الكتاب: نظم حكم الأمويين ورسومهم في الأندلس المؤلف: سالم بن عبد الله الخلف الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1424هـ/2003م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- نظم حكم الأمويين ورسومهم في الأندلس سالم بن عبد الله الخلف الكتاب: نظم حكم الأمويين ورسومهم في الأندلس المؤلف: سالم بن عبد الله الخلف الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1424هـ/2003م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول مقدمة ... نظم حكم الأمويين ورسومهم في الأندلس تأليف: سالم بن عبد الله الخلف المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102) . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1) . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب: الآيتان 70، 71) . أما بعد ... فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 والنظم جمع نظام، والنظام يطلق عادة على ما يدل على الترتيب والانسجام والارتباط، وأما الرسوم فهو جمع رسم، والرسوم في هذه الرسالة تعني احتفاء الناس بأمور السياسة والقيام بها، وفي مقابلة الملوك ورجالات الدول. ولهذا فقد جاء البحث مقسماً إلى تمهيد وخمسة فصول وخاتمة. فالتمهيد تعرض للتأريخ السياسي للدولة الأموية منذ نشأتها سنة 138هـ (756م) وحتى سقوطها سنة 422هـ (1031م) وقد جاء العرض سريعاً تناولت فيه ذكر كل أمير أو خليفة مع ذكر أبرز حوادث عصره سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، وقد تعمدت أن يكون التمهيد خاصاً بالحديث عن الحالة السياسية ليكون أرضية تسير عليها جميع فصول الدراسة، ومكملاً للجوانب الحضارية الخاصة بنظام الحكم ورسومه موضوع البحث، ولنقف كذلك على مدى تأثرها بالوضع السياسي العام للدولة. ثم أتى الفصل الأول بعنوان "النظام السياسي ورسومه" وهو مقسم إلى ثلاثة مباحث، المبحث الأول "رئاسة الدولة" تناولت فيه بيان كيفية "اختيار الأمير أو الخليفة"، "تسلمه للمنصب"، "ممارسته للسلطان"، "رسوم الخلع من الخلافة"، اتخاذ الألقاب"، "الدعاء في الخطبة"، "المقصورة"، "الساباط"، "السرير"، "القضيب"، "المظل"، "حجر الأعزة"، "الطراز". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وأما المبحث الثاني فقد كان خاصاً بـ"ولاية العهد" تحدثت فيه عن "اختيار ولي العهد"، "مراسم تعيينه"، "إعداده وتدريبه على شئون الحكم"، "سلطان ولي العهد وصلاحياته"، "تعريف الأمة بولي العهد"، "الاضطراب الذي تطرق لولاية العهد"، "موافقة الأسرة ومعارضتها". وجاء المبحث الثالث خاصاً بـ"رسوم الإمارة والخلافة" وقد اشتمل هذا المبحث على عدد من الفقرات التي تظهر وبجلاء مدى ما وصلت إليه الدولة الأموية من عناية فائقة بهذا الجانب، كالحديث عن "استقبال الرسل وعقد المعاهدات"، "موكب الأمير أو الخليفة"، "المجالس الخاصة" وختمت هذا المبحث بالحديث عما يمكن تسميته بـ"رسوم عامة لبني أمية". وكان الفصل الثاني خاصاً بالحديث عن "النظم الإدارية والمالية" وهو مقسم إلى مبحثين المبحث الأول كان عن النظام الإداري، وفي هذا المبحث بينت أن المسلمين احتفظوا بأصول التقسيم الذي وجدوه قائماً بالأندلس، ولم يضيفوا إليه إلا بعض التعديلات التي اضطروا إليها، ثم تحدثت عن الكتابة، والبريد. وأما المبحث الثاني فقد كان عن النظام المالي، وقد وضحت كيف أن الدولة الأموية كان لديها ثلاثة أنواع من الخزائن وبينت موارد ومصارف كل نوع منها، واختتمت هذا المبحث بالحديث عن العملة في الأندلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وتحدثت في الفصل الثالث عن "الخطط السياسية" واقتصرت الحديث فيه على خطتي "الحجابة والوزارة" وجعلت كل خطةٍ في مبحث منفصل، ولعل أبرز ما في الحجابة أن متوليها كان معظم عهد الدولة الأموية أشبه بوزير التنفيذ، لكنه منذ أن سيطر الحاجب المنصور بن أبي عامر على الدولة الأموية، أصبح منصب الحاجب وزير تفويض بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وأما خطة الوزارة فهي تدين للأمير عبد الرحمن الأوسط بتنظيمها، وإنشاء مجلس خاص للوزارة بقصر قرطبة، عُرف ببيت الوزراء، وكل من الحجابة والوزارة قد تأثرتا وبشدة في عهد الفتنة التي عم تأثيرها أنشطة الدولة كافة والمجتمع في عهد بني أمية. وكان الفصل الرابع خاصاً بالحديث عن "النظام الحربي" شمل خطتي الجيش والأسطول، فبينت في الجيش: العناصر المكونة له، ومرتبات أفراده وتعداده، وموارده، والتنظيمات والمناصب العسكرية المتبعة فيه، وأسلحته وكيفية التعبئة وأساليب القتال، وجاءت خاتمته بذكر الصوائف والشواتي. وأما خطة الأسطول فتعرضت فيها لذكر كيفية نشأته في الأندلس، واهتمام الأمويين به وأنواع السفن والمراكب الحربية المستخدمة وإدارة الأسطول، والأسلحة المستخدمة في المعارك البحرية، والأربطة وصورها ووسائل الإنذار فيها، وحياة المرابطين داخلها. في حين أن الفصل الأخير جاء خاصاً بذكر "الخطط الدينية" وهذا الفصل شمل الحديث عن خطط القضاء، والصلاة والرد، والمظالم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 بعد أن فتح المسلمون بلاد شبه الجزيرة الأيبيرية، والتي عُرفت بعد ذلك بالأندلس، ضمت بين شواطئها عناصر سكانية مختلفة المشارب، وأجناساً بشرية متباينة الثقافات، حتى إذا ما اجتمع هؤلاء كلهم تحت راية الإسلام، تكوَّنت على أيديهم حضارة إسلامية مجيدة، فكانت الأندلس بهذا، أحد المعابر التي انتقلت عن طريقها الحضارة الإسلامية إلى أوروبا. وبالرغم من أن المسلمين قد مكثوا في تلك البلاد زهاء ثمانية قرون، إلا أنهم غادروها مرغمين، عندما لم يستطيعوا المحافظة عليها، مخلفين وراءهم شواهد حضارية ظلت إلى يومنا هذا تحكي حقيقة مجد إسلامي أُبعد عنه أهله، بعد أن تخاذلوا عن تطبيق الإسلام والتمسك به، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: من الآية11) . وفي السنوات الأخيرة نالت الأندلس اهتمام الدارسين والباحثين العرب، فظهرت في هذا الميدان دراسات وفيرة وأبحاث متنوعة، منها ما انصب اهتمامه على الأحوال السياسية، ومنها ما اختص بالحياة الحضارية، ومنها ما جمع بين النظامين السياسي والحضاري. وقد شهدت أراضي الأندلس الإسلامية، قيام عدة دول على أراضيها، ولعل الدولة الأموية كانت أهمها على الإطلاق، فهي الدولة التي أرست قواعد الإسلام هناك، كما أنها أطول تلك الدول بقاء وأعظمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 قوة، ولذا فقد جعلت جُل اهتمامي التعمق والتخصص بها، وذلك بدراستها من كافة الجوانب ما أمكنني ذلك. ومن هنا كانت رسالة الماجستير التي أعددتها لتكون متخصصة في دراسة الجانبين السياسي والثقافي إبان عصر الإمارة، وذلك من خلال النظم السياسية والثقافية الواردة من المشرق إلى الأندلس، ثم واصلت دراستي عن هذه الدولة، فاخترت موضوع (نظم حكم الأمويين ورسومهم في الأندلس) ليعطي قدراً كبيراً من التعريف عن الدولة الأموية في الأندلس منذ قيامها وحتى سقوطها. ولقد كانت الكتابة في نظم الدولة الأموية ورسومها قليلة حسب علمي، إلا ما كان من المستشرق الفرنسي (ليفي بروفنسال) الذي تطرق لمثل هذا الموضوع في المجلد الثالث من كتابه (تاريخ إسبانيا الإسلامية) وأما من العرب فلعل الدكتور/ هشام سليم أبو رميلة أول من كتب في هذا الموضوع، وذلك في الرسالة التي أعدها لنيل درجة الماجستير من كلية الآداب جامعة القاهرة سنة (1975م) وقد جاءت تحت عنوان "نظم الحكم في الأندلس في عصر الخلافة" وبالرغم مضي عقدين من الزمن على إنجازها إلا أنها لم تنشر بعد. وبخلاف من ذكرت، لم يصل إلى علمي أن أحداً قد كتب في هذا الموضوع، ولذا فهو جديد وجدير بالبحث والدراسة وأن ينال أهمية خاصة، فهو يكشف عن النظم التي تُسير شئون الدولة، والرسوم السائدة فيها، ذلك النظام الذي كان يقوم على السير وفق هدي الشريعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الإسلامية السمحة والذي كفل للدولة الأموية عند الأخذ به الاستمرارية والصمود أمام الأزمات التي كادت أن تعصف بها وتقضي عليها في وقت مبكر من عمرها، وكيف أن الدولة عندما تخلت عنه، أخذت تخطو بسرعة عجيبة إلى السقوط. ولعل هذه الدراسة سوف تعطي - في نظري - الدارس فرصة كبيرة لإجراء مقارنة شاملة لما كانت عليه النظم والرسوم في الدولة الأموية بالأندلس، مع ما كان لدى الدولتين العباسية ببغداد والعبيدية بالقاهرة، الأمر الذي يستوجب دراسة خاصة تكشف عن مدى استفادة الأمويين مما لدى المشارقة بوجه عام، والعباسيين بوجه خاص، وهو ما لم أتمكن من التطرق إليه في دراستي هذه، خشية أن يخرج البحث عن إطاره المحدد لي من قبل الجهات المعنية بذلك في الجامعة الإسلامية. وديننا الإسلامي لم يقتصر اهتمامه على عقائد دينية فردية، بل هو نظام كامل يشمل الدين والدولة معاً، ومن هنا نجد أن نصوصه وتعاليمه قد انطوت على كافة النظم التي تهم الناس سواء على مستوى الفرد أو الدولة. ونظراً لأن النظم التي تطبقها أي أمة من الأمم، تعتبر مظهراً لشخصية تلك الأمة، وذلك من حيث تأثيرها في الآخرين، لأجل هذا فقد حرصت على دراسة جانب من تلك النظم، سَعُدَتْ بتطبيقه على أراضيها، بلاد إسبانيا الإسلامية في وقت من أوقات التاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 والشورى، والشرطة، والمدينة، والسوق، وقمت بتوضيح كل خطة من هذه الخطط كما حرصت على أن أبين كيف يصل الفقيه إلى أحد هذه الخطط، ثم تحدثت عن صلاحياته، ومجلسه، ومرتبه، وأشهر من تولاها سواء في قرطبة أو بقية الكور وختمت البحث بخاتمة حوت أهم النتائج التي توصلت إليها. ولقد عملت جاهداً على إخراج هذه الدراسة بصورة مقبولة، وربما كان لطبيعة الموضوع دور في إيراد بعض نصوص المصادر، رغم اجتهادي في التقليل منها، واللجوء إلى تحليلها، وتعليل بعض الأحداث كلما أمكن ذلك، مع الاعتناء بالدراسات الحديثة، وعدم إغفال جهد من سبقني إلى طرق هذا الموضوع. ومما زاد من صعوبة هذا البحث أن المدة الزمنية كانت متسعة، بحيث شملت عمر الدولة الأموية في الأندلس، البالغ زهاء ثلاثة قرون، بالإضافة إلى أن الكتابة في هذا الموضوع تستوجب القراءة الدقيقة فيما يتعلق بالرسوم، والتي ربما ترد عبارة صغيرة في نص كامل تكون قادرة على إيضاح واف للتعرف على رسم من رسوم الدولة. كما اجتهدت عند عملي في هذه الدراسة، أن أبتعد - ما أمكنني ذلك - عن الإسهاب الممل، عند تطرقي لبعض الموضوعات المساعدة لفهم الدراسة مكتفياً بالإشارة إلى المصادر والمراجع، إلا عندما يستوجب الأمر الإسهاب، وقد حرصت على أن أعرض جزئيات البحث وفصوله بأسلوب مترابط يجعل كل فقرة تأخذ بعقب أختها مراعياً التسلسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 التاريخي لتلك الأحداث والمتغيرات وعند ورود التاريخ الهجري أُتبعه بالتاريخ الميلادي، وحرصت على ذكر الاسم الأسباني لكل موقع جغرافي بالأندلس، كما عملت على التعريف بأسماء الأعلام والمواقع الجغرافية، عند أول ذكر لها، كل ما أمكنني ذلك، وكل مصدر أو مرجع لم أر ضرورة لذكره في قائمة المصادر والمراجع، عرفت به تعريفاً كاملاً عند أول استخدام له. تحليل المصادر: وغني عن البيان أن هذه الرسالة، لم تكن لتظهر بهذه الصورة، لولا اعتمادها - بعد الله تعالى - على الكثير من المصادر والمراجع التي تعدد اختصاصها. واستعراض جميع المصادر التي استفاد منها هذا البحث، أمر فيه إطالة غير مرغوبة، لأجل ذلك سأقتصر في هذا التحليل على أهمها: 1- "قضاة قرطبة" للحافظ أبي عبد الله محمد بن حارث الخشني، عاش سنواته الأولى من حياته في القيروان، ثم رحل إلى الأندلس وهو لم يتجاوز الثانية عشرة، ونزل قرطبة، فسمع من أعلامها، وقد نال الخشني ثناء الآخرين عليه، فقد كان شاعراً، بليغاً، إلا أنه كان يلحن، وكان حكيماً بعمل الأدهان، حافظاً للفقه، عالماً بالفتيا، ولي الشورى، ثم توفي في شهر صفر سنة 361هـ (ديسمبر 971م) بعد أن ترك عدة مؤلفات. وقد ألف الخشني كتاب "قضاة قرطبة" بطلب من الخليفة الحكم المستنصر بالله، الذي أباح له الاستفادة من مكتبة القصر التي كانت عامرة بمختلف الكتب، وعلى الرغم من صغر حجم الكتاب "قضاة قرطبة" إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 أنه عظيم الفائدة في موضوعه، فقد أفاد البحث بذكر حوادث انفرد بها، فقد أورد مثلاً خبر معارضة الفقيه بقي بن مخلد تحليف قاضي الجماعة عمرو بن عبد الله القبعه أمام الناس، خشية أن يصل الخبر لبني العباس، فيتندرون بهذه الحادثة في مجالسهم، كما ذكر خبر تعطل منصب قاضي الجماعة لمدة ستة أشهر في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، وستة أشهر أخر في عهد ابنه الأمير محمد، كما عرَّفنا الكتاب على الرسم الذي وضعه للفقهاء قاضي الجماعة الحبيب أحمد بن محمد بن زياد اللخمي، وذلك عندما يُطلبوا لتسجيل فتاواهم، إذ أمر كلاً منهم أن يقوم بتسجيل فتواه بيده في السجل الخاص، فأصبح هذا الرسم متَّبَع من بعده في الأندلس، كما ذكر الخشني أن الوزير صاحب المدينة هو الذي يقوم باستلام ديوان القضاء عند عزل القاضي، ويظل الديوان عند الوزير صاحب المدينة حتى يتم تعيين قاضٍ آخر. وقد قام المستشرق الإسباني "خوليان ريبيرا" بنشر هذا الكتاب وترجمته إلى الإسبانية سنة 1914م ثم قامت الدار المصرية للتأليف والترجمة سنة 1966م بطبعه ونشره. 2- ولدينا كتاب آخر للخشني هو "أخبار الفقهاء والمحدثين" وهو عبارة عن تراجم لطبقات عديدة من الفقهاء الأندلسيين، امتدت منذ فتح الأندلس حتى عصر المؤلف. والكتاب وردت تراجمه بصورة غير منظمة، أي لم يتبع فيها المؤلف الترتيب الأبجدي، كما تضمن الكتاب معالجة لبعض المسائل الفقهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 والخشني اتبع في هذا الكتاب منهجاً شائعاً لدى أصحاب التراجم، فهو يعرض للشخص المترجم ولشيوخه وتلاميذه، ثم يذكر رحلته، ومن ثم سنة وفاته، والملاحظ أنه قد اختصر في بعض التراجم حتى أن بعضها لاتزيد عن سطر واحد، مثل ترجمته لأبي العطاف يعلى بن عبد الله الأموي، بينما نجد بعض التراجم تستغرق صفحات تتجاوز العشرة، مثل الترجمة التي أوردها ليحيى بن يحيى الليثي، وعبد الملك بن حبيب، وبقي بن مخلد، ومحمد بن وضاح وغيرهم، ولعلنا ندرك من هذا التفاوت في التراجم أن المؤلف قد ركز اهتمامه على أولئك الفقهاء المشهورين، أصحاب التأثير سواء ثقافياً أو اجتماعياً. ورغم ذلك، فإن هذا الكتاب يعتبر من أنفس مصادر التاريخ الأندلسي، فهو أقدم كتاب تراجم لأهل الأندلس يصل إلينا، وقد أفاد البحث منه كثيراً فهو فضلاً عن التراجم، حوى في بعض صفحاته وثائق هامة جداً، لم ترد فيما سواه، وذلك مثل الرسالة التي بعث بها الأمير الحكم الربضي للفقيه يحيى بن يحيى الليثي، وكذلك كتابه لعيسى بن دينار، يؤمنهما فيه بعد حادثة هيج الربض. وقد تم نشر الكتاب أخيراً، فقد قام بدراسته وتحقيقه، كل من: "ماريا لويسا آميلا"، ولويس مولينا، ونشره المجلس الأعلى للأبحاث العلمية، معهد التعاون مع العالم العربي، مدريد، سنة 1992م. 3- "كتاب تاريخ افتتاح الأندلس" لأبي بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز، الشهير بابن القوطية، والمقصود بالقوطية "سارة" حفيدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 "غيطشه WITIZA" ملك أسبانيا القوطي، وبذلك فالمؤلف مولَّد من طبقة المولَّدين. أصله من إشبيلية، وسمع من أعلامها وأعلام قرطبة، كان عالماً بالنحو، حافظاً للغة، متقدماً فيها، حافظاً لأخبار الأندلس، طال عمره فسمع الناس منه طبقة بعد طبقة، قُدِّم للشورى، وتصرَّف في الخطط، وترك عدة مؤلفات. ثم توفي يوم الثلاثاء في ربيع الأول لسبع بقين منه سنة 367هـ (نوفمبر 977م) . والكتاب يتناول تاريخ الأندلس منذ أن افتتحها المسلمون، وحتى مطلع القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) وهو عبارة عن مجموعة من الأخبار القصار منفصل بعضها عن بعض، وهو يسرد الحوادث ولا يذكر التاريخ إلا نادراً. كما أنه ليس من تأليف ابن القوطية، بل إن أحد تلاميذه هو الذي تولى تأليفه، بدليل تكرار عبارة "قال شيخنا أبو بكر" قال ابن القوطية1. ولقد أفاد البحث كثيراً من كتاب "افتتاح الأندلس" فقد انفرد بأخبار غاية في الأهمية منها: طرد الأمير الحكم الربضي للوزير أبي البسام بسبب غدره بالفقيه طالوت بن عبد الجبار، وموقف الوزير صاحب المدينة أمية بن عيسى بن شهيد من ولد الأمير محمد بن عبد الرحمن عندما حاول مغادرة سطح باب السدة، كما عرَّفنا على نوعية الثقافة التي يجب أن يتلقاها السجناء، وهي ثقافة لا تكسبهم إلا الخمول   1- آنخل بالنثيا: تاريخ الفكر الأندلسي: ص202-204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 والاشتغال بالملذات، كأن يسمعهم المؤدب خمريات الحسن بن هانئ، وما شابهها من الأهزال. 4- "كتاب الوثائق والسجلات" للفقيه الموثق أبي عبد الله محمد بن أحمد الأموي الشهير بابن العطار، وصفه ابن حيان بأنه متفنن في علوم الإسلام، فقيه لا نظير له، حاذق بالشروط، وبسبب إعجابه بنفسه، وشكاسة أخلاقه، تعرض لوقوف نظرائه ضده، تولى الشورى في عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر، ثم أسقط عنها وعن الشهادة، وفرضت عليه الإقامة الجبرية في داره، وبعد أن أدى فريضة الحج، أعاده المنصور إلى ما كان يليه، توفي في ذي الحجة سنة 399هـ (1009م) . وكتاب "الوثائق والسجلات" عبارة عن نماذج لوثائق فقهية متنوعة، والكتاب في بابه نادر لاغنى عنه لمن يدرس القضاء أو يشتغل فيه، وقد رافقني الكتاب كثيراً في المبحث الخاص بالقضاء، ونقلت عنه نموذجين بين فيهما ابن العطار كيفية تسجيل القاضي برجوعه عن قضاء قضى به تبين له الخطأ فيه. وقد قام بتحقيق الكتاب كل من: "بدروشالميتا"، "وفيدريكو كوينطي". ونشره مجمع الموثقين المجرطي، المعهد الأسباني العربي للثقافة في مدريد سنة 1983م. 5- "نقط العروس" لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، ولد سنة 384هـ (994م) ، اهتم والده بتربيته وتثقيفه اهتماماً شديداً، فخرج عالماً يشار إليه بالبنان، بل إنه أبرز علماء عصره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 تولى بعض المناصب، ثم ترك السياسة وهجرها، وانقطع للعلم، فألف في مختلف فروع الثقافة، توفي في بادية لبله سنة 456هـ (1064م) . وكتابه (نقط العروس) الذي ألفه في حدود سنة 420هـ (1029م) عبارة عن أخبار قصيرة جداً عن الخلفاء، وهذه الأخبار على قصرها ضمت الخطوط العامة للخلافة الإسلامية والخلفاء حتى عصر ابن حزم. ولذا فهو كتاب حافل بمعلومات قيمة يحتاجها من أراد يدرس نظام الخلافة الإسلامية1. ومن أهم المعلومات التي اعتمد فيها البحث على "نقط العروس" هي محاولة الحاجب المنصور بن أبي عامر التسمي بالخلافة، وأنه استشار الفقهاء في ذلك، ن إلا أنهم وقفوا ضد رغبته وكان أشدهم في ذلك الفقيه محمد بن يبقى بن زرب. وفي مجال الحديث عن ولاية العهد انفرد ابن حزم في نقط العروس بذكر تسمي سليمان بن هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر بولاية العهد في بداية استيلاء المهدي محمد بن عبد الجبار على الخلافة، دون أن يسميه بذلك أحد. بالإضافة إلى أن الكتاب قد استقصى ذكر ألقاب أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس، وهو يعتبر في معلوماته الدقيقة حجة، لأن المؤلف ووالده من قبله كانا من رجالات الدولة.   1 - نقطة العروس: مقدمة المحقق ص44، 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وقد قام الدكتور شوقي ضيف بنشر "نقط العروس في تواريخ الخلفاء" بمجلة كلية الآداب جامعة القاهرة، العدد 13 المجلد الثاني، وذلك في شهر ديسمبر سنة (1951م) . 6- "المقتبس" لأبي مروان حيان بن خلف، شيخ مؤرخي الإسلام في الأندلس بلا نزاع، جده الأعلى وهب بن حيان كان مولى للأمير عبد الرحمن الداخل. تولى والده خلف بن حسين منصب الوزارة في عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر، وقد كان عالماً راسخاً في العلم، مما كان له أعظم الأثر في تربيته لولده أبي مروان حيان بن خلف الذي عايش أحرج فترة في عمر الدولة الأموية وهي فترة الفتنة، ولم يغادر قرطبة، ولذا فقد نقل لنا أدق تفاصيلها، كما أنه تولى منصب صاحب الشرطة لابن جهور وبعد حياة مليئة بالأحداث توفي ابن حيان سنة 469هـ (1076م) 1. ولقد كان كتاب "المقتبس" مرافقاً للبحث في أكثر مراحله، ولذا فهو من المصادر المهمة التي لابد من الحديث عنها، وقد أفدت من القطع الأربع المنشورة من المقتس، لكن أهمها: قطعة تبدأ من سنة 232هـ - 267هـ (846-880م) وهي بذلك تشمل ست سنوات من عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط ومعظم عهد ابنه الأمير محمد، وهذه القطعة قام بنشرها الدكتور محمود علي مكي، فقد ذكر ابن حيان في هذه القطعة إنشاء الأمير عبد الرحمن الأوسط   1 - انظر، ابن حيان، المقتبس من أنباء أهل الأندلس، تحقيق وتقديم وتعليق: د. محمود علي مكي، ص16-146 من مقدمة المحقق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 لبيت الوزراء وتنظيمه لأعمالهم، كما أورد خبر تقديم الوزراء الشاميين على نظرائهم البلديين، وعرَّفنا على الرسم الذي استُحدث لدى الأمويين فيما يتعلق بالجنائز. وانفرد بخبر اهتمام الأمير محمد بن عبد الرحمن بآلات اللهو والغناء وبالذات آلات الزمر وسؤاله الدائم عن أشهر أهل هذه الصنعة وجمعهم عنده، وأنه كان له مزمار خاص به. وهناك قطعة خاصة بعهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، وهي تبدأ من سنة 300هـ (912م) إلى سنة 330هـ (941م) وقد قام بنشرها كل من "بدروشالميتا"، "وفيدريكو كورينطي"، "ومحمود صبح"، وهذه القطعة مفيدة جداً في معرفة الأسلوب الإداري الذي اتبعه عبد الرحمن الناصر والذي اعتمد فيه على السياسة المركزية المطلقة، وتبرز فيه التغييرات الوزارية الكثيرة في عهده، بحيث من النادر أن يبقى صاحب الخطة في خطته أكثر من سنة أو سنتين. كما انفرد بذكر "حجر الأعزة" وهو مكان في القصر مخصص لركوب الأمير أو الخليفة، ولا يمكن لأحد الركوب من هذا المكان إلا من أُنعم عليه بهذه المزية، كما ذكر خبر الاحتفال الذي أقامه الخليفة عبد الرحمن الناصر في معسكر الجيش بمناسبة وفادة الملكة "طوطه" عليه، عندما كان في إحدى غزواته لبلاد نصارى الشمال. وهناك قطعة أخرى نشرها الدكتور عبد الرحمن الحجي، وهي خاصة بأحداث خمس سنوات غير كاملة من سني الخليفة الحكم المستنصر بالله، وتبدأ من سنة 360هـ (970م) إلى سنة 364هـ (974م) ، وهذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 القطعة اتكأ البحث عليها كثيراً خاصة في ذكر الرسوم المتبعة في الاحتفالات التي تجري في الدولة، سواء بمناسبة جلوس الخليفة لتهنئته بالعيدين أو عند استقباله للسفارات والوفود، أو عند إجراء عرض عسكري بين يدي الخليفة، بالإضافة إلى انفراده بذكر رسوم عقد اللواء وكيفية تسليمه للقائد الذي سيخرج على رأس الجيش الغازي. 7- "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" لأبي الحسن علي بن بسام الشنتريني، والمؤلف ينتسب إلى إحدى الأسر العريقة في شنترين "SANTAREM" وفيها نشأ وعاش صباه، ثم رحل إلى أشبونه سنة 477هـ (1084م) بعد أن ألَّف كتابه "الذخيرة" في إشبيلية سنة 502هـ (1109م) 1. وكتاب "الذخيرة" يكاد يكون خاصاً بمجريات القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) اعتمد فيه على ابن حيان كما صرح هو بذلك، والكتاب مقسم إلى أربعة أقسام طبقاً للأقاليم الأندلسية، وقد أفدت منه كثيراً لانفراده بذكر نصوص لابن حيان من كتابه "المتين" الذي لم يعثر عليه بعد، وهو بذلك يعتبر من أهم المصادر بالنسبة للبحث، فقد ذكر لنا الهيئة التي برز فيها الخليفة هشام المؤيد للناس في عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر، وما كان يقوم به الوزير عيسى بن سعيد   1- آنخل جنثالث بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة: د. حسين مؤنس، ص289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 من بيع للمناصب الإدارية في عهد الحاجب عبد الملك المظفر، كما انفرد في تقديم وصف للوزراء ولمن كان يلي خطة المظالم في عهد الفتنة. وقد قام الدكتور إحسان عباس بتحقيق الكتاب وأخرجه في ثمانية مجلدات، وقامت الدار العربية للكتاب في: ليبيا-تونس، بنشره سنة 1981م. 8- "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب" لأبي العباس أحمد بن عذاري المراكشي، والمؤلف يرجع إلى أصل مغربي، عاش في عصر الموحدين، وقد كان حياً سنة 712هـ (1312م) . وكتاب "البيان المغرب" يعد من أهم مصادر تاريخ المغرب والأندلس، إذ إنه يغطي فترة زمنية تمتد من الفتح الإسلامي للمغرب حتى سنة 667هـ (1268م) معتمداً فيما يورده من أخبار على مصادر متعددة، الكثير منها لم يصل إلينا، مثل كتابي الرقيق القيرواني والوراق وغيرهما. والكتاب مقسم إلى ثلاثة أقسام نشرت في أربعة مجلدات بعناية: ج. س.كولان، وليفي بروفنسال. وقد اعتمد البحث كثيراً على "البيان المغرب" خاصة المجلدين الثاني والثالث، لما تضمناه من معلومات هامة ذات صلة بكافة فصول البحث، وأهميته تتأكد بصورة أكبر متى ما عرفنا أنه قد أكمل النقص الذي سببه فقد بعض قطع المقتبس. فمن خلال كتاب (البيان المغرب) أمكن معرفة الرسم المتبع عند خروج الأمير أو الخليفة للصيد أو النزهة، كما انفرد بخبر اشتراك أكثر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 مسئول في منصب الحجابة وهو ما حدث في عهد الخليفة هشام المؤيد بالله. وقد أورد ابن عذاري في "البيان المغرب" خبراً ربما لم يرد عند غيره، وهو الخبر الذي يدور حول احتفاظ أمراء وخلفاء بني أمية بذخائرهم ونفيس جواهرهم بطريقة سرية، وكيف تمكن المهدي الثائر من الوصول إليها والاستيلاء عليها جميعاً. 9- "أعمال الأعلام" للوزير لسان الدين محمد بن عبد الله بن سعيد الشهير بابن الخطيب، من أصل قرطبي، ولد في "لوشة LOJA" سنة 713هـ (1313م) وتلقى العلم في غرناطة، فبرز في كافة ميادينه، ثم التحق ببني الأحمر، فتولى الوزارة في دولتهم، ثم ذهب إلى المغرب وتنقل بين مدائنه، حتى لقي حتفه، فقد خنُق ثم أحرقت جثته، وذلك سنة 776هـ (1374م) . وكتاب "أعمال الأعلام" مقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول خاص بالمشرق وهو لا يزال مخطوطاً، والقسم الثاني خاص بالأندلس، والثالث خاص بالمغرب. والقسم الثاني من الكتاب رافق البحث كثيراً، فقد انفرد بذكر أسماء الشهود الذين سجلوا شهاداتهم في السجل الخاص، وذلك في الحفل الذي أقيم بمناسبة تعيين هشام بن الحكم ولياً للعهد، وأخذت البيعة من أولئك الشهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 كما أورد لنا ما فعله المنصور بن أبي عامر ببني أمية وكيف أخمل ذكرهم ومنع الناس من الاختلاط بهم، وكيف عمل على إرهاقهم بحملهم معه في غزواته حتى أشغلهم بأنفسهم. والقسم الخاص بالأندلس نشره المستشرق الفرنسي "ليفي بروفنسال" تحت مسمى "تاريخ أسبانيا الإسلامية" وذلك في الرباط سنة 1934م، ثم أعيد نشره في بيروت سنة 1956م. 10- "ذكر بلاد الأندلس" لمؤلف مجهول، يُرجَّح أنه كان حياً في أواخر القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) . والكتاب جاء في فصلين، الفصل الأول خاص بالحديث عن وصف مدن الأندلس وأقاليمها وذكر ما يمتاز به كل منها. والفصل الثاني خاص بذكر من نزل الأندلس من الأمم والملوك، ابتدأ به من زمن الطوفان وانتهى به عند بداية عهد ملوك الطوائف. واعتمد المؤلف على مصادر متعددة ذكرها في ثنايا الكتاب، وبعض هذه المصادر لم يصل إلينا مثل تواريخ كل من: ابن أبي الفياض والدولابي والرقيق والمزني وغيرها، ومن هنا ندرك أهمية المعلومات التي أوردها هذا المؤلف، رغم أن معلوماته جاءت حولية متميزة بالخطو السريع. وقد أفاد البحث كثيراً من هذا الكتاب، وبالذات فيما يتعلق بذكر نقوش خواتم أمراء وخلفاء بني أمية، إذ يكاد أن يكون هو الوحيد الذي اهتم بذكرها، كما أورد خبر إلغاء الحاجب المنصور بن أبي عامر لخاتم الخليفة هشام المؤيد بالله، واقتصاره على خاتمه الخاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وقد قام "لويس مولينا" بنشر الجزء الأول من الكتاب مختصراً لعنوانه الذي جاء في أكثر من سبعين كلمة، مكتفياً بأول عبارة وردت في العنوان "ذكر بلاد الأندلس" وذلك في مدريد، سنة 1983م. 11- "نفح الطيب" لأبي العباس أحمد بن أحمد بن يحيى المقري، التلمساني، يعود أصله إلى بلدة "مَقَّره" بشرق الجزائر، ولد في تلمسان سنة 986هـ (1578م) وتلقى فيها وفي فاس علومه، وتنقل في بلاد المغرب والمشرق، حتى أدركته الوفاة سنة 1041هـ (1632م) بمصر حيث دفن في مقبرة المجاورين. ولعل إعجاب المقري بالوزير لسان الدين بن الخطيب الدافع الأساسي له في تصنيف كتاب عنه، ثم رأى أن يمهد له بتاريخ عام للأندلس، فأتى كتابه الموسوعي "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب" على قسمين، الأول: خاص بالأندلس، والثاني خاص في التعريف بابن الخطيب. وقد أفاد البحث كثيراً من "نفح الطيب" فقد أورد معلومات لم ترد فيما سواه، من ذلك: الخبر المتعلق بكيفية تأديب الأمير عبد الرحمن الأوسط لولده المنذر الذي كان كثير الشك بمن حوله، معاقباً لمن قدر عليه منهم، مكثراً التشكي لوالده ممن ليس له قدرة عليهم. كما أنه أفاد البحث في وصفه المسهب لبعض الاحتفالات الرسمية التي كانت تجريها الدولة الأموية، بالذات وصف الحفل الذي أقيم عند مبايعة الحكم بن عبد الرحمن الناصر بالخلافة، كما أنه انفرد بخبر تشبه بني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 حمود بالعباسيين في مخاطبتهم للداخلين عليهم، فقد كان الخليفة الحمودي يتكلم من وراء الستر والحاجب يقوم بنقل كلامه لمن في المجلس. ورغم أن كتاب "نفح الطيب" يفتقر إلى التنظيم في سرد المعلومات، فإن ذلك لم يمنع من أن يكون مصدراً أساسياً لجميع الباحثين في تاريخ الأندلس والمغرب، لأجل ذلك فقد نال عناية الكثير من المهتمين بالدراسات الأندلسية من المستشرقين، فقد قام دوزي (Dozy) ودوجا (Dogat) وغيرهما بنشر الجزأين الأولين من هذا الكتاب في مدينة ليدن فيما بين عامي 1858 و 1861م. كما نشر الكتاب في القاهرة سنة 1279هـ (1862م) بمطبعة بولاق في أربعة أجزاء. ثم أعاد نشره الشيخ محيي الدين عبد الحميد في عشرة أجزاء، بالقاهرة سنة 1364هـ (1945م) ، وأخيراً قام الدكتور إحسان عباس بإعادة تحقيق الكتاب ونشره في ثمانية أجزاء وطبع في بيروت سنة 1388هـ (1968م) . وإذا كانت الدراسة قد نهلت مادتها بالدرجة الأولى من المصادر، فإن ذلك لا يعني مطلقاً أنها كانت بمنأى عن الاستفادة من الدراسات الحديثة، فهي من نهاية جهود المؤرخين المحدثين ابتدأت، وعلى طائفة من تحقيقاتهم توكأت، وبمنهاج بعضهم اهتدت، فتم الاستعانة بما وقع تحت اليد من كتب ورسائل وأبحاث لها صلة بالموضوع، فقد كانت الفائدة عظيمة جداً مما كتبه باللغة العربية على سبيل المثال لا الحصر. الأستاذ محمد عبد الله عنان، والدكاترة: حسين مؤنس ومحمود علي مكي ومحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 عبد الوهاب خلاف. ومن الدراسات الأجنبية ما كتبه المستشرق الفرنسي ليفي برفنسال. ولا أنسى هنا أن أثني على جهد الدكتور هشام أبو رميلة في رسالته "نظم الحكم في الأندلس" إذ يكفي أنه أول من طرق هذا الموضوع من الباحثين العرب، وفتح لي مجالاً واسعاً للحديث عن نظم ورسوم الأمويين في الأندلس فجزاه الله تعالى خير الجزاء على جهده. وليس هناك كلمات في ختام هذا التقديم ألذّ في النفس من الاعتراف بفضل الآخرين عليّ، "فإن من لم يشكر الناس لم يشكر الله". ويتقدم من اعترف بفضلهم بعد الله تعالى جامعتنا الإسلامية الموقرة، ثم أستاذي الفاضل الدكتور عبد الله بن علي المسند، الذي تولى الإشراف على هذا البحث بعد أستاذيَّ الفاضلين: مصطفى محمد رمضان، ومحمد ضيف الله بطاينه، اللذان رافقا البحث في مراحله الأولى، فجزاهم الله عني خير الجزاء. ولا يسعني إلا أن أعرب عن عظيم امتناني لأخي الدكتور/ شمس الله محمد صديق الذي كثيراً ما ساعدني في الترجمة من الفرنسية إلى العربية، كما أشكر أخي الدكتور طلال بن سعود الدعجاني على مساعدته لي بالحصول على بعض المصادر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وأسأله برحمته وفضله جل وعلا أن يجزي بالإحسان كل من وقف إلى جانبي حتى تم إنجاز هذه الرسالة. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الصافات (182) . سالم بن عبد الله الخلف المدينة النبوية في 01/01/1416هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ال تمهيد بويع أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي1 بالخلافة يوم الجمعة 13من شهر ربيع الأول سنة 132هـ2 (1يناير 750م) وبذلك بدأ حكم الأسرة العباسية عوضاً عن الأسرة الأموية، التي فقدت آخر خلفائها في قرية بوصير3، وأمام المطاردة العباسية التي لا هوادة فيها،   1- هو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، ولد بالحميمة سنة 104هـ، ونشأ بها، كان يلقب بالمرتضى، وأما لقب السفاح فأطلق عليه لاحقاً، وإن كان في حياته فهو لكثرة عطاياه وبذله الأموال، وصف بأنه كان رجلاً طوالاً، أبيض اللون، حسن الوجه، أجعد الشعر، حسن اللحية، حيياً، سخياً، حليماً، وقوراً، عاقلاً، حسن الأخلاق، كما وصف بالفصاحة والعلم والأدب، توفي شاباً ودفن بقصره في الأنبار، وذلك يوم الأحد 13 من شهر ذي الحجة سنة 136هـ. انظر تاريخ خليفة بن خياط، (تحقيق: د. أكرم العمري، الرياض، دار طيبة، ط الثانية 1405هـ) ص409- 412، اليعقوبي، التاريخ، (بيروت، دار صادر. د-ت) 2/349،358،361، الطبري، التاريخ، (تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، دار المعارف، ط 1961م) . 7/424، 170-471، الأزدي، تاريخ الموصل، تحقيق د. علي حبيبه القاهرة 1387هـ/1967م، ص123،159-160المقدسي البدء والتاريخ، "المنسوب للبلخي" نشر: كلمان هوار، باريس 1899م، 6/88-90. 2- تاريخ اليعقوبي 2/349، البدء والتاريخ 6/88. 3- بوصير: بكسر الصاد وسكون الياء: قرية من قرى الفيوم بصعيد مصر. أنظر ياقوت، معجم البلدان (بيروت، دار صادر، 1404هـ/1984م) 1/509. وفيها قُتل آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد بن مروان بن الحكم في يوم الأحد 27 من شهر ذي الحجة سنة 132هـ. انظر: تاريخ خليفة ص 404، تاريخ الطبري 7/441-442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أضطر أبناء الأمويين إلى التواري عن الأنظار في أقطار شتى1. وكان عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك2 أحد الأمويين الذين كُتبت لهم النجاة من بطش العباسيين، فقد غادر   1- إن عم الخلفاء العباسيين عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس هو الذي قام بهذه المطاردة الوحشية، وكان عبد الله بطلاً شجاعاً مهيباً جباراً عسوفاً، سفاكاً للدماء، وصف بأنه من رجال العالم ودهاة قريش. انظر: تاريخ الطبري 7/474-479، 8/7-9. الذهبي، سير أعلام النبلاء، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وغيره، (بيروت، مؤسسة الرسالة، 1405هـ/1985م) 6/161-162 وهو الذي أُطلق عليه لقب السفاح، إذ عرف به في حياته وذلك سنة 133هـ انظر: تاريخ الموصل ص141. وأما عن تلك المطاردات فانظر: د. حسين عطوان، الدعوة العباسية تاريخ وتطور (دار الجيل، بيروت) ،ص401-436 ومصادره. 2- هو مؤسس الدولة الأموية في الأندلس، ولد في دمشق سنة 113هـ، أمه بربرية اسمها راح أو رداح، نشأ يتيماً وتربى في قصر جده الخليفة هشام بن عبد الملك، فأولاه رعايته، ووهبه جميع الأخماس التي اجتمعت للخلفاء في الأندلس، كان طويل القد، أصهب، أعور، خفيف العارضين، بوجهه خال، له ضفيرتان، كما وصف بأنه كان فصيحاً، بليغاً، حسن التوقيع، جيد الفصول، مطبوع الشعر، توفي يوم الثلاثاء 24 ربيع الآخر سنة 172هـ. انظر: ابن الفرضي، تاريخ العلماء والرواة للعلم في الأندلس (نشر: عزت العطار الحسيني، مكتبة الخانجي القاهرة مكتبة الخانجي1408هـ) 1/11. الحميدي، جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس. (القاهرة -الدار المصرية للتأليف والترجمة-1966م) ص8-9، ابن الأبار: الحلة السيراء، (تحقيق: د. حسين مؤنس) القاهرة الشركة العربية للطباعة والنشر، 1963م) 1/35-42. ابن عذاري، البيان المغرب. (تحقيق: كولان وبر وفنسال بيروت، دار الثقافة، 1983م) 2/40-60، سير أعلام النبلاء: 8/244-253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الشام متوجهاً إلى مصر، ومنها انطلق إلى المغرب، ومن هناك دخل الأندلس، حيث تمكن بعد توفيق الله له، ثم بذكائه من استمالة الجماعات الإسلامية هناك1. وطبيعي أن يكون دخول هذا الأمير الأموي بلاد الأندلس له صداه، خاصة في مثل تلك الظروف، ولذا فما أن شاع خبره هناك، حتى توافدت   1- عن هرب عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس واستمالته الجماعات الإسلامية هناك، انظر: ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، ملحق به "الرسالة الشريفية في الأقطار الأندلسية" (نشر: باسكوال دي جايا نجوس، مدريد 1868م) ص21-27. مؤلف مجهول، أخبار مجموعة، (نشر: لا فوانتي أي ألكنترا، مع ترجمة أسبانية، مدريد، 1867م) ص67-91، ابن الأثير، الكامل في التاريخ (تحقيق: عبد الله القاضي بيروت، دار الكتب العلمية، 1407هـ/1978م) 5/122، 123. ابن الخطيب، أعمال الأعلام (تاريخ أسبانيا الإسلامية، نشر: ليفي بروفنسال: بيروت، دار المكشوف، 1956م) 2/7-8 النويري، نهاية الأرب (الجزء الثالث والعشرون: تحقيق: د. أحمد كمال زكي (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980م) ص335-338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 عليه الجموع وهي تعلن ترحيبها به واستعدادها للسير خلفه1، كما تأثرت بوصوله قوى أخرى، من ذلك أن جيش والي الأندلس يوسف الفهري2 تفرق أكثر أفراده، بمجرد وصول خبر الأمير عبد الرحمن إليهم، مما حال دون تمكين الفهري من مهاجمته وهو في بداية أمره3. لأجل ذلك عمد الفهري ووزيره الصميل4، إلى اتباع أسلوب المراسلات، في محاولة منهما لثني الأمير عبد الرحمن عن   1- ابن القوطية، ص24-27، أخبار مجموعة، ص 76، 83-84، ابن الكردبوس. الأندلس (قطعة من كتاب الاكتفاء، تحقيق د. أحمد مختار العبادي، مدريد، معهد الدراسات الإسلامية، 1971م) ص55-56. 2- أبو محمد يوسف بن عبد الرحمن الفهري، أخر ولاة الأندلس، تولاها باتفاق المضرية واليمنية لأنه قرشي، وذلك في شهر ربيع الآخر 129هـ وهو ابن 57سنة، وفي عهد الأمير عبد الرحمن بن معاوية قام يوسف الفهري بثورة ضده، لكنها انتهت بفشله ومن ثم قتل عند طليطلة على يد عبد الله بن عمر الأنصاري سنة 142هـ، انظر أخبار مجموعة ص 91-100، الكامل في التاريخ 5/126،127، الحلة السيراء 2/347-350. 3- أخبار مجموعة ص78-79. قارن: المقري، نفح الطيب، (تحقيق: د. احسان عباس، بيروت، دار صادر، 1388هـ) 3/32-33. 4- الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن، جده شمر أحد قتلة الحسين بن علي رضي الله عنهما، كان الصميل نجداً كريماً، دخل الأندلس في طالعة بلج بن بشر، غلب على أمر والي الأندلس يوسف الفهري، حتى أصبح هو الحاكم الفعلي، مات الصميل في سجن الأمير عبد الرحمن بن معاوية سنة 142هـ. انظر: الحلة السيراء، 1/67-68. نفح الطيب، 3/25-26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 مراده1، إلا أنهما فشلا في تحقيق مايصبوان إليه، ولذا فلم يعد هناك مناص عن اللقاء المسلح، فالتقى الجمعان في موقعة المصارة2، وذلك يوم الجمعة، العاشر من شهر ذي الحجة سنة 138هـ3 (14 مايو 756م) وأسفر عن هزيمة الفهري وتمزيق قواته، ودخول الأمير عبد الرحمن بن معاوية قرطبة4 بدون   1- أنظر أخبار مجموعة ص79-82. البيان المغرب 2/45-46. 2- المصارة: كلمة لايعرف معناها، أطلقت على عدة أماكن، والمقصود بها فيما ورد أعلاه أنها ضاحية من ضواحي قرطبة، تقع إلى الجنوب منها، على شاطئ الوادي الكبير وهناك من يقول أنها كانت مكاناً لتدريب الخيول، وقيل أنها موضع معصرة زيت تسمى بالإسبانية ALMUZARA أو المعصرة، انظر: الحلة السيراء، 2/349 حاشية رقم 1. تاريخ ابن الكروبوس، ص56 حاشية رقم7. 3- ابن القوطية ص26-28. 4- قرطبة CORDOBA قاعدة الأندلس ومستقر الإمارة والخلافة الأموية في الأندلس، مدينة العلم ومقر السنة والجماعة، خرجت من أيدي المسلمين سنة 633هـ. ويعتبر الجامع والقنطرة أشهر معالمها في العصر الحالي، انظر: البكري، جغرافية الأندلس وأوربا (من كتاب "المسالك والممالك" (تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، بيروت، دار الإرشاد، 1387هـ/1968م) ص 100-106. الحميري، الروض المعطار (تحقيق: د. إحسان عباس، بيروت، مكتبة لبنان، 1984م) ص456-459 F.SIMONET- AND. J.LERCHUNOL: ARABI CO-ESPANOLA GRANADA. 1881. P:36 - 40 وانظر الدراسة الوافية عن قرطبة التي أعدها د. السيد عبد العزيز سالم، قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس. (جزآن. الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة، 1984م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 مقاومة، بعد أن فشل الفهري في اللجوء إليها1، ومنذ ذلك اليوم بدأت دولة بني أمية في الأندلس. وتجدر الإشارة إلى أن الأمير عبد الرحمن الداخل على الرغم من أنه استغل العصبية القبلية المتفشية في الأندلس آنذاك لتحقيق أهدافه، إلا أنه لم يقع أسيراً لتلك العصبية، بل على العكس من ذلك فقد عمل من أول وهلة على إخضاعها لسلطانه2، مرتفعاً بإمارته أن تكون رهينة للتحالفات القبلية، وبذلك فقد أصبح معيار القرب منه والبعد عنه مرتبطاً بمبدأ الطاعة، فمن التزم بالأوامر وظهر الإخلاص في تصرفاته، ضمن الحظوة لديه، ومشاركته في تحمل أعباء إمارته، وأما من كان لا يزال يعاني من داء العصبية القبلية فلا سبيل إلى الاستعانة به إطلاقاً.   1- عندما أدرك الفهري أن الهزيمة لحقت به، حاول التحصن في قرطبة، إلا أن عاملها عبد الرحمن بن عوسجه أغلق الأبواب في وجهه، فاضطر الفهري إلى التوجه نحو طليطلة وقيل إلى البيرة. أنظر: ابن القوطية، ص26-28، أخبار مجموعة ص89-90، البيان المغرب،2/47، مؤلف مجهول، ذكر بلاد الأندلس (تحقيق: لويس مولينا الجزء الأول: مدريد 1983م) 1/113-114. 2- من ذلك مثلاً: موقفه من اليمنية بعد هزيمته للفهري في موقعة المصارة، انظر: ابن القوطية، ص28، أخبار مجموعة، ص90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وقد أثبت الأمير عبد الرحمن الداخل مقدرة فائقة، ورباطة جأش نادرة، عندما تمكن وبكل كفاءة من الصمود وبالتالي القضاء على قوى المعارضة الداخلية والخارجية على السواء1. وبعد حياة حافلة بالحركة الدائبة، وضع خلالها قواعد دولة إسلامية متينة البنيان، اختتم حياته ببناء المسجد الجامع بقرطبة2، وأسند ولاية العهد من بعده لابنه هشام3.   1- انظر: العذري. نصوص عن الأندلس "من كتاب: ترصيع الأخبار (تحقيق: د. عبد العزيز الأهواني، مدريد، معهد الدراسات الإسلامية، 1965) . ص:25،111، 117-118، أخبار مجموعة: ص91-112. الكامل في التاريخ 5/126-127، 146، 178، 187، 188، 192، 209، 210، 213، 239-240، 257، 258 كارلس ديفيز. شارلمان، (ترجمة د. الباز العريني القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1379هـ، 1959م) ص98-102، 296-297. خليل السامرائي، الثغر الأعلى الأندلسي، (بغداد، مطبعة أسعد، 1976م) ، ص 411-448 ومصادره. 2- البيان المغرب، 2/229. نفح الطيب 1/560-561. وانظر: الدراسة المستفيضة للأستاذ الدكتور عبد العزيز سالم عن جامع قرطبة في كتابه: قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس 1/269-402. 3- الأمير هشام أمه أم ولد تدعى حلل أهدتها ابنة يوسف الفهري للأمير عبد الرحمن الداخل بعد انتصاره في موقعة المصارة ودخوله قرطبة، ولد في الرابع من شهر شوال 139هـ، وتولى الإمارة في أول شهر جمادي الأولى 172هـ، وتوفي ليلة الخميس 8 صفر 180هـ. وصف بأنه كان أبيض مشرب بحمرة بعينه حول، طويل الساقين.= =انظر: ابن القوطية، ص28-29. ابن الفرضي: 1/11-12. قارن: البيان المغرب 2/61، ذكر بلاد الأندلس 1/118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 تسلم الأمير هشام مقاليد الإمارة في مطلع شهر جمادى الأولى سنة 172هـ (788م) بعد وفاة أبيه بستة أيام1، وله من العمر اثنان وثلاثين سنة وستة أشهر وسبعة وعشرين يوماً2، كان عاقلاً حازماً، ذا رأي وشجاعة، شريف النفس، خيِّراً، محباً لأهل الخير والصلاح، شديداً على الأعداء، راغباً في الجهاد، على طريقة حسنة، يحضر الجنائز ويعود المرضى ويفك الأسرى3، مما أهله لثناء المؤرخين والفقهاء على السواء مطلقين عليه لقب "الرضا".. لرضاهم عن سيرته ومنهجه4.   1- ابن الفرضي، 1/12. 2- هناك اختلاف في تقدير سن الأمير هشام عند توليه الإمارة، فالمراكشي يرى أنه كان ابن ثلاثين سنة، انظر: المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق: محمد سعيد العريان، (القاهرة 1383هـ) ص43، وتابعه على ذلك صاحب كتاب ذكر بلاد الأندلس 1/119. وهناك من رأى أنه كان ابن ثلاث وثلاثين سنة. انظر: محمد عنان، دولة الإسلام في الأندلس، (العصر الأول - القسم الأول- ط الثالثة القاهرة، 1380هـ) ، 1/221. د. خالد الصوفي، تاريخ العرب في الأندلس في عصر الإمارة (منشورات الجامعة الليبية) ، ص109. إلا أنني أرى أن ما أثبته هو الصواب، وتتضح صحة ذلك إذا رجعنا إلى تاريخ مولده في الرابع من شهر شوال 139هـ. 3- ابن عبد ربه: العقد الفريد، (تحقيق: احمد أمين، وغيره، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة، 1359هـ- 1940م) 4/490. ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، (تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، دار المعارف، 1391هـ/1971م) ص94. الكامل في التاريخ 5/308، البيان المغرب: 2/65، نهاية الأرب: 23/358. 