعبير، وعند أبي تمام فن التفكير والتصوير والتعبير، وعند المتنبي فن الحكمة والمراسيم التي تلقى قضايا حاسمة لا مرد لها. وتجد نحو ذلك بين جرير والفرزدق، وبين حافظ وشوقي، والعقاد والمازني ومطران والجارم؛ لكل ميزاته الشخصية فيما يقول. 2- وهؤلاء الكتاب الذين أشرنا إلى صفاتهم الشخصية في الفصل الماضي -الجاحظ، والبديع، وابن خلدون- وأوردنا شواهد من آثارهم يفترقون في التعبير كذلك. فالجاحظ يتحرى دقة الألفاظ ليحسن الوصف، ويردد الجمل أو بعض عناصرها ليكمل معانيه ويؤكدها، ويلجأ إلى الازدواج والتقسيم الموسيقي دون التزام السجع، ويستخدم الاعتراض داعيًا أو محترسًا ويطنب ملحا وراء الأفكار والصور، ويكثر من المقابلة والتقسيم.   1 الرمي: ما يُرمى بالسهام، والبنان: أطرف الأصابع. والزجاج: كئوس الخمر. 2 القنا: عيدان الرماح، المفرد قناة، واللعاب: الملاعبة. 3 اقرأ عن شخصية المتنبي في الفصل السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ولكن البديع يتخير جزل الألفاظ والتراكيب، ويكثر من الصور البيانية التي هي تكرار صوري للفكرة الواحدة، يكثر من البديع طباقًا وجناسًا، يقتبس لغة الشعر ليوشي بها نثره، سجعه قصير، وعباراته جزلة إيجازية إذا قيست بعبارة الجاحظ السمحة المبسوطة، فالرجلان يمثلان مدرستين مختلفين في التفكير والتصوير والتعبير. وابن خلدون دقيق الكلمات بسيط العبارات تشيع فيها المصطلحات العلمية والفنية، رتيب الأسلوب لا ينوعه، لا يسلم من الركاكة والجفاء، لا يتراءى فيه الجمال والبراعة، معني بالمعنى أكثر من اللفظ، نزعته تقريرية، فهو من طراز آخر، وإذا كان لا بد من اختصار ذلك كله فالجاحظ في أسلوبه جميل، والبديع قوي، وابن خلدون واضح. وإذا ذهبت تتبين شواهد ذلك بين المعاصرين من الكتاب وجدت أشكالًا شتى من العبارات التي تمثل الشخصيات، فالمازني سهل جميل، والعقاد جزل عفيف، وهيكل واضح هادئ، والبشري دقيق اجتماعي، وهكذا لكل سمة عليه غالبة. 3- أما الخطباء فليسوا أقل من زملائهم في هذه الناحية، فهذا معاوية بن أبي سفيان الداهية، الحليم، والسياسي البارع1 تقرأ خطبته فتلقى ألفاظًا سهلة وجملًا كأنها رسالة مكتوبة، وعبارات منطقية مطردة كأنها عتاب، أو خطة للحكم يعرضها رئيس الحكومة على النواب، لا إغراب، ولا عنف جعلها المنطق الإقناعي، والتحبب العاطفي الحذر أشبه بعقد مصالحة أو قصيدة عتاب،   1 راجع خطبته وما كتب عنه في الفصل السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وزياد بن أبي سفيان الحكام الحازم، والقوي الصارم1 يعتمد على نوعين من التأثير: المعنوي واللفظي؛ فالكلمات جزلة قوية، والسجع والمبالغة وقوة التصوير شائعة في خطبته البتراء "أما بعد؛ فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والغي الموفى بأهله على النار .... أتكونون كمن طرفت عينيه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات؟ "، جملة قصيرة عنيفة متنوعة "لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، فإياي ودلج الليل فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه ... فمن أغرق قومًا أغرقناه، ومن أحرق قومًا أحرقناه، ومن نقب بيتًا تقينا عن قلبه، ومن نبش قبرًا دفناه فيه حيًّا" وعبارته، على العموم حسنة التقسيم، والتنويع، قوية التأثير، سريعة الحركة، وهي -كشعر المتنبي- أوامر صارمة أو مراسيم ملكية. وأما الحجاج بن يوسف الثقفي فقد أربى على زياد، وتجاوز العنف إلى التهديد والوعيد وإلى الرغبة في الدماء؛ وتمنى المصارع والمهالك، كان الحجاج جاهليًّا، جبارًا، لا يراعي حرمة دينية ولا يؤمن إلا بالقوة والتخويف، يقوم الحكم عنده على السيف، ويفترق عن زياد بطغيانه الشديد على الرعية، مع ضعفه أمام الخليفة عبد الملك، ولكن زيادًا مع عنفه في الحكم استطاع أن يعرف لنفسه كرامتها مع معاوية، وعلى أية حال فإن خطبة الحجاج حين ولي العراق2 تعد معرضًا لصفاته المذكورة. فالألفاظ ضخمة كالصخور. والجمل مقتضبة صاخبة. والتصوير يمثل الهلاك والبلاء. والعبارة أقوى من إعلان الحرب. والتأثير يعتمد فوق ذلك على اقتباس الأشعار وآيات الإنذار الإرهابية:   1 اقرأ ما كتب عنه في الفصل الماضي. 2 اقرأها في المنتخب، ج2، ص171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني يا أهل الكوفة إني لأرى رءوسًا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها وكأني أنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى. ثم قال بعد أبيات: قد شمرت عن ساقها فشدوا ... وجدت الحرب بكم فجدوا والقوس فيها وتر عرد ... مثل ذراع البكر أو أشد لابد مما ليس منه بد ثم يقول: "والله لأحرمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون". كان سعد زغلول خطيبًا كامل الأداة، قوي التأثير، وبارع الأسلوب يجمع بين قوة الإقناع، وبلاغ الأداء، ومصطفى النحاس تغلب عليه في خطابته النزعة التقريرية الوصفية مع صحة المنطق ووضوح العبارة، ومكرم عبيد، يعتمد في التأثير على التصوير البياني، والخيال الشعري، فإن حاول الإقناع عاد مقررًا، أو كاتبًا أديبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الناحية الثانية : وهناك مظهر ثان لآثار الشخصية في الأسلوب، وهو مقدار الصلة بين اللفظ والمعنى، فمن الأدباء من يطابق بين اللفظ والمعنى، ومنهم من يعنى بأحدهما أكثر من الآخر. 1- والأصل الذي يتصل به هذا المظهر هو أن الغرض من التعبير والبيان إظهار ما في النفس من الحقائق والعواطف والأخيلة، وإيصالها إلى القراء والسامعين، ووسيلة ذلك هي الأسلوب -أو العبارات اللفظية- إذ كانت غايته الإفهام أو التأثير أو هما معًا. ومعنى هذا أن الواجب على الأسلوب تحقيق هذه الغاية تحقيقًا كاملًا، فلا بد أن يكون صادق الأداء، مساويًا للمعنى المراد، لا يزيد ولا ينقص. وقبل ذلك يكون الأديب المنشئ فاهمًا ما يريد أداءه، صادق الشعور به1. وعنده الوسائل اللغوية والتصويرية اللازمة، فإذا ما توافر له ذلك استطاع البليغ أن يحقق المطابقة بين اللفظ والمعنى، وأن يجعل كلا منهما كفئًا للآخر. وأما القاعدة النفسية أو العلمية لهذه الظاهرة فهي أن ما يتوافر في نفس الأديب من فكرة واضحة أو انفعال صادق يجذب إليه من الألفاظ، والعبارات، والصور ما يلائمه بطريقة تكاد تكون آلية لا تكلف فيها ولا صنعة، وهذا هو المثال الطبيعي للأسلوب، بل هناك هذا الرأي القائل بأنه لا توجد فكرة في الذهن دون لفظ يحددها. ولا توجد عاطفة بغير صورة تمثلها. وفي هذا المعنى يقول ابن رشيق2: "اللفظ جسم وروحه المعنى وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم يضعف بضعفه، ويقوى بقوته. فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصًا للشعر. وهجنة عليه كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور. وما أشبه ذلك غير أن تذهب الروح. وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك أوفر حظا كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح. ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ وجريه فيه على غير الواجب قياسًا على ما قدمت   1 العمدة، ج1،ص28. 