الكتاب: وسطية أهل السنة بين الفرق (رسالة دكتوراة) المؤلف: محمد با كريم محمد با عبد الله الناشر: دار الراية للنشر والتوزيع الطبعة: الأولى 1415هـ-1994م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- وسطية أهل السنة بين الفرق محمد با كريم محمد با عبد الله الكتاب: وسطية أهل السنة بين الفرق (رسالة دكتوراة) المؤلف: محمد با كريم محمد با عبد الله الناشر: دار الراية للنشر والتوزيع الطبعة: الأولى 1415هـ-1994م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة : إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} 3. وبعد: فإن من نعمة الله على هذه الأمة المحمدية، وتشريفه لها، أن جعلها أمة   1 سورة آل عمران: 102. 2 سورة النساء: 1. 3 سورة الأحزاب: آية 70- 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وسطًا خيارًا عدولًا فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} 1، فهي خير الأمم التي أخرجت للناس قاطبة كما وصفها وشهد لها ربها وخالقها بذلك، فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 2. اختار لها سبحانه من خيارها وأوسطها نسبًا ومكانة خيرة خلقه وأفضل رسله فبعثه فيها نبيًا رسولًا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 3. وأنزل عليها أشرف كتبه، وجعله مهيمنًا على الكتب قبله شاملًا لخير ما جاءت به. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} 4. بهذا النبي الكريم، وهذا الكتاب العظيم شرفت هذه الأمة وبمتابعتهما، والاهتداء بهديهما، كانت خير الأمم وأوسطها وأعدلها. ثم كان أسعد هذه الأمة بهذه الخيرية، أسعدها باتباعهما، وأحرصها على هديهما قولًا وعملًا واعتقادًا وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تابعوهم، ثم التابعون لهم بإحسان من القرون الثلاثة المفضلة، التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية في قوله: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"5، فهؤلاء هم خيار الأمة. ثم يلحق بهم كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الهدي والتمسك   1 سورة البقرة: 143. 2 سورة آل عمران: 110. 3 سورة التوبة: 128. 4 سورة المائدة: 48. 5 خ كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "7/ 3 ح 3650" "مع الفتح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان، الدين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق1 بأنهم الفرقة الناجية، وأنهم الجماعة. فهؤلاء جميعًا هم خيار هذه الأمة، وأوسطها. فإنه بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه، ومضي عصر الخلافة الراشدة بدأ في آخر عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ظهور التفرق والاختلاف، فخرجت الخوراج ببدعها وأطلت الشيعة بغلوها وفتنها، ثم توالى ظهور البدع وتكون الفرق كما سيأتي ذكر ذلك. وكل من هذه الفرق قد خالف ما كانت عليه الأمة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصدر الخلافة الراشدة، وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله، وانحرف عن سواء الصراط؛ إما إلى تفريط، أو إلى إفراط، وشابه الأمم الأخرى في بعض بدعها؛ فانحطت منزلة هذه الفرق، وابتعدت عن الوسطية الثابتة لهذه الأمة على تفاوت بينها في قدر ذلك ومبلغه. وأصبح أهل السنة في هذه الأمة بالنسبة لسائر الأمم، فهم وسط بين فرقها كما أنها وسط بين الأمم. يدرك هذا المعنى كل دارس متفحص لأقوال أهل السنة وأقوال الفرق الأخرى في كثير من مسائل العقيدة وأبواب الدين. إذ يجد أمر هذه الفرق يدور بين الغلو والإفراط، وبين التقصير والتفريط، وأهل السنة بين إفراط أولئك وتفريط هؤلاء على هدي قاصد وصراط مستقيم. ولما كانت الحاجة تمس لتقرير وسطية أهل السنة والجماعة، وبيان اعتدالهم في أقوالهم واعتقادهم وسائر أمورهم، ولا سيما في هذا الوقت الذي   1 سيأتي نصه وتخريجه ص 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 تحتاج فيه هذه الأمة إلى بيان الوسطية والاعتدال والتزامها، لما نراه من تعدد السبل واختلافها، وتشعب الطرق، والمناهج، وادعاء أصحابها والداعين إليها أنهم على الحق والسنة دون غيرهم. لذلك كله كانت هذه الدراسة المقارنة التي أرجو أن تكون لبنة في بناء دراسات تالية تسلط الأضواء على الوسطية والتوازن والاعتدال التي هي سمة هذه الأمة بعامة، وأهل السنة على وجه الخصوص، وتناول جوانب أخرى لم تطرق في بحثنا هذا، تستكمل فيها جوانب ومظاهر وسطية أهل السنة وعدالتهم واعتدالهم1. خطبة البحث: جعلت العمل في هذا البحث في: تمهيد، وبابين، وخاتمة. أما التمهيد فجعلته في أربعة مباحث: المبحث الأول: في معنى الوسطية في اللغة ولسان الشارع. المبحث الثاني: في معنى السنة في اللغة والاصطلاح. والمبحث الثالث: بينت فيه المراد بأهل السنة؟ والمبحث الرابع: في أسماء أهل السنة وألقابهم عندهم، وعند خصومهم من أهل البدع. والباب الأول: في وسطية هذه الأمة   1 عند إعداد هذا البحث للنشر اطلعت على دراسات هذه حول الوسطية أبرزت جوانب أخرى مهمة من جوانب الوسطية، أولاها بعنوان: "الوسطية في الإسلام تعريف وتطبيق"، للدكتور زيد بن عبد الكريم الزيد، نشر: دار العاصمة في الرياض عام 1412 هـ، والأخرى بعنوان: "الوسطية في ضواء القرآن" الكريم للدكتور ناصر سليمان العمر، نشر: دار الوطن عام 1413 هـ، نفع الله بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بينت فيها وسطيتها من عدة أوجه في تمهيد وثلاثة فصول: التمهيد: بينت فيها معنى الأمة، والوسطية المثبتة لها والمناسبة بين وسطية هذه الأمة ووسطية أهل السنة. والفصل الأول: في عدالة هذه الأمة -وفيه أربعة مباحث: الأول: في وجوب العدل على هذه الأمة وصور من قيامها به. الثاني: في وصف الله هذه الأمة بالعدالة وشهادته لهابها. الثالث: في اعتراف أعداء هذه الأمة بعدالتها وشهادتهم لها بذلك. الرابع: العدل عند أهل الكتاب. الفصل الثاني: في خيرية هذه الأمة -وفيه مبحثان: الأول: في إثبات خيريتها. والثاني: في أوجه خيريتها. الفصل الثالث: في اعتدال هذه الأمة وتوسطها بين طرفي الإفراط والتفريط، وفيه مبحثان: الأول: في وسطيتها واعتدالها في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته. والثاني: وسطيتها في باب أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام. الباب الثاني: في بيان وسطية أهل السنة بين الفرق. بينت فيه وسطية أهل السنة واعتدالهم، وسلامة أقوالهم واعتقادهم من الإفراط والتفريط، وجعلته في: تمهيد، وخمسة فصول: التمهيد: بينت فيه نبذة عن ظهور الفرق في هذه الأمة وأسباب ذلك. والفصل الأول: في بيان وسطية أهل السنة في باب أسماء الله وصفاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وفيه أربعة مباحث: الأول: في بيان قول أهل التعطيل. الثاني: في بيان قول أهل التشبيه والتمثيل. والثالث: في بيان قول أهل سواء السبيل. والرابع: في بيان وسطية قول أهل السنة في هذا الباب. والفصل الثاني: في بيان وسطية أهل السنة في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد، وفيه مبثحان: الأول: وسطيتهم في الأسماء والأحكام. والثاني: في وسطيتهم في الوعد والوعيد. الفصل الثالث: في وسطية أهل السنة في باب القدر، وفيه ثلاثة مباحث: الأول: في معنى القدر. الثاني: في نشأة الكلام في القدر ونزاع الناس فيه. الثالث: في بيان وسطية أهل السنة فيه. الفصل الرابع: في وسطيتهم في باب الصحابة رضوان الله عليهم، وفيه: تمهيد: بينت فيه معنى الصحابي، ومنزلة الصحابة ومكانتهم في الكتاب والسنة وجعلت المبحث: الأول: في بيان قول الخوارج والمعتزلة. والثاني: في ذكر قول من جمع بين الغلو والجفاء. والثالث: في ذكر قول أهل السنة والجماعة. الفصل الخامس: في بيان وسطية أهل السنة في باب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 والصالحين من أمته، وفيه تمهيد، ومبحثان: المبحث الأول: في وسطيتهم في باب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم. المبحث الثاني: في بيان وسطيتهم في باب تعظيم الصالحين من أمته. ثم ذيلت البحث بخاتمة بينت فيها خلاصة ما عالجه من المسائل، وما توصلت إليه فيها من نتائج. وصنعت بعض الفهارس التي تعين القارئ الكريم على إدراك بغيته، والوقوف على مطلبه في يسر وسهولة، فجعلت: فهرسًا: للآيات القرآنية الكريمة. وفهرسًا: للأحاديث الشريفة والآثار. وفهرسًا: للفرق والطوائف والجماعات. وفهرسًا: للمصادر والمراجع المستخدمة في البحث. وفهرسًا: للموضوعات. الرموز المستعملة في البحث: استعملت بعض الرموز لبعض المصادر الحديثية، وذلك على النحو التالي: خ: صحيح البخاري "مع فتح الباري". م: صحيح مسلم. ت: جامع الترمذي. د: سنن أبي داود. جه: سنن ابن ماجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 حم: مسند الإمام أحمد. وسائر المراجع والمصادر الأخرى أذكرها بأسمائها كاملة: وختامًا، أحمد الله عز وجل وأشكره على ما من به من الإعانة على إتمام هذا البحث وأخراجه، ثم أشكر كل من كان عونًا على ذلك، وفي مقدمتهم فضيلة شيخي وأستاذي الكريم الأستاذ الدكتور علي بن محمد بن ناصر فقيهي، الذي تولى الإشراف على إعداد هذا البحث، وكان لتوجيهاته وإرشاداته القيمة الأثر الكبير في الوصول به إلى ما هو عليه فجزى الله الجميع خير الجزاء. وبعد أخي القارئ الكريم هذا جهد المقل، أضعه بين يديك، وقد بذلته فيه جهدي، واستفرغت طاقتي ووسعي، فما كان فيه من صواب وحتى فبتوفيق الله وحده وله المنة والفضل، وما كان فيه من خطأ، أو زلل وخلل فمني ومن الشيطان، لك غنمه وعلي غرمه، على أني أطمع إذا أطلعت على زلة أو هنة أن توقفني على ذلك، مشكورًا مأجورًا إن شاء الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين. المؤلف المدينة النبوية 18/ 4/ 1414 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 تمهيد : المبحث الأول: معنى الوسطية في اللغة وفي استعمال الشارع أولًا: الوسطية في اللغة مادة "وسط" تدل على معان متقاربة، يقول ابن فارس: الواو والسين والطاء بناء صحيح يدل على: العدل، والنصف، وأعدل الشيء أوسطه ووسطه1. فـ "كلمة "وسط" تضبط على وجهين: الأول: "وسط"؛ بسكون السين. فتكون ظرفًا بمعنى "بين". قال في "لسان العرب": وأما الوسط بسكون السين فهو ظرف لا اسم، جاء على وزان نظيره في المعنى وهو "بين"، تقول: جلست وسط القوم، أي بينهم. ومنه قول سوار بن المضرب:   1 أبو الحسين أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، "بتحقيق عبد السلام محمد هارون، نشر: دار الكتب العلمية - إيران"، 6/ 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 إني كأني أرى من لا حياء له ... ولا أمانة وسط الناس عريانًا1 الثاني: "وسط"؛ بفتح السين: وتأتي: لمعان متعددة متقاربة، فتكون: 1- " اسمًا: لما بين طرفي الشيء وهو منه. فتقول: قبضت وسط الحبل، وكسرت وسط القوس، وجلست وسط الدار. وهذا حقيقة معناه2. 2- تأتي صفة بمعنى "خيار، وأفضل، وأجود"، فأوسط الشيء "أفضله، وخياره" كوسط المرعى خير من طرفيه، ومرعى وسط؛ أي: خيار ومنه: إن لها فوارسًا وفرطًا ... ونفرة الحي ومرعى وسطًا3 وواسطة القلادة: الجوهر الذي وسطها وهو أجودها4. ورجل وسط ووسيط: حسن5. 3- وتأتي "وسط" بمعنى: "عدل" كما تقدم قول ابن فارس أنه يدل على العدل. وأن أعدل الشيء أوسطه. وفي "لسان العرب": "ووسط الشيء وأوسطه أعدله"6.   1 أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، "نشر: دار صادر - بيروت"، 7/ 428. 2 ابن منظور، لسان العرب، 7/ 427- 428. 3 نفس المصدر 7/ 427، 430. 4 إسماعيل بن حماد الجوهري، الصحاح، "تحقيق أحمد بن عبد الغفور عطار، ط. الثالثة، 1402 هـ"، 3/ 1167. 5 ابن منظور، لسان العرب 7/ 430. 6 7/ 430. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وفي "القاموس": "الوسط: محركة. من كل شيء أعدله"1. وكذا قال الجوهري في "الصحاح"2. 4 وتأتي "وسط" بمعنى الشيء بين الجيد والردئ. قال الجوهري: ويقال أيضًا: شيء وسط: أي بين الجيد والردئ3. وقال صاحب "المصباح المنير": الوسط بالتحريك المعتدل، يقال: شيء وسط: أي بين الجيد والرديء4. وكيفما تصرفت هذه اللفظة، نجدها لا تخرج في معناها عن معاني العدل والفضل والخيرية والنصف والبينية والتوسط بين الطرفين. فتقول: "وسوطًا" بمعنى: المتوسط المعتدل، ومنه قول الأعرابي: "علمني دينًا وسوطًا لا ذاهبًا فروطًا ولا ساقطًا سقوطًا. فإن الوسوط ها هنا المتوسط بين الغالي والتالي"5. و"وسيطًا": أي حسيبًا شريفًا. قال الجوهري: وفلان وسيط في قومه إذا كان أوسطهم نسبًا وأرفعهم محلًا، قال العرجي:   1 مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، القاموس المحيط، "نشر: دار الجيل- بيروت"، 2/ 405. 2 3/ 1167. 3 الصحاح 3/ 1167، وانظر أيضًا: القاموس 2/ 406، واللسان 7/ 430. 4 أحمد بن محمد بن علي الفيومي، المصباح المنير، "نشر: مكتبة لبنان -بيروت"، ص 252. 5 ابن منظور، اللسان 7/ 429. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 كأني لم أكن فيهم وسيطًا ... ولم تك نسبتي في آل عمرو1 و"الوسط"؛ أي: المتوسط بين المتخاصمين2. و"التوسط": بين الناس من الوساطة3. و"التوسيط"؛ أي: تجعل الشيء في الوسط4. و"التوسيط": قطع الشيء نصفين5. و"وسوط الشمس": توسطها السماء6. و"واسطة القلادة": الجوهر الذي هو في وسطها، وهو أجودها7.   1 الصحاح 3/ 1167. 2 الفيروزآبادي، القاموس 2/ 406. 3 الجوهري، الصحاح 3/ 1167. 4 نفس المصدر 3/ 1167. 5 نفس المصدر 3/ 1167. 6 ابن منظور، لسان العرب 7/ 429. 7 الجوهري، الصحاح 3/ 1167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ثانيا: الوسطية في استعمال الشارع مدخل ... ثانيًا: الوسطية في استعمال الشارع وردت مادة وسط في القرآن الكريم والسنة المطهرة في أكثر من آية وحديث، تذور معانيها حول المعاني اللغوية لهذه المادة. فاستعملها الشارع بمعنى: 1" العدالة والخيرية والتوسط بين الإفراط والتفريط. ومن ذلك: قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} 1: أي عدلًا.   1 سورة البقرة آية 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "والوسط: العدل"1. وفسرها بعض أهل العلم بـ "الخيار والأجود"2. وقال الزجاج: "وفي {أُمَّةً وَسَطًا} قولان: قال بعضهم: {وَسَطًا} : عدلًا، وقال بعضهم: أخيارًا، واللفظان مختلفان والمعنى واحد، لأن العدل خير، والخير عدل"3. وفسرها ابن جرير بمعنى التوسط بين الإفراط والتفريط4. ومن ذلك قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} 5. قال ابن عباس وغيره: أي: أعدلهم وخيرهم6. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة أو أعلى الجنة" 7. قال الحافظ ابن حجر: قوله: أوسط الجنة أو أعلى الجنة. المراد   1 خ: كتاب التفسير، باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ، 8/ 172، ح 4487، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. 2 منهم الإمام أبو الفداء إسماعيل بن كثير، تفسير القرآن العظيم، "بتحقيق عبد العزيز غنيم ومحمد أحمد عاشور ومحمد إبراهيم البنا، ط. الشعب - القاهرة"، 1/ 275. 3 أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج، معاني القرآن وإعرابه، "شرح وتحقيق د. عبد الجليل عبده شلبي، ط. الأولى 1408 هـ نشر: عالم الكتب - بيروت"، 2/ 219. 4 جامع البيان عن تأويل آي القرآن، "تحقيق وتعليق محمد محمود شاكر، دار المعارف بمصر"، 3/ 142. 5 سورة القلم آية 28. 6 ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 8/ 223. 7 خ: كتاب الجهاد، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، 6/ 11، ح 2790. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 بالأوسط هنا الأعدل والأفضل، كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} 1. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الوالد أوسط أبواب الجنة" 2، وفي رواية: "الوالدة"؛ أي: خيرها3. ومن ذلك قول أبي بكر رضي الله عنه في حديث السقيفة4: ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا5. ومن ذلك ما جاء في خبر رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم6: ألا فانظروا رجلًا وسيطًا عظامًا جسامًأ أبيض بضًا7. قال ابن الأثير: أي: حسيبًا في قومه8. وقال الزمخشري: الوسيط: أفضل القوم من الوسط9.   1 فتح الباري 6/ 13. 2 الحاكم، المستدرك 4/ 152. 3 مجد الدين أبو السعادات ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، "بتحقيق طاهر أحمد الزاوي وحمود محمد الطناحي، نشر: المكتبة العلمية - بيروت"، 5 / 184. 4 سقيفة بني ساعدة: هي ظلة بالمدينة كانوا يجلسون تحتها، فيها بويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وبنو ساعدة الذين أضيفت إليهم السقيفة، هم حي من الأنصار منهم سعد بن عبادة، انظر: ياقوت الحموي معجم البلدان، ط. 1404، "نشر: دار صادر- بيروت"، 3/ 228- 229. 5 خ: كتاب الحدود، باب رجم الحبلى، 12/ 145، ح 6830. 6 وهي رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، كانت عند نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن قصي بن سعد، الطبقات الكبرى، "نشر: دار صادر"، 8/ 222. 7 البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين، دلائل النبوة "بتخريج وتعليق د. عبد المعطي قلعجي، نشر: دار الكتاب العلمية، بيورت- لبنان"، 2/ 18. 8 النهاية في غريب الحديث، 5/ 184. 9 جار الله محمود بن عمر الزمخشري، الفائق في غريب الحديث، "ط. الثالثة 1399، نشر: دار الفكر، بتحقيق علي محمد البجاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم"، 3/ 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 2- الشيء بين الجيد والرديء، أو الأرفع والأدنى. ومن ذلك قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} 1، على تفسير من قال: إن المراد بالأوسط هنا: الشيء بين الجيد والرديء، كما قال ابن عباس في رواية عنه: كان الرجل يقوت أهله قوتًا دونًا، وبعضهم قوتًا فيه سعة، فقال الله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} الخبز والزيت2. وفسر بعضهم: "أوسط" في الآية بأنه: الأعدل والأمثل، فتكون الآية على هذا التفسير مندرجة تحت المعنى الأول الذي هو "العدالة والخيار والأجود". 3- الوسطية الحسية، وهي: ما بين الطرفين وما بين طرفي الشيء وحافتيه. ومن ذلك قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 3، وسميت الوسطى؛ لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين، على اختلاف في تحديد اي الصلوات هي4. ومن ذلك قوله تعالى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} 5؛ أي: دخلن به وسط العدو6.   1 سورة المائدة آية 89. 2 ابن جرير، جامع البيان، 10/ 543. 3 سورة البقرة آية 238. 4 انظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 1/ 291- 295، والسيوطي، الدر المنثور، 1/ 720- 729. 5 سورة العاديات آية 5. 6 انظر: "البغوي" أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء، معالم التنزيل، "تحقيق خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار، ط. دار المعرفة- بيروت"، 4/ 518. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 قال الرازي: "صرن بعدوهن وسط جمع العدو"1. وقال الشوكاني: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} ؛ أي: توسطن بذلك الوقت، وتوسطن متلبسات بالنفع جمعًا من جموع الأعداء، أو صرن بعدوهن وسط جمع الأعداء. يقال: وسطت المكان؛ أي: صرت في وسطه2. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "البركة تنزل وسط الطعام؛ فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه" 3، فأراد بالوسط ما بين الحافتين والطرفين. ومن ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم خط خطًا مربعًا، وخطًا وسط الخط المربع وخطوطًا إلى جانب الخط الذي وسط الخط المربع، وخطًا خارجًا من الخط المربع، فقال: "أتدرون ما هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "هذا الإنسان الخط الوسط، وهذه الخطوط إلى جانبه الأعراض تنهشه" 4. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "وسطوا الإمام وسدوا الخلل" 5. 4- بمعنى "بين" ظرفًا. من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من جلس وسط الحلقة" 6. ومن خلال هذه الأمثلة لورود "الوسطية" في استعمال الشرع نرى أنه لم يخرج بها عن أحد المعاني اللغوية التي دلت عليها مادة "وسط".   1 الرازي، التفسير الكبير، "ط. الثالثة، نشر: دار إحاء التراث العربي- بيروت"، 32/ 66. 2 محمد بن علي الشوكاني، فتح القدير، "ط. الثانية 1383، الحلبي"، 5 / 483. 3 ت: كتاب الأطعمة، باب ما جاء في كراهية الأكل من وسط الطعام، 4/ 260، ح 1805. 4 جه: كتاب الزهد، باب الأمل والأجل، 2/ 1414، ح 4231. 5 د: كتاب الصلاة، باب مقام الإمام من الصف، 1/ 439، ح 681. 6 د: كتاب الأدب، باب في الجلوس وسط الحلقة، 5/ 164، ح 4826 واللفظ له. ت: كتاب الأدب، باب في كراهية الجلوس وسط الحلقة، 5/ 90، ح 2753، وقال أبو = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 شرح بعض الألفاظ المقابلة للوسط : يعبر عن المعاني المضادرة للوسط بعدة ألفاظ يحسن أن نقف على معانيها لتعلقها بالوسطية، وهي مما سيتكرر ذكره كثيرًا أثناء الرسالة؛ فمنها: 1- الغلو: وهو في اللغة: مجاوزة الحد. قال ابن فارس: "الغين واللام والحرف المعتل "غلو" أصل صحيح. يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر. يقال: غلا السعر يغلو غلاء؛ وذلك ارتفاعه وغلا الرجل في الأمر غلوًا، إذ جاوز حده، وغلا بسهمه غلوًا، إذا رمى به سهمًا أقصى غايته1. وقال الجوهري: وغلا في الأمر يغلو غلوًا، أي: جاوز فيه الحد2. وقال ابن منظور: وغلا في الدين والأمر يغلو غلوًا، جاوز حده، وفي التنزيل {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 3.   = عيسى: هذا حديث صحيح. الحاكم: المستدرك، "4/ 281"، وقال: هذا حديث صيحح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قال الخطابي في بيان علة اللعن في الحديث: هذا يتأول فمن يأتي حلقة قوم، فيتخطى رقابهم، ويقعد وسطها ولا يقعد حيث انتهى به المجلس فلعن للأذى. وقد يكون في ذلك: أنه إذا قعد وسط الحلقة حال بين الوجوه وحجب بعضهم عن بعض، فيتضررون بمكانة وبمقعهده هناك. اهـ، معالم السنن، 7/ 183. 1 معجم مقاييس اللغة، 4/ 387- 388. 2 الصحاح، "6/ 2448". 3 لسان العرب، "15/ 132". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الغلو في استعمال الشرع: ورد لفظ الغلو في موضعين من القرآن الكريم، وكلاهما بمعنى: مجاوزة الحد، وهو المعنى اللغوي للكلمة. فالأول في سورة النساء في قوله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} 1. والثاني في سورة المائدة في قوله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} 2. أي: لا تجاوزوا الحد في إتباع الحق ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الألوهية، كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلهًا من دون الله3. وفي السنة: ورد لفظ "الغلو" فيعدد من الأحاديث: منها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة الغقبة وهو على ناقته "القط لي حصى"، فلقطت له سبع حصيات هن حصى الحذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: "أمثال هؤلاء فارموا"، ثم قال: "يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" 4. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه" 5.   1 آية 171. 2 آية 77. 3 الحافظ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 2/ 151. 4 جه: كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، 2/ 1008، ح 3029. وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر: صحيح ابن ماجه، له 2/ 177، ج 4255. 5 حم: 3/ 428، 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "ويحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحالا لمبطلين وتأويل الجاهلين" 1. ومعنى الغلو فيها: التشدد ومجاوزة الحد، كما ذكر ابن الأثير2. 2- الإفراط: وهو في اللغة: التقدم ومجاوزة الحد في الأمر. قال ابن فارس: ألفًا والراء والطاء: أصل صحيح يدل على إزالة شيء عن مكانه وتنحيته عنه، يقال: فرطت عنه ما كرهه؛ أي: نحيته. ثم يقال: أفرط: إذا تجاوز الحد في الأمر. يقولون: إياك والفرط؛ أي: لا تجاوز القدر، وهذا هو القياس؛ لأنه إذا جاوز القدر قد أزال الشيء عن وجهته3. وقال الجوهري: وأفرط في الأمر، أي: جاوز فيه الحد4. وقال صاحب "لسان العرب": والإفراط: الإعجال والتقدم، وأفرط في الأمر: أسرف. والإفراط: الزيادة على ما أمرت5. 3- التفريط: وهو في اللغة: التقصير وإزالة الشيء عن مكانه. قال ابن فارس: وكذلك التفريط، وهو التقصير؛ لأنه إذا قصر فيه فقد   1 البغدادي، شرف أصحاب الحديث، ص 28 ح 52، "بتحقيق د. محمد سعيد خطيب أوغلي". ابن وضاح، البدع والنهي عنها ص2، "بتحقيق محمد أحمد دهمان، دار البصائر"، قال القاسمي: وتعدد طرقه يقضي بحسنه كما جزم به العلائي، قواعد التحديث ص 49. 2 انظر: النهاية في غريب الحديث 3/ 382. 3 انظر: معجم مقاييس اللغة 4/ 490. 4 الصحاح 3/ 1148. 5 لسان العرب 7/ 369. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قعد به عن رتبته التي هي له1. وقال الجوهري: فرط في االأمر فرطًا؛ أي: قصر فيه، وضيعه حتى فات، وكذلك التفريط2. وقال ابن منظور: وفرط في الشيء وفرطه: ضيعه وقدم العجز فيه3. الإفراط والتفريط في استعمال الشرع: وقد وردت مادة "فرط" في القرآن الكريم في ثمانية مواضع4. وكلها بمعنى: التقصير والضياع والتقدم في الشيء. قال الزجاج: وقد أفرط في الشيء إذ سقط فيه، وقد فرط في الشيء أي قصر، ومعناه كله التقدم في الشيء؛ لأن الفرط في اللغة المتقدم5. كما وردت مادة "فرط" في السنة في عدد من الأحاديث يضيق المقام عن حصرها نذكر منها على سبيل التمثيل: قوله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه ليس في النوم تفريط؛ إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى" 6 والتفريط هنا بمعنى: التقصير.   1 معجم مقاييس اللغة 4/ 490. 2 الصحاح 3/ 1148. 3 لسان العرب 7/ 370. 4 في الآيات 31، 38، 61، من سورة الأنعام، والآية 80 من سورة يوسف، و 62 من النحل، 28 من الكهف، و 59 من الزمر، طه 45. 5 انظر: معاني القرآن وإعرابه. له 3/ 358. 6 م: كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة 1/ 473 ح 311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "إني فرطكم" 1 ومعنى فرطكم؛ أي: السابق2 والمتقدم. 4- الجفاء، والجفو: في اللغة: "الجيم والفاء والحرف في المعتل "جفو": يدل على أصل واحد، نبو الشيء عن الشيء. من ذلك جفوت الرجل أجفوه. وجفا السرج عن ظهر الفرس، وأجفيته أنا وكذلك كل شيء إذا لم يلزم شيئًا يقال: جفا عنه يجفو. والجفاء: خلاف البر، والجفاء: ما نفاه السيل، ومنه اشتقاق الجفاء. قاله ابن فارس3. الجفاء في استعمال الشرع: وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في موضع واحد في قوله عز وجل: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} 4. قال الزجاج في "معاني القرآن": "والجفاء ما جافا الوادي؛ أي: رمى به"5. وفي السنة: وردت هذه المادة في عدد من الأحاديث: منها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ذكر فيه الخصال التي إذا فعلتها الأمة حل بها البلاء: "وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وبر صديقه، وجفا أباه" 6 فالجفاء هنا خلاف البر كما هو واضح.   1 خ: مناقب، باب ما يحذر من زهرة الدنيا 11/ 244 ح 6426. 2 فتح الباري 11/ 245. 3 معجم مقاييس اللغة 1/ 465- 466. 4 سورة الرعد آية 17. 5 3/ 145. 6 ت: الفتن، باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، 4/ 494 ح 2210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه" 1. قال أبو عبيد في معنى الجفاء في الحديث: "والجافي عنه التارك له وللعمل به"2.   1 تقدم تخريجه. انظر: ص 24. 2 غريب الحديث 1/ 483، طبعة مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدرى باد 1396 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 المبحث الثاني: في بيان معنى السنة في اللغة والاصطلاح أولًا: السنة في اللغة هي الطريقة، والسيرة، حسنة أو قبيحة، محمودة أو مذمومة. قال ابن فارس: والسنة: السيرة، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرته، قال الهذلي: فلا تجزعن من سنة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها1 وفي "لسان العرب": والسنة: السيرة، حسنة كانت أو قبيحة، وذكر البيت قال: وقد تكرر في الحديث ذكر السنة وما تصرف منها، والأصل فيه الطريقة2. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء" 3.   1 ابن فارس، مجمل اللغة، "بتحقيق زهير عبد المحسن سلطان، ط. الأولى 1404، نشر: مؤسسة الرسالة - بيروت"، 2/ 455. 2 انظر: مادة "سنن" 13/ 225. 3 م: كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة وسيئة، 4/ 2059 ح 1017. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ثانيا: السنة في الإصطلاح مدخل ... ثانيًا: السنة في الاصطلاح يختلف معنى السنة في الاصطلاح عند كل من المحدثين، والأصوليين والفقهاء وعلماء الوعظ وأصول الدين، وإن كان الجميع يتفق على أنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما وقع الاختلاف عند التفصيل والتحديد؛ ومرد هذا الاختلاف في المعنى الاصطلاحي للسنة إلى اختلافهم في الأغراض التي يعني بها كل فئة من أهل العلم1. السنة عند المحدثين: فعلماء الحديث، عندما عنوا بنقل كل ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: السنة هي ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم: من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية، أو خلقية، أو سيرة، سواء كان قبل البعثة2، أو بعدها3. السنة عند الأصوليين: وعلماء الأصول إنما عنوا بالبحث عن الأدلة الشرعية، فعنوا بأقواله وأفعاله وتقريراته التي تثبت الأحكام وتقررها4 فقالوا: السنة هي: ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم، من قول، أو فعل، أو تقرير.   1 د. مصطفى السباعي. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، "ط. الثانية 1396، نشر: المكتب الإسلامي"، ص 48. 2 مثل تحثه في غار حراء، ومثل حسن سيرته؛ لأن الحال يستفاد منها ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من كريم الأخلاق ومحاسن الأفعال كقول خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق. انظر: محمد محمد أبو زهو، الحديث والمحدثون، "ط. 1404 هـ، نشر: دار الكتاب العربي"، ص 10. 3 محمد جمال الدين القاسمي، قواعد التحديث، "ص 64". 4 أبو زهو، الحديث والمحدثون، ص 48، والسباعي، السنة ومكانتها، ص 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 قال الآمدي: وقد تطلق -أي: السنة- على ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الأدلة الشرعية مما ليس بمتلو، ولا هو معجز، ولا داخل في المعجز، وهذا النوع هو المقصود بالبيان ههنا، ويدخل في ذلك: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقاريره1. وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في تعريف السنة: وفي اصطلاح الشرع هي: ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فعله، أو قرر عليه2. السنة عند الفقهاء: أما علماء الفقه؛ فإنهم لما عنوا بالبحث عن حكم الشرع على أفعال العباد وجوبًا أو حرمة أو إباحة أو غير ذلك3. قالوا: السنة هي: الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض ولا وجوب4. وقال بعضهم: السنة: ما في فعله ثواب وفي تركه ملامة وعاب لا عقاب5. وهي على هذا تقابل الواجب عندهم. قال الخطيب البغدادي: وقد غلب على ألسنة الفقهاء، أنهم يطلقون   1 الإحكام في أصول الأحكام، "ط. الثانية 1402 هـ، ط. المكتب الإسلامي"، 1/ 169. 2 مذكرة في أصول الفقه، ص 95. 3 السباعي، السنة ومكانتها، ص 49. 4 أبو زهو، الحديث والمحدثون، ص 10. 5 قاسم القونوي، أنيس الفقهاء، "بتحقيق د. أحمد بن عبد الرزاق الكبيسي، ط. الأولى 1406، نشر: دار الوفاء -جده" ص 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 السنة فيما ليس بواجب؛ فينبغي أن يقال في حد السنة: أنها ما رسم ليحتذى استحبابًا1. قال الحافظ ابن حجر في تعريف السنة عند الفقهاء: وفي اصطلاح بعض الفقهاء: ما يرادف المستحب2. وإذا نظرنا في كلام كثير من السلف، نجدهم يعنون بالسنة معنى أوسع من معناها عند المحدثين، أو الأوصليين، أو الفقهاء. إذ يعنون بالسنة: موافقة الكتاب وسنة الرسول صلى الله الله عليه وسلم وأصحابه، سواء في أمور الاعتقادات، أو العبادات. ويقابلها: البدعة3، فيقال فلان على السنة: إذا كانت أعماله على وفق الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال فلان على البدعة؛ إذ كان عمله مخالفًا للكتاب والسنة أو أحدهما. قال الشاطبي: ويطلق -أي: لفظ السنة أيضًا- في مقابلة البدعة فيقال: فلان على سنة؛ إذ عمل على وفق ما عمل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، كان ذلك مما نص   1 كتاب الفقيه والمتفقه، "بتصحيح الشيخ إسماعيل الأنصاري، نشر: مكتبة أنس 1400 هـ"، ص 86. 2 الفتح، 13/ 245. 3 البدعة: في اللغة من "بدع"، يقال: أبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال: والله بديع السماوات والأرض، والبديع المبتدع. وهي في الاصطلاح: عبارة عن "طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله"، كما قال الشاطبي في الاعتصام، 1/ 37، "بتعريف محمد رشيد رضا، نشر: دار المعرفة"، وقال الحافظ ابن رجب: هي ما أحدث مما لا أصل في الشريعة. جامع العلوم والحكم 252، "نشر: دار المعرفة- بيروت". وقال الحافظ ابن حجر: وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة. انظر: فتح الباري 4/ 253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 عليه الكتاب أو لا، ويقال: "فلان على بدعة"، إذا عمل على خلاف ذلك، وكأن هذا الإطلاق إنما اعتبر فيه عمل صاحب الشريعة، فأطلق لفظ السنة من تلك الجهة، وإن كان العمل بمقتضى الكتاب. ويطلق أيضًا لفظ السنة على ما عمل عليه الصحابة، وجد ذلك في الكتاب والسنة أو لم يوجد1 لكونه اتباعًا لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا، أو اجتهادًا مجتمعًا عليه منهم أو من خلفائهم2. ويقول الحافظ ابن رجب: والسنة هي: الطريق المسلوك، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون، من الاعتقادات، والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة؛ ولهذا كان السلف قديمًا لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك3. والذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون هو الكتاب والسنة، فيكون لفظ السنة شاملًا لذلك كله في مقابلة البدعة. ولأهمية وخطورة مسائل الاعتقاد، التي هي أصل الدين وعليها يبنى غيرها من أعمال الإسلام، أطلق السلف لفظ "السنة" على موافقة الكتاب والسنة فيقضايا الاعتقاد. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ولفظ السنة في كلام السلف، يتناول السنة في العبادات، وفي الاعتقادات، وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات.   1 قال شارحه الشيخ عبد الله دراز: أي: عثرنا عليه في السنة أو لم نعثر عليه فيها ليصح قوله بعد "لكونه ابتاعًا لسنة ثبتت عندهم ولم تنقل إلينا"، الموافقات ج 4/ 4 حاشية رقم "1". 2 أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة "بشرح الشيخ عبد الله دراز، نشر: دار المعرفة -بيروت"، 4/ 3- 6. 3 انظر: جامع العلوم والحكم، ص 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وهذا كقول: ابن مسعود، وأبي بن كعب، وأبي الدرداء رضي الله عنهم: "اقتصاد في سنة من اجتهاد في بدعة"1، 2. وقال ابن رجب: "وكثير من العلماء المتأخرين يخص السنة بما يتعلق بالاعتقاد؛ لأنها أصل الدين، والمخالف فيها على خطر عظيم"3. بل وكثير من علماء السلف المتقدمين أيضًا، خصوا السنة بذلك، وأطلقوها على ما يتعلق بأمور الاعتقاد، فمن وافق فيها السنة فهو من أهل السنة. وفيما يلي ذكر بعض أئمة السلف الذين أطلقوا ذلك ونماذج من أقوالهم: 1- سفيان بن عيينة "ت 198 هـ"4: أخرج اللالكائي عنه من طريق بكر بن الفرج أبي العلا، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: السنة عشرة، فمن كن فيه فقد استكمل السنة، ومن ترك منها شيئًا فدق ترك السنة. إثبات القدر، وتقديم أبي بكر وعمر، والحوض، والشفاعة، والميزان، والصراط، والإيمان في قول وعمل، والقرآن كلام الله، وعذاب القبر، والبعث يوم   1 الأثر أخرجه الدارمي عن ابن مسعود بلفظ: "القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة" 1/ 72، والبيهقي، انظر: السنن الكبرى 3/ 19. قال الألباني: وهذا الأثر صحيح. انظر: صلاة التراويح ص6. 2 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص77، "بتحقيق د. صلاح الدين المنجد، ط. الأولى 1396، نشر: دار الكتاب الجديد- بيروت". 3 جامع العلوم والحكم 249. 4 وهو إمام وعلم وشيخ من شيوخ الإسلام قال عنه الإمام أحمد: "ما رأيت أعلم بالسنن منه". انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي، 1/ 262، وانظر: ترجمته أيضًا في: "تهذيب التهذيب 4/ 117، وميزان الاعتدال 2/ 170، وفيات الأعيان 2/ 393. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 القيامة، ولا تقطعوا بالشهادة على مسلم1. فهذه كلها أمور ومسائل اعتقادية، خصها ابن عيينة رحمه الله باسم السنة. 2- الإمام الشافعي: "150- 204 هـ". قال: القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما، الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء وينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء. وذكر سائر الاعتقاد2. 3- علي بن المديني "234 هـ": قال: "السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها، أو يؤمن بها، لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره، ثم تصديق بالأحاديث والإيمان بها لا يقال: لم؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق بها، والإيمان بها، وإن لم يعلم تفسير الحديث، ويبلغه عقله. ولا يخاصم أحدًا، ولا يناظر ولا يتعلم الجدل، والكلام في القدر وغيره من السنة مكروه ولا يكون صاحبه وإن أصاب السنة بكلامه من أهل السنة حتى يدع الجدل ويسلم. والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ولا تضعف أن تقول ليس بمخلوق، فإن كلام الله عز وجل ليس بباين منه، وليس منه شيء مخلوق، يؤمن به، ولا يناظر فيه أحدًا"3 إلى آخر ما ذكر من مسائل الاعتقاد.   1 أبو القاسم هبة الله بن الحسين الطبري اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، "بتحقيق د. أحمد سعد حمدان، نشر: دار طيبة - الرياض"، 1/ 155- 156. 2 شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، العلو للعلي الغفار، "بتقديم وتصحيح عبد الرحمن محمد عثمان، نشر: المكتبة السلفية بالمدينة"، ص 120. وانظر: ابن القيم، تهذيب سنن أبي داود 7/ 114. 3 اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 165- 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 4- الإمام أحمد بن حنبل "ت 241 هـ": أخرج اللالكائي من طريق عبدوس بن مالك العطار؛ قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول: أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين. والسنة عندنا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة تفسير القرآن، وهي دلائل القرآن ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها لا يقال: لم؟ ولا كيف؛ إنما هو التصديق بها والإيمان بها. ولا يخاصم أحدًا، ولا يناظره ولا يتعلم الجدل، والإيمان بالميزان، والإيمان بالحوض، والإيمان بعذاب القبر والإيمان بشفاعة النبي1، وذكر عددًا من الأموار الاعتقادية. 5- سهل بن عبد الله التستري "ت 273 هـ": وقيل له: متى يعلم الرجل أنه على السنة والجماعة؟ قال: إذا عرف من نفسه عشر خصال: لا يترك الجماعة، لا يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لا يخرج على هذه الأمة بالسيف، ولا يكذب بالقدر، لا يشك في الإيمان، لا يماري في الدين، لا يترك الصلاة على من يموت من أهل القبلة بالذنب، لايترك المسح على الخفين، لا يترك الجمعة، خلف كل وال جار أو عدل2. هذه نماذج مختارة من كلام السلف، الذين أطلقوا اسم السنة، وأرادوا   1 اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 156- 164. 2 انظر: شرح أصول اعتقاد السنة 1/ 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 بها ما يتعلق بالاعتقادات، وأبلغ من ذلك أنهم سموا الكثير من مصنفاتهم في العقيدة باسم "السنة"؛ وذلك مثل: 1- "السنة" للإمام أحمد بن حنبل "ت 241 هـ" وهو مطبوع. 2- "السنة" لأبي داود السجستاني "ت 275 هـ" ضمن كتابه "السنن". 3- "السنة" لابن أبي عاصم "ت 287 هـ" وهو مطبوع بتخريج الألباني. 4- "السنة" لعبد الله بن أحمد "ت 290 هـ" وهو مطبوع. 5- "السنة"1 لأحمد بن هارون الخلاف "ت 311 هـ". 6- "السنة"2 لأن أبي حاتم الرازي "ت 327 هـ". 7- "السنة"3 لأبي القاسم سليمان بن محمد الطبراني، صاحب "المعاجم" "ت 360 هـ". 8- "السنة"4 لأبي الشيخ الأصبهاني "ت 369". 9- "الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة" لعبيد الله بن بطة "ت 387 هـ". وهو مطبوع بتحقيق رضا نعسان معطي. 10- "شرح السنة" لابن أبي زمنين "ت 399 هـ"5. وهناك الكثير غير ما ذكرت مما أطلق عليه "السنة" أو "شرح أصول أهل   1 "حقق الأجزاء الثلاثة الأولى منه د. عطية الزهراني"، نال بها درجة الدكتوراه، وقد طبع والحمد لله والمحقق يعمل الأجزاء المتممة للكتاب أعانه الله على إتمامه وإخراجه. 2 مخطوط بالظاهرية مجموع 11، انظر: تاريخ التراث للسزكين 1/ 288. 3 انظر: العلو للذهبي 165. 4 نفس المصدر ص166. 5 "حققه محمد إبراهيم هارون"، ونال به درجة الماجستير من الجامعة الإسلامية عام 1403- 1404 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 السنة"1؛ إذ لم أراد الاستقصاء وإنما القصد التمثيل على أن السلف كانوا يسمون ما يصفنون في أبواب الاعتقاد باسم "السنة" أو "شرح السنة". وهذه المصنفات اشتملت على المسائل العقدية والاحتجاج عليها من الكتاب والستة وآثار السلف الصالح. وفي ذلك دلالة على أن السلف يقصدون بالسنة معنى زائدًا على الحديث، وأنهم يريدون بها: ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أمور الاعتقادات والعبادات وغيرها؛ وذلك شامل للقرآن وسنته صلى الله عليه وسلم.   1 انظر مثلًا: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 5/ 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 تفريق السلف بين مفهوم السنة والحديث : ولذلك نجد أئمة السلف كثيرًا ما يفرقون بين السنة والحديث، ويجعلون السنة في مقابل البدعة، والحديث هو أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته. فهذا الإمام الشافعي رحمه الله يروي عنه الربيع بن سليمان1 قائلًا: قال لنا الشافعي: أحمد إمام في ثمان خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر2، إمام في   1 هو: الربيع بن سليمان المرادي المؤذن، خادم الشافعي وراوي كتبه، كان الشافعي يقول: إنه أحفظ أصحابي، ولد سنة 174، ومات سنة 270هـ، وانظر ترجمته لدي: ابن هداية الله الحسيني: طبقات الشافعية، بتحقيق عادل نويهض، ط. الثالثة، 1402 هـ. نشر: دار الآفاق الجديدة - بيروت"، ص24. 2 الفقر في اللغة: ضد الغني، وقدر ذلك أن يكون له ما يكفي عياله. ابن منظور، لسان العرب 5/ 60، ولفظ الفقر في الشرع يراد به: الفقر من المال، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} ، [التوبة: 60] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} ، [فاطر: 15] . انظر: ابن تيمة الفتاوي 11/ 196. وكان افمام أحمد رحمه الله إمامًا في الفقر؛ فقد روى عنه المروزي أنه قال: ما أعدل بالفقر شيئًا، ما أعدل بالفقر شيئًا، ما أعدل بالفقر شيئًا. أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيء، وفي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الزهد1، إمام في الورع، إمام في السنة2. وقال عبد الرحمن بن مهدي3: "الناس على وجوه، فمنهم من هو إمام في السنة، إمام في الحديث، ومنهم من هو غمام في الحديث؛ فأما من هو إمام في السنة وإمام في الحديث فسفيان الثوري4"5. ويشرح لنا الإمام ابن الصلاح6 الفرق بين السنة والحديث عندما سئل   = رواية أخرى أنه قال: ما أعدل بالصبر على الفقر شيئًا. قلت: وهو الأشبه بمثل الإمام؛ فإن الفقر قد تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم منه؛ فكيف لا يعدل الإمام أحمد به شيئًا ويفرح به، أما الصبر عليه إذا ابتلي به فلذلك مما يحمد، وعليه يخرج قول الإمام أحمد رحمه الله. انظر: ابن الجوزي، مناقب الإمام أحمد "ط. الثالثة، 1402 هـ، نشر: دار الآفاق"، ص273. 1 الزهد في اللغة: ضد الرغبة والحرص على الدنيا، والزهد في الشرع: هو ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله. ابن تيمية: الفتاوى 10/ 21. وكان الإمام أحمد إمامًا في ذلك فكان يقول: إنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس، وصبر أيامًا قلائل، ابن الجوزي، مناقب الإمام أحمد، ص248. 2 القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى. طبقات الحنابلة "نشر: دار المعرفة"، 1/ 5. 3 هو ابن حسان العنبري مولاهم أبو سعيد البصري حافظ عارف بالرجال والحديث "135- 198 هـ"، انظر: التقريب 1/ 499، والتذكرة 1/ 329. 4 هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، شيخ الإسلام وأمير المؤمنين في الحديث، مات سنة 161. انظر: التذكرة 1/ 203، والتقريب 1/ 311. 5 انظر: اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 63. 6 هو: تقي الدين ابن الصلاح الحافظ شيخ الإسلام أبو عمر عثمان بن عبد الرحمن الشهروزي، ولد سنة 577، ومات سنة 643 هـ، قال ابن خلكان: كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة. وكانت فتاويه مسددة. انظر: وفيات الأعيان، "بتحقيق د. إحسان عباس. نشر: دار صادر"، 3/ 243، وانظر: شذرات الذهب 5/ 221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 عن قول بعضهم عن الإمام مالك -رضي الله عنه- أنه جميع بين السنة والحديث، فما الفرق بين السنة والحديث؟ أجاب: "السنة ههنا ضد البدعة، وقد يكون الإنسان من أهل الحديث، وهو مبتدع، ومالك -رضي الله عنه- جمع بين السنتين؛ فكان عالمًا بالسنة؛ أي: الحديث، ومعتقدًا للسنة؛ أي: كان مذهبه مذهب أهل الحق من غير بدعة، والله أعلم"1. ولذلك نجد شيخ الإسلام ابن تيمية، عندما يذكر أهل الحديث، ووراثتهم للأنبياء، وإمامتهم، يتحفظ وبين أن المقصود بهم من يجمع بين الرواية والدراية والإتباع. فيقول: ونحن لا نعني بأهل الحديث: المقتصرين على سماعه، أو كتابته، أو روايته؛ بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه، ومعرفته، وفهمه ظاهرًا وباطنًا، وإتباعه باطنًا، وظاهرًا، وكذلك أهل القرآن2.   1 فتاوي ابن الصلاح "بتحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي. نشر: دار المعرفة - بيروت"، 1/ 213. 2 مجموع الفتاوى "جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ط. المكتب التعليمي السعودي في المغرب"، 4/ 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 المبحث الثالث: المراد بأهل السنة أولا: نشأة مصطلح "أهل السنة" وتاريخ إطلاقه ... المبحث الثالث: المراد بأهل السنة لكي نحدد المراد بأهل السنة، سأعرض لنشأة مصطلح "أهل السنة" وتاريخ إطلاقه وعلى من أطلق على ضوء النصوص التي سنوردها عن السلف في ذلك، والتي توضح مراد السلف بقولهم: "أهل السنة". ثم سنبين تنازع الطوائف والفرق هذا اللقب ودعوى كل طائفة أنها هي التي ينطبق عليها هذا الوصف، وسنفصل القول في دعوى الأشاعرة ذلك، مع بيان موقفهم من السنة والنقل عمومًا. وسأختم هذا المبحث -إن شاء الله- ببيان موقف أهل العلم قديمًا وحديثًا من دعوى الأشاعرة هذه. أولًا: نشأة مصطلح "أهل السنة" وتاريخ إطلاقه يرجع تاريخ إطلاق هذا اللفظ إلى صدر الإسلام، إلى عصر النبوة والقرون المفضلة. قد أخرج اللالكائي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وجُوه} 1؛ "فأما الذين ابيضت وجوههم: فأهل السنة والجماعة وأولوا العلم، وأما الذين اسودت وجوههم: فأهل البدع   1 سورة آل عمران آية 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 والضلالة1". ثم تتابع ورود استعمال هذا اللفظ وإطلاقه عن كثير من أئمة السلف رحمة الله عليهم، أذكر طائفة منهم حسب التسلسل التاريخي: فممن ورد عنه ذلك: -أيوب السختياني "68- 131 هـ": فقد أخرج اللالكائي عنه أنه قال: إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة وكأني أفقد بعض أعضائي. وقال أيضَا: إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة2. -سفيان الثوري "ت 161 هـ". قال: استوصوا بأهل السنة خيرًا فإنهم غرباء. وقال: ما أقل أهل السنة والجماعة3. - الفضيل بن عياض "ت 187 هـ". قال: أهل الإرجاء يقولون: الإيمان قول بلا عمل، وتقول الجهمية: الإيمان المعرفة بل قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: افيمانه المعرفة والقول والعمل4. - أبو عبيد القاسم بن سلام "157- 224 هـ".   1 اللالكائي، شرح أصول أهل السنة 1/ 72، والبغوي، معالم التنزيل 1/ 339، وابن كثير، التفسير 2/ 76. 2 اللالكائي، شرح أصول أهل السنة 1/ 60- 61. 3 اللالكائي، شرح أصول أهل السنة 1/ 64. 4 ابن جرير الطبري: تهذيب الآثار "بتحقيق د. ناصر سعد الرشيد، وعبد القيوم عبد رب النبي، ط. مطابع الصفا -0مكة، على نفقة الأمير فهد بن عبد العزيز، 1402 هـ" 2/ 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 قال في مقدمة كتاب "الإيمان" له: فإنك كنت تسألني عن إيمان واختلاف الأمة في استكماله، وزيادته، ونقصانه، وتذكر أنك أحببت معرفة ما عليه أهل السنة من ذلك1. - الإمام أحمد بن حنبل "164- 241 هـ": قال في مقدمة كتاب "السنة" له: هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروتها، المعروفين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا2. - الإمام ابن جرير الطبري "ت 310 هـ": قال: وأما الصواب من القول في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل يوم القيامة وهو ديننا الذي تدين الله به، وأدركنا عليه أهل السنة والجماعة فهو أن أهل الجنة يرونه على ما صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم3. - أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي "239- 321 هـ": قال في مقدمة عقيدته المشهورة: هذا ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة4. وبهذا النقول يتضح لنا جليًا أن لفظ "أهل السنة" معروف عند السلف   1 الإيمان ص 53 ضمن كتاب من كنوز السنة -رسائل أربع، "بتحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني". 2 السنة ص 33- 34، مع كتاب الرد على الجهمية له، ط. عيسى الحلبي. 3 صريح السنة له "بتحقيق وتعليق بدر بن يوسف المعتوق، ط. الأولى 1405 هـ، نشر: دار الخلفاء للكتاب الإسلامي" ص20. 4 عقيدة أهل السنة والجماعة ص5 "بتعليق ابن مانع، نشر: مكتبة دار المطبوعات الحديثة - جدة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 متداول بينهم، أطلقوه في مقابل "أهل البدع"، وألفوا في بيان عقيدة أهل السنة وميزوا بينهم وبين أهل البدع، كما فعل الإمام أحد والإمام الطحاوي وغيرهم. وفي هذا رد على من زعم أن لقب "أهل السنة" أول ما أطلق على الأشاعرة، كما زعم ذلك الأستاذ مصطفى الشكعة؛ إذ يقول في كتابه "إسلام بلا مذاهب": "وهكذا نجد أن لقب "أهل السنة" أطلشق أول ما أطلق على جماعة الأشاعرة ومن نحا نحوهم، ثم اتسعت دائرته فشملت أصحاب المذاهب والفقهاء من أمثال الشافعي ومالك وأبي حنيفة وابن حنبل والأوزاعي وأهل الرأي والقياس"1. ولا أدري كيف يستقيم هذا القول، وهؤلاء الأئمة قد توفوا قبل زمن الأشعري؟ ثم زعم في موضع آخر من كتابه أن هذه التسمية لم تعرف إلا في القرن السابع الهجري قال: "وذلك أن تسمية جمهرة المسلمين بأهل السنة تسمية متأخرة يرجع تاريخها إلى حوالي القرن السابع الهجري؛ أي: بعد عصر آخر الأئمة المشهروين وهو البن حنبل بحوالي أربعة قرون"2. على أنه يتناقض فيعترف في نفس كتابه هذا، بوجود من يعرف بـ "أهل السنة" قبل أن يخلق الله الأشعري والأشاعرة؛ إذ يقول: "إن المأمون وهو علي أهبة الخروج إلى طرسوس على حدود بلاد الروم سنة 218 هـ. بعث إلى إسحاق بن إبراهيم عامله على بغداد كتابًا يأمره فيه أن يستحضر علماء بغداد وقضاتها، وأن يمتحنهم في موضع خلق القرآن. وقال: وكتاب المأمون هذا من أشنع الكتب التي حوت سبًا وتطاولًا على   1 إسلام بلا مذاهب ص 496،ط. شركة ومطبعة مصطفى الحلبي بمصر. 2 نفس المصدر ص 381. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 علماء المسلمين من أهل السنةِ"1. اهـ. إذن كان هناك أهل سنة يدافعون عن عقيدتهم في القرآن، ويردون على من قال بخلقه، يعرفون بأنهم "أهل السنة". فكيف يقال: إن هذا اللقب أطلق أول ما أطلق على جماعة الأشاعرة؟ أم كيف يقال: أن هذه التسمية لم تعرف إلا في القرن السابع الهجري؟ على أن الأشاعرة السابق منهم واللاحق لم يدعوا لأنفسهم ما ادعاه لهم الأستاذ الشكعة. فهذا الإمام البيهقي "571 هـ" يقول عن الإمام الأشعري: "فهذا سبب رجوعه عن مذاهب المعتزلة غلى مذاهب أهل السنة والجماعة"2؛ فإذا أهل السنة والجماعة موجودون معروفون بهذا اللقب والأشعري بعد أن ترك الاعتزال رجع إلى مذهبهم، عن تفصيل في أحوال الأشعري ليس هذا مكان ذكره. ويقول د. علي سامي النشار من الأشاعرة المعاصرين: "لقد شهد القرن الثالث حركة كلامية كبرى حمل لواءها "أهل الحديث".. ثم ذكر كتب: خلق أفعال العباد، والاختلاف في اللفظ، وكتب الدارمي، قال: وتبين هذه الكتب ظهور الاتجاه الكلامي لدى أصحاب الحديث، وأن أصحاب الحديث وجدوا كفرقة مقابلة للجهمية وللمعتزلة، وللخوارج، وأنهم سموا باسم "أهل الحديث وأهل السنة"3 *.   1 المصدر السابق ص 472. 2 انظر: ابن عساكر أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله، تبيين كذب المفتري، "نشر دار الفكر، ط. الثانية 1399 هـ"، ص 43. 3 انظر: كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام 1/ 261. * والحق أن أهل الحديث لم يكونوا في يوم من الأيام من حملة ألوية الكلام، وكل ما فعلوه أنهم عند انتشار البدع على يد المتكلمين قام أهل الحديث بواجبهم في الرد عليهم، وبيان فساد ما ذهبوا إليه، وبينوا السنة التي يجب اتباعها في المسائل التي أثارها أهل الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ويقول الأستاذ أحمد أمين: "واسم أهل السنة كان يطلق على جماعة من قبل الأشعري والماتريدي، وقد حكى لنا أن جماعة كان يطلق عليها أهل السنة، وكانت تناهض المعتزلة قبل الأشعري. ولما جاء الأشعري وتعلم على المعتزلة اطلع أيضًا على مذاهب أهل السنة، وتردد كثيرًا في أي الفريقين أصح، ثم أعلن انضمامه إلى أهل السنة وخروجه على المعتزلة"1.   1 انظر كتابه: ظهر الإسلام 4/ 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ثانيًا: معنى أهل السنة أهل الشيء هم أخص الناس به يقال في اللغة: أهل الرجل: أخص الناس به وأهل البيت سكانه، وأهل الإسلام من يدين به، وأهل المذهب من يدين به1. فمعنى أهل السنة؛ أي: أخص الناس بها وأكثرهم تمسكًا بها واتباعًا لها قولًا وعملًا واعتقادًا. وهذا اللفظ أصبح مصطلحًا يطلق ويراد به أحد معنيين: المعنى الأول: معنى عام يدخل فيه جميع المنتسبين إلى الإسلام عدي الرافضة؛ فيقال: هذا رافضي، وهذا سني، وهذا هو اصطلاح العامة؛ لأن الرافضة هم المشهورون عندهم بمخالفة السنة فجمهور العامة لا تعرف ضد السني إلا الرافضي؛ فإذا قال أحدهم: أنا سني فإنما؛ معناه: لست رافضيًا2. وقد ورد عن بعض السلف ما يشير إلى هذا المعنى فقد قيل لسفيان   1 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 1/ 150، وابن منظور، لسان العرب 11/ 29. 2 ابن تيمية، الفتاوي 3/ 356. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الثوري: يا أبا عبد الله! وما موافقة السنة؟ قال: تقدمة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما1، فالسني عنده من قدمها على غيرهما في الخلافة والفضل، ومن لم يقدمها فليس بسني، ولم يؤخرهما عن مرتبتهما إلا الرافضة. المعنى الثاني: معنى أخص وأضيق من المعنى العام، ويراد به أهل السنة المحضة الخالصة من البدع، ويخرج به سائر أهل الأهواء والبدع، كالخوارج والجهمية والمرجئة، والشيعة وغيرهم من أهل البدع. يبين شيخ الإسلام ابن تيمية معنى لفظ "أهل السنة" فيقول: "فلفظ "أهل السنة" يراد به من أثبت خلافة الثلاثة، فيدخل في ذلك -أي: في لفظ أهل السنة- جميع الطوائف إلا الرافضة، وقد يراد به: أهل الحديث والسنة المحضة؛ فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول: القرآن غير مخلوق، وأن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأمور المعروفة عند أهل الحديث والسنة"2. ومن خالف شيئًا من ذلك عد من أصحاب البدع، ولم يكن سنيًا، بذا حكم إمام أهل السنة دون منازع الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عليه؛ حيث قال في مقدمة كتاب "السنة": "هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر، وأهل السنة المتمسكين بعروتها المعروفين بها المقتدي بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت عليها من علماء الحجاز والشام وغيرهما عليها فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها؛ فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة زايل عن منهج السنة وسبيل الحق"3 ثم ذكر اعتقاد أهل   1 اللالكائي، شرح أصول أهل السنة 1/ 152. 2 منهاج السنة النبوية، "بتحقيق محمد رشاد سالم، طبعة المدني -القاهر"، 2/ 163. 3 السنة ص 33- 34، ضمن مجموع مع كتاب الرد على الجهمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 السنة الذي ساق شيخ الإسلام ابن تيمية فيما تقدم طرفًًا منه. فأهل السنة إذن هم: 1- أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم تلقوا عنه مباشرة أمور الاعتقاد كما تلقوا أمور العبادة، فهم أعرف الخلق بسنة نبيهم وأتبع لها ممن جاء بعدهم. 2- التابعون لهم بإحسان، المقتفون آثارهم في كل عصر ومصر، وعلى رأسهم أهل الحديث والأثر، الذين نقلوا إلينا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وميزوا صحيحها من سقيمها، وعملوا بها واعتقدوا ما دلت عليه. يقول الإمام ابن حزم في بيان من هم أهل السنة: "وأهل السنة الذين نذكرهم أهل الحق ومن عداهم فأهل البدعة فإنهم: الصحابة رضي الله عنهم، وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين رحمة الله عليهم، ثم أصحاب الحديث ومن تبعهم من الفقهاء جيلًا فجيلًا إلى يومنا هذا، ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها رحمة الله عليهم"1.   1 الفصل في الملل والأهواء والنحل، "ط. الثانية 1395. نشر: دار المعرفة - بيروت" 2/ 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ثالثا: تنازع الطوائف هذا اللقب مدخل ... ثالثًا: تنازع الطوائف هذا اللقب لما كان أهل السنة، هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ابتعهم على ما كانوا عليه من الهدى. ووجد كثير من الطوائف أن النجاة لا تكون إلا لمن كان على ما كانوا عليه لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث افتراق الأمة: "وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي" 1.   1 ت: كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، 5/ 26، ح 2641، وحسنه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. انظر: صحيح الترمذي 2/ 334، ح 2129، "ط. الأولى 1408، نشر: مكتب التربية العربي لدول الخليج". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 لما كان الأمر كذلك ادعى كثير من الطوائف والفرق أنهم هم الفرقة الناجية وأنهم أهل الحق، وتسمى بعضهم باسم "أهل السنة". يقول شيخ الإسلام -رحمه الله عليه- وفي معرض كلامه عن الفرق المشار إليها في الحديث: "فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى؛ فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له، هم أهل السنة والجماعة، ويجعل من خالفها هم أهل البدع، قال: وهذا ضلال مبين؛ فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى؛ فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة بل كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمن جعل شخصًا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدع، كما يوجد ذلك في الطوائف من إتباع أئمة الكلام في الدين وغير ذلك، كان من أهل البدع والضلالة والتفرق"1. فكل طائفة تدعي أنها الفرقة الناجية، وأن الحق معها.   1 الفتاوي 3/ 346- 347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الشيعة الإمامية الرافضة : تجعل نسها الفرقة الناجية دون غيرها، وأنها هي المشار إليها في حديث الافتراق. فقد نقل ابن المطهر الحلي1 عن شيخه النصير   1 وهو الحسين بن يوسف بن المطهر الحلي، ذكره ابن حجر باسم "الحسين" وقال: هو عالم الشيعة وإمامهم ومصنفهم، وهو الذي رد عليه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتابه المعروف بالرد على الرافضي. قلت: وهو كتاب منهاج السنة وهو مشهور، وقال ابن تغري بردي: كان عالمًا بالمعقولات وله عدة مصنفات؛ غير أنه كان رافضيًا خبيثًا على مذهب القوم. انظر: لسان الميزان 2/ 317، والنجوم الزاهرة 9/ 167، ط. مصورة عن طبعة دار الكتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الطوسي1 أنه سئل عن المذاهب؛ فقال: "بحثنا عنها وعن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة منها ناجية والباقي في النار". وقد عين عليه السلام الفرقة الناجية والهالكة في حديث آخر صحيح متفق عليه، وهو قوله: "مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف غرف؛ فوجدنا الفرقة الناجية هي: الفرقة الإمامية؛ لأنهم باينوا جميع المذاهب، وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد"2. وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية ردًا متينًا مطولًا من ثمانية أوجه3 فأفاد وأجاد رحمة الله عليه. وقد بين في "الوجه الخامس" أن ق وله صل الله عليه وسلم في حديث الافتراق عن الفرقة الناجية وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي. وفي رواية: "هم الجماعة" يناقض قول الإمامية ويقضي أنهم خارجون عن الفرقة الناجية، خارجون عن جماعة المسلمين يكفرون أو يفسقون أئمة   1 وهو: محمد بن محمد بن احلسن بنصير الدين الطوسي الفيلسوف، كان ذا منزلة من هولاكو وزر له، استغل مكانته في التنكيل بأهل السنة والإساءة إليهم والتشفي منهم. كان مولده سنة 597 ووفاته ببغداد سنة 672. انظر ترجمته لدى: محمد بن شاكر الكتبي في فوات الوفيات "بتحقيق د. إحسان عباس نشر: دار صادر"، 3/ 246 وشذرات الذهب 5/ 339. 2 ابن المطهر الحلي، منهاج الكرامة مطبوع مطبوع مع كتاب منهاج السنة، 1/ 95 ط. المدني. 3 انظر: منهاج السنة 3/ 444- 484، "ط. جامعة الإمام بتحقيق د. محمد رشاد سالم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الجماعة؛ كأبي بكر وعمر، وكذلك يكفرون أو يفسقون علماء وعباد الجماعة. وبين رحمه الله أن الإمامية أبعد الناس من سير الصحابة، وأجهلهم بحديث رسول الله وأعداهم لأهله من أصحاب رسول الله صلى الهل عليه وسلم وأمة المسلمين، ثم تبين أن الوصف الوارد في الحديث لا ينطبق إلا على أهله السنة؛ لأنهم هم الذين على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أهل الجماعة الذين ما فرقوا دينهم وكانوا شيعًا. ثم بين في "الوجه السادس"1 أن الحجة التي احتج بها الطوسي على أن الإمامية هي الفرقة الناجية وهي قوله: "لأنهم باينوا جميع المذاهب"، بين رحمه أن هذه الحجة كذب في وصفها، كما هي باطلة في دلالتها. وبين أن كثيرًا من الفرق قد باينت جميع الفرق الأخرى فيما اختصت به من أقوال؛ فالخوارج باينوا جميع المذاهب فيما اختصوا من التكفير بالذنوب ومن تكفير علي رضي الله عنه. وغير ذلك مما انفردوا به من أقوال. وكذلك المعتزلة باينوا جميع الطوائف فيما اختصوا به من "المنزلة بين المنزلتين"، وقولهم أن أهل الكبائر يخلدون في النار، وليسوا بمؤمنين ولا كفار، وهكذا جميع الفرق، فلا اختصاص للرافضة بذلك. ثم قال في "الوجه السابع": "إن مباينتهم لجميع المذاهب هو على فساد قولهم أدل منه على صحة قولهم، فإن مجرد انفراد طائفة عن جميع الطوائف لا يدل على أن -قولها- هو الصواب، واشترك أولئك من قول لا يدل على أنه باطل"2. وكيف يتخذ الاختلاف والإغراق في الابتعاد عن الآخرين أساسًا لنجاة؟   1 منهاج السنة 3/ 460- 461. 2 منهاج السنة 3/ 446. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ولو اتبعنا هذا الأساس لكان الإغراق في الإلحاد أساسًا للنجاة؛ بل لكان التخريف أو تخيلات المجانين أكثر قربًا للنجاة؛ لأنها أكثر باتعادًا عن آراء الآخرين1. وأما استدلاله بحديث "سفينه نوح" فهو يتوقف على صحة الحديث، والحديث ضعيف كما ذكر ذلك الذهبي2، والألباني3، ولا عبرة يقول الطوسي: "أنه حديث صحيح متفق عليه"؛ فليس هو من أهل هذا الشأن. والمعروف أنه من قول الإمام مالك بلفظ: "السنة مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك". قال شيخ الإسلام في إيضاح معناه: "وهذا حق فإن سفينة نوح إنما ركبها من صدق المرسلين واتبعهم، وأن من لم يركبها فقد كذب المرسلين، واتباع السنة هو ابتاع الرسالة التي جابت من عند الله فتباعها بمنزلة من كرب مع نوح في السفينة باطنًا وظاهرًا، والمتخلف عن إتباع الرسالة بمنزلة المتخلف عن اتباع نوح عليه السلام وركوب السفينة"4.   1 د. عبد الحليم محمود، التفكير الفلسفي في الإسلام "ط. الثالثة 1387 هـ، نشر: مكتبة الأنجلو المصرية"، ص 99. 2 قال الذهبي في "تلخيص المستدرك" معقبًا على قول الحاكم: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، قلت: "مفضل- أحد رواة الحديث- رخج له الترمذي فقط ضعفوه"، انظر: المستدرك 2/ 343. 3 انظر: ضعيف الجامع الصغير 5/ 131. 4 الفتاوى 4/ 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 و المعتزلة : يزعمون أنهم أهل الحق وأنهم الفرقة الناجية، يقول مقدمهم وكبيرهم عمو بن عبيد1 للخليفة المنصور- وقد سأله أن يعينه بأصحابه: "أظهر الحق يتبعك أهله"2 يريد المعتزلة. فما على المنصور إذا أراد معونتهم إلا أن يرفع رايتهم ويظهر مذهبهم. ويستدلون على أنهم الفرقة الناجية برواية محرفة لحديث الافتراق فقالوا: روي سفيان الثوري عن ابن الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أبرها وأتقاها الفئة المعتزلة"، ولعلهم شعروا بتفردهم بهذه الرواية فاتهموا سفيان بأنه قال لأصحابه: "تسموا بهذا الاسم لأنكم اعتزلتم الظلمة، فقالوا: سبقك بها عمرو بن عبيد وأصحابه -قالوا: فكان سفيان بعد ذلك يروي: واحدة ناجية"3. ولهؤلاء نقول: من مذهبكم عدم الاحتجاج بأحاديث الآحاد في باب الاعتقاد؛ فكيف سوغتم لأنفسكم الاحتجاج بهذا الحديث مع اتهامكم راويه سفيان بأنه تصرف في الحديث بوضع عبارة مكان أخرى؟ ولكن لا غرابة فإن إحدى علامات أهل البدع: أنهم يأخذون من السنة ما وافق أهواءهم، صحيحًا كان أو ضعيفًا، ويتركون ما لم يوافق أهواءهم من الأحاديث وإن صح وأخرج الشيخان! 4. ويزعم المعتزلة أنهم هم المتمسكون بالسنة والجماعة دون غيرهم مع قولهم بعدم حجية حديث الآحاد.   1 هو: عمرو بن عبيد من باب أبو عثمان البصري كبير المعتزلة، له كتاب: العدل، والتوحيد، وكتاب الرد على القدرية- يريد السنة مات بطريق مكة سنة ثلاث، وقيل: أربع وأربيعين ومائة، الذهبي: "سير أعلام النبلاء" "6/ 104- 106". 2 الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 12/ 168. 3 ابن المرتضى أحمد بن يحيى، المنية والأمل ص 2- 3. 4 انظر: مختصر الصواعق المرسلة 2/ 628- 629. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فقد جاء في كتاب "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة"1 قولهم: "ومعنى السنة إذا أضيفت إليه صلى الله عليه وسلم؛ هو ما أمر ليدام عليه، أو فعله ليدام الاقتداء به، فما هذا حاله يعد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وإنما يقع هذا الاسم على ما ثبت أنه قاله أو فعله، فأما ما ينقل من أخبار الآحاد فإن صح فيه شروط القبول، يقال فيه: أنه سنة على وجه التعارف؛ لأنا إذا لم نعلم ذلك القول أو ذلك الفعل فالقول بانه سنة يقبح؛ لأنا لا نأمن أن نكون كاذبين في ذلك، وعلى هذا الوجه لا يجوز في العقل أن يقول في خبر الواحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعًا؛ وإنما يجوز أن يقال: روي عنه صلى الله عليه وسلم". وأما الجماعة: فالمراد به ما أجمعت عليه الأمة، وثبت ذلك من إجماعها؛ فأما ما لم يثبت مما لم يجز التمسك به فهو بمنزلة أخبار الآحاد، وإذا صح ما ذكرناه فالمتمسك بالسنة والجماعة هم أصحابنا والحمد لله دون هؤلاء المشنعين. وهكذا سائر الطوائف والفرق، فما من طائفة إلا وتدعي أنها الناجية، وأن الحق معها، وتستكره النصوص على تأييد مذهبها، كما فعلت الشيعة والمعتزلة، كما أوضحنا ذلك.   1 لأبي القاسم البلخي، والقاضي عبد الجبار، والحاكم الجشمي ص 185- 186، "نشر: الدار التونسية للنشر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الأشاعر ة: لا يفتأ أئمة الأشاعرة يذكرون في كتبهم أنهم أهل السنة وأهل الحق، وأنهم هم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية. وهذا أمر لا يخفى على من قرأ كتبهم، وأنا أذكر فقط نماذج من كلامهم في ذلك على مر العصور: - كلام أبي بكر الباقلاني "ت 403 هـ"، وهو من تلاميذ أبي الحسن الأشعري: قال مثلًا في صفة الكلام التي خالفوا فيها السلف من أهل الحديث والسنة: "أعلم أن الله تعالى متكلم، له كلام عند أهل السنة والجماعة، وأن كلامه قديم ليس بمخلوق ولا مجعول ولا محدث بل كلامه قديم صفة من صفات ذاته، كعلمه وقدرته وإرادته ونحو ذلك"1. ثم قال في موطن آخر: "فإن قالوا: أليس تقولون إن كلام الله مسموع بحاسة الآذان على الحقيقة؟ قلنا: بلى، فإن قالوا: فليس يجوز أن يكون مسموعًا على الحقيقة؛ إلا ما كان صوتًا وحرفًا. فالجواب: أن هذا جهل عظيم؛ وذلك أن أهل السنة والجماعة قد أجمعوا على أن الله تعالى يرى بالأبصار على الحقيقة، ولا يجوز أن يرى على الحقيقة إلا ما كان جسمًا2 وجوهرًا3 وعرضًا4، أفتقولون إن الله تعالى، جسم   1 انظر: الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص 108، "ط. الثانية 1382 هـ. نشر: مؤسسة الخانجي". 2 لفظ "الجسم" فيه إجمال: فقد يراد به المركب الذي كانت أجزاؤه مفرقة فجمعت، أو ما يقبل التفريق والإنفصال، أو المركب من مادة وصورة، أو المركب من الأجزاء المفردة التي تسمى الجوهر الفرد والله تعالى منزع عن ذلك كله. وقد يراد بالجسم ما يشار إليه أو ما يرى، أو ما تقوم به الصفات، والله تعالى يرى في الآخرة، وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيدهم وقلوبهم ووجوهم وأعينهم، فإن أراد بقوله: "ليس بجسم" هذا المعنى، قيل له: هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلًا على نفيه، وأما اللفظ فبدعة نفيًا وإثباتًا؛ فليس في الكتاب ولا السنة ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها إطلاق لفظ الجسم في صفات الله تعالى لا نفيًا ولا إثباتًا. انظر: منهاج السنة لابن تيمية 2/ 97- 98. 3 الجوهر: ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع، وهو منحصر في خمسة هيولي، وصورة وجسم ونفس وعقل. انظر: الجرجاني، التعريفات 79. 4 العرض: الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى موضع؛ أي: محل يقوم به كاللون المحتاج في وجوده إلى جسم يحله ويقوم به. المصدر السابق 148، الإنصاف ص 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وجوهر وعرض، فإن قالوا: نعم فقد أقروا بصريح الكفر والتشبيه، وإن قالوا: يرى وليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، ولا يشبه شيئًا من المرئيات، قلنا: فكذلك كلامه قديم ليس بمخلوق ومسموع على الحقيقة، وليس بحرف ولا صوت1. فانظر كيف جعل هذا القول الذي هو من خصائص المذهب الكلابي، هو قول أهل السنة والجماعة، مع أن إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه, وسائر أئمة أهل الحديث المعروفين بالإمامة في السنة، قالوا بإثبات الحرف والصوت في كلام الله. وهذا يدل على أن الباقلاني يطلق اسم "أهل السنة والجماعة" على طائفة الأشعرية الكلابية، وهكذا كرر هذا الإطلاق في صفحات "144، 161، 162، 168"، من كتاب "الإنصاف". - كلام البغدادي "ت 429": قال: "فأما الفرقة الثالثة والسبعون؛ فهي: أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث، دون من يشري لهو الحديث، وفقهاء الفريقين وقراؤهم ومحدثوهم، ومتكلموا أهل الحديث منهم، كلهم متفقون على مقالة واحدة في توحيد الصانع وصفاته، وعدله. مع قبول ما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. وقال في بيان أنهم الفرقة الناجية: "ولسنا نجد اليوم من فرق الأمة من هم على موافقة الصحابة رضي الله عنهم غير أهل السنة والجماعة من فقهاء الأمة ومتكلميهم الصفاتية، دون الرافضة، والقدرية"3.   1 الإنصاف ص 136. 2 انظر: الفرق بين الفرق، "بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، نشر: دار المعرفة - بيروت"، ص 26. 3 نفس المصدر ص 318. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ثم لما بين الأصول التي اجتمعوا عليها ذكرها على منهج الأشاعرة الكلابية، وفيها الكثير من المخالفة لمنهج السلف1. كقوله إن حديث الآحاد يوجب العمل دون العلم، وكقوله في نفي الحركة عن الله عز وجل، واقتصاره على إثبات سبع صفات الله عزك وجل2 وكل ذلك على مذهب الأشاعرة والكلابية، أما أهل السنة من سلف الأمة فقولهم في كل ذلك على خلاف ما ذكر. -كلام أبي المظفر الإسفرائيني "ت 471 هـ": قال: "والفرقة الثالثة والسبعون هي الناجية، وهم: أهل السنة والجماعة من أصحاب الحديث والرأي وجملة فرق الفقهاء"3. ثم لما ذكر اعتقادهم ذكر ما عليه الأشاعرة من نفي الاستواء، والحروف والصوت عن كلام الله عز وجل، وتأويل صفة الرحمة وغيرها من الصفات الفعلية وغير ذلك مما هو مخالف لعقيدة السلف ومصادم للكثير من النصوص الصحيحة الصريحة4. - كلام الجويني "ت 478 هـ": قال في مقدمة كتابه "لمع الأدلة": "هذا وقد استدعيتم -أرشدكم الله عز وجل- ذكر لمع من الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة"، ثم ذكر عقيدة الأشاعرة، كقولهم في كلام الله أنه كلام نفسي ليس بحروف ولا   1 نفس المصدر: انظر: ص325، 333، 334. 2 نفس المصدر ص325. 3 انظر: التبصير في الدين، "بتحقيق كمال يوسف الحوت، ط. الولي نشر: عالم الكتب"، ص25. 4 انظر: نفس المصدر ص158 - 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 صوت1. -كلام الغزالي "ت505 هـ": قال في كتابه "قواعد العقائد" بعد أن سرد مسائل الاعتقاد على منهج الأشاعرة -كقولهم بالنفي المفصل في صفات الله، فقال: "وإنه ليس بجسم مصور ولا جوهر محدود مقدر. وأنه ليس بجوهر ولا بعرض؛ فكل ذلك مما وردت به الأخبار وشهدت به الآثار؛ فمن اعتقد جميع ذلك موقنًا به كان من أهل الحق وعصابة السنة، وفارق رهط الضلال وحزب البدعة"2. وقال في "الاقتصاد في الاعتقاد": "الحمد لله الذي اجتبي من صفوة عباده عصابة الحق وأهل السنة"3. - كلام الرازي "ت 606 هـ": قال في كتابه "معالم أصول الدين": "قال الأكثرون من أهل السنة: كلام الله واحد"4 وهذا قول الكلابية والأشاعرة وليس بقول أهل السنة والحديث. - كلام أحمد بن موسى الخيالي "ت 862 هـ": قال في "حاشيته على العقائد النسفية": "الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة.   1 لمع الأدلة "بتحقيق د. فوقية حسين محمود، ط. الأولى 1385 هـ، نشر: المؤسسة المصرية العامة للتأليف"، ص 75، وص 92. 2 ص 71. قواعد العقائد، "بتحقيق موسى محمد علي، ط. الثانية 1405، نشر: عالم الكتب - بيروت"، ص 71، وانظر: ص51. 3 ص 3، "ط. الأولى 1403 هـ، نشر: دار الكتب العلمية -بيروت". 4 معالم أصول الدين، "بتقديم طه عبد الرؤوف سعد، نشر: مكتب الكليات الأزهرية - القاهرة"، ص 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 هذا هو المشهور في ديار خراسان والعراق والشام، وأكثر الأقطار، وفي ديار ما وراء النهر يطلق ذلك على الماتريدية أصحاب الإمام أبي منصور"1. - كلام إبراهيم بن محمد البيجوري "ت 1277 هـ": قال في "شرح جوهرة التوحيد"2: "وأما عند أهل السنة فالحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع". وهذا قول الأشاعرة وليس هو قول السلف من أهل السنة. -كلام الدكتور محمد سعيد رمضان "من الأشاعرة المعاصرين": قال في معرض كلامه على مسألة كلام الله عز وجل: "ثم إن المعتزلة فسروا هذا الذي أجمع المسلمون على إثباته لله تعالى، بأنه أصوات وحروف يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ وجبريل، ومن المعلوم أنه حادث وليس بقديم، ثم إنهم لم يثبتوا لله تعالى شيئًا آخر من وراء هذه الأصوات والحروف تحت اسم: الكلام. -قال-: أما جماهير المسلمين، أهل السنة والجماعة؛ فقالوا: إننا لا ننكر هذا الذي تقوله المعتزلة؛ بل نقول به ونسميه كلامًا لفظيًا، ونحن جميعًا متفقون على حدوثه وأنه غير قائم بذاته تعالى، من أجل أنه حادث؛ ولكنا نثبت أمرًا وراء ذلك وهو الصفة القائمة بالنفس"3. وهذا القول من خصائص المذهب الكلابي الذي عليه الأشاعرة، ولم   1 المرتضى الزبيدي: إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 2/ 6، "نشر: دارالفكر". 2 تحفة المريد ص 30- 31. 3 كبرى اليقينيات الكونية ص 125، "نشر: دار الفكر - بيروت، 1405 هـ مصور عن طبعة 1982 م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 يوافقهم عليه أحد من أئمة الحديث وأهل السنة من سلف هذه الأمة؛ فجعل الدكتور البوطي أصحاب هذا المعتقد في كلام الله هم أهل السنة. - كلام وهبي سليمان غاوجي الألباني "من الأشاعرة المعاصرين": قال: "الفرق في شأن صفات الله تعالى ثلاث: أهل السنة والجماعة، وهم المثبوت لله تعالى كل صفة كمال ورد بها الدليل القطعي"1. ثم ذكر أقسام الصفات على منهج الأشاعرة: وهكذا نرى الأشاعرة يعلنون منذ نشأتهم وإلى اليوم أنهم هم أهل السنة، وأنهم الفرقة الناجية دون غيرهم. ونراهم ينصون على سبب استحقاقهم هذا اللقب، وكونهم الفرقة الناجية. وهو: إتباعهم لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه من بعده. فيقول البغدادي: ولسنا نجد اليوم من فرق الأمة من هم على موافقة الصحابي رضي الله عنه غير أهل السنة والجماعة، من فقهاء الأمة ومتكلميهم الصفاتية2. وقال قبل ذلك عندما ذكر الفرقة الثالثة والسبعين وأنهم أهل السنة والجماعة وذكر مما يجمع هذه الفرقة: "والإقرار بتوحيد الصانع، ومع قبول ما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"3. ويقول الإسفراييني: في سبب نجاة أهل السنة وهو متابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم: "وليس في فرق الأمة أكثر متابعة لأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكثر تبعًا لسنته من   1 أركان الإيمان ص 25. 2 الفرق بين الفرق ص 318. 3 نفس المصدر 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 هؤلاء، ولهذا سموا: أصحاب الحديث، وسموا بأهل السنة والجماعة"1. إذن إتباع ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هو الضابط لاستحقاق لقب "أهل السنة" والفوز بالنجاة. وهذا ضابط مهم لمعرفة أهل السنة من غيرهم؛ فهل التزم الأشاعرة بذلك وحققوا الإتباع كما ادعوا؟ أم أنهم قدموا على السنة غيرها، وحكموا فيها العقل، وصرفوها عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ومستنكرات التأويلات؟ ذلك ما سيتضح لنا فيما بعد إن شاء الله. وقبل ذلك علينا أن نعرف ما هو الطريقة لمعرفة السنة، وبأي شيء تدرك؟   1 التبصير في الدين ص 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 رابعًا: طريق معرفة السنة وإدراكها إذا كانت السنة هي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه لا سبيل إلى معرفتها إلا بالنقل لا غير. بالنقل الصحيح نعرف ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل للعقل إلى ذلك البتة. وبالاتباع لما جاء به النقل من ذلك تدرك السنة. يقول إمام أهل السنةمن غير منازع الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه "ت 241 هـ": "وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، والأهواء؛ إنما هي الإتباع، وترك الهوى"1. ويقول الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين "324- 399 هـ": "أعلم رحمك الله أن السنة دليل القرآن، أنها لا تدرك بالقياس، ولا تؤخذ بالعقول،   1 اللالكائي، شرح أصول أهل السنة 1/ 156- 158، وابن الجوزي مناقب الإمام أحمد 1/ 1- 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وإنما هي في الإتباع للأئمة، ولما مشى عليه جمهور هذه الأمة"1. ويقول الإمام أبو نصر السجزي2 "ت 444 هـ": "ولا خلاف بين العقلاء في أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعلم بالعقل، وإنما تعلم بالنقل"3. وقال: "فكل مدع للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله فإن أتى بذلك علم صدقه، وقيل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف، علم أنه محدث زائغ"4. وقال أبو المظفر السمعاني "489 هـ": "فلا بد من تعرف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وليس طريق معرفتنا إلا النقل، فيجب الرجوع إلى ذلك"5. أما شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه يقول في هذا الصدد: "إن السنة التي يجب اتباعها، ويحمد أهلها، ويذم من خالفها، هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الاعتقادات، وأمور العبادات، وسائر أمور الديانات؛ وذلك إنما يعرف بمعرفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه في أقواله وأفعاله، وما تركه من قول،   1 أصول السنة 1/ 20، "بتحقيق محمد إبراهيم هارون"، على الآلة الكاتبة رسالة ماجستير. 2 هو: عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوايلي: له كتاب الإبانة في الرد على الزائغين، وكتاب الرد على من أنكر الحرف والصوت، توفي سنة 444 هـ. وقد قدمت عنه دراسة موسعة في مقدمة تحقيق كتاب الرد على من أنكر الحرف والصوت، الذي نلت به درجة الماجستير من الجامعة الإسلامية، ونشره المجلس العلمي بها. راجع ص 18- 46. وانظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 17/ 654- 657، وتذكرة الحفاظ 3/ 1118- 1120. 3 الرد على من أنكر الحرف والصوت، ص 99، "ط. الأولى، 1413 هـ". 4 الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 111. 5 الانتصار لأهل الحديث، ضمن كتاب: صون المنطق للسيوطي ص 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وعمل، ثم ما كان عليه السابقون والتابعون لهم بإحسان، وذلك في دواوين الإسلام المعروفة"1. هذا كلام أهل العلم من أئمة أهل السنة يبين في جلاء أن السنة لا سبيل لمعرفتها وإدراكها إلا بالنقل الثابت الصحيح، والاتباع المحض لما ثبت منها. فما هو موقف الأشاعرة، من النقل؟ الذي هو السبيل الوحيد. لمعرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ذلك ما سنقف عليه في الفقرة التالية.   1 الوصية الكبرى، "بتحقيق أبي عبد الله محمد بن حمد الحمود، ط. الأولى 1407 هـ، نشر: مكتبة ابن الجوزي -الإحساء" ص 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 خامسًا: موقف الأشاعرة من النقل عمومًا والسنة خصوصًا إذا تأملنا كتب القوم، تجدهم يجعلون العقل هو الأساس، والنقل تبعًا له، ولا يخلوا النقل مع العقل من إحدى الحالات الآتية: 1- إما أن يكون النقل قطعي الثبوت كالمتواتر مثلًا، موافقًا للعقل؛ فهذا يقبلونه، لموافقته مقتضى العقل وكونه موجبًا للعمل. 2- وإما أن يكون قطعيًا، مخالفًا للعقل. وله حالتان: 1- أن يمكن تأويله بما يوافق العقل فيجب تأويله، ويقبل النقل ويؤول. 2- أن لا يمكن تأويله، وهذا يرد لمخالفته العقل، والعقل مقدم على النقل عندهم. 3- وإما أن يكون النقل ليس بقطعي -عندهم- كخبر الآحاد وله ثلاث حالات: 1- أن يكون موافقًا لمقتضى العقل: فهذا يقبل لموافقته العقل لا لذاته. 2- أن يكون مخالفًا لمقتضى العقل، لكن يمكن تأويله بما يوافق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 مقتضى العقل؛ فهذا يشتغل بتأويله على سبيل التبرع، وإلا فليسوا ملزمين بتأويله؛ لأنه ليس يجب تأويل إلا ما كان موجبًا للعلم وهو المتواتر، أما الآحاد فليس كذلك. 3- أن يكون مخالفًا لمقتضى العقل ولا يمكن تأويله؛ فهذا حكمه الرد لعدم إيجابه للعلم أصلًا، وعدم إمكان تأويله. هذه خلاصة موقف القوم من النقل، وإليك كلامهم من كتبهم في بيان موقفهم من النقل، مراعيًا الترتيب الزمني لنقف على تطور موقفهم: 1- كلام ابن فورك "ت 406 هـ": قال: "وأما ما كان من نوع الآحاد، مما صحت الحجة به، من طريق وثاقة النقلة، وعدالة الرواة، واتصال نقلهم؛ فإن ذلك -وإن لم يوجب العلم والقطع فإنه- يقتضي غالب الظن وتجويز حكم"1. 2 كلام البغدادي "ت 429 هـ": قال: "والأخبار عندنا ثلاثة أقسام: متواتر، وآحاد، ومتوسط، بينهما مستفيض جار مجرى التواتر في بعض أحكامه. فالمتوتر: هو الذي يستحيل التواطؤ على وضعه وهو موجب للعلم الضروري بصحة مخبره. وأخبار الآحاد: متى صح إسنادها، وكانت متونها غير مستحيلة، وفي العقل، كانت موجبة للعمل بها دون العلم، وكانت بمنزلة شهادة العدول عند الحاكم، يلزم الحكم بها في الظاهر وإن لم يعلم صدقهم في الشهادة"2.   1 مشكل الحديث وبيانه ص 5، وانظر أيضًا: ص 269. 2 أصول الدين ص 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وقال في شروط قبول خبر الآحاد: "والشرط الثالث: أن يكون متن الخبر مما يجوز في العقل كونه. فإن روى الراوي ما يحيله العقل، ولم يحتمل تأويلًا صحيحا فخبره مردود. وإن كان ما رواه الراوي الثقة يروع1 ظاهره في العقول؛ ولكنه يحتمل تأويلًا يوافق قضايا العقول قبلنا روايته وتأولناه على موافقة العقول"2. 3- كلام الجويني "478 هـ": قال في باب القول في "السمعيات": "اعلموا -وفقكم الله تعالى- أن أصول العقائد تنقسم إلى ما يدرك عقلًا، ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعًا، وإلى ما يدرك سمعًا، ولا يتقدر إدراكه عقلًا، وإلى ما يجوز إدراكه سمعًا وعقلًا؛ فإذا ثبتت هذه المقدمة، فيتعين بعدها على كل معتن بالدين واثق بعقله أن ينظر يما تعلقت به الأدلة السمعية؛ فإن صادفه غير مستحيل في العقل، وكانت الأدلة السمعية قاطعة في طرقها، لا مجال للاحتمال في ثبوت أصولها ولا في تأويلها، فما هذا سبيله، فلا وجه إلا القطع به. وإن لم تثبت الأدلة السمعية بطرق قاطعة، ولم يكن مضمونها مستحيلًا في العقل، وثبتت أصولها قطعًا، ولكن طريق التأويل يجول فيها؛ فلا سبيل إلى القطع، ولكن المتدين يغلب على ظنه ثبوت ما دل الدليل السمعي على ثبوته وإن لم يكن قاطعًا.   1 يروع؛ أي: يفزع. انظر: لسان العرب 8/ 135. 2 أصول الدين ص 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وإن كان مضمون الشرع المتصل بنا مخالفًا العقل؛ فهو مردود قطعًا بأن الشرع لا يخالف العقل، ولا يتصور في هذا القسم ثبوت سمع قاطع"1. فبين رحمه الله ما يقبل من النقل والسمع وما يرد، وما يتأول، وبين في كتاب "لمع الأدلة" أن النقل يقبل إذا كان مضمونه مما يجوز في العقل فقال: "كل ما جوزه العقل، وورد به الشرع، وجب القضاء بثبوته"2. كما أوضح في "الشامل" أنه لا يتحتم عليهم تأويل كل حديث ورد مخالفًا للعقل؛ وإنما يجب عليهم تأويل الأحاديث التي توجب العلم وهي المتواترة، بخلاف الآحاد. قال: "وليس يتحتم علينا أن نتأول كل حديث مختلف، كيف وقد بينا أن ما يصح في الصحاح من الآحاد لا يلزم تأويله، إلا أن نخوض فيه مسامحين، فإنه إنما يجب تأويل ما لو كان نصًا لأوجب العلم"3. 4- كلام الغزالي "ت 505 هـ": قال بعد أن قسم ما لا يعلم بالضرورة إلى: ما يعلم بدليل العقل دون الشرع. وإلى ما يعلم بالشرع دون العقل، وإلى ما يعلم بهما. ثم كلما ورد السبمع به ينظر: فإن كان العقل مجوزًا له، وجب التصديق به قطعًا، وإن كانت الأدلة السمعية قاطعة في متنها ومستندها لا يتطرق إليها احتمال. وأما ما قضى العقل باستحالته، فيجب تأويل ما ورد السمع به، ولا   1 الإرشاد إلى قواطع الأ دلة في أصول الاعتقاد ص 358- 360، "بتحقيق محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم، ط. 1369 هـ. مطبعة السعادة، نشر: مكتبة الخانجي". 2 ص 112. 3 1/ 561. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 يتصور أن يشمل السمع على قاطع مخالف للمعقول. وظواهر أحاديث التشبيه أكثرها غير صحيحة، والصحيح منها ليس بقاطع؛ بل هو قابل للتأويل. فإن توقف العقل في شيء من ذلك فلم يقض فيه باستحالة ولا جواز، وجب التصديق أيضًا لأدلة السمع؛ فيكفي في وجوب التصديق انفكاك العقل عن القضاء بالإحالة، وليس يشترط اشتماله على القضاء بالجواز1. ثم بين أن هذا القسم غير جائز اعتقاد ما جاء به في حق الله تعالى لتوقف العقل فيه؛ وإنما يجوز في حق الله ما دل العقل على جوازه؛ فقال: "وبين الرتبتين فرق ربما يزل ذهن البليد حتى لا يدرك الفرق بين قول القائل: أعلم أن الأمر جائز، وبين قوله: لا أدري أنه محال أم جائز، وبينهما ما بين السماء والأرض؛ إذ الأول جائز على الله تعالى، والثاني غير جائز، فإن الأول: معرفة بالجواز. والثاني: عدم معرفة بالإحالة، ووجب التصديق جائز في القسمين جميعًا"2. 5- كلام فخر الدين الرازي "ت 606 هـ": وضع الرازي ما يسمى بالقانون الكلي، الذي يرجع إليه عند تعارض العقل والنقل -بزعمهم، وإلا فإن النقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح- فقال في كتابه الموسوم بأساس التقديس: "الفصل الثاني والثلاثون: في أن البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظواهر النقلية فكيف يكون الحال فيها؟. اعلم أن الدلائل القطعية إذا قامت على ثبوت شيء، ثم وجدنا أدلة نقلية   1 الاقتصاد في الاعتقاد ص 132- 133. 2 نفس المصدر ص 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 يشعر ظاهرها بخلاف ذلك؛ فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة: 1- إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل. فيلزم تصديق النقيضين وهو محال. 2- وإما أن يبطل، فيلزم تكذيب النقيضين وهو محال. 3- وإما أن يصدق الظواهر النقلية، ويكذب الظواهر العقلية، وذلك باطل؛ لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية، إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته. وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهور المعجزات على محمد، ولو جوزنا القدح في الدلائل العقلية، صار العقل متهمًا غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة، فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل، يفضي إلى القدح في العقل والنقل معًا، وأنه باطل. ولما بطلت الأقسام الأربعة1 لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال: 1- إنها غير صحيحة. 