4- ابن القوطية ص42. ابن حزم، نقط العروس، (تحقيق: د. شوقي ضيف، مجلة كلية الآداب، جامعة فؤاد الأول. م13 ج2 ديسمبر 1951م) ص50. البيان المغرب، 2/61. ذكر بلاد الأندلس 1/118- إعمال الأعلام 2/12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ولأن الأمير هشام كان معروفاً بالتدين لذا فقد كان الفقهاء أقرب الناس إليه1، مما مكنهم من تكوين سلطان عريض في بلاطه، لا يقل عن سلطان رجالات الإمارة، سارا طيلة عهده جنباً إلى جنب دونما اصطدام، فنعمت الرعية بعهد سمته العدالة والطمأنينة. إلا أن هذا الوضع لم يكتب له الاستمرار، فقد تولى الإمارة من بعده الأمير الحكم2 -180-206هـ (796ـ 822م) الذي تباينت فيه أراء المؤرخين بين مدح وقدح3، إلا أنه بالجملة كان شديد الاعتداد   1- البيان المغرب 2/66، ذكر بلاد الأندلس 1/120، 122. 2- ولد الأمير الحكم سنة 154هـ، أمه تدعى زخرف، بويع بالإمارة بعد وفاة والده بليلة، وذلك يوم الخميس لثمان خلون من صفر سنة 180هـ كان آدم شديد الأدمة، طويلاً أشم، نحيف، لم يخضب، وكان شديد الحزم، ماضي العزم، وذا صولة تتقى، كما كان حسن التدبير لشؤون إمارته، محباً للعدل. انظر: البيان المغرب 2/68، 78 سير أعلام النبلاء 8/253-260. 3- العقد الفريد 4/490-491، نقط العروس ص73، جذوة المقتبس ص10، الحلة السيراء 1/43، سير أعلام النبلاء، 8/254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 بنفسه، غير متقبل لمشاركة الآخرين له في سلطانه، سواء الفقهاء أو غيرهم، وبما أن الفقهاء كانوا هم المقربين عند والده، وكان ابنه الحكم بعكسه، لذلك فقد كان الاصطدام بين الطرفين أمراً متوقعاً1. وعندما وقع الاصطدام، كان مبدؤه الكلام، ثم تحول إلى التخطيط للعصيان، وأخيراً انتهى إلى السيف، فذهب ضحية ذلك العديد من أعلام قرطبة، بالإضافة إلى مئات من طلبة العلم، وتشريد أهل حي الربض2   1- سالم بن عبد الله الخلف، العلاقات السياسية والثقافية بين الخلافة العباسية والإمارة الأموية بالأندلس، 138-300هـ رسالة ماجستير (لم تطبع) ، مقدمة لقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 1410هـ. ص283-284. 2- كلمة الربض في معناها اللغوي تعني الضاحية والجمع أرباض. ويقصد بها هنا المنطقة السكنية المستجدة في قرطبة العربية بعد إنشاء القنطرة وترميمها في عهد الأمير هشام الرضا، وتمتد هذه المنطقة إلى ما وراء الضفة الجنوبية لنهر الوادي الكبير حتى بلدة شقندة وامتازت بأنها كانت آهلة بالسكان. انظر: نفح الطيب، 1/379. ابن منظور، لسان العرب. (دار بيروت للطباعة والنشر، 1374هـ، 1955م) . مادة ربض. د. أحمد العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص331-332. ويذكر الدكتور حسين مؤنس أن هذا الربض قد تم تحويل جزء منه إلى مقبرة عرفت بمقبرة الربض، وقد ظل هذا الربض خالياً من العمران طيلة حكم المسلمين، واليوم يقوم فيه حي من أحياء قرطبة الحالية يعرف باسم: حي الروح القدس BARRIO DEL ESPIRITU SANTO وعلى مدخل هذا الحي في مواجهة القنطرة يقوم الحصن المعروف بحصن قلهرة CASTILLO LA CALAHORRA أنشيء بعد أيام المسلمين. انظر الحلة السيراء: 1/44 حاشية رقم 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 بأسره، وإزالته من الوجود، وذلك يوم الأربعاء الثالث عشر من شهر رمضان المبارك سنة 202هـ (26 مارس 818م) ومن هنا أُطلق على الأمير الحكم لقب "الربضي"1. وقبل هذه الحادثة بأكثر من عقدين كان الأمير الحكم قد أخمد ثورة أهل طليطلة2 سنة 181هـ (797) بطريقة مفزعة3.   1- عن ثورة الربض واكتساب الأمير الحكم بن هشام لقب "الربضي" بسببها، انظر: جمهرة أنساب العرب. ص96، الكامل في التاريخ 5/413-414، الحلة السيراء: 44-46، البيان المغرب 2/75-77، سير أعلام النبلاء 8/255-258. 2- طليطلة TOLEDO معناها باللاتينية: فرح ساكنوها، تقع شمال قرطبة وغرب الثغر الأعلى، كانت قاعدة ملوك القوط ومحل اختيارهم، وقد سقطت طليطلة بأيدي النصارى في منتصف شهر محرم سنة 478هـ. ولأنها قاعدة الثغر الأدنى فقد كان سقوطها كارثة على الدولة الإسلامية في الأندلس إذ لم يلبث النصارى أن سيطروا على جميع الأراضي الواقعة جنوباً حتى جبال قرطبة وأطلقوا على هذه المنطقة الجديدة فيما بعد اسم قشتالة الجديدة CASTILLA LA NUEVA وللتوسع عن تاريخ طليطلة انظر: LA DESCRIPTION D’FAL-ANDALUS DA RAZI AL-ANDALUS, VOL,XVIII, 1953, P:81-82. وسوف أشير إليه فيما بعد بـ"وصف الأندلس للرازي" الروض المعطار، ص393-395. د. عبد المجيد نعنعي، الإسلام في طليطلة بيروت، دار النهضة العربية بدون تاريخ. 3- عن هذه الحادثة انظر: ابن القوطية ص46-49 البيان المغرب 2/69-70، سير أعلام النبلاء 8/259-260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 هذه الأحداث جعلت الأمير الحكم يعيش أزمة نفسية لازمته سنيه الأخيرة إلى أن توفى يوم الخميس 26 من شهر ذي الحجة سنة 206هـ1 (مايو 822م) فتولى الإمارة من بعده ابنه الأمير عبد الرحمن2 "الأوسط". وقد كان الأمير عبد الرحمن قد اعتنى والده بتربيته وتثقيفه عناية فائقة، فنشأ نشأة طيبة، واكتسب ثقافة عالية، واتصف بصفات فريدة أطنب المؤرخون في ذكرها3. ولأنه عندما تولى الإمارة وجد بلاداً موطأة ورعية مؤدبة4، لذا فقد تفرغ لتزيين دولته، منطلقاً في ذلك من رصيد ثقافي يمتلكه، من هنا فقد كانت فترة حكمه فترة متميزة، وساعد على   1- ابن القوطية ص55، ابن الفرضي 1/12، الحلة السيراء: 1/46-47، البيان المغرب: 2/77. ذكر بلاد الأندلس 1/133. 2- ولد الأمير عبد الرحمن بطليطلة في شهر شعبان سنة 176هـ، أمه تسمى حلاوة، كان وادعاً محمود السيرة، تولى الإمارة ليلة وفاة والده، كان أشم، أقنى، أعين، أسود العينين، طوالاً، فخماً، مسبلاً عظيم اللحية، يخضب بالحناء. انظر: ابن الفرضي 1/12-13. ابن حيان، المقتبس، تحقيق د. محمود علي مكي، (بيروت، دار الكتاب العربي، 1973م) ، ص 17، 22 جذوة المقتبس، ص10. 3- انظر المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 89-91. أخبار مجموعة ص 135، الحلة السيراء 1/113، البيان المغرب 2/91، ذكر بلاد الأندلس 1/137. ابن سعيد، المغرب في حُلى المغرب، (تحقيق د. شوقي ضيف، (القاهرة، دار المعارف، 1969م) ، 1/45. 4- ذكر بلاد الأندلس 1/139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ذلك التميز أن الفقهاء استعادوا مكانتهم في عهده1، فنتج عن هذه الأمور استقرار اجتماعي، الأمر الذي سمح للنشاط الاقتصادي بالنمو والإزدهار، وبذلك حصل تغير ملموس سواء بالنسبة لرسوم الإمارة أو على مستوى الوسط الاجتماعي وذلك بسبب الروافد الثقافية القادمة من المشرق. وبعد وفاة الأمير عبد الرحمن الأوسط ليلة الخميس 3ربيع الآخر سنة 238هـ2 (22 سبتمبر 852م) تولى الإمارة من بعده ابنه الأمير محمد3 الذي أثنت عليه المصادر، ووصفته بأنه كان كاملاً عاقلاً على أخلاق جميلة ومكارم حميدة4، محباً للعلوم، مؤثراً لأهل الحديث، حسن   1- سالم الخلف، المرجع السابق ص 295-297. 2- المقتبس، تحقيق د. محمود مكي ص 17. 3- ولد الأمير محمد في شهر ذي القعدة سنة 207هـ، أمه أم ولد اسمها بُهيرِ، تولى الإمارة ليلة وفاة والده، وصف بأنه كان أبيض، مشرباً بحمرة، ربعة، أوقص، وافر اللحية، يخضب بالحناء والكتم، اشتهر بالفصاحة والبلاغة، وكان عظيم الأناة، متنزهاً عن القبيح مؤثراً للحق وأهله. انظر: ابن الفرضي 1/13. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص102، جذوة المقتبس ص11. البيان المغرب 2/93-94، 107. 4- البيان المغرب 2/107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 السيرة1، امتاز بالذكاء والفطنة2، ذا دراية بالأمور وبصيرة بوجوه الرأي3. وقد تأثرت دولته بوجود رجلين إداريين في وقتين مختلفين، ففي النصف الأول من عهده امتازت إدارته بالانضباط والحزم، وذلك لوجود حاجب رشيد هو عيسى بن شهيد4 الذي كان على مستوى كبير من الكفاءة وحتى بعد وفاته سنة 243هـ (857م) لم يختل نظام الإدارة إذ خلفه على منصبه عيسى بن الحسن ابن أبي عبد ة5، لأنه كان لا يقل عن   1- جذوة المقتبس ص 11. 2- الكامل في التاريخ 6/349. 3- المقتبس تحقيق: د. محمود مكي ص 134. 4- عيسى بن شهيد بن عيسى بن شهيد بن الوضاح، أحد أعيان الموالي في الدولة الأموية، اشتهر بالحلم والوقار والحصافة والعلم والمعرفة والجزالة، حتى أن شيوخ الأندلس اتفقت كلمتهم على أنه ما خدم بني أمية في الأندلس أكرم منه، استعمله الأمير عبد الرحمن الأوسط في عدة خطط إلى أن ولاه الحجابة سنة 218هـ، وظل في منصبه إلى وفاته سنة 243هـ. انظر: ابن القوطية، ص74-75، المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص26-30، المغرب في حُلى المغرب 1/50، البيان المغرب 2/84. 5- عيسى بن أبي عبدة، ينتمي لأسرة من أكبر أسر موالي بني أمية في الأندلس، عُرف عيسى بالرثاثة وعدم الرشاقة في الخدمة، تغلب عليه غفلة السلامة، إلا أنه كان مشهوداً له بالدقة في التدبير وجودة الرأي، تولى الحجابة بعد ابن شهيد، وكانت العلاقة بينه وبين الوزير هاشم بن عبد العزيز سيئة. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 152-155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 سلفه كفاءة ومروءة، ولكن الوضع تغير كلية بعد أنه أصبح الوزير هاشم بن عبد العزيز1 هو الغالب على الأمير محمد المدبر لدولته، فقد أفسد على الأمير منهجه "بشرهه وصلفه، وحمله على غير المنهج من محمود طرقه، وعدل عن اختيار ثقات العمال من الشيوخ والكهول وأولي السوابق والأصول إلى الأحداث واللاحقين من أولي الشره والخيانة ودناءة الأصول والبراءة من عهدة الحياء والمروءة2" فكانت النتيجة فساد الحال وانخفاض دخل الدولة بسبب سوء سيرة الولاة، وتبدل نفوس القائمين على الأعمال، فكان ذلك مدعاة لرفض الرعية لهذا الوضع، الأمر الذي ترتب عليه اندلاع الفتن في الداخل، وكثرت التهديدات من الخارج، فعاشت   1- أبو خالد هاشم بن عبد العزيز بن هاشم بن خالد، أصله من موالي أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولأسرة هاشم مكانة مرموقة بإلبيرة، كان هاشم خاصاً بالأمير محمد بن عبد الرحمن، فعظمت منزلته لديه، وصيره أخص وزرائه، عرف بالبأس والجود والفروسية والكتابة والبيان والبلاغة وقرض الأشعار البديعة، لكنه بالمقابل كان تياهاً، معجبا بنفسه، مما أحقد عليه القلوب، استحجبه الأمير المنذر بن محمد ثم نكبه وحبس أكابر أولاده، ومات هاشم مقتولاً في ليلة الأحد 26 شوال سنة 273هـ. انظر: ابن القوطية، ص82، 84-86، 89-90، 92-93، 97-98، 102-103، المقتبس تحقيق: د. محمود مكي ص 159-160 والتعليق رقم 330. جذوة المقتبس، ترجمة رقم 864. الحلة السيراء 1/137-142، المغرب في حلى المغرب 1/52،53، 94، 132، 133، 152، 153، 2/ 22، 94-95. 2- المقتبس: تحقيق د. محمود مكي، ص 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الدولة أياماً عصيبة "حتى خُرقت الهيبة وزال صدر الحرمة1" وما توفي الأمير محمد حتى كانت الفتنة مستعرة في معظم أرجاء الأندلس2. ولعل أشد حركة واجهت الأمير محمد هي حركة عمر بن حفصون3، ويكفي للدلالة على ذلك أنها   1- المغرب في حلى المغرب، 1/53. 2- المقتبس تحقيق: د. محمود مكي، ص132. 3- عمر بن حفصون بن عمر بن جعفر بن شيتم بن دميان بن فرغلوش بن إذفونش، من مسالمة الذمة من كورة تاكرنا من عمل رنده، هرب من الأندلس، ونزل بمدينة تاهرت بالمغرب الأوسط، ومارس مهنة الخياطة هناك عند أحد المولدين، ثم عاد إلى مسقط رأسه وجمع حوله عدداً كبير من المولدين وأعلن تمرده ببشتر سنة 267هـ واستمر في تمرده حتى هلك سنة 305هـ. انظر: ابن القوطية ص90-94، 101، 103، 107، 109، 111-115. ابن حيان: المقتبس (طبعة ملشورم انطونيه، باريس 1937) ، ص 50-54، 82-84، 89-94، 96-109 وغيرها. ابن حيان، المقتبس، الجزء الخامس، (نشر: بدرو شالميتا وغيره، مدريد، المعهد الأسباني العربي للثقافة، 1979م) ، ص63-64، 66-68، 72، 93، 112-116، 130-133، 138-142، البيان المغرب 2/104، 171.ابن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، (تحقيق: محمد عبد الله عنان القاهرة، مكتبة الخانجي، 1393-1397هـ (1973-1976م) 4/38-42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 استمرت إلى أوائل القرن الرابع الهجري1 (العاشر الميلادي) . وبعد وفاة الأمير محمد عقب صلاة عصر يوم الخميس 28 صفر 273هـ2 (4 أغسطس 886م) تولى الإمارة ابنه الأمير المنذر3، فتصدى لتلك الفتن بكل كفاءة واقتدار، إلا أنه لم يتمكن من إخمادها بسبب وفاته، إذ أن مدة إمارته لم تتجاوز سنتين، وفي هذا يقول ابن عذاري فيما يرويه عن بعض الشيوخ " أنه لو عاش المنذر عاماً واحداً   1- عن هذه الثورة، انظر: د. محمد عيسى الحريري، ثورة عمر بن حفصون زعيم المولدين في الجنوب الأندلسي (دار الكتاب الجامعي القاهرة ط الأولى 1402هـ/1982م) وللأستاذ حسين مؤنس تعليق طريف لاستمرارية ثورة ابن حفصون وعجز جيوش الإمارة عن سحقها. انظر د. حسين مؤنس: رحلة الأندلس حديث الفردوس المفقود (القاهرة، الشركة العربية للطباعة والنشر، ط الأولى 1963م) ص249. 2- ابن الفرضي 1/13. 3- ولد الأمير المنذر سنة 229هـ أمه أم ولد تسمى أثل، تولى الإمارة يوم الأحد 9 ربيع الول سنة 273هـ كان أسمر، جعد الشعر، بوجهه أثر جدري، يخضب بالحناء والكتم، شجاعاً: صارماً، ذا عزم وحزم. انظر: ابن الفرضي 1/13-14 جذوة المقتبس ص11 البيان المغرب 2/113-114،120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 زائداً لم يبق برية1 منافق2" وذلك لشجاعته وحزمه وفي يوم السبت 15 من شهر صفر سنة 275هـ3 (30يونيو 888م) توفي الأمير المنذر وهو محاصر لقلعة ابن حفصون ببشتر4. فتولى الإمارة من بعده أخوه   1- رية: إقليم في جنوب شرق الأندلس عاصمته مالقة، وكلمة رية مأخوذة من اللاتينية REGIO أي الملكية، أو هي تعني عند القوط: سلطانة، فهي سلطانة البلاد، اشتهرت بخيراتها الزراعية الوفية، بالذات أشجار الموز والتين، كانت منزلاً لجند الأردن عندما تم توزيع الجند الشاميين. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، تعليق رقم 45، الحلة السيراء 1/61-62،حاشية رقم 1، المغرب في حلى المغرب 1/423، ARABICO-ESPANOLOL: P.48. 2- البيان المغرب 2/120. 3- ابن الفرضي 1/14. 4- ببشتر BOBASTROحصن يقع جنوبي قرطبة على مسافة ثمانين ميلا، وصف بأن الأبصار تزل عنه فكيف بالأقدام، بني على صخرة صماء منقطعة لها بابان، ويتوصل إلى أعلاها من شعب يسلكه الداخل الخفيف، وطريقه عند الطلوع والهبوط على النهر، وأعلى الصخرة سهلة مربعة غزية المياه ولهذا الحصن قرى كثيرة وحصون، وماحوله كثير المياه والأشجار، انظر: الروض المعطار ص79. هذا وقد خلط بعض المؤرخين بين ببشتر وبربشتر. انظر: البيان المغرب 2/117. وبربشتر تقع في منطقة الثغر الأعلى. انظر: الروض المعطار ص90-91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الأمير عبد الله1، وهذه حالة فريدة في تاريخ الدولة الأموية بالأندلس، إذ أن نظام الحكم فيها وراثي محدد في الولد بعد أبيه2. وقد تباينت الآراء في الأمير عبد الله بين ذم وثناء3، واتُهم بقتل أخيه الأمير المنذر4، وعندما تولى الإمارة كانت الفتن مندلعة في كافة أرجاء الأندلس5، حتى أن قصر الإمارة في قرطبة لم يعد بمنأى عنها6، وأصبحت الإمارة الأموية تكتفي في أكثر أيام الأمير عبد الله بأخذ مقدار   1- ولد الأمير عبد الله في النصف من ربيع الآخر سنة 229هـ، أمه أم ولد تسمى بهار أو عشار، كان بصيراً بلغة العرب، فصيح اللسان. حسن البيان، حافظاً لأشعار العرب محباً للعلم وأهله، وصف بأنه كان أبيض أصهب، مشرباً بحمرة، أزرق، أقنى، يخضب بالسواد، ربعة إلى الطول، عظيم الكراديس. انظر، ابن الفرضي 1/14، جذوة المقتبس ص12، البيان المغرب 2/120-121، 151. 2- ذكر ابن حزم أن الأمير الحكم الربضي كان قد جعل الأمر من بعده لولديه عبد الرحمن ومن ثم المغيرة، لكن عبد الرحمن خلع أخاه. انظر: جمهرة أنساب العرب ص98. 3- انظر: العقد الفريد 4/497، المقتبس، طبعة: انطونيه ص 33-41، البيان المغرب 2/152-153. أعمال الأعلام 2/26. 4- عن هذه المسألة انظر: د. محمد إبراهيم أبا الخيل، الأندلس في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري 275-300، (الرياض، مطبوعات مكتبة الملك عبد العزيز 1416هـ/1995) ص79-82 ومصادره. 5- المقتبس، طبعة انطونية ص9-32. 6- المصدر السابق ص92،93،102. أخبار مجموعة ص151، الإحاطة 4/40-41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 من المال من بعض أهل الطموح، ليعتبر ذلك إعلاناً للتبعية1، وهذا في الوقت الذي كانت فيه سلطة الأمير الحقيقية لا تتجاوز قرطبة وقراها المجاورة، وهي السمة الغالبة على أكثر سني حكمه. ورغم أن الأمير لم يفقد رباطة جأشه أمام تلك الشدائد2، إلا أنه بالمقابل كان يشعر بإحباط داخلي فقد معه الثقة بالآخرين، الأمر الذي نتج عنه قتله لاثنين من إخوته، ومثلهما من أبنائه، وظل طيلة سني حكمه في صراع مع ثوار الأندلس حتى وفاته ليلة الخميس الأول من شهر ربيع الأول سنة 300هـ3 (16 أكتوبر 912م) . هذا هو عصر الإمارة الذي امتد أكثر من قرن ونصف القرن تعاقب خلال تلك الحقبة على الحكم سبعة أمراء، وإذا كان الأمير عبد الرحمن بن معاوية قد استغرق فترة حمكه في مواجهات مستمرة مع مناوئيه، فإن تلك الفترة تعتبر فترة تأسيس للدولة وترسيخ لقواعدها، ووضع أسسها العامة إدارياً وعسكرياً، والتي كفل الأخذ بها -بعون الله تعالى- استمرارية حكم   1- أخبار مجموعة ص 151-152. 2- د. حسين مؤنس، معالم تاريخ المغرب والأندلس، (القاهرة، دار مطابع المستقبل، 1980م) ، ص 304-305. 3- ابن الفرضي 1/14 نقط العروس ص 78-79. المقتبس، طبعة أنطونية ص 50-147 د. محمد إبراهيم أبا الخيل، المرجع السابق، ص105-309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الأمويين في الأندلس مدة تزيد على ثلاثة أضعاف ما عاشته دولة أسلافهم في المشرق. كما تُعد فترة حكم الأمير عبد الرحمن الأوسط مرحلة قطف الثمرة التي غرس شجرتها وحفها بعناية من سبقه من آبائه. وأما ما يخص الصراع الذي شهده عصر الإمارة فيمكن تقسيمه إلى قسمين، جرى كل قسم منهما في مدة زمنية معينة منفصلة عن الأخرى. فالقسم الأول من الصراع الذي جرى في النصف الأول من ذلك العصر، كان صراعاً بين أفراد البيت الأموي، وذلك من أجل الوصول إلى السلطة. وعندما اختفى هذا النمط من الصراع، ظهر في النصف الثاني من عصر الإمارة صراع من نوع آخر، يتمثل في حركات وفتن متعددة، اندلعت في أرجاء البلاد، كان معظمها ذا طبيعة شعوبية أو عنصرية، وإذا كان بعض قادتها قد اكتفوا بالدفاع عن مكتسباتهم فقط، فإن بعضهم الآخر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد أخذ يهاجم قرطبة عاصمة الإمارة. وهناك حركات مناوئة قادها العرب، أرادوا من خلالها الإعلان عن وجودهم القوي في المجتمع الأندلسي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وأنه ليس بإمكان الإمارة الأموية أن تتجاهلهم، وذلك مثل بني الحجاج1 في إشبيلية2. هذه الحركات هزت أركان الإمارة الأموية، وتركت آثارها على المستوى العام للأندلس، وربما لا نبعد عن الصواب عندما نقول إنها كانت أمراً متوقعاً، وذلك نتيجة للتفاعلات الحضارية والثقافية الواردة إلى   1- عن ثورة بني الحجاج في اشبيلية والتي اندلعت في عهد الأمير عبد الله بن محمد واستمرت حتى تمكن الأمير عبد الرحمن بن محمد من القضاء عليها وإخضاع اشبيلية لقرطبة، وذلك يوم الاثنين لخمس خلون من جمادى الأولى سنة 305هـ. انظر: المقتبس، طبعة: أنطونية، ص 67-85، 110-114، المقتبس طبعة: بدروشالميتا ص69-79. د. حمدي عبد المنعم حسين، التاريخ السياسي لمدينة اشبيلية في العصر الأموي (الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة، 1407هـ 1987م) ص61-113. أبا الخيل، المرجع السابق، ص227-259 ومصادره. 2- اشبيلية sevilla مدينة قديمة، أصل تسميتها "إشبالي" معناه المدينة المنبسطة وأما اسم اشبيلية فقد أطلق عليها فيما بعد وتعني التنجيم، وبالقرب من اشبيلية يوجد جبل الشرف الشهير بأشجار الزيتون وقد خرجت اشبيلية من أيدي المسلمين في شهر شعبان سنة 646هـ. انظر: وصف الأندلس للرازي، ص92، البكري: جغرافية الأندلس وأوروبا، ص107ـ 119. ابن غالب، فرحة الأنفس في أخبار الأندلس، (نشر قطعة منه د. لطفي عبد البديع تحت عنوان "تعليق منتقى من فرحة الأنفس في تاريخ الأندلس" القاهرة مجلة معهد المخطوطات العدد الأول القسم الثاني 1375هـ/1955م) ص 292-293، الروض المعطار ص58-60 د. حمدي عبد المنعم، التاريخ السياسي لمدينة اشبيلية ص7-26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الأندلس من أقطار شتى، بالإضافة إلى التنافس الاجتماعي القوي بين أفراد المجتمع الأندلسي، كل هذا نتج عنه أفكار ورؤى وتطلعات تجسدت في حركات مناوئة. الغرض منها إثبات الذات لزعماء تم تجاهلهم، وإحداث تغيير يلبي مصالح المجتمع، ويلغي استئثار فئة معينة من فئات المجتمع بأوضاع تميزهم عن البقية دون وجه حق. لأجل ذلك فإن إطلاق مصطلح "عصر دويلات الطوائف الأولى1" على النصف الثاني من عصر الإمارة، والذي يشغل تقريباً فترة النصف الثاني من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) هو تعبير مختصر عن وضع كانت البلاد تعيشه طيلة تلك الفترة. أما عصر الخلافة الذي استمر مائة وست سنوات، فيمكن تقسيمه إلى ثلاث مراحل، الأولى منها هي مرحلة عصر قوة الخلافة، وهو العصر الذي كان الخليفة فيه متمتع بكافة المؤهلات التي تمكنه ليس فقط من إصدار القرارات، بل مع ضمان سرعة تنفيذها. وهذه المرحلة لم يكتب لها البقاء طويلاً، إذ أن عمرها لا يتجاوز نصف قرن، وذلك إذا جعلنا تاريخها يبدأ من إعلان الأمير عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله2 نفسه خليفة في   1- في التاريخ العباسي والأندلسي، ص366. 2- ولد الأمير عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد يوم الخميس منتصف شهر رمضان 277هـ أمه أم ولد تسمى مزنة، قتل والده بعد ولادته بأحد وعشرين يوماً، فتربى عند جده الأمير عبد الله، وليلة وفاته تولى الإمارة عبد الرحمن بن محمد، كان شهماً صارماً أخمد الله على يديه نيران الفتن المستعرة في أرجاء الأندلس، ودخل الناس في طاعته، كان أبيض ربعة، أشهل، حسن الجسم، جميلاً، يخضب بالسواد. انظر: ابن الفرضي 1/14-15، البيان المغرب 2/156-157، 213-234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الأندلس، وذلك يوم الخميس مستهل ذي الحجة سنة 316هـ1 (15يناير 929م) . وكانت الإمارة الأموية في الأندلس في مطلع القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) لا تسيطر إلا على قرطبة وقراها، فتمكن الخليفة عبد الرحمن بن محمد الشهير بالناصر من بسط نفوذه على المدن التي خرجت عن نطاق سيطرة قرطبة، وكان يعتمد على المركزية المطلقة في الحكم، شديد التمسك بها2، حتى أنه كان يناقشها مع بعض الوفود الدبلوماسية التي تقدم إلى قرطبة لزيارته3، ولكنه مع كل هذا كان يجيد التعامل مع أنصاره ومناوئيه على السواء، فقد امتاز بالوفاء بالعهد، وإكرام من أتاه طائعاً، الأمر الذي ساعده كثيراً في السيطرة على البلاد4.   1- المقتبس، طبعة بدروشالميتا، ص241-242، البيان المغرب 2/198-199. 2- ستانلي لين بول، العرب في أسبانيا (ترجمة: علي الجارم، القاهرة، دار المعارف 1947م) ، ص99. 3- محمد عنان، دولة الإسلام في الأندلس: 1/2/417. 4- المغرب في حُلى المغرب، 1/182-185. عندما تطرق ليفي بروفنسال لذكر عبد الرحمن الناصر وصفه بقلة الورع، وأنه صاحب تقوى ظاهرية، وأن خوفه من الفقهاء هو الذي حال بينه وبين تولية منصب قضاء الجماعة لأي شخصية من أصل أندلسي، وذلك لشدة تسامحه مع اليهود والنصارى الذي لم يشعر تجاههم بأي تعصب، كما كان عصره فترة ازدهار لهم. انظر:L.PROVENCAL: HISTOIRE DE L’ESPAGNE MUSLMANE. 3.VOLS. PARIS 1950, T,11,P:3. هذه نظرة مؤرخ معادٍ للإسلام وأهله ولذا فليس من المستغرب أن يأتي منه أكثر من هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 كما عُرف عن الخليفة عبد الرحمن الناصر حزمه ويقظته وعدم خلوده للراحة، ومما يدل على ذلك، أنه بالرغم من استمرار حكمه مدة خمسين سنة وسبعة أشهر وثلاثة أيام، إلا أنه عندما أخذ يعد الأيام التي صفى له سرورها من هذه المدة الطويلة، لم يجد إلا أربعة عشر يوماً فقط1. وبعد حياة حافلة بالمنجزات الهائلة توفي الخليفة عبد الرحمن الناصر وذلك يوم الأربعاء 3 رمضان سنة 350هـ2 (16 أكتوبر 961م) فتولى الخلافة من بعده ابنه الحكم المستنصر بالله3، وذلك يوم الخميس 4   1- البيان المغرب 2/168. 2- ابن الفرضي 1/14. 3- ولد الخليفة الحكم المستنصر بالله يوم الجمعة عند صلاتها. غرة رجب سنة 302هـ. أمه أم ولد إسمها مرجانه، وصف بأنه كان أبيض مشرباً بحمرة، أعين، أقنى، جهير الصوت، قصير الساقين، ضخم الجسم، غليظ العنق، عظيم السواعد أفقم. انظر: ابن الفرضي 1/15، المقتبس، طبعة بدرو شالميتا، ص101-102، البيان المغرب، 2/233، سير أعلام النبلاء، 16/230-231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 رمضان1 (17 أكتوبر) ، وقد كان الخليفة الحكم معروفاً بحسن السيرة2 والفضل والعدل3، رفيقاً بالرعية4، من أهل الدين والعلم، إماماً في معرفة الأنساب، حافظاً للتواريخ، مميزاً للرجال5، مكرماً للقادمين عليه من العلماء، جماعة للكتب، آثر العلم على لذات الملوك6. وعندما استلم الحكم المستنصر بالله الخلافة كان لديه رصيد هائل من التجربة التي اكتسبها من طول ملازمته لوالده، ويبدو أنه كان متأثراً به لدرجة أن الناس لم يعدموا من عبد الرحمن الناصر إلا شخصه، أما ماعدا ذلك فكأنه كان موجوداً بينهم7، وذلك إذا استثنينا عدم اتباع الخليفة الحكم المستنصر بالله للمركزية المطلقة في إدارة الدولة   1- ابن الفرضي 1/15. 2- جذوة المقتبس ص 13. 3- الحلة السيراء 1/200. 4- جمهرة أنساب العرب ص100. 5- أعمال الأعلام 2/41. 6- نفح الطيب 1/395. 7- المصدر السابق 1/382. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ، فقد كان حاجبه جعفر بن عثمان المصحفي1 هو القائم بتدبير الأمور الموكل إليه تصريفها2. وقد كان الخليفة المستنصر بالله شديد الاهتمام برعيته، مراقباً الله تعالى فيهم، فوظف الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي الذي كانت تعيشه دولته، فيما يعود بالمنفعة على الرعية، وتفرغ هو لطلب   1- جعفر بن عثمان بن نصر بن عبد الله القيسي المصحفي، من برابر بلنسية، كان والده مؤدباً للحكم بن عبد الرحمن الناصر، فلما توفي عثمان سنة 327هـ قرب الحكم إليه جعفراً المصحفي، وجعله كاتباً عنده، وفي عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر تقلب جعفر في عدة مناصب، وبعد أن تولى الحكم الخلافة استوزر جعفراً وولاه كتابته الخاصة بالإضافة إلى الشرطة وخدمة ابنه الأمير هشام، وظل جعفر موضع ثقة الخليفة الحكم وأقرب الناس إليه طيلة عهده، ثم تولى الحجابة لهشام المؤيد، إلا أن المنصور ابن أبي عامر تسلط عليه فحاكمه وصادره وأهانه وسجنه بالمطبق حتى هلك سنة 372هـ. انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 898، جذوة المقتبس، ترجمة رقم 353، ابن بسام، الذخيرة، (تحقيق: د. إحسان عباس، ليبيا -تونس، الدار العربية للكتب، 1399-1979م) ، ق4 م1 ص58-70. الفتح بن خاقان، مطمح النفس، (تحقيق: محمد علي شوابكه، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1403هـ/1983م) ، ص153-166. الحلة السيراء 1/257-267، البيان المغرب 2/260-272. 2- البيان المغرب 2/251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 العلم ومجالسة العلماء1، وبذل بلا حدود في سبيل اقتناء الكتب، حتى تجمعت لديه مكتبة قل نظيرها2. وعندما شعر الخليفة الحكم، المستنصر بالله، بالضعف في بدنه، سارع إلى أخذ البيعة بولاية العهد من بعده لابنه هشام3، وذلك في يوم السبت مستهل جمادى الآخرة سنة 365هـ4 (5 فبراير 976م) .   1- الحلة السيراء 1/201. 2- جمهرة أنساب العرب ص 100، الحلة السيراء 1/204-207. 3- ولد هشام يوم الأحد 8 من شهر جمادى الآخرة سنة 354هـ، أمه تدعى صبح البشكنسيه بويع بالخلافة صبيحة يوم الاثنين الرابع من شهر صفر سنة 366هـ، كان أبيض أشهل، أعين خفيف العارضين لحيته إلى الحمرة، حسن الجسم قصير الساقين، مائل إلى العبادة والانقباض، مغفَّل يصدق تراهات الخبثاء. انظر: ابن الفرضي 1/15، البيان المغرب 2/249، 253، أعمال الأعلام 2/48، 58، ذكر بلاد الأندلس 1/173-174. 4- البيان المغرب 2/249. لقد وقع الخليفة الحكم المستنصر بالله في خطأ ترك أثاره على الأندلس والوجود الإسلامي هناك، فبالرغم من الصفات الحسنة التي اشتهر بها ذلك الخليفة، إلا أنه أسند ولاية العهد من بعده لابنه الذي لم يبلغ الحلم، كل هذا وقوعاً منه تحت تأثير العاطفة وحبه لولده وأم ولده وتحسين بطانته له هذا الفعل الشنيع لأن تلك البطانة السيئة لم تنظر أبداً إلا لمصلحتها هي فقط، ولعل جعفر المصحفي كان له أكبر الأثر في هذا الأمر، فمنذ أن شاع الخبر بأن صبحاً البشكنسية زوجة الخليفة الحكم، حبلى بادر جعفر فألقى قصيدة بين يدي الخليفة يهنئه فيها بهذا الخبر السعيد، وبما أن الخليفة قد عرف عنه كلفه الشديد بالولد لأنه لم يرزق بمولود رغم تقدمه بالسن، لذا فقد استغل المصحفي هذا الأمر، وبادر إلى ترشيح ذلك الجنين بولاية العهد ومن ثم الخلافة، ومما جاء في تلك القصيدة قوله: هنيئاً للأنام وللإمام ... كريم يستفيد على كرام مرجى للخلافة وهو ... ماء مأمول لآمال عظام وما إن وضعت صبح مولودها، حتى بادر هذا الحاجب الوصولي فارتجل قصيدة بهذه المناسبة بين يدي الخليفة الذي أعياه طول الانتظار لإطلالة هذا المولود على الدنيا ومما جاء في تلك القصيدة: اطلع البدر من حجابه ... واطرد السيف من قرابه وجاءنا وارث المعالي ... ليثبت الملك في نصابه والمصحفي في قصيدته الثانية يؤكد ما أملاه على سيده في قصيدته الأولى كل هذا بأسلوب نفسي بارع جعل الخليفة يقع تحت تأثيره: انظر: البيان المغرب 2/237. الذخيرة، ق4م1 ص 53. د. عبد السلام الهراس: الأندلس بين الاختبار والاعتبار، محاولة لدراسة ضياع الأندلس وسقوطها من الفتح إلى نهاية العصر الأموي، (من بحوث ندوة الأندلس قرون من التقلبات والعطاءات، المنعقدة في الرياض من 15-19 جمادى الأولى 1414هـ، مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض) ص 11-12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وأما المرحلة الثانية من مراحل عصر الخلافة، فهي التي سيطر فيها العامريون على الخلافة، فبعد أن توفي الخليفة الحكم ليلة الأحد لثلاث خلون من شهر صفر سنة 366هـ1 (الأول من أكتوبر 977م) حرص مجلس   1- الذخيرة ق4 م1 ص58-59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الوصاية المكوَّن من الحاجب جعفر المصحفي وغالب بن عبد الرحمن الناصري1 ومحمد بن عبد الله بن أبي عامر2   1- هو القائد الأعلى أبو عثمان غالب بن عبد الرحمن الناصري، شيخ موالي الأندلس قاطبة، وفارس الأندلس في عهده، تولى القيادة العليا للجيوش الأندلسية، ولقب لوحده بذي السيفين، استعان به ابن أبي عامر للتخلص من جعفر المصحفي، ثم انقلب عليه، فجرى الصدام العسكري بينهما، وقد مات غالب فجأة يوم السبت الرابع من شهر محرم سنة 371هـ وعمره نحو ثمانين عاماً. انظر: نقط العروس، ص81-82، المقتبس: (تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، بيروت، دار الثقافة، 1983م) ، ص69، 102، 108-109، 126، 130-136، 145-146، 174-182، 194-200، 219-223، البيان المغرب: 2/221، 240، 241-246، 247، 248، 265-267، 268-296، أعمال الأعلام 2/61-65. 2- محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر المعافري، أصله من الجزيرة الخضراء، قدم قرطبة شاباً، فبرع في طلب العلم، ثم اتصل بصبح البشكنسيه زوجة الخليفة الحكم، فنصبته لخدمتها وخدمة ابنها عبد الرحمن، فلما توفي تولى ابن أبي عامر خدمة الأمير هشام، ومن ثم تولى عدة مناصب إدارية في عهد الخليفة الحكم المستنصر، انظر: جذوة المقتبس، ترجمة رقم 121، مطمح الأنفس ص388-397، الذخيرة ق4 م1 ص56-78، الضبي، بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس، (نشر: فرانسيسكو كوديرا، وخليان ريبيرا، مدريد، مطبعة روخس، 1884م) ، ترجمة رقم 242. الحلة السيراء 1/268-277. ابن الأبار، التكملة لكتاب الصلة، (نشر: فرانسيسكو كوديرا، مدريد، مطبعة روخس، 1887م) ، رقم 1914م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 بالإضافة إلى صبح والدة هشام1، على تنفيذ وصية الخليفة بتولية ابنه هشام من بعده2 فتم لهم ذلك. وقد وقع الخليفة الصبي تحت سيطرة ابن أبي عامر، الذي أصبح أمر الدولة بيده، وذلك بعد أن تجاوز كافة الموانع المادية والأخلاقية التي كانت تحول بينه وبين هدفه، وبذلك قوي أمره، ولم يعد للخليفة أي سلطان. وقد أثار تسلط ابن أبي عامر على الخليفة سخط الأمويين، فدبر عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر 367هـ3 (977م) محاولة انقلابية للتخلص من ابن أبي عامر وإقصاء هشام عن الخلافة، ودبر الأمر مع عبد الرحمن بعض وجهاء المجتمع الأندلسي وبايعوه بالخلافة، منهم عبد الملك بن منذر بن سعيد البلوطي4، صاحب خطة   1- صبح أو صبيحة، ترجمة لكلمة Aurora ومعناها الفجر أو الصباح الباكر، كان الخليفة الحكم المستنصر بالله يسميها جعفر، وكانت مغنية حظية عنده، توفيت في حياة ابنها هشام المؤيد. أنظر البيان المغرب 2/253. 2- المصدر السابق 2/249، 260-262. 3- الحلة السيراء 1/280. 4- أبو مروان عبد الملك بن منذر بن سعيد البلوطي، ولد سنة 328هـ، سمع من أبيه وغيره، وكان عبد الملك متهماً بالاعتزال، تولى خطة الرد أيام الخليفة الحكم المستنصر بالله، الذي كان كثيراً ما يبعث به أميناً ليتعرف على أحوال الناس في الكوروسير عمالهم فيهم. انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 823، ابن حزم، طوق الحمامة، (تحقيق: حسن صيرفي، القاهرة، المكتبة التجارية الكبر، بدون تاريخ) ، ص45، المقتبس، تحقيق د. عبد الرحمن الحجي ص100،104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الرد1، وزياد بن أفلح2، صاحب المدينة، إلا أن المؤامرة فشلت، فقتُل عبد الرحمن بن عبيد الله، كما صُلب عبد الملك بن منذر على باب السدة3، وذلك يوم الخميس للنصف من جمادى الآخرة سنة 368هـ4 (يناير 979) .   1- طوق الحمامة، ص45. 2- زياد بن أفلح، أحد زعماء الصقالبة، ومن وزراء العامريين وكبار رجالهم، كان يلي المدينة، وقد اشترك في المخطط الانقلابي، إلا أنه عندما أدرك فشل المحاولة انقلب على أصحابه مخافة افتضاح أمره، وهو الذي أيد صلب عبد الملك بن منذر وقد توفي زياد سنة 368هـ دون أن يُكشف أمره، إذ أعانه أحمد بن محمد بن عروس على ذلك. انظر: الحلة السيراء 1/278-280، والحاشية رقم 2. 3- باب السدة: هو الباب الرئيسي لقصر الحكم بقرطبة، يقع على مقربة من الرصيف، ويعلوه السطح المشرف، وسوف نتعرف فيما بعد على أهمية هذا الباب. وعنه انظر: قرطبة حاضرة الخلافة 1/191-192. Balbas: Bub Al Sudda y los Zudas de la Expana oviental Al Andalus Fasc. 1,2, vol, xvll, 1952, p: 165-175. 4- ابن الفرضي ترجمة رقم 823، طوق الحمامة، ص45، الحلة السيراء 1/278 حاشية رقم 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ومنذ تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة شعر ابن أبي عامر بخطورة الأمويين عليه، فاستخدم معهم أسلوباً قاسياً، لشل حركتهم، وجعلهم دائماً تحت رقابته، فقد بث عليهم العيون، وفرض عليهم الإقامة الجبرية في منازلهم، لا يغادرونها إلا لضرورة قصوى، كما منع الزيارات عنهم إلا لمن يأذن فيه من غلام أو وكيل أو معلم أو طبيب، وفوق كل ذلك كان يصطحبهم معه أثناء خروجه للغزوات، حتى ذلوا وانكسرت نفوسهم واشتغل كل منهم بأمره1. وإمعاناً من ابن أبي عامر في الاحتياط لنفسه، ولشدة إعجابه بالخليفة عبد الرحمن الناصر وحرصاً منه على التشبه به، ابتدأ سنة 368هـ (979م) ببناء مدينة الزاهرة2، وبعد اكتمالها انتقل إليها واستوطنها ونقل إليها كافة دواوين الدولة3، وأمر كل من له حاجة أن يأتي إلى مدينته بدلاً من قصر الخليفة وأصبح هو الآمر الناهي، بعد أن   1- أعمال الأعلام 2/76-77. 2- مدينة الزاهرة Azzahira تقع شمال شرق قرطبة، مقابلة لمدينة الزهراء التي بناها الخليفة عبد الرحمن الناصر شمال غرب قرطبة، ورغم اهتمام المنصور بمدينة الزهراء إلا أنها لم تدم طويلاً، فقد خربت بعد وفاته بسبع سنين، انظر: البيان المغرب 2/275-277، الروض المعطار، ص283-284، ذكر بلاد الأندلس 1/180-181، قرطبة حاضرة الخلافة 1/258-263. 3- البيان المغرب 2/275-276، ذكر بلاد الأندلس 1/181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 حجر على الخليفة، وسد بابه، وأدار على قصره سوراً وثيقاً، وأيده بحراسة مشددة فلا يطمع أحد بمقابلة الخليفة إلا بإذن ابن أبي عامر، ولتبرير فعله هذا أشاع في الناس أن الخليفة قد فوض إليه أمر تدبير الدولة ليتفرغ هو لعبادة ربه1، وبذلك ضمن التحرر نهائياً من الخليفة وسلطانه. وكان ابن أبي عامر "المنصور" يتدرج في مناصب الدولة، وفي كل مرة يُظهر أمر الخليفة بمنحه منصباً جديداً أو لقباً إضافياً، وإن كان الواقع يشير إلى أن الخليفة ليس له من الأمر شيء، إذ لم يبق له من رسوم الدولة سوى السكة والخطبة2. ورغبة من المنصور في ترك أثر له على العمارة فقد ابتدأ سنة 377هـ (987م) بإجراء التوسعة من الناحية الشرقية لجامع قرطبة، دونما اهتمام بالزخرفة3، كما بدأ في سنة 378هـ (988م) ببناء القنطرة4 على نهر   1- أعمال الأعلام 2/62. 2- البيان المغرب 2/276. 3- المصدر السابق 2/287. 4- القنطرة: رومانية قديمة البناء، تصل بين قرطبة وريفي شقندة المسمى اليوم "الاسبيرتو سانتو" وفي الأيام الأولى للفتح الإسلامي كانت تلك القنطرة قد تهدمت وأصابها التلف ولم تعد الاستفادة منها ممكنة فلما أصبح السمح بن مالك الخولاني والياً على الأندلس كتب لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله بأمر القنطرة ووضح له أهميتها، فأذن له ببنائها بصخر سور قرطبة، فأتم ذلك سنة 101هـ، وقد جددت بعد ذلك مراراً. انظ: أخبار مجموعة ص24، رحلة الأندلس ص57-58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الوادي الكبير1، وكان فراغه منها في النصف من سنة 379هـ (989م) بعد أن بلغت تكاليف البناء حوالي مائة وأربعين ألف دينار2. ويبدو أن التدابير التي اتبعها المنصور، واستبداده بالسلطان دون الخليفة، واجراءاته التعسفية ضد الآخرين، أثارت الناس ضده، حتى أقربهم منه كرهه وكره تصرفاته، ولذا فقد تم تدبير حركة عصيان قام بها ابنه عبد الله بن المنصور بن أبي عامر3،   1- نهر الوادي الكبير Rio Guadal Quivir أهم أنهار الأندلس، من أسمائه: النهر العظيم، نهر قرطبة، واسمه القديم "بيطي Beatis" ويبلغ طوله 310 أميال، ويروي قرطبة واشبيلية، انظر: بروفنسال، الأندلس أو شبه جزيرة الأندلس، (مقال منشور ضمن كتاب الأندلس، ترجمة: إبراهيم خورشيد وغيره، بيروت، دار الكتاب اللبناني، القاهرة دار الكتاب المصري ط الولى 1980) ص76. 2- نفح الطيب 1/408. 3- كان عبد الله بن المنصور قد وجد في نفسه على أبيه، بسبب تقديمه لأخيه عبد الملك مع أن عبد الله يرى نفسه أنه أفرس وأفهم وأشجع من أخيه عبد الملك، لأجل هذا نزح إلى سرقسطة واتفق مع صاحبها عبد الرحمن بن مطرف على التمرد، وأيدهما على ذلك قومس قشتالة غارسيه بن فردلند Carci Fernalndez مما كان سبباً في وقوعه أسيراً في يد المنصور وذلك في 15 ربيع الثاني سنة 385هـ. انظر: ديوان ابن دراج القسطلي، (تحقيق وتعليق: د. محمود علي مكي، طبع على نفقة الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، دمشق، منشورات المكتب الإسلامي، 1380هـ) ، ص362 والحاشية رقم 2، والقصيدتان رقم 112،118 والتعليق عليهما. البيان المغرب 2/283-284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وعبد الرحمن بن مطرف1، صاحب سرقسطة2، والوزير عبد الله بن عبد العزيز المرواني3 صاحب طليطلة، بالإضافة إلى جماعة من وجوه أهل   1- عبد الرحمن بن مطرف بن محمد بن هاشم التجيبي، من أسرة عربية استقرت في إقليم أرغون منذ الأيام الأولى للفتح، وعبد الرحمن بن مطرف عندما رأى فتك المنصور برجالات الدولة علم أنه لم يبق غيره، فخشي على نفسه، وأيد عبد الله بن المنصور في الخروج ضد أبيه. انظر: الحلة السيراء، 2/79 حاشية رقم 1. البيان المغرب 2/282، د. عبد الواحد ذنون طه، الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال افريقية والأندلس، (الجمهورية العراقية، منشورات وزارة الثقافة والإعلام 1982م) ، ص 224-225. 2- سرقسطه Zaragoza هي إحدى القواعد الأندلسية في الشمال الشرقي للبلاد على نهر وادي الإبرو، كانت قاعدة للثغر الأعلى أيام المسلمين، وقد سقطت بيد ملك أراغون الفونسو الأول في رمضان سنة 512هـ بعد حصار دام تسعة أشهر. ولم يبق من أثار المسلمين بها إلا جزء من قصر الجعفرية نسبة لأبي جعفر أحمد بن هود والملقب بالمقتدر بالله، ومن أشهر معالمها في الوقت الحالي كنيسة "سيو Seo" التي أقيمت مكان المسجد الجامع بسرقسطه الذي اختطه حنش الصنعاني رحمه الله تعالى. انظر: وصف الأندلس للرازي، ص78-79، نصوص عن الأندلس ص22، فرحة الأنفس ص287-288، تاريخ ابن الكردبوس، ص118 حاشية رقم 2. الروض المعطار ص317، مرحلة الأندلس ص285-287. شكيب أرسلان، الحلل السندسية في الأخبار والأثار الأندلسية، (فاس، المكتبة التجارية الكبرى، 1355هـ/1936م) ، 2/114-136. 3- عبد الله بن عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز بن أمية بن الحكم الربضي، الملقب بالحجر اليابس، وبالعجمية البطرشك أو البطرة شقة Petra Sicca قلده الخليفة المؤيد بالله الوزارة مع ولاية طليطلة، كان أحد رجالات بني أمية عقلاً وشهامة وأدباً وغزارة علم، ظل سجيناً في داره حتى مات المنصور، ثم أطلقه عبد الملك بن المنصور وولاةالوزارة، ولم تطل حياته إذ توفي غازياً مع عبد الملك غزاته الأولى سنة 393هـ بمدينة لاردة. انظر جمهرة أنساب العرب ص98. الحلة السيراء 1/215-220 والحواشي المذكورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 قرطبة من الجند والخدم وغيرهم، إلا أن التدبير فشل، فقد اطلع المنصور على المخطط، وانتهى الأمر بفرض الإقامة الجبرية على المرواني في داره، ومقتل كل من عبد الرحمن بن المطرف سنة 379هـ1 (989) وعبد الله بن المنصور في يوم الأربعاء 16 من جمادى الآخرة سنة 380هـ2 (11 أغسطس 990م) . هذا ولم يكتف المنصور بأن أمضى حياته مسيطراً على الخليفة وسالباً لسلطانه: بل حرص على أن يسير خَلَفُه وفق منهجه سواء مع الخليفة خاصة أو مع الأمويين بوجه عام، ويتضح ذلك جلياً من وصيته لابنه عبد الملك، فقد جاء فيها: " ... وصاحب القصر - أي الخليفة - قد علمت مذهبه، وأنه لا يأتيك من قبله شيء تكرهه، والآفة ممن يتولاه، ويلتمس الوثوب باسمه، فلا تنم عن هذه الطائفة جملة، ولا ترفع عنها سوء ظن ولا تهمة، وعاجل بها من خفته على أقل بادره .... وإياك أن تضع يدك في يد مرواني ما طاوعتك بنانك، فإني أعرف ذنبي إليهم"3.   1- البيان المغرب 2/283. 2 - المصدر السابق 2/284. 3- الذخيرة: ق4 م1 ص 76-77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وبعد أن أمضى المنصور زهاء ربع قرن وهو مسيطر على أمور الدولة، أفنى خلالها رجالات الأندلس1، وأذل الأمويين، وأخمل ذكر أرباب البيوتات الشهيرة التي هي عماد ملك بني أمية2، وأحدث تغييراً كبيراً في الدولة، حتى أنه غير سياسة بني أمية بالكلية، "فعوَّض باللين   1- تمكن المنصور من القضاء على المصحفي بعد أن أعانه عليه غالب الناصري، ثم تخلص من الأخير بعد أن استعان عليه بجعفر بن علي بن حمدون، ثم قتل جعفراً بواسطة فارس العرب معن التجيبي، وتخلص هو من معن بقتله له. 2- البيان المغرب 2/272، لعل من أبرز ما يميز حكم بني أمية في الأندلس، أن المناصب الإدارية في دولتهم قد تم حصرها بأيدي أبناء أسر معينة، مثل آل أبي عبدة وآل شهيد وآل جهور وآل فطيس، والأمر في هذا لا يقتصر على هذه الأسر الأربع فقط، فهناك أسر أخرى سوف تتم الإشارة إليها في حينه، وإذا فتشنا عن العلاقة بين الأسرة الأموية وأي أسرة من تلك الأسر، نجد أن رابطا يربط الطرفين بعضهما ببعض منذ أيام الخلافة الأموية في الشام، وعندما قدم الأمير عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس وقف إلى جانبه عمداء تلك الأسر، وأثبتوا له صدق الولاء، وعندما استعملهم لمس منهم الوفاء والكفاءة، فاختط لبنيه وأحفاده من بعده سياسة لم يحيدوا عنها، تقوم على حصر المناصب في تلك الأسر، ليحقق بذلك نقطتين: الأولى: استمرارية ولاء تلك الأسر، والثانية: أن تلك الأسر تمثل سياج حماية قوي للأسرة الأموية، إذ أن مصيرها مرتبط بمصير الأمويين، وبذلك غدا المصير المشترك رابطاً قوياً بين الطرفين، ولذا فقد حرص الأمويون على تقوية تلك الأسر، بينما تفانت الأخيرة في حماية الأسر الأموية، لأجل ذلك فإن إقدام المنصور على إضعاف شأن تلك الأسر هو تقويض لأقوى دعائم الدولة الأموية، وعامل رئيسي من عوامل سقوطها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 غلظة، وبالسكون حركة، وبالأناة بطشه وبالموادعة محاربة1" وبعد كل هذا توفي المنصور ليلة الاثنين لثلاث بقين من شهر رمضان المبارك سنة 392هـ (أغسطس 1002) ودفن بقصره في مدينة سالم2. وقد قام بالأمر من بعد المنصور ابنه عبد الملك3، بناء على عهد صوري مُنح له من الخليفة الغلوب على أمره، ولاه فيه الحجابة مكان أبيه، وأوصاه بتدبير شؤون الدولة4.   1- البيان المغرب 2/273. 2- الذخيرة، ق4 م1 ص75، الحلة السيراء 1/273، البيان المغرب 2/301، ذكر بلاد الأندلس 1/195 ومدينة سالم Medinaceli تقع على الطريق بين مدريد وسرقسطة، وتبعد عن مدريد مسافة 135 كيلو متر، وتقع منها إلى الشمال منحرفة نحو الشرق، وهي الآن من أعمال مدينة سرية Saria ومدينة سالم من إنشاء سالم بن ورعمال بن وكذات من قبيلة مصمودة البربرية، انظر: وصف الأندلس للرازي ص79، المقتبس، تحقيق: د. محمود علي مكي، تعليق رقم 286 والمصادر المذكورة، الحلل السندسية 2/81-87. 