2 نفس المرجع ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 من أدواء الجسوم والأرواح. فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتًا لا فائدة فيه. وإن كان حسن الطلاوة في السمع. كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأي العين إلا أنه لا ينتفع به ولا يفيد فائدة. وكذلك إن اختل اللفظ جملة وتلاشى لم يصح له معنى لأنا لا نجد روحًا في جسم ألبته". وهذا الذي ذكره ابن رشيق كما يجري في الشعر ينطبق على النثر تمامًا: "وبعضهم وأظنه ابن وكيع مثل المعنى بالصورة واللفظ بالكسوة. فإن لم تقابل الصورة الحسناء بما يشاكلها ويليق بها من اللباس. فقد بخست حقها وتضاءلت في عين مبصرها"1. ويقول ابن الأثير2: "اعلم أن العرب كما كانت تعتني بالألفاظ فتصلحها وتهذبها فإن المعاني أقوى عندها. وأكرم عليها. وأشرف قدرًا في نفوسها، فأول ذلك عنايتها بالألفاظ لأنها لما كانت عنوان معانيها. وطريقًا إلى إظهار أغراضها أصلحوها وزينوها، وبالغوا في تحسينها ليكون ذلك أوقع لها في النفس وأذهب بها في الدلالة على القصد. فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها. ورققوا حواشيها وصقلوا أطرافها فلا تظن أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ فقط. بل هي خدمة منهم للمعاني. ونظير ذلك إبراز الصور الحسناء في الحلل الموشية والأثواب المحبرة. فإنا قد نجد من المعاني الفاهرة ما يشوه من حسنه بذاذة لفظه وسوء العبارة عنه". والمطابقة بين اللفظ والمعنى تتحقق بالتعبير الطبيعي الذي يترك فيه الأديب نفسه على سجيتها السمحة دون أن يعمد إلى صنعة شاذة أو تكليف ممقوت. فيكون من ذلك المساواة وصدق الأداء وتنوع العبارة حسب الموضوع والشخصية كما سبق ذلك فلا حاجة إلى إعادته أو تمثيله.   1 نفس المرجع، ص82. 2 المثل السائر، ص137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ونشير هنا إلى أن مظاهر هذه المطابقة، كما تتراءى في الألفاظ والعبارات، تظهر أيضًا في الوزن الشعري أو البحر العروضي الذي يختاره الشاعر، وفي القافية التي يؤثرها على غيرها1، وفي الصورة الخيالية التي يؤثر بها عواطفه، ليكون الأسلوب من روح المعنى وعلى مثاله من غير حاجة إلى ركوب الضرورات الشعرية2. ومع ذلك فإن حاولت الظفر بأمثلة لذلك رأيتها عند أمثال عبد الحميد الكاتب، وزياد بن أبيه، والبحتري ممن يعدون طبيعين في التعبير، ولم يتشبثوا بصنعه، ولم يحبسوا نفوسهم عند تعمق في المعاني، ولا تكلف في الألفاظ. فهذا البحتري يذكر قتال الأقارب معًا، وما يلابسه من عواطفه متباينة؛ إذ يصطدم الحب والبغض، والشفقة والقسوة، وتمتزج الدماء بالدموع، بأسلوب لا يصلح غيره لتصوير هذه الحالة التي كانت بين تغلب مع دقة الصنعة: أسيت لأخوالي ربيعة إذ عفت ... مصايفها منها، وأقوت ربوعها3 بكرهي أن باتت خلاء ديارها ... ووحشًا مغانيها، وشتى جميعها4 وأمست تساقي الموت من بعدما غدت ... شروبًا تساقي الراح رفهًا شروعها5 إذ افترقوا عن وقعة جمعتهم ... لأخرى دماء ما يطل نجيعها6   1 راجع الصناعتين ص133، 141. 2 راجع نقد الشعر لقدامه ص56. 3 أسيت: حزنت، وربيعة: أصل تغلب، أقوت: خلت. 4 المغاني: المنازل، شتى: متفرقة. 5 الشروب: القوم يشربون، رفه: لين، شروع: مورد الماء. 6 يطل: بهدر، النجيع: الدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 تذم الفتاة الرود شيعة بعلها ... إذا بات دون الأثر وهو ضجيعها1 حمية شغب جاهلي وعزة ... كليبة أعيا الرجال خضوعها2 تقتل من وتر أعز نفوسها ... عليها بأيد ما تكاد تطيعها3 إذا احتربت يومًا ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها شواجر أرماح تقطع بينها ... شواجر أرحام ملوم قطوعها4 فمن أية ناحية نظرت إلى هذا النص وجدته مطابقًا لمعناه أحسن مطابقة: جزالة تلائم مواقف الحروب، وتقسيم، ومقابلات، لتصوير الصلات المتناقضة وصور تملك ما ملك النفوس من تعاطف مكبوت وغل ثقيل بغيض وعبارة موسيقية تردد بعناصرها اللفظية ما يتردد في النفوس من تيارات عاطفة متنافرة. لذلك تجد أسلوب الشاعر هنا بطيئًا بعض الشيء يشبه اعتذار أبي تمام السابق وذلك لاضطراري البحتري إلى شيء من الصنعة والجزالة يحقق به حسن التصوير ودقة التعبير. فذلك هو الأسلوب المثالي المطبوع، وهذا النص من أروع الشعر العربي جميعه. 2- ومع ذلك، ظهر منذ العصر الجاهلي جماعة من الشعراء5 عدلوا عن   1 الرود: الشابة الجميلة، دون الثأر: لم يظفر به. 2 الشغب: نهج الشر، كليبية نسبة إلى كليب الزعيم التغلبي المعروف. 3 الوتر: الثأر. 4 شواجر وأرماح، رماح متشابكة أثناء المعركة وشواجر الأرحام صلات القربى التي تجمع المتحاربين. 5 راجع في الأدب الجاهلي لطه حسين ص284 طبعة ثالثة. والصناعين ص135، 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 هذه الطبيعة الفياضة. وعمدوا إلى أسلوب الشعر يهذبونه ويصقلون لفظه بحذف غريبه أو متنافره، والحرص على انسجام موسيقاه وتحري مساواته. والتناسب بين فقره وجمله. ليكون جزلًا حسن السبك مع خلوه من التكلف الممقوت والبديع المقصود. حتى صار الأسلوب الشعري صنعة أو فنا يقصد إليه ويعنى بأحكامه وخلوه من الفضول اللفظي والغلو المعنوي. وكان زهير بن أبي سلمى أنجب تلاميذ هذه المدرسة، وكان الحطيئة أنجب تلاميذ زهير وتبعهم بعد ذلك أبو تمام -في بعض شعره- ومسلم بن الوليد. وعبد الله بن المعتز ممن أخذوا عن السابقين إحكام الأسلوب فيما بعد. واتخذوه حرفة يدوية وعبث أطفال. يقول ابن رشيق1: "ومن الشعر مطبوع ومصنوع، فالمطبوع هو الأصل الذي وضع أولا وعليه المدار، والمصنوع وإن وقع عليه الاسم فليس متكلفًا تكلف أشعار المولدين لكن وقع فيه هذا النوع الذي سموه صنعة من غير قصد ولا تعمد. ولكن بطباع القوم عفوًا فاستحسنوه ومالوا إليه بعض الميل بعد أن عرفوا وجه اختياره على غيره حتى صنع زهير الحوليات على وجه التنقيح والتثقيف؛ يصنع القصيدة ثم يكرر نظره فيها خوفًا من التعقب بعد أن يكون قد فرغ من عملها في ساعة أو ليلة. وربما رصد أوقات نشاطه فتباطأ عمله لذلك. والعرب لا تنظر في أعطاف شعرها بأن تجنس أو تطابق أو تقابل فتترك لفظة للفظة أو معنى لمعنى، كما يفعل المحدثون. ولكن نظرها في فصاحة الكلام وجزالته وبسط المعنى وإبرازه وإتقان بنية الشعر وإحكام عقد القوافي وتلاحم الكلام بعضه ببعض".   1 العمدة جزء أول ص83 و172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ومع ذلك قول زهير يمدح هرم بن سنان: وأبيض فياض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغب فواضله1 أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله2 تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله فالشعر بريء من التنافر والإغراب. مع حذف الفضول. والقصد في المعنى وحسن التناسق بين الجمل وبين المعاني، حتى بدا محكمًا متقنا ملحوم الجوانب قد عمل فيه العقل والذوق بجانب العاطفة وقد مضى مثال الحطيئة من باب المديح. ويقول ابن رشيق3: "فأما حبيب -أبو تمام- فيذهب إلى حرونة اللفظ وما يملأ الأسماع منه مع التصنع المحكم طوعًا أو كرهًا يأتي للأشياء عن بعد ويطلبها بكلفة. ويأخذها بقوة. وأما البحتري فكان أملح صنعة. وأحسن مذهبًا في الكلام. يسلك منه دماثة وسهولة مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ. لا يظهر عليه كلفة ولا مشقة وما أعلم شاعرًا أكمل ولا أعجب تصنعًا من عبد الله بن المعتز؛ فإن صنعته خفية لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع إلا للبصير بدقائق الشعر وهو عندي ألطف أصحابه شعرًا وأكثر بديعًا وافتنانًا وأقرنهم قوافي وأوزانًا. ولا أرى وراءه غاية لطالبها في هذا الباب". ثم يقول4: "وقال بعض من نظر بين أبي تمام وأبي الطيب -المتنبي- إنما حبيب كالقاضي العدل يضع اللفظة موضعها ويعطي المعنى حقه، بعد طول النظر والبحث   1 أبيض نقي من العيوب، فياض كثير العطايا. معتفيه سائله. تغب: تنقطع. 2 النائل العطاء. راجع الصناعتين 98. 3 العمدة جزء أول، ص84، 85. 4 نفس المرجع ص87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 عن البينة. كالفقيه الورع يتحرى في كلامه ويتحرج خوفًا عن دينه، وأبو الطيب كالملك الجبار يأخذ ما حوله قهرًا وعنوة أو كالشجاع الجرئ يهجم على ما يريده لا يبالي ما لقي ولا حيث وقع". ونحو ذلك حصل في النثر أيضًا، فلقد كان في صدر الإسلام جزلًا طبيعيًّا يرتجل في كثير من الأحيان ويكون فيضا لما في النفوس من المعاني، سواء في ذلك الأحاديث، والخطب، والرسائل، حتى جاء عبد الحميد الكاتب1 فكانت آثاره طبيعة سهلة لا صنعة فيها ولا تكلف، وكان بجانبه عبد الله بن المقفع2 يقوم في النثر بما كان يقوم به في الشعر زهير والحطيئة، وأبو تمام في خير شعره. وكان كتاب العصر العباسي الأول -كأحمد بن يوسف، وعمرو بن مسعدة وإبراهيم الصولي-3 يحكمون الرسائل، وينشئونها جزلة، دقيقة المعاني، عالية الأسلوب، كما كتب عمرو بن مسعدة إلى المأمون في رجل يستشفع له بالزيادة في منزلته، وجعل كتابه تعريضًا لنفسه: "أما بعد فقد استشفع بي فلان يا أمير المؤمنين لتطولك علي في إلحاقه بنظرائه من الخاصة فيما يرتزقون وأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين وفي ابتدائه بذلك تعدي طاعة، والسلام". فكتب إليه المأمون: "قد عرفنا تصريحك، وتعريضك لنفسك، وقد أجبناك إليهما، ووقفناك عليهما". وجاء الجاحظ في القرن الثالث فكان أستاذًا لمدرسة خاصة أو كان هو هذه   1 و2 راجع آثارهما في رسائل البلغاء التي نشرتها مجلة المقتبس. 