2 أو يقال: إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها. ثم إن جوزنا التأويل واشتغلنا به على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم يجز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى؛ فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جمع المتشابهات2. وقال أيضًا في شروط إفادة الدليل اللفظي اليقين:   1 لم يتقدم إلا ذكر ثلاثة. والرابع هو ما ذكره بعد ذلك. 2 ص 172- 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 مسألة: الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلا عند تيقن أمور عشرة: 1- عصمة رواة مفردات الألفاظ. 2- وإعرابها. 3- وتصريفها. 4- وعدم الاشتراك. 5- والمجاز. 6- والنقل. 7- والتخصيص بالأشخاص والأزمنة. 8- وعدم الإضمار والتأخير والتقديم. 9- والنسخ. 10- وعدم المعارض العقلي الذي لو كان لرجح عليه؛ إذ ترجيح النقل على العقل يقتضي القدح في العقل المستلزم للقدح في النقل؛ لافتقاره إليه، وإذا كان المنتج ظنيًا فما ظنك بالنتيجة؟ 1. وبنحو هذا قال الإيجي "750 هـ" أيضًا2. ومن الأشاعرة المعاصرين يقول د. محمد سعيد رمضان البوطي: "ولكن الصحيح نفسه يرقى في درجات متفاوته، تبدأ من الظن القوي إلى الإدراك اليقيني؛ فإذا كانت السلسلة التي توفرت فيها مقومها الصحة مكونة من آحاد الرواة الذين ينتقل الخبر بينهم فهو لا يعدو أن يكون خبرًا ظنيًا في حكم العقل.   1 محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ص 51. 2 المواقف في علم الكلام ص 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فأما الظني من الخبر الصحيح فلال يعتد به الحكم الإسلامي في بناء العقيدة؛ لأنه إنما يفيد الظن، ولقد نهى القرآن -في مجال البحث في العقيدة- عن اتباع الظن"1. وهكذا نرى الأشاعرة في ماضيهم، وحاضرهم، يقفون من النقل والمسع موقفًا ليس لهم سلف فيه إلا المعتزلة. فقد جعلوا العقل أصلًا يرجع إليه، وجعلوا ما جاءت به الأنبياء تبعًا له؛ فما وافق عقولهم قبلوه، وما خالفها ردوه، أو تأولوه على مقتضى عقولهم. فهل هذا الموقف الذي اتخذه الأشاعرة من النقل بصفة عامة، ومن السنة بصفة خاصة، يؤهلهم لأن يكونوا هم أهل السنة؟ كيف وقد عد أهل العلم بالسنة من أهم ما يميز أهل السنة من أهل البدعة تقديم النقل والأثر والاحتكام إليهما؛ كما يقول أبو المظفر السمعاني: "وأعلم أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو: مسألة العقل؛ فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الإتباع والمأثور تبعًا للمعقول. وأما أهل السنة قالوا: الأصل في الدين الإتباع، والعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول، لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء صلوات الله عليهم، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء"2. وعدوا من أهم علامات أهل السنة أنهم عند التنازع يدعون إلى التحاكم إليها دون آراء الرجال وعقولها؛ بينما أهل البدع يدعون إلى التحاكم إلى آراء الرجال ومعقولاتها3.   1 كبرى اليقينيات ص 35- 36. 2 الانتصار لأهل الحديث، ضمن صون المنطق للسوطي ص 182. 3 ابن القيم، مختصر الصواعق المرسلة 2/ 627. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وهؤلاء -الأشاعرة- يقضي قانونهم الكلي الذي وضعوه، بالرجوع عند الاختلاف إلى العقل كما تقدم. فما جوزه قبل، وما اعتبره مستحيلًا وجب تأويله إن كان قطعي الثبوت، وإن كان ظنيًا اشتغل بتأويله على سبيل التبرع، أورد لعدم حجيته. وبذلك ردوا، وأولوا كثيرًا من نصوص الشرع، مما أفضى بهم إلى القول بقول الجهمية تارة، كما في مسألة الإيمان مثلًا، والقدر، ويقول المعتزلة تارة في نفي وتأويل بعض الصفات التي جاء بها السمع الصحيح. ولا نشتغل بذكر ذلك هنا؛ إذ سنبين موضعهم عند الكلام على وسطية أهل السنة بين طرفي الإفراط والتفريط، في كل باب إن شاء الله تعالى. وإنما اكتفى هنا بالإشارة إلى أن موافقتهم للمعتزلة في قضية العقل والنقل جرتهم غلى موافقتهم في كثير مما خالفوا فيه السلف من أهل السنة والحديث والأثر. وبعد هذا العرض لموقف الأشاعرة من قضية النقل، وما ترتب عليه من مخالفة السلف، وموافقة أهل البدع. يتبين لنا أن دعوى الأشاعرة أنهم أهل السنة دعوى عريضة لم يستطيعوا أن يدللوا عليها؛ فهم لم يلتزموا بها برروا به اعتبار أنفسهم أهل السنة والفرقة الناجية وهو زعمهم أنهم هم من بين فرق الأمة الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه1. وأنهم يقبلون ما صح من سنته صلى الله عليه وسلم2. فإنهم وإن قبلوا شيئًا من سنته صلى الله عليه وسلم، لم يقبلوه لكونه سنة يجب التسليم   1 تقدم ص 56، وانظر: البغدادي، الفرق بين الفرق ص318. 2 تقدم ص 56، وانظر: البغدادي، الفرق بين الفرق ص26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 لها؛ وإنما قبلوه لكون العقل دل على ما جاءت به السنة، بدليل أنه إذا كان النص وإن صح معارضًا للعقل -في نظرهم- لم يقبل، فإما أن يرد أو يؤول كما تقدم. ومن كان هذا حاله لا يكون من أهل السنة، وإن أصاب السنة كما جاء عن الإمام أحمد، إن صاحب الكلام لا يكون من أهل السنة وإن أصابها1. لأنه لم يستمد من السنة أو يتلقي منها ويسلم لها؛ فمن تلقى من السنة واستمد منها فهو من أهلها وإن أخطأ -أي: في فهمها، ومن تلقى من غيرها؛ فقد أخطأ وإن وافقها في النتيجة.   1 اللالكائي، شرح أصول أهل السنة 1/ 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 سادسًا: سلف الأشاعرة وموقف أهل السنة منهم سلف الأشاعرة: قبل أن أذكر مواقف أهل العلم من ادعاء الأشاعرة أنهم أهل السنة، أرى أن نتعرف على سلف الأشاعرة، وموقف علماء أهل السنة من السلف منهم. تشير المصادر التي بين أيدينا بما فيها كتب الأشاعرة أنهم -إلى أن سلفهم في مقالتهم هو عبد الله بن سعيد بن كلاب1، وأبو العباس القلانسي2، والحارث المحاسبي3.   1 وهو: أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان، صاحب التصانيف في الرد على المعتزلة، وربما وافقهم. وكلاب مثل خطاف وزنا ومعنى، لقب به لقوته في المناظرة؛ لأنه كان يجر الخصم إلى نفسه ببيانه وبلاغته، وأصحابه هم الكلابية، أدرك بعضهم أبو الحسن الأشعري، توفي بعد الأربعين ومائتين. انظر ترجمته في: الفهرست لابن النديم 230، والسير للذهبي 11/ 174. 2 وهو: أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خالد القلانسي الرازي. انظر: ابن عساكر، تبيين كذب المفتري ص 398. 3 وهو: الحارث بن أسد المحاسبي البغدادي من الزهاد المتكلمين على العبادة والزهد. وكان فقيهًا متكلمًا، توفي سنة 243 هـ. انظر ترجمته في: الفهرست لابن النديم 236، وميزان الاعتدال للذهبي 1/ 430- 431، والكامل لابن الأثير 5/ 298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 يقول الشهرستاني "479- 548 هـ" -بعد أن بين أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون صفات الله عز وجل من غير تفرقة بين الصفات الذاتية منها والصفات الفعلية: "حتى انتهى الزمان إلى عبد الله بن سعيد الكلابي، وأبي العباس القلانسي، والحارث بن أسد المحاسبي. وهؤلاء كانوا من جملة السلف إلا أنهم باشروا علم الكلام، وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية، وبراهين أصوليه، وصنف بعضهم، ودرس بعض، حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه1 مناظرة في مسائل من مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما، وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة، فأيد مقالتهم بمناهج كلامية، وصار ذلك مذهبًا لأهل السنة والجماعة، وانتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية"2. وكلام الشهرستاني يفيد صراحة؛ أن مذهب الأشعرية إنما تلتمس أصوله لدى جماعة من الصفاتية باشروا الكلام وأثبتوا الصفات من أمثال الكلابي، والقلانسي والمحاسبي3. ويعتبر الأشاعرة ابن كلاب، إمام أهل السنة في عصره، ويعدونه شيخهم الأول فيقولون: "ذهب شيخنا الكلابي عبد الله بن سعيد إلى"4. كما يذكرونه وكذا القلانسي في كتبهم مشيرين إلى أنهما من أصحابهم5.   1 وهو شيخه: أبو علي الجبائي. 2 الملل والنحل 1/ 93. 3 د. أحمد محمود صبحي. في علم الكلام ص 422. 4 الشهرستاني، نهاية الإقدام 303. 5 انظر: البغدادي، أصول الدين ص 87، 97، 234، والجويني الإرشاد ص 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فهؤلاء هم سلف الأشعرية، وقد كانوا من جملة السلف، ثم باشروا علم الكلام، فجرهم ذلك إلى مخالفة السلف في بعض ما يقولون وموافقة المعتزلة في بعض أصولهم، وأشهر ما خالفوا فيه السلف ووافقوا فيه المعتزلة مسألة قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين: فأهل السنة والجماعة: يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها. والجهمية من المعتزلة وغيرهم: تنكر هذا، وهذا. فأثبت ابن كلاب: قيام الصفات اللازمة به، ونفي أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي وأبو الحسن الأشعري1 وغيرهما"2. فوافق السلف والأئمة من أهل السنة في إثبات الصفات، ووافق الجهمية في نفي قيام الأفعال الاختيارية وما يتعلق بمشيئته وقدرته؛ فكان في مسلكهم ميل إلى البدع ومخالفة للسنة ومقارفة للكلام مما جعل علماء السلف من أهل السنة يحذرون منهم. وقد كان الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة "164- 241 هـ" من أشدهم في ذلك؛ فقد هجر الحارث بن أسد المحاسبي لأجل ذلك. كما   1 أبو الحسن الأشعري رحمه الله ثبت رجوعه إلى مذهب السلف في ذلك على ما جاء في كتابي الإبانة، والمقالات. 2 درة تعارض العقل والنقل 2/ 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 يقول: أبو القاسم النصر أباذي1: "بلغني أن الحارث المحاسبي تكلم في شيء من الكلام فهجره أحمد بن حنبل فاختفى، فلما مات لم يصل عليه؛ إلا أربعة نفر"2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر من ابن كلاب وأتباعه"3. وقال: "والإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة كانوا يحذرون من هذا الأصل الذي أحدثه ابن كلاب ويحذرون من أصحابه". وهذا هو سبب تحذير الإمام أحمد عن الحارث المحاسبي ونحوه من الكلابية4. وقال الإمام أبو بكر ابن خزيمة "ت 311 هـ" لما قال له أبو علي الثقفي5: "ما الذي أنكرت أيها الأستاذ من مذاهبنا حتى نرجع عنه؟   1 وهو إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمويه الخراساني النصرآباذيِ، كان عالمًا بالحديث، وكان من شيوخ الصوفية في وقته، نزل مكة وتوفي بها سنة 367 هـ. انظر ترجمته: الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 6/ 169، والسمعاني: الأنساب 5/ 492، والذهبي: سير أعلام النبلاء 16/ 263. 2 الذهبي: ميزان الاعتدال 1/ 430، وابن حجر: تهذيب التهذيب 2/ 153. 3 درء تعارض العقل والنقل 2/ 6. 4 الفتاوى 12/ 368. 5 وهو: محمد بن عبد الوهاب بن عبد الرحمن، أبو علي الثقفي، ذكر الحاكم أنه كان إمامًا في الفقه والكلام، والوعظ والورع، روى عنه أبو بكر ابن إسحاق "ابن خزيمة"، مات سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. انظر: تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، طبقات الشافعية الكبرى 3/ 192، "بتحقيق محمود الطناحي، وعبد الفتاح الحلو، ط. الأولى 1383 هـ - 1964". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 قال: ميلكم إلى مذهب الكلابية؛ فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره"1. وكان ابن خزيمة رحمه الله شيخ الإسلام وإمام الأئمة في زمنه، شديدًا على الكلابية، منابذًا لهم. فإذا كان هذا موقف إمام أهل السنة أحمد بن حنبل من الكلابية الذين هم سلف الأشاعرة، مع موافقتهم لأهل السنة في أكثر أقوالهم كما يدل عليه قول أبي الحسن الأشعري: "فأما أصحاب عبد الله بن سعيد القطان؛ فإنهم يقولون بأكثر مما ذكرناه عن أهل السنة"2. وكان ابن كلاب والمحاسبي يثبتون لله صفة العلو، والاستواء على العرش، كما يثبتون الصفات الخبرية كالوجه واليدين وغيرهما3. فكيف بمتأخري الأشاعرة الذين يؤولون ذلك كله، ويوافقون المعتزلة والجهمية في كثير من أقوالهم، مخالفين بذلك أئمة السلف من أهل السنة بل مخالفين سلفهم ابن كلاب وأصحابه. فما هو موقف علماء أهل السنة منهم؟ وهل أقروهم على دعواهم أنهم أهل السنة؟ ذلك ما سنقف عليه في الصفحات التالية:   1 الذهبي، سير أعلام النبلاء، ترجمة ابن خزيمة 14/ 380. 2 مقالات الإسلاميين 1/ 350. 3 انظر: ابن تيمية، درء التعارض 3/ 380- 381، 5/ 248، 6/ 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 سابعا: موقف علماء أهل السنة من دعوى الأشاعرة أنهم أهل السنة القول الأول ... سابعًا: موقف علماء أهل السنة من دعوى الأشاعرة أنهم أهل السنة بتتبع كلام أهل العلم من علماء أهل السنة نجد أقوالهم في ذلك متفاوتة ما بين متشدد، دعاه لذلك ما وقف عليه من مخالفة القوم للسنة، وموافقتهم للجهمية والمعتزلة في بعض أقوالهم؛ فبدعهم وحذر منهم ولم ير استحقاقهم للقب "أهل السنة" الذي يدعونه. وبين متساهل يعدهم من أهل السنة، لما رأى من موافقتهم للسنة في بعض المسائل. وبين هؤلاء وهؤلاء حاول بعض من أهل العلم التدقيق في المسألة والقول فيها بشيء من التفصيل. وفرق بعض أهل العلم بين متقدميهم ومتأخريهم؛ فعد المتقدمين منهم أقرب إلى أهل الحديث والسنة، المتأخرين أقرب إلى الجهمية والمعتزلة. وإليك تفصيل أقوالهم مرتبة حسب التصنيف ألذي ألمحنا إليه: القول الأول: قول بعض أهل العلم: أن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة وإنما هم أهل كلام، عدادهم في أهل البدعة. وممن ذهب إلى ذلك: الإمام أبو نصر السجزي1 "ت 444 هـ"؛ حيث يرى أنهم محدثة وليسوا أهل السنة؛ فيقول في فصل عقده لبيان السنة ما هي؟ وبم يصير المرء من أهلها؟ "فكل مدع للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله، فإن أتى بذلك علم صدقه، وقيل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف، علم أنه محدث زائغ، وأنه لا يستحق أن يصغي إليه أو ينظر في قوله، وخصومنا المتكلمون معلوم منهم أجمع اجتناب النقل والقول به بل تمحينهم لأهله ظاهر، ونفورهم عنهم بين، وكتبهم عارية عن إسناد بل يقولون: قال الأشعري، وقال ابن كلاب، وقال القلانسي، وقال الجبائي.   1 تقدمت له ترجمة ص 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ومعلوم أن القائل بما ثبت من طريق النقل الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسمى محدثًا؛ بل يسمى سنيًا متبعًا، وأن من قال في نفسه قولًا وزعم أنه مقتضي عقله، وأن الحديث المخالف لا ينبغي أن يلتفت إليه؛ لكونه من أخبار الآحاد، وهي لا توجب علمًا، وعقله موجب للعلم يستحق أن يسمى محدثًا مبتدعًا، مخالفًا، ومن كان له أدنى تحصيل أمكنه أن يفرق بيننا وبين مخالفينا يتأمل هذا الفصل في أول وهلة، ويعلم أن أهل السنة نحن دونهم، وأن المبتدعة خصومنا دوننا"1. بل يذهب رحمه الله أبعد من ذلك فيرى أن ضررهم أكثر من ضرر المعتزلة؛ فيقول: "ثم بلي أهل السنة بعد هؤلاء -أي: المعتزلة- بقوم يدعون أنهم من أهل الاتباع، وضررهم أكثر من ضرر المعتزلة وغيرهم وهم أبو محمد بن كلاب وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري"2. معللًا رأيه هذا بقوله: "فهؤلاء يردون على المعتزلة بعض أقاويلهم ويردون على أهل الأثر أكثر مما ردوه على المعتزلة"3، وقوله: "لأن المعتزلة قد أظهرت مذهبها ولم تستقف4 ولم تموه". بل قالت: إن الله بذاته في كل مكان وإنه غير مرئي، وأنه لا سمع له ولا بصر؛ فعرف أكثر المسلمين مذهبهم وتجنبوهم وعدوهم أعداء. والكلابية، والأشعرية قد أظهروا الرد على المعتزلة، والذب عن السنة وأهلها، وقالوا في   1 انظر: الرد على من أنكر الحرف والصوت ص100- 101 وانظر: ص62 من هذه الرسالة. 2 نفس المصدر 222. 3 نفس المصدر 223. 4 الاستقفاء: الإتيان من الخلف يقال: اقتفيته بالعصا، واستقفيته ضربت قفاه بها. انظر: لسان العرب 15/ 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 القرآن وسائر الصفات ما ذكرنا بعضه1"2. وممن عدهم من أهل البدع محمد بن أحمد بن خويز منداد المصري المالكي3؛ فقد روى عنه ابن عبد البر: أنه قال في كتاب الشهادات من كتابه "الخلاف"، في تأويل قول مالك: لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء4 قال: "أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام؛ فكل متكلم فهو   1 يشير رحمه الله إلى ما ذكره عنهم من قولهم في القرآن: إن الله تكلم به بلا أحرف ولا صوت، وتأويلهم للصفات كالاستواء والنزول والفوقية وغير ذلك. انظر مثلًا ص "82، 106، 107، 173"، وما بعدها من رسالة "الرد على من أنكر الحرف والصوت". 2 الرد على من الحرف والصوت ص177، 178. 3 قال ابن فرحون: هو محمد بن أحمد بن عبد الله ورأيت على كتبه بخطه: محمد بن أحمد بن علي بن إسحاق، تفقه على الأبهري، وله كتاب كبير في الخلاف. وكان بجانب الكلام، وينافر أهله، حتى يؤدي ذلك إلى منافرة المتكلمين من أهل السنة، ويحكم على الكل منهم بأنهم من أهل الأهواء الذين قال مالك: في مناكحتهم وشهادتهم وإمامتهم وتنافرهم ما قال. الديباج المذهب، "بتحقيق د. محمد الأحمدي أبو النور، نشر: دار التراث بالقاهرة"، 2/ 229. 4 في قبول شهادة أهل الأهواء والبدع أوردها عدة أقوال لأهل العلم ملخصها ما يلي: أولًا: من عرف من أهل البدع بالكذب واستحلال شهادة الزور على الخصوم فترد شهادته باتفاق، وذلك كغلاة الروافض كما قال الإمام الشافعي فيما رواه البيهقي: "أجيز شهادة أهل الأهواء كلهم؛ إلا الرافضة فإنه يشهد بعضهم لبعض"، وقال: "لم أر أشهد بالزور من الرافضة". ثانيًا: أما سائر أهل الأهواء ففي قبول شهادتهم ثلاثة أقوال: 1- القبول مطلقًا. 2- الرد مطلقًا. 3- تقبل إذ لم يكن المبتدع داعية لبدعته، وترد إذا كان داعية إلى ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا القول هو الغالب على أهل الحديث لا يرون الرواية عن الداعية إلى البدع ولا شهادته". راجع في هذا: منهاج السنة 1/ 62، ط. جامعة الإمام، وسنن البيهقي 10/ 52- 53، وشرح السنة للبغوي 1/ 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 من أهل الأهواء والبدع أشعريًا كان أو غير أشعري، ولا تقبل لها شهادة في الإسلام أبدًا، ويهجر ويؤدي على بدعته"1. ومن المتأخرين: الشيخ ابن سحمان2، والشيخ عبد الله أبو بطين3 كما سيأتي ذكر قولهما في ذلك في معرض ردهما على السفاريني في اعتباره الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة.   1 انظر: جامع بيان العلم وفضله 2/ 117 "ط. الثانية 1388، نشر: المكتبة السلفية بالمدينة المنورة". 2 وهو: سليمان بن مصلح بن حمدان الخثعمي العسيري أصلًا ومولدًا، ولد سنة 1266 هـ ببلاد عسير، ثم رحل مع أبيه إلى نجد، وأخذ على علمائها، له عدة مصنفات في الدفاع عن العقيدة السلفية شعرًا ونثرًا، مات في الرياض سنة 1349 هـ، انظر: عبد الله بن عبد الرحمن البسام، علماء نجد 1/ 279- 281، "ط. الأولى عام 1398. نشر: مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة بمكة. 3 وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن أبو بطين. أحد أكابر علماء نجد ولي القضاء في عدة أماكن منها، له مصنفات وردود على المخالفين، منها: الفتاوى، وتأسيس التقديس في الرد على ابن جرجيس، ولد في روضة سدير عام 1194، وتوفي بعنيزة سنة 1282 هـ. انظر: المصدر السابق 2/ 567. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 القول الثاني : قول من عدهم من أهل السنة، ومن هؤلاء: السفاريني "1114- 1118"؛ حيث قسم أهل السنة إلى ثلاث فرق فقال: "أهل السنة والجماعة ثلاث فرق": 1- الأثرية: وإمامهم أحمد بن حنبل. 2- والأشعرية: وإمامهم أبو الحسن الأشعري1.   1 ثبت رجوع أبي الحسن عما عليه الأشعرية إلى مذهب الإمام أحمد فلا يعد إمامًا لهم في مذهبهم الذي هم عليه لرجوعه عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 3- والماتريدية: وإمامهم أبو منصور الماتريدي"1. ولم يسلم ذلك له فقد تعقبه في الحاشية بعض أهل العلم ولعله الشيخ ابن سحمان فقال: "هذا مصانعة من المصنف رحمه الله تعالى في إدخاله الأشعرية والماتريدية في أهل السنة والجماعة؛ فكيف يكون من أهل السنة والجماعة من لا يثبت علو الرب سبحانه فوق سماواته، واستواءه على عرشه ويقول: حروف القرآن مخلوقة، وإن الله لا يتكلم بحرف وصوت، ولا يثبت رؤية المؤمنين ربهم في الجنة بأبصارهم؛ فهم يقرون بالرؤية ويفسرونها بزيادة علم يخلقه الله في قلب الرائي. ويقول: الإيمان مجرد التصديق وغير ذلك من أقوالهم المعروفة المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة"2. كما علق على ذلك أيضًا الشيخ عبد الله بابطين "ت 1282 هـ" بقوله: "تقسيم أهل السنة إلى ثلاث فرق فيه نظر؛ فالحق الذي لا ريب فيه أن أهل السنة فرقة واحدة، وهي الفرقة الناجية التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عنها بقوله: "هي الجماعة"، وفي رواية: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، أو "من كان على ما أنا عليه وأصحابي". قال: وبهذا عرف أنهم المجتمعون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يكونون سوى فرقة واحدة. قال: والمؤلف نفسه يرحمه الله لما ذكر في المقدمة هذا الحديث، قال في النظم: وليس هذا النص جزمًا يعتبر ... في فرقة إلا على أهل الأثر يعني بذلك: الأثرية. وبهذا عرف أن أهل السنة والجماعة هم فرقة واحدة الأثرية والله أعلم3. وممن ذهب مذهب السفاريني. الأستاذ: أحمد عصام الكاتب، فقال في   1 لوامع الأنوار البهية 1/ 73. 2 لوامع الأنوار البهية 1/ 73 حاشة رقم "4". 3 المصدر السابق 1/ 73 حاشية رقم "4" أيضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 بيان أهل السنة من هم: "وبالجملة فهم: أهل الحديث، والأشاعرة، والماتريدية؛ لأنهم جميعًا التزموا أسس العقيدة وأصولها"1. ولا يخفى ما في هذا الكلام من تجوز وتساهل، فإن الخلاف بينهم ولا سيما بين أهل الحديث، وبين الأشعرية والماتريدية، هو في أسس العقيدة وأصولها، ومن أهم هذه الأسس مسألة النقل2 التي تقدم الحديث عنها. ومن هؤلاء: الدكتور: أحمد محمود صبحي؛ حيث قال في كتابه "في علم الكلام": "ولكن ليس للأشعرية حق الادعاء أنها تعبر عن فرقة أهل السنة والجماعة؛ وإنما تجاذب هذه الفرقة فريقان: 1- مذهب السلف من أهل السنة منذ الإمام أحمد بن حنبل إلى أن بلغ به ابن تيمية ذروة التبلور والتماسك. 2- مذهب الخلف من أهل السنة وتشارك الصفاتية والأشعرية فيه مذاهب أخرى أهما الماتريدية3. فعد الأشعرية من أهل السنة، وإن كان لا يرى انفرادها بذلك.   1 عقيدة التوحيد في فتح الباري ص 86، "ط. الأولى 1403 هـ. نشر: دار الآفاق الجديدة - بيروت". 2 المراد بالنقل: نصوص الكتاب والسنة. 3 ص 426- 427. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 القول الثالث : قول من يرى أنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه أهل السنة من أبواب الاعتقاد. وممن قال بذلك: الشيخ عبد العزيز بن باز -متع الله بحياته- حيث قال جوابًا على قول الصابوني: "أن التأويل لبعض الصفات لا يخرج المسلم عن جماعة أهل السنة". قال: "صحيح في الجملة فالمتأول لبعض الصفات كالأشاعرة لا يخرج بذلك عن جماعة المسلمين ولا عن جماعة أهل السنة في غير باب الصفات1؛ ولكنه لا يدخل في جماعة أهل السنة عند ذكر إثباتهم للصفات وإنكارهم للتأويل. فالأشاعرة وأشباههم لا يدخلون في أهل السنة في إثبات الصفات لكونهم قد خالفوهم في ذلك وسلكوا غير منهجهم؛ وذلك يقتضي الإنكار عليهم وبيان خطئهم في التأويل، وأن ذلك خلاف منهج الجماعة. كما أنه لا مانع أن يقال: إن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة في باب الأسماء والصفات، وإن كانوا منهم في الأبواب الأخرى2، حتى يعلم الناظر في مذهبهم أنهم قد أخطئوا في تأويل بعض الصفات وخالفوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإسحان في هذه المسألة، تحقيقًا للحق وإنكارًا للباطل وإنزالًا لكل من أهل السنة والأشاعرة في منزلته التي هو عليها"3. وممن ذهب إلى ذلك الدكتور: صالح الفوزان؛ حيث قال في تعقيبه على ماقلات الصابوني: "نعم هم -يعني: الأشاعرة -من أهل السنة والجماعة في بقية أبواب الإيمان والعقيدة التي لم يخالفوهم فيها، وليسوا منهم في باب الصفات وما خالفوا فيه، لاختلاف مذهب الفريقين في ذلك"4.   1 من الأبواب التي لم يخالفوهم فيها. 2 أي: التي لم يخالفوهم فيها؛ فإن مخالفة الأشاعرة لأهل السنة ليست مقصورة على باب الأسماء والصفات، فقد خالفوهم في أبواب أخرى كالإيمان، والقدر، فهم ليسوا من أهل السنة فيها، كما أنهم ليسوا منهم في باب الأسماء والصفات. 3 تنبيهات هامة على ما كتبه محمد علي الصابوني في صفات الله عز وجل ص 37- 38، "ط. الأولى 1404 هـ. نشر: الدار السلفية - الكويت". 4 البيان لأخطاء بعض الكتاب ص 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 القول الرابع : اعتبارهم من أهل الإثبات والتفريق بين أئمتهم المتقدمين ومتأخريهم. وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يرى: أنهم يعدون من أهل الإثبات؛ لكونهم يثبتون بعض الصفات، وأنهم أقرب إلى أهل السنة من باقي الطوائف، على أنه يفرق بين أئمتهم المتقدمين وبين متأخريهم فعد المتقدمين أقرب إلى السلف وأهل السنة، وجعل المتأخرين أقرب إلى الجهمية والمعتزلة، لعظم موافقتهم لهم في كثير من أقوالهم. يقول رحمه الله في معرض كلامه عن درجات الجهمية: "وأما الدرجة الثالثة فهم: الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية؛ لكن فيهم نوع من التجهم كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، لكن يردون طائفة من أسمائه وصفاته الخبرية، أو غير الخبرية ويتأولونها كما تأول الأولون صفاته كلها، ومن هؤلاء من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث كما عليه كثير من أهل الكلام. ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار أيضًا في الجملة لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول وذل كأبي محمد بن كلاب1، ومن أتبعه وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري2 وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى أهل السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج، لكن انتسب إليهم طائفة هم إلى الجهمية أقرب منهم إلى أهل السنة المحضة. فإن هؤلاء ينازعون المعتزلة نزاعًا عظيمًا فيما يثبتونه من الصفات، وأما المتأخرون فإنهم والوا المعتزلة وقاربوهم وقدموهم   1 تقدمت ترجمته ص 72. 2 قبل رجوعه إلى مذهب السلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 على أهل السنة والإثبات وخالفوا أوليهم"1. وقال في "شرح الأصفهانية": "وأن الأشعرية أقرب إلى السلف والأئمة وأهل الحديث. وقال: عن متأخري الأشاعرة: فإن كثيرًا من متأخري أصحاب الأشاعري خرجوا عن قوله إلى قول المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة"2. والذي أراه أنه لا بد من التفصيل التالي في اعتبار الأشاعرة من أهل السنة أو إخراجهم عنهم، ولا يطلق عليهم أنهم أهل السنة أو من أهل السنة بإطلاق؛ لأنهم ليسوا على السنة المحضة في كثير من أمور السنة في الاعتقاد، ولا يطلق أنهم ليسوا من أهل السنة؛ لأنهم يدخلون في مسمى أهل السنة بالاعتبارات الآتية: 1- هم من أهل السنة: بالمعنى العام لمصطلح أهل السنة، والذي يدخل فيه جميع المنتسبين إلى الإسلام عدا الرافضة. كما تقدم لنا في مبحث تعريف أهل السنة. 2- وهم من أهل السنة: في أمور العبادات والعمليات؛ لأن السنة تشمل أمور الاعتقاد والعبادة والأعمال. كما تقدم نقل قول شيخ الإسلام ابن تيمية وفيه: "ولفظ السنة في كلام السلف يتناول السنة في العبادات، وفي الاعتقادات"3.   1 رسالة "التسعينية" ضمن المجلد الخامس من الفتاوى الكبرى ص 40- 42، "ط. كردستان العلمية بالقاهرة سنة 1329". 2 شرح الأصفهانية، "بتقديم: حسنين محمد مخلوف ص 77- 78، نشر: دار الكتب الحديثة بمصر". 3 تقدم في مبحث تعريف السنة عند السلف ص 32، 33، 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 والأشاعرة في أمور العبادات ليس لهم من الأقوال ما يخرجهم عن أهل السنة في الجملة1. فبهذه الاعتبارات يعد: الأشاعرة من أِهل السنة. ولكن لما كان اسم "أهل السنة" إذ أطلق فهم منه أمور العبادات والاعتقادات جميعًا؛ بل هو بأمور الاعتقاد أخص، كما قال شيخ الإسلام في معنى "أهل السنة": "وقد يراد به: أهل الحديث والسنة والمحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله، تعالى، ويقول القرآن غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر وغير ذلك من الأمور المعروفة عند أهل الحديث والسنة"2. ورأينا الأشاعرة ليسوا على السنة المحضة في كل أبواب الاعتقاد، ومسائله التي ذكر الإمام أحمد طرفًا منها وبين أن من خالف فيها لا يعد من أهل السنة كما سيأتي فهل نقول: هم من أهل السنة؛ لأنهم وافقوا السنة في بعض أبواب ومسائل العقيدة، أم نسحب عنهم هذا الاسم لمخالفتهم للسنة في بعض المسائل والأبواب؟ هذا مناط الخلاف في كونهم من أهل السنة أوليسوا من أهلها. فمن تغاضى عن المسائل التي خالفوا فيها أهل السنة، قال هم من أهل السنة؛ لأنهم من أهل السنة قال هم من أهل السنة؛ لأنهم من أهل السنة في أبواب العبادات ولم يخرجوا عن اعتقاد أهل أهل السنة في كل أبواب الاعتقاد. وعلى هذا يخرج عد السفاريني وغيره إياهم من أهل السنة.   1 أقوال في الجملة؛ لأن بعض أئمتهم ولا سيما المتأخرين منهم: ابتلوا بشيء من الابتداع في العبادات، وأغرق بعضهم في التصوف المنحرف؛ فابتعدوا عن السنة والإتباع في العبادات أيضًا كما ابتعدوا عنها في مسائل الاعتقاد. 2 وانظر: منهاج السنة 2/ 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ومن رأى أنه لا يستحق اسم "أهل السنة" إلا من وافق السنة في أمور العبادات والاعتقادات، ومن خالف مذاهب أهل السنة وسلف الأمة في شيء من ذلك ولا سيما في أبواب الاعتقاد؛ فإنه لا يستحق اسم "أهل السنة". قال: ليس الأشاعرة من أهل السنة، وعلى هذا يخرج قول من قال: ليسوا من أهل السنة كالإمام السجزي والشيخ بابطين وغيرهما. وربما وجد ما يؤيد هذا الاتجاه في كلام أئمة السلف؛ حيث عدد كثير منهم مسائل الاعتقاد التي يكون المرء إذا استكملها من أهل السنة، وإن أخل بشيء منها؛ فليس هو من أهل السنة، وذلك مثل: قول الإمام أحمد: "هذه مذاهب أهل العلم، وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروتها المعروفين بها، المقتدي بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت من علماء الحجاز، والشام وغيرهما عليها؛ فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب أو طعن فيها، أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة زايل عن منهج السنة وسبيل الحق؛ فكان قولهم: إن الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة، والإيمان يزيد وينقص"1، ثم ذكر جملة اعتقاد أهل السنة. وقول علي بن المديني: "السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها، أو يؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره ثم تصديق الأحاديث والإيمان بها. إلى آخر الاعتقاد"2. وقول عبد الله بن المبارك: "أصل اثنين وسبعين هوى: أربعة أهواء فمن هذه الأربعة الأهواء تشعبت الاثنان وسبعون هوى القدرية، والمرجئة والشيعة والخوارج.   1 السنة ص 33. 2 اللالكائي، شرح أصول أهل السنة 1/ 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فمن قدم أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم في الباقين إلا بخير ودعا لهم؛ فقد خرج من التشيع أوله وآخره. ومن قال: الإيمان قول وعمل يزيد يونقص فقد خرج من الأرجاء أوله وآخره. ومن قال الصلاة خلف كل بر وفاجر، والجهاد مع كل خليفة، ولم ير الخروج على السلطان بالسيف ودعا لهم بالصلاح؛ فقد خرج من قول الخوارج أوله وآخره. ومن قال: المقادير كلها من الله عز وجل خيرها وشرها يضل من يشاء ويهدي من يشاء؛ فقد خرج من قول القدرية أوله وآخره، وهو صاحب سنة"1. وقول: عبيد الله بن بطة العكبري: "ونحن ذاكرون شرح السنة ووصفها، وما هي في نفسها، وما الذي إذا تمسك به العبد ودان الله به سمى بها واستحق الدخول في جملة أهلها، وما إن خالفه أو شيئًا منه دخل في جملة من عبناه وذكرناه وحذر منه من أهل البدع والزيع؛ فما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام وسائر الأمة منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وقتنا هذا، ثم ذكر الإيمان والات والقدر وغيرها من أمور الاعتقاد"2. فكلام هؤلاء الأئمة المعتبرين المقتدى بهم صريح في أن أحدًا لا يرقي ولا يتأهل لحمل لقب "صاحب سنة" أو أنه "من أهل السنة"؛ إلا إذا تحققت فيه خصال السنة التي أجمعوا عليها. أما من رأى من أهل العلم أن من خالف السنة في باب من أبواب الاعتقاد   1 ابن أبي يعلى، طبقات الحنابلة 2/ 40. 2 الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة 175- 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ووافقها في باب آخر فهو من أهل السنة فيما وافق فيه السنة، وليس منهم فيما خالفهم فيه؛ وذلك من باب أن المرء يمدح بقدر ما فيه من موافقة السنة، ويذم بقدر ما فيه من مخالفتها، وأن إخراج قوم من مسمى "أهل السنة"؛ لأنهم خالفوا السنة في باب دون باب، فيه مجانية للعدل والإنصاف، من رأى هذا الرأي قال مثلًا: الأشاعرة من أهل السنة في أبواب الإيمان والعقيدة التي لم يخالفوهم فيها، وليسوا منهم في باب الصفات وما خالفوا فيه. والذي أميل إليه: أن لا يقال: "الأشاعرة من أهل السنة" إلا بقيد، فيقال: هم من أهل السنة في كذا، في الأبواب التي لم يخالفوا فيها مذهب أهل السنة. لأننا إذا أطلقنا القول بأنهم من "أهل السنة" التبس الأمر وظن من لا دراية له بحالهم أنهم على مذهب أهل السنة والسلف في كل خصال السنة، والواقع أنهم ليسوا كذلك؛ بل في أقوالهم ما يخالف السنة في كثير من أبواب الاعتقاد؛ فليسوا على السنة المحضة في كل اعتقاداتهم. وإذا أطلقنا القول بأنهم ليسوا من أهل السنة، كان ذلك حكمًا بأنهم خالفوا السنة في كل أبواب الاعتقاد، والأمر ليس كذلك فقد وافقوا أهل السنة في أبواب الصحابة والإمامة وبعض السمعيات. فالعدل والإنصاف يقتضي أن يحكم على كل بما يستحق على ضوء ما رضي لنفسه من قول واختط من نهج. والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 المبحث الرابع: في أسماء أهل السنة وألقابهم عندهم وعند خصومهم أولا: الأسماء التي عرفت بها أهل السنة وهي مرضية عندهم محببة إليهم 1- أهل الجماعة ... المبحث الرابع: في أسماء أهل السنة وألقابهم عندهم وعند خصومهم هناك أسماء وألقاب أخرى تطلق على أهل السنة؛ منها ما هو حق مرضي عندهم عرفوا به، كما عرفوا باسم أهل السنة، ومنها ألقاب نبذهم بها خصومهم من أهل البدع والأهواء، وهم منها براء، والقصد من ذكرها هنا أن يعرف القارئ أن أهل السنة هم المقصودون، إن ورد لقب من هذه الألقاب في كتاب من كتب الفرق والمقالات؛ لأن خصومهم لا يذكرونهم باسم: "أهل السنة" أو غيره من الأسماء المرضية عند أهل السنة إلا نادرًا؛ وإنما يذكرونهم بهذه الألقاب التي نبزوهم بها، تنفيرًا من إتباعهم. فكان لا بد أن نورد الأسماء والألقاب التي أطلقت على أهل السنة سواء من قبلهم، أو من قبل خصومهم من الفرق والطوائف التي تخالفهم في المنهج والاعتقاد، مع بيان وجه التسمية بكل، وبيان ما يلحقهم من الأسماء والألقاب وما لا يلحقهم. أولًا: الأسماء التي عرف بها أهل السنة وهي مرضية عندهم محببة إليهم 1- أهل الجماعة: وهذا الاسم من الأسماء المشهورة التي عرف بها "أهل السنة"، وهو يطلق مقرونًا بـ "السنة" فيقال: "أهل السنة والجماعة"، وقد يرد منفردًا فيقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 "أهل الجماعة"1، وهو قليل، والغالب اقترانه بالسنة. وأهل السنة هم أهل الجماعة؛ "فإن السنة مقرونة بالجماعة، كما أن البدعة مقرونة بالفرقة فيقال: أهل السنة والجماعة، كما يقال: أهل البدعة والفرقة"2. وهو مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم في بيان الفرقة الناجية في حديث الافتراق: "وهي الجماعة"؛ فعن أنس بن مالك؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار؛ إلا واحدة وهي الجماعة" 3. وقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة بالأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة؛ وذلك كقوله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 4، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 5. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" 6، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة   1 انظر: ابن تيمية، منهاج السنة 3/ 468، 5/ 158، 6/ 408، ودرء التعارض 7/ 350، والفتاوى 3/ 157. 2 ابن تيمية، الاستقامة 1/ 42، "تحقيق د. محمد رشاد سالم، ط. الأولى 1404 هـ، جامعة الإمام". 3 جه: كتاب الفتن، باب افتراق الأمم 2/ 1322، وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر: صحيح ابن ماجه له 2/ 364، وانظر أيضًا: سليلة الأحاديث الصحيحة ح 204، والسنة لابن أبي عاصم ص 32، ح 64. 4 سورة آل عمران آية 103. 5 سورة الأنعام آية 159. 6 خ: كتاب الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة 13/ 35، ح 7084. م: كتاب الإمارة، باب وجوب ملامة جماعة المسلمين 3/ 1475، ح 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية"1 والأحاديث في ذلك كثيرة. وقد اختلف أهل العلم في المراد بالجماعة التي ورد الأمر بلزومها على أقوال نذكرها باختصار2: الأول: أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام، يدل له رواية "كلها في النار إلا السواد الأعظم"3. الثاني: أنها جماعة العلماء المجتهدين؛ لأن الله جعلهم حجة على الخلق والناس تبع لهم في أمر الدين. وهذا قول غير واحد من الأئمة، منهم الإمام البخاري حيث قاله في "صحيحه": "باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم"4. وقال الإمام الترمذي: "وتفسير الجماعة عند أهل العلم هم: أهل الفقه والعلم والحديث"، وروي عن ابن المبارك5 أنه: قيل له: "من الجماعة؟ فقال: أبو بكر وعمر، قيل له: قد مات أبو بكر وعمر، قال: فلان وفلان، قيل له: قد مات فلان وفلان، قال: أبو حمزة السكري6 جماعة7".   1 م: كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين 3/ 1476، ح 53. 2 للتوسع انظر: الشاطبي، الاعتصام 2/ 260- 265، وانظر أيضًا: ابن حجر، فتح الباري 13/ 37. 3 اللالكائي، شرح أصول أعتقاد أهل السنة 1/ 103- 104، ح 152. وقال محققه: سنده ضعيف. 4 13/ 316 "مع الفتح". 5 هو: عبد الله بن المبارك، كان إمامًا حجة كثير الحديث ولد سنة 118 هـ، ومات بهيت منصرفًا من الغزو سنة 181 هـ. ابن سعد، الطبقات 7/ 372. 6 وهو: الإمام الحجة محمد بن ميمون المروزي عالم مرو، كان من الأئمة المقتدى بهم. في زمنه. انظر ترجمته لدى: البغدادي، تاريخ بغداد 3/ 266، والذهبي، السير 7/ 385. 7 الجامع الصحيح 4/ 467. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الثالث: أن الجماعة هي: الصحابة على الخصوص؛ فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلًا. يدل لهذا القول رواية: "ما أنا عليه وأصحابي"1. الرابعِ: أن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام، إذا أجمعوا على أمر؛ فواجب على غيرهم من أهل الملل إتباعهم. قال الإمام الشاطبي عقب هذا القول: "وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر"2. الخامس: أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزومه ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقدميه عليهم، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة. وهو اختيار الإمام الطبري. السادس: أن المراد بالجماعة: موافقة الحقو لزومه. كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك"3، وفي رواية: "إنما الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك"4. قال أبو شامة: "وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق وإتباعه وإن كان المتمسك بالحق قليلًا والمخالف كثيرًا؛ لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ولا نظر إلى   1 تقدم تخريجها، انظر: ص 48. 2 انظر الاعتصام 2/ 264. 3 أبو شامة: شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل، الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص 20، "ط. الثانية 1401 هـ. نشر: طبعة النهضة الحديثة -مكة". 4 اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 109، ح 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 كثرة أهل الباطل بعدهم"1. وكل هذه المعاني متقاربة، واختلافها اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وأهل السنة هم أهل الجماعة على أي معنى من هذه المعاني؛ فأما على المعنى الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس فلا إشكال، فأهل السنة يرون إتباع الأئمة من أهل العلم والدين ولا يخرجون عن إجماعهم كما أن قدوتهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يهتدون بهديهم ويلزمون آثارهم، وهم أيضًا أعظم الطوائف حرصًا على جماعة المسلمين، وطاعة إمام المسلمين القائم بالعلم والدين ولا يرون الخروج عليه، ما لم يروا كفرًا بواحًا لديهم من الله فيه برهان. وقيل ذلك وبعده فهم ينظرون إلى الحق والصواب يتلمسونه فيلزمونه ويتمسكون به، وإن كان أكثر الناس على خلافه. وأما على القول الأول، وهو أن المراد بالجماعة "السواد الأعظم من المسلمين"؛ فأهل السنة أيضًا هم أهل الجماعة بهذا المعنى؛ وذلك أن المراد بالسواد الأعظم: السواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم، وإن انضم إليهم العوام فبحكم التبع؛ لأنهم غير عارفين بالشريعة، ولا بد من رجوعهم في دينهم إلى العلماء، فإن العامة لو تمالئوا على مخالفة العلماء فيما حدوا لهم لكانوا هم الغالب والسواد الأعظم في ظاهر الأمر لقلة العلماء وكثرة الجهال؛ فلا يقولن أحد إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب، وإن العلماء هم المفارقون للجماعة، والمذمومون في الحديث، بل الأمر بالعكس، وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا، والعوام هم المفارقون للجماعة وإن خالفوا2. سئل الإمام إسحاق بن راهويه3 من السواد الأعظم؟ فقال: "محمد بن   1 الباعث على إنكار البدع والحوادث ص 19. 2 الشاطبي: الاعتصام 2/ 266. 3 وهو الإمام الحافظ الكبير أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم شيخ أهل المشرق المعروف بابن راهويه ولد سنة 166، وقيلِ: 161، ومات سنة 238، الذهبي، تذكرة الحفاظ 2/ 433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أسلم1 ومن تبعه، وقال: لو سألت الجهال من السواد الأعظم؟ قالوا: جماعة الناس ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه؛ فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة ومن خالفه فيه ترك الجماعة"2. وقال الإمام ابن القيم معقبًا على قول الإمام إسحاق بن راهويه هذا: "وصدق الله، فإن العصر إذا كان فيه عارف بالسنة داع إليها فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السواد الأعظم وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا"3.   1 وهو: أبو الحسن محمد بن أسلم الطوسي، المذكور بالسواد الأعظم، كان بالآثار مقتديًا، وعن الآراء منتهيًا، قاله أبو نعيم في الحلية 9/ 238، وقال الذهبي: الإمام الحافظ الرباني شيخ الإسلام، وقال: مولده في حدود الثمانين ومائة. سير أعلام النبلاء 12/ 195. 2 أبو نعيم، حلية الأولياء 9/ 238- 239. 3 إغاثة اللهفان 1/ 85، "بتحقيق محمد سيد كيلاني، ط. مصطفى الحلبي بمصر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 2- السلفية أو السلفيون: نسبة إلى السلف. السلف في اللغة: جمع سالف على وزن حارس وحرس، وخادن وخدم، والسالف: المتقدم والسلف الجماعة المتقدمون1. ومنه قوله عز وجل: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِين} 2. قال البغوي في تفسيرها: "والسلف: من تقدم من الآباء، فجعلناهم متقدمين؛ ليتعظ بهم الآخرون"3.   1 ابن منظور، لسان العرب 9/ 158. 2 الزخرف 56. 3 معالم التنزيل 4/ 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وقال ابن الأثير: "سلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته؛ ولهذا سمي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح"1. والسلف في الاصطلاح: اختلف في تحديد مفهوم السلف زمنيًا على عدة أقوال: الأول: أنهم الصحابة فقط: وهو قول عدد من شراح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني2. الثاني: أنهم الصحابة والتابعون: وإليه ذهب أبو حامد الغزالي في قوله: "اعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف أعني مذهب الصحابة والتابعين"3. الثالث: أنهم الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين: أي القرون الثلاثة التي أثبت لها النبي صلى الله عليه وسلم الخيرية بقوله في حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة"4. وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" 5.   1 النهاية 2/ 390. 2 انظر: تحرير المقالة من شرح الرسالة ق 36، مخطوط بمكتبة الجامعة الإسلامية رقم 604. حاشية العدوي 1/ 106 رقم1، والثمر الداني، لعبد السميع الآبي ص 24. 3 الجام العوام من علم الكلام، "بتحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي"، ص 53. 4 خ: كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم 7/ 3، ح 3650. 5 خ: كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم 7/ 3، ح 3651. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وإليه ذهب كثير من أهل العلم، كالإمام الشوكاني1، والسفاريني2، وعليه يدل صنيع شيخ الإسلام ابن تيمية في نحو قوله: "سلف الأمة وخيار قرونها"3، وربما أدخل من بعد تابعي التابعين، كالإمام أحمد "164- 241 هـ" في مفهوم السلف فيقول: "وكذلك قال ابن الماجشون، وأحمد بن حنبل وغيرهما من السلف"4. ويحدد ابن رجب "ت 795 هـ" السلف المقتدى بهم إلى عصر الإمام أحمد وأقرانه فيقول: "وفي زماننا يتعين كتابة كلام السلف المقتدي بهم إلى زمن الشافعي "ت 204 هـ"، وأحمد "ت 241"، وإسحاق "ت 238 هـ" وأبي عبيد "ت 224 هـ"، وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم، فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة"5. ولعل سلفه في ذلك الإمام الآجري "ت 360 هـ"؛ فقد رأيته عند ذكره الأئمة الذي يقتدي بهم، وقف على الإمام أحمد وأقرانه، فقال: "علامة من أراد الله عز وجل به خيرًا: سلوك هذا الطريق: كتاب الله عز وجل، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنن أصحابه رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان رحمة الله عليهم، وما كان عليه أئمة المسلمين في كل بلد إلى آخر ما كان عن العلماء مثل: الأوزاعي "ت 157 هـ"، وسفيان الثوري "ت 161 هـ"، ومالك بن أنس "ت 179 هـ" والشافعي، وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلام، ومن كان على طريقتهم، ومجانبة كل مذهب لا يذهب إليه هؤلاء العلماء"6.   1 انظر: التحف في مذاهب السلف ص 7- 8، 11. 2 انظر: لوامع الأنوار 1/ 20. 3 انظر: درء تعارض العقل والنقل 7/ 134. 4 المرجع نفسه 1/ 207. 5 انظر: فضل علم السلف على علم الخلف، "بتحقيق يحيى مختار غزاوي"، ص 60. 6 انظر: الشريعة ص 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وممن مال إلى تحديد السلف بالقرون الثلاثة الدكتور محمد الجليند؛ حيث قال: "وحسمًا للموقف أرى أن لا نتخطى القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وندعي أن هناك آراء سلفية مهما بلغ بنا حسن الظن بالمتقدمين، خاصة وأن تراثنا الإسلامي قد تعرض لهزات عنيفة ابتداء القرن الثالث الهجري وعبثت به الأهواء"1. وتابعه على هذا الرأي الدكتور محمود خفاجي قائلًا: "فإنني أرى أن من يحدد السلف بالصحابة والتابعين، وتابعي التابعين هو الأميل للصواب، لموافقته الأثر2 من ناحية، ولما نجده من الاتفاق بين من يذكرون السلف بطريق الاسم من عد تابعي التابعين من السلف من ناحية أخرى3"4. الرابع: أن السلف هم من كانوا قبل الخمسمائة: وهذا قول البيجوري؛ فإنه قال: السلف: وهم من كانوا قبل الخمسمائة، وقيل: القرون الثلاثة والتابعون وأتباع التابعين"5. قال الدكتور محمود خفاجي معقبًا على ذلك: "وإذا تساءلنا عن السبب لماذا انسحب مفهوم لفظ السلف ليشمل من عاش في أو قبل القرن الخامس الهجري دون غيره؟ ذلك ما لم أجد له إجابة عند هؤلاء الذين حددوا السلف بهذا الحد"6. ولعل سبب ذهاب البيجوري إلى ذلك، هو رغبته إدخال أئمة الأشاعرة   1 انظر: الإمام ابن تيمية وقضية التأويل، ط. الثالثة، ص 52. 2 يشير إلى حديث عمران بن حصين وابن مسعود المتقدم. 3 كما تقدم في كلام ابن رجب والآجري. انظر: ص 98. 4 انظر: في العقيدة الإسلامية بين السلفية والمعتزلة، ط. الأولى ص 20. 5 انظر: تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد، "ط. الأولى 1403، دار الكتب"، ص 91. 6 انظر: في العقيدة الإسلامية ص 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 في مفهوم السلف؛ إذ لا يمكن إدخالهم في مفهوم السلف -زمنيًا؛ إلا على رأيه هذا، إذ كلهم كانوا بعد القرون الثلاثة، باستثناء الإمام الأشعري الذي توفي سنة 324 هـ. والله تعالى أعلم. والذي أصبح على مذهب الإمام أحمد1 بعد رجوعه عن الاعتزال وقول ابن كلاب. والمنتسبون إليه ينتسبون إلى مذهب تركه. هل التحديد الزمني كاف لتحديد مفهوم "السلف"؟ إذا قلنا بأن المراد بالسلف زمنيًا هم أهل القرون الثلاثة المفضلة، استئناسًا بالأحديث الواردة في تعيين القرون المفضلة، ولأنا نرى من يذكر السلف بالاسم لا يخرج عن إطار القرن الثالث كما تقدم في كلام الدكتور خفاجي. فهل نعتبر كل من عاش في هذه القرون سلفًا يقتدي به؟ لا شك أن الإجابة على هذا التساؤل هي النفي؛ وذلك لما نعلمه جميعًا من وجود الكثير من أئمة أهل البدع والأهواء في تلك الحقبة. ففيها خرجت الخوارج في عهد الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ حيث اعترضوا على التحكيم سنة 37 هـ فكان بداية خروجهم. وفيها ظهر التشيع والرفض على يد ابن سبأ اليهودي الذي ادعى الإسلام وزعم محبة آل البيت. وفيها نبتت فتنة القدرية على يد معبد الجهني "ت 80 هـ". وفيها أيضًا ظهرت بدعة الإرجاء وكان من زعماء المرجئة الأوائل غيلان   1 كما صرح بذلك في مصنفاته التي ألفها بعد رجوعه كالإبانة، والمقالات: انظر: المقالات 1/ 345- 350، والإبانة ص 20 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الدمشقي "ت 105 هـ". وفيها نجم قرن التجهم، والاعتزال؛ فعاش في هذا الوقت: الجعد بن درهم "ت 124هـ" أستاذ الجهم بن صفوان "128 هـ" زعماء الجهمية الأوائل منكري الصفات كما عاش فيه واصل بن عطاء مؤسس فرقة المعتزلة الأول "ت 131 هـ". وبهذا يتضح أن القرون الثلاثة عاش فيها سلف صالح يقتدي به، كما عاش فيها أصحاب أهواء ورواد ابتداع أدخلوا على الإسلام والمسلمين أمورًا ليست من الدين، وفتحوا عليهم أبواب شر عظيم، ما زالت الأمة تعاني من آثاره إلى اليوم. إذن: "ليس السبق الزمني كافيًا في تعيين السلف؛ بل لا بد أن يضاف إلى هذا السبق الزمني موافقة الرأي للكتاب والسنة نصًا وروحًا، فمن خالف رأيه الكتاب والسنة، فليس بسلفي وإن عاش بين ظهراني الصحابة والتابعين"1. ولهذا كان الإمام السفاريني موفقًا أيما توفيق في تعريفه لمذهب السلف؛ حيث احترز فقيد "السلف" الذي يقتدى به بأن يكون ممن شهد له بالإمامة، ولم يرم ببدعة، فقال: "المراد بمذهب السلف ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وأعيان التابعين لهم بإحسان، وأتباعهم، وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة، وعرف عظم شأنه في الدين، وتلقى الناس كلامهم خلفًا عن سلف، دون من رمي ببدعة، أو شهر بلقب غير مرض، مثل: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجبرية، والجهمية، والمعتزلة، والكرامية، ونحو هؤلاء"2. أي أن من قرف بشيء من هذه الأهواء والبدع فلا يعد من السلف الصالح   1 د. الجليند: الإمام ابن تيمية وقضية التأويل ص 52 بتصرف يسير. 2 انظر: لوامع الأنوار 1/ 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 المقتدى به، وإن عاش في عصرهم وبين ظهرانيهم. إذ ليس كل سلف يقتدي به؛ وإنما تكون القدوة والأسوة بأولئك السلف الأخيار الذين مضى وصفهم، وذكر فضلهم، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأئمة التابعين، وتابعيهم من أهل القرون المفضلة المشهود لهم بالخيرية على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم1، الذين عرف عنهم التمسك بالسنة، والإمامة فيها، واجتناب البدعة، والحذر والتحذير منها. وقد أمرنا الله عز وجل بإتباع سبيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتفاء آثارهم وسلوك منهجهم، فقال عز وجل: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} 2. قال الإمام ابن القيم في بيان وجه الاستدلال بالآية: "وكل من الصحابة منيب إلى الله فيجب اتباع سبيله، وأقواله وأعتقاداته من أكبر سبيله"3. وأخبرنا تبارك وتعالى عن رضاه عمن اتبعهم بإحسان، وما أعده لهم من الثواب العظيم فقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 4. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" 5.   1 في قوله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونه، ثم الذين يلونهم"، وقد تقدم ص97. 2 سورة لقمان آية 15. 3 انظر: إعلام الموقعين 4/ 168، "بتحقيق: عبد الرحمن الوكيل". 4 سورة التوبة آية 100. 5 د: كتاب السنة، باب لزوم السنة 5/ 13- 14، ح 4607. ت: كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة 5/ 44، ح 2676. ابن أبي عاصم: السنة 1/ 18، 19، 29، وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح ورجاله ثقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وقال صلى الله عليه وسلم في وصف الفرقة الناجية -وقد قيل له: من هي يا رسول الله؟ : "ما أنا عليه وأصحابي" 1. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان مستنًا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، وأبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم، وطرائقهم، فهم كانوا على الهدي المستقيم"2. وقال الإمام أحمد بن حنبل: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم وترك البدع"3. وما زال أئمة السنة وعلماء الأمة جيلًا بعد جيل يدعون إلى إتباع السلف الصالح والاقتداء بهم وسلوك طريقهم، ومن ذلك قول الإمام الأوزاعي "ت 157 هـ": "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول"4، وقوله أيضًا: "أصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا: وكف عما كفوا عنه، وأسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك"5. وما برح أهل السنة يستدلون على دينهم، وعقائدهم، بما جاء في كتاب الله عز وجل، وبما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن لم يجدوا فبما ثبت وأثر   1 تقدم تخريجه، انظر: ص 48. 2 البغوي، شرح السنة 1/ 214. 3 انظر: اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 156. 4 الآجري، الشريعة ص102. وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح. انظر: مختصر العلو ص 138. 5 اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 عن السلف الصالحين، من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين المعروف عنهم الإمامة في السنة والتقدم فيها، فيسلكون طريقهم ويقولون فيها بقولهم. فانظر مثلًا إلى الإمام أبي القاسم اللالكائي وهو يوضح منهجه في الاستدلال على مسائل الاعتقاد في كتابه "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" قائلًا: "ثم استدل على صحة مذاهب أهل السنة بما ورد في كتاب الله تعالى فيها، وبما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن وجدت فيهما جميعًا ذكرتهما، وإن وجدت في إحداهما دون الآخر ذكرته، وإن لم ِأجد فيهما إلا عن الصحابة الذين أمر الله ورسوله أن يقتدى بهم ويهتدى بهم ويهتدى بأقوالهم، ويستضاء بأنوارهم لمشاهدتهم الوحي والتنزيل، ومعرفتهم معاني التأويل احتججت بها؛ فإن لم يكن فيها أثر عن صحابي فعن التابعين لهم بإحسان الذين في قولهم الشفا والهدى"1. وإلى قول الإمام ابن كثير وهو يجنح إلى إتباع السلف والقول بقولهم: "وأما قول تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 2 فللناس في هذا مقالات كثيرة جدًا، ليس هذا موضع بسطها؛ وإنما يسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح، مالك "93- 179 هـ"، والأوزاعي، والثوريي "97- 161 هـ"، والليث بن سعد "ت 175 هـ" والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق"3. وقول الإمام ابن أبي العز شارح "الطحاوية": "وقد أحببت أن أشرحها سالكًا طريق السلف في عبراتهم، وانسج على منوالهم متطفلًا عليهم لعلي أنظم في سلكهم وأدخل في عدادهم"4.   1 انظر: مقدمة شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 27. 2 سورة الأعراف آية 54. 3 تفسير القرآن العظيم 2/ 422، ط. الشعب. 4 شرح العقيدة الطحاوية ص 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وقال الإمام الذهبي في مقدمة كتابه القيم "العلو للعلي الغفار" بعد أن ذكر عددًا من آيات الاستواء والعلو: "فإن أحببت يا عبد الله الإنصاف؛ فقف مع نصوص القرآن والسنن، ثم انظر ما قاله الصحابة والتابعون وأئمة التفسير في هذه الآيات، وما حكوه من مذاهب السلف، فإما أن تنطق بعلم، وإما تسكت بحلم"1. ضرورة بيان مذهب السلف ومواقفهم من أهل البدع: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدر القرن الأول على قول واحد وصراط مستقيم إلى أن أطلت الفتن، وبزغت قرون أهل البدع والخلاف؛ فخرجت الخوارج، وتشيعت الشيعة، وتجهمت الجهمية، واعتزلت المعتزلة، واستطار شرر المتكلمين في الأمصار يثير الشبهات. وكان هؤلاء وأولئك يرون أنهم على حق وأنهم الفرق الناجية، ويستدلون على أقوالهم ومذاهبهم بنصوص من الكتاب والسنة ينزلونها على آرائهم، ويصرفونها عما دلت عليه ظواهرها، كما ألمحنا إلى ذلك فيما سبق، ويدعون انهم متبعون للكتاب والسنة، وربما التبس الأمر على عامة الناس، لما يظهره هؤلاء من الاستدلال بنصوص الشرع على مذاهبهم وأقوالهم. فلما كان الأمر كذلك احتاج أهل السنة إلى بيان وإظهار مذهب السلف الصالح الذين لا يشك أحد في أنهم أهل السنة وأئمتها المعروفون بها، وبيان ما ذهبوا إليه في فهم هذه النصوص وما فسروها به؛ لأنهم أدق فهمًا، وأصفى ذهنًا، وأصدق تسننًا وتدينًا وأعمق علمًا، وأقل تكلفًا، وأقرب إلى مشكاة النبوة، وشعاع الوحي، ما زال نورهما في قلوبهم مضيئًا يهيديهم إلى القول الحق، والطريق المستقيم، ليقف الناس على أقوالهم ومذاهبهم فيتبين لهم مدى مخالفة أقوال ومذاهب تلك الفرق لأقوال السلف الصالح ومباينتها لها.   1 ص 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ولذا نرى كثيرًا من أئمة الإسلام؛ إذ ذكر أمرًا من أمور الاعتقاد يحرص على بيان قول السلف والأئمة المقتدى بهم المتفق على إمامتهم في السنة، ليعلم أن مخالفهم سار على غير هديهم؛ فإما أن يكونوا على الهدى والصواب والسنةن أو يكون مخالفهم هو المصيب، ولا شك أنهم بالحق والصواب أولى؛ لما عرفنا من فضلهم وعلمهم وحرصهم على السنة والتمسك بها. وذلك كقول الإمام أحمد بن حنبل في مقدمة رسالة "السنة" له: "هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروتها، المعروفين بها المقتدي بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت من علماء الحجاز والشام وغيرهما عليها؛ فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة زايل عن منهج السنة وسبيل الحق"، ثم ذكر قولهم في مسائل الاعتقاد1. وكذلك قول الإمامين أبي حاتم "ت 277 هـ"، وأبي زرعة "ت 264 هـ" الرازيين: "أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا، وعراقًا وشامًا، ويمنًا؛ فكان من مذهبهم الإيمان قول وعمل يزيد وينقص"2. وقول الإمام الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله عز وجل فوق عرشه ونؤمن بما وردت بها لسنة من صفاته"3. وهكذا كان أهل العلم من الأئمة يحرصون على أن يبينوا ما ذكروه وما قالوه في مسائل الاعتقاد هو قول من سبقهم من أئمة السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم ليعلم أن ما خالف ذلك فليس هو من قولهم ولا من هديهم، وأنه من أقوال أهل البدع والخلاف.   1 انظر: السنة ص 33- 34، مع الرد على الجهمية. 2 اللالكائي، شرح أصوال اعتقاد أهل السنة 1/ 176. 3 الذهبي، العلو ص 102، وقال: أخرجه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وأهل البدع وإن كانوا يدعون اتباع الكتاب والسنة ويستدلون بالكثير من نصوصهما على ما يذهبون إليه على نحو ما ذكرنا، ويزعمون أنهم أهل الحق وربما تسمى بعضهم بأهل السنة؛ إلا أنهم لم يدعوا يومًا أنهم على مذهب السلف أو من أتباعهم أو قائلون بقولهم. بل يصرحون بمخالفتهم ومباينتهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "بل والطوائف المشهورة بالبدعة، كالخوارج والروافض، لا يدعون أنهم على مذهب السلف؛ بل هؤلاء يكفرون جمهور السلف، فالرافضة تطعن في أبي بكر وعمر وعامة السابقين والأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإسحان، وسائر أئمة الإسلام، بل ويكفرونهم فكيف يزعمون أنهم على مذهب السلف، ولكن ينتحلون مذهب أهل البيت كذبًا وافتراء؟ " وكذلك الخوارج قد كفروا عثمان وعليًا، وجمهور المسلمين من الصحابة والتابعين فكيف يزعمون أنهم على مذهب السلف؟ والمعتزلة أيضًا تفسق من الصحابة والتابعين طوائف، وتطعن في كثير منهم وفيما رووه من الأحاديث التي تخالف آراءهم وأهواءهم. وليس انتحال مذهب السلف من شعائرهم. -إلى أن قال: فالمقصود هنا أن المشهورين من الطوائف بين أهل السنة والجماعة بالبدعة، ليسوا منتحلين للسلف فعلم أن شعار أهل البدع هو ترك انتحال إتباع السلف. وأما متكلمة أهل الإثبات من الكلابية والكرامية والأشعرية، مع الفقهاء والصوفية وأهل الحديث فهؤلاء في الجملة لا يطعنون في السلف؛ بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالاتهم، لكن كل ما كان بالحديث من هؤلاء أعلم، كان بمذهب السلف أعلم وله اتبع؛ وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها وقلة ابتداعها. أما أن يكون انتحال السلف من شعائر أهل البدع، فهذا باطل قطعًا، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ذلك غير ممكن إلا حيث يكثر الجهل ويقل العلم. يوضح ذلك: أن كثيرًا من أتباع أبي الحسن الأشعري يصرحون بمخالفة السلف، في مثل مسألة الإيمان، ومسألة تأويل الآيات والأحاديث، يقولون: مذهب السلف، أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وأما المتكلمون من أصحابنا فمذهبهم كيت وكيت1، وكذلك يقولون: مذهب السلف أن هذه الآيات والأحاديث الواردة في الصفات لا تتأول، والمتكلمون يريدون تأويلها إما وجوبًا أو جوازًا ويذكرون اغلخلاف بين السلف وبين أصحابهم المتكلمين، هذا منطوق ألسنتهم ومسطور كتبهم"2. فلما كان هذا حال هذا الفرق والطوائف؛ تصريح بأن مذهبهم خلاف مذهب السلف، مع ادعاء اتباع الكتاب والسنة والاستدلال بهما والتسمي بأهل الحق، وأهل السنة والجماعة من قبل بعضهم أظهر أهل السنة مذهب السلف وأبرزوه وذكروا أقوال أئمة السلف من الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم والإتباع الذين هم أئمة السنة وأهلها بلا منازع ليبينوا من خالف قولهم؛ فليس هو على السنة المحضة وإن أصاب بعضها في بعض أقواله وليتميز المحق في ادعائه من المبطل، فإن اتباع الكتاب والسنة كل يديعيه، والميزان هو اتباع وارتضاء طريقتهم، وانتهاج منهجهم؛ فإنهم كانوا على هدي مستقيم، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه3، وبذلك يظهر المحق من المبطل ويميز بين أهل السنة وأهل البدعة الذين شعارهم مجانبة السلف ومخالفتهم.   1 قارن بقول الرازي وهو من أئمة الأشاعرة: "الإيمان عندنا لا يزيد ولا ينقص، وعند المعتزلة: لما كان اسمًا لأداء العبادات كان قابلًا لهما، وعند السلف، لما كان اسمًا للإقرار والاعتقاد والعمل فكذلك". محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ص 239. 2 انظر: الفتاوى 4/ 153- 157. 3 انظر قوله في هذا المعنى: ص 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 جواز الانتساب إلى السلف والتلقب بـ "السلفية" والرد على من أنكر ذلك: كان للجهود التي بذلها الأئمة من أهل السنة -وعلى رأسهم إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل، والإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة "311 هـ"، والإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجري "360 هـ"، والإمام أبو عبد الله بن بطة العكبري "378 هـ"، والإمام أبو القاسم هبة الله بن الحسن اللالكائي "418 هـ"، والإمام أبو القاسم إسماعيل بن محمد الأصبهاني "535 هـ"، ثم شيخ الإسلام ابن تيمية "728 هـ"، وتلميذه الإمام ابن القيم "751 هـ"، ثم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب "1206 هـ" رحمة الله عليهم جميعًا في الدعوة إلى السنة والعودة إلى طريقة السلف ومنهجهم، والاقتداء بهم- الأثر الكبير في ظهور اتجاه سلفي على مر التاريخ يستقي أسس دينه وعقيدته من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيرة سلفه الصالح من الصحابة والتابعين، والتابعين لهم من أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، ويقاوم كل تياربدعي يخرج عن هذه الأسس، ويرتكز على علم الكلام والفلسفة في تقرير العقائد. عرف أتباع هذا المنهج بأنهم أبتاع السلف؛ لشدة تمسكهم بآثارهم، وحرصهم على سلوك طريقهم، ومعرفة رأيهم: وقولهم وموقفهم في كل مسألة من مسائل الدين؛ فهل يسوغ أن يطلق على هؤلاء لقب "السلفيين" أو "السلفية" وهل يلقب الفرد منهم بـ "السلفي"؟ الواقع أننا إذا عرفنا: "أن الدعوة إلى اتباع السلف، أو إلى السلفية كما يعبر البعض إنما هي دعوة إلى الإسلام الحق، وإلى السنة المحضة، دعوة إلى العودة إلى الإسلام كما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاه عنه أصحابه الكرام رضوان الله عليهم"؛ فلا شك أن هذه الدعوة دعوة حق، والانتساب إليها حق، فلا ضير في الانتساب إلى السلف والاعتزاء إليهم حينئذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه، واعتزى إليه؛ بل يجب قبول ذلك منه، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقًا"1، قال ذلك فيمن قال إنه على مذهب السلف. وقد جاء في "الأنساب" للسمعاني "ت 562 هـ" السلفي: بفتح السين واللام وفي آخرها الفاء هذه النسبة إلى السلف، وانتحال مذاهبم على ما سمعت منهم"2. وقال ابن الأثير: "ت 630 هـ" عقب كلام السمعاني السابق: "وعرف به جماعة"3، وهذا يعني: أن التلقب بالسلفية والانتساب إليها أمر عرف في عصر الإمام السمعاني أو قبله. وأطلق شيخ الإسلام ابن تيمية لقب "السلفية" في بعض مصنفاته4، على أولئك الذين قالوا: يقول السلف في الفوقية: وفي عصرنا الحاضر أطلق هذه النسبة وهذا اللقب علماء أفاضل، عرفوا بالتمسك بالسنة والذب عنها، كالشيخ عبد الرحمن المعلمي "ت 1386 هـ" في كتابه "القائد إلى تصحيح العقائد"5. والشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني في كتابه "مختصر العلو"6، ومقدمته لشرح العقيدة الطحاوية7 وكتابه: "التوسل"8، والشيخ العالم القدورة عبد العزيز بن عبد الله بن باز في رسالته "تنبيهات هامة على ما كتبه محمد علي   1 الفتاوى 4/ 149. 2 انظر: الأنساب 3/ 273. 3 انظر: اللباب في تهذيب الأنساب 2/ 126. 4 انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/ 122. 5 انظر: ص 47، 51، 55، 199. 6 ص 122. 7 انظر: مقدمة شرح العقيدة الطحاوية ص 57. 8 انظر: ص 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الصابوني في صفات الله عز وجل"1، ومن هؤلاء شيخي وأستاذي الفاضل الدكتور علي بن ناصر فقيهي في كتابه: "الفتح المبين بالرد على نقد عبد الله الغماري لكتاب الأربعين"2، وغير هؤلاء كثير من أهل العلم المعاصرين. فهؤلاء الأفاضل من أهل العلم لم يروا باسًا في إطلاق لقب "سلفي" أو "السلفيين" مشيرين به إلى أولئك السائرين على منهاج السلف وطريقتهم. وقد عد بعض من كتب في المذاهب الإسلامية وتاريخها من المحدثين "السلفيين" طائفة متميزة عرفت بهذا الاسم؛ وذلك كصنيع الدكتور محمد أبي زهرة في كتابه "تاريخ المذاهب الإسلامية"3، والدكتور مصطفى الشكعة في كتابه "إسلام بلا مذاهب"4، وقد أشارا إلى التطور التاريخي لمسيرة هذه الطائفة واتفقا على أنها امتداد لمدرسة الإمام أحمد بن حنبل، تجددت على يد شيخ الإسلام ابن تيمية في القرن السابع الهجري، والشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر الهجري، وزعما أن السلفيين هم الذين أطلقوا على أنفسهم هذا اللقب. وسواء صح أن دعاة العودة إلى مذاهب السلف هم الذين أطلقوا على أنفسهم هذا القب، أم أطلقه عليهم غيرهم ثم عرفوا به؛ فإني لم أقف على من أنكر عليهم ذلك أو اعترض على إطلاق هذا اللقب عليهم من أهل العلم قديمًا، أو حديثًا ممن عرف بالسنة والدعوة إليها، وأقل ما يقال في جواز التلقب بذلك والانتساب إليه. وأنه اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح ما دام المعنى صحيحًا وحقًا في أصله كما تقدم كلام شيخ الإسلام في ذلك، وأنه لا عيب   1 انظر: ص 34- 35. 2 انظر: ص 39، "ط. الأولى 1408. - مطابع الرشيد". 3 انظر: ص 187، "ط. دار الفكر العربي". 4 انظر: ص 499- 500. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 على من أظهر مذهب السلف وانتسب واعتزى إليه؛ لأن مذهب السلف لأي كون إلا حقًا. وما كان الموضوع يستدعي الوقوف عنده والإطالة في تقريره لولا ما وقفت عليه من كلام للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه الجديد "السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي"، عد فيه "من الخطأ بمكان أن نعمد إلى كلمة "السلف" فنصوغ منها مصطلحًا جديدًا طارئًا على تاريخ الشريعة الإسلامية ألا وهو "السلفية" فنجعله عنوانًا مميزًا تندرج تحته فئة معينة من المسلمين"1؛ بل عد ذلك من البدع الطارئة على المسلمين فقال: "بل لا نعدوا الحقيقة إن قلنا: وإن اختراع هذا المصطلح بمضامينه الجديدة التي أشرنا إليها بدعة طارئة في الدين لم يعرفها السلف الصالح لهذه الأمة والخلف الملتزمة بنهجه"2. وهو يرى في هذا الكتاب: "أن الاقتداء بالسلف لا يكون باتباع آرائهم، وأقوالهم، ومواقفهم التي اتخذوها، وسلوك طريقتهم؛ فيقول: "فإن إتباع السلف لا يكون بالانحباس في حرفية الكلمات التي نطقوا بها، أو المواقف الجزئية التي اتخذوها؛ لأنهم هم أنفسهم لم يفعلوا ذلك؛ وإنما يكون بالرجوع إلى ما احتكموا إليه من قواعد تفسير النصوص وتأويلها، وأصول الاجتهاد والنظر في المبادئ والأحكام"3. وإذا نحن أردنا أن نعرف ما هي هذه القواعد؟ ومتى وضعت؛ فإن فضيلته يجيب بوضوح: أن هذه القواعد هي قواعد أصول الفقه، وأنها تعتمد فيما تعتمد على طبيعة اللغة العربية وأساليبها وفهمها، وأن استنباط هذه القواعد تأخر إلى   1 انظر: ص 13، "ط. الأولى 1408 هـ= 1988. نشر: دار الفكر-دمشق". 2 نفس المصدر. 3 نفس المصدر ص 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 عصر الإمام محمد بن إدريس الشافعي "150- 204 هـ"1 أول من وضع قواعد أصول الفقه. وإذا كان عصر الإمام الشافعي لا يمثل إلا الحلقة الثالثة من القرون الثلاثة التي هي خير القرون والتي تمثل بمجموعها السلف المقتدي بهم، كما سبق بيان ذلك؛ فأين القواعد التي اعتمد عليها الصحابة والتابعون بقبل أن يضع الإمام الشافعي هذه القواعد، حتى يمكن أن نقول: لا نقتدي بالصحابة إلا على ضوئها ووفق قوانينها. وليت فضيلته وقف عند الأصول والقواعد التي وضعها الإمام الشافعي؛ فالإمام الشافعي إمام من أئمة السلف يدعو إلى السنة على طريقة من سبقه من الأئمة؛ وإنما نراه يضع لنا منهجًا عامًا يرى أنه لا بد لمن يريد ممارسة الإسلام الصحيح أن يتبعه فيقول: "إن الإنسان لكي يمارس الإسلام يقينًا وسلوكًا لا بد أن يجتاز المراحل الثلاث التالية: أ- التأكد من صحة النصوص الواردة والمنقولة عن فهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قرآنا كانت هذه النصوص أم حديثًا؛ بحيث ينتهي إلى يقين بأنها موصولة النسب إليه وليست منقولة عليه. ب- الوقوف بدقة على ما تتضمنه وتعينه تلك النصوص؛ بحيث يطمئن إلى ما يعنيه ويقصده صاحب تلك النصوص منها. ج- عرض حصيلة تلك المعاني والمقاصد التي وقف عليها وتأكد منها على موازين المنطق والعقل قال: "ونعني بالمنطق هنا قواعد الدراية والمعرفة عمومًا لتمحيصها ومعرفة موقف العقل منها"2. ثم أخذ يفصل ويشرح أجزاء كل من هذه الثلاث المراحل التي تكون في مجموعها وبتفاصيلها المنهج العلمي الذي ينبغي اتباعه في فهم النصوص في   1 نفس المصدر ص 19. 2 نفص المصدر ص 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 نظره. وبإلقاء نظرة فاحصة على أجزاء هذا المنهج يتضح لنا بدون أدنى مواربة أن الحكم النهائي في تفسير النص، وقبوله أو رده؛ إنما هو للعقل والمنطق، وهذا منهج أهل الكلام والبدع يعرضون النصوص على العقول فما أجارته وقبلته، أجيز وما لا فلا بد من التصرف فيه بالرد أو التأويل أو بإبطال مفعوله وإيقافه عن العمل في بعض الأبواب دون بعض، وما كان هذا المنهج في يوم من الأيام هو منهج السلف. ولنسر مع الدكتور البوطي وهو يوضح موقف العقل من نصوص الشرع، بعد أن قسم الحديث إلى متواتر، وآحاد، وضعيف؛ فيقول في المتواتر: "وإنما موقف العقل منه هو القبول والإذعان، أيًا كان هذا العقل، وأيًا كان صاحبه ومهما كانت نحلته؛ فإن العقل الإنساني لا يرتاب في صحة خبر امتد إليه ابتداء من مصدره، عن طريق جموع غفيرة متصلة". ثم يقول في موقف العقل من خبر الآحاد: "هذا القسم الثاني من الأخبار يسمى صحيحًا، وموقف العقل منه هو الاطمئنان غليه والوثوق به على سبيل الترجيح لا الجزم؛ فإن العقل يظل يجيز احتمال أن يكون قد تسلل إلى الخبر شائبة وهم، من جهة نسيان، أو خطأ أو ذهول وقع من بعض رواته، ومهما كان هذا الاحتمال بعيدًا؛ نظرًا لتوافر شروط الصحة فيه؛ فإنه يظل احتمالا وأردًا. ولأجل هذا الاحتمال البعيد، يضرب فضيلة الدكتور البوطي ومن قبله أصحاب هذا المنهج من أسلافه عن توفر شروط الصحة في حديث الآحاد صفحًا، ويقرر أن: "هذا القسم لا تتكون منه حجة ملزمة في نطاق الاعتقاد؛ بحيث يقع الإنسان في طائلة الكفر إن هو لم يجزم بمضمون خبر صحيح لم يرق إلى درجة التواتر، وبقي في حدود الآحاد، بل يسعه أن لا يجزم به دون أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 يخدش ذلك في إيمانه وإسلامه وإن كان ذلك قد يخدش في عدالته ويتسوجب فسقه". ويعلل فضيلته هذا الاتجاه: "بأن الاعتقاد انفعال قسري وليس فعلًا اختياريًا؛ فإن وجد العقل أمامه ما يحمله على الانفعال واليقين يأمر ما، اصطبغ بذلك اليقين لا محالة دون أن يكون في ذلك أي اختيار، وإن لم يجد أمامه ما يحمله على ذلك الانفعال واليقين لم يجد بدًا من الوقوف عند درجة الربية والظن"1. وأي فضل لامرء في إيمان أو اعتقاد لا خيار له فيه؛ وإنما وجد نفسه منفعلة به مقسورة عليه، على ماذا يثاب حينئذ؟ وهل كان إيمان الصحابة إلا تسليمًا وتصديقًا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم -وكذلك إيمان سائر السلف من بعدهم لم يكن قهرًا ولا قسرًا ولا وجدوا أنفسهم مضطرين إليه مقسورين عليه؛ إنما جاءهم كتاب ربهم وبلغتهم سنة نبيهم فآمنوا وسلموا تسليمًا، وقالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَار} 2؛ فقبل منهم هذا الإيمان ووعدهم بالإثابة والأجر عليه فقال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} 3. ولم يقبل الله عز وجل إيمان فرعون عندما آمن اضطرارًا، ولم يصدق موسى عليه السلام إلا بعد أن وجد نفسه مقسورة على اليقين والإيمان منفعلة به؛ فلا ثواب، بل ولا قبول حينئذ. يقول عز وجل: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِين   1 المصدر السابق ص 66. 2 سورة آل عمران آية 193. 3 نفس السورة آية 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِين} أي: لا ينفعك هذا الإيمان؛ لأنه لم يكن إيمان تسليم؛ وإنما إيمان قسر واضطرار؛ {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} 1. وبعد: فهذا المنهج الذي يرى فضيلة الدكتور البوطي أنه مقياس اتباع الكتاب والسنة، وهو العنوان على مدى الاعتصام بحبل الله عز وجل2. وهو كما ترى منهج يقضي بتحكيم العقل في نصوص الشرع وتسليطه عليها وهو منهج أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة3. فانظر أيهما أهدى إتباع السلف الصالح وسلوك طريقهم ومنهجهم، واعتبار أقوالهم وفهمهم وتفسيرهم لنصوص الوحي، أم هذا المنهج الخلقي؟   1 سورة يونس الآيات من 90- 92. 2 انظر: السلفية مرحلة زمنية ص56. 3 وقد تصدى للرد على البوطي في هذا الكتاب أفاضل من أهل العلم؛ منهم الشيخ صالح بن فوزان الفوزان في كتابه نظرات وتعقيبات، والشيخ عبد القادر حامد في مقالات له نشرتها مجلة البيان، العدد 34 وما بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 3- أهل الحديث: من الأسماء التي ترد كثيرًا معبرًا بها عن "أهل السنة "، "أهل الحديث"، وهذا واضح في كلام كثير من الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيره من أهل العلم قبله وبعده، يذكرون "أهل الحديث" و"أهل السنة" مبينين اعتقادهم، ولا يفرقون بين المصطلحين؛ فهذا الإمام الصابوني "372- 449"، يقول في عقيدته: "إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة حفظ الله أحياءهم، ورحم أمواتهم يشهدون لله تعالى بالوحدانية وللرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة. إلى أن يقول: وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 والتكييف والتشبيه ومن عليهم بالتعريف والتفهيم"1. فعبر بكل من المصطلحين عن الآخر مما يدل على أنهما يترادفان ولا سيما إذا ذكرا في كتب الاعتقاد؛ لأن اعتقادهما واحد وهو ما جاء في الحديث والسنة وهما بمعنى واحد. وشيخ الإسلام يقول مثلًا: "مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة"2. وهذا كما ذكرت، كثير في كتبهم رحمهم الله؛ وإنما ذكرت ذلك من باب التمثيل، فهل يعني ذلك أن المصطلحين مترادفان أو أن لكل منهما معنى؟ لكي نتبين ذلك لا بد أن نقف على معنى "السنة" و"الحديث" هل هما بمعنى واحد أو أن لكطل منهما معنى؟ تقدم لنا تعريف السنة، وأن معناها يختلف عند المدثين عنه عند الفقهاء، عنه عند الأصوليين، وأن معنى السنة في عرف كثير من السلف مقابل للبدعة، فيقصدون بالسنة موافقة الكتاب وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام؛ فيقال: فلان على السنة؛ إذ كان عمله موافقًا للكتاب والسنة، وعمل السلف، وفلان على البدعة؛ إذ كان عمله مخالفًا للكتاب والسنة3. والسنة عند المحدثين مرادفة للحديث، فهما كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية4. وبهذا يتبين لنا أن السنة والحديث وإن كانا بمعنى واحد عند المحدثين   1 انظر: عقيدة السلف أصحاب الحديث ص 3- 4 بتحقيق بدر البدر. 2 انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/ 203. 3 راجع: مبحث بيان معنى السنة ص 32. 4 انظر: مبحث بيان معنى السنة ص 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 لكنهما عند غيرهم ليسا كذلك، ولا سيما عند السلف الذين يطلقون السنة في مقابل البدعة فتشمل الكتاب والسنة والشريعة، وليس ذلك لـ "الحديث"؛ فالحديث إذن مصطلح علمي فني أضيق من "السنة". وعلى هذا: فهنالك فرق بين مصلطح "أهل السنة" و"أهل الحديث"، وإن عبر بأحدهما عن الآخر في أبواب الاعتقاد لما بينهما من التقارب في الغالب؛ وإلا فقد يكون المرء من أهل السنة، وليس من أهل الحديث من الناحية الصناعية؛ أي: ليس بمحدث. وقد يكون المرء من أهل الحديث صناعة وليس هو من أهل السنة فقد يكون مبتدعًا؛ ولذلك قال عبد الرحمن بن مهدي: "الناس على وجوه؛ فمنهم من هو إمام في السنة إمام في الحديث، ومنهم من هو إمام في الحديث؛ فأما من هو إمام في السنة وإمام في الحديث فسفيان الثوري"1. وقال الإمام ابن الصلاح: وقد سئل عن الفرق بين السنة والحديث في قول بعضهم عن الإمام مالك أنه جمع بين السنة والحديث؛ قال: "السنة هنا ضد البدعة، وقد يكون الإنسان من أهل الحديث وهو مبتدع، ومالك رضي الله عنه جمع بين السنتين؛ فكان عالمًا بالسنة؛ أي: لحديث - ومعتقدًا للسنة- أي كان مذهبه مذهب أهل الحق من غير بدعة"2. لكن في الغالب أن أهل الحديث على السنة؛ لأنهم حملتها، وأقرب الناس إليها، وهم ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقله سنته، والمبتدع فيهم قليل بل الغالب عليهم الإتباع. فإذا قيل: "أهل الحديث" في كتاب العقائد، فالمراد أهله رواية ودراية   1 اللالكائي، شرح أصول السنة 1/ 63. 2 فتاوى ابن الصلاح 1/ 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 واتباعًا، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان المقصود بلفظ "أهل الحديث": "ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته وروايته؛ بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهرًا وباطنًا واتباعه باطنًا وظاهرًا وكذلك أهل القرآن"1. وعلى هذا المعنى يصح أن يعبر بمصطلح "أهل الحديث" عن "أهل السنة" وهو المراد عند الإطلاق ولا سيما في كتاب الاعتقاد عن السلف. والله تعالى أعلم.   1 الفتاوى 4/ 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 4- "الأثرية" أو "أهل الأثر": وهذا الاسم يطلقه كثير من أهل العلم ويريدون به أهل السنة والحديث. كما جاء في كلام أبي حاتم الرازي "195- 277 هـ": "مذهبنا واختيارنا إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين. والتمسك بمذهب أهل الأثر مثل: أبي عبد الله أحمد بن حنبل". وقال في موضع آخر: "وعلامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر، وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل السنة حشوية" فاستعمل "أهل الأثر" بمعنى "أهل السنة"1. وكذلك ورد إطلاق ذلك في كلام أبي نصر السجزي2، وشيخ الإسلام ابن تيمية4، والإمام السفاريني5 وغيرهم من أهل العلم، وربما جعل بعضهم   1 اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 179، 180، 181. 2 الرد على من أنكر الحرف أو الصوت ص 175، 177، 179، 195، 200، 223. 3 انظر: "درء التعارض" "6/ 266". 4 انظر: لوامع الأنوار 1/ 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 هذا اللفظ علمًا على مصنفاتهم في العقيدة1. وسموا بذلك؛ نسبة إلى "الأثر" وهو في اصطلاح أهل الحديث مرادف للحديث، وعنه بعض الفقهاء هو بمعنى الموقوف على الصحابي2. يقال: أثرت الحديث بمعنى رويته، ويسمى المحدث أثريًا؛ نسبة للأثر3. ومعنى أهل الأثر كما يقول الإمام السفاريني: "أي: الذين إنما يأخذون عقيدتهم من المأثور عن الله جل شأنه في كتابه، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما ثبت وصح عن السلف الصالح من الصحابة الكرام والتابعين لهم الفخام"4. وهذا بمعنى "أهل السنة" في إطلاق السلف.   1 وذلك مثل: العين والأثر في عقائد أهل الأثر، للإمام عبد الباقي الحنبلي. وقطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، للعلامة صديق حسن خان. 2 القاسمي: قواعد التحديث ص 61. 3 السيوطي، تدريب الراوي 1/ 23. 4 لوامع الأنوار 1/ 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 5- الفرق الناجية ... 5- الفرقة الناجية: وذلك أخذًُا من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق: "وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة" 1. فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الفرق كلها هالكة إلا واحدة فهي ناجية وهي الجماعة، وفي رواية أخرى: "ما أنا عليه وأصحابي" 2.   1 جه: كتاب الفتن، باب افتراق الأمم 2/ 1322 ح. وقال الألباني: "صحيح"، انظر: صحيح ابن ماجه 2/ 364. 2 تقدم ص 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وهذا الوصف لا ينطبق إلا على أهل الحديث والسنة؛ فإنهم هم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فهم الفرقة الناجية ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل، وقد ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "تفترق الأمة على نيف وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة": إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم1. وقال الإمام عبد القادر الجيلاني وقد ذكر أصول الفرق ... : "وأما الفرقة الناجية: فهي أهل السنة والجماعة"2. ونجد كثيرًا من أهل العلم قديمًا وحديثًا "يجعل الفرقة الناجية" علمًا على "أهل السنة" واسمًا من أسمائها، ومن ذلك: صنيع شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة العقيدة الواسطة؛ حيث قال: "أما بعد: فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة"3. ومن ذلك أيضًا صنيع الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز؛ حيث قال: "قول الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات هو"4. وقد تقدم إدعاء كثير من الفرق أنهم الفرقة الناجية والرد على ذلك5.   1 الخطيب البغدادي، شرف أصحاب الحديث ص 25. 2 انظر: الغنية لطالبي طريق الحق ص 85. 3 انظر: العقيدة الواسطية مع شرح الهراس ص 14، ط. الثالثة. 4 انظر: تعليق الشيخ على رسالة التنبيهات اللطيفة، للشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي، ص 7. 5 انظر: المبحث الثالث من التمهيد، ص 48 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 6 الطائفة المنصورة: وهذا اللقب مستفاد من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" 1. وفي حديث معاوية بن قرة عن أبيه: "لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة" 2. وقد بين السلف المراد بهذه الطائفة3. وقال يزيد بن هارون "118- 206 هـ": "إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم"4. وقال علي بن المديني "161- 234 هـ": "هم أصحاب الحديث"5. وقال الإمام أحمد بن حنبل "164- 241": "إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم"6. قال الحافظ ابن حجر: سنده صحيح7. وقال الإمام البخاري "194- 256 هـ": "وهم أهل العلم"8.   1 خ: كتاب الاعتصام بالسنة، باب لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين 13/ 293، ح 7311. 2 ت: كتاب الفتن، باب ما جاء في الشام 4/ 485، ح 2192، جه: مقدمة، باب إتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم 1/4، ح 6، وقال الألباني: "صحيح"، انظر: صحيح الترمذي 2/ 239، وصحيح ابن ماجه 1/ 6. 3 الخطيب البغدادي: شرف أصحاب الحديث ص 26. 4 نفس المصدر ص 26. 5 انظر: جامع الترمذي 4/ 485. 6 انظر: الحاكم، معرفة علوم الحديث ص 3. 7 الفتح 13/ 293. 8 نفس المصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وروى الخطيب البغدادي عنه بسنده أنه قال: "يعني: أصحاب الحديث"1 ولا منافاة بين القولين؛ فإن أهل الحديث من أهل العلم. وقال أحمد بن سنان " ... - 259": "هم أهل العلم وأصحاب الآثار"2. والمراد بأهل الحديث: أهله رواية ودراية، علمًا وعملًا وإتباعًا؛ إذ هم الذين يستحقون النصر والظهور لنصرتهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعملهم بها وذبهم عنها؛ فهم أولى الناس بأن يكونوا الطائفة المنصورة كما قال أبو عبد الله الحاكم بعد أن ذكر قول الإمام أحمد في الطائفة المنصورة السابق، قال: "فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر أن الطائفة المنصورة التي يرفع الخدلان عنهم إلى قيام الساعة، هم أصحاب الحديث، ومن أحق بهذا التأويل من قوم سلكوا محجة الصالحين، واتبعوا آثار السلف الماضيين، ودفعوا أهل البدع والمخالفين بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين"3. وأهل الحديث بهذا المعنى هم أهل السنة؛ ولهذا قال القاضي عياض "476- 544 هـ" عقب قول الإمام أحمد السابق: "إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث"4. فأهل الحديث، في تفسير السلف للطائفة المنصورة، هم أهل السنة والجماعة، فهم الطائفة المنصورة؛ ولهذا نرى كثيرًا من أهل العلم يطلق اسم الطائفة المنصورة على أهل السنة والجماعة؛ فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول في مقدمة العقيدة الواسطية: "أما بعد:   1 شرف أصحاب الحديث ص27. 2 نفس المصدر. 3 معرفة علوم الحديث ص30. 4 انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 13/ 67، كتاب الإمارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، أهل السنة والجماعة"1، ويقول في آخر هذه العقيدة أيضًا: وهم -أي: أهل السنة- الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة" 2. وما ورد في بعض الروايات من أن هذه الطائفة هم أهل الشام، كما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة" 3. قال الإمام أحمد بن حنبل: "هم أهل الشام"4، وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "وهم بالشام"5؛ فلا ينافي تفسير الأئمة بأنهم أهل الحديث؛ فالطائفة المنصورة هم أهل الحديث والسنة سواء كانوا في الشام أم في غيرها، ولا يمنع أن يكون أهل الشام في بعض الأوقات هم الطائفة المنصورة، أو أحق الناس دخولًا فيها لقيامهم بالسنة ودفاعهم عن حمى الإسلام والمسلمين، كما حدث زمن اجتياح التتار بلاد المسلمين في أواخر القرن السابع الهجري؛ فإن أهل الشام في ذلك الوقت كانوا هم الطائفة المنصورة لتمسكهم بالسنة وثباتهم عليها وذودهم عن بلاد المسلمين، ولنستمع لشيخ الإسلام ابن تيمية وهو شاهد حال عاصر الفتنة، وكان من المجاهدين فيها بلسانه وسنانه رحمة الله عليه؛ إذ يقول: "أما الطائفة بالشام ومصر ونحوهما، فهم في هذا الوقت المقاتلون عن دين الإسلام، وهم من أحق الناس دخولًا في الطائفة المنصورة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الأحاديث الصحيحة المستفيضة عنه: "لا تزال طائفة من أمتي   1 انظر: العقيدة الواسطية بشرح الهراس ص14. وقد سبقت الإشارة لذلك ص121. 2 نفس المصدر ص157. 3 م: كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي" 3/ 1525، ح 1925. 4 انظر: الفتاوى لابن تيمية 28/ 532. 