3- هو أبو مروان عبد الملك المظفر بالله، أمه الذلفاء، وصف بأنه أسعد مولود ولد في الأندلس على نفسه وأبيه وغيرهما، كان حيياً باراً بوالديه، مراقباً لربه، محباً للصالحين، شجاعاً، اجتمع الناس على حبه، وسكنوا منه إلى عفاف ونزاهة ونقاء سريره، فتنافسوا في المكاسب، فازدهرت الأندلس، فقد كانت أيامه أعياداً دامت سبع سنين، سميت بالسابع تشبيها لها بسابع العروس. انظر: الذخيرة، ق4 م1 ص78-86، البيان المغرب 3/3-37، أعمال الأعلام 2/83-89، نفح الطيب 1/423. 4- الذخيرة، ق4 م1 ص 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وحرصاً من عبد الملك على كسب محبة أبناء المجتمع الأندلسي، فقد افتتح عهده بان أصدر أوامره بإسقاط سدس الجباية المفروضة عليهم1، كما بادر إلى تجهيز الجيوش وتولي قيادتها ضد نصارى الشمال2. وكان الوزير عيسى اليحصبي3 هو المدبر لدولة عبد الملك، إلا أنه عندما شعر بتغيره ناحيته، عمل على التخلص منه وصرف الخلافة لهشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، لكن اطلاع الحاجب على تلك المؤامرة، مكنه من إفشالها، وبالتالي قتل مدبرها اليحصبي ليلة العاشر من ربيع الأول سنة 397هـ4 (4 ديسمبر 1006م) .   1- المصدر السابق والصفحة، أعمال الأعلام 2/84. 2- انظر: البيان المغرب، 3/4-9، 11-14، 21-24. 3- أبو الأصبغ عيسى بن سعيد اليحصبي، المعروف بالقطاع، عربي من بني الجزيري، من كورة باغه، كان أول كاتب للمنصور قبل تسلطه على الخلافة، وقد حسنت منزلته لديه، وارتفعت منزلته بصورة متناهية في عهد عبد الملك المظفر، حتى أصبح هو المدبر لدولته، لكن أمره انتهى بأن قتله عبد الملك المظفر بيده في أحد مجالسه الخاصة انظر: الذخيرة ق1م1ص123-128. البيان المغرب 3/24-34 أعمال الأعلام 2/75. 4- الذخيرة ق1 م1 ص 125-127، البيان المغرب 3/30-33 إلا أنه جعل مقتله ليلة السبت 20 ربيع الأول، وبهذه المناسبة ألقى الشاعر ابن دراج قصيدة بين يدي المظفر يهنئه فيها بالتخلص من اليحصبي، ويخبره أنه بهذه الفعلة شفى قلوب الناس وحقق أمانيهم، وذلك في قصيدة مطلعها: شكراً لمن أعطاك ماأعطاكا ... ربي أذل لملكك الأملاكا انظر: ديوان ابن دراج، القصيدة رقم 14. ومن الجدير بالذكر أن الشاعر نفسه سبق وأن مدح اليحصبي بأكثر من قصيدة، انظر: المصدر السابق، القصيدتان رقم 23، 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وبعد مقتل اليحصبي بثلاثة أيام، تم إلقاء القبض على هشام بن عبد الجبار، فاعتقله عبد الملك في حجرة خاصة لمدة يومين، ثم نقله إلى حبس سبق وأن أعده له، فكان أخر العهد به1. وإذا ألقينا نظرة على حال الخليفة وأهل القصر، نجد أن الخليفة لم يكن يظهر إلا مستخفياً عن أعين الناس، في نزه مستمرة أبلغه عبد الملك المظفر فيها غايته، ومع ذلك لم يشهد الخليفة صلاة قط2. وبعد سبع سنوات قضاها الحاجب عبد الملك المظفر، وهو يحكم الدولة نيابة عن الخليفة المؤيد بالله، أدركته الوفاة قبالة دير أرملاط، وذلك في يوم الجمعة 18 صفر من سنة 399هـ3 (23 أكتوبر 1008) . وقد قام بالأمر من بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور الملقب بـ"شنجول"4 الذي كان شاباً معروفاً بفساد   1- البيان المغرب 3/34-35. 2- الذخيرة ق4 م1 ص82-83. 3- البيان المغرب 3/36-37. 4- شنجول Sanchuelo تصغير شانجة، اسم جده لأمه المعروف في المصادر النصرانية بلقب Abarca وهو شانجة الثاني بن غارسية الأول بن شانجة، ثالث ملوك البشكونس "مملكة نبارة" وتذكر المصادر أنه رغبة من هذا الملك في عقد صلح مع المنصور أهدى إليه ابنته، فقبلها المنصور واعتقها وتزوجها، وتسمت بـ"عبدة" وحسن إسلامها، وأنجبت عبد الرحمن سنة 374هـ وهي التي أطلقت عليه لقب "شنجول" تذكراً منها لاسم أبيها، خاصة أنه كان أشبه الناس به، انظر: ديوان ابن دراج، القصيدة رقم 107 وتعليق المحقق عليها، البيان المغرب 3/38، أعمال الأعلام 2/66. وقد فسر ابن الكردبوس كلمة شنجول بمعنى "أحمق" ولكن لعله أراد بذلك أن عبد الرحمن بن المنصور كان أحمقاً طائشاً، كما ذكر ذلك محقق النص. انظر تاريخ الأندلس لابن الكردبوس، ص66 والحاشية رقم 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الأخلاق1، افتتح عهده بالخلاعة والمجانة2، قلده الخليفة المؤيد بالله الحجابة مكان أخيه، ولقبه بالمأمون في كتاب أصدره بهذه الشأن، لكن شنجول أضاف لقباً آخر، هو الناصر فكان يدعى بـ"الحاجب الأعلى المأمون ناصر الدولة"3. وقد تعامل شنجول مع المنصب بكل غرور، من أجل هذا أتت تصرفاته سيئة غريبة، كما أنه تقرب إلى الخليفة بكافة السبل، حتى تمكن من استصدار قرار منه باسناد ولاية العهد إليه4. وبذلك أصبح منصب الحجابة   1- المغرب في حُلى المغرب 1/213. 2- البيان المغرب 3/39. 3- أعمال الأعلام 2/90. 4- ورد لدى ابن الأبار أن شنجول عندما حدثته نفسه بطلب ولاية العهد، استفتى بذلك فقهاء قرطبة وعلماءها، فحسنوا له ذلك، محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه" وبما أن عبد الرحمن ابن أبي عامر كان معافرياً قحطانياً، فقد قالوا عسى أن يكون هو المعني بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان قاضي الجماعة أبو العباس أحمد بن عبد الله بن هرثمة بن ذكوان، المتوفى سنة 413هـ، والوزير الكاتب أبو جعفر أحمد ابن محمد بن أحمد بن برد، المتوفى سنة 418هـ، من أشد الناس تأييداً لشنجول في هذا الأمر، ولذا قال فيها ابن أبي يزيد المصري: إن ابن ذكوان وابن برد قد ناقضا الدين بعد عمد وعاندا الحق إذ أقاما حفيد شنجة ولي عهد انظر الحلة السيراء 1/270-272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 معطلا، فولاه ولده عبد العزيز1، ولقبه بـ"سيف الدولة"2. وحسب شنجول أن الدنيا قد صفت له بعد أن حقق   1- بعد مقتل شنجول، حُمل ابنه عبد العزيز سراً إلى سرقسطة، وهناك عاش في كنف منذر بن يحيى التجيبي، وظل عنده إلى أن استدعاه العامريون إلى شاطبه، فتولاها سنة 411هـ وعمره خمس عشرة سنة وأشهرا ثم طردوه منها سنة 412هـ فذهب إلى بلنسية، فرحب به من كان فيها من العامريين، ثم ولوه رئاستها سنة 417هـ، وتلقب بالمؤتمن والمنصور، وقد بلغت بلنسية في عهده أوج اتساعها، وكان عبد العزيز على درجة عالية من الأخلاق الكريمة، فوصل رحمه، وأوى إليه قرابته، فأغنى فقيرهم، وجبر كسيرهم، وظل في الإمارة حتى توفي سنة 452هـ. انظر: ديوان ابن دارج. القصيدتان رقم 133،145. أعمال الأعلام 2/194-195. محمد عنان، دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي، (القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط الأولى 1380هـ/1960م) ص210-213. كيليا سارنللي تشركوا، مجاهد العامري، قائد الأسطول العربي في غربي البحر المتوسط في القرن الخامس الهجري، (القاهرة، لجنة البيان العربي، 1961م) ص81-83. 2- البيان المغرب 3/47. أعمال الأعلام 2/94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 مراده، فاتجه بكليته إلى طلب ملذاته، وتلبية شهواته، وأحاط نفسه بمن هم على شاكلته من إخوان السوء وأدنياء القوم عمر بهم مجالسه1. وضعف نظر شنجول عن رؤية أي شيء في الدولة يحتاج إلى إصلاح، ولذا فقد كان القرار الإصلاحي الأول الذي أصدره مفاجأة غير سارة لرجالات الدولة، فقد أمر الوزراء وأصحاب المناصب العليا بطرح القلانس الطوال المرقشة الملونة، والتي تميزهم عن غيرهم، وأمرهم بلبس العمائم البربرية وتوعد بالعقوبة من يخالفه2. وعندما أعلن الجهاد، لمواصلة المسيرة العسكرية لأبيه وأخيه، لم يستجب له إلا المرتزقة ويسير من المطوعة3، ثم ارتكب حماقة كبيرة عندما خرج بمن استجاب له في أشد أوقات السنة برودة4، وسلك طريقا يدعى بالعريان5، فاقتحم أرض جليقية6، من قبل طليطلة، وهو   1- البيان المغرب 3/47-48، أعمال الأعلام 2/94. 2- البيان المغرب 3/48. 3- المصدر السابق 3/39. 4- نفسه 3/66. 5- ذكر ابن عذاري أن شنجول عندما سلك هذا الطريق، تفائل له قوم من الناس وقالوا: أعرى هذا الفتى. البيان المغرب 3/39. 6- جليقية هي المنطقة الممتدة من نهر دويرة جنوباً حتى الساحل الشمالي لأسبانيا ومن ساحل البحر المحيط لها حتى منطقة قشتالة، انظر: البكري، جغرافية الأندلس وأوروبا، ص 71-73، الروض المعطار ص169، ويعتبر الفونسو الأول بن بطره حاكم إمارة كانتبريا المؤسس الحقيقي لمملكة جليقية، وذلك حوالي النصف الأول من القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) انظر: د. عبد الرحمن علي الحجي، اندلسيات، المجموعة الثانية، (بيروت، دار الإرشاد، ط الأولى 1389هـ/ 1969م) ص42. وأما اليوم فإن إقليم جليقية هو الركن الشمالي لأسبانيا وهو يضم أربع مديريات تحمل كل منها اسم عاصمتها، وهي في مجموعها ولايات بحرية، يعمل أهلها بالزراعة وتربية الماشية وصيد السمك وبناء السفن. انظر: رحلة الأندلس ص362-363. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 على حاله في المجانة والخلاعة1، فلما وصل طليطلة بلغه نبأ اندلاع الفتنة في قرطبة، فكر راجعاً إليها، وعندما بلغ قلعة رباح2 تبرأ من ولاية   1- البيان المغرب 3/48. 2- قلعة رباح Calatrava من عمل مدينة جيان، تقع بين قرطبة وطليطلة، وتوصف بأنها مع مدينة طلبيرة حد فاصل بين أرض النصارى وأرض المسلمين، وفي العصر الحالي تتبع المدينة الملكية Ciudad real في إقليم لامنشا La Mancha. وقلعة رباح تبعد عن هذه المدينة بإثنى عشر كيلو متر إلى الشمال الشرقي منها، واكتسبت اسم رباح نسبة للتابعي الشهير علي بن رباح اللخمي الذي دخل الأندلس مع موسى بن نصير رحمهما الله تعالى. وقد سقطت قلعة رباح مع طليطلة في يد الفونسو السادس ملك قشتالة وذلك سنة 478هـ ثم استعادها أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي بعد انتصاره في معركة الأرك سنة 591هـ، ثم خرجت من أيدي المسلمين نهائياً عندما استولى عليها الفونسو الثامن ملك قشتالة سنة 609هـ، وقد أصبحت فيما بعد مقراً للنظام الديني الرهباني المسمى La order de calitrava الذي تجرد لمحاربة المسلمين، انظر المقتبس، تحقيق د. محمود مكي التعليق رقم 478، الحلة السيراء 2/177 حاشية رقم3، الروض المعطار ص 469. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 العهد، وأعلن اقتصاره على الحجابة، وأرسل كتاباً بذلك لكن أحداً لم يأبه به1، فعزم على دخول قرطبة وأصر على ذلك2، رغم نصيحة البعض له بالفرار3، فكان في إصراره حتفه، فقد قتل بمنزل أم هانئ عند دير أرملاط، وذلك عقب مغرب يوم الجمعة لأربع خلون من رجب سنة 399هـ4 (4 مارس 1009م) .   1- البيان المغرب 7/69. 2- كان شنجول يأمل بالحصول على أمان من محمد المهدي بن عبد الجبار، وذلك بواسطة بعض وجهاء أهل قرطبة وبالذات قاضي الجماعة ابن ذكوان لكن أمله خاب، إذ أن ابن ذكوان كان أشد الناس عليه عند المهدي مما حال بينه وبين الأمان. انظر المصدر السابق 3/71. 3- كان مع شنجول أحد النصارى، تربطه أواصر قربى بأم شنجول يدعى قومس بن غرسية الذي عندما رأى اضطراب حال شنجول انفرد به، فقال له "أرى أحوالك منتقضة وأمورك مدبرة وجندك مخالفين لك فأخبرني عن هذا الرجل الذي في قرطبة أأنت أشرف أم هو؟ قال: بل هو. قال: الناس أميل إليك أم إليه؟ قال: ما أراهم إلا إليه أميل، فقال: هذا دليل ردي، قال شنجول: فما الرأي عندك؟ قال: الرأي عندي أن ترحل وأرحل معك بأصحابي الليلة. خذ باليقين وضع الظن فأمرك والله مختل وجندك عليك لا لك، فقال: لابد من الإشراف على قرطبة. فقال له: أنا معك على كراهة لرأيك، وعلم بخطئك فإن عشت عشتُ معك، وإن متَّ متُّ معك". البيان المغرب 3/70. 4- المصدر السابق 3/72-73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وأما المرحلة الثالثة التي مرت بها الخلافة الأموية في الأندلس، فهي مرحلة عصر الفتنة التي استمرت من سنة 399-422هـ (1009-1031م) وأعقبها سقوط الدولة فمنذ أن سيطر المنصور بن أبي عامر على الدولة الأموية، وحجر على الخليفة هشام المؤيد بالله، واستبد بالأمر من دونه، وطارد الأمويين وضيق عليهم، واستهان بأهل البيوت المساندة للبيت الأموي، وأهمل ذكرها، وأخل بتركيبة الجيش، وحكم البلاد بصورة سلطوية ورأي فردي لا يقبل النقاش، منذ أن فعل ذلك، لابد أن نتوقع رد فعل عنيف يتحالف فيه الجميع على إزالة هذا الكابوس، رغم أن ذلك الجمع المتحالف لا يكن أعضاؤه الود بعضهم لبعض، لكن المصلحة اختطت لهم جادة واحدة وأجبرتهم على السير فيها. فالحاكم السلطوي المستبد، الذي لا يرى إلا ذاته، ويحكم بالقهر والغلبة، يحدث عقب وفاته فراغ سياسي هائل، لا يمكن ملؤه بسهولة، وإن ساد الهدوء الأعوام القلائل التالية لعهده، فلكونها لازالت متأثرة بشخصيته، ولكن هذا التأثير لا يلبث أن يزول، فيحل المحذور وتعم الفوضى. وهذا ما حدث عقب وفاة المنصور، فقد قام بالأمر من بعده ولده المظفر، مستفيداً من شخصية والده التي ألقت بظلالها على سنوات حكمه، وما أن توفي المظفر حتى هان أمر العامريين على الجميع، وأصبحت عملية إزالتهم مسألة وقت لا أكثر، وبدلاً من أن يعمد شنجول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 إلى الإبطاء بتلك الإزالة، نراه يدفع بعجلتها بكل حماقة بقوة نحو النهاية، وذلك بادعائه لولاية العهد. ولم يكن التنظيم للحركة التي دُبرت ضد سلطة العامريين، وليد عهد شنجول، بل إن البذرة الأولى يمكن القول بأنها قد وضعت في عهد والده المنصور، وذلك في سنة 367هـ (978م) عندما تم ترشيح عبد الرحمن بن عبيد الله ابن عبد الرحمن الناصر لدين الله من قبل بعض الفقهاء والقضاة ليتولى الخلافة بدلاً من المؤيد، ثم جرت محاولة أخرى سنة 379هـ (989م) كان الوزير عبد الله بن عبد العزيز المرواني أحد منظميها. وفي عهد عبد الملك المظفر كانت المحاولة الإنقلابية أكثر قوة وأشد وضوحاً، فقد اختار أصحاب المحاولة هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر لتولي الخلافة، وكادت أن تنجح لولا أنها أُحبطت في اللحظات الأخيرة. ورغم الإخفاق الذي صاحب تلك المحاولات، إلا أن الأمر لا يعني الحكم بفشل المحاولات القادمة، بل على العكس من ذلك، إذ يمكن القول بأنها كانت مقدمات لعمل مستقبلي ناجح. وهذا ما حصل في عهد شنجول، فالتنظيم السري الذي سبق وأن أُعد في عهد عبد الملك المظفر، والذي كان هشام بن عبد الجبار هو المرشح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 في ذلك التنظيم لنيل الخلافة، نجده يستمر في عهد شنجول، وذلك عندما قام محمد بن هشام بن عبد الجبار1 بقيادة تنظيم سري هو امتداد للمحاولة السابقة لوالده، فقد اختار محمد من أصحابه إثنى عشر رجلاً جعلهم نقباء2، وكان رئيسهم الذي يبث دعوته بين العامة، ويأخذ البيعة منهم سرا، يدعى صاعد بن عبد الوهاب الحرَّار وصف بأنه كان في الجهل آية3. وقد كثر الإرجاف في قرطبة، بقرب ظهور أحد الأمويين، وبادر الفتى الأكبر إلى سيده شنجول ينصحه بعدم مغادرة قرطبة، وحذره من الأمويين، فأجابه شنجول قائلاً "والله لو اجتمع بنو مروان إلى مرقدي وأنا نائم ما أيقظوني4" فكان رده هذا أقوى دليل على ضعف رأيه واستهتاره بالآخرين.   1- هو أبو الوليد محمد بن هشام، أمه أم ولد تسمى مزنه، ولقبها كباره تعرف بالعرجاء لخلع كان بها، ولد محمد سنة 366هـ، وصف بأنه ثائر جسور، خليع ماجن، لا يبالي بأي واد هلك، كان أبيض أشقر أشهل تام القامة به انحناء تعلوه صفرة، له ولد وحيد اسمه عبيد الله قتله واضح في قرطبة. انظر: جمهرة أنساب العرب ص101، جذوة المقتبس ص19، البيان المغرب 3/50،100، أعمال الأعلام 2/109. 2- البيان المغرب 3/55. 3- المصدر السابق 3/54. 4- أعمال الأعلام 2/96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وعندما خرج شنجول بجيشه إلى جليقية، واطمأن محمد بن هشام لبعده، جهر بحركته، وذلك يوم الثلاثاء 16 جمادى الآخرة سنة 399هـ (15 فبراير 1009) وهجم أصحابه على صاحب المدينة عبد الله بن عمر، فقبضوا عليه1، ثم قتلوه بأمر محمد بن هشام، فلما رأى العوام رأس صاحب المدينة، انثالوا على ابن هشام من كل حدب وصوب فيهم من العنازين والجزارين والسفلة وسائر غوغاء الأسواق ما لا يحصون كثرة، فخطب بهم خطبة بين لهم فيها سبب قيامه، وحرَّضَهم على ابن أبي عامر، وأذن لهم بنهب مدينة الزاهرة، فاستهواهم الطمع وأمر بكسر السجن العام، فخرج من كان فيه من اللصوص والذعار وأصحاب الجرائم، فانضموا إليه، وتسلحوا بما وصلت إليه أيديهم، وزحفت هذه الجموع الغوغائية على قصر الخليفة الذي حاول جاهداً أن يسكن ثائرتهم، لكنه فشل، فانصرف وأمر خدمه بالكف عنهم، وأمام هجوم أولئك الغوغائيين أضطر الخليفة إلى إصدار أمره بفتح أبواب القصر لابن هشام، فدخل   1- عندما اندلعت ثورة المهدي كان صاحب المدينة عبد الله بن عمر الذي يفترض فيه أن يكون أكثر المسؤولين اهتماماً بالأمن، جالساً في غرفته الخاصة مترنحاً بين جاريتين تغنيانه بعد أن صرف حرس باب القصر للعمل في مزارعه الخاصة. انظر: البيان المغرب 3/55، أعمال الأعلام 2/109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 واستولى عليه، وذلك في ليلة الأربعاء وزحفت جموع هائلة من العوام نحو مدينة الزاهرة، فلم يتمكنوا من دخولها تلك الليلة1. وفي تلك الليلة أصدر محمد بن هشام أوامره بتولية ابن عمه محمد بن المغيرة خطة الشرطة، فأجلسه على كرسيها عند باب القصر، وقلد خطة الحجابة ابن عمه الآخر عبد الجبار، وأما أنه قد اسند ولاية العهد لسليمان بن هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر2، فهذا غير صحيح، فقد ذكر ابن حزم أن سليمان هذا قد تسمى بولاية العهد دون أن يسميه به خليفة3. وأخيراً أتم محمد بن هشام بن عبد الجبار مراده، فخلع الخليفة هشام المؤيد بالله في نفس الليلة، وأخذ البيعة لنفسه، فابتدأت خلافته يوم الأربعاء 17 من جمادى الآخرة سنة 399هـ (18 مارس 1009م)   1- البيان المغرب 3/55-58، أعمال الأعلام 2/109-110، نهاية الأرب 23/410-412، ولكنهم فيما بعد دخولها ونهبوها ومن ثم أحرقوها. انظر: نهاية الأرب 23/414. 2- البيان المغرب 3/59، أعمال الأعلام 2/110. 3- نقط العروس ص54. وقد قتل سليمان هذا مع أبيه هشام، وذلك عندما ثار الأخير ضد المهدي، وتسمى بالمعصوم، انظر: نقط العروس ص54،58. قارن: البيان المغرب 3/82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 واتخذ لنفسه لقب "المهدي" لكن العامة كانت تلقبه بالمنقش لهشاشته وطيشه وخفته1. ويعتبر الخليفة المهدي "آخر من ولي الأمر من بني مروان بالأندلس ولاية تامة، يعزل فيها ويولي من آخر شرقها إلى آخر غربها، وكذلك في كثير من بلاد البربر"2. وقد استقبل القرطبيون حركة المهدي بسرور عظيم، فأقاموا الولائم والأعراس ليالي متتالية، ينتقلون من موضع إلى آخر بالمزامر والملاهي3. والعجيب أنه بعد سيطرة المهدي على قصر الخلافة، كَلَّف حاجبه ومعه صاحب المدينة أن يثبتا في الديوان اسم كل من يأتيهما لاستلام العطاء4 "فلم يتخلف عن أخذ ماله واستحلال نهبه والدخول في فتنته فقيه ولا عالم ولا عدل ولا إمام ولا حاج ولا تاجر إلا قام في نصرته بما قوي عليه من لسانه ويده، وتكلف حمل السلاح وإن كان لا يغني عن نفسه   1- أعمال الأعلام 2/110-111. 2- جمهرة أنساب العرب ص 101. 3- البيان المغرب 3/74.وقد ألقى ابن دراج قصيدة يهنئ فيها المهدي بتوليه الخلافة، مطلعها: ُل للخلافة قد بلغت مناك ورأيت ماقرت به عيناك انظر: ديوان ابن دارج، القصيدة رقم 25. 4- قيل أن عدة من أثبتت أسماؤهم في ديوان المهدي للعطاء بلغ خمسون ألفا. أعمال الأعلام 2/111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 فضلاً عن غيره"1.هذا وعندما تعرضت المصادر لأسباب حركة المهدي، اختلفت في تعليلها فهناك من عزا الأمر إلى الذلفاء أم المظفر وحرصها الشديد على الانتقام لابنها من أخيه عبد الرحمن المتهم بوضع السم له2، وهناك من جعل السبب في ذلك يعود إلى حقد المهدي على العامريين بسبب قتلهم والده3، بينما نظر ابن خلدون إلى الزاوية القبلية في هذه المسألة، فاتخذ من تحويل الأمر من المضرية إلى اليمنية سبباً كافياً لاندلاع الفتنة4. والحق أن الخوض في أسباب اندلاع فتنة المهدي، ليس بالأمر اليسير إذ أن الأمر يتعلق بجميع أفراد المجتمع على مختلف فئاتهم، وتفاوت ثقافاتهم، ومن المعلوم أن الظواهر الاجتماعية لا يمكن أن يرد سبب ظهورها إلى عامل واحد، فكيف والأمر يتناول قضية اشترك الجميع بها؟ فإذا نظرنا إلى المهدي نجده يحصل من الذلفاء على الأموال5، ومن الأمويين وفتيانهم على المساعدات المادية والمعنوية6، ثم أن من قاد العامة   1- البيان المغرب 3/62. 2- المصدر السابق 3/52، أعمال الأعلام 2/109. 3- الحلة السيراء 2/5، أعمال الأعلام 2/109. 4- ابن خلدون، التاريخ، (بيروت، مؤسسة الأعلمي 1391هـ/1971م) 4/149. 5- أعمال الأعلام 2/109. 6- المصدر السابق والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الغوغائيين واقتحم بهم قصر الخلافة ومدينة الزاهرة هم عشرة رجال بين حجام وجزار وحائك وزبَّال1. وعلى هذا يمكن القول بأن حركة المهدي والتي اشتركت فيها أطراف عدة، هي في حقيقتها تعبير عن رفض المجتمع الأندلسي لواقع عانى منه طويلاً، وبالذات سيطرة العامريين على الخلافة الأموية التي هي رمز قوي لجمع كلمة المسلمين في الأندلس، وبذلك فإن جميع الأسباب التي ذكرت من قبل أدت مجتمعة إلى ظهور حركة المهدي. وبإمعان النظر في المشاركين في الفتنة، نجد أن لكل منهم غاية سعى لتحقيقها، فالانتقام رغبة الذلفاء، وإقصاء العامريين جملة هدف الأمويين والقرشيين عامة، والمتعة المستعجلة غاية العوام، والطمع مرام البقية، وأما المهدي فحب السلطة والرئاسة قادته إلى مثل هذا، وهؤلاء جميعهم عمتهم فتنة أعمتهم عن رؤية العواقب. وأي حركة يكون العوام محور ارتكازها، لا يمكن أن تأتي بخير، إذ أن كلاً منهم لا يرى إلا منفعته الآنية فقط، فهم "لا تدفع صولتهم إذا هاجوا، ولا يؤمن هيجانهم إذا سكنوا، إن أخصبوا طغوا في البلاد، وإن أجدبوا آثروا العناد"2.   1- البيان المغرب 3/74، نهاية الأرب 23/417. 2- رسائل الجاحظ (تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي 1399هـ) 4/314. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ويصدق هذا الوصف على أتباع المهدي من الغوغائيين والسفلة، فبعد أن عمهم المهدي بعطائه، بقيت قرطبة عدة أيام لم يوجد فيها حجام ولا كنَّاف ولا ذو مهنة ذليِّه1. ولذا فليس من المستغرب أن يصطدم من اشترك في هذه الفتنة بالحقيقة المرة بمجرد أن اتضحت الأمور وانكشفت الوقائع، ولكن بعد فوات الأوان، بعد أن وضع المهدي قانونه الجديد في أن الخلافة لا يمكن الوصول إليها، إلا بالفتن والاضطرابات. ويمكن القول بأن الحلف الذي قام بين القوى التي ساندت المهدي، كان حلفاً تكتيكيا، يتضح ذلك في موقف المهدي من الصقالبة2 العامريين، وهو الجناح العامري الذي تقوده الذلفاء،   1- البيان المغرب 3/61. 2- الصقالبة: جمع صقلبي "Eslavos" وتعني العبد أو الرقيق، وهذه الكلمة أطلقها العرب في البداية على من يتم جلبه من الشعوب السلافية عامة، لكنهم توسعوا فيما بعد في استعمال هذا المسمى، فأطلقوا على أرقائهم من أي أمة نصرانية، ولعل الأمير عبد الرحمن الداخل هو أول من استخدم هذه الفئة واتخذ لهم علامة يعرفون بها، وحذا خلفاؤه حذوه في هذه السياسة. انظر: ابن جلجل، طبقات الأطباء والحكماء، (تحقيق: فؤاد سيد بيروت، مؤسسة الرسالة، ط الثانية 1405هـ/1985) ص107. ابن حوقل، صورة الأرض، (بيروت دار مكتبة الحياة، 1979م) ص106. الذخيرة، ق 4 م1 ص61، أخبار مجموعة ص108-109، البيان المغرب 2/259-264، المغرب في حُلى المغرب1/39، تاريخ ابن خلدون 4/125،127. نفح الطيب 1/145، 356،= =382، الحلل السندسية 1/46-47، د. أحمد مختار العبادي، الصقالبة في أسبانيا، (مدريد، المعهد المصري للدراسات الإسلامية، 1373هـ/ 1953م) ص8-9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فقد قام المهدي ليلة الأحد 28 رجب سنة 399هـ (28مارس 1009) بنفي جماعة من الصقالبة العامريين عن قرطبة1، وفي يوم الخميس 15 شعبان سنة 399 هـ (14 إبريل 1009) طرد صقالبة القصر وسد أبوابه2. وكما بدد المهدي شمل الصقالبة العامريين، فقد ألحق الأذى بالعوام الذين سبق وأن استظهر بهم، فبعدما استوثق الأمر له، أسقط منهم سبعة آلاف رجل، كان قد كتبهم في جيشه3، ثم وجه ضربته للأمويين فنزع الخليفة هشام المؤيد بالله من منصبه، وتولى الخلافة بدلاً منه4، ولكي   1- البيان المغرب 3/77. ذهب هؤلاء الصقالبة واستولوا على الأطراف الشرقية للأندلس، وكونوا بها ممالك خاصة بهم في كل من المرية ومرسية ودانية والجزائر وبلنسية. انظر: دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي، ص156-162، 171-176، 183-199، 206-216. 2- البيان المغرب 3/77. 3- المصدر السابق 3/77. أعمال الأعلام 2/112. 4- الحق أن المهدي بهذه الخطوة قد قضى على أي أمل للأمويين فيه، فهم ساعدوه في البداية ليخلصوا الخليفة هشام المؤيد من حالة الحجر التي فرضها عليها العامريون، لكنهم فوجئوا بمن هو أسوأ من العامريين، فإن كان العامريون قد ألغوا شخصيته، واستبدوا بتصريف أمور الدولة من دونه، فإن المهدي استحوذ على كل شيء وأصبح هو الخليفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 يأمن ردة الفعل من أي جهة أقدم على خطوة في غاية الغرابة، فقد أخرج هشام المؤيد من القصر، وفرض عليه الإقامة الجبرية في دار الحسن بن حي بقرطبة، ثم أعلن نبأ وفاته1. وقد ذكرت المصادر التاريخية أن المهدي أحضر رجلاً يهودياً أو نصرانيا ميتاً2، كان شديد الشبه بهشام المؤيد، وقدمه للوزراء على أنه الخليفة هشام، وأنه مات حتف أنفه، فشهدوا على ذلك3. وذكر الرقيق القيرواني4 وتابعه النويري5 أن الذين شهدوا على وفاة الخليفة المؤيد كانوا من أصحاب المهدي، وفي رواية أكثر تفصيلاً وأولى بالقبول من غيرها، وصاحبها شاهد عيان في هذه القضية، ذكر ابن حزم ما نصه: "أندرنا للجبل لحضور دفن المؤيد هشام ابن الحكم المستنصر، فرأيت أنا وغيري نعشاً فيه شخص مكفن وقد شهد غسله شيخان   1- البيان المغرب 3/77. نهاية الأرب 23/418. وقد ورد في ذكر بلاد الأندلس 1/200 أن المهدي حبس المؤيد في مطبق المحابس. 2- ورد في ذكر بلاد الأندلس 1/200 أن المهدي كان قد خنق ذلك الرجل. 3- البيان المغرب 3/77. أعمال الأعلام 2/112. 4- انظر: البيان المغرب 3/77. 5- نهاية الأرب 23/418. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 جليلان حكمان من حكام المسلمين ومن عدول القضاة في بيت، وخارج البيت أبي وعظماء البلد"1. فابن حزم ذكر أنه لم يشهد المتوفى، وأن الأمر في ذلك اقتصر على رجلين فقط، كما أن الرقيق القيرواني ذكر أن الشهود كانوا فقط من أصحاب المهدي، وعلى هذا يمكن القول بأن المهدي استغل عدم معرفة الناس بالمؤيد، لأنهم لم يكونوا يرونه، وإن خرج فمتقنعاً كالنساء، ولوجود الشبه بينه وبين ذلك الميِّت، فقد انطلت حيلة المهدي على الشيخين، ليتخلص بذلك من عقبة كؤود. وقد حضر الجنازة ألوف من الناس، صلوا على الميِّت، وتبعوا جنازته إلى قبره، حيث دُفن يوم الاثنين 26 شعبان2 سنة 399هـ (25 إبريل 1009) وبسبب كل ما مضى انصرفت عن المهدي نفوس الموالي والخواص واضطربت عليه بنو أمية3.   1- ابن حزم الفصل في الملل والأهواء والنحل، (وبهامشه الملل والنحل للشهرستاني، القاهرة المطبعة الأدبية، ط الأولى 1317هـ.) 1/59. 2- البيان المغرب 3/77. أعمال الأعلام 2/112. وذكر النويري أنه مات لأربع بقين من شعبان. انظر: نهاية الأرب 23/418. والحق أن إجرام المهدي لم يقف عند حد، حتى أنه تجرأ على استقبال الباري جل وعلا وهو يصلي على ميت غير مسلم وغش جماعة عظيمة من المسلمين في هذا الموقف إشباعاً لتطلعات نفسه الخبيثة. 3- البيان المغرب 3/51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ثم أضاف المهدي إلى حماقاته السابقة حماقة أخرى، فقد تجاهل قوة ضارة في المجتمع الأندلسي، وأعني بها الطوائف البربرية التي جعلها المنصور بن أبي عامر عماد دولته، فسلط المهدي عليهم رجاله، فاحتقروهم وأهانوا زعيمهم زاوي بن زيري بن مناد1، وقام بعض سفهاء قرطبة بنهب دور البربر، ولما اشتكى زعماؤهم من هذا الفعل، أمر المهدي بضرب رقاب المعتدين2.   1- أبو مثنى زاوي بن زيري بن مناد، زعيم صنهاجه، دخل الأندلس في بداية عهد عبد الملك المظفر ابن المنصور هو وأقاربه، فأكرمهم المظفر، وفي سنة 403هـ سكن زيري وقومه مدينة إلبيرة بناء على طلب أهلها، ثم بنى مدينة غرناطة ليتحصن بها، وفي سنة 410هـ غادر الأندلس إلى القيروان حيث مات فيها مسموماً. انظر: عبد الله بن بلقين. التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله، (نشر وتحقيق: ليفي بروفنسال. القاهرة، دار المعارف،1955م) ، ص16-25. الذخيرة، ق1 م1 ص453-460، ق1 م2 ص588. ابن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، (تحقيق: محمد عبد الله عنان، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1393-1397هـ،1973-1976م) . 1/513-517، مجهول، نبذ تاريخية في أخبار البربر في القرون الوسطى، منتخبة من كتاب مفاخر البربر، (نشر: ليفي بروفنسال، المغرب، مطبوعات معهد العلوم العليا المغربية، 1352هـ/1934) . ص35،43. تاريخ ابن خلدون 4/60. الهادي روجي إدريس، الدولة الصنهاجية تاريخ إفريقية في عهد بني زيري، من القرن 10 إلى القرن 12م. (ترجمة، حمادي الساحلي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط الأولى، 1992م) ، 1/133، 173-175. 2- البيان المغرب 3/75-76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وعز على المهدي أن يختتم هذه الصورة العجيبة إلا بإبراز الوجه الحقيقي له، لتهون أمام هذا المنظر كل أفعاله السابقة، فقد أظهر من الخلاعة والمجون ما لم يخطر ببال غيره، فباختصار لقد كان المهدي رجلاً فاسداً مختل الدين والعقل1. هذه الأفعال المشينة للمهدي بالإضافة لسيرته الأخلاقية المتدنية، وحدت القوى المعارضة، وجعلتها تقف أمامه في صف واحد، ولعل أول من وقف ضده من تلك القوى، هي تلك الفئة التي أسقطها المهدي من ديوانه، بالإضافة إلى العبيد العامريين، فنصبوا عليهم هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر ولقبوه بـ"الرشيد"2 وفشل المهدي في ثني الرشيد عن تمرده، بالرغم من إطلاقه لسراح ولده سليمان3، فقد تقدم الرشيد ومن معه فهاجموا أحد أسواق قرطبة وأحرقوه4، إلا أن أنصاره خذلوه عندما رأوا قيام العامة مع المهدي،   1- انظر: المصدر السابق، 3/80. إن من أشد المصائب أن تبتلى الأمة بولي أمر فاسد فهو لن يقودها إلا إلى الدمار. فماذا سيجد من كان الغراب دليله؟ 2- البيان المغرب 3/51. 3- انظر: البيان المغرب 3/79. نهاية الأرب 23/419. 4- ورد في البيان المغرب 3/80 أن الرشيد هاجم سوق السرادق، بينما ورد لدى النويري أنه هاجم سوق السراجين، نهاية الأرب 23/419. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فأُسر الرشيد وقُتل صبراً بين يدي المهدي وذلك يوم الخميس الخامس من شهر شوال سنة 399هـ1 (2 يونيو 1009م) . وأراد المهدي أن يكافئ العامة على موقفها، فأباح لها نهب دور البربر، ونادى مناديه أن من أتى برأس بربري فله كذا وكذا، فجرى من العامة شيء عظيم، إذ راح ضحية طيشهم وعبثهم الكثير من العلماء والفقهاء وغيرهم، وسبيت النساء، وتم قتل الحوامل منهن، وبلغ من حرص العامة على نيل المكافأة أن قتلوا سبعة عشر رجلا من أهل تلمسان2 في ساعة واحدة، كانوا قد قدموا للجهاد، كما قتلوا آخرين   1- المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص88، البيان المغرب 3/81، نهاية الأرب 23/419. أعمال الأعلام 2/113. وذكر ابن الأبار أن الرشيد جهر في حركته في آخر شهر شوال انظر: الحلة السيراء 2/6. 2- تلمسان: مدينة مشهورة بالجزائر، أصلها قرية "أغادير" وفي أواخر القرن الخامس الهجري أقام زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين قرية أقرارات، ثم انضمت القريتان فأصبحتا تلمسان، ومنذ ذلك الوقت عاشت البلدة حياة مزدهرة إلى أن فقدت قوتها ونضارتها بانحطاط دولة بني زيان سنة 932هـ، والبلدة فيها أماكن أثرية مشهورة كما أن أهلها يمتهنون صناعات يدوية متقنة. انظر: البكري، المغرب في ذكر بلاد افريقية والمغرب، من كتاب "المسالك والممالك" (طبعة: دي سيلان، الجزائر 1911م) ص76-77، مجهول، كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار، (تحقيق: د. سعد زغلول. المغرب الدار المغربية 1985م) ، ص176-177. معجم البلدان 2/44، الروض المعطار ص135-136. أحمد توفيق المدني، كتاب الجزائر. (الجزائر، البليدة، نشر دار الكتاب، 1382هـ/1963م) ، ص189-191. لطيفة بن عميرة. تلمسان من نشأتها إلى قيام دولة بني عبد الواد، (مجلة الدراسات التاريخية، إصدار معهد التاريخ، جامعة الجزائر. العدد السادس لعام 1413هـ/1992م) . ص63-69. والمصادر الواردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 من أهل خراسان والشام على أنهم من البربر1، الأمر الذي دفع الكثيرين للهرب، وكان من بين الهاربين ابن أخ للرشيد يدعى سليمان بن الحكم2، فوجد البربر فيه ضالتهم، إذ لابد لهم من أموي يسيرون خلفه، لأن الناس لن يقبلوا أن يلي الخلافة إلا أحد أبناء تلك الأسرة المجيدة، ومن أجل ذلك بايع البربر سليمان بن الحكم وذلك في 27 شوال 399هـ3 (26 يونيو 1009م) ولكي يدركوا ثأرهم استعانوا بشانجة بن غرسيه   1- البيان المغرب 3/81. 2- أبو أيوب سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، أمه أم ولد اسمها ظبية، ولد يوم الأحد الثامن من جمادى الآخرة سنة 354هـ، كان أسمر أعين تام القامة أشم الأنف عظيم الكراديس جميل الوجه، عُرف بالعلم والفهم وحسن الأدب والشعر والفصاحة له رسائل وأشعار بديعة، وله معرفة بفنون الغناء فقد كان في حداثته يضرب بالطنبور انظر: جمهرة أنساب العرب ص102، الذخيرة ق1 م1 ص46، الحلة السيراء 2/7-8، البيان المغرب 3/91-92. 3- المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص88، البيان المغرب 3/84، ومن الجدير بالذكر أن سليمان هذا كان من المبادرين إلى تهنئة المهدي عقب اغتصاب الخلافة، وأنشده قصيدته التي مطلعها: الحمد لله حمداً لا نقلله ... هذا السرور الذي كنا نؤمله انظر: الحلة السيراء 2/10-11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 بن فردلند1 قومس2 قشتالة الذي أطلقت عليه بعض المصادر التاريخية الإسلامية اسم ابن مامه النصراني3، فلما وصلت رسل البربر إليه، وجدوا أن رسل المهدي وواضح4   1- أعمال الأعلام 2/113. 2- قومس أو قمز، جمعها قوامس، كلمة لاتينية Comes تعني نديم الملك، ولعلها أطلقت فيما بعد على من كان من وجوه القوم، ثم تطورت في اللغات الأوروبية معنى ومبني، فهي اليوم في الأسبانية Conde وفي الإنجليزية Count وفي الإيطالية Cont وفي الفرنسية Comte وكلها بمعنى حاكم منطقة متمتع باستقلال تام أو محدود أو هي بمعنى الرجل الشريف، انظر: البكري، جغرافية الأندلس وأوربا، ص 99 حاشية رقم 1. 3- البيان المغرب 3/86. 4- بعد أن تخلص المنصور من الصقالبة أتباع الخلافة الأموية، اصطنع صقالبة غيرهم ممن يديونون له بالولاء، ولذا عُرفوا بالفتيان أو المماليك العامرية، ويعتبر واضح الفتى من أشهرهم، قاد العديد من الجيوش الأندلسية في عهد المنصور وولده المظفر، وفي عهد الأخير أصبح والياً على مدينة سالم والثغر الأوسط، وبعد مقتل شنجول تولى واضح منصب الحجابة للمهدي، لكنه سرعان ما انقلب عليه وأعاد المؤيد للخلافة، وعندما ظهر عجز واضح عن مقاومة البربر، هان أمره على الجند، فأحس بالخطر، وعزم على الهرب سراً من قرطبة، لكن الجند ثاروا عليه بقيادة ابن وداعة فقتلوه وأخذوا ما لديه من أموال ونهبوا دور أصحابه وكتابه وذلك في أواخر سنة 401هـ. انظر: البيان المغرب 2/282. 3/5-6، 11، 76، 93-95، 100-105. أعمال الأعلام 2/112، 114-118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 صاحب طليطلة والثغر الأوسط1 عنده، وقدَّمت الرسل هدية سنية، لكن شانجة الذي كان يراقب ما يجري عند جيرانه المسلمين أراد أن يضرب القوة الإسلامية مرة واحدة، فأعلن عن تأييده للبربر2. وأقبل بجموعه يريد قرطبة، فاستعد المهدي للقائه ورتب قواته، ومن المضحك أن قيادة جيشه كان فيها طبيب ووكيل بل وقوم من الحواتين والجزارين وأشباههم3. فدارت الدائرة عليهم، وقتل من أهل قرطبة أكثر من عشرة   1- الثغر الأوسط أو الأدنى قاعدته مدينة سالم ثم استبدلت فيما بعد بطليطلة، وهذا الثغر مواجه لمملكتي قشتالة وليون. وعن هذا الثغر وبقية الثغور الأندلسية أنظر: خليل إبراهيم السامرائي، الثغر الأعلى الأندلسي "دراسة في أحواله السياسية 95-316هـ" (بغداد، مطبعة أسعد 1976م ص39-44والمصادر المذكورة. 2- تجدر الإشارة إلى أن ثمن مساعدته للبربر هو الحصول على ما أحب من مدن الثغر. انظر: البيان المغرب، 3/86. والملاحظ أن كلا الفريقين المسلمين لم يعمل أي منهما على حقن دماء المسلمين ويتنازل عن مطامعه الدنيوية في سبيل طلب ما عند الله تعالى، بل إن الأمر وصل بهما إلى تقديم الرجاء والخضوع لذلك النصراني عسى أن يتكرم بالمساعدة. على ماذا؟ على سفك دماء إخوانهم المسلمين. مقابل ماذا؟ مقابل إعطائه بلاداً خضبت أراضيها بدماء زكية سالت من أجساد نذرها أصحابها أن تكون فداءاً لإعلاء كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، لذا فلا عجب أن يعيش أفراد الفريقين سنوات عدة لا يعرفون فيها طعماً للعافية، كلها فتن ومحن ليذوقوا وبال أمرهم. والعاقبة لمن اتقى. 3- المصدر السابق 3/88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 آلاف رجل1، وذلك يوم السبت 14 ربيع الأول سنة 400هـ2 (6 نوفمبر 1009م) وحاول المهدي أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، فأخرج هشاماً المؤيد وأبرزه للناس، لكن ذلك لم يغن عنه شيئاً إذ أن سليمان بن الحكم قد دخل قرطبة وبويع في المسجد الجامع بالخلافة وذلك في يوم الثلاثاء 17 من ربيع الأول سنة 400هـ (9 نوفمبر 1009م3) وتلقب بـ" الظافر بحول الله مضافاً إلى المستعين بالله"4.   1- اختلفت المصادر في تقدير عدد القتلى، فالمراكشي يذكر أن العدد أكثر من عشرين ألفاً، بينما يرى ابن عذارى أنهم نحو عشرة آلاف في حين أن ابن الخطيب ذكر أن العدد أكثر من ثلاثين ألفاً، انظر: على التوالي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص88. البيان المغرب 3/90، أعمال الأعلام 2/113. 2- البيان المغرب 3/89، هذه المعركة تعتبر حاسمة في تاريخ المسلمين في الأندلس، وذلك لأنها قضت على خلافة المهدي وأكدت انقسام المسلمين هناك إلى طائفتين متضادتتين، البربر في ناحية والأندلسيين في ناحية أخرى ولذلك فهي تعتبر البداية الحقيقية لفترة دول الطوائف في الأندلس. انظر: الحلة السيراء، 2/6 حاشية رقم 2. 3- البيان المغرب 3/91، أعمال الأعلام 2/114، وقد ذكر الحميدي أن البيعة تمت في شهر ربيع الآخر، في حين جعلها ابن بسام وكذلك ابن الأبار في النصف من شهر ربيع الأول، انظر: جذوة المقتبس، ص19. الذخيرة ق1 م1 ص36. الحلة السيراء 2/7. 4- جذوة المقتبس ص19. الحلة السيراء 2/7. وقد ألقى ابن دراج قصيدة مدح فيها المستعين وهنأه بالخلافة، مطلعها: هنيئأً لهذا الدهر روحٌ وريحانُ ... وللدين والدنيا أمان وإيمانُ انظر: ديوان ابن دارج، القصيدة رقم 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 هرب المهدي من قرطبة والتجأ إلى طليطلة، فوصلها في أول جمادى الأولى سنة 400هـ1 (21 ديسمبر 1009م) فقام واليها الفتى واضح بمناصرته، واتفق مع قومس برشلونة2 ريموند بوريل Ramon borrell3 وأخيه أرمنجول Armengol4 على مناصرة المهدي لقاء أن يتنازل للنصارى عن مدينة سالم، وأن يلتزم لكل رجل منهم دينارين في كل يوم وما يقوم به من الطعام والشراب وغير ذلك، وعلى أن لهم كل ما حازوه من عسكر البربر من السلاح والدواب والأموال، وأن نساء   1- البيان المغرب 3/93. أعمال الأعلام 2/114. 2- برشلونة Barcelona مدينة بحرية مهمة على البحر المتوسط، وهي قاعدة بلاد كتلونية، يحدها من الشمال الشرقي مقاطعة جيرندة أو جيرونده، ومن الغرب مقاطعة لارده، ومن الجنوب مقاطعة طركونة، وفي العصر الحالي تعد برشلونة أعظم بلدة تجارية وصناعية في شبه الجزيرة الأيبرية، وهي عبارة عن ثلاث مدن: برشلونة القديمة وبرشلونة المحدثة في العصور الوسطى وبرشلونة الحديثة وهي التي أحدثت في هذا العصر. انظر: جغرافية الأندلس وأوربا ص96، ابن سعيد، كتاب الجغرابيا، (تحقيق: إسماعيل العربي، بيروت، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، ط الأولى 1970م) ص181. الروض المعطار ص86-87. الحلل السندسية 2/272-280. 3- هو حاكم إمارة قطلونية - التي عاصمتها برشلونة- بين سنتي 382-409هـ. 4- تسميه بعض المصادر العربية باسم أرمقند. انظر: الذخيرة ق1 م1 ص 36، البيان المغرب 3/95. أو باسم أرمنقد. انظر: أعمال الأعلام 2/75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 البربر ودماءهم وأموالهم حلال لهم لا يحول أحد بينهم وبينها إلى غير ذلك من الشروط التي التزم بها واضح1. وأقبلت جموع المهدي وواضح ومعهما النصارى، والتقت بجموع البربر التي يقودها المستعين، وذلك في موضع يعرف بدار البقر2، وكادت الهزيمة تحل بالمهدي ومن معه، إذ أن البربر قتلوا الملك النصراني أرمنجول وعدداً كبيراً من جيشه إلا أن المستعين لم يصمد ففر بمن معه إلى شاطبه3، عند ذلك اضطر البربر إلى الانسحاب من المعركة، ثم عرجوا على مدينة الزهراء فأخذوا أولادهم وأمتعتهم ثم انصرفوا إلى الجنوب   1- البيان المغرب 3/94. 2- دار البقر Elvacar أو عقبة البقر، حصن يقع على بعد عشرين أو خمس وعشرين كيلو متر شمال قرطبة إلى الجنوب الغربي قليلاً من Ovejo انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، تعليق رقم 588 ومصادره. الحلة السيراء 2/7 حاشية رقم 1. 3- شاطبة Jativa مدينة كبيرة قديمة، تقع في شرق الأندلس على بعد 56كم جنوب غرب بلنسية، وهي داخلية لا تطل على ساحل، اشتهرت بصنع الكاغد ومنها يحمل إلى سائر أقطار الأندلس، وهي موطن قبيلة نفزة البربرية، ولا يزال إلى العصر الحالي يوجد موقع في منطقة شاطبة يعرف باسم Nifzies نسبة لتلك القبيلة، وقد خرجت شاطبة من أيدي المسلمين سنة 644هـ، انظر: نصوص عن الأندلس ص 18-19. معجم البلدان 3/309-310. الروض المعطار ص337. والدراسة الوافية للدكتورة سحر عبد العزيز سالم. شاطبة الحصن الأمامي لشرق الأندلس (الإسكندرية مؤسسة شباب الجامعة 1995م) ، ص1-233 والمصادر والمراجع الواردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الأندلسي1، متجهين إلى الجزيرة الخضراء2، وذلك في يوم الجمعة 16 شوال سنة 400هـ (2 يونيو 1010) فاغتنم عوام قرطبة الفرصة، فنهبوا ما وجدوا في مدينة الزهراء، ودخل المهدي قرطبة وأخذ البيعة لنفسه وبذلك بدأت دولته الثانية3. ولم يهدأ المهدي في قرطبة بل إنه سارع إلى ترتيب قواته ومن معه من النصارى، فسار الجميع بأثر البربر للقضاء عليهم، فالتقى الجمعان في وادي آره4، فقاتل البربر قتال المستميت. إذ أن هذه هي الفرصة الأخيرة   1- إن اتجاه البربر إلى الجنوب الأندلسي أمر منطقي، فهم بذلك أقرب إلى موطنهم الأصلي، ولعلهم في هذه الحالة لا يعدمون وصول مساعدات من تلك المناطق تعينهم على ما هم فيه. 2- الجزيرة الخضراء كورة تشمل عدة مدن، قاعدتها مدينة الجزيرة الخضراء، وتقع في الطرف الجنوبي لشبه الجزيرة الأيبيرية في مواجهة سبته وبجوارها جبل طارق، وقد سقطت بأيدي النصارى سنة 743هـ ثم استردها محمد الخامس الغني بالله سلطان غرناطة سنة 771هـ إلا أنه دمرها تدميراً كاملاً لئلا يستفيد منها النصارى أو بني مرين في المغرب، وهي اليوم مركز إداري في مديرية قادس ويكتب اسمها Al Geciras. انظر: نصوص عن الأندلس ص 120، الحلة السيراء 2/199 حاشية رقم 3. الروض المعطار ص223-224، الحلل السندسية 1/81 وما بعدها. 3- انظر البيان المغرب 3/94-95. 4- يعرف بوادي السقائين. انظر: أعمال الأعلام 2/115، د. السيد عبد العزيز سالم، تاريخ المسلمين وأثارهم في الأندلس، من الفتح العربي حتى سقوط الخلافة بقرطبة، (لبنان، دار المعارف ط الأولى 1962م) ص 354 حاشية رقم 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 لهم للمحافظة على كيانهم ووجودهم في الأندلس، فهزموا قوات المهدي هزيمة منكرة، واحتوى البربر ما كان في معسكر خصومهم من سلاح ومال ودواب، وذلك في يوم الخميس السابع من ذي القعدة سنة 400هـ1 (22 يونيو 1010) فانصرف المهدي وواضح ومن كتبت له النجاة من قواتهما، إلى قرطبة، حيث ارتكبت فيها تلك الجموع ومن معها من عوام قرطبة والنصارى مالا يخطر ببال2، وعندما وصلت الأخبار بأن البربر قد أقبلوا يريدون قرطبة، استعد المهدي للحصار، وأصاب أهل قرطبة الجزع الشديد بسبب رحيل النصارى عنهم وإقبال البربر إليهم3.   1- البيان المغرب 3/95-96. أعمال الأعلام 2/115. 2- الحق أن المسلم لا يستطيع أن يحتمل تصور ما حل بالمسلمين بقرطبة، فقد أذاقهم الله تعالى بأس بعضهم البعض، وسلطهم على أنفسهم، فقد قام المهدي ومن معه بقتل كل بربري أو متشبه بهم أو حتى من كان متهماً بأنه بربري، قتلوا الرجال وذبحوا الأطفال وشقوا بطون الحوامل وسبوا الجميلات من النساء، وأصبح من حق أي نصراني أن يختار ما يشاء من بنات المسلمين ليأخذها على أنها بربرية، كما أصبح من حقه أن يقف وسط السوق وينال من نبينا المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم بما شاء، وهو آمن العقوبة، ومن دبت فيه الغيرة واعترض على ذلك، انتهره من حضر من المسلمين ونصحوه بالاشتغال بمصالحه، انظر البيان المغرب 3/97-98. 3- لقد بلغ من جزع أهل قرطبة بسبب رحيل النصارى عنهم وخوفهم من البربر أن كان بعضهم يلقي بعضاً فيعزيه كما يعزي من فقد أهله وماله. البيان المغرب 3/99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ورغم كل هذه البلايا والشدائد التي عاشها المهدي، إلا أنه كان عديم الالتجاء إلى الله تعالى، بل أن شره بازدياد، وفساده في يومه أشد من أمسه1، فسلط الله عليه نصيره واضح الصقلبي "الفتى" فدبر الأمر مع بعض العبيد العامريين، فدخلوا عليه فكتفوه، وأخرجوا هشاماً المؤيد من مقره، وأقعدوا المهدي بين يديه، فأخذ يحاسبه ثم أمر بقتله، فقتل، وذلك يوم الأحد الثامن من شهر ذي الحجة 400هـ (24 يوليو 1010) وبذلك بدأت الدولة الثانية للخليفة هشام المؤيد2، الذي استمر في الخلافة إلى أن دخل البربر قرطبة بقيادة المستعين بالله يوم الاثنين 27 شوال سنة 403هـ3 (10 مايو 1013م) فبويع   1- المصدر السابق 3/99. 