3 راجع تاريخ أدب اللغة في العباسي لأحمد الإسكندري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 المدرسة الكتابية التي أشرنا إليها فيما مضى. وأما كتاب الصنعة البديعية فقد كانوا في القرن الرابع1 الهجري، وهم الذين فتحوا بابًا كان فيما بعد شرًّا على الأساليب الأدبية لما دخل فيه المتكلفون العاجزون، وقد عرفت طرفًا من أساليبهم عند بديع الزمان. وعندي أن هذه الطبقات من الشعراء والكتاب تمثل طورًا طبيعيًّا من أطوار الحضارة الأدبية التي تُعنى بالأدب كما تعنى بسواه ليكون أقوم أسلوبًا، وأجمع بين قيمة المعاني وقيمة الأساليب، على أنهم كانو، وبخاصة بعد الإسلام متأثرين بألوان من الفنون، والعلوم الإسلامية والدخيلة وبفراغ وتنافس أكسبت الأدب هذا الوضع الفني الجديد، فلا لوم عليهم ولا عتاب ولا مانع أن ينضافوا إلى السابقين كما يرى ابن الأثير2. 3- وبعد ذلك تواجهنا هذه القضية الكبيرة أو المعركة العنيفة، بين أنصار اللفظ، وأنصار المعنى، فإن هذه الثقافة الواسعة التي توافرت للأدباء، منذ العصر العباسي، مع ذكاء العقل قد حملتهم على العناية بالمعاني فغذوا الأدب بأفكار فلسفية وآراء دينية، وملاحظات دقيقة عميقة، وكان أبو تمام من أسبق الشعراء وأظهرهم في ذلك، ثم ابن الرومي، والمتنبي، وأبو العلاء في ذخيرته الفلسفية -اللزوميات- وكان من ذلك، ولا سيما عند شعراء الصنعة، أن ضعفت روعة اللفظ وسلاسته، وبدت عليه الجفوة العلمية أو الكلفة البديعية، وبجانب هؤلاء بقي آخرون محتفظين بالطبع السمح والديباجة السهلة الجميلة كالبحتري، وأبي العتاهية والعباس بن الأحنف، وظهرت لهم مقطوعات بالغت في السهولة حتى عادت باردة سخيفة.   1 راجع النثر الفني في القرن الرابع لزكي مبارك. 2 المثل السائر ص137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فكان من ذلك، ولأسباب أخرى، أن نشطت حركة النقد، وانتصر جماعة لكل فريق، واختلف الباحثون حول هذه المسألة: أين تقع البلاغة؟ أفي اللفظ أم في المعنى أم فيهما معًا؟ وأي هذين الفريقين من الشعراء أظفر بعمود الشعر، وأجدر بالاحترام؟ وخلاصة ما يحتج به أنصار اللفظ1 أن المعاني معروفة للناس سهلة الإدراك، يكفي أن تكون صحيحة، ولكن البراعة البيانية إنما هي في الألفاظ وصوغ العبارات، وأما أنصار المعاني فيقولون2: إن المعنى هو المقصود بالأداء، وهو مجال الابتكار، وحسن التصور، واللفظ تابعه في ذلك فجماله من جماله، ويدور جهد عبد القاهر الجرجاني على أن البلاغة في الأسلوب تنتهي إلى نظم الكلام وفق حاجة المعنى، وبذلك تتحقق المطابقة بينهما، ويكتسب اللفظ حسنه بصدق أدائه. ولكنك عرفت أن هذه المسألة قد فصل فيها الآن، وأن البلاغة تقوم على حسن التعبير كما ترتكز على قيمة التفكير3. 4- وعلى الرغم من ذلك فقد وجد من الأدباء من يؤثر اللفظ على المعنى، فيجعله غايته ومتجه عنايته، ويقصد إليه؛ فأما أن يجعله -في الشعر- فخمًا مجلجلًا؛ لا يتناسب مع معناه كابن هانئ الأندلسي حيث يقول: أصاخت فقالت: وقع أجرد شيظم وشامت فقالت: لمع أبيض مخذم4   1 راجع مقدمة ابن خلدون؛ ص856، والصناعتين ص55. 2 راجع دلائل الإعجاز ص40، 70، 307، 320. طبعة المنار. 3 صحيفة دار العلوم ج2 من السنة الثانية ص30 للمؤلف، وفيض الخاطر لأحمد أمين، ص301. 4 أصاخت: أصغت. أجرد شيظم: الفرس الفتي، شامت: نظرت، أبيض مخذم: سيف قاطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وما ذعرت إلا لجرس حليها ... ولا رمقت إلا برى في مخدم1 يصف امرأة تترقبه، فتوهمت وقع حوافر فرس، ولمع سيف، وإذا بها تسمع حليها، وترى لمعها، ومن يستمع لهذا الصخب اللفظي يظن أنه حماسة أو حرب قائمة2. وإما أن يجعله سهلًا مفرطًا، كما وقع لأبي العتاهية: يا إخوتي، إن الهوى قاتلي ... فسيروا الأكفان من عاجل ولا تلوموا في اتباع الهوى ... فإنني في شغل شاغل عيني على عتبة منهلة ... بدمعها المنسكب السائل يا من رأى قبلي قتيلًا بكى ... من شدة الوجد على القاتل فهذا الشعر كما ترى، سهل، لين، ليس بينه وبين النثر العامي فرق كبير، وللبهاء زهير نحو هذا الأسلوب الذي تسمعه، فكأنك تسمع الشعب المصري في حواره وأحاديثه، جدًّا وهزلًا، في عبثه وأفاكهه، وفي كل ما يلابس حياته3 الوداعة المطمئنة في هذا الوادي الخصيب. وكذلك الشأن في النثر فقد غلبت العناية اللفظية على فن المقامات، وصارت بذلك وسيلة لتعليم اللغة، وتراكيبها، وبعض عباراتها وأساليبها الجزلة، وقد أسبقنا القول في ذلك فلا نعيده هنا. وكذلك وجد من الأدباء من يؤثر المعنى على اللفظ، فيعنى بعمقه وتركزه.   1 البري: جمع برة،: كل حلقة من سوار القرط أو الخلخال، المخدم: موضع الخلخال. 2 العمدة ج1: 80. 3 البهاء زهير للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وجدته، وتوليد بعضه من بعض، لا يعنى بأن يلبسه كفاءة من اللفظ الكاشف الواضح، أو السلس العذب، أو القوي المتين، فيقع في التعقيد، أو الخشونة، أو الهجنة، أو التكلف الممقوت فيفسدون اللفظ ويبهمون المعنى. وقد تورط في ذلك -من الشعراء- أبو تمام والمتنبي في بعض شعرهما، وكذلك ابن الرومي، ومن الكتاب، خلدون العالم والمؤرخ المشهور. ونورد هنا بعض الأمثلة، من ذلك قول أبي تمام: يتجنب الآثام ثم يخافها ... فكأنما حسناته آثام ففي هذا البيت إضمار جعل معناه غامضًا على الرغم من محاولة الدلالة عليه بالشطر الثاني، وتقديره: أنه يتجنب الآثام فيكون قد أتى بحسنة، ثم يخاف تلك الحسنة، فكأنما حسناته آثام، وذلك من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة} . وقوله: وظلمت نفسك طالبًا إنصافها ... فعجبت مِن مظلومةٍ لم تُظلم معنى ذلك أنك أكرهت نفسك على مشاق الأمور لنيل المجد، فهي إذًا مظلومة من حيث الوسيلة التي كابدتها، ولكنها منصفة من حيث الذكر الجميل والمجد المؤثل، فكانت مظلومة لم تُظلم، وذلك من قول السموءل: وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل وقول المتنبي يمدح علي بن حمد الطائي بسداد الرأي، والتفرد في ذلك: فتى ألف جزء رأيه في زمانه ... أقل جزيء بعضه الرأي أجمع نظام البيت كما يلي: هو فتى رأيه في زمانه ألف جزيء، وأقل جزيء منه، بعضه هو كل ما عند الناس من الرأي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وقال علي بن عيسى الرماني: "أسباب الإشكال ثلاثة: التغيير عن الأغلب كالتقديم والتأخير وما أشبهه، وسلوك الطريق الأبعد، وإيقاع المشترك. وكل ذلك اجتمع في بيت الفرزدق: وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي، أبوه يقاربه فالتغيير عن الأغلب سوء الترتيب؛ لأن التقدير: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه يريد بالملك هشام بن عبد الملك، والممدوح هو إبراهيم بن هشام خال بن عبد الملك. وأما سلوك الطريق الأبعد فقوله: أبو أمه أبوه، وكان يجزئه أن يقول خاله. وأما إيقاع المشترك فقوله: حي يقاربه؛ لأنها لفظة تشترك فيها القبيلة والحي من سائر الحيوان بالحياة. قال: وإذا تفقدت أبيات المعاني رأيتها لا تخرج عن هذه الأسباب الثلاثة"1. وكتب النقد والبلاغة ملأى بهذه النماذج، وأما ابن خلدون فقد مضى فصل من كلامه. 