5 نفس المصدر والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم؛ حتى تقوم الساعة، ومن يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام، علمًا وعملًا، وجهادًا، عن شرق الأرض وغربها؛ فإنهم هم الذين يقاتلون، أهل الشوكة العظيمة من المشركين وأهل الكتاب، ومغازيهم مع النصارى، ومع المشركين من الترك، ومع الزنادقة المنافقين من الداخلين في الرافضة وغيرهم، كالإسماعيلية ونحوهم من القرامطة معروفة، معلومة قديمًا وحديثًا"1. ثم ذكر رحمه الله أحوال أهل الأقطار الإسلامية، وما حل بهم من ضعف وعجز عن الجهاد، وبعد عن الكتاب والسنة، وتلبس بالبدع والضلال والفجور؛ فيقول: "وذلك أن سكان اليمن في الوقت ضعاف، عاجزون عن الجهاد، أو مضيعون له وهم مطيعون لمن ملك هذه البلاد، حتى ذكروا أنهم أرسلوا بالسمع والطاعة لهؤلاء. وأما سكان الحجاز؛ فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة، وفيهم من البدع والضلال والفجور ما لا يعلمه إلا الله، وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون, وأما بلاد إفريقية فأعرابها غالبون عليها، وهم من شرق الخلق؛ بل هم مستحقون للجهاد والغزو، وأما المغرب الأقصى فمع استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم لا يقومون بجهاد النصارى هناك؛ فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت، هم كتيبة الإسلام, وعزهم عز الإسلام، وذلهم ذل الإسلام؛ فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز، ولا كلمة عالية، ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل عنه"2. فهذه الصورة التي نقلها شيخ الإسلام لواقع المسلمين في عصره، تبين في جلاء أن أكثر أهل الديار الإسلامية قد ابتعدوا عن الكتاب والسنة، ودب فيهم الضلال والفجور والبدع، مما جعلهم غير مؤهلين للدفاع عن بلاد الإسلام، وجهاد الأعداء، وإن أهل الشام كانوا في ذلك الوقت هم أهل السنة العاملين بها والذابين عنها قولًا وعملًا وجهادًا لأعدائها؛ فكانوا هم الطائفة المنصورة في عصرهم.   1 الفتاوى 28/ 531- 532. 2 الفتاوى 28- 533- 534. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ثانيًا: ألقاب أهل السنة عند خصومهم من أهل الأهواء والبدع تقدم لنا في أول هذا المبحث أن خصوم أهل السنة نادرًا ما يذكرونهم باسم أهل السنة، أو أهل الحديث، أو غير ذلك من الأسماء المرضية عند أهل السنة. وأنهم درجوا على الإشارة إليهم في كتبهم وأقوالهم بألقاب وأسماء ابتدعوها من عند أنفسهم، بقصد الحط والتشنيع عليهم وعلى مذهبهم، كما قال إما أهل السنة الإمام أحمد في كتاب "السنة" له: "وقد أحدث أهل الأهواء والبدع والخلاف أسماء شنيعة قبيحة، يسمون بها أهل السنة، يريدون بذلك الطعن عليهم، والإزراء بهم عند السفها والجهال"1. فكل فرقة أو طائفة تذكر أهل السنة بلقب أو أكثر، وربما اتفق طائفتان أو أكثر على نبز أهل السنة ببعض الألفاب كما سيأتي، حتى أصبح من أبرز علامات أهل البدع وأظهر ما يميزهم هم الوقيعة في أهل السنة والأثر2، ونبزهم بالألقاب المنفرة المستكرهة. وهذه علامة أهل الباطل، إذا أعيتهم الحجة لجئوا إلى وصم أهل الحق ودعاته بأقبح الألقاب، وأحط الأسماء، كما فعل مشركوا مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث اقتسبموا القول فيه، فسماه بعضهم: ساحرًا، وبعضهم كاهنًا، وبعضهم شاعرًا، وبعضهم مجنونًا، وبعضهم مفتونًا،   1 ص 40. 2 انظر: كلام أبي حاتم الرازي في: شرح أصول اعتقاد أهل السنة، اللالكائي 1/ 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وبعضهم مفتريًا مختلفًا كذابًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم من تلك المعائب بريئًا، ولم يكن إلا رسولًا مصطفى نبيًا قال الله عز وجل: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} 1، وكذلك المبتدعة. اقتسموا القول في حملة أخباره، ونقلة آثاره ورواة أحاديثه المقتدين به، المهتدين بسنته، المعروفين بأصحاب الحديث، فسماهم بعضهم حشوية، وبعضهم: مشبهة، وبعضهم نابتة، وبعضهم: ناصبة، وبعضهم: جبرية، وأصحاب الحديث عصامة من هذه المعايب، بريئة زكية نقية وليسوا إلا أهل السنة المضية والسيرة المرضية2. وجميع هذه الألقاب والأسماء لا تلحق أهل السنة عند التخفيف، كما لم يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نبزه به الكفار من الأسماء والألقاب؛ وإنما نوردها هنا لأمور: الأمر الأول: هو ما أشرنا إليه في مطلع المبحث وهو أن كتب الفرق والمقالات لا تذكر اهل السنة أو أهل الحديث؛ وإنما تذكر مذهب أهل السنة وأهل الحديث وتقول قال الحشوية، أو قال المشبهة، أو المجسمة، أو الناصبة ولا يريدون بهم إلا أهل السنة والحديث؛ فلا بد أن نذكر هذه الأسماء والألقاب ونبين المراد بها. الأمر الثاني: لبيان من نبز بها أهل السنة وذلك بالرجوع إلى مصادرهم ما أمكنني ذلك. والثالث: للرد عليها وبيان أنها لا تنطبق على أهل السنة، وأن غيرهم أحق بها. فأول هذه الألقاب:   1 سورة الفرقان آية 9. 2 أبو إسماعيل الصابوني، عقيدة السلف أصحاب الحديث. "بتحقيق بدر البدر"، ص 106- 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 1- مشبهة: وهذا اللقب من أشنع الألقاب التي نبزهم بها مخالفوهم في باب الأسماء والصفات -من الجهمية- والمعتزلة، والأشاعرة؛ وذلك أن أهل السنة والأثر يصفون الله عز وجل بكل ما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل ولا تأويل، ولا تشبيه ولا تمثيل، وعند هذه الطوائف والفرق أنه لا بد من تأويل النصوص الواردة في باب الصفات؛ لأن ظاهرها يوهم التشبيه عندهم؛ فلا بد من صرفها، لذا عدوا كل من أثبت لله ما أثبته النصوص من غير تأويل، مشبهًا. فأما الجهمية، فإن من أهم وأقدم ما وصل إلينا من النصوص التي تشير إلى نبزهم أهل السنة والأثر بلقب "مشبهة" ما رواه الإمام اللالكائي عن إسحاق بن راهويه "ت 238 هـ" قال: "علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل الجماعة وما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة"1. وما أورده الإمام أحمد بن حنبل في كتابه القيم: "الرد على الجهمية والزنادقة" عن الجهم "ت 128 هـ": "أنه زعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه، أو حدث عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان كافرًا، وكان من المشبهة"2. وكذلك قول أبي حاتم "ت 277 هـ": "وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة"3. وأما المعتزلة: فهم ورثة الجهمية الذين ورثوا عنهم القول بنفي الصفات، ونبز من أثبتها بالتشبيه؛ فهذا أبو موسى المردار "ت 336 هـ"، والذي يعد من علماء المعتزلة ومقدميهم ينقل عنه الخياط "ت بعد 300 هـ" أنه: "كان يزعم أن   1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 179. 2 ص 104. 3 اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 من قال: إن الله يرى بالأبصار على أي وجه قال: فمشبه لله بخلقه والمشبه عنده كافر"1. ومعلوم أن من أصول مذهب أهل السنة إثبات رؤية المؤمنين ربهم في الجنة. ويقول القاضي عبد الجبار "ت 415 هـ" بعد أن أول الاستواء وذكر استعمالات لفظة "استوى" في اللغة: "وإذا كانت اللفظة تستعمل على هذه الجهات؛ فكيف يصح للمشبهة التعليق بها؟ "2، يقصد من يثبت الاستواء لله عز وجل على عرشه. ويذكر الإمام الرازي "ت 606 هـ": "أن جماعة من المعتزلة ينسبون التشبيه إلى الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين "ت 333 هـ" - قال: وهذا خطأ منهم فإنهم منزهون في اعتقادهم عن التشبيه والتعطيل"3. ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: "أن جل المعتزلة تدخل عامة الأئمة مثل مالك "ت 179 هـ" وأصحابه، والثوري "ت 161 هـ" وأصحابه، والأوزاعي "ت 157 هـ" وأصحابه، والشافعي "ت 204 هـ"، وأحمد "ت 241 هـ" وأصحابه، وإسحاق بن راهويه "ت 238 هـ"، وأبي عبيد "224" وغيرهم في قسم المشبهة"4. بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك: "فرمى الأنبياء صلوات الله وسلامه   1 الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، "تحقيق د. البير نصري نادر"، ص 55، وانظر أيضًا ص 43. 2 انظر: متشابه القرآن "بتحقيق دِ. عدنان محمد زرزور"، ص 74. 3 اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 66. 4 الفتاوى 5/ 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 عليهم بذلك؛ حتى قال ثمامة بن الأشرس "ت 213 هـ" من رؤساء الجهمية1: ثلاثة من الأنبياء مشبهة موسى؛ حيث قال: "إن هي إلا فتنتك"2 وعيسى؛ حيث قال: "تعلم ما نفسي ولا أعلم ما في نفسك"3 ومحمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: "ينزل ربنا"4" 5. وأما الأشاعرة: فإنهم لما كانوا لا يثبتون إلا بعض الصفات6، ويؤولون البعض الآخر؛ فقد نبزوا من يثبت لله جميع ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم بالتشبيه. يقول الجويني "ت 478 هـ": "واعلموا أن مذهب أهل الحق أن الرب سبحانه وتعالى يتقدس عن شغل حيز، ويتنزه عن الاختصاص بجهة. وذهب المشبهة إلى أنه -تعالى عن قولهم - مختص بجهة فوق"7. ومعلوم أن أهل السنة والجماعة يثبوت لله عز وجل ما أثبته لنفسه من الفوقية في قوله عز وجل: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 8، ومن أثبت ذلك عند   1 يريد المعتزلة، وكثيرًا ما يطلق على المعتزلة لقب الجهمية لقولهم بقولهم في نفي الصفات. 2 سورة الأعراف آية 155. 3 سورة المائدة آية 166. 4 يشيرِ إلى حديث النزول وهو حديث صحيح أخرجه خ: كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل 3/ 29. وم: كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل 1/ 521، ح 68. 5 الفتاوى 5/ 110. 6 لا لأنها وردت في الكتاب والسنة؛ وإنما لأن العقل لا يحيلها، مثل صفة "الحياة، والعلم، وغيرها من الصفات السبع التييثبتونها ولو كانوا أثبتوها لورد النص بها، لما أولوا باقي الصفات مع ورود النصوص بها أيضَا. 7 انظر: الشامل ص 511. 8 سورة النحل آية 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الجويني يعد مشبهًا. ومن خلال هذا العرض لهذه النماذج من أقوال الجهمية والمعتزلة والأشاعرة التي وصموا فيها أهل السنة بلتشبيه، يتضح لنا أن القوم يعدون إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيهًا، وكل من أثبتها مشبهًا. والحق أن أهل السنة لم يزيدوا في هذا الباب على أن قالوا كما قال ربهم وخالقهم عن نفسه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1؛ فأثبتوا لله ما أثبت لنفسه من الصفات مع قطعهم بنفي المشابهة والمماثلة بين صفاته وصفات المخلوقات؛ فهم يصفون الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. والمشبهة هم الذين يمثلون صفاته بصفات خلقه، كما قال الإمام إسحاق ابن راهويه: "إنما يكون التشبيه لو قيل يد كيد، وسمع كسمع"2، أما إذا قيل: يد وسمع تليق بعظم الباري وجلاله من غير مشابهة أو مماثلة ليد وسمع المخلوق اللائق بعجزه وافتقاره فلا يعد ذلك تشبيهًا. وأهل السنة من أشد الناس مقتًا للمشبهة والتشبيه لما قام في قلوبهم من جلال الخالق وعظمته، مع إثباتهم صفات الجلال والكمال التي ثبتت لله عز وجل، ولذلك يقول نعيم بن حماد "ت 228 هـ": "من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر؛ فليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه"3؛ لأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته. وقال إسحاق بن راهويه: "من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من   1 سورة الشورى آية 11. 2 انظر: ابن حجر فتح الباري 13/ 407. 3 اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/ 532، ح 936. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 خلق الله؛ فهو كافر بالله العظيم"1. وقد عقد الإمام اللالكائي بابًا في "سياق ما روي في تكفير المشبهة"2 نقل فيه من أقوال السلف في ذلك ما ذكرنا بعضه فكيف يقال بعد ذلك أِنهم مشبهة؟ بل التشبيه بنفاة الصفات ومؤوليها أشبه. كما ذكر الإمام البخاري عن بعض أهل العلم: "أن الجهمية هم المشبهة؛ لأنهم شبهوا رهبم بالصنم والأصم والأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، ولا يخلق، وقالت الجهمية: هو كذلك لا يتكلم ولا يبصر نفسه، وقالوا: إن اسم الله مخلوق"3. وربما شبهوه بالمعدومات بقوله: ليس هو فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا داخل العالم، ولا خارجه، ولا هو ممازج له ولا منفصل عنه4. وسيأتي إن شاء الله زيادة تفصيل عند التعرض لمسائل الصفات وموقف المؤولة والنفاة والمشبهة منها. 2- مجبرة: وهذا اللقب نبزهم به المعتزلة والقدرية، وذلك لأن أهل السنة والأثر يقولون: كل شيء بقدر الله، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وهذا القول عند القدرية جبر؛ لأنهم يرون أن أفعال العباد هم المحدثون لها وليست مخلوقة لله، وأن أفعال الشر من الكفر والمعاصي تقع من العبد وهو المحدث لها من غير إرادة من الله ولا تقدير لها.   1 المصدر السابق ح 937. 2 نفس المصدر 3/ 528. 3 خلق أفعال العباد 35- 36. 4 انظر عن هذا القول: الذهبي، العلو ص 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وكل من قال: إنها تقع بإرادة الله وقضائه وقدره وعدوه جبريًا. نقل الخياط المعتزلي "ت بعد 300هـ" عن أبي موسى المردار "ت 226هـ" أن: "من وصف الله بأنه يقضي المعاصي على عباده ويقدرها فمسفه لله في فعله، والمسفه لله كافر به، والشارك في قول المشبه والمجبر فلا يدري أحق قوله أم باطل، كافر بالله أيضًا"1؛ فلم يكتف المردار أن يرمي مثبت القدر بالجبر حتى عده كافرًا بل وعدي التكفير إلى من شك في كفره. وعد القاضي عبد الجبار "ت 415هـ" وهو من كبار مصنفي المعتزلة ومقرري أصولهم، كل ما أثبت القدر مجبرًا فقال: "والذين يثبتون القدرهم المجبرة؛ فأما نحن فإنا ننفيه، وننزه الله تعالى أن تكون الأفعال بقضائه وقدره"2. وعنده كل من قال إن الله خالق أفعال العباد؛ فهو مجبر، يقول في كتاب "متشابه القرآن": "وإن سأل المجبر فقال: إن قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ، وفي الأرض الفساد والظلم وأفعال العباد، فيجب أ، يدل ظاهره على أن الخالق لها، ثم قال: والجواب عن ذلك"3 والشاهد انه عد القول بخلق أفعال العباد من قول المجبرة. هكذا نرى المعتزلة لا يترددون في إطلاق لقب المجبرة على من يثبت وقوع الأفعال بقضاء الله وقدره، ولذلك عد أئمة السلف من علامات القدرية "تسميتهم أهل السنة مجبرة" كما روى ذلك اللالكائي4 عن أبي حاتم، وقال الإمام أحمد: "وأما القدرية فيسمون أهل السنة مجبرة"5.   1 الانتصار ص55. 2 انظر: شرح الأصول الخمسة ص775- 776. 3 ص75. 4 انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 179. 5 انظر: السنة له ص40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 3- نقصانية: 4- مخالفة: 5- شكاك: لما كان المرئجة على اختلاف طوائفهم يرون أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان إذا الإيمان عند بعضهم "المعرفة فقط"، وعند فريق هو "النطق باللسان"، وعند أمثلهم هو "اعتقاد بالقلب ونطق باللسان"، قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا يجوز الاستثناء فيه؛ فليس للمرء أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو؛ وإنما يقطع بإيمانه. وعدوًا من أدخل الأعمال في مسمى الإيمان، وقال بزيادته ونقصانه وجوز الاستثناء فيه، مخالفًا لهم. ومن ثم نبزوا أهل السنة والجماعة بالألقاب القبيحة، فقالوا: نقصانية: لقولهم إن الإيمان يزيد وينقص، وقالوا: مخالفة: لمخالفتهم لمذهبهم، وقالوا: شكاك: لقولهم بالاستثناء في الإيمان. روى الإمام اللالكائي عن أبي حاتم قوله: "وعلامة المرجئة تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية"1. وقال الإمام أحمد في كتاب "السنة" له: "وقد أحدث أهل الأهواء والبدع والخلاف أسماء قبيحة شنيعة، يسمون بها أهل السنة، يريدون بذلك الطعن عليهم، والإزراء بهم عند السفهاء والجهال. فأما المرجئة: فيسمون أهل السنة شكاكًا"2. ويبين أبو حاتم الرازي3 وجه نبز أهل السنة بـ "الشكاك" فيقول: "ويقال لهم الشكاك، لقبوهم بذلك لقولهم: إن الإيمان يزيد وينقص وأنهم لم يثبتوا الشهادة على من شهد الشهادتين أنه مؤمن حقًا، وشكوا في أمره، ويقولون:   1 شرح أصول أهل السنة 1/ 179. 2 انظر: ص 40. وتقدم أيضًا ص 126 من هذا البحث. 3 هو: أحمد بن حمدان الرازي صاحب كتاب الزينة - وهو غير أبي حاتم المشهور فهذا سني، والأول إسماعيلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 نرجو أن يكون مؤمنًا؛ وإنما الواجب عليهم أن يقولوا إن إيمانه مثل إيمان محمد صلى الله عليه وسلم، وِإيمان جبريل، وأن يشهدوا عليه أنه مؤمن حقًا ولا يشكوا فيه"1. والحق أن أهل السنة لم يقولوا بالاستثناء في الإيمان، شكا منهم في إيمانهم؛ وإنما استثنوا مخافة تزكية النفس والهشادة لها، واحتياطًا؛ لأن الإيمان عند أهل السنة تدخل فيه الأعمال، والقطع بالإيمان يتضمن القطع بفعل جميع الطاعات وترك جميع المنهيات، وفي القطع بذلك تزكية للنفس والله عز وجل يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} 2. وقد صرح أئمة أهل السنة بأن استثناءهم ليس على معنى الشك، وإنما هو لمعاني أخرى عن الاستثناء في الإيمان فقال: "نعم الاستثناء على غير معنى شك مخافة واحتياطًا للعمل، وقد استثنى ابن مسعود وغيره وهو مذهب الثوري وغيره، قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 3، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله" 4، وقال في البقيع: "عليه نبعث إن شاء الله 5 " 6 وليس الاستثناء في شيء من ذلك على معنى الشك؛ فكذلك استثناؤهم في الإيمان7.   1 انظر: كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية ص 268، "حققه د. عبد الله سلوم السامرائي"، ملحقًا بكتابه الغلو والفرق الغالبية. 2 سورة النجم آية 32. 3 سورة الفتح آية 27. 4 م: كتاب الصيام، باب صحة صوم من يطلع عليه الفجر وهو جنب، 2/ 781. 5 هذا بعض حديث؛ أوله: "إن الميت يصير إلى القبر" أخرجه جه: الزهد، باب ذكر القبر والبلى 2/ 1426، ح 4268. 6 انظر: السنة للخلال ص 659- 696. رسالة دكتوراه "بتحقيق عطية عتيق الزهراني". 7 للدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد دراسة موسعة في ذلك، تقدم بها لنيل درجة الدكتوراه بعنوان: الإيمان زيادته ونقصه والاستثناء فيه. وللدكتور أحمد بن عطية الغامي دراسة بعنوان: الإيمان بين السلف والمتكلمين، وهي أطروحته لنيل درجة الماجستير من جامعة أم القرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وبهذا يتبين أن نبز المرجئة أهل السنة بلقب "الشكاك" لا وجه له يصح؛ وإنما هو من باب التشنيع بغير حق. 6- ناصبة: وهو من الألقاب الشنيعة التي رماهم بها الرافضة، وهو لقب يطلقونه على كل من قدم أبا بكر وعمر وعثمان على علي رضي الله عنهم في الخلافة والفضل، سئل بعض أئمة الشيعة عن "الناصب" هل احتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه "الجبت" و"الطاغوت"1 واعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب2. وهو من المناصبة وهي المعاداة؛ يقال: "ناصبه الشر والحرب والعداوة مناصبة: أظهره له"3. وعند الرافضة كل من لم يبغض أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فقد أبغض عليًا؛ لأنه لا ولاء لعلي إلا بالبراءة منهما، ثم جعلوا كل من أحب أبا بكر وعمر ناصبيًا4. ويبرز صاحب كتاب "الزينة" وجهًا آخر لإطلاق لقب "ناصبي" فيقول: "وروت الشيعة في قراءتهم أن جعفر بن محمد رضي الله عنه5 قرأ الآية في   1 يريد بالجبت والطاغوت: أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كما هو ظاهر. 2 المامقاني: تنقيح المقال 1/ 207، المقدمة. اقتبسه الشيخ محب الدين الخطيب في تعليقه على المنتقى، للذهبي ص 64 حاشية 1. 3 ابن منظور، لسان العرب 1/ 761. 4 انظر: ابن تيمية، الفتاوى 5/ 112. 5 المأثور الترضي عن الصحابة، والترحم على من بعدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 {أَلَمْ نَشْرَح} ، {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَب} 1 بكسر الصاد. وقالوا: إذا فرغت من إكمال الشريعة فانصب لهم عليًا إمامًا؛ فقالت: الشيعة: لما أمر الله عز وجل بذلك نصب النبي صلى الله عليه وسلم عليًا وأشار إليه وأهله للإمامة، وقال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خدله؛ فمن نازعه في الإمامة، ودعا إلى مخالفته، ونصب إمامًا بإزائه غيره؛ فقد ناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله؛ لأنه نصب عليًا، وهذا نصب غيره، وخذل عليًا وعاداه وترك نصرته، وصار مع عدوه حربًا عليه، فهو مناصب؛ لأنه ناصب النبي صلى الله عليه وسلم، ففعل مثل فعله"2. وقال الإمام الجيلاني في ذلك: "وتسميها الرافضة ناصبية، لقولها باختيار الإمام ونصبه بالعقد"3. والرافضة لا ترى ذلك وإنما تذهب إلى أن الأئمة قد نص عليهم. وسواء كان وجه التسمية هذا أو ذاك؛ فإنه لا يقع على أهل السنة؛ لأنهم يعتقدون موالاة وحب أهل البيت، وجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي اللهم عنهم، ولا يناصبون أحدًا منهم العداء كما قال الإمام الطحاوي في عقيدته: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإسحان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"4. فقوم هذا اعتقادهم، في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيهم أهل بيته، أيصح بعد ذلك أن يرموا بالنصب ومعاداة آل البيت؛ بل الأشبه أن يقع هذا   1 سورة الشرح آية 7. 2 أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي، الزينة ص 258. 3 انظر: الغنية ص 85. 4 انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 528. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 اللقب على خصومهم الذين نبزوهم به؛ لأن الرافضة هم الذين ناصبوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداء، بل وقالوا بكفرهم وارتدادهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عدى قلة منهم تعد على الأصابع كما سيأتي توضيح ذلك في موضعه بإذن الله. 7- العامة، والجمهور: العامة: خلاف الخاصة1، وهذا اللقب مما انفرد الرافضة بإطلاقه على أهل السنة، فيجعلون أنفسهم الخاصة، المؤمنين، ويعدون أهل السنة "عامة" لا خلاق لهم بل هم عندهم كفار ونجس، لا تحل ذبائحهم، وتستباح دماؤهم وأموالهم2. وهذه بعض نصوص القوم في كتبهم توضح في جلاء إطلاقهم لقب "العامة" على أهل السنة. نقل الخونساري في كتاب "روضات الجنات" عن صاحب "معالم العلماء" أنه قال في ترجمة أبي نعيم: "الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني عامي إلا أن له منقبة الطاهرين ومرتبة الطيبين"، كما نقل عن محمد حسين الخاتون آبادي قوله: وممن أطلعت على تشيعه من مشاهير علماء العامة هو الحافظ أبو نعيم"3 يريد بقوله "عامي" و "من العامة" أنه من أهل السنة4.   1 ابن منظور، لسان العرب 12/ 426. 2 انظر: الخميني، تحرير الوسيلة 1/ 118، 2/ 146، 2/ 136 و 1/ 352، ط: الثالثة 1397 هـ. 3 1/ 273- 274 . اقتبسه د. علي ناصر فقيهي، انظر: مقدمته لكتاب الإمامة لأبي نعيم ص 161. 4 انظر: تعليق د. علي ناصر فقيهي على ذلك في مقدمته لكتاب الإمامة ص 261 حاشية 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وهذا علي أكبر الغفاري صاحب التعليقات على كتاب "الكافي" للكليني يصف من قدح في كتاب الكافي ومؤلفه بأنه من العامة؛ فيقول: "أقول: هذه مقالات أساطين العلم، وأعلام الدين وعمد المذهب في شأن الكليني ومقامه الأسني فلا يفتنك قول أناس من أصاغر المتأخرين الذين أسلسوا للعصبية المذهبية قيادهم من "العامة" في قدح الكليني والتحامل على كتابه "الكافي"1 ولا يريد بالعامة سوى أهل السنة. وليس هذا شأن متقدمي الرافضة فحسب؛ بل سار على نهجهم متأخرجوهم ممن لهم فيهم مكانة عالية وتقدم في العلم والإمامة، ومن هؤلاء الآية العظمى عندهم، وأستاذ الحوزة والمرجع الديني الأعلى إمامهم خميني؛ إذ يقول في تقسيمات التقية: "ومنها التقسيم بحسب المتقي منه، فتارة تكون التقية من الكفار وغير المعتقدين بالإسلام سواء كانوا من قبيل السلاطين والرعية، وأخرى تكون من سلاطين العامة وأمرائهم، وثالثة من فقهائهم وقضاتهم ورابعة من عوامهم، وخامسة من سلاطين الشيعة أو عوامهم، إلى غير ذلك. ثم إن التقية من الكفار وغيرهم قد تكون في إيتان عمل موافقًا للعامة كما لو فرض أن السلطان ألزم المسلمين على العمل بفتوى أبي حنيفة"2. فأطلق لقب العامة وأراد به أهل السنة الذين يعد أبو حنيفة إمامًا من أئمتهم المشهورين. وقد أطلق الخميني لقب العامة على أهل السنة في نصوص أخرى، لا نطيل بنقلها هنا3.   1 انظر: مقدمته لكتاب الكافي 1/ 8. 2 انظر: الرسائل، رسالة في التقية ص 175، "ط. مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع 1385 هـ". 3 انظر: كشف الأسرار ص 171- 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 يقول الدكتور الصباغ: "ولو أردنا أن نناقض القائلين بهذه التسمية ونسألهم عن مسوغات إطلاق مثل هذا اللقب على من كان متبعًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعياهم الجواب، والحق أن هذه التسمية بهم ألصق؛ لأن العامي هو الذي يعطل عقله ويصدق كل ما يقال له، ولو كن مما يصادم الحسن1، كما تجد في أقوالهم التي يدعون بها العصمة لغير الأنبياء، وزعمهم أن هناك باطنًا للنصوص الدينية غير الظاهر، وأن هذا الباطن لا يعرفه إلا أئمتهم. إن هذا وأمثاله من العاقئد والسلوك هو الذي يجعل المتصف به جديرًا بأن يدعي عاميًا"2. وأما لقب "الجمهور"؛ فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن الرافضة أنهم يسمون أهل السنة "الجمهور"3، والجمهور في اللغة: الرمل الكثير المتراكم، وجمهور كل شيء، معظمه، وجمهور الناس جلهم4 والمراد به في إطلاق الرافضة عامة الناس وهو غير الأعيان والمتميزين فيهم؛ فهو بمعنى العامة عندهم ومرادف له. والحق أنه لا مستند للرافضة في نبز أهل السنة بهذه الألقاب، إلا ما تكنه صدورهم من غل وحقد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعهم بإحسان، وما أشبه قولهم هذا يقول أولئك القوم الذين قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} 5، وهؤلاء قالوا: ليس عليهم في العامة سبيل واستباحوا منهم الأنفس والأموال والأعراض، يقول الخميني: "والأقوى إلحاق الناصب بأهل الحرب في   1 بل والنص أيضًا؛ فإن القوم لا عقل لهم صريح، ولا معهم نقل صحيح. 2 د. محمد لطفي الصباغ، أبو نعيم وكتابه الحلية ص 49 حاشية "2"، ط. الثانية 1398 هـ. 3 انظر: الفتاوى 3/ 186، وبيان تلبيس الجهمية 1/ 244. 4 ابن منظور: لسان العرب 4/ 194. 5 سورة آل عمران آية 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 إباحة ما أغتنم منهم وتعلق الخمس به؛ بل الظاهر جواز أخذ ماله أين وجد وبأي وجه كان"1. والناصب -عندهم- كما تقدم لنا هو كل من تولى أبا بكر وعمر قال بإمامتهما وقدمهما في الخلافة والرتبة على علي رضي الله عنهم أجمعين، وهؤلاء هم أهل السنة وهم الذين يطلق عليهم الرافضة العامة والجمهور. 8- حشوية: وهذا اللقب من أشنع الألقاب التي نبزهم بها مخالفوهم، وهو بسكون الشين من: الحشو: وهو أن يودع الشيء وعاء باستقصاء، يقال: حشوته أحشوه حشوًا.. ويقال: فلان من حشوة بني فلان أي: من رذالهم، وإنما قيل ذلك؛ لأن الذي تحشى به الأشياء لا يكون من أفخر المتاع، بل أدونه2. وفي "اللسان": "والحشو من الكلام: الفضل الذي لا يعتمد عليه، وكذلك هو من الناس، وحشوة الناس رذالتهم. .. وفلان من حشوة بني فلان بالكسر: أي من رزالهم"3. وبفتح الشين من: حشا: والحشا الناحية4، وحاشية كل شيء جانبه وطرفه5. وهو في اصطلاح من أطلقه يراد به أحد المعاني الآتية:   1 تحرير الوسيلة 1/ 352. 2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 2/ 64. 3 14/ 180. 4 ابن فارس: مجمل اللغة 1/ 235، ومعجم مقاييس اللغة 2/ 65. 5 ابن منظور، لسان العرب 14/ 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 1- يراد به العامة الذين هم حشور الناس1، ورذالتهم وجمهورهم، وهم غير الأعيان والمتميزين، وهم عند الشيعة والروافض السواد الأعظم من هذه الأمة، كما جاء في "فرق الشيعة: للنوبختي"؛ حيث نبز كل من لم يقل بإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الحشو: "فلما قتل علي رضي الله عنه- التقت الفرقة التي كانت معه والفرقة التي كانت مع طلحة والزبير وعائشة -رضي الله عنهم- فصاروا فرقة واحدة مع معاوية بن أبي سفيان؛ إلا القليل منهم من شيعته2 ومن قال بإمامته بعد النبي صلى الله عليه وسلم -وهم السواد الأعظم وأهل الحشو وأتباع الملوك وأعوان كل من غلب؛ أعني الذين التقوا مع معاوية"3. 2- يراد به: رواة الأحاديث من غير تمييز لصحيحها من سقيمها: قال ابن الوزير: "فإن الحشوية إنما سموا بذلك؛ لأنهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: يدخلونها فيها وليست منها". ونقل عن صاحب كتاب4 "ضياء الحلوم" قوله: "إن الحشوية سموا بذلك لكثرة قبولهم الأخبار من غير إنكار"5. وقد بين ابن الوزير براءة أهل الحديث والسنة من هذا اللقب؛ فقال "فأكثر عامة المسلمين لا يدرون من الحشوية؟ ولا يعرفون أن هذه النسبة غير   1 انظر: ابن تيمية: منهاج السنة 2/ 415- 416، "بتحقيق محمد رشاد سالم، ط. المدني". 2 لم يكن في الصحابة شيعة بالمعنى المتعارف عليه عند الرافضة. 3 ص6، بتصحيح هـ. ريتر. "ط. الدولة- استانبول 1931 م". 4 وهو: محمد بن نشوان بن سعيد الحميري. انظر: الروض الباسم 1/ 120، "ط. دار المعرفة - بيروت 1399 هـ". 5 انظر: الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم 1/ 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 مرضية ... ومن كان له أدنى تمييز عرف أن نقاد الحديث وأئمة الأثر هم أعداء الحشوية وأكره الناس لهذه الطائفة الغوية"1. وقال أبو حاتم -أحمد بن حمدان- الرازي: "ومن ألقابهم -أي: أهل السنة- الحشوية: لقبوا بذلك؛ لاحتمالهم كل حشو روي من الأحاديث المختلفة المتناقضة ... حتى قال فيهم بعض الملحدين: يروون أحاديث ثم يرون نقيضها، ولروايتهم أحاديث كثيرة مما أنكره عليهم أصحاب الرأي وغيرهم من الفرق في التشبيه2 وغير ذلك فلقبولهم الحشوية بذلك"3. 3- يراد به معنى: التجسيم: كما نقل التهانوي عن السبكي أنهم سموا بذلك؛ لأن منهم المجسمة أو هم هم. والجسم حشو4. ونسب ابن القيم لجهله الجهمية أنهم لقبوا اهل السنة بذلك؛ لأنهم -بزعمهم- جعلوا ربهم حشو هذا الكون بإثباتهم له صفة الفوقية والاستواء وأنه في السماء5. فهذه المعاني الثلاثة أو أحدها هي المسوغات التي اعتبرها مخالفوا أهل السنة وهم ينبزونهم بهذا اللقب الجائر. فعند الرافضة كل من لم يقل بإمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة فهو حشوي؛ أي: من عامة الناس وسقطهم.   1 انظر: الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم 1/ 120. 2 يريد أحاديث الصفات، وأهل السنة لم يقولوا إلا بما صح عندهم منها آمنوا به واعتقدوا ما دل عليه، وما أنكر ذلك عليهم إلا معروف ببدعة. 3 انظر كتاب: الزينة، ملحق بكتاب: الغلو والفرق الغالية، للدكتور عبد الله سلوم السامرائي ص 267. 4 كشاف اصطلاحات الفنون، محمد على الفاروقي، "بتحقيق د. لطفي عبد البديع2 / 167، ط. المؤسسة المصرية للتأليف". 5 راجع: النونية بشرح الهراس 1/ 333- 334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وعند المعتزلة كل من أثبت الصفات، وأثبت القدر فهو من حشو الناس وعامتهم فلا يعتد بكلامهم في العقيدة؛ لأنهم لم يتعمقوا تعمقهم في التأويل، ولا ذهبوا مذاهبهم في الإنكار والتعطيل؛ فكل من آمن بظواهر النصوص وأثبت ما دلت عليه، ولم يشتغل بصرفها، وتأويلها، فهو عندهم حشوي بعيد عن التحقيق. وكذلك الأمر عند الأشاعرة والماتريدية؛ فكل من أثبت الصفات الخبرية ولم يؤولها ويصرفها عن ظاهرها، عدوه حشويًا، كما سيتضح لنا ذلك من ذكر نماذج من أقوال الفرق التي نبزت أهل السنة والأثر بهذا اللقب. الفرق التي نبزت أهل السنة بلقب "الحشوية" ونماذج من أقوالهم: يعد هذا اللقب من أكثر الألقاب ذيوعًا وورودًا في كتب مخالفي أهل السنة؛ وذلك لكثرة الفرق التي رمت أهل السنة به، فلا أدري أهو مما تواصوا به، أم تشابهت قلوبهم، فاتفقت أقوالهم على وصم أهل السنة والأثر به؟ وسأورد فيما يأتي ذكر الطوائف والفرق التي رمتهم بذلك مع ذكر نماذج من أقوالهم التي يتضح منها أنهم يعتبرون القول بما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة في باب الصفات حشوًا والقائلين بذلك حشوية. 1- المعتزلة: وهو أول من تولي كبر ذلك؛ إذ أول من عرف أنه تكلم في الإسلام بهذا اللفظ عمرو بن عبيد1 "80- 144 هـ" رئيس المعتزلة -فقيههم وعابدهم2   1 تقدمت ترجمته ص 53. 2 وهناك رأي آخر يقول إن أول من أطلق لفظ "الحشوية" هو الحس البصري "ت 110 هـ"، وأنه أطلقه على أناس كانوا يجلسون في حلقته فلما أنكر كلامهم قال: ردوهم إلى حشو الحلقة أو حشا الحلقة، وأقدم من وقفت عليه ذكر عليه: ابن النجار "ت 972 هـ" في شرح الكوكب المنير 2/ 147، ط. جامعة أم القرى، والسبكي فيما نقله عنه التهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون 2/ 167؛ لكن النص لم يبين لنا من هم هؤلاء الذين قال فيهم الحسن ذلك، ولا القول الذي قالوه حتى قال فيهم ما قال، وإن كان الكوثري ذكر أن هؤلاء الذين قال فيهم الحسن ذلك قوم من رعاع الرواة، وأنهم تكلموا بالسقط، ولا أدري من أين له ذلك؛ لأني لم أجد من ذكره غيره، لذا أعرضت عنه. انظر: تبيين كذب المفتري ص11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 فإنه ذكر له عن ابن عمر1 شيء يخالف قوله؛ فقال: "كان ابن عمر حشويًا"2، وقال ابن العماد في "ترجمته": "وكانت له جرأة فإنه قال عن ابن عمر: هو حشوي، -قال-: فانظر هذه الجرأة والافتراء عامله الله بعدله"3. وذكر ابن جرير عن الخليفة العباسي المأمون "170- 218 هـ" الذي تبنى قوله المعتزلة في خلق القرآن. أنه نبز مخالفيه بأنهم حشو رعاع فقال في كتابه إلى إسحاق بن إبراهيم4 في امتحان القضاة والمحدثين، وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة ممن لا نظرله ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته. -إلى أن قال- وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن فأطبقوا مجتمعين، واتفقوا غير متعاجمين على أنه قديم أول لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه"5. وظل المعتزلة يتوارثون نبز أهل السنة والحديث بلقب "الحشوية" في مؤلفاتهم ومقالاتهم؛ فما هو القاضي عبد الجبار مؤلف أهم مصنفات المعتزلة التي وصلت إليها بعد كتاب "الانتصار للخياط" يصم أهل السنة بهذا اللقب   1 هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب الصحابي الجليل. 2 ابن تيمية، بيان تلبيس الجهمية 1/ 244، وانظر: منهاج السنة 2/ 416، ط. المدني، والفتاوي 3/ 186. 3 شذرات الذهب 1/ 211. 4 وهو: إسحاق بن إبراهيم بن مصعب الخزاعي أمير بغداد، على يده امتحن العلماء بأمر المأمون في خلق القرآن. مات سنة خمس وثلاثين ومائتين. الذهبي، سير أعلام النبلاء 11/ 171. 5 تاريخ الأمم والملوك 8/ 632، "بتحقيق أبي الفضل إبراهيم، دار سويدان - بيروت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 كلما عنت له سانحة فيقول في "شرح الأصول الخمسة": "فقد ذهبت الحشوية والنوابت1 من الحنابلة إلى أن هذا القرآن المتلو في المحاريب، والمكتوب في المصاحف غير مخلوق ولا محدث"2. ويقول فيه أيضًا: "فلسنا نقول في الصراط ما يقوله الحشوية من أن ذلك أدق من الشعر وأحد من السيف، وأن المكلفين يكلفون اجتيازه والمرور به؛ فمن اجتازه فهو من أهل الجنة"3. ويقول في كتاب آخر له: "وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 4 لا يدل على ما تقوله الحشوية في أنه تعالى يرى يوم القيامة بأن يرفع عنه الحجب للمؤمنين فيروه"5. ويقول في مصنف ثالث: "واعلم أن القوم على فرق؛ ففيهم من يجعل كلام الله هذا المسموع، وكذلك كلام أحدنا ما هو بهذه الصفة، ولكنه يقول في كلامه تعالى خاصة إنه غير مخلوق ولا محدث، ويقر في كلامنا بذلك فهؤلاء هم الحشوية، وإلى ذلك ذهب أحمد بن حنبل"6. فهذه أمثلة من كلامه في ذلك وإلا فالشواهد كثيرة، والمقصود بيان أنه يطلق لقب "الحشوية" على "أهل السنة والجماعة"؛ لأنهم هم أصحاب الأقوال التي عدها حشوًا.   1 سيأتي تعريفها والكلام على نبز أهل السنة بذلك. انظر ص 151. 2 ص527. 3 ص737. 4 سورة المطففين آية 15. 5 انظر: متشابه القرآن ص683، "بتحقيق عدنان زرزور، نشر: دار التراث بالقاهرة". 6 انظر: المحيط بالتكليف ص308، "بتحقيق عمر السيد عزمي، نشر: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 2- الرافضة: وقد تقدم نقل كلام النوبختي في ذلك، وكلام أحمد بن أبي حاتم صاحب كتاب "الزينة"1. 3- الأشاعرة: فقد تلقوا هذه التركة عن المعتزلة؛ فنراهم يتابعونهم على ما درجوا عليه من نبز أهل السنة والأثر بهذا اللقب الجائر، وهذه ثلثة من أقوالهم في ذلك: يقول أبو المعالي الجوني: "وذهبت الكرامية وبعض الحشوية إلى أن الباري تعالى عن قولهم متحيز مختص بجهة فوق"2. وقصد بالحشوية من أثبت الفوقية لله عز وجل وهم أهل السنة والحديث كما أشار المحقق في الحاشية3. وإن كان أهل السنة والحديث لم ينطقوا بلفظ التحيز والجهة نفيًا ولا إثباتًا كما هو منهجهم؛ وإنما أثبتوا لله ما اثبته لنفسه من الفوقية. وهذا الإمام الغزالي "450- 505 هـ" يجعل من أثبت رؤية الله عز وجل من جهة حشويًا4. والآمدي "551- 631 هـ" يعد من قال بقول أهل السنة في الإيمان حشويًا فيقول: "وبهذا يتبين فساد قول الحشوية: إن الإيمان هو: التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان"5.   1 راجع ص 142، 143. 2 الإرشاد ص39. 3 نفس المصدر والصفحة حاشية رقم "4". 4 انظر: الاقتصاد ص48. 5 انظر: غاية المرام في علم الكلام، "بتحقيق حسن محمود عبد اللطيف ص311، ط. القاهرة 1391 هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وعد محقق الكتاب الآمدي غير موفيق في تسمية أهل السنة والحديث بالحشوية1. وهو كما قال. وهذا حامل لواء الأشعرية في العصر الحديث محمد زاهد الكوثري "1296- 1371 هـ" يقول في تعليقه على كتاب "الرد على أهل الأهواء والبدع"، للملطي: نفى أن يكون الله متمكنًا في السماء مذهب أهل الحق وكذا نفي الفوقية الحسية؛ بخلاف معتقد الحشوية"2 يقصد أهل السنة فإنهم هم الذين يعتقدون الفوقية الحسية لله عز وجل. وفي مقدمته لكتاب "السيف الصقيل" ينبز أئمة السلف -الذين يدعون ابن تيمية إلى تقرير عقيدتهم- بأنهم "حشوية"3، وكلامه في ذلك كثير في تعليقاته على "السيف الصقيل" و"الرد على أهل الأهواء" و"تبيين كذب المفتري على أبي الحسن الأشعري" لابن عساكر. 4- الماتريدية: وهي صنو الأشعرية، وشريكتها في إرث تركة المعتزلة، ورمي أهل السنة بألقاب السوء، وها هو شيخ الماتريدية ومؤسسها الأول أبو منصور الماتريدي يصم من يعد الأعمال داخلة في مسمى الإيمان بأنه حشوي فيقول في تعريف الإرجاء: "ثم اختلف في المعنى الذي سمى به من سمى مرجئًا بعد اتفاق أهل اللسان على الإرجاء أنه التأخير". قالت: "الحشوية": سميت المرجئة بما لم يسموا كل الخيرات   1 نفس المصدر السابق والصفحة حاشية 3. 2 انظر: الرد على أهل الأهواء والبدع ص97 حاشية 1. 3 انظر: السيف الصقيل للسبكي. مقدمة الكوثري ص5 قال فيها: إلى أن نبغ في أواخر القرن السابع بدمشق حراني -يقصد: شيخ الإسلام ابن تيمية- تجرد للدعوة إلى مذهب هؤلاء الحشوية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 إيمانًا"1. 5- الخوارج: نسب ذلك إليهم الإمام أحمد بن حنبل؛ فقال في كتاب "السنة" في معرض حديثه عما أحدثه أهل الأهواء والبدع والخلاف من أسماء شنيعة قبيحة سموا بها أهل السنة؛ فقال: "وأما الخوارج فيسمون أهل السنة: نابتة وحشوية"2. وللرد على هؤلاء جميعًا نقول: أولًا: إن هذا اللقب لقب مبتدع ما أنزل الله به من سلطان؛ فليس هو في كتاب الله ولا في سنة رسول الله، ولا نطق به أحد من سلف الأمة وأئمتها نفيًا ولا إثباتًا؛ فالذم به ذم للناس بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان بل هو من قبيل التنابز بالألقاب المنهي عنه3. ثانيًا: إن الطائفة إنما تتميز باسم رجالها أو بنعت أحوالها؛ فالأول كما يقال: الجهمية، نسبة للجهم بن صفوان، والكلابية، نسبة لابن كلاب، والأشعرية، نسبة للأشعري، والثاني: كما يقال: الرافضة، لرفضهم زيد بن علي، والقدرية لقولهم بالقدر، والمرجئة لقولهم بالإرجاء في الإيمان، أما لفظ الحشوية فليس فيه ما يدل على شخص معين ولا مقالة معينة4. ثالثًا: أنكم نبزتم أهل السنة بهذا اللقب؛ لأنهم بزعمكم يرون الأحاديث بلا تمييز ولا إنكار. وهذا خلاف الواقع، فإن أهل الحديث والسنة هم الذين اختصوا بالذب عن السنة، وميزوا صحيحها من سقيمها، ثم إنكم أيها.   1 انظر: كتاب التوحيد، لأبي منصور الماتريدي، ص381 "بتحقيق د. فتح الله خليف، المكتبة الإسلامية - تركيا". 2 ص40. 3 راجع ابن تيمية، الفتاوى 4/ 146. 4 راجع منهاج السنة 2/ 414 بتصرف ط. المدني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 المخالفون أحق بهذا اللقب؛ لأنكم تستشهدون لمهبكم بما يؤيده من الأحاديث وإن كان ضعيفًا أو موضوعًا عند أهل الفن؛ ولأنكم تحشون أقوالكم ومصنفاتكم بالكلام الذي لا تعرف صحته، بل يعرف بطلانه لمخالفته لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. رابعًا: أما معنى التجسيم الذي نبزتم أهل السنة بالحشو لأجله؛ فإنه ليس في قول أهل السنة تجسيم؛ لأنهم إنما أثبتوا لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله من الصفات، مع نفي المشابهة والمماثلة للمخلوقات، ثم إن لفظ التجسيم عندهم من الألفاظ المبتدعة فلم ينطقوا به نفيًا ولا إثباتًا. خامسًا: إنه ينبغي أن ينظر في الموسومين بهذا الاسم وفي الواسمين لهم به أيهما أحق. وقد علم أن هذا الاسم مما اشتهر عن النفاة ممن هم مظنة الزندقة، كما ذكر العلماء -كأبي حاتم وغيره- أن علامة الزنادقة تسميتهم لأهل الحديث حشوية1. يكفي أن نعرف أن أول الواسمين به هو عمرو بن عبيد زعيم المعتزلة كما تقدم، وأن أول الموسومين به هو "عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما" الصحابي الجليل. ثم أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والجماعة رحمه الله عليه؛ لتعلم منزلة الواسم والموسوم. فعمرو بن عبيد رأس في البدعة والاعتزال، وعبد الله بن عمر صحابي ابن صحابي. من أكثر الصحابة رواية وحفظًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وبذلك نقم عليه ابن عبيد، وعده حشويًا لكثرة روايته؛ لأن المعتزلة أعداء الحديث والأثر، والإمام أحمد هو من هو في الإمامة والتقديم في العلم والسنة. ثم ورث كلا من الواسم والموسم اتباعه ومن هم على نهجه، فورث عمرو بن عبيد في نبز أهل السنة بهذا اللقب، أهل البدعة والخلاف، وورث   1 انظر: ابن تيمية، الفتاوى 4/ 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 عبد الله بن عمر والإمام أحمد أهل السنة والجماعة وأني يستوي الإرثان1؛ هذا إرث هدي وسنة، وذاك إرث ضلالة وبدعة. 9- نابتة أو نوابت: وهو لغة: من النبت، والنابت من كل شيء: الطري حين ينبت صغيرًا ... ونبتت لهم نابتة: إذ نشأ لهم نشأ صغار، وإن بني فلان لنا بتة شر، والنوابت من الأحداث: الأغمار2. واصطلاحًا: لقب أطلقه أهل الكلام على أهل الستة والأثر، يعنون أنهم أحداث أغمار: لا خبرة لهم بعلم الكلام ولا دراية لهم به، وأنهم نابتة شر نبتوا في الإسلام بأقوال بدعية3 لقولهم بما دلت عليه الأحاديث والآثار. التي يزعم أهل الكلام أن القول بها يقضي إلى التشبيه والتجسيم. من أطلق هذه اللقب: هذا اللقب من الألقاب التي يكثر أهل الكلام من رمى أهل السنة بها. 1- فالمعتزلة: من أولى الفرق التي وصمتهم به، يقول الخياط: "إن أبا الهذيل لما صح عنده أن الله عالم في الحقيقة وفسد عنده أن يكون عالمًا بعلم على ما قالته النابتة"4. فجعل الذين يقولون: إن الله عالم بعلم، وهم أهل السنة "نابتة"5. 2- الخوارج: نسب إليهم الإمام أحمد في "السنة" أنهم سموا أهل السنة "نابتة"6.   1 انظر: شرح النونية للهراس 1/ 335، "ط. الفاروق الحديثة - مصر". 2 انظر: لسان العرب 2/ 96. 3 وانظر: شرح النونية للهراس 1/ 336. 4 انظر: الانتصار ص 59. 5 ص 40، وانظر: ص 149 من هذا المبحث. 6 انظر: ابن منظور، لسان العرب 15/ 115- 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 10- غثاء، وغثراء: فالغثاء: ما يحمله السيل من القمش وهو أيضًا الزبد والقذر1. ويقال لسفلة الناس: الغثاء تشبيهًا بما ذكر2. والغثراء: قال ابن فارس: الغين والثاء والراء يدل على تجمع من ناس غير كرام، يقولون: الغثراء: سفلة الناس3. وهذا المعنى اللغوي لكل من اللفظين، هو ما لحظه أهل الكلام عندما نبزوا أهل السنة بهما؛ فعندهم أن أهل السنة سفلة الناس ويقطهم، فهم كالغثاء الذي لا نفع فيه. وهذا معنى وملحظ مشترك بن كثير من الألقاب التي أطلقها أهل الكلام على أهل السنة والأثر كما تقدم. وبعد؛ فكل هذه الألقاب ألقاب مبتدعة، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يلحق أهل السنة والأثر شيء منها عند التحقيق؛ فإن أهل السنة هم خيار الناس وأفاضلهم لاتباعهم في أمور دينهم سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وآثار السلف الصالح، وابتعادهم عن الابتداع والبدعة والقول في دين الله بغير دليل من كتاب أو سنة أو إجماع؛ بخلاف أهل البدع الواسمين لهم بهذه الألقاب؛ فإنهم أصحاب فرقة وخلاف وابتداع، ومن علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر والحط عليهم والنيل منهم بغير حق، للإزراء بهم والتنفير منهم. والله يحكم بين الجميع يوم لقائه، وسيعلم الذين ظلموا حينئذ أي منقلب ينقلبون؟   1 انظر: ابن منظور، لسان العرب 15/ 115-116 2 انظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 4/ 413. 3 نفس المصدر 4/ 412. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الباب الأول: وسطية هذه الأمة بين الأمم بين يدي هذا الباب : قبل بدء القول في فصول هذا الباب ومباحثه أود أن أوضح ثلاثة أمور يحسن أن نلقي الضوء عليها. الأمر الأول: علاقة وسطية هذه الأمة بوسطية أهل السنة. الأمر الثاني: معاني الأمة والمراد منها في موضوعنا. الأمر الثالث: التذكير بمعنى الوسطية والتركيز على معنى الوسطية المثبتة لهذه الأمة. فأما الأمر الأول: وهو العلاقة بين وسطية هذه الأمة ووسطية أهل السنة فاعلم أن وسطية أهل السنة والجماعة في هذه الأمة؛ إنما هي في حقيقتها امتداد الوسطية هذه الأمة وعدالتها وخيرتها؛ بل إن أهل السنة الذين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان من هذه الأمة على ما كانوا عليه من الهدي والتمسك بالكتاب والسنة هم النموذج لهذه الأمة، التي أثنى الله عليها خيرًا فقال: {كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} 1. وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ   1 سورة البقرة آية 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1. فعند تنزل هذه الآية الكريمة، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الأمة؛ ولذلك قال السلف إن المراد بـ "الأمة" الصحابة عامة، أو بعض فئات منهم2. فالحصابة رضوان الله عنهم، ثم من اتبعهم واقتدى بهم واهتدى بهديهم ممن جاء بعدهم من القرون يمثلون الأمة الوسط المذكورة والمعنية في الآية الكريمة. ثم لما بدأ التفرق والخلاف في هذه الأمة في أواخر عهد الصحابة لعوامل كثيرة -سنعرض لها في موضعها إن شاء الله تعالى- انحرف أكثر فرق الأمة عن الصراط المستقيم، وأخذت بهم السبل ذات اليمين وذات الشمال. بين غال، وجاف، ومفرط ومفرد، فانحطت وسطية هذه الفرق بقدر إفراطها وتفريطها وغلوها وجفوها، وبقدر ما ابتعدت عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، على أنه لا يزال اسم الأمة يصدق على الجميع لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق: "وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" 3؛ فجعلهم جميعًا أمته مع تفرقهم وكونهم في النار إلا واحدة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم. ولا يزال فيهم من الخير والوسطية والعدالة أكثر مما في غيرهم من فرق الأمم السابقة؛ فعموم الوسطية ثابت لهم على غيرهم؛ لأن كل شر فيهم فهو في غيرهم من فرق الأمم السابقة أكثر وأعظم، وكل خير وفضل في فرق الأمم السابقة؛ ففي فرق هذه الأمة ما هو خير منه وأعظم. فالخيرية والوسطية ثابتة لهذه الأمة على سائر الأمم، وخير هذه الأمة   1 سورة آل عمران آية 110. 2 أخرج ذلك الإمام ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس وعمر بن الخطاب وعكرمة رضي الله عنهم "7/ 101- 102". 3 تقدم تخريجه. انظر: ص 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وأوسطها وأعدلها أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" 1؛ فهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل"2. فكل خير وفضل وعدل ثبت لهذه الأمة فلأهل السنة والجماعة منه الحظ الأوفر والقدح المعلي. وعندما نثبت وسطية هذه الأمة، وخيرتها وعدالتها؛ فإنما نثبت كل ذلك لأهل السنة بطريق الأولى؛ لأنهم خير هذه الأمة وأوسطها. وهم الطائفة التي تتحقق فيها الوسطية المطلقة لهذه الأمة. الأمر الثاني: معنى الأمة يأتي لفظ "أمة" في لغة العرب لعدة معاني: أحدها: أنها بمعنى الشريعة والدين. ومنه قوله عز وجل: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} 3، وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} 4. الثاني: بمعنى: الرجل الذي لا نظير له: ومنه قوله عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} 5. الثالث: بمعنى: الحين من الزمن:   1 تقدم تخريجه. انظر ص 97. 2 انظر: الفتاوى 4/ 140. 3 سورة الزخرف آية 22. 4 سورة البقرة آية 213. 5 سورة النحل آية 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ومنه قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة} 1، قال الفراء: "أي: بعد حين من الدهر"2. الرابع: بمعنى: الجماعةمن الناس وغيرهم: فأما بمعنى الجماعة من الناس: فمنه قوله عز وجل: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} 3، وقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} 4. وقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} 5، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} 6، وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 7. وأما الجماعة من غير الناس: فمنه قوله عز وجل: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} 8، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها" 9، 10.   1 سورة يوسف ىية 45. 2 ابن منظور، لسان العرب 12/ 27. 3 سورة القصص: آية 23. 4 سورة البقرة: آية 128. 5 سورة البقرة: آية 134. 6 سورة البقرة: آية 143. 7 سورة آل عمران: آية 110. 8 سورة الأنعام: آية 38. 9 ت: كتاب الأحكام والفوائد، باب ما جاء في قتل الكلاب 4/ 78، ح 1486، من حديث عبد الله بن مغفل، وقال الترمذي: حديث عبد الله ابن مغفل حسن صحيح 4/ 79، وقال الألباني: صحيح انظر: صحيح جامع الترمذي 2/ 85، ح 1201. 10 انظر هذه المعاني في: لسان العرب 12/ 22- 27 مادة: "أمم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 المراد بالملة في الاصطلاح الشرعي: يراد بالملة في لسان الشارع. أحد أمرين: الأول: أمة الدعوة. الثان: أمة الإجابة. يقول الإمام النووي رحمه الله: "لفظ الأمة يطلق على معان منها: 1- من صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وآمن بما جاء به، وتبعه فيه وهذا هو الذي جاء مدحه في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة} ، وكقوله صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأمتي" 1 وقوله: "تأتي أمتي غرًا محجلين" 2 وغير ذلك. 2- ومنها: من بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم وكافرِ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه مسلم في "صحيحه" في كتاب الإيمان3، 4. فالمراد بالأمة الوسط في قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أمة الإجابة، وهم كل من أجاب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وآمن به واتبعه، على تفاوت بينهم في الإصابة من هذا الثناء كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.   1 خ: كتاب التوحيد، باب المشيئة والإرادة 13/ 447، ح 7474. 2 خ: كتاب الوضوء، باب فضل الوضوء، والغر المحجلون من آثار الوضوء 1/ 235، ح 136، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 3 باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل 1/ 134، ح 240 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 4 انظر: تهذيب الأسماء واللغات 3/ 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الأمر الثالث: معاني الوسطية المثبتة لهذه الأمة تقدم في أول التمهيد شرح معنى الوسط والتوسط في اللغة، وفي لسان الشرع، وأريد هنا أن أبين معاني الوسطية المثبتة لهذه الأمة في قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 1. فالذي يتلخص لنا مما تقدم2 أن للوسطية المشار إليها في الآية الكريمة ثلاثة معان: المعنى الأول: العدالة وهذا المعنى نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية فقال: بعد أن تلا الآية: "والوسط: العدل"3. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ، قال: عدولًا"4. وروي هذا التفسير موقوفًا عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما5. ولذلك جعل الله هذه الأمة شاهدة على الناس، ورتب هذه الشهادة على كونها وسطًا؛ أي: عدلًا؛ إذ العدالة من شروط قبول الشهادة. والوسط في حقيقته يتضمن معنى العدل؛ وإنما سمي العدل: "وسطًا"؛ لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين. "فالوسط في الأصل: هو اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من   1 سورة البقرة آية 143. 2 انظر: ص 15 وما بعدها. 3 خ: كتاب التفسير، سورة البقرة 8/ 171 ح، وهو طرف من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وسيأتي بتمامه. 4 جامع البيان عن تأويل آي القرآن 3/ 143، ح 2168. 5 نفس المصدر 3/ 144- 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الجوانب في المدور، ومن الطرفين في المطول، كمركز الدائرة ولسان الميزان من العمود، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط"1. فكما أن جميع الجهات تتساوى أبعادها بالنسبة للوسط؛ فكذلك العدل يتساوى لديه الخصمان ولا يميل إلى إحداهما. فإذا مال لم يكن عدلًا ولا وسطًا. المعنى الثاني: الخيرية فمعنى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ؛ أي: خيارًا. قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: "يقول تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة عإبراهيم علي السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكل بالفضل. والوسط هاهنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسبًا ودارًا؛ أي: خيراها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه؛ أي: أشرفهم نسبًا"2 فالوسط من كل شيء خياره، وقد تقدم ذلك في معاني الوسط في الغلة في أول التمهيد3. وقد أخبر الله عز وجل عن خيرية هذه الأمة بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 4. المعنى الثالث: أن الوسط في الآية بمعنى الاعتدال والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط: وهذا المعنى اختاره الإمام ابن جرير الطبري في تفسير الآية فقال: "وأنا أرى أن "الوسط" في هذا الموضع، هو الوسط الذي بمعنى: الجزء الذي هو بين الطرفين، مثل "وسط الدار" محرك الوسط مثقله، غير جائز في "سينه".   1 أبو البقاء: الكليات 5/ 39. 2 تفسير القرآن العظيم 1/ 275. 3 انظر: ص 15 وما بعدها. 4 سورة آل عمران آية 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 التخفيف، قال: وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم "وسط"؛ لتوسطهم في الدين؛ فلا هم أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهيب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به؛ ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك إذا كان أحب الأمور إلى الله أوسطها"1. وكل من هذا المعاني الثلاثة صحيح، والآية صالحة للجميع، وهي معان متلازمة مترابطة؛ فالعدول، لا يكونون إلا خيارًا، بل لا تتوفر العدالة إلا في خيار الناس لا في فساقهم وسفلتهم فإنهم ليسوا مظنة عدالة. والخيار لا بد أن يتصفوا بالعدالة؛ فإذا كانوا ظلمة جائرين فليسوا بخيار. وأما التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وبين الغلاة، والجفاة، فإنه عدل واعتدل. وهو خير من الميل إلى أحد الطرفين المذمومين. وهذه الأمة أمة وسط بين الأمم بكل ما تدل عليه كلمة "وسط" من معنى؛ فهي خير الأمم وأفضلها وأشرفها وأكملها كما أخبر الله بذلك عنها، وهي أعدل الأمم ولذلك أعدها الله لتكون شاهدة على الناس، وهي آخذة بمركز الوسط بين الإفراط والتفريط والغلو والتقصير. ولتفصيل هذه المعاني الثلاثة للوسطية، جعلت هذا الباب في ثلاثة فصول: الأول: في عدالة هذه الأمة. الثاني: في خيرية هذه الأمة وفضلها. الثالث: في اعتدال هذه الأمة وتوسطها بين طرفي الإفراط والتفريط والغلو والتقصير.   1 جامع البيان 3/ 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الفصل الأول: عدالة هذه الأمة المبحث الأول: العدل على هذه الأمة وصور من قيامها به أولا: وجوب العدل على هذه الأمة ... الفصل الأول: عدالة هذه الأمة المبحث الأول: وجوب العدل على هذه الأمة وصور من قيامها به أولًا: وجوب العدل على هذه الأمة العدل من الأسس والقيم التي جاءت بها جميع الشرائع السماوية؛ فأنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} 1؛ أي: بالعدل. فما من كتاب أنزل، ولا رسول أرسل إلا أمر أمته بالعدل، وأوجبه عليها، والأمم في ذلك ما بين طائع آخذ منه بنصيب، وحائد مائل عن العدل والقسط لجهل أو هوى. والرسل ما تزال ترسل تجدد ما اندرس، وتذكر الناس بما نسوا إلى أن ختمت الرسالات بخاتم الأنبياء نينا محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كانت هذه الرسالة المحمدية خاتمة الرسالات، والنبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل، وهذه الأمة خاتمة الأمم، والأمة التي جعلها الله شاهدة على الناس، قيمة على البشرية، تبلغها دين الله، وتشهد لها بالإيمان أو عليها بالكفر والعصيان. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فقد كان العدل من أهم ما يجب على هذه الأمة؛ بل هو من أعظم ما يميزها عن الأمم. ولم يكتف الحق تبارك وتعالى بإيجاب العدل على هذه الأمة؛ بل أراد   1 سورة الحديد آية 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 منها أن تجعله خلقًا من أخلاقها، وصفة من صفاتها، وصبغة تصطبغ بها من دون الناس؛ فأمرها أن تكون قائمة بالعدل؛ بل قوامة به بين الناس، لله عز وجل، لا لأي شيء آخر، فلا تحابي فيه قريبًا لقرابته، ولا تضار عدوًا لعداوته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 1. قال الإمام ابن جرير في تفسير هذه الآية: "يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله، وبرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل، في أولياءكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وافعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتهم ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي، وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم؛ ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدي، واعملوا فيه بأمري"2. وقال الحافظ ابن كثير: "أي: كونوا قائمين بالحق لله عز وجل، لا لأجل الناس والسمعة، وكونوا شهداء بالقسط؛ أي: بالعدل لا بالجور، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} ؛ أي: لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقًا كان أو عدوًا"3. وقال في موضع آخر: "أي: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل؛ فإن العدل واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال"4. فالعدل الذي أمرت به هذه الأمة، حق عام لكل أحد من الناس، لا يحجبه عن مستحقه شنئان ولا عداوة، ولا يحول دونه اختلاف لون ولا جنس بل   1 سورة المائدة: آية 8. 2 جامع البيان 10/ 95. 3 تفسير القرآن العظيم 3/ 58. 4 تفسير القرآن العظيم 3/ 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ولا دين {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} 1. فالعدل حق لكل الناس جميع الناس، لا عدلًا بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب، ولا عدلًا مع أهل الكتاب دون سائر الناس؛ وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه "إنسان" فهذه الصفة -صفة الناس- هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني، وهذه الصفة التي يلتقي عليها البشر جيمعًا، مؤمنين وكفارًا، أصدقاء وأعداء، سودًا وبيضًا، عربًا وعجمًا، والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل -متى حكمت في أمرهم-2. العدل واجب على هذه الأمة، ولو كان فيه مراغمة لعواطف البغض والعداوة، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، وهو كذلك واجب، ولو كان فيه مراغمة لكافة عواطف الحب والمودة والقرابة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 3. والأمة مأمور بأن تقوم بالعدل والقسط والشهادة لله وليس لأحد سواه، وأن يكون ذلك منها بدون اعتبار لدوافع الحب والولاء والقرابة، أو البغضاء والشنئان والعداوة؛ لأنهما إنما تقوم بالعدل والقسط بين الناس لله وبأمر الله. ولاعدل بهذه الصورة الشاملة، لم تعرفه البشرية قط إلا على يد هذه الأمة، ولم تنعم به البشرية قط إلا تحت حكم الأمة المسلمة.   1 سورة النساء آية 58. 2 سيد قطب، في ظلال القرآن 2/ 414. 3 سورة النساء آية 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ثانيًا: قيام هذه الأمة بالعدل لم يكن العدل في حياة هذه الأمة المحمدية الخاتمة مجرد مثل عليا، أو وصايا تفخر بها، دون ممارسة أو تطبيق؛ ولكنه كان واقعًا عاشته هذه الأمة ومارسته، وطبقته في واقع حياتها، على مر تاريخها الطويل، على تفاوت في ذلك التطبيق يبين زمان وزمان، ودولة ودولة، وحسب اشتعال جذوة الإيمان في قلوب الحاكمين وخبوئها؛ غير أنه مما يقطع به أنه لم يخل زمان ممن يقيم الحق والعدل ويقوم بالقسط ويحكم به من هذه الأمة. وحسبنا أن نذكر فيما يلي صورًا من عدل هذه الأمة فيما بينهان ومع أعدائها وخصومها، وأهل ذمتها وسنختار هذه الصورة من واقع الأمة من خلال تاريخها الطويل. ليعلم أن هذه الأمة لم تزل قائمة بالقسط بين الناس شاهدة به على الناس لله، وأنها جديرة بأن تكون الأمة الوسط الشاهدة على البشرية. وأولى هذه الصور تعيضها مع سيد الخلق وإمام العادلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إمام هذه الأمة ومعلمها الخير، وهو يضرب أروع الأمثلة ويلقن أمته أبلغ دروس العدل والإنصاف والمساواة. فها هو صلى الله عليه وسلم يقيد أحد أصحابه من نفسه في طعنة طعنها إياه بالقدح في بطنه أثناء تسويته الصف للقتال، روى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم: "عدل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يديه قدح1 يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية2 وهو مستنتل3 من الصف، قال ابن هشام: -ويقال: مستنصل4 من الصف -فطعن   1 القدح "بكسر القاف وسكون الدال": السهم. لسان العرب 2/ 556. 2 هو: سواد بن غزية الأنصاري من بني عدي بن النجار. المشهور أنه بتخفيف الواو وحكى السهيلي تشديدها، شهد بدرًا، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر. انظر: ابن حجر، الإصابة 2/ 95، ترجمة 3582. 3 مستنتل: أي: متقدم؛ وهو بمعنى: خارج، يقال: استنتل؛ أي: خرج وتساتل الناس إذا خرجوا. انظر: لسان العرب 11/ 324، مادة "ستل". 4 مستنصل: أي: خارج من نصل؛ بمعنى: خرج سان العرب أيضًا 11/ 662 "نصل"، وابن الأثير: النهاية في غريب الحديث 5/ 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 في بطنه بالقدح، وقال: استويا سواد؛ فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: "استقد" قال: فاعتنقه فقبل بطنه؛ فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله! حضر ما ترى؛ فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقاله، له"1. وجاء يهودي يشتكي إليه أحد أصحابه قائلًا: يا محمد! إن لي على هذا أربعة دراهم، وقد غلبني عليها، قال: "أعطه حقه". قال -أي: الصحابي: والذي بعثك بالحق؛ ما أقدر عليها، قال: "أعطه حقه"، قال: والذي نفسي بيده؛ ما أقدر عليها، قد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر؛ فأرجوا أن تغنمنا شيئًا فأرجع فأقضيه. قال: "أعطه حقه". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال ثلاثًا لم يراجع2. وكان صلى الله عليه وسلم يقيم حدود الله على من وجب عليه ذلك في عدل وِإنصاف لا تأخذه في الله لومة لائم ولا قرابة قريب أو مكانة شريف؛ فما هو صلى الله عليه وسلم -يقسم- وهو الصادق المصدوق البار في قمسه: لو أن ابنته سرقت لأقام عليها الحد. لا يدرؤه عنها كونها ابنة محمد صلى الله عليه وسلم. أخرج الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشًا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت؛ فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ من يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتشفع في حد من حدود الله؟ " ثم قام: فخطب فقال: "يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وايم الله؛ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها" 3.   1 ابن هشام: السيرة 1/ 626، "بتحقيق مصطفى السقا وزملائه". 2 حم 3/ 423. 3 خ: حدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السطان 12/ 87، ح 6788. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فإن قيل هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يستغرب منه مثل هذا العدل، ومن يعدل إن لم يعدل هو؟ قلنا: وهذا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بنا لخطاب رضي الله عنه، يهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقيم العدل والقسط بين الناس يحكم بالحق لرجل يهودي على مسلم، ولم يحمله كفر اليهودي على ظلمه والحيف عليه. أخرج الإمام مالك من طريق سعيد بن المسيب1: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختصم إليه مسلم ويهودي؛ فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضي له، فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق2. وكان رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالموسم، فإذا اجتمعوا قال: أيها الناس! إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم؛ إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم؛ فمن فعل به غير ذلك فليقم، فما قام أحد إلا رجل واحد قام فقال: يا أمير المؤمنين إن عاملك فلانًا ضربني مائة سوط. قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه، فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سنة يأخذ بها من بعدك، فقال: "أنا لا أقيد وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه قال: فدعنا فلنرضه، قال: دونكم فارضوه، فافتدى منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين"3، ولو لم يرضوه لأقاده رضي الله عنه. وجاءه رجل من أهل مصر يشكو ابن عمرو بن العصا واليه على مصر   1 هو: سعيد بن المسيب بن حزن، عالم أهل المدينة وسيد التابعين في زمانه، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه وقيل: لأربع مضين منها بالمدينةز ومات سنة أربع وتسعين. الذهبي، سير أعلام النبلاء 4/ 217. 2 ط: كتاب الأقضية، باب الترغيب في القضاء بالحق ص 719، ح 2. 3 ابن سعد، الطبقات الكبرى 3/ 293- 294. "نشر: دار صادر 1405 هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 قائلًا: "يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم، قال: عذت معاذًا قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين؛ فكتب عمر إلى عمرو -رضي الله عنهما- يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب؛ فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين، قال أنس -راوي القصة: فضرب، فوالله؛ لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: ضع على صلعة عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه. فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا. قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني1. فانظر إلى هذه الصورة الرابعة لعدالة هذه الأمة، رجل من عامة الناس وفي رواية أنه ذمي من أقباط مصر، يتظلم فيعطى حقه ويقاد من ابن الأمير يجاء به وبأبيه ليعطي الرجل حقه وينصف. ثم انظر إلى الحاضرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كيف أحبوا ذلك وأبدوه؛ "فوالله؛ لقد ضربه ونحن نحب ضربه" لا تشفيا منه، ولا شماته بعمرو وابنه؛ فالقوم فوق ذلك وأبعد ما يكون عن التشفي والشماتة، ولكنهم جيل أحب العدل وعاشه وتربى عليه على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذا فهو لا يطيق رؤية الجور ولا يقره في الأمة ولو كان على رجل مخالف لها في الدين، ويسعد لرؤية العدالة تعم الأمة ليؤخذ لضعيفها من قويها. فإن قيل: هذا الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر الفاروق، ومثله خليق بإقامة العدل في رعيته. قلنا: إليك صورة أخرى بطلها ليس بخليفة ولا أمير، ولكنه رجل من عامة   1 ابن عبد الحكم: فتوح مصر والمغرب ص 225- 226، "بتحقيق عبد المنعم عامر، نشر: لجنة البيان العربي بمصر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة1 يكل إليه النبي صلى الله عليه وسلم خرص مزارع خيبر التي تركها صلى الله عليه وسلم بيد اليهود؛ فيحاول يهود رشوته ليخفف عليهم في الخرص. فيشتد غضبه رضي الله عنه أن ساوموه على أمانته وعدالته ويقول مخاطبًا إخوان القردة والخنازير: "يا معشر اليهودي! أنتم أبغض الخلق إلي، قتلتم أنبياء الله عز وجل، وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم، وقد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم وإن أبيتم فلي". فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض، وقد أخذنا فأخرج عنا2، وفي رواية أنه قال لهم: "لأنتم والله أبغض إلي من عدتكم من القدرة والخنازير"3. وأقر اليهود بعدله ونصفته، وأنه لم يحف عليهم كما ادعوا4. ولكنهم قوم بهت! فإن قيل هذا صحابي جليل تربى على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وشاهد التنزيل؛ فليس ببدع أن يعدل ويحكم بالقسط إذ وكل إليه الحكم في أمر من الأمور. قلنا: لندع جيل الصحابة رضوان الله عليهم؛ فإنهم، جيل فريد، الأصل فيهم الخير والعدالة، ولنتجاوزهم إلى غيرهم ممن جاء بعدهم، فهذا شريح القاضي5 يتحاكم إليه أمير المؤمنين وخليفة المسلمين ورجل ذمي   1 وهو: عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي الشاعر المشهور، أحد الفقاء ليلة العقبة، شهد بدرًا وما بعدها إلى أن استشهد بمؤته. ابن حجر، الإصابة 2/ 306. 2 حم: 3/ 367، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجاله رجال الصحيح 4/ 22. 3 البيهقي، كتاب المساقاة، باب المعاملة على النخل بشطر ما يخرج منها 6/ 114. 4 جاء في بعض الروايات أنهم اشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيف عبد الله عليهم في الحرص، انظر: السنن الكبرى للبيهقي 6/ 114. 5 هو: شريح بن الحارث بن قيس الكندي، قاضي الكوفة، كان يكنى أبا أمية، توفي سنة ثمان أو تسع وسبعين، وقد عاش مائة وثمانين سنين. ترجمته في: "بقات ابن سعد 6/ 131، والحلية، لأبي نعيم 4/ 132، وسير أعلام النبلاء 4/ 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فيحكم شريح يرحمه الله للذمي على أمير المؤمنين؛ فقد أخرج البيهقي بسنده عن الشعبي؛ قال: خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إلى السوق، فإذا هو بنصراني1 يبيع درعًا قال: فعرف علي رضي الله عنه الدرع، فقال: هذه درعي، بيني وبينك قاضي المسلمين، قال: فلما رأى شريح أمير المؤمنين قام من مجلس القضاء وأجلس عليًا رضي الله عنه في مجلسه، وجلس شريح قدامه إلى جنب النصراني؛ فقال له علي رضي الله عنه: يا شريح لو كان خصمي مسلمًا لقعدت معه مجلس الخصم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصافحوهم، ولا تبدؤهم بالسلام ولا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا عليهم، ولجوهم إلى مضايق الطرق، وصغروهم كما صغرهم الله2"، اقض بيني وبينه يا شريح. فقال شريح: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: فقال علي رضي الله عنه: هذه درعي ذهبت مني منذ زمان قال: فقال شريح: ما تقول يا نصراني؟ قال: فقال: ما أكذب أمير المؤمنين؛ الدرع هي درعي، فقال شريح: ما أرى أن تخرج من يده فهل من بينة؟ فقال علي رضي الله عنه: صدق شريح. قال: فقال النصراني: أما أنا أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه، هي والله يا أمير المؤمينن درعك. اتبعتك من الجيش وقد زلت عن جملك الأورق؛ فأخذتها، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. قال: فقال علي رضي الله عنه: أما إذا أسلمت فهي لك، وحمله على فرس عتيق، قال فقال الشعبي: لقد رأيته يقاتل المشركين3.   1 وفي رواية: يهودي. انظر: الحلية لأبي نعيم 4/ 139. 2 في قوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ، سورة التوبة آية 29. 3 السنن الكبرى، كتاب آداب القاضي، باب إنصاف الخصمين 10/ 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وهذا النص يبين لنا كيف كان قضاة المسلمين يصدرون أحكامهم العادلة فيما يعرض عليهم من قضايا في حرية تامة، لا تأخذهم في إقامة العدل لومة لائم، الأمير والحقير، والقوي والضعيف كل أمام القضاء سواء؛ لذا حكم شريح على أمير المؤمنين رضي الله عنه للنصراني بما رآه حقًا، وأمير المؤمنين رضي الله عنه يرضي بالحكم ويصدق شريحًا على صحة ما قضى به؛ لأنه حكم بمقتضى قواعد الشرع، فكان ذلك كله سببًا في إسلام النصراني واهتدائه، لما رأى من قيام هذه الأمة في رعاياها وأهل ذمتها بالعدل والقسط الذي هو من أحكام الأنبياء والمرسلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 المبحث الثاني: وصف الله لهذه الأمة بالعدالة وشهادته لها بها اصطفى الله هذه الأمة لحمل الرسالة الخاتمة، وألقى على عاتقها مهمة القيام بواجب البلاغ، وجعلها قيمة على ذلك؛ إذ لا رسول بعد رسولها محمد صلى الله عليه وسلم؛ لذلك أناط الله بهذه الأمة مسئولية استمرار هذه الدعوة وإبلاغها للناس، وجعل هذه الأمة شاهدة وحجة على البشرية، تبلغهم وتشهد لهم بالإجابة، أو عليهم بالتمرد والعصيان. ولما كان من شرط قبول الشهادة أن يكون الشاهد عدلًا خيارًا مرضيًا جعل الله هذه الأمة، خير أمة وجلعها عدلًا وسطًا بين الأمم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ؛ فكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد عدل على هذه الأمة، كذلك أمته من بعده شاهد عدل على البشرية، تشهد على الأمم السابقة كما تشهد على الأمم اللاحقة. تشهد على الأمم السابقة حين تنكر وتنكر تلك الأمم لرسل الله إليها وتفتري عليهم الكذب، وتدعي أنه ما جاءها من بشير ولا نذير؛ فيستشهد الرسل بهذه الأمة فتشهد لهم. أخرج البخاري رحمه الله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعي نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب! فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم؛ فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليهم شهيدًا؛ فذلك قوله جل ذكره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ، والوسط العدل" 1.   1 خ: كتاب التفسير، باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} 8/ 171، ح 4487. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وهكذا يشهدون لجميع الأنبياء عليهم السلام على أممهم1، وقبول الشهادة دليل العدالة، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: وشهادة أمة محمد صلى الله عليه وسلم على جمع الأمم يوم القيامة برهان على عدالة هذه الأمة وشرقها، ومضمون هذا أن هذه الأمة يشتهد بهم الأنبياء على أممهم، ولولا اعتراف أممهم بشرف هذه الأمة لما حصل إلزامهم بشهادتهم"2. وشهادة هذه الأمة على الأمم شهادة حق وعدل؛ لأنها ما شهدت إلا بما علمت وإن كانت لم تشاهد ولم تحضر، لكنها شهدت بشهادة كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. شهد لديها بصدق الرسل وتبليغهم أممهم دعوة ربهم؛ فشهدت بذلك. أخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه الثلاثة، وأكثر من ذل وأقل، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم فيدعي قومه، فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: لا؛ فيقال: من شهد لك؛ فيقول: محمد وأمته فتدعي أمة محمد فيقال: هل بلغ هذا؟ فيقولون: نعم. فيقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبينا بذلك، أن الرسل قد بلغوا فصدقناه. قال: فذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 3. وكما تشهد هذه الأمة على الأمم السالفة في الآخرة فتقبل شهادتها، كذلك يشهد بعضها على بعض، فتمضي وتعتبر عند الله عز وجل كما هي ماضية معتبرة عند خلقه؛ لأن الله جعلها شاهدة على خلقه.   1 كما جاء في روايات أخرى. انظر: نفس الصفحة. 2 النهاية في الفتن والملاحم 2/ 9. 3 جه: كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم 2/ 1432، ح 4284. وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: "صحيح". انظر: صحيح سنن ابن ماجه 2/ 425. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 أخرج البخاري رحمه الله من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: "مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًا؛ فقال: وجبت، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض"1. وقال صلى الله عليه وسلم: "أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة" قال عمر: فقلنا: وثلاثة؟ قال: "وثلاثة"، فقلنا: واثنان؟ قال: "واثنان". ثم لم نسأله عن الواحد2. وكذلك عمر رضي الله عنه إذا مرت به جنازة وأثنى عليها الحاضرون خيرًا قال: وجبت، وإذا أثنوا عليها شرًا قال: وجبت. يصنع كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم3. لقد فهم عمر الفاروق رضي الله عنه أن شهادة هذه الأمة مقبولة عند الله، لفضلها.   1 خ: جنائز، باب ثناء الناس على الميت 3/ 228، ح 1367. 2 نفس المصدر والجزء ص 229، ح 1368. 3 خ: جنائز، باب ثناء الناس على الميت ص 229، ح 1368. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 المبحث الثالث: اعتراف أعداء هذه الأمة بعدالتها وشهادتهم لها بذلك بلغت عدالة هذه الأمة يوم أن كانت في أوج قوتها ونفوذ سلطانها، وقدرتها على البطش والظلم إن أرادت حدًا أذهل الأعداء والخصوم، وجعلهم يقفون مشدوهين أمام عظمة هذه الأمة، والدين الذي تدين به وتدعو الأمم إليه؛ مما جعلهم -على ما في قلوبهم من غل وحقد وحسد- يشيدون بعدالة هذه الأمة، وسماحتها وقيامها بالقسط مع خصومها ومن يعيش في كنفها من أهل الديانات الأخرى قبل أبنائها ومواطنيها. فنطقت ألسنتهم بما رأوا ولمسوا من العدل والإنصاف والسماحة التي عاشوها وعوملوا بها في رحاب هذه الأمة وتحت سلطانها. وحين تأتي الشهادة لهذه الأمة من الأعداء والخصوم؛ فهي شهادة غير متهم، ولا محاب، بل هي شهادة عدو، وخصم أنطقه واقع العدل الذي نعم به في جوار هذه الأمة، والرحمة التي أسبغت عليه مما لم يجد له مثيلًا حتى لدى بنهي جنسه ودينه. وهي شهادة تفخر بها هذه الأمة، وإن كان بها عنها غنى، وقديمًا قيل: والفضل ما شهدت به الأعداء. وهذه بعض اعترافات وشهادات الأمم وأهل الأديان الأخرى بعدالة هذه الأمة وسماحتها وإنصافها لمن عاش تحت حكمها منهم: 1- روى البلاذري من طريق سعيد بن عبد العزيز1 قال: بلغني أنه لما   1 وهو: سعيد بن عبد العزيز التنوخي الدمشقي مفتي الشام، أحد الأئمة، ثقة حجة. مات سنة 167 هـ. انظر: الذهبي ميزان الاعتدال 2/ 149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 جمع هرقل1 للمسملين الجموع وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك، ردوا على أهل حمص2 ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم، والدفع عنكم؛ فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: "لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم3، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم"4. وكان أهل حمص نصارى، صالحهم المسلمون على أن يدفعوا الجزية والخراج ويتكفل ولي أمر ولي أمر المسلمين بحمايتهم، ودفع الأعداء عنه، وقد كانوا قبل حكم المسلمين تحت حكم الروم وهم على دينهم. فلما رأى المسلمون أنهم غير قادرين على الوفاء لهم بشرط الحماية، ردجوا عليهم ما أخذوا منهم. فأكبر ذلك أهل حمص؛ لأنهم لم يعهدوا مثله في أمة غير المسلمين، وأشادوا بعدل المسلمين وحسن ولايتهم عليهم، وأنهم أحب إليهم من الروم مع كونهم على دينهم. وهذه شهادة صريحة بعدالة هذه الأمة، نبعث من واقع عاشه القوم تحت لواء المسلمين، لمسوا خلاله من العدالة، والرحمة، والمساحة ما لم يعرفوا من قبل. 2- وهذا اعتراف آخر وشهادة أخرى من أهل وادي الأردن:   1 هرقل: ملك الروم. 2 حمص "بكسر الحاء المهملة" قل الحموي: بلد مشهور قديم بين دمشق وحلب، بناه رجل يقال له حمص بن المهر بن جان. انظر: معجم البلدان 2/ 302. 3 الغشم: الظلم والغصب. انظر: لسان العرب 12/ 437. مادة "غشم". 4 فتوح البلدان ص 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 لقد كتبوا إلى قائد المسلمين آنذاك وهو أبو عبيدة عامر بن الجراح1 رضي الله عنهم معربين له عن تمنيهم لحكم المسلمين لما لمسوا من عدالتهم ووفائهم ورأفتهمبهم وأنهم يفضلونهم على الروم وإن كانوا على دينهم، قائلين: "يا معشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا، وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا"2. 3- شهادة المستشرق توماس وآرنولد3: يقول في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" وهو يتحدث عن اضطهاد الفرس للمسيحيين، موازنًا بين سلوكهم وسلوك المسلمين: "ولكن مبادئ التسامح الإسلامي حرمت مثل هذه الأعمال -التي كان يمارسها الفرس على رعاياهم من المسيحيين التي تنطوي على الظلم؛ بل كان المسلمون على خلاف غيرهم، إذًا يظهر لنا أنهم لم يألوا جهدًا في أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحيين بالعدل والقسطاس"4. وقال عن إيثار أهل القدس وفلسطين لحكم المسلمين واغتباطهم به:   1 هو: أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، أحد العشرة المبشرين بالجنة، أسلم قديمًا وشهد بدرًا. مات شهيدًا بطاعون عمواس سنة ثماني عشرة وله ثمان وخمسون سنة. ابن حجر. التقريب 1/ 388. 2 فتوح الشام ص 97. 3 تومس ووكر أرنولد "1280- 1349 هـ"، مستشرق إنكليزي، تعلم في كمبردج، واشتغل بالتدريس في عدة جامعات بالهند وباكستان، ثم عاد إلى لندن ودرس في جامعتها، عين مديرًا لمعهد الدراسات الشرقية. له عدة كتب بالإنجليزية عن العلوم الإسلامية. الزركلي، الأعلام 2/ 76- 77. وانظر: نجيب العقيقي، المستشرقون 2/ 84. 4 ص 88، ترجمة الأستاذ حسن إبراهيم حسن وزملائه. "طـ. الثانية 1957، نشر: مكتبة النهضة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 "ومن المؤكد أن المسيحيين من أهالي هذه البلاد؛- أي: القدس- قد آثروا حكم المسلمين على حكم الصليبيين"1. 4- شهادة واعتراف المستشرق الأمريكي، وول ديورانت: بالرغم من أن هذا الرجل يهودي صهيوني درس في كتابه "قصة الحضارة" السم في الدسم، وأساء للإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم كما أساء للمسيح عليه السلام كثيرًا؛ مما يحتم على قارئ هذا الكتاب أن يتوخى الحذر، وأن ينتبه لذلك ويتوقى تلك الألغام2 التي بثها الرجل في ثنايا مؤلفه هذا. ومع ذلك يأبى الله إلا أن يظهر الحق ولو على لسان عدو من أعدائه. يقول ديورانت واصفًا حال أهل الذمة الذين يعيشون في ظل الخلافة الإسلامية: "ولقد كان أهل الذمة المسيحيون، والزرادشتيون3، واليهود، والصابئون4 يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيرًا في البلاد المسيحية في هذه الأيام فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر   1 نفس المصدر ص 116. 2 عن ِأصل هذه الكلمة ومعناها راجع، معجم الأخطاء الشائعة، لمحمد العدناني ص 229 ط. الثانية. 3 الزرادشتيون: ابتاع زرادشت بن بورشب وهو رجل ظهر في أذربيجان في زمان الملك كشتاسب بن الهراست، وزعم أنه نبي، وله كتاب يسمى "زنداوستا"، زعم أنه أنزل عليه وكان يدعو إلى عبادة الله، والكفر بالشيطان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم دخل التحريف الزرادشتيه, آلت إلى أن أصبحت ديانة ثنوية مجوسية. انظر: الشهرستاني، الملل 2/ 41. والرازي، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص68. 4 الصابئة: نوعان: حنفاء موحدون، وصابئة مشركون يعبدون الكواكب. انظر عنهم: ابن تيمية، الرد على المنطقيين 288. وذكر ابن أبي حاتم فيهم ثمانية أقوال في تفسيره تفسير القرآن العظيم ق1، البقرة ص199، "ط. الأولى، بتحقيق د. أحمد الزهراني، نشر: مكتبات الدار، وابن القيم، وطيبة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص، وأداء فرضة عن كل شخص، تختلف باختلاف دخله، ولم تكن هذه الضريبة1 تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفي منها الرهبان، والنساء، والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء، والشيوخ، والعجزة، والعمي، والشديد والفقر. وكان الذميون يعفون في نظير هذه الضريبة من الخدمة العسكرية ولا فرض عليهم الزكاة وكان لهم على الحكومة أن تحميهم2. وهذا النص يثبت أن المسلمين في الأندلس عاملوا أهل ذمتهم وفق القواعد التي وضعها وحددها الإسلام، وهي قواعد تعطي أهل الذمة أكثر مما تأخذ منهم، توفر لهم الحماية والنصفة، وعدم الظلم أو الهضم وتسبغ الرحمة والعطف على الفقراء وذوي الأعذار، توفر لهم حرية التدين، والاكتساب، وهذا غاية العدل؛ بل هو إلى الفضل أقرب. 5- اعتراف المستشرق ستانلي لين بول: نقل عنه صاحب "قصة الحضارة" العبارة التالية: "لم تنعم الأندلس طول تاريخها بحكم رحيم، عادل، كما نعمت به في أيام الفاتحين العرب"3.   1 في الواقع ليس ما يؤخذ من الذميين بضريبة؛ وإنما هو الجزية تؤخذ في مقابل توفير المسلمين لهم الحماية والأمان حتى من أعدائهم الخارجيين، ولذلك لما لم يستطع المسلمون أن يفوا لأهل حمص بذلك ردوا عليهم ما أخذوا منهم كما تقدم. وهي أيضًا في مقابل تمتع الذمي بالخدمات العامة التي تقدمها الدولة. 2 قصة الحضارة 13/ 130- 131، "ط. الثالثة 1974 م. نشر: لجنة التأليف والنشر، ترجمة محمد بدران". 3 عن كتاب حكم المسلمين في أسبانيا، كما ذكر المترجم في حاشية قصة الحضارة 13/ 292؛ على أن لا نسلم له عبارة: "الفاتحن العرب" فهي من درس المستشرقين، فغن هذه البلدان وغيرها إنما فتحها المجاهدون المسلمون لنشر دين الله في أرضه وبين خلقه لا لشيء آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ثم عقب عليه ديوران -اليهودي- بقوله: "ذلك حكم يصدره مستشرق مسيحي عظيم" ثم غلب عليه حقده وخبثه وأراد أن يقلل من شأن هذه الشهادة والإشادة مع اعترافه بصحة حكم استانلي، فيغمزها قائلًا: "قد يتطلب تحمسه شيئًا من التقليل من ثنائه، لكن هذا الحكم بعد أن نقص منه ما عساه أن يكون فيه من التحمس يظل مع ذلك قائمًا صحيحًا"1.   1 قصة الحضارة 13/ 292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 المبحث الرابع: العدل عند أهل الكتاب أولا: مبدأ العدل عند اليهود ... المبحث الرابع: العدل عند أهل الكتاب كنت أود أن أستعرض مبدأ العدل عند الكثير من الأمم والأديان الأخرى إلا أني رأيت أن أكتفي بالحديث عن مبدأ العدل عند أهل الكتاب، اليهود والنصارى، لأمرين: الأول: خشية الإطالة. والثاني: أننا إذا تحدثنا عن العدل عند أهل الكتاب، وبينا ما وصلوا إليه من ظلم وجور، وجنوح عن العدل والإنصاف، وهم قوم أنزل الله إليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل تترى، ومع ذلك حادوا عن الحق وحرفوا وظلموا وطغوا واستبدوا؛ فكيف بغيرهم من الأمم التي لم تحظ بما حظوا به من توالي الرسالات وكثرة الأنبياء. وسنتحدث في هذا المبحث عن العدل عند اليهود أولًا فيما بينهم، ثم فيما بينهم وبين غيرهم من الأمم، ثم عن العدل عند النصارى كذلك فيما بينهم، وفيما بينهم وبين الأمم الأخرى. أولًا: مبدأ العدل عند اليهود أ- العدل فيما بينهم: لقد أمرهم أنبياؤهم أن يقوموا بالعدل والقسط، وأن لا يتظالموا، ولا يظلموا أحدًا، وأنزل الله عز وجل عليهم التوراة، يها هدى ونور، وفضل لهم فيها الحدود والأحكام والقصاص العادل. كما أخبر الله بذلك في القرآن الكريم؛ حيث قال تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ؛ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ؛ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1. وفيما بقي بين أيدي القوم من أسفار التوراة -مع تحريفهم وتبديلهم لها- أثر مما ورد ذكره في القرآن الكريم. وسأورد فيما يلي بعض نصوص أسفار التوراة، التي توجب على اليهود الحكم بالعدل والقسط، وتحذرهم من الظلم والجور في القضاء والكيل والوزن؛ ففي "سفر اللاويين" أن الرب كلم موسى عليه السلام قائلًا: "لا ترتكبوا جورًا في القضاء، ولا تأخذوا بوجه مسكين ولا تحترم وجه كبير، بالعدل تحكم لقريبك"2. وفيه أيضًا: "وإذا نزل عندك غريب في أرضكم فلا تظلموه، كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم وتحبه كنفسك؛ لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر. أن الرب إلهكم. لا ترتبكوا جورًا في القضاء لا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل، ميزان حق ووزنات حق وإيفة حق وهبن حق تكون لكم، أنا الرب إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر، فتحفظون كل فرائضي وكل أحكامي وتعملونها أنا الرب"3. وفيه أيضًا ما يدل على القصاص وأن النفس بالنفس: "وإذا أمات أحد إنسانًا فإنه يقتل"4، "ومن قتل بهيمة يعوض عنها ومن قتل إنسانًا يقتل، حكم   1سورة المائدة آية 44- 45. 2 إصحاح 19 فقرة 15. 3 إصحاح 19 فقرة 33- 37. 4 لأويين: إصحاح 24 فسقرة 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 واحد يكون لكم الغريب يكون كالوطني إني أن الرب إلهكم"1. وفي "سفر الخروج": "من ضرب إنسانًا فمات يقتل قتلًا"2. فقد دل إذن القرآن الكريم، وأسفار التوراة التي بقيت بأيديهم على وجوب العدل، عليهم والقصاص الحق عندهم، وتحريم الظلم والجور؛ فماذا فعل القوم؟ لقد حرفوا وبدلوا، وتلاعبوا بنصوص التوراة، ولم يقوموا فيما بينهم بالقسط والعدل. وفرقوا بين القوي والضعيف، والوضيع والشريف، ولم يساووا بين الناس في إقامة الحدود والقصاص، كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم في حديث المخزومية التي سرقت فقطع يدها وغضب على من جاء يشفع فيها وقام فيهم خطيبًا قائلًا: "أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وغذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد"3. ومن الشواهد على هذا المسلك المشين ليهود ما أخرجه أبو داود وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان قرظية4 والنضير5، وكان النضير أشرف من قريظة؛ فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلًا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلًا من قريظة فودي بمائة وسق من تمر؛ فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلًا من قريظة فقالوا: ادفعوه لنا نقتله؛ فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم، فأتوه فنزلت: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} 6، والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت:   1 لاويين: إصحاح 24 فقرة 21- 22. 