2- لقد ذبح المهدي ذبحاً تولى ذلك عبد من عبيد الحكم يعرف بالشفق وأعانه بعض عبيد العامريين، وتم نصب جثته أياماً بدون الرأس ثم دفن في مرحاض. البيان المغرب 3/100. 3- لم يكن البربر منذ انتصارهم في معركة وادي آره إلى أن دخلوا قرطبة سنة 403هـ بأحسن سيرة من المهدي وواضح وعوام قرطبة، فبسببهم هلك أكثر أهل البوادي جوعاً وهلكت مواشيهم، بل بلغ من قسوة البربر أنهم لم يكتفوا بمصادرة الأموال من أهل مالقة مثلاً، فقد قتلوا الرجال وسبوا النساء، ومن علموا أن لدى أحداهن مالاً قد أخفته عنهم علقوها من ثدييها لاستخراج ما عندها من المال. وغير ذلك كثير. وبالجملة فالبربر والمهدي وواضح وعوام قرطبة في الشر سواء. انظر: المصدر السابق 3/101-102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 بالخلافة1 بدلاً من المؤيد الذي اختلفت المصادر بشأنه2. هذا وقد كانت الأندلس عند مقتل المهدي مقسمة سياسياً إلى أقسام عدة، فقرطبة ومنطقة الثغور شمال الأندلس كانت تحت سيطرة المهدي، وأما الشرق الأندلسي فقد خضع للصقالبة العامريين، حيث أقاموا هناك ممالك عدة، في حين أن المستعين بالله كان قد بسط   1- نفسه 3/112. 2- انظر: الفصل في الأهواء والملل والنحل 1/59، الذخيرة، ق1 م1 ص 37، البيان المغرب 3/113، أعمال الأعلام 2/120. المغرب في حلى المغرب 1/193 نفح الطيب 1/429. وانظر ما ورد في نقط العروس ص 83-84 من تسمي أحدهم باسم هشام المؤيد بعد هذا التاريخ بعشرين سنة بل إن المعتضد بالله صاحب إشبيلية قطع الخطبة لهشام المؤيد معلناً موته بزعمه وذلك سنة 451هـ. البيان المغرب 3/249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 نفوذه على الجنوب الشرقي للأندلس بالإضافة إلى مدينتي سبتة1 وطنجة2 وبلاد غمارة من أرض العدوة الغربية. وعندما تولى سليمان المستعين بالله الخلافة، بادر إلى تقسيم أعمال المدن الأندلسية على بعض ذوي النفوذ وبالذات من البربر، فقد وضع   1- سبتة Ceuta مدينة على شاطئ البحر المتوسط في شمال المغرب الأقصى، وهي عبارة عن شبه جزيرة في مضيق جبل طارق، تحيط بها الجبال من جهة الجنوب، وبسبب هذا الوضع الجغرافي نجدها تمتاز بطابع أندلسي في مظهرها وثقافتها، وبعد معركة وادي المخازن واستيلاء اسبانيا على المملكة البرتغالية دخلت سبتة تحت حكم الأسبان منذ سنة 988هـ، انظر صورة الأرض ص 79-80، المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب ص102-104، الروض المعطار ص303-304، أخبار البربر ص58، محمد بن تاويت، تاريخ سبته، (الدار البيضاء، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر 1402هـ/1982م) ص17 وما بعدها. 2- طنجة Tanger مدينة قديمة بالمغرب الأقصى وتقع عند الطرف المغربي، بمضيق جبل طارق بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، ولا يفصلها عن الشاطئ الأسباني سوى 18كم خضعت طنجة للأدارسة بفاس ثم للأمويين بالأندلس ثم سيطر عليها حكام برغواطه إلى أن استنقذها منهم أمير المسلمين يوسف بن ناشفين، وهي الآن المصيف الرسمي للملكية المغربية، انظر ابن الخطيب، أعمال الأعلام القسم الثالث (تحقيق وتعليق د. أحمد العبادي وإبراهيم الكتاني الدار البيضاء، دار الكتاب 1964) . ص203 حاشية رقم 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المناصب بأيديهم، وقسم المناطق الخاضعة لسيطرته على قبائلهم1، كما جعل علي بن حمود2 والياً على سبته، وأخاه القاسم3 على طنجة   1- كان عدد قبائل البربر ستة، فالمستعين أعطى صنهاجة إلبيرة، كما أعطى مغراوة الجوف، بينما منح بني برزال وبني يفرن جيان وذواتها، وأعطى بني دمر وأزداجه شذونة ومورور. وتوثبت البرابرة والعبيد على الأعمال، فولوا المدن العظيمة وتقلدوا الأعمال الواسعة، فهذا باديس بن حبوس في غرناطة، محمد بن عبد الله البرزالي في قرمونة. والفرني في رنده، وخزومة في شريش وابن عباد في إشبيلية، وابن الأفطس ببطليوس، وابن ذي النون بطليطلة، وابن أبي عامر ببلنسبة، وابن هود بسرقسطة، ومجاهد العامري بدانية والجزائر. وعن هذا الوضع قال أحدهم يهجو المستعين: لا رحم الله سليمانكم ... فإنه ضد سليمان ذاك به غلت شياطينها ... وحل هذا كل شيطان فباسمه ساحت بأرضنا ... لهلك سكان وأوطان انظر: البيان المغرب 3/113، تاريخ ابن خلدون 4/151، نفح الطيب 1/429. 2- هو أبو الحسن علي بن حمود بن ميمون بن حمود بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس الثاني بن إدريس الأول بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أمه البيضاء بنت عم أبيه كان أسمر أعين نحيف الجسم طويل القامة حاد الذهن عازماً حازماً، شرس الأخلاق عدل في أحكامه ورعيته، محمود المذهب: انظر: جمهرة أنساب العرب ص5 البيان المغرب 3/119-120، ذكر بلاد الأندلس 1/206. 3- هو أبو محمد القاسم بن حمود، شقيق علي بن حمود، كان أسمر اللون أعين، أكحل، خفيف العارضين، حسن السمت، وهو أسن من أخيه علي بعشرة أعوام، وكان يذكر عنه أنه يتشيع إلا أنه لم يظهر ذلك ولا غير للناس عادة ولا مذهباً، توفي خنقاً في سجن ابن أخيه إدريس بن علي سنة 436هـ وحمل إلى ابنه محمد بن القاسم في الجزيرة فدفنه فيها. انظر: جمهرة أنساب العرب ص50، جذوة المقتبس ص22-24، المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص100، البيان المغرب 3/124-125، ذكر بلاد الأندلس 1/207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وأصيلا1، وفي هذا يقول ابن عذاري: "إن سليمان هذا أول دولة البرابر بقرطبة"2. وإذا نظرنا إلى تصرف المستعين في تقسيمه البلاد على البربر، ربما نجده مضطراً إلى هذا الفعل، فلعله بدأ يشعر بثقل وطأتهم عليه، إذ أنهم يعتبرون أنفسهم هم أصحاب الدولة، فهم الذين أوصلوه إلى ما هو فيه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فهو يدرك تماماً عدم الوفاق بين البربر وأهل قرطبة، ولأجل هذا سعى إلى إبعاد الطرفين عن بعضهما البعض، فوزع تلك الأراضي على قبائل البربر. وأما تولية المستعين لعلي والقاسم الحموديين لكل من سبته وطجنة وأصيلاً فهو عمل رديء من الناحية السياسية، إذ أنه بذلك وضع مفاتيح   1- أصيلا Arzila وتكتب أصيله وأزيلي، ومعناها بالبربرية المكان الجميل، وهي مدينة قديمة أسست على عهد الفينيقيين وتقع على ساحل المحيط الأطلسي بين طنجة والعرائش، وقد اتخذها الأدارسة مركزاً لدولتهم في شمال المغرب إلى جانب حجر النسر، وقد وقعت أصيلا تحت الاستعمار البرتغالي سنة 876هـ ومن ثم الأسباني سنة1000هـ. انظر: المغرب في ذكر بلاد أفريقية والمغرب ص 111-112، معجم البلدان 1/211، أعمال الأعلام 3/204 حاشية رقم 1. 2- البيان المغرب 3/114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الأندلس من جهة الجنوب بيد أسرة غير موالية له، لأجل ذلك نجد القائد عبد الله البرزالي1 يناقش المستعين في هذه التولية ويبين له خطرها، لكن الأخير تجاهل الأمر2. وقد صدقت تحذيرات البرزالي، فقد أعلن علي بن حمود الثورة بعد أن اتفق مع خيران العامري3، الذي لم يكن راضياً عن خلافة المستعين،   1- ينتسب عبد الله بن إسحاق البرزالي إلى قبيلة زناته البربرية، ومنازل بني برزال بالمغرب في منطقة الزاب الأسفل حول مدينة المسيلة، وهم من الخوارج الإباضية، وقد دخلوا الأندلس في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، وخدموا في دولته ودولة المنصور بن أبي عامر الذي ولى إسحاق البرزالي ولاية قرمونة، فما زال في الولاية حتى توفي سنة 404هـ فخلفه عليها ولده عبد الله واستمر عليها إلى أن توفي سنة 414هـ، وقد تعاقب أولاده وأحفاده عليها إلى أن سقطت دولتهم سنة 459هـ. انظر: جمهرة أنساب العرب ص498. المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص192-193، أعمال الأعلام 2/236-238، مفاخر البربر، ص29، 44،72. 2- البيان المغرب 3/114. 3- هو أحد الفتيان العامريين المخلصين للبيت العامري، فر من قرطبة عندما استولى عليها المستعين في دولته الأولى، ثم عاد إليها في عهد المهدي، وكان له دور في قتله وإعادة المؤيد للخلافة، فلما استولى المستعين على قرطبة ثانية هرب خيران إلى شرق الأندلس، واستقر في قلعة أوريولة من كورة تدمير سنة 404هـ، ثم استولى على مرسية وبعدها المرية سنة 405هـ وظل بها حتى توفي سنة 419هـ. انظر: دول الطوائف منذ قامها حتى الفتح المرابطي ص156-160. د. عبد العزيز سالم، تاريخ مدينة المرية الإسلامية قاعدة أسطول الأندلس، (الاسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة، ط 1984م) . ص 58-62 ومصادره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 فقد كان خيران العامري يأمل بحياة المؤيد، بل إنه كان يخطب له على منابر المرية1، ولذا عندما أحس برغبة ابن حمود في القيام ضد المستعين، بادر بالموافقة وبالذات بعد أن أخبره ابن حمود أن كتاباً كان قد وصله من المؤيد يسند إليه فيه ولاية العهد ويفوضه بأخذ ثأره من المستعين2، فدعا له خيران بولاية العهد، ووافقه على ذلك جماعة منهم صاحب مالقة3   1- المرية Almeria مدينة على ساحل البحر المتوسط جنوب شرقي أسبانيا، بناها الخليفة عبد الرحمن الناصر سنة 344هـ في مقاطعة بجانة، وأصبحت المرية القاعدة الكبرى للأسطول الأندلسي، بالإضافة إلى مركزها التجاري والسياسي والثقافي، كانت قاعدة لمملكة العبيد العامريين، ثم عاصمة لبني صمادح التجيبين، وقد استولى عليها النصارى نهائياً سنة 894هـ. انظر: المرجع السابق ص13-185. 2- انظر: الذخيرة: ق1 م1 ص37-38، 43. الكامل في التاريخ 8/98. بغية الملتمس ص22 البيان المغرب 3/114. نفح الطيب 1/482. ومهما يكن من أمر فالكتاب فيه شك حول حقيقته، وابن حمود دعاه ليتخذ منه سنداً شرعياً يوصله لمراده. البيان المغرب 3/116. ولولا أن لخيران العامري هوىً في محاربة المستعين وتنحيته من الخلافة لما اقتنع بكلام ابن حمود. 3- مالقة Malaca مدينة من أعمال رية على شاطئ البحر المتوسط بين الجزيرة الخضراء والمرية، وصفت بالحسن والاتساع ووفرة الخيرات، اشتهرت بالتين واللوز ولها ربضان كبيران وشرب أهلها من الأبار أسسها الفينيقيون وأعطوها اسم "مالكو Malako" أي المملح نسبة إلى مستودعات الأسماك المملحة التي كانت تجفف وتحفظ فيها، اشتهرت سياسياً، فقد كانت عاصمة للحموديين زمن الطوائف، والعاصمة الثانية بعد غرناطة أيام ملوك بني الأحمر، وقد سقطت مالقة في يد النصارى في أواخر شعبان سنة 892هـ بعد حصار دام ثلاثة أشهر. انظر: الإدريسي، نزهة المشتاق اختراق الآفاق، (القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية "مصورة على طبعة: نابولي –روما) ص565 أبي سعيد، كتاب الجغرافيا ص140. معجم البلدان 5/43. أعمال الأعلام 3/241 حاشية رقم 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 عامر بن فتوح الفائقي1 الذي بادر إلى تسليم مالقة لابن حمود سنة 405هـ2 (1014) واجتمع خيران ومن وافقه بالمنكب3 سنة 406هـ (1015) وبايعوا علياً بن حمود على طاعة المؤيد4، وعندما   1- هو مولى فائق مولى الخليفة الحكم المستنصر بالله. 2- جذوة المقتبس. ص 20، بغية الملتمس. ص22، المعجب في تلخيص أخبار المغرب. ص91. الكامل في التاريخ 8/98. قارن البيان المغرب 3/116. 3- المنكب، اسم عربي بمعنى الحصن المرتفع، ويسمى اليوم Almunecar وهو مرفأ ساحلي مرتفع في جنوب شرق الأندلس بمقاطعة غرناطة، على بعد 23 كيلو متر غربي مطريل، وقد سقط المنكب بأيدي النصارى في شهر المحرم سنة 895هـ. انظر: الروض المعطار ص548-549. ابن الخطيب، مجموعة من رسائله، (نشرت تحت عنوان "مشاهدات لسان الدين بن الخطيب في بلاد المغرب والأندلس "بعناية د. أحمد مختار العبادي، الاسكندرية1958م) . ص79-80 والحاشية رقم 2. محمد عبد الله عنان، الآثار الأندلسية الباقية في أسبانيا، دراسة تاريخية أثرية (القاهرة، مؤسسة الخانجي، 1381هـ/1961م) ص258-261. 4- الكامل في التاريخ 8/98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 بلغوا غرناطة1 وافقهم أميرها، وساروا جميعاً إلى قرطبة فالتقوا بقوات المستعين فهزموها وأسروه2، ودخل علي بن حمود قرطبة في يوم الأحد 22محرم سنة 407هـ3 (يوليو 1016) وقتل صبراً سليمان المستعين وأخيه ووالدهما، واستخرج جثة المؤيد، وجهزه وصلى عليه ودفنه بجوار والده4، وبذلك انتهت دولة سليمان بن الحكم بعد ست سنين وعشرة   1- غرناطة Granada ويقال إغرناطة تقع في الركن الجنوبي الشرقي لشبه الجزيرة الأيبرية، كانت عند الفتح الإسلامي محلة صغيرة، وكانت إلبيرة المجاورة لها هي المدينة الكبيرة في المنطقة، حتى أن الكورة سميت باسمها، وفي مطلع القرن الخامس الهجري شهدت غرناطة توسعاً كبيراً وأصبحت مركزاً للكورة وذلك لأن بني زيري اتخذوها حاضرة لهم، ونظراً لمنعة موقع غرناطة، فقد ازدادت أهميتها بصورة كبيرة خاصة بعد سقوط الأمصار الأندلسية الكبرى، حيث غدت حاضرة ملوك بني الأحمر. وقد عرفت غرناطة باسم دمشق الأندلس لشدة التشابه بينهما، كما أنها موطن جند دمشق، ويقال لها غرناطة اليهود لكثرتهم فيها وقد ظلت غرناطة بيد المسلمين إلى أن سقطت بيد النصارى سنة 898هـ. انظر: وصف الأندلس، ص67، الروض المعطار ص45-46، الإحاطة1/91،93، ابن الخطيب، اللمحة البدرية في الدولة النصرية، بعناية: محب الدين الخطيب، (القاهرة، المكتبة السلفية، 1347هـ) ص12-29. 2- الذخيرة، ق1 م1 ص97. 3- المصدر السابق، ق1 م1 ص42. المعجب ص91. البيان المغرب 3/117. 4- يبدو أن علي بن حمود كان على عجلة من أمره من أجل إتمام مبايعته بالخلافة، ولذا نراه يبادر إلى قتل سليمان المستعين بالله وأخيه ووالدهما، رغم إصرار سليمان ووالده على أن المؤيد لا يزال حيا، ولأن ابن حمود يدرك تماماً أن ظهور المؤيد يجعل كل ما قام به يذهب سدى، لأجل ذلك بادر إلى فعلته قبل أن يدخل الشك قلوب من كانوا معه، وبالذات خيران الذي كان يطمع في حياة المؤيد، وعن كيفية التأكد من وفاته لدينا رواية ابن الأثير وهي أوسع الروايات في هذه المسألة، فقد ذكر أن خيران وغيره دخلوا إلى القصر طمعاً في أن يجدوا المؤيد حياً، فلم يجدوه، ورأوا شخصاً مدفوناً، فنبشوه وجمعوا له الناس وأحضروا بعض فتيانه الذين رباهم وعرضوه عليه، ففتشه، وفتش أسنانه، لأنه كانت له سن سوداء فأخبروا خيران أنه المؤيد، وكان يعلم ذلك الفتى أن المؤيد حي". الكامل في التاريخ 8/99. ولعل شهادة هذا الفتى ومن معه بالإضافة إلى مسارعة ابن حمود بقتل سليمان وأخيه ووالدهما، دليل كاف على ادعائه للوصية، وأن الأمر بالنسبة له لا يعدو مطامع شخصية عمل من أجل تحقيقها مع تلافي الخطأ الذي وقع فيه شنجول من قبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 أشهر1، وهذه المدة وصفها ابن حيان بقوله: "وكانت كلها شداداً نكدات، صعاباً مشؤمات، كريهة المبتدأ والفاتحة، قبيحة المنتهى والخاتمة، لم يعدم فيها حيف، ولا فورق فيها خوف، ولا تم سرور، ولا فُقد محذور ... دولة كفاها ذماً أن أنشأها شانجة، فقشعها أرمقند، وثبتتها الجلالقة، ومزقتها الإفرنجة، ودبرها فاجر شقي، ووزر لها خب دني، فتمخضت عن   1- كان لسليمان المستعين بالله ولد اسمه محمد ولاه عهده، وصف بأنه كان نظير والده بالإهمال والإفساد في البلاد، وبعد مقتل المستعين فر ولده محمد ولجأ إلى منذر بن يحيى التجيبي لكنه غدر به وقتله صبرا. انظر جمهرة أنساب العرب ص102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الفاقرة الكبرى، وآلت بمن أتى بعدها إلى ما كان أعضل وأدهى، مما طوى بساط الدنيا، وعفى رسمها، وأهلك أهلها"1. ولأول مرة في الأندلس تخرج الخلافة عن الأمويين، وذلك عندما بويع علي ابن حمود بالخلافة عند باب السدة، واتخذ لقب: "الناصر لدين الله"2. وما أن استراح الخليفة ابن حمود في القصر، حتى تصدع التحالف الذي كان قد أقامه، فالعبيد الصقالبة والعامريون أصحاب الممالك المتناثرة في شرق الأندلس، رفضوا الاعتراف بخلافته رغم مكاتبته لهم، وإغرائه إياهم بالوعود الجميلة3، إذ أنه لا ينتمي للأسرة الأموية وعليه فلا حق له بالخلافة من وجهة نظرهم. ومما دفعهم أيضاً إلى رفض ابن حمود، موقف خيران العامري منه، فقد حرضهم عليه، بل دعاهم للقيام ضده، والسبب في ذلك يعود إلى اليوم الأول الذي دخل فيه خيران قصر الخلافة، ولم يجد المؤيد حيا، فقد   1- الذخيرةق1 م1 ص41-42. 2- انظر جذوة المقتبس، ص22. المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص98. البيان المغرب 3/122 أعمال الأعلام 2/128، نفح الطيب 1/431. وذكرت بعض المصادر أن ابن حمود تلقب بـ"المتوكل على الله" نفقط العروس: ص80. الكامل في التاريخ 8/99. 3- انظر: الذخيرة، ق1 م1. ص117-119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 مع ابن حمود، وأنه في خطر منه1، ولذا انسل من قرطبة وذهب إلى دار ملكه في المرية، وهناك بحث عن أموي يسير خلفه ليحقق من ورائه أطماعه، ويرضى نفسه الطموحة، وفي الوقت نفسه يضمن عدم بقاء ابن حمود في الخلافة، إذ لا بقاء له في الحكم مع قيام أموي يطالب بإرثه. وفي سنة 407هـ (1017) 2 عثر خيران على رجل أموي يدعى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك ابن عبد الرحمن الناصر3 وكان أصلح من بقي من بني أمية4، فبايعه خيران ومن معه بالخلافة كما بايعه أصحاب دول الطوائف ولقبوه بالمرتضى5، إذ أن هدفهم متفق مع هدف   1- الكامل في التاريخ 8/99. البيان المغرب 3/121-122. 2- البيان المغرب، 3/121. 3- كان عبد الرحمن هذا رجلاً صالحاً مائلاً إلى الفقه، لم يلبس في ولايته خزاً إلى أن قتل، ترك ولداً واحداً، انظر: جمهرة أنساب العرب ص101. 4- الكامل في التاريخ 8/99. 5- جمهرة أنساب العرب ص101. الذخيرة ق1 م1 ص99. الكامل في التاريخ 8/99. وتجدر الإشارة إلى أنه قبل قيام خيران وصاحبه المرتضى، كان مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر قد قدم للخلافة الفقيه المشاور عبد الله بن عبيد الله بن الوليد المعيطي، أحد أبناء الأسرة الأموية، وبايعه على ذلك في جمادى الآخرة سنة 405هـ، وسماه بـ "أمير المؤمنين المنتصر بالله" لكن الوفاق لم يدم بين الطرفين، مما حدا بمجاهد أن يطرد المعيطي إلى بجاية في العدوة المغربية. فقضى بقية عمره هناك معلماً لصبيان البربر حتى توفي خاملاً سنة 432هـ. انظر: القاضي عياض، ترتيب المدارك، الجزء الثامن، (تحقيق: سعيد أعراب، المغرب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1403هـ 1983م) . ص26-28. ابن بشكوال. كتاب الصلة، (بعناية عزت العطار الحسيني. القاهرة. مكتب نشر الثقافة الإسلامية، 1374هـ/1955م) . ترجمة رقم 592. البيان المغرب 3/116. أعمال الأعلام 2/220. دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي، ص185-190. مجاهد العامري. ص149-155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 خاب أمله، إذ كان يطمع باستعادة مكانته في ظل الخليفة الضعيف، كما أدرك أن لا مجال له خيران. ثم اجتمعوا في مكان يعرف بالرياحين، وذلك في شهر ذي الحجة سنة 408هـ (إبريل 1018م) ومعهم الفقهاء والعلماء، وبايعوا المرتضى على أن تكون الخلافة شورى وليست وراثة1. وما أن علم الخليفة علي بن حمود بهذا التجمع، وأن أهل قرطبة يتطلعون للمرتضى حتى غير ابن حمود سياسته تجاههم، فبدل اللين شدة، وأذاقهم الذل وأراهم القهر بالظلم والطغيان، وألزمهم مغارم عسيرة، فضاقوا به، وابتهلوا إلى الله بالدعاء عليه، فسلط الله تعالى عليه ثلاثة   1- الكامل في التاريخ 8/99-100، وبهذه المناسبة ألقى ابن دراج قصيدة مدح فيها المرتضى، مطلعها: جهادك حكم الله من ذا يرده ... وعزمك أمر الله من ذا يصده انظر: ديوان ابن دراج القصيدة رقم 32. الذخيرة ق1 م1 ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 من صقالبة القصر1، فقتلوه وهو في الحمام، وذلك ليلة السبت أول ذي القعدة سنة 408هـ2 (21 مارس 1018) . وقد شجع الموت المفاجئ لابن حمود الخليفة الأموي المرتضى على المسير إلى قرطبة إلا أنه عرَّج على غرناطة، فدعى زاوي بن زيري إلى الدخول في طاعته3، فرفض طلبه4، فنشبت معركة حامية بين المرتضى وقواته وبين زيري والصنهاجيين، إلا أن خيران والعبيد العامريين خانوا المرتضى، فتخلوا عنه في المعركة، وتركوه وحيدا، فغادر أرض المعركة،   1- تواطأ على قتل ابن حمود ثلاثة وصفاء، أحدهم يدعى "منجح" كان حسن الوجه، خفيفاً على قلب ابن حمود والآخران هما "لبيب وعجيب" ضربوه بخناجرهم وسدوا عليه باب الحمام. أنظر: الذخيرة ق1 م1 ص101. 2- المصدر السابق: ص97-101. وقد ذكر ابن حبان أن أهل قرطبة عندما علموا بمقتل ابن حمود فرِّج عنهم همٌّ عظيم وابتهلوا إلى الله تعالى بشكرهم. 3- لم تكن خطة المرتضى مبنية على الاصطدام بزاوي بن زيري، فقد كان يريد المسير إلى قرطبة للقضاء على القاسم بن حمود الذي تولى الخلافة مكان أخيه. لكن خيران ومن معه عندما لمسوا لدى المرتضى قوة شخصية وأنه متى وصل إلى قرطبة لن ينالوا ما يؤملوه، عندها أضمروا الغدر والخيانة بالمرتضى، فزينوا له دعوة زيري للدخول في طاعته. انظر: الذخيرة، ق1 م1 ص453-455. 4- انظر المراسلات التي تمت بين المرتضى وزاوي لدى: ابن حيان في الذخيرة: ق1 م1 ص453-454. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فتمت مطاردته حيث قتل بقرب وادي آش1 وذلك سنة 409هـ2 (1019م) . وقد أرسل زاوي بن زيري إلى القاسم بن حمود بخبر نتيجة المعركة، كما أرسل له نصيبه من الغنائم، ومن بينها سرادق المرتضى نفسه فضربه القاسم على شاطئ نهر قرطبة، مما أثار حزن أهلها على خليفة أموي طال انتظارهم له3. وهكذا أدى الصقالبة الذين يفترض أنهم الحريصون والأمناء على الخلافة الأموية، خدمة كبرى للحموديين، إذ أنهم بنتيجة هذه المعركة قد ساعدوهم من حيث لا يشعرون على تثبيت حكمهم في قرطبة، وفي الوقت نفسه قضوا على أي أمل في إعادة الدولة الأموية إلى سابق عهدها، كما أنهم حكموا بالتفوق للبربر على الجماعة الأندلسية الذين لم يعد   1- وادي آش أو وادي إيش. إسمها القديم "Acci" هي اليوم مدينة تعرف باسم Guadix تقع على نهر فردس على مسافة "53" كيلو متر شمال شرق غرناطة، اشتهرت بوفرة المياه والمزروعات. انظر: الروض المعطار ص604-605. ابن الخطيب، معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار، (تحقيق: د. محمد كمال شبانة. الإمارات - المغرب. د. ت) ص112. مشاهدات لسان الدين بن الخطيب، ص28 حاشية رقم 4. 2- عندما هرب المرتضى من أرض المعركة بعد أن تُرك وحيداً، أرسل خيران خلفه مجموعة من رجاله تبعوه وقتلوه وجاؤوا برأسه إلى خيران ومنذر. انظر: الذخيرة، ق1 م1 ص454-455. البيان المغرب 3/126-127. 3- الذخيرة ق1 م1 ص455-456. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 بالإمكان إقناعهم بالاجتماع على كلمة واحدة، وفي هذا يقول ابن حيان "فحل بهذه الواقعة على جماعة من الأندلس مصيبة سوداء أنست ما قبلها، ولم يجتمع لهم على البربر جمع بعد، وأقروا بالإدبار، وباءوا بالصغار"1. كما كانت هذه المعركة سبباً في رحيل الزعيم الصنهاجي الشهير زاوي بن زيري، إذ أدرك أن انتصاره في تلك المعركة انتصار مصطنع، وأن الأندلسيين هم الذين أرادوا انتصاره، وهذا يعني أنه بإمكانهم الوقيعة به متى أرادوا ذلك، ولذا فقد كره المقام بالأندلس وغادرها إلى أفريقية2. ويمكن القول كذلك، أنه بسبب هذه المعركة اهتزت الثقة بالأمويين بصورة كبيرة، فلم يعد لهم في قلوب الناس مكان، حتى أن خيران زهد في   1- المصدر السابق ص 455. 2- نفسه ص 457-458. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أخ للمرتضى يدعى هشام1، فطرده من مملكته، فغادر هشام واستقر في حصن البونت2. وبعد قتل علي بن حمود، عقد الزناتيون اجتماعاً، قرروا خلاله استدعاء القاسم بن حمود من إشبيلية ليتولى الخلافة، لكن القاسم حسب أن في الأمر خدعة، ولذا أرسل أحد ثقاته ليقف على حقيقة الأمر، فلما عاد إليه الرسول بالخبر، قدم إلى قرطبة، وصلى على أخيه، وأرسل جثمانه إلى سبته ليدفن هناك3.   1- هو أبو بكر هشام بن محمد بن عبد الملك، أمه أم ولد اسمها عاتب، ولد سنة 364هـ، وهو أسن من أخيه المرتضى بأربعة أعوام، كان هشام أبيض أصهب إلى الأدمة، سبط الشعر، أخنس، خفيف العارضين واللحية، حسن الجسم إلى القصر. مات ولا عقب له. انظر: جمهرة أنساب العرب ص101، جذوة المقتبس ص28-29. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص109-110. البيان المغرب 3/145-146. وهشام هذا هو آخر خليفة أموي كما سنعرف. 2- البيان المغرب 3/127. إلا أنه كتب: حصن البنت. والتصحيح من البكري: جغرافية الأندلس وأوربا ص 128، والبونت El puente مدينة تقع شمال غربي بلنسية. انظر: معجم البلدان 1/511. المغرب في حلى المغرب 2/395. الروض المعطار ص115. 3- الذخيرة، ق4 م1 ص101. قارن: لويس سيكودي لوثينا: الحموديون سادة مالقة والجزيرة الخضراء، (ترجمة د. عدنان آل طعمه دمشق، دار سعد الدين، 1992م) ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وبويع القاسم بالخلافة يوم الثلاثاء الخامس من شهر ذي القعدة سنة 408هـ (25 مارس 1018م) وتلقب بالمأمون1، كان وادعاً2، محباً للعافية3، أحسن تلقي الناس وأجمل مواعيدهم4، فأحبه أهل قرطبة وشعروا بالأمان في عهده. ويبدو أن القاسم أراد أن يتخلص من ثقل وطأة البربر والعرب على حكمه، ولذا اختط لنفسه سياسة جديدة، فقرب إليه السودان وولاهم دولته5، الأمر الذي أغضب البربر والعرب معاً، مما أحدث هزة في حكمه، فحاول إصلاح الوضع، وقام بمراسلة بعض الزعماء أصحاب المطامع الذي كانوا مع المرتضى6، لكنهم استثقلوه وازداد وضعه حرجاً بعد أن قام ضده ابن أخيه يحيى بن علي7 مطالباً بحقه في خلافة والده،   1- جذوة المقتبس، ص22. البيان المغرب 3/124. 2- جذوة المقتبس، ص22، المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص99. 3- المصدر السابق ص99. 4- البيان المغرب 3/130. 5- المصدر السابق والصفحة. 6- الكامل في التاريخ 8/100-101. البيان المغرب 3/130. 7- هو يحيى بن علي بن حمود، اختلف في كنيته، أمه بنت عم أبيه لبونة بنت محمد بن الحسن بن القاسم ولد سنة 384هـ، صفته أبيض أعين أكحل، كان شجاعاً ذا عزم وحزم وإقدام وكرم، قتل بقرمونة في شهر المحرم سنة 427هـ. انظر: جمهرة أنساب العرب ص51 جذوة المقتبس ص24-25 المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص103-104. البيان المغرب 3/131-144. ذكر بلاد الأندلس 1/207-208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وعندما اشتكى القاسم للبربر سوء وضعه، قابلوا شكواه بعدم الاهتمام مفضلين توسيع الخلاف بين الاثنين1، الأمر الذي اضطره أخيراً إلى مغادرة قرطبة إلى اشبيلية وذلك ليلة السبت 22 ربيع الآخر سنة 412هـ2 (7 أغسطس 1021) فدخل يحيى بن علي قرطبة بمساعدة خيران وصحبه الذين لاهم لهم إلا مصالحهم الخاصة، دون النظر لثمن تلك المصالح. وقد بويع يحيى بن علي بالخلافة يوم الاثنين مستهل جمادى الأولى سنة 412هـ (13أغسطس 1021) وتلقب بالمعتلي بالله3، في الوقت الذي كان عمه القاسم يدعى له بالخلافة في اشبيلية4، وعن هذا الوضع يقول ابن حزم "وهذا أمر لم يسمع في الدنيا بأشنع منه ولا بأدل على إدبار الأمور"5.   1- المصدر السابق 3/131. 2- نفس المصدر والصفحة. 3- المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص99. البيان المغرب 3/131. 4- المصدر السابق 3/132. 5- نقط العروس ص80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وفي بداية الأمر اختط يحيى سياسة حببته للجميع سواء أهل قرطبة أو البربر لكنه سرعان ماتركها فنفرت النفوس عنه1، فتم استدعاء عمه القاسم من اشبيلية، ففر يحيى عن قرطبة يوم الثلاثاء 18 من شهر ذي القعدة سنة 413هـ (14فبراير 1023) وهو اليوم الذي دخل فيه القاسم قرطبة2، وهذه هي دولته الثانية، إلا أن عهده في هذه المرة لم يطل، فقد كرهه القرطبيون بسبب تسلط البربر عليه، فثاروا ضده وطردوه وذلك يوم الثلاثاء 21 جمادى الآخرة سنة 414هـ3 (9 سبتمبر 1023) . وما أن تخلص القرطبيون من الحموديين، حتى قرروا إعادة الخلافة لبني أمية، فعقدوا اجتماعاً عاماً في جامع قرطبة لانتخاب أحد ثلاثة رشحوا لهذا الأمر، وهم سليمان4 بن المرتضى، ومحمد بن العراقي5، وعبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر لدين الله6،   1- انظر البيان المغرب 3/132. 2- البيان المغرب 3/132، أعمال الأعلام 2/132-133. 3- المعجب. وانظر د. إسماعيل العربي، دولة الأدراسة ملوك تلمسان وفاس وقرطبة، (بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط 1403هـ/1984م) ص249-251. 4- هو ابن الخليفة المرتضى الذي غدر به خيران وصحبه وقتل قرب وادي آش. 5- قتله المستكفي بالله خنقاً ونعاه للناس. البيان المغرب 3/142. 6- هو أبو المطرف عبد الرحمن بن هشام، أخو الخليفة المهدي، أمه أم ولد اسمها غاية، ولد في شهر ذي القعدة سنة 392هـ، وصف بأنه أبيض، أشقر، أعين، أقنى، طويل، نحيف البدن، حسن القد والجسم، كان في غاية الأدب والبلاغة والفهم ورقة النفس، ذكياً، لوذعيا، عفيفاً، لم يشرب النبيذ سراً وعلانية، وكان في وقته نسيج وحده، ختم به فضلاء أهل بيته الناصريين. انظر: جذوة المقتبس ص25-26. الذخيرة، ق1 م1 ص48-59. المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص105-106 الحلة السيراء 2/12-17، البيان المغرب 3/135-139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وكان الترشيح القوي لصالح سليمان بن المرتضى حتى أن كتاب العهد كان مكتوباً باسمه، إلا أن الجميع فوجئ بالدخول القوي لعبد الرحمن بن هشام، فقد اقتحم المسجد وهو على رأس مجموعة مسلحة، فدخل المقصورة، فتمت مبايعته مباشرة، ولم يتخلف المرشحان الآخران للخلافة عن البيعة، وكشط اسم سليمان من كتاب العهد وكتب بدلاً منه اسم عبد الرحمن، الذي اتخذ لقب المستظهر بالله، وذلك في الرابع من شهر رمضان سنة 414هـ1 (21 نوفمبر 1023) . ونظراً لأن المستظهر بالله كان وصوله للخلافة عن طريق الغصب والمباغتة، وذلك بواسطة رجال الدائرة، الذين هم حرس الخليفة، لذا فقد كانت لهم دالة عليه، يضاف إلى هذا أن المستظهر رفع مقادير مشيخة الوزراء من بقايا موالي الأمويين، وهؤلاء لا همَّ لهم إلا مصالحهم، فعملوا على استغلال قربهم من الخليفة، لكنه كان فقيرا، فالمال الذي يقع في يده يسد به رمقه، وما فضل منه يفرقه على من تكنفه من رجال الدائرة.   1- الذخيرة. ق1 م1 ص49-50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ويبدو أن أولئك الوزراء قد زادوا من ضغوطهم على الخليفة المعدم، ولذا فقد زج بجماعة منهم في السجن، وطالبهم بما لديهم من أموال، كما سجن بعض أبناء الأمويين، الأمر الذي أسخط رجال الدائرة، فأثاروا العامة ضده، فاقتحموا عليه قصره وقتلوه بعد أن أمضى بالخلافة سبعة وأربعين يوماً1. وفي اليوم الذي قتل فيه المستظهر بالله تولى الخلافة أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر2، وذلك يوم   1- قام رجال الدائرة بمطاردة الخليفة المستظهر بالله في أرجاء القصر، وسدوا عليه أبواب النجاة، وبعد أن عثروا عليه مختبئاً في مخزن الفحم والخشب الخاص بحمام القصر، قتلوه أمام الخليفة الجديد المستكفي بالله، ولم يكتف أولئك الفسقة بقتل المستظهر، بل إن شرهم طال حريمه، فقد سبوا أكثرهن وحملوهن إلى منازلهم علانية، وجرى عليهن مالم يجر على حرم سلطان في مدة تلك الفتنة. انظر: الذخيرة ق1 م1 ص50-55، الحلة السيراء 2/12-13، البيان المغرب 3/136-139. إن في هذا لعبرة فإهمال ذوي الأحلام والنهى ورفع مقام السفلة والأغمار والوثوق بهم لا يأت بخير أبداً. 2- هو أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن أمه أم ولد اسمها حوراء، ولد سنة 366هـ، كان ربعة، أشقر، أزرق، أشم، مدور الوجه، واللحية، ضخم الوجه والجسم، كبير البطن، صاحب شهوة بطن وفرج، كان منذ عرف عطلاً منقطعاً إلى البطالة، جاهلاً عاطلاً من كل خلة تدل على فضيلة: يلقب بالخويفية ولقب أيضاً بأبي زكيرة، انظر: جذوة المقتبس، ص26-27، الذخيرة، ق1م1ص433-434، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص107، البيان المغرب، 3/140-141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 السبت الرابع من ذي القعدة سنة 414هـ (18 يناير 1024) ولقب بالمستكفي بالله1، وكان الخليفة الجديد غفلاً عطلاً منقطعاً إلى البطالة، مجبولاً على الجهالة"2 في غاية السخف وركالة العقل وقلة التدبير3، ولذا فلا عجب أن يسند تدبير أمور دولته لرجل حائك يدعى أحمد بن خالد4. وقد أجمعت الآراء على أنه لم يكن في خلفاء الفتنة أسقط من المستكفي ولا أنقص منه، فقد كان سقيم السر والعلانية، أسير الشهوة، عاهر الخلوة، مشابهاً للخليفة العباسي المستكفي في كل شيء5، حتى   1- الذخيرة، ق1 م1 ص433-434، البيان المغرب 3/140-141. 2- الذخيرة. ق1 م1 ص434. 3- المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص107. 4- المصدر السابق والصفحة. 5- الذخيرة، ق1 م1 ص434. الكامل في التاريخ 8/103 والخليفة المستكفي العباسي هو أبو القاسم عبد الله بن علي أمه أم ولد يقال لها غصن ولد سنة 292هـ، بويع بالخلافة يوم السبت لعشر بقين من صفر سنة 333هـ، وذلك بواسطة امرأة تدعى حُسن الشيرازية، فصارت قهرمانته وغلبت على أمره كله. وقبض عليه في يوم الخميس لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة 334هـ، وخلع نفسه من الخلافة. كان أبيض مشربا حمره، أسود الشعر سبطه، خفيف العارضين أكحل العينين، أقنى الأنف. سملت عيناه يوم خلعه وحبس بعد ذلك ولم يزل محبوساً إلى أن توفي ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر سنة338هـ انظر: المسعودي مروج الذهب. (القاهرة المطبعة البهية 1346هـ) ، 2/540-552 الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (بيروت دار الكتب العلمية، د. ت) 10/10-11 مجهول، كتاب العيون والحدائق الجزء الرابع، القسم الثاني (تحقيق عمر السعيدي دمشق، المعهد الفرنسي بدمشق للدراسات العربية 1973م) ص415. - الكامل في التاريخ 7/187-188،203-207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 "أنهما اتفقا في الأخلاق والعهر واللعب وأن كل واحد منهما عاش اثنين وخمسين سنة، وكل واحد منهما ملك سنه ونحو خمسة أشهر، وكل واحد منهما تركه أبوه صغيراً، وتوافقا في اللقب وبالجملة فهما رذلي قومهما"1. وقد ضاق الناس بالمستكفي ذرعاً، فأكثروا من الشكوى بشأنه إلى يحيى بن علي بن حمود، المقيم بمالقة، وطلبوا منه الحضور إلىقرطبة2، فلما تحرك إليها، هرب المستكفي منها في زي غانية بين امرأتين3، وذلك يوم الثلاثاء 24 ربيع الأول سنة416هـ4 (26 مايو 1025) ولحق بالثغر، وكان معه القائد عبد الرحمن بن محمد بن السليم5، الذي مل المسير معه، فسمه في طعامه، فلما مات غسله وكفنه وصلى عليه ودفنه في قرية في   1- البيان المغرب 3/141. 2- انظر: الكامل في التاريخ 8/103. 3- الذخيرة، ق1 م1 ص437. 4- البيان المغرب 3/141. 5- من ولد سعيد بن المنذر أحد القادة المشهورين في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الثغر تعرف بـ"شمنت"1 لتنتهي بذلك حياة المستكفي بعد حكم دام سبعة عشر شهراً لم تتجاوز خلالها طاعته فرسخاً2. وقد بقيت قرطبة بعد رحيل المستكفي عنها، بدون خليفة مدة ستة أشهر تقريباً، حتى حضر إليها يحيى بن علي بن حمود3، فدخلها يوم الخميس السادس عشر من شهر رمضان سنة 416هـ (9نوفمبر 1025) ومكث بها إلى نهاية السنة، ثم غادرها إلى مالقة يوم الثلاثاء 8 من شهر محرم سنة 417هـ (1مارس 1026) تاركاً فيها وزيره وكاتبه أبا جعفر أحمد بن موسى، فاستغل الفرصة العامريان مجاهد وخيران، وذلك بإيعاز من حبوس بن ماكسن4، فقدما إلى قرطبة، فهرب عنها وزير المعتلي،   1- المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص107-108. 2- نقط العروس ص72. 3- ذكر ابن الأثير أن يحيى بن علي لم يحضر وإنما أرسل بدلاً منه عبد الرحمن بن عطاف اليفرني والياً عليها. انظر: الكامل في التاريخ 8/103. 4- هو ابن أخي الزعيم الصنهاجي زاوي زيري، كان أحد نابي برابرة الأندلس، عرف بالحلم والوقار والهيبة، كان نزر الكلام قليل الضحك كثير الفكر، شديد الغضب، غليظ العقاب، شجاعاً حسن الفروسية، جباراً متكبراً داهية واسع الحيلة كامل الرجولة، تولى غرناطة بعد رحيل عمه زاوي عنها ومازال يحكمها حتى توفي سنة 428هـ. انظر: الذخيرة، ق1 م1 ص458-461. دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي، ص123-125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 فبقي العامريان في قرطبة نحو شهر ثم خشي كل منهما غدر الآخر، فغادراها تباعاً1. وبعد رحيل خيران ومجاهد، أجمع أهل قرطبة، برأي من الوزير جهور بن محمد بن جهور2 على "خلع العلويين لميلهم إلى البربر وإعادة الخلافة في الأندلس إلى بني أمية"3 فبايعوا هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وهو مقيم بحصن البونت، وذلك في يوم الأحد 25   1- البيان المغرب 3/143-146. أعمال الأعلام 2/136-137. 2- ينتمي جهور لأسرة آل أبي عبدة الشهيرة التي تولى أفرادها المناصب القيادية في الدولة الأموية، وجهور هذا تولى الوزارة في عهد العامريين، ثم اعتزل العمل السياسي وتمكن بحسن أدائه من الاستقلال بقرطبة بعد طرد الأمويين، فحسنت أحوال أهلها، ونعموا بالأمن والرخاء إلى أن توفي ليلة الجمعة السادس من محرم سنة 435هـ. وقد وصف جهور بالحزم والدهاء والوقار والأدب والحلم، متواضعاً صالحاً، طاهر الأثواب، عفيفاً في شبابه وكهولته مواظباً على صلاة الجماعة، حافظاً لكتاب الله قائماً به في سره وجهره، يزور المرضى ويشهد الجنائز. إلا أنه كان يعاب عليه البخل الشديد، انظر: جمهرة أنساب العرب، ص102، جذوة المقتبس ص27-29، ترجمة رقم 258. مطمح الأنفس، ص180-186. الذخيرة ق2 م1 ص603-604. بغية الملتمس، ترجمة رقم 623. الحلة السيراء 2/30-34. البيان المغرب 3/186-187. 3- الكامل في التاريخ 8/106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ربيع الآخر سنة418هـ1 (5 يونيو 1027) فاتخذ لقب "المعتد بالله"2. وقد كان المعتد بالله في شبابه معروفاً بالشطارة، لكن تاب فرجي صلاحه3، إلا أن الظن فيه خاب، إذ ما أن وصل قرطبة في يوم الخميس الثامن من شهر ذي الحجة سنة 420هـ4 (19 ديسمبر 1029) حتى تبدلت أحواله، فقلد تدبير دولته لرجل حائك يدعى حكم بن سعيد ويعرف بالقزاز5، الذي عندما بحث عن رجال يستعين بهم لمساعدته في تدبير أمور الدولة لم يهتد إلا "إلى نغل دغل وماجن سفيه أو سوقي رذل"6.   1- البيان المغرب، 3/145، أعمال الأعلام 2/138. وتجدر الإشارة إلى أن هشام بن محمد بقي في حصن البونت بعد مبايعته في الخلافة مدة سنتين وسبعة أشهر وثمانية أيام وهو يخطب له في قرطبة. 2- جذوة المقتبس ص 28، الذخيرة ق3 م1 ص515. 3 - الذخيرة، ق3 م1 ص515. "والشاطر هو من أعيا أهله خبثا" انظر: الفيروز أبادي، القاموس المحيط (المطبعة المصرية القاهرة 1352هـ) ج2 ص 58. 4- جذوة المقتبس ص28. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص110. 5- هو أحد أبناء الموالي العامريين، حائك مشهور، عرف الخليفة المعتد بالله في قرطبة أيام الصبا، ومن ثم اجتمع به في حصن البونت، الذخيرة ق3م1 ص516. وقد كان هذا الحائك عاهر الخلوة صريع الشهوة، كذاب فاجر. البيان المغرب 3/149. 6- الذخيرة، ق3 م1 ص518-519. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وقد تفرغ الخليفة المعتد بالله لملذاته، فعانى الناس منه ومن وزيره ومن سار في نهجهما الأمرين1، ثم اتفقوا على قتل الوزير، فقتله رجل من هم يعرف بابن الحصار2، عند الركن الشرقي للجامع3. وقد حاول أمية بن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الرحمن الناصر4 استغلال الموقف لصالحه، ويتولى الخلافة، بدلاً من المعتد بالله، وحرص على ذلك أشد الحرص، حتى أنه عندما قال له أهل قرطبة: إنا نخاف عليك القتل في هذا اليوم لشدة الفوضى، أجابهم قائلا "بايعوني اليوم   1- اشترك مع الحائك في سفالته وخلعه كل من: الفقيه ابن الجيار وكذلك الشاعر أبو عامر بن شهيد، الذخيرة ق3 م1 ص 519-521. 2- البيان المغرب 3/146. 3- الذخيرة ق3 م1 ص525-526. 4- أمية بن عبد الرحمن كان فتى شديد التهور والجهالة، قاد المتذمرين من سياسة الخليفة المعتد بالله، حتى تمكنت تلك المجموعة من قتل الوزير الحائك والتمثيل بجثته، وقد اقتحم أمية القصر وجلس في مجلس الخليفة المعتد، ولم يأل أمية جهداً في سبيل تولي الخلافة، إلا أن جماعة الوزراء رفضوه وطردوه من القصر فهرب من قرطبة، ويبدو أنه حاول العودة إليها مرة أخرى بعد أن تم طرد الأمويين منها، فأخرج إليه شيوخ قرطبة من يقتله قبل دخولها، فقتل بموضع يعرف بقرية راشد، وذلك في شهر جمادى الآخر سنة 425هـ. انظر: الذخيرة ق3 م1 ص525-529 إلا أنه جعل اسمه أمية بن عبد العزيز بدلاً من عبد الرحمن. البيان المغرب 3/149-152، 187. إعمال الأعلام 2/138-139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 واقتلوني غداً"1 إلا أن الوزراء بقيادة الوزير جهور بن محمد قرروا حرمان أمية من مراده، فقد طردوه من القصر2، ثم خلعوا الخليفة المعتد بالله يوم الثلاثاء 12 من شهر ذي الحجة سنة 422هـ3 (30 نوفمبر 1031) وأخرجوه إلى صخرة محمود بن الشرف4، ثم نودي في أسواق قرطبة وأرباضها، بأن لا يبقى من بني أمية أحد، ولا يكنفهم أحد5. وهكذا أسدل الستار على تاريخ دولة من أعظم دول الإسلام، كانت على ثغر من ثغور الديار الإسلامية، جاهدت عنده بكل قوة، وسطر رجالاتها الأفذاذ بجهادهم أنصع الصفحات وخلفوا حضارة بنيت على أسس متينة. وعلى كل فإن كانت هذه الدولة المجيدة قد أزيلت لأسباب سوف نتعرض لها في ثنايا البحث إن شاء الله تعالى، فإن آثارها رغم ذلك، أبت   1- البيان المغرب 3/150. 2- الذخيرة، ق3م1 ص529. 3- البيان المغرب: 3/145، 185. 4- الذخيرة، ق3 م2 ص527-528. وقد بقي هشام المعتد بالله هناك مدة، ثم لحق بابن هود في لاردة فأقام عنده إلى أن مات في يوم الجمعة لأربع بقين من صفر سنة 428هـ. انظر: البيان المغرب 3/145. نهاية الأرب 23/437-438. وورد في جذوة المقتبس ص29، وفي المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص110، أنه توفي سنة 427هـ. 5- البيان المغرب 3/152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 إلا أن تقف بكل إباء إلى عصرنا الحاضر رغم كر الدهور، لتعطي الدليل الذي لا يقبل النقاش على عظمتها وسؤددها، والملك لله تعالى يهبه لمن يشاء وينزعه ممن يشاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الفصل الأول: النظام السياسي ورسومه المبحث الأول: رئاسة الدولة ... المبحث الأول: رئاسة الدولة يأتي الأمير أو الخليفة الأموي في الدولة الأموية بالأندلس على رأس جهاز الحكم، ونظراً لأخذ الأسرة الأموية بالأندلس بنظام الحكم الوراثي، فإن الأمير أو الخليفة يوصي بالحكم من بعده لأحد أبنائه، وليس بالضرورة أن يكون للابن الأكبر حق ملزم في تولي الحكم بعد أبيه، إذ أن منصب ولاية العهد يتم الاختيار له بعناية فائقة 1، وبناءً على وصية يتركها الأمير أو الخليفة يبايع ولي العهد حاكماً جديداً للبلاد. وكان إذا توفي الأمير أو الخليفة الأموي يبادر ولي العهد إلى أخذ البيعة من كبار فتيان القصر الصقالبة المعروفين بالخلفاء الأكابر، وهم بدورهم يأخذونها على من تحت أيديهم 2، ثم يأمر بإحضار الكتَّاب والوصفاء والمقدمين والعرفاء فيبايعونه 3، بعد ذلك يتم إحضار الأخوة والأعمام وأولادهم بواسطة بعض الوزراء ومعهم الجند، بدون قبول عذر أي منهم 4، فإذا وصلوا جلسوا في مجالس خاصة مع رجالات الدولة وكبار أصحاب البيوتات الأندلسية، فإذا تمت الاستعدادات لتلقي البيعة، جلس الحاكم الجديد للبلاد على سرير الملك بمجلسه الضخم، فيكون   1- سوف نتطرق لهذا الأمر عند الحديث عن ولاية العهد. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 120. نفح الطيب: 1/387. 3- نفح الطيب: 1/387. 4- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص120، نفح الطيب: 1/387. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 إخوته وعمومته وأولادهم أول الداخلين عليه، ولباسهم الأردية والظهائر البيض إعلاناً لحزنهم على الحاكم الراحل 1، فيبايعونه بأن يصفقوا بأيديهم على يده على هيئة المصافحة 2، وبعد أن ينصتوا لسماع قراءة صحيفة البيعة بصوت أحد الوزراء 3، ويعلنون التزامهم لأيمان انعقادها، يقوم أحد أولئك الأمراء ويرتجل كلمة نيابة عن أبناء الأسرة الأموية يعزي فيها الحاكم بوفاة والده الفقيد ويهنئه بالمنصب الجديد 4، بعد ذلك يتقدم الوزراء وأولادهم وإخوانهم ويتلوهم أصحاب الشرطة وطبقات أهل   1- مؤلف مجهول، تاريخ عبد الرحمن الناصر، (تقديم د. عدنان محمد آل طعمه، دمشق دار سعد الدين، 1992م) ص18. في الأندلس لبس البياض شعار للحداد والحزن، قال ابن دحية: "ولبس البياض عادة أهل الأندلس في الحزن على موتاهم استنوا ذلك من عهد بني أمية قصداً لمخالفة بني العباس في لباسهم السواد". انظر: ابن دحية، المطرب في أشعار أهل المغرب، (تحقيق: مصطفى عوض، الخرطوم، 1954م) ص85. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص120. البيان المغرب 3/60. البيعة شبيهة بالبيع الحقيقي كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه، وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره، والأصل في ذلك أنه كان من عادة العرب أنه إذا تبايع اثنان صفق أحدهما بيده على يد صاحبه. وهي في عرف اللغة ومقصود الشرع: العهد على الطاعة على أنهم يسلمون لربها النظر في أمور أنفسهم لا ينازعونه في شيء من ذلك ويطيعونه فيما يكلفهم به من الأمر على المنشط والمكره، شبهت حالتهم في مصافحتهم بأيديهم تأكيداً لعهدهم بفعل البائع والمشتري وسميت بيعة. انظر: عبد الحي الكتاني: نظام الحكومة النبوية، المسمى التراتيب الإدارية، (بيروت، دار الكتاب العربي، د. ت) . 1/221-222. 3- الحلة السيراء، 1/138. 