5- ومما يتصل باللفظ والمعنى مسألة الإيجاز والإطناب والمساواة، وقد وردت هذه الألفاظ في كتب البلاغة أوصافًا للعبارة، وعناصرها، من حيث ما تؤدي من معانٍ، فإذا قصر اللفظ عن المعنى كان إيجازًا، وإن طال لفائدة كان إطنابًا، وإن تساويا كان مساواة أو تقديرًا، ولرجال البلاغة كلام كثير في هذه الأقسام، وفيما يدخل تحتها من فروع لا حاجة بنا إلى تكرارها هنا. ويمكن الرجوع إليها في المثل السابق لابن الأثير2 وسواه، وقد تناولتها كتب البلاغة -غالبًا- في سياق الجمل والفقر، فمن ذلك في المساواة قوله تعالى:   1 العمدة ج2 ص256. 2 ص91 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . وقول جرير: تمنى رجال من تميم منيتي ... وما ذاد عن أحسابهم ذائد مثلي فلو شاء قومي كان حلمي فيهم ... وكان على جهال أعدائهم جهلي وفي الإيجاز قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} وقول أمرئ القيس: فلو أنها نفس تموت سوية ... ولكنها نفس تساقط أنفسا والمراد لو أنها نفس تموت موتة واحدة لهان الأمر، ولكنها نفس تموت موتات، وفي الإطناب قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ففائدة ذكر الصدور هنا أنه قد علم أن العمى مكانه البصر حقيقة، واستعماله في القلب غير متعارف فلا بد من زيادة التقرير ليعرف أن العمى الحقيقي في القلب لا العين، وقول البحتري: تردد في خلقي سؤدد ... سماحًا مرجى وبأسًا مهيبًا فكالسيف إن جئته صارخًا ... وكالبحر إن جئته مستثيبا فالبيت الثاني يدل على معنى الأول إلا أن فيه زيادة بيانية تفيد تخييلًا وتصويرًا. ولكننا نشير هنا إلى هذه الأوصاف من ناحيتها العامة التي تبدو في العبارة اللفظية لمقال، أو خطبة، أو رسالة، أو وصف، أو قصيدة، وفي مقدار ما يصل بينها وبين الأغراض المعاني كلها مجتمعة، فمن الكتاب من يؤثر الإيجاز حتى يصل إلى التوقيعات والإشارات، ومنهم من يسهب ويطيل كما في الخطب والمقالات الصحفية غالبًا، ومنهم من يساوي، ويغلب ذلك في الرسائل والمقالات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 العلمية، وقد ضرب ابن الأثير مثلًا لذلك في وصف بستان ذي فواكه متعددة، فالإيجاز هو قوله تعالى: {مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَان} والإطناب قول ابن الأثير: "جنة علت أرضها أن تمسك ماء، وغنيت بينبوعها أن تستجدي سماء، وهي ذات ثمار مختلفة الغرابة، وتربة منجبة، وما كل تربة توصف بالنجابة، ففيها المشمس الذي يسبق بقدومه، ويقذف أيدي الجانين بنجومه. فهو يسمو بطيب الفروع والنجار، ولو نظم في جيد الحسناء لاشتبه بقلاده من نضار ... إلخ" كذلك أورد للإطناب مثلًا من الرسائل والتقاليد فلتراجع هناك. والنثر العصري لا يميل إلى الإيجاز إلا في التوقيعات الديوانية، والكلمات السائرة، ولكنه بعد ذلك أميل إلى الإطناب ثم المساواة، وحسبه حياة تخلصه التخلص النهائي من هذه الصنعة البديعية والإغراب اللغوي، إلى خير مستوى ظفر به في حياته من ثراء المعاني وروعة الأساليب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الناحية الثالثة : وهي ناحية الصنعة البديعية، والتكلف المقصود. طمعًا في زخرفة الأساليب، وتوشيتها بالسجع، والجناس، والمطابقة، والاستعارة، ونحوها من عناصر التحسين اللفظي والمعنوي، وقد كانت هذه المحسنات ترد في الشعر القديم قليلة وعفوًا دون تكلف، واستجابة لقوة المعنى وصدق تصويره كقول أبي ذؤيب الهذلي مستعيرًا: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع1   1 التميمة ما يحمله الإنسان مخافة الحسد أو الشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وقول حيان بن ربيعة الطائي في التجنيس: لقد علم القبائل أن قومي ... لهم حد إذا لبس الحديد1 وقول زهير في المطابقة: ليث بعثر يصطاد الرجال، إذا ... ما الليث كذب عن أقرنه صدقا2 "فلما أفضى الشعر إلى المحدثين، رأوا مواقع تلك الأبيات من الغرابة البديع، فمن محسن ومسيء، ومحمود ومذموم، ومقتصد ومفرط"3. وقد قيل إن "أول من فتق البديع من المحدثين بشار بن برد وابن هرمة وهو ساقة العرب، وآخر من يستشهده بشعره، ثم أتبعها مقتديًا بهما كلثوم بن عمر العتابي، ومنصور النمري، ومسلم بن الوليد، وأبو نواس، واتبع هؤلاء حبيب الطائي، والوليد البحتري، وعبد الله بن المعتز فانتهى علم البديع والصنعة إليه، وختم به"4. والذي يعنينا هنا -في الشعر- أن هؤلاء الشعراء اختلفوا في مقدار عنايتهم بالصنعة البديعية، فاختلفت أساليبهم في النظم تبعًا لذلك: فأما أبو تمام فكان -في كثير من شعره- أشد الشعراء تعلقًا بالبديع، وأكثرهم تكلفًا له، ولا سيما الطباق، والجناس، والاستعارة والتقسيم، حتى شوهت شعره، وذهبت بكثير من روعته وجلاله؛ فإذا لاحظنا أنه أضاف إلى ذلك محاولته الإغراب اللفظي تقليدًا للقدماء، ثم اجتلابه المعاني الغامضة، والأغراض الخفية التي احتمل في سبيلها كل غث ثقيل، علمنا سر ما تورط فيه من اضطراب في التعبير، وتعقيد في الأسلوب، حتى صار هذا القسم من شعره إذ قرئ أجهد الفكر، وكذا الخاطر في فهم معانيه، وتصور أخيلته وأغراضه، وما كان هذا سبيل الشعر، ولا أسلوب الفن الجميل،   1 الحد: البأس والقوة. 2 عثر: مأسدة، أي كأسود هذا المكان. 3 الوساطة، ص38. 4 العمدة ج1 ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فصار أبو تمام علامة التكلف الثقيل، والصنعة الفاسدة في قسم من شعره ليس بالقليل، ولو أنه جرى مع طبعه، وجانب التكلف، مع معانيه المبتكرة وأخيلته الجميلة، لكان سيد الشعراء غير مدافع1؛ فإنك حين تقرأ له ما ورد أول هذا الفصل من الشعر القوي الجميل تعجب كيف يحيد عنه جريًا وراء البديع، وتعلقًا بالصنعة الممقوتة ليقع في مثل هذه الاستعارة القبيحة: باشرت أسباب الغنى بمدائح ... ضربت بأبواب الملوك طبولا ضرام الحب عشش في فؤادي ... وحضن فوقه طير البعاد كأنني، حين جردت الرجاء له ... عضب صببت به ماء على الزمن أو هذا الجناس المستكره: إن من عق والديه لملعو ... ن ومن عق منزلًا بالعقيق فاسلم سلمت من الآفات ما سلمت ... سلام سلمى ومهما أورق السلم أو ذلك الطباق المتكلف: قد لان أكثر ما تريد وبعضه ... خشن وإني بالنجاح لواثق وإن حفرت أموال قوم أكفهم ... مِن النيل والجدوى فكفاه مقطع وشر من ذلك هذه المعاطلة بتداخل الكلمات، وركوب بعضها بعضًا: خان الصفاء أخ خان الزمان أخا ... عنه فلم يتخون جسمه الكمد2   1 راجع الوساطة، ص24. 2 راجع الموازنة بين الطائيين، ص105-210 طبعة الجوانب، ويريد بالبيت خان الصفاء أخ خان الصفاء أخا من أجله فلم يتخون جسمه الكمد: أي لم يؤثر الحزن في جسمه وفاء لأخيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وقد وقع المتنبي في مثل ذلك، كما تشبث به المتأخرون فأفسدوا الشعر وذهبوا بروائه. وأما البحتري وابن المعتز فقد غلب عليهما الطبع السمح، وسهولة الأسلوب وعدم الكد وراء المعاني العميقة والألفاظ الغريبة، ويتلخص أسلوبهما في السهولة وعدم الشغف بالبديع، إلا ما جاء طبيعيًّا أو خفيًّا لا يكاد يظهر، ومعنى هذا أن قيمة شعرهما قائمة، في الغالب، على جمال الأسلوب وطبيعته، وحسن التصوير الخيالي، فكانا مدرسة أخرى تقابل مدرسة أبي تمام، وقد مضت أمثلة لشعر البحتري نعيد منها هذا البيت فقط: إذا احتربت يومًا ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها لتلحظ فيه هذا التقسيم، وحسن الترتيب، والمطابقة الملائمة بين الشطرين في المعنى، وهكذا إذا عرض له البديع، ويقول عبد الله بن المعتز يصف سحابة ماطرة: ومزنة جاد من أجفانها المطر ... فالروض منتظم والقطر منتثر ترى مواقعها في الأرض لائحة ... مثل الدراهم تبدو ثم تستتر فيجمع بين الاستعارة، والمطابقة والتشبيه، ومع هذا لا نرى تكلفًا ثقيلًا ولا تعمقًا عويصًا. وبين هذين الطرفين نضع مسلم بن الوليد، فقد جمع بين الصنعة المعتدلة وتجويد الشعر والبطء في صنعته حتى سموه زهير المولدين1، واستطاع بذلك أن يفترق من أبي تمام بقرب المعاني من جهة، وبسلامه عبارته من الغريب،   1 العمدة ج1 ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 والتكلف