2 إصحاح 21، فقرة 12. 3 تقدم بتمامه مخرجًا انظر: 168. 4، 5 قريظة، والنضير: طائفتان من اليهود نزلنا أطراف المدينة. 6 سورة المائدة آية 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 1، 2. فانظر كيف حادوا عن حكم الله عز وجل وتلاعبوا بحدوده؛ فأقاموا الحد، والقصاص على الضعيف فيهم، وصرفوا عن ذي المكانة والقوة والمنعة والعجب لا ينقضي من تمالئهم على ذلك واتفاقهم عليه. وهذا شاهد آخر على اختلال ميزان العدل عند يهود، ومبلغ ظلمهم وجورهم، وتعطيلهم الحدود الله عز وجل: أخرج الإمام البخاري رحمه الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأة زينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " فقالوا: نفضحهم، ويجلدون. قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم؛ فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فيقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: أرفع يديك، فرفع يده؛ فإذا فيها آية الرجم، قالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم؛ فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فرأيت الرجل يحنى على المرأة يقيها الحجارة3. وفي رواية عند مسلم: "أن اليهود حمموا وجه الزاني وجلدوه ولما سألهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم"، قالوا: نعم. فدعا رجلًا من علمائهم فقال: "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ " قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجده الرجم؛ ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف   1 سورة المائدة: آية 50. 2 د: كتاب الديات، باب النفس بالنفس 4/ 634، ح 4494. 3 خ: كتاب الحدود، باب أحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا ورفعوا للإمام 12/ 166، ح 6841. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم"1. وفي "سفر التثنية" من التوراة جاء في شأن حد الزاني النص الآتي: "ولكن إن كان هذا الأمر صحيحًا لم توجد عذرة للفتاة، يخرجون الفتاة إلى باب بيت أبيها ويرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت؛ لأنها عملت قباحة في إسرائيل بزناها في بيت أبيها، فتنزع الشر من وسطك. وإذا وجد رجل مضطجعًا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة، فتنزع الشر من إسرائيل. إذا كانت فتاة عذراء مخطبوة لرجل فوجدها رجل في المدينة فاضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وأرجموهما بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فتنزع الشر من وسطك"2. ب- العدل عند اليهود بينهم وبين غيرهم من الأمم: إذا كان اليهود لم يقيموا العدل فيما بينهم، وهم شعب واحد وأبناء عمومة؛ بل فرقوا بين ضعيفهم وقويهم، وشريفهم ووضيعهم- كما تقدم- فكيف بهم مع غيرهم من الأمم؟ إن نظرة اليهود إلى غيرهم من الأمم والشعوب نظرة تعال وازدراء؛ فهم يرون أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه كما أخبر الله عن مقالتهم هذه وأكذبهم فيها؛ فقال جل وعلا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير} 3.   1 م: كتاب الحدود، باب رجم اليهود، أهل الذمة في الزنى 3/ 1327، ح 1700. 2 تثنية: إصحاح 22، فقرة 20- 25. 3 سورة المائدة آية 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وكانوا يرون أن غيرهم من الأمم لا حق لهم في عدل ولا نصف؛ بل ويستحلون منهم الدماء والأنفس والأموال بحجة أن غير اليهود، كفار مشركون لا حرمة لهم. وقد نبأنا الله خبرهم وقولهم هذا وعدهم كذبة مفترين في ذلك فقال عز وجل: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1. ومرادهم بالأميين العرب والمشركين وكل من ليس بيهودي. روى ابن جرير عن قتادة2 رحمه الله في قوله: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} ، قال: ليس علينا في المشركين سبيل، يعنون من ليس من أهل الكتاب3. وفي أسفار التوراة المحرفة ما يشي بهذا المسلك الذي انتهجه يهود تجاه الأمم الأخرى؛ ففي "سفر الخروج" ضمن الوصايا العشر التي يزعمون أن موسى عليه السلام تلقاها من ربه: "لا تشهد على قريب شهادة زور، لا تشته بيت قريبك لا تشته امرأة قريبك، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئًا مما لقريبك"4؛ فمفهوم قوله "قريبك" في هذا النص، أن غير القريب يجوز لهم اشتهاء امرأته وبيته وو .... ، وقد فهم اليهود هذا الفهم، ونص التلمود على حل كل ذلك كما سيأتي ذكر نصوص منه. وفي "سفر التثنية" إباحة التعامل بالربا مع غير اليهودي، وتحريمه مع اليهودي: "للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا"5؛ بل يمنع   1 سورة آل عمران: آية 75. 2 هو: قتادة بن دعامة السدوسي الضرير الأكمه، حافظ، مفسر، قال فيه الذهبي: حافظ العصر قدوة المفسرين. مات سنة 117 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 5/ 269. 3 جامع البيان عن تأويل آي القرآن 6/ 522. 4 سفر الخروج: إصحاح 2 فقرة 16- 17. 5 خروج: إصحاح 20 فقرة 16- 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 "التلمود"1 إقراض غير اليهود إلا بربي: "غير مصرح لليهودي أن يقرض الأجنبي إلا بالربا"2، ولقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أنه نهاهم عن أكل الربا وأكل أموال الناس بالباطل وأنهم لما خالفوا وظلموا وأكلوا الربا حرم عليهم بعض الطيبات التي كانت حلالًا عقوبة لهم في الدنيا. {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} 3. وهذه بعض نصوص "التلمود" التي تبيح لليهود أموال الأميين بل ودماءهم وأعراضهم، نسوق منها نماذج باختصار ليتبين مدى ظلم القوم وجورهم. 1- إباحة دماء غير اليهود: يقول "التلمود": "اقتل الصالح من غير الإسرائيليين، ومحرم على اليهودي أن ينجي أحدًا من باقي الأمم من هلاك، أو يخرجه من حفرة يقع فيها؛ لأنه بذلك يكون حفظ حياة أحد الوثنيين"4. "من العدل أن يقتل اليهودي بيده كل كافر؛ لأن من يسفك دم الكافر يقرب قربانًا لله"5. وكل من ليس بيهودي فهو كافر عندهم.   1 التلمود: وهو الكتاب الذي يحتوي على التعاليم اليهودية والتشريعات، بزعم اليهود أن موسى عليه السلام عندما تلقى التوراة من الله مكتوبة تلقى منه كذلك التلمود مشافهة، وهو تفسير وتفصيل للتوراة وهو عندهم أقدس منها. "آي. بي. يرانايتس، فضح التلمود ص21". 2 الكنز المرصود في قواعد التلمود، ترجمة د. يوسف نصر الله ص 87. 3 سورة النساء: آية 160- 161. 4 الكنز المرصود في قواعد التلمود، "ترجمة د. يوسف نصر الله ص 90". 5 المصدر السابق ص 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 2- إباحة عرضه: يقول "التلمود": لا يخطئ اليهود إذا تعدى على عرض الأجنبي؛ لأن كل عقد نكاح عند الأجانب فاسد؛ لأن المرأة التي لم تكن من بني إسرائيل كبهيمة والعقد لا يوجد مع البهائم وما شاكلها"1. قال ميموند2: "إن لليهود الحق في اغتصاب النساء غير المؤمنات؛ أي: غير اليهوديات"3. 3 إباحة ماله: يقول "التلمود": "إن الله حلل أموال باقي الأمم لبني إسرائيل لما رآهم قد خالفوا السبع الوصايا المختصة بعبادة الأوثان، والزنا، والقتل والسرقة، وأكل لحم الحيوانات غير المذبوحة، وخصاء الإنسان وإيلاد الحيوان من غير جنسه"4. "إذا سرق أولاد نوح -أي: غير اليهود- شيئًا ولو كانت قيمته طفيفة جدًا، يستحقون الموت؛ لأنهم قد خالفوا الوصايا التي أعطاها الله لهم, وأما اليهود فمصرح لهم أن يضروا الأمي؛ لأنه جاء في الوصايا: "لا تسرق مال القريب"، قال علماء "التلمود" مفسرين هذه الوصية: إن الأمي ليس بقريب، وإن موسى لم يكتب في الوصية "لا تسرق مالي الأمي" فسلب ماله لم يكن مخالفًا للوصايا"5.   1 الكنز المرصود في قواعد التلمود، "ترجمة د. يوسف نصر الله"، ص95. 2 هو: موسى بن ميمون، الذي وضع الميشناه. راجع: التلمود، لظفر الإسلام ص 96، وفضح التلمود لـ.أي. بي. برانايتش، ص38. 3 الكنز المرصود ص95. 4 نفس المصدر ص152. 5 نفس المصدر ص78- 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وفي شأن رد الأموال المفقودة لغير اليهودي يقول "التلمود": "إن الله لا يغفر ذنبًا ليهودي يرد للأمي ماله المفقود، وغير جائز رد الأشياء المفقودة من الأجانب"1. وبعد فهذه بعض نصوص "التلمود" وهي تفصح أن القوم لا يرقبون في غير اليهودي إلا ولا ذمة؛ بل يظلمونه، ويستحلون دمه وعرضه وماله، ويعدون ذلك دينًا قاتلهم الله أنى يؤفكون، وعاملهم بعدله.   1 الكنز المرصود في قواعد التلمود، "ترجمة د. يوسف نصر الله"، ص 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ثانيا: العدل عند النصارى ... ثانيًا: العدل بين النصارى أ- العدل فيما بينهم النصارى يتبعون التوراة في الأحكام والتشريعات، وما أمر به اليهود من العدل في الأحكام والمحدود، وإيفاء الكيل والوزن وخلاف ذلك؛ فإنه يسري على أمة النصارى كذلك. لكن لما بغى اليهود وقست قلوبهم، وأحلوا ما حرم الله، وأكلوا أموال الناس بالباطل، جاء المسيح عليه السلام ليردهم إلى الجادة؛ فلم يأمرهم بالعدل فحسب بل تجاوزه إلى الفضل، والعفو، وأمرهم ألا يقابلوا الإساءة بمثلها، وأن لا يعتدوا على من اعتدى عليهم بل قال لهم كما جاء في إنجيل "متى" الذي يزعمون إنه مما أنزل على عيسى عليه السلام: "قد سمعتم أنه قيل: العين بالعين والسن بالسن، أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرير بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخل له رداءك أيضًا، ومن سخرك ميلًا فامش معه اثنين، من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تمنعه، قد سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوك، أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى من يبغضكم، وصلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 لأجل من يعنتكم ويضطهدكم"1. لكن أمة النصارى لم تهتد؛ بل حرفت وبدلت فصلت عن سواء السبيل، ولئن كان اليهود مغضوبًا عليهم فإن النصارى ضالون، كما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال في تفسير قوله عز وجل: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 2، قال: "إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى" 3. وأول ضلالهم، وأعظم جورهم وبغيهم أن عدلوا بربهم غيره، وجعلوا له شركاء، إذا جعلوه ثالث ثلاثة، وتارة جعلوا المسيح عليه السلام هو الإله وأخرى ابن الإله؛ قال الله عز وجل عن كفرهم وضلالهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 4، وقال في آية أخرى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار} 5، وقال عز وجل في آية أخرى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 6. وقال سبحانه: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} 7. والشرك بالله، واتخاذ غيره إلهًا معه، من أعظم الظلم، كما أخبر الحق تبارك وتعالى على لسان العبد الصالح لقمان: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ   1 إنجيل متى: الإصحاح السادس، فقرة 38- 44. 2 سورة الفاتحة: آية 7. 3 حم: 4/ 378، من حديث عدي بن حاتم. 4 سورة المائدة: 17. 5 المائدة: آية 72. 6 سورة المائدة: آية 73. 7 سورة التوبة: آية 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 1، ولما نزل قوله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2. شق ذلك على الصحابة رضي الله عنهم؛ فقالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} ؛ إنما هو الشرك" 3. وقال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله عز وجل: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ؛ "أي: هو أعظم الظلم"4. فإذا كان القوم قد ارتكبوا أعظم الظلم وظلموا أنفسهم بجعلهم لله أندادًا ومعه شركاء؛ فماذا نتوقع منهم وقد ضلوا وظلموا، غير الظلم والجور في جل حياتهم وشئونهم؛ لأنهم بنوا دينهم عليه. فلم يكونوا قائمين بالعدل والقسط فيما بينهم، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم من قصة المخزومية التي سرقت: "إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوا وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد" 5، يشملهم وإن كان هو في اليهود أظهر، وهؤلاء رهبانهم الذين هم عبادهم وعلماؤهم، وهم الصفوة فيهم والقدوة، والذين يفترض فيهم أن يكونوا أقرب القوم إلى العدل وعدم الظلم نجدهم ظلمة جائرين آكلين لأموال الناس بالباطل كما أخبرنا الله بذلك عنهم، وكما يدل على واقع الكنائس وسيرتها. يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ   1 سورة لقمان: آية 13. 2 سورة الأنعام: آية 82. 3 حم 1/ 378. 4 تفسير القرآن العظيم 6/ 338. 5 تقدم تخريجه انظر: ص169 هامش 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 اللَّهِ} 1. يقول الحافظ ابن كثير: "ذلكم أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورياستهم في الناس، يأكلون أموالهم بذلك"2. ولعل من أبرز مظاهر ذلك ما تمارسه الكنيسة من إصدار ما عرف بـ"صكوك الغفران"3 وهي صكوك يصدرها أهل السلطة في الكنيسة من البابوات والمطارنة، والبطارقة، والقساوسة، باسم الكنيسة، يغفر بمقتضاها لحاملها ما اقترفه من الآثام والخطايا في حياته، مقابل أن يدفع مبالغ للكنيسة وهذا إلى جانب كونه أكلًا لأموال الناس بالباطل هو أيضًا قول على الله بلا علم وافتراء عليه، وتعد على ألوهيته عز وجل؛ إذ لا يملك غفران الذنوب والعفو عنها إلا هو سبحانه، ولكن القوم ضلوا ضلالًا بعيدًا. ومن صور جور هذه الأمة وعدم عدلها. أن كل فرقة وطائفة منها، إذا تسلطت على الفرق الأخرى، أذاقتها ألوانًا من الظم والبطش والاضطهاد ولم ترقب فيها إلا ولا ذمة. يقول د. أحمد شلبي: "تكرر في تاريخ المسيحية حدث عظيم لم يتخل، وهو التجاء الجانب القوي إلى أعنف وأقسى وسائل الاضطهادات، والتعذيب، والتنكيل، والحرق، والإفناء يسلطها على الجانب الضعيف. والعجيب أن المسيحيين اضطهدوا من اليهود والرومان، ونزلت بهم الويلات في القرون الثلاثة الأولى؛ فلما بدأ جانبهم يشتد رأيناهم ينزلون نفس الويلات بمخالفيهم من أبناء دينهم، ومن اتباع الأديان الأخرى، ومن هنا فنيت مذاهب مسيحية كثيرة كان بعضها في وقت ما، له الغلبة في العدد ولكن   1 سورة التوبة آية 34. 2 تفسير القرآن العظيم 4/ 80. 3 للاطلاع على صورة وفحوى هذه الصكوك راجع كتاب محاضرات في النصرانية، لأبي زهرة ص 172، ط. دار الفكر. والمسيحية، للدكتور أحمد شلبي ص 254 ط. السادسة 1978. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 تنقصه القوة والسلطان، وكان فناء هذه المذاهب بسبب قسوة اليهود والرومان أحيانًا، وأحيانًا بسبب قسوة فرق مسيحية أخرى قويت واشتدت بالأباطرة وذوي النفوذ"1. وهذا مصداق قوله تبارك وتعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 2. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "أي: فألقينا بينهم العداوة والتباغض لبعضهم بعضًا، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين، يكفر بعضهم بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا؛ فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها، فالملكية3 تكفر اليعقوبية4، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية5.   1 المسيحية ص237. 2 سورة المائدة: آية 14. 3 الملكية، أو الملكانية: أصحاب ملكان الذي ظهر بأرض الروم، ومعظم الروم ملكانية، صرحوا بإثبات التثليث، وقالوا: إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح، وتدرعت بناسوته. انظر عنها: الشهرستاني، الملل والنخل 2/ 27. 4 اليعقوبية: نسبة إلى يعقوب البراذعي، مصري ظهر في منتصف القرن الاسدس الميلادي. وهم الذين يقولون بأن المسيح ذو طبيعة واجدة قد امتزج فيه عنصر الإله بعنصر الإنسان، وتكون من الاتحاد طبيعية واحدة جامعة بين اللاهوت والناسوت. انظر: محاضرات في النصرانية ص140، 159. 5 النسطورية: نسبة إلى نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون، كان بطريرك القسطنطينية، يرى أن العذراء لم تلد إلهًا بل ولدت إنسانًا، وهو يرى أن الأقنوم الثاني وهو الابن لم يتجسد وتلده مريم كما يرى غيره من المثلثين. انظر: الشهرستاني، الملل 2/ 29، ومحاضرات في النصرانية، لأبي زهرة ص157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 والآربوسية1، كل طائفة تكفر الأخرى"2. وكمثال على ما ذكر من ظلم أمة النصارى وجور بعضهم على بعض، ما لاقاه أقباط مصر -وهم من الطائفة اليعقوبية- من ظلم واضطهاد على يد أبناء دينهم البيزنطيين الذين كانوا يحكمونهم قبل الفتح الإسلام لمصر. يقول المستشرق توماس أرنولد: "فإن اليعاقبة -وهم الأقباط- الذين كانوا يكونون السواد الأعظم من السكان المسيحيين، قد عوملوا معاملة مجحفة من اتباع المذهب الأرثوذكسي3 التابعيين للبلاط، الذين ألقوا في قلوبهم بذرو السخط والحنق اللذين لم ينسهما أعقابهم حتى اليوم. كان بعضهم يعذب ثم يلقى بهم في اليم وتبع كثير منهم بطريقهم إلى المنفى، لينجوا من أيدي مضطهديهم، وأخفى عدد كبير منهم عقائدهم الحقيقية، وتظاهر بقبول قرار خلقدونية"4.   1 الأربوسية: هم أصحاب آريوس وكان قيسًا بالإسكندرية، ومن قوله: التوحيد، المجرد وأن عيسى عليه السلام عبد مخلوق وأنه كلمة الله التي بها خلق السماوات والأرض، ابن حزم، الفصل 1/ 48. 2 تفسير القرآن العظيم 3/ 62. 3 وهم التابعون للكنيسة الشرقية الأرثوذكية، وأكثر أتباعها من الروم الشرقيين ومن البلاد الشرقية. كروسيا والبلقان واليونان، وكان مقرها الأصلي القسطنطينية. انظر: شلبي، المسيحية 238. 4 خلقدونية: هو ثغر منه المصيصة وطرطوس وأدنة في آسيا الصغرى على البسفور، وينسب إليه مجمع مسيحي عقد فيها سنة 451، حضره 520 أسقفًا، وقيل: أكثر، وكان من أهم قراراته: 1- أن المسيح فيه طبيعتان لا طبيعة واحدة وأن الألوهية طبيعة وحدها، والناسوت طبيعة وحدها؛ التقتا في المسيح. 2- لعن "ديسقورس" بطريرك كنيسة الإسكندرية ونفيه. انظر: محاضرات في النصرانية، لأبي زهرة ص 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وقد جلب الفتح الإسلامي إلى هؤلاء القبط -ذلك اللفظ الذي يطلق على المسيحيين من اليعاقبة في مصر- حياة تقوم على الحرية الدينية التي لم ينعموا بها قبل ذلك بقرن من الزمان"1. وكثيرًا ما كان الحكم الإسلامي مخلصًا لكثير من طوائف النصارى من حقد واضطهاد وظلم، وبجانب عامل العدل والتسامح الذي عرف به الفاتحون المسلمون، كان هذا من العوامل التي جعلت الكثير من المسيحيين يفضلون الحكم الإسلامي على حكم أبناء دينهم من أتباع الطوائف الأخرى. كما تقدم لنا شواهد ذلك في مبحث "شهادة الأعداء بعدالة الأمة الإسلامية"2. ب- العدل فيما بينهم وبين غيرهم من الأمم: سبق لنا في بحث العدل فيما بينهم كيف أن المسيح عليه السلام، أمرهم بمقابلة السيئة بالحسنة، وأن لا يردوا على من أساء إليهم، وتلك مثالية عالية لم تبلغها همم القوم؛ ولعل ما نزل بهم من ظلم يهود ولارومان واضطهادهم المرير لهم أيام ضعفهم وذلتهم، ترك في أنفسهم الرغبة في الانتقام متى استطاعوا ذلك؛ بل والاعتداء إن قدروا. وإن نحن استنطقنا تاريخ القوم أفصح لنا عن سواءت يتوارى المرء منها خجلًا؛ إذ ثبت الوقائع التاريخية أن القوم كانوا شديدي الظلم والاضطهاد لمن يقع تحت سلطانهم من أهل الأديان الأخرى؛ إذ ليس لأهل هذه الأديان بينهم مقام؛ فإما التنصر وإما القتل أو الرحيل. ولم يكن اضطهادهم للمخالفين عملًا فرديًا يبدو حينًا ويختفي حينًا؛ بل   1 الدعوة إلى الإسلام ص123. 2 انظر: ص178 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 كان سياسة ثابتة حاسمة تستهدف إفناء الخصوم ومحو آثارهم. فكانت المذابح العامة تدبر وتنفذ بوحشية بالغة ترتكب خلالها لضائع وجرائم يندى لها جبين الإنسانية فضلًا عن اتباع نبي كان من تعاليمه ما ذكرنا. ولعل من أبلغ الأمثلة الشاهدة على مبلغ ظلم القوم وحقدهم تلك المذابح التي ارتكبها الصليبيون ضد سكان بيت المقدس إبان استيلاءهم عليها، عندما تخاذل عن الدفاع عنها العبيديون؛ إذ اكتفى واليهم آنذاك -افتخار الدولة- بتأمين نجاته مع حرسه الخاص، وترك المدينة للصليبيين يعيثون فيها فسادًا، بعد أن دافع عنها دفاعًا هزيلًا، ذرًا للرماد في العيون. وسنعيش أحداث هذه المأساة مع قسيس صليبي هو "القس ريمند" وهو شاهد عيان يروي لنا ما فعله أبناء عمومته، وهو غير متهم بالمبالغة في تصوير المأساة إن لم يحاول إخفاء بعض المخازي. يقول بعد دخوله بيت المقدس: "وشاهدنا أشياء عجيبة؛ إذا قطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين، وقتل غيرهم رميًا بالسهام، أو أرغموا على أن يلقوا بأنفسهم من قول الأبراج، وظل بعضهم يعذبون عدة أيام، ثم أحرقوا في النقار، وكنت ترى في الشوارع أكوام الرؤوس والأيدي والأرجل، والأقدام، وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيل"1. ويقول المستشرق ستيفن رنسيمان في وصف ذلك: "على أنه لم ينج من المسلمين بحياتهم إلا هذه الفئة القليلة -وهم افتخار الدولة والي العبيدييين على القدس وحرسه الخاص- إذ أن الصليبيين، وقد زاد في جنونهم ما أحرزوه من نصر كبير بعد شقاء وعناء شديد، انطلقوا في شوارع المدينة، وإلى الدور والمساجد يقتلون كل من يصادفهم من الرجال   1 انظر: وول ديوارنت، قصة الحضارة 15/ 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 والنساء، والأطفال دون تمييز، استمرت المذبحة طوال مساء ذلك اليوم وطوال الليل، ولم يكن علم تانكرد1 عاصمًا للاجئين إلى المسجد الأقصى من القتل؛ ففي الصباح الباكر من اليوم الثاني اقتحم باب المسجد ثلثة من الصليبيين فأجهزت على جميع اللاجئين وحينما توجه ريموند آجيل في الضحى لزيارة ساحة المعبد أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بغلت ركبتيه. وفر يهود بيت المقدس جميعًا ِإلى معبدهم الكبير؛ غير أنه تقرر إلقاء القبض عليهم بحجة أنهم ساعدوا المسلمين فلم تأخذهم بهم الرحمة والرأفة، فأشعلوا النار في المعبد، ولقي اليهود بداخله مصرعهم محترقين. - يقول: وتركت مذبحة بيت المقدس أثرًا عميقًا في جميع العالم، ليس معروفًا بالضبط عدد ضحاياها2 غير أنها أدت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين واليهود"3. فانظر الفرق والبون الشاسع بين دخول الصليبين هذه المدينة المقدسة لدى المسلمين والمسيحيين واليهود، وبين دخول القائد المسلم صلاح الدين. وفي الأندلس عند أفول نجم الخلافة الإسلامية فيها، وتغلب النصارى عليها ألحقوا بالمسلمين ضروبًا من الظلم والأذى، يصور ذلك الدكتور توفيق الطويل في إيجاز فيقول: "وقد استنفدت الكنيسة جهدها في إقناع المسلمين المقيمين في أسباينا، لكن يرتدوا عن دينهم ويعتنقوا المسيحية دينًا، وعلى غير جدوى ما بذلت من جهود، فاستجمعت محكمة التفتيش كل قواها، واعتصمت بالجرأة والتعصب،   1 تانكر: أحد قواد الصليبيين، كان المسلمون لما رأوه استسلموا ورفعوا علمه على المسجد. 2 ذكر ابن الأثير أنهم يزيدون على سبعين ألفًا. الكامل 8/ 189. 3 انظر: تاريخ الحروب الصليبية 1/ 404- 405، ط. الأولى 1967 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وصبت عذابها على المسلمين في غير رفق ولا عدالة، حتى اعتنق النصرانية خار في ميدان الكفاح، وهاجر من حار بين التمسك بعقيدته، واحتمال آلام العذاب. وفي عام 1609 و 1610 م تم إجلاء ألوف المسلمين عن أسبانيا بعد أن أغرقوا بدمهم أرضها، وكتبوا بمقاومتهم أنصح الصفحات في تاريخ الجهاد في سبيل الله"1. ولعل من أقرب الشواهد إلى الذاكرة على ظلم النصارى ومبلغ اضطهادهم لمعتنقي الأديان الأخرى، ما اقترفه نصارى لبنان -الموارنة- ضد المسلمين الفلسطينيين في مخيمي "صبرا وشاتيلا" من مجازر ومذابح أودت بأرواح الآلاف من قاطني المخيمين مع ما صاحب ذلك من النهب والتدبير الشامل لمحتويات المخيمين وذلك عقب اجتياح الجيش اليهودي الصهيوني لمدينة بيروت وغيرها من المدن اللبنانية عام 1982 م - 1402 هـ. يقول أحد شهود العيان: "دفنت في يوم واحد عددًا إجماليًا مائة وثلاث عشرة جثة ... وعندما دخلت المخيم رأيت اللحم ملزقًا على الحيطان، وتستطيع أن تقول كل أساليب القتل قد استخدمت: الساطور، البارودة، الرصاص، العصى، كاتم الصوت. وكان بين الضحايا من كان عمره تسعين سنة. ومن بين الذين دفناهم أطفال أعمارهم بين 6- 7 سنوات ونساء من مختلف الأعمار، كانوا -أي: النصارى- يقتلون كل شيء يتحرك قدامهم"2، 3.   1 انظر: قصة الاضطهاد الديني في المسيحية والإسلام ص 71 - 72. 2 عبد الله محمد الغريب، وجاء دور المجوس 2/ 58، 59. 3 ولعل ما يحدث في وقتنا هذا -وقت إعداد هذه الرسالة للنشر- من المجازر والمذابح التي يرتكبها الصرب ضد مسلمي البوسنة والهرسك، على مرأى ومسمع من العالم خير شاهد وأكبر دليل على مبلغ ظلم النصارى واضطهادهم للمسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وبعد: فإن النصارى ما كانوا في عدائهم عدولًا، ولا رحماء بمخالفيهم، كما هو شأن الإسلامِ؛ فقد كانت أفعالهم بخصومهم تفرق كل وصف، ولولا ما نقله شهود العيان مما أنزلوه بغيرهم من الظلم والعدوان لما استطاع المرء أن يتصور أن تصدر هذه الأعمال الموغلة في الوحشية والشناعة، من قوم لا دين لهم؛ فضلًا عن قوم يدعون أنهم أتباع من قال لهم: "قد سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوك؛ أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلوا لأجل من ينتكم ويضطهدكم"1.   1 إنجيل متى، الإصحاح الخامس فقرة 43- 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الفصل الثاني: في خيرية هذه الأمة المبحث الأول: في إثبات خيريتها تقدم لنا في أول الباب1: أن الخيرية أحد المعاني المثبتة لهذه الأمة في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} 2؛ فسرها بذلك الحافظ ابن كثير وغيره. وقد نص الله تبارك وتعالى على خيريتها فيقول عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 3. وقال صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية: "إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" 4.   1 انظر: ص161. 2 سورة البقرة آية 143. 3 سورة آل عمران آية 110. 4 ت: تفسير سورة آل عمران 5/ 226، ح 3001، وقال: "هذا حديث حسن". جه: زهد، باب صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم 2/ 1431، ح 4288. وقال الألباني: حسن صحيح ابن ماجه 2/ 426. وقال الحاكم في المستدرك: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذبي 4/ 84، وقال الحافظ ابن حجر: "وهو حديث حسن صحيح"، وذكر من أخرجه. انظر: الفتح 8/ 225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: "أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء؛ فقلنا: يا رسول الله! ما هو؟ قال: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهورًا، وجعلت أمتي خير الأمم" 1. فهذه النصوص تدل على ثبوت عموم الخيرية لعموم هذه الأمة، وإن كان قد وردت بعض الآثار تدل على أن المراد: الصحابة أو بعضهم؛ ولكن كلها آثار موقوفة أو مقطوعة، ذكرها الإمام ابن جرير الطبري2، ثم رجع أن المراد عموم الأمة؛ فقال عقب ذكره قول الحسن: "نحن آخرها وأكرمها" "وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قال الحسن"3، ثم ذكر حديث بهز بن حكيم المتقدم4. كذا رجح ابن كثير حمل الآية على العموم فقال: "والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم"5. ورجح ذلك الحافظ ابن حجر أيضًا6: وما رجحه هؤلاء الأئمة هو الحق؛ فإن النصوص الصحيحة صريحة في العموم، وما جاء من الآثار في تخصيص ذلك ببعض الأمة كالصحابة أو بعضهم، لا يقوى على ذلك إذ ليس شيء منها مرفوعًا.   1 حم: 1/ 98، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وحسنه الحافظ ابن حجر 8/ 225، وقال ابن كثير: تفرد به أحمد من هذا الوجه، وإسناده حسن" 2/ 78، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. انظر: المسند بشرح أحمد شاكر 2/ 113، الثالثة، وعمدة التفسير 32/ 21. 2 انظر: التفسير 7/ 100- 104. 3 نفس المصدر والجزء ص 104. 4 وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تتمون سبعين أمة". 5 تفسير القرآن العظيم 2/ 77. 6 انظر: فتح الباري 8/ 225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وعلى فرض أنها نزلت في الصحابة أو بعضهم؛ فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر في علم أصول التفسير. على أن الصحابة رضوان الله عليهم أول الداخلين في هذا العموم؛ إذ هم خير هذه المة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني" 1 فهم، خيار الخيار، وهم الصفوة الأخيار. إشكال وجوابه: قد يشكل على البعض ما ورد من تفضيل الله عز وجل بني إسرائيل على العالمين، واختياره لهم، في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِين} 2، وقوله: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِين} 3؛ فكيف تكون هذه الأمة خير الأمم، مع كون بني إسرائيل أفضل العالمين؟ ويزول الإشكال إذا علمنا أن المراد: بـ "العالمين" من قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِين} ، هم عالم زمانهم، وليس جميع العالمين الذين خلقهم الله، أخرج ابن جرير رحمه الله عن قتادة4 في قوله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِين} ، قال: "فضلهم على عالم ذلك الزمان"5، كما أخرج أيضًا عن أبي العالية6: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِين} قال: "بما أعطوا من   1 تقديم تخريجه. انظر: ص97. 2 سورة البقرة آية 47، وآية 122. 3 سورة الدخان آية 32. 4 قتادة: هو ابن دعامة السدوسي. تقدمت له ترجمة، انظر: ص179. 5 جامع البيان عن تأويل اي القرآن 2/ 24. 6 أبو العالية هو: رفيع بن مهران، أبو العالية الرياحي، ثقة كثير الإرسال. مات سنة تسعين وقيل: ثلاث وتسعين، وقيل: بعد ذلك، ابن حجر: تقريب 1/ 252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان؛ فإن لكل زمان عالمًا"1 وكذا من مجاهد2: "قال: على من بين ظهرانيه"3. وإلى هذا المعنى ذهب ابن جرير4، وابن كثير5 في تفسير الآية. وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله -في الجواب عن هذا الإشكال: "قوله تعالى لبني إسرائيل: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} لا يعارض قوله تعالى في تفضيل هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية؛ لأنه المراد بالعالمين عالموا زمانهم بدليل الآيات والأحاديث المصرحة بأن هذه الأمة أفضل منهم، كحديث معاوية بن حيدة القشيري6 في "المسانيد" و"السنن"؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" 7. ألا ترى أن الله جعل المقصتد منهم هو أعلاهم منزلة؛ حيث قال: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} 8، وجعل في هذه الأمة درجة أعلى من درجة المقتصد وهي درجة السابق بالخيرات؛ حيث قال تعالى: {وَمِنْهُمْ   1 جامع البيان 2/ 24. 2 مجاهد هو: ابن جبر "بفتح الجيم وسكون الموحدة"، أبو الحجاج المخزومي مولاهم ثقة، إمام في التفسير وفي العلم. مات سنة 1، 2، 3، 104 هـ، وله ثلاثة وثمانون سنة. ابن حجر، التقريب 2/ 229. 3 جامع البيان 2/ 24. 4 جامع البيان 2/ 24. 5 تفسير القرآن المعظم 1/ 126. 6 وهو: معاوية بن حيدة بن معاوية بن كعب القشيري، صحابي، نزل البصرة، ومات بخراسان، وهو جد بهز بن حكيم. انظر: ابن حجر، القريب 2/ 259. 7 حم 4/ 447. وانظر: ص 205. 8 سورة المائدة آية 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} 1، 2. وهذه استدلال لطيف على تقدم هذه الأمة على بني إسرائيل في الفضل ألمح إليه الحافظ ابن كثير رحمه الله صلى الله عليه وسلم تعالى في تفسيره قوله تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُون} ؛ حيث قال: "فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد، وهو أوسط مقامات هذه الأمة، وفوق ذلك رتبة السابقين، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} " 3.   1 سورة فاطر آية 32. 2 انظر: دفع إبهام الاضطراب عن آيات الكتاب ص21. 3 تفسير القرآن العظيم 3/ 140- 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 المبحث الثاني: أوجه خيرية هذه الأمة الوجه الأول: إيمانها بالله عز وجل ... المبحث الثاني: أوجه خيرية هذه الأمة لم تنل هذه الأمة هذه المكانة السامقة بين الأمم، مصادقة ولا جزافًا ولا محاباة؛ فالله سبحانه وتعالى منزه عن أن يكون في ملكه شيء من ذلك؛ فكل شيء عنده بمقدار، وهو يخلق ما يشاء ويختار. وهو سبحانه عندما أخبر أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، بين وجه ذلك وعلته في نفس الآية؛ فقال: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ؛ فبهذه الأمور الثلاثة العظيمة القدر كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس؛ على أن هذه الأمور ليست هي كل ما كانت به هذه الأمة خير أمة؛ إذ هناك أمور وخلال كثيرة أهلت هذه الأمة لهذه الخيرية، ولكن هذه الثلاثة أهمها وأعظمها، إذ لا تدوم ولا تستمر هذه الخيرية ولا تحفظ إلا بإقامتها وأدائها، فإن فقدت هذه الأمور في جيل من أجيال هذه الأمة لم يكن حريًا بهذه الخيرية التي حظيت بها هذه الأمة. وسأعرض فيما يأتي لأهم أوجه هذه الخيرية، محاولًا الإيجاز وعدم الإطالة. فأقول وبالله التوفيق. الوجه الأول: إيمانها بالله عز وجل وهذا الوجه وإن كان يظهر للوهلة الأولى أنه لا اختصاص لهذه الأمة به، فغيرها من الأمم يشاركها فيه، فما من أمة من الأمم بعث إليها رسول من الرسل إلا ووجد فيها من آمن به وصدقه واتبعه؛ إلا أن إيمان هذه الأمة يتميز عن إيمان سائر الأمم بأنه إيمان عام شامل، يشمل جميع الرسل التي أرسلت، والكتب التي أنزلت على جميع الأمم التي خلت {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} 1. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور في بيان حد الإيمان الواجب على هذه الأمة: "أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" 2. فحصل لهذه الأمة المحمدية من الإيمان بجميع الرسل، وجميع الكتب ما لم يحصل لغيره باعتبار ما يأتي: 1- أن هذه الأمة هي آخر الأمم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" 3، وقال في حديث آخر: "نكمل اليوم سبعين أمة نحن آخرها، وخيرها" 4، وفي حديث آخر: "نكمل اليوم سبعين أمة نحن آخرها، وخيرها" 4، وفي حديث آخر: "نحن آخر الأمم وأول من يحاسب" 5؛ فآمنت بجميع الرسل والكتب التي قبلها، مع إيمانها برسولها الخاتم، وكتابها المهيمن على جميع الكتب، ولم يقع ذلك إلا ولها؛ فحق لها أن تكون خير الأمم؛ لأنها جمعت خيرما عندهم من الإيمان بالكتب والرسل. 2- أن كثيرًا من الأمم التي قبلها، لم تؤمن بمن كان قبلها من الرسل والكتب، وبل كذبوا وكفروا بهم. وسيأتي لذلك زيادة إيضاح عند الكلام على وسطية هذه الأمة في باب أنبياء الله عز وجل إن شاء الله تعالى. وهذا الوجه وإن جاء في الآية تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه لمعنى اختلف المفسرون في تحديده6، إلا أنه باتفاق الجميع هو الأساس الذي بني عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا لم يكن ثمت إيمان على أساسه يتصور المعروف فيؤمر به، والمنكر فينهى عنه؛ فليس هناك أمر بمعروف ولا نهي عن منكر بالمعنى الشرعي.   1 سورة البقرة آية 285. 2 م: الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام 1/ 36، ح 1. 3 خ: كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة 2/ 354، ح 876. 4 جه: زهد، باب صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ص 1433، ح 4287. وقال الألباني: "حسن" صحيح ابن ماجه 2/ 426. 5 جه: زهد، باب صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ص 1434، ح 4290. وقال البوصيري: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وقال الألباني: "صحيح" صحيح ابن ماجه 2/ 427. 6 مما قيل في تعليل ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الوجه الثاني: أنها أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وهذا من أعظم ما به كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس؛ فهو من أظهر خصائصها، وأبرز ما تتيمز به عن سائر الأمم، ولذلك قدمهما الله عز وجل في الذكر على الإيمان به تعالى، مع كونه -أي: الإيمان- متقدمًا عليهما في الوجود والرتبة؛ فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ، وقد أمر الله هذه الأمة بأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن يكون فيها من يقوم بذلك فقال عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1، كما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على أمته على حسب الاستطاعة وهي مراتب فقال: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" 2.   = 1- أنه أخر الإيمان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودًا ورتبة؛ لأن دلالتهما على خيريتهم أظهر من دلالته عليها. 2- وقيل: للتعريض بأهل الكتاب الذين كانوا يدعون الإيمان، ولا يقدرون على ادعاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنهم كانوا في مجموعهم لا يتناهون عن منكر فعلوه فهما من خصائص هذه الأمة المميزة لها. 3- ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سياج الإيمان، بهما يستمر نقاؤه وصفاؤه وتوهجه، بل واستمراره، وكلما ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ضعف الإيمان، ودخلت عليه البدع والمعاصي التي تحول دون تمامه وقوته. وراجع: تفسير أبي السعود 2/ 71، وتفسير المنار 4/ 64، بتصرف. 1 سورة آل عمران آية 104. 2 م: إيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان 1/ 69، ح 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فليغيره"؛ فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدين ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يعتد بخلافهم، ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلاد عذر ولا خوف"1. ولما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه المثابة، عدهما كثير من السلف شرطًا في استحقاق الخيرية المشار إليها في الآية، مع إيمان بالله عز وجل: كما روى ابن جرير رحمه الله بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ أنه في حجة حجها قرأ هذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية، ثم قال: "يا أيها الناس! من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله منها"2. وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأخرج عن مجاهد في قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، يقول: "على هذا الشرط: أن تأمروا باملعروف، وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله"3. ولقد كانت هذه الأمة أكثر الأمم قيامًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل لم يكن في أمة من الأمم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثل ما في هذه الأمة؛ إذ كانت أعظم الأمم التي قبلنا وهم بنو إسرائيل مفرطين فيهما غير قائمين بهما كما قص الله عز وجل علينا خبرهم في قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ   1 شرح النووي على صحيح مسلم 2/ 22- 23. "ط. الثالثة 1404 هـ. دار إحياء التراث العربي". 2 جامع البيان 7/ 102. 3 نفس المصدر والجزء والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 1. فلما قامت هذه الأمة بهذا الأمر مع تقصير غيرها من الأمم وتفريطها فيه، كانت جديرة بما أثبته الله ورسوله لها من الخيرية؛ إذ خير الناس آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن درة2 بنت أبي لهب قال: "قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله! أي الناس خير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خير الناس أقرؤهم، وأتقاهم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم "3.   1 سورة المائدة آية 78- 79. 2 وهي: درة بنت أبي لهب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمية، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، أسلمت وهاجرت. انظر: ابن حجر، الإصابة 4/ 297. 3 حم: 6/ 432. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الوجه الثالث: كونها خير الأمم للناس وأنفعها لهم وذلك أن هذه الأمة لما قامت بواجب الأمر بالمعورف والنهي عن المنكر، وكان من أعظم المعروف الذي تأمر به الإيمان بالله عز وجل وعبادته وحده، ومن أنكر المنكر الذي تنهى عنه وتحذر الناس منه: الإشراك بالله وعبادة غيره من دونه، كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "تأمرونهم بالمعروف؛ أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، و"لا إله إلا الله" هو أعظم المعروف، وتنهونهم عن المنكر، والمنكر هو التكذيب، وهو أنكر المنكر"1؛ إنما كانت في الواقع تدعو الناس إلى ما فيه نفعهم ونجاتهم، وتنهاهم عما فيه هلاكهم، بأذلة في سبيل ذلك النفس والنفيس، ليس لها هدف إلا القيام بما أوجبه الله عليها من هداية الخلق إلى طريق النجاة، وإخراجهم   1 ابن جرير الطبري، جامع البيان 7/ 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 من ظلمات الجهل والشك، والوثنية، إلى نور التوحيد والإيمان، وتحريرهم من عبودية العباد إلى عبودية الخالق جلا وعلا، كما قال ربعي بن عامر1 رضي الله عنه لرستم2 قائد الفرس لما سأله: ما جاء بكم؟ قال: "الله ابتعثنا، والله جاء بنا، لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام؛ فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه؛ فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه، حتى نقضي إلى موعود الله. قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي"3. لقد كان هذا الصحابي الجليل خير سفير لهذه الأمة إلى رستم وقومه، ترجم لهم مهمة هذه الأمة، وهدفها، وهو أنها لم تخرج لطلب مال، أو ملك، أو أرض، وغنما أخرجها الله، وابتعثها، كما قال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} بالبناء للمجهول للدلالة على أنها لم تخرج بنفسها لهوى أو مصلحة ذاتية؛ وإنما أخرجت للناس، الله هو الذي أخرجها؛ لتدعوا بنفسها لهوى أو مصلحة ذاتية؛ وإنما أخرجت للناس، الله هو الذي أخرجها؛ لتدعو الخلق إلى عبادة الخالق دون المخلوق، ليس لها هدف سوى ذلك. فإن هو تحقق كان ذلك غاية ما تطمح إليه وتسعد به "فمن قبل منا ذلك، قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا". من أجل ذلك كانت هذه الأمة خير الأمم للناس؛ لأنها تدعوهم إلى   1 هو: ربعي بن عامر بن خالد، أمد به عمر المثنى بن حارثة، وكان من ِأشراف العرب، وكان على مجنبه جيش أبي عبيدة إلى العراق، وله ذكر في غزوة نهاوند، وولاه الأحنف بن قيس لما فتح خراسان على طخارستان. قال ابن حجر: "وقد تقدم غيره مرة أنهم كانوا لا يؤمرون إلا الصحابة". الإصابة 1/ 503. 2 وهو: رستم بن الفرخزاذ الأرمني، قائد الفرس في القادسية. انظر: ابن كثير، البداية والنهاية 7/ 38. 3 ابن جرير، تاريخ الأمم والمملوك 3/ 520. وانظر: ابن كثير، البداية والنهاية 7/ 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الخير، ولا ترجو منهم ثمنًا له؛ بل تجاهد من يحول بينها وبين تبليغ عباد الله دين الله، حتى يخلي بينهم وبينه، ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إذا تبين للناس الرشد من الغي كما قال عز وجل: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 1. {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} 2. لكن هذه الأمة بما أوتيت من حب الخير للغير، تكره للناس أن ينتهوا إلى هذا المصير الرهيب، وتجهد نفسها -في غير ولا أذى- في سبيل أن تحول بينهم وبينه. إن أمة تحمل للبشرية كل هذا الخير، غير مبالية بما تلقى من عنت، وسغب، ونصب، بما في ذلك القتل والقتال، وفراق المال والعيال. لهي بحق خليفة بأن تكون {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ؛ لأنها تسعى لنفعهم وهدايتهم وإنقاذهم من العذاب والعقاب الذي ينتظرهم. يقول الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه في هذا المعنى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ؛ لأنها تسعى لنفعهم وهدايتهم وإنقاذهم من العذاب والعقاب الذي ينتظرهم. يقول الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه في هذا المعنى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: "خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلون في الإسلام"3. وكذا قال غير واحد من السلف كابن عباس4، ومجاهد، وعكرمة، والربيع بن أنس وغيرهم5.   1 سورة البقرة آية 256. 2 سورة الكهف آية 29. 3 خ: تفسير، باب {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 8/ 22، ح 4557 موقوفًا. 4 انظر: السيوطي، الدر المنثور 4/ 294. 5 انظر: ابن كثيرِ، تفسير القرآن العظيم 2/ 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الوجه الرابع: كونهم أكثر الناس استجابة للأنبياء ... الوجه الرابع: كونهم أكثر استجابة للأنبياء أشار إلى هذا الوجه الإمام ابن جرير رحمه الله بقوله: "وقال آخرون إنما قيل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ؛ لأنهم أكثر الأمم استجابة للإسلام، ثم روى عن الربيع1 أنه قال في الآية: لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة؛ فمن ثم قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2. يدل لذلك ما جاء في الصحيح من كونه صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تبعًا. كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبيًا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد" 3 وعنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة" 4. يوضح النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ هذه الكثرة فيقول في الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما: "عرضت على الأمم؛ فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط5، والنبي ليس معه أحد، حتى رفع لي سواد عظيم، قلت: ما هذا؟ أمتي هذه؟ قيل: بل هذا موسى وقومه. قيل: انظر إلى الأفق؛ فإذا سواد يملأ الأفق. ثم قيل لي: انظر هاهنا، وهاهنا -في آفاق السماء- فإذا سواد قد ملأ الأفق، وقيل: هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفًا بغير   1 هو: الربيع بن أنس البكري البصري ثم الخراساني. روى عن أنس بن مالك وأبي العالية. قال العجلي: صدوق، وقال أبو حاتم: صدوق، وهو أحب إلي في أبي العالية، وقال النسائي: ليس به بأس. توفي سنة 139، وقيل: 140 هـ. ابن حجر، تهذيب التهذيب 3/ 238. 2 انظر: جامع البيان 7/ 103. 3 م: الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة 1/ 188، ح 332. 4 نفس المصدر والجزء والصفحة ح 331. 5 الرهط: عدد يجمع من ثلاثة إلى عشرة، وقال بعضهم: من سبعة إلى عشرة. وقيل: الرهط ما دون العشرة من الرجال. انظر: ابن منظور، لسان العرب 7/ 305، مادة "رهط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 حساب" 1. وهذه النصوص الصحيحة صريحة في بيان أن المؤمنين المتبعين للنبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة، أكثر من المتبعين لأي نبي من الأنبياء من الأمم السابقة؛ فهذه الأمة أقرب الأمم إلى الحق واعتناقه، وهذه علامة الخير والرشد، وبذلك كانت {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ؛ لكون المؤمنين والمهتدين منها أكثر منهم في الأمم قبلها.   1 خ: كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو 10/ 155، ح 5705. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الوجه الخامس: كونها لا تجتمع على ضلالة وذلك أنها أمة ورثت الرسل في القيام بهداية البشرية ودعوتها إلى ما دعا إليه سائر الرسل من الإيمان بالله وعبادته وحده؛ فهي ذات رسالة تبلغها، وتستمر في إبلاغها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولذلك ما كان لهذه الأمة أن تضل عن مهمتها ورسالتها مهما طال عليها الأمد، وامتد بها الأجل؛ لأنها إن ضلت هي فلن يهتدي أحد، لانقطاع الوحي والرسالة. وقد يضل بعض أفراداها وطوائفها عن الحق؛ بل قد يكفر ويلحد وينافق طوائف منها ولكنها لا تجمع ولا تجتمع على ذلك أبدًا. بذلك أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ فقال فيما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: "إن الله قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة" 1، بخلاف من قبلها من الأمم؛ فإنه كان الحق يغلب فيهم حتى لا تقوم به طائفة منهم، فهؤلاء أهل الكتاب، اليهود منهم   1 ابن أبي عاصم: السنة 1/ 41، وحسنه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بمجموع طرقه. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/ 319- 320، ح 1331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 والنصارى، اندثر الحق والدين الصحيح بينهم وانقرضت الفرقة التي كانت على الحق أو انحرفت، وأصبحت فرقهم كلها على ضلال وكفر وشك وشرك؛ فهاهم اليوم بسائر فرقهم وطوائفهم قد أجمعوا على الضلالة والكفر وأعرضوا عما جاء به الإسلام من الحق؛ فليس منهم رجل رشيد. أما هذه الأمة؛ فإنها والحمد لله لا تجتمع على ضلالة أبدًا؛ بل لا بد أن يبقى منها طائفة على الدين الصحيح ظاهرة قائمة به، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" 1، وفي رواية أخرى: "لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة" 2. فأمة تثبت على الخير والإيمان ولا يضمحل فيها نور النبوة والإسلام، بل يبقى مشتعلًا مضيئًا في يدها تحمله جيلًا بعد جيل إلى أن تلقى الله به آخر طائفة منها، لا شك أنها خير الأمم التي عرفتها البشرية، بما لم توغل، كما أوغل الكثير من الأمم قبلها في الكفر والضلالة، وبما بقي بها من الخير والهدى ما لم يبق في غيرها من الأمم.   1، 2 تقدم تخريجهما انظر: ص 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الوجه السادس: كون الكتاب الذي أنزل عليها خير الكتب السماوية ... الوجه السادس: كون الكتاب الذي أنزل عليها خير الكتاب السماوية وذلك من وجوه: 1- أنه الكتاب الذي وصفه الله بأنه أحسن الحديث الذي أنزله؛ فقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 1.   1سورة الزمر آية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 قال الحافظ ابن كثير: "هذا مدح من الله -عز وجل- لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسول الكريم"1، وهو نص في أن القرآن الكريم أحسن وأفضل من غيره من الكتب السماوية التي أنزلها الله عز وجل قبله. 2- أنه الكتاب السماوي الوحيد الذي تكفل الله بحفظه وصيانته من الزيادة والنقصان ومن التحريف والتبديل؛ فقال جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2 فالمراد بالذكر: القرآن، والضمير في قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} راجع إليه على الصحيح. قال فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية، أن الضمير في قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} راجع إلى الذكر الذي هو القرآن، وقيل: الضمير راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 3 والأول هو الحق كما يتبادر من ظاهر السياق"4. وأخبر جلا وعلا: أن الباطل لا يتطرق إليه بحال؛ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 5؛ فكتاب هذه الأمة محفوظ بحفظ الله له، وقد مضى على نزوله الآن أربعة عشر قرنًا من الزمان، ولا يزال كما أنزله الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، لم يستطع أحد أن يزيد فيه حرفًا، أو ينقص منه حرفًا، أو يبدل فيه حرفًا مكان آخر؛ فهو محفوظ في السطور والصدور، يحفظه عشرات الآلاف من المسلمين، ولو أراد مريد أن يزيد فيه حرفًا أو ينقصه منه لرد عليه صغار أبناء المسلمين قبل كبارهم وذلك من حفظ الله له.   1 تفسير القرآن العظيم 7/ 84. 2 سورة الحجر آية 9. 3 سورة المائدة آية 67. 4 انظر: أضواء البيان 3/ 107. 5 سورة فصلت آية 41- 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وهذه حقيقة ملموسة يعترف بها أعداء الإسلام فضلًا عن أبنائه. يقول وليم ميمور في كتابه "حياة محمد": وهو معروف بتحامله على الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم: "لم يمض على وفاة محمد -صلى الله عليه وسلم- ربع قرن حتى نشأت منازعات عنيفة، وقامت طوائف، وقد ذهب عثمان -رضي الله عنه- ضحية هذه الفتن ولا تزال هذه الخلافات قائمة؛ ولكن القرآن ظل كتاب هذه الطوائف الوحيد، إن اعتماد هذه الطوائف جميعًا على هذا الكتاب تلاوة، برهان ساطع على أن الكتاب الذي بين أيدينا اليوم هو الصحيفة التي أمر الخليفة المظلوم بجمعها وكتابتها؛ فلعله هو الكتاب الوحيد في الدنيا الذي بقي نصًا محفوظًا من التحريف طيلة ألف ومائتي سنة"1. ويقول وهيري في تفسيره للقرآن: "إن القرآن أبعد الصحف القديمة بالإطلاق عن الخلط والإلحاق، وأكثر صحة وأصالة"2. ويقول المستشرق لين بول "1832- 1895"3: "إن أكبر ما يمتاز به القرآن أنه لم يتطرق شك إلى أصالته، إن كل حرف نقرؤه اليوم نستطيع أن نثق بأنه لم يقبل أي تغيير منذ ثلاثة عشر قرنًا"4. وذلك بخلاف الكتاب السماوية السابقة، التي طرأ عليها الكثير من التحريف والتبديل، والزيادة والنقصان، بل والضياع أيضًا، وكان من ذلك ما   1 حياة محمد ص22- 23، ط. 1912. اقتبسه الشيخ أبو الحسن علي الحسن الندوي في كتابه النبوة والأنبياء في ضوء القرآن ص212، ط. دار القلم السادسة. 2 ج1/ 349، اقتبسه الشيخ أبو الحسن الندوي. المصدر السابق، نفس الصفحة. 3 عالم في الآثار المصرية، له عدة مؤلفات، انظر: المستشرقون، لنجيب العقيقي 2/ 164. 4 عن كتاب "النبوة والأنبياء، لأبي الحسن الندوي ص 213". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 أشار إليه الحق تبارك وتعالى في غير ما آية من كتابه العزيز كقوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1، وقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} 2. وقوله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون} 3. وذلك لأن الله عز وجل لم يتكفل بحفظها؛ وإنما وكل ذلك إلى أهلها فضيعوا وحرفوا وبدلوا. قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} 4. قال الشيخ محمد الأمين -رحمه الله عليه: "فإن قيل: ما الفرق بين التوراة والقرآن؛ فإن كلا منهما كلام الله أنزله على رسول من رسله صلوات الله عليهم، والتوراة حرفت، وبدلت. والقرآن محفوظ من التحريف والتدبيل، ولو حرف منه أحد حرفًا واحدًا فأبدله بغيره أو زاد فيه حرفًا أو نقص منه آخر لرد عليه آلاف الأطفال من صغار المسلمين فضلًا عن كبارهم؟ قال: فالجواب: أن الله استحفظهم التوراة، واستودعهم إياها؛ فخانوا الأمانة ولم يحفظوها، بل ضيعوها عمدًا، والقرآن العظيم لم يكل الله حفظه إلى   1 سورة البقرة آية 75. 2 سورة البقرة آية 79. 3 سورة آل عمران 78. 4 سورة المائدة آية 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 أحد حتى يمكنه تضييعه؛ بل تولى حفظه جل وعلا بنفسه الكريمة المقدسة، كما أوضحه بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، وقوله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} الآية إلى غير ذلك من الآيات"1. 3- أنه الكتاب المهيمن على الكتب قبله: لما كان القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية المنزلة، وهو الكتاب الذي يحمل الصورة الأخيرة لدين الله، وهو المرجع الأخير في هذا الشأن المرجع الأخير في عقائد الناس، وشرائعهم ونظام حياتهم2؛ فقد جعله الله الكتاب المهيمن على الكتب المنزلة قبله، فقال جل وعلا: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} 3؛ أي: هو الشهيد والأمين والمؤتمن والرقيب والحاكم على كل كتاب قبله كما أثر ذلك عن ابن عباس وغيره4. يقول العلامة ابن كثير رحمه الله: "وهذه الأقوال كلها متقاربة في المعنى؛ فإن اسم "المهيمن" يتضمن هذا كله، فهو أمين، وشاهد، وحاكم على كل كتاب قبله، وجعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها، أشملها وأعظمها وأحكمها؛ حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره؛ فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا عليها كلها، وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 5، 6. 4- أنه الكتاب الوحيد الذي تحدى الله البشر أن يأتوا بسورة من مثله:   1 أضواء البيان 2/ 89- 90. 2 انظر: سيد قطب في ظلال القرآن 2/ 747. 3 سورة المائدة: آية 48. 4 راجع: ابن جرير، جامع البيان 10/ 377- 378. 5 سورة الحجر: آية 9. 6 انظر: تفسير القرآن العظيم 3/ 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 القرآن الكريم معجزة الله الخالدة، التي آتاها نبيه صلى الله عليه وسلم، للدلالة على صدقه ونبوته، فتحدى به الجن والإنس، أن يأتوا بمثله فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 1، وقال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 2، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله؛ فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3؛ فلما لم يستطيعوا تحداهم أن يأتوا بسورة، فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} 4. وهذا التحدي هو من خصائص هذا الكتاب العزيز، ولم يقع لكتاب قبله؛ لأن الله عز وجل لم يجعلها معجزة لأنبيائه؛ وإنما اختص كل نبي منهم بمعجزة رئيسه من جنس ما برع فيه قومه؛ فكانت معجزة موسى عليه السلام "العصى" و"اليد" لبروع قومه في السحر، وجعل معجزة عيسى عليه السلام إحياء الموتى، وإبراء الأكمة والأبرص لبروز قومه في الطب، ثم جعل معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب الكريم المعجز بنظمه ومعناه فتحدى به العرب مع فصحاتهم وبلاغتهم التي عرفوا بها. يقول صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر؛ وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله، فأرجو أن أكون أكثر تابعًا يوم القيامة" 5، قال الإمام ابن كثير في معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إنما كان الذي أوتيته وحيًا" أوحاه الله؛ فأرجو أن أكون أكثر تابعًا يوم القايمة" 5. قال الإمام ابن كثير في معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إنما كان الذي أوتيته وحيًا": "أي: الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن   1 سورة الإسراء آية 88. 2 سورة الطور آية 34. 3 سورة هود آية 13. 4 سورة يونس آية 38. 5 خ: فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي 9/ 3، ح 4981. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية؛ فإنها ليست معجزة والله أعلم"1. وبعد: فهذا غيض من فيض من فضائل هذا الكتاب العظيم، الذي أنزل على هذه الأمة؛ فهو الكتاب الوحيد الذي وصفه الله بأنه أحسن الحديث، والكتاب الوحيد الذي تكفل الله بحفظه وصيانته من بين سائر كتبه، وهو الكتاب الذي جعله الله مهيمنًا وشاهدًا على ما قبله من الكتب، حاويًا لأفضل وأحسن ما جاء فيها، وزايدًا عليها بفضائل كثيرة وهو الكتاب الوحيد الذي تحدي الله الجن والإنس أن يأتوا بمثله أو بمثل سورة من سوره. وإن اختيار الله عز وجل لكتاب بهذه العظمة وهذا الفضل ليكون الكتاب الذي ينزل على هذه الأمة ليدل على فضل هذه الأمة وخيريتها. يقول الإمام ابن كثير -يعد إيراده حديث بهز بن حكيم: "أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله"2-: "وإنما فازوا بهذه ببركة الكتاب العظيم القرآن الذي شرفه الله على كل كتاب أنزله وجعله مهيمنًا عليه وناسخًا له وخاتمًا له"3. وقال الحافظ ابن حجر مبينًا مناسبة إيراد الإمام البخاري لحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم، كما بين صلاة العصر ومغرب الشمس ومثلكم ومثل اليهود والنصارى، كمثل رجل استعمل عمالًا؛ فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود، فقال: من يعمل لي من نصف النهار إلى العصر؟ فعملت النصارى، ثم أنتم تعملون من العصر إلى المغرب بقيراطين قيراطين، قالوا: نحن أكثر عملًا وأقل عطاء،   1 تفسير القرآن العظيم 1/ 89. 2 تقديم تخريجه. انظر: ص 205 هامش 4، وص 208 هامش 7. 3 انظر: ابن كثير، فضائل القرآن ص61 "ط. مكتب مشرق لطباعة الأوفست- طنطا، نشر: مكتبة الصحابة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قال: هل ظلمتكم من حقكم؟ قالوا: لا، قال: فذاك فضلي أوتيه من شئت"1 في باب "فضل القرآن على سائر الكلام" قال: "ومناسبة الحديث -أي: للباب- من جهة ثبوت فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم وثبوت الفضل لها بما ثبت من فضل كتابها الذي أمرت بالعمل به"2.   1 خ: كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآ، على سائر الكلام 9/ 66، ح 5021. 2 فتح الباري 9/ 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الوجه السابع: كون نبيها أفضل الأنبياء والرسل عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام لقد بين الله عز وجل في كتابه الكريم أنه فضل بعض الرسل والأنبياء على بعض؛ فقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} 1، وقال في آية أخرى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} 2. قال الإمام ابن كثير: "ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء وأن أولي العزم منهم أفضلهم، وهم الخمسة المذكورون نصًا في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} 3، وفي الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 4، ولا خلاف أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضلهم ثم بعده إبراهيم ثم موسى على المشهور"5.   1 سورة البقرة: آية 253. 2 سورة الإسراء: آية 55. 3 سورة الأحزاب: آية 7. 4 سورة الشورى: آية 13. 5 تفسير القرآن العظيم 5/ 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فنبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق قاطبة، وهو سيد البشر، كما أخبر عن ذلك صلى الله عليه وسلم في قوله: "أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟ " 1، ثم بين صلى الله عليه وسلم أنه يشفع للخلق يوم القيامة حين لا يشفع هذه الشفاعة العظمى غيره من الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع" 2. وهو صلى الله عليه وسلم حين يقول ذلك ويخبر به لا يقوله من باب التفاخر والتعالي؛ فقد صرح بنفي الفخر في رواية أخرى فقال: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" 3؛ وإنما قاله لوجهين: أحدهما: امتثال قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} 4. والثاني: أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته ليعرفوه ويعتقدوه ويعملوا بمقتضاه ويوقروه صلى الله عليه وسلم بما تقتضي مرتبته، كما أمرهم الله تعالى5. ولأنه لا يمكننا معرفة ذلك إلا بخبره صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله6.   1 م: كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة ص184، ح 327، وص186، ح 328. 2 م: كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق ص1782، ح 2278. 3 جه: كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة 2/ 1440، ح 4308. وصححه الألباني، انظر: صحيح ابن ماجه 2/ 430، "شرح الطحاوية ص 170. 4 سورة الضحى: آية 11. 5 النووي، شرح صحيح مسلم 15/ 37. 6 انظر: ابن أبي العز، شرح الطحاوية 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ولا يشكل على تفضيله صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء والمرسلين، ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: "لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش؛ فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله" 1، وقوله صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى: "لا تفضلوا بين الأنبياء" 2، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى" 3. فإن المراد بالنهي: التفضيل المؤدي إلى تنقص المفضول من الأنبياء وهذا غير لازم لتفضيل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أفاضل وهو أفضلهم من غير نقص أو تنقص لمكانتهم صلوات الله وسلامه عليهم. وقال بعض أهل العلم: "المراد بالنهي: التفضيل المؤدي إلى الخصومة والتنازع، وقال بعضهم: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن تفضيله على موسى أو غيره من الأنبياء تواضعًا وتأدبًا؛ وإلا فهو أفضلهم"4. عموم رسالته: وإن من أعظم ما به فضل نبي هذه الأمة صلوات الله وسلامه عليه، ما خصه الله به، من عموم البعثة، وشمول الرسالة لجميع الأمم، وليس ذلك لأحد قبله من إخوانه الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.   1 خ: الأنبياء، باب وفاة موسى 6/ 441، ح 3408. 2 هو رواية أخرى لحديث أبي هريرة قبله. انظر: الفتح 6/ 444، وتخريج الألباني لشرح الطحاوية ص171. 3 خ: أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، 6/ 450، ح 3413. 4 انظر: تفصيل ذلك في المراجع التالية: فتح الباري 6/ 446، وشرح النووي على مسلم 15/ 38، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/ 449، وشرح العقيد الطحاوية ص171 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وفي بيان عموم رسالته يقول المولى تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 1. قال الإمام ابن جرير في تفسيرها: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم "قُلْ" يا محمد للناس كلهم {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} لا إلى بعضكم دون بعضِ، كما كان من قبلي من الرسل مرسلًا إلى بعض الناس دون بعض؛ فمن كان منهم أرسل كذلك، فإن رسالتي ليست إلى بعضكم دون بعض، ولكنها إلى جميعكم"2. وقال الإمام ابن كثير: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وهذا خطاب للأحمر والأسود، والعربي والعجمي، {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ؛ أي: جميعكم، وهذا من شرفه وعظمته أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس كافة، ثم ذكر بعض الآيات الدالية على ذلك وقال: والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر. وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الناس كلهم"3. ومن الآيات الدالة على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} 4، وقوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} 5. ومن الأحاديث الواردة في ذلك ما جاء في الصحيين من حديث جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بارعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي،   1 سورة الأعراف: آية 158. 2 جامع البيان عن تأويل آي القرآن 13/ 170. 3 تفسير القرآن العظيم 3/ 488. 4 سورة سبأ آية 28. 5 سورة الأنبياء آية 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" 1. وكل الأنبياء والرسل قبله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، كانوا يبعثون إلى أقوامهم خاصة دون غيرهم. كما أخبر الله عز وجل؛ فقال عن نوح: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} 2. وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} 3. وقال عن هود عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} 4، وقال عن صالح عليه السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} 5، وقال عن لوط عليه السلام: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} 6 وقال عن شعيب عليه السلام: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} 7، وقال عن موسى عليه السلام: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِه} 8، وقال عن عيسى عليه السلام: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} 9. وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} لجميع الناس؛ بل والجن أيضًا، قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم مرسل إليهم أيضًا، وقد بلغهم صلى الله عليه وسلم كما ِأخبر المولى بذلك في قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ   1 خ: التيمم، 1/ 435- 436، ح 335، م.:المساجد، 2/ 63. 2 سورة نوح: آية 1. 3 سورة الأعراف: آية 59. 4 سورة الأعراف: آية 65. 5 سورة الأعراف: آية 73. 6 سورة الأعراف: آية 80. 7 سورة الأعراف: آية 85. 8 سورة هود: آية 96- 97. 9 سورة آل عمران: آية 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم} 1. قال الإمام البيهقي: "فبان بقوله: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} أنهم عرفوا أنه مبعوث إليهم، وسمعوا دعوته إياهم والذين لم يحضروه من جملتهم؛ فلذلك قالوا: يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به، فقالوا: آمنا به"2، كما دل على ذلك قوله عز وجل: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} 3. وقال الإمام ابن كثير في تفسيره لآية "الأحقاف": "فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدًا صلوات الله وسلامه عليه إلى الثقلين الإنس والجن؛ حيث دعاهم إلى الله وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم، وهي سورة الرحمن، ولهذا قال: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّه} 4. ختم النبوة به: ومما يدل على مبلغ فضله صلى الله عليه وسلم وعلو مقامه، أن الله ختم به النبوات، وبرسالته الرسالات، فلا تحتاج البشرية بعده إلى نبي، ولا بعد رسالته ودينه الكامل الشامل إلى رسالة أو دين. يقول عز وجل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 5. وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 سورة الأحقاف آية 29- 31. 2 الجامع لشعب الإيمان، "ط. الأولى 1408 هـ 1988 م. نشر: الدار السلفية، بومباي - الهند"، 4/ 104. 3 سورة الجن: آية 1- 2. 4 تفسير القرآن العظيم 7/ 286. 5 الأحزاب: آية 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 قال: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا؛ فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين" 1. وبعد: فإن هذه الأمة إنما حازت قصب السبق إلى الخيرات بينهما محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله، بعثه الله بشرع كامل عظيم، لم يعطه نبيًا قبله ولا رسولًا من الرسل؛ فالعمل على منهاجه وسبيله، يقول القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه2. ولأمة يختار الله لها أفضل رسله، وأعلاهم مكانة ومنزلة عنده وأحبهم إليه فيبعثه فيها هاديًا ونبيًا ورسولًا. لهي أمة حرية بأن تكون خير أمة؛ لأنها أمة خير الخلق والرسل منه تعلمت وعلى يديه تربت وبه بذت الأمم.   1 خ: كتاب المناقب، باب خاتم النبيين 6/ 558، ح 3535. 2 انظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 2/ 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الوجه الثامن: تقديمها على الأمم في الحشر والحساب يوم القيامة ودخول الجنة مع كونها آخر الأمم إن مما يدل على فضل هذه الأمة، وكونها خير الأمم ما خصها اللهبه من التكريم والتشريف وتقديمها على سائر الأمم يوم القيامة في الحشر والحساب، كما قال صلى الله عليه وسلم: "نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون والأولون" 1. وفي "الصحيح" أنه صلى الله عليه وسلم قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة؛ بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله؛ فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا، والنصارى بعد غد" 2.   1 تقدم تخريجه، انظر ص211. 2 خ: كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة 2/ 354، ح 876. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 يقول الحافظ ابن حجر في "شرحه": "أي: نحن الآخرون زمانًا السابقون منزلة، قال: والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية؛ فهي سابقة لهم في الآخرة بأنهم أول من يحشر وأول من يحاسب وأول من يقضي بينهم، وأول من يدخل الجنة. وقيل: المراد بالسبق: إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل وهو يوم الجمعة، ويوم الجمعة وإن كان مسبوقًا بسبت قبله أو أحد لكن لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقًا"1. وظاهر الحديث يشمل الأمرين؛ فقد نص على سبقها يوم القيامة، كما هو نص في سبقها في الاهتداء لأفضل الأيام الذي هو يوم الجمعة مع تأخرها عن اليهود والنصارى في الزمان والله تعالى أعلم. وهي كذلك أول الأم دخولًا الجنة، مع كونها آخر الأمم زمانًا، وذلك من تكريم الله لها، وتفضيله إياها، يقول صلى الله عليه وسلم في ذلك: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة" 2:   1 فتح الباري 2/ 354. 2 م: كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ص585، ح 20 "855". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الوجه التاسع: كونها أكثر أهل الجنة لا كانت هذه الأمة أكثر الأمم استجابة للرسل صلوات الله وسلامه عليهم، حتى كان صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعًا، امتازت بأنها أكثر من يدخل الجنة من الأمم. وفي ذلك دلالة جلية على فضلها وخيريتها. يقول صلى الله عليه وسلم: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم. قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ قلنا: نعم. قال: والذي نفس محمدبيده؛ إني لأرجو أن تكونوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 شطر أهل الجنة الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر" 1.   1 خ: كتاب الرقاق، باب كيف الحشر 11/ 378، ح 6528. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الفصل الثالث: اعتدال هذه الأمة وتوسطها بين طرفي الإفراط والتفريط والغلو والتقصير تمهيد ... تمهيد: تقدم في أول هذا الباب أن الاعتدال والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط هو أحد معاني الوسطية المثبتة لهذه الأمة في قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} 1. وهو المعنى الذي مقال إليه الإمام ابن جرير رحمه الله في تفسير الآية كما تقدم على أن اختياره له، لا ينافي المعاني الأخرى الثابتة في معنى الوسطية، والتي تقدم الكلام عليها في الفصلين السابقين من هذا الباب. وإن المتأمل في دين هذه الأمة واعتقادها، وعبادتها ومعاملاتها، ومواقفها بعامة؛ ليدرك أن الاعتدال والتوازن والتوسط أحد الخصائص الهامة التي تميزت بها هذه الأمة. فهي وسط بين الأمم، آخذه بزمام الاعتدال والتوازن، بعيدة عن طرفي الإفراط والغلو، والتفريط والتقصير والجفاء إذ كلاهما مذموم غير محمود، وغاية البعد عنهما هو التوسط بينهما؛ إذ هو نقطة التوازن والاعتدال. ولعل من أهم مظاهر اعتدالها وتوسطها؛ كونها وسطًا بين الأمم الجوانب التالية: 1- في توحيد الله وصفاته: فهي وسط في ذلك بين اليهود والنصارى.   1 سورة البقرة آية 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 فاليهود وصفوا الرب بصفات النقص التي يختص بها المخلوق، وشبهوا الخالق بالمخلوق؛ فقالوا: إنه بخيل، وإنه فقير، وإنه لما خلق السماوات والأرض تعب فاستراح يوم السبت. إلى غير ذلك من قبيح قولهم. والنصارى: وصفوا المخلوق بصفات الخالق التي يختص بها؛ فشبهوا المخلوق بالخالق؛ حيث قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة، وقالوا: المسيح ابن الله، وقالوا: إنه يخلق ويرزق ويغفر ويرحم ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب. والمسلمون: وحدوا الله عز وجل، ووصفوه بصفات الكمال، ونزهوه عن جميع صفات النقص، وأن يشابهه أو يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات، وقالوا: ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته1. 2- في أنبياء الله ورسله: فهذه الأمة في هذا الباب أيضًا وسط بين اليهود والنصارى. فاليهود: قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس، ورموهم بارتكاب الكبائر، وكذبوهم، وجفوهم، واستكبروا عن اتباعهم. والنصارى: غلوا فيهم فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، والمسيح ابن مريم. وأما المسلمون: فأنزلوهم منازلهم وعزروهم ووقروهم، وصدقوهم ولم يكذبوهم وأحبوهم وأطاعوهم وآمنوا بهم جميعًا عبيدًا لله رسلًا مبشرين ومنذرين، ولم يعبدوهم أو يتخذوهم أربابًا من دون الله.   1 راجع: شيخ الإسلام ابن تيمية، منهاج السنة 5/ 168- 169، والوصية الكبرى ص 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 3- في الشرائع: فاليهود: منعوا الخالق أن يبعث رسولًا بغير شريعة الرسول الأول، وقالوا: لا يجوز أن ينسخ ما شرعه، أو يمحو ما يشاء ويثبت. والنصارى: جوزوا لأحبارهم وأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله فيأمروا بما شاءوا، وينهوا عما شاءوا، كما ذكرالله ذلك عنهم؛ بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1، جاء في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد هذه الآية: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم؛ ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه" 2. والمسلمون: قالوا: لله الخلق والأمر، يمحوا ما يشاء ويثبت، وقالوا: إن الله يحكم ما يريد، وأما المخلوق؛ فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى، مهما بلغت منزلته وعظم قدره. 4- في أمر الحلال والحرام: هي في ذلك أيضًا متوسطة معتدلة, وهي وسط بين اليهود والنصارى. فاليهود: حرم عليهم كثير من الطيبات؛ مما حرمه إسرائيل على نفسه {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} 3، ومما حرمه الله عليهم جزاء بغيهم وظلمهم، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَأَخْذِهِمُ   1 سورة التوبة: آية 31. 2 ت: كتاب التفسير، باب ومن سورة التوبة 5/ 278، ح 3095، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث. وقال الألباني: "حسن" صحيح الترمذي 3/ 56، ح 2471. 3 سورة آل عمران: آية 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} 1. والنصارى: أسرفوا في الإباحة، وأحلوا ما نصت التوراة على تحريمه، ولم يأت المسيح بإباحته؛ فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، كالميتة والدم ولحم الخنزير، حتى إنهم يتعبدون بالنجاسات كالبول والغائط ولا يغتسلون من جنابة، ولا يتطهرون لصلاة، وكلما كان الراهب عندهم أبعد عن الطهارة وأكثر ملابسة للنجاسات كان مغظمًا عندهم2. والمسلمون: أحلوا ما أحله الله ورسوله لهم من الطيبات، وحرموا ما حرم عليهم من الخبائث، واتبعوا في ذلك {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 3. 5- في العبادة: وهم وسط في ذلك بين: اليهود: الذين أعرضوا عن العبادات، واستكبروا عن عبادة الله، وتشاغلوا بالشهوات، وعبدوا أنفسهم للمادة، واشتغلوا بديناهم عن دينهم وآخرتهم؛ حتى إنك تكاد لا تجد فيما بين أيديهم من كتابهم ذكرًا للجزاء الأخروي على الأعمال والعبادات؛ وإنما يجعلون جزاء ذلك في الدنيا، من زيادة في المال والرزق ومعافاة في الجسد والبدن، وإن وجد ذكر لذلك وهو قليل، فعمل القوم على خلافه.   1 سورة النساء: آية 160- 161. 2 انظر: ابن تيمية، كتاب الصفدية، بتصرف 2/ 313، "بتحقيق د. محمد رشاد سالم، ط. الثانية 1406 هـ". 3 سورة الأعراف من آية 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 والنصارىِ: غلوا في الرهبنة، وتعبدوا ببدع ما أنزل الله بها من سلطان، ولا أمرهم بها نبي ولا رسول، فاعتزلوا الناس، وانقطع عبادهم في الأديرة والخلوات وألزموا أنفسهم ما لم يلزمهم الله به مما يشق على النفس والجسد، ويغالب الفطرة البشرية ويضادها؛ فلم يستطيعوا الوفاء ألزموا أنفسهم به من ذلك كما قال عز وجل عنهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 1. والمسلمون: عبدوا الله وحده بما شرع، ولم يعرضوا ويستكبروا عن عبادته كما فعل اليهود، ولم يبتدعوا في عبادتهم ما لم يأذن به الله، كما فعل النصارى. ولم يقصروا فيما فرض عليهم من العبادات، وأمروا به من الفراض والنوافل ولم يفرطوا في التعبد فيحملوا أنفسهم ما لا يطيقون؛ بل كانوا بين ذلك على صراط مستقيمِ، فصاموا وأفطروا، وقاموا الليل، وناموا، وتزوجوا النساء وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنسهم ولم ينسو نصيبهم وحظوظهم من الدنيا، قدوتهم في ذلك نبهيم صلى الله عليه وسلم. وبعد: فجوانب وسطية هذه المة كثيرة ومظاهر ذلك يتعذر علينا حصرها، بله تفصيلها؛ فليس ذلك بسمتطاع في مثل هذا المقام؛ ولكن سنكتفي بما سبق أن أجملنا ذكره من ذلك، وسنعرض بشيء من التفصيل للمظهر الأول والثاني في المبحثين الآتيين، وبالله التوفيق.   1 سورة الحديد من آية 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 المبحث الأول: وسطيتها في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته مدخل ... المبحث الأول: وسطيتها في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته إن المتأمل في كتاب الله تبارك وتعالى وما جاء فيه عن دعوات الرسل وما أنزل عليهم من الكتب ليخرج بحقيقة واحدة، أطبق عليها جمع الرسل، وأنزلت بها جميع الكتب السماوية. هذه الحقيقة هي: الدعوة إلى توحيد الله وعبادته دون سواه؛ فهي أس الرسالات وعمودها الفقري، وهي القاسم المشترك بينها. وإن اختلفت بعد ذلك الشرائع والمناهج فما من نبي أرسل ولا كتاب أنزل إلا وكان أول ما يدعوا إليه هو توحيد الله تبارك وتعالى. يقول الله عز وجل في تقرير هذه الحقيقة: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 1، وفي آية أخرى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. وإذا استعرضنا القرآن الكريم في حديثه عن رسل الله عليهم الصلاة والسلام نجد أن كل رسول قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 3. ابتداء من أولهم نوح عليه السلام، وانتهاء بخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام دينهم واحد، وهو الإسلام، وشرائعهم مختلفة كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا   1 سورة النحل: آية 36. 2 سورة الأنبياء: آية 25. 3 انظر مثلًا: سورة المؤمنين: آية 23، والأعراف: آية 65، 73، 85، والعنكبوت: آية 16، والمائدة: آية 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد" 1. قال الحافظ ابن حجر: "ومعنى الحديث: أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع. وقيل المراد: أن أزمنتهم مختلفة"2. وقال الحافظ ابن كثير في معنى الحديث: "أي: القدر المشترك بينهم وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 3، 4. وكل الأنبياء أخبروا بأنهم مسلمون ودعوا قومهم للإسلام5؛ لأنه الدين الحق الذي لا يقبل الله غيره {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 6، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 7. وهذا يدل على أن دين جميع الأنبياء واحد وهو الإسلام ودعوتهم واحدة وهي الدعوة لتوحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة، على هذا مضى رسل الله والمسلمون من أممهم. ولكن قومهم غيروا وبدلوا بعدهم، وحرقوا وأدخلوا في دين الله ما لم يأذن   1 خ: كتاب أحاديث الأنبياء، باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} 6/ 478، ح 3434. 2 فتح الباري 6/ 489. 3 سورة المائدة: آية 48. 4 تفسير القرآ، العظيم 7/ 183. 5 انظر مثلًا الآيات: 67، 52، من سورة آل عمران، والآيات 128، 132 من سورة البقرة، وسورة المائدة: آية 111، والآيات 31، 42، 44، 91، وسورة يونس: آية 84. 6 سورة آل عمران: آية 19. 7 سورة آل عمران: آية 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 به الله، وشمل التحريف والتبديل أساس دعوة الرسل، وهو التوحيد. وما يتعلق بذات الله عز وجل من الأسماء والصفات؛ فتفرقت الأمم في ذلك ما بين مفرط، ومفرط، وغال ومقصر، لإعراضهم عن هدي المرسلين وإتباعهم غير سبيل المؤمنين. ومن أعظم الأمم اختلافًا وضلالًا في هذا الباب، أمة اليهود والنصارى؛ فاليهود غلب عليهم التقصير والتفريط والجفاء، وإن كان لديهم غلو وإفراط، والنصارى غلب عليهم الغلو والإفراط وإن كان وقع منهم تفريط وتقصير في جوانب. والمسلمون اتبعوا الرسل؛ فهدوا لأقوم السبل، فكان قولهم هدى بين ضلالتين، وحقًا بين باطلين، فهو كلبن سائغ يخرج من بين فرث ودم. وفي هذا المبحث سنبين ما ذهب إليه كل من هذه الأمم الثلاث في هذا الباب بعون الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أولًا: موقف أمة اليهود عرفنا مما تقدم أن أمة يهود، أمة غلب عليها طابع، التفريط، والتقصير في هذا الباب؛ بل هو الغالب عليهم في أكثر الأبواب. ولعل من أبرز مظاهر تفريطهم وتقصيرهم في هذا الباب أمرين: الأول: اتخاذهم الأنداد لله عز وجل، وعبادة الأصنام. والثاني: إغراقهم في تشبيه الخالق بالمخلوق، ووصف الله عز وجل بالنقائض التي لا تليق إلا بالمخلوق. فأما الأمر الأول: وهو اتخاذهم الأنداد وعبادة الأصنام: فإن القوم، لما أنقذهم الله من عدوهم وجنوده، وجاوز بهم البحر مع موسى عليه السلام، وأغرق عدوهم على مشهد منهم، ومروا على قوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 يعكفون على أصنام لهم. مالت نفوسهم إلى الوثنية وطالبوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم مثلها. يقول الله جل وعلا في ذلك: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1، ثم بين لهم موسى عليه السلام ضلال أولئك وبطلان عملهم، وأن الإله الحق هو الله الذي فضلهم على العالمين؛ فقال: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 2. اتخاذهم العجل في زمن موسى: لم يلق نصح موسى عليه السلام وتذكيره ووعظه من القوم قلبًا واعيًا وأذنًا صاغية؛ فما إن تركهم عليه السلام وذهب إلى ربه يناجيه، حتى اتخذوا العجل من بعده إلهًا من دون الله قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} 3. {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} 4. ثم بين تعالى من تولى كبر إضلالهم وصناعة العجل لهم؛ فقال: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} إلى قوله: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} 5. فبين تعالى أن الذي عمل لهم العجل هو السامري. ومن العجيب أن   1 سورة الأعراف آية 138. 2 سورة الأعراف آية 139-140. 3 سورة الأعراف آية 148. 4 سورة البقرة آية 51. 5 سورة طه الآيات من 85-88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 كتاب العهد القديم ينسب هذا العمل الشنيع إلى هارون عليه السلام كما جاء في "سفر الخروج"1 كما سيأتي الكلام على ذلك في المبحث الثاني إن شاء الله2. ولقد تكرر من القوم اتخاذ الأصنام وعبادتها بعد موسى عليه السلام. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأهل الكتاب معترفون بأن اليهود عبدوا الأصنام مرات"3. وفي كتاب العهد القديم إشارات كثيرة لعبادتهم الأوثان والأصنام، من ذلك: 1- ما جاء في "سفر الملوك الثاني" عن عودتهم لعبادة العجل في عهد رحبعام4. يقول السفر: "وعمل عجلي ذهب، وقال لهم: كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم هو ذا ألهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر ووضع واحدًا في بيت أيل، وجعل الآخر في دان"5. 2- عبادتهم الأفعى وبعض التماثيل: يذكر "سفر الملوك الثاني" عن الملك حزقيال أنه: "أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري وسحق حية النحاس التي عملها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها"6.   1 انظر: العهد القديم، سفر الخروج إصحاح 32 فقرة 1- 6. 2 انظر: ص263. 3 الجواب الصحيح 3/ 247. 4 وهو: رحبعام بن سليمان عليه السلام. ملك بعد أبيه. انظر: سفر الملوك الأول إصحاح 11 فقرة 43، وانظر: محمد عزة دروزه، تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم، "ط 1389 هـ. نشر: المكتبة العصرية -بيروت"، ص177. 5 سفر الملوك الأول، إصحاح 12 فقرة 28- 29. 6 إصحاح 18 فقرة 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 على أن موسى عليه السلام لم يعمل تمثالًا نحاسيًا للحية؛ وإنما كانت عصاه تنقلب إلى حية تسعى معجزة له، ثم تعود سيرتها الأولى بعد ذلك عصا يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه؛ لكن لعل بني إسرائيل عملوا ذلك ونسبوه إلى موسى عليه السلام لتروج عند الناس ويعظموها ويعبدوها. والله تعالى أعلم. وأما الأمر الثاني: وهو قولهم بالتشبيه ووصف الخالق بصفات المخلوق: وهذا أمر مشهور عنهم، حتى عده الشهرستاني1 من طباعهم الملازمة لهم؛ فإن القوم أسرفوا في تشبيه الله عز وجل بالمخلوق، ووصفوه جلا وعلا بالنقائص التي تختص بالمخلوق. ولقد سجل القرآن الكريم عليهم صورًا من ذلك. وكتابهم الذي بين أيديهم ينضح بالكثير من ذلك. ونحن نذكر يما يلي نماذج من أقوالهم التي شبهوا فيها الخالق عز وجل بخلقه: 1- فمن ذلك: "وصفهم الله بالفقر". وهو صفة لا تليق بخالق البشر؛ ولكن القوم لا عقول لهم ولا حياء عندهم. يقول عز وجل في ذلك: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} 2. 2- ومن ذلك: "وصفهم له بأن يده مغلولة". قال عز وجل ذاكرًا قولهم هذا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 3.   1 انظر: الملل والنحل 1/ 106. 2 سورة آل عمران: آية 181. 3 سورة المائدة: آية 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 3- وصفوه بأنه: "يحزن، ويندم على أفعاله"، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. يصفه "سفر التكوين" بذلك فيقول: "ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه؛ إنما هو شريب كل يوم فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه؛ فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء؛ لأني حزنت أني عملتهم"1. 4- ووصفوه: "بالتعب والاستراحة" تعالى عن ذلك. جاء في "سفر الخروج": "أذكر يوم السبت لتقدسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك، لا تصنع عملًا أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك، ونزيلك الذي داخل أبوابك؛ لأن في ستة أيام صنع الرب الأرض والسماء والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع؛ لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه"2. وفي "سفر التكوين": "فأكملت السماوات والأرض وكل جندها وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل"3. 5- وقالوا: "بأنه إنسان وأنه صارع يعقوب عليه السلام إلى الفجر". ففي "سفر التكوين": "فبقي يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أطلقني؛ لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب. لا يدعي اسمك في ما بعد   1 إصحاح 6 فقرة 5- 8. 2 إصحاح 20 فقرة 1- 17. 3 إصحاح 2 فقرة 1- 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 يعقوب بل إسرائيل؛ لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت فدعا يعقوب اسم المكان فينئيل قائلًا: لأني نظرت الله وجهًا لوجه ونجيت نفسي"1. 