4 - تاريخ عبد الرحمن الناصر، ص 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الخدمة، فإذا بايعوا قعدوا جميعاً عن يمين الأمير أو الخليفة وشماله، ثم يتولى أحد كبار رجالات الدولة أخذ البيعة على بقية الحضور 1. ويصف لنا المقري الحفل الذي أقيم في الزهراء عند مبايعة الحكم المستنصر بالخلافة في الثالث من رمضان سنة 350هـ (16 أكتوبر سنة 961م) فيقول: "وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في البهو الأوسط من الأبهاء المذهبة القبلية التي في السطح الممرد، فأول من وصل إليه الإخوة فبايعوه، وأنصتوا لصحيفة البيعة، والتزموا الأيمان المنصوصة بكل ما انعقد فيها، ثم بايع بعدهم الوزراء وأولادهم وإخوتهم، ثم أصحاب الشرطة وطبقات أهل الخدمة، وقعد الإخوة والوزراء والوجوه عن يمينه وشماله إلا عيسى بن فطيس 2 فإنه كان قائماً يأخذ البيعة على الناس، وقام الترتيب على الرسم في مجالس الاحتفال المعروفة، فاصطف في المجلس الذي قعد فيه أكابر الفتيان يميناً وشمالاً إلى آخر البهو كل منهم على قدره في المنزلة، عليهم الظهائر البيض شعار الحزن، قد تقلدوا فوقها السيوف، ثم تلاهم الفتيان الوصفاء، عليهم الدروع السابغة والسيوف الحالية، صفين منتظين في   1 - البيان المغرب، 2/254.نفح الطيب، 1/387. 2 - عن ابن فطيس: انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، قسم التعليقات، تعليق: رقم 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 السطح، وفي الفصلان 1 المتصلة به ذوو الأسنان من الفتيان الصقالبة الخصيان لابسين البياض، بأيديهم السيوف، يتصل بهم من دونهم من طبقات الخصيان الصقالبة، ثم تلاهم الرماة متنكبين قسيهم وجبابهم، ثم وصلت صفوف هؤلاء الخصيان الصقالبة صفوف العبيد الفحول شاكين في الأسلحة الرائقة والعدة الكاملة، وقامت التعبية في دار الجند والترتيب من رجَّالة العبيد عليهم الجواشن والأقبية البيض، وعلى رؤوسهم البيضات الصَّقيلة، بأيديهم التراس الملوَّنة والأسلحة المزينة، انتظما صفين إلى آخر الفُصُل، وعلى باب السدة الأعظم البوابون وأعوانهم، ومن خارج باب السدة فرسان العبيد إلى باب الأقباء، واتصل بهم فرسان الحشم وطبقات الجند والعبيد والرماة موكباً إثر موكب إلى باب المدينة الشارع إلى الصحراء" 2. وبعد أن تتم مراسم الاحتفال بالبيعة الخاصة التي تنتهي عادة في نفس اليوم 3، وبعد أن يسمع الأمير أو الخليفة لإنشاد الشعراء الذين يعزونه لفقد والده ويهنؤنه بالإمارة أو الخلافة 4، يتم توزيع الكساوي   1 - الفصلان جمع فصيل وهو الرحبة عند مدخل البيت. وتكون الفصلان، فيما يبدو، على شكل رحاب وصحون متوالية تحددها هيئة الأعمدة. انظر: نفح الطيب، 1/387 حاشية رقم 1. 2 - المصدر السابق، 1/387-388. 3 - تاريخ عبد الرحمن الناصر، ص18. 4- انظر مثلاً قصيدة ابن دراج التي رثى فيها عبد الملك المظفر وعزَّى أخاه عبد الرحمن وهنأه فيها بالحجابة وولاية العهد. انظر: ديوان ابن دراج القسطلي، (تحقيق وتعليق: د. محمود مكي. منشورات المكتب الإسلامي، دمشق 1961م) . ص456. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 والأموال على الحضور حسب مراتبهم وأقدارهم 1، ثم يؤذن للجميع بالانصراف باستثناء الإخوة والأعمام والوزراء وأهل الخدمة، وذلك لحضور مراسم مواراة الأمير أو الخليفة الراحل في المقبرة الخاصة بأمراء وخلفاء بني أمية والمعروفة باسم روضة الخلفاء الموجودة داخل القصر بقرطبة 2 وعادة ما يتولى الحاكم الجديد الصلاة على جثمان سلفه 3. وجرت العادة في البيعة الخاصة المعروفة بالمشرق باسم "بيعة أهل الحل والعقد 4 " أن تسجَّل شهادات الشهود في سجل خاص، وقد أورد لنا ابن الخطيب نقلاً عن ابن حيان أسماء الشهود الذين حضروا البيعة الخاصة التي جرت للخليفة هشام المؤيد بن الخليفة الحكم المستنصر والتي تمت في يوم الاثنين لثلاث خلون من صفر سنة 366هـ (أكتوبر 977) وقد بلغ عدد أولئك الشهود مائة وتسعة وثلاثين شاهداً 5.   1- المقتبس، تحقيق د. محمود مكي، ص 121-128، أعمال الأعلام: 2/18. 2- انظر: المقتبس، تحقيق:د. محمود مكي: ص17. المقتبس، تحقيق أنطونية، ص3، البيان المغرب 2/48، 77،90،151. ذكر بلاد الأندلس 1/124، 133، 149، 152، 156، 168، 173، 204. نفح الطيب، 1/388. 3- تاريخ عبد الرحمن الناصر، ص18، البيان المغرب 2/65،77، 106، 121، 151، ذكر بلاد الأندلس، 1/124،133،152،156،168. 4- الماوردي، الأحكام السلطانية (بعناية: محمد بدر الدين الحلبي القاهرة، مكتبة الخانجي، 1327هـ/1909م) ص5. 5- أعمال الأعلام: 2/48-57. إلا أنه عند التحقق من أسماء أولئك الشهود نجد أن سبعة عشر شاهداً لا يمكن أن يكونوا ضمن الحاضرين للبيعة، إذ أن معظمهم ولد بعد البيعة بكثير، وهناك من كان عمره عند البيعة سنة واحدة وآخر ست سنين وثالث تسع سنين، بل إن هناك من توفي قبل البيعة بسبع سنين وهم على الترتيب:= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ......................................................................   =- القاضي عبد الرحمن بن محمد بن عيسى، يعرف بابن الحشا، توفي سنة 473هـ "الصلة. ترجمة رقم 728". - الفقيه أبو عبد الله بن عتاب بن محسن، ولد سنة 383هـ، "ترتيب المدارك 8/131-134". - القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي، ولد سنة 403هـ. "الصلة. ترجمة رقم 453". - أبو الحسن مختار بن عبد الرحمن الرعيني القرطبي، ولد سنة 393هـ. "ترتيب المدارك 8/98. الصلة ترجمة رقم 1374". - أبو عمر عبد الرحمن بن القرداحي، توفي وأبوه حي سنة 425هـ. "ترتيب المدارك 8/93". - أبو المطرف عبد الرحمن بن سعيد بن جرج، ولد سنة 368هـ. "ترتيب المدارك 8/13". - أبو بكر بن أبي العباس بن ذكوان، ولد سنة 395هـ. "ترتيب المدارك 8/87-88". - أبو محمد عبد المهيمن بن عبد الملك بن أحمد القرشي، ولد سنة 400هـ. "ترتيب المدارك 8/20-21". - سراج بن عبد الله بن محمد بن سراج، ولد سنة 370هـ. "الصلة ترجمة رقم 517". - أبو بكر عبيد الله القرشي التيمي القرطبي، ولد سنة 365هـ. "الصلة، ترجمة رقم 667". - أبو العباس أحمد بن أيوب الألبيري. ولد سنة 360هـ. "الصلة ترجمة رقم 100". - همام بن أحمد بن عبد الله الأطروش، ولد سنة 357هـ. "الصلة ترجمة رقم 350". - عبد الملك بن هذيل بن عبد الملك التميمي، توفي سنة 359هـ. "ابن الفرضي، ترجمة رقم 822". ويمكن أن نضيف إلى تلك الأسماء أسماء أخرى هناك شك كبير يحيط بحضورها لبيعة المؤيد ربما لأن أصحابها كانوا وقتها دون الحلم، وهم: - أبو محمد عبد الله بن سعيد بن لباج الأموي، توفي سنة 436 "الصلة ترجمة رقم 597".= - أبو مروان عبد الملك بن أحمد الأصبغ القرشي، ولد سنة 358هـ، "الصلة ترجمة رقم 770". - عبد الله بن عبيد الله بن الوليد المعيطي، توفي سنة 432هـ، "ترتيب المدارك 8/26-27. الصلة، ترجمة رقم 592". - أبو محمد مكي بن أبي طالب ولد سنة 355هـ. "ترتيب المدارك 8/13 الصلة ترجمة رقم 1390". ولعل الكاتب الذي نقل عنه ابن حيان أراد بزيادة أسماء الشهود إثبات حجية بيعة الخليفة هشام المؤيد بكثرة عدد الشهود الموقعين على الوثيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ونظراً للاضطراب الذي كانت الخلافة الأموية بالأندلس قد مرت به في الربع الأول من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) والمسمى بعصر الفتنة من سنة 399-422هـ (1009-1031م) فإن مراسم الاحتفال بالبيعة الخاصة للخليفة قد اختفت تماماً، حيث أصبح الأمر يقتصر على أن يقوم المبايعون بالصفق على يد الخليفة، إما في المسجد الجامع بقرطبة 1، أو في داخل قصر الخلافة 2، وهناك من جرت بيعته على سطح القصر 3، وآخر بويع بباب السدة من قصر قرطبة 4، بل   1- الذخيرة، ق1 م1 ص49-50. 2- المصدر السابق، ق1 م1 ص54، الحلة السيراء، 2/7. البيان المغرب، 3/60،77، 122، 136. أعمال الأعلام 2/110-111، 136، ذكر بلاد الأندلس، 1/201،204،208،209. 3- الذخيرة، ق1 م1 ص45. 4- البيان المغرب، 3/122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 إن هناك من كانت بيعته أولاً في الثغر ثم جددت بيعته عند دخوله قرطبة 1. وبعد أن تتم مراسم البيعة الخاصة يتولى قاضي الجماعة 2 وصاحب المدينة وصاحب الشرطة العليا، وصاحب الشرطة الصغرى، وصاحب أحكام السوق 3 أخذ البيعة العامة من الناس في المسجد الجامع بقرطبة لعدة أيام، كما يتم إرسال نسخ من كتاب البيعة للعمال في الكور، والقادة في الثغور لأخذ البيعة على من قبلهم، حيث ترد بعد أيام كتب من كافة أقطار الأندلس تخبر بإنجازها 4، كما أن وفوداً تحضر إلى القصر من تلك الكور والثغور يستقبلها الأمير أو الخليفة بمحضر من الوزراء وقاضي الجماعة ورجالات الدولة، حيث يتلقى مبايعة أعضاء هذه الوفود، وتسجل شهاداتهم بسجل خاص 5، كما يتم إرسال وفد من قبل الأمير أو الخليفة لأخذ البيعة في بعض الكور 6.   1- انظر: جذوة المقتبس، ص28، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص110. البيان المغرب، 3/91، 145، أعمال الأعلام 2/138. ذكر بلاد الأندلس، 1/203،212. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص120. 3- تاريخ عبد الرحمن الناصر، ص18. 4- تاريخ عبد الرحمن الناصر ص18-19. البيان المغرب، 2/158. 5- المقري. أزهار الرياض، 2/288. 6- المقتبس، تحقيق: أنطونية، ص50. تاريخ عبد الرحمن الناصر ص19. البيان المغرب 2/121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 رسوم الخلع من الخلافة: وكما أن للبيعة بالإمارة أو الخلافة رسوم متبعة، فإن للخلع من ذلك المنصب رسوماً مشهودة، فالخليفة هشام المؤيد عندما قام ضده محمد بن هشام بن عبد الجبار الملقب بالمهدي طالب المؤيد بخلع نفسه عن منصب الخلافة، فاستجاب لطلبه، فدخل اثنان من كبار فقهاء قرطبة على الخليفة هشام المؤيد في مجلسه، وسمعا منه خلع نفسه، وأخذا منه البيعة للمهدي فأداها وهو يقرأ {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} 1 فبشهادة هذين الفقيهين، خُلع المؤيد ونودي بالمهدي خليفة بدلاً منه، وذلك يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة 399هـ 2 (18مارس 1009م) . وعندما بدأت دولة المهدي للمرة الثانية ودخل قصر الخلافة بقرطبة في شهر شوال سنة أربعمائة 3 (يونيو 1010م) بادر إلى إحضار الخليفة هشام المؤيد إلى مجلسه، وطالبه بخلع نفسه من الخلافة، فاستجاب لطلبه "وكتب خلعه بيده 4 ". وعلى هذا فإننا نجد أن رسوم الخلع من الخلافة تقتضي حضور الشهود من قضاة وفقهاء ووزراء ونحوهم، وأن يكتب الخليفة المخلوع   1- من أية 36 سورة آل عمران. 2- البيان المغرب 3/60. 3- المصدر السابق، 3/95. 4- ذكر بلاد الأندلس، 1/201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 كتاباً بيده، يعترف فيه بعجزه عن تدبير أمور الخلافة، ويُحل الرعية من البيعة التي له في أعناقهم 1، ويشهد الحضور على ذلك الكتاب، ثم يبايع الخليفة المخلوع للخليفة الجديد. إلا أن هذه الرسوم لم تُتبع عندما أجمع "وزراء ومشيخة الرأي 2 " في قرطبة على إنهاء الخلافة الأموية في عهد هشام المعتد بالله، فقد اكتفوا بإصدار قرارهم دون أن يأخذوا من الخليفة هشام المعتد بالله كتاباً يقر فيه بعجزه عن إدارة شؤون الخلافة، ويحل الأمة من بيعته، وذلك يوم الثلاثاء الثاني عشر من شهر ذي الحجة من سنة 422هـ 3 (30 نوفمبر 1031م) . وهذه الحالة تكررت من قبل، فعندما اتفق أعيان قرطبة على خلع الخليفة المستكفي بالله يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 416هـ 4 (26مايو 1025) دخلوا عليه وقالوا له:"قد علم الله اجتهادنا في تثبيتك، فاعتاص ذلك علينا، واضطررنا إلى مقارعة عدونا، وهانحن خارجون إليه ولا ندري ما يحدث عليك بعدنا، فإن تك لك الكرة   1- الذخيرة ق3 م1، ص529. 2- البيان المغرب 3/145، أعمال الأعلام 2/139. 3- انظر: الذخيرة، ق3 م1، ص529. البيان المغرب، 3/151. أعمال الأعلام 2/139. 4- البيان المغرب 3/141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فلا تيأس فمع اليوم غد، فأجمل الرد وانقاد للدنية 1 " ولم يؤخذ منه كتاباً يعترف فيه بالخلع ويحل الأمة من بيعته. ممارسة الأمير أو الخليفة للسلطان: بدراسة المصادر الأندلسية، نلاحظ أنه كان إلى جانب صاحب السلطة السياسية في البلاد، هناك أصحاب البيوتات الأندلسية الموالية لبني أمية كانوا مشاورين وناصحين ومساعدين للأمير أو الخليفة في ممارسته للسلطان، إذ أنهم يتميزون بالخبرة الواسعة، وذلك لتوارثهم المناصب في كافة شئون الدولة. ويبدأ الأمير أو الخليفة بممارسة سلطاته في الحكم، بمجرد تلقيه البيعة الخاصة، وتستمر هذه الصلاحيات طيلة توليه رئاسة الدولة، ويتخلل تلك الفترة إصداره قرارات عديدة، لإحكام سيطرته على أجهزة الدولة. ويمكن تقسيم تلك القرارات إلى مجموعات، منها: قرارات تتعلق بترسيخ سلطة الدولة، ومن الأمثلة على ذلك، أن الأمير عبد الرحمن الداخل بعد أن استولى على قصر الإمارة بقرطبة، بلغه أن هناك مخططاً لاغتياله، بعد هزيمته للوالي الأندلسي يوسف الفهري ووزيره الصميل 2، ولذا عمد   1- الذخيرة ق1 م1، ص436. 2- ورد في بعض المصادر التاريخية أن أبا الصباح زعيم اليمينة، عرض على قومه التخلص من الأمير عبد الرحمن الداخل ومواليه، وذلك بعد هزيمة الأخير للفهري والصميل في معركة المصارة سنة 138هـ. انظر: ابن القوطية ص 30. أخبار مجموعة ص90-91. نفح الطيب، 3/34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الأمير الأموي إلى تولية عبد الرحمن بن نعيم قيادة شرطته، واتخذ من مواليه حرساً، وضم إليه موالي بني أمية في قرطبة 1. ومن القرارات التي يمكن إدراجها في هذا الإطار: التصدي للمناوئين والمعارضين للبيعة من أبناء الأسرة الأموية 2، وبما أنه هو القائد الأعلى للجيش، فهو الذي يصدر القرار بخروج الجيش للغزو، سواء تولى هو القيادة أو أناب عنه أحد رجاله 3، وهو الذي يعلن الحرب والسلم 4، وباسمه ترد كتب الفتوح 5، وهو الذي يصدر قرارات القضاء على حركات التمرد والعصيان 6، وهدم بعض مواطن أصحابها 7، وبناء القلاع وإحكام أسوارها وشحنها بالرجال والعتاد 8، وإحكام السيطرة على بعض الكور التي دبت فيها الفتن حتى قبل تلقيه البيعة الخاصة 9.   1- أخبار مجموعة ص91. 2- البيان المغرب 2/57، 62، 70، 150-151، 180-182. 3- استمر حكام بني أمية يقودون الجيوش حتى سنة 327 وهي السنة التي جرت فيها غزوة الخندق وانهزم فيها الخليفة عبد الرحمن الناصر. 4- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص307،308. 5- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص102. 6- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص3-4، 7. البيان المغرب، 2/48-58،64، 69، 71، 72، 74، 75، 77، 82،83، 87 .... إلخ. 7- المصدر السابق: 2/82، 96، 100. 8- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص132. البيان المغرب، 2/94، 95. 9- المصدر السابق، 2/120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وهناك قرارات تتعلق بإدارة الدولة مثل إقرار أصحاب المناصب على مناصبهم أو عزلهم عنها 1، وإسناد المناصب المهمة للأكفاء 2، إنشاء الخطط الجديدة في الدولة 3، وإنشاء بيت الوزراء وإلزامهم التجمع فيه 4، ومناقشتهم في أمور البلاد 5، ومراجعة حسابات الخزينة، 6 وتكريس الخطط في أبناء أسر معينة 7، والإشراف على السياسة الخارجية للدولة، فباسمه تبرم المعاهدات الخاصة بالتحالفات التي تعقد مع الدول الأخرى 8، وهو الذي يختار مبعوثيه لإجراء المفاوضات إذا استلزم الأمر 9، كما أنه   1- قضاة قرطبة، ص25، 88-89، 106. ابن الفرضي، ترجمة رقم 328. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي: ص41، 135، 190. 2- ابن القوطية، ص 82، البيان المغرب، 158-159، 220. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص99، المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص252. 4- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص29. 5- المصدر السابق، ص172. 6- نفسه، 136. 7- نفسه، 143-144، 179. 8- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص146. أعمال الأعلام، 2/68. نفح الطيب، 1/330-331. أندلسيات، 2/72. 9- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص146-147. أعمال الأعلام، 2/68. نفح الطيب، 1/346. غزوات العرب، ص142. الإسلام في المغرب والأندلس، ص97-101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 يقوم بالجلوس لاستقبال الوفود الزائرة 1، وكذلك يتفقد المنشآت العمرانية 2، ويمنح الألقاب 3، ويهتم بالبريد 4. كما أن هناك قرارات تتعلق بالمرافق الدينية مثل:- توسيع جامع قرطبة، فقد حظي هذا الجامع باهتمام أمراء وخلفاء بني أمية، منذ أن أنشأه الأمير عبد الرحمن الداخل سنة 168هـ (785م) حيث استمرت عملية الإضافة إليه طيلة عهدي الإمارة والخلافة وكانت آخر زيادة شهدها الجامع سنة 377هـ (987م) على يد الحاجب المنصور بن أبي عامر 5، ولم يقتصر الأمر على الاهتمام بجامع قرطبة، فقد أُنشأت الجوامع في كافة كور الأندلس 6، وتم إجراء الزيادة فيها 7، وإعمار ما تهدم منها 8، ولعل جامع العدبَّس بإشبيلية هو أشهر تلك الجوامع بعد جامع قرطبة 9، وقد بلغ من اهتمام الأمير هشام الرضا: 172-180هـ   1- المقتبس، طبعة شالميتا، ص423، 459، 469، 485. أندلسيات، 2/63-106. المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 21-22، 50-52، 138، 146. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص92. 3- المصدر السابق ص69. 4- نفسه 136. 5- انظر: قرطبة حاضرة الخلافة، 1/269-349 ومصادره. 6- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص244. البيان المغرب، 2/82، نفح الطيب، 1/347. 7- البيان المغرب 2/96. 8- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص327. 9- ينسب هذا الجامع لعمر بن عدبَّس قاضي إشبيلية الذي تولى الإشراف على بنائه سنة 214هـ تنفيذاً لأمر الأمير عبد الرحمن الأوسط وقد كان هذا الجامع من أعظم مساجد الأندلس بعد جامع قرطبة، وقد أزال النصارى كل أثر لهذا الجامع وأقاموا مكانه كنيسة السلفادور. انظر: ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، (تحقيق: عبد الهادي التازي، دار الأندلس، بيروت، 1383هـ (1964م) ص:470. التكملة: طبعة كوديرا، ترجمة رقم 1908. ذكر بلاد الأندلس 1/142، ولكنه أشار إلى أن البناء تم سنة 230هـ. رحلة الأندلس، ص139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 (788-796م) بالمساجد وترغيب الناس في ارتيادها أنه كان "يصرِّر الصرر بالأموال في ليالي المطر والظلمة ويبعث بها إلى المساجد فيعطي من وجد فيها، يريد بذلك عمارة المساجد" 1. وهناك قرارات تدور حول الاهتمام بالرعية: منها إشاعة العدل في المجتمع، وذلك عندما ينصاع الأمير أو الخليفة لحكم القاضي وإن كان ضد رغبته 2، وإرسال أناس عدول يطوفون الكور والثغور يسألون الناس عن سير عمالهم وقضاتهم فيهم 3، وإقامة الحق علنا على من استوجبه منهم 4، وكذلك إنشاء مرافق الخدمة العامة مثل: بنيان قنطرة قرطبة 5، وقنطرة أخرى على نهر إستجه 6، وبناء المدن 7، وإذا استلزم الأمر إجراء   1- العقد الفريد، 4/490. 2- انظر: قضاة قرطبة، ص23-24، 29، 30، 73. فرحة الأنفس، ص304، النباهي، المرقبة العليا (تحقيق: ليفي بروفنسال. بيروت، المكتب التجاري، د. ت) ص56-70. وسأشير إليه فيمابعد باسم "النباهي". البيان المغرب 2/66. 3- المصدر السابق 2/66. 4- نفسه، 2/66. 5- نفسه، 2/66، 288. 6- نفسه، 2/288. إستجه Ecija مدينة قديمة، تقع على وادي شنيل إلى الجنوب الغربي من قرطبة على بعد خمسين كيلو مترا، واسمها يعني جمعت الفوائد، وصف أهلها بأنهم أصحاب شغب وانحراف عن الطاعة سواء قبل الفتح الإسلامي أو بعده. انظر: الروض المعطار ص53، المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي تعليق رقم 37. 7- البيان المغرب، 2/214، 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 توسعة لإحدى الشوارع أو الأسواق وترتب على ذلك نزع بعض الأملاك، من حوانيت أو دور، فإن الحكومة تدفع لأربابها ما يرضيهم 1. وقد كان الفقراء والمحتاجون في قائمة اهتمامات أمراء وخلفاء بني أمية لذلك أنشئت دار للصدقة 2، وعادة ما يتم الإكثار من الصدقات على الفقراء والمحتاجين أوقات القحط 3، وعند دخول شهر رمضان 4، وتكون هذه الأموال من المال الخاص بالأمير أو الخليفة، كما تم اتخاذ المؤدبين لتعليم أولاد الضعفاء وإنشاء بعض المكاتب التي يتعلمون بها 5،   1- المصدر السابق 2/287-288. 2- تقع هذه الدار بغربي جامع قرطبة، ومنها يتم تفريق الصدقات على الفقراء. انظر: البيان المغرب، 2/240، وقد حفظ لنا ابن حيان صورة عن كيفية توزيع الصدقات على المحتاجين، فذكر أنه في أوائل شهر شوال سنة 364هـ جلس الخليفة الحكم المستنصر بالله بسطح باب السدة بقصر قرطبة، ومعه ولده هشام وقد تجمع أهل الحاجة عند الباب، ثم تقدم الفتيان الخدم الصقالبة، وبأيديهم أكياس المال المعد للصدقة، وأخذ كل فتى من الخدم يملأ يديه من الكيس ويدفعه لأهل الحاجة كل بحسب ما قدر له، والخليفة يرى كل مايجري. انظر: المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص233-234. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص93. البيان المغرب 2/168. 4- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص76. 5- البيان المغرب 2/240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وأقيمت الأحباس لأجل ذلك 1، ويجري في بعض الأحيان أداء الديون عن المعسرين بالإضافة إلى فداء الأسرى المسلمين 2. وهناك أعمال انفرد بها بعض من تولى رئاسة دولة بني أمية في الأندلس، ولعل ذلك يعود إلى الظروف السياسية والاجتماعية التي واكبت توليه الرئاسة. فالأمير عبد الرحمن الأوسط: 206-238هـ (796-822م) بادر فور توليه الإمارة إلى إخراج الأموال وتفريقها على من حضر معه مواراة جثمان والده، ثم أمر بإسقاط المكوس، وقتل القومس المشرف عليها، وتشريد أهل الفساد وهدم أوكارهم 3. كل هذه الأعمال قام بها الأمير عبد الرحمن الأوسط في محاولة جادة منه لفتح صفحة جديدة مع رعيته، وذلك لإزالة ما علق في نفوسهم بسبب ما جرى لهم في عهد والده 4. وأما الأمير محمد بن عبد الرحمن 238-273هـ (852ـ 886م) فإنه بمجرد تلقيه البيعة الخاصة أصدر قراره بترقية وكيله محمد بن موسى   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص207. 2 - ذكر بلاد الأندلس: 1/170. 3- المصدر السابق 1/139. 4- سواء ما كان منها متصلاً بهيج الربض، أو إيقاعه بأهالي طليطلة وتسليطه للقومس على المسلمين، وما عُرف عنه أنه يقوم بضم الغلمان المشهورين بالجمال لخدمته بعد أن يأمر بخصيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الإشبيلي 1، وعبد الرؤوف بن عبد السلام 2 إلى منصب الوزارة 3، مكافأة لهما على مناصرتهما له ليلة دخوله قصر الإمارة بقرطبة عقب وفاة والده الأمير عبد الرحمن الأوسط 4. وبعد أن بويع المنذر بن محمد بالإمارة: 273-275هـ (886ـ 888م) عمل على كسب ولاء الجند، ففرق فيهم العطاء، وتحبب إلى الناس فأسقط عشر السنة عنهم وما يلزمهم من خراج ومعونة كما أمر بإطلاق سراح أهل السجون 5. والأمير المنذر اضطر إلى القيام بهذا التصرف، لأنه استلم دولة تعاني من اندلاع حركات التمرد والعصيان في كافة أرجائها، فإذا أراد   1- هو محمد بن موسى، من بيت والي الأندلس عبد الرحمن الغافقي التحق بخدمة عيسى بن شهيد في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، ثم تولى الخزانة وبعدها وكالة محمد بن الأمير عبد الرحمن، وكان هو السند الرئيسي ـ بعد الله تعالى ـ في وصول محمد للإمارة، ولذا فقد كافأه بالوزارة غداة توليه الحكم، فحاز المجد واعتلت في الناس منزلته. انظر: ابن القوطية، ص75-76، 80. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص139-141. 2- هو عبد الرؤوف بن عبد السلام بن إبراهيم بن يزيد، أحد كبار الموالي الأمويين بالأندلس، دخل أبوه الأندلس وخدم في دولة الأمير عبد الرحمن الداخل، في حين أن عبد الرؤوف تولى طليطلة ونواحيها للأمير عبد الرحمن الأوسط في آخر أيامه كما تولى الوزارة للأمير محمد بن عبد الرحمن وتوفي في أيامه وهو يلي الوزارة. انظر: ابن القوطية، ص81-82، المقتبس، تحقيق: د. محود مكي، تعليق: رقم 93 ومصادره. 3- ابن القوطية، ص82. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص28. 4- ابن القوطية، ص 81-82، المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص139-141. 5- البيان المغرب، 2/120. ذكر بلاد الأندلس: 1/150. وطبيعي أن هذا مقتصر على غير أهل الحدود والحقوق الخاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 مواجهتها بقوة، فعليه كسب ولاء الجند ليضمن إخلاصهم، ويتحبب إلى أهل قرطبة فيأمن اضطرابهم عليه 1. وعندما تولى عبد الله بن محمد الإمارة: 275-300هـ (888 - 912م) كان الانتقاض قد تحيَّف الدولة، ولذا فإن في أول قرار أصدره أن أرسل أحد رجاله ليأخذ له البيعة من عمر بن حفصون ومن حوله 2، وأما الأمير عبد الرحمن بن محمد: 300-350هـ (912-961م) فإنه بمجرد أن تولى الإمارة، وجه اهتمامه لمعالجة الخلل الإداري في الدولة، فبادر إلى حصر جميع السلطات في يده، وأحدث تغييرات وزارية شاملة، فقد أصدر عدة مراسيم تقضي بتعيينات جديدة في خطط الحجابة والوزارة والمدينة والشرطة العليا والخزانة والعرض وخزانة السلاح وخطة البيازرة 3، عله بذلك يتمكن من ضبط الإدارة العليا للدولة، فينجح   1- لكن هذا لا يمنع من أنه دال على عظم همته وقوة شكيمته، فإن أخاه الأمير عبد الله لم يكن بكفاءة سلفه رغم أنه استلم دولة عرفت هيبة المنذر وشجاعته فترة وجيزة، إلا أنه عجز أن يفعل مثله. 2- المقتبس تحقيق: أنطونيه ص50. 3- البيان المغرب، 2/158-159، البيزره أو البزدرة: هي علم أحوال الجوارح، والكلمة فارسية، وعربت ببازيار أي صاحب الباز، وهو الذي يحمل الطيور الجوارح المعدة للصيد على يده. انظر: القلقشندي، صبح الأعشى، (القاهرة، المطبعة الأميرية، 1337هـ/1915م) 5/469. أبو عبد الله الحسن بن الحسين، البيزرة، (تحقيق: محمد كرد علي، دمشق، مطبوعات مجمع اللغة العربية 1409هـ (1988م) ص4. وخطة البيازرة تعني الرؤساء الذين يتولون الإشراف على كل ماله علاقة بأمور الصيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 بالتالي في معالجة الوضع المتردي الذي كانت تعيشه الدولة ككل في عهد جده. وفي عصر الفتنة الممتد من سنة 399-422هـ (1009ـ 1021م) اختفت القرارات التي تهتم بشئون الرعية، فقد كان جل اهتمام الخلفاء في تلك الفترة ينحصر بمحاولة إحكام سيطرتهم على البلاد، فالخليفة المهدي 399-400هـ (1009م) بعد أن استولى على قرطبة كانت أوائل أعماله أنه أجلس بكرسي الشرطة ابن عمه محمد بن المغيرة، واتخذ من ابن عمه الآخر عبد الجبار حاجباً، ثم أجبر الخليفة هشام المؤيد على خلع نفسه والاعتراف به خليفة بدلاً عنه 1. وأما الخليفة سليمان المستعين بالله الذي تولى الخلافة يوم الثلاثاء 17 ربيع الأول سنة 400هـ (9 نوفمبر 1009م) فإنه بعد أن استولى على قرطبة أصدر الكتب إلى كافة أقطار الأندلس تعلن خبر استيلائه عليها، وتميزت تلك الكتب بعبارات مشحونة بمعاني القوة، وصف فيها كيفية دخوله لها ومن معه من البربر وكان هدفه من انتقاء تلك العبارات إدخال الرهبة في قلوب أهل النواحي ليسمعوا ويطيعوا 2، كما بادر إلى تعيين العمال وتفريقهم على أماكن أعمالهم وولى الولايات 3، وعندما دخل علي بن حمود قصر قرطبة بادر إلى قتل سليمان المستعين وأخيه   1- أعمال الأعلام، 2/110-111. 2- الذخيرة، ق1 م1 ص37. 3- البيان المغرب، 3/92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وأبيهما 1 ثم استقبل المبايعين في باب السدة من قصر قرطبة واتخذ لقب الناصر لدين الله 2 وذلك يوم الاثنين 23 محرم 407هـ (يونيو 1016م) وبعد قتل علي بن حمود بويع بالخلافة لأخيه القاسم يوم الثلاثاء الخامس من شهر ذي القعدة سنة 408هـ 3 (25 مارس 1018م) فأصدر نداءاً أُعلن في أقطار البلد بأمان الأحمر والأسود وبراءة الذمة ممن تسوَّر على أحد 4. وأما الخليفة الأموي الأخير هشام المعتد بالله 418-422هـ (1027-1031) فإنه عندما دخل قصر قرطبة جلس في مجلس الخلافة بالقصر واستقبل المهنئين، ثم جلس للمظالم، وأصدر قراره بزيادة عدد قراء جامع قرطبة، كما زاد في رزق مشيخة الشورى 5. ومن مظاهر ممارسة الأمير أو الخليفة الأموي في الأندلس للسلطان، موقفه من المكائد التي تقع داخل القصر أو خارجه، سواء وصل إليه الخبر بواسطة عيونه المبثوثة، أو تمكن من الوقوف على الأمر بنفسه ومن الأمثلة على ذلك:   1- الذخيرة، ق1 م1 ص42. البيان المغرب، 3/117. أعمال الأعلام، 2/121. ذكر بلاد الأندلس، 1/204. 2- الذخيرة، ق1 م1، ص97. 3- البيان المغرب، 3/124. أعمال الأعلام، 2/130. 4- البيان المغرب، 3/130. 5- الذخيرة، ق3 م1 ص517. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أنه عندما فشلت طروب 1، ومعها الفتى الكبير نصر الخصي 2 مدبر دولة الأمير عبد الرحمن الأوسط في تقديم عبد الله بن الأمير عبد الرحمن الأوسط لتولي منصب ولاية العهد دون أخيه الأسن منه محمد 3، عمل نصر الخصي على اغتيال مولاه الأمير عبد الرحمن الأوسط بواسطة سم مركب أعده الطبيب يونس الحراني 4 الذي أخبر بدوره   1- طروب هي جارية الأمير عبد الرحمن الأوسط، والمقدمة لديه على جميع نسائه حاولت أن تحوز ولاية العهد لابنها عبد الله فلما أعيتها الحيلة لجأت إلى محاولة اغتيال مولاها، مستعينة بالفتى نصر الخصي. انظر: ابن القوطية، ص76-77. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص8-15 الحلة السيراء 1/114 حاشية رقم1. 2- هو أبو الفتح نصر بن أبي الشمول، أبوه من نصارى قرمونه Carmona ثم اعتنق الإسلام قبل أن يُقدم الأمير الحكم على المثلة بولده نصر، وقد ارتفعت منزلة نصر عند الأمير عبد الرحمن الأوسط لدرجة أنه أصبح يتصرف باسمه في شؤون الدولة ومازال في سؤدد حتى توفي سنة 236هـ. انظر: جمهرة أنساب العرب ص95-96. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، تعليق رقم 49. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص106-107. 4- ورد ذكر هذا الطبيب في عدة مصادر إلا أنها لم تذكر اسمه صراحة فقد اكتفى ابن جلجل بقوله "الحراني الذي ورد من المشرق" في حين قال صاعد "رجل من أهالي حران كان يعرف بالأندلس بالحراني لم يبلغني اسمه" وقال عنه ابن حيان "طبيب الأمير المعروف بالحراني" وأما بن أبي أصيبعه فقد قال "الحراني الذي ورد من المشرق" ولم يذكر اسمه صراحة إلا القفطي حين قال "يونس الحراني الطبيب نزيل الأندلس ... وولده أحمد وعمر". انظر على التوالي: ابن جلجل، طبقات الأطباء والحكماء، (تحقيق: فؤاد سيد، بيروت، مؤسسة الرسالة 1405هـ) ص94. صاعد البغدادي، طبقات الأمم (تحقيق: حياة العبد بوعلوان، بيروت، دار الطليعة ط الأولى، 1985م) ص 186. القفطي، أخبار العلماء بأخبار الحكماء، (تصحيح: أمين الخانجي، القاهرة، مطبعة السعادة، 1326هـ.) ص258-259. ابن أبي أصبعية، عيون الأنباء في طبقات الأطباء (شرح وتحقيق د. نزار رضا بيروت دار مكتبة الحياة د. ت) ص486. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فجر 1 جارية الأمير عبد الرحمن الأوسط وضرة طروب، فكانت النتيجة هلاك الخصي بالسم الذي أعده الطبيب الحراني 2. ومن المكائد والسعايات التي جرت خارج القصر، ماوقع من بعض فقهاء قرطبة ضد بقي بن مخلد 3 في صدر دولة الأمير محمد بن عبد الرحمن، الذي ما إن رفعت القضية إليه حتى سارع إلى الجمع بين بقي وبين أولئك الفقهاء في مجلسه وسمع من الطرفين أقوالهما، وعندما أدرك أن الحق مع بقي منعهم من النيل منه، وأمره بنشر علمه وأن يكون ضمن الفقهاء الداخلين عليه 4. وعندما حاول الوزير هاشم بن عبد العزيز الإيقاع من خلال السعايات والدسائس بأحد خدم الأمير محمد بن عبد الرحمن، بل إن   1- عن فجر. انظر المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، تعليق رقم 54 ومصادره. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود علي مكي، ص9-11. 3- هو أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد بن يزيد، أندلسي قرطبي ولد سنة 201هـ حافظ مفسر محقق، وكان إماماً مجتهداً، ورعاً فاضلاً، زاهداً رحل إلى المشرق وطلب العلم وألح فيه، حتى قال عنه ابن أبي خيثمة: "ما كنا نسمية إلا المكنسه، ولذا فعندما عاد إلى الأندلس ملأها علماً جماً". ترك عدة مؤلفات، ودفن بمقبرة بني العباس. انظر: أخبار الفقهاء والمحدثين، ص49-62 ابن الفرضي، ترجمة رقم 283. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص248-250 وتعليق رقم 411 والمصادر المذكورة. جذوة المقتبس، ترجمة رقم 331. 4- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 247-249. البيان المغرب 2/109-110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الأخير عندما استشار وزيره هاشماً بأمر ذلك الخادم طالبه بالتنكيل به وتشريده، فما كان من الأمير إلا أن أطلع وزيره على ضبارة كتب تحوي ما يقرب من مائة ورقة كلها ضد الوزير وكل واحد منها تكفي لسفك دمه، فأسقط في يد الوزير، وأخذ بالتنصل مما كتب ضده وقدم المعاذير ملقياً باللائمة على الحساد وطالب الأمير بالتثبت وعدم التسرع، فأخبره الأمير أن التسرع ليس من شيمته، وأنه قد اختبر تلك الكتب فوجد أكثرها كاذبة، ورغم ذلك فلهم مكافآت على ما يقدمونه من معلومات 1 ثم طالبه الأمير ببقاء أسماء أصحاب تلك الكتب سرية وتهدده بعقوبة شديدة إن خرج من تلك الأسماء شيء 2. ومن المكائد التي فطن لها الأمير محمد بن عبد الرحمن ما قام به وزيره هاشم بن عبد العزيز عندما عمل على رد أموال الكاتب صاحب القلم الأعلى قومس بن أنتنيان 3 إلى بيت مال المسلمين، وعدم تقسيمها بين ورثته، متهماً إياه بأنه قد مات على النصرانية، وقد وردت على القاضي   1- لأنه إن قطع الأمير مكافأة أحد أولئك المخبرين بسبب كذبه، تردد الباقون في رفع الأخبار إليه. انظر: أخبار مجموعة، ص 143. 2- أخبار مجموعة، ص142-144. 3- قومس بن أنتنيان ينتمي لأسرة نصرانية، احتفظ بديانته مدة، ثم أسلم، وتولى الكتابة للأمير محمد بن عبد الرحمن سنة 246هـ، وتوفي بعد ذلك بمدة وجيزة. انظر: المقتبس، تحقيق: محمود مكي ص142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 سليمان بن أسود 1 شهادات كثيرة كلها تذكر أن قومس قد مات على النصرانية وعندما رفع القاضي تلك الشهادات للأمير محمد، لم يتصفحها بل أرسل أحد فتيانه إلى القاضي ليسأله عما ثبت لديه في قضية ابن انتنيان، فأثنى القاضي على قومس وطعن في الشهادات المرفوعة ضده 2،" فخرج التوقيع إلى القاضي اقسم مال قومس بين ورثته" 3. هذا وقد اهتم بنو أمية في الأندلس كثيراً بالتعرف على أحوال رعاياهم ووصول الأخبار إليهم أولاً بأول، بواسطة العيون والأرصاد، لوضع الحلول سرعة وصول خبر وفاة القاضي المصعب بن عمران 4 للأمير الحكم   1- هو سليمان بن أسود بن يعيش بن جشيب من مدينة غافق كان والياً على كورة ماردة، ثم ولي قضاء الجماعة مرتين في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، وأربعين يوماً في بداية عهد الأمير المنذر بن محمد. انظر: قضاة قرطبة، ص 73-89. 2- قضاة قرطبة ص75-77. 3- المصدر السابق، ص77. وقد ذكر الخشني أن الفقيه محمد بن يوسف بن مطروح كان إذا قعد في الجامع قال على رؤوس الناس: "من مثل قومس السجاد العباد حمامة هذا المسجد يقال فيه مات على النصرانية، ثم ترجَّع "كما أن الخشني ذكر أيضاً بأن الناس كانوا يتعجبون ممن شهد على قومس بالنصرانية، انظر: قضاة قرطبة، ص76. الأمر الذي يدل على أن الشهادات التي كانت مرفوعة ضد قومس قد سبق وأن دفعت أثمانها. 4- أبو محمد المصعب بن عمران بن شفي الهمداني، عربي شامي، كان خيراً فاضلاً رفض أن يلي القضاء للأمير الداخل، ثم قبله في عهد أبنه هشام الرضا، وأقره على القضاء الحكم الربضي، كان عادلاً فقيهاً لا يقلد مذهباً بل يقضي بما يراه صواباً. انظر: قضاة قرطبة، ص24-28، ابن الفرضي: ترجمة رقم 1432. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 في شان أخيه القاسم 1، وكذلك مع الخليفة عبد الرحمن الناصر في شأن ولده عبد الله 2. ومن أساليب ممارسة الأمير أو الخليفة الأموي في الأندلس للسلطان، تعامله مع بعض المناوئين، فقد وضع الأمير عبد الرحمن الداخل سياسة ذات أبعاد في التعامل مع من يشك في إخلاصه من رجال الدولة. وكانت هذه السياسة نبراساً لمن أتى بعده من سلالته أمراء وخلفاء، كانت هذه السياسة تقوم على إخضاع ذوي الشوكة ثم نقلهم ومعهم أهلهم وذووهم إلى العاصمة قرطبة، وقد بدأ الأمير عبد الرحمن الداخل العمل بهذه السياسة منذ الأيام الأولى لإمارته، فبعد أن صالحه يوسف الفهري والصميل على أن يمنحهما ومن سواهما الأمان لهم ولأموالهم، واستجاب الداخل لطلبهما   1- أبو محمد القاسم بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط، من أدباء بني مروان ونبهائهم، كان جباراً تياهاً، قام بحركة ضد أخيه الأمير عبد الله فحبسه، ومات في الحبس، وقد اختلف في سبب موته. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 200-204. المقتبس، تحقيق: أنطونيه ص41. الحلة السيراء، 1/127-128، البيان المعرب 2/150-151. 2- كان عبد الله بن عبد الرحمن الناصر من نجباء ألاد الخلفاء، شاعراً فقيهاً، على مذهب الشافعي، محباً للعلم والعلماء، وقد حدث عن بعضهم، له توليف تدل على علمه وفهمه، سعى ضده أخوه الحكم المستنصر بأنه يريد القيام ضد أبيه، فكان ذلك سبب قتله في آخر سنة 338هـ. انظر: جمهرة أنساب العرب، ص102. الحلة السيراء، 1/206-208، البيان المغرب، 2/217. أعمال الأعلام، 2/39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 بعد أن قبلا بشروطه عليهما، أقبل إلى قرطبة وهما بصحبته وذلك سنة 139هـ 1 (757) . ولعل الغرض من هذه السياسة، تسهيل مراقبة من يخشى جانبه، واتقاء شره عندما ينقل إلى قرطبة، وذلك للحيلولة دون اندلاع الفتن في المجتمع، ولكي تصبح الرعية أمة واحدة ومطمئنة 2. وهناك هدف آخر تحرص حكومة قرطبة على تحقيقه، وهو عسى أن تكتشف تلك الفئات المنقولة إلى قرطبة مدى حرص الأمويين على حسن سير السياسة العامة للدولة، فتكف من تلقاء نفسها عن معاداتها، بالإضافة إلى أن تلك الفئات تصبح قريبة من العطاء المقدم من ديوان بيت المال الذي يهدف منه تأليف القلوب. كما أن حكومة قرطبة تسعى إلى إشعار أولئك المنقولين إلى العاصمة بمكانتهم، ولذا فإنهم يكونون في مقدمة المدعوين إلى الاحتفالات التي تقيمها السلطة المركزية، ولذلك يشعرون بإكرام الدولة لهم، هذا الوضع بصفة عامة يمكنِّ أولاد المنقولين إلى قرطبة من التقرب من أولاد الأمويين، فيذوب ما في نفوس أولئك   1- أخبار مجموعة ص93-94 إلا أنه جعل الصلح في سنة 140. البيان المغرب 2/48. نفح الطيب 3/34. وللاستزادة عن موضع نقل ذوي الشوكة إلى قرطبة. انظر: المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 180، 190، 217، 219، 220، 239، 241، 248، 271، 283. البيان المغرب، 2/72، 100، 161، 183، 197، 200. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 المناوئين، وبالتالي يصبح ذلك المناوئ سابقاً من بين ثقات الأمير 1 وحشم الخليفة 2. ومما رسمه الأمير عبد الرحمن الداخل لأحفاده من بعده في التعامل مع المعارضين للبيت الأموي، فرض الإقامة الجبرية على بعضهم أياً كان محل إقامته دون نقله إلى قرطبة، فالأمير الداخل ألزم مولاه بدراً 3 الإقامة في داره ومنعه من مغادرتها بعد أن أكثر من الدلال عليه 4، وكذلك الخليفة الحكم المستنصر فرض على أحمد بن هاشم الإقامة الجبرية في داره تأديباً له عندما بلغه عنه ما يسؤوه 5. ومن الأساليب التي سار عليها بنو أمية في الأندلس عند التعامل مع بعض المعارضين الخارجين على الدولة، استخدام الإيقاع بين الأطراف المعارضة، وهذا ما سار عليه الأمير عبد الرحمن الداخل عند مواجهته   1- البيان المغرب، 2/83. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص248. 3- بدر هو الساعد الأيمن لمولاه الأمير عبد الرحمن الداخل، فهو رفيق دربه في هربه من المشرق إلى الأندلس، كما أنه كان أحد الأركان التي قامت عليها الدولة الأموية في الأندلس، ونظراً لشعوره بإهمال مولاه له، أخذ يكثر من الكتابة إليه، طمعاً في الحصول على منصبٍ عالٍ في الدولة، مدلاً عليه بما بذله لأجله، ناسياً أن الملوك لا يمن أحد عليهم بشيء أيا كان، ولذا فقد أصدر أمره بإلزام مولاه بدراً الإقامة في داره، بعد أن استصفى أمواله، ولما كتب إليه بدر مرة أخرى أمر بطرده من قرطبة وإسكانه أقصى الثغر. انظر في أخبار بدر. ابن القوطية، ص21،22،23. أخبار مجموعة، ص54، 67، 70، 74، 75 ... وغيرها، نفح الطيب 3/27-31، 39-41. 4- نفح الطيب، 3/40. 5- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 للبربر 1، وأخذ بهذا الأسلوب أيضاً الأمير عبد الله بن محمد ضد إبراهيم بن حجاج وابن خلدون 2، وهناك عنصر المفاجأة، وهو ما استخدمه الأمير الحكم الربضي مع أحد العصاة 3، وفي أحيان أخرى يعمد الأمير الأموي إلى إقطاع المعارض مكاناً معيناً اتقاءاً لشره، ولنيل طاعته، ومثل ذلك ما فعله الأمير محمد بن عبد الرحمن مع ابن مروان عندما أقطعه بطليوس 4، وكذلك الأمير عبد الله بن محمد مع إبراهيم بن حجاج عند تغلبه على اشبيلية 5. وعرفت حكومة قرطبة أسلوب الاغتيال، نجد ذلك عند الأمير عبد الله بن محمد الذي كتب سراً إلى أبي يحيى بن عبد الرحمن التجيبي   1- البيان المغرب، 2/51، 54-55. 2- المصدر السابق: 2/125. ويعد بيتا بني الحجاج وبني خلدون من أنبه البيوتات العربية في كورة إشبيلية وقد كانت الزعامة لهما في تلك الكورة، في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وينتسب بني حجاج إلى قبيلة لخم القحطانية، كما أنهم يتصلون بملوك القوط من ناحية الأمومة. في حين أن بني خلدون يعودون في أصلهم إلى عرب حضرموت. انظر: جمهرة أنساب العرب، ص460. الحلة السيراء، 2/376-377. د. عبد الواحد طه، الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال أفريقيا والأندلس، ص252،255. أبا الخيل، الأندلس في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري، ص228-259 ومصادره. 3- أخبار مجموعة ص129-130. 4- ابن القوطية ص89-90 وعن بطليوس وحركة بن مروان الجليقي بها، واقطاعها له. انظر: د. سحر السيد سالم، تاريخ بطليوس الإسلامية وغرب الأندلس في العصر الإسلامي (الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة، د. ت) 1/245-286 والمصادر المذكورة. 5- البيان المغرب 2/135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 السرقسطي يأمره بالفتك بأحمد بن البراء 1، كما استخدم طريق الاستمالة والمهادنة مع سوار بن حمدون المحاربي 2، وهذه السياسة سار عليها الخليفة عبد الرحمن الناصر مع محمد بن إبراهيم بن حجاج فقد رفعه إلى منصب الوزارة بعد نقله من قرمونة 3 إلى قرطبة 4. ومن هذا يتضح لنا المنهج الذي سار عليه الأمويون في الأندلس عند معالجة الأحداث الطارئة، فرغم استخدامهم العيون التي ترفع إليهم كل   1- كان الأمير المنذر بن محمد قد ولى أحمد بن البراء من مالك القرشي سرقسطه وثغرها، وكلفه محاربة بني قسي، وقد أقره الأمير عبد الله بن محمد على ولايته، إلا أن كلمة نقلت عن الوزير البراء بن مالك جعلت الأمير عبد الله يخشى أطماع أحمد بن البراء، فكلف محمد بن عبد الرحمن التجيبي المعروف بالأنقر القيام باغتيال البراء، فنجح التجيبي في هذا الأمر، وذلك يوم الأربعاء 18 من شهر رمضان سنة 276هـ ونال ولاية سرقسطة مكافأة له. انظر: ابن القوطية، ص113-114. المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص85-86. 2- سوار بن حمدون القيسي المحاربي، زعيم عربي، قاد حركته سنة 276هـ بناحية البراجلة في كورة إلبيرة، وانضوت إليه بيوتات العرب، في الفتنة التي جرت بينهم وبين المولدين وكان سوار معروفاً بالشجاعة والجرأة وحسن المعاملة، قتل غدراً على يد بعض أتباع ابن حفصون سنة 277هـ. انظر: جمهرة أنساب العرب، ص260. المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص54-61. الحلة السيراء، 1/147-154. 3- قرمونة Carmona مدينة قديمة البناء تقع إلى الشمال الشرقي من إشبيلية، وتبعد عنها مسافة 32 كيلو متراً فقط، وكانت في التقسيم الإداري للأندلس كورة واسعة، تضم مدناً وحصوناً كثيرة، وقد خرجت من أيدي المسلمين سنة 644هـ. انظر: وصف الأندلس، ص94. الروض المعطار، ص461. الآثار الأندلسية الباقية، ص71-74. 4- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص70 وما بعدها. أعمال الأعلام، 2/35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ما يجري في المجتمع، إلا أنهم امتازوا بعدم التسرع، فكل خبر يرفع إليهم يعملون على كشفه والتأكد منه، فإذا ثبتت صحته عالجوا ما يمكن معالجته بالصفح والمصالحة أو التأديب الذي لايتلف الروح، هذا إذا كان الأمر لايتعلق بالتآمر على السلطة وأمن الرعية، أما إذا وصل الحال إلى هذه الدرجة، فالموت مصير من يعبث بهذا الجانب. الألقاب من مظاهر سلطان حاكم الدولة الأموية في الأندلس اتخاذ الألقاب ومنحها 1، وبما أن دولة بني أمية في الأندلس قد مرت بعصري الإمارة والخلافة، لذا فإن الألقاب ارتبطت بالحالة السياسية للدولة. ففي عصر الإمارة نجد أن الأمير عبد الرحمن بن معاوية قد أُطلقت عليه عدة ألقاب، أشهرها: الداخل 2، لأنه أول من دخل الأندلس حاكماً   1- كان الأمير أو الخليفة الأموي في الأندلس يمنح الألقاب لكبار موظفيه في الحجابة والوزارة والقضاء والجيش ... إلخ. وسوف نتكلم عن رسوم منح الألقاب كل في مجاله. 2- انظر: نقط العروس، ص60، المعجب، ص40، ذكر بلاد الأندلس، 1/118 سير أعلام النبلاء، 8/244، نفح الطيب 3/27، صبح الأعشى 5/478، ويبدو أن هذا اللقب لم يختص به الأمير عبد الرحمن بن معاوية لوحده، فقد كان يطلق على كثير ممن وفد إلى الأندلس من المشرق، فمثلاً: عبد الجبار بن نذير دخل الأندلس في طالعة بلج بن بشر فأطلق عليه لقب الداخل فأصبح يعرف بعبد الجبار الداخل. انظر: العذري، نصوص عن الأندلس، ص15. وهناك أحد الأدباء كان جده يعرف بالداخل وهو عبيد الله بن قرلمان بن بدر الداخل. انظر: ابن القوطية ص 59، كما أن الفقيه المشاور عبد الله بن إسماعيل بن محمد بن خزرج اللخمي، كان يطلق عليه وعلى أبيه وجده لقب الداخل. انظر: الصلة، تراجم رقم25، 237، 1114.