الممقوت، ولاءم بذلك بين اللفظ والمعنى، فكان لشعره موسيقى قوية جميلة، كقوله يهجو دعبل الخزاعي: أما الهجاء فقد عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل فاذهب، فأنت طليق عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل فقد طابق بين المدح والهجاء وبين الدقة والجلالة، وبين العز والذلة، مع جدة المعنى، وإحكام التراكيب وحسن تقسيمها، فكان بذلك من عبيد الشعر. وأما في النثر فقد عرفت مما سبق أن هذه الصنعة البديعية فقد انتهت إلى غايتها المقبولة على يد كتاب القرن الرابع الهجري، أمثال بديع الزمان، والخوارزمي، والصاحب بن عباد، وابن العميد، هؤلاء الذين عرفوا بالسجع والجناس والطباق، واقتباس لغة الشعر أو تضمين معانيه، وقد استطاعوا لإحاطتهم اللغوية وقدرتهم الأدبية أن يجعلوا أساليبهم مقبولة ويحققوا آثار هذه الصناعة، إلا أن كثيرًا ممن خلفهم على هذا الفن -وبخاصة بعد سقوط بغداد وفي عصر المماليك- لم يظفروا بمكانة السابقين في اللغة والادب، ثم غلوا في البديع فأضافوا إلى ما سبق التورية والاستخدام والتلميح للحوادث الشهيرة، ثم التصحيف الذي كان مجال البراعة عند المتكلفين. وقد نشأ عن ذلك فساد الأساليب، وركاكتها، والتضحية بالمعاني في سبيل الألفاظ. ويمكن إرجاع ما كان بين كتاب الصنعة، من خلاف في الأساليب إلى أصلين: الأول: موضوعي حين انتقل بها بعضهم من الرسائل الخاصة، والديوانية، والعامة، إلى كتب العلم أو مخاطبة الملوك في الشئون الدولية، في حين أن هاتين الناحيتين مظهر عقلي أو مصلحي يلائمه الأسلوب البسيط الواضح، ومن ذلك أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 عماد الدين الأصفهاني المتوفى سنة 597هـ كتب في التاريخ بهذا الأسلوب الذي عاد مغلقًا فألف كتابه "الفيح القسي في الفتح القدسي" وصف فيه فتح صلاح الدين لبيت المقدس بعبارة مسجوعة منها: "رحل من عسقلان للقدس طالبًا، وبالعزم غالبًا، وللنصر مصاحبًا، ولذيل العز ساحبًا، قد أصبحت ريض مناه، وأخصب روض غناه، وأصبح رائح الرجاء، سيب العزف، طيب العرف ظاهر اليد قاهر الأيد، سنا عسكره قد فاض بالفضاء فضاء، وملا الملأ فأفاض الآلاء". والثاني: شكلي حين يختلفون في مقدار حرصهم على المحسنات وما يجمعون منها في رسائلهم وفي طول السجع وقصره، ودقة الطباق، وطبعية الأسلوب وقد رأيت مثالًا للبديع يمثل السجع القصير، القصد في الجناس وملاءمة الطباق. ونورد هنا قسما من الرسالة1 لشهاب الدين بن فضل الله العمري -تصور لنا التعلق بالصنعة في غير موضعها ثم الإسراف فيها حتى عادت غثة غير مقبولة- كتبها بين يدي سلطانه إلى نائب الشام صحبة طيور صيد جوارح أرسلها إليه، قال بعد الديباجة: "ولا زالت مواهبنا تخصه بالمزيد، وتنفحه بما يريد، وتجعل له من الجوارح ما تعترف لها السهام بأنها بغير جناحية لا تصيب ولا تصيد. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي بسلام جميل الافتتاح، وثناء يطير إليه، وكيف لا تطير قادمة بجناح؟ ونعلمه أن مكاتبته المتقدمة الورود تضمنت التذكار من الجوارح بما بقي رسمه، وجرب عادة صداقتنا الشريفة أن تحسب في قسمه، وقد جهزنا له الآن ثلاثة طيور، لا يبعد   1 أحمد الإسكندري: تاريخ أدب اللغة العربية في الدول المتتابعة ص92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 عليها مطار، ولا يوقد للقرى في غير حماليقها جذوة نار، ولا تؤم صيدًا إلا وترشى بدمه فلا يلحقها بغبار". ومثل هذه الصنعة بقيت إلى أول العصر الحديث حين تشبث بها قوم من الكتاب ظانين أنها مظهر البراعة، فلما هبت هذه النهضة، وحملت الثقافة والسرعة الناس على العناية بالمعاني والموضوعات، انهزمت هذه الصنعة ولم تستطع مجاراة هذا التيار المعنوي الدافع، فتحررت الأساليب بالتدريج وألقت عن كواهلها هذه السخافات اللفظية، وأخذت ترقى مستجيبة للرقي العقلي والذوقي حتى بلغت الآن منزلة رفيعة لعلها لم تظفر بها قبل الآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الباب الخامس: صفات الأسلوب مدخل ... الباب الخامس: صفات الأسلوب للأسلوب أوصاف شتى يمكن معرفتها بالنظرة السريعة، كالأسلوب الموجز أو المساوى أو السهل أو الغامض أو التصويري إلى غير ذلك من السمات الواضحة في العبارات، والتي يمكن بها تعدد الأساليب إلى أشكال كثيرة، ولكن الذي يذكر هنا إنما هو أعم الصفات من جهة، وأعمقها من جهة أخرى، لتناولها جميع الأساليب، ولصلتها بنفس الأديب، ومعارفه، وعواطفه، وذوقه، وأخيرًا بعباراته، لذلك كان من الأصح أن تسمى عناصر أو أركانًا ولعلها ترجع جميعًا إلى أصل واحد هو صدق التعبير؛ فالإخلاص في تصوير ما في النفس من فكرة واضحة أو عاطفة صادقة، يجعل الأسلوب مثاليًّا متى توافرت للأديب هذه الوسائل البيانية التي ترد عليك في الفصول الآتية. وبذلك يتحقق ما كررناه كثيرًا فيما مضى ويصبح الأسلوب مرآة العقل، والخلق، والمزاج، وطرق التفكير والتخيل، سواء أكانت تلك قوية أم ضعيفة، مستقيمة أم مضطربة، جميلة أم قبيحة؛ لأن مصدر ذلك كله إنما هو نفس الكاتب، فمنها تنشأ هذه الصفات، وإليها ترد. ويمكن إرجاع هذه الصفات إلى ثلاثة قياسًا على الغايات التي يقصد إليها المنشئون: أولًا: الوضوح Clearness لقصد الإفهام1. ثانيًا: القوة Force لقصد التأثير. ثالثًا: الجمال Beautuy الإمتاع "أو السرور". وسنتناول كل صفة بشيء من التفصيل فيما يلي:   1 راجع Gen: p27 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الفصل الأول: وضوح الأسلوب مدخل ... الفصل الأول: وضوح الأسلوب أول واجب على البليغ أن يكون واضحًا مفهومًا يرمي إلى إفادة قرائه ورفع مستواهم الثقافي، ولا يستطيع ذلك بالوقوف عند تزويدهم بالمعارف جافة ثقيلة، بل يحسن به أن يكسب معارفه حياة وروعة شائقة بما يبث فيها من عواطف وأخيلة ملائمة كما قيل من قبل. والمصدر الأول للوضوح هو عقل الأديب، فيجب على الكاتب أن يكون فاهمًا ما يريد أداءه فهمًا دقيقًا جليًّا، ثم يحرص على أدائه كما هو، ولذلك أثره البعيد في قيمة الأسلوب؛ لذلك كان الوضوح صفة عقلية قبل كل شيء. وبعد ذلك يأت التعبير اللغوي الذي يتطلب من المنشئ ثروة لغوية وقدرة على التصرف في التراكيب والعبارات لتلائم أفكاره وطريقة تفكيره، فلا يرضى عن كلمة أو جملة تعبث الإبهام أو الاشتراك، ولا يشعر الناس بأن عبارته في حاجة إلى أن تفهم. ولن يجوز في فن البلاغة هذا القانون الذي ارتجله أبو تمام حين قال: ولم لا يفهم ما يقال؟ جوابًا لمن قال له: لم لا تقول ما يفهم؟ لأن البلاغة قائمة على العنابة بالقراء والسامعين، ومطابقة الكلام لمقتضى الحال، فإذا بدا الأسلوب بعد ذلك غامضًا توجه الطعن إلى منشئته، ورمي إما بعدم فهمه ما يقول وإما بعجزه عن التعبير عما يفهم. نعم قد تكون الفكرة في ذاتها غامضة لأنها لم يتم بحثها، فعليه عرضها كما هي بأحدث أوضاعها كما ترى ذلك في تاريخ العلوم والفلسفة، وقد يكون القراء أنفسهم دون مستوى الأديب أو من طراز آخر غير ما يكتب فيه، فعليه -ليكون البليغ التام- أن يكتب لهم باللغة التي يفهمونها تاركًا التحرج أو الاعتزال1. وهاتان الخطوتان اللازمتان لتحقيق الوضوح الأسلوبي تستلزمان أمرين: أحدهما متصل بالأفكار نفسها هو الدقة. والثاني متصل بالقارئ وهو الجلاء. ولكن كيف يتحققان؟   