6- وصفوه بما يفيد أنه "لا يعلم الغيب ويحتاج علامات يميز بها بني إسرائيل من غيرهم، فوضع الدم علامة على بيوت بني إسرائيل ليميزها عن بيوت المصريين حتى لا يهلكهم". ففي "سفر الخروج": "أن الرب كلم موسى عليه السلام وقال له فيما قال: فإني أجتاز في أرض مصر هذه الليلة وأضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم، وأصنع أحكامًا بكل آلهة المصريين أنا الرب، ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها فأرى الدم وأعبر عنكم فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر"2. 7- أنهم "جعلوا له أبناء كما أن للمخلوق أبناء". جاء في "سفر التكوين": "وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهم حسنات فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا"3. وحكى الله عز وجل عنهم أنهم جعلوا له ابنًا فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} 4.   1 إصحاح 32 فقرة 24- 30. 2 سفر الخروج، إصحاح 12 فقرة 12- 13. 3 إصحاح 6 فقرة 1- 2. 4 سورة التوبة: آية 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ثانيًا: موقف النصارى لقد ضلت أمة النصارى في هذا الباب ضلالًا بعيدًا، ولعل أمة من الأمم لم تضل في دينها وربها وإلهها كما ضل الذين قالوا إنا نصارى. ولا عجب فالضلالة صفتهم المميزة لهم، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضلال" 1. قال ذلك في تفسير قول الله عز وجل: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 2. ولعل من أعظم ضلالهم في باب توحيد الله وصفاته أنهم: 1- شبهوا المخلوق بالخالق: وأضفوا عليه من الصفات والخصائص ما لا يليق إلا بالله عز وجل. ولا يصلح إلا له سبحانه. فوصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به، فقالوا: "إنه يخلق، ويرزق، ويغفر، ويرحم، ويتوب على الخلق وثيب ويعاقب"3 إلى غير ذلك من خصائص الربوبية، وصفات الألوهية التي لا تكون إلا الله سبحانه. وذلك أن هذه الأمة الضالة، جعلت المسيح عليه السلام هو الله، كما ذكر الله عز وجل قولهم هذا وأكفرهم به فقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 4. وتارة جعلوه ابنًا لله سبحانه وتعالى عما يقول المبطلون، وعن قولهم هذا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 5.   1 ت: كتاب التفسير، باب ومن سورة الفاتحة 5/ 204، ح 2954، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. 2 سورة الفاتحة: آية 7. 3 ابن تيمية، الوصية الكبرى، "ط. الأولى 1407 هـ. بتحقيق أبي عبد الله محمد بن حمد الحمود، نشر: مكتبة ابن الجوزي"، ص 14. 4 سورة المائدة: آية 17. 5 سورة التوبة: آية 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وقالوا تارة أخرى أنه شريك لله وجزء من ثلاثة يتكون منها الإله، كما ذكر الله قوله هذا وكفرهم به أيضًا. فقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1. فألهوا المسيح عليه السلام وجعلوه شريكًا لله، وعبدوه من دونه؛ بل وصفوه بأخص صفات الألوهية والربوبية من الخلق والرزق والإحياء، والإماتة؛ وبذلك فارقوا عباد الأصنام والأوثان الذين قالوا في معبوداتهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2، ولم يضيفوا إليها شيئًا من خصائص الربوبية كالخلق والرزق ونحو ذلك؛ بل أقروا بكل ذلك لله وحده كما قال عز وجل: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 3، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 4، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 5، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 6. أما هؤلاء فلئن سألتهم عن شيء من ذلك ليقولن المسيحِ؛ فهو عندهم الإله الخالق الرازق المحيي المميت، باعث الرسل، ومنزل الكتب، حكى   1 سورة المائدة: آية 73. 2 سورة الزمر: من آية 3. 3 سورة يونس: آية 31. 4 سورة العنكبوت: آية 61. 5 سورة العنكبوت: آية 63. 6 سورة لقمان: آية 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الإمام ابن القيم عنهم أنهم قالوا: "وليس المسيح عند طوائفنا الثلاثة "هكذا" بني ولا عبد صالح؛ بل هو رب الأنبياء وخالقهم وباعثهم ومرسلهم وناصرهم، ومؤيدهم ورب الملائكة"1. ونقل عنهم أنهم يقولون في صلواتهم ومناجاتهم: "أنت أيها المسيح اليسوع تحيينا وترزقنا وتخلق أولادنا وتقيم أجسادنا وتبعثنا"2. وفي قراراهم الذي قرروه في "مجمع نيقيه"3 الذي عقدوه سنة 325 م وسموه بـ "الأمانة"، ونصوا فيه على ألوهية المسيح عليه السلام، صرحوا بأنه هو الذي سينزل للقضاء بين الناس يوم القيامة ومحاسبتهم ومجازاتهم فقالوا: "وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء"4. يقول أحد قساوستهم في رسالة إلى أبي عبيدة الخزرجي5، صرحًا بألوهية المسيح، وأنه خالق السماوات والأرض: "أما بعد حمد الله الذي هدانا لدينه، وأيدنا بيمينه، وخصنا بابنه ومحبوبه، ومد علينا رحمته بصلبه المسيح إلهنا، الذي خلق السماوات والأرض وما بينهن، والذي أمدنا بدمه المقدس ومن   1 هداية الحيارى، ط "الأولى 1408 هـ. بتعليق مصطفى أبو النصر الشلبي، نشر: مكتبة السوادي -جدة"، ص 269. 2 نفس المصدر ص270. 3 سمي بذلك؛ نسبة إلى مدينة نيقية من أعمال إسطنبول التي اجتمع بها عدد من علماء النصارى، وكان من أهم قراراته القول بإلهية المسيح عليه السلام. انظر: ابن القيم، هداية الحيارى 323، والنصرانية، لأبي زهرة 124، وانظر عن نسبته: الحموي، معجم البلدان 5/ 333. 4 انظر: الشهرستاني، الملل والنحل 2/ 28. 5 هو: أبو جعفر أحمد بن عبد الصمد بن أبي عبيدة "بفتح العين المهملة، وكسر الباء الموحدة"، الأنصاري الخزرجي الساعدي نسبة إلى سعد بن عبادة الصحابي؛ فقيه أندلسي، ولد في قرطبة عام 519 هـ، كان مشهورًا في شبابه بالذكاء والنبل، حافظًا للحديث. مات بفاس سنة 582 هـ. عن حاشية محقق كتاب بين المسيحية والإسلام ص47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 عذاب جهنم وقانا"1. وقال مخاطبًا أبا عبيدة داعيًا إياه للإيمان بألوهية المسيح الخالق: "وما عقائدتكم كلها إلا حسنة, وكان عندكم عدل كثير في أصل دينكم، وخير شامل؛ فلو آمنتم بالمسيح وقلتم: إنه هو الله خالق السماوات والأرض لكمل إيمانكم"2. وهكذا نرى النصارى يصفون المسيح عليه السلام بصفات الربوبية المختصة برب العالمين عز وجل، وهذا أمر انفردوا به من بين العالمين. ولم يقتصر الأمر على المسيح عليه السلام، بل جعلوا لغيره من الخلق بعض صفات الله تبارك وتعالى. فجعلوا مريم عليها السلام آلهة؛ لأنها أم الله بزعمهم، ووصفوها بالجلوس على العرش مع الله عز وجل، وسألوها ما لا يسأل إلا من الله عز وجل، يقول الإمام ابن القيم: "وأما قولهم في مريم: فإنهم يقولون إنها أم المسيح ابن الله ووالدته في الحقيقة. وأنها على العرش جالسة عن يسار الرب تبارك وتعالى والد ابنها، وابنها عن يمينه. قال: والنصارى يدعونها، ويسألونها سعة الرزق وصحة البدن وطول العمر ومغفرة الذنوب"3. وهذه أمور لا يملكها إلا الله عز وجل ولا يسألها إلا هو سبحانه، ولقد أشار القرآن الكريم إلى قول النصارى بألوهية مريم في قوله تبارك وتعالى مخاطبًا عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ   1 أبو عبيدة الخزرجي، بين المسيحيية والإسلام. "ط. مطبعة المدني القاهرة. نشر: مكتبة وهبة، بتحقيق وتعليق د. محمد شامة"، ص72. 2 نفس المصدر ص87. 3 هداية الحيارى ص261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 عَلَّامُ الْغُيُوبِ} 1. بل وخصوا كنائسهم وبابواتهم ومطارنتهم ببغض خصائص الله عز وجل كمغفرة الذنوب ودخول الجنة والحرمان منها. ففي المجمع الثاني عشر من مجامعهم المعقود في سنة 1215م، قرروا: "أن الكنيسة البابوية تملك الغفران وتمنحه لمن تشاء"2؛ وبناء على هذا القرار قامت الكنيسة بإصدار ما يسمى بـ"صكوك الغفران". يقول أحد قسسهم في هذا: "وقد جعل الله في أيدي المطارين ما لم يجعله في يد أحد؛ وذلك أن كل ما يفعلون في الأرض يفعله الله في السماء؛ فإذا أذنبنا فهم الذين يقبلون التوبات ويعفون عن السيئات بأيديهم صلاح الأحياء والأموات"3 ماذا أبقوا الله عز وجل؟! 2- ومن ضلالهم في هذا الباب أيضًا أنهم سبوا الخالق عز وجل وتنقصوه: وذلك من وجهين: الأول: قولهم إنه اتخذ ولدًا؛ حيث قالوا: إن المسيح ابن الله، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} 4، وقد نزه الله عز وجل نفسه عن اتخاذ الصحابة والولد؛ فقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 5، وقال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ   1 سورة المائدة: آية 116. 2 أبو زهرة: النصرانية، ص 148. ود. أحمد شلبي، المسيحية، ص197. 3 أبو عبيدة الخزرجي، بين المسيحية والإسلام، "بتحقيق د. محمد شامة"، ص91. 4 سورة التوبة من آية 30. 5 سورة البقرة: آية 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} 1؛ فأنكر قولهم، ونزه نفسه عن أن يكون له ولد. وبين سبحانه في آية أخرى أن الولد لا يكون إلا من صاحبة، وهو سبحانه لا صاحبة له؛ فقال عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2. قال ابن كثير في تفسيره هذه الآية: "أي: كيف يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة؟ أي: والوالد إنما يكون متولدًا عن شيئين متناسبين، والله لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه؛ لأنه خالق كل شيء، فلا صاحبه له ولا ولد"3. وقد بين سبحانه في الحديث القدسي، أن من نسب إليه اتخاذ الولد فقد شتمه وسبه بقوله ذلك؛ ففي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه قال: "قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك؛ فأما تكذيبه إياي؛ فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدًا" 4. الثاني: زعمهم أن الله سبحانه وتعالى عن قولهم علوًا كبيرًا "ينزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانًا وحبل به وولد من مريم البتول وقتل وصلب"5.   1 سورة مريم: آية 88- 93. 2 سورة الأنعام: آية 101. 3 تفسير القرآن العظيم 3/ 302. 4 خ: كتاب التفسير، باب {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} 8/ 168، ح 4482. ورواه من حديث أبي هريرة في باب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 8/ 739، ح 4974. 5 هذا نص ما جاء في أمانتهم المشهورة، انظر الشهرستاني، الملل والنحل 2/ 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وقال القس القوطي في رسالته إلى أبي عبيدة الخزرجي يشرح فيها مذهبه "فهبط بذاته من السماء والتحم في بطن مريم العذراء البتول أم النور فاتخذ لنفسه منها حجابًا كما سبق في حكمته"1. يقول الإمام ابن القيم: "إن هذه الأمة -أي: النصارى ارتكبت محذورين عظيمين، لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة: أحدهما: الغلو في المخلوق، حتى جعلوه شريك الخالق وجزءًا منه، وإلهًا آخر معه، وأنفوا أن يكون عبدًا له. والثاني: تنقص الخالق وسبه ورميه بالعظائم؛ حيث زعموا أنه سبحانه وتعالى عن قولهم علوًا كبيرًا -نزل من العرش عن كرسي عظمته، ودخل في فرج امرأة وأقام تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والنجو2، وقد علته أطباق المشيمة والرحم، والبطن، ثم خرج من حيث دخل، رضيعًا صغيرًا يمص الثدي ..... ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا في وجهه، وصفعوا قفاه، وصلبوه جهرًا بين لصين، وألبسوه إكليلًا من الشوك، وسمروا يديه ورجليه، وجرعوه أعظم الآلام، هذا هو الإله الحق الذي بيده أتقنت العوالم وهو المعبود المسجود له. ولعمر الله إن هذه مسبة لله سبحانه ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم"3. وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ أنه قال فيهم: "أهينوهم ولا تظلموهم؛ فلقد سبوا الله عز وجل مسبة ما سبه إياها أحد من البشر"4. وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من قول معاذ بن جبل رضي الله عنه5.   1 أبو عبيدة الخزرجي، بين المسيحية والإسلام ص 83- 84. 2 النجو: ما يخرج من البطن من ريح وغائط. انظر: لسان العرب 15/ 306. 3 إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، "نشر: شركة مكتبة ومطبعة الحلبي بمصر، بتحقيق محمد سيد كيلاني"، 2/ 278. 4 المصدر السابق 2/ 278. 5 انظر: الجواب الصحيح 2/ 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ثالثًا: موقف المسلمين أما هذه الأمة المسلمة فقولها في هذا الباب هو ما جاء به المرسلون من توحيد الله وإفراده بالعبادة. فآمنت بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره، ولا رب سواه، هو رب العالمين، وخالق الكون، ومدبره، {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1. ونزهوه سبحانه عن الأنداد، واتخاذ الصحابة والأولاد، تصديقًا لقوله تعالى عن نفسه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 2، ,وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 3، وقالوا كما قال مؤمنوا الجن: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} 4. ووصفوه سبحانه بصفات الكمال والجلال، ونزهوه عن جميع صفات النقص، كما نزهوه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات5.   1 سورة الأعراف آية 54. 2 سورة المؤمنون آية 91. 3 سورة الإخلاص. 4 سورة الجن آية 3. 5 شيخ الإسلام ابن تيمية، منهاج السنة 5/ 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ولم يصفوه إلا بما وصف به نفسه سبحانه, أو وصفته به رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، من غير تعطيل ولا تمثيل. فلم يشبهوه بشيء من خلقه لا في ذاته ولا في صفاته - كما فعل اليهود- بل قالوا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. ولم يشبهوا شيئًا من خلقه به، لا في ذاته ولا في شيء من صفاته، ولم يجعلوا له نظيرًا أو ندًا أو مثيلًا أو شريكًا في شيء من خصائص ألوهيته وربوبيته -كما صنع النصارى- بل نزهوه سبحانه عن التشبيه والنظير والكفء، والند والمثيل.   1 سورة الشورى آية 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 المبحث الثاني: وسطيتها واعتدالها في باب أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام مدخل ... المبحث الثاني: وسطيتها واعتدالها في باب أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام لقد كان من أعظم نعم الله عز وجل على عباده أن بعث فيهم رسلًا منهم، يعرفون نسبهم وأخلاقهم، اختارهم من خيارهم واصطفاهم من أوسطهم مكانة ونسبًا. يدعون قومهم إلى خير ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، ويحذرونهم وينهونهم عن كل ما فيه هلاكهم وضررهم في دنياهم وأخراهم، يدعونهم إلى عبادة الله وحده واتباع أوامره واجتناب نواهيه ويحذرونهم من الشرك بالله ومعصيته، ومخالفة أوامره وارتكاب نواهيه. فما من أمة إلا خلا فيها نذير، وبعث إليها رسلا أو رسولا؛ وذلك رحمة من الله بعباده، ولئلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، يقول في ذلك تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 1. ويقول عزل وجل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا، وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 2. فبين سبحانه أنه أرسل رسله إلى عباده مبشرين ومنذرين، مبشرين من أطاعهم بعظيم الأجر والمثوبة، ومنذرين من عصاهم بأليم العذاب والعقوبة؛ لئلا يحتج من كفر بالله وعبد الأنداد أو ضل عن سبيله بأن يقول إن أراد الله   1 سورة النحل آية 36. 2 سورة النساء آية 163- 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 عقابه: {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} 1. ولقد بلغ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ما أرسلوا به، ونصحوا لأممهم غاية النصح، وبينوا لهم أوضح بيان وأجلاه ما يجب عليهم في دينهم ودنياهم، وما أعد الله لأهل طاعته من ثواب، ولأهل معصيته من عذاب، وسلكوا في تبليغ قومهم رسالات ربهم كل مسلك، فدعوهم ليلًا ونهارًا، وسرًا وجهارًا، لم يسألوهم على ذلك أجرًا؛ بل تحملوا في سبيل نصحهم وهدايتهم ألون الشدائد وضروب المتاعب والأذى. ولقد تباينت مواقف الأمم تجاه أنبيائهم ورسلهم، ما بين مؤمن بهم متبع لهم، وبين كافر بهم مؤذ لهم، وبين غال فيهم منزل لهم فوق المنزلة التي أنزلهم الله إياها. وفي هذا المبحث سنعرض لبيان مواقف ثلاث من أعظم الأمم وأهمها في أنبياء الله ورسوله وهي: 1- اليهود 2- النصارى 3- المسلمون. وإنما اخترنا هذه الأمم من بين سائر الأمم؛ لكونها أكثر الأمم أنبياء ورسلًا، ولكونهم أهل كتب سماوية نزلت إليهم، ولكونها آخر ثلاث أمم أرسل إليها رسل. أدرك بعضها بعضًا.   1 سورة طه آية 134. وانظر: ابن جرير، جامع البيان 9/ 408. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 أولًا: موقف اليهود من أنبياء الله ورسله: لقد كان ليهود من أنبياء الله ورسله مواقف شائنة مخزية، تنبئ عن خبث في الطوية، وفساد في السيرة والسريرة، وإتباع للنفس والهوى، وإعراض عن الحق والهدى. وإذا نحن أجلنا النظر في كتاب الله عز وجل، تحصل لنا أن مواقف اليهود من رسل الله تتلخص في الأمور التالية: الأمر الأول: أنهم فرقوا بين رسل الله ولم يؤمنوا بهم جميعًا؛ بل آمنوا ببعض وكفروا بالبعض الآخر "بمجرد التشهي والعادة، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية"1. ومن أعظلم الرسل الذين كفروا بهم وكذبوا برسالتهم، عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، على أنهم كذبوا وكفروا بأنبياء آخرين غيرهما بدليل قتلهم لكثير من أبنيائهم كما سيأتي. وقد عد الله من يؤمن ببعض الرسل ويكفر بالبعض الآخر كافرًا؛ بل هو الكافر حقًا فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} 2. قال الإمام ابن جرير في تفسيره: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} ؛ يعني: أنهم يقولون: نصدق بهذا ونكذب بهذا، كما فعلت اليهود في تكذيبهم عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم، وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم"3. وقال رحمه الله في معنى قوله عزل وجل: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} : "يقول: أيها الناس! هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم هم أهل الكفر بي، المستحقون عذابي والخلود في ناري حقًا، فاستيقنوا ذلك، ولا يشككنكم في أمرهم انتحالهم الكذب، ودعواهم أنهم يقرون بما يزعموا أنه به مقرون من   1 ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 2/ 396. 2 سورة النساء آية 150- 151. 3 جامع البيان 9/ 351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الكتب والرسل؛ فإنهم في دعواهم ما ادعوا من ذلك كذبة، وذلك أن المؤمن بالكتب والرسل هو المصدق بجميع ما في الكتاب الذي يزعم أنه به مصدق، وبما جاء به الرسول الذي يزعم أنه به مصدق، وبما جاء به الرسول الذي يزعم أنه به مؤمن؛ فأما من صدق ببعض ذلك وكذب ببعض، فهو لنبوة من كذب ببعض ما جاءبه جاحد، ومن جحد نبوة نبي فهو به مكذب، وهؤلاء الذين جحدوا نبوة بعض الأنبياء وزعموا أنهم مصدقون ببعض، مكذبون من زعموا أنهم به مؤمنون، لتكذيبهم ببعض ما جاء به من عند ربهم؛ فهم بالله وبرسله الذين يزعمون أنهم بهم مصدقون، والذين يزعمون أنهم بهم مكذبون كافرون، فهم الجاحدون وحدانية الله وبنوة أنبيائه حق الجحود المكذبون بذلك حق التكذيب"1. الأمر الثاني: أنهم خذلوا أنبياءهم ولم يقوموا بنصرهم. وقد أخذ الله عليهم ميثاقهم لينصرنهم فقال: {لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} 2. قال الحافظ ابن كثير: "أي: نصرتموهم وآزرتموهم على الحق"3. فلم يفوا بميثاقهم، وما لبثوا أن قالوا لموسى عليه السلام لما قال لهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} 4.   1 جامع البيان 9/ 353. 2 سورة المائدة آية 12. 3 تفسير القرآن العظيم 3/ 62. 4 سورة المائدة آية 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} 1. ثم ما لبثوا أن أعلنوا خذلانه، وعدم القتال معه، وخلوا بينه وبين عدوه فـ {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون} 2. فكان جزاءهم التيه في الأرض أربعين سنة {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 3. الأمر الثالث: أنهم تنقصوا بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ورموهم بارتكاب كبائر الذنوب، وألصقوا بهم كل رذيلة، وكتابهم الذي بين أيديهم ويزعمون أنه التوراة، يفوح بألوان من المخازي، وينضح بالكثير من البهت، والأذى الذي عرف به يهود، لم يسلم من كبار أنبيائهم فضلًا عن غيرهم ممن بعث فيهم، وهاته نماذج مما رموا به بعض الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فمن ذلك: 1- أنهم نسبوا إلى بعض أنبيائهم: الإعانة على الشرك بالله وعبادة غيره وتسهيل سبيل ذلك لقومهم. فنسبوا لهارون عليه السلام أنه صنع لهم العجل، الذي عبدوه من دون الله، جاء في "سفر الخروج": "ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم أصنع لنا آلهة تسير أمامنا؛ لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم   1 سورة المائدة آية 22. 2 سورة المائدة 24. 3 سورة المائدة 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها؛ فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون، فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالأزميل وصنعه عجلًا مسبوكًا، فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر؛ فلما نظر هارون بنى مذبحًا أمامه ونادى هارون وقال: غدًا عيد للرب فبكروا في الغد وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب"1. هكذا يصور هذا السفر نبيًا عظيمًا من أنبياء الله -بعثه الله ليدعو الناس إلى توحيد الله- في صورة صانع للأصنام، مغر لقومه بعبادتها من دون الله عز وجل. ونحن نقطع بأن هذا النص مما كتبه اليهود بأيديهم وقالوا هو من عند الله وما هو من عند الله، وأنه "ليدل على أن محرري هذه الأسفار لا يرعون لأنبيائهم حرمة، ولا يرجون لهم وقارًا، ولا يتورعون عن أن ينسبوا إليهم أية نقيصة حتى خيانة الرسالة نفسها التي بعثوا من أجلها، ودفع قومهم إلى الشرك بالله"2. ولقد ذكر الله في القرآن الكريم قصة عبادة اليهود العجل، وبين أن الذي صنع العجل وأغراهم بعبادته هو السامري وليسهارون عليه السلام، بل أخبر عز وجل أن هارون عليه السلام حذر قومه من ذلك ولكن القوم لم يلتفتوا إلى تحذيره وعصوه، وخالفوه إلى ما نهاهن عنه فقال عز وجل: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى، قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ، فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ   1 الكتاب المقدس، العهد القديم. سفر الخروج، الإصحاح 32 فقرة 1- 6. 2 انظر: د. علي عبد الواحد وافي، الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام ص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي، قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ، أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا، وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي، قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} 1. فهذه الآيات تنطق في وضوح ببراءة هارون عليه السلام مما نسبه إليه اليهود، وتشهد بافترائهم وكذبهم وتقولهم على الله عز وجل، ورسل ألا بئسما يزرون. ورموا نبي الله الأواب سليمان عليه السلام بأنه في أواخر أيامه مال إلى ممالأة نسائه على عبادة الأوثان وبنى لآلهتهن المعابد وأن قلبه مال معهن إلى هذه الآلهة ولم يكن مخلصًا في إيمانه بربه عز وجل. يقول "سفر الملوك الأول": "وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه فذهب سليمان وراء عشتورث إلالهة الصيدونيين، وملكوم رجس العمونيين، وعمل سليمان الشرقي عيني الرب ولم يتبع الرب تمامًا كداود أبيه. حينئذ بني سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي تجاه أورشليم ولمولك رجس بني عمون. وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لآلهتهن؛ فغضب الرب على سليمان؛ لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين واوصاه في هذا الأمر أن لا يتبع آلهة أخي فلم يحفظ ما أوصى به الرب"2.   1 سورة طه آية 83- 91. 2 سفر الملوك الأول، إصحاح 11 فقرة 4- 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 هذا سليمان النبي الكريم، الذي لم يقر ملكه سبأ وقومها على عباده الشمس والقمر من دون الله، وبذل ما في وسعه لهدايتهم إلى عبادة الله رب العالمين؛ فأظهر لها من آيات الله التي أتاه ما حدى بها إلى الهداية والإسلام فقالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. ومع ذلك ينسب إليه اليهود الميل إلى عبادة الأصنام والإذعان لرغبة نسائه في ذلك. سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم. 2- نسبتهم لبعض الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام شرب الخمر وارتكاب فاحشة الزنا والقتل. فنسبوا إلى أبي الأنبياء نوح عليه السلام أنه شرب الخمر حتى سكر وثمل وانكشفت سوءته، كما جاء في "سفر التكوين": "وابتدأ نوح يكون فلاحًا وغرس كرمًا وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجًا؛ فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافها ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء؛ فلم يبصرا عورة أبيهما؛ فلما استقظ نوح من خمرة علم ما فعل به ابنه الصغير فقال ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته2. هكذا يصور كتاب اليهود المقدس نوحًا عليه السلام الذي مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله ليلًا ونهارًا سرًا وجهارًا، في صورة فاسق لا يفيق من السكر، قاتلهم الله أنى يؤفكون. ونسبوا إلى نبي الله لوط عليه السلام الزنى بابنتيه؛ فقالوا: إن ابنتيه تأمرنا عليه وأسقتاه خمرًا حتى ثمل وزنى بهما وحملتا منه.   1 سورة النمل آية 44. 2 سفر التكوين، الإصحاح 9 فقرة 18- 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ففي "سفر التكوين": "وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه؛ لأنه خاف أن يسكن في صوغر فسكن المغارة هو وابنتاه. وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض. هلم نسقي أبانا خمرًا ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلًا. فسقتا أباهما خمرًا في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة إني قد اضطجعت البارحة مع أبي نسقيه خمرًا في تلك الليلة فادخلي اضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلًا؛ فسقتا أباهما خمرًا في تلك الليلة أيضًا وقامت الصغيرة واضطجعت معه ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها فحبلت ابنتا لوط من أبيهما فولدت البكر ابنًا ودعت اسمه موآب وهو أبو الموآبيين إلى اليوم، والصغيرة أيضًا ولدت ابنا اسمه بن عمي وهو أبو بني عمون إلى اليوم"1. وهذا نبي الله الملك الصالح داود عليه السلام تنسب إليه التوراة المزعومة الزنى بامرأة أحد جنوده، وأنها حملت منه سفاحًا، وإنه لما خشي افتضاح أمره احتال لقتله، وتزوج امرأته من بعده. جاء في "سفر صموئيل الثاني": "وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك فرأى من على السطح امرأة تستحم وكانت المرأة جميلة المنظر جدًا فأرسل داود وسأل عن المرأة فقال واحد: أليست هذه بتشبع بنت ألبعام امرأة أوريا الحثي، فأرسل داود رسلًا وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت: إني حبلى"2. ثم يذكر هذا الإصحاح ما قام به داود عليه السلام من طلب عودة أوريا   1 سفر التكوين، الإصحاح 19 فقرة 30- 37. 2 سفر صموئيل الثاني، إصحاح 11 فقرة 2- 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 من المعركة ليقيم مع زوجته في محاولة من داود لإخفاء جريمته ونسبة الحمل لأوريا؛ ولكن أوريا لم يدخل على أهله، ولما يئس منه داود تاب إلى قائده يأمره لأوريا؛ ولكن أوريا يمقدمة الجيش والتراجع عنه عند اشتداد الخطر ليهلك يقول الإصحاح: "وفي الصباح كتب داود مكتوبًا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا، وكتب في المكتوب يقول: أجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وأجرعوا من ورائه فيضرب ويموت"1. فانظر رحمك الله كيف صوروا نبيًا كريمًا بهذه الصورة المزرية؛ فلم يكفهم نسبة الزنا إليه، حتى جعلوه متآمرًا على القتل، بل آمرًا به. الأمر الرابع: أنهم قتلوا بعض أنبيائهم لقد سجل الله عليهم في القرآن الكريم هذا الموقف المشين من أنبيائهم في غير ما آية، مقرعًا ومبخًا لهم على هذا الصنع القبيح، والجرم العظيم الذي ارتكبوه في حق من أرسل لهدايتهم، وبعث لإرشادهم إلى صراط الله المسقيم، من أنبياء الله ورسله؛ ولكن القوم كانوا كلما جاءهم رسول بما يخالف أهواءهم ورغباتهم الهابطة لا يألون جهدًا في إيذائه وصده عن دعوته، متبعين في ذلك مختلف الأساليب سالكين شتى الطرق، فسبوهم وأهانوهم وتنقصوهم حتى أفضى بهم الأمر إلى أن قتلوهم. يقول جل وعلا مسجلًا عليهم هذا الموقف: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} 2. وقال عز وجل: {مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا   1 سفر صموئيل الثاني، إصحاح 11 فقرة 14- 16. 2 سورة البقرة آية 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} 1. فاستجلبوا بهذا الموقف المخزي غضب الله عز وجل ومقته وسخطه واستوجبوا عذابه ونقمته: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} 2. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 3. ولقد أسرف القوم فيقتل الأنبياء واستمرؤا ذلك، وردوا على الكفر بالله وسفك دم أنبيائه، فكانوا يقتلون النبيأو الأنبياء، ثم يمارسون أعمالهم وحياتهم اليومية وكأنهم لم يرتكبوا إثمًا، أو يحدثوا جرمًا، أثر عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "وكانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار"4. ومن أعظم الأنبياء الذين قتلوهم زكريا وابنه يحيى عليهما السلام؛ فقد أخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} قال: "بعث عيسى بن مريم في اثني عشر رجلًا من الحواريين يعلمون الناس فكان ينهاهم عن نكاح ابنة الأخ وكان ملك له ابنة أخ تعجبه فأرادها وجعل يقضي لها كل يوم حاجة فقالت لها أمها إذا سالت عن حاجتك فقولي له: أن تقل يحيى بن زكرياِ؛ فقال لها الملك: حاجتك فقالت: حاجتي أن تقتل يحيى بن زكريا، فقال: سلي غير   1 سورة المائدة آية 70. 2 سورة البقرة آية 61. 3 سورة آل عمران آية 21. 4 ذكره ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 1/ 146، والسيوطي، الدر المنثور 1/ 178. وقال: أخرجه أبو داود الطيالسي، وابن أبي حاتم. انظر: تفسير ابن حاتم المسمى، تفسير القرآن العظيم 1/ 197، ح 636، وقال محققه: رجاله ثقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 هذا؛ فقالت: لا أسأل غير هذا؛ فلما أتى أمر به فذبح"1. وذكر الإمام ابن جرير2 وغيره3 قتل بني غرسائل زكريا عليها لسلام كما قتلوا ابنه يحيى، وقد أجمعوا قتل المسيح عيسى بن مريم عليه السلام؛ ولكن الله حفظه من كيدهم، ورفعه إليه، وألقى شبهه على غيره فقتلوه وصلبوه وهم يعتقدون أنهم قتلوا المسيح عليه السلام، كما ذكر ذلك عنهم الحق تبارك وتعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 4. وكما سجل الله عليهم في القرآن الكريم هذا الجزم العظيم، نجد نصوص الأسفار المقدسة عندهم تنص على وقوع ذلك أيضًا؛ ففي "سفر الملوك الأول" نرى كيف حاول بنو إسرائيل قتل نبي الله إلياس عليه السلام -والسفر يذكره باسم "إيليا"- مما اضطره إلى الهرب والاختباء منهم؛ لأنهم تركوا عهد الله وقتلوا أنبياءه: "وكان كلام الرب إليه يقول له: مالك ههنا يا إيليا؟ فقال: قد غرت غيره للرب إليه الجنود؛ لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك ونقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف؛ فبقيت أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي ليأخذوها"5. فهذا النص الذي سجله أحبار اليهود ومحرروًا أسفارهم، يدل دلالة   1 المستدرك 2/ 290، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. 2 انظر: جامع البيان 6/ 284. 3 كالإمام ابن القيم. انظر: هداية الحيارى ص 47، "ط. الأولى، بتحقيق مصطفى أبو النصر". 4 سورة النساء آية 157- 158. 5 الكتاب المقدس، العهد القديم. سفر الملوك الأول، إصحاح 19 فقرة 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 واضحة على أن هذا الخلق الذميم كان متأصلًا في نفوسهم العليلة، حتى إنهم لا يتحرجون من الاعتراف؛ بل من التباهي به، وكأنهم يسجلون عملًا جليلًا قاموا به، وقد رأينا قبل هذا كيف ادعوا واعتقدوا أنهم قتلوا المسيح بن مريم عليه السلام وقالوا: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} 1. ويبدو أن هذا الخلق ظل ملازمًا لهم تجاه أنبياء الله ورسله، ولم يكن ذلك منهم مع أنبيائهم فقط؛ فقد حاولوا قتل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فدسوا له السم صلوات الله عليه بغية قتله وحاول بنو النضير منهم اغتياله بإلقاء الصخرة عليه2، جريًا على عادتهم في الخبث والكيد لرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كما ثبت في "الصحيحيين" من حديث أنس رضي الله عنه: "أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها فجئ بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك؟ فقالك أردت لأقتلك. قال: ما كان الله ليسلطك على ذاك، قال: أو قال: "علي" قال: قالوا: ألا تقتلها؟ قال: لا، قال فما زلت أعرفها في لهوات3 رسول الله صلى الله عليه وسلم"4. وتشير بعض الروايات إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو يجد أثر سم اليهود له؛ ففي حديث عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة! ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر؛ فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من السم"5   1 سورة النساء آية 157. 2 انظر: ابن هشام، السيرة 2/ 190. 3 اللهوات: جمع لهاة، وهي: اللحمات في سقف أقصى الفم. ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث 4/ 284؛ والمراد: أنه بقي للسمل علامة وأثر من سواد وغيره. 4 خ: كتاب الهدية، باب قبول الهدية من المشركين 5/ 230، ح 2617. م: كتاب السلام، باب باب السم 4/ 1721، ح 45 واللفظ له. 5 خ: المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم 9/ 131، ح 4428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وبعد: فهذا هو موقف يهود من رسل الله وأنبائه صلوات الله وسلامه عليهم؛ إيمان ببعض وكفر ببعض، وتنقص منهم، وإيذاء، وسب، وشتم، وقذف بارتكاب جرائم السكر والعربدة، والزنا والقتل، ثم تشريد ومطاردة وقتل لبعضهم. وهي مواقف تدل على مبلغ تفريط القوم في حق أنبياء الله ورسله، وعظم تقصيرهم وشدة جفائهم وعداوتهم لهم، وهذا هو الطابع الذي غلب عليهم في هذا الباب1، على أنهم ربما غلوا وأفرطوا في حق بعض أنبيائهم، وأنزلوهم فوق مكانة النوبة والرسال، كما وقع منهم في حق العزيز عليه السلام؛ إذ قالوا إنه ابن الله كما ذكر الله عز وجل ذلك في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2. ومن مظاهر غلوهم اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بذلك ولعنهم لأجله؛ فقال: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 3. وفي حديث آخر قال: "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 4. فالقوم كان لديهم غلو في بعض أنبيائهم؛ لكن لما كان الغالب عليهم الجفاء والتفريط في هذا الجانب ظن بعض الناس أنه لم يقع منهم غلو، لكثرة ما ورد في القرآن من نسبة قتل الأنبياء وتكذيبهم إليهم، بل ربما لهوى في نفوس البعض، حاول التشكيك في الأحاديث التي أشرنا إليها وأوهم أنها تعارض ما جاء في القرآن من ذكر جفائهم للأنبياء5، وغفل أو تغافل عن القرآن الكريم كما جاء فيه نسبة التفريط إليهم، جاء فيه أيضًا نسبة الإفراط والغلو إليهم كما تقدم في شأن العزير عليه السلام.   1 باب أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام. 2 سورة براءة آية 30. 3 خ: كتاب الصلاة 1/ 532، ح 436. وم: المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور 1/ 377. 4 خ: كتاب الصلاة 1/ 532 ح 437. 5 للشيخ عبد الله محمد الصديق الغماري رسالة في تحويز بناء القباب والمساجد على القبور أوهم فيها ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ثانيًا: موقف النصارى إذا كان اليهود غلب عليهم التفريط والتقصير والجفاء في حق أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين مع غلوهم في بعضهم كالعزير عليه السلام. فإن النصارى قد ذهبوا إلى أقصى الطرف المعاكس فغلب عليهم الغلو والإفراط ولا سيما في نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام، على أنهم فرطوا وقصروا أيضًا في حق بعض رسل الله بل وفي حق عيسى عليه السلام أيضًا، ويمكن إجمال مواقفهم في هذا الباب في الأمور التالية: الأمر الأول: أنهم لو يؤمنوا بجميع رسل الله وأنبيائه؛ بل فرقوا بينهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وغلوا في البعض الآخر، وهم معنيون أيضًا بقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} 1، وقدمنا إيراد هذه الآية في الكلام على موقف اليهود، وذكرنا ما قاله الإمام ابن جرير في تفسيرها، وفيه أن النصارى ممن آمن ببعض الأنبياء، وكفر ببعض حيث آمنوا بعيسى وموسى بزعمهم، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.   1 سورة النساء آية 150 - 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 الأمر الثاني: أنهم غلوا وأفرطوا في نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام، ورفعوه فوق المكانة التي جعله الله فيها، وأنزلوه فوق المنزلة التي أنزله الله إياها. فلم يؤمنوا به عبدًا لله ورسولًا نبيًا؛ وإنما جعلوه هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة يتكون منها الإله، وعبدوه من دون الله عز وجل وأضافوا إليه من الأفعال والأعمال ما لا يصح إضافته ونسبته إلا إلى الله عز وجل؛ فكانت عقيدتهم فيه التي أجمعوا عليها بعد "مجمع نيقية"1 وسموها بـ "الأمانة" على النحو التالي: "الإيمان: 1- بإله واحد، آب، ضابط الكل، خالق السماء والأرض، صانع ما يرى وما لا يرى. 2- وبرب واحد يسوع، الابن الوحيد المولود من الأب قبل الدهور من نور الله إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للآب في الجوهر الذي به كان كل شيء الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خطايانا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء، وصلب حيًا على عهد بيلاطس وتألم وقبر، وقام من الأموات في اليوم الثالث على ما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس على يمين الرب، وسيأتي ليدين الأحياء والأموات، ولا فناء لملكه"2. ولقد ذكر القرآن الكريم غلوهم في عيسى عليه السلام، وقولهم بألوهيته وبنوته لله عز وجل، وكفرهم بذلك، فقال جل وعلا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ   1 تقديم التعريف به. انظر: ص252. 2 نوفل بن نعمة الله بن جرجس سوسنة سليمان. اقتبسه د. علي عبد الواحد وافي. انظر: الأسفار المقدسة ص 111، وذكر هذه العقيدة الشهرستاني في الملل والنحل 2/ 28، وابن القيم، هداية الحيارى ص 267 مع اختلاف في اللفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 1، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2، وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 3. وورد في بعض الأناجيل بعض النصوص، التي اعتمد عليها النصارى في تالية المسيح وبنوته. من ذلك ما جاء في إنجيل "يوحنا" كقوله: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله هذا كان في البدء عند الله، كل به كون وبغيره لم يكون شيء مما كون"4. فجعل المسيح هو الكلمة، وجعل الكلمة هي الله، فالمسيح هو الله، تعالى الله عن قولهم. وفيه أيضًا أن المسيح عليه السلام أبرأ أعمى فرده بصيرًا، وأن اليهود لما سألوه من رد إليك بصرك وأخبرهم بذلك ووعظهم طردوه "وسمع يسوع أنهم طردوه خارجًا فلقيه وقال له: أتؤمن أنت بابن الله؛ فأجاب. وقال: ومن هو يا سيد لأومن به؛ فقال له يسوع قد رأيته وهو الذي يكلمك؛ فقال له: قد آمنت يا رب وسجد له"5. على أن في هذا الإنجيل وغيره من الأناجيل من التناقضات في هذا الباب   1 سورة المائدة آية 72. 2 نفس السورة آية 73. 3 سورة التوبة آية 30. 4 إنجيل ويحنا، الإصحاح الأول فقرة 1- 4. 5 إنجيل ويحنا، الإصحاح التاسع. فقرة 35- 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الكثير، بل فيه ما يدل على بشرية المسيح وعبوديته، وأنه نبي وليس بإله، وليس من غرضنا هنا ذكر ذلك؛ وإنما القصد الإشارة إلى قولهم بألوهية المسيح وبنوته لله عز وجل. الأمر الثالث: خذلانهم لنبيهم وعدم نصرته: إن من الواجب على أتباع الرسل وخاصة أصحابهم وحوارييهم، أن ينصروهم ويعزروهم، ويفدوهم بأنسهم وأموالهم، كما تقدم ذكر أخذ الله ميثاق بني إسرائيل على نصر الرسل ومؤازرتهم. ولكن قوم عيسى عليه السلام، وتلاميذه خذلوه ولم ينصروه عندما أراد أعداؤه من اليهود أخذه وقتله، بل أسلمه بعضهم ودل عدوه عليه لولا أن الله رفعه وألقى شبهة على بعض تلاميذه. ويسجل عليهم إنجيل "متى" هذا الموقف المشين فيقول في ذلك: "حينئذ مضى أحد الاثني عشر الذي يقال له يهوذا الأسخريوطي إلى رؤساء الكهنة، وقال لهم: ماذا تريدون أن تعطوني فأسلمه إليكم؟ فجعوا له ثلاثين من القصة، ومن ذلك الوقت يطلب الفرصة ليسلمه. وفيما هو يتكلم -أي: المسيح- إذ جاء يهوذا أحد الاثني عشر ومعه جمع كثير بسيوف وعصى من قبل رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب، والذي أسلمه أعطاهم علامة قائلًا الذي أقبله هو هو فأمسكوه وللوقت دنا إلى يسوع، وقال له: السلام يا معلم وقبله؛ فقال له يسوع: يا صاحب لأي شيء جئت، حينئذ جاءوا وألقوا أيديهم على يسوع وأمسكوه. حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا"1. فانظر كيف تآمر عليه تلميذ وصاحب من أصحابه، وباعه لأعدائه بثمن بخس دراهم معدودة، ثم كيف هرب باقي تلاميذه وتركوه، نعم حاول بعضهم الدفاع عنه لكنهم في النهاية أسلموه لعدوه؛ على أنا لا نسلم لهم أن دعوه تمكن منه وما صلبوه وما قتلوه يقينًا ولكن شبه لهم. لكن الشاهد من هذا النص من الإنجيل أن النصارى يثبتون أن تلاميذ المسيح وأصحابه أسلموا لليهود وخلوا بينهم وبينه وقبض بعضهم ثمنًا لذلك. وهذا غاية الخذلان.   1 متى، الإصحاح السادس والعشرون فقرة 14- 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ثالثًا: موقف المسلمين من أنبياء الله ورسله ينبع موقف المسلمين في هذا الباب من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فهما سداه ولحمته، منهما تستقي هذه الأمة مواقفها واعتقادها وسائر أمور دينها، وعنهما تصدر. لذلك جاء موقفها من أنبياء الله ورسله موقفًا معتدلًا وسطًا، لا غلو فيه ولا إفراط، ولا تفريط أو تقصير فيه، ولم تضل فيه كما ضلت أمم قبلها؛ لأنها لم تقل يه بمجرد الرأي والهوى، ولم تبتدع فيه ما لم يأذن به الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. نوجز هذا الموقف في الأمور التالية: الأمر الأول: أن هذه الأمة آمنت بجميع الأنبياء والمرسلين ولم تفرق بين أحد منهم فتؤمن ببعض وتكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى. ذلك أن الله عز وجل أمرها بذلك في كتابه الكريم بقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 1. قال الإمام ابن كثير في تفسيره هذه الآية: "أرشد الله تعالى عباده المؤمنين   1 سورة البقرة آية 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلًا، وبما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملًا، ونص على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء، وأن لا يفرقوا بين أحد منهم؛ بل يؤمنوا بهم كلهم"1. وقال قتادة: "أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا ويصدقوا بأنبيائه ورسله كلهم ولا يفرقوا بين أحد منهم"2. وعد الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان بالرسل أحد أركان ايمان الستة التي لا يكون المرء مؤمنًا إلا إذا استكملها؛ فقال صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور: "الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"3. فاستجابت هذه الأمة لأمر الله ورسوله وآمنت برسل الله جميعًا، وشهد الله لها بهذا الإيمان في محكم كتابه فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} 4. وبلغ من عمق إيمانها برسل الله وتصديقها لهم، أنها تشهد لهم على أممهم بالبلاغ، كما تقدم5 في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم؛ فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، يقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ،   1 تفسير القرآن العظيم 1/ 271. 2 أخرجه ابن جرير في التفسير 3/ 111. 3 م: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام 1/ 36- 37، ح1. 4 سورة البقرة آية 285. 5 انظر: ص 175- 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ويكون الرسول عليهم شهيدًا؛ فذلك قوله جل ذكره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 1 " 2. الأمر الثاني: أنها لم تنقص أحدًا منهم، كما فعل غيرها من الأمم؛ بل وقرتهم وعزرتهم ونصرتهم، ونفت عنهم كل ما يقدح في أشخاصهم أو نبوتهم ورسالتهم، وأثبت عصمتهم، من الكفر، وارتكاب الكبائر قبل الرسالة وبعدها، وفي الصغائر خلاف والجمهور على عصمتهم من تعمدها3. لأنهم صفوة الله من خلقه، كما أخبر الله في غير ما آية من كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} 4. وقال عن موسى عليه السلام: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 5. وقال عن عدد من رسله: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَار} 6. وقال عن جميع رسله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاس} 7. فهذه الأمة تؤمن وتعتقد أن رسل الله وأنبياءه أفضل الخلق وأطهرهم   1 سورة البقرة آية 143. 2 تقدم تخريجه. انظر: ص 175 هامش "1". 3 راجع: السفاريني، لوامع الأنور 2/ 303- 305، وفخر الدين محمد بن عمر الرازي، عصمة الأنبياء 26 وما بعدها. 4 سورة آل عمران آية 33. 5 سورة طه آية 39. 6 سورة ص آية 47. 7 سورة الحج آية 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وأزكاهم، وأنهم منزهون عن الدنايا مبرؤون من كل سوء، صادقون في أقوالهم، قدوة وأسوة في أفعالهم وأعمالهم، لا يأتون منكرًا ولا يقولون زورًا، ولا يستحقون ذمًا ولا يستوجبون عقابًا، أمرنا الله بالاقتداء، بهم واتباع هديهم فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 1. وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 2. وترى محبتهم واجبة، ونصرتهم لازمة؛ لذلك كان نبيها ورسولها محمد صلى الله عليه وسلم، أحب إليها من النفس والمال، والولد والوالد، كما جاء في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" 3. وفي حديث عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده؛ حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر" 4. ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفدون النبي صلى الله عليه وسلم بأموالهم وأنفسهم، فكان منهم من يقيه بجسده وقع السهام والنبال كما صنع أبو دجانة5   1 سورة الأنعام آية 89- 90. 2 سورة الأحزاب آية 21. 3 خ: الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان 1/ 58، ح 15. 4 خ: الإيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم 11/ 523، ح 6632. 5 أبو دجانة هو: سماك بن خرشه، وقيل: ابن أوس بن خرشه، متفق على شهوده بدرًا، وكان ممن ذب عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى كثرت جراحه، استشهد باليمامة. انظر: ابن حجر، الإصابة 4/ 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 رضي الله عنه في غزوة أحد1. ولم يخذلوه قط أو يتخلفوا عن نصره والقتال بين يديه، حتى قال قائلهم يوم بدر وهو المقداد بن عمرو2: "يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك؛ والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} 3، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فهو الذي بعثك بالحق؛ لو سرت بنا إلى برك الغماد4 لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه"5. يروي الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا الموقف العظيم من المقداد رضي الله عنه مشيدًا به متمنيًا أن يكون هو صاحبه؛ فيقول: "شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا؛ لأن ِأكون صاحبه أحب إلي مما عدل به6: أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال قوم   1 انظر: ابن هشام، السيرة 2/ 82، "ط. الثانية 1375 هـ، بتحقيق مصطفى السقا وزملائه. 2 هو المقداد بن عمرو الكندي، شهد بدرًا والمشاهد بعدها، وكان فارسًا يوم بدر مات سنة ثلاث وثلاثين في خلافة عثمان رضي الله عنه، قيل: وهو ابن سبعين. ابن حجر، الإصابة 3/ 454. 3 سورة المائدة آية 24. 4 برك الغماد "بكسر الغين المعجمة": وهو موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر، وقيل: بلد باليمن، موضع في أقاصي أرض هجر، وقيل: أقصى حجر باليمن. الحموي، معجم البلدان 1/ 399- 400 "ط. دار صادر 1404 هـ". وقد جاء في بعض الروايات: "لئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسير معك". انظر: ابن حجر، الفتح 7/ 288. 5 ابن هشام، السيرة 1/ 615. 6 عدل به "بضم المهملة وكسر الدال"؛ أي: وزن؛ أي: من كل شيء يقابل ذلك من الدنيويات، وقيل: من الثواب. قال ابن حجر: والمراد المبالغة في عظمة ذلك المشهد. انظر: فتح الباري 1/ 287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 موسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} ؛ ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره؛ يعني: قوله"1. وقال سعد بن معاذ2 رضي الله عنه في هذا المقام: "فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك؛ فوالذي بعثك بالحق؛ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سعد ونشطه ذلك"3. فتأمل موقف هذه الأمة من نبيها، وانظر أي بون بينه وبين موقف قوم موسى عليه السلام في قولهم: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، أو موقف النصارى الذين أسلموا نبيهم لأعدائهم ليقتلوا ويصلبوه بزعمهم، وتآمر بعض تلاميذه وحوارييه عليه، كما تقدم إيضاح ذلك في مواقف القوم من أنبيائهم. الأمر الثالث: أنهم لم يغلو فيهم أو يفرطوا في مدحهم بالباطل؛ وإنما قدروهم حق قدره، وعزروهم ونصروهم، وأحبوهم، وعظموهم وأجلوهم غاية التعظيم والإجلال، ولم يفرطوا في مدحهم ولم يبالغوا في إطرائهم والثناء عليهم ولم يجاوزوا الحد في ذلك، ولم ينزلوهم فوق المنزلة التي أنزلهم الله إياها. ولم يرفعوهم فوق المقام الذي لهم؛ فلم يجاوزوا بهم منزلة الرسالة والنبوة، ومقام   1 خ: كتاب المغازي، باب قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} 7/ 287، ح 3952. 2 وهو: سعد بن معاذ بن النعمان سيد الأوس، شهد بدرًا، ورمى بسهم يوم الخندق فعاش بعد ذلك شهرًا حتى حكم في بني قريظة. ثم انتقض جرحه؛ فمات وذلك سنة خمس. انظر: ابن حجر، الإصابة 2/ 37. 3 ابن هشام، سيرة 1/ 615. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 العبودية لله، وهما المقام والمنزلة التي أنزلهم الله إياها وأقامهم فيها وخاطبهم وذكرهم بها، في كتابه العزيز فقال عن نوح عليه السلام: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} 1، وقال عن داود عليه السلام: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} 2، وقال عن سليمان عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب} 3، وقال عن أيوب عليه السلام: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} 4، وقال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَار} 5، ثم قال عن عيسى عليه السلام: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 6، وقال عن خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} 7، وقال {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} 8. فمقام الرسالة والعبودية هو المقام الذي شرف الله به عباده المرسلين ومن عليهم به، وهم صلوات الله وسلامه عليهم يأبون أن يرفعوا فوق ذلك، وينهون أممهم ويحذرونهم من مجاوزة هذا المقام، ويقول في هذا المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله   1 سورة الإسراء آية 3. 2 سورة ص آية 17. 3 سورة ص آية 30. 4 سورة ص آية 41. 5 سورة ص آية 45. 6 سورة النساء آية 172. 7 سورة الإسراء آية 1. 8 سورة النجم آية 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ورسوله" 1، ويقول: "يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا تسجرينكم الشياطين أنا محمد بن عبد الله، أنا عبد الله ورسوله، وما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله" 2. فالأنبياء والمرسلون بشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويتزوجون النساء، ولكثير منهم بنون، وحفدة، وليسوا بآلهة ولا أبناء إله، كما ضل النصارى في عيسى عليه السلام. يقول الحق تبارك وتعالى مقررًا هذه الحقيقة: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 3، {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 4، {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} 5، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} 6، {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} 7. وبعد: فهذه منزلة الرسل والأنبياء عند هذه الأمة، لاإفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير؛ فهم عندها عبيد لا يعبدون، ورسل لا يكذبون، بل يطاعون ويتبعون.   1 خ: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} 6/ 478، ح 3245. 2 النسائي: عمل اليوم والليلة ص 249، ح 248 "بتحقيق د. فاروق حماده، ط. الثانية 1406،نشر: مؤسسة الرسالة". 3 سورة الكهف آية 110. 4 سورة إبراهيم آية 11. 5 سورة الإسراء آية 93. 6 سورة الرعد آية 38. 7 سورة الفرقان آية 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الباب الثاني: وسطية أهل السنة بين الفرق بين يدي هذا الباب مدخل ... الباب الثاني: وسطية أهل السنة بين الفرق بين يدي هذا الباب: تكلمنا في الباب الأول عن وسطية هذه الأمة بين الأمة، وبينا هناك أن أهل السنة والجماعة هم أول الناس دخولًا في هذه الوسطية، وأن كل معنى من معاني الوسطية ثبت لهذه الأمة؛ فلأهل السنة منه الحظ الأوفر، وما ذاك إلا لأنهم النموذج الأمثل للأمة التي جعلها الله أمة وسطًا، وأخبر أنها خير أمة أخرجت للناس؛ إذ هم الطائفة الوحيدة التي حققت المتابعة المحضة لكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بخلاف غيرهم من فرق وطوائف الأمة، فإنه ما من فرقة ولا طائفة منها إلا ولها من الأقوال والاعتقادات ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. لذلك كان أهل السنة خير فرق هذه الأمة وأوسط طوائفها، لتمسكهم بالسنة وحرصهم على متابعتها، والذب عنها؛ فهم الطائفة المنصورة، وهم الفرقة الناجية كما تقدم لنا بيان ذلك في أول هذه الرسالة. فهم كما قال شيخ الإسلام: "وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل"1. "والسنة- التي هم أهلها وأخص الناس بها- أعز في الإسلام، من الإسلام في سائر الأديان". كما قال الإمام أبو بكر بن عياش رحمه الله   1 انظر: الوصية الكبرى 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 عليه1. وفي هذا الباب سنعرض لبيان وسطية أهل السنة بين فرق هذه الأمة، وقد جعلت الكلام على ذلك في خمسة، فصول، مصدرة بتهميد في بيان افتراق الأمة وأسباب ذلك. الفصل الأول: في بيان وسطيتهم في باب الأسماء والصفات. الفصل الثاني: في بيان وسطيتهم في باب الأسماء والأحكام والوعيد. والفصل الثالث: في بيان وسطيتهم في باب القدر. والفصل الرابع: في بيان وسطيتهم في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والفصل الخامس: في بيان وسطيتهم في باب تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحين من أمته.   1 اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 66. وانظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 8/ 495- 508. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 تمهيد: في بيان افتراق الأمة وأسباب ذلك أولًا: افتراق هذه الأمة أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيقع في أمته ما وقع في بني إسرائيل من التفرق والاختلاف؛ فقال: "افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"1. وفي بعض الروايات: "كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة"2. وفي بعضها: "كلها في النار إلا واحدة". قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي"3. ولم يقع في حياته صلى الله عليه وسلم بين الأمة فرقة أو اختلاف؛ لأنه بين أظهرهم والوحي يتنزل عليه، فلا مجال لفرقة، ولا مرتع لبدعة. ولما لحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، عاش الناس بعده في كنف الخلافة الراشدة المهدية، لم يظهر بينهم خلاف في أصول دينهم أو افتراق بسبب ذلك. فكان الناس على اجتماع وائتلاف خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وطرفًا من خلافة علي رضي الله عنه، ثم في منتصف خلافته رضي الله عنه اشرأبت أعناق البدع، ونبتت ثوابت الفرقة والاختلاف في أصول الدين وأمور الإيمان ثم تتابع ظهور البدع والفرق مصداقًا لخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم. وقد تكلم أرباب الفرق والمقالات على تحصيل عدد هذه الفرق   1 أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 128، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 2 جه: كتاب الفتن 2/ 1322، ح 3993. 3 تقد تخريجها، انظر: ص 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ومقالاتها، وجهد بعضهم في أن يبلغ بها العدد المذكور في الحديث، وصنفوا في ذلك المصنفات1. وسلكوا في ذلك مسالك شتى. والذي يعنينا هنا هو الكلام على أمهات الفرق التي فارقت أهل السنة، وخالفتهم في شيء من أصول الدين والإيمان. وسنذكر هنا: أشهر من عرف بذلك من الفرق مع نبذة عن نشأة كل فرقة، وأهم ما فارقت به أهل السنة، وخالفتهم فيه من الأصول. فمن تلك الفرق: 1- الخوارج: وهي أول فرقة، أظهرت الخلاف وفارقت جماعة المسلمين. * وجه التسمية: سموا بذلك؛ لخروجهم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ولقولهم بالخروج على الأئمة2. * تاريخ النشأة 3: برزت هذه الفرقة أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبالتحديد سنة 37 هـ بعد معركة "صفين" وقبول علي رضي الله عنه تحكيم الحكمين؛ حيث كرهوا ذلك منه ونقموا عليه بسببه وقالوا: لا حكم إلا لله، مع أنهم هم الذين أكرهوه على قبوله في أول الأمر، فانحازوا إلى بلدة   1 من ذلك: المقالات، لأبي الحسن الأشعري، والفرق بين الفرق للبغدادي، والملل والنحل للشهرستاني، والفصل في الملل والأهواء لابن حزم، والتبصير في الدين للإسفرائيني، والبرهان للسكسي. وغير ذلك. 2 انظر: الشهرستاني، الملل والنحل 1/ 114. 3 انظر: نفس المصدر 1/ 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 "حروراء"1 وأعلنوا البراءة من علي والحكمين ومن رضي بالتحكيم، بل وكفروهم بسبب ذلك. * أهم آرائهم الاعتقادية: تتلخص المبادئ التي يرتكز عليها الخوارج في ثلاثة أمور رئيسية، بها حادوا عن سواء الصراط، فضلوا وأضلوا: الأمر الأول: تكفير علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، والحكمين رضي الله عنهم. الأمر الثاني: القول بالخروج على الإمام الجائر. الأمر الثالث: قولهم بتكفير مرتكب الكبيرة وتخليده في النار. هذه المبادئ الثلاثة هي جوهر اعتقاد الخوارج، وليس بينهم في ذلك خلاف؛ إلا خلافًا لبعضهم في تطبيق هذه المبادئ. يقول الإمام ابو الحسن الأشعري في حكاية ما أجمع عليه الخوارج من الآراء: "أجمعت الخوارج على إكفار علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن حكم وهم مختلفون هل كفره شرك أم لا؟ وأجمعوا على: أن كل كبيرة كفر؛ إلا النجدات2 فإنها لا تقول ذلك. وأجمعوا على: أن الله سبحانه يعذب أصحاب الكبائر عذابًا دائمًا؛ إلا   1 حروراء: قرية بظاهر الكوفة نزل بها الخوارج الذين خالفوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: الحموي، معجم البلدان 2/ 245. 2 النجدات: أتباع نجدة بن عامر الحنفي المقتول سنة 69 هـ فرقة من فرق الخوارج. قالوا: من نظر نظرة صغيرة، أو كذب كذبة صغيرة وأصر عليها؛ فهو مشرك، ومن زنى وسرق وشرب الخمر غير مصر عليه؛ فهو مسلم إذا كان من موافقيهم. وأكفروا من خالفهم وقعد عن نصرتهم انظر: البغدادي، الفرق بين الفرق 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 النجدات أصحاب نجدة"1. وقال المقدسي في ذلك: "وأصل مذهبهم: إكفار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والتبرؤ من عثمان بن عفان، والتكفير بالذنب، والخروج على الإمام الجائر"2. 2- الشيعة: * وجه التسمية: يقول الأشعري في بيان وجه ذلك: "وإنما قيل لهم الشيعة؛ لأنهم شايعوا عليًا رضوان الله عليه، ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"3. فكل من قال إن عليًا رضي الله عنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحقهم بالإمامة وولده من بعده فهو شيعي4. * تاريخ النشأة: ظهر التشيع في زمن خلافة علي رضي الله عنه على الصحيح، ولا عبرة ما يدعيه الشيعة من بدء ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلك حيث نص بعضهم على أن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام هو نفس صاحب الشريعة5. وكان التشيع في أوله؛ يعني: تقديم علي رضي الله عنه على عثمان في الفضل.   1 المقالات 1/ 167- 168. 2 البدء والتاريخ 5/ 135. 3 المقالات 1/، وسيأتي كلام شيخ الإسلام في أن التشيع في أوله لم يكن كذلك. 4 ابن حزم، الفصل 2/ 113 بتصرف. 5 محمد الحسين آل كاشف الغطاء: أصل الشيعة وأصولها ص87 "ط. العاشرة، نشر: مكتبة العرفان بيروت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 إذ كان بعض الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يرى تقديم علي بن أبي طالب على عثمان بن عفان رضي الله عنهما في الفضل، ولم يقدموه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ بل كان الجميع بما فيهم على مجمعين على تقديم الشيخين في الخلافة والفضل، فقد "تواتر عن علي رضي الله عنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر"1 وهذا متفق عليه بين قدماء الشيعة، وكلهم كانوا يفضلون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؛ وإنما كان النزاع في علي وعثمان رضي الله عنهما حين صار لهذه شيعة، ولهذا شيعة، وأما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فلم يكن أحد يتشيع لهما بل جميع الأمة كانت متفقة عليهما حتى الخوارج؛ فإنهم يتولونهما ويترؤون من علي وعثمان رضي الله عنهما"2. ثم تغلظ التشيع على يد عبد الله بن سبأ، وهو يهودي أدى الإسلام وزعم محبة آل البيت وموالاتهم، وقال بالوصية لعلي بالخلافة، وله فيه غلو هو كفر3. ثم انقسم الشيعة إلى: غالية تؤله عليًا رضي الله عنه، ورافضة إمامية وزيدية كما سيأتي في المبحث الرابع. * أهم آرائهم وأقوالهم التي فارقوا بها أهل السنة: يجمع الشيعة الرافضة: 1- القول بوجوب إمامة علي رضي الله عنه، وتقديمه وتفضيله على سائر الصحابة وأن الرسول نص على إمامته. 2- القول بعصمة الأنبياء والأئمة وجوبًا عن الكبائر والصغائر.   1 انظر: خ: كتاب فضائل الصحابة، باب لو كنت متخذًا خليلًا 7/ 20، ح 3671. 2 ابن تيمية، النبوات 196 1970، "ط. 2503، نشر: دار الكتب العلمية -بيروت". 3 انظر: مقالته وطائفته لدى البغدادي، الفرق بين الفرق 233 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 3- القول بالتولي والتبري قولًا وفعلًا؛ أي: تولي علي رضي الله عنه والتبري من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سيما الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم1. 3- المرجئة: * وجه التسمية: نسبة إلى الإرجاء، وهو تأخير العمل عن الإيمان2. والإرجاء على معنيين: أحدهما: بمعنى التأخير كما في قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} 3؛ أي: أمهله وأخره. والثاني: إعطاء الرجاء4. وهم أصناف أهمها: المرجئة الخالصة: وهم الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ومن هؤلاء جه وأصحابه. وسيأتي ذكر أقسامهم في الفصل الثاني بإذن الله. * نشأتهم: أول من تكلم في الإرجاء الذي هو تأخير الأعماء عن الإيمان غيلان   1 انظر: الشهرستاني 1/ 146. 2 البغدادي، الفرق بين الفرق 202. 3 سورة الأعراف آية 111. 4 الشهرستاني، الملل والنحل 1/ 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الدمشقي1 "ت بعد 105 هـ"، كما يقول الشهرستاني2. وروى الخلال في "السنة" عن الإمام أحمد سئل "أول من تكلم في القدر من هو؟ قال: يقولون أول من تكلم فيه ذر3، 4. أما الإرجاء المنسوب إلى "أبي محمد الحسن بن محمد المعروف بابن الحنية"؛ فليس هو الإرجاء في الإيمان؛ وإنما هو إرجاء أمر المتقاتلين من الصحابة إلى الله عز وجل5. * أهم أقوالهم التي فارقوا بها أهل السنة: - قولهم بتأخير الأعمال عن مسمى الإيمان. - وقول الخالصة منهم: أنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.   1 وهو: غيلان بن مسلم أبو مروان الدمشقي القدري، أخذ القول بالقدر عن معبد الجهني، قال ابن قتيبة: كان قبطيًا قدريًا، أخذه هشام بن عبد الملك. المعارف 484، وقال الذهبي: ضال مسكين. انظر: ميزان الاعتدال 3/ 338. 2 انظر: الملل والنحل 1/ 139. 3 وهو: ذر بن عبد الله بن زرارة المرهبي. قال أحمد: لا بأس به وهو أول من تكلم في الإرجاء، وقال غير واحد، أنه كان مرجئًا، وهجره إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير لذلك. وقد شهد مع ابن الأشعث قتال الحجاج سنة 80 هـ. انظر: ابن حجر، التهذيب 3/ 218. 4 انظر: السنة ص 652، رسالة دكتوراة "بتحقيق عطية عتيق الزهراني". وقال محققه: إسناده صحيح. 5 انظر: محمد بن يحيى العدني، كتاب الإيمان ص148، "بتحقيق حمد بن حميد الجابري، ط. الأولى 1407، نشر: الدار السلفية". وانظر أيضًا: ابن حجر، تهذيب التهذيب 2/ 321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 4- الجهمية: وهم أصحاب جهم بن صفوان1 "ت 128 هـ" وسموا بذلك نسبة إليه. أهم مقالتهم التي فارقوا بها أهل السنة وجماعة المسلمين: 1- نفي أسماء الله وصفاته. 2- القول بخلق القرآن. 3- القول بالجبر: وهو أن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة؛ وإنما هو مجبور على أفعاله2. 4- القول بالإرجاء وأن الإيمان هو المعرفة3. 5 القول بفناء الجنة والنار4. 5 المعتزلة: * وجه التسمية: سموا بذلك؛ لاعتزال مؤسس نحلتهم واصل بن عطاء "80- 131" مجلس الحسن البصري "ت 110" بعد مخالفته له في مرتكب الكبيرة؛ حيث قال واصل أنه في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، ثم تنحى عن مجلس الحسن واعتزل جانبًا يقرر رأيه هذا5 فقيل له ولأتباعه من يومئذ المعتزلة.   1 وهو: جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع، رأس الجهمية، قال الذهبي: هلك في زمان التابعين، وما علمته روى شيئًا لكنه زرع شرًا عظيمًا. ميزان الاعتدال 1/ 426. قتل سنة 128. انظر: ابن كثير، البداية والنهاية 10/ 27. 2 الشهرستاني، الملل والنحل 1/ 86. 3 المصدر السابق 1/ 88. 4 انظر: البغدادي، الفرق بين الفرق 211، والإسفرائيني، التبصير في الدين 108. 5 انظر: الشهرستاني 1/ 48، وزهدي جار الله، المعتزلة ص 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 * أهم أقوالهم التي خالفوا فيها أهل السنة: 1- نفي الصفات الإلهية. 2- القول بخلق القرآن. 3- قولهم أن العبد خالق لأفعاله خيره وشرها، وأن الله لا يخلق أفعال العباد، وأن أفعالهم تقع منهم بغير إرادة الله ومشيئته. 4- القول: بأن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، وأنه في منزلة بين ذلك، وأنه لا بد أن يدخل النار ويخلد فيها1. 5- قولهم باستحقاق العبد الثواب على الله إذا خرج من الدنيا طائعًا على سبيل الإيجاب والمعارضة2. ولهم أقوال أخرى، وما ذكرت هو أعظمها. 6- طائفة الأشعرية، أو الأشاعرة: وهي أكبر طوائف المسلمين، وأوسعها انتشارًا. * وجه التسمية: سمو بذلك؛ نسبة إلى مؤسس النحلة، وهو الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الإشعري "260- 324 هـ" الذي كان في أول أمره معتزليًا، ثم ترك الاعتزال لما تبين له خطله، وسلك طريقه ابن كلاب3، فأثبت بعض الصفات وأول البعض الآخر، ثم هداه الله إلى مذهب أهل السنة في آخر حياته، فصنف   1 راجع البغدادي، الفرق بين الفرق 114- 115، والشهرستاني، الملل والنحل 1/ 44-54. 2 الشهرستاني 1/ 45. 3 تقدمت ترجمته ص 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الإبانة والمقالات، وذكر فيهما متابعته لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل، وقوله بكل ما قالهِ1. ذكر هذه الأطوال الثلاثة لأبي الحسن الإمام ابن كثير رحمه الله فقال: "ذكروا للشيخ أبي الحسن الأشعري ثلاثة أحوال: أولاها: حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة الحال الثاني: إثبات الصفات السبع وهي: الحياة، والعلم، والقدرة والإرادة، والسمع والبصر، والكلام، وتأويل الخبرية؛ كالوجه واليدين والقدم والساق. والحال الثالث: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جريًا على منوال السلف وهي طريقته في الإبانة التي صنفها آخرًا"2. والمنتسبون إليه هم على مذهبه الكلابي الذي رجع عنه إلى مذهب السلف. * أشهر أقوالهم التي خالفوا فيها أهل السنة: 1- نفي وتأويل بعض الصفات الخبرية؛ كالوجه واليدين والساق ونحو ذلك، وتأويل الصفات الاختيارية كالاستواء، والنزول، والغضب والرحمة. 2- القول: بأن كلام الله كلام نفسي بلا حرف ولا صوت. 3- قولهم: بأن الإيمان هو التصديق وأن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان. 4- قولهم: بالكسب الذي يؤول إلى الجبر. وسيأتي لذلك زيادة إيضاح في الفصول الآتية.   1 انظر: الإبانة ص20. 2 انظر: ابن كثير، طبقات الفقهاء من الشافعية، الطبقة الثالثة من أصحاب الشافعي ق 26/ ب. مخطوط مصور بمكتبة الشيخ حماد الأنصاري متع الله بحياته، وعن رجوع أبي الحسن الأشعري راجع رسالة "أبو الحسن الأشعري"، لشيخنا حماد بن محمد الأنصاري حفظه الله فقد اوضح فيها الحق الذي تنشد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ثانيًا: أسباب افتراقها يمكن تقسيم الأسباب الرئيسية التي أدت إلى هذا الافتراق إلى قسمين: أسباب داخلية: أسباب ومؤثرات جنبية خارجية: أ- فأما الأسباب الداخلية فمن أهمها: 1- اتباع الهوى: فإنه أصل الزيغ ومفارقة الحق1. 2- الجهل: وهو من أعظم الأسباب المؤدية إلى الابتداء والتفرق والاختلاف. 3- الغلو والإفراط: وهو من الأسباب الهامة والعوامل المؤثرة في تكون الفرق واختلافها، ومن شواهد ذلك غلو الشيعة في علي رضي الله عنه، وأئمتهم وقولهم بعصمتهم. ثم غلو الخوارج والمعتزلة في آيات الوعيد، وغلو الجبرية في إثبات القدر. 4- فتح باب تأويل النصوص الشرعية بدون دليل، وهو من أعظم عوامل تفرق الأمم وابتداعها، يقول الإمام ابن القيم: "وبالجملة فافتراق أهل الكتاب وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة؛ إنما أوجبه التأويل، وإنما أريقت   1 انظر: الشيخ عبد الله الغنيمان. أسباب ظهور الفرق الإسلامية، مقال منشور في مجلة كلية أصول الدين بجامعة الإمام عدد 2 سنة 1399- 1400 هـ ص 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 دماء المسلمين يوم الجمل وصفين بالتأويل"1. 5- تحكيم العقل في النقل وتقدميه عليه، واعتبار العقل هو الأصل والأساس فيما يقبل ويرد، وفيما يصح أو لا يصح، ويجوز على الله أو لا يجوز. كما يقول المعتزلة. يقول القاضي عبد الجبار وهو يترتب أنواع الأدلة: "فاعلم أن الدلالة أربعة: حجة العقل، والكتاب، والسنة، والإجماع، ومعرفة الله لا تنال إلا بالعقل"2. ب- الأسباب والمؤثرات الأجنبية: ويمكن تلخيص هذه الأسباب والمؤثرات في العناصر الآتية: 1- احتكاك المسلمين بالأمم المجاورة والتأثر بثقافاتها وأفكارها الدينية، ولا سيما بعد المد الإسلامي واتساع الفتوح وسياحة المسلمين في البلدان المفتوحة. 2- دخول كثير من أصحاب الأديان الأخرى في الإسلام، ولم يتخلصوا من أفكارهم ومعتقداتهم السابقة، فأثروا الشبهات في الإسلام. 3- ترجمة كتب الفلسفة والمنطق، وتشجيع دراستها والتعمق فيها. 4- دخول بعض المغرضين من اليهود والمجوس في الإسلام بقصد الدرس والكيد للإسلام والمسلمين، ومن هؤلاء عبد الله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر بالإسلام، وفرق الأمة بما بثه من أفكار الغلو في علي رضي الله عنه وأحقيته بالخلافة. ومما يدل على مبغل أثر المؤثرات والأسباب الأجنبية في تفرق المسلمين ومدى مسؤوليتها عن ذلك. أنك إذا رجعت إلى أصول كثير من الفرق والبدع   1 انظر: إعلام الموقعين 4/ 317. 2 انظر: شرح الأصول الخمسة 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 تجدها أصولًا خارجية. فاصل مقالة التعطيل والقول بخلق القرآن مثلًا: يهودي، إذا يرجع إلى لبيد بن الأعصم اليهودي، كما ذكر ابن الأثير في سياقه سلسلة التعطيل؛ حيث قال: "وأخذ الجهم من الجعد بن درهم، وأخذه الجعد بن أبان بن سمعان، وأخذه أبان بن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وختنه، وأخذه طالوت من لبدي بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم وكان لبيد يقول بخلق التوراة، وأول من صنف في ذلك طالوت وكان زنديقًا فأفشى الزندقة"1. وأصل القول في القدر يرجع إلى رجل نصراني، أخرج الآجرى، واللالكائي، وغيرهما عن الإمام الأوزاعي رحمه الله أنه قال: "أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن، كان نصرانيًا فأسلم، ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد"2. واصل التشيع والرفض يرجع إلى يهودي هو: عبد الله بن سبأ كما تقدم. وهكذا نجد العوامل والمؤثرات الخارجية ذات تأثير مباشر في نشأة الفرق وتكونها ووقوع الخلاف.   1 انظر: الكامل 5/ 294. وانظر أيضًا: ابن كثير، البداية والنهاية 9/ 364. 2 انظر: الشريعة 243، وشرح أصول أهل السنة 4/ 750، ح 749. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الفصل الأول: في وسطية أهل السنة في باب أسماء الله وصفاته تمهيد : إن التالي لكتاب الله عز وجل، ليجد في كثير من الآيات الكريمات ذكر اسم من أسماء الله تبارك وتعالى، أو صفة من صفاته. وكذلك يجد المطالع للسنة المطهرة عددًا من الأحاديث الشريفة تشتمل على ذكر اسم من أسماء الله الحسنى أو صفة من صفاته العلى. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلون آيات الله عز وجل، ويتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنته المطهرة. ونجزم أنهم كانوا يقرأون القرآن قراءة تدبر، وأنهم كانوا يفهمون معاني ما يتلون ويقرأون؛ لأنهم يتلونه ليعلموا به، فيحلوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويعملوا بمحكمه ويؤمنوا بمتشابهه. وكذلك كان تلقيهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلقى فهم وتدبر؛ لأنهم متعبدون بالعمل بها كما هم متعبدون بالقرآن. وإذا أشكل عليهم شيء مما جاء فيها، أو خفي عليهم معناه، أو عزب أن أذهانهم فهم المراد منه، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فبين لهم ما نزل إليهم، ويوضح ما خفي عليهم. جاء في "الصحيح": "أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنها -كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 لا تسمع شيئًا لا نعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حوسب عذب، قالت عائشة فقلت: أوليس يقول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} 1 قالت: فقال: إنما ذلك الغرض؛ ولكن من نوقش الحساب يهلك"2. ومع ذلك لم يرد قط من طريق صحيح، ولا سقيم، عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم على اختلاف طبقاتهم، وكثرة عددهم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى شيء مما وصف الرب سبحانه به نفسه الكريمة، في القرآن الكريم، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم؛ بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكنوا عن الكلام في الصفات3. وربما اختلفوا رضي الله عنهم في شيء من الأحكام وأمور الحلال والحرام؛ لكنهم لم يختلفوا في أسماء الله وصفاته وإثبات ما ورد منها. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله عليه موضحًا شأنهم في ذلك: "وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيمانًا؛ ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة، كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلًا، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلًا، ولم يبدوا لشيء منها إبطالًا، ولا ضربوا لها أمثالًا، ولم يدفعوا في صدروها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم وقابلوها بالإيمان والتعظيم وجعلوا الأمر فيها كلها أمرًا.   1 سورة الانشقاق آية 8. 2 خ: كتاب العلم، باب من سمع شيئًا فراجع فيه 1/ 196، ح 103. 3 انظر: المقريزي، الخطط 2/ 356. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 واحدًا، وأجروها على سنن واحد"1. مضى عصر الصحابة على ذلك، كلمتهم واحدة، ليس لهم في ذلك قولان، ولا تنازع في هذا الباب منهم اثنان. ثم خلف من بعدهم أخلاف، وبسقت قرون بدع، ونبتت نوابت فرقة واختلاف، فاختلف الناس في هذا الباب بعد ائتلاف؛ فكانوا طوائف ثلاث: الأولى: أهل تعطيل. الثانية: أهل تمثيل. الثالثة: أهل سواء سبيل. فأما أهل التعطيل: فقد قالوا بنفي أسماء الله وصفاته، وبعضهم أثبت الأسماء ونفي الصفات، وأمثلهم أثبت الأسماء وبعض الصفات، ونفي أو أول البعض الآخر، وهم طوائف. بينهم تفاوت. وأما أهل التمثيل: فمالوا إلى ضروب من التمثيل والتشبيه، وهم أيضًا طوائف، ما بين مشبه للمخلوق بالخالق، وآخر مشبه للخالق بالمخلوق. وأما أهل سواء السبيل: فهم الذي سلكوا سبيل ذلك الرعيل الذي عاصر التنزيل؛ أعني: الصحابة الكرام رضوان الله عليهم؛ اقتدوا بهم، واهتدوا بهديهم؛ فكان قولهم كقولهم، وهؤلاء هم أهل السنة وجامعة الذين سلموا من ضلالة النفي والتعطيل، ولم يرتكسوا في حمأة التشبيه والتمثيل، وكانوا بين ذلك على هدي قاصد وصراط مستقيم. وفي هذا الفصل سنعرض بإذن الله لبيان قول كل من الطوائف الثلاثة في هذا الباب من خلال كتبهم ومصنفاتهم ما وجدت إلى ذلك سبيلًا، أو من خلال   1 انظر: إعلام الموقعين 1/ 51- 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ما نقل وأثر من أقوال أئمتهم ورواد نحلتهم، ثم نذيل الفصل بذكر طرف من أقوال أهل العلم التي أشاروا فيها إلى وسطية قول أهل السنة في هذا الباب، ونماذج مختارة من بعض الصفات نبرز من خلالها صور وسطية أهل السنة في ذلك، ندل بها على باقي الصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 المبحث الأول: في بيان قول أهل التعطيل الطائفة الأولى: نفاة الأسماء والصفات ... المبحث الأول: في بيان قول أهل التعطيل وقيل ذكر أقوالهم، لنقف على معنى التعطيل في اللغة، والمراد به عند إطلاقه في هذا الباب. فالتعطيل في اللغة: من عطل، وهو يدل على خلو وفراغ، نقول: عطلت الدار، ودار معطلة، ومتى تركت الإبل بلا راع فقد عطلت، وكذلك البئر ذا لم تورد ولم يستق منها، قال تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} 1، 2؛ أي: لا يستقي منها، ولايردها أحد3. والمراد بالتعطيل: إنكار ونفي ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات أو إنكار بعض ذلك4، وهو يتضمن تعطيل الخالق جل وعلا من بعض أسمائه وصفاته، وتعطيل نصوص الكتاب والسنة عما دلت عليه من المعنى الحق في هذا الباب. وأهل التعطيل كما سبقت الإشارة طوائف، أخذ الخالف منهم بعض ما كان عليه السالف والجميع في ربقة التعطيل مرتبك. الطائفة الأولى: نفاة الأسماء والصفات وهؤلاء هم "الجهمية" وسموا بذلك نسبة إلى "الجهم بن صفوان" السمرقندي الترمذي، مولى بني راسب "ت 128 هـ"5.   1 سورة الحج آية 45. 2 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 4/ 351- 352. 3 انظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 5/ 434. 4 انظر: محمد بن صالح بن عثيمين، فتح رب البرية بتلخيص الحموية 55 ضمن مجموع رسائل في العقتيدة، "ط. الأولى 1404هـ، نشر: دار طيبة - الرياض". 5 انظر ترجمته لدى ابن حجر، لسان الميزان 2/ 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وكان -كما يقول الإمام أحمد بن حنبل "صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله تعالى"1. تلقى عن شيخه "الجعد بن درهم"2 الكلام والقول بإنكار الأسماء والصفات3، ثم أشاعه وأظهر حتى نسب ذلك إليه دونه وكان أول ظهور مذهبه بـ "ترمذ"، وظل يبث آراءه في ذلك حتى قتله سلم بن أحوز المازني بـ "مرو" في آخر ملك بني أمية كما يقول الأشعري4، وذكر الإمام ابن جرير وفاته في سنة مائة وثمان وعشرين5. * ذكر قول جهم وأصحابه في الأسماء والصفات: لم يصل إلينا شيء من كتب الجهمية الأوائل؛ غير أننا نستطيع أن نقف على الكثير من أقوالهم واعتقاداتهم، من خلال ما دونه عنهم بعض الأئمة ومؤلفوا كتب الفرق والمقالات، وما سجله بعض المؤرخين من مقالاتهم في ثنايا تراجمهم وأخبارهم. فما بلغنا من قولهم في ذلك، ما ذكره الإمام أحمد بن حنبل في كتاب: "الرد على الجهمية والزنادقة"؛ حيث قال: "وزعم -أي: جهم- أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه، أو حدث عنه رسوله كان كافرًا، وكان من المشبهة.   1 انظر: الرد على الجهمية والزنادقة 102. 2 قال الذهبي: عداده في التابعين، مبتدع ضال، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا ولم يكلم موسى تكليمًا، فقتل على ذلك بالعراق يوم النحر والقصة مشهورة. اهـ. ميزان الاعتدال 1/ 399. وقصة قتله رواها الإمام البخاري في خلق أفعال العباد ص 7. 3 قال الإمام البخاري: "قال قتيبة: بلغني أن جهمًا كان يأخذ الكلام من الجعد بن درهم". انظر: خلق أفعال العباد ص 7. 4 انظر: المقالات 1/ 3383. 5 انظر: تاريخ الأمم والملوك 7/ 335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وإذا سألهم الناس عن قول الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يقولون: ليس كثله شيء من الأشياء، وهو تحت الأرضين السبع كما هو على العرش، ولا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان ولم يتكلم، ولا يتكلم، ولا ينظر إليه أحد ي الدنيا ولا في الآخرة، ولا يوصف ولا يعرف بصفة"1. ومن ذلك قول الأشعري عن الجهم: "ويحكى عنه أنه كان يقول: لا أقول أن الله سبحانه شيء؛ لأن ذلك تشبيه له بالأشياء"2. ومن ذلك ما نقله الملطي من قولهم: "إن الله لا شيء، ولا يقع عليه صفة شيء .... -قال-: ومنهم صنف زعموا أن الله شيء، وليس كالأشياء، ولا يقع عليه صفة .... ولا سمع ولا بصر، ولا كلام، ولا يتكلم، وأن القرآن مخلوق، وأنه لم يكلم موسى، ولا يكلم قط ... -قال:- ومنهم صنف قالوا: لا نقول: إن الله قوي ولا شديد ولا حي، ولا ميت، ولا يغضب ولا يرضى، ولا يسخط، ولا يحب ولا يعجب، ولا يرحم، ولا يفرح، ولا يسمع، ولا يبصر ولا يقبض، ولا يبسط"3. ذكر عن جهم أنه: أنكر أن يكون الله على العرش، وأنكر الكرسي، وأنكر النزول، والرؤية والوجه, والسمع والبصر، والتكلم واليد وغير ذلك4. ومن ذلك ما ذكره الشهرستاني، قال: "وافق5- أي: جهم- المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم بأشياء:   1 104- 105. 2 انظر: المقالات 1/ 338. 3 انظر: التنبيه والرد 96- 98. 4 راجع التنيه والرد ص 99- 135. 5 الحق أن جهمًا تقدم المعتزلة ي القول في الأسماء والصفات، والمعتزلة هم الذين واقفوه في بعض قوله وأخذوا عنه نفي الصفات. فتنبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 منها: لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقة؛ لأن ذلك يقضي تشبيهًا فنفي كونه حيًا عالمًا، وأثبت كونه قادرًا فاعلًا خالقًا؛ لأنه لا يوصف شيء من خلقه بالقدرة والفعل والخلق"1. ومن ذلك ما ذكره السمعاني في "الأنساب"؛ حيث قال في ترجمة جهم: "والمنكر في عقيدته كثير، وأفظعها كان يزعم أن الله عز وجل لا يوصف بأنه شيء، ولا بأنه حي عالم ولا يوصف بما يجوز إطلاق بعضه على غيره، وزعم أن تسميته شيئًا، وتسمية غيره شيئًا، توجب التشبيه بينه وبين غيره، وكذلك تسميته حيًا وعالمًا، وتسمية غيره بذلك توجب التشبيه بينه وبين من سمى بذلك من المخلوقين. وأطلق عليه اسم القادر؛ لأنه - أي: الجهم- لا يسمى أحدًا من المخلوقين قادرًا من أجل نفيه استطاعة العباد واكتسابهم. قال: وفي هذا القول إبطال أكثر ما ورد به القرآن من أسماء الله تعالى، كالعليم، والحي، والبصير، والسميع، ونحو ذلك؛ لأن كل واحد من هذه الأسماء قد يسمى به غيره فيلزمه أن لا يسمى إلهه إلا باسم ينفرد به كالإله والخالق والرزاق ونحو ذلك، ويرد أسماءه حينئذ إلى عدد قليل"2. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا كان جهم وأمثاله يقولون: إن الله ليس بشيء، وروى أنه قال: لا يسمى باسم يسمى به الخلق؛ فلم يسمه إلا بالخالق القادر؛ لأنه كان جبريًا يرى أن العبد لا قدرة له"3. من هذه النقول يتضح لنا مذهب جهم الذي يدور على:   1 انظر: الملل والنحل 1/ 86.3 2 انظر: الأنساب 2/ 133. 3 انظر: منهاج السنة 2/ 526. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 1- نفي كل اسم أو صفة يجوز أن يسمى أو يتصف بها غير الله. 2- إثبات اسم القادر والخالق؛ لأنه لا قادر ولا خالق غيره ولا يسمى بها أحد من خلقه. 3- إنكار رؤية الله عز وجل في الآخرة. 4- القول بخلق القرآن. 5- أن شبهته الرئيسية التي من أجلها قال بكل ذلك: نفي التشبيه؛ إذ يرى أن تسميته أو صفه بشيء يسمى به أو يوصف به غيره. تشبيه له سبحانه بالمخلوقات؛ فلما قام في قلبه التشبيه نزع إلى النفي والتعطيل.   1 انظر: الرد على الزنادقة 104- 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الطائفة الثانية: من طوائف المعطلة هم مثبتة الأسماء ونفاة الصفات وهؤلاء هم المعتزلة. أحذ المعتزلة عن الجهمية القول بنفي الصفات، والقول بخلق القرآن ونفي رؤية الله عز وجل في الآخرة. وقد أشار الإمام أحمد رحمه الله إلى أن بعض أصحاب "عمرو بن عبيد" أحد رؤوس الآعتزال كما هو معلوم، -وقد تبع جهم بن صفوان على مقالته وأخذ عنه1. وكان بين جهم وواصل بن عطاء2 زعيم المعتزلة الأولى مكاتبات3. وقد أخذ بشر المريسي، المعتزلي مقالة الجهم بن صفوان واحتج لها، وجرد القول   1 انظر: الرد على الزنادقة 104- 105. 2 وهو: واصل بن عطاء، يكنى بأبي حذيفة، ويلقب بالغزال، ولم يكن غزالًا؛ وإنما كان يلازم الغزالين، له مصنفات في الرد على مخالفية، مات سنة 131 وعمره 51 عامًا. انظر: المنية والأمل ص 17 21، وانظر: ميزان الاعتدال 4/ 329. 3 انظر: ابن المرتضى، المنية والأمل ص 21، "نشر: دار صادر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 بخلق القرآن وناظر عليه1. إذًا فهناك اتصال بين أقطاب التجهم وبين رواد الاعتزال، على إثره انتقلت بعض أفكار الجهمية ومذاهبهم إلى المعتزلة الذين تبنوها ودافعوا عنها؛ حتى أصبح يطلق عليهم الجهمية أيضًا لشدة تأثرهم بمقولة جهم وأتباعه؛ ولا سيما في نفي الصفات، والرؤية، والقول بخلق القرآن، قال القاسمي: "إن تلقيبهم -أي: المعتزلة- بالجهمية إنما كان لما وجد من موافقتهم للجهمية في تلك المسائل -أي: نفي الرؤية والصفات- مع مراعاة سبقهم فيها على المعتزلة، وتمهيدهم السبيل للتوسع فيها -قال- فاحفظه"2. وهذه بعض النقول التي استقيناها من كتب القوم، وكتب الفرق والمقالات التي دونت أقوالهم ومذاهبهم، والتي تبين رأيهم ومعتقدهم في باب أسماء الله وصفاته. يقول ابن المرتضى المعتزلي في بيان ما أجمعت عليه المعتزلة: "وأما ما أجمعوا عليه فقد أجمعت المعتزلة على أن للعالم محدثًا، قديمًا، قادرًا، عالمًا، حيًا، لا لمعان، ليس بجسم، ولا عرض، ولا جوهر عينًا واحدًا لا يدرك بحاسة"3. وقوله: "لا لمعان"؛ معناه: أنهم يثبتون كونه عز وجل قادرًاِ، عالمًا، حيًا، أسماء مجردة لا تدل على صفات؛ فهو قادر بدون قدرة، عالم بلا علم حي بلا حياة. يوضح هذا: قول الشهرستاني: "والذي يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد: القول: بأن الله تعالى قديم والقدم أخص وصف ذاته، ونفوا الصفات القديمة أصلًا فقالوا:   1 راجع: ميزان الاعتدال 1/ 322. 2 انظر: تاريخ الجهمية والمعتزلة ص 60. 3 المنية والأمل ص 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 هو عالم بذاته، حي بذاته، لا يعلم وقدرة وحياة. هي صفات قديمة ومعان قائمة به؛ لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص لشاركته في الإلهية. واتفقوا على: أن كلامه محدث في محل. واتفقوا على أن الإرادة، والسمع والبصر ليست معاني قائمة بذاته. واتفقوا على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار"1. وقال السكسكي: "وقد اجتمعت -أي: المعتزلة- على نفي الصفات عن الله عز وجل، وتعالى عن قولهم، كالعلم والقدرة والسمع والبصر"2. وهذا القول مما أسس عليه الكيان المعتزلي؛ فقد "كان شيخهم الأول -واصل ابن عطاء- يشرع فيها على قول ظاهر، وهو الاتفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين، قال: ومن أثبت معنى صفة قديمة فقد أثبت إليهن"3. لذلك كان من أولى قواعد مذهبه: نفي الصفات بناء على رأيه هذا.   1 انظر: الملل والنحل 1/ 44- 45. 2 انظر: البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص 50، "ط. الأولى 1408، نشر: مكتبة المنار - الأردن". 3 انظر: الشهرستاني، الملل والنحل 1/ 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الطائفة الثالثة: من طوائف أهل التعطيل وهم الذين أثبتوا الأسماء وبعض الصفات ونفوا أو أولوا البعض الآخر: ومن هذه الطائفة: الأشاعرة1. فإنهم متفقون على إثبات بعض الصفات التي يسمونها صفات المعاني، وهي القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع والبصر، والكلام2.   1 تقدم التعريف بهم. انظر: ص 297. 