وعلى هذا الأساس فإن لقب الداخل يمكن أن يطلق غالباً على كل من دخل الأندلس قادماً من المشرق وأسس أسرة مستقرة فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 من بني أمية، كما لقب بـ" الإمام" 1 و"ابن الخلائف" 2 ونودي بـ"سلطان الأندلس" 3 و"الأول" 4 لأنه أول من حمل اسم عبد الرحمن من حكام بني أمية في الأندلس. ومن الألقاب التي أطلقت على الأمير عبد الرحمن بن معاوية "صقر قريش" 5، و"صقر بني أمية" 6، ولُقِّب بـ"الأمير الكريم والملك العظيم" 7. كما عرف ابنه الأمير هشام بـ"الرضا" وقد ذكر ابن حزم أنه لم يتلقب من بني أمية في الأندلس بهذا اللقب إلا هشام بن عبد الرحمن الداخل، فقد كان يقال له: هشام الرضا 8، وذكر ابن الآبار أن هشاماً   1- نصوص عن الأندلس، ص11، 25، 26، ابن الفرضي، 1/11، البيان المغرب، 2/54، 56، 57، 58. ذكر بلاد الأندلس، 1/109، 118. 2- أبو بكر الهمداني، مختصر كتاب البلدان (بعناية دو غوية أبريل 1885م) ص83. 3- نصوص عن الأندلس، ص11-12، 26، 27، المغرب في حلى المغرب، 1/143، 2/ 123، 146. صبح الأعشى، 5/478. 4- المعجب، ص48، نفح الطيب، 1347. ولاشك أن هذه التسمية لا يمكن إطلاقها إلا في وقت متأخر من تاريخ بني أمية في الأندلس. 5- العقد الفريد، 4/488. أخبار مجموعة، ص118-119، الحلة السيراء، 1/35. البيان المغرب،2/59-60. 6- الإحاطة، 3/467. 7- سير أعلام النبلاء، 8/250. 8- نقط العروس، ص 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 سمي بـ"الرضا لعدله وفضله 1 " ويبدو أن هذا اللقب قد أطلق عليه في فترة لاحقة، إذ أن المصادر المتقدمة لم تورده إطلاقاً 2. وكان الأمير الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل معروفاً بلقب "الربضي 3 " وهذا اللقب لم يطلق عليه إلا في أواخر عهده وذلك بسبب ما فعله بأهل الربض عند قيامهم ضده في يوم الأربعاء الثالث عشر من شهر رمضان سنة 202هـ 4 (26 مارس 818م) . ولم يُعرف الأمير عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بلقب معين، والمصادر التاريخية المبكرة خلت من ذكر لما يمكن أن يكون لقباً له، إلا أن المصادر التاريخية التالية أطلقت عليه لقب "الأوسط" ومن الطبيعي أن هذا اللقب لا يمكن أن يتم إطلاقه إلا بعد القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) أي بعد زوال دولة بني أمية. ولعل هذا الرأي يوضحه بعض المؤرخين أثناء حديثه عن الأمير عبد الرحمن حيث قال: "ويعرف الأمير   1- الحلة السيراء، 1/42. وانظر: البيان المغرب 2/61، ذكر بلاد الأندلس 1/118، أعمال الأعلام 2/12. 2- العقد الفريد، 4/490 ابن القوطية، ص42-44، ابن الفرضي، 1/12. أخبار مجموعة. ص120-124. 3- نقط العروس، ص50، 73. جذوة المقتبس، ص10. المعجب، ص44. الحلة السيراء، 1/42. المغرب في حلى المغرب، 1/38. ذكر بلاد الأندلس، 1/124. 4- جذوة المقتبس، ص10. الحلة السيراء، 1/44. وانظر: أخبار مجموعة، ص130-131، الكامل في التاريخ، 5/413-414. البيان المغرب 2/75-77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 عبد الرحمن بالأوسط، لأن الأول عبد الرحمن الداخل والثالث عبد الرحمن الناصر 1 ". لكن إذا كان الأمير عبد الرحمن بن الحكم لم يُعرف بلقب على المستوى الرسمي فإن العامة أطلقت عليه لقباً استوحته من كلفه بصيد الغرانيق فقد أطلقوا مثلاً أصبح شائعاً فقالوا: "أيام أبو الغرانيق" 2. وقد عُرف الأمير محمد بن عبد الرحمن بلقب "الأمين" 3 في حين أن ابنيه المنذر وعبد الله لم يعُرفا بلقب معين. هذه هي ألقاب بني أمية في الأندلس فمنذ قيام دولتهم سنة 138هـ (755م) إلى سنة 316هـ (928م) كان كل حاكم منهم يطلق عليه لقب "أمير" الذي يعني في اللغة الأمر والتسلط 4، كما كان يطلق عليه لقب "الإمام" 5 الذي يعني القدوة 6.   1- انظر: المعجب، ص 48. الحلة السيراء، 1/113. نفح الطيب، 1/347. 2- انظر: الزجالي، "ري الأوام ومرعى السوام في نكت الخواص والعوام" (دراسة: د. محمد بن شريقة. نشر تحت عنوان: أمثال العوام في الأندلس. المغرب فاس مطبعة محمد الخامس 1395هـ، 1975م) 2/76. 3- نهاية الأرب، 23/387. 4- د. حسن الباشا، الألقاب الإسلامية، (القاهرة، مكتبة النهضة المصرية 1957م) . ص179. 5- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص224. البيان المغرب، 2، 54، 63، 64، 65، 69، 71، 85، 114، 115، 140، 142، 143. ذكر بلاد الأندلس: 1/118،124،137،146،149،153. 6- الألقاب الإسلامية، ص 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وقد شهد عصر عبد الرحمن بن محمد 300-350هـ (961ـ 976م) تغيراً جذرياً في سياسة الدولة الأموية، حيث تم في عهده إعلان قيام الخلافة الأموية في الأندلس، ففي يوم الخميس مستهل ذي الحجة سنة 316هـ (15 يناير 929م) أصدر الأمير عبد الرحمن بن محمد كتاباً وزعت نسخه على عمال الكور وقادة الثغور في الأندلس ليعتمد الجميع مخاطبته بأمير المؤمنين، جاء فيه:- "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإنَّا أحقُ من استوفى حقه، وأجدر من استكمل حظه، ولبس من كرامة الله ما ألبسه، للذي فضلنا الله به وأظهر أثرتنا فيه، ورفع سلطاننا إليه، ويسَّر على أيدينا إدراكه، وسهَّل بدولتنا مرامه، وللذي أشاد في الآفاق من ذكرنا وعلوّ أمرنا، وأعلن من رجاء العاملين بنا، وأعاد انحرافهم إلينا، واستبشارهم بدولتنا، والحمد لله ولي النعمة والإنعام بما أنعم به، وأهل الفضل بما تفضل علينا فيه، وقد رأينا أن تكون الدعوة لنا بأمير المؤمنين وخروج الكتب عنا، وورودها علينا بذلك، إذ كل مدعو بهذا اللقب غيرنا منتحل له، ودخيل فيه، ومتسم بما لا يستحقه، وعلمنا أن التمادي على ترك الواجب لنا من ذلك حق أضعناه، واسم ثابت أسقطناه، فأمر الخطيب بموضعك أن يقول به، وأجر مخاطباتك لنا عليه، إن شاء الله والله المستعان" 1.   1- البيان المغرب 2/198-199، وانظر: المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص241، أعمال الأعلام، 2/30. مؤلف مجهول، تاريخ عبد الرحمن الناصر، ص56-57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وفي يوم الجمعة ثاني ذي الحجة دعا قاضي الجماعة بقرطبة الفقيه أحمد بن بقي بن مخلد 1 لعبد الرحمن بن محمد بإمرة المؤمنين 2، ولأجل إظهار الفرق بينه وبين من دونه واستكمالاً لمظاهر الفخامة، أصدر الخليفة عبد الرحمن الناصر سنة 317هـ (929م) أمراً يقضي "بأن يكون الخطاب الموجه إليه كله جواباً بالكتابة عنه بالهاء دون الكاف وأن تخرج كتبه بالخبر عن مخاطبته تعظيماً لقدره" 3. وقبل أن ننتقل من هذه المسألة إلى غيرها، لابد من مناقشة الدوافع التي كانت وراء إعلان عبد الرحمن الناصر عن قيام الخلافة الأموية في الأندلس، فابن عذاري ذكر أنه كان يرى في نفسه أنه أحق بهذا الاسم "من كل منتخب في المشرق والمغرب" 4. فهو سليل خلفاء، حقيق بحمل ما كان لهم من الألقاب.   1- هو الفقيه القرطبي أبو عبد الله أحمد بن بقي، كان عاقلاً حصيفاً، امتاز بالدهاء والأدب، واتصف بكرم الأخلاق وبلاغة اللسان وحسن العشرة، اشتغل بطلب الآخرة عن الدنيا، كان يلي الصلاة مع قضاء الجماعة، توفي ليلة الاثنين الأول من جمادى الأولى سنة 324هـ. أنظر: أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 17. ابن الفرضي، ترجمة رقم 103. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 241. 3- مؤلف مجهول، الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، (تحقيق: د. سهيل زكار، وعبد القادر زمامه المغرب، الدار البيضاء، دار الرشاد الحديثه، 1399هـ/1979م) ص32. 4- البيان المغرب 2/198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 بينما يرى ابن الأثير 1 وابن الآبار 2 وابن خلدون 3 أن ضعف الخلافة العباسية في المشرق، وتسلط الأتراك على خلفائها 4 وقيام الخلافة العبيدية في القيروان 5، كان سبباً في إعلان الأمير عبد الرحمن بن محمد للخلافة في الأندلس، ويضيف ابن الخطيب إلى ما سبق قيام عدد من الدويلات في مشرق الدولة العباسية 6، ولعل صاحب "الحلل الموشية" قد   1- الكامل، 7/270. 2- الحلة السيراء، 1/198. 3- تاريخ ابن خلدون، 4/137. 4- تولى المقتدر بالله العباسي، الخلافة يوم الأحد الثالث عشر من شهر ذي القعدة سنة 295هـ وعمره ثلاث عشرة سنة وشهر واحد وعشرون يوماً، وتسلم الأتراك والوزير أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات تدبير أمور الدولة، حيث أصبح الخليفة ألعوبة في أيديهم. انظر: تاريخ الطبري، 10/139. مسكويه، تجارب الأمم (القاهرة، مطبعة شركة التمدن الصناعية 1332هـ/1914م) 2/241. حمدان عبد المجيد الكبيسي، عصر الخليفة المقتدر بالله 295-320هـ (العراق، النجف، مطبعة النعمان 1394هـ/1974م) ص25 وما بعدها. 5- في يوم السبت مستهل شهر رجب سنة 296هـ دخل أبو عبد الله الشيعي مدينة رقادة، وفي يوم الجمعة السابع منه، أمر بعدم ذكر اسم الخليفة العباسي في الخطبة، وفي العشرين من شهر ربيع الآخر سنة 297هـ دخل عبيد الله المهدي مدينة رقادة، وفي يوم الجمعة أمر أن يخطب في المساجد باسمه، وتلقب بالمهدي أمير المؤمنين وبذلك قامت خلافة العبيديين. انظر: العيون والحدائق، ج4 ق1، ص139، 150، 151. البيان المغرب 1/149-151، 158. المقريزي، اتعاظ الحنفا، (تحقيق: د. جمال الدين الشيال، القاهرة، لجنة إحياء التراث الإسلامي 1387هـ/1967م) . 1/63، 66. 6- أعمال الأعلام: 2/29. لقد شهد المشرق الإسلامي نشوء عدة دويلات إسلامية، ابتدأت منذ مطلع القرن الثالث الهجري، من هذه الدول: دولة بني دُلف في الكرج والبرج، دولة بني ساج في أذربيجان، دولة العلويين في طبرستان، والدولة الظاهرية في خراسان، والدولة الصفارية في إيران. انظر: تاريخ الطبري، 8/593-594، 620، 9/545، 10/71. الكامل في التاريخ، 7/29. ستانلي لين بول، الدول الإسلامية (ترجمة: محمد صبحي، دمشق، مكتبة الدراسات الإسلامية. 1394هـ (1974م)) 1/254-271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 انفرد بتعليل ربما لم يذكره مؤرخ قبله، فقد أشار إلى أن الأندلسيين هم الذين أطلقوا على الأمير عبد الرحمن بن محمد لقب "أمير المؤمنين والناصر لدين الله" فكأن إعلانه للخلافة كان استجابة لهم، وفي هذا يقول المؤرخ المجهول: "وربما كان بعض أولي التحصيل والتأمل من الناس سموه بهذا الاسم قبل أن يتسمى به هو، وخاطبه به كثير من خاصتهم في كتبهم وأشعارهم، فكثر ذلك عليه، ووافاه من كل ثنية، وجاءه من كل ناحية، حتى اضطره إلى حمله، وحاجوه أن يكون باخساً لنفسه في رفضه، وهونوا عليه مخالفة آبائه في اقتصارهم على سواه، واستشهدوا بما فهمه الله سليمان في الحكمة دون والده، عليهما الصلاة والسلام" 1. وإذا استعرضنا الأقوال السابقة، نجد أنها تحمل عدة آراء، هي: ضعف الخلافة العباسية، وظهور الدويلات في المشرق، وقيام الدولة العبيدية، وأخيراً استجابة الأمير عبد الرحمن بن محمد لطلب الأندلسيين بإعلان الخلافة.   1- الحلل الموشية ص30-31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ولعل بالإمكان تجاوز كل هذه الآراء، إلا ما يتعلق بالدولة العبيدية، فالخلافة العباسية كانت واقعة تحت تسلط الأتراك قبل الإعلان عن القيام الخلافة الأموية في الأندلس بأكثر من ثلثي قرن، حيث كان الأتراك يتدخلون في تعيين الخلفاء، وأصبحت إدارة الدولة في أيديهم منذ أواسط القرن الثالث وحتى أوائل القرن الرابع الهجري (التاسع والعاشر الميلاديين 1) . وأما ظهور الدويلات في المشرق فقد ابتدأ منذ مطلع القرن الثالث الهجري 2، في حين أن المغرب والشمال الأفريقي شهدا انفصالاً مبكراً عن الخلافة العباسية، وذلك عندما تمكن عدد من الزعماء من إنشاء إمارات خاصة بهم استقلوا بها عن العباسين 3.   1- يتضح ذلك من اتفاق المنتصر بن المتوكل العباسي مع بعض القادة الأتراك على قتل والده الخليفة، وقد نفذ ذلك في يوم الأربعاء الثالث من شهر شوال سنة 247هـ، ومنذ ذلك التاريخ وحتى سنة 257هـ كان القادة الأتراك هم الذين يعينون الخلفاء، ثم تكرر تسلطهم مرة أخرى طيلة الربع الأول من القرن الرابع الهجري. انظر: تاريخ الطبري، 9/222-230، 234-239، 256-258، 342-345، 364، 389-396، 443-469. الكامل في التاريخ، 6/137-138، 141-143، 147-150، 165-172، 185، 199-201، 438-439. 2- إن أول إمارة بدأت بالاستقلال في المشرق عن الخلافة العباسية هي إمارة طاهر بن الحسين، الذي بسط نفوذه على خراسان واتخذ من نيسابور حاضرة لدولته، وذلك سنة 205هـ. انظر: تاريخ الطبري، 8/577-580. 3- شهد المغرب والشمال الأفريقي ظهور عدة إمارات: فإمارة "نكور" تأسست على يد زعيم عربي يمني يدعى صالح بن منصور الحميري، في بلاد الريف، وذلك سنة 91هـ وبعد قيام الدولة الأموية في الأندلس سنة 138هـ أصبحت إمارة تكور ذات ارتباط قوي بها، واستقلت تماماً عن الخلافة العباسية، وأسس عيسى بن يزيد الأسود المكناسي إمارة بني مدرار الصفرية سنة 140هـ واتخذ من سجلماسة عاصمة لإمارته، وفي سنة 160هـ تمكن عبد الرحمن بن رستم بن بهرام إمام الرستميين من إنشاء الإمارة الرستمية واتخذ من تبهرت عاصمة له، وتبع هذه الإمارة إمارة الأدراسة في المغرب الأقصى وإمارة الأغالبة في أفريقية. انظر: البيان المغرب 1/156، 176، 196-197، تاريخ ابن خلدون 4/196-197، 200 سالم بن عبد الله الخلف، العلاقات السياسية والثقافية بين الخلافة العباسية والإمارة الأموية في الأندلس، ص195-245 والمراجع الواردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وأما مسألة استجابة الأمير الأموي عبد الرحمن بن محمد لطلب الأندلسين باتخاذ لقب الخلافة، فأمر يحتاج إلى وقفة، إذ من الممكن أن يكون عبد الرحمن هو الذي بث في أوساط الناس من يناديه بالخلافة ويطالبه باتخاذ ألقابها، وبالتالي يصبح تسميه بالخلافة كأنه استجابة لطلب رعيته. وإذا صح ما ذهبنا إليه، فإنه لا يصمد أمام البحث إلا ما يتعلق بالدولة العبيدية وبناء عليه: يمكن القول بأن هذه التغيرات التي شهدتها البلاد الإسلامية، إضافة إلى رؤية العبيدين للشمال الأفريقي قاطبة وما يليه من بلاد الأندلس على أنه مجال حيوي لدولتهم، فضلاً عن حملهم للواء التشيع، وإذا وضعنا في الحسبان ما كانت عليه الإمارة الأموية في الأندلس في أواخر القرن الثالث الهجري، ومن ثم سيطرة عبد الرحمن الناصر على كافة العصاة والخارجين على دولته، وحده من نفوذ النصارى في الشمال وإرهاقهم بالغزوات المتتالية. كل هذه الأمور مجتمعة دفعت عبد الرحمن الناصر إلى التفكير في إحداث نقلة معنوية كبيرة لدولته، وذلك لأهمية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الخلافة في نفوس المسلمين، التي تستوجب الطاعة من الرعية لما لها من شرف وارتباط بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعلن عن قيام الخلافة في بلاده، وتسمى بأمير المؤمنين وتلقب بالناصر لدين الله. واهتمام الخليفة عبد الرحمن الناصر ببناء مدينة الزهراء، كان نتاجاً طبيعياً لإعلانه عن قيام الخلافة، وذلك لأن قصر الخلافة بقرطبة كان قديم البناء، رغم التجديدات والإضافات التي أدخلها أمراء بني أمية عليه 1، إذ لم يعد يتسع لحاشية الخليفة ولا يتناسب مع الرقي المادي الذي كانت تعيشه الدولة آنذاك. وفضلاً عن ذلك كله، فإن موقع القصر أصبح في وسط المدينة تقريباً، وفي أكثر مناطقها ازدحاماً، إذ لا يفصله عن المسجد الجامع إلا بضع خطوات، كما أنه قريب من الحي التجاري، ومجاور لباب القنطرة القائمة على الوادي الكبير، وهو أكبر أبواب قرطبة 2. وهذه الأماكن شديدة الازدحام بطبيعتها، لأنها ملتقي الجميع، فالخليفة في هذه الحالة يعتبر معايشاً للعامة، ومن هناك أصبح بناء مدينة الزهراء أمراً ضرورياً، لاكتمال الفخامة من جهة، وللبعد عن ضوضاء العامة من جهة أخرى، وكذلك لعدم مضايقته للناس بموكبه الضخم عند   1- عن تاريخ القصر وتجديدات وإضافات أمراء بني أمية إليه. انظر: قرطبة حاضرة الخلافة 1/187-189. 2- المرجع السابق ص 1/172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 خروجه من القصر أو الدخول إليه، فضلاً عن تأمين أقصى درجات السلامة له وللوفود الزائرة. وأما من ناحية الألقاب، فلم يقتصر الخليفة عبد الرحمن الناصر على لقب "الناصر لدين الله" فقد اتخذ لقباً آخر كما يذكر ابن حزم هو "القائم لله 1 " وهناك نسخة أخرى أشار إليها محقق كتاب نقط العروس تفيد بأن الخليفة عبد الرحمن الناصر قد أغفل استخدام لقب القائم 2، ولم يجمع بينهما إلا في رسالة قد بعث بها إلى قسطنطين ملك الروم، إلا أن ابن حزم عاد في موضع آخر وذكر أنه اطلع على أكثر من خمسين كتاباً كتبها الخليفة عبد الرحمن الناصر كلها تحمل اللقبين معاً 3. وأما طريقة ترتيب ألقاب عبد الرحمن الناصر فقد كانت تأتي على التسلسل التالي" عبد الله 4 " متبوعاً باسمه الشخصي ومن ثم لقبه وأخيراً   1- نقط العروس، ص 50-51. والخليفة عبد الرحمن الناصر اتخذ لقب "الناصر لدين الله والقائم لله" تعبيراً عن ذبه عن مذهب السنة، ووقوفه في وجه المد الرافضي الباطني القادم بقوة من أفريقية بتأييد من العبيديين بالإضافة إلى رغبته في مضاهاة خلفاء بني العباس ببغداد. 2- نقط العروس ص51 حاشية رقم 1. 3- المصدر السابق ص52. 4- أول من اتخذه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كانت الكتب الصادرة منه تكتب: من عبد الله عمر أمير المؤمنين، وتبعه من أتى بعده من الخلفاء. انظر: ابن شبه، تاريخ المدينة، (تحقيق: فهيم شلتوت. د. ت) 3/819، القلقشندي. مآثر الإنافة في معالم الخلافة (تحقيق: عبد الستار أحمد فراج الكويت، وزارة الإرشاد والأنباء 1964م) . 1/20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 لقب أمير المؤمنين، فأصبحت الكتب الصادرة منه معنونة "من عبد الله عبد الرحمن الناصر لدين الله القائم لله أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان" 1. وقد جرى من أتى بعد الخليفة عبد الرحمن الناصر على اتخاذ اللقب المركب المكون من مقطعين، المقطع الثاني اسم الجلالة "الله" فالخليفة الحكم بن عبد الرحمن الناصر اتخذ لقب "المستنصر بالله" في حين أن ابنه هشام تلقب بـ"المؤيد بالله" وعندما فرض سليمان بن الحكم سلطة على قرطبة اتخذ لقب "المستعين بالله". وفي الفترة التي تولى فيها الحموديون الخلافة في قرطبة، تلقب أولهم على بن حمود الحسيني بـ"الناصر لدين الله" وابنه يحيى بـ"المعتلي بالله 2 " وعندما استعاد الأمويون سلطتهم على الخلافة مرة أخرى تلقب عبد الرحمن بن هشام بـ"المستظهر بالله" وجاء بعده محمد بن عبد الرحمن فتلقب بـ"المستكفي بالله" وآخر خليفة أموي وهو هشام بن محمد كان لقبه "المعتد بالله" 3. ولعل لكل واحد من هذه الألقاب دلالة خاصة، فالمستنصر والمستعين والمعتلي والمستظهر والمستكفي والمعتد بالله كلها ذات دلالة واحدة وهي أن حاملها يطلب التأييد والعزة من الله تعالى، وأنه جل وعلا   1 - نقط العروس ص52. 2- البيان المغرب 3/119، 131. 3- نقط العروس ص51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 كافيه عمن سواه، وأما "المؤيد بالله" فهو من الألقاب التي تشير إلى تقوى الملقب إذ أنه مؤيد من السماء يأتيه النصر من عند الله تعالى 1. وهنا لابد من القول أن هذه الألقاب ماعدا لقبي الخليفتين عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر، كلها لا أثر لها في الدولة الأموية في الأندلس، يدل على هذا أنه منذ أن توفي الخليفة الحكم المستنصر بالله سنة 366هـ (976م) يمكن القول بأن دور الخليفة قد انتهى، فمنذ ذلك التاريخ إلى سنة 399هـ (1009) كانت الخلافة التي يمثلها الخليفة هشام المؤيد تحت سيطرة العامريين المنصور وولديه عبد الملك وعبد الرحمن، ومن بعد ذلك بدأت الفتنة التي استمرت حتى سقوط الدولة الأموية سنة 422هـ (1031م) وطيلة هذه الفترة التي استمرت قرابة ثلاثة وعشرين عاماً، تعاقب على الخلافة تسعة خلفاء وبعضهم تولى أكثر من مرة، الأمر الذي يعطي دلالة أكيدة على مدى الاضطراب الذي كانت تعانيه الخلافة الأموية في آخر عمرها في الأندلس، والفوضى السائدة في البلاد بصورة عامة مما أدى إلى سقوطها وقيام حكم دويلات الطوائف. هذا، وقد استخدم أمراء بني أمية في الأندلس لقب "أمير" في النقش على المنشآت العامة، فعندما أتم الأمير عبد الرحمن بن الحكم زيادته في جامع قرطبة في جمادى الأولى سنة 234هـ (ديسمبر 848) 2 نقش على أحد التيجان عبارة "بسم الله بركة للأمير عبد الرحمن بن الحكم أعزه   1- صبح الأعشى، 6/32. الألقاب الإسلامية، ص523. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص243-246.البيان المغرب 2/230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الله" 1. وعندما أنجز الأمير محمد بن عبد الرحمن إتمام الزيادة التي بدأها والده في جامع قرطبة 2، وُجد نقش على عقد أحد أبوابه جاء فيه "أمر الأمير أكرمه الله محمد بن عبد الرحمن ببنيان ما حكم به من هذا المسجد وإتقانه رجاء ثواب الله عليه وذخره به، فتم ذلك سنة إحدى وأربعين ومائتين على بركة الله وعونه" 3. وكذلك فعل الخليفة عبد الرحمن الناصر فقد نقش اسمه ولقب أمير المؤمنين ولقبه الخاص على لوحة تذكارية عند إقامته لجدار جديد دعَّم به الواجهة القديمة التي أنشأها جده الأمير عبد الرحمن الداخل، فقد نقشت لوحة بهذه المناسبة وذلك في شهر ذي الحجة سنة 346هـ (مارس 958م) جاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، أمر عبد الله عبد الرحمن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، أطال الله بقاه، ببنيان هذا الوجه وإحكام إتقانه، تعظيماً لشعائر الله، ومحافظة على حرمة بيوته، التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ولما دعاه على ذلك من تقبل عظيم الأجر وجزيل الذخر، مع بقا شرف الأثر وحسن الذكر، فتم ذلك بعون الله، في شهر   1- مانويل مورينو، الفن الإسلامي في أسبانيا، (ترجمة: د. لطفي عبد البديع، د. السيد سالم، مراجعة: جمال محرز، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1977م) ، ص55. وقد ذكر المؤلف أن هذا التاج يوجد في متحف الآثار بمدريد وله صورة في كتابه ص 56 (ش49،50) . 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص219-220. البيان المغرب 2/95،230. 3- الفن الإسلامي في أسبانيا، ص65 وشكل 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ذي الحجة سنة ست وأربعين وثلث مائة، على يد مولاه ووزيره وصاحب مبانيه عبد الله بن بدر، عمل سعيد بن أيوب" 1. وهناك نقش في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، جاء مفتتحاً بلقب الإمام، ثم اللقب الخاص بالخليفة الحكم، ثم لقب عبد الله، ومن بعده الاسم الشخصي للخليفة، وأخيراً لقب أمير المؤمنين، ففي أحد النقوش في المسجد الجامع بقرطبة، نص جاء فيه: "أمر الإمام المستنصر بالله الحكم أمير المؤمنين أصلحه الله، فيما شيَّد من هذا المحراب بكسوته بالرخام داخله، في جزيل النور وكريم المنار، فتم ذلك على يدي مولاه وحاجبه جعفر بن عبد الرحمن رضي الله عنه بنظر محمد بن تمليخ وأحمد بن ناصر وخالد بن هاشم أصحاب شرطته ومطرف بن عبد الرحمن الكاتب، في شهر ذي الحجة من سنة أربع وخمسين وثلث ماية {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} 2. كما كانت أسماء الأمراء والخلفاء الأمويين تنقش على الدراهم الفضية والدنانير الذهبية 3.   1- الآثار الأندلسية الباقية، ص30. وذكر صاحب كتاب دولة الإسلام في الأندلس: ع1 ق2 ص445-446. أن هذه اللوحة مازالت موجودة إلى اليوم في الجانب الأيمن من الباب الرئيسي للمسجد في الجامع، والمسمى باب النخيل Puerta de las Palmas. 2- د. حسين مؤنس رحلة الأندلس، ص100-101. 3- انظر: المقتبس، تحقيق، شالميتا، ص243. البيان المغرب، 2/91، ذكر بلاد الأندلس 1/140، 141، المغرب في حُلى المغرب 1/46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 كذلك حرص أمراء وخلفاء بني أمية على إثبات بعض ألقابهم في الكتب الرسمية الصادرة من قبلهم، فالخليفة عبد الرحمن الناصر عندما عقد الأمان لمحمد بن هاشم التجيبي 1 ومن معه من أهل سرقسطة في أواخر شهر ذي الحجة سنة 325هـ (أكتوبر 937م) استخدم اللقب الخاص به، الناصر لدين الله، بالإضافة إلى لقب أمير المؤمنين 2. وعندما بعث برسالته إلى الإمبراطور البيزنطي قسطنطين 3، كان الكتاب يحمل اسم عبد الله قبل الاسم الشخصي للخليفة، ثم اللقبين الخاصين به معاً، وأخيراً لقب أمير المؤمنين، جاء فيه: "من عبد الله الناصر لدين الله القائم لله أمير المؤمنين" 4.   1- عن هذه الأسرة، انظر: جمهرة أنساب العرب، ص430-431، الحلة السيراء 2/78-79 حاشية رقم 1. الفتح والاستقرار العربي في شمال إفريقية والأندلس، ص224-225. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا 405-407. 3- قسطنطين السابع، يلقب بالأرجواني أي لابس الأرجواني، وذلك لأنه ولد في الغرفة الأرجوانية وهي الغرفة المخصصة للإمبراطور في القصر الإمبراطوري، تولى الحكم سنة 944م وهو في الأربعين من عمره، ونظراً لأن ميوله أدبية، ولا رغبة لديه في الأمور السياسية، لذا فقد قبل الحكم مكرها، وبسبب ذلك وقع تحت سيطرة زوجته هيلين صاحبة الطموح السياسي، أسهم قسطنطين بقوة في التقدم الفكري البيزنطي، فقد بذل الكثير من أجله، كما أصدر عدة مؤلفات، وقد ظل قسطنطين في الحكم حتى توفي في نوفمبر 959م. انظر: د. إبراهيم طرخان، المسلمون في أوربا في العصور الوسطى، (القاهرة، مؤسسة سجل العرب، 1966) ص 199. حاشية رقم 2. د. الباز العريني، الدولة البيزنطية 323-1081م (لبنان، بيروت، دار النهضة العربية 1982) ص409-432. 4- نقط العروس، ص 51 حاشية رقم 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وعلى نفس الصورة كتب الخليفة الحكم المستنصر بالله السجل الذي عقده لأبي العيش بن أيوب على قومه جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم كتاب من عبد الله الحكم المستنصر بالله أمير المؤمنين لأبي العيش بن أيوب" 1. ومن بعد هذين الخليفتين نشهد اختصاراً في الألقاب، فالخليفة هشام المؤيد عندما أصدر أمره بتلقيب الحاجب عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر بـ"المظفر" جاء في كتابه "من الخليفة هشام المؤيد بالله" 2. ثم عندما أصدر هشام المؤيد أمره بتعيين الحاجب عبد الرحمن بن المنصور أبي عامر ولياً للعهد جاء كتابه مصدراً بـ:"هذا ما عهد به أمير المؤمنين هشام المؤيد" 3. وبعد الخليفة هشام المؤيد زاد اختصار الألقاب، فالخليفة سليمان المستعين عندما أصدر كتاباً أعلن فيه تعيين ولده محمداً ولياً للعهد، لم يحمل ذلك الكتاب سوى لقب "أمير المؤمنين" 4. وتجدر الإشارة إلى أن جميع الكتب التي تصدر عن الخلفاء الأمويين بالأندلس إن لم يخاطب بها ملوك دول أخرى، تأتي مقتصرة على لقب   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص111. 2- أعمال الأعلام، 2/88. 3 - المصدر السابق 2/91. 4- نفسه 2/126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أمير المؤمنين 1، بل إنه في عهد الإمارة نجد أن كتاب الأمان الذي بعثه الأمير الحكم الربضي للفقيه عيسى بن دينار 2 قد خلى من الألقاب بالجملة حيث اقتصر على ذكر اسم الأمير، فقد جاء فيه "من الحكم بن هشام لعيسى بن دينار ... 3 ". وأما الألفاظ التي تتم بها مخاطبة الأمير أو الخليفة الأموى في الأندلس من قبل أبناء الرعية، فإن الأمر فيها لا يقتصر على نمط معين، فالأمير -مثلاً- كان يخاطب بـ"الأمير سيدي 4 " و "مولاي 5 " و "ابن الخلائف 6 " و"الإمام 7 " و"سيدي 8 " و "إمام الهدى 9 " و "الملك 10 " و   1- انظر: المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص268، 306- 307، 310، 12، 327-330، 438-443. المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي 77-78، 98، 100، 109، 123، 126، 129، 131، 135، 178-182، 207. 2- أبو محمد عيسى بن دينار بن واقد الغافقي، فقيه الأندلس وعالمها، أصله من طليطلة، وبها نشأ، وطلب العلم بقرطبة، ثم رحل إلى المشرق، فلما انصرف إلى الأندلس، أصبحت الفتيا تدور عليه، وقد كان عيسى من أهل الزهد والورع، وكثرة العمل والخشية، توفي رحمه الله بطليطلة، يوم الجمعة لست بقين من شوال سنة 212هـ. انظر: أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 352. ابن الفرضي، ترجمة رقم 975. 3- أخبار الفقهاء والمحدثين، ص271. 4- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص20،217. 5- المصدر السابق، ص 27، 118، 128، 150، 170. 6- نفسه، ص41، 280، 303، 306، 357. 7- نفسه، ص44، 122، 221، 224، 302، 316. 8- نفسه ص115، 198. 9- نفسه، ص122، 244. 10- نفسه، ص123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 "إمام المسلمين 1 " و"الأمير 2 " و"الخليفة سيدي 3 " و"أمين الله 4 " و"الخليفة 5 " وأمير المسلمين 6 " و"ولي الله 7 ". وأما الخلفاء فكانوا يخاطبون بـ: "ابن الخلائف 8 " و"الإمام 9 " و"الإمام المؤيد 10 " و" الملك 11 " و "سراج الله 12 " و"أمير المؤمنين 13 " و"الحكم المهدي 14 " و"أمير الله 15 "و"مولانا 16 " و"إمام المسلمين 17 " و"ظل الله 18 " و"سيدي 19 " و"سيدنا 20 ".   1- نفسه، ص27. 2- نفسه، ص 147، 178، 224، 300. 3- نفسه، ص 177. 4- نفسه، ص278، 244. 5- نفسه، ص 241. 6- نفسه، ص 283. 7- نفسه، ص 301. 8- نفسه، تحقيق: شالميتا، ص399، نفسه، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص83، 163، 206. 9- نفسه، تحقيق: شالميتا ص423، نفسه، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص84، 85، 163، 165. 10- نفسه، تحقيق: شالميتا، ص 424. 11- نفسه، تحقيق: عبد الرحمن الحجي 83، 94. 12- نفسه، ص84. 13- نفسه، تحقيق: شالميتا، ص 259، 265-267، 291-294. المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 122، 168، 186، 213، 215. 14- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص138. 15- نفسه، ص 159. 16- نفسه، ص 159. 17- نفسه، ص 205. 18- نفسه، ص 205. 19- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص262- 263، 300- 305، 308-310،348-350، 371-374، 385-386. 20- نفسه، ص 295-297، 369-371، 375- 376، 387-388. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وحدث مرة أن خوطب الخليفة بلفظ "يا ولي العهد" وذلك عندما جمع الخليفة المستكفي بالله أهل قرطبة، وخاطبهم بكلام مؤنث عاتبهم فيه على عصيانهم له، فرد عليه أحد العوام قائلاً: "يا ولي العهد، نفعل ذلك لأنكم تجورون ولا تعدلون وتفسدون ولا تصلحون 1 " إلا أن الكتب التي تصل إلى الأمير أو الخليفة لابد أن تكون مشتملة على الألقاب الرسمية، فمثلاً: الكتاب الذي بعثه عبد الكريم بن يحيى ومن معه من الأندلسيين من بني عمه من أهل فاس 2 في عقب شهر رمضان المبارك سنة 363هـ (يونيو 973) جاء فيه: "الإمام العدل الحكم المستنصر بالله أمير المؤمنين" 3.   1- ذكر بلاد الأندلس، 1/211-212. 2- عن فاس، انظر: الجزنائي، زهرة الآس في بناء مدينة فاس (بعناية: الفريد بيل. الجزائر، مطبعة كاربريل، 1340هـ/1922م) ص18 وما بعدها. روجي لوطورنو، فاس قبل الحماية (ترجمة: محمد حجي، ومحمد الأخضر، بيروت، دار الغرب الإسلامي. 1406هـ/1986م) . 1/53 ومابعدها. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الخاتم: ومن مظاهر ممارسة الأمير أو الخليفة الأموي في الأندلس للسلطان، استخدام الخاتم "إذ هو من الخطط السلطانية والوظائف الملوكية 1 " وهو عبارة عن آلة تصنع بدقة تنقش عليها بعض الكلمات ويلبس بالإصبع ويختم به على الرسائل أو الأوامر الصادرة من الأمير أو الخليفة 2. ولكل أمير أو خليفة أموي في الأندلس خاتم خاص به "فصه زمردة رفيعة القدر شريفة الجوهر منقوش عليها اسمه 3 "، ويتولى أحد كبار رجالات الدولية عملية الإشراف على نقش الخاتم 4. فالأمير عبد الرحمن الداخل كان نقش خاتمه "بالله يثق عبد الرحمن وبه يعتصم" 5 وذكر ابن عذاري أن نقش الأمير الداخل "عبد الرحمن بقضاء الله راضٍ" 6 ويدعم قوله هذا بما أورده عند استعراضه لإمارة الأمير عبد الرحمن الأوسط من أنه اتخذ خاتماً أعاد فيه العبارة التي كانت منقوشة على خاتم جده عبد الرحمن الداخل وهي "عبد الرحمن بقضاء الله راضٍ" 7.   1- مقدمة ابن خلدون، ص704. 2- المصدر السابق، ص 705-706. 3- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص460. 4- البيان المغرب 2/81. 5- نهاية الأرب، 23/352. نفح الطيب، 3/54. بينما ورد في ذكر بلاد الأندلس، 1/110 "بالله يستعين عبد الرحمن وبه يعتصم". 6- البيان المغرب 2/48. 7- المصدر السابق 2/81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وباستعراض نقوش خواتم بني أمية أمراء وخلفاء نجدها على نمطين لا ثالث لهما، فالأميران هشام الرضا، وابنه الحكم الربضي كانا على نسق واحد من حيث العبارة المنقوشة على خاتميهما، "بالله يثق هشام وبه يعتصم 1 " و"بالله يثق الحكم وبه يعتصم" 2. وقد أورد ابن عذاري قصة لنقش خاتم الأمير عبد الرحمن الأوسط، فقد ذكر أن الأمير كان له خاتم قبل ذلك باسمه ففقده، فلما أعياه العثور عليه، اتخذ عبارة "عبد الرحمن بقضاء الله راضٍ" وفي ذلك قال الشاعر ابن الشمر 3: خاتم للملك أضحى ... حكمه في الناس ماضي عابد الرحمن فيه ... بقضاء الله راضي4 وقد ذكر المقري أن الأمير عبد الرحمن الأوسط هو أول من اتخذ نقش: "عبد الرحمن بقضاء الله راضٍ" وأنه بقي وراثة لمن بعده من ولده 5.   1- ذكر بلاد الأندلس، 1/118، نهاية الأرب، 23/358. 2- البيان المغرب 2/68. ذكر بلاد الأندلس 1/124. 3- هو أبو محمد عبد الله بن الشمر بن نمير القرطبي، منجِّم الأمير عبد الرحمن الأوسط ونديمه، كانت له عناية بطلب العلم، كان شاعراً متقناً، لطيفاً حسن المعاشرة. انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 691. المغرب في حُلى المغرب، 1/124-127. 4 - البيان المغرب 2/81. 5- نفح الطيب 1/348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وبتتبع تراجم أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس، نجد أن كل الذين أتوا بعد الأمير عبد الرحمن الأوسط، قد اتخذوا لخواتمهم عبارة موحدة تنقش عليها 1. وقد وجد من بني أمية في الأندلس من اتخذ خاتمين، أحدهما عام والآخر خاص لإصبعه، فالأمير محمد بن عبد الرحمن كان نقش خاتمه الخاص "محمد بالله يثق وبه يعتصم" 2، والخليفة عبد الرحمن الناصر كان نقش خاتمه الخاص "بالله ينتصر عبد الرحمن الناصر" 3. وبصفة عامة، فإن العبارات التي اختارها أمراء خلفاء بني أمية في الأندلس لتنقش على خواتمهم، سواء الخاصة منها أو العامة، كلها تحمل معاني التواضع لله جل وعلا، وطلب النصر والسداد منه، ومن تلك النقوش نخرج بصورة ربما لا تكون بعيدة عن الواقع وهي أن السمة الدينية كانت أبرز صفاتهم، فرغم ما بلغوه من سؤدد وقوة، إلا أن الاتصاف بالتواضع لم يفارقهم، ولا غرابة في ذلك، فهم حكام مسلمون، ومن موطن الإسلام "الحجاز" وهم سلالة الأمويين الفاتحين، سلالة شرف   1- كانت نقوش خواتم بني أمية في الأندلس على النحو التالي:- الأمراء: محمد بقضاء الله راضٍ، المنذر بقضاء الله راضٍ، عبد الله بقضاء الله راض. الخلفاء: عبد الرحمن بقضاء الله راضٍ، الحكم بقضاء الله راضٍ، هشام بقضاء الله راضٍ. انظر: البيان المغرب، 2/113، 156، 233، ذكر بلاد الأندلس، 1/146، 150، 153، 159، 168،174. 2- المصدر السابق 1/146. 3- نفسه 1/159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ودين، وعلم، وفي وسط غالبيته إسلامي، يعج بالفقهاء الذين يشار إليهم بالبنان، وفضلاً عن ذلك فهم على ثغر من أهم ثغور الدولة الإسلامية. وأما خلفاء عصر الفتنة من المهدي إلى المعتد بالله 399-422هـ (1009-1031م) فلم تذكر المصادر لأي منهم نقشاً لخاتمه إلا ما كان من الخليفة المستعين بالله، فقد كان نقش خاتمه "سليمان بن الحكم" 1. وقد يفوض الخليفة الأموي في الأندلس أحد ثقاته، باستخدام خاتم منقوش عليه اسم الخليفة ليستخدمه بالتصديق على ما ينفذ إليه من كتب، وهذا ما فعله الخليفة عبد الرحمن الناصر، عندما أهدى للخير بن محمد 2 هدية حسنة سنة 328هـ (940) "وأرسل إليه خاتماً من خواتمه الخاصة، فصه زمردة رفيعة القدر شريفة الجوهر، منقوش عليها اسمه، أمر أن يقتصر على الطبع به لما ينفذه من كتبه في أكثر أوقاته" 3. الدعاء في الخطبة: ومن شارات حكام الدولة الأموية بالأندلس، الدعاء في الخطب، والمراد به أن الخطيب يدعو في خطبة الجمعة لولي الأمر من أمير أو خليفة ولولي عهده تنويها بذكرهما وتلمساً لساعة الإجابة 4.   1- البيان المغرب، 3/92، ذكر بلاد الأندلس، 1/203. 2- الخير بن محمد بن خزر الزناتي، زعيم زناته في الغرب الأوسط، كان يقطن منطقة وهران، تمكن الأمويون من استمالته ليقف بجانبهم ضد العبيديين. انظر أخباره في المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص259،260 وغيرها. 3- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 460. 4- مقدمة ابن خلدون، ص 713. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ودعاء الخطيب على المنبر لغير الحاكم القائم هو إعلان لفسخ حكمه وابتداء لحكم جديد، وهذا رأيناه في الأندلس، فالأمير عبد الرحمن الداخل وهو في طريقة للاستيلاء على قرطبة في بداية أمره، دخل أرشدونه 1 ARCHIDONA وكان دخوله لها يوم عيد الفطر سنة 138هـ (8 مارس 756م) ، فأقبل زعيمها جدار بن عمرو القيسي 2 على الإمام وأمره أن يخلع يوسف الفهري والي الأندلس ويخطب لعبد الرحمن بن معاوية، فخطب له وبايعوه بعد انقضاء الصلاة 3. وفي بداية نشأة الدولة الأموية في الأندلس كان يدعى في الخطبة للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، ثم يدعى من بعده للأمير عبد الرحمن الداخل، واستمر هذا الوضع مدة عشرة أشهر فقط، وبعدها أصبح الدعاء للأمير الأموي وحده 4.   1- أرشذونة: قاعدة كورة ريه، ومنزل الولاة والعمال، تمتاز بموقع منيع، فهي تقع في بطن وادٍ سحيق، تحيط به الجبال، ومن معالمها الباقية حصنها الواقع فوق ربوة عالية، وقد سقطت بأيدي النصارى سنة 892هـ، انظر: الروض المعطار، ص25. الآثار الأندلسية الباقية ص 238-240. 2- جدار بن عمرو، كانت له رئاسة العرب بكورة رية، وهو جد بني عقيل، تولى قضاء العسكر للأمير عبد الرحمن الداخل، ثم ولاه قضاء الجماعة بعد أبي مضر محمد بن إبراهيم الأودي الأكشونبي، وذلك سنة 170هـ. انظر: ابن القوطية، ص 24-25 التكملة طبعة الحسيني، ترجمة رقم 667. 3- ابن القوطية، ص 24-25. 4- اختلف المؤرخون في المدة التي قضاها الأمير عبد الرحمن الداخل وهو يدعو لأبي جعفر المنصور، فابن حزم أشار إلى أنه ظل يدعو له أعواماً، وأما ابن الأثير فقد حددها بعشرة أشهر فقط، وتابعه على ذلك النويري والمقري، في حين أن ابن الأبار ذكر أن= =المدة دون السنة، وأما ابن الكردبوس فقد ذكر أن جميع أمراء بني أمية كانوا يخطبون للعباسيين، وتابعه على ذلك ابن أبي دينار، وأما صاحب ذكر بلاد الأندلس فقد ذكر أن الدعوة استمرت لأبي جعفر المنصور مدة سنتين، في حين أن ابن خلدون لم يحدد المدة. انظر على التوالي: نقط العروس ص75. الكامل 5/209. نهاية الأرب 23/346. نفح الطيب 3/59، الحلة السيراء 1/35-36. تاريخ الأندلس لابن الكردبوس ص60-61. ابن أبي دينار، المؤنس في أخبار أفريقيا وتونس، (تحقيق وتعليه: محمد شمام، المكتبة العتيقة، تونس 1387هـ) ، ص 100. ذكر بلاد الأندلس 1/114. تاريخ ابن خلدون 4/122. ومن خلال هذه الأقوال نرى أن المدة التي قضاها الداخل في الدعاء للمنصور هي عشرة أشهر فقط، كما ذهب إلى ذلك ابن الأثير ومن تابعه، ويمكن الاستئناس بتاريخ مولد هشام بن الداخل، على المدة التي استمر فيها الدعاء للمنصور، فقد ورد في البيان المغرب (2/48) أن الأمير الداخل بعد قطع الدعاء للمنصور ولد ابنه هشام لأربع خلون من شوال سنة 139هـ، وإذا ما أجرينا عملية حسابية من يوم الأضحى سنة 138هـ إلى مولد هشام نجد المدة لا تتجاوز عشرة أشهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ولعل أصعب مرحلة مرت بها الدولة الأموية في الأندلس، كانت في عهد الأمير عبد الله بن محمد، الذي قل أن تجد كورة من كور الأندلس لايوجد فيها عصيان على حكومة قرطبة 1، بل إن الأمر استفحل لدرجة أنه لم يبق لتلك الحكومة سيطرة إلا على قرطبة وأحوازها 2، بالإضافة إلى بعض المناطق مثل طرطوشة 3 وبجانة 4 اللتين استمرتا على علاقتهما مع قرطبة فكان ولاتهما يعينون إما من قبل الأمير عبد الله أو بمباركته 5.   1- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 104. 2- أعمال الأعلام، 2/27. 3- طرطوشة: Tortosa تقع في شمال شرقي إسبانيا، بالقرب من البحر المتوسط على بعد 84 كيلو متر من مصب نهر الأبرو، أقام فيها الخليفة عبد الرحمن الناصر دار صناعة ضخمة، وقد سقطت في أيدي النصارى سنة 543هـ. انظر: ابن غالب: تعليق منتقى ص 285-286 الروض المعطار ص391-392. الحلل السندسية، 3/7-44. الآثار الأندلسية الباقية، ص120-122. 4- بجانة: Pechina كانت من أهم المدن العسكرية على الساحل الجنوبي للأندلس، إلا أنها فقدت هذه الميزة بنشأة مدينة المرية سنة 344هـ، وبجانة اليوم بليدة صغيرة تبعد عن المرية مسافة عشرة كيلو مترات شمالاً. انظر: الروض المعطار، ص79-80. تاريخ مدينة المرية الإسلامية ص 17-32. 5- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص52، 53، 106، 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وهذا يعني أن الدعاء للأمير عبد الله توقف في كافة أرجاء الأندلس إلا في قرطبة وما جاورها بالإضافة إلى طرطوشة وبجانه. وفي الخطبة أيضاً تم الإعلان عن تحول الدولة من إمارة إلى خلافة، وذلك في عهد الأمير عبد الرحمن بن محمد، ففي يوم الجمعة ثاني ذي الحجة سنة 316هـ (16يناير 929م) دعا قاضي الجماعة بقرطبة أحمد بن بقي بن مخلد لعبد الرحمن بن محمد بإمرة أمير المؤمنين 1. ارتقاب الأهلة: ومن مظاهر سلطان الأمير أو الخليفة الأموي، تكوين لجنة تتولى ارتقاب الأهلة، بالذات هلال شهري رمضان وشوال، ويكون قاضي الجماعة هو المسؤول عن هذه اللجنة، وبعد أن تتم رؤية الهلال، يكتب قاضي الجماعة كتاباً يرفعه للأمير أو الخليفة لإعلامه بدخول شهر رمضان أو برؤية هلال شهر شوال 2.   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 241. 2- النباهي، ص 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 المقصورة: ومن شارات الدولة الأموية في الأندلس المقصورة، وهي عبارة عن حجرة تقام بجانب المحراب، يصلي فيها الأمير أو الخليفة. ويعلق ابن خلدون على اتخاذها فيقول: "وصارت سنة في تمييز السلطان عن الناس في الصلاة، وهي إنما تحدث عند حصول الترف في الدول والاستفحال شأن أحوال الأبهة كلها" 1. وقد تم إنشاء المقصورة في جامع قرطبة سنة 250هـ (864) بأمر من الأمير محمد بن عبد الرحمن، فهو أول من اتخذها في الأندلس 2، وأصبحت سنة لمن بعده، ولا يصلي في هذه المقصورة إلا الأمير أو الخليفة وعدد قليل من الخواص. الساباط: وهناك الساباط 3 الموصل بين القصر وجامع قرطبة يعتبر من مظاهر السلطان في الأندلس وأول من أنشأه الأمير عبد الله بن محمد، ويمتد هذا   1- مقدمة ابن خلدون، ص 712. والمقصورة تؤخذ بالإضافة للتميز حماية لولي الأمر، وأول من اتخذها الصحابي الجليل الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. انظر أبو هلال العسكري، الأوائل، (تحقيق: وليد قصاب ومحمد المصري، دار العلوم الرياض 1400هـ (1980م)) 1/335. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 220. وعن هذه المقصورة وموقعها في المسجد ومساحتها. انظر: قرطبة حاضر الخلافة، 1/330. 3- الساباط: سقيفة بين دارين تحتها طريق. انظر: الفيروزبادي، القاموس المحيط، (القاهرة، المطبعة المصرية، ط الثالثة، 1352هـ/1933م) 2/363. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الساباط من باب سبق وأن فتحه الأمير محمد بن عبد الرحمن في جدار قصره إلى الباب المعروف بباب الأمير "La Puerta De San Migule" المفضي إلى المقصورة. وكان الأمير عبد الله يستخدم هذا الساباط المستور للوصول إلى المسجد الجامع ودخول المقصورة وأداء الصلاة دون أن يراه أحد ثم يعود أدراجه إلى القصر 1. السرير: ومن مظاهر سلطان الحاكم الأموي في الأندلس، الجلوس على السرير، وهو عبارة عن "أعواد منصوبة أو أرائك منضدة لجلوس السلطان عليها مترفعاً عن أهل مجلسه أن يساويهم في الصعيد" 2. ويذكر ابن حيان أن الأمير عبد الرحمن الأوسط كان له سرير من خيزران لطيف الصنعة، ويوضع على السرير فراش وثير محشو بالريش ليجلس وهو براحة تامة 3.   1- وربما أقيم الساباط حفاظاً على سلامة الأمير، ولكن من الثابت أن السبب يعود لأمر آخر، فقد اعتاد بعض الأندلسيين عندما يكونوا في المسجد انتظاراً للصلاة القيام عند رؤيتهم للأمير مقبلاً من قصره لأداء الصلاة، فلما طال الأمر كتب إليه الفقيه سعيد بن خمير المتوفي سنة 301هـ كتاباً نبهه فيه إلى أن قيام الناس له لا يجوز فأصدر أمره للناس بعدم القيام له، لكن البعض لم يترك هذه العادة، فاضطر الأمير إلى وضع الساباط بحيث يدخل المسجد وينصرف دون أن يراه أحد. انظر: المقتبس، طبعة: أنطونيه، ص 26،34. 2- مقدمة ابن خلدون، ص 700. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 18-19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وعندما دخل الأمير محمد بن عبد الرحمن للقصر لاستلام الحكم بعد وفاة والده "احتشد الخدم المستدعون له يزفونه زفاً إلى سرير والده، فاستوى عليه وتم الملك له" 1. وفي الأعياد والاحتفالات العامة يكون الأمير أو الخليفة على سريره في المجلس، وعن يمينه وشماله الأخوة والأعمام، ومن ثم رجالات الدولة كل وفق مرتبته، ومثل هذا ما حدث في زمن الخليفة الحكم المستنصر بالله، ففي عيد الأضحى سنة 360هـ (أكتوبر 971م) جلس الخليفة الحكم على السرير بقصر الزهراء في المجلس الشرقي للتهنئة، فكان إخوته أول المهنئين له فجلسوا على مراتبهم بعد السلام، ثم الوزراء وجلسوا عن يمين السرير بعد الإخوة، ثم سائر أهل طبقات الخدمة على منازلهم ومراتبهم 2. القضيب: ونظراً للتطور الذي شهدته رسوم الدولة الأموية في الأندلس خلال عهد الخلافة بالذات، أصبح القضيب 3 إحدى شارات الملك، يمسك به الخليفة بيده في أثناء مسيره بموكبه أو جلوسه في الاحتفالات الرسمية.   