1 البيان والتبيين ج1 ص105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 أولًا: الدقة أو وضوح الفكرة فيجب أن تؤدى كما هي ممتازة من سواها، ظاهرة الخواص والمعالم سواء أكانت قريبة سهلة كقول الطغرائي: ومن يستعين بالصبر نال مراده ... ولو بعد حين إنه خير مسعد وقول بعضهم: "عظ الناس بفعلك ولا تعظهم بقولك" أم كانت لطيفة دقيقة مخترعة تلفت النظر وتحتاج إلى أناة كقول أبي تمام: وإذا امرؤ مدح امرأ لنواله ... وأطال فيه فقد أراد هجاءه لو لم يقدر فيه بعد المستقى ... عند الورود لما أطال رشاءه وقول بعضهم لأحد الملوك: "أخلاقك تجعل العدو صديقًا، وأحكامك تجعل الصديق عدوًّا" ويلاحظ أن هذه الدقة تتعارض مع البساطة؛ فإذا كانت الكلمات المألوفة تستطيع أداء الأفكار العادية، فإن المعاني العميقة القائمة على التحليل الدقيق، والملاحظة البعيدة، لا بد لها من ألفاظ وصور أخرى تلائمهما ولو كانت غير عادية، كما رأيت في وصف الأسد قبلا، وكقول ابن المعتز: "سافر فلان في جيوش عليهم أردية السيوف، وأقمصة الحديد، وكأن رماحهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 قرون الوعول، وكأن دروعهم زبد السيول، على خيل تأكل الأرض بحوافرها، وتمد بالنقع سرادقها". يقوم وضوح الفكرة ودقتها على لغة الكاتب، وكلماته المفردة التي يؤثرها لأنها أدل من سواها على ما يريد ونذكر هنا بعض القوانين التي تساعد في تحقيق الدقة وتحديد الأفكار. 1- اختيار الكلمات المعنية غير المشتركة بين معانٍ، والتي تدل على الفكرة كاملة: وذلك يدعو إلى ملاحظة هذه الفروق الدقيقة بين ما تسمى المترادفات حتى لا يصير المعنى ذاهب المعالم. من ذلك، العاطفة والانفعال، والسقم والمرض والهضبة والجبل، والسهو والغفلة، وقد وقع جرير فيما يسمى الاشتراك حتى ذهب الناس كل مذهب فيما يعني، وذلك في قوله: لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل فماذا كان يفعل؟ أيبكي أم يهيم على وجهه، أم يمنعهم المسير، أم يدفع إليهم شيئًا يذكرونه به أم ماذا؟ 1. ومن يدري فلعل في هذه الإبهام بلاغة أرادها جرير ولم يفطن لها النقاد. وعندي أن المراد بهذا التراكيب هو مجرد التهويل دون إرادة شيء بعينه، فهو يريد بذل آخر جهده في التحفي بأحبتَّه، وليس بلازم أن يفهم التعبير فهمًا حرفيًا. 2- يحسن بالأديب الاستعانة بالعناصر الشارحة، أو المقيدة، أو المخيلة، كالنعت، والمضاف إليه، والحال، والتمييز، والاستثناء. فذلك من عوامل إيضاح المعاني وتحديدها، كقولك: شوقي شاعرًا أحسن منه ناثرًا، وليلة نابغية، ونهر النيل من أطول أنهار الدنيا، وقول ابن الرومي: كأن مواهبه في المحو ... ل آراؤه عند ضيق الحيل   1 راجع الصناعتين ص32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فلو كان غيثًا لعم البلاد ولو كان سيفًا لكان الأجل ولو كان يُعطى على قدره لأغنى النفوس وأفنى الأمل 3- ومما يساعد وضوح الفكرة استعمال الكلمات المتقابلة المتضادة المعاني؛ إذ كانت مقابلة الأضداد مما يزيد في كل بيان خواصه، وشرط ذلك عدم الغلو فيه، وإلا عاد صنعه بديعية تفسد الأسلوب كقولك: طول النهار من قصر الليل، لا نقض ولا إبرام، والورد والصدر، العقل في الحياة كدفة السفينة، والعاطفة شراعها، وكقول البحتري: متى أرت الدنيا نباهة خاملٍ ... فلا ترقب إلا خمول نبيه 4- البعد عن الغريب الوحشي، والعمد إلى لغة الناس وما يستطيعون إدراكه، وذلك يختلف باختلاف العصور وطبقات الناس. فلكل ألفاظ ومستوى أليق به. وعكس ذلك حيلولة بين المعنى والقراء أو السامعين. ولكل مقام مقال، ومن ذلك ما قاله رجل من أهل خراسان للخليفة المهدي1: "أطال الله بقاء أمير المؤمنين، إنا قوم نأينا عن العرب، وشغلتنا الحروب عن الخطب، وأمير المؤمنين يعلم طاعتنا وما فيه مصلحتنا، فيكتفي منا باليسير عن الكثير، ويقتصر على ما في الضمير دون التفسير" وقال الشاعر: حلال لليلى أن تروع فؤاده ... بهجر ومغفور لليلى ذنوبها تطلع من نفسي لليلى نوازع ... عوارف أن اليأس منها نصيبها وزالت زوال الشمس عن مستقرها ... فمن مخبري في أي أرض غروبها؟ وإذا أردت أمثلة للإغراب فارجع إلى الصناعتين2.   1 الصناعتين 140. 2 ص26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 5- ثم المصطلحات العلمية، والفنية، والاجتماعية، والتاريخية التي وضعت لمعان خاص محدودة، لتكون بين الكتاب والقراء، علامات واضحة وروابط عقلية مشتركة، وقد ذكرنا ذلك في الكلام على أسلوب التاريخ. والذي يخشى هو أن ينهمك البليغ في تحري الدقة فيعود الأسلوب بذلك جافًّا أشبه بالصكوك التجارية أو القانونية، خاليًا من الروح الفنية تقرؤه محكمًا دقيقًا ولكنك تشعر بعقمه وملاله. وهذا ما لحظه ابن قتيبه1 على قول لبيد بن ربيعة: ما عاتب الحر الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح فقال: "هو جيد المعنى والسبك وإن كان قليل الماء والرونق"، وعندي أن ذلك راجع إلى أن البيت قد استأثر به العقل دون العاطفة فذهبت روعته، وضاع جماله الأسلوبي.   1 الشعر والشعراء ص4 طبعة الخانجي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ثانيا: الجلاء أو وضوح التراكيب ... ثالثًا: الجلاء أو وضوح التراكيب بعد أن يتوافر للكاتب دقة الفكرة ووضوحها، تكون خطوته الثانية مطابقة الأسلوب لإدراك القارئ، وهي تبدو في صور شتى من الرقة والجزالة أو السهولة والصعوبة حسب المعاني التي تؤديها العبارات. على أنه لو كانت الأفكار عويصة وجب على البليغ أن يحقق من السهولة أبعد درجاتها، ويكسب تراكيبه صفة الشفافية، لتكون كالزجاج الأبيض الصافي، يحفظ الرسم، وينم عنه كما هو أو كأنه لا زجاج يحميه. والقانون الأساسي لتحقيق هذا الجلاء هو تحري البساطة في صوغ العبارات ومجانبة التعقيد، مع الاحتفاظ بسموها وقوتها. وهذا القانون نفسه متصل بالتكوين المنطقي والنحوي للأسلوب؛ هذا التكوين الذي يسلك الكلمات والجمل والعبارات في نظام لفظي هو صورة لنظام عقلي، وتفكير منطقي مطرد وهذه بعض القواعد التي تفيد في تكوين التراكيب الواضحة. 1- لا بد للبليغ من ذوق نحوي شديد، يحسن التألف بين الكلمات لتدل على معنى دقيق معين، وتسلم من هذين العدوين اللذين يفسدان الكلام؛ اللبس حينما يدل التركيب على معنيين ممكنين أو أكثر كقول المتنبي: وأظلم أهل الظلم من بات حاسدًا ... لمن بات في نعمائه يتقلب فقد يكون معناه -بناء على عود ضمير نعمائه على من الثانية- أن أشد الظالمين ظلما من تقلب في نعمة إنسان ثم بات يحسده عليها، وقد يكون المعنى -بناء على عودة ضمير نعمائه على من الأولى- أن أشد الناس ظلما من أولى إنسانا نعمة ثم حسده على تمتعه بها، فهو الواهب وهو الحاسد، والمعروف أن الشاعر لم يرد إلا معنى واحدًا ولكنه يحترس من الثاني. ثم الغموض حينما لا يدل التركيب على معنى معين دلالة قاطعة كبيت جرير السابق عند النقاد السابقين. ومن خير العبارات التي لوحظ فيها هذا التكوين النحوي السديد ما كتبه أخ إلى أخيه: "ابتدأتني بلطف من غير خبرة، ثم أعقبتني جفاء من غير هفوة، فأطعمني أولك في إخائك، وأيأسني آخرك من وفائك، فسبحان من لو شاء كشف إيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة الشك في حالك فأقمنا على ائتلاف أو افترقنا على خلاف" وهذا المثال ينفعنا فيما يلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 2- الوثوق من أن العناصر التركيبية التي يرتبط بعضها ببعض في المعنى -كأصل وتابع أو معنى وضده- قد ركبت بنظام دقيق، وتأليف منسق بحيث لا يتعب القارئ في تبين هذه الصلات بين الأجزاء، فينصرف عن المعنى ويجهد عقله في غير نفع، فإذا رجعت إلى المثال السابق وقرأت الجملة الأولى وحدها رأيت الكاتب بعد ما ذكر الفعل والفاعل والمفعول، يقيد ذلك بقوله:بلطف، ثم بقوله: من غير خبرة؛ لأن القيدين لا زمان لإتمام المعنى الأول، ثم يقابل ذلك في الجملة الثانية بتأليف هو كالأول تمامًا، ويسير بهذا النظام والتقسيم حتى ينتهي إلى غايته، فنجا من التعقيد. 3- بعد ذلك تأتي مراعاة الجمل معًا وما يكون بينها من فصل أو وصل، وما يربطها من حروف العلة، أو الحال، أو الاستثناء، بحيث لا يترك فواصل دون داع، ولا يغفل حرف وصل حيث يجب ذكره، ولا توجد فكرة دون التمهيد لها. وهنا يتراءى الوضوح التام للأسلوب جملة، وإذ تجده سلسلة لفظية لسلسلة معنوية وتكون الأولى موسيقى عقلية هادئة عميقة كمثال النثر السابق، وكقول الشريف الرضي: ولقد وقفت على ربوعها ... وطلولها بيد البلى نهب بكيت حتى ضج من لغب ... نضوى، ولج بعذلي الركب وتلفتت عيني فمد خفيت ... عني الطلول تلفت القلب فانظر إلى واو الحال أول الشطر الثاني، والفاء صدر البيت الثاني، وحتى التي تفيد الغاية، ثم قوله: فمذ وجملة تلفت القلب. وتلك الروابط عنصر هام في اللغة إذ فقدتها عادت الأفكار والتراكيب مفككة بغير نظام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 4- ومما يتصل بذلك الإطناب، والمساواة والإيجاز، ولسنا نريد هنا فرض أحد هذه الأوصاف على العبارة؛ لأن كل صفة منها تكون أوفى بالغرض في مقام دون سواها. فالشعر تكفي فيه الكلمة الموجزة، واللمحة الخاطفة أحيانًا؛ لأن طبيعته الإيجاز والرمز، والأسلوب العلمي تلائمه المساواة، وكل من الإيجاز والتطويل ضار فيه؛ إذ كان مقدمات ونتائج دقيقة محدودة، ويكون الإطناب أحيانًا في الخطب والمقالات السياسية، والاجتماعي، ولعل أسلوب الصحافة الآن أميل إلى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الفصل الثاني: قوة الأسلوب مدخل ... الفصل الثاني: قوة الأسلوب إذا كان الوضوح ألزم صفات الأسلوب وأولاها بالرعاية -لأنه يحقق الغاية الأساسية، وهي الإفهام- فإننا نلاحظ أن الفنون الأدبية التي يغلب فيها الوضوح هي النصوص القائمة على المعاني العقلية لقصد الثقافة كالقانون، والفلسفة، والجغرافيا. ولكننا أحيانًا لا نقتصر فيما نكتب على نشر الحقائق وإنما نعني كذلك أو أكثر من ذلك بإيقاظ العقول الخامدة وبعث الشعور والحماسة، وإثارة العواطف في نفوس الناس، وبذلك نهب للأفكار حياة أقوى من حياتها العقلية، لتكون ممتعة مؤثرة، فهذه الحياة هي التي تسمى القوة. نلاحظ إذًا أن القوة صفة نفسية، تنبع أول أمرها من نفس الأديب الذي يجب أن يكون نفسه متأثرًا منفعلًا إذا شاء من قرائه حماسة وانفعالا، وهي لذلك صفة العاطف والإرادة والأخلاق قبل أن تكون صفة الأسلوب؛ فالكاتب الذي يدرك الحقائق بوضوح، ويعتقدها بصدق، ويحرص على إذاعتها، تجد في عبارته صدى ذلك، وهي قوة لا تكون بالتقليد والتصنع، وإنما هي من قوة الأخلاق وصدق العقيدة وصحة الفهم وبعد أغواره، وإذا كان الغرض من الوضوح هو الاقتصاد المباشر، في إجهاد مواهب القارئ، فإن الغرض من القوة الاقتصاد غير المباشر بإيقاظ عقله، وعواطفه، وأخيلته، لتدرك المعاني بقوة، وتحظى بمتعة جديدة؛ إذ كانت قوة الأسلوب صدمة للعقل، ودعوة للنزال، والبحث عن مواطن الرالعة والفائدة، وهناك قاعدتان لتحقيق القوة الأسلوبية، نذكرها فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 أولًا: قوة الصورة ويراد بالصورة القوية ما تتجاوز بالعقل معناها الحرفي إلى معنى أو معانٍ أخرى مجازية أو غيرها، وذلك يكون بالتمثيل، والكناية، والاستعارة من كل ما يفتح أمام القارئ آفاقًا من التفكير أو التخييل، من ذلك قول بشار: إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه فيمكن أن نفهم من هذا البيت معاني ثلاثًا بهذا الترتيب: أولها: هذا المعنى الحرفي الساذج، وهو أن يحتمل الإنسان شرب الماء على قذاه أحيانًا لأنه لا يضمن صفاءه دائمًا. ثانيها: احتمال الصديق على ما به من عيب، فلم يسلم إنسان من العيوب وهذا المعنى هو المناسب؛ لأن بشارًا كان يعاتب. وثالثها: وهو الأخير، احتمال السقوط في الحياة وتحمل عنت الدهر، فالفوز المطلق غير محتوم. على أن مثل هذه الصورة الخيالية، والعبارات البيانية، تبين لنا كيف يتصور الأديب الأشياء، ويتناولها بعقله وخياله، وتجعلنا نشعر بشعوره ونتحد معه، ولو لحظات. ونذكر هنا بعض الوسائل التي تحقق للبليغ قوة التعبير: 1- من ذلك، ما ذكر قبلا، من استعمال الكلمات المألوفة، المحدودة المعنى، العربية، فذلك يفيد في وضوح الأفكار والصور، كما يفيد في قوتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 واستقرارها في العقول، وليس ينفع هنا اللفظ المشترك، ولا الغامض، ولا الكلمات الأجنبية التي لم تشرب روح العربية؛ لانها إذا فقدت الإلف والوضوح فقدت القوة. ولقد حمل ذلك بعض كتابنا على استعمال الكلمات والأمثال العامية بحجة أنها تحمل ذوق الشعب، وشعوره، وتدل على كل ما يحيط بالفكرة من أطياف. 2- استخدام الكلمات الوصفية التي تفيد في جمال الأسلوب وفي قوته معًا، ويراد بالكلمات الوصفية، تلك التي تصور مشاهد أو حوادث تلفت النظر، وتروع الفؤاد، وتثير الإعجاب، دالة على ما في الموصوف من بهجة ممتعة، أو صوت مجلجل، أو إبداع عجيب، كما رأيت ذلك في فن الوصف، وكقول بديع الزمان في المقامة الأسدية: "فإذا السبع في فروة الموت، وقد طلع من غابة، منتفخًا في إهابه، غريبة تؤدى معنى المبالغة المقبولة والإيجاز الطريف، وتفتح للقارئ مجال التفكير والتخييل؛ ومن هذا الأخير قولهم: ليلة نابغية، ورأس كليب، وثالثة الأثافي والمستحيلات الثلاث. ومن المجاز قول ابن خفاجة الأندلسي يصف نهرًا: متعطف مثل السوار كأنه ... والزهر يكنفه مجر سماء وغادت تحف به الغصون كأنها ... هدب يحف بمقلة زرقاء والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء 4- التحاشي عن الكلمات الضعيفة، والحشو الفارغ، والعناصر الثانوية في العبارات، ثم الاكتفاء بأركان الكلام، حتى يترك لها المجال لتبعث آثارها دون عائق. وأكثر ما يبدو ذلك في الخطابة، والجدل، والمناظرة، وفي الشعر والنثر الأدبي كما سبق، ومن هذا الضرب الأمثال والحكم، ومثل: رب عجلة تهب ريثًا، حسبك من شر سماعه، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ثانيًا: قوة التركيب يستطيع المتكلم أن يدل على الكلمات ذات المعاني الهامة بغيرها في المنطق وتكرارها، ولكن الكلام المكتوب لا أثر فيه للصوت، لذلك يجب أن يعرف القارئ، أهمية هذه المعاني بوسيلة أخرى ليست صوتية، وهي وضع كلماتها حيث تكتسب عناية وانتباهًا. ويتم هذا بالوسائل الآتية: 1- تقديم الكلم أو تأخيرها بالنسبة إلى موضعها الطبيعي دلالة على القصر أو التفخيم، أو حسن الذوق واللياقة أو الأهمية مطلقًا، مثل: {إِيَّاكَ نَسْتَعِين} ، على الأخلاق خطوا الملك وابنوا، لا إله إلا الله. هناء محا ذاك العزاء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما 2- من أسباب القوة الطباق البديعي الذي مر ذكره في الوضوح؛ لأن المقابلة نوع من التحدي بين المعاني والمنافسة في الظهور وهذه قوة المعاني، مثل: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} - {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} . لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك 3- لما كانت القوة تستلزم السرعة في أكثر الأحيان، كان الإيجاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 لازمًا في العبارة عامة، وفي التراكيب خاصة، لذلك تجد تراكيب الخطابة مقتضبة سريعة، كأنها أوامر ونذر صارمة، كذلك الحوار التمثيلي والجدل الأدبي لما تتطلب من سرعة الأداء. وقد يظهر التناقض بين القوة والوضوح، إذا كانت تلك إلى الإيجاز والاكتفاء بالعناصر الهامة في حين أنه محتاج إلى هذه العناصر الثانوية لبسط الأفكار وإنارة جوانبها. ومعنى هذا أن تحاول صفة الحياة على حطام الأخرى. وللخلاص من ذلك يترك الأمر للأديب، فيؤثر أحد الجانبين تبعًا لمقتضى الحال. ومع ذلك فإن مَهَرَة الكتَّاب والخطباء يجمعون في أساليب بين الصفتين: الإطناب في مرتبة العرض لإيضاح الأفكار والتدليل عليها، ثم الإيجاز أخيرًا لتلخيصها وقوة تأثيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الفصل الثالث: جمال الأسلوب مدخل ... الفصل الثالث: جمال الأسلوب الجمال صفة لازمة للأساليب الأدبية، لا غنى لها عنه ما دام الأديب معنيًّا بإمتاع القراء واحترام أذواقهم، ومن السهل معرفة ذلك، فقد تقرأ نصًّا أدبيًّا واضح الأفكار، قوي العاطفة، ولكنك تحس مع هذا أنها نابية عن الذوق، فجة العبارة، لا تمتزج بالنفس. هذا النقص ناشئ في الغالب عن سقم التعبير، ودليل على خمود الشعور والذوق الأدبي، وهو سبب وحده يكفي للعناية بجمال الأسلوب وموسيقى العبارة لعلنا نستطيع إرضاء ذوق القارئ وخياله فوق عواطفه وعقله. وهنا نلاحظ أن ليس من جمال الأسلوب في شيء هذه المحسنات البديعية، والصورة الخيالية التي يصطنعها الكتاب عمدًا، ظانين أنها حلى بديعة، أو مدارين بها فقرًا عقليًّا ونقصًا ذوقيًّا، والحق أنها تدخل الأساليب الأدبية حين تدعوها طبيعة المعاني لتقويتها أو إيضاحها، أو حين يلجأ إليها الخيال ليصور بها عاطفة صادقة وانفعالا قويًّا. والجمال صفة نفسية تصدر عن خيال الأديب وذوقه، فالخيال المصور يدرك ما في المعاني من عمق وما يتصل بها من أسرار جميلة إدراكًا حادًّا رائعًا والذوق يختار أصفى العبارات وأليقها بهذا الخيال الجميل. وإذا ذكرنا الذوق فإنما نعني الذوق المهذب "الذي صقله الأدب، وشحذته الرواية، وجلته الفطنة، وألهم الفصل بين الرديء والجيد، وتصور أمثلة الحسن والقبح"1 وبذلك تتحقق هذه الصفة الفنية للأسلوب. الجمال صفة سلبية وإيجابية، يكون بخلو الأسلوب من التنافر والخشونة التي تؤذي الحس والذوق، ثم يجعله صدى صادقًا لجمال الذوق والخيال.   1 الوساطة ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أولًا: الناحية السلبية ويراد بالناحية السلبية أن تكون العبارة خالية من أساس الاضطراب الصوتي والخشونة القاسية التي لا تنم عن عاطفة أو خيال، وبذلك تجد الكلمات مطردة، متناسقة الحروف والكلمات، تقرؤها جهرة فتحس بالصوت متناسب الأنغام صافيًا، ومما يعين في ذلك ما يلي: 1- قدرة الكاتب -بذوقه المصفى- على إبعاد الكلمات المتنافرة الحروف أو العبارات المتنافرة الكلمات والجمل مهما يكن سبب التنافر1 وذلك نجده في قول البحتري: حلفت لها بالله يوم التفرق ... وبالوجد من قلبي بها المتعلق والأصل من قلبي المتعلق بها، فلما فصل بين الموصف -قلبي- والصفة "المتعلق" بالضمير "بها" قبح ذلك ونجد تتابع الإفاضات أفسد أسلوب البيت الثاني من قول كشاجم: والزهر والقطر في رباها ... ما بين نظم وبين نثر حدائق كف كل ريح ... حل بها كل قطر وهذه الميمات التي اعتصمت بأوائل الكلمات، في البيت الآتي، جعلته ثقيل النغم:   1 راجع المثل السائر، ص56 وما بعدها، ص110 وما يليها، والصناعتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ملكت مطال مولود مفدى ... مليح مانع مني مرادي وفي النثر ما ورد لرجل يمدح كريمًا: "يا مغبوق كأس الحمد يا مصبوح، ضاق عن نداك اللوح، وببابك المفتوح تستريح، وتريح ذا التبريح، وترفه الطليح". ومما ذكر مثالًا للكلمات المتناسقة والعبارات المتناسبة السلسلة ما ورد لامرأة في أخيها عمرو: فأقسم يا عمرو لو نبهاك ... إذًا نبها منك داء عضالًا إذًا نبها ليث عريسة ... مغيثًا مفيدًا نفوسًا ومالًا 2- سرعة الأذن في إدراك الرتابة الصوتية التي تبدو في ترديد نغمة بعينها في النص الأدبي حيث تبعث الملل، وخير منه التنويع الذي يحتفظ فيه بمستوى الموسيقى لتلائم الموضوع. وكثيرًا ما يقع الكتاب والشعراء والخطباء في هذا الخطأ وهو نوع من المماطلة اللفظية وقع فيه الشاعر حيث قال: دان بعيد محب مبغض نهج ... أغر حلو ممر لين شرس 3- وبعد ذلك لا بد من ملاحظة النغمة العامة للأسلوب، والتيار الصوتي الذي يجب أن يطرد في غير قوة ولا ملل، وذلك متوقف على براءة العبارة من الكلمات الطويلة الكثيرة، وترديد الجمل المتشابهة والعبارات العادية إلى مدى بعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ثانيًا: الناحية الإيجابية على أن ما سبق كان عملًا سلبيًّا يراد به إعداد الأسلوب لقبول العنصر الإيجابي للجمال، وهو ما يمكن تسميته بالتناسب، أو مطابقة اللفظ للمعنى، وقد رأيت فيما مضى أمثلة هذا القانون وبواعثه، حين اختلفت العبارات باختلاف الموضوعات والفنون، ومع ذلك فنذكر هنا شيئًا من مظاهر هذا التناسب: 1- الملاءمة الطبيعية بين الألفاظ والمعاني حتى تكون الأولى حكاية للثانية فتمثل حركاتها، وأصواتها، وروعتها إذا كانت مشاهد طبيعية، وتصور الحماسة قوية صارمة، والنسيب عذبًا رقيقًا، والعتاب سهلًا لطيفًا كما مر. 2- وذلك يستلزم استيحاء الكاتب شعوره الصادق، وخياله اليقظ ليمدا الذوق بالمقياس السديد الذي يستخدمه في تكوين العبارات الملائمة. 3- وثمرة ذلك الظفر بهذه الهندسة الجميلة في صوغ وتأليف العبارات المتواصلة التي تكون صورة مطابقة لهذا النموذج المعنوي القائم بنفس الأديب، وهنا يعرض عليك الأسلوب جميع الخواص الفنية لشعور الكاتب وذوقه وخياله وقد مرت أمثلة لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الفصل الرابع: تداخل الصفات وتعادلها صفات الأسلوب أشبه شيء بأنغم الموسيقى أو أدواتها، فكما أن هذه لا بد من تعاونها، وتآلفها لتكوين نغمة تلائم الدور الملحن موضوعًا وغاية، كذلك لا بد من تآزر هذه الصفات وتناسقها حتى يكون الأسلوب متزنًا كاملًا، يغذي العقل، والشعور، ويرضي نواحي النفس الإنسانية معبرًا عنها أو مؤثرًا فيها؛ لأن الأسلوب الواضح الذي تعزه قوة العاطفة يكون بليدًا فاترًا، وإذا لم يظفر بالخيال الجميل كان جافًّا. وتجد ذلك عند من يعنون بالسهولة أكثر من سواها وقع فيه أبو العتاهية، والبهاء زهير، وإلياس بن الأحنف، والأسلوب القوي الذي فقد التفكير الواضح ثرثرة فارغة، والذي ألغى قيمة الذوق الجميل، والتناسب الدقيق، صعب جامد، وقد رأيت مثال ذلك عند ابن هانئ الأندلسي والحجاج الثقفي، أما الأسلوب الحريش على جمال الصور أو الصوت غير مال هذه البساطة الواضحة فإنه يكون زهيدًا، فإذا لم يعن بالعقيدة القوية والإرادة الصارمة عادوهما ميتا، كما بدا ذلك في عصور الانحطاط الأدبي. وأساس النجاح ألا يسمح الأديب لصفة بالحياة على فناء الأخرى، بل لا بد من توفيرها جميعًا، وحفظ التوازن بينها بدرجة تجعل الأسلوب قائمًا بواجبه خير قيام، وذلك لا يكلف الأديب أكثر من يقظة نفسية، وبراعة أسلوبية، وصدق في الأداء، فنجد روحه سارية في أسلوبه، تحيا فيه ولو أدركه الممات، وإذا كان لا بد من مثال يقرب لنا هذا المثال الذي للأسلوب، فإنك واجده نثرًا عند طه حسين في الأدب الجاهلي خاصة، وعند المتنبي -مثلًا- في هذه الأبيات التي بدأت بها هذه الرسالة، وهأنذا أختمها بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم وأن ترد الماء الذي شطره دم ... فتُسقى إذا لم يُسق من لم يزاحم ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى رمحه غير راحم فلا هو مرحوم إذا ظفروا به ... ولا في الردى الجاري عليهم بآثم لئلا تظن أن الجمال يتراءى بالرقة فقط أو القوة وحدها، وإنما هو عبارة تحكي ما في النفس صادقة، فالجمال معناه الصدق، ومن هناك تستطيع أن تدعو الأساليب العلمية جميلة متى كانت صادقة التعبير عن عقول الكتاب، وعقائدهم، وما يشعرون به حين يكتبون. أما بعد، فلا أستطيع أن أترك القلم دون أن أحمد الله كفاء ما وفق، وليتني أستطيع. أحمد الشايب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 مراجع للمؤلف : أ- كتب مطبوعة: 1- الأسلوب. 2- أصول النقد الأدبي. 3- تاريخ الشعر السياسي. 4- تاريخ النقائض في الشعر العربي. 5- أبحاث ومقالات. ب- آثار علمية نفدت طبعاتها، منها: 1- ملحمة الراعي: نشرت بمجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة، 1951. 2- دراسة أدب اللغة العربية بمصر في النصف الأول من القرن العشرين، 1952. 3- الأدب العربي بين الوحدة والتنوع، 1950. 4- بحث في العصور السياسية والأدبية للدولة العباسية 1950. 5- العامل السياسي في أدب العصر العباسي الأول 1950. 6- تاريخ أدب اللغة العربية "مقرر السنة الخامسة الثانوية" 1930. 7- تراجم موجزة طبعت بمطبعة الإسكندرية. محمد عبده 1929، البهاء زهير 1929، ابن حمديس الصقلي 1928، الشريف الرضي 1928، زهير بن أبي سلمى 1926، جرير 1927، علي بن أبي طالب 1926، الأخطل 1926، شوقي 1950. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 8- حافظ وشوقي "نقد نشر بصحيفة الجامعة المصرية" ص495-504. 9- الأدب ما هو؟ "صحيفة دار العلوم السنة 2 عدد 3". 10- بين اللفظ والمعنى "صحيفة دار العلوم سنة 2 عدد 3". 11- العبارة في الأدب "صحيفة دار العلوم سنة 5 عدد 3". 12- الجارم الشاعر "تحت الطبع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206