2 انظر: محمد بن يوسف السنوسي، أم البارهيم، ضمن مجموع مهمات المتون ص 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 يقول البغدادي: "أجمع أصحابنا على أن قدرة الله عز وجل، وعلمه وحياته وإرادته وسمعه وكلامه، صفات له أزلية"1. واتفقوا على وجوب تأويل بعض الصفات ونفيها عن الله عز وجل؛ وذلك مثل صفة المحبة والرضى وغيرها من الصفات الاختيارية التي تقع بمشيئة الله وإرادته. يبين الباقلاني عقيدتهم في مثل هذه الصفات فيقول: "ونعتقد أن مشيئة الله تعالى ومحبته ورضاه، ورحمته، وكراهيته، وغضبه، وسخطه، وولايته، وعداوته كلها راجع إلى إرادته"2، وقال: "وأنه سبحانه لم يزر مريدًا ومحبًا ومبغضًا وراضيًا، وساخطًا، مواليًا، ومعاديًا, ورحيمًا ورحمانًا، وجيع هذه الصفات راجعة إلى إرادته في عباده ومشيئته، لا إلى غضب بغيره، ورضى يسكنه طبعًا له، وحنق وغيظ يلحقه، وحقد يجده"3. وحقيقة قولهم نفي حقيقة هذه الصفات، وتأويلها بالإرادة. واختلف قولهم في بعض الصفات الذاتية التي تعرف بالصفات الخبرية؛ أي: التي لم تثبت إلا من طريق السمع ولا دخل للعقل في إثباتها، ولولا ورود السمع بها لما علمت؛ وذلك مثل صفة: اليدين، والعينين، والوجه. فبعض متقديمهم يثبت ما ثبت من ذلك، كالباقلاني4. وأولها أكثرهم ولا سيما متأخروهم. الحاصل أن القوم يثبتون بعض الصفات، وينفون ويؤولون البعض الآخر، وهذا تعطيل وإن كان أخف بلا شك من تعطيل الجهمية والمعتزلة.   1 انظر: أصول الدين 90. 2 انظر: الإنصاف ص 26. 3 انظر: الإنصاف 24. 4 نفس المصدر ص 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 المبحث الثاني: في بيان أهل التشبيه والتمثيل ... المبحث الثاني: في بيان قول أهل التشبيه والتمثيل وهم صنفان: كما تقدم. صنف شبهوا المخلوق بالخالق. ومن هذا الصنف؛ السبأية1 من غلاة الروافض: الذين شبهوا عليًا رضي الله عنه بالله، وجعلوه إلهًا وقالوا: أنت الله حتى حرقهم بالنار على ذلك2. وليس من غرضنا هنا الحديث عن هذا الصنف؛ لأنا إنما نريد معرفة قول النصف الثاني: وهم الذين شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا ما ورد من صفات الله جل وعلا مماثلًا ومشابهًا لصفات المخلوقين. وهذا النوع من التشبيه يكثر في الراوفض؛ بل هم أهله. فإن من أشهر من قال بهذا النوع من التشبيه منهم: هشام بن الحكم الرافضي3 الذي شبه معبوده بالإنسان، وزعم أنه سبعة أشبار بشبر نفسه. وأنه جسم طويل عريض وروى عنه أنه كسبيكة الفضة"4.   1 وهم فرقة من غلاة الرافضة، ينسبون إلى عبد الله بن سبأ الذي قال لعلي رضي الله عنه أنت الله، وكان يهوديًا ثم أظهر الإسلام، وكاد للإسلام كيدًا عظيمًا، انظر عن هذه الفرق: الشهرستاني الملل 1/ 174، والبغدادي الفرق بين الفرق 233. 2 انظر: الفرق بين الفرق 225 بتصرف. 3 وهو هشام بن الحكم الشيباني، كان من كبار الرافضة ومشاهيرهم، ومتكلميهم، وكان مجسمًا، مشبهًاِ. قال ابن النديم: مات بعد نكبة البرامكة، وقيل في خلافة المأمون انظر: الفهرست 223- 224، وانظر ترجمته في لسان الميزان لابن حجر 6/ 194. 4 انظر: البغدادي، الفرق بين الفرق 227، والشهرستاني، الملل 1/ 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ومنهم هشام بن سالم الجواليقي1: الذي "زعم أنه معبود على صورة الإنسان، وأن نصفه الأعلى مجوف، ونصفه الأسفل مصمت"2. ومنهم: داود الجواربي3 الذي وصف معبوده بأن له جميع أعضاء الإنسان إلا الفرج واللحية4 وقال: "اعفوني عن الفرج واللحة واسألوني عما وراء ذلك"5. تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا. وممن قال بالتشبيه من غير الرافضة: مقاتل بن سليمان المفسر6 الذي قال فيه الأمم أبو حنيفة: "أتانا من المشرق رأيان خبيثان؛ جهم معطل، ومقاتل مشبه"7. وقال ابن حبان: "كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان يشبه الرب بالمخلوقات وكان يكذب في الحديث"8.   1 ذكره ابن النديم في الفهرست في متكلمي الإمامية ص226، والمقريزي في الخطط. قال: الجولقي 2/ 368. ولم أقف على ترجمة له. 2 البغدادي، الفرق بين الفرق 227. 3 قال الذهبي فيه: داود الجواربي رأس في الرفض والتجسيم. انظر: الميزان 2/ 23. 4 انظر: الفرق بين الفرق 228. 5 انظر: الشهرستاني الملل والنحل 1/ 105. 6 وهو: مقاتل بن سليمان البلخي المفسر أبو الحسن. مات سنة 150 هـ. الذهبي، ميزان الاعتدال 4/ 173- 175. 7 انظر: ابن حجر، لسان الميزان 10/ 281. 8 الذهبي، ميزان الاعتدال 4/ 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 المبحث الثالث: في بيان قول أهل سواء السبيل وهم أهل السنة أما أهل السنة والجماعة فإن من أصولهم التي يدينون بها: إثبات ما ورد في كتاب الله عز وجل، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته لا يفرقون بين أسماء الله وصفاته، ولا بين بعض صفاته وبعض؛ بل قولهم في الجمع واحد، لا ينفون ولا يؤولون شيئًا منها، ولا يكيفيون أو يشبهون شيئًا منها بصفات المخلوقين. يقول الإمام ابن عبد البر في ذلك: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز؛ إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، ولا يجدون فيه صفة محصورة"1. ويقرر شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أهل السنة وقولهم في ذلك بما لا مزيد عليه فيقول: "ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف وتمثيل، يثبتون لله ما أثبته لنفسه من الصفات، وينفون عنه مماثلة المخلوقات، يثبتون له صفات الكمال، وينفون عنه ضروب الأمثال، ينزهون عن النقص والتعطيل، وعن التشبيه والتمثيل إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد على الممثلة، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} رد على المعطلة"2. فمذهبهم إذًا بين التمثيل والتعطيل، دائر على الإثبات والتنزيه. ولهم في ذلك منهج وسط، وقواعد مثلى عليها يدور مذهبهم، وقولهم في   1 انظر: التمهيد 7/ 145. 2 انظر: منهاج السنة 2/ 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وهي قواعد دل عليها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فهي مستوحاة منهما، وكل من ضل في هذا الباب فإنما حصل له ذلك بسبب التفريط والإعراض عن شيء منها. أولى هذه القواعد وأعظمها: أن لا يوصف الله عز وجل إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز القرآن والحديث1. وكان مطرف يقول: الحمد لله الذي من العلم به الجهل بغير ما وصف به نفسه2. وقال سحنون: من العلم بالله السكوت عن غير ما وصف به نفسه3. فمن وصفه بما لم يصف به نفسه، أيو يصفه به رسوله فقد ضل، وقال على الله بلا علم، ومن ذلك صنيع الفلاسفة الذين سموه العقل الفعال، والمعتزلة الذين جعلوا القدم أخص صفاته، وهذا الاسم إلى كونه ليس في كتاب الله فإنه لا يؤدي المعنى الذي أناطوه به. واللفظ الشرعي الوارد في قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ} 4 أدل على المعنى المطلوب وأرضى للرب. ومن لم يصفه بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله؛ فقد ضيع وفرط وضل وعطل الله عز وجل عن أسمائه وصفاته التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة. القاعدة الثانية: القطع بأنه ليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيه لصفاته   1 ذكره ابن تيمية من قول الإمام أحمد: انظر: الفتوى الحموية ص 16. 2 انظر: ابن عبد البر، التمهيد 7/ 146. 3 نفس المصدر والصفحة. 4 سورة الحديد آية 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 بصفات خلقه، كما تقدم قول نعيم بن حماد: "من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد شيئًا مما وصف الله به نفسه كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيه أو تمثيل"1 وبسبب التفريط في هذا الأصل، ضل كل من طائفتي المعطلة، والمشبهة إذا اعتقد الجميع أن فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيهًا؛ فنفي المعطلة وأولوا ما دلت عليه النصوص من الصفات، وقال المشبهة بمماثلتها لصفات المخلوقات. القاعدة الثالثة: قطع الطمع عن إدراك كيفية صفات الله سبحان2، وكل من حاول إدراك ذلك خرج إلى ضرب من التشبيه. القاعدة الرابعة: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، وبسبب الغفلة عن هذا الأصل ضل من أثبت بعض الصفات ونفي البعض الآخر؛ إذ لا فرق بين ما نفاه وما أثبته والقول فيهما واحد3 وكذلك القول في الأسماء. القاعدة الخامسة: والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذى في ذلك حذوه ومثاله. فإذا كان معلومًا أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا   1 تقدم تخريجه ص131. 2 انظر: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص28. نشر الجامعة الإسلامية. 3 راجع: ابن تيمية، التدمرية 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 إثبات كيفية؛ فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف1. القاعدة السادسة: الاعتصام بالألفاظ الشرعية الواردة في هذا الباب نفيًا وإثباتًا، والتوقف في الألفاظ التي لم يرد نص بذكرها نفيًا ولا إثباتًا كلفظ الجسم، والحيز والجهة، والمكان ونحو ذلك، والاستفصال عن مراد من أطلقها؛ فإن كان المعنى الذي أراده صحيحًا قبل وعبر عنه باللفظ الشرعي، وإن كان معنى باطلًا، لم يقبل. يقول شيخ الإسلام في هذا المعنى: "فالواجب أن ينظر في هذا الباب فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي؛ فنثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني وننفي ما نفته النصوص من الألفاظ والمعاني. وأما الألفاظ التي تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين، مثل لفظ "الجسم" و"الجوهر" و"المتحيز" و"الجهة" ونحو ذلك؛ فلا تطلق نفيًا ولا إثباتًا، حي ينظر في مقصود قائلها فإن كان قد أراد بالنفي والإثبات معنى صحيحًا موافقًا لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم صوف المعنى الذي قصده بلفظه؛ ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص، ولا يعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة، إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد بها - قال- والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها، وأما إن أريد بها معنى باطل نفي ذلك المعنى، وإن جمع بين حق وباطل، أثبت الحق وأبطل   1 رسالة للخطيب البغدادي في الكلام على الصفات ص 20، ط. الأولى، بتحقيق: عمرو عبد المنعم، نشر: مكتبة العلم بجدة 1413 هـ. وانظر معنى هذه القاعدة لدى ابن تيمية في التدمرية ص 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الباطل"1. ويعد: فهذه بعض أهم القواعد التي تميز منهج أهل السنة في هذا الباب، وهي تدل على مدى اعتصامهم بالكتاب والسنة، والقول بما دلا عليه. بالسير عليها جاء قولهم معتدلًا مستصوبًا.   1 انظر: منهاج السنة 2/ 544- 555. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 المبحث الرابع: بيان وسطية قول أهل السنة في هذا الباب أولا: أقوال بعض السلف في وسطية قول أهل السنة في صفات الله تعالى ... المبحث الرابع: بيان وسطية قول أهل السنة في هذا الباب مما تقدم من عرض لأقوال الثلاث في هذا الباب، يتضح لنا أن مذهب أهل السنة وسط بين النفاة المعطلة وبين المشبهة الممثلة. وفي هذا المبحث سنذكر بعض أقوال أهل العلم من السلف الذين أشراوا إلى وسطية أهل السنة في هذا الباب، ثم نشير إلى صور من وسطيتهم من خلال قولهم وأقوال الفرق الأخرى في نماذج مختارة من الصفات. أولًا: أقوال بعض السلف في وسطية قول أهل السنة في صفات الله تعالى 1- قول: الخطيب البغدادي: قال رحمه الله: "أما الكلام في الصفات فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف إثباتها، وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية، والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي فيه والمقصر عنه"1. 2- وممن أشار إلى وسطيتهم في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع من كتبه؛ فقال في "الوصية الكبرى": "فهم -أي: أهل السنة- في باب أسماء الله وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله وآياته ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه، حتى شبهوه بالعدم والموات، وبين أهل   1 رسالة الخطيب في الكلام على الصفات، ص 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات. فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف وتمثيل"1. وقال: "ومذهب السلف بين مذهبين، وهدى بين ضلالتين إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات؛ فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد على أهل التشبيه والتمثيل، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رد على أهل النفي والتعطيل. فالممثل أعشى، والمعطل أعمى، الممثل يعبد صنمًا، والمعطل يعبد عدمًا"2 3- وممن أشار إلى وسطية قولهم من فضلاء أهل السنة المعاصرين الشيخ عبد المحسن العباد في شرحه لحديث: "يضحك الله لرجلين" في كتابه وعشرون حديثًا من صحيح مسلم، بعد أن ذكر القول الواجب في الصفات وذكر قول اهل التعطيل والتأويل وقول أهل التشبيه والتمثيل. قال: "والحق وسط بين الإفراط والتفريط وسط بين الذين أثبتوا الصفات وأفرطوا إذ شبهوا الله بخقله، وبين الذين فرطوا فنفوا الصفات، أو تأولوها بقصد تنزيه الله عن مشابهة الخلق". والمذهب الحق وسط بين الطرفين ففيه الإثبات؛ فلا نفي ولا تأويل، وفيه التنزيه فلا تشبيه ولا تمثيل، وكل من المشبهة والنفاة جمعوا بين إساءة وإحسان. فالمشبهة: أحسنوا؛ إذ أثبتوا فلم ينفوا الصفات، وأساؤا إذا شبهوا ومثلوا. والنفاة: أحسنوا إذ نزهوا الله عن مشابهة خلقه، وأساءوا إذ نفوا عنه الله   1 انظر: الوصية الكبرى 15. 2 انظر: الفتاوى 5/ 196، وانظر أقواله الأخرى في: منهاج السنة 3/ 468 و 5/ 172، والصفدية 2/ 313- 314، الواسطية ص 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ما أثبته لنفسه. وأهل السنة والجماعة جمعوا بين المحسنيين وسلموا من الإساءتين؛ فالإحسان الذي عند الطرفين عندهم، وليس عندهم ما عند كل من الإساءة، وذلك أنهم أثبتوا ما أثبت في الكتاب والسنة ما لصفات، ونزهوا الله عن مشابهة خلقه كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} ؛ فأول الآية تنزيه، وآخرها إثبات. فمثل هذا المذهب الحق بالنسبة إلى الطرفين المتقابلني كاللبن السائغ الخالص السائغ للشاربين الذي يخرج من فرث ودم"1. هذه بعض أقوال الأئمة في وسطية قول أهل السنة في باب أسماء الله وصفاته، في عصور متفاوتة، وللائمة إلى ذلك إشارات وتهبيهات كثيرة إلى هذه الوسطية، وما ذكرت كاف ودال على أمثاله.   1 انظر: عشرون حديثًا من صحيح مسلم 177- 178، "ط. الأولى 1391 بالقاهرة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ثانيًا: صور من وسطية أهل السنة في هذا الباب من أعظم وأبلغ صور وسطية أهل السنة في هذا الباب: كونهم الطائفة الوحيدة التي أثبتت لله جميع ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مع تحقيقها للتنزه وسلامة قولها من التشبيه والتمثيل. وليس ذلك إلا لها. فإن الجهمية المحضة، نفوا الأسماء والصفات كما تقدم. والمعتزلة: أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات كما سبق ذكر ذلك. فكان قولهم خيرًا من قول أولئك؛ فإن من سمي الله بما سمي به نفسه أقرب إلى الحق والصواب ممن نفي ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 والكلابية والأشاعرة: أثبتوا الأسماء، وبعض الصفات، ونفوا وأولوا البعض الآخر؛ فقولهم خير وأقرب للحق من قول الجهمية والمعتزلة. وأهل السنة لما أثبتوا جميع الأسماء والصفات، كان قولهم خيرًا من قول الجميع. كونهم الطائفة الوحيدة التي عملت بمقتضى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} 1؛ إذ كل طائفة عداها إنما عملت بشطر من هذه الآية وضيعت الشطر الآخر كما تقدم إيضاح ذلك في كلام فضيلة الشيخ عبد المحسن العباد. هذه بعض الصور العامة لوسطيتهم، وهناك صور كثيرة لهذه الوسطية نستطيع أن نلمسها من خلال أقوالهم في كثير من الصفات الإلهية. وسنختار بعض الصفات أمثلة ونماذج نوضح من خلالها هذه الوسطية؛ فمن ذلك: 1- صفة العلو والفوقية: دلت كثير من الآيات والأحاديث النبوية على علو الله عز وجل، وأنه فوق مخلوقاته، من ذلك قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم} 2، وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 3، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 4، وغير ذلك من الآيات كثير. فاختلفت الطوائف والفرق في ذلك، ونزع قوم إلى إفراط، وآخرون إلى   1 سورة الشورى: آية 11. 2 سورة النحل: آية 50. 3 سورة الأنعام: آية 18. 4 سورة فاطر آية 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 تفريط. فقال حلولية الجهمية: إن الله بذاته في كل مكان فقالوا: "هو تحت الأرضين السبع كما هو على العرش، ولا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان"1. وقال معطلة الجهمية: ليس هو داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت. وهذا قول المعتزلة2، وإليه يؤول قول الأشاعرة، الذين نفوا فوقيته لزعمهم أنه لا يصح أن يكون الباري في جهة؛ يقول الجويني: "إن الرب تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات والإتصاف بالمحاذاة ولا تحيط به الأقطار"3. ويقول الرازي: أعلم أنا ندعي وجود موجود لا يمكن أن يشار إليه بالحسن أن ههنا أو هنالك"4 ومؤداه أنه سبحانه ليس فوق سماواته مستو على عرشه. وقال أهل السنة: إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، كما دل على ذلك الكتاب وإجماع سلف الأمة5. فقول أهل السنة كما ترى وسط بين قول من جعله -تعالى عن قولهم- في كل مكان، وبين قول من جعله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا   1 انظر: الإمام أحمد بن حنبل، الرد على الجهمية 105. 2 الأشعري، المقالات 1/ 237، وهو قول الفوطي، وعباد بن سليمان، وأبي زفر وغيرهم وجمهوروهم على القول بأنه في كل مكان. وانظر: زهدي جار الله، المعتزلة ص 83. 3 لمع الأدلة 94- 95. 4 أساس التقديس ص 4. 5 ابن تيمية، الفتاوى 2/ 297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 تحت. 2- رؤية الله عز وجل: فقد أفرط قوم في إثبات ذلك فجاوزوا الحد، وقالوا: إنه سبحانه يرى في الدنيا والآخرة, وأنه يحاضر ويسامر وهذا قول بعض غلاة الحلولية1. وفرط قول فقالوا: إنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة. وهذا قول: الجهمية والمعتزلة2 وغيرهم من أهل البدع3. وقال أهل السنة: -من الصحابة والتابعين- إن الله يرى في الآخرة بالأبصار عيانًا وأن أحدًا لا يراه في الدنيا بعينه. لأن الله أخبر أن عباده يرونه في الآخرة فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 4، وقال عن الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون} 5؛ فلما حجب الكفار عن رؤيته عقوبة لهم دل على أن أهل طاعته يرونه. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يتمكن رؤيته في الدنيا فقال: "تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت" 6. فقول أهل السنة كما ترى وسط بين من أثبت رؤيته تعالى في الدنيا والآخرة، وبين من نفاها في الدارين؛ فأثبتوها في الآخرة دون الدنيا كما قال الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.   1 انظر: ابن تيمية، الوصية الكبرى 1/ 29، وانظر: ابن القيم، حادي الأرواح 241. 2 انظر قولهم لدى: القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة 232. 3 انظر: ابن القيم، حادي الأرواح 196. 4 سورة القيامة آية 22- 23. 5 سورة المطففين آية 15. 6 م: كتاب الفتن، باب ذكر ابن صياد 4/ 2245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وبعد فإن صور وسطية أهل السنة في هذا الباب كثيرة فما من صفة إلا وقولهم فيها وسط بين الغلاة في الإثبات، والمغرقين في النفي والتأويل، وهم بين هؤلاء وهؤلاء على سواه السبيل وأسعد بالدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الفصل الثاني: وسطية أهل السنة في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد تمهيد : الخلاف في هذا الباب قديم؛ فهو من أوائل ما حصل فيه النزاع بين الفرق المنتمية إلى الإسلام، وأول من أظهر الخلاف في ذلك وخالف جماعة المسلمين الخوارج، ثم قابلهم المرجئة، ثم خرجت المعتزلة وجاءوا في هذا بما لم يأت به أولئك، والجميع دائر بين إفراط، وتفريط. ولما كان ديدن أهل السنة هو السنة هو التمسك بكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والقول بما دلا عليه وأديا إليه؛ فقد جاء قولهم في هذا الباب وسطًا بين إفراط الخوارج وأهل الاعتزال، وتفريط أهل الإرجاء. ولبيان قول كل ومذهبه، جعلت هذا الفصل في مبحثين: المبحث الأول: في بيان وسطية أهل السنة في الأسماء والأحكام. المبحث الثاني: في بيان وسطيتهم في الوعد والوعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 المبحث الأول: في وسطيتهم في الأسماء والأحكام المراد بالأسماء: أسماء الدين مثل مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق. والمراد بالأحكام: أحكام هؤلاء في الدنيا والآخرة1؛ أي: أحكام أصحاب هذه الأسماء2. فقد تنازع الناس في "مرتكب الكبيرة المليء" ماذا يسمى؟ أهو مؤمن؟ أم كافر؟ أم فاسق؟ أم منافق؟ وما حكمه في الدنيا؟ بنا على ذلك، وما هو حكمه في الآخرة؟ وافترقوا في ذلك إلى: طرفين، وواسطية. فالخوارج، والمعتزلة في طرف. وطوائف المرجئة في الطرف المقابل. وأهل السنة: وسط بين الطرفين. واختلافهم في ذلك مبني على اختلافهم في حقيقة الإيمان الواجب؛ لذا فإنا قبل عرض أقوالهم واختلافهم في اسم صاحب الكبيرة وحكمه، صنعرض بإيجاز لأقوالهم في تعريف الإيمان، وحقيقته عند كل منهم، وما بين مذاهبهم من فروق، وما فارقهم به أهل السنة، وامتازوا به عنهم من قول. تعريف الإيمان: أولًا: عند أهل السنة والخوارج والمعتزلة: ذهب كل من أهل السنة، والخوارج، والمعتزلة إلى أن الإيمان يتألف من   1 انظر: ابن تيمية، الفتاوى 13/ 38. 2 انظر: صالح الفوزان العقيدة الواسطية ص126، "ط. الرابعة 1407 هـ، نشر: مكتبة المعارف - الرياض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 ثلاثة أمور: 1- المعرفة والتصديق بالقلب. 2- الإقرار والنطق باللسان. 3-- العمل بالجوارح1. ثم فارق كل من الخوارج، والمعتزلة أهل السنة بقولهم: إن الإيمان كل لا يتجزأ ولا يتبعض، وهو العمل بكل مأمور، وترك كل محظور، والذنوب لا تجامع الإيمان؛ بل تنافيه وتفسده كما يفسد الأكل والشرب الصيام؛ فمتى ذهب بعضه بارتكاب شيء منها ذهب كله؛ ولهذا قالوا: بسلب الإيمان عن أصحاب الكبائر كما سيأتي. ثم قالت الخوارج: يكون العاصي كافرًا. وقالت المعتزلة: لا نسميه مؤمنًا ولا كافرًا بل هو في منزلة بينهما2، كما سيأتي. ثانيًا: عند المرجئة: المرجئة ثلاثة أصناف: الصنف الأول: قالوا: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب، كالمحبة، والخضوع، ومنهم من لا يدخلها فيه، ويرى أنه مجرد المعرفة بالقلب فقط وهو قول جهم. وهذا الصنف: هم الذين يطلق عليهم المرجئة الخالصة، وهم الذين   1 انظر: ابن حزم، المفصل 3/ 188. 2 انظر: ابن تيمية، الفتاوى 12/ 470. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 قالوا: "لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة"1. الصنف الثاني: قالوا: الإيمان مجرد قول اللسان فقط وهؤلاء هم الكرامية2. قال شيخ الإسلام: "وهذا القول لا يعرف لأحد قبل الكرامية"3. والصنف الثالث: مرجئة الفقهاء كأبي حنيفة وغيره: قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان4. قول الأشاعرة في تعريف الإيمان: أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان؛ حيث قال عقب ذكره قول جهم السابق في الإيمان، وأنه المعرفة: "وهذا الذي نصره هو -أي: الأشعري- وأصحابه"5. قلت: أما الأشعري، فقوله في كتاب "الإبانة" يدل على رجوعه عن ذلك؛ فإنه يقول: "و -نؤمن- أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص"6. وأما أصحاب الأشعري، والأشاعرة بعامة: فقول جمهورهم: أن الإيمان   1 انظر: الشهرستاني، الملل والنحل 1/ 139. 2 الكرامية: هم أصحاب محمد بن كرام السجستاني، ت 255 هـ. انظر: الملل 1/ 108 ح. وانظر: الأشعري، المقالات 1/ 323. 3 الفتاوى 7/ 195. 4 هذا التقسيم لطوائف المرجئة وأقوالهم في الإيمان مأخوذ بتصرف عن الفتاوى، لشيخ الإسلام 7/ 195. 5 انظر: الفتاوى 7/ 1953. 6 انظر: الإبانة 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 هو التصديق1، وزاد بعضهم: نطق اللسان، لتحقق الإيمان ظاهرًا. يقول الباقلاني: "فإن قال قائل: خبرونا ما الإيمان عندكم؟ قلنا: الإيمان هو التصديق بالله تعالى، وهو العلم، والتصديق يوجد بالقلب"2، يوضحه قوله في حد الكفر: "وإن قال قائل: ما الكفر عندكم؟ قيل له: هو ضد الإيمان، وهو الجهل بالله عز وجل، والتكذيب به السائر لقلب الإنسان عن العلم به؛ فهو كالمغطي عن معرفة الحق"3. ويقول الجويني: "والمرضي عندنا أن حقيقة الإيمان التصديق بالله تعالى فالمؤمن بالله من صدقه، ثم التصديق على التحقيق كلام النفس، ولكن لا يثبت إلا مع العلم"4. وهذا القول فيه شائبة من قول جهم ويفضي إليه بوجه، ولهذا قال شيخ الإسلام فيهم ما قال. وللجويني قول آخر يرى فيه: أن من صدق بقلبه ولم ينطق بلسانه جحودًا أنه ليس بمؤمن، وإن لم ينطق به من غير جحود فهو مؤمن باطنًا، وإن نطق فهو مؤمن ظاهرًا وباطنًا. يقول: "والمؤمن على التحقيق: من انطوى عقدًا على المعرفة بصدق من أخبر عن صانع العالم، وصفاته وأنبيائه فإن اعترف بلسانه ما عرف بجنانه؛ فهو مؤمن ظاهرًا وباطنًا، وإن لم يعترف بلسانه معاندًا، لم ينفعه علم قلبه"5.   1 انظر: أحمد عطية، الإيمان بين السلف والمتكلمين ص 129 رسالة ماجستير مطبوع على الآلة الكاتبة. 2 التمهيد 346. 3 التمهيد 348. 4 انظر: الإرشاد 397. 5 انظر: العقيدة النظامية 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الفرق بين قول الخوارج والمعتزلة والمرجئة الخالصة وبين قول أهل السنة: من خلال أقوال كل من الخوارج والمعتزلة، والمرجئة الخالصة. نلاحظ: أنهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا لا يتبعض ولا يتجزأ؛ فهو عند الخوارج والمعتزلة: مجموع: التصديق القلبي، والنطق اللساني، والعمل بالجوارح، وهو فعل الطاعات وترك المعاصي. وإذا ذهب بعضه باترتكاب كبيرة ذهب كله. وهو عند المرجئة الخالصة مجرد المعرفة، والأعمال ليست منه. أما أهل السنة فإنهم -وإن اتفقوا مع الخوارج والمعتزلة في تعريف الإيمان لكنهم- يرون أنه يتبعض ويتجزأ، ويزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهذا فرق ما بينهم وبين أولئك، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عليه: وأصل قول أهل السنة الذي فارقوا به الخوارج والجهمية والمعتزلة والمرجئة: أن الإيمان يتفاضل ويتبعض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" 1"2. وأما أولئك فإنه لما كان الإيمان عندهم لا يتبعض، قال الخوارج والمعتزلة: من فعل ذنبًا زال بعض الإيمان فيزول كله فيخلد صاحبه في النار. وقالت الجهمية: قد علمنا أنه ليس يخلد في النار، وأنه ليس كافرًا مرتدًا بل هو من المسلمين، وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤمنًا تام الإيمان ليس معه بعض الإيمان؛ لأن الإيمان لا يتبعض عندهم3.   1 خ: كتاب التوحيد، باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة، 13/ 374، ح 7510. 2 انظر: الفتاوى 3/ 355. 3 انظر: نفس المصدر 13/ 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وكل من الفريقين غالط فيما قال. والحق ما قال أهل السنة في ذلك. وإذا تقرر لدينا قول كل من هذه الطوائف في الإيمان، فلنشرع في بيان قول كل منهم في اسم مرتكب الكبيرة، وحكمه في الدنيا، والآخرة، وهم في ذلك كما أشرنا في أول المبحث طرفان، وواسطة على النحو التالي: أولًا: قول الطرف الأول "وهم الخوارج والمعتزلة": أ- قول الخوارج: يتخلص قول الخوارج في مرتكب الكبيرة في الأمور التالية: - حكموا بخروجه من الإيمان، وسموه كافرًا، إلا فرقة النجدات1 منهم، ثم اختلفوا هل كفره كفر شرك أو كفر نعمة؟ على ما سيأتي. - أن حكمه في الدنيا حكم الكفار، تجري عليه أحكامهم؛ فيكون حلال الدم والمال عند من قال: كفره، كفر شرك، وليس كذلك عند جعل كفره كفر نعمة أو نفاق. - أما حكمه في الآخرة فإنه خالد في النار لا يخرج منها. يقول أبو عمار عبد الكافي الإباضي "قبل 570 هـ" وهو خارجي إباضي كما هو واضح من نسبته: "اختلف من أثبت الوعيد لأهل الكبائر في أسمائهم، وفي كبائرهم ما هي؟ بعد إجماعهم على ثبوت الوعيد لهم، ونفي التسمية عنهم بالإيمان. فقال الصفرية2: إن كبائرهم كفر شرك، وأسماءهم كفار مشركون   1 تقدم التعريف بهم ص291. 2 الصفرية: فرقة من الخوارج، وهم أصحاب "زياد بن الأصفر"، وكانوا يرون أن مخالفيهم مشركون، السرة فيهم سرة أهل الحرب من المشركين. انظر: الأشعري، المقالات 1/ 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 محاربون كأهل حرب النبي صلى الله عليه وسلم، تسفك دماؤهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم، وهم مع ذلك قد تورث أموالهم، وتنكح نساؤهم وتؤكل ذبائحهم، ويحج معهم، ويصلي معهم. وقالت الإباضية: كبائرهم كفر نفاق، لا كفر شرك، وأسماؤهم: كافرون منافقون ليسوا بمشركين، ولا مؤمنين {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} 1، لا إلى المشركين في الحكم، والسرة ولا إلى المؤمنين في الاسم والثواب"2. وقال الأشعري: "وأجمعوا -أي: الخوارج- على أن كل كبيرة إلا النجدات؛ فإنها لا تقول ذلك. وأجمعوا على أن الله -سبحانه- يعذب أصحاب الكبائر، عذابًا دائمًا إلا النجدات3. وقال الشهرستاني -في معرض ذكر جماع قول الخوارج: "ويكفرون أصحاب الكبائر"4. وقال الرازي: "سائر فرقهم متفقون على أن العبد يصير كافرًا بالذنب"5. وقال السكسكي: "وقالوا من أذنب كبيرة فهو كافر؛ إلا النجدات،   1 سورة النساء آية 143. 2 الموجز في تحصيل السؤال وتلخيص المقال في الرد على أهل الخلاف ضمن كتاب آراء الخوارج الكلامية، للدكتور عمار طالبي 2/ 116، "ط. 139، نشر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر". 3 انظر: المقالات 1/ 168. 4 الملل والنحل 1/ 115. 5 انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فإنها لاتكفر من أذنب منهم، وتكفر من أذنب من غيرهم، وأن مرتكبي الكبائر مخلدون في النار معذبون بعذاب أهل النار"1. ب- قول المعتزلة: يتلخص قولهم في مركتب الكبيرة في الأمور التالية: - خروجه من مسمى الإيمان، لا إلى الكفر؛ ولكن إلى منزلة بينهما. - حكمه في الدنيا: حكم باقي المسلمين في حرمة الدم والعرض والمال، والتوارث ونحو ذلك. - حكمه في الآخرة: دخول النار، والخلود فيها، لكن يكون عذابه دون عذاب الكفار فيها. ولنضع الآن لقول القاضي عبد الجبار المعتزلي وهو يدون مذهب أهل نحلته فيقول: "صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين، وحكم بين الحكمين، لا يكون اسمه اسم الكافر، ولا سامه اسم المؤمن؛ وإنما يسمى فاسقًا. وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر، ولا حكم المؤمن؛ بل يفرد به حكم ثالث"2. وقال في موضع آخر: "وجملة القول في ذلك أن الغرض بهذا الباب -أي: باب المنزلة بين المنزلتين - هو أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنًا ولا كافرًا؛ وإنما يسمى فاسقًا"3. وقال في بيان وجه عدم تسميته مؤمنًا: "والذي يدل على الفصل الأول،   1 البرهان ص 19. 2 انظر: شرح الأصول الخمسة ص 697. 3 انظر: شرح الأصول الخمسة ص 701. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وهو الكلام أن صاحب الكبيرة لا يمسي مؤمنًا، هو ما قد ثبت أنه يستحق بارتكاب الكبيرة الذم واللعن, والاستخفاف والإهانة وثبت أن اسم المؤمن صار بالشرع اسمًا لمن يستحق المدح والتعظيم والموالاة؛ فإذ قد ثبت هذان الأصلان؛ فلا إشكال في أن صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى مؤمنًا"1. ولم يجز أن يسمى كافرًا؛ لأن الشرع جعل الكافر اسمًا لمن يستحق العقاب العظيم، ويختص بأحكام مخصوصة نحو المنع من المناكحة والموارثة والدفن في مقابر المسلمين. قال: إذا ثبت هذا، ومعلوم أن صاحب الكبيرة ممن لا يستحق العقاب العظيم، ولا تجري عليه هذه الأحكام؛ فلم يجز أن يسمى كافرًا2. وهذا الكلام إلى جانب ما أفاده من عدم جواز تسمية صاحب الكبيرة كافرًا تضمن أيضًا الحكم الدنيوي له، وهو أنه تسري عليه أحكام المسلمين من المناكحة، والموارثة والدفن في مقابر المسلمين. ويقول ابن المرتضي -وهو معتزلي أيضًا- في معرض كلامه عما أجمعت عليه المعتزلة: "وأما ما أجمعوا عليه؛ فقد أجمعت المعتزلة على .... وعلى المنزلة بين المنزلتين، وهو أن الفاسق لا يسمى مؤمنًا ولا كافرًا"3. وأما حكمه في الآخرة فترى المعتزلة: "أن الفاسق يخلد في النار، ويعذب فيها أبد الآبدين ودهر الداهرين"4. وذلك إذا مات على كبيرته ولم يحدث منها توبة، ذكر الإسفراييني   1 انظر: نفص المصدر 701- 702. 2 انظر: نفس المصدر ص 712. 3 انظر: المنية والأمل ص 6، "بتصحيح توما أرنلد، نشر: دار صادر -بيروت"، صورة عن طبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن سنة 1316 هـ. 4 القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة ص 666. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 اتفاقهم على ذلك فقال: "ومما اتفقوا عليه. قولهم: إن حال الفاسق الملِّي منزلة بين منزلتين، لا هو مؤمن ولا هو كافر، وأنه إذ خرج من الدنيا قبل أن يتوب يكون خالدًا مخلدًا في النار مع جملة الكفار، ولا يجوز لله تعالى أن يغفر له أو يرحمه"1. ومن خلال هذا العرض لقولي الخوارج والمعتزلة نلاحظ اتفاق الفريقين في صاحب الكبيرة على أمور: الأول: سلب اسم الإيمان عنه. الثاني: الحكم بأنه من أهل النار وأنه خالد فيها؛ إلا أن عذابه فيها دون عذاب الكفار عند المعتزلة. واختلفوا في أمرين: الأول: في اسمه. الثاني: في حكمه في الدنيا. فسمته الخوارج كافرًا، على الخلاف المذكور بينهم في نوع كفره، كما تقدم. وقال المعتزلة: لا نسميه مؤمنًا، ولا كافرًا؛ بل هو عندنا فاسق في منزلة بين الكفر والإيمان. وأما حكمه في الدنيا؛ فالمعتزلة: تجري عليه أحكام المسلمين كما تقدم. وأما الخوارج: فهم في ذلك فريقان كما تقدم: طائفة: تجري عليه أحكام الكفار، فتبيح دمه وماله.   1 انظر: التبصير في الدين ص 65، وانظر أيضًا الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وطائفة: تجري عليه أحكام المسلمين فلا تستبيح ذلك منه. ثانيًا: قول الطرف الثاني "وهم طوائف المرجئة": الأصل الذي يجمع المرجئة بمختلف طوائفها، والذي لأجله سموا بذلك كما تقدم هو: إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان؛ فهذا أصل أصول المرجئة، وأساس مذهبهم؛ حتى إنه لا يكون المرجئ مرجًا حتى يقول بذلك. لذلك جاء قولهم في مرتكب الكبيرة من أهل القبلة متساوقًا مع هذا الأصل الذي أصلوه ومتفرعًا عنه، ونتيجة له؛ فكان من قولهم: أن مرتكب الكبيرة: - مؤمن كامل الإيمان، وارتكاب الكبار لا يؤثر في إيمانه. - وأنه في الآخرة: من أهل الجنة إذا مات موحدًا مؤمنًا، وإن زنى وسرق وقتل. وقال المرجئة الخالصة منهم العبارة المشهورة: "لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة"1، وأفصح بعض طوائفهم عن مذهبهم فقالوا: "الإيمان هو المعرفة بالله، والخضوع، له، وترك الاستكبار عليه، والمحبة بالقلب؛ فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو المؤمن، وما سوى ذلك من الطاعة فليس من الإيمان، ولا يضر تركها حقيقة الإيمان ولا يعذب على ذلك، إذا كان الإيمان خالصًا، واليقين صادقًا"2. وقال العبيدية3 منهم: "ما دون الشرك مغفور لا محالة، وإن العبد إذا مات على توحيده، لا يضره ما اقترف من الآثام واجترح من السيئات"4.   1 الشهرستاني، الملل والنحل 1/ 139. 2 المصدر السابق 1/ 140. 3 العبيدية: هم أصحاب عبيد المكتئب، وهم طائفة من المرجئة الخالصة، انظر: الشهرستاني، الملل والنحل 1/ 140. 4 انظر: الشهرستاني، الملل والنحل 1/ 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ونقل الملطي أن منهم من يقول: "من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وحرم ما حرم الله، وأحل ما أحل الله؛ دخل الجنة إذ مات، وإن زنى، وإن سرق وقتل، وشرب الخمر، وقذف المحصنات، وترك الصلاة والزكاة والصيام، إذًا كان مقرًا بها يسوف التوبة؛ لم يضره وقوعه على الكبائر، وتركه للفرائض، وركوبه الفواحش"1. وحكى السكسكي إجماعهم على: "أنه لا يدخل النار إلا الكفار فحسب"2. ونقل الرازي عن بعض فرقهم أنهم: "يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان معصية ما، وأن الله تعالى لا يعذب الفاسقين من هذه الأمة"3. فهذا موقف المرجئة من أصحاب الكبائر، وهذه أقوالهم فيهم، وهي أقوال غلب عليها التفريط كما هو ظاهر: على أن بعضًا من طوائف المرجئة والذين وافقوهم في تعريف الإيمان وحقيقته فقالوا بقولهم في استبعاد وتأخير الأعمال عن مسمى الإيمان كمرجئة الفقهاء؛ كأبي حنيفة وغيره، والأشاعرة، كل هؤلاء لا يقولون بقول المرجئة في مرتكب الكبيرة؛ وإنما يرون انه مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وأمره في الآخرة إلى الله؛ إن شاء عذبه، وإنشاء عفا عنه. يقول أبو المعالي الجويني في تقرير مذهب الأشاعرة: "من مات من عصاة أهل الإيمان من غير توبة فأمره مغيب؛ إن شاء الله غفر له، أو شفع فيه شفيع، وإن شاء عرضه على النار بقدر ذنبه، ثم عاقبته الفوز الأكبر   1 انظر: التنبيه والرد ص43. 2 انظر: البرهان ص33. 3 انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 والنجاة"1. وهو موافق لقول أهل السنة كما سيأتي. ثالثًا: قول أهل السنة والجماعة: أما أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة الصالحين، وخلفها المتبعين؛ فإنهم مع قولهم بأن الأعمال جزء من مسمى الإيمان، لا يرون في ارتكاب الكبائر ما يخرج المرء من الإيمان سوى الشرك بالله؛ فكان قولهم في مرتكب الكبيرة أنه: - مؤمن عاص، أو مؤمن فاسق، أو يقال: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته؛ فلا يزيلون عنه اسم الإيمان بالكلية بذهاب بعضه، ولا يعطونه اسم الإيمان المطلق. - أما حكمه في الآخرة، فيرون أنه إذا مات ولم يتب؛ داخل تحت مشيئة الله؛ إن شاء غفر له وأدخله الجنة دون عذاب، وإن شاء أدخله النار وعذبه بقدر ذنوبه. - ثم إنه لا يخلد في النار كالكفار؛ بل لا بد أن يخرج منها ويدخل الجنة. هذا هو مجمل قول أهل السنة في صاحب الكبيرة. وهذه بعض نصوص أئمة أهل السنة التي عبروا فيها عن معتقدهم وقولهم في أصحاب الكبائر من أهل القبلة، نسوقها هنا لنقف على حقيقة قولهم في ذلك. يقول إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل "ت 241 هـ" في اعتقاده   1 انظر: العقيدة النظامية ص 89- 90، "بتحقيق د. أحمد حجازي السقا، ط. الولى 1398 هـ 1978 م، نشر: مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 الذي ذكره اللالكائي: "ولا يشهد على أهل القبلة بعمل يعمله بجنة ولا نار يرجو للصالح ويخاف عليه، ويخاف على المسيء المذنب، ويرجو له رحمة الله. ومن لقي الله بذنب يجب له به النار تائبًا غير مصر عليه؛ فإن الله عز وجل يتوب عليه ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. ومن لقيه وقد أقيم عليه حد ذلك في الدنيا؛ فهو كفارة، كما جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم1. ومن لقيه مصرًا غير تائب من الذنوب التي استوجب بها العقوبة، فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. ومن لقيه كافرًا عذبه ولم يغفر له"2. وذكر الإمامان الجليلان أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم "190- 264 هـ" وأبو حاتم محمد بن إدريس "195- 277" الرازيان أنه كان من قول العلماء الذين أدركناهم في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا وشامًا ويمنًا: "وأهل الكبائر في مشيئة الله عز وجل، ولا نكفر أهل القبلة بذنبوهم، ونكل سرائرهم إلى الله عز وجل"3. ويقول الإمام الطحاوي "321هـ" في عقيدته المشهورة: "ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب4 ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب   1 سيأتي بنصه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. انظر: ص351. 2 انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 162. 3 نفس المصدر 1/ 176- 177. 4 الأولى أن يقال: "بكل ذنب"، كما نبه عليه ابن أبي العز في شرحه؛ لأن المراد مقابلة الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بكل ذنب م الكبائر، وأهل السنة ليسوا كذلك وإن كانوا يكفرون ببعض الذنوب؛ لورود النص فيها كترك الصلاة. عند طوائف منهم على تفصيل في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 لمن عمله. نرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم، ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم ولا نشهد لهم بالجنة1. ونستغفر لمسيئهم، نخاف عليهم ولا نقنطهم. ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه. وأهل الكبائر من -أمة محمد صلى الله عليه وسلم-2 في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين، يعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين، وهم في مشيئته وحكمه؛ إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3 وإن شاء عذبهم في النار بعدله. ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ثم يبعثهم إلى جنته؛ وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته"4. وهذا الإمام عبيد الله بن بطة "304- 387 هـ" ينقل إجماع علماء السلف على ذلك فيقول: "وقد أجمعت العلماء لا خلاف بيهم أنه لا يكفر أحد   1 قال الشيخ عبد العزيز بن بازر معلقًا على قول الإمام الطحاوي، "ولا نشهد لهم بالجنة": "مراده رحمه الله إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه كالعشرة ونحوهم كما يأتي ذلك في آخر كلامه، مع العلم بأن عقيدة أهل السنة والجماعة الشهادة للمؤمنين والمتقين على العموم بأنهم من أهل الجنة، وأن الكفار والمشركين والمنافقين من أهل النار، كما دلت على ذلك الآيات الكريمات والسنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قوله سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الطور: 17] إلخ. انظر تعليقه على: العقيدة الطحاوية ص20. مكتبة الصديق. 2 ذكر الشيخ الألباني أن هذه الجملة لم ترد في بعض النسخ، وقال: وحذفها أصح؛ لأن مفهومها أن أهل الكبائر من غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم قبل نسخ الشرائع به حكمهم مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وفي ذلك نظر. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار ممن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"، ولم يخص أمته بذلك بل ذكر الإيمان مطلقًا، فتأمله". انظر: العقيدة الطحاوية، "شرح وتعليق محمد ناصر الدين الألباني، ص45، المكتب الإسلامي، 1408 هـ". 3 سورة النساء آية 48. 4 انظر: العقيدة الطحاوية، بتعليق الشيخ ابن باز ص 19- 20، 21، 23، 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 من أهل القبلة بذنب1 ولا نخرجه من الإسلام بمعصية، نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، ولا نقول بذلك بقول المعتزلة؛ فإنها تقول: من أتى ذنبًا واحدًا في عمره أو ظلم بحبة في عمره فقد كفر؛ فمن قال ذلك فقد أعظم الفرية على الله عز وجل ويراه مما وصف به نفسه من الرأفة والرحمة والتجاوز والإحسان والغفران"2. ويسوق الإمام الصابوني 372- 449 هـ" عقيدة أهل السنة في ذلك قائلًا: "ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوبًا كثيرة، صغائر كانت أو كبائر فإنه لا يكفر بها، وإن خرج من الدنيا غير تائب منها ومات على التوحيد والإخلاص، فإن أمره إلى الله -عز وجل- إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة يوم القيامة سالمًا غانمًا غير مبتلى بالنار، ولا معاقب على ما ارتكبه من الذنوب، واكتسبه ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار. وإن شاء عاقبه، وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيه؛ بل أعتقه وأخرجه منها إلى دار القرار"3. ويحكي الإمام البغوي " ... / 516 هـ" اتفاق أهل السنة على ذلك فيقول: "اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر؛ إذ لم يعتقد إباحتها، وإذا عمل شيئًا منها فمات قبل التوبة، لا يخلد في النار، كما جاء به الحديث، بل هو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بقدر ذنوبه ثم أدخله الجنة برحمته، كما ورد في حديث عبادة بن الصامت في البيعة4.   1 تقدم التعليق على ذلك انظر ص347. 2 انظر الشرح والإبانة ص265. 3 انظر: عقيدة السلف أصحاب الحديث ص71- 72. 4 سيأتي ذكر الحديث. انظر: ص351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 واختلفوا في ترك الصلاة المفروضة عمدًا، فكفره بعضهم، ولم يكفره الآخرون"1. وبعد: فهذه عقيدة أهل السنة والجماعة في أصحاب الكبائر من أهل القبلة كما دونها أئمتهم على ضوء نصوص الكتاب والسنة، قولهم في ذلك واحد لا يختلف فيه أحد، كلهم متفقون عليه كما صرح بذلك من نقل إجماعهم واتفاقهم عليه من الأئمة كما تقدم. وهو قول يدل على عدل واعتدال وتوسط واتزان، كل جزئية منه يدل عليها آية من كتاب الله، أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. يدل لقولهم بإيمانه، وعدم زواله عنه وفسقه أو كفره، كما يقول المعتزلة والخوارج، كثير من الآيات والأحاديث المصرحة بإيمان العصاة مرتكبي الكبائر، كقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} 2 فخاطب الجميع باسم الإيمان مع أن فيهم من قد وجب عليه القصاص؛ لارتكابه كبيرة القتل، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} . وأثبت الأخوة بين القاتل وبين ولي الدم، فقال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ، ولا شك في أن المراد بالأخوة الإخوة الإيمانية المذكورة في قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فدل ذلك على بقاء الإيمان مع كبيرة القتل. قال الإمام ابن الجوزي في الآية: "ودل قوله: {مِنْ أَخِيهِ} على أن القائل لم يخرج عن الإسلام"3.   1 انظر: شرح السنة 1/ 103. 2 سورة البقرة آية 178. 3 انظر: زاد المسير في علم التفسير 1/ 163، "بتحقيق محمد بن عبد الرحمن عبد الله، ط. الأولى 1407، نشر: دار الفكر -بيروت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وكقوله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1، فسمي الجميع مؤمنين، مع الاقتتال، وجعل الجميع إخوة؛ فدل ذلك على أن الكبيرة لا تخرج صاحبها من الإيمان، وقد استدل الإمام البخاري بهذه الآية فقال: "باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} قال: فسماهم المؤمنين"2؛ أي: مع اقتتالهما. ثم إن نصوص الكتاب والسنة، والإجماع تدل على أن الزاني، والسارق والقاذف لا يقتل؛ بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد3 بارتكاب هذه الكبائر ولو كان كذلك لقتل. أما قولهم بأنه إذا مات من غير توبة؛ فهو داخل تحت مشيئة الله؛ إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه. فيشهد له قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4 فجوز أن يغفر كل ذنب سوى الشرك بالله بما في ذلك الكبائر. ويدل عليه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو   1 سورة الحجرات: آية 9، 10. 2 انظر: صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الإيمان 1/ 84. 3 انظر: شرح الطحاوية ص36. 4 سورة النساء آية 48 وآية 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه" 1. والحديث نص في دخول من مات على شيء من الكبائر، تحت المشيئة كما يقول أهل السنة. وأما قولهم: إنه لا يخلد في النار إذا دخلها، وأنه لا بد أن يخرج منها ويدخل الجنة؛ فهو مأخوذ من مثله قوله صلى الله عليه وسلم: "يدخل أهل الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحيا -أو الحياة، شك مالك أحد رواة الحديث- فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل" 2. فدل الحديث على خروج من في قلبه مثقال حبة من إيمان من النار وإدخالهم الجنة، ومعلوم أن أصحاب الكبائر مؤمنون، مع كثير منهم مثقال أو مثاقيل من الإيمان؛ فلا شك في خروجهم والحديث يتضمن أيضًا الرد على المرجئة الخالصة من قولهم: "لا يضر مع الإيمان ذنب"؛ إذ يثبت الحديث أن من المؤمنين من تضرة المعاصي فيدخل النار، ثم يخرج منها، فخروجه دل على أنه ليس بكافر؛ وإنما هو مؤمن عذب بقدر ذنبه ثم أخرج إلى الجنة. قال الحافظ ابن حجر موضحًا مراد الإمام البخاري بإيراد هذا الحديث: "وأراد بإيراده الرد على المرجئة؛ لما فيه من بيان ضرر المعاصي مع الإيمان وعلى المعتزلة في أن المعاصي موجبة للخلود"3.   1 خ: كتاب الإيمان 1/ 64، ح 18. 2 خ: كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال 1/ 72، ح 22. 3 انظر: فتح الباري 1/ 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 المبحث الثاني: في وسطيتهم في نصوص الوعد والوعيد الوعد في اللغة: يكون بالخير والشر. أما الوعيد: فلا يكون إلا بالشر1. والمراد بالوعد: النصوص المتضمنة وعد الله لأهل طاعته بالثواب والجزاء الحسن والنعيم المقيم. ويعرف أهل الكلام الوعد بأنه: كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى الغير، أو دفع ضرر عنه في المستقبل2. وأما الوعيد: فالمراد به: النصوص التي فيها توعد للعصاة بالعذاب والنكال3. ويعرفه المتكلمون بأنه: كل خبر يتضمن إيصال ضرر إلى العير أو تفويت نفع عنه في المستقبل4. وإذا تقرر لدينا معنى الوعد والوعيد والمراد بهما؛ فاعلم أنه جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كثير من الآيات والأحاديث التي تدل على وعد الله عز وجل للمؤمنين والمطيعين بالثواب الجزيل، وأنه أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ووعدهم بألوان من الأجر والجزاء. ومغفرة الذنوب فيما دون الشرك وتكفير السيئات وإبدالها حسنات ونحو ذلك. فمن النصوص الواردة في ذلك قوله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ   1 ابن فارس: مجمل اللغة 4/ 931. 2 انظر: القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة 134. 3 انظر: صالح الفوزان، العقيدة الواسطية ص126. 4 انظر: شرح الأصول الخمسة 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} 1، وقوله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} 2، ونحو ذلك مما فيه وعد بالجنة. ومن نصوص الوعد بغفران الذنوب وتكفير السيئات: قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3، وقوله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 4 وقوله صلى الله عليه وسلم: "من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار" 5. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ... -قال الراوي- وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق" 6. كما ورد فيهما أيضًا آيات وأحاديث كثيرة، تتضمن الوعيد الشديد بالعذاب الأليم والخلود في النار لأهل الفسق والمعاصي وأصحاب الكبائر ووصفهم بالكفر والفسق والضلال ونحو ذلك، كما في قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين} 7، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 8، وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ   1 سورة التوبة آية 72. 2 سورة الفتح آية 5. 3 سورة النساء آية 48. 4 سورة الزمر آية 53. 5 م: كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة 1/ 94، ح 152. 6 م: كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة 1/ 95، ح 154. 7 سورة آل عمران آية 97. 8 سورة النساء آية 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} 1، ونحو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حي يزني وهو مؤمن" 2، وقوله: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" 3. الحاصل أن النصوص الواردة في الوعد والوعيد كثيرة، سواء في كتاب الله عز وجل، أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. تجاه هذه النصوص وما شابهها افتراق الناس في باب الوعد والوعيد إلى طرفين وواسطة: طرف غلب نصوص الوعد، وأغفل نصوص الوعيد، وهم المرجئة الخالصة؛ فقالوا: كل ذنب سوا الشرك فهو مغفور واحتجوا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وقالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. والطرف المقابل لهم وهم الخوارج والمعتزلة قالوا: لا بد أن ينجز الله وعده ووعيده، ولا يصح أن يخلف أيًا منهما، وهذه بعض نصوصهم في ذلك من كتبهم تنبئ عن مذهبهم، وتفتي بحقيقة قولهم: يقول القاضي عبد الجبار في بيان مذهب المعتزلة في ذلك: "وأما علوم الوعد والوعيد؛ فهو أن يعلم أن الله تعالى وعد المطيعين بالثواب، وتوعد العصاة بالعقاب، وأنه يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف والكذب"4. ويقول أبو عمار عبد الكافي الإباضي في تقرير مذهب أهل نحلته من   1 سورة النساء آية 93. 2 جه: فتن، باب النهي عن النهية 2/ 1298، ح 3936. 3خ: كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله 1/ 110، ح 48. 4 انظر: شرح الأصول الخمسة 135- 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 طوائف الخوارج ومن وافقهم: "واتفق جمهور من ذكرنا في صدر المقالة من الأمة على أن الله منجز وعده، ووعيد، ومصدقهما بتمام ذلك وإمضائه في جميع من وعده وتوعده، لا تبديل لكلمات الله، ولا تحويل لأمره. واستدل بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَاد} 1، 2. ولذلك قال هؤلاء: بخلود أصحاب الكبائر في النار؛ لأن الله توعدهم بها وعندهم أن الله لا يخلف الميعاد، وقد ذكرنا قولهم في أصحاب الكبائر وحكمهم فيهم في الدنيا والآخرة، وما بينهما من التمايز في المبحث الأول. وهؤلاء قد ضلوا في الوعد والوعيد جميعًا. فأما ضلالهم في الوعيد فواضح؛ حيث جرهم قولهم به إلى إكفار أصحاب الكبائر أو إخراجهم من الإيمان عند المعتزلة إلى الفسق ووجوب أصحاب الكبائر أو إخراجهم من الإيمان عند المعتزلة إلى الفسق ووجوب إدخالهم النار وتخليدهم فيها، وقالوا: إنه لا يجوز أن يغفر الله لهم إذا لم يتوبوا، ويكفي أن قولهم هذا يناقض قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ؛ فمن أين لهم أنه سبحانه لا يشاء المغفرة لهم، مع كونهم ليسوا كفارًا على مذهب المعتزلة، وليسوا مشركين على مذهب الإباضية، وطوائف من الخوارج، والنص إنما دل على عدم المغفرة للمشرك به سبحانه، والذين لا يغفر لهم هم الكافرون والمشركون. وما ضلالهم في الوعد: فلإيجابهم ذلك على الله سبحانه بطريق الاستحقاق والعوض. يقول القاضي عبد الجبار: "أعلم أنه تعالى إذا كلفنا الأفعال الشاقة؛ فلا بد أن يكون في مقابلها من الثواب ما يقابله"3. ويقول الزمخشري -وهو أحد أقطاب المعتزلة- في تفسيره قوله تعالى:   1 سورة الرعد: آية 31. 2 انظر: الموجز ضمن كتاب آراء الخوراج الكلامية، للدكتور عمار طالبي 2/ 105. 3 انظر: شرح الأصول الخمسة 614. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} 1. قال: {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} : فقد وجب ثوابه عليه"2. قول أحمد السنة "وهم الواسطية": أما أهل السنة الذين يمثلون نقطة التوازن بين الطرفين؛ فإنهم يأخذون بنصوص الوعد والوعيد، فيجمعون بين الخوف والرجاء، لم يفرطوا في نصوص الوعيد كالمرجئة الخالصة الذين قالوا لا يضر مع الإيمان ذنب، ولم يغلوا غلو الخوارج والمعتزلة في نصوص الوعيد. فكان قولهم في الوعيد أنه: "يجوز أن يعفو الله عن المذنب، وأنه يخرج أهل الكبائر من النار فلا يخلد فيها أحد من أهل التوحيد"3. وتقدم ذكر قولهم في حكم أصحاب الكبائر في المبحث السابق، وخلاصة قولهم أن كل من مات غير مشرك بالله فهو داخل تحت المشيئة؛ إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه. وأنه إن عذبه لا يخلده في النار كالكفار4. وقالوا في الوعد: إن الله لا يخلف وعده، وإنه لا بد أن يثيب أهل الإيمان به وأهل طاعته بحكم وعده لهم بذلك، لا بحكم استحقاقهم عليه فإن العبد لا يستحق بنفسه على الله شيئًا"5. يقول شيخ الإسلام ابن تيمة: "وأما الاستحقاق؛ فهم يقولون: إن العبد   1 سورة النساء آية 100. 2 تفسير الكهف 1/ 558. 3 ابن تيمية، منهاج السنة 1/ 466- 467. 4 انظر: ص346 وما بعدها. 5 عواد بن عبد الله المعتق، المعتزلة وأصولها الخمسة ص217، "ط. الأولى 1409 هـ، نشر: دار العاصمة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 لا يستحق بنفسه على الله شيئًا، وليس له أن يوجب على ربه شيئًا لا لنفسه ولا لغيره، ويقولون: إنه لا بد أن يثيب المطيعين كما وعد؛ فإنه صادق في وعده ولا يخلف الميعاد"1. وقال في موضع آخر: "واتفقوا على أن الله تعالى إذ وعد عباده بشيء كان وقوعه واجبًا بحكم وعده؛ فإنه الصادق في خبره الذي لا يخلف الميعاد"2.   1 انظر: منهاج السنة 1/ 467. 2 انظر: منهاج السنة النبوية 1/ 448. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 الفصل الثالث: وسطية أهل السنة في باب القدر المبحث الأول: في معنى القدر وحكمه أولًا: معنى القدر القدر في اللغة؛ بفتح الدال وإسكانها؛ لغتان بمعنى: مبلغ الشيء وكنهه. قال صاحب مجمل اللغة: "القدر: مبلغ الشيء وكذلك القدر1"، وقال في "معجم مقاييس اللغة": "القاف والدال الراء: أصل صحيح يدل على مبلغ في "معجم مقاييس اللغة": "القاف والدال والراء: أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته؛ فالقدر: مبلغ كل شيء، يقال: قدره كذا؛ أي: مبلغه، وكذلك القدر..: قال والقدر: قضاء الله تعالى الأشياء على مبالغها ونهاياتها التي أرادها لها، وهو: القدر أيضًا"2. وقال الجوهري: "قدر الشيء مبلغه ... والقدر، والقدر أيضًا ما يقدره الله عز وجل من القضاء"3. وقدر كل شيء ومقداره: مبلغه4. وقال اللحياني: القدر: الاسم، والقدرِ: المصدر5.   1 ابن فارس: مجمل اللغة 3/ 745. 2 ابن فارس: معجم مقاييس اللغة 5/ 62. 3 انظر: الصحاح 2/ 786. 4 ابن منظور: لسان العرب 5/ 78. 5 ابن منظور: لسان العرب 5/ 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 القدر في الشرع: يراد به: أن الله تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدم، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى، وعلى صفات مخصوصة؛ فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى. قاله الإمام النووي1. وقال الحافظ ابن حجر: "والمراد؛ أي: بالقدر- أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد؛ فكل محدث صادر عن علمه وقدرته، وإرادته، -قال- هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية؛ وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين إلى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة"2.   1 انظر: شرح صحيح مسلم 1/ 154. 2 انظر: فتح الباري 1/ 118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 ثانيًا: حكمة ومنزلته من الدين الإيمان بالقدر، أصل من أصول الإيمان، وركن من أركانه الستة التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور؛ حيث قال في الإيمان: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ونؤمن بالقدر خيره وشره" 1 فجعل صلى الله عليه وسلم الإيمان بالقدر ركنا من أركان الإيمان، فمن لم يؤمن به فليس بمؤمن. وقد تظافرت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على إثباته لله عز وجل، كقول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} 2 وقوله عز وجل: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} 3 ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر، حتى   1 تقدم تخرجيه، انظر: ص 278. 2سورة القمر آية 49. 3سورة الفرقان آية 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 العجز والكيس1، أو الكيس والعجز"2. قال طاووس: "أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون "كل شيء بقدر"3. وعند اللالكائي عنه قال: "أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر"4، وذكر اللالكائي ممن يقول بذلك عددًا من أئمة التابعين وفقهاء الأمصار5. وقال الحافظ ابن حجر: "ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى"6. حقيقة القدر الذي يجب الإيمان به: أعلم أنه لا يعد المرء مؤمنًا بالقدر حتى يؤمن بمراتبه الأربع التي هي بمثابة الأركان منه، من أخل بإحداها؛ فليس هو بمؤمن بالقدر حقيقة. الأولى: علم الله سبحانه بالأشياء قبل كونها؛ فيجب الإيمان "بأن الله عز وجل لم يزل عالمًا بالخلق وأعمالهم قبل أن يخلقهم، ولا يزال عالمًا بهم، ولم يزدد في علمه بكينونة الخلق خردلة واحدة"7. ومن الأدلة على تقدم عللمه عز وجل، قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْم   1 الكيس: ضد العجز، وهو النشاط والحذق بالأمور، قال النووي، انظر: شرح صحيح مسلم له 16/ 205. 2 م: كتاب القدر، باب كل شيء بقدر 4/ 2045، ح 2655. 3 نفس المصدر والجزء والصفحة. 4 انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة 4/ 535.3 5 نفس المصدر 4/ 535- 538. 6 انظر: الفتح 11/ 478. 7 عثمان بن سعيد الدارمي، الرد على الجهمية، "بتحقيق بدر البدر، ص 112، ط. الدار السلفية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1، وقوله سبحانه {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 2، ومن السنة، قوله صلى الله عليه وسلم في أطفال المشركين: "الله أعلم بما كانوا عاملين" 3. المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة؛ أي: أن الله عز وجل قد كتب كل ما هو كائن قبل أن يكون، كما قاله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} 4. قال الحافظ ابن كثير: "وهذه الآية الكريمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق قبحهم الله"5، وقال في قوله: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} ؛ أي: أن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله -عز وجل؛ لأنه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون"6. ومما يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" 7. والنصوص في ذلك متكاثرة، متظافرة.   1 سورة لقمان آية 34. 2 سورة المزمل آية 20. 3 م: القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة 4/ 2049، ح 2659. 4 سورة الحديد آية 22. 5 انظر: تفسر القرآن العظيم 8/ 52. 6 نفس المصدر والجزء والصفحة. 7 م: كتاب القدر، باب حجاج آدم موسى عليهما السلام 4/ 2044، ح 2653. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 المرتبة الثالثة: مشيئته سبحانه للأشياء قبل كونها، وأنه لا يقع شيء في الكون إلا بمشيئته، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة. منها قوله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} 1، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} 2، وقوله سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 3، وغير ذلك من الآيات. قال الإمام ابن القيم: "قد دل على ذلك إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه، وأدلة العقول والعيان وليس فيا لوجود موجب ومقتض إلا مشيئة الله وحده؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن"4. المرتبة الرابعة: خلق الله سبحانه الأعمال وتكوينه وإيجاده لها. قال ابن القيم: "وهذا أمر متفق عليه بين الرسل صلى الله تعالى عليهم وسلم، وعليه اتفقت الكتب الإلهية، والفطر والعقول. وخالف في ذلك مجوس الأمة"5. وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الله سبحانه هو خالق الخلق وأفعالهم كقوله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 6   1 سورة البقرة آية 253. 2 سورة المائدة آية 48. 3 سورة التكوير آية 29. 4 انظر: شفاء العليل ص 43، "ط 1398 هـ 1978، نشر: دار المعرفة -بيروت". 5 انظر: شفاء العليل ص 49. 6 سورة الزمر آية 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون} 1، وقوله عز وجل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} 2؛ فأخبر نه هو الذي يجعل السرابيل: وهي الدروع والثياب المصنوعة ومادتها لا تسمى سرابيل إلا بعد أن تحليها صنعة الآدميين وعملهم؛ فإذا كانت مجعولة لله فهي مخلوقة له بجملتها صورتها ومادتها وهيأتها3. ومن أدلة ذلك من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته" 4. قال الإمام البخاري رحمه الله: "فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة"5. وعبد: فهذه هي المراتب، إن شئت فقل الأركان التي يدور عليها رحى الإيمان بالقدر ذكرها الإمام ابن القيم، وأفاض في الكلام عليها والاستدلال لها فأفاد وأجاد رحمه الله6.   1 سورة الصافات آية 96. 2 سورة النحل آية 81. 3 ابن القيم: شفاء العليل 54- 55. 4 الإمام البخاري، خلق أفعال العباد ص 25، "ط. الأولى 1404، نشر: مؤسسة الرسالة". 5 نفس المصدر والصفحة. 6 انظر: شفاء العليل ص 29- 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 المبحث الثاني: في نشأة الكلام في القدر ونزاع الناس فيه الحديث عن القدر والنزاع والمخاصمة فيه، والاحتجاج به، من الأمور التي صاحبت الإسلام منذ نشأته؛ بل أنا لا نعدوا لحقيقة إذا قلنا إن جذور الكلام والخوض فيه تمتد إلى ما قبل الإسلام. يؤكد ذلك نصوص من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فقد جاء فيهما ما يدل على أن كفار قريش، خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر ونازعوه فيه، واحتجوا به. يقول الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه: "جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 1، 2. قال الإمام ابن القيم في هذه الآية: "والمخاصمون في القدر نوعان: أحدهما: من يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره، كالذين قالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا. والثاني: من ينكر قضاءه وقدره السابق؛ والطائفتان خصماء الله"3. وأخبر عز وجل في آية أخرى أن المشركين كانوا يحتجون بالقدر ويتعللون بمشيئة الله وينسبون ما وقع منهم من كفر وشرك وعصيان إلى إرادة الله ذلك ومشيئته إياه، منكرين إرادتهم واختيارهم؛ وذلك تنصلًا من مسؤولية ما اقترفوا من شرك وإثم. يقول عز وجل في ذلك: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا   1 سورة القمر آية 48- 49. 2 م: كتاب القدر، باب كل شيء بقدر 4/ 2046، ح 2656. 3 شفاء العليل 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} 1، ثم أخبر سبحانه عن تحقق وقوع ذلك منهم، وقولهم له، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِين} 2. وقال أيضًا: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} 3. ومضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارهًا لما فعلنا؛ لأنكره علينا بالعقوبة ولما مكنا منه4. ولو أراد لحال بيننا وبين عبادة الأصنام؛ فإنه عالم بذلك وهو يقرنا عليه5. وهل هذا القول منهم إلا احتجاج بالقدر، وقول بالجبر؟! وقول عز وجل في آية "الأنعام": {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، وفي آية "النحل": {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يشير إلى أن جذور هذا القول ضاربة في أعماق الأمم المشركة، ويدل دلالة واضحة وصريحة على أن من شأن المشركين والكافرين من بني الإنسان، التعلل بالقدر والميل إلى الجبر لتبرير شركهم وكفرهم، أو على الأقل للتنصل من جريرة ذلك ومسؤليته. وفي آية أخرى من كتاب الله عز وجل، نجد أن المنافقين في عهد رسول   1 سورة الأنعام آية 148. 2 سورة النحل آية 35. 3 سورة الزخرف آية 20. 4 ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 4/ 489. 5 نفس المصدر 7/ 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 الله صلى الله عليه وسلم بدر منهم ما يدل على عدم يقينهم بأن كل شيء يقدر، يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} 1. ذكر الإمام ابن جرير أن الذين قالوا ذلك جماعة من المنافقين2. خوض الصحابة في القدر: وفي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، خاض بعض الصحابة الكرام في القدر فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فانتهوا ولم يعودوا لمثل ذلك أبدًا. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القدر؛ فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: بهذا أمرتم؟ أو لهذا خلفتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم"3، ولم ينقل عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم تكلموا في ذلك إلا عندما ظهرت بدعة القدرية فتكلم من عناصر ذلك منهم بالرد والإنكار عليهم كما سيأتي ذلك. ظهور بدعتي نفي القدر والقول بالجبر: في أواخر عصر الصحابة رضوان الله عنهم، كانت البداية الحقيقة لنشأة الاختلاف والكلام في القدر. إذ نبغ في وقتهم معبد الجهني4 الذي قال بنفي القدر، كما روى الإمام   1 سورة آل عمران آية 156. 2 انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 7/ 331- 332. 3 جه: مقدمة، باب في القدر 1/ 333، ح 85، وقال الشيخ الألباني: "حسن صحيح". انظر: صحيح ابن ماجه 1/ 21، ح 69، وقال أحمد شاكر: صحيح. انظر: شرع على مسند أحمد 10/ 153، ح 6668. 4 وهو معبد الجهني، قال ابن حجر: يقال إنه: ابن عبد الله بن عكيم، ويقال: ابن عبد الله بن عويم، ويقال: ابن خالد، كان صدوقًا في الحديث، وكان أول من تكلم في القدر بالبصرة، وكان رأسًا في القدر، قتله الحجاج سنة 80 هـ، انظر: تهذيب التهذيب 10/ 225- 226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 مسلم عن يحيى بن يعمر1 قال: "كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني. ثم ذكر يحيى أنه لقي عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فقال: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون2 العلم. وإنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف3، فقال ابن عمر منكرًا عليهم ذلك: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر"4. ومعبد إنما تلقى هذه المقالة عن رجل نصراني، كان قد أسلم ثم تنصر مرة أخرى؛ فكان معبد أول من نشر ذلك ونادى به وأظهره، ولا سيما بالبصرة كما تقدم. قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: "أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: سوسن5، وكان نصرانيًا فأسلم، ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان6 عن معبد"7.   1 يحيى بن يعمر بفتح التحتانية والميم بينهما مهملة ساكنة، البصري نزيل مرو وقاضيها، ثقة فصيح، وكان يرسل، مات قبل المائة وقيل بعدها. انظر: ابن حجر: التقريب 2/ 361. 2 يتقفرون العلم: أي: يطلبونه ويتتبعونه. شرح النووي على صحيح مسلم 1/ 155. 3 أنف: أي: مستأنف، لم ييسبق به قدر ولا علم من الله تعالى؛ وإنما يعمله بعد وقوعه. المصدر نفسه 1/ 156. 4 م: كتاب الإيمان، باب بيان الإسلام والإيمان 1/ 36، ح 8. 5 قيل: اسمه سوسن، وقيل: سنسويه وقيل: سنهويه، وقيل غير ذلك، ولم أقف له على ترجمة. 6 تقدمت ترجمته ص 295. 7 الآجري، الشريعة ص 343، واللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 4/ 750، ح 1398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وقال ابن عون1: "أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان، حتى نشأ ها هنا حقير، يقال له: سنسويه البقال، قال فكان أول من تكلم في القدر"2. فهؤلاء هم أقطاب القدرية الأوائل، وكان مذهبهم في القدر يدور على أمرين: أحدهما: نفي علم الله سبحانه بالأشياء قبل وقوعها. والثاني: نفي خلقه لأفعال العباد، وأنها ليست واقعة بقدره. وهؤلاء هم غلاة القدرية الأوائل، وقد انقرض مذهبهم، والمتأخرون منهم يثبتون علم الله سبحانه بالأشياء قبل وقوعها وينفن خلقه لأفعال العباد. قال القرطبي "671 هـ" وغيره: قد انقرض هذا المذهب -أي: مذهب غلاة القدرية- ولا نعرف أحدًا ينسب إليه من المتأخرين. قال: والقدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها؛ وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العابد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال وهو مع كونه مذهبًا باطلًا أخف من الأول"3. وهذا المذهب هو الذي تبنته المعتزلة وجعلته أصلًا من أصولها التي قام عليها كيان الاعتزال، وبسبب قولهم به عرفوا بالقدرية، لنفيهم القدر. وفي مقابل القول بنفي القدر، ظهر قول مضاد ومعاكس له، وهو القول بالجبر، ومضمونه: أن الإنسان مجبور على أفعاله وأنه لا يقدر منها على شيء؛ فهو كالريشة في مهب الريح، وأول من عرف عنه القول بذلك في الإسلام هو:   1 هو: عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون ت 151 هـ، ترجمته لدى ابن سعد، الطبقات 7/ 261، وأبي نعيم، الحلية 3/ 37. 2 اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 4/ 749، ح 1396. 3 ابن حجر: فتح الباري 1/ 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الجهم بن صفوان1 الذي كان من مقالته: "وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا الله وحده، وأنه هو الفاعل وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يقال: تحركت الشجرة ودار الفلك، وزالت الشمس؛ وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله -سبحانه-"2. ومن خلال مقالتي الطائفتين، يتبين لنا أن القدرة النفاة مفرطون في هذا الباب، مقصرون فيه بما سلبوا الله قدرته، وقولهم: إن العباد هم الخالقون لأفعالهم. كما يتضح لنا مدى غلو الجهمية الجبرية في إثبات القدر حتى سلبوا الإنسان مشيئته وإرادته وعدوه بمنزلة الجماد، وأنه لا فعل له في الحقيقة، وأنه مجبور على أفعاله غير مختار فيها. وكلا الفريقين من الإفراط والتفريط على شفا جرف هار، والطريف المستقيم القصد. فكل منهما قد أخطأ وضل في هذا الباب، وإن كان هذا لا يمنع أن يكون مع كل منهما بعض الحق والصواب؛ لكن الحق المحض والصواب المحض ليس هو في قول واحد منهما؛ وإنما هو قول خارج عن قولهما جمع ما عند كل من الفريقين من حق وصواب، وخلا مما وقع فيه الفريقان من خطأ وضلال. ذلك هو قول أهل السنة والجماعة في هذا الباب، الذي هو حق بين الباطلين، وهدى بين الضلالتين، به كانوا وسطًا بين إفراط وتفريط الفريقين في هذا الباب، كما سنوضح ذلك في المبحث التالي بعون الله.   1 تقدمت ترجمته ص 296. 2 الأشعري، المقالات 1/ 338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 المبحث الثالث: في بيان وسطية أهل السنة في هذا الباب مدخل ... المبحث الثالث: في بيان وسطية أهل السنة في هذا الباب في المبحث السابق أشرنا إجمالًا إلى كون كل من فريقي القدرية، والجبرية، قد زال عن الصراط السوي؛ إما إلى تفريط، وإما إلى إفراط، وأن أهل السنة والجماعة هدوا إلى سواء الصراط في هذا الباب كغيره من الأبواب. وفي هذا المبحث سأحاول إبراز جوانب وسطية أهل السنة في ذلك، من خلال مقابلة ومقارنة قولهم بأقوال كل من الطائفتين؛ وذلك في بعض أمهات مسائل هذا الباب. وقيل ذلك أذكر نفسي وإياك بما سبق من الحديث عن أركان القدر أو مراتبه الأربع، التي لا يعد المرء بالقدر حقًا؛ إلا إذا حقق الأمان بها جميعًا وهي: 1- علم الله سبحانه بالأشياء قبل وقوعها. 2- كتابته لها بعد علمه بها. 3- مشيئته وإرادته لها أنها لا تقع إلا بمشيئته وإرادته. 4- خلقه لجميع الأعمال وتكوينه وإيجاده لها، وأن كل ما سواه مخلوق. فأما العلم والكتابة؛ فلم ينازع فيهما إلا غلاة القدرية، الذين ذكرنا أنهم كانوا يقولون بنفي العلم، وأشرنا إلى انقراض هذا الصنف1. وأما القدرية الذين جاءوا بعدهم، وهم المعتزلة، فلم ينازعوا في العلم والكتابة، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله: فغلاتهم أنكروا العلم والكتابة، ومقتصدتهم، أنكروا عموم مشيئة الله وخلقه وقدرته وهؤلاء هم   1 انظر ص 371. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 المعتزلة ومن وافقهم1. ويقول الخياط -وهو من مصنفي المعتزلة- عن إثبات المعتزلة لعلم الله بأفعال العباد: "إن المعتزلة لم ينكروا العلم الأزلي؛ فالله تعالى عندهم لم يزل عالمًا بكل ما يكون من أفعال خلقه، ولا تخفى عليه خافية، ولم يزل عالمًا من يؤمن ومن يكفر ومن يعصى"2. وإنما حصل النزاع والتفرق والاختلاف والضلال، في مرتبتي، خلق أفعال العباد، وكونها تقع بمشيئته وإرادته، وفي ما تفرع عنهما، وتعلق بهما من مسائل. ولذلك سوف أقصر حديثي عن وسطية أهل السنة في هذا الباب، على هاتين المرتبتين لأهميتهما.   1 انظر: التدمرية ص208، "بتحقيق محمد بن عوده السعوي، ط. الأولى 1405 هـ- 1985 م". 2 انظر: الانتصار ص118، "ط. دار الكتب المصرية 1344 هـ 1925 م"، اقتبسه عواد بن عبد الله المعتق في كتابه المعتزلة وأصولهم الخمسة ص170، "ط. الأولى 1409، نشر: دار العاصمة". ولم أقف على هذا النص في طبعة الانتصار التي بين يدي بتحقيق ألبير نصر نادر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 أولًا: وسطيتهم في خلق أفعال العباد هذه المسألة من أهم وأخطر مسائل القدر، ولقد زلت فيها أقدام، وحارت عقول وأفهام؛ فقد اختلف الناس هل الأفعال والأعمال الصادرة عن العباد مخلوقة لله عز وجل مقدورة له، أم لا؟ وافترقوا في ذلك إلى طرفين وواسطة: الطرف الأول "الجبرية": سموا بذلك نسبة إلى الجبر لقولهم به في باب القدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 والجبر هو: إسناد فعل العبد إلى الله1. وعرفه الشهرستاني بأنه: نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى2. والجبرية صفنان: - جبرية متوسطة. - وجبرية خالصة. فأما الجبرية الخالصة: فلا تثبت للعبد قدرة على الفعل أصلًا3، وهؤلاء هم الجهمية أتباع جهم بن صفوان الذي كان يقول: "إنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس، وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله -سبحانه"4. ويرى جهم: "أن الإنسان لا يقدر على شيء. ولا يوصف بالاستطاعة؛ وإنما هو مجبور في أفعاله، لا قدرة له، ولا إرادة، ولا اختيار؛ وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات"5، وعنده أن الفاعل حقًا هو الله، ومن سواه ليس بفاعل على الحقيقة6. فهذا قول الجبرية الخالصة، وهو صريح في نفي قدرة العبد على فعله وأن الفاعل هو الله وحده.   1 علي بن محمد الجرجاني، التعريفات ص 74، "ط الأولى 1403، نشر: دار الكتب العلمية - بيروت". 2 انظر: الملل والنحل 1/ 85. 3 نفس المصدر 1/ 85. 4 انظر: الأشعري، المقالات 1/ 338. 5 انظر: الشهرستاني، الملل والنحل 1/ 87. 6 انظر: ابن القيم، شفاء العليل 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وأما الجبرية المتوسطة: فهي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة1. وبعد الجرجاني، والإيجي: الأشعرية من هذا الصنف في قولهما: "الجبرية اثنتان: متوسطة تثبت لعبد كسبًا كالأشعرية، وخالصة لا تثبته كالجهمية"2. وإذا رجعنا لمصادر الأشاعرة لتبين حقيقة قولهم في أفعال العباد، نجد أنهم يقولون: 1- إن أفعال العبد مخلوقة لله عز وجل. 2- إنها مع كونها خلق الله فهي كسب للعبد. وله عليها قدرة غير مؤثرة. يقول البغدادي: "واختلفوا في أكساب العباد وأعمال الحيوانات على ثلاثة مذاهب: أحدها: قول أهل السنة إن الله عز وجل خالقها، كما أنه خالق الأجسام والألوان والطعوم والروايح، لا خالق غيره؛ وإنما العباد مكتسبون لأعمالهم"3. ويشرح الجويني معنى كون العبد مكتسبًا لفعله فيقول: "العبد غير مجبر على أفعاله؛ بل هو قادر عليها مكتسب لها، والدليل على إثبات القدرة للعبد أن العاقل يفرق بين أن ترتعد يده، وبين أن يحركها قصدًا. ومعنى كونه مكتسبًا أنه قادر على فعله، وإن لم تكن قدرته مؤثرة في إيقاع المقدور"4.   1 انظر: الشهرستاني، الملل والنحل 1/ 85. 2 انظر: التعريفات ص74، والمواقف 428. 3 انظر: أصول الدين ص134، "ط. مصورة عن طبعة إستانبول 1346 هـ - 1928 م". 4 انظر: لمع الأدلة ص107، "بتحقيق د. فوقيه حسين محمود، ط. الأولى 1385 هـ - 1965 م، نشر: المؤسسة المصرية العامة للتأليف - مصر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 والبيجوري يقول في تعريف الكسب: وقد عرفوا الكسب بتعريفين: الأول: أنه ما يقع به المقدور من غير صحة انفراد القادر به. الثاني: أنه ما يقع به المقدور في محل قدرته1. وأشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنهم فسروا الكسب بأنه ما يحصل في محل القدرة المحدثة مقرونًا بها، ثم عقب على ذلك بقوله: "وأكثر الناس طعنوا في هذا الكلام"2. وعلى ضوء تفسير الأشاعرة للكسب، وأنه قدرة غير مؤثرة في وقوع الفعل ولكنها مصاحبة له، تبرز الصلة بين قولهم وقول الجبرية: فالجبرية -الجهم وأصحابه- عندهم أنه ليس للعبد قدرة البتة. والأشاعرة يقولون: ليس للعبد قدرة مؤثرة. والقدرة غير المؤثرة كعدمها. ومن هنا قال بعض أهل العلم: إن الأشاعرة وافقوا جهمًا وأصحابه في المعنى. وذلك كقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن الأشعرية وبضع المثبتين للقدر وافقوا الجهم بن صفوان في أصل قوله في الجبر، وإن نازعوه في بعض ذلك نزاعًا لفظيًا أتوا بما لا يقعل. وبالغوا في مخالفة المعتزلة في مسائل القدر حتى نسبوا إلى الجبر"3.   1 انظر: تحفة المريد ص 104، "ط. الأولى 1403 هـ - 21983 م، نشر: دار الكتب العلمية - بيروت". 2 انظر: منهاج السنة 1/ 459. 3 انظر: منهاج السنة 1/ 463- 464. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 الطرف الثاني "القدرية": ذكرنا فيما سبق أن القدرية الغلاة الأوائل انقرضوا، وأن المعتزلة1 تبنت القول بنفي القدر، وجعلته أحد أصول مذهبها؛ فعرفوا لأجل ذلك بالقدرية. وهو اسم أطلقه عليهم أهل السنة وغيرهم، وهم يتمنعون منه، ولا يقرون به، يقول القاضي عبد الجبار في ذلك: "اعلم أن القدرية عندنا إنما هم المجبرة والمشبهة، وعندهم المعتزلة؛ فنحن نرميهم بهذا اللقب ويرموننا به"2. وعلى أي حال فقد أصبح علمًا عليهم، كطرف مقابل للجبرية. وكان قولهم في أفعال العباد أنها غير مخلوقة لله عز وجل، وأنهم هم المحدثون لها من دونه. يقول القاضي عبد الجبار -وهو من أئمة القدرية: "اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم، وقيامهم وقعودهم، حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها، ولا محدث سواهم، وأن من قال: إن الله سبحانه خالقها ومحدثها؛ فقد عظم خطؤه"3. وعقد في كتاب "شرح الأصول الخمسة" فصلًا في "أفعال العباد" أشار فيه إلى أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنهم المحدثون لها4. وقال ابن المرتضى: "وأجمعوا؛ -أي: المعتزلة- أن فعل العبد غير   1 انظر: شرح الأصول الخمسة ص772. 2 انظر: شرح الأصول الخمسة 772. 3 انظر: المغني في أبوال العدل والتوحيد 8/ ص 3، "ط. الأولى 1380 هـ - 1960 م، نشر: دار الثقافة والإرشاد، مطبعة دار الكتب". 4 ص 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 مخلوق فيه"1. فهذه النصوص من كتب المعتزلة كافية في تصوير مذهبهم، وإثبات قولهم في نفي خلق الله أفعال العباد. الواسطة بين الطرفين "وهم أهل السنة": وقولهم في أفعال العباد هو: - أنها مخلوقة لله عز وجل على الحقيقة. - وهي فعل للعباد على الحقيقة. - وأنهم قادرون على أفعالهم بقدرة حقيقة مؤثرة في وقع الفعل منهم، والله هو الذي أقدرهم على ذلك. هذا مجمل قول أهل السنة في هذه المسألة، الذي عليه سلف الأمة وأئمته، كما يتضح ذلك من خلال النقول التالية عنهم: يقول الإمام الصابوني: "ومن قول أهل السنة والجماعة في أكساب العباد إنها مخلوقة لله تعالى، لا يمترون فيه، ولا يعدون من أهل الهدى ودين الحق من ينكر هذا القول وينفيه"2. وعقد الإمام اللالكائي بابًا في سياق ما نقل من إجماع الصحابة والتابعين والخالقين لهم من علماء الأمة "أن أفعال العباد مخلوقة لله عز وجل وطاعاتها ومعاصيها"3. وقال محرر مذهب أهل السنة وضابط أصوله وقواعده بحق، شيخ الإسلام   1 انظر: المنية والأمل ص 6، "بتحقيق توما آرنلد". 2 انظر: عقيدة السلف أصحاب الحديث ص 75. 3 انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/ 534. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ابن تيمية رحمه الله عليه وعلى سائر أمة سلفنا الصالحين: "وأما جمهور أهل السنة المتبعون للسلف والأئمة فيقولون: إن فعل العبد فعل له حقيقة؛ ولكنه مخلوق لله ومفعول لله، لا يقولون هو نفس فعل الله، ويفرقون بين الخلق والمخلوق والفعل والمفعول"1. وقال في موضع آخر: "وأما سائر أهل السنة فيقولون: إن أفعال العباد فعل لهم حقيقة. ويقول جمهورهم الذين يفرقون بين الخلق والمخلوق: أنها مخلوقة لله ومفعولة له، ليست هي نفس فعله وخلقه الذي هو صفته القائمة به"2. فيرون أن الفعل غير المفعول؛ فحركاتهم واعتقاداتهم أفعال لهم حقيقة، وهي مفعولة لله سبحانه مخلوقة له حقيقة، والذي قام بالرب عز وجل علمه وقدرته ومشيئته وتكوينه، والذي قام بهم هو: فعلهم وكسبهم وحركاتهم وسكناتهم، فهم المسلمون المصلون القائمون القاعدون حقيقة، وهو سحبانه المقدر لهم على ذلك، القادر عليه الذي شاءه منهم وخلقه لهم3. ويقول شارح "الطحاوية" بعد أن ذكر قول الجبرية والقدرية في ذلك: "وقال أهل الحق: أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة لله تعالى، والحق سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه"4. وبعد: فمن خلال هذا العرض لأقوال الجبرية، والقدرية، وأهل السنة، نرى أن أهل السنة جمعوا ما في قول الطائفتين من حق فقالوا به، ولم يوافقوا أيًا   1 انظر: منهاج السنة 2/ 298. 2 انظر: نفس المصدر 1/ 459- 460. 3 ابن القيم، شفاء العليل 52. 4 انظر: ابن أبي العز، شرح الطحاوية ص 493. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 منهما فيما عندها من خطأ. فالجبرية: محقون في قولهم: إن الله خالق أفعال العباد، ومخطئون في قولهم: إن العبد ليس بفاعل لأفعاله في الحقيقة؛ وإنما الفاعل هو الله. والقدرية: محقون في: إثباتهم قدرة العبد على أفعاله، وفعله لها ومسئوليته عنها. ومخطئون في قولهم: إن العبد خالق أفعاله، وأن الله ليس بخالق لأفعال العبيد، فأثبتوا خالقين مع الله. وأهل السنة: قالوا بما مع الطائفتين من حق فقالوا: الله خالق أفعال العابد على الحقيقة؛ لأن العباد خلق له، وأفعال المخلوقين مخلوقة، لقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون} 1، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته" 2، وقالوا: العبد فاعل لفعله حقيقة، وقادر عليه بإقدار الله له عليه، والله أثبت للعبيد فعلًا فقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} 3، وقال: {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون} 4 ونحو ذلك، وردوا ما مع الطائفتين من باطل.   1 سورة الصافات آية 96. 2 تقدم تخريجه: انظر: ص336. 3 سورة البقرة آية 197. 4 سورة هود آية 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فلم ينفوا فعل العبد أصلًا كما قالت الجبرية. ولم يجعلوا العباد خالقين لأفعالهم من دون الله عز ودل، كما قالت القدرية. فهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، وعملوا بجميع النصوص الواردة في الباب، ولم يضربوا بعضها ببعض؛ فإن الجبرية عملوا بالنصوص الدالة على أن الله خالق كل شيء، وأن كل شيء بقدر الله وقضائه ومشيئته، وأغفلوا ما دل منها على أن للعبد فعلًا وقدرة وإرادة. والقدرية أخذوا بالنصوص الدالة على أن العبد هو الفاعل لفعله على الحقيقة، وأن له قدرة وغرادة، ومشيئته، واختيارًا، وأهملوا ما دل منها على خلق الله لأفعال عبيده وعموم قدرته عليها، ومشيئته لها. والحق هو إعمال جميع النصوص كل فيما دل عليه، وهو ما هدى الله له أهل السنة؛ فليس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تضارب أو تناقض، والجمع بين ما في ظاهره شيء من ذلك ممكن عند أهل الحق والعلم. فكل دليل صحيح يقيمه الجبري؛ فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته، وأنه شياء كان وما لم يشأ لم يكن. ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل في الحقيقة، ولا مريد، ولا مختار، وأن حركاته الاختيارية بمنزلة حركة المرتعش، وهبوب الرياح وحركات الأشجار. وكل دليل صحيح يقيمه القدري؛ فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأنه مريد له مختار له حقيقة، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته. فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى؛ فإنما يدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 على ما دل عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة، من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال. وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم. وهذا ما فعله أهل السنة؛ فكانوا بذلك وسطًا بين الطائفتين، وجاء قولهم هدى بين الضلالتين، ضلالة الجبر المفضي إلى تعطيل الأمر والنهي، وإبطال الثواب والعقاب، وضلالة نفي القدر الذي حاصله وجود خالقين من دون الله وتجويز أن يكون في ملكه ما لا يقدر عليه ولا يريده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ثانيًا: وسطيتهم في معنى إرادة الله ومشيئته ومحبته ورضاه تقدم أن مشيئة الله وإرادته، إحدى مراتب القدر الأربع، التي لا بد من الإيمان بها في باب القدر؛ فلا بد من الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. ومن المعلوم بداهة أنه يقع في الكون ما هو طاعة وإيمان وخير، وبر وإحسان، كما يقع فيه ما هو معصية وكفر وشر؛ فهل كل ذلك وقع بمشيئة الله وإرادته؟ الخير من ذلك والشر؟ الإيمان، والكفر، الطاعة، والمعصية؟ وإذا قلنا: إن كل ذلك أراده الله وشاءه، وقضاه وقدره؛ فهل أحبه ورضيه، أم هو كره الكفر والمعصية والشر من ذلك؟ وإذا قلنا أنه أحبه ورضيه فكيف يؤاخذ عباده عليه، ويعذبهم لأجله؟ تجاه هذه الإيرادات والاستشكالات، تباينت مواقف الفرق، واختلفت أقوالها، فضل في ذلك طوائف، وهدى الله المعتصمين بكتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لما اختلفوا فيه من الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 1- فقالت المعتزلة: كل ما أراده الله وشاءه فقد أحبه ورضيه، فسووا بين إرادته ومشيئته وبين محبته وجعلوهما بابًا واحدًا. ثم قالوا: الكفر والفسوق والعصيان لا يحبها ولا يرضاها؛ فلا يريدها ولا يشاؤها فأخرجوها من محيط إرادته وعموم مشيئته. يقول القاضي عبد الجبار في تقرير قولهم هذا: "وأحد ما يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدًا للمعاصي، هو أنه لو كان مريدًا لها لوجوب أن يكون محبًا لها وراضيًا بها؛ لأن المحبة والرضا والإرادة من باب واحد، بدلالة أنه لا فرق بين أن يقول القائل أحببت أو رضيت وبين أن يقول أردت"1. وقال: "إنه تعالى لا يريد القبائح ولا يشاؤها، بل يكرهها ويسخطها"2. وقال في قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَاد} 3: "يدل على أنه -تعالى- لا يريد الفساد ولا يحبه، سواء كان من جهته أو من جهة غيره"4. وواضح من هذه النصوص أن: المعتزلة لا يفرقون بين الإرادة والمشيئة، والمحبة والرضا، ومن ثم جعلوا الكفر والمعاصي والفساد ونحو ذلك، ليست مرادة لله عز وجل، ولا واقعة بقدره ومشيئته؛ لأنه لا يحبها ولا يرضاها، إذا معنى الإرادة هو معنى المحبة والرضى. 2- وقالت الجبرية: الكون كله بقضاء الله وقدره والله هو الخالق الفاعل في الحقيقة؛ إذ   1 انظر: شرح الأول الخمسة 464. 2 نفس المصدر ص 459. 3 سورة البقرة آية 205. 4 شرح الأصول الخمسة 460. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 الإنسان مجبور على أفعاله لا قدرة له ولا إرادة، كما تقدم؛ فكل ما وقع في الكون يكون محبوبًا مرضيًا له1، سواء في ذلك الإيمان والكفر، والطاعات والمعاصي؛ إذ كل ذلك واقع بإراداته ومشيئته، فسووا بين الإرادة والمحبة والرضى2. لذلك احتجوا بالقدر على المعاصي، وقال قائلهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} 3. وإذا كان هذا قول الجبرية الخالصة؛ فماذا يقول الجبرية المتوسطة، وهم الأشاعرة؟ يرى الأشاعرة "أن كل حادث مراد لله تعالى حدوثه، ولا يختص تعلق مشيئة الباري بصنف من الحوادث دون صنف؛ بل هو تعالى مريد لوقوع جميع الحوادث، خيرها وشرها نفعها وضرها"4؛ فكل الحوادث لا تخرج عن إرادته عز وجل، وهذا كلام لا غبار عليه؛ لكن هل يحب الكفر والمعاصي إذا أرادها؟ ماذا يقول الأشاعرة؟ ومن مذهبهم أن المحبة والرضى بمعنى: الإرادة، بذلك يؤولون محبة الله ورضاه؛ فهل يقولون: إن الله أحب ذلك ورضيه؟ لقد اضطربوا في ذلك اضطرابًا بينًا واختلف أئمتهم في ذلك. يحدثنا إمام الحرمين الجويني عن ذلك؛ فيقول: "ومما اختلف أهل الحق في إطلاقه، ومنع إطلاقه، المحبة والرضا؛ فإذا قال القائل: هل يحب الله تعالى كفر الكفار ويرضاه؟ فمن أئمتنا من لا يطلق ذلك ويأباه، ثم هؤلاء تحزبوا حزبين: -ثم ذكر قولهما- ثم قال: ومن حقق من أئمتنا لم يكع5 عن تهويل المعتزلة، وقال: المحبة بمعنى:   1 انظر: ابن أبي العز، شرح الطحاوية 279. 2 نفس المصدر 279. 3 سورة الأنعام آية 148. 4 الجويني الإرشاد 237. 5 يكع: أي: يجبن. انظر: ابن منظور، لسان العرب 8/ 317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الإرادة، وكذلك الرضا، والرب تعالى يحب الكفر، ويرضاه كفرًا معاقبًا عليه"1؛ فأثبت أن المحبة هي الإرادة. 3- وقال أهل السنة: ليس معنى إرادة الله ومشيئته هو معنى محبته ورضاه؛ بل بينهما فرق لا بد من التنبه له. فإن الإرادة في كتاب الله نوعان: 1- إرادة شرعية أمرية دينية: وهي التي تتضمن معنى المحبة والرضى، كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} 2، وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 3. 2- إرادة قدرية كونية خلقية: وهي التي بمعنى المشيئة الشاملة لجميع الموجودات؛ وذلك مثل الإرادة في قوله عز وجل: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد} 4، وقوله: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} 5، وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} 6.   1 الجويني: الإرشاد 238- 239. 2 سورة البقرة آية 185. 3 سورة النساء آية 27، 28. 4 سورة البقرة آية 253. 5 سورة هود آية 34. 6 سورة الأنعام آية 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وقالوا: إن الله وإن كان يريد المعاصي إرادة كونية قدرية؛ فهو لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها؛ بل يبغضها ويسخطها، ويكرهها، وينهى عنها، هذا قول السلف والأئمة قاطبة. فيفرقون بين إرادته التي تتضمن محبته ورضاه، وبين إرادته ومشيئته الكونية القدرية التي لا يلزم منها المحبة والرضى. وبهذا التميز بين الإراداتين يمتاز قول أهل السنة عن قول كل من فريقي القدرية المعتزلة، والجبرية الخالصة والمتوسطة، الذين سووا بين الإرادة والمشئية وبين المحبة والرضى؛ فضل المعتزلة إذ ذهبوا إلى القول بأنه يقع في ملك الله ما لا يريد ولا يشاء، وهلك أهل الجبر بقولهم: إن الكفر والشرك والعصيان محبوبة لله مرضية عنده. ومنشأ ضلال الفريقين إنما هو تسويتهم بين الإرادة والمشيئة، وبين المحبة والرضى، وجعلهم معنى إرادته هو معنى محبته ورضاه. وهدى الله أهل السنة لأحسن القول. فميزوا وفرقوا بين الأمرين، وخلصوا بالحق من بين الضلالتين، وهذا عنوان وسطيتهم، وآية اعتدالهم واتزانهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الفصل الرابع: وسطيتهم في باب الصحابة تمهيد : قبل الحديث في مباحث هذا الفصل، أرى أن نعرض بشيء من الإيجاز لأمرين بحسن الإلهام بهما، ونحن نتحدث عن وسطية أهل السنة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الأول: التعريف بالصحابة من هم؟ من يدخل في مسمى الصحبة ومن لا يدخل؟ والثاني: بيان منزلة الصحابة من الكتاب والنسة؟ حتى إذا عرفنا ذلك؛ بينا بعد مواقف الناس وأقوالهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضوان الله عنهم، ومن وافق منهم ما قاله الله ورسوله فيهم، ومن أفرط أو فرط، وزال عن المنهج الوسط، والصراط المستقيم، وأخذت به الجهالات، والأهواء ذات اليمين أو ذات الشمال فهلك بإتباعه غير سبيل المؤمنين. تعريف الصحابي: أجمع وأوفى ما قيل في تعريف الصحابي، ما ذكره ابن حجر رحمه الله في مقدمة كتاب "الإصابة" "وهو: أن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على الإسلام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وبين رحمه الله أنه أصح ما وقف عليه من التعاريف1؛ وذلك أنه جامع مانمع، فيدخل في قولنا: "من لقي النبي صلى الله عليه وسلم": من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى. ويخرج بقيد الإيمان في قولنا "مؤمنًا به": من لقيه مؤمنًا بغيره، من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة، ولم يؤمن به. ويدخل في قولنا: "مؤمنًا به" كل مكلف من الجن والإنس. ويخرج بقولنا: "ومات على الإسلام": من لقيه مؤمنًا به، ثم ارتد ومات على ردته والعياذ بالله. ويدخل فيه: من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت سواء اجتمع به صلى الله عليه وسلم مرة أخرى أم لا2. قال ابن حجر رحمه الله: "وهذا تعريف بني على الأصح المختار عند المحققين، كالبخاري وشيخه أحمد بن حنبل ومن تبعهما، وراء ذلك أقوال أخرى شاذة"3. منزلة الصحابة ومكانتهم في الكتاب والسنة: إن المتأمل في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليدرك دونما أدنى مواربة المنزلة السامية والمكانة الرفيعة التي يتبوؤها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك بأنهم آمنوا بالله ورسوله، وجاهدوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل الله وآووا، ونصروا، فهم أصحاب رسول الله، وأصهاره، ووزراؤه وأنصاره وحملة رسالته.   1 الإصابة 1/ 7. 2 نفس المصدر، بتصرف يسير 1/ 7- 8. 3 المصدر السابق 1/ 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ومبلغوا دعوته، بهم استقام الدين وعلى أيديهم انتشر الإسلام؛ فلهم في عنق كل مسلم منه، وعند كل مؤمن يد؛ فعن طريقهم وصل إليه الإسلام والهدى والنور. ولقد أثنى الله ورسوله عليهم خيرًا، ودلت نصوص الكتاب والسنة على فضلهم وعظم منزلتهم من وجوه متعددة. منها: التصريح بأنهم خير الخلق بعد الأنبياء: يدل على ذلك قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1، وقوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 2. وإن كان يدخل معهم غيرهم ممن جاء بعدهم واقتفى أثرهم؛ إلا أنهم بذلك أولى، إذا هم المشافهون والمخاطبون بهذه الآيات، ومن جاء بعدهم إنما ينال من ذلك ويصيب منه بقدر إتباعه لهم واقتدائه بهم. ومما يدل على أنهم خير هذه الأمة قوله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" 3. فالمراد بقوله صلى الله عليه وسلم "قرني"؛ أي: أهل قرني4، وهم الصحابة رضوان الله عنهم. ومنها: التصريح برضوان الله عنهم وإثباته إياهم. فقد أخبر عز وجل برضاه عمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة؛ وذلك   1 سورة آل عمران آية 110. 2 سورة البقرة آية 143. 3 تقدم تخريجه. ص 97 هامش "4".. 4 انظر: ابن حجر، فتح الباري 7/ 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 في غزوة الحديبية1. فقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} 2. فصرح سبحانه برضاه عن الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة، وكان عددهم ألفًا وأربعمائة، وفي بعض الروايات أكثر من ذلك3. وأخبر صلى الله عليه وسلم بنجاتهم من النار؛ فقال: "لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة" 4. كما أخبر عز وجل عن رضاه عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ومن أتبعهم بإحسان، وهذا يعم جميع الصحابة؛ فقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 5. فصرح سبحانه برضاه عنهم، ورضاهم عنه، وبما أعد لهم من الجنات والنعيم المقيم، وفي إخباره بخلودهم في الجنة دلالة على موتهم على الإيمان والرضوان بخلاف قول أهل الزيغ والطغيان.   1 وكانت هذه الغزوة في السنة السادسة من الهجرة، كما قال ابن كثير في البداية 4/ 166. والحديبية: قرية متوسطة -ليست بالكبيرة- سميت ببئر هناك. قاله الحموي في معجم البلدان 2/ 229. وانظر عن هذه الغزوة، مرويات غزوة الحديبية، للشيخ حافظ حكمي. 2 سورة الفتح آية 18. 3 لتحقيق ذلك راجع: مرويات غزوة الحديبية، حافظ حكمي ص39- 53، "ط. المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية 1406 هـ". 4 ت: مناقب، باب فضل من بايع تحت الشجرة 5/ 595، ح 368، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال اللالباني: صحيح. انظر: صحح الترمذي 3/ 240، ح 3033. 5 سورة التوبة آية 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: "فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛ فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم؛ أعني: الصديق الأكبر، والخليفة أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه"1. ومنها: ثناؤه عليهم ووعده لهم بالحسنى قال عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 2. ففي هذه الآية الكريمة أثنى الحق تبارك وتعالى على الذين أنفقوا من قبل الفتح -أي: فتح مكة كما هو رأي الجمهور-3 وبين أنهم أعظم درجة ممن أنفق وقاتل بعد ذلك؛ "ذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديد فلم يكن حينئذ إلا الصديقون، أما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهورًا عظيمًا ودخل الناس في دين الله أفواجًا"4. وممن أنفق قبل الفتح وقاتل أئمة الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم رضوان الله عليهم ممن أسلم قبل الفتح وجاهد بنفسه في سبيل الله؛ فهم أعظم درجة وأفضل من بعدهم {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ، وقال القرطبي: "أي: المتقدمون المتناهون السابقون، والمتأخرون اللاحقون   1 تفسير القرآن العظيم 4/ 142. 2 سورة الحديد آية 10. 3 انظر: ابن كثير. تفسير القرآن العظيم 8/ 37. 4 نفس المصدر 8/ 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وعدهم الله جميعًا الجنة مع تفاوت الدرجات"1. ومنها: ثناؤه عليهم أيضًا ووصفه لهم بالشدة على أعداء الله، والرحمة للمؤمنين وكثرة وحسن عبادتهم، وإخلاصهم فيها لله عز وجل. كما في قوله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 2. وقد دلت هذه الآية على عظم قدر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم منزلتهم وفضلهم، وأن الكفار هم الذين يغيظهم ذلك، ويغصون به، ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله: "من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية"3، وذكره القرطبي ثم قال عقبه: "لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله؛ فمن نقص واحدًا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين"4. وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله عز وجل: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} "أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم"5.   1 الجامع لأحكام القرآن 17/ 157، "ط. الأولى عام 1408، نشر: دار الكتب العلمية - بيروت". 2 سورة الفتح آية 29. 3 أبو نعيم/ الحلية 6/ 327، وذكره البغوي في معالم التنزيل 4/ 207. 4 انظر الجامع لأحكام القرآن 16/ 195. 5 الحاكم: المستدرك 2/ 462، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. رواه ابن أبي عاصم في السنة ح 1003، وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط الشيخين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ومنها: النهي عن سبهم أو النيل منهم: ومما جاء صريحًا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد1 أحدهم ولا نصيفه" 2، 3. وفيه إلى جانب النهي عن سبهم، بيان أن لا أحد يبلغ مبلغهم، وإن أنفق أكثر منهم: "ذلك أن جهد المقل منهم واليسير من النفقة الذي أنفقوه في سبيل الله مع شدة العيش والضيق الذي كانوا فيه، أوفى عند الله وأزكى من الكثير الذي ينفقه من بعدهم؛ وذلك لما في قلوبهم من صدق الإيمان وإخلاص وصفاء السريرة، وطهارة القلوب وزكاء النفوس"4. وبعد فهذا عرض مقتضب لمنزلة الصحابة رضي الله عنهم، ومكانتهم في الكتاب والسنة على وجه العموم، ولكل منهم فضائل ومناقب، ومآثر ومفاخر ليس من غرضنا هنا ذكرها؛ وإنما القصد تذكير القارئ الكريم بعظم حقهم ومنزلتهم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليعلم مبلغ جرم وظلم من أزرى بهم، وتطاول على مقامهم، ممن جاء بعدهم وسيأتي ذكرهم؛ فإن مع وضوح فضلهم وظهوره كما تقدم، فقد هلك فيهم أقوام، وضل بسبب الكلام الآخر وأفرط، والحق بين غلو الغالين وجفاء المقصرين أبلج عليه من الله نور وكتاب مبين، عشت عنه أبصار الزنادقة الهالكين، ولم تهتد إليه أفئدة الجالهين المارقين، وأبصره وتمسك به   1 المد "بضم الميم في الأصل": ربع الصاع؛ وإنما قدره به؛ لأنه أقل ما كانوا يتصدقون به في العادة. وهو رطل وثلث بالعراقي عند الشافعي وأهل الحجاز، وهو رطلان عند أبي حنيفة وأهل العراق. انظر: النهاية لابن الأثير 4/ 308. 2 التصنيف: هو النصف كالعشير في العشر. انظر: نفس المصدر 5/ 65. 3 خ: فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا خليلًا" 7/ 21، ح 3673. 4 انظر: مختصر سنن أبي داود ومعه معالم السنن، للخطابي 7/ 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 من أراد الله به خيرًا من هذه الأمة، فعرف للصحابة الأجلاء فضلهم ومنزلتهم وسابقتهم في الإسلام، ولم يقصر أو يفرط في حقهم، ولم يبالغ أو يغلو فيهم أو في بعضهم فيزلهم فوق مكانتهم، ولم يعد بهم قدرهم ومنزلتهم التي هم عليها. وهؤلاء هم أهل السنة والجماعة؛ فهم أهل توسط واعتدال في هذا الباب، كما هم كذلك في غيره من سائر أمور دينهم كما تقدم، فهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط بين الخوارج وبعض أئمة الاعتزال، وبين الشيعة والرافضة، فأولئك جفوا، وهؤلاء جمعوا بين السيئتين فغلوا في بعض الصحابة وأفراطوا في ذلك، وفرطوا وقصروا في حق البعض الآخر، وسنين في هذا الفصل أقوال كل منهما، ثم نبين عقيدة أهل السنة في هذا الباب وتوسطهم فيه بإذنه عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 المبحث الأول: في بيان قول الخوارج والمعتزلة أولا: ذكر قول الخوارج ... المبحث الأول: في بيان قول الخوارج والمعتزلة أولًا: ذكر قول الخوراج لما كان الخوارج يرون التكفير بالذنوب ولا سيما بالكبائر منها كما تقدم لنا ذلك، واعتبروا الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه مذنبًا بتحكيمه الحكمين بينه وبين معاوية رضي الله عنه، طالبوه بالتوبة من الذنب الذي ارتكب بزعمهم، وقالوا: "لا حكم إلا لله، تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك"1. ولما كان علي رضي الله عنه لا يعد ذلك ذنبًا؛ وإنما هو عجز في الرأي هم سببه لم ير ما يوجب التوبة كما قال رضي الله عنه لهم: "ما هو ذنب ولكنه عجز من الرأي، وضعف من الفعل، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه ونهيتكم عنه"2. ثم صرحوا بكفره واستحلوا الخروج عليه وقتاله، وأجمعوا على كفره3 وكفر الحكمين ومن رضي بالتحكيم وقبله، وفيهم عدد كبير من الصحابة رضوان الله عنهم. والقوم كما ذكر شيخ الإسلام وغيره؛ إنما أتوا من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته لكن فهموا منه ما لم يدل عليه فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب؛ إذ كان المؤمن هو البر التقي، قالوا فمن لم يكن برًا تقيًا؛ فهو كافر وهو مخلد في النار. ثم قالوا: وعثمان وعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين؛ لأنهم حكموا بغير ما   1 ابن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك 5/ 72. 2 نفس المصدر 5/ 72. 3 المقالات 1/ 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 أنزل الله؛ فكانت بدعتهم لها مقدمتان: الواحدة: أن من خالف القرآن بعمل أو برأي أخطأ فيه فهو كافر. والثانية: أن عثمان وعليًا ومن والاهما كانوا كذلك1. ولأجل ذلك قالوا بكفرهم. وهذا جهل منهم بالقرآن ومعانيه، وإن كانوا من أكثر الناس قراءة له وتعبدًا، كما قال صلى الله عليه وسلم: "يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" 2. وتكاد كتب الفرق والمقالات تجمع على قول الخوارج بتكفير علي وعثمان رضي الله عنهما ثم الحكمين ومن رضي بالتحكيم، وفيما يلي أورد جملًا من كلامهم في ذلك. يقول الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين" -الذي يعد من أجمع ما كتب في بابه: "أجمعت الخوارج على إكفار علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن حكم وهم مختلفون: هل كفره شرك أم لا؟ "3. ويقول المقدسي "355 هـ": "وأصل مذهبهم إكفار علي بن أبي طالب رضي الله عنه والتبرؤ من عثمان بن عفان رضي الله عنه"4. وقال الملطي "ت 377 هـ": "ويتبرءون من عثمان وعلي، ويتولون أبا   1 ابن تيمية: الفرقان بين الحق والباطل ص 22- 23، ضمن مجموعة الرسائل الكبرى. ط. محمد علي صبيح 1385 هـ. 2 خ: كتاب فضائل القرآن، باب إثم من راءى بقراءة القرآن 9/ 99، ح 5058. 3 انظر المقالات 1/ 167. 4 البدء والتاريخ 5/ 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 بكر وعرم رضي الله عنهم"1. وقال الشهرستاني "ت 548 هـ": "ويجمعهم القول بالتبرئ من عثمان وعلي رضي الله عنهما ويقدمون ذلك على كل طاعة"2. وقال الرازي "ت 606 هـ": "سائر فرقهم متفقون على أن العبد يصير كافرًا بالذنب، وهم يكفرون عثمان وعليًا رضي الله عنه وطلحة والزبير وعائشة، ويعظمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما"3. وقال السكسكي "ت 683هـ": "وقد اجتمعوا على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي لله عنهما وعلى تكفير علي وعثمان رضي الله عنهما، وتكفير كل فرقة سواهم"4. بهذه النقول التي تبين موقف هؤلاء الخوارج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ندرك مدى تفريط القوم، وجفائهم لطائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعضهم قد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وأكثرهم يدخل فيمن رضي الله عنه ممن بايع تحت الشجرة؛ فأين غابت عقول هؤلاء، وكيف عميت أبصارهم حتى ضلوا هذا الضلال المبين؟! اللهم أجرنا من الخذلان، وثبت قلوبنا على دينك، ومحبة إخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًا لهم، ولا حقدًا على أحد منهم.   1 التنبيه والرد ص 51. 2 الملل والنحل 1/ 115. 3 اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 46. 4 البرهان في عقائد أهل الأديان ص 19، "ط. الأولى 1408. نشر: مكتبة المنار- الأردن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ثانيًا: ذكر قول المعتزلة وعقيدتهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يتورع بعض أئمة المعتزلة وكبراؤهم عن الوقوع في بعض الصحابة رضوان الله عنهم، والنيل منهم والإزراء بهم؛ فلهم فيهم مذاهب باطلة، وأقوال شائنة نوجزها في الأسطر التالية: - تفسيقهم لطوائف منهم رضوان الله عنهم، ورد شهادتهم: من ذلك قول كبيرهم ومؤسس مذهبهم: واصل بن عطاء بفسق أحد الفريقين من أصحاب الجمل1، وصفين2، وعثمان وقاتليه، وزعم أن فرقة من الفريقين فسقة لا بأعيانهم، وأنه لا يعرف الفسقة منهما؛ فلو شهد عنده رجل من هذا الفريق، ورجل من الفريق الآخر لم يقبل شهادتهما، قال: لعلمي بأن أحدهما فاسق لا بعينه، وجلعهما بمنزلة المتلاعنين، حتى ولو كان الشاهدان عليًا وعائشة، أو عليًا وطلحة؛ فهو يقول في ذلك: "ولو شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم"3. وتابع واصلًا على ذلك تلميذه عمرو بن عبيد، فقال: "لو أن عليًا وعثمان وطلحة والزبير شهدوا عندي على شراك نعل ما أجزته"4، وفي رواية "والله؛ لو شهد عندي علي وعثمان وطلحة والزبير على شراك نعل ما أخذت بشهادتهم"5.   1 أي: موقعة الجمل، وهي: معركة مشهورة جرت بين جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين المناوئين لعلي وعلى رأسهم عبد الله بن الزبير وطلحة وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم؛ وذلك سنة ست وثلاثين من الهجرة في مكان بين الكوفة والبصرة، وسميت بالجمل نسبة للجمل الذي كانت تركبه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في المعركة. راجع: البداية والنهاية 7/ 241 وما بعدها. 2 صفين: معركة جرت بين جيش علي وجيش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما سنة 37 هـ. وصفين مكان على شاطئ نهر الفرات. راجع: البداية والنهاية 7/ 264 وما بعدها. 3 الذهبي، ميزان الاعتدال 4/ 329. 4 الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 12/ 178. 5 الدارقطني، أخبار عمرو بن عبيد، ق 104/ أ، مخطوط بمكتبه الجامعة الإسلامية برقم 488. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وزاد عمرو على شيخه بأن قال بتفسيق الفريقين جميعًا؛ فلو شهد عنده رجلان من أحد الفريقيين لما حكم بشهادتهما بخلاف قول واصل1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان قدماء المعتزلة وأئمتهم، كعمرو ابن عبيد، وواصل بن عطاء وغيرهم متوقفين في عدالة علي فيقولون، أو من يقول منهم: قد فسقت إحدى الطائفتين؛ إما علي وإما طلحة والزبير لا بعينها"2. قلته: هذا قول واصل، أما عمرو فكان يفسق الطائفتين ويرد شهادتهما كما ذكرت. تبرؤهم من بعض الصحابة: وذلك كقولهم بالتبرؤ من معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما ومن كان في شقهما. قال الخياط في رده على قول ابن الراوندي عن المعتزلة إنهم مجتمعون على البراءة من عمرو ومعاوية ومن كان في شقهما، قال: هذا قول لا تبرأ المعتزلة منه ولا تعتذر عن القول به"3. ومعاوية وعمرو وكثير ممن كان معهما صحابة أجلاء. والبراءة إنما تكون من المشركين والكافرين، أما المؤمنون فبعضهم أولياء بعض. - طعنهم في بعض الصحابة وشتمهم واتهامهم إياهم بالكذب والجهل ونحو ذلك: نقل الذهبي عن ابن حبان عن عمرو بن عبيد وهو من أئمة الاعتزال كما   1 انظر: البغدادي، الفرق بين الفرق 121، والشهرستاني، الملل والنحل 1/ 49. 2 منهاج السنة 1/ 70- 71. 3 الانتصار ص 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 هو معلوم "كان يشتم الصحابة"1، وممل نقل عنه من ذلك: - سبه الصحابي الجليل سمرة بن جندب رضي الله عنه. روى عنه الخطيب البغدادي أنه قال فيه: " .... ما أرجو بسمرة، فعل الله بسمرة"، وفي رواية أخرى: "ما نصنع بسمرة قبح الله سمرة"2؛ وذلك لأنه روي حديثًا في السكتتين في الصلاة يخالف رأيه. - قوله في عثمان بن عفان رضي الله عنه: "إن عثمان لم يكن صاحب سنة"3: وهذا النظام إبراهيم بن سيار زعم الفرقة "النظامية" من المعتزلة يوسع عددًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شتمًا وذمًا، ويتطاول عليهم منتقدًا بعض أقوالهم وفتاواهم واجتهاداتهم. فقد ذكر عنه ابن قتيبة رحمه الله أنه: انتقد أبا بكر وعمر وعليًا رضي الله عنهم، ورمى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بالحكم بالظن، والقضاء بالشبهة، والفحش في القول على الله كما رماه بالكذب لروايته حديث انشقاق القمر4. وقال: "وهذا من الكذب الذي لا خفاء به"، وحديث: "الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه"5؛ لأنه يخالف مذهبه في القدر وانتقد عثمان رضي الله عنه، وكان يقول فيه القول القبيح، وشتم زيد بن ثابت رضي الله عنه6.   1 ميزان الاعتدال 3/ 274. 2 تاريخ بغداد 12/ 176 وفي سنده من تكلم فيه. 3 نفس المصدر والجزء والصفحة. 4 حديث صحيح أخرج "خ: التفسير، باب وانشق القمر، 8/ 617" وغيره. 5 وهو حديث صحيح أيضًا، أخرجه م: كتاب القدر 4/ 2037، ح 2645. 6 للاطلاع على هذه الأقوال الشنيعة وجواب ابن قتيبة عنها. انظر: تأويل مختلف الحديث ص19 وما بعدها. "ط 1393، بتصحيح محمد زهدي النجار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 المبحث الثاني: في ذكر قول من جمع بين الغلو والجفاء في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "وهم الشيعة" ... المبحث الثاني: في ذكر قول من جمع بين الغلو والجفاء في أصحاب رسول الله صلى الله عليه ولم "وهم الشيعة" 1، 2 يجمع الشيعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، بين سيئتي الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء؛ فلهم في بعض الصحابة غلو وإفراط، أشنعه القول بالألوهية والنبوة، وأدناه تفضيل وتقديم من غلو فيه على من هو أفضل وأولى بالتقديم منه، كما لهم في البعض الآخر من الصحابة تقصير وتفريط وجفاء، أعظمه القول بتكفيرهم ولعنهم، وأدناه القول بتأخيرهم عن مرتبتهم والقعود بهم عن مكانتهم، ولهم بين هذا وذاك فيهم أقوال وآراء، تتردد بين الغلو   1 الشيعة: وهم الذين شايعوا عليًا رضي الله عنه وقدموه على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الأشعري: وهم ثلاثة أصناف: 1- الغالية: وهم الذين غلو في علي، وقالوا فيه قولًا عظيمًا وهم طوائف. 2- الرافضة الإمامة: وسموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر: هذا قول الأشعري، وقال بعضهم: سموا رافضة لرفضهم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لما خرج عن هشام بن عبد الملك فطعن عسكره في أبي بكر وعمر منعهم من ذلك وتولاهما، فرفضوه ولم يبق معه إلا مئتا فارس؛ فقال لهم زيد: رفضتموني. قالوا: نعم؛ فبقي عليهم هذا الاسم. 3- الزيدية: وهم الذين تمسكوا بقول زيد بن علي بن الحسين. قال الشهرستاني: ويجمعهم -أي: الشيعة القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوبًا عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولي والتبري قولًا وفعلًا وعقدًا إلا في حال التقية، ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك، راجع: المقالات للأشعري 1/ 65، 88، 136، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين، للرازي ص 52 والملل 1/ 146. 2 للتوسع راجع رسالة موقف الشيعة الاثنى عشرية من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم. للشيخ عبد القادر عطا، وهي رسالة جامعية نال بها المؤلف درجة الماجستير من الجامعة الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 والإزراء، ليس لهم على شيء منها دليل، إلا اتباع الظنون والأهواء. وفي هذا المبحث سأبين أبرز مظاهر الغلو، والجفاء لديهم بإذن الله تعالى. فأما جفاؤهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر معروف لدى العامة والخاصة؛ فلم تنل فرقة ولا طائفة من مقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نال هؤلاء القوم فقد جفوهم وعادوهم واتخذوهم غرضًا، يرمونهم بكل نقيصة، ويكيلون لهم من ألوان السباب والشتائم ما لا يصح أن يوجه مثله لعامة الناس فضلًا عن سادتهم وقادتهم وحواريي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصهاره وأنصاره وحماة دينه، ونقله شريعته، ومن مظاهر هذا الجفاء والتقصير: 1- قولهم بتفضيل علي بن أبي طالب رض.;ي الله عنه على سائر الصحابة وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم واستحقاقه للخلافة قبلهم، وأكيسهم أجاز خلافة الشيخين وتولاهما مع تفضيل علي، وهو قول الزيدية1 منهم، وهذا أدنى درجات الجفاء لدى القوم. 2- سبهم وشتمهم أفاضل الصحابة رضي الله عنهم: فلا يكاد يخلو مصنف من مصنفاتهم من ذلك2؛ بل يعقدون لذلك أبوابًا وفصولًا خاصة3 يذكرون تحتها ما تغيض به قلوبهم وتفوه به ألسنتهم من   1 الزيدية: إحدى فرق الشيعة المشهورة، كما تقدم وعن مقالتهم في علي والخلفاء الثلاثة قبله رضي الله عنهم أجمعين راجع: الأشعري، المقالات 1/ 136- 137، والشهرستاني، الملل والنحل 1/ 154. 2 انظر: إحسان إلهي ظهير: الشيعة وآل البيت ص 188، "ط. السابعة 1404 هـ، نشر: إدارة ترجمان السنة -لاهور - باسكتان". 3 كما فعل "العاملي" من مصنفيهم؛ فقال في كتاب الصراط المستقيم، باب في الطعن فيمن نقده بظلمه وعدوانه، عن كتاب الشيعة وآل البيت ص191، وكما فعل عبد الله شبر، في كتاب حق اليقين ج 1/ 308، "ط. الأولى 1404 هـ، نشر: دار الأضواء - بيروت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 الطعن في الصحابة والحط عليهم، ولعنهم ونسبة النقائص والقبائح غليهم. فمن ذلك: لعنهم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وتسميتهما بالجبت والطاغوت، وصنمي قريش ووضعوا في ذلك دعاء يعرف بذلك، وفيه: "اللهم العن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وإفكيهما وابنتيهما"1 يقصد أبا بكر وعمر وابنتيهما عائشة وحفصة رضي الله عنهم أجمعين. ومن ذلك رميهم بالجهل: يقول عبد الله بن شبر من مصنفيهم: "ومنها؛ -أي: من المطاعن- أنه؛ يعني: أبا بكر -رضي الله عنه- كان جاهلًا بأكثر أحكام الدين .... "2. ومنها رمي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالظلم و"أنه كان يعطي من بيت المال ما لا يجوز"3. وقال عن عثمان: "وأما مثالب عثمان فهي لا تحصى ولا تسقصى"4، ثم ذكر هراء كثيرًا وزورًا من القول وهجرًا. 3- التبرؤ من أفاضل منهم: من المسائل التي أجمع عليها الشيعة سوى الزيدية منهم: القول: بالتبرئ من أبي بكر وعمر وكثير من الصحابة، يقول الشهرستاني: "ويجمعهم -أي: الشيعة- والقول بالتولي والتبرئ قولًا وفعلًا وعقدًا؛ إلا في حال   1 انظر: صورة هذا الدعاء في رسالة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية، لجلال الدين محمد صالح، ملحق رقم 3/ 596. 2 حق اليقين 1/ 315. 3 نفس المصدر 1/ 323. 4 عبد الله شبر، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/ 325، "ط. الأولى 1404 هـ، نشر: دار الأضواء -بيروت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 التقية"1. قلت: يخرج من ذلك "الزيدية" قال السكسكي: "وقالوا -أي: الرافضة: بتفضيل علي على سائر الصحابة، وأنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرؤوا من أبي بكر وعمر وكثير من الصحابة رضي الله عنهم إلا فرقة الزيدية"2. وفي كتبهم التصريح بالبراءة كقولهم: "واعتقادنا في البراءة انها من الأوثان الأربعة والإناث الأربع ومن جميع أشياعهم وأتباعهم وأنهم شر خلق الله، ولا يتم الإقرار بالله ورسوله والأئمة إلا بالبراءة من أعدائهم"3. 4- تكفيرهم جل الصحابة رضوان الله عنهم: لم يكتف القوم بما تقدم من ألوان الجفاء والتقصير، ولم يزل حبل جفائهم ممدودًا، وعقد تقصيريهم وتفريطهم مفروطًا، حتى تقحموا دركات الهاوية، وقالوا بإكفار خيار الأمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم ارتدوا بعد وفاته وكثير منهم نافق في حياته. ذلك قولهم بأفواههم، وما كتبت أيديهم؛ فهو أمر مسطور في طروسهم، مزبور في كتبهم ومصنفاتهم، التي سطرها منهم أئمة عندهم، وآيات لهم. من ذلك ما جاء في كتاب "الكافي" وهو أعظم كتبهم وأصحها لديهم وهو عندهم بمثابة "صحيح البخاري" عند أهل السنة، ذكر فيه عن "الرضا" أنه قال: "إن الله لم يقبض نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء، بين فيه الحلال والحرام، والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا؛ فقال عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 4 وأنزل في حجة   1 الملل 1/ 146. 2 البرهان ص 65. 3 عبد الله شبر، حقي اليقين 2/ 276. 4 سورة الأنعام آية 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 الوادع وهي آخر عمره صلى الله عليه وسلم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} 1، وأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يمض صلى الله عليه وسلم حتى بين لأمته معالم دينهم، وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحق وأقام لهم عليًا علمًا وإمامًا وما ترك لهم شيئًا تحتاج إليه الأمة إلا بينه؛ فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله، ومن رد كتاب الله؛ فهو كافر به"2. فجعل القول بإمامة على بعد الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة من إكمال الدين، وجعل من أنكر ذلك في عدد الكافرين، ولا شك أن هدفه ومراده إكفار الصحابة فتأمل. وإن أبيت إلا التصريح الصريح؛ فاعلم أن القوم لم يبخلوا به فهو بعض ما في صدورهم وما تخفي صدورهم أكبر، ألا وهو اجتثاث دين الإسلام من جذوره بالطعن في خيره أهله ونقلته حتى لا يصح لدى الناس شرع ولا دين. فلقد نصوا صراحة على كفر الصحابة وارتدادهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى نفر منهم عدوهم، كما جاء في "الكافي" أيضًا: "كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي"3. وجاء في كتاب سليم بن قيس العامري: "أن الناس كلهم ارتدوا بعد رسول الله غير أربعة"4.   1 سورة المائدة آية 3. 2 أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، الأصول من الكافي 1/ 154، "ط. 1388، نشر: المكتبة الإسلامية - طهران". 3 الكليني: كتاب الروضة من الكافي 8/ 245، "ط. الثانية 1389 هـ، عني بنشرة محمد الأخوندي-طهران". 4 ص 92، "ط. دار الفنون - بيروت، عن إحسان إلهي ظهير"، الشيعة وأهل البيت ص 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وقال المجلسي -أحد مصنفيهم: "هلك الناس كلهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة أبو ذر والمقداد وسلمان"1. وقال الطوسي -من علمائهم: "عندنا أن من حارب أمير المؤمنين؛ فهو كافر والدليل على ذلك إجماع الفرقة المحقة "بزعمه" الإمامة على ذلك"2. ولعلك تحسن الظن بالقوم فتحسب أن هذا متقدميهم، وأن المعاصرين منهم ليسوا على ذلك، وكم هو محبب إلينا أن يكون كما تظن، أو تحسب وأن يكون متأخروا القوم أرشد من أسلافهم؛ ولكن الحقيقة لا تدع للظن مكانًا، وقد ورث المعاصرون تركه السالفين منهم وعضوا عليها بالنواجذ، فها هو زعيم العصر فيهم إمامهم وآيتهم العظمى "خميني" يصرح بكفر الصحابة؛ فيكفر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فيقول: "وقد جاء في "صحيح البخاري"، و"مسلم" و"مسند أحمد" أن ابن عباس كان يبكي ويقول: يوم الخميس وما أدراك ما يوم الخميس؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائتوني بورق ودواة لأكتب لكم شيئًا حتى لا تضلوا"، فقالوا: إن النبي يهذي. قال: وتشير كتب التاريخ أن هذا الكفر صدر عن عمر بن الخطاب، وأن البعض قد أيده في ذلك ولم يسمحوا للنبي بأن يكتب ما يريده"3. وقال في موضع آخر في نفس الموضوع: "وأغمص -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم- عينيه، وفي أذنيه كلمات ابن الخطاب القائمة على الفرية، والنابعة أعمال الكفر والزندقة"4.   1 حياة القلوب. له فارسي 2/ 640، اقتبسه إحسان إلهي ظهير، المصدر السابق ص 46. 2 انظر: عبد الله شبر، حق اليقين 2/ 276. 3 انظر: كشف الأسرار ص 175- 176. 4 انظر: كشف الأسرار ص 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 فكفر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن أيده من أعلام الصحابة. مظاهر الغلو والإفراط لديهم: إن الواقف على كتب القوم، ومقالاتهم في كتب الفرق والمقالات، يمتري في أن أبرز سمات فرق الشيعة الغلو في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وبعض أهل بيته؛ بل لا يكون مغاليًا؛ إذ قال إن هذا الغلو هو أحد الركائز الأساسية التي قام عليها بنيان الكيان الشيعي الرافضي. فأول مظهر من مظاهر غلو الشيعة: 1- تفضيلهم علي بن أبي طالب على عثمان رضي الله عنهما، ثم على سائر الصحابة رضي الله عنهم، ثم أضافوا إلى ذلك القول بتقديمه في الإمامة على غيره من الخلفاء، وهذا المبدأ يمثل القاعدة العريضة لعقيدة الشيعة، وبه يتميز الشيعي من غيره؛ فمن لم يقل بتفضيل علي رضي الله عنه وقتديمه على الإمامة؛ فليس بشيعي1، وقد تقدم2 في تعريف الشيعة أنهم الذين شايعوا عليًا وقدموه على سائر الصحابة. ومن نصوصهم في تقديم علي رضي الله عنه ما رواه الكليني في الكافي عن ذريح، قال: سألت أبا عبد الله عن الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كان أمير المؤمنين عليه السلام إمامًا، ثم كان الحسن إمامًا، ثم كان الحسين إمامًا، ثم كان علي بن الحسين إمامًا، ثم كان محمد بن علي إمامًا، من أنكر ذلك كان كمن أنكر معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم" 3.   1 هكذا أصح مفهوم التشيع، وما كان كذلك في أوله؛ إذ كان بعض المتقدمين يتشيع لعلي ويرى تقدميه على عثمان، وما كان أحد منهم يفضله أو يقدمه على أبي بكر وعمر بحال: انظر: ابن حجر: التهذيب 1/ 94، وابن تيمية: منهاج السنة 8/ 224. 2 انظر: ص 405. 3 أصول الكافي 1/ 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 فجعل الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي وبنيه، دون أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنه الجميع، وهذا معتقد الرافضة الإمامية، يقول صاحب كتاب وحق اليقين" في تقرير ذلك: "ذهبت الإمامة إلى أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين، ومن بعده أولاده الظاهرون"1. 2- ومن مظاهر غلوهم قولهم: بعصمة أئمتهم، وأولهم علي وابناه الحسن والحسين رضي الله عنهم: يقول المجلسي -من أعيانهم: "اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة أنهم معصومون من كل دنس، وأنهم لا يذنبون ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون"2، وقال أيضًا: "اعلم أن الإمامة رضي الله عنهم على عصمة الأئمة. من الذنوب صغيرها وكبيرها؛ فلا يقع منهم ذنب أصلًا لا عمدًا ولا نسيانًا، ولا لخطأ في التأويل، ولا للإسهاء من الله سبحانه وتعالى. وذكر لبعضهم خلافًا في الإساء من الله"3. وينسب الكليني إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى طهرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه وجلعنا مع القرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا"4. وزعم أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:   1 عبد الله شبر، حق اليقين 1/ 261. 2 المجلسي، بحار الأنوار ج 25/ 211، اقتبسه جلال الدين محمد صالح في رسالته الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية ص 205. 3 المجلسي، بحار الأنوار ج 25 ص 209، اقتبسه، جلال الدين محمد صالح في رسالته الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية ص 205. 4 أصول الكافي 1/ 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 "أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون" 1. وهكذا نرى مبلغ علو القوم في أئمتهم؛ ولا سميا علي وبنيه رضي الله عنهم. وكيف زعموا لهم العصمة وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهذا لعمري مقام الملائكة لا البشر، ولكنهم يرون أن الأئمة أفضل من الأنبياء، والملائكة كما سيأتي ذلك. 3- ومن غلوهم زعمهم أن أئمتهم يعلمون الغيب: وقد أفرد الكليني لإثبات ذلك والاستدلال له بابًا في كتابه "الكافي" فقال: "باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم الشيء، صلوات2 الله عليهم"3. ثم ساق تحتته بعض الروايات عن أئمة آل البيت في ذلك؛ فروى عن عدة من أصحابهم أنهم سمعوا أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في   1 الصدوق: إكمال الدين ص474، اقتبسه جلال الدين في الإمامة عند الشيعة ص210. 2 في جواز الصلاة على غير الأنبياء تفصيل؛ فتجوز إجماعًا إذا كانوا تبعًا للأنبياء في الذكر كقولنا: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد"، وإذا أفردوا فللعماء في ذلك قولان: الأول: أنه يجوز، والثاني -وهو قول الجمهور: أنه لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة؛ لأن هذا صار شعارًا للأنبياء إذا ذكروا فلا يلحق بهم غيرهم؛ فلا يقال: قال أبو بكر صلى الله عليه وسلم، أو قال علي صلى الله عليه وسلم، وإن كان المعنى صحيحًا كما لا يقال محمد عز وجل، وإن كان عزيزًا جليلًا؛ ولأن هذا من شعار ذكر الله عز وجل. وقال آخرون لا يجوز ذلك؛ لأن الصلاة على غير الأنبياء قد صارت من شعار أهل الأهواء يصلون على من يعتقدون فيهم؛ فلا يقتدي بهم في ذلك. وكذلك الأمر في السلام، فلا يفرد به علي أو غيره من أهل بيته، من دون سائر الصحابة؛ فإنه وإن كان معناه صحيحًا، لكن ينبغي أن يساوي بين الصحابة في ذلك. راجع: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 6/ 467- 468. 3 انظر: الكافي 1/ 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 النار، وأعلم ما كان وما يكون"1، وروى أيضًا عن سيف التمار قال: "كنا مع أبي عبد الله عليه السلام جماعة من الشيعة في الحجر فقال علينا عين2، فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحدًا فقلنا: ليس علينا عين، فقال: ورب الكعبة ورب البنية -ثلاث مرات- لو كنت بين موسى والخضر؛ لأخبرتهما أني أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما؛ لأن موسى والخضر أعطيا علم ما كان، ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة، وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وراثة"3. ولا أدري كيف تستقيم لهم هذه الدعوة مع قوله عز وجل عن رسول صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} 4. 4- قولهم بتفضيل الأئمة على الأنبياء والملائكة: ذكر أبو الحسن الأشعري اختلاف الرافضة في ذلك وأن طوائف منهم ترى: أن الأئمة أفضل من الأنبياء والملائكة، وأنه لا يكون أحد أفضل من الأئمة قال: وهذا قول طوائف منهم"5. ويحدثنا مصنف شيعي رافضي عن مذهب أهل نحلته في ذلك، وهل المشهور عندهم بـ"المفيد"6، فيقول: "قد قطع قوم من أهل الإمامة بفضل   1 الكافي 1/ 204. 2 يعني: هل يرانا أو يرقبنا أحد، ولو كان حقًا يعلم ما كان وما يكون، كما ينسبون إليه؛ لعلم هل عليهم عين أم لا. فتأمل. 3 الكافي 1/ 204. 4 سورة الأعراف آية 188. 5 انظر: المقالات 1/ 120. 6 هو: محمد بن محمد بن النعمان الشيخ المفيد، عالم الرافضة، أبو عبد الله بن المعلم صاحب التصانيف البدعية، وهي مئتا مصنف طعن فيها على السلف، وله صولة عظيمة في دولة عضد الدولة. انظر: الذهبي ميزان الاعتدال 4/ 30 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وسلم من تقدم من الرسل والأنبياء سوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأوجب فريق منهم الفضل على جميع الأنبياء سوى أولي العزم منهم عليهم السلام، وأبى القولين منهم فريق آخر وقطعوا بفضل الأنبياء كلهم على سائر الأئمة. وهذا باب ليس للعقول في إيجابه والمنع منه مجال، ولا على أحد الأقوال فيه إجماع، وقد جاءت آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر المؤمنين " ... " وذريته من الأئمة، والأخبار عن الأئمة الصادقين أيضًا من بعد، وفي القرآن مواضع تقوي العزم على ما قاله الفريق الأول في هذا المعنى وأنا ناظر فيه"1. فبعد عرضه الأقوال مال إلى اختيار القول بالتفضيل الذي هو القول الأول. وهذا أحد مصنفيهم المتأخرين يقرر عقيدة القوم في ذلك فيقول: "يجب الإيمان بأن نبينا صلى الله عليه وسلم وآله المعصومين، أفضل من الأنبياء والمرسلين ومن الملائكة المقربين لتظافر الأخبار بذلك، وتواترها فيما هنالك"2. ويظهر أن القول بالتفضيل هو الغالب على الشيعة الرافضة؛ بل الواجب عنده، وأن الخلاف المذكور إنما كان لدى بعض المتكايسين من متقدميهم. وأما المعاصرون من الشيعة الرافضة فعلى القول بالتفضيل، لا يتوارون من القول به، ولا يبرؤون منه أو يعتذرون عنه؛ بل يصرح به صاحب أكبر عمة   1 أوائل المقالات ص81، اقتبسه جلال الدين محمد صالح في رسالته الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية ص246. 2 عبد الله شبر، حق اليقين س 1/ 209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 فيهم، مدونًا ذلك في أحدث مصنفاته فيقول: "فإن للإمام مقامًا محمودًا، ودرجة سامية، وخلافة تكوينية تخضع لولايتها جميع ذرات هذا الكون، وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل - إلى أن قال: وقد ورد عنهم " ... " أن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل، ومثل هذه المنزلة موجودة لفاطمة الزهراء " ... "1. وهكذا يظهر مدى غلو القوم ومثابرتهم على ذلك. وأن متأخريهم ليسوا بأحسن حالًا من سابقيهم إن لم يكونوا أضل وأردى. 5- ومن مظاهر غلوهم زعمهم أن الإمام محدث يوحى إليه ملك: عقد الكليني بابًا في كتابه "الكافي" بعنوان "باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث"2، وأورد تحته عددًا من الروايات التي تدل على أن الإمام يسمع كلام الملك ولا يراه؛ بينما النبي والرسول يسمعه ويراه. فروى عن زرارة بن ميمون قال: "سألت أبا جعفر عن قول الله عز وجل {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} 3، ما الرسول؟ وما النبي؟ قال النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك. قلت: الإمام ما منزلته؟ قال: يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك، ثم تلا هذه الآية: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث4، 5.   1 الخميني: الحكومة الإسلامية ص52- 53، نشر المكتبة الإسلامية الكبرى. 2 انظر: الكافي 1/ 134. 3 سورة مريم، جزء من آيتي 51 و 54. 4 الآية من سورة الحج آية 52، وليس فيها جملة "ولا محدث"؛ وإنما ذلك من تحريفات الشيعة الرافضة وزيادتهم في كتاب الله عز وجل. 5 الكافي 1/ 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 وفي رواية أخرى قال: "كتب الحسن بن العباس العروفي إلى الرضا " ... " جعلت فداك أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟ قال: فكتب أو قال: الفرق بين الرسول والنبي والإمام، أن الرسول الذي ينزل عليه جبرئيلفيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي. وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم عليه السلام، والنبي: ربما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام: هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص"1. 6- لعل أعظم مظاهر غلو الشيعة وإفراطهم: هو قول بعضهم بألوهية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو قول يتنصل أكثر الشيعة منه؛ لكنه يظل قول المؤسس الأول للشيعة الرافضة الإمامية عبد الله بن سبأ، الذي وضع مبادئ التشيع والرفض التي لا تزال الشيعة الرافضة إلى اليوم تقول بأكثرها، كالقول بتفضيل علي على سائر الصحابة، والنص على إمامته بعد الرسول بلا فصل، والطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، كما تقدم إثبات ذلك عنهم من كتبهم. قال الشهرستاني: عن عبد الله بن سبأ أنه قال لعلي رضي الله عنه: أنت أنت؛ يعني: أنت الإله، فنفاه إلى المدائن2. ويقول المقدسي: إن السبأية، وهم أتباع عبد الله بن سبأ: "قالوا لعلي: أنت إله العالمين أنت خالقنا ورازقنا، وأنت محيينا ومميتنا، فاستعظم على ذلك من قولهم وأمر بهم فأحرقوا بالنار فدخلوا النار وهم يضحكون ويقولون الآن صح لنا أنك إله؛ إذ لا يعذب بالنار إلا رب النار"3.   1 الكافي 1/ 134. 2 الملل والنحل 1/ 174. 3 البدء والتاريخ 5/ 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 ويقول البغدادي: "السبئية: أتباع عبد الله بن سبأ الذي غلا في علي رضي الله عنه، وزعم أنه كان نبيًا، ثم غلا فيه حتى زعم أنه إله، ودعا إلى ذلك قومًا عن غواة الكوفة، ورفع خبرهم إلى علي رضي الله عنه فأمر بإحراق قوم منهم في حفرتين"1. وبعد فهذه نماذج من غلو الشيعة الرافضة، ذكرتها متدرجًا في القاعدة إلى القمة، وهي بعض ما عندهم؛ فالغلو أسس مذهبهم وسداه ولحمته، وما أشرت إليه من ذلك يكفي للدلالة على غلوهم.   1 انظر: الفرق بين الفرق 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 المبحث الثالث: في ذكر قول أهل السنة والجماعة عرفنا فيما تقدم موقف الخوارج وأئمة الاعتزال والشيعة الروافض من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبين لنا مبلغ ابتعاد القوم عن الاعتدال والتوازن في هذا الباب، وجنوحهم إلى طرفي الإفراط والتفريط. وفي هذا المبحث، سأورد قول أهل السنة واعتقادهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خلال ما دونه بعض أئمة أهل السنة في أوقات وأزمان مختلفة متفاوتة، ومع ذلك فقولهم واحد لا تضارب فيه ولا اختلاف؛ لأنه ينبع من أصول ثابتة ينهل منها الجميع في كل عصر ومصر، كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع سلف الأمة. وسيظهر من خلال أقوالهم مدى توسطهم واعتدالهم واقتصادهم في ذلك، كما سأشير إلى مظاهر ذلك في آخر المبحث بإذن الله. عقيدة أهل السنة في الصحابة: دون كثير من الأئمة عقيدة أهل السنة في هذا الباب وغيره، وهذه نماذج مختصرة من أقوالهم. - يقول الإمام أحمد في بيان عقيدة أهل السنة في الصحابة رضي الله عنهم: "ومن السنة: ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين، والكف عن الذي شجر بينهم؛ فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحدًا فهو مبتدع رافضي. حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآرائهم فضيلة. وخير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، وخيرهم بعد أبي بكر عمر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وخيرهم بعد عمر عثمان، وخيرهم بعد عثمان علي رضوان الله عليهم، خلفاء راشدون مهديون. ثم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة لا يجوز لأحد منهم أن يذكر شيئًا من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم؛ فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه؛ بل يعاقبه ثم يستتيبه فإن تاب قبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وجلده حتى يتوب ويراجع"1. وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي "ت 320هـ" في عقيدته المشهورة: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولًا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلًا له وتقديمًا على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون. وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة نشهد لهم بالجنة، على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله الحق وهم أبو بكر، وعمر وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين. ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله ليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس؛ فقد برئ من النفاق"2.   1 السنة. له ص 38. 2 انظر: العقيدة الطحاوية بشرح ابن أبي العز ص 528- 553. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 المهاجرين والأنصار. ويؤمنون بأن قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"1، وبأنه لا يدل النار أحد بايع تحت الشجرة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم2؛ بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة. ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عه وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي رضي الله عنهم، كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة. ويؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر ثم عثمان ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله. ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال يوم غدير خم3: "أذكركم الله في أهل بيتي" 4.   1 يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم في قصة خاطب بن أبي بلتعة: "ولعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد وجبت لكم الجنة؛ فقد وجبت لكم الجنة، أو: فقد غفرت لكم" خ: المغازي، باب فضل من شهد بدرًا 7/ 304، ح 3983. 2 تقدم ذكر الحديث وتخريجه. انظر: ص394. 3 غدير خم: اسم موضع بين مكة والمدينة بالجحفة أو على أميال منها انظر: الحموي، معجم البلدان 2/ 389. 4 م: فضائل الصحابة، باب من فضائل علي 4/ 1873 ح 2408. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين. ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب1 الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل. ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كاذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره؛ بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر؛ حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم. وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبًا ممن بعدهم، ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه؛ فإذا كان هذا في الذنوب المحققة؛ فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور. ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم، قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح.   1 يطلق لفظ النواصب على من يؤدي أهل البيت، وهو مراد الشيخ هنا، ويطلقه الشيعة على كل من لا يتبرأ من الصحابة، كما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، ولا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم، وأكرمها على الله"1. وبعد فهذه عقيدة أهل السنة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه أقوالهم فيهم، دونها هؤلاء، الأئمة، كما دونها غيرهم، كلهم متفقون على معرفة حقهم وفضلهم، وتوقيرهم والترضي عنهم، ليس لأحد منهم خلاف في ذلك. ومن خلال هذه الأقوال تتجلى وسطية أهل السنة، ويبرز اعتدالهم واقتصادهم. فهم وسط: لأنهم لم يكفروا أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ في حين أن كلًا من الخوارج والمعتزلة، والشيعة كفروا أو فسقوا طوائف منهم، كما تقدم ذكر ذلك. وهم وسط: في التولي والتبري: فكل من فريقي الغلاة والجفاة يتولى فريقًا من الصحابة ويتبرأ من أكثرهم أو كثير منهم كما سبق بيانه. وأهل السنة: يتولون جميع الصحابة ولا يتبرؤون من أحد منهم. وهم وسط: لأنهم يترضون عن جميع الصحابة، ويترحمون عليهم ويستغفرون لهم كما أمر الله، ولا يسبون أو يشتمون أحدًا منهم؛ بينما كل من الخوارج وبعض أئمة المعتزلة، والشيعة، لا يترضون عن الجميع، ولا يترحمون أو يستغفرون لطوائف من الصحابة، ولبعضهم فيهم سب وشتم ونسبة إلى الجهل والظلم والفسق كما تقدم إيضاحه عنهم. وهم وسط: لأنهم يشهدون ويعتقدون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير خلق الله بعد الأنبياء، وأن خيرهم: الخلفاء الأربعة الراشدون فيما يطعن كل   1 انظر: العقيدة الواسطية بشرح الهراس ص 142- 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 من الجفاة والغلاة في كثير منهم، ويعدون بعضهم شر هذه الأمة كما يعتقد الشيعة الرافضة. وهم وسط في علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فلم يغلوا فيه غلو الشيعة الرافضة فلم يرفعوه إلى مقام النبوة أو الألوهية كما فعل كثير من الشيعة. ولم يكفروه، أو يفسقوه ويردوا شهادته كما يرى الخوارج وأئمة المعتزلة، كما تقدم. وهم وسط: لأنهم لا يعتقدون العصمة لأحد من الصحابة؛ بل يعتقدون أنهم بشر يقع منهم من الذنوب ما يقع من غيرهم، ومع ذلك لا يشنعون عليهم بذنب؛ بل يلتمسون لهم المخارج ويحملونهم على أجمل المحامل. وأهل البدعة: يعتقد بعضهم العصمة لعلي رضي الله عنه وللأئمة من أهل بيته وأنه لا يقع منهم ذنب عمدًا ولا خطأ ولا سهوًا. ويعتقدون في بعض الصحابة وقوع الكفر والنفاق والردة منهم وارتكاب المظالم والكبائر وينسبونهم إلى الزندقة. هذه بعض مظاهر وسطية أهل السنة في هذا الباب؛ على أن قولهم واعتقادهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج عن دائرة القصد والاعتدال بأي حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الفصل الخامس: وسطية أهل السنة في باب تعظيم النبى صلى الله عليه وسلم والصالحين من أمته مدخل ... تمهيد: تقدم في الباب الأول الحديث عن كون هذه الأمة المحمدية وسطًا بين الأمم في أنبياء الله ورسله عليهم أفضل الصلة وأتم التسليم، وأنها لم تغل فيهم ولم تفرط، وأن اليهود والنصارى وقع منهم غلو وإفراط فيهم، كما وقع منهم أيضًا في جفاء لهم، وتفريط وتقصير في جنابهم صلوات الله وسلامه عليهم. ولما كان من الثابت أن فئات من هذه الأمة سيتبعون تلك الأمم قبلهم كما أخبرنا الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه في قوله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا، وذراعًا ذراعًا، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم" قال الراوي: قلنا: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ "1. فإنه قد وقع من بعض هذه الأمة، شيء من الغلو أو التفريط في جناب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، وذلك بسبب متابعتهم لتلك الأمم وتأثرهم بما نقل عنهم، ولا سيما بعد امتداد الإسلام وانتشاره، ودخول طوائف من أهل الكتاب في الإسلام، واختلاط المسلمين بكثير من أهل الذمة من أمتي اليهود والنصارى وغيرهم، كما تقدم لنا في أسباب افتراق هذه الأمة. وبسبب بعدهم عن كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللذين جاء   1 خ: كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" 13/ 300، ح 732. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 فيهما التحذير من ذلك، وبيان مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنزلته التي أنزله الله إياها، وما يجب على أمته في حقه من التعظيم والتابعة والتسليم. وفي هذا الفصل سنعرض في المبحث الأول لبيان قول أهل السنة واعتقادهم في جناب الرسول صلى الله عليه وسلم، كما سنوضح ما وقع فيه أهل البدع من الإفراط والتفريط في حقه صلى الله عليه وسلم. وفي المبحث الثاني: سنبين موقف أهل السنة واعتقادهم في الصالحين من أمته صلى الله عليه وسلم، وما ذهب إليه أهل الغلو والتفريط في ذلك بإذن الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 المبحث الأول: في بيان وسطية أهل السنة في باب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أولا: موقف أهل السنة وقولهم في هذا الباب ... المبحث الأول: في بيان وسطية أهل السنة في باب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا المبحث سأورد عرضًا لعقيدة أهل السنة وقولهم في هذا الباب، ثم أبين مواقف أهل الغلو وأهل التفريط فيه على النحو التالي: أولًا: موقف أهل السنة وقولهم في هذا الباب أهل السنة في الإسلام، مثل هذه الأمة بين الأمم؛ فكما أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم وأوسطها؛ فكذلك أهل السنة بالنسبة لسائر الفرق والطوائف من أهل القبلة، وذلك لشدة تمسكهم بما دل عليه وأدى إليه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في سائر أمورهم؛ مما جعلهم على صراط سوي لا يميلون عنه إلى إفراط أو إلى تفريط، كما فعل غيرهم من الفرق والطوائف الأخرى. وموقفهم واعتقادهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشواهد الدالة على صحة ذلك. وفيما يلي أورد عرضًا موجزًا لقولهم واعتقادهم في جناب المصطفى صلى الله عليه وسلم: - فهم يعتقدون أنه صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله: فيجمعون له بين مقام العبودية، والرسالة: وهي أكمل المقامات، كما جمع بينها صلى الله عليه وسلم لنفسه في قوله "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله" 1. فأتى صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين وجمعهما دفعًا للإفراط والتفريط؛ فإن كثيرًا ممن   1 م: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة 1/ 57، ح 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 يدعي أنه من أمته أفرط بالغلو قولًا وفعلًا، وفرط بترك متابعته1. يقول الإمام الطحاوي في "عقيدة أهل السنة" في ذلك: "وأن محمدًا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى"2، فيجمع له صلى الله عليه وسلم بين العبودية والنبوة والرسالة ويشهد أهل السنة له بذلك. - ويشهدون ويعتقدون أنه أفضل المرسلين وسيد الخلق أجمعين: كما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" 3، وقد تقدم بيان ذلك في الباب الأول4. - ويرون محبته صلى الله عليه وسلم واجبة وأنها من الإيمان والدين: عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" 5. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" 6. الحديث. فهم يحبونه ويعظمونه، وقد تقدم لنا كيف كان الصحابة رضوان الله عنهم يفدونه صلى الله عليه وسلم بالنفس والنفيس، وأنهم كانوا يحبونه أكثر من أولادهم وأنفسهم كما في قصة عمر رضي الله عنه وقد تقدمت الإشارة إليه في الباب الأول7.   1 عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، فتح المجيد 37، "ط 1386، مطبعة المشهد الحسين- القاهرة". 2 انظر: الطحاوية مع الشرح ص157. 3 تقدم: تخريجه ص227. 4 انظر: ص227. 5 تقدم تخريجه ص280. 6 خ: كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان 1/ 60، ح 16. 7 انظر: ص280- 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 ويرون من لوازم محبته وعلامتها: طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر؛ فاتبعه ومتابعته هي العلامة الدالة على محبته صلى الله عليه وسلم؛ بل هي الدالة على محبة الله سبحانه وتعالى أيضًا، كما قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: "هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية؛ فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله"2. وكذلك من ادعى محبة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتبع دينه وشرعه الذي جاء به في جميع أقواله، وأفعاله، وأحواله؛ فهو كاذب في دعواه محبته صلى الله عليه وسلم. "وإذا أراد الإنسان أن يقف يقينًا على مقدار ما في قلبه من المحبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فليعرض أقواله وأفعاله على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه وافقت الشرع المحمدي كان ذلك دليلًا على صدق المحبة، وإن خالفته دل على أن دعوى المحبة كاذبة"3. فإن من علامات محبته صلى الله عليه وسلم إيثار شرعه وما جاء به إلى غيره من الهوى وشهوات النفس، قال القاضي عياض: "اعلم أن من أحب شيئًا آثره وآثر موافقته؛ وإلا لم يكن صادقًا في حبه، وكان مدعيًا؛ فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه   1 سورة آل عمران آية 31. 2 انظر: تفسير القرآن العظيم 2/ 25. 3 انظر: عبد المحسن العباد، عشرون حديثًا من صحيح البخاري 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 ومكرهه وشاهد ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 1. - ويشهدون ويعتقدون أنه خاتم الأنياء: وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى2؛ إذ لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، كما أخبر الحق جل وعلا بختم النبوة به في قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 3. فمن ادعى النبوة بعده علم كذبه وضلاله. - ويرون ويعتقدون أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب في حياته إلا ما علمه الله؛ فكيف بعد وفاته؛ وذلك عملًا بما ورد في ذلك من الأدلة امتثال قوله عز وجل: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 4. وقوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون} 5. وأنه لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ   1 انظر: الشفا 2/ 24. 2 الطحاوية 176. 3 سورة الأحزاب آية 40. 4 سورة الأنعام آية 50. 5 سورة الأعراف 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِين} 1. أما عباده وخلقه من ملائكته وجنه وإنسه بما فيهم أنبياؤه ورسله؛ فلا يعلم أحد منهم من الغيب إلا ما علمه الله وأطلعه عليه على حد قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} 2. فلم يظهر أحدًا على غيبه "إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب؛ لأنه يستدل على نبوته بالآية المعجزة التي تخبر عن الغيب"3. وهذا الإظهار لهم لا يكون إلا في حياتهم وعلى ما يشاء الحق عز وجل اطلاعهم عليه. أما بعد مماتهم؛ فقد انقطع الوحي عنهم وانتقلوا إلى بارئهم. وبهذا يعلم ضلال من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب بعد وفاته كما سيأتي. - وينأون وينهون عن إطرائه والغلو في مدحه والمبالغة في ذلك: وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم حذر أمته من ذلك؛ إذ الإطراء هو مجاوزة الحد في المدح بالباطل، وهو يؤدي إلى أن ينزل صلى الله عليه وسلم فوق منزلته التي أنزله الله إياها وهي منزلة العبودية والرسالة، وليس بعدها إلا مقام الألوهية ومنزلة الربوبية، والنبي صلى الله عليه وسلم يأبى أن تقع أمته في ذلك، وينهى أن تجاوز به منزلته ومكانته تلك؛ فيقول صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله" 4؛ أي: لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى،   1 سورة الأنعام آية 59. 2 سورة الجن آية 26- 27. 3 البغوي، معالم التنزيل 4/ 406. 4 خ: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} 6/ 478. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 فادعوا فيه الربوبية؛ وإنما أنا عبد الله فصفوني بذلك كما وصاني ربي وقولوا: عبد الله وسوله. فأبى عباد القبور إلا مخالفة لأمره، وارتكاباً لنهيه، وناقضوه أعظم المناقضة وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبد الله ورسوله، وأنه لا يدعي ولا يستغاث به، ولا ينذر له. أن في ذلك هضمًا لجنابه، وغضًا من قدره، فرفعوه فوق منزلته؛ فسألوه مغفرة الذنوب وتفريج الكروب1، وفي هذا مشابهة للنصارى وقد نهينا عن ذلك. - ويرون ويعتقدون وجوب الصلاة والسلام عليه: استجابة لأمر الله المؤمنين بذلك في قوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 2. وقد علمنا صلى الله عليه وسلم كيفية ذلك فقال لما قال له بعض الصحابة: قد أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم"3. فمن ابتدع كيفية غير هذه؛ فهو على غير سنة، كما هو شأن كثير من أهل البدع المتصوفة ويعتقدون يشهدون أنه قد بلغ أمته ما أمره به ربه ولم يكتم منه شيئًا: قال أبو محمد بن حزم: "واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتم من   1 سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، تيسير العزيز الحميد ص315 ط: الدار البيضاء 1412 هـ. 2 سورة الأحزاب: آية 56. 3 م: كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 1/ 305، ح 405. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 الشريعة كلمة فما فوقها"1. وقال القاضي عياض: "لا خلاف أنهم -أي: الأنبياء- معصومون عن كتمان الرسالة، وعن التقصير في التبليغ"2. وكيف يتصور منه صلى الله عليه وسلم كتمام شيء مما أنزل عليه، وقد أمره ربه بأن يبلغه عباده، في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} 3. وما كان له صلى الله عليه وسلم أن يخالف أمر ربه، وما هو مظنة ذلك، وما هو على وحي ربه بمتهم. ومن قال: إنه لم يبلغ منه شيئًا، أو أنه ادخر منه شيئًا لم يبلغه أو آثر به بعض أمته فقد أعظم عليه صلى الله عليه وسلم الفرية وأتى بزور من القول ومنكر.   1 الفصل في الملل والنحل 2/ 116. 2 الشقا 2/ 144. 3 سورة المائدة آية 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 ثانيًا: ذكر قول بعض من غلا وأفرط في تعظيمه صلى الله عليه وسلم لقد حذر الرسول صلى الله يه وسلم أمته من الغلو بعامة فقال: "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" 1، يشير إلى أهل الكتاب الذين قال الله فيهم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 2. وقد تقدم في الباب الأول ذكر صور من غلوهم. فحذر صلى الله عليه وسلم أن يصنعوا كما صنع أولئك، ونهاهم عن الغلو فيه وإطرائه ومجاوزة الحد في مدحه، كما تقدم3.   1 انظر: ابن أبي عاصم، السنة 98. 2 سورة المائدة آية 77. 3 انظر: ص435. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 لكن فريقًا ممن تفرقت بهم السبل عن سبيل الله المستقيم، خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما نهاهم عنه؛ فغلوا فيه وقالوا ما ليس لهم به علم، ولا عندهم من الله ورسوله فيه برهان، فضلوا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. وفيما يأتي أذكر صورًا ونماذج من غلو بعض طوائف هذه الأمة في جنابه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: - دعاء بعضهم إياه صلى الله عليه وسلم، واستغاثتهم به بعد موته، وزعمهم أنه يعطي ويمنع، ويضر وينفع: كقول شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري "608- 666 هـ"1. يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذا الكريم تحلى باسم منتقم فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم2 قد تضمنت هذه الأبيات غاية الإطراء والغلو الذي وقعت فيه النصارى وأمثالهم؛ فإنه قصر خصائص الإلهية والربوبية التي قصرها الله على نفسه، وقصرها عليه رسوله صلى الله عليه وسلم -على الرسول صلى الله عليه وسلم- فصرفها لغير الله، فإن الدعاء مخ العبادة، واللياذ من أنواع العبادة. وقد جمع في أبياته الاستعانة والاستغاثة بغير الله، والالتجاء والرغبة إلى غير الله؛ فإن غاية ما يقع من المستغيث إنما هو الدعاء واللياذ بالقلب واللسان، وهذه هي أنواع العبادة التي ذكرها الله في مواضع كثيرة من كتابه3.   1 انظر ترجمته لدى: الكتبي، فوات الوفيات 3/ 362، والزركلي، الأعلام 7/ 11. 2 انظر: البردة، ضمن مجموع مهمات المتون 90. 3 عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، بيان المحجة في الرد على اللجة، ضمن مجموع الرسائل والمسائل النجدية، لبعض علماء نجد ص227، "ط. الثانية 1408 هـ، نشر: مكتبة الشافعي - الرياض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 وسيأتي التعليق على قوله: "ومن علومك علم اللوح والقلم" في موضع آخر. ومن هذا النوع من الغلو قول البريلوي1: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك الأرضين، ومالك الناس ومالك الأمم ومالك الخلائق وبيده مفاتيح النصر والمدد، وبيده مفاتيح الجنة والنار، وهو الذي يعز في الآخرة ويكون صاحب القدرة والاختيار يوم القيامة، وهو الذي يكشف الكروب، ويدفع البلاء، وهو حافظ لأمته وناصر لها، وإليه ترفع الأيدي بالاستجداء"2. ومنه قوله أيضًا: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبرئ من السقم والآلام والكاشف عن الأمة كل خطب وهو المحيي، وهو الدافع عن المعضلات، والنافع للخلق، والرافع للمراتب، وهو الحافظ والناصر، وهو دافع البلاء أيضًا، وهو الذي أبرد على الخليل النار، وهو الذي يهب ويعطي، وحكمه نافذ وأمره جار في الكونين"3. ولا أدري ماذا أبقى هذا البريلوي لله رب العالمين؟! - ومن صور الغلو فيه صلى الله عليه وسلم زعم بعض طوائف الغلاة أنه صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب: من ذلك قول البوصيري فيه:   1 هو: أحمد رضا البريلوي زعيم الطائفة البريلوية، ولد في مدينة بريلي من مدن الهند سنة 1272 هـ، وكانت وفاته سنة 1340 هـ. ولا تزال نحلته لها رواج في أقاليم الهند والباكستان. راجع عنه وعن طائفته: إحسان إلهي ظهير. البريلوية، عقائد وتاريخ 13- 45. 2 أنوار رضا ص240، مقال إعجاز البليلوي. اقتبسه إحسان إلهي. انظر: البريلوية ص69. 3 الاستمداد على أجيال الارتداد، للبريليوي. 32- 33. اقتبسه إحسان إلهي. انظر: البريلوية ص 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم وكذا قول البريلويك "إن علم اللوح وعلم القلم، وعلم ما كان وما يكون جزءًا واحدًا1 من علوم النبي صلى الله عليه وسلم2. وقوله أيضًا: "إن علومه -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- تتنوع إلى الجزئيات، والكليات وحقائق ودقائق وعوارض ومعارف تتعلق بالذات والصفات وعلم اللوح والقلم؛ إنما يكون سطرًا من سطور علمه ونهرًا من بحور حلمه"3. وهذا الذي قاله البريلوي، والبوصيري قبله من الغلو المفرط؛ إذ جعلا علم اللوح والقلم بعض علمه صلى الله عليه وسلم. وقد بينا أن من قول أهل السنة أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم، وأنه لم يعلم منه إلا ما شاء الله أن يعلمه، وأنه لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل وأوردنا هناك الآيات الدالة على ذلك، ونزيد هنا قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله؛ لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله" 4. وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "من حدثك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه؛ فقد كذب، وهو يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ، ومن حدثك أنه يعلم الغيب؛ فقد كذب، وهو يقول: "لا يعلم الغيب إلا الله" 5.   1 كذا. وهو خطأ نحوي والصواب الرفع. 2 خالص الاعتقاد، للبريلوي ص38، اقتبسه إحسان إلهي. المرجع السابق 87. 3 خالص الاعتقاد للبريلوي ص38. اقتبسه إحسان إلهي، البريلوية ص87. 4 خ: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدً} 13/ 361، ح 7379. 5 المرجع السابق، والجزء والصفحة، ح 7380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 - زعم بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم نور خلق من نور الله، وليس ببشر كما يعتقد البربلوية ذلك، وغيرهم من غلاة المتصوفة. ومن نصوصهم في ذلك قول أحمد يا البريلوي: "إن الله خلق الصورة المحمدية من نور اسمه البديع القادر، ونظر إليها باسمه القاهر، ثم تجلى عليها باسم اللطيف الغافر"1. ولزعيم النحلة البريلوية رسالة سماها "صلاة الصفا في نور المصطفى"2. وقد نص الله عز وجل في كتابه في غير ما آية على بشريته صلى الله عليه وسلم؛ فقال جل وعلا: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} 3. وقال في سورة الكهف آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 4. - ومن الغلو فيه صلى الله عليه وسلم: ما يفعله كثير من الضلال من اتخاذ قبره عيدًا بكثرة التردد إليه، واستقباله بالدعاء، والتمسح بالسياج المضروب حوله، بزعم أن في ذلك تعظيمًا له صلى الله عليه وسلم. والحق أن تعظيمه يكمن في طاعته واتباعه، وفعل ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أمته عن اتخاذ قبره عيدًا فقال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" 5.   1 الفتاوى النعيمية ص327، اقتبسه إحسان إلهي ظهير، البريولية ص102. 2 انظر: إحسان إلهي، البريلوية ص102. 3 سورة الإسراء آية 93. 4 آية 110. 5 حم 2/ 367. د: كتاب المناسك، باب زيارة القبور 2/ 534، ح 6042، وللحديث طرق وشواهد يبلغ بها درجة الصحة. انظر: جاسم الفهيد، النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد، ص 119، ح 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 والعيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائذًا بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك1. وأما الدعاء عند القبر؛ فكان السلف رحمة الله عليهم إذا سلم أحدهم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعو فإنه يستقبل القبلة بالدعاء، ويجعل الحجرة عن يساره2.   1 انظر: تيسير العزيز الحميد 351. 2 انظر: ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 ثالثا: ذكر قول بعض من فرط وقصر في تعظيمه صلى الله عليه وسلم ... ثالثًا: ذكر في بعض من فرط وقصر في تعظيمه صلى الله عليه وسلم في مقابل تلك الصور للغلو والإفراط في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، نقف هنا أمام صور معاكسة، تنم عن جفاء وتقصير في حق النبوة والأنبياء بعامة ونبينا صلى الله عليه وسلم خاصة؛ فمن تلك الصور: - تطاول بعض الطوائف على مقام النبوة والأنبياء بالتقليل من شأنهم، والحط من منزلتهم، وتفضيل غيرهم من أفراد الأمة عليهم. وذلك كقول الشيعة الرافضة بأن مقام أئمتهم فوق مقام الرسل والملائكة، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في الفصل الرابع، وأذكر هنا بقول الخميني في ذلك: "وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل"1. ومنه تفضيل بعض غلاة الصوفية من زعموهم أولياء، على أنبياء الله ورسله.   1 انظر: ص416 من هذه الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وقالوا في ذلك أقوالًا شنيعة مستكرهة. كقول بعضهم: "معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب، وأوتينا ما لم تؤتوه"1. وقول أبي يزيد البسطامي2: "تا الله إن لوائي أعظم من لواء محمد صلى الله عليه وسلم، لوائي من نور تحته الجان والإنس كلهم من النبيين"3. ومنه قوله بعضهم -شعرًا- في تفضيل مقام الولاية على مقام النبوة والرسالة: مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي4 ومن ذلك اختراعهم لقب خاتم الأولياء مضاهاة لخاتم الأنبياء وجعله أفضل من الأنبياء: "وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي5، وقد انتحله طائفة كل منهم يدعي أنه خاتم الأولياء. وكل منهم يدعي أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه"6.   1 انظر: عبد الكريم الجبلي، الإنسان الكامل 1/ 124، اقتبسه إحسان إلهي. انظر: التصوف ص188. 2 أبو يزيد البسطامي هو: طيفور بن عيسى، شيخ الصوفية، قال الذهبي: "وله نبأ عجيب وحال غريب، قال: وقد نقلوا عن أبي يزيد أشياء الشأن في صحتها عنه، منها "سبحاني، و"ما في الحبة إلا الله"، مات سنة إحدى وستين ومائتين" ميزان الاعتدال 2/ 346- 347. 3 لطائف المتن والأخلاق للشعراني، اقتبسه إحسان إلهي، التصوف ص188. 4 طبقات الشعراني 1/ 68، "ط. دار العلم للجميع"، التصوف ص188. 5 وهو محمد بن علي بن الحسن بن بشير الترمذي المؤذن المعروف بالحكيم، صاحب كتاب نوادر الأصول المشهور، وله كتاب ختم الولاية وعلل الشريعة، هجر بسببه في ترمذ آخر عمره. قال ابن حجر: ومما أنكر عليه أنه كان يفضل الولاية على النبوة، وقال: عاش إلى حدود العشرين وثلاثمائة، وعاش نحوًا من تسعين سنة، والله أعلم، لسان الميزان 5/ 308- 310. 6 ابن تيمية، الفتاوى 11/ 444. وانظر أيضًا: 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 المبحث الثاني: في بيان وسطيتهم في باب تعظيم الصالحين مدخل ... المبحث الثاني: في بيان وسطيتهم في باب تعظيم الصالحين وقيل في بيان ذلك يحسن أن نبين من هو الصالحون؟ الصلاح في اللغة: ضد الفساد1. وقد ورد الصلاح في القرآن الكريم لعدة معان2: منها "الإيمان": كما في قوله تعالى: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} 3؛ يعني: من آمن من آبائهم، وقوله: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} 4؛ يعني: المؤمنين. ومنها "الطاعة"، ومنه قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 5؛ يعني: أطاعوا الله. ومنها "حسن المنزلة وعلوها"، ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} 6؛ أي: من السعداء7. والمعاني الأخرى تدور على بعض الطاعات؛ كالأمانة والأمر بالمعروف ونحو ذلك.   1 لسان العرب 2/ 516 2 الدامغاني، قاموس القرآن 282- 283، وابن الجوزي، نزهة الأعين النواظر 396- 397. 3 سورة الرعد آية 23. 4 سورة النور آية 32. 5 سورة البقرة آية 277. 6 سورة البقرة آية 130. 7 انظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 1/ 269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وعلى هذا؛ فالصالحون هم المؤمنون الذي يعملون الصالحات. وأفضل الصالحين وقدوتهم هم رسل الله وأنبياؤه عليهم الصلاة والسلام؛ كما وصفهم الله عز وجل بذلك في كتابه الكريم: فقال عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} 1. وقال عن يحيى عليه السلام: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} 2. وقال عن عيسى عليه السلام: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} 3. وقال عن إسحاق ويعقوب: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} 4. وأمثال ذلك كثير في القرآن. ثم يلي الأنبياء والرسل عليهم السلام أتباعهم ومن اهتدى بهديهم وعمل بما أمروا به وانتهى عما نهو عنه. وأفضل صالحي هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، أصحابه رضوان الله عليهم، على تفاوت بينهم في ذلك، ثم يتلوهم الصالحون من أهل القرون الثلاثة المفضلة التي شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية، ثم سائر صالحي هذه الأمة في كل زمان ومكان على درجاتهم في ذلك.   1 سورة البقرة آية 130. 2 سورة آل عمران آية 39. 3 سورة آل عمران آية 46. 4 سورة الأنبياء آية 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 فأما الصحابة فقد تقدم الكلام عليهم على وجه الخصوص في الفصل الرابع، وبينا هناك منزلتهم ومكانتهم، وأقوال الناس فيهم، وموافقتهم منهم، وبينا وسطية أهل السنة والجماعة في بابهم. وحديثنا في هذا الفصل سيكون عن الصالحين بوجه عام، وأقوال الناس فيهم ومواقفهم منهم. وقد رأيت الناس في ذلك ثلاثة أصناف: صنف عرف للصالحين حقهم وقدرهم وقال فيهم بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصنف أفرط في تعظيمهم وغلا في شأنهم، فرفعهم فوق منزلتهم، وقال فيهم غير الحق، وصنف ثالث لم يعرف فضلهم، ولم يقم بحقهم فهو مقصر فيما قال لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 فأما الصنف الأول: "فهم أهل السنة والجماعة" مذهبهم وقولهم في ذلك يتخلص في ما يأتي: 1- يرون موالاة الصالحين ومحبتهم، والثناء عليهم وذكر محاسنهم والدعاء لهم؛ فإن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، كما أخبر الحق تبارك وتعالى في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1. يقول الإمام الطحاوي مبينًا أن من عقيدة أهل السنة والجماعة محبة أهل الطاعات وموالاتهم ولا سيما أهل العلم والسنة منهم، وبغض أهل معصية الله ومجافاتهم: "ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة ... وعلماء السلف من السابقين، من بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر -وأهل   1 سورة التوبة آية 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 الفقه والنظر -لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل"1. 2- ويرون أن المؤمنين الصالحين المتقين، هم أولياء2 الله الذين قال فيهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 3 فكل من كان تقيًا كان لله وليًا، كما يقول الحافظ ابن كثير4. يقول الإمام الطحاوي: "والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن"5. فالطريق إلى ولاية الله هو الإيمان واتباع القرآن والسنة، وكل من ادعى الولاية أو رامها من غير هذا الطريق فهو على غير سبيل المؤمنين. والمؤمنون يتفاضلون في ولاية الله تفاضلهم في الإيمان والتقوى6. 3- يؤمن أهل السنة بكرامات7 الأولياء، وما يجريه الله على أيدي   1 انظر: العقيدة الطحاوية بشرح ابن أبي العز 432، 554. 2 الولي: ضد العدو، كما في الصحاح 6/ 2529. قال شيخ الإسلام: والولاية ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبة والقرب، وأصلا لعداوة: البغض والبعد، وقد قيل: إن الولي سمي وليًا من موالاته للطاعات؛ أي: متابعته لها، والأول أصح، الفرقان6. والمراد بالولي: العالم بالله تعالى، المواضب على طاعته، المخلص في عبادته؛ قاله الحافظ ابن حجر، الفتح 13/ 293. وقال الشوكاني: وهذا التفسير للولي، هو المناسب لمعنعنددى الولي المضاف إلى الرب سبحانه. قطر الولي على حديثا ولي ص 237، "بتحقيق د. إبراهيم هلال، نشر: دار إحياء التراث - بيروت". 3 سورة يونس آية 62- 63. 4 تفسير القرآن العظيم 4/ 213. 5 انظر: العقيدة الطحاوية، بشرح ابن أبي العز 402، 406. 6 راجه ابن تيمية، الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 33. 7 الكرامة: أمر خارق للعادة يجريه الله على يد ولي من أوليائه، والفرق بيننها وبين المعجزة: أن المعجزة تكون مقرونة بدعوى الرسالة بخلاف الكرامة. انظر: شرح الواسطية، للهراس 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الصالحين المتقين من خوارق العادات. يقول الإمام الطحاوي: "ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم"1. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات"2. ولا تكون كرامة إلا إذا أجريت على يد تقي متبع لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فمن كان حاله غير ذلك فما يظهر على يديه من الخوارق ليس بكرامة؛ وإنما هي أحوال شيطانية3؛ "إذ قد أجمع العلماء على أن شرط الكرامة كونها على يد متبع للشرع المطهر"4. يقول الإمام الشوكاني في بيان الميزان الذي يفرق به بين الكرامة وغيرها: "والميزان الذي لا يجور هو ميزان الكتاب والسنة؛ فمن كان متبعًا لهما معتمدًا عليهما فكراماته وجميع أحواله رحمانية، ولمن لم يتمسك بهما، ويقف عند حدودهما فأحواله شيطانية"5. 4- ويعتقد أهل السنة أن الصالحين والأولياء من المؤمنين غير معصومين من الذنوب؛ بل يجوز أن يقع منهم ما يقع من غيرهم، وأن العصمة لا تكون   1 الطحاوية، بشرح ابن أبي العز ص558. 2 العقيدة الواسطية، شرح الهراس 151. 3 انظر: شيخ الإسلام ابن تيمة: "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" ص47، "بتحقيق د. ربيع المدخلي". 4 انظر: عبد العزيز الرشيد، التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية ص335. 5 قطر الولي ص272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 لأحد بعد الأنبياء. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "أجمع جميع سلف المسلمين وأئمة الدين من جميع الطوائف: أنه ليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد معصوم ولا محفوظ من الذنوب ولا من الخطايا"1. وقال الإمام الشوكاني: "واعلم أن الأولياء الله غير الأنبياء ليسوا بمعصومين؛ بل يجوز عليهم ما يجوز على سائر عباد الله المؤمنين"2. 5- ومن عقيدة أهل السنة أنهم: لا يفضلون أحدًا من الأولياء والصالحين على أحد من الأنبياء بحال. يقول الإمام الطحاوي في تقرير عقيدة أهل السنة في ذلك: "ولا نفضل أحدًا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء"3. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها، وسائر أولياء الله تعالى، على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء"4. فمقام الولاية دون مقام النبوة والرسالة، عكس ما يقوله الاتحادية -أهل وحدة الوجود- وغلاة المتصوفة، الذين جعلوا مقام الولاية أعلى من مقام النوبة والرسالة، كما تقدم الإشارة إلى قولهم من ذلك في المبحث الأول5. 6- ومن عقيدة أهل السنة في الصالحين أنه لا يجوز الغلو فيهم بحال   1 انظر: جامع الرسائل، "بتحقيق محمد رشاد سالم 1/ 266". 2 انظر: قطر الولي 248. 3 انظر: الطحاوية، بشرح ابن أبي العز 55. 4 الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 69. 5 انظر: ص442 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وأن بناء المساجد والقباب على قبورهم، مظهر من مظاهر الغلو فيهم وهو محرم لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه وتحذيره من مضاهاة اليهود والنصارى في ذلك ولعنه إياهم بسبب ذلك. ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك" 2. وقد أجمع العلماء على النهي عن البناء على القبور وتحريمه ووجوب هدمه لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة3. لأن البناء عليها؛ غلو يفضي بأهليه إلى عبادة أصحاب القبور ودعائهم والاستغاثة بهم، وطلب جلب النفع ودفع الضر منهم من دون الله عز وجل. فإن الغلو في الصالحين على هذا النحو كان سببًا في شرك قوم نوح عليه السلام، من قبل، كما أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله عز وجل: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 4، أنها "أسماء رجال صالحين من قوم نوح؛ فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتسخ العلم عبدت"5.   1 تقدم تخريجه ص272. 2 م: كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور 1/ 337- 378، ح 532. 3 انظر: تيسير العزيز الحميد 332. 4 سورة نوح آية 23. 5 خ: كتاب التفسير، باب {وَدًّا وَلا سُوَاعًا ... } 8/ 667. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وأما الصنف الثاني: "وهم أهل الغلو والإفراط في تعظيم الصالحين" فهم طوائف الرفض، والتصوف، ومن شاكلهم من أهل البدع. وقد رأينا طرفًا من غلو الرافضة في أئمتهم، كغلوهم في علي رضي الله عنه، وغيره من صالحي أهل بيته، كما تقدم لنا ذلك في الفصل الرابع1. ومن مظاهر غلوهم بناؤهم المشاهد على القبور والأضرحة، وجلعها عيدًا تزار وتشد الرحال إليها، وجعل ذلك أفضل من مناسك الحج. وزعموا أنا أبا عبد الله2 قال: "من أتى قبر الحسين -عليه السلام- عارفًا بحقه، كان كمن حج مائة حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله"3. وأما ضلال الصوفية؛ فلهم غلو في بعض من زعموا ولا يتهم وصلاحهم، يضاهي غلو الشيعة في أئمتهم إن لم يكن هو هو؛ فبين التصوف والتشيع نسب وسبب. ومن غلوهم في أوليائهم ما أشرنا إليه في المبحث الأول من تفضيلهم الولي على النبي، وجعل منزلة الولاية فوق منزلة النبوة والرسالة4. وقولهم بختم الولاية، مضاهاة لختم النبوة. وأما غلوهم في القبور، وبناء المساجد عليها وتزيينها بالستائر والسرج وغير ذلك؛ فهو من الأمور اللازمة لوجودهم في كل عصر ومصر وقد أجروا عليها،   1 انظر: ص412 وما بعدها. 2 وهو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المعروف بالصادق ت 48 هـ. انظر: الحلية 3/ 192 والتقريب 1/ 132. 3 بحار الأنوار، لمحمد باقر المجلسي 98/ 34، ومستدرك الوسائل، لميرزا حسين النووي الطيرسي 10/ 274، انظر: الرافضة وتفضيل زيارة قبر الحسين على حج بيت الله الحرام، لعبد المنعم السامرائي ص108. 4 انظر ص: 442- 443. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 الأوقاف، والصدقات. يقول الإمام الشوكاني: "تكاثرت الأوقاف على القبر وبلغت مبلغًا عظيمًا؛ حتى بلغت غلات ما يوقف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافه، ما يقتاته أهل قرية كبيرة من قرى المسلمين، ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة أغنى الله بها طائفة عظيمة من الفقراء، وكلها من النذر في معصية الله"1.   1 انظر: شفاء الصدور في تحريم رفع القبور، ضمن مجموع الرسائل المنيرية 1/ 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وأما الصنف الثالث "وهم الذين قصروا وفرطوا في هذا الباب": فمنهم كل من أنكر أو نفى شيئًا مما ثبت لهم، كقول المعتزلة والجهمية بنفي كرامات الأولياء، بحجة أنه لو جاز ظهور الخوارق على أيديهم لالتبس النبي بغيره؛ إذ الفرق بين النبي وغيره وهو المعجزة التيهي الخارق للعادة. قال ابن ابي العز في الجواب عن شبهتهم هذه: "وهذه الدعوى إنما تصح إذ كان الولي يأتي بالخارق ويدعي النبوة، وهذا لا يقع، ولو ادعى النبوة لم يكن وليًا؛ بل كان متنبيًا كذابًا"1. وأعلم أن أهل التصوف، قد فرطوا في حق الصالحين أيضًا من وجوه. الوجه الأول: أنهم جعلوا من ليس بصالح صالحًا، ومن ليس بولي وليًا؛ فقصروا في حق الأولياء، الأتقياء المتبعين للشرع، وافرطوا في حق من زعمهم أولياء ممن هو تارك للصلوات مرتكب للمحرمات. الوجه الثاني: على فرض أن من غلو فيه كان صالحًا تقيًا؛ فإنهم في الواقع يعدون مفرطين مقصرين؛ إذ لم يقتدوا به في صلاحه وتقواه والسير على   1 انظر: شرح الطحاوية 563. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 نهجه، وقالوا فيه ما لم يأمر به ولم يرضه؛ فإن الصالحين المتبعين لا يقرون الغلاة فيهم على ما يظهرون فيهم من الغلو والإطراء. الوجه الثالث: أنهم لو اتبعوا الصالحين على ما كانوا عليه من الهدى، وما دعوا إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له، ولحصل لهم الهداية والنجاة ولحصل لأولئك الصالحين الذين كانوا سببًا في هدايتهم الأجر والثواب؛ فلما خالفوهم، ولم يهتدوا، انقطع ثواب الصالحين الذي كان يحصل بتوحيد هؤلاء وطاعتهم1. وهكذا يكون هؤلاء قد جمعوا بين الغلو والتقصير، نعوذ فالله من الخذلان وسوء المصير.   1 انظر: ابن تيمية، الاستغاثة 307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 خاتمة : الحمد لله الذي بنعمته وتوفيقه تتم الصالحات ... وبعد: في ختام عملي في هذه الرسالة، أود أن أذكر بأهم ما عالجته من مسائل ومباحث، وما خلصت إليه فيها من نتائج، ونظرًا لسعة موضوع الرسالة وتعدد مباحثها؛ فإني سأكتفي بعرض ذلك باقتضاب على النحو التالي: - تبين لي في "معنى السنة": أن المراد بها في إطلاق السلف: موافقة الكتاب والسنة، وخاصة في مسائل الاعتقاد، ولذلك سموا مصنفاتهم في العقيدة باسم "السنة". - كما تبين لي أن مصطلح "أهل السنة" مصطلح قديم معروف عند السلف ابتداء من عصر الصحابة رضوان الله عليهم، كما ورد استعمال ذلك في كلام ابن عباس، وفي ذلك رد على من ادعى أن ذلك أول ما أطلق على الأشاعرة. - كما تبين لي أن دعوى الأشاعرة أنهم هم أهل سنة دعوى عريضة فيها نظر؛ لأن اعتمادهم على العقل في أمور الاعتقاد وتقدميه على النقل ووردهم لكثير من نصوص السنة بمقتضاه يقعد بهم عن ذلك. - أن الطريق لمعرفة السنة والقول بها، هو النقل، والإتباع لا غير، وأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 لا تدرك بالعقول. - كما أثبت في هذه الرسالة أن أهل السنة هم أهل الجماعة، وهم الفرقة الناجية، وهم الطائفة المنصورة دون غيرهم من سائر الفرق. - كما بينت جواز إطلاق السلف والسلفية على أهل السنة، وصحة التلقب بذلك، وتهافت كلام من عد ذلك من البدع. - بينت حقد أهل البدع على أهل السنة، ونبزهم بالألقاب الشنيعة، وذكرت نصوصهم في ذلك في كتبهم ومصنفاتهم وما نقله الثقات من أقوالهم وبينت أن أهل السنة لا يلحقهم شيء من تلك الألقاب. - كما أثبت أن هذه الأمة المحمدية هي الأمة الوسط بين الأمم، وأن في إثبات وسطيتها إثباتًا لوسطية أهل السنة. - أثبت في هذه الرسالة أن الأمة المحمدية أعدل الأمم بشهادة الله لها بذلك، وشهادة أعدائها أيضًا. - كما أثبت مبلغ جور أمتي اليهود والنصارى، وظلمهم وبعدهم عن العدل فيما بينهم وفيما بينهم وبين الأمم الأخرى. - وأثبت أن هذه الأمة المحمدية هي خير الأمم وأوضحت ذلك من أوجه متعددة. - كما بينت مبلغ توسط هذه الأمة واعتدال أقوالها بين طرفي الإفراط والتفريط. - أثبت أن كلًا من اليهود والنصارى لديهم إفراط وتفريط، وغلو وجفاء ويظهر ذلك في باب توحيد الله، وباب أنبياء الله ورسله وغير ذلك من الأبواب، ودللت على ذلك من كتبهم المقدسة عندهم. - كما أثبت أن أهل السنة أوسط فرق هذه الأمة، وأنهم بين هذه الفرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 كهذة الأمة بين الأمم في الاعتدال والتوسط والفضل. - فأثبت وسطيتهم في باب الأسماء والصفات واعتدال قولهم واعتقادهم في ذلك بين طرفي الإفراط والتفريط وهم المعطلة والمشبهة. - وبينت وسطيتهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد بين المرجئة والوعيدية من الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم. - وأثبت أنهم أهل توسط واعتدال في باب الإيمان بالفضاء والقدر، بين: الجبرية الذين يسلبون العبد اختياره ومسئوليته عن أفعاله، وبين القدرية الذين يجوزون أن يقع في ملك الله ما لا يريده ويقدره. - وبينت وسطيتهم واعتدالهم في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلامة أقوالهم من الوقيعة فيهم أو الإزراء بهم. - أثبت مبلغ جفاء الرافضة والخوارج لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوء اعتقادهم وأقوالهم فيهم. - بينت مذهب أئمة المعتزلة في هذا الباب، وسوء قولهم واعتقادهم في طوائف من الصحابة. - كما بينت وسطية قول أهل السنة وحسن اعتقادهم في باب تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحين من أمته، وأنهم وسط في ذلك بين غلو وتفريط وتقصير أهل البدع من المتصوفة ومن شاكلهم. هذه أهم المباحث التي عرضت لها في هذه الرسالة، والنتائج التي انتهيت إليها فيها؛ فإن وفقت وأصبت فبفضل الله وتوفيقه، وإن أخطأت وزللت فمن نفسي، وأستغفر الله لذنبي، وحسبي أني اجتهدت في ذلك. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 الفهارس : فهرس المصادر والمراجع : "أ": 1- "أبو نعيم، حياته وكتابه الحلية": محمد لطفي الصباغ، الطبعة الثانية، نشر دار الاعتصام، 1398 هـ/ 1978 م. 2- "إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين": محمد الحسيني الزبيدي، نشر دار الفكر. 3- "الإحكام في أصول الأحكام": علي بن محمد الآمدي، بتعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي، 1402 هـ. 4- "أخبار عمرو بن عبيد": أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني، مخطوط بقسم المخطوطات بالجامعة الإسلامية برقم "488". 5- "آراء الخوارج الكلامية": د. عمار طالبي، نشر الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر، 1398 هـ/ 1978 م. 6- "الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد": الجويني- بتحقيق محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد طبعة مطبعة السعادة، نشر مكتبة الخانجي، 1369 هـ/ 1950 م. 7- "أركان الإيمان": وهبي سليمان غاوجي الألباني، الطبعة الأولى، نشر مؤسسة الرسالة، 1397 هـ / 1977 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 8- "أسباب ظهور الفرق الإسلامية": عبد الله الغنيمان. مقال منشور في مجلة كلية أصول الدين، عدد 1399 هـ/ 1400 هـ. 9- "الاستقامة": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم. تحقيق د. محمد رشاد سالم. الطبعة الأولى. نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1404 هـ / 1983 م. 10- "الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام": د. علي عبد الواحد وافي، نشر دار نهضة مصر للطبع والنشر - القاهرة، 1392 هـ/ 1972 م. 11- "الأسماء والصفات": البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين، الطبعة الأولى، نشر دار الكتب العلمية -بيروت، 1405 هـ/ 1984 م. 12- "إسلام بلا مذاهب": د. مصطفى الشكعة، طبعة شركة ومطبعة مصطفى الحلبي، بمصر، 1396 هـ/ 1976 م. 13- "الإصابة في تمييز الصحابة": ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني، نشر دار الفكر - بيروت، 1398 هـ / 1978 م. 14- "أصل الشيعة وأصولها": د. محمد الحسين آل كاشف الغطاء، الطبعة العاشرة طبعة مكتبة العرفان- بيروت. 15- "أصول الدين": البغدادي: عبد القاهر بن طاهر التميمي، الطبعة الثانية 1400 هـ - 1980 م، نشر دار الكتب العلمية -بيروت- مصور عن طبعة إستانبول، 1346 هـ/ 1928 م. 16- "أصول الرخي": أبو بكرمحمد بن أحمد بن أبي سهل السرخي، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني، طبعة مطابع دار الكتاب العربي، نشر لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، 1372 هـ. 17- "أصول السنة": الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين، بتحقيق محمد إبراهيم هارون على الآلة الكاتبة، رسالة ماجستير، 1403 هـ/ 1404 هـ. 18- "أضواء البيان": الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، مطبعة المدني، 1386 هـ/ 1967 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 19- "الاعتصام": الشاطبي: إبراهيم بن موسى بن محمد، بتعريف السيد محمد رشيد رضا، نشر دار المعرفة -بيروت، 1405 هـ/ 1985 م. 20- "اعتقادات فرق المسملين والمشركين": الرازي: محمد بن عمر بن الحسين. بمراجعة وتحرير على سامي النشار، نشر دار الكتب العلمية -بيروت، 1402 هـ/ 1982 م. 21- "الأعلام": للزركلي: خير الدين، الطبعة الثالثة. 22- "أعلام الموقعين عن رب العالمين": ابن القيم: محمد بن أبي بكر، بتحقيق عبد الرحمن الوكيل، نشر دار الكتب الحديثة، 1389 هـ/ 1969 م. 23- "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان": ابن القيم: محمد بن أبي بكر، بتحقيق محمد سيد كيلاني، نشر شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي بمصر، 1381 هـ/ 1961م. 24- "الاقتصاد في الاعتقاد": الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد، الطبعة الأولى، نشر دار الكتب العلمية - بيروت 1403هـ/ 1983م. 25- "اقتضاء الصراط المستقيم": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، تحقيق د. ناصر بن عبد الكريم العقل، الطبعة الأولى 1404 هـ. 26- "إلجام العوام عن علم الكلام": الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد، بتحقيق محمد المعتصم بالله بالغدادي، الطبعة الأولى، نشر دار الكتاب العربي - بيروت 1406 هـ/ 1985 م. 27- "أم البراهين": السنوسي: محمد بن يوسف، ضمن مجموع مهمات المتون، الطبعة الرابعة، نشر مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي 1369 هـ/ 1949 م. 28- "الإمام ابن تيمية وقضية التأويل": د. محمد السيد الجليند، الطبعة الثالثة، نشر شركة مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع 1403 هـ/ 1983 م. 29- "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، بتحقيق د. صلاح الدين المنجد، الطبعة الأولى، نشر دار الكتاب الجديد -بيروت 1396 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 / 1976 م. 30- "الانتصار لأهل الحديث": السمعاني: أبو المظفر منصور بن أحمد، تعليق على سامي النشار ضمن كتاب صون المنطق والكلام للسيوطي، نشر مكتبة الباز - مكة. 31- "الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد": الخياط: أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد، بتحقيق د. البير نصري نادر، نشر المطبعة الكاثوليكية - بيروت 1957 م. 32- "الأنساب": السمعاني: أبو سعد عبد الكريم بن محمد، الطبعة الأولى، نشر دار الجنان، بيروت 1408 هـ/ 1988. 33- "الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به": الباقلاني: أبو بكر بن الطيب، تحقيق محمد زاهد الكوثري الطبعة الثانية، نشر مؤسسة الخانجي 1382هـ/ 1963م. 34- "أنيس الفقهاء": قاسم القونوي، بتحقيق د. أحمد عبد الرزاق الكيسي، الطبعة الأولى، نشر دار الوفاء - جدة 1406هـ/ 1986م. 35- "الإيمان": أبو عبيد القاسم بن سلام، بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ضمن كتاب "من كنوز السنة رسائل أربع"، نشر المطبعة العمومية - دمشق. 36- "الإيمان بين السلف والمتكلمين": أحمد بن عطية الغامدي، رسائل ماجستير مطبوع على الآلة الكاتبة 1397هـ. "ب": 37- "الباعث على إنكار البدع والحوادث": أبو شامة: شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل، الطبعة الثانية مطبعة لنهضة الحديثة - مكة 1401هـ. 38- "البداية والنهاية": ابن كثير: أبو الفداء الحافظ ابن كثير، تحقيق د. أحمد أبو ملح ورفاقه، الطبعة الأولى، نشر دار الكتب العلمية - بيروت 1405هـ/ 1985م. 39- "البدء والتاريخ": المقدسي: مطهر بن طاهر، نشر مؤسسة الخانجي - مصر. 40- "البدع والنهي عنها": ابن وضاح: محمد بن وضاح، تحقيق محمد أحمد دهمان، الطبعة الثانية، نشر دار البصائر 1400هـ/ 1980م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 41- "البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان": السكسكي: أبو الفضل عباس بن منصور، تحقيق د. بسام علي سلامة العموش، الطبعة الأولى، نشر مكتبة المنار- الأردن 1408 هـ/ 1988 م. 42- "البريلوية عقائد وتاريخ": إحسان إلهي ظهير، الطبعة الثانية، نشر إدارة ترجمان السنة- لاهور 1402 هـ/ 1982 م. 43- "البيان لأخطاء بعض الكتاب": د. صالح بن فوزان الفوزان، ط. الأولى 1411 هـ، نشر دار ابن الجوزي. 44- "بيان تلبيس الجهمية": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، تصحيح وتعليق: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم ط. الأولى، نشر مطبعة الحكومة - مكة المكرمة. 45- "بيان المحبة في الرد على اللجة": عبد الرحمن بن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ضمن مجموع الرسائل والمسائل النجدية، ط: "الثانية، نشر مكتبة الشافعي - الرياض 1408 هـ. 46- "بين المسيحية والإسلام": أبو عبد الله الخزرجي، بتحقيق وتعليق د. محمد شامة، ط. مطبعة المدني -القاهرةِ، نشر مكتبة وهبة. "ت": 47- "تاريخ الأمم والملوك": الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير، تحقيق: أبو الفضل إبراهيم، دار سويدان - بيروت. 48- "تاريخ بغداد": الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي، بتصحيح السيد محمد سيد العرفي، نشر دار الكتاب العربي - بيروت. 49- "تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم": محمد عزه دروزة، نشر المكتبة العصرية - بيروت 1389 هـ/ 1969 م. 50- "تاريخ التراث العربي": فؤاد سزكين، نقله إلى العربية د. محمود فهمي حجازي ود. فهمي أبو الفضل، نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب 1977. 51- "تاريخ الجهمية والمعتزلة: "جمال الدين القاسمي الدمشقي، الطبعة الثانية، نشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 مؤسسة الرسالة -بيروت 1401 هـ/ 1981 م. 52- "تاريخ الحروب الصليبة": ستيفن - رنسمان، ترجمة د. السيد الباز العريني، الطبعة الأولى، نشر دار الثقافة - بيروت 1967. 53- "تاريخ المذاهب الإسلامية": محمد أبو زهرة، نشر دار الفكر العربي. 54- "التبصير في الدين": الإسفرايني: أبو المظفر طاهر بن محمد، تحقيق كمال يوسف الحوت، نشر عالم الكتب 1403هـ 1983م. 55- "تبيين كذب المفتري": ابن عساكر: أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله، الطبعة الثانية، نشر دار الفكر 1399 هـ. 56- "تحرير المقالة من شرح الرسالة": مخطوط بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، تحت رقم "604". 57- "تحرير الوسيلة": الخميني، الطبعة الثالثة 1397 هـ. 58- "التحف في مذاهب السلف: الشوكاني: محمد بن علي بن محمد. طبعة مطبعة المدني، نشر الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 59- "تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد: البيجوري: إبراهيم بن محمد، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية - بيروت 1403هـ/ 1983م. 60- "تدريب الراوي": السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، تحقيق د. أحمد عمر هاشم. الطبعة الأولى، نشر دار الكتاب العربي 1405هـ/ 1985م. 61- "التدمرية": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، تحقيق محمد بن عودة السعوي، الطبعة الأولى 1405هـ/ 1985م. 62- "تذكرة الحفاظ": الذهبي: أبو عبد الله شمس الدين، نشر دار إحياء التراث العربي - بيروت. 63- "التسعينية": ضمن المجلد الخامس من الفتاوى الكبرى، ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، طبعة كردستان العلمية، بالقاهرة 1329هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 64- "التصوف والمنشأ والمصادر": إحسان إلهي ظهير، الطبعة الأولى. نشر إدارة ترجمان السنة -لاهور 1406 هـ/ 1986. 65- "التعريفات" علي بن محمد الجرجاني، الطبعة الأولى، نشر دار الكب العلمية - بيروت 1403هـ. 66- "تفسير أبي السعود" المسمى "إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم": أبو السعود: محمد بن محمد العمادي ت: 951، نشر دار المصحف - القاهرة. 67- "تفسير القرآن العظيم": ابن كثير: أبو الفداء إسماعيل بن كثير، تحقيق عبد العزيز غنيم ومحمد أحمد عاشور ونحمد إبراهيم البنا، طبعة مطبعة الشعب - القاهرة. 68- "التفسير الكبير": الرازي: فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر، الطبعة الثالثة، نشر: دار إحاء التراث العربي - بيروت. 69- "تفسير المنار": محمد رشيد رضا، الطبعة الثانية، دار المعرفة - بيروت. 70- "التفكير الفلسفي في الإسلام": د. عبد الحليم محمود، الطبعة الثالثة، نشر مكتبة الأنجلو المصرية 1387 هـ/ 1968 م. 71- "تقريب التهذيب": ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، نشر مكتبة محمد سلطان النمنكاني، المدينة المنورة. 72- "التلمود تاريخه وتعاليمه": ظفر الإسلام خان، الطبعة الثانية، نشر دار النفائس 1972 م. 73- "التمهيد": الباقلاني: محمد بن الطيب بن الباقلاني، صححه الأب رتشرد يوسف مكارثي اليسوعي، نشر المكتبة الشرقية - بيروت 1957 م. 74- "التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع": الملطي: أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن، بتعليق محمد زاهد الكوثري 1388 هـ/ 1968 م. 75- "التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية": الرشيد: عبد العزيز الناصر، طبعة: دار الأصفهاني بجدة، نشر دار الرشيد للنشر والتوزيع. 76- "التنبيهات اللطيفة": الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 77- "تنبيهات هامة على ما كتبه محمد بن علي الصابوني": في صفات الله عز وجل، الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الطبعة الأولى، نشر الدار السلفية، الكويت 1404 هـ/ 1984 م. 78- "تهذيب الآثار": الطبري: محمد بن جرير، تحقيق د. ناصر سعد الرشيد وعبد القيوم عبد رب النبي، طبعة مطابع الصفا - مكة 1402 هـ. 79- "تهذيب الأسماء واللغات": أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي، نشر دار الكتب العلمية - بيروت. 80- "تهذيب التهذيب": ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني، الطبعة الأولى، طبعة مصورة عن طبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند 1325 هـ، نشر دار صادر. 81- "تهذيب سنن أبي داود": ابن القيم: محمد بن أبي بكر، تحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد حامد فقي، نشر دار المعرفة - بيروت 1400هـ/ 1980م. 82- "التوراة تاريخها وغايتها": ترجمة وتعليق سهيل ديب، الطبعة الثانية، نشر دار النفائس- بيروت 1397هـ 1977هـ. 83- "التوسل أنواعه وأحكامه": ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية 1397هـ. 84- "التيجانية" علي بن محمد الدخيل الله. طبعة دار مصر للطباعة، نشر دار طيبة - الرياض. 85- "تيسير العزيز الحميد": سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، الطبعة السادسة، نشر المكتب الإسلامي - بيروت 1405هـ/ 1985م. "ث": 86- "الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني": جمع وتحقيق الشيخ صالح عبد السميع الأزهري، نشر دار الكتب العلمية - بيروت. "ج": 87- "جامع بيان العلم وفضله": ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد البر، الطبعة الثانية، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة 1388هـ/ 1968م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 88- "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" الطبري: محمد بن جرير، تحقيق وتعليق محمد محمود شاكر، نشر دار المعارف بمصر. 89- "جامع العلوم والحكم": ابن رجب الحنبلي: زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين نشر دار المعارف - بيروت. 90- "الجامع لأحكام القرآن": القرطبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري الطبعة الأولى، نشر دار الكتب العلمية - بيروت 1408هـ/ 1988م. 91- "الجامع لشعب الإيمان": البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين، الطبعة الأولى، نشر الدار السلفية -بومباي- الهند 1408 هـ. 92- "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، نشر مطابع المجد التجارية. "ح": 93- "حاشية العدوى على شرح الحسن لرسالة ابن أبي زيد": للشيخ على الصعيدي العدوي، ط. دار إحياء الكتب. 94- "الحديث والمحدثون": محمد محمد أبو زهو، نشر دار الكتاب العربي 1404هـ. 95- "حلية الأولياء: أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، نشر دار الكتب العلمية - بيروت. "خ": 96- "الخطط المقريزية": المقريزي: تقي الدين أبو العباس أحمد بن علي، نشر دار صادر - بيروت. 97- "خلق أفعال العباد": البخاري: محمد بن إسماعيل، الطبعة الأولى، نشر مؤسسة الرسالة 1404هـ/ 1984م. "د": 98- "الدر المنثور في التفسير بالمأثور": السيوطي: عبد الرحمن جلال الدين، الطبعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 الأولى، نشر دار الفكر 1403هـ/ 1983م. 99- "درء تعارض العقل والنقل": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، تحقيق د. محمد رشاد سالم الطبعة الأولى، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود 1399هـ/ 1979م. 100- "الدعوة إلى الإسلام": سيرتوماس، ترجمة الأستاذ حسن إبراهيم حسن وزملائه، الطبعة الثانية، نشر مكتبة النهضة 1957م. 101- "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب": الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، نشر مطبعة المدني بمصر 1386هـ. 102- "دلائل النبوة": البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين، تخريج وتعليق د. عبد المعطي قلعجي، الطبعة الأولى، نشر دار الكتب العلمية - بيروت 1405هـ/ 1985م. 103- "الديباج المذهب": ابن فرحون أبو إسحاق إبراهيم بن علي، تحقيق د. محمد الأحمدي أبو النور، نشر دار التراث - القاهرة. "ر": 104- "الرد على الجهمية": عثمان بن سعيد الدارمي، تحقيق بدر البدر، الطبعة الأولى، نشر الدار السلفية 1405هـ/ 1985م. 105- "الرد على الجهمية والزنادقة": الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، تحقيق عبد الرحمن عميرة، نشر دار اللواء- الرياض 1397هـ/ 1977م. 106- "الرد على من أنكر الحرف والصوت": عيد الله بن سعيد بن حاتم الوايلي، تحقيق محمد باكريم، الطبعة الأولى، نشر مركز البحث وإحياء التراث الإسلامي بالجامعة الإسلامية 1413. 107- "الرد على المنطقيين": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، الطبعة الثانية، نشر إدارة ترجمان السنة - لاهور 1396هـ/ 1976م. 108- "الرسالة": ابن أبي زيد القيرواني، مع شرحها الثمر الداني، نشر دار الكتب العلمية - بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 109- "الرسائل- رسالة في التقية": الخميني، مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر 1385هـ. 110- "الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم": أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الوزير، طبعة دار المعرفة - بيروت 1399هـ/ 1979م. "ز": 111- "زاد المسير في علم التفسير": ابن الجوزي: أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي، تحقيق محمد بن عبد الرحمن عبد الله، الطبعة الأولى، نشر دار الفكر - بيروت 1407هـ/ 1987م. "س": 112- "سلسلة الأحاديث الصحيحة": محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1399هـ/ 1979. 113- "السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي": د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر -دمشق، الطبعة الأولى 1408هـ/ 1988م. 114- "سنن ابن ماجه": الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي 21395هـ/ 1975م. 115- "سن أبي داود" أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق عزت عبيد الدعاس الطبعة الأولى، نشر وتوزيع محمد علي السيد -حمص 1388هـ/ 1969م. 116- "سنن الترمذي" "جامع الترمذي": أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث العربي. 117- "السنن الكبرى": البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين، دار الفكر. 118- "السنة": الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، ضمن مجموع مع كتاب الرد على الجهمية، مطبعة عيسى البابي الحلبي - مصر. 119- "السنة": أبو بكر عمرو بن أبي عاصم، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني المكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 الإسلامي، الطبعة الثانية 1405هـ/ 1985م. 120- "السنة": أحمد بن محمد بن هارون بن الخلال، تحقيق عطية بن عتيق الزهراني، رسالة دكتوراة، مطبوع على الآلة الكاتبة 1406هـ. 121- "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي": د. مصطفى السباعي، الطبعة الثالثة، نشر المكتب الإسلامي 1396هـ. 122- "سير أعلام النبلاء": الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمدبن عثمان، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الثانية، نشر مؤسسة الرسالة 1402هـ/ 1982م. 123- "سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ابن هشام أبو محمد عبد الملك بن هشام، تحقيق مصطفى السقا وزملائه، الطبعة الثانية 1375 هـ. 124- "السيف الصقيل في الرد على ابن زوفيل": علي بن عبد الكافي السبكي، الطبعة الأولى، نشر مطبعة السعادة - مصر 1356هـ/ 1937م. "ش": 125- "الشامل في أصول الدين": الجويني أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله إمام الحرمين، تحقيق د. علي سامي النشار وفيصل بدير عون وسهير محمد مختار، نشر: منشأة المعارف بالإسكندرية 1969م. 126- "شذارات الذهب في أخبار من ذهب": أبو الفرح عبد الحي بن العماد الحنبلي، نشر دار الآفاق الجديدة - بيروت. 127- "الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة": عبيد الله بن بطة العكبري. تحقيق د. رضا بن نعسان معطي، نشر المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة 1404هـ/ 1984م. 128- "شرح أصول اعتقاد أهل السنة": اللالكائي: أبو القاسم هبة الله بن الحسين، تحقيق د. أحمد سعد حمدان، نشر دار طيبة - الرياض. 129- "شرح الأصول الخمسة": عبد الجبار بن أحمد، تحقيق د. عبد الكريم عثمان، الطبعة الأولى. نشر مكتبة وهبة. القاهرة 1384هـ/ 1965م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 130- "شرح السنة": الإمام البغوي: أبو محمد الحسين بن سعود. تحقيق شعيب الأرناؤوط، وزهير الشاويش، نشر المكتب الإسلامي. 131- "شرح صحيح مسلم": الإمام النووي: أبو زكريا يحيى بن شرف، الطبعة الثالثة، دار إحياء التراب العربي - بيروت 1404هـ/ 1984م. 132- "شرح الصدور في تحريم رفع القبور": الشوكاني: محمد بن علي، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، مصورة عن الطبعة الأولى 1343 هـ، نشر دار إحياء التراث العربي - بيروت. 133- "شرح العقيدة الأصفهانية": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، تقديم حسنين محمد مخلوف، نشر دار الكتب الحديثة -مصر. 134- "شرح العقيدة الطحاوية": ابن أبي العز علي بن محمد، تخريج محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الخامسة، نشر المكتب الإسلامي 1399هـ. 135- "شرح القصيدة النونية": ابن القيم، شرح وتحقيق د. محمد خليل هراس ط. الفاروق الحديثة - مصر. 136- "شرح الكوكب المنير": ابن النجار: محمد بن أحمد. تحقيق د. محمد الزحيلي، ود. نزيه حماد، طبع: دار الفكر -دمشق، نشر جامعة الملك عبد العزيز 1400هـ/ 1980م. 137- "شرف أصحاب الحديث": الخطيب البغدادي، تحقيق د. محمد سعيد خطيب أوغلي، نشر دار إحياء السنة النبوية. 138- "الشريعة": الآجري: أبو بكر محمد بن الحسين، تحقيق محمد حامد الفقي، الطبعة الأولى، نشر دار الكتب العلمية، بيروت 1403هـ/ 1983م. 139- "الشفا بتعريف حقوق المصطفى": القاضي عياض اليحصبي، نشر دار الفكر - بيروت. 140- "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل": ابن القيم، نشر دار المعرفة - بيروت 1398هـ / 1978م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 "ص": 141- "الصحاح": الجوهري: إسماعيل بن حماد، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية 1402هـ. 142- "صحيح البخاري": البخاري: محمد بن إسماعيل، مع الفتح، نشر المطبعة السلفية 13980هـ. 143- "صحيح سنن الترمذي": الألباني: محمد ناصر الدين، الطبعة الأولى، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج 1408هـ/ 1988م. 144- "صحيح سنن ابن ماجه": الألباني: محمد ناصر الدين، الطبعة الثالثة، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج 1408هـ/ 1988م. 145- "صحيح مسلم": أبو الحسين: مسلم بن الحجاج، بترتيب محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار إحياء التراث العربي -بيروت. 146- "صريح السنة": الطبري: محمد بن جرير، تحقيق بدر بن يوسف المعتوق، الطبعة الأولى، نشر دار الخلفاء 1405هـ/ 1985م. 147- "الصفدية": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، تحقيق د. محمد رشاد سالم الطبعة الثالثة 1406هـ. 148- "صون المنطق والكلام": السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، نشر مكتبة الباز - مكة. "ض" 149- "ضعيف الجامع الصغير وزياداته": الألباني: محمد ناصر الدين، نشر المكتب الإسلامي 1399هـ/ 1979م. "ط": 150- "طبقات الحنابلة": أبو الحسين محمد بن أبي يعلى، نشر دار المعرفة - بيروت. 151- "طبقات الشافعية": "الحسيني: أبو بكر بن هداية الله، تحقيق عادل نويهض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 الطبعة الثالثة، نشر دار الآفاق الجديدة 1402هـ/ 1982م. 152- "طبقات الشافعية الكبرى": السبكي: عبد الوهاب بن علي، تحقيق محمود الطناحي، وعبد الفتاح الحلو، ط. الأولى 1383هـ/ 1964م. 153- "طبقات الفقهاء من الشافعية": أبو الفداء إسماعيل بن كثير، مخطوط بمكتبة الشيخ حماد الأنصاري. 154- "الطبقات الكبرى": ابن سعد: محمد، نشر دار صادر - بيروت 1405هـ/ 1985م. "ظ": 155- "ظهر الإسلام": أحمد أمين، الطبعة الخامسة، نشر دار الكتاب العربي. "ع": 156- "عشرون حديثًا من صحيح البخاري": العباد: عبد المحسن بن حمد، الطبعة الأولى، نشر الطبعة السلفية 1390هـ 157- "عشرون حديثًا من صحيح مسلم": العباد: عبد المحسن بن حمد، الطبعة الأولى - القاهرة 1391هـ. 158- "عقيدة أهل السنة والجماعة "الطحاوية": الطحاوي، تعليق ابن مانع، نشر مكتبة دار المطبوعات. 159- "عقيدة التوحيد في فتح الباري": أحمد عصام الكاتب، الطبعة الأولى، نشر دار الآفاق الجديدة - بيروت 1403هـ. 160- "عقيدة السلف أصحاب الحديث": الصابوي: أبو إسماعيل عبد الرحمن بن إسماعيل، تحقيق بدر البدر، الطبعة الأولى، نشر الدار السلفية 1404هـ/ 1984م. 161- "العقيدة الطحاوية": تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز، ط. مكتبة الصديق. 162- "العقيدة النظامية": الجويني: أبو المعالي، تحقيق د. أحمد حجازي السقا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 الطبعة الأولى، نشر مكتبة الكليات الأزهرية -القاهرة 1398هـ/ 1978م. 163- "العقيدة الواسطية: صالح الفوزان، الطبعة الرابعة، نشر مكتبة المعارف- الرياض 1407هـ. 164- "العقيدة الواسطية": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، بشرح الهراس، الطبعة الثالثة. 165- "علماء نجد" البسام: عبد الله بن عبد الرحمن، الطبعة الأولى، نشر مكتبة ومطبعة النهضة بمكة 1398هـ. 166- "العلو للعلي الغفار": الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمد، تقديم وتصحيح عبد الرحمن محمد عثمان، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 167- "عمدة التفسير": أبو الفداء: إسماعيل بن كثير، اختصار وتحقيق أحمد محمد شاكر، نشر دار المعارف بمصر 1956م. 168- "عمل اليوم والليلة": النسائي: إسماعيل بن كثير، اختصار وتحقيق أحمد محمد شاكر نشر: دار المعارف بمصر 1956م. 169- "العين والأثر في عقائد أهل الأثر": المواهبي: عبد الباقي الحنبلي، تحقيق وتعليق عصام رواس قلعجي نشر دار المأمون للتراث الطبعة الأولى 1407هـ 1987م. "غ": 170- "غاية المرام في علم الكلام": الآمدي: سيف الدين، تحقيق حسن محمود عبد اللطيف، طبعة القاهرة، نشر لجنة إحياء التراث الإسلامي 1391هـ. 171- "غريب الحديث": الهروي: أبو عبيد القاسم بن سلام، الطبعة الأولى، طبعة مصورة عن طبعة دار المعارف العثمانية حيدر أباد، نشر دار الكتاب العربي، بيروت 1396هـ. 172- "الغنية لطالبي طريق الحق": الجيلاني: عبد القادر، الطبعة الثالثة. نشر شركة مكتبة ومطبعة البابي الحلبي - مصر 1375هـ/ 1956م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 "ف": 173- "الفائق في غريب الحديث": الزمخشري: جار الله محمود بن عمر، تحقيق علي البجاوي ومحمد أبي الفضل إبراهيم، الطبعة الثالثة، نشر دار الفكر 1399هـ/ 1979م. 174- "الفتاوى": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، طبعة المكتب التعليمي السعودي بالمغرب، نشر مكتبة المعارف بالرياض. 175- "فتاوى ابن الصلاح": ابن الصلاح: تقي الدين أبو عمرو عثمان، تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي، الطبعة الأولى، نشر دار المعرفة - بيروت 1406هـ/ 1986م. 176- "الفتاوى الكبرى": ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم طبعة كردستان العلمية 1329هـ. 177- "فتح الباري شرح صحيح البخاري": ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني، بتحقيق وتصحيح الشيخ عبد العزيز بن باز، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، نشر المطبعة السلفية ومكتبتها بالقاهرة 1380هـ. 178- "فتح رب البرية بتلخيص الحموية": ضمن مجموع رسائل في العقيدة، ابن عثيمين: محمد بن صالح، الطبعة الأولى، نشر دار طيبة- الرياض 1404هـ/ 1983م. 179- "فتح القدير": محمد بن علي الشوكاني، الطبعة الثانية، نشر شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي 1383هـ/ 1964م. 180- "الفتح المبين بالرد على نقد عبد الله الغماري لكتاب الأربعين": د. علي بن محمد بن ناصر فقيهي، الطبعة الأولى، مطابع الرشيد 1408هـ. 181- "فتح المجيد": عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، طبعة مطبعة المشهد الحسني - القاهرة 1386هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 182- "فتوح البلدان": البلاذري: أبو الحسن، تعليق ومراجعة رضوان محمد رضوان، نشر دار الكتب العلمية - بيروت 1403هـ/ 1983م. 183- "فتوح مصر والمغرب": ابن عبد الحكم، تحقيق عبد المنعم عامر، نشر لجنة البيان العربي بمصر. 184- "الفتوى الحموية الكبرى": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم. طبعة مطبعة المدني، نشر مؤسسة عبد الفتاح المدني - جدة 1403هـ/ 1983م. 185- "الفرق بين الفرق": البغدادي: عبد القاهر بن طاهر بن محمد، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر دار المعرفة - بيروت. 186- "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، الطبعة الخامسة، نشر المكتب الإسلامي، بيروت 1401هـ. 187- "فرق الشيعة": النوبختي: أبو محمد الحسين بن موسى، تصحيح هـ. ريتر. طبعة الدولة، إستانبول 1931م. 188- "الفصل في الملل والأهواء والنحل": ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد، الطبعة الثانية، نشر دار المعرفة - بيروت 1395هـ/ 1975م. 189- "فضائل القرآن": ابن كثير: أبو الفداء إسماعيل بن كثير، طبعة مكتب مشرف لطباعة الأوفست طنطا، نشر مكتبة الصحابة. 190- "فضح التلمود": آي. بي. برانايتس. إعداد زهدي الفاتح، الطبعة الأولى 1394هـ / 1974م. 191- "فضل علم السلف على علم الخلف": ابن رجب الحنبلي. تحقيق يحيى مختار غزاوي، الطبعة الأولى، نشر دار البشائر الإسلامية 1403هـ/ 1983م. 192- "الفقيه والمتفقه": الخطيب البغدادي: أبو بكر أحمد بن علي، تصحيح الشيخ إسماعيل الأنصاري، نشر مكتبة أنس 1401هـ. 193- "الفهرست للنديم": أبو الفرج: محمد بن أبي يعقوب، تحقيق رضا تجدد، طبعة طهران 1350هـ 1971م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 194- "فوات الوفيات": الكتبي: محمد بن شاكر، تحقيق د. إحسان عباس، نشر دار صادر -بيروت. 195- "في ظلال القرآن": سيد قطب. الطبعة السابعة، نشر دار المعرفة - بيروت 1391هـ/ 1971م. 196- وفي "العقيدة الإسلامية بين السلفية والمعتزلة": د. محمود أحمد خفاجي، الطبعة الأولى 1399هـ/ 1979م. 197- "في علم الكلام": د. أحمد محمود صبحي، نشر مؤسسة الثقافة الجامعية - مصر- الإسكندرية 1978م. "ق": 198- "القائد إلى تصحيح العقائد": اليماني عبد الرحمن بن يحيى المعلمي تعليق محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة نشر المكتب الإسلامي 1404هـ/ 1984م. 199- "قاموس القرآن": نشر دار العلم للملايين 1983م. 200- "القاموس المحيط": الفيروزآبادي: مجد الدين بن يعقوب، نشر دار الجبل - بيروت. 201- "قصة الاضطهاد الديني في المسيحية والإسلام": د. توفيق الطويل، ط. مطبعة دار نشر الثقافة - الإسكندرية، نشر دار الفكر 1366هـ/ 1947م. 202- "قصة الحضارة": وول ديورانت، ترجمة محمد بدران، الطبعة الثالثة، نشر لجنة التأليف والنشر 1974م. 203- "قطر الولي على حديث الولي": الشوكاني: محمد بن علي، تحقيق د. إبراهيم إبراهيم هلال، نشر دار إحياء التراث العربي -بيروت. 204- "قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر": الصديق حسن خان، حقق وخرج أحاديثه د. عاصم بن عبد الله القريوني، نشر: شركة الشرق الأوسط للطباعة 1404هـ/ 1984م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 205- "قواعد التحديث" القاسمي: محمد جمال الدين، تحقيق محمد بهجة البيطار، طبعة عيسى الحلبي، نشر دار إحياء الكتب العربية. 206- "قواعد العقائد: الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد، تحقيق مرسي محمد علي، الطبعة الثانية، نشر عالم الكتب -بيروت 1405هـ/ 1985م. "ك": 207- "الكامل في التاريخ": ابن الأثير، الطبعة السادسة، نشر دار الكتاب العربي - بيروت 1406هـ/ 1986م. 208- "كبرى اليقينيات الكونية": البوطي: محمد سعيد رضمان، نشر دار الفكر - بيروت 1405 مصورة عن طبعة 1982م. 209- "كتاب الإمامة والرد على الرافضة": الأصبهاني: أبو نعيم، تحقيق د. علي ناصر فقيهي، الطبعة الأولى، نشر مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة 1407هـ/ 1987م. 210- "كتاب الإيمان": محمد بن يحيى العدني، تحقيق حمد بن حمدي الجابري، ط. الأولى 1407هـ، نشر الدار السلفية. 211- "كتاب التوحيد": الماتريدي: أبو منصور، تحقيق فتح الله خليف، نشر المكتبة الإسلامية -تركيا. 212- "كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية": الرازي: أبو حاتم أحمد بن حمدان، تحقيق عبد الله بن سلوم السامرائي، ملحق بكتاب الغلو والفرق الغالية للدكتور عبد الله سلوم السامرائي، نشر دار الحرية للطباعة - بغداد 1392هـ/ 1972م. 213- "كتاب الكافي "أصول الكافي": الرازي: أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، صححه وقابله نجم الدين الأملي، قدم له وعلق عليه علي أكبر الغفاري، نشر المكتبة الإسلامية - طهران. 214- "الكتاب المقدس "العهد الجديد": الأناجيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 215- "الكتاب المقدس العهد القديم": طبعة جميعة التوراة الأمريكية. 216- "الكشاف": الزمخشري: أبو القاسم جار الله محمود بن عمر، نشر دار المعرفة- بيروت. 217- "كشاف اصطلاحات الفنون": الفاروقي: محمد علي، تحقيق لطفي عبد البديع، نشر المؤسسة المصرية للتاليف. 218- "كشف الأسرار": الخميني: تقديم د. محمد علي الخطيب. الطبعة الأولى، نشر دار عمار للتوزيع عمان 1408هـ/ 1987م. 219- "الكنز المرصود في قواعد التلمود": ترجمة د. يوسف نصر الله، قدم له مصطفى أحمد الزرقا، ود. حسن ظاظا الطبعة الأولى، نشر دار القلم - دمشق 1408هـ/ 1987م. "ل": 220- "اللباب في تهذيب الأنساب": الجزري: عز الدين ابن الأثير، نشر دار صادر - بيروت 1400هـ 1980م. 221- "لسان العرب": ابن منظور: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، نشر دار صادر -بيروت. 222- "لسان الميزان": ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني، مطبعة دائرة المعارف النظامة حيدرآباد الدكن، تصوير مؤسسة الأعلمي للمطبوعات الطبعة الثانية 1406هـ / 1986م. 223- "لمع الأدلة": الجويني: عبد الملك الجويني، تحقيق د. فوقية حسين محمود الطبعة الأولى، نشر المؤسسة المصرية العامة للتأليف - مصر 1385هـ/ 1965م. 224- "لوامع الأنوار الإلهية": السفاريني: محمد بن أحمد، مطبعة المدني. "م": 225- "متشابه القرآن": الهمذاني: عبد الجبار بن أحمد، تحقيق د. عدنان محمد زرزور، نشر دار إحياء التراث - القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 226- "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد": الهيثمي: نور الدين علي بن أبي بكر، الطبعة الثالثة، نشر دار الكتاب العربي - بيروت 1402هـ/ 1982م. 227- "مجمل اللغة": ابن فارس: أحمد بن فارس، تحقيق زهير عبد المحسن سلطان الطبعة الأولى، نشر مؤسسة الرسالة - بيروت 1404هـ. 228- "مجموعة الرسائل الكبرى": ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم، طبعة مطبعة محمد علي صبيح وأولاده 1385هـ/ 8 1996. 229- "محاضرات في النصرانية": أبو زهرة: محمد، طبعة مطبعة عقل، نشر دار الفكر العربي - القاهرة. 230- "محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين": الرازي: فخر الدين محمد بن عمر الخطيب. تقديم طه عبد الرؤوف سعد، نشر مكتبة الكليات الأزهرية. 231- "المحيط بالتكليف": الهمذاني: عبد الجبار بن أحمد، تحقيق عمر السيد عزمي، نشر المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر. 232- "مختصر الصواعق المرسلة": لابن القيم، ابن الموصلي: محمد، نشر دار الفكر. 233- "مختصر العلو للعلي الغفار للذهبي": اختصار وتحقيق، الألباني: محمد ناصر الدين، الطبعة الأولى، نشر المكتب الإسلامي 1401هـ/ 1981م. 234- "مذكرة في أصول الفقه": الشنقيطي: محمد الأمين الجكني، مطابع دار الأصفهاني - جدة، نشر الجامعة الإسلامية. 235- "المستدرك على الصحيحين": الحاكم: أبو عبد الله محمد بن عبد الله، طبعة دائرة المعارف النظامية، حيدرآباد، نشر دار الكتب العلمية. 236- "المستشرقون": نجيب العقيقي، الطبعة الرابعة، نشر دار المعارف. 237- "المسند": الإمام أحمد بن حنبل، ط. الثانية، المكتب الإسلامي - بيروت 1398هـ/ 1978م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 238- "المسند": الإمام أحمد بن حنبل، شرح وتعليق أحمد محمد شاكر، الطبعة الثالثة، نشر دارالمعارف - بمصر 1368هـ/ 1949م. 239- "المسيحية": د. شلبي: أحمد، الطبعة السادسة، نشر مكتبة النهضة المصرية 1978م. 240- مشكل الحديث وبيانه": ابن فورك: أبو بكر محمد بن الحسن، نشر دار الكتب العلمية - بيروت 1400هـ/ 1980م. 241- "المعارف": ابن قتيبة: أبو محمد عبد الله بن مسلم، تحقيق د. ثروت عكاشة الطبعة الرابعة، نشر دار المعارف. 242- "معالم أصول الدين": الرازي: فخر الدين محمد بن عمر، تقديم طه عبد الرؤوف سعد، نشر مكتبة الكليات الأزهرية. 243- "معالم التنزيه": البغوي: أبو محمد الحسين بن محمد الفراء، تحقيق خالد عبد الرحمن العك ومروان سورا، طبعة دار المعرفة - بيروت. 244- "معاني القرآن وإعرابه": الزجاج: أبو إسحاق إبراهيم بن السري، شرح وتحقيق د. عبد الجليل عبده شلبي، الطبعة الأولى، نشر عالم الكتب بيروت 1408هـ. 245- "المعتزلة وأصولهم الخمسة": المعتق: عواد عبد الله، الطبعة الأولى، نشر دار العاصمة 1409هـ. 246- "معجم مقاييس اللغة": ابن فارس: أبو الحسين أحمد بن فارس، تحقيق عبد السلام محمد هارون، نشر دار الكتب العلمية - إيران. 247- "معرفة علوم الحديث": الحاكم: أبو عبد الله محمد بن عبد الله، تصحيح وتعليق السيد معظم حسين، طبع مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الطبعة الثانية 1385هـ/ 1966. 248- "والمغني في أبواب العدل والتوحيد": الهمذاني: عبد الجبار بن أحمد، الطبعة الأولى، مطبعة دار الكتب، نشر دار الثقافة والإرشاد 1960م. 249- "مقالات الإسلاميين": الأشعري: أبو الحسن علي بن إسماعيل، تحقيق محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الثانية نشر مكتبة النهضة المصرية 1389هـ/ 1969م. 250- "الملل والنحل": الشهرستاني: محمد عبد الكريم، تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل، طبعة دار الاتحاد العربي للطباعة، نشر مؤسسة الحلبي وشركاه 1387هـ/ 1968م. 251- "مناقب الإمام أحمد": ابن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، الطبعة الثالثة نشر دار الأفاق 1402هـ. 252- "المنتقى من منهاج الاعتدال": الذهبي: أبو عبد الله محمد بن عثمان، تحقيق محب الدين الخطيب. 253- "منهاج السنة": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، تحقيق د. محمد رشاد سالم، مطبعة المدني - القاهرة. 254- "منهاج السنة": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، تحقيق د. محمد رشاد سالم طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود، مطابع الجامعة. 255- "منهاج الكرامة": ابن المطهر الحلي، مطبوع مع كتاب "منهاج السنة" مطبعة المدني. 256- "منهج الأشاعرة في العقيدة": سفر الحوالي، الطبعة الأولى، نشر الدار السلفية - الكويت 1407هـ. 257- "منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات": الشنقيطي: محمد الأمين الجكني، نشر الجامعة الإسلامية. 258- "المنية والأمل": ابن المرتضى: أحمد بن يحيى، تصحيح توما آرنلد، دار صادر - بيروت، مصورة عن طبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن 1316هـ. 259- "الموافقات في أصول الشريعة": الشاطبي: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى، شرح عبد الله دراز، نشر دار المعرفة - بيروت. 260- "المواقف في علم الكلام": الإيجي عبد الرحمن بن أحمد، نشر عالم الكتب - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 بيروت. 261- "الموجز في تحصيل السؤال وتلخيص المقال في الرد على أهل الخلاف": أبو عمار: عبد الكافي الإباضي، ضمن كتاب آراء الخوارج الكلامية، د. عمار طالبي، نشرة الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر 1390هـ. 262- "الموطأ": الإمام: مالك بن أنس، تصحيح وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار إحياء التراث العربي. 263- "ميزان الاعتدال": الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان، تحقيق على محمد البجاوي، نشر دار المعرفة للطباعة والنشر -بيروت، الطبعة الأولى 1382هـ/ 1963م. "ن": 264- "النبوات": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، نشر دار الكتب العلمية - بيروت 1402هـ/ 1982م. 265- "النبوة والأنبياء في ضوء القرآن": الندوي: أبو الحسن علي الحسني، الطبعة السادسة، نشر دار القلم - دمشق 1404هـ/ 1984م. 266- "النجوم الزاهرة": ابن تغري بردي، جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب، نشر المؤسسة المصرية العامة. 267- "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر": ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن، تحقيق محمد عبد الكريم كاظم الراضي، الطبعة الأولى، نشر مؤسسة الرسالة - بيروت 1404هـ/ 1984م. 268- "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام": النشار، د. علي سامي، الطبعة الثامنة، نشر دار المعارف بمصر. 269- "نقض المنطق": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم. تحقيق محمد عبد الرزاق حمزة وسليمان الصينع، تصحيح محمد حامد الفقي، نشر مكتبة السنة المحمدية. 270- "نهاية الإقدام": الشهرستاني محمد عبد الكريم، تصحيح الفرد جيوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 271- "النهاية في غريب الحديث": ابن الأثير: محمد الدين أبو السعادات، تحقيق طاهر أحمد الزاوي وحمود محمد الطناحي، نشر المكتبة العلمية - بيروت. 272- "النهاية في الفتن والملاحم": أبو الفداء إسماعيل بن كثير، تحقيق محمد أحمد عبد العزيز، نشر دار التراث الإسلامي، الأزهر. 273- "النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد": أبو سليمان جاسم الفهيد الدوسري، الطبعة الأولى، نشر دار الخلفاء - الكويت 1404هـ/ 1984م. "هـ" 274- "هداية الحيارى": ابن القيم: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، تعليق مصطفى أبي النصر الشلبي، الطبعة الأولى، نشر مكتبة السوادي - جدة 1408هـ/ 1988م. "و": 275- "وجاء دور المجوس": عبد الله محمد الغريب، الطبعة الأولى 1406هـ/ 1986م. 276- "الوصية الكبرى": ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم، تحقيق أبي عبد الله محمد ابن حمد الحمود، الطبعة الأولى، نشر مكتبة ابن الجوزي - الإحساء 1407هـ/ 1987م. 277- "وفيات الأعيان": ابن خلكان: أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد، تحقيق د. إحسان العباس، نشر دار صادر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 فهرس الآيات القرآنية الكريمة : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا 239 اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود 283 أفتطمعون أن يؤمنوا لكم 222 أفحكم الجاهلية يبغون 187 أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولًا 265 ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون 447 إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه 435 الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم 194 الذين آمنوا وكانوا يتقون 447 الذين يتبعون الرسول النبي الأمي 240 ألم نشرح لك صدرك 137 الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل 365 الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا 219 الله يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس 279 إليه يصعد الكلم الطيب 327 آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه 210، 278 أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله 224 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله 224 إنا أرسنا نوحًا إلى قومه 230 إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور 184، 222 إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح 259 إنا كل شيء خلقناه بقدر 362، 637 إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون 220، 223 إنا وجدنا آباءنا على أمة 157 إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا 157 أن دعوا للرحمن ولدا 255 إن الدين عند الله الإسلام 242 إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات 444 إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا 92 إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم 220 إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا 354 إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا 261، 273 إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين 269 إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم 279 إن الله عنده علم الساعة 363 إن الله لا يخلف الميعاد 356 إن الله لا يغفر أن يشرك به 351، 354، 355، 356 إن الله وملائكته يصلون على النبي 436 إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها 167 إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا 255 إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم 351 إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون 245 إن هي إلا فتنتك 130 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا 127 أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة 280 أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده 280 أولئك هم الكافرون حقًا 261 بديع السماوات والأرض 255 بل يرفعه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا 270 تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر 210 تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك 130 تكاد السماوات يتفطرن منه 254 تلك أمة قد خلت 158 تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض 226 ثم استوى على العرش 104 ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا 209 حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى 21 حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون 173 ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدًا شكورًا 283 رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان 266 ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان 115 رسلًا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة 259 سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام 283 سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا 367- 385 شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا 226 عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا 435 علم أن سيكون منكم مرضى 364 غير المغضوب عليهم 193، 250 فإذا فرغت فانصب 137 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم 115 فأخرج لهم عجلًا جسدًا له خوار 265 فاذهب أنت وربك فقاتلا 281، 282 فأوحى إلى عبده ما أوحى 283 فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم 190، 239 فجعلناهم سلفًا ومثلًا للآخرين 96 فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا 264 فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا 306 فكفارته إطعام عشرة مساكين 21. فلا تبتئس بما كانوا يفعلون 381 فلا تزكوا أنفسكم 135 فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين 224 فاليوم ننجيك ببدنك 116 فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام 386 فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحرام 445 فوسطن به جمعًا 21، 22 فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم 222 قال أغير الله أبغيكم إلهًا 245 قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون 19 قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك 264 قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة 263 قال هم أولاء على أثري 264 قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم 284 قالوا لن نبرح عليه عاكفين 265 قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا 265 قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدًا 263 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 قالوا يا موسى إن فيها قومًا جبارين 263 قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله 433، 434 قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي 284، 441 قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن 231 قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولًا 284، 441 قل لئن اجتمعت الإنس والجن 224 قل لا أقول لكم عندي خزائن الله 434 قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا 434 قل من يرزقكم من السماء والأرض 251 قل هو الله أحد 257 قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم 24، 437 قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا 229 قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم 354 قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا 277 كان الناس أمة واحدة 157 كذلك يضرب الله الحق والباطل 27 كل الطعام كان حلًا لبني إسرائيل 239 كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون 146 كنتم خير أمة أخرجت للناس 155، 158، 161، 205، 208، 212، 213، 215، 216، 217، 393 لا إكره في الدين 216 لا تغلوا في دينكم 23 لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين 135 لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود 213 لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وارسلنا إليهم رسلًا 268 لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه 230 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 لقد أرسلنا رسلنا بالبينات 165 لقد جئتم شيئًا إدًا 254 لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة 394 لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء 247 لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة 280 لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح 193، 250 لقد كفر الذين قالوا إن الله هوالمسيح بن مريم قل فمن يملك 193 لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة 193، 251، 274 لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا 243 له الخلق والأمر 257 لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله 283 لولا أرسلت إلينا رسولًا فنتبع آياتك 260 ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات 354 ليس علينا في الأميين سبيل 140 ليس كمثله شيء وهو السميع البصير 131، 258، 311، 319، 325، 326، 327 لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه 233 لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل 395 ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله 257 ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم 364 ما فرطنا في الكتاب من شيء 408 ما كان محمدًا أبا أحد من رجالكم 231، 434 ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى 251 محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار 396 مذبذبين بين ذلك 340 منهم أمة مقتصدية وكثير منهم ساء ما يعملون 208 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 هو الأول 320 هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا 133 واتبع سبيل من أناب إلي 102 واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلًا 245 وادكر بعد أمة 158 وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح 226 وإذا صرفنا إليك نفرًا من الجن 230 وإذا قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس 253 وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه 193 واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب 283 واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه 283 وإلى ثمود أخاهم صالحًا 230 وإلى عاد أخاهم هودًا 230 وإلى مدين أخاهم شعيبًا 230 وألقيت عليك محبة مني 279 والسابقون الأولون من المهاجرين 102، 394 واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا 91 والله جعل لكم مما خلق ظلالًا 366 والله خلقكم وما تعملون 366، 381 والله لا يحب الفساد 384 والله يريد أن يتوب عليكم 386 والله يعصمك من الناس 220 وأما بنعمة ربك فحدث 227 وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط 186 وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا 223 وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا 351 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب 222 وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدًا 257 وإنه في الآخرة لمن الصالحين 444، 445 وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار 279 وبئر معطلة 309 وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم 245 وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون 115 وجد عليه أمة من الناس يسقون 158 وجوه يومئذ ناضرة 330 وخلق كل شيء فقدره تقديرًا 362 وربك أعلم بمن في السماوات والأرض 226 ورسلًا قد قصصناهم عليك من قبل 259 ورسولًا إلى بني إسرائيل 230 ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم 241 والصالحين من عبادكم وإمائكم 444 وضربت عليهم الذلة والمسكنة 269 وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات 353 وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو 434 وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه 368 وقالت النصارى المسيح ابن الله 254 وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله 188 وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله 249، 250، 272، 275 وقالت اليهود يد الله مغلولة 247 وقالوا اتخذ الله ولدًا سبحانه 254 وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا 254 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًا 450 وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم 368 وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر 216 وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم 270 وكان رسولًا نبيًا 416 وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس 185 وكذلك جعلناكم أمة وسطًا 18، 93، 155، 158، 159، 160، 161، 165، 175، 176، 205، 237، 279، 393 ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم 158 ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا 166، 167 ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم 386 ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس 251 ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله 251 ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء 251 ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير 212 والذين جاؤوا من بعدهم 421 ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل 268 ولقد اخترناهم على علم على العالمين 207 ولقد أخذ الله ميثق بني إسرائيل وبعثنا منهم 262 ولقد أرسلنا رسلًا من قبلك 284 ولقد أرسلنا موسى بآياتنا 230 ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا 242، 259 ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به 265 ولكن الله يفعل ما يريد 386 ولله على الناس حج البيت 354 ولوطًا إذ قال لقومه 230 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 ولو شاء الله ما اقتتلوا 365 ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة 365 ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير 414 وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين 229 وما أرسلناك إلا كافة للناس 229، 230 وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه 242 وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام 284 وما أعجلك عن قومك يا موسى 264 وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين 365 وما تفعلوا من خير يعلمه الله 381 وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدًا 255 ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك 189 ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم 196 ومن ذريتنا أمة مسلمة لك 158 ومن صلح من آبائهم 444 ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه 243 ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله 357 ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها 354 ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات 208 والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض 446 وهو القاهر فوق عباده 327 ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب 283 ووهبنا له إسحاق ويعقوب 445 ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء 348 ويكلم الناس في المهد وكهلًا ومن الصالحين 445 يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم 24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله 166. يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط 167 يا أيها الذين آمنوا إن كثيرًا من الأحبار والرهبان 194 يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا 369 يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى 350 يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك 437 يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم 207 يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة 262 يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره 242 يخافون ربهم من فوقهم 130، 327 يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر 386 يريد الله أن يخفف عنكم 386 اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي 409 يوم تبيض وجوه وتسود وجوه 41 يوم يسحبون في النار على وجوهم 367 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 فهرس الأحاديث النبوية والآثار : "أ": ائتوني بورق ودواة لأكتب لكم 410 أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم 22 أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة 233 إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة 27 أذكركم الله في أهل بيتي 422 أعطه حقه 169 أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي 229 أعطيت ما لم يعطه أحد من الأنبياء 206 افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة 289 اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة "أثر" 34 اقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به 24، 28 الله ابتعثنا والله جاء بنا "اثر" 215 الله أعلم بما كانوا عاملين 364 القط لي حصى 24 أما إنه ليس في النوم تفريط 26 أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا 239 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 امض يا رسول الله لما أردت فنحن معك "أثر" 281، 282 أنا أكثر الأنبياء تبعًا 217 أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم 242 أنا أول شفيع في الجنة 217 أنا سيد الناس يوم القيامة 227 أنا سيد ولد آدم ولا فخر 227، 432 أنا سيد ولد آدم يوم القيامة 227 أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة ولد الحسين 413 أنتم توفون سبعين أمة 208، 225 أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله 211، 362 إن الله تبارك وتعالى طهرنا وعصمنا 412 إن الله قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة 218 إن الله يصنع كل صانع وصنعته 366، 381 إن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة 271 إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة 92، 120، 156 إن عمر بن الخطاب اختصم إليه مسلم ويهودي "أثر" 170 إن في الجنة مائة درجة 19 إنكم تتمون سبعين أمة 205 إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم 225 إنما الجماعة ما وافق طاعة الله "أثر" 94 إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي 232 إنه ليس الذي تعنون 194 إني فرطكم 27 إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله 135 أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم 187 أهينوهم ولا تظلموهم "أثر" 256 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 خير الناس قرني 97 خير الناس للناس، تأتون بهم في السلائل "أثر" 216 خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر "أثر" 293 "س": سباب المسلم فسوق 355 ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة 53 ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة 50 "ش": شفاعتي لأمتي 159 الشقي من شقي في بطن أمه 404 "ع": عدل صفوف أصحابه يوم بدر 168 عرضت علي الأمم 217 عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين 102 عليه نبعث إن شاء الله 135 "ف": فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني برئ منهم "أثر" 370 في تفسير قوله عز وجل: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًا ولا سواعًا} "أثر" 450 في قوله تعالى: {وجعلناكم أمة وسطًا} 160 في قوله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} "أثر" 41 "ق": قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد 272 قال الله كذبني ابن آدم 255 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 قالت عائشة رضي الله عنها في قوله عز وجل: {ليغيظ بهم الكفار} "أثر 396 قد أمرنا أن نصلي عليك؛ فكيف نصلي عليك 436 "ك": كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثة مائة نبي "أثر" 269 كان الرجل يقوت أهله قوتًا دونًا 21 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه 161 كان عمر رضي الله عنه إذا مرت به جنازة "أثر" 177 كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف 186 كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه 271 كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض 364 كل شيء بقدر 362 كل شيء بقدر "أثر" 363 كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر 280 "ل": لتتبعن سنن من كان قبلكم 429 لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم 422 لعن الله من جلس وسط الحلقة 22 لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد 450 لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد 272 لما جمع هرقل للمسلمين الجموع "أثر" 178 لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام في هذه الأمة "أثر" 217 ليأتين على أمتي ما أتى على نبي إسرائيل 48. "م": ما أنا عليه وأصحابي 48، 94، 103، 120 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 ما تجددون في التوراة في شأن الرجم؟ 187 ما من الأنبياء نبي إلا ما أعطي من الآيات 224 ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك 354 ما هو ذنب؛ ولكنه عجز من الرأي "أثر" 399 مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح 50 مذ كم تعبدتم الناس "أثر" 171 مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا 177 المغضوب عليهم اليهود 193 مفاتيح الغيب خمس 440 من حدثك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب "أثر" 440 من حوسب عذب 306 من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية 92 من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده 212 من سن في الإسلام سنة حسنة 29 من شهد أن لا إله إلا الله 431 من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي 120 من كان مستنًا فليستن بمن قد مات "أثر" 103 من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة 354 نحن آخر الأمم وأول من يحاسب 211 نحن آخرها وأكرمها "أثر" 206 نحن الآخرون السابقون يوم القيامة 211، 232، 233 "و": الوالد أوسط أبواب الجنة 20 وسطوا الإمام وسدوا الخلل 22 والذي نفس محمد بيده؛ لا يسمع بي أحد من هذه الأمة 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش "أثر" 20 والوسط: العدل 160 ولا تزال طائفة من أمتي على الحق 124 "لا": لا تجعلوا بيوتكم قبورًا 441 لا تخيروني على موسى 228 لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين 121، 124، 219 لا تزال طائفة من أمتي منصورين 122، 219 لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم 397، 421 لا تصافحوهم ولا تبدؤوهم بالسلام 173 لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم 283، 435 لا تفضلوا بين الأنبياء 228 لا نقول كما قال قوم موسى "أثر" 281 لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة 394 لا يزال أهل الغرب ظاهرون 124 لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن 355 لا ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس 228 لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده 280، 432 "ي": يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق 169، 186، 194 يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين 24 يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا تستجرينكم الشياطين 284 يا رسول الله! امض لما أرك الله "أثر" 281 يا معشر اليهود! أنتم أبغض الخلق إلي 172 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 يجيء النبي ومعه الرجلان 176 يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله 25 يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم 400 يدخل أهل الجنة وأهل النار النار 352 يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك 175، 278 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 فهرس الفرق والطوائف : "أ" أئمة 124، 129، 139 أئمة الأثر 143 الإباضية 340 البريلوية 441 الاتحادية 449. الأثرية 71، 80، 81، 87، 119، 120 آربوسية 197 الإسماعيلية 125 الأشاعرة 44، 45، 46، 54، 56، 57، 58، 59، 60، 61، 63، 69، 70، 71، 72، 73، 76، 77، 80، 82، 83، 86، 89، 116، 128، 130، 144، 297، 315، 327، 328، 336، 345، 376، 377، 385 الأشعرية 148، 149، 376 الأشعرية الكلابية 56، 57 أصحاب الآثار 123 أصحاب الأثر 106 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 أصحاب الحديث 116، 121، 122، 123، 127 الإمامية 50، 51، 293، 412 أهل الإتباع 78 أهل الإثبات 107 أهل الأثر 78، 81، 87، 119، 120 أهل الأهواء والبدع والخلاف 134، 148، 149، 150 أهل الأهواء 79، 126، 148 أهل البدع 48، 53، 70، 77، 79، 91، 100، 105، 106، 107، 108، 119، 123، 126، 329، 425، 436، 451 أهل التشبيه 317، 321 أهل التصوف 84، 452 أهل التعطيل 307، 309، 315، 321، 324 أهل التمثيل 307، 317، 325 أهل الجماعة 51، 91، 94، 95 أهل الحديث 45، 48، 56، 61، 71، 82، 107، 116، 117، 118، 119، 122، 123، 124، 126، 127، 150 أهل الحديث والسنة 86، 119، 121، 124، 127، 145، 147، 148، 149، 421 أهل السنة 41، 42، 43، 45، 46، 47، 48، 49، 54، 55، 57، 58، 59، 60، 61، 71، 72، 74، 76، 77، 78، 80، 81، 82، 83، 84، 85، 86، 87، 88، 89، 91، 92، 94، 104، 105، 106، 107، 108، 109، 116، 117، 120، 121، 123، 123، 126، 127، 129، 131، 133، 134، 135، 136، 137، 138، 139، 140، 143، 144، 145، 146، 147، 148، 149، 150، 151، 152، 155، 157، 287، 297، 304, 308، 319/ 324، 325، 326، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 328، 330، 333، 334، 335، 338، 339، 346، 348، 349، 350، 357، 359، 373، 376، 368، 379، 380، 382، 386، 387، 390، 398، 408، 419، 421، 424، 425، 430، 431، 440، 446، 447، 448، 449؟ أهل السنة والأثر 126، 128، 132، 144، 151، 152 أهل السنة والجماعة 41، 42، 43، 45، 49، 55، 56، 57، 58، 59، 60، 61، 73، 74، 80، 83، 91، 107، 108، 121، 123، 130، 134، 146، 151، 155، 157، 319، 325، 326، 346، 350، 372، 398، 419، 421، 446 أهل سواء السبيل 307، 319 أهل الشام 124، 126 أهل العلم 106، 122، 123 أهل الغرب 124 أهل الكلام 116 أهل وحدة الوجود 449 "ج" الجبرية 101، 127، 299، 374، 375، 377، 378، 380، 381، 382، 384 الجبرية الخالصة 375، 385، 387 الجبرية المتوسطة 375، 385، 387 الجماعة 81، 92، 93، 94، 96، 120 الجمهور 138، 140، 395 الجهمية 45، 47، 74، 76، 84، 85، 101، 105، 128، 130، 131، 132، 143، 149، 296، 309، 310، 313، 316، 326، 329، 338، 372، 375، 376، 452 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 الجهمية الجبرية 372 "ح" حشوية 119، 127، 141، 142، 143، 144، 145، 146، 147، 148، 149، 150. الحلولية 329 حلولية الجهمية 328 "خ" الخوارج 45، 47، 51، 84، 87، 88، 100، 101، 105، 107، 149، 151، 290، 291، 299، 333، 334، 335، 338، 339، 340، 343، 355، 398، 399، 400، 419، 421، 424 "ر" الرافضة 46، 47، 49، 79، 84، 101، 107، 125، 137، 138، 139، 140، 143، 147، 149، 213، 293، 317، 398، 408، 411، 414 الروافض 107، 142، 317، 419، 421، 423 "ز" الزرادشتيون 179 الزنادقة 119، 125، 128، 150، 310 الزيدية 306، 307 "س" السبئية 417 السلف 59، 60، 62، 74، 73، 74، 76، 77، 84، 96، 97، 98، 99، 100، 101، 102، 103، 104، 105، 106، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 107، 108، 109، 110، 111، 112، 113، 114، 115، 116، 117، 118، 119، 120، 122، 123، 132، 133، 148، 152، 213، 216، 298، 324، 348، 362، 371، 380، 446 السلفية 96، 99، 110، 112 السلفيين 111 "ش" شكاك 134، 136 الشيعة 47، 49، 54، 87، 105، 136، 137، 142، 292، 293، 299، 398، 405، 407، 411، 414، 417، 419، 424، 450 الشيعة الرافضة 414، 417، 425، 442 "ص" الصابئون 181 الصفاتية 60، 82، 84 الصفرية 339 الصليبيون 181، 199، 200 الصوفية 107، 442، 451 "ط" الطائفة المنصورة 54، 121، 122، 123، 124، 126 "ع" العامة 138، 140، 142 العبيدية 344 علماء الحجاز 106 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 "غ" غثاء 152 غثراء 152 غلاة المتصوفة 449 "ف" الفرقة الناجية 49، 50، 53، 54، 56، 60، 81، 92، 103، 120، 121، 124 الفقهاء 107، 120 "ف" القدرية 87، 88، 100، 101، 133، 371، 372، 373، 378، 380، 381، 382. القرامطة 125 "ك" الكرامية 101، 107، 147، 326 الكلابية 56، 57، 58، 59، 75، 76، 78، 107، 327 "م" الماتريدية 59، 81، 82، 144، 148 المبتدعة 127 المتكلمون 108، 353 مجبرة 133، 378 المجسمة 127، 143 المجوس 300 مخالفة 134 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 المرجئة 47، 87، 100، 101، 134، 136، 148، 149، 293، 333، 334، 335، 336، 338، 344/ 345. المسلمون 179، 180، 181، 182، 198، 199، 200، 201، 238، 239، 240، 241، 243، 244، 257، 259، 277، 300، 338، 342، 343، 429، 452 المسيحية 195، 196، 200 المسيحيون 180، 181، 195، 197، 198، 200 المشبهة 127، 128، 129، 130، 131، 132، 325، 378 المشبهة الممثلة 324، 325 المعتزلة 45، 46، 52، 53، 54، 59، 70، 71، 74، 76، 77، 78، 84، 85، 101، 105، 107، 116، 128، 129، 130، 131، 133، 144، 145، 147، 148، 150، 151، 297، 300، 313، 314، 316، 326، 328، 329، 333، 334، 335، 338، 339، 341، 342، 343، 352، 355، 356، 357، 371، 373، 374، 377، 378، 384، 385، 377، 398، 399، 401، 403، 404، 419، 424، 425، 452 معطلة الجهمية 328 ملكية 196 المؤولة 132 "ن" نابتة 127، 146، 149، 151 الناصب 140، 141 الناصبة 127، 136، 137 النجدات 339، 340 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 النسطورية 196 النصارى 184، 188، 192، 196، 197، 198، 200، 201، 219، 225، 232، 238، 239، 240، 241، 244، 249، 250، 253، 254، 256، 258، 260، 272، 273، 275، 277، 282، 289، 318، 429، 435، 438، 450 النفاة 132، 325 النفاة المعطلة 324 نقصانية 134 النواصب 423 "ي" اليعقوبية 196، 197 اليهود 172، 181، 184، 187، 188، 189، 190، 191، 192، 193، 194، 195، 200، 218، 225، 232، 238، 239، 240، 241، 244، 247، 249، 250، 256، 259، 260، 261، 264، 266، 270، 272، 273، 275، 276، 277، 289، 301، 318، 429، 450 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 فهرس الموضوعات : - المقدمة 5 سبب اختيار الموضوع 7 خطة البحث 8 تمهيد - المبحث الأول: في بيان معنى الوسطية 15 أولًا: الوسطية في اللغة 15 ثانيًا: الوسطية في استعمال الشارع 18 شرح بعض الألفاظ المقابلة للوسط 23 1- الغلو 23 2- الإفراط 25 3- التفريط 25 4- الجفاء 27 - المبحث الثاني: في بيان معنى السنة في اللغة والاصطلاح 29 أولًا: السنة في اللغة 29 ثانيًا: السنة في الاصطلاح 30 السنة عند المحدثين 30 السنة عند الأصوليين 30 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 السنة عند الفقهاء 31 السنة عند السلف 32 كلام سفيان بن عيينة في ذلك 34 كلام الإمام الشافعي 35 كلام علي بن المديني 35 كلام الإمام أحمد بن حنبل 36 كلام سهل بن عبد الله التستري 36 إطلاق السلف على مصنفاتهم في أمور الاعتقاد اسم "السنة" 37 تفريق السلف بين مفهوم السنة والحديث 38 - المبحث الثالث: المراد بأهل السنة 41 أولًا: نشأة مصطلح أهل السنة وتاريخ إطلاقه إطلاق السلف له 41 رواية ابن عباس في ذلك 41 وروده عن أيوب السختياني 42 وروده عن سفيان الثوري 42 وروده عن الفضيل بن عياض 42 وروده عن أبي عبيد القاسم بن سلام 42 وروده عن الإمام أحمد بن حنبل 43 وروده عن الإمام ابن جرير 43 وروده عن الإمام أبي جعفر الطحاوي 43 الرد على من زعم أن مصطلح أهل السنة أول ما أطلق على الأشاعرة 44 ثانيًا: معنى مصطلح أهل السنة يراد به أحد معنيين 46 المعنى الأول: معنى عام 46 المعنى الثاني أخص وأضيق من المعنى الأول 47 ثالثًا: تنازع الطوائف لقب أهل السنة 48 ادعاء الأشاعرة أنهم أهل السنة 54 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 كلام البغدادي في ذلك 56 كلام الإسفراييني 57 كلام الجويني 57 كلام الغزالي 58 كلام الرازي 58 كلام الخيالي 58 كلام البيجوري 59 كلام البوطي 59 كلام وهبي سليمان 60 - رابعًُا: طريق معرفة السنة وإدراكها 61 - خامسًا: موقف الأشاعرة من النقل 63 كلام ابن فورك في ذلك 64 كلام البغدادي في ذلك 64 كلام الجويني في ذلك 65 كلام الغزالي في ذلك 66 كلام الرازي 67 - سادسًا: سلف الأشاعرة وموقف أهل السنة منهم 72 موقف أهل العلم من دعوى الأشاعرة أنهم أهل السنة 76 القول الأول: قول من يرى أنهم ليسوا من أهل السنة 77 القول الثاني: قول من عدهم من أهل السنة 80 القول الثالث: قول من يرى أنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه أهل السنة من أبواب الاعتقاد 82 القول الرابع: اعتبارهم من أهل الإثبات والتفريق بين أئمتهم المتقدمين ومتأخريهم 84 في كون الأشاعرة من أهل السنة أو لا تفصيل لا بد منه 85 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 اختيار أن لا يطلق عليهم لقب أهل السنة إلا مقيدًا 89 - المبحث الرابع: في أسماء أهل السنة وألقابهم عندهم وعند خصومهم 91 أولًا: الأسماء المرضية عندهم 91 1- أهل الجماعة 91 2- السلفية أو السلفيون 96 السلف في اللغة 96 هل التحديد الزمني كاف لتحديد مفهوم السلف 100 ضرورة بيان مذهب السلف 105 الانتساب إلى السلف والتلقب بالسلفية والرد على البوطي في كلامه في ذلك 109 3- أهل الحديث 116 4- الأثرية أو أهل الأثر 119 5- الفرقة الناجية 120 6- الطائفة المنصورة 121 ثانيًا: ألقاب أهل السنة عند خصومهم من أهل البدع 126 الغرض من ذكر ذلك 127 1- مشبهة 128 نبز الجهمية أهل السنة به 128 نبز المعتزلة أهل السنة به 128 نبز الأشاعرة أهل السنة به 130 الرد عليهم في ذلك وبيان من هم المشبهة في كلام السلف 131 2- مجبرة 132 نبز المعتزلة أهل السنة به 132 3، 4، 5- نقصانية، مخالفة، شكاك 134 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 نبز طوائف المرجئة أهل السنة بذلك 134 6- ناصبة 136 نبز الرافضة أهل السنة به 136 7- العامة والجمهور 137 نبز الرافضة أهل السنة به 138 8- حشوية 141 المعنى اللغوي لهذا اللفظ 141 المراد به في اصطلاح مع أطلقه 141 الفرق التي نبزت أهل السنة بهذا اللقب 144 1 المعتزلة كلامهم في ذلك 144 2 الرافضة 147 3 الأشاعرة، نماذج من كلامهم في ذلك 147 4 الماتريدية 148 5 الخوارج 149 الرد عليهم 149 9- نابتة أو نوابت 151 المعنى اللغوي والاصطلاحي 151 من أطلق ذلك على أهل السنة 151 1- المعتزلة 151 2- الخوارج 151 10- غثاء وغثراء 152 معنى ذلك 152 الباب الأول: في وسطية هذه الأمة بين الأمم - بين يدي هذا الباب 155 العلاقة بين وسطية هذه الأمة ووسطية أهل السنة 155 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 معنى الأمة في اللغة 157 معنى الأمة في الشرع 159 معاني الوسطية المثبتة لهذه الأمة 160 1- العدالة 160 2- الخيرية 161 3 الاعتدال والتوسط 161 - الفصل الأول: عدالة هذه الأمة 163 - المبحث الأول: وجوب العدل على هذه الأمة وصور من قيامها به 165 أولًا: وجوب العدل عليها 165 ثانيًا: قيامها به وصور من ذلك 167 - المبحث الثاني: وصف الله لهذه المة بالعدالة وشهادته لها بذلك 175 - المبحث الثالث: اعتراف أعداء هذه الأمة بعدالتها وشهادتهم لها بذلك 178 - المبحث الرابع: العدل عند أهل الكتاب 184 أولًا: مبدا العدل عند اليهود 184 أ- العدل فيما بينهم 184 ب- العدل عندهم فيما بينهم وبين غيرهم من الأمم 188 ثانيًا: العدل عند النصارى 192 أ- العدل فيما بينهم 192 ب- العدل فيما بينهم وبين غيرهم من الأمم 198 - الفصل الثاني: خيرية هذه الأمة 203 - المبحث الأول: في إثبات خيريتها 205 إشكال وجوبه 207 - المبحث الثاني: أوجه خيرية هذه الأمة 210 الوجه الأول: إيمانها بالله عز وجل 210 الوجه الثاني: كونها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر 212 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 الوجه الثالث: كونها خير الأمم وأنفعها للناس 214 الوجه الرابع: كونها أكثر الناس استجابة للأنبياء 217 الوجه الخامس: كونها لا تجمع على ضلالة 218 الوجه السادس: كون كتابها خير الكتب السماوية 219 الوجه السابع: كون نبيها أفضل الأنبياء والرسل 226 الوجه الثامن: تقديمها على الأمم في الحشر والحساب ودخول الجنة 232 الوجه التاسع: كونها أكثر أهل الجنة 233 - الفصل الثالث: اعتدال هذه الأمة وتوسطها بين طرفي الإفراط والتفريط 235 تمهيد 237 - المبحث الأول: وسطيتها في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته 242 أولًا: موقف أمة اليهود من هذا الباب 244 اتخاذهم الأنداد وعبادة الأصنام 244 قولهم بالتشبيه ووصف الخالق بصفات المخلوق 247 ثانيًا: موقف أمة النصارى 249 تشبيههم المخلوق بالخالق، وتأليه عيسى عليه السلام 250 سبهم للخالق وتنقصهم له 254 ثالثًا: موقف المسلمين 257 - المبحث الثاني: وسطيتها واعتدالها في باب أنبياء الله ورسله 259 أولًا: موقف اليهود من أنبياء الله ورسله 260 تفريقهم بين الرسل 261 خذلانهم أنبيائهم وعدم نصرتهم 262 تنقصهم لهم ورميهم إياهم بالكبائر والموبقات 263 قتلهم للأنبياء 268 ثانيًا: موقف النصارى 273 لم يؤمنوا بجميع الرسل 273 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 غلوهم في عيسى عليه السلام 274 خذلانهم له وعدم نصرته 276 ثالثًأ: موقف المسلمين 277 إيمانهم بجميع الأنبياء والرسل 277 توقيرهم لهم جميعًا وعدم تنقصهم لأحد منهم 279 عدم الغلو والإفراط في مدحهم 282 الباب الثاني: في وسطية أهل السنة بين الفرق بين يدي هذا الباب 287 بيان افتراق الأمة وسبب ذلك 289 أولًا: افتراق الأمة وسبب ذلك 289 1- الخوارج 290 2- الشيعة 292 3 المرجئة 294 4 الجهمية 296 5- المعتزلة 296 6- الأشاعرة 297 ثانيًا: أسباب افتراقها 299 أ- الأسباب الداخلية لذلك 299 ب- الأسباب والمؤثرات الأجنبية 300 - الفصل الأول: وسطية أهل السنة في باب أسماء الله وصفاته 303 تمهيد 305 - المبحث الأول: في بيان قول أهل التعطيل 309 - المبحث الثاني: في باين قول أهل التشبيه 317 - المبحث الثالث: في بيان قول أهل سواء السبيل وهم أهل السنة 319 قواعد عامة لأهل السنة في هذا الباب 320 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 - المبحث الرابع: بيان وسطية أهل السنة في هذا الباب 324 أولًا: أقوال بعض السلف في وسطية أهل السنة في صفات الله 324 ثانيًا: صور من وسطية أهل السنة في هذا الباب 326 في صفة العلو والفوقية 327 في الرؤية 329 - الفصل الثاني: وسطية أهل السنة في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد تمهيد 331 - المبحث الأول: في وسطيتهم في الأسماء والأحكام 334 تعريف الإيمان 334 عند الخوارج والمعتزلة وأهل السنة 334 عند المرجئة 335 الفرق بين قول الخوارج والمعتزلة وبين قول أهل السنة 338 قول الخوارج والمعتزلة في مرتكب الكبيرة 339 أ- قول الخوارج 339 ب- قول المعتزلة 341 قول طوائف المرجئة في ذلك 344 قول أهل السنة والجماعة 346 - المبحث الثاني: وسطيتهم في نصوص الوعد والوعيد 353 - الفصل الثالث: وسطية أهل السنة في باب القدر 359 - المبحث الأول: في معنى القدر وحكمه 361 أولًا: معنى القدر 361 ثانيًا: حكمه ومنزلته من الدين 362 حقيقة القدر الذي يجب الإيمان به 363 - المبحث الثاني: نشأة الكلام في القدر ونزاع الناس فيه 367 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 مخاصمة المشركين في القدر 367 خوض بعض الصحابة فيه ونهي النبي إياهم 369 ظهور بدعتي نفي القدر والقول بالجبر 369 - المبحث الثالث: بيان وسطية أهل السنة في هذا الباب 373 أولًا: وسطيتهم في خلق أفعال العباد 374 الطرف الأول: الجبرية 374 الطرف الثاني: القدرية 378 الواسطة بين الطرفين، أهل السنة والجماعة 379 ثانيًا: وسطيتهم في معنى إرادة الله ومشيئته ومحبته ورضاه 383 قول المعتزلة في ذلك 384 قول الجبرية في ذلك 384 قول أهل السنة في ذلك 386 - الفصل الرابع: وسطيتهم في باب الصحابة رضي الله عنهم 388 تمهيد 391 تعريف الصحابي 391 منزلة الصحابة ومكانتهم في الكتاب والسنة 392 - المبحث الأول: في بيان قول الخوارج والمعتزلة 399 أولًا: ذكر قول الخوارج 399 تكفيرهم لعلي وعثمان وطلحة وغيرهم من الصحابة 400 ثانيًا: ذكر قول المعتزلة 404 تفسيقهم لطوائف من الصحابة ورد شهادتهم 402 تبرؤهم من بعض الصحابة 403 طعنهم في بعض الصحابة وشتمهم 403 - المبحث الثاني: ذكر قول الشيعة الرافضة وجمعهم بين الغلو والجفاء 405 جفاؤهم 406 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 قولهم بتفضيل علي رضي الله عنه على سائر الصحابة 406 سبهم وشتمهم أفاضل الصحابة رضوان الله عليهم 406 تبرؤهم من أفاضل منهم 407 تكفيرهم جل الصحابة 408 مظاهر غلوهم في بعض الصحابة 411 تقديم علي وتفضيله 411 قولهم بعصمة أئمتهم 412 زعمهم أن أئمتهم يعلمون الغيب 413 قولهم بتفضيل أئمتهم على الأنبياء 414 زعمهم أن الإمام محدث يوحي إليه 416 قول بعضهم بألوهية علي رضي الله عنه 417 - المبحث الثالث: في ذكر قول أهل السنة والجماعة 419 سياق عقيدة أهل السنة في الصحابة 419 قول الإمام محمد بن حنبل في ذلك 419 قول الإمام الطحاوي في عقيدة أهل السنة في ذلك 420 قول الإمام الصابوني في ذلك 421 كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك 421 ببيان وسطية أهل السنة في هذا الباب 424 - الفصل الخامس: وسطية أهل السنة في باب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين من أمته 427 تمهيد 427 - المبحث الأول: في بيان وسطيتهم في باب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم 431 أولًا: موقف أهل السنة وقولهم في هذا الباب 431 ثانيًا: ذكر قول بعض من غلا وإفراط في تعظيمه 437 ثالثًأ: ذكر قول من فرط وقصر ي حقه صلى الله عليه وسلم 442 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 - المبحث الثاني: في بيان وسطيتهم في باب تعظيم الصالحين 444 بيان من هم الصالحون 444 الناس في هذا الباب ثلاثة أصناف 446 الصنف الأول: أهل السنة والجماعة 446 ذكر قولهم ومذهبهم في ذلك 446 الصنف الثاني: أهل الغلو والإفراط 451 الصنف الثالث: أهل التقصير والتفريط 452 - الخاتمة 455 الفهارس فهرس المصادر والمراجع 461 فهرس الآيات القرآنية الكريمة 487 فهرس الأحاديث النبوية والآثار 499 فهرس الفرق والطوائف 507 فهرس الموضوعات 515 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526