1- المصدر السابق، تحقيق: د. محمود مكي، ص 118. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 59. 3- القضيب: هو عبارة عن عود طوله شبر ونصف ملبس بالذهب المرصع بالدر والجوهر، يمسكه الخليفة في المواكب العظام. انظر: محمد البقيلي، التعريف بمصطلحات صبح الأعشى. (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1983م) ، ص 257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ويذكر ابن حيان أن الخليفة هشاماً المؤيد عندما أخرجه الحاجب المنصور ابن أبي عامر للناس ليروه برز "معمماً على الطويلة سادلاً للذؤابة، والقضيب في يده زي الخلافة" 1. المظل:- ويمكن اعتبار المظل أحد مظاهر سلطان ولي الأمر الأموي في الأندلس، وبالذات في عصر الخلافة إذ أن المظل هو عبارة عن خيمة ميدانية خاصة بالخليفة. فقد ذكر ابن حيان أنه في سنة 308هـ (920م) قام الخليفة عبد الرحمن الناصر بغزوة ضد نصارى الشمال، وفي إحدى مواطن القتال، التجأ حوالي خمسمائة رجل من أولئك النصارى إلى أحد الحصون للاحتماء به، إلا أن الخليفة أمر بتقديم المظل وأبنية العسكر إلى ساحة الحصن لمحاصرته 2. وتجدر الإشارة إلى أن المظل كان في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله يقدم هدية لمن يراد تكريمه وتشريفه على من سواه، فقد ذكر ابن حيان أنه في شهر رمضان سنة 362هـ (يونيو 973) صدرت أوامر الخليفة المستنصر بالله بمنح زعيم البربر رئيس كتامه، الوافد إليه من العدوة   1- الذخيرة ق 4 م1 ص 73. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 المغربية أبي العيش بن أيوب بن بلال مظلاً فخماً بفرشه وآلته لنزوله فيه إكراماً له 1. حجر الأعزة: ويوجد في القصر مكان يعرف بحجر الأعزة، لا يركب من عنده إلا الأمير أو الخليفة ولا يسمح لغيرهما بالركوب منه إلا من أذن له من قبلهما تنويها بذكره وإكراماً له، كما فعل الخليفة المستنصر بالله عندما جعل ركوب الوزير القائد الأعلى غالب بن عبد الرحمن الناصري من عند ذلك الحجر، عندما قلده سيفين وسماه بذي السيفين وذلك يوم الخميس السابع من شهر شعبان سنة 364هـ 2 (22 إبريل 975م) تقديراً له على جهوده في العدوة المغربية. الطراز: ومن مظاهر سلطان الأمير أو الخليفة الأموي في الأندلس اتخاذ الطراز 3، الذي يعتبر من العلامات الدالة على عظم الدولة، وهو عبارة   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 115. 2- المصدر السابق، ص219-220 3- الطراز: كلمة معربة عن الفارسية، استعملت في الشعر العربي عند التفاخر والمدح، كقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:- بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول كما استعملت للدلالة على مجموعة معمارية. إلا أن المعنى الحقيقي لكلمة الطراز يتضح عندما تنقش العبارة الرسمية على العملة أو النسيج الرسمي أو غير ذلك من الأوراق ذات الطابع الرسمي، وقد جرت العادة أن تتخذ كل دولة لنفسها طرازاً أو عبارة مميزة. انظر: ديوان حسان بن ثابت، (تحقيق د. سيد حنفي حسين، القاهرة، وزارة الثقافة 1394هـ/1974م) ص123. د. حسن الباشا. الفنون الإسلامية والوظائف على الآثار العربية. (القاهرة، دار النهضة العربية 1966م) ، 2/686. فريال داود المختار، دور الطراز في مدينة السلام (العراق وزارة الأعلام. مجلة المورد، المجلد الثالث، العدد الثالث، 1394هـ/ 1974م) ص 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 عن ثياب تصنع بطريقة خاصة، يتميز بها الأمير أو الخليفة أو من ينعم عليه قبلهما 1. وطبيعي أن أي دولة تكون منصرفة عن الأمور الكمالية في بداية أمرها، فإذا استقرت وقهرت سواها، بدأ قادتها يفكرون بقطف ثمار ملكهم، فتظهر حينئذ علامات الرفه النعيم 2. وهذا ما حصل لبني أمية في الأندلس، فمنذ قيام دولتهم هناك سنة 138هـ (755م) لم نسمع للطراز أي ذكر حتى كان عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، 206-238هـ (822-852م) الذي كانت أيامه تسمى "أيام العروس 3 " ذلك لأنه "وجد ملكاً ممهداً ورعية مؤدبة وهيبة مغلظة 4 " وهذا ثمرة طبيعية للجهد الذي بذله من سبقه من آبائه، مما كان سبباً رئيسياً في رخاء إقتصادي نعمت به الأندلس، فأصبحت خزائن الدولة ملأى بالأموال، وجاء الاتصال بالمشرق ليفتح آفاقاً رحبة أمام هذا الأمير الشاب الواعي "فرتب رسوم المملكة واحتجب عن العامة 5 " كما   1- مقدمة ابن خلدون، ص 708. 2- المصدر السابق ص 548-555. 3- المغرب في حُلى المغرب، 1/46. ذكر بلاد الأندلس 1/139. 4- المصدر السابق، 1/139. 5- تاريخ ابن خلدون 4/130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 أنه هو "أول من جرى على سنن الخلفاء في الزينة والشكل وترتيب الخدمة، وكسى الخلافة أبهة الجلالة 1 " فكان من أهم إنجازاته التي تهمنا في هذه الدراسة أنه "أحدث الطراز واستنبط عملها 2 " فأنشأ في قصر الإمارة دوراً خاصة لصنع الثياب تعرف بـ"دور الطراز". وهناك خزانة خاصة بكسوة الأمير وخزَّانة تشرف عليها، وفي القصر خياطون لهم عريف خاص 3. وقد تحدث بعض المؤرخين 4 بشيء من الإعجاب عن دار الطراز التي أنشأها الأمير عبد الرحمن الأوسط، لكن ابن حيان 5 ذكر أن هذه الدار كانت في الأساس من إنشاء الأمير عبد الرحمن الداخل، وعليه فربما يكون ما قام به الأمير عبد الرحمن الأوسط هو عبارة عن تجديد لتلك الدار التي أنشأها جده. وقد شهدت دور الطراز تطوراً كبيراً في زمن الخليفة عبد الرحمن الناصر، وفي هذا يقول ابن الخطيب: "ومن أثاره - عبد الرحمن الناصر - التي ضربت بها الأمثال وقضيت فيها العجائب، حال الطراز ببابه لنسج   1- البيان المغرب 2/91. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 21. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 28. 4- ابن عذاري، البيان المغرب، 2/91، ابن الخطيب، أعمال الأعلام، 2/20، ابن خلدون، تاريخه، 4/138. 5- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ما يحتاج إليه من الخلع والكسى وملابس الحرم وغير ذلك 1 " بالإضافة إلى "الأقمشة الناعمة والمنسوجات الحريرية السميكة" 2. ولدار الطراز مسؤول يتولى الإشراف عليها، يسمى "صاحب الطراز"، وقد جرت العادة ألا يتولى هذا المنصب إلا الأعيان الذين لهم اختصاص بالأمير أو الخليفة الأموي 3. وعلى صاحب الطراز تقع مسؤولية حفظ ما يصنع في دور الطراز، أو يدخل إليها، من الهدايا ونحوها، ولذا فقد كان يعمد إلى استخدام سجل خاص يسجل به موجودات الدار، لأنه سوف تتم محاسبته على ما كان لديه من الطراز عند عزله عن منصبه 4، كما أن من مهامه الإشراف على الصاغة والحاكة الذين يعملون في دور الطراز، وإجراء الأرزاق عليهم 5، كما كانت هناك زيارات يقوم بها أمراء وخلفاء بني   1- أعمال الأعلام 2/40. 2- وصف الأندلس للرازي ص 65. ونتيجة لاهتمام عبد الرحمن الناصر بالطراز فقد ازدهرت عملية صناعة المنسوجات بالأندلس وبالذات في مدن المرية ولقنت وسرقسطة فأصبحت تنتج الأقمشة بأنواعها من الحرير المطرز بالذهب والوشي والسقلاطوني والبغدادي والخز وسائر أجناس الديباج والثياب الرقيقة المطرزة المصنوعة من السمور، وقد بلغت تلك الصناعة من الدقة بحيث أن الكثير منها يصدر للبلاد الأخرى. انظر: وصف الأندلس للرازي، ص67، 70، 78. فرحة الأنفس، ص283-284، 287-288. أعمال الأعلام، 2/40. المغرب في حُلى المغرب 2/193-194. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص185، مقدمة ابن خلدون، ص 709. 4- نفح الطيب 1/358. 5- د. حسن إبراهيم حسن، وزميله، النظم الإسلامية (القاهرة. مكتبة النهضة المصرية، ط الأولى، 1358هـ،1939م) ص219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أمية لدار الطراز لتفقدها ومناقشة القائمين عليها ببعض المسائل وتوصيتهم وفق ما يرونه مناسباً 1. وبناءً على ما ورد في بعض المصادر التاريخية، يمكن القول بأن الأمويين قد أفادوا من إنتاج دور الطراز لديهم في تعاملهم السياسي مع الآخرين، فالأمير عبد الرحمن الأوسط عندما بعث بوفد من عنده لملك النورمان، حملهم هدية اشتملت على ثياب نالت إعجاب الملك 2 كما أن الأمير المنذر بن محمد أمر وهو في بداية عهده أن تقطع ثياباً خاصة بأولاد عمر بن حفصون، عندما خدعه الأخير وتظاهر بأنه سوف يدخل في طاعته 3 وعندما تم الصلح بين الأمير عبد الرحمن بن محمد وعمر بن حفصون سنة 303هـ (915م) بعث إليه الأمير بهدية كان فيها الكثير من الكسى السلطانية من الوشي الطرازي وغيره 4. ورغم كل هذا، فإن علينا أن نتذكر أن صناعة الثياب الطرازية في الأندلس لا تقارن بما كان يصنع في المشرق، على الأقل إلى منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) ، يدل على ذلك حادثتان إحداهما وقعت في عصر الإمارة والأخرى في عصر الخلافة.   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص92. 2- ابن دحية، المطرب في أشعار أهل المغرب، ص132. 3- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 4/496-497. 4- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 115-116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ففي عصر الإمارة رحل الأديب أبو بكر بن سلاَّم القرطبي 1 إلى المشرق، فالتقى هناك بالجاحظ 2 واختص به ولازمه مدة طويلة، فلما أراد العودة إلى الأندلس، طلب من الجاحظ أن يحتال له بجاهه لدى صاحب الطراز في البلاط العباسي، لصنع ثياب عراقية رقيقة، تطرَّز باسم الأمير محمد بن عبد الرحمن، فكلم الجاحظ صاحب الطراز، فأسعفه في طلبه "وعمل له منها في السر المكتم عدة أثواب رفيعة القدر، جاء بها إلى الأمير محمد، فاستنبله في تحفته، وعظم موقعها لديه، ونال بها منزلة من اعتنائه" 3. وأما في عصر الخلافة فإن الهدية السنية التي قدما الوزير أحمد بن عبد الملك بن شهيد 4 للخليفة عبد الرحمن الناصر في شهر جمادى الأولى   1- أبو بكر بن سلاَّم، أحد أكابر أدباء وعلماء قرطبة، كان معتنياً بالأخبار والأشعار والآداب، حافظاً للأنساب، له معرفة بالطب وهو الذي أدخل كتب الجاحظ الأندلس. انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 1037. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 164-165. 2- هو أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ، أشهر أدباء وكتاب القرن الثالث الهجري، ولد سنة 165هـ وتوفي سنة 255هـ في البصرة، ترك موسوعة ثقافية ضخمة. انظر عن الجاحظ وحياته وكتبه، الأبحاث الواردة في مجلة المورد، المجلد السابع، العدد الرابع 1399هـ/ 1978م ص 11-256. شارل بللا: الجاحظ (ترجمة: د. إبراهيم الكيلاني، دمشق، دار الفكر، 1406هـ (1985م) ص 7-390. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص164. 4- أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن عمر بن محمد بن شهيد الأشجعي، كان من أهل الأدب، وهو من عائلة كانت خطط الدولة بأيدي أبنائها، تصرف في المناصب لعبد الرحمن الناصر، من ولاية الكور والوزارة وقود الصوائف، وهو أول من سمى بـ"ذي الوزارتين" انظر: الحلة السيراء 1/237-238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 سنة 327هـ (مارس 939م) كانت المنسوجات فيها معظمها مشرقية إن لم يكن جميعها 1. ولقد كانت دار الطراز لدى الأمويين تنسج ثياباً رفيعة مزينة بأشرطة الطراز، ولايمكن أن يطرز بتلك الدار لأحد باسمه سوى الأمير أو الخليفة، لكن جرت العادة لديهم أن يتم خلع بعض تلك الثياب المطرزة على بعض المقربين بين فترة وأخرى 2. وهناك حالة مستثناة لم تتكرر من قبل، فقد تم تطريز ثياب بدار الطراز لغير ولي الأمر، فالخليفة عبد الرحمن الناصر عندما أراد إكرام محمد بن خزر 3 إكراماً لا مثيل له، أمر صاحب الطراز أن يصنع عشر قطع متنوعة من عتيق الخز العبيدي فطرزها باسم محمد بن خزر 4.   1- نفح الطيب: 1/357-358. تجدر الإشارة إلى أن الأندلس أصبحت فيما بعد تنافس المشرق في هذه الصنعة، فقد تطورت في هذا المجال بصورة كبيرة، لدرجة أن مدينة المرية في عصر المرابطين "كان بها من طرز الحرير ثمانمائة طراز، يعمل بها الحلل والديباج والسقلاطون والأصبهاني والجرجاني والستور المكللة المعيَّنة والعتابي والفاخر وصنوف أنواع الحرير". انظر: صفة جزيرة الأندلس (نشر: ليفي بروفنسال، القاهرة، 1937م) ص 184. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 21. المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 308،389،428. 3- هو والد زعيم زناته في المغرب الأوسط الخير بن محمد، الذي وردت ترجمته من قبل. 4- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وقد أشار ابن خلدون إلى أن المنسوجات التي تنتجها دار الطراز، يكتب عليها أسماء الحكام مع كلمات أخرى تجري مجرى الفأل 1. ورغم أنه لا توجد لدينا نصوص عن ألوان منسوجات دار الطراز، إلا أنه يمكن الاستئناس بما كان سائداً لدى الأمويين في المشرق، فقد كان الأمويون هناك ابتداءً من عهد الخليفة هشام بن عبد الملك يكسون الناس الخزَّ إلا الأصفر والأحمر، فقد ادخروا هذين اللونين لهم خاصة 2. وقد بقي لنا من طراز بني أمية في الأندلس مئزر كان خاصاً بالخليفة هشام المؤيد، صنع "من نسيج رقيق جداً، من الكتان المهري له أهداب طويلة على امتداده ويبلغ 12،1 وفي طرفه شريط عرضه 78 ملم، مقسم إلى ثلاث مناطق، المنطقة الوسطى منها ثلاث عشرة جامة، تظهر فيها رسوم آدمية في حالة الجلوس، ويمسك أحد الأشخاص في يده قارورة ويشير بيده الأخرى إلى حيوانات من ذوات الأربع وطيور مرسومة في غير دقة ولا إحكام 3.. وفي القسمين الجانبين نقش كوفي في لون   1- مقدمة ابن خلدون، ص 708. 2- انظر: القاضي الرشيد بن الزبير، كتاب الذخائر والتحف، (تحقيق: د. محمد حميد الله، الكويت دائرة المطبوعات والنشر، 1959م) ص211. 3- إن حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إذا كانت ذات أجسام حرم بالإجماع وإن كانت رقماً ففيها أربعة أقوال: الأول: يجوز مطلقاً على ظاهر الحديث "إلا رقماً في ثوب" الثاني: المنع مطلقاً. الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم، وإن قطعت الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز، قال ابن العربي (وهذا هو الأصح) الرابع: إن كان مما يمتهن جاز وإن كان معلقاً لم يجز. انظر: ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، (دار المعرفة بيروت - لبنان -) 10/391. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 أبيض يقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم، البركة من الله واليمن والدوام للخليفة الإمام عبد الله هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين" وأرضية الجامات من الذهب أما بقية الأجزاء فيملؤها حرير في ألوان بيضاء وزرقاء سماوية وقمحية وصفراء ووردية وخضراء فاتحة بين خطوط سوداء، وصناعته تشبه تمام الشبه الصناعة المصرية المعاصرة له" 1. وأخيراً، يمكن أن نضيف إلى ما سبق أن من مظاهر سلطة الأمير أو الخليفة الأموي في الأندلس، تعيين الولاة والعمال، والإشراف على شؤون البلاد، وذلك من خلال بعث أمناء يسألون الناس عن سير ولاتهم فيهم، الأمر الذي يجعل الحاكم على بصيرة بما يجري في دولته، وفي الوقت نفسه يكفل لرعيته تحقيق العدالة المنشودة.   1 - الفن الإسلامي في أسبانيا، ص 411-414، ويذكر المؤلف أن هذا المئزر محتفظ به في الجمعية الملكية للدراسات التاريخية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 المبحث الثاني: ولاية العهد ... ولاية العهد: اختيار ولي العهد عند استعراضنا لتاريخ بني أمية في الأندلس، منذ قيام دولتهم وحتى سقوطها، نجد أن نظام الحكم فيها كان وراثياً، يتوارثه الأبناء عن الآباء، ولا نجد ولو لمرة واحدة، أن عقد أحدهم ولاية العهد1 من بعده، لأحد إخوانه، فضلاً عن أن يعقدها لواحد من أبناء عمومته، كما هو الحال في الدولة الأموية في المشرق. وأما خروج هذا المنصب إلى واحد من خارج الأسرة الأموية فقد حدث مرة واحدة، وكان ذلك بسبب ظروف استثنائية قاهرة سيأتي بيانها فيما بعد. ووراثة ولاية العهد في الأبناء كانت تقوم على أسس يمكن من خلال الأحداث التالية جلاء صورتها. قام هشام بن عبد الرحمن الداخل بالإمارة مقام أبيه بعد وفاته بناءً على عهد مسبق منه2 بالرغم من أن أخاه   1- يتكون مفهوم " ولاية العهد" من لفظين، هما: ولاية- عهد. أما الولاية فتعني القرابة، والخطة والإمارة، وتعني البلاد التي يتسلط عليها الوالي. أما العهد فيعني: الوصية والتقدم إلى المرء في الشيء والموثق واليمين، والذي يكتب للولاة من عهد إليه أوصاه، واستعهد من صاحبه اشترط عليه وكتب عليه عهده. ولي العهد لأنه ولي الميثاق الذي يؤخذ على من بايع الخليفة. انظر: لسان العرب. مادة: عهد. 2- ابن حزم، نقط العروس، ص 56. وانظر: الكامل، 5/281. الحلة السيراء، 2/363. ذكر بلاد الأندلس، 1/119. نفح الطيب، 1/334. وقد ذهب كل من ابن عذاري وابن الخطيب إلى القول بأن الداخل لم يعين ولي عهده، بل جعل الأمر لمن يحضر أولاً إلى قرطبة من الأخوين سليمان وهشام، حيث تقول روايتهما: أن عبد الرحمن الداخل أوصى ابنه عبد الله قائلاً: "من سبق إليك من أخويك فارم إليه بالخاتم والأمر، فإن سبق إليك هشام فله فضل دينه وعفافه واجتماع الكلمة، وإن سبق إليك سليمان فله فضل سنه وبخدته وحب الشاميين له. انظر البيان المغرب، 2/61. أعمال الأعلام: 2/11. ووفق النص السابق نجد أن الداخل جعل الأمر لمن سبق من الأخوين، فهل يعقل أن يترك الداخل أمر الدولة من بعده دون أن يقطع فيه برأيه، وإذا كان الوضع بهذه الصورة فلم لم يعمد عبد الله إلى أخذ الأمر لنفسه بعد أخذ الاحتياطات اللازمة؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 سليمان أسن منه1، وهنا لابد من تساؤل يُطرح: لماذا قدم هشام على سليمان؟. كان المجتمع الأندلسي يتكون من فئات عدة، وكان العرب إحداها ولاشك أنهم لا يشكلون الأغلبية، بل هم أقلية بالنسبة لأهل البلاد الأصليين، وفي تلك الفترة التي نؤرخ لها، كان العرب ينقسمون في الأندلس إلى فئتين كبيرتين، شاميين وبلديين2، والبلديون أكثر من الشاميين3، وقد اندلعت الحروب بين هاتين الفئتين بسبب المصالح   1- كان عمر سليمان عندما هرب والده من المشرق بعد مذبحة نهر أبي فطرس التي جرت سنة 132هـ أربع سنوات تقريباَ. انظر: أخبار مجموعة ص52. وأما هشام فقد ولد في الأندلس في شهر شوال سنة 139هـ. البيان المغرب 2/48. 2- العرب القيسيون أو الشاميون قدموا إلى الأندلس مع طالعة بلج بن بشر القشيري سنة 124هـ، إذ أنهم يشكلون أغلبية تلك الطالعة. انظر: ابن القوطية، ص15. كما وصل مع أبي الخطار الكلبي ثلاثون رجلاً منهم. ابن القوطية، ص 19. وأما اليمنيون أو البلديون فإنهم وصلوا قبل الشاميين، إذ قدموا مع طالعة موسى بن نصير في شهر رجب سنة 93هـ، "انظر: الرسالة الشريفية ص192. منشورة في آخر كتاب تاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية". ثم قدمت مجموعة أخرى منهم مع طالعة الحر الثقفي سنة 97هـ. انظر: البيان المغرب 2/25. 3- أخبار مجموعة، 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وغياب السلطان الذي يحفظ الأمن ويجري الحقوق بين الناس، ومع ضعف دوافع الانقسام والتحزب بسبب قيام الدولة الأموية، فإن أثار ذلك ظلت تكمن في النفوس، ومن شأن وجود شاميين وبلديين في الأندلس أن يكون له حسابه في الفصل في موضوع ولاية العهد، حيث كانت أم سليمان شامية وأم هشام بلدية. وفي النص الذي أورده ابن عذاري نجد الأمير عبد الرحمن الداخل يصرح بحب الشاميين لسليمان، عندما أوصى ابنه عبد الله قائلاً: "وإن سبق إليك سليمان فله فضل سنه ونجدته وحب الشاميين له1" فلو تولى سليمان الإمارة هل ستنقاد له بقية فئات المجتمع الأندلسي؟ إن الأمير عبد الرحمن الداخل بحاجة إلى استقرار إمارته، وتجنيبها الخلافات عليه وعلى خلفائه من بعده، ولذا فإن إسناد الأمر إلى هشام، من شأنه أن يجعل اجتماع الكلمة عليه أكثر احتمالاً، إذ أن أمه من البلديين. وإذا نظرنا إلى وضع الإمارة الأموية في نهاية عهد الأمير عبد الرحمن الداخل، نجد أنها كانت تنعم بالهدوء بعد أن أمضى سنوات طويلة من حكمه في إرساء قواعد دولته والقضاء على الخصوم بشدة. ولاشك أن الأمير عبد الرحمن الداخل لم يغفل هذه الناحية، فهو يدرك ضرورة اختيار الأنسب لتولي العهد من بعده، وبما أن دولته مستقرة، ففي الحالة هذه يكون تقديم هشام أولى، وقد ذكر الماوردي أن   1- البيان المغرب، 2/61. وانظر: أعمال الأعلام، 2/11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الأشجع من المرشحين لولاية العهد أولى بالتقديم "إن كانت الحاجة أدعى لانتشار الثغور وظهور البغاة1" وإلا فالعالم المتدين أحق بالتقديم. وبالإضافة إلى ما سبق، فقد كان الأمير عبد الرحمن الداخل كثير الاهتمام بولديه، وكثيراً ماكان يسأل عنهما فتأتيه الإجابة بأن هشاماً إذا حضر إلى مجلس الوزراء2 أصبح الحديث الدائر في المجلس جاداً مفيداً، وإذا كان يوم حضور سليمان عج المجلس بالأحاديث الهزلية3. ولم يكن الداخل يكتفي بالأخبار التي تنقل إليه عن ولديه، بل كان يعمد إلى اختبارهما بنفسه، فمن ذلك أنه قال لهشام يوماً على انفراد لمن هذا الشعر: وتعرف فيه من أبيه شمائل ... ومن خاله أو من يزيد ومن حجر سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا ... ونائل ذا، إذا صحا وإذا سكر4 فقال: يا سيدي لامرئ القيس، وكأنه قاله في الأمير أعزه الله، فاستحسن ذلك منه، وأنعم عليه بصلة طيبة، ثم سأل سليمان على انفراد، وأنشده البيتين فقال: "لعلهما لأحد أجلاف العرب، أما لي شغل غير   1- الأحكام السلطانية، ص 5. 2- يذكر ابن الابار أن الأمير الداخل قد استوزر ولديه سليمان وهشام، وألزمهما الركوب إلى القصر وحضور مجالس مشاورته. انظر: الحلة السيراء، 1/42. 3- المصدر السابق 1/42. 4- هذان البيتان من قصيدة لامرئ القيس يمدح فيها سعد بن الضباب الإيادي، ويهجو هانئ بن مسعود، انظر: حسن السندوبي: شرح ديوان امرئ القيس (القاهرة، المكتبة التجارية، د. ت) ص 102-103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 حفظ أقوال بعض الأعراب، فأطرق الأمير عبد الرحمن، وعلم قدر ما بينهما من المزية"1. وبناءً على ما سبق، ولأن هشام كان "نجيباً2" ووالده "يتوسم فيه الشهامة والاضطلاع بهذا الأمر، فلا غرابة إذا أسند إليه ولاية العهد من بعده كما صرح بذلك ابن الأثير3. وقد تكررت مسألة إسناد ولاية العهد لغير الابن الأكبر أكثر من مرة، فالأمير هشام الرضا بن عبد الرحمن الداخل 172-180هـ (788-796) أوصى بولاية العهد من بعده لابنه الحكم الربضي 180-206هـ (822-852) بالرغم من أن أخاه عبد الملك أسن منه4، والأمير الحكم جعل ابنه عبد الرحمن ولياً لعهده بوجود ابنه الأكبر هشام، وقد تولى عبد الرحمن الإمارة وهشام على قيد الحياة5. وكذلك فعل الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط 238-273هـ (852-886) فقد   1- نفح الطيب، 1/314. وعن اهتمام أمراء بني أمية بولاية العهد. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص104. 2- ذكر بلاد الأندلس، 1/119. 3- الكامل، 5/281. 4- البيان المغرب، 2/65. قام الأمير هشام الرضا بنكب ولده عبد الملك، فسجنه. وظل في السجن بضع عشرة سنة - حتى مات مسجوناً في ولاية أخيه الحكم الربضي. انظر: جمهرة أنساب العرب، ص95. 5- وقد ذكر ابن حزم أن السبب في فعل الأمير الحكم أنه بلغه أن ابنه هشام يتمنى موته ليلي الأمر بعده، وكان أكبر ولده، فحلف ألا يليه أبداً، وقدم عليه أخويه عبد الرحمن والمغيره. انظر: جمهرة أنساب العرب، ص 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 جعل ابنه المنذر 273-275هـ (886-888) ولياً لعهده ومن بعده عبد الله1 275-300هـ (888-912) وكان عبد الله أسن من أخيه المنذر2. وتقديم المنذر على أخيه الأكبر عبد الله لولاية العهد مسألة تحتاج إلى مزيد من البيان والتوضيح، فقد كان للأمير محمد عدد من الأبناء النجباء، اتصفوا بالشجاعة، فتولوا مهام قيادة الجيوش3، والاشتراك في الغزوات الحربية مع والدهم4 ومن بين أولئك الأبناء المنذر الذي "كان أشد الناس شكيمة وأمضاهم عزماً5، واشتهر أمره في حياة والده بكثرة قيادته للجيوش المتجهة للجهاد ضد نصارى الشمال6، كما عرف أيضاً بمقارعته للمناوئين الخارجين على حكومة قرطبة7.   1- نقط العروس، ص65. 2- توفي الأمير المنذر يوم السبت من شهر صفر سنة 275هـ وسنه 46 عاماً. انظر: العقد الفريد، 4/497. وأما الأمير عبد الله فقد توفي سنة 300 هـ وعمره 72 سنة. العقد الفريد 4/296. وعلى هذا يكون تاريخ ميلادهما على التوالي: المنذر سنة 229هـ. وعبد الله 228هـ. 3 - انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص318-320. البيان المغرب 2/94 وما بعدها. 4- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 355. 5- العقد الفريد 4/496. 6- انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص319، 341، 385. 7- البيان المغرب 2/103،106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ولاشك أن الأمير محمد كان يدرك الوضع العام السائد في دولته آنذاك، ومدى الاضطراب الذي يتهددها، بسبب كثرة المخالفين واعتداءات نصارى الشمال1، ولذا فهو على يقين بأن البلاد بحاجة إلى حاكم يمتاز بالصلابة والمراسة والشجاعة، وهذا ما امتاز به الأمير المنذر، ومن هذه صفته فهو أولى بالتقديم في مثل هذه الظروف2. فإذا عرفنا ذلك، مع أخذنا بالاعتبار أن الأمير عبد الله بن محمد كان "لين العريكة، وشديد الحب للعافية3" أدركنا أن تقديم المنذر لولاية العهد كان محكوماً بشخصيته القوية من جهة، وبطبيعة ظروف وأوضاع الدولة من جهة أخرى، وكان تقديم المنذر لولاية العهد مع وجود الأكبر من إخوته يجري وفق أسس من الحكمة والتبصر وتسمية من هو أصلح، حتى أن والده قدمه لولاية عهده قبل وفاته بأكثر من عشر سنوات4. ومما يتصل باختيار الأنسب لولاية العهد، ما جاء من أن عبد الرحمن الناصر تولى الحكم بعد وفاة جده الأمير عبد الله بن محمد دون بقية أعمامه   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص293-294، 304، 307-310، 315-318، 320-321، 324-326، 329، 331-332، 349-355، 369-373، 393-396، البيان المغرب، 2/94-96، 99-100، 103،105. أعمال الأعلام، 2/21. نفح الطيب 1/350، 351. 2- انظر: الماوردي، الأحكام السلطانية، ص5. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص355. 4- خرج الأمير المنذر سنة 262هـ على رأس جيش لمحاربة عبد الرحمن بن مروان الجليقي وصاحبه سعدون السرنباقي، وكان حينها ولياً للعهد. انظر: ابن القوطية، ص88-89. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص343-344. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وأعمام أبيه، وذكر ابن حزم أن الأمير عبد الله توفي دون أن يعهد بالحكم لأحد من بعده1 ثم يشير إلى أن استلام حفيده عبد الرحمن الناصر للإمارة جاء نتيجة لاجتماع أهل الحل والعقد، وتشاورهم فيمن يقوم بأمر الإسلام، وأنهم لم يجدوا في شباب بني أمية أصلح من عبد الرحمن فأجلسوه مكانه2، ثم علق ابن حزم على البيعة قائلاً: "وكانت البيعة من المستطرف لأنه كان في هذا الوقت شاباً، وبالحضرة جماعة أكابر من أعمامه وأعمام أبيه وذوي القعدد في النسب من أهل بيته فلم يعترض معترض"3. ويعلل بعض المؤرخين المحدثين4 عدم اعتراض أفراد الأسرة الأموية على تنصيب عبد الرحمن أميراً على البلاد، بأنهم قد زهدوا بالإمارة نتيجة إدراكهم لجسامة الأخطار المحدقة بالبلاد آنذاك. إلا أن هذا الرأي لا يمكن التسليم به إذ أن المتأمل في سيرة عبد الرحمن الناصر أثناء حياة جده، وطريقة توليه الحكم من بعده يدرك تماماً أن عبد الرحمن دون غيره هو الذي خُصَّ بولاية العهد لكفايته وثقة الأمير عبد الله بقدرته على تحمل المسؤولية، وأن أولئك الأعمام لم يزهدوا   1- نقط العروس، ص56. 2- المصدر السابق، ص 57. 3- جذوة المقتبس، ص 12. 4- انظر: د. حسين مؤنس، معالم تاريخ المغرب والأندلس، ص308، د. السيد عبد العزيز سالم، تاريخ المسلمين وأثارهم في الأندلس، ص279، د. أحمد العبادي في التاريخ العباسي والأندلسي، ص377. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بالإمارة، كما أشار إلى ذلك ابن حزم ومن تابعه. فقد نشأ عبد الرحمن الناصر يتيماً1، فتولى جده الأمير عبد الله كفالته، فرباه تربية حسنة2، وتفرس النجابة فيه فخرجه بأدبه، وأجهد في تعليمه3" وعندما بلغ مبلغ الرجال جعله "كاتب سره4" كما خصه بالسكنى معه في القصر دون بقية أعمامه5، وهذا أمر سار عليه أمراء بني أمية، فهم لا يسكنون أحداً معهم في القصر من أبنائهم إلا من يرشحوه لولاية العهد6. وإضافة إلى ما سبق فقد كان الأمير عبد الله يكلف حفيده عبد الرحمن الناصر بالجلوس نيابة عنه في بعض الأيام والأعياد، ويقعده "مقعد نفسه لتسليم الجند عليه"7. وفضلاً عن كل ما ذكر فالأمير عبد الله عندما مُرض مَرض الموت، رمى بخاتم الملك إلى حفيده عبد الرحمن8، وفي هذا دلالة أكيدة على أن الأمير عبد الله كان قد أوصى بالإمارة من بعده لحفيده، ولم يترك الأمر من بعده عرضة للنزاع والشحناء.   1- عندما قتل محمد بن الأمير عبد الله، كان عبد الرحمن قد مضى على ولادته ثلاثة أسابيع. انظر: البيان المغرب 2/157. 2- المقتبس، طبعة: أنطونيه ص 39. أعمال الأعلام: 2/29. 3- المقتبس، طبعة: أنطونيه ص29. 4- المصدر السابق طبعة، أنطونيه ص39. 5- البيان المغرب، 2/157. 6- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص14،16. 7- البيان المغرب، 2/157. 8- المصدر السابق: 2/157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 مراسم تعيين ولي العهد: كان من المتبع لدى بني أمية في الأندلس، أنه بعد أن يتم اختيار ولي العهد، يبدأ الاحتفال بتعيينه والإعلان عن بيعته، وقد شهدت تلك المراسم تطوراً كبيراً في عصر الخلافة عما كانت عليه في عصر الإمارة. فقد ذكر ابن سعيد أن الأمير الحكم الربضي كان أول من عقد البيعة بولاية العهد من بعده في الأندلس1 حيث عقدها لولديه عبد الرحمن ثم المغيرة. وقد تمت مبايعة ولي العهد مرتين2، الأولى عرفت بالبيعة الخاصة، والثانية عرفت بالبيعة العامة. وقد جرت البيعة الخاصة لولي العهد الأول في قصر الإمارة، ثم توجه إلى داره3 لاستقبال المبايعين بالبيعة العامة، أما ولي العهد الثاني فقد أخذت له البيعة الخاصة في دار ولي العهد الأول، ثم توجه إلى الجامع وعند المنبر لكننا نشهد تطوراً يطرأ على هذه المراسم في عصر الخلافة، فالخليفة المستنصر عندما أراد أن يعقد ولاية العهد من بعده لابنه هشام، جلس في إحدى قاعات القصر الضخمة، وبعد اكتمال حضور كبار رجالات الدولة من شيوخ البيت الأموي وزعماء البيوتات الأندلسية والوزراء   1- المغرب في حُلى المغرب، 1/43. 2- انظر: مراسم تلك البيعة لدى ابن عذاري، البيان المغرب، 2/77. 3- تجدر الإشارة هنا إلى أن وجود دار خاصة بولي العهد يعني أن له وزراء وجلساء وندماء خاصين، لكن هذا الوضع لن يستمر طويلاً، إذ أن تغيراً طرأ على هذا الجانب، فولي العهد أصبح يسكن مع الأمير ثم مع الخليفة في القصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 والقضاة والفقهاء والقادة وكبار الفتيان الصقالبة ونحوهم، ألقى الحكم خطبة بهذه المناسبة افتتح كلامه فيها بما عزم عليه من إسناد ولاية العهد لابنه هشام، وأشار في خطبته إلى الأسباب التي دفعته لاتخاذ هذه الخطوة، وبعد أن أُخذت البيعة على الحضور، أُخرجت نسخ من كتاب البيعة لتوقيع شهادات الذين التزموها1، وتولى إعطاء الحضور هذه النسخ على مراتبهم كل من صاحب الشرطة والمواريث المنصور بن أبي عامر، والكاتب ميسور الفتى، حيث يقوم كل من استلم نسخته بتسجيل شهادته بخط يده، بسجل خاص2. وقاضي الجماعة هو أول من سجل شهادته في ذلك السجل، ثم تبعه الوزراء، ومن ثم أصحاب الشرطة وسائر أهل الخدمة من الحكام والقضاة والفقهاء والمشاورين وغيرهم، ولنا أن نتصور ضخامة هذا السجل إذا عرفنا أن عدد الشهود كان مائة وتسع وثلاثون رجلاً3، وعادة ما يصاحب هذا الاحتفال بذل الأموال والهدايا لعلية القوم4، وبالتالي يتم إرسال نسخ عديدة من كتاب البيعة لتلاوتها على كافة المنابر في الأندلس لاستقبال المبايعين من أبناء الرعية كل في محلته.   1- البيان المغرب 2/249. 2- المصدر السابق 2/249. نفح الطيب، 1/425. 3- أعمال الأعلام 2/48-57. 4- البيان المغرب، 2/249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وقد حفظت لنا المصادر التاريخية نصين لكتابين من إنشاء الوزير الكاتب أبي حفص ابن برد الأكبر1، صدرا بمناسبة الإعلان عن عقد ولاية العهد، ومن الملاحظ أن كلا الكتابين تضمنا أسباب اختيار الخليفة لولي عهده، وذكر صفاته وأخلاقياته، وأن الاختيار لهذا المنصب الهام جاء بعد روية واستخاره. فالكتاب الأول أصدره الخليفة هشام المؤيد عند توليته العهد لعبد الرحمن بن المنصور ابن أبي عامر الشهير بشنجول، وذلك في شهر ربيع الأول سنة 399هـ (نوفمبر 1008م) بيَّن فيه الخليفة أن اختياره لولي العهد كان من أجل صالح الأمة إذ أنه يخشى أن يوافيه الأجل دون أن يترك للأمة من تأوي إليه، وأن اختياره لشنجول كان أمراً طبيعياً لعدم وجود من هو أكفأ منه، بالإضافة إلى أنه يرى فيه القحطاني الذي سوف يسوق الناس بعصاه، وفي نهاية الخطاب تعهد المؤيد بأنه لن يغير نيته أبداً2.   1- هو الوزير أبو حفص أحمد بن برد، مولى بني شهيد، كان ذا حظ وافر من الأدب والبلاغة والشعر، تولى ديوان الإنشاء في الدولة العامرية بعد ابن الجزيري، ثم كتب لسليمان المستعين وغيره من خلفاء الفتنة، وقد امتد به العمر حتى تجاوز الثمانين وتوفي بسرقسطة سنة 418هـ. انظر: جذوة المقتبس، ترجمة رقم 199. الذخيرة،، ق1 م1 ص 103. 2- انظر: هذا الخطاب في: الذخيرة، ق1 م1، ص104. البيان المغرب، 3/44-46. أعمال الأعلام، 2/91-92. تاريخ ابن خلدون، 4/148-149. نهاية الأرب، 23/408-409. نفح الطيب، 1/424-425. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 أما الكتاب الثاني فقد صدر عن الخليفة سليمان المستعين بالله أعلن فيه عقد ولاية العهد لابنه محمد، وذلك في منتصف شهر جمادى الآخرة سنة 400هـ (فبراير 1010م) وقد جاء في الكتاب أن المستعين نظراً لحرصه الشديد على الأمة فقد اختار لها ابنه محمداً، وقد استخار الله تعالى في هذا الاختيار، وأنه بهذه الاستخارة والاختيار قد أبرأ ذمته من الأمة وأدى الأمانة التي اضطلع بها1. وإذا نظرنا إلى كلا الخطابين نجد أنهما متفقان في بعض النقاط، ومختلفان في نقاط أخرى، ففي الخطابين إشارة إلى أن قرار اتخاذ ولي العهد لم يأت إلا بعد الإكثار من استخارة الباري جل وعلا، وأن الخشية من الله تعالى والحرص على مصلحة المسلمين هما الدافع الرئيس لاتخاذ ولي للعهد، وأنه نظراً لتوافر خلال الخير وصفات الرجولة في شخصي عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر ومحمد بن سليمان المستعين، دون غيرهما كل هذا رشحهما لهذا المنصب الهام. لكن هناك نقاط ميزت أحد الخطابين عن الآخر رغم أن الكاتب واحد هو ابن برد الأكبر، وأن المدة التي تفصل بين الخطابين لا تزيد عن سنة وثلاثة أشهر، ففي الخطاب الأول نجد الدعاء للخليفة هشام بطول البقاء عند ورود اسمه، في حين خلا الخطاب الثاني من هذه المسألة، كما   1- أعمال الأعلام، 2/126-127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 أن اسم ولي العهد في الخطاب الأول ذكر مقروناً بالكنية واللقب مع الدعاء له بالتوفيق، بينما ورد اسم ولي العهد في الخطاب الثاني مجرداً. وهناك ناحية انفرد بها الخطاب الأول وهي: بما أن عبد الرحمن بن المنصور ابن أبي عامر، معافري يرجع إلى قحطان لأجل هذا ورد في الخطاب أن الخليفة هشام المؤيد يؤمل أن يكون عبد الرحمن بن المنصور هو الرجل القحطاني الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيسوق الناس بعصاه. كما امتاز الخطاب الأول بإعلان تفويض مطلق تام من الخليفة هشام لولي عهده المنتظر في أمور الخلافة في حياة الخليفة وبعد وفاته. وأخيراً اختتم الخليفة هشام خطابه بأنه يشهد الله وملائكته الكرام ومن حضر بأن لا يغدر بولي عهده. بينما نجد أن الخطاب الثاني اشتمل على إصدار الأمر للعمال بالكور بأن يأمروا أصحاب الصلوات في الجوامع بالدعاء لولي العهد في خطبة الجمعة. واختتم الخطاب بالتضرع إلى الله تعالى أن يوفق أمير المؤمنين لما فيه مصلحة جماعة المسلمين في دينهم ودنياهم، وأن يجازي أمير المؤمنين على جميل نيته وكرم مذهبه فيهم. وبعد أن تنتهي مراسم الاحتفال بولاية العهد، يخرج ولي العهد إلى مكانه المخصص بموكب خاص، فإذا استقر في مجلسه صدر الإذن منه لمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 في الباب من بني أمية وغيرهم من القرشيين ولكبار رجالات الدولة وأصحاب البيوتات الأندلسية ونحوهم للدخول عليه وتهنئته والدعاء له1. وبعد ذلك تتم تكنية ولي العهد في المخاطبة، وينقش اسمه في السكة والأعلام والطراز، كما يتولى قاضي الجماعة الدعاء له فوق المنبر بينما يتولى القضاة وأصحاب الصلوات الدعاء له على كافة المنابر في الأندلس2. هذه هي البيعة الخاصة، التي تنتهي عادة في نفس اليوم، أما البيعة العامة فيستقبلها ولي العهد لعدة أيام في بيته ويتم إرسال كتب خاصة في هذا الشأن إلى كافة الكور والثغور لأخذ البيعة من أبناء الرعية. ولا تحدثنا المصادر التاريخية عن وقوع أي بادرة تشير إلى رفض عقد البيعة بولاية العهد أثناء الاحتفال بهذه المناسبة، فحتى عندما عقد الخليفة هشام المؤيد ولاية العهد من بعده لعبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر لم يظهر أي موقف معارض حين عقد البيعة3. ومن الملاحظ أنه إذا عقدت ولاية العهد لصبي صغير، تؤخذ الأيمان المغلظة من المبايعين بعدم الحنث في البيعة، فالخليفة عبد الرحمن الناصر "عهد بالأمر بعده لولده الحكم، وهو طفل صغير من ثماني سنين أو نحوها،   1- أعمال الأعلام، 2/125-126. 2- البيان المغرب، 2/46. أعمال الأعلام، 2/93. 3- عدم المعارضة في المجلس تدل إما على أن هناك عادة تقضي بإرجاء المعارضة إلى مابعد، وإما على شدة سيطرة عبد الرحمن بن المنصور على دولة الخليفة هشام المؤيد وهذا هو الأرجح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وبحيث لو هلك لنصب بعده بمكانه، وحسبما اقتضاه ما أخذه على الناس من العهد بذلك، واقتضاه من الأيمان الغليظة المحرجة شأن من يأخذ العهد لولده من الملوك"1. إعداد ولي العهد وتدريبه على شؤون الحكم: كان اختيار ولي العهد للولاية يتم قبل إعلان الاختيار الرسمي بوقت طويل، فقد كان الأمير أو الخليفة يتعهد من يرشحه للولاية منذ نعومة أظفاره، فيهتم بتأديبه، وتثقيفه، ويختار له أفضل المؤدبين من الفقهاء والمحدثين، لينشأ مثقفاً ملماً بمعارف شتى، سواء منها ما كان يتصل بالثقافة العامة كعلوم الدين والأدب والتاريخ وسير الأولين، أو ما كان يتصل بالثقافة السياسية الخاصة بتدبير الأمور وسياسة الرعية. فهذا الخليفة الحكم المستنصر رغم أنه اختار الفقيه أحمد بن محمد بن يوسف المعافري2 لتأديب ولي العهد هشام المؤيد3، إلا أن الخليفة كان يتدخل في عملية التأديب فرسم للمؤدب الخطة التي عليه أن يعمل بمقتضاها في تأديب ولي العهد، وحدد له مكاناً خاصاً يتمكن من خلاله متابعة ولده ومؤدبه، فلما ظهرت علامات الاستيعاب على الولد عبر   1- أعمال الأعلام، 2/41. 2- هو أبو القاسم أحمد بن محمد بن يوسف المعافري، الملقب بالقسطلي، قرطبي، رحل إلى المشرق سنة 342هـ وعاد إلى الأندلس سنة 345هـ حيث تولى أحكام الشرطة وجلس في الجامع لنشر الحديث، وكانت وفاته رحمه الله بسبب سقوطه في الحمام، وذلك في شهر صفر سنة 368هـ، انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 166. 3- المقتبس، تحقيق: د. الحجي ص 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الخليفة عن سروره بإخراج الأموال لتقسم على المحتاجين شكراً لله تعالى1. وكما كان الخليفة يهتم بتأديب ولي عهده، فإنه كان يهتم بتدريبه أيضا، وذلك من خلال إسناد بعض المسئوليات إليه، فالخليفة عبد الرحمن الناصر قام بتكليف ولي عهده ابنه الحكم المستنصر بتولي "أمر الجباية والخزانة والخُزَّان ودار الضرب وغلاتها، وقلده الإشراف على ذلك كله والوقوف على وجوهه ومعانيه وعلاته ودواعيه، فأحسن النظر وبان أمره فيما تقلد منه، واستراح إلى كفايته"2. وإضافة إلى ما سبق كان حكام بني أمية في الأندلس يجعلون ولي العهد يقيم معهم في القصر، دون بقية الأبناء وكان في ذلك فائدة عظيمة له، فهو فضلاً عن تعلمه الكثير من فنون الحكم بسبب معايشته للأمير أو الخليفة، فإن وجوده في القصر يفرض عليه واجباً لا يمكنه الإخلال به، ألا وهو البقاء في القصر عند مغادرة والده قرطبة، وفي هذه الحالة فإن مكانه من القصر السطح، لأنه يقع فوق الباب الرئيسي للقصر وهو باب السدة، وهو أيضاً مجلس للأمراء والخلفاء، ومن خلال جلوسه في السطح يكون في مأمن، كما أنه يتمكن من مراقبة الباب الرئيسي للقصر، ومعرفة الداخل للقصر والخارج منه، إذ أن من يملك القصر يسيطر على الدولة، فهو مكان قعوده في النهار، ومبيته في الليل، ولايؤذن له في مغادرته البتة   1- المصدر السابق، ص 76-77. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 469. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 لأي أمر كان، ويبيت معه في السطح أحد الوزراء، بالإضافة إلى فتى من أكابر الفتيان1. وإن حاول ولي العهد مغادرة السطح، فإن للوزير الموكل بمرافقته الحق في منعه بأي وسيلة كانت، وإن لزم الأمر وضع القيد برجليه، ومن الأمثلة على ذلك أن الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط عندما خرج في بعض مغازيه ترك أحد أولاده على سطح القصر، ووكل عليه الوزير أمية بن عيسى بن شهيد2، وكان لولد الأمير وكيل متدلل، فتظلم ذلك الوكيل إلى الولد من الوزير أمية بن عيسى، فحاول الولد الضغط على الوزير، إلا أنه لم يحفل به، فأرسل إليه الولد رسولاً يهدده بأنه سوف ينزل من السطح بصحبة غلمانه ويقتص لوكيله منه، يقول ابن القوطية صاحب الرواية:   1- انظر: ابن القوطية، ص86، طوق الحمامة، ص 144-145. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 43. المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 334. 2- هو أمية بن عيسى بن شهيد ينتمي لأحد البيوتات الشهيرة في الأندلس، وكان أمية أجل وزراء الأمير محمد وأجملهم عنده وأنهضهم بخدمته، وكانت ولاية المدينة مداولة بينه وبين وليد بن عبد الرحمن بن غانم، كما كان أمية يلي قيادة الجيوش للأمير محمد. انظر: ابن القوطية، ص 85-87، 94-95، المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي: ص171-172، 175-176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 "فضحك1 - أي الوزير - وكان لم ير في المدينة ضاحكاً إلا لهذا الأمر، ولأمر نزل [بعد] لا يحسن ذكره، فقال للرسول: بالله الذي لا إله إلا هو لئن جاوز باب السطح حيث ولاه أبوه، لا طرحناه في الدويرة2 في كلبين يكون بهما حتى يقفل أبوه أو يأتي عهد بإطلاقه"3. وإذا اضطر ولي العهد لمغادرة القصر بسبب استدعاء والده له، فإنه يستخلف أحد إخوته وذلك لإنفاذ الكتب باسمه إلى حين عودته4. سلطان ولي العهد وصلاحياته: من المعلوم أن لا ولاية ولا سلطان لولي العهد في حياة الأمير أو الخليفة، إلا إذا أسندت إليه بعض المهام لإشراكه في المسئولية وتحملها، والقيام بأعباء الدولة لتدريبه وإعداده، وذلك لانشغال الأمير أو الخليفة لسبب من الأسباب، فمن الأعمال التي كانت تستند إلى ولي العهد القيام بقيادة حملة عسكرية5، أو الاضطلاع ببعض الأمور الإدارية، كقراءة الكتب الواردة إلى البلاط لتقديمها للأمير مختصرة6، أو تولي منصب   1 - إن في ضحك الوزير الذي عرف بندرة الضحك دليلاً على استخفافه بتهديد الولد، وبإدراكه لأهمية مراقبته له، ومنعه من مغادرة السطح، وأنه -الوزير- يملك من الصلاحيات المطلقة ما يمكنه من الحيلولة دون نزول الولد من السطح بأي وسيلة كانت. 2- الدويرة: أحد السجون. 3- ابن القوطية، ص86-87. 4- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص201، البيان المغرب 2/190. 5- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 344. 6- المصدر السابق، ص104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 كاتب السر1، وإلزامه بالركوب إلى مجلس الوزراء2، أو توليته أمر الإشراف على الجباية والخزانة والخزان ودار الضرب وغلاتها3، أو تكليفه الإشراف على إنجاز بناء ونحوه4، أو الجلوس للمظالم5، أو تفويضه بتعيين الولاة6 والمشاورين7، وكذلك استقبال الرسل الوافدين8، وأحياناً تسند إليه مهمة الصلاة على جنائز أهل القصر9. ويحصل أيضا أن يتولى ولي العهد مسؤولية الإشراف التام على شؤون الدولة في حياة والده، فعندما أصيب الأمير الحكم الربضي بعلته التي استمرت مدة أربعة أعوام، واحتجب خلالها عن الرعية إلى أن توفي، كان ابنه عبد الرحمن يتولى إدارة الدولة طيلة تلك المدة10. كما أن الحكم بن الخليفة عبد الرحمن الناصر تولى مهمة الإشراف على خطط الدولة في حياة والده وذلك سنة 330هـ (923) 11.   1- نفسه: طبعة: أنطونيه، ص 39. 2- الحلة السيراء، 1/42. 3- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص469. 4 - المصدر السابق، ص 210. 5- نفسه: طبعة: أنطونية، ص71. 6- البيان المغرب، 2/205. 7- ترتيب المدارك 6/126-127. 8- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص103. 9- المصدر السابق، ص 219. 10- الحلة السيراء: 1/46. 11- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص478. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 تعريف الأمة "الرعية" بولي العهد: بعد أن يتم اختيار ولي العهد، يعمد الأمير أو الخليفة إلى تعريف الناس بولي العهد، وذلك من خلال نشر ذكره بينهم. فبالإضافة إلى ما يتم تكليفه به من أعمال إدارية، فإنه يقوم بمهام عسكرية، كما عرفنا من قبل، ومن خلال الأعمال العسكرية التي يضطلع بها، يتم نشر ذكره، وذلك بواسطة كتب الفتح التي ترسل من أرض المعركة. ومن الأمثلة على ذلك: أن الأمير عبد الرحمن الأوسط عندما خرج سنة 228هـ (843) لغزو بنبلونه1، جعل ابنه على ميمنة الجيش، وبعد نهاية المعركة التي أسفرت عن نصر المسلمين، أرسل الأمير عبد الرحمن إلى قرطبة كتاب الفتح، وأثنى فيه على غناء ابنه محمد وكفايته في تلك الغزوة، وبما أن كتاب الفتح يتلى على منبر جامع قرطبة، وترسل نسخ منه إلى كافة الكور والثغور لتتلى هناك، فإن ذلك يعمل على طيران اسمه في الأفاق2. ونشر ذكر ولي العهد بين أبناء الرعية، أمر ضروري، وذلك لتعريف الجميع به، ولتكوين صورة طيبة لديهم عنه، فإذا ما استلم منصب رئاسة الدولة، كان ماضيه المجيد ماثلا أمامهم، فيضمن على الأقل أن هناك   1- بنبلونه أو بمبلونه Pamplona عاصمة مملكة نافار أو نبره Navar تبعد عن مدريد مسافة 350 كيلو متراً، على الضفة اليمنى لأحد أفرع نهر إيبروا، وهي اليوم مدينة جميلة يشتغل أهلها بالزراعة والصناعة، وبها مركز ثقافي هام، انظر: الروض المعطار، ص 104. الآثار الأندلسية الباقية ص 307. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 103. وانظر: نصوص عن الأندلس، ص 30، البيان المغرب 2/86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 قطاعاً عريضاً من الرعية، ينظر إليه بعين الاحترام، مما يجنبه بالتالي مجابهة المزيد من القلاقل والاضطرابات. الإضطراب الذي تطرق لنظام ولاية العهد: سار نظام ولاية العهد - كما عرفنا - وفق منهج واضح ومحدد، وسياسة استمرت مدة قرنين من عمر الدولة الأموية في الأندلس تقريبا، إلا أنه ابتداءاً من نهاية القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) ومطلع القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) ، شهد هذا النظام أول تغيير انحرف به عن مساره، عندما وصل إلى ولاية العهد مَنْ هو مِنْ خارج الأسرة الأموية. ففي سنة 399هـ (1008) وبعد أن أمضى عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر الشهير بشنجول شهر ونصف الشهر1 على توليه الحجابة، نجح في إجبار الخليفة هشام المؤيد، على توليته العهد من بعده، واستصدر منه كتاباً لإعلام الناس بهذا الأمر، قرئ على المنابر2. ويصف ابن الخطيب نقلاً عن ابن حيان موقف وجوه أهل قرطبة من هذه الفعلة فقال: "وغدا وجوه الناس من أهل قرطبة لتهنئة المغرور عبد الرحمن بهذه المنحة، التي كانت عندهم أشد محنة، كلهم يعزي نفسه، ويكفكف عليها عبرته، ثم تجملوا بالملق ... فدخلوا على منازلهم ...   1- البيان المغرب 3/38. 2- المصدر السابق، 3/43-46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 تبدوا عليهم في ظاهرهم الاستكانة والكبوة ... وخرجوا من عنده وقلوبهم ذؤوبة عليه موقدة ببغضه"1. كما تسمى بولاية العهد علي بن حمود، فقد ادعى أن كتاباً قد وصله من الخليفة هشام المؤيد بالله، يسند إليه ولاية العهد من بعده2. ومن مظاهر الاضطراب الذي طرأ على نظام ولاية العهد في أواخر عصر الدولة الأموية، أن منصب ولاية العهد أصبح لا هيبة له، فقد ذكر ابن حزم أن هناك من سمى نفسه ولياً للعهد دون أن يسميه به خليفة. فهذا سليمان بن هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر تسمى بولاية العهد في خلافة محمد المهدي3 فسجنه المهدي في شهر رمضان سنة 399هـ4 (مايو 1009) ثم أطلق سراحه بعد أن ثار هشام بن سليمان ضد المهدي وطالبه بإطلاق سراح ابنه5، وأخيراً تمكن المهدي من قتل هشام بن سليمان وولده سليمان بعد أن فشل كل من القاضي ابن ذكوان وابن عمر بن حزم في إقناع هشام بن سليمان بالعدول عن المطالبة بالخلافة6.   1- أعمال الأعلام: 2/93-94. 2- الذخيرة، ق1 م1 ص37-38. 3- نقط العروس، ص54. قارن: البيان المغرب، 3/78. أعمال الأعلام، 2/110. 4- البيان المغرب 3/78. 5- المصدر السابق 3/79. 6- نقط العروس ص54. البيان المغرب 3/79-81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وادعى سليمان بن هشام بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر ولاية العهد في أيام ابن عمه الخليفة المستكفي، سنة 415هـ1 (1024) وكذلك محمد بن الحكم بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر تسمى بالعهد دون أن يسميه عمه الخليفة هشام المعتد بالله2. ويضاف إلى مظاهر الاضطراب تلك، أن المراسم التي كانت تتبع عند تعيين ولي العهد، والاحتفالات التي كانت تقام عند مبايعته، لم يعد لها وجود، فمنذ أن عقد الخليفة سليمان المستعين البيعة بولاية العهد من بعده لابنه محمد في منتصف شهر جمادى الآخرة سنة أربعمائة للهجرة (فبراير 1010) أصبح الاحتفال بتعيين ولي العهد ومبايعته يقوم فقط على قراءة كتاب بولاية العهد، بالإضافة إلى نقش اسم ولي العهد في السكة والأعلام والطرز والدعاء له فوق المنابر3 موافقة الأسرة ومعارضتها: عرفنا فيما سبق أن اختيار ولي العهد يكون وفق معايير دقيقة، ولكن ليس بالضرورة أن يكتب لذلك الاختيار القبول من كافة أفراد الأسرة الأموية، فقد يعقب الإعلان عن اختيار ولي العهد معارضة قوية من بعض أبناء الأسرة الأموية، فمنها ما يتم القضاء عليها وهي في مهدها، ومنها ما يتطور ليصل إلى حد المصادمات العسكرية، وهناك أمثلة كثيرة،   1- نقط العروس، ص 54. قارن: البيان المغرب 3/142. 2- نقط العروس، ص 54. 3- انظر: أعمال الأعلام، 2/125-127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 فبعد أن بويع هشام الرضا بالإمارة بعد أبيه عبد الرحمن الداخل، أعلن سليمان رفضه لإمارة أخيه هشام، وتحصن في طليطلة، ثم انضم إليه أخوه عبد الله1 البلنسي بن عبد الرحمن الداخل سنة 173هـ (789م) وهاجم سليمان قرطبة محاولاً امتلاكها لكنه فشل وانهزم2، وفي سنة 174هـ (790م) قدم عبد الله على أخيه هشام بقرطبة بلا عهد سابق ولا أمان، فأكرمه هشام وأنزله عند ابنه الحكم الربضي3، وفي نفس السنة طلب سليمان الأمان من أخيه هشام، فوافق الأخير شريطة أن يغادر الأندلس بأهله وولده، ويعطيه هشام ستين ألف دينار، فتم الاتفاق بينهما وعبر سليمان البحر إلى بلاد البربر4. وما إن علم عبد الله وسليمان بوفاة أخيهما هشام في شهر صفر سنة 180هـ (إبريل 796م) حتى بادرا بإعلان العصيان، وجرت بين سليمان وبين ابن أخيه الأمير الحكم الربضي عدة معارك انتهت بقتل سليمان سنة 184هـ5 (800م) وفي سنة 186هـ (802م) أخرج الحكم الربضي لعمه عبد الله أماناً عُقِد سنة 187هـ (803م) على أن يدفع الأمير الحكم   1- كان هشام يبر أخاه عبد الله ويفضله على كثير من إخوته إلا أن عبد الله كان يطمع بالمشاركة في الملك، فخرج إلى أخيه سليمان لإعلان التمرد ضد هشام، ورغم ذلك حاول هشام رده إلى قرطبة لكنه لم يفلح. البيان المغرب: 2/62. 2- البيان المغرب، 2/62، ذكر بلاد الأندلس 1/119. 3- الحلة السيراء، 2/363. البيان المغرب، 2/63. أعمال الأعلام 2/11. 4- البيان المغرب، 2/63. أعمال الأعلام 2/11. 5- البيان المغرب، 2/70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 لعمه عبد الله ألف دينار راتباً شهرياً، بالإضافة إلى ألف دينار أخرى كل عام على شكل مخصصات1، وأن يبقى في بلنسية مؤدياً للطاعة2. وعندما تولى الإمارة عبد الرحمن الأوسط تردد عبد الله البلنسي في إعلان البيعة، ثم جهر بالعصيان إلا أنه فُلج ففشلت حركته "فكاتب عبد الرحمن بخبر علته ويأسه من نفسه، وعهد إليه بالنظر لأهله وولده، فأنفذ عهده ولم يعرض له إلى أن مات سنة ثمان ومائتين"3. وعندما جعل الأمير عبد الله بن محمد أكبر ولده محمداً ولياً لعهده4، حقد عليه أخوه مطرف، فأوغر عليه صدر والده حتى أمر به فوضع في السجن الخاص بقصر الإمارة5، وبعد أن بدأت علامات براءة محمد تظهر لأبيه، وعزم على إطلاقه، بادر مطرف إلى أخيه محمد فقتله مع فجر يوم الخميس ليلة عشرة خلت من شوال سنة سبع وسبعين ومائتين (يناير   1- المصدر السابق، 2/70. 2- الحلة السيراء، 2/363. 3- الحلة السيراء، 2/363-364. الملاحظ أن عبد الله البلنسي بن عبد الرحمن الداخل منذ البداية لم يكن جاداً في إعلان عصيانه سواء ضد أخيه هشام أو ولده وحفيده، إذ أنه في كل مرة يعلن عصيانه ما يلبث أن تهدأ ثائرته ويراسل الأمير لطلب العفو أو يأتي بغير أمان، فيقابله الأمير بالإكرام ويعرف له حقه ويصله، وهنا نجد أننا أمام شخصية قلقه واقعة تحت تأثير شخصية أخرى أقوى من شخصيته. 4- البيان المغرب 2/150. 5- الحلة السيراء، 2/367. البيان المغرب 2/150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 891م) وعمره سبع وعشرون سنة1، ثم قتل الأمير عبد الله ابنه مطرف بعد ذلك بخمس سنوات2. وعندما أخذ الخليفة عبد الرحمن الناصر البيعة بولاية العهد من بعده لابنه الحكم المستنصر، ترك ذلك أثراً في نفس ابنه عبد الله، الذي كان مع أخيه الحكم المستنصر "يتباريان في طلب العلم، ويتناغيان في جمعه، ويتبادران إلى اصطناع أهله واختصاص رجاله وإدناء منازلهم، والإحسان إليهم3". ونظراً لأن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر كان مشهوراً بالفضل والتدين مؤدَّبا، كريماً، جامعاً، لعلوم شتى4، "فإن جماعة من أهل قرطبة بايعوه بالخلافة، وكان أهلاً لذلك فضلاً وعلماً وبصراً بالفنون"5، فسعى الحكم بأخيه عبد الله عند والدهما عبد الرحمن الناصر فقبل منه6، وألقى القبض على ابنه ومن معه وسجنهم، ثم قتل ابنه عبد الله في شهر ذي الحجة سنة 338هـ7 (يونيو 950م) .   1- الحلة السيراء: 2/367-368. البيان المغرب 2/150. ذكر بلاد الأندلس 1/155. 2- الحلة السيراء 2/368. 3- المصدر السابق، 1/206. 4- ذكر بلاد الأندلس، 1/162. 5- أعمال الأعلام، 2/39. 6- البيان المغرب، 2/217. 7- الحلة السيراء، 1/207-208. البيان المغرب، 2/217. أعمال الأعلام، 2/39. المغرب في حُلى المغرب، 1/188. لكنه جعل قتل سنة 339هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 إن خروج عبد الله ضد والده الخليفة، أمر يحتاج إلى وقفه، فقد عُرف عبد الله بالعلم والزهد والذكاء والنبل، ومن كانت هذه صفاته فهو جدير بالاحترام، الأمر الذي دفع بعض المؤرخين إلى التصريح بكفاءته لتولي الخلافة1، وطبيعي أن الصفات والأخلاق التي امتاز بها عبد الله ليست كافية لإعلان القيام ضد والده، لكن الأفكار الوافدة من المشرق والتي كان عبد الله يتلقفها سواء عن طريق الكتب أو عن طريق مجالسته للعلماء، الذين امتاز بعضهم بالطموح كابن عبد البر2، يضاف إلى ذلك إحساس عبد الله بأن والده قد ظلمه، عندما قدم أخاه عليه، مع شعوره بأنه أكفأ منه، وإذا أضفنا إلى كل ذلك الشخصية الطموحة لعبد الله، أدركنا أن تفكيره بالمطالبة بما يرى أنه حق من حقوقه، أمر واقع لا محالة، إلا أنه رغم كل المبررات فإن خروجه ضد والده هو عقوق لا جدال فيه. وفي أواخر القرن الرابع الهجري ومطلع القرن الخامس الهجري، صدر خطاب من الخليفة هشام المؤيد يقضي بتعيين عبد الرحمن بن المنصور ابن أبي عامر الشهير بشنجول ولياً للعهد من بعده3، وسماه باسم خلافي   1- أعمال الأعلام، 2/39. 2- هو أبو عبد الملك أحمد بن محمد بن عبد البر، قرطبي من موالي بن أمية، كان بصيراً بالحديث فقيهاً نبيلاً متصرفاً في فنون العلم، وكان علم الحديث أغلب عليه، له كتاب مؤلف في فقهاء قرطبة، توفي في السجن لليلتين بقيتا من رمضان سنة 338هـ رحمه الله. انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 120. الحلة السيراء، 1/207-208. 3- البيان المغرب، 3/43-46. أعمال الأعلام، 2/90-93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 هو "المأمون ناصر الدولة"1 فبسبب هذه الفعلة انفجرت فتنة استمرت إلى أن سقطت الدولة الأموية تماماً سنة 422هـ (1031م) فقد استنكر الناس هذه الفعلة، وعدت فعلة خارجية2. ولنا أن نتوقع أن أمراء وخلفاء بني أمية كان كل منهم يترك وصيته لولي عهده، هي في مجملها رسم سياسة تكفل له استمرارية دولته، ومن الأمثلة على ذلك أن الأمير الحكم الربضي عندما حانت وفاته، استدعى ولده عبد الرحمن وألقى إليه وصية ذكر فيها أنه قد مهد له البلاد بعد أن قضى على المناوئين، وذلل له الصعاب التي يمكن أن تعترضه، كما أكثر عليه ضرورة تقريب أهله وعشيرته ومواليه لأنهم أنصاره الذين يشاركونه في المغنم والمغرم، وكذلك أمره بالعدل ورد المظالم لأن في انتشار العدل كسباً لمحبة الرعية وسلامة من كثرة الثورات والفتن. كما نبهه إلى الاهتمام بانتقاء الرجال وعدم تقريب أحد إلا بعد اختباره، وأن الولايات والمناصب الإدارية يجب إسنادها لأهل الدين والرشاد لأنهم أهل الإخلاص، فبذلك يضمن إنجاز مهام الدولة بكل يسر. وأما مظاهر الأبهة والفخامة فقد أمره بالتمسك بها، وذلك لزرع الهيبة في نفوس الرعية وأن يعتمد مبدأ الثواب والعقاب لأن في ذلك حفز للمحسنين على مضاعفة إحسانهم، وقمع لأهل الزيغ والفساد عن التطاول والإضرار بالمجتمع.   1- البيان المغرب، 3/43. تاريخ ابن خلدون، 4/149. 2- نقط العروس، ص 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 كذلك وجه اهتمامه إلى الأموال، التي هي عصب الملك وروح الدولة، فأكد عليه ضرورة الإشراف على الأموال بنفسه، وحفظها بعد جمعها بطرق الحلال. وأخيراً اختتم وصيته بنصيحته لولي عهده بالإلتزام بتقوى الله تعالى، والدعاء لولي العهد بأن يسدده الله ويوفقه إلى الخير والرشاد1.   1- ذكر بلاد الأندلس 1/133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 المبحث الثالث: رسوم الإمارة والخلافة ... رسوم الإمارة والخلافة استقبال الرسل وعقد المعاهدات: للموقع الجغرافي دور كبير في إقامة العلاقات بين الدول. بل إن الموقع يحتم على أي دولة إقامة علاقات معينة ومن نوع خاص، مع دولة أو دول مجاورة لها1. ونظراً للمكانة التي كانت تحتلها دولة الأمويين في الأندلس جغرافياً وسياسياً، والتي مكنتها من تحقيق ما يمكن تسميته بالتوازن الدولي2، في ذلك الوقت، فإن هذا التوازن حتم عليها قيام علاقات بينها وبين الشمال الأفريقي وأوروبا، تمثلت في تبادل الوفود التي كانت تنطلق من قرطبة وإليها لأغراض شتى. وكان النصارى المحيطين بالدولة الأموية من الشمال، قد جعلوا من أولى مهامهم ضرورة اقتلاع تلك الدولة الإسلامية إن أمكن أو زعزعة استقرارها على الأقل.   1- ليس بالضرورة أن ينطبق هذا القول على الدول الإسلامية بوجه عام، والعربية بوجه خاص في الوقت الحالي. 2- المقصود بالتوازن الدولي، هو أن الدولة الأموية أصبحت إحدى دول العالم الكبرى آنذاك، وأصبحت موازية في قدارتها العسكرية لدولة الفرنجة وما جاورها أو لإمارات الشمال الإفريقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ومن هنا كانت الصدامات العسكرية بين الطرفين لا تكاد تنقطع طيلة ثلاثة قرون تقريباً، يتخللها أحياناً وصول وفود دبلوماسية إلى قرطبة، قادمة من الشمال. وأما عن علاقات قرطبة بالإمارات التي نشأت في الشمال الأفريقي، فقد كانت ودية إلى حد كبير، تبادلت فيها جميع الأطراف المصالح المشتركة1. وقد كان الأمويون شديدي الحرص على مصلحة دولتهم من كافة النواحي، لذا فقد انتهجوا منذ البداية سياسة قائمة على دبلوماسية تعتمد على الاستجابة لأي نداء يعود بالخير على الجميع، لأجل هذا فقد شهدت قرطبة منذ عهد الأمير عبد الرحمن الداخل توافد سفارات ذات أغراض متعددة. فمنها ما هو للهدنة والصلح، وأخرى لتوثيق عرى المودة وثالثه من أجل المحالفات، ورابعة للتعزية والتهنئة، كما أن هناك ما كان الهدف منها دفع أذى قوى معارضه، إلى غير ذلك من الأغراض. فبعد فشل الهجوم الذي شنه الإمبراطور الفرنجي شارلمان (771-813م) على الأندلس سنة 161هـ2 (778م) عندما أراد أن يحقق   1- انظر: سالم الخلف، المرجع السابق ص199- 205، 213-216، 226-234، 241-245. 2- كارلس ديفر: شارلمان، ص 101-102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 أحلامه بطرد المسلمين منها1، أرسل من عنده وفداً إلى قرطبة يحمل رسالة للأمير عبد الرحمن الداخل يدعوه فيها إلى المصاهرة والسلم، فأجابه   1- هذه الأحلام كانت-كما تقول الرواية- تأتيه عن طريق رؤى يراها، فقد ورد في قصة "تيرين" التي ترجع إلى القرن السادس الهجري-الثاني عشر الميلادي- أن القديس "جيمس الرسول" الذي يقع مشهده في Comopostele بشمال غربي أسبانيا تراءى لشارلمان أثناء النوم وأخبره بأن جثمانه الذي لا يعرفه المسلمون والمسيحيون يرقد في تلك الأرض النائية، ثم أمر شارلمان بأن ينهض ويستخلص جليقية من أيدي المسلمين. وبعد أن تكررت الرؤيا ثلاث مرات لم يسع شارلمان إلا أن يلبي النداء في الرابعة. انظر: كارلس ديفز، شارلمان ص98. د. السيد الباز العريني، بعض معالم عهد شارلمان. (القاهرة، المجلة التاريخية المصرية. المجلد الثامن 1959م) ص144. ويشير ابدال مؤرخ شارلمان "إلى أن الأهداف التوسعية والأطماع السياسية هي المحرك الأساسي لحملات شارلمان العسكرية، إلا أنه غلفها بالستار الديني سواء كان في غزوه للأندلس أو حروبه في أوربا" انظر: عنان، دولة الإسلام في الأندلس، ع1 ق1، ص 172. ويمكن أن نخرج من قصة رؤيا شارلمان بفائدة، وهي أن الدول التي تقوم على معتقد ديني لا يمكن توحيد الصفوف ضدها إلا بإثارة معتقد ديني مضاد. وهذا ما عمد إليه شارلمان، فلعله أحس تقاعساً من أبناء النصارى عن ملاقاة المسلمين في الأندلس ولذا وجد أن السبيل الأوحد لجمع شملهم ضد المسلمين هو إشعال جذوة الدين في نفوس أولئك النصارى. وهذا ما يجب اليوم على الدول الإسلامية أن تأخذه مأخذ الجد، إذ أن إشعال جذوة الدين في نفوس أبناء المسلمين هو السبيل الأمثل لتخليص الأمة الإسلامية من تسلط الأعداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الأمير الأموي إلى السلم ولم تتم المصاهرة1، وفي هذه المناسبة جرى توقيع هدنة بين الطرفين سنة 164هـ (780م) تقريباً2. وفي عهد الأمير الحكم الربضي 180ـ 206هـ (796-822م) عقدت هدنة مع شارلمان ومن ثم مع ولده لويس التقي (813-840م) 3. وشهد عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط: 206-238هـ (822ـ 852م) توقيع هدنة بينه وبين إمبراطور الفرنجة شارل الأصلع (ت877م) ، فقد ذكر ابن حيان عند حديثه عن العلامات التي اُستدل بها على ترشيح الأمير عبد الرحمن الأوسط ابنه محمداً لولاية العهد، مانصه: "وكان الذي استدلوا به على ترشيح الأمير والده إياه   1- نفح الطيب 1/330-331. 2- عن هذه الهدنة والآراء التي طرحت حولها. انظر: محمد مرسي الشيخ، دولة الفرنجة وعلاقاتها مع الأمويين في الأندلس حتى أواخر القرن العاشر الميلادي (الإسكندرية، مؤسسة الثقافة الجامعية، 1990م) ، ص218-227 والمصادر المذكورة. 3- انظر: ابن الأثير، الكامل، 5/369. ابن عذاري، البيان المغرب، 2/73. شكيب أرسلان، تاريخ غزوات العرب. (القاهرة، مطبعة عيسى الحلبي وشركاه. 1352هـ) . ص141-144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 (تصديره) لرسل قارله بن أذفونش1 ملك الفرنجة القادم عليه مكانه"2. ويتضح من عبارة ابن حيان أن ملك الفرنجة قارله بن أذفونش "شارل الأصلع" هو الذي طلب الهدنة، وأرسل وفداً من عنده وصل قرطبة سنة 232هـ (847م) 3. ونتيجة للهجوم الذي شنه القراصنة النورمان4 على الأندلس شهد عصر الأمير عبد الرحمن الأوسط اتصالات دبلوماسية بينه وبين ملك النورمان "هوريك5" وقد انفرد ابن دحية من بين المؤرخين في ذكر تلك الاتصالات، ونقلها عنه المقري، يقول ابن دحية: "ولما وفد على السلطان عبد الرحمن رسل ملك المجوس يطلب الصلح بعد خروجهم من اشبيلية   1- أطلق عليه ابن حيان اسم "قرلش بن لذويق" المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 130. بينما أسماه ابن عذاري "فردلند" البيان المغرب: 2/108. وتابعه في ذلك ابن الخطيب، أعمال الأعلام، 2/23. واسمه الحقيقي: قارله "Charles" الملقب بالأصلع "Chauve" المعروف بلقب الورع "Le Pieux" انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص103 حاشية رقم 7. 2- المصدر السابق ص 103. 3- Levi- Provencel: OP. Cit.I , P:213 4- عن أولئك القراصنة وإلى من ينتمون. انظر: د. حسين مؤنس: غارات النورمانديين على الأندلس بين سنتي 229-245هـ (القاهرة، المجلة التاريخية المصرية، المجلد الثاني، العدد الأول، مايو 1949م) ص 24-28. 5- المرجع السابق ص 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وإيقاعهم بها وقتل قائد الأسطول فيها رأى أن يراجعهم بقبول ذلك، فأمر الغزال1 أن يمشي في رسالته مع رسل ملكهم لما كان الغزال عليه من حدة الخاطر وبديهة الرأي وحسن الجواب والنجدة والإقدام والدخول والخروج من كل باب، وصحبته يحيى بن حبيب، فنهض إلى مدينة شلب2 وقد أنشأ لهم مركب حسن كامل الآلة وروجع ملك المجوس على رسالته، وكوفئ على هديته"3. ومن هذا النص يتضح أن الوفد الذي قدم من لدن ملك المجوس إنما جاء لطلب الصلح، وقد أخذ بهذا الرأي أحد الباحثين حيث قال:   1- يحيى بن الحكم البكري الجياني، المعروف بالغزال، ولد سنة 156هـ تقريباً وتوفي سنة 250هـ، لقب بالغزال لجماله وأناقته، كان شاعراً مطبوعاً، وكان جليل القدر مقرباً من أمراء بني أمية، عرف بسعة الثقافة وحدة الخاطر. انظر: جذوة المقتبس، ترجمة رقم 888. بغية الملتمس، ترجمة رقم 1467. آنخل بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، (ترجمة: د. حسين مؤنس، القاهرة مكتبة النهضة المصرية ط الأولى 1955م) ، ص 55-56. وانظر: محمد صالح البنداق، يحيى بن الحكم الغزال (بيروت، دار الأفاق الجديدة 1979م) ص 17-32. 2- شلب Silves قاعدة كورة أكشونبة، بقبلي مدينة باجه، وتشتهر بوفرة شجر التفاح انظر: الروض المعطار ص 342-343 وهي اليوم مدينة صغيرة في جنوب البرتغال تابعة لمديرية الغرب ALgarve. 3- المطرب، ص 130-136، وانظر: نفح الطيب، 2/257-259. وقد قوبلت رواية ابن دحية بانكار بعض المهتمين بالدراسات التاريخية الأندلسية. انظر: د. حسين مؤنس، غارات النورمانديين على الأندلس، ص42-47، 60-63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 "وأدرك ملك الغزاة مدى قوة المسلمين، واعتقد أنهم سوف ينتقمون منه ومن شعبه فبادر فوراً إلى توجيه سفارة لأمير الأندلس عبد الرحمن يطلب الصلح وتوطيد العلاقات"1. ولا أدري على أي أساس يقدم ذلك الباحث هذا الرأي، فإذا كان الملك "هوريك" يقطن في شمال أوربا فما الذي يزعجه من الأمير عبد الرحمن الأوسط وقواته، حيث تفصل بينهما مساحات شاسعة جداً وعقبات لا يمكن تجاوزها. ولعل الأولى بالقبول في سبب وصول وفد النورمانديين إلى قرطبة، هو ما ذهب إليه الأستاذ حسين مؤنس، فقد ذكر أن للملك "هوريك" علاقات واضحة مع بعض ملوك أوربا في ذلك الوقت، فليس من المستبعد أن يقوم بمراسلة الأمير عبد الرحمن الأوسط الذي يحكم دولة من أقوى دول العالم المعروفة آنذاك، إن لم تكن أقواها على الإطلاق. ويجب ألا ننسى أنه ربما كان يرغب في الحصول على بعض طُرف لطائف الأندلس من الثياب وغيرها، والتي كان غزاة النورمانيين يحرصون عليها بشدة ويرغبون بها عن الذهب والفضة2، وقد أتحف الأمير الأندلسي ملك النورمان بالكثير من تلك الطرف واللطائف حيث سر بها بشدة، بالإضافة إلى أن الملك هوريك اعتاد أن يكتب إلى جيرانه بعد كل حادثة يقوم بها قراصنته ضد أولئك الجيران، متنصلاً من تبعتهم له،   1- د. محمد صالح البنداق، يحيى بن الحكم الغزال، ص 112. 2- ابن القوطية، ص 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ومعتذراً عما اقترفوه، فلماذا لا يكون الأمير عبد الرحمن الأوسط من بين أولئك الجيران1؟. وفي ربيع سنة (845م) الموافق شهر شوال أو ذي القعدة من سنة 235هـ وصل وفد ملك النورمان إلى قرطبة، وبعد أن أدى رسالته غادر في أوائل سنة 236هـ الموافق أواخر صيف سنة (845م) وبصحبته الوفد الأندلسي2 المكون من يحيى الغزال وصاحبه يحيى بن حبيب3، وعندما وصل الغزال وصاحبه إلى عاصمة النورمان أمر الملك بإكرامهما وأنزلهما منزلاً حسناً، ثم جلس لاستقبالهما بعد يومين فقط من وصولهما حيث استلم رسالة الأمير عبد الرحمن الأوسط، واستعرض هديته، ولم   1- غارات النورمانديين على الأندلس ص 40، 45-46. 2- المرجع السابق، ص 51-52. 3- المطرب، ص 130، وقد ذهب الدكتور البنداق إلى أن ابن حبيب هذا هو الشهير بـ"صاحب المنيقلة" حيث خرج من ذلك بنتيجة مؤداها أن وجوده في السفارة مهم جداً إذ أن معرفته بالفلك تمكنه من دراسة "ظروف الحياة الطبيعية في بلدان الشمال وإطلاع الأمير عليها" انظر: البنداق، المرجع السابق ص 150. والذي ذهب إليه الدكتور البنداق غير صحيح إذ أن صاحب المنيقلة هو عباس بن فرناس الذي اشتهر بعدة علوم من بينها الكيمياء والفلك. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص282-283. المغرب في حلى المغرب 1/333. نفح الطيب 3/374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 يخف سروره بها، وبعد أن مكث رسولا الأمير مدة انصرفا عائدين إلى قرطبة1. هذه هي سفارة الغزال التي كانت رداً على وصول الوفد النورماني القادم من الدنمارك، وبذلك نجح الأمير عبد الرحمن الأوسط بالأسلوب الدبلوماسي الذي اتبعه تجنيب بلاده هجمات أولئك القراصنة طيلة سني حكمه، وتمكن خلالها من تحصين بلاده2، الأمر الذي نتج عنه فشل الهجوم الذي شنه النورمانديون على الأندلس سنة 245هـ (859م) فشلاً ذريعاً3. وكما شهد عصر الإمارة اتصالات دبلوماسية تهدف إلى المهادنة والمصالحة، كانت هناك اتصالات أخرى ذات أغراض شتى.   1- المطرب، ص 131-132، 136. وانظر: د. حسين مؤنس، المرجع السابق، ص63. 2- عن التحصينات التي قام بها الأمير عبد الرحمن الأوسط. انظر: ابن القوطية، ص65-67. المغرب في حُلى المغرب، 1/49. الروض المعطار ص58-60،461 Levi- Provencal: Op cit. T.I.P:225. 3- انظر: نصوص عن الأندلس، ص 118-119. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 307-309. البيان المغرب، 2/96-97. غارات النورمانديين على الأندلس، ص64-73. Levi- Provencal: Op Cit. T.I P:310-312.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 فقد وصل إلى قرطبة سنة 207هـ (822) وفد رسمي قادم من إمارة الرستميين1، وكان الوفد مكون من عبد الغني ودحون وبهرام2، أبناء عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم3 وذلك   1- الإمارة الرستمية، هي الدولة الفارسية الأولى في الإسلام، تنسب إلى مؤسسها عبد الرحمن بن رستم بن بهرام، أحد موالي الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد تم انتخاب ابن رستم إماماً لإباضية المغرب الأوسط، وبعد إتمام بناء مدينة تاهرت سنة 161هـ جُددت له البيعة وذلك سنة 162هـ. وقد مكث الحكم في ذريته وراثياً، إلى أن أزيلت على يد داعية العبيديين أبي عبد الله الشيعي وذلك في شهر شوال سنة 296هـ. انظر: البكري، المغرب في ذكر بلاد أفريقية والمغرب، ص 67-68. أبو زكريا يحيى بن أبي بكر، سير الأئمة وأخبارهم (تحقيق: وتعليق: إسماعيل العربي، الجزائر، المكتبة الوطنية، ط 1399هـ) . ص 53 وما بعدها. البيان المغرب 1/196-197. محمد بن تاويت، دولة الرستميين أصحاب تاهرت، (مدريد، صحيفة معهد الدراسات الإسلامية. المجلد الخامس العدد 1-2 سنة 1975م) . ص105 وما بعدها. د. محمود إسماعيل، الخوارج في المغرب الإسلامي (بيروت، دار العودة، 1976م) ص 107-157. محمد ولد داداه، مفهوم الملك في المغرب، من انتصاف القرن الأول إلى انتصاف القرن السابع. (بيروت- القاهرة 1977م) ص25-31.د. محمد عيسى الحريري، مقدمات البناء السياسي للمغرب العربي (160-296هـ) (القاهرة، مكتبة الشباب ط الأولى 1399هـ- 1979م) ص 67 ومابعدها. 2- Levi- Provencal Op Cit. T.I.P: 244. 3- عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم ثاني الأئمة الرستميين، وإمام من أعظم أئمة الإباضية في تاهرت بالجزائر وعلى يديه افترقت الإباضية، كان فقيهاً عالماً شجاعاً يباشر الحروب بنفسه. انظر: ابن الصغير، أخبار الأئمة الرستميين، (تحقيق: د. محمد ناصر وإبراهيم بعاص بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1406هـ (1986م) ص 43-65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 لتقديم التعزية للأمير عبد الرحمن الأوسط بوفاة والده، وتهنئته بمناسبة استلامه الحكم1. وقد جرى للوفد استقبالٌ باهرٌ، حيث استقبلهم الأمير وبالغ في الحفاوة بهم، حتى غدت هذه الحفاوة مثار إعجاب الناس ومدار حديثهم2.   1- ذكر ابن سعيد أن الأمير عبد الرحمن الأوسط قد أنفق في هذا الاحتفال ألف ألف دينار، انظر: المغرب في حلى المغرب 1/48. ‘إلا أنني أرى أن المبلغ المذكور فيه مبالغة، فإذا كانت الجباية في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط تبلغ ألف ألف دينار، فكيف ينفق كل الجباية في احتفال واحد، وعليه فالأصح أن يقال أنه أنفق على الاحتفال ألف دينار فقط، أو ألف ألف درهم. 2- وعن العلاقة وأهميتها بين الرستميين وأمويي الأندلس، انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 85، 130. الحلة السيراء 2/372، 387، 390. البيان المغرب: 2/82، 87، 118، 212، 214. د. محمود مكي، الخوارج في الأندلس، (مجلة تطوان للأبحاث المغربية والأندلسية، المغرب 1956م) ، ص173-174. محمد بن تاويت، دولة الرستميين أصحاب تاهرت (صحيفة معد الدراسات الإسلامية، مدريد، م5، ع 1-2 سنة 1957م. أرشيبالد لويس، القوى البحرية والتجارية، (ترجمة: أحمد محمد عيسى، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية 1960م) ص260-261. L.Provencal: Op. Cit.vI, P:244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وفي سنة (839-840م) 225هـ وصل إلى قرطبة رسول يدعى: قراطيوس Kratiyus على رأس وفد قادم من عند الإمبراطور البيزنطي: تيوفيلوس Theophilus1. وقد جرى للرسول البيزنطي استقبالٌ حافلٌ، وبعد أن قدم هدايا الإمبراطور للأمير، تليت الرسالة التي من أجلها حضر الوفد إلى قرطبة، فقد أبدى فيها الإمبراطور رغبته في إقامة علاقات ودية مع الأمير الأموي، وأن تكون بينهما معاهدة صداقة وتحالف، كما لم ينس تذكيره بموطنه الأصيل، وقسوة العباسيين ضد أسرته، وإن باستطاعته العودة إلى الشام، ويتعهد له بتقديم المساعدة اللازمة لتحقيق هذا الهدف، ثم تطرق إلى مسألة الأندلسيين الذين استولوا على جزيرة إقريطش2، وفي نهاية رسالته لمز   1- نفح الطيب، 1/346-347، بروفنسال، الإسلام في المغرب والأندلس، (ترجمة د. محمود عبد العزيز سالم، محمد صلاح الدين، القاهرة، مكتبة نهضة مصر 1956) ص97. 2- عن جزيرة إقريطش "كريت" انظر: د. اسمت غنيم، الإمبراطورية البيزنطية وكريت الإسلامية، (جدة، دار المجمع العلمي، 1397هـ) ص 21-32، والمصادر المذكورة. وقد أحدث ضياع إقريطش من أيدي البزنطيين ارتباكاً واضحاً في النظام الدفاعي للإمبراطورية البيزنطية عموما، لأنه أفقدها ميزة الانسجام بين قواتها البرية والبحرية. انظر: د. أحمد العدوي، إقريطش بين المسلمين والبيزنطيين في القرن التاسع الميلادي، (القاهرة، المجلة التاريخية المصرية م3 ع2 أكتوبر 1950م) ص 60. وأما عن الأندلسيين الذين تمكنوا من الإستيلاء على جزيرة إقريطش. انظر: د. عبد العزيز سالم، تاريخ الإسكندرية وحضارتها في العصر الإسلامي، (نشر: مؤسسة شباب الجامعة 1982م) ص128-138. قارن: ابن حزم، جوامع السيرة، (تحقيق: إحسان عباس وناصر الدين الأسد. القاهرة. المكتبة التجارية الكبرى. د. ت) ص344. الحلة السيراء، 1/44-45 المغرب في حُلى المغرب 1/44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الخليفتين العباسيين المأمون والمعتصم ونعتهما بابني مارده ومراجل1. ورداً على رسالة الإمبراطور البيزنطي، وبناءً على طلبه، فقد بعث الأمير عبد الرحمن الأوسط بوفد من عنده مكون من عضوين برئاسة يحيى بن الحكم الغزال حَّمله فيها رسالته وهديته، وفي القسطنطنية جرى للوفد استقبال حافل برز فيه الغزال بطرفه وجماله ورجاحة عقله، فنال إعجاب الإمبراطور، فدعاه إلى مائدته، وبعد أن أدى الوفد مهمته عاد إلى قرطبة دون الارتباط بأي حلف مع البيزنطيين2. وهناك معاهدة تحالف وقعت بين قرطبة وإمارة "نافار3 Navarre" فقد وصلت سفارة من النافار إلى بلاط الأمير عبد الرحمن الأوسط، أبرمت على أثرها معاهدة تحالف بين الطرفين، تقوم بموجبها   1- الإسلام في المغرب والأندلس، ص 97-98. 2- نفح الطيب، 1/246. الإسلام في المغرب والأندلس ص 92-118. 3- مملكة "نبارِّة تقع في بلاد البشكنس Basques جنوب جبال البرتات، كانت في البداية واقعة تحت سلطة بعض النبلاء التابعين للفرنج أو لحكام من كانتبرية Cantabria أو أمراء من أسترياس Austurias استقلت في القرن الثاني الهجري، وأصبحت بنبلونه قاعدة لها. انظر: د. عبد الرحمن الحجي،، اندلسيات، 2/52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 القوات الإسلامية بمساعدة النافار ضد أي اعتداء خارجي، في حين أن على النافار مساعدة القوات الإسلامية عند عبورها جبال البرتات1 متجهة إلى فرنسا2. وفي أواخر عصر الأمير محمد بن عبد الرحمن وصل إلى قرطبة السفير: دولئديو "Dulcidio" أسقف سلمنقة3 "Salamonca" مبعوثاُ من قبل ألفونسو الثالث ملك ليون، للتفاوض مع الأمير محمد من أجل توقيع معاهدة صلح بين الطرفين، وقد نجح السفير في مهمته وعاد إلى "أوفيدو4   1- البرتات أو البرت "Pirineos- Pyrenees" هي الجبال التي تفصل أسبانيا عن فرنسا، وهي محرفة عن الأسبانية "Puerta" والبعض يسميها خطأ جبال البرانس، وهذه تقع شمال قرطبة، وتسمى جبل المعدن Siera de Almadenولجبال البرتات أربع ممرات كلها ضيقة يدخلها الفارس بعد الفارس، أشهرها باب الشيزري أو برت شيزرو "Portus Cisenus" يبلغ طوله 35 ميلاً، وعلى طرف كل ممر تقع مدينة في الجهتين. انظر: أرسلان، الحلل السندسية 2/108-113. د. حسين مؤنس، تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس، (مدريد، معهد الدراسات الإسلامية، ط الأولى.1386هـ (1967م)) ص 264،274. أندلسيات، 2/72. 2- انظر: أندلسيات، 2/72. 3- سلمنقة: مدينة تقع غرب شقوبيه على بعد 99 كيلو متر، وسلمنقة القائمة على ضفاف نهر تورمس تمتاز بالثقافة، فشوارعها وميادينها غاصة بطلاب العلم الذين يفدون إليها من شتى الأقطار في العالم. انظر: رحلة الأندلس، ص 351-352. 4- أوفيدو أو أوبيط، مدينة تقع في شمال أقليم اشتوريس قرب خليج البسكايه إلى الغرب من صخرة كوفادونجا على مسافة خمسة وثمانين كيلو متراً، ومن أبرز معالمها جامعة من أقدم الجامعات الأسبانية، أنشأت سنة 1013هـ، ولاتزال قائمة إلى اليوم. انظر: الأثار الأندلسية الباقية ص 361-365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 Oviedo" عاصمة ليون1، ومعه رفاة اثنين من النصارى، هما القس أولوخيو Eulogio وصاحبته ليو كريسيا Leocrecia وذلك سنة 270هـ (883م) 2. وعلى الرغم من كثرة الوفود التي قدمت إلى قرطبة طوال عصر الإمارة 138ـ 316 هـ (755-928م) إلا ان المصادر خلت من ذكر أي مراسم تقام في تلك المناسبات، ولعل ذلك عائد إلى بساطة الاحتفالات التي كانت تقيمها الدولة آنذاك، إذ أن الدولة مرت بفترة تأسيس ثم استقرت نوعاً ما طوال عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط: 206-238هـ (822-852م) ونصف عهد ابنه محمد: 238-273هـ (852-886م) ثم عاشت باضطراب حتى أعلن الأمير   1- نشأت مملكة "ليون" من اتحاد إمارتي كانتبريا "Cantabria" وجليقية في حكومة واحدة، عرفت عند المؤرخين المسلمين باسم "جليقية" وأراضيها تمتد من المحيط الاطلنطي غرباً حتى بلاد البشكنس شرقاً، ومن مضيق بسكاي "Bescay" شمالاً إلى نهر دويره "Duero" جنوباً، وعندما استلم الأمير عبد الرحمن الداخل إمارة الأندلس كانت مملكة ليون تشغل ربع مساحة شبه جزيرة إيبيريا تقريباً، وكانت عاصمتها في السابق مدينة أبيط "Oviedo" ولكن بعد أن قويت شوكة هذه المملكة واتسعت حدودها جنوباً، أصبحت مدينة ليون "Leon" عاصمتها الجديدة. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، تعليق رقم 610. أعمال الأعلام 2/323-324. أندلسيات، 2/42. 2- انظر: دولة الإسلام في الأندلس، ع1 ق1، ص303. أندلسيات 2/74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 عبد الرحمن بن محمد قيام الخلافة الأموية في الأندلس سنة 316هـ (928م) . ومن هذا يتضح أن الأمراء الأوائل اهتموا بتثبيت أركان الدولة دون الالتفات إلى المظاهر التي تنم عن الاستقرار والرفاهية وهو أمر طبيعي، إذ أن الدولة لاتصل إلى الاهتمام بهذه الأمور إلا في مرحلة تالية، وذلك عندما يبدأ الجيل التالي بقطف ثمرة الجهد الذي بذله الجيل الأول، وهذا ما سيتضح لنا جلياً في عصر الخلافة. ففي القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) كانت قرطبة تعيش أزهى أيامها، فقد بلغت من الثراء والازدهار درجة لم تبلغها من قبل، فغدت مهيبة الجانب، يخطب الجميع ودها، وأصبح السفراء يفدون إليها من أنحاء شتى، لأغراض متباينة، مابين طاعة وولاء، وتحالف، وسلم وموالفة وتجديد عهد المودة، وطلب النصرة لاسترداد العرش، بل إن منها ما كان للاستشفاء. فقد استقبل بلاط الخلافة بقرطبة، وفوداً وصلت من المغرب والقيروان جاءت لتقديم الطاعة والولاء1، وسفارات قدمت لأجل الصلح   1- وصلت إلى قرطبة سفارات عدة في سنوات: 328هـ، 335هـ، 337هـ، 338هـ، 339هـ، 356هـ، 360هـ، 364هـ، وكلها قدمت من المغرب والقيروان. انظر: المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص459. المصدر السابق، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 39-42،194. البيان المغرب، / 212، 213، 214، 215، 216، 217، 239، 241. وتجدر الإشارة إلى أن تلك الوفود قدمت من زعامات قبلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 والسلم مثل السفارة التى وصلت من جزيرة سردينيا، وذلك يوم الثلاثاء الثامن من ذي الحجة سنة 330هـ1 (أغسطس 942م) ، والسفارة التي قدمت من أردون الثالث ملك ليون سنة 344هـ2 (955م) ، والسفارة التي رأستها الراهبة إلبيرة "Elvira" الوصية على ابن أخيها ردمير الثالث ملك ليون جاءت لعقد السلم مع الخليفة الحكم المستنصر بالله3، وكذلك السفارة التي قدمت من برشلونة في نهاية شهر شعبان سنة 360هـ4 (يونيو 971م) وتكررت مرة أخرى سنة 393هـ5 (1003م) . وهناك سفارات وصلت إلى قرطبة من أجل "إيقاع الموالفة واتصال المكاتبة6" فقد قدمت سفارة من الإمبراطور البيزنطي قسطنطين السابع سنة 334هـ7 (946م) ، ومرة أخرى سنة 338هـ8 (949م) ، كما   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 485. 2- تاريخ ابن خلدون، 4/143. أندلسيات 2/76-79. 3- تاريخ ابن خلدون 4/146. 4- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 20-22. 5- الذخيرة، ق1 م1، ص 84-85. 6- البيان المغرب 2/215. 7- المصدر السابق، 2/212. 8- نفسه 2/215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وصلت سفارة هوتو ملك الصقالبة سنة 342هـ1 (952م) ، وفي اليوم الثالث والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة 361هـ (مارس972م) وصل إلى قرطبة رسل إمبراطور بيزنطه2، وفي سنة 363هـ (974م) قدمت سفارة أخرى من بلاد الصقالبة3، كلها لأجل ذلك الغرض. وفي الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 360هـ (يوليو 971م) وصل قرطبة وفد قادم من عند أحد أمراء نصارى الشمال في غربي جليقية، وذلك بغرض التحالف4. ومن السفارات التي وصلت إلى بلاط الخلافة بقرطبة، من أجل المساعدة في استرداد العروش التي اضطر أصحابها إلى التنحي عنها، ما ورد لدى ابن خلدون من أن الخليفة عبد الرحمن الناصر قدمت إليه طوطه ملكة نافار ومعها ولدها غرسيه "Garcia" وحفيدها شانجه "Sancho" ملك ليون المخلوع وذلك سنة 347هـ5 (960م) . وفي سنة 351هـ (962م) وصل إلى قرطبة ملك جليقية أردون بن أدفونش ملقياً بنفسه إلى الخليفة الحكم المستنصر بالله، طالباً منه   1- نفسه 2/218. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص71. 3- المصدر السابق ص 182. 4- نفسه ص 27. 5- تاريخ ابن خلدون، 4/143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 المساعدة في استرداد عرشه1، وقد لبى الخليفة طلب الملك، بعد أن وافق على ترك ولده غرسية رهينة عند الخليفة، حسب ما تقتضيه أنظمة الدولة الأموية2. وهناك سفارة وصلت إلى قرطبة تعتبر فريدة في موضوعها، ففي سنة 350هـ3 (961م) قدمت من روما سفارة، تطلب من الخليفة عبد الرحمن الناصر الإذن في استرداد جثمان لأحد النصارى، كان مدفوناً في كنيسة بالقرب من مدينة لورقه4. وكانت السفارات التي تفد إلى حاضرة الخلافة الأموية في الأندلس، تقابل بكل مظاهر الإكرام، ويقام بهذه المناسبة احتفال ضخم، يظهر مدى قوة الخلافة وعظمتها، وذلك وفق رسوم دقيقة. فمنذ أن يصل السفير إلى حدود الدولة الأموية، يقوم الوالي في ذلك الحد، بإخطار الخليفة عن وصول السفير، فيبعث الخليفة من عنده وفداً   1- المصدر السابق: 4/145. 2- نفح الطيب، 1/384. 3- نصوص عن الأندلس، ص7. ورد لدى الحميري أن السفارة جرت سنة 305هـ. الروض المعطار، ص512. ويبدو أن خطأ في النسخ قد أحدث الإختلاف بين المصدرين. 4- نصوص عن الأندلس، ص7-8 تاريخ بن خلدون 4/143. ومدينة لورقه Lorca تقع في كورة مرسية، شرقي الأندلس شمال المريه، وصفت بأنها غنية بالمحاصيل الزراعية وتمتاز بالموقع الحصين ومن منعتها اكتسبت اسمها لورقه الذي يعني باللطيني الدرع الحصين. انظر: نصوص عن الأندلس، ص1-2. الروض المعطار، ص 512-513. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 لاستقباله، وهذا الوفد هو أشبه ما يكون بالبعثة الشرفية المعروفة بالوقت الحالي، وتقوم هذه البعثة بمرافقة السفير إلى العاصمة، وتحرص هذه البعثة أشد الحرص على عدم تمكين السفير من معرفة الطريق، فيختارون له الطرق الوعرة المتعبة بالذات إن كان من دولة معادية، وعندما يقترب السفير من العاصمة، تكون هناك مجموعات من الجند مرتبة ترتيباً عسكرياً، تستقبله الواحدة تلو الأخرى، ثم يخرج أحد كبار رجالات الدولة المقربين من الخليفة فيستقبل السفير، ويرحب به، ويدخل معه إلى قرطبة، وما يزال مسايراً له، حتى ينزله في دار سبق إعدادها لنزوله، ويتم ترتيب مجموعة من ذوي الخبرة بالضيافة لخدمته، ومجموعة أخرى لتمنع العامة والخاصة من الاختلاط به، خشية أن يتوصل إلى معرفة ما يضر بالدولة الأموية، وذلك من خلال استمالته لأحدهم. والخليفة لا يستقبل السفير مباشرة، بل إن الوزير المرافق للسفير، يطلع على المهمة التي قدم من أجلها، وهو بدوره يبلغها للخليفة، فإن رضي عن المهمة أذن للسفير بمقابلته وإلا منعه. ولم يحدث أن رفض الخليفة استقبال أي سفير، إلا ما جرى من الخليفة عبد الرحمن الناصر، عندما رفض استقبال الراهب جان "يوحنا" الذي كان مبعوثاً من عند الملك هوتو، بعد أن علم الخليفة أن الغرض من السفارة كان لأجل مناقشة بعض الأمور الدينية1.   1- أرسلان، غزوات العرب، ص 179-180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وليس هناك وقتاً محدداً لإتمام المقابلة بين الخليفة والسفير، إذ أن وقت الفجر ممكن أن يكون موعداً للمقابلة، وذلك كما فعل الحاجب المنصور بن أبي عامر عند استقباله لأحد السفراء1، إلا أن هذا نادر الحصول، إذ من المتوقع أن يكون الموعد في النهار لكي تظهر المراسم بكامل زينتها. وإذا حدث أن وفد إلى بلاط الخليفة عدة سفراء في آن واحد، صدر الإذن للسفراء المسلمين قبل غيرهم لمقابلة الخليفة، وهذا ما فعله الخليفة الحكم المستنصر بالله، فقد جلس في يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 362هـ (24 سبتمبر 973م) لاستقبال الرسل والوفود التي قدمت لمقابلته، فأمر بتقديم السفراء المسلمين في الإذن للدخول عليه2. وقبل أن يدخل السفير أو الوفد على الخليفة، لابد من إفهامهم بما يجب عليهم اتباعه، عند مخاطبتهم له3، ويتولى قاضي النصارى بقرطبة الترجمة بين الوفد والخليفة، ويفترض في المترجم أن يكون حصيفاً فلا ينقل للخليفة ما يشعره بأدنى مقدار من الاستهانة به أو بمركزه، وإلا لقي الإهانة والطرد من منصبه4.   1- نفح الطيب، 3/85. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 138. 3- المصدر السابق، ص 147. 4- انظر: المصدر السابق ص 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وما يمكن تسميته بالحصانة الدبلوماسية، مكفولة للسفير، فمهما بدا منه من جفاء فلا يعاقب، بل يكتفى بطرده من البلاط، وحرمانه من إكمال أداء مهمته1. ولم تعرف عادة تقبيل البساط بين يدي الخليفة، إلا في عهد الحكم المستنصر بالله2، فقد كان والده يرفض ذلك ويأباه3. ويتم التمييز بين السفراء حسب مكانة مرسلهم، فإذا كان المرسل صاحب دولة قوية، أو كان موالياً للدولة الأموية، فإن الخليفة يعطي السفير باطن يده ليقبلها4، وأما ما سوى ذلك فإنهم يقبلون ظاهر يده5، وفي هذا دلالة على أن الدولة الأموية، كانت تفرق في مراسم الاحتفالات بين سفراء الدول الكبرى والصغرى.   1- نفسه ص146-147. وعن أمان الرسل في الإسلام، انظر: د. كامل الدقس، العلاقات الدولية في الإسلام، ص139-143. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص52. نفح الطيب 1/390-391. لعل الخليفة الحكم قد تأثر كثيراً بملوك النصارى في تقبيل البساط، الذي هو بمثابة السجود والعياذ بالله. 3- البيان المغرب، 2/213. 4- غزوات العرب ص181. قارن: هشام سليم أبو رميله، نظم الحكم في الأندلس في عصر الخلافة، (رسالة ماجستير مقدمة لكلية الآداب، جامعة القاهرة 1975م (لم تطبع)) ص108. 5- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وفيما يتعلق بتقبيل اليد بلغ هذا الأمر ذروته في عهد الحاجب المنصور ابن أبي عامر، وذلك عندما سمح للملك شانجه والد زوجته أم عبد الرحمن بتقبيل يديه ورجليه1. وبعد أن يأذن الخليفة للسفير بالجلوس، يقدم الأخير هدية مرسله، ويعرضها في المجلس، وإذا كان مع الهدية بعض الجواري، فإنه يتم إرسالهن فوراً إلى دار الحرم، دون عرضهن في المجلس. وكانت أعظم هدية يقدمها الوفد للخليفة، هي إطلاق سراح مجموعة من الأسرى المسلمين إكراماً له2. وبعد أن يتقبل الخليفة الهدية ويقرأ الكتاب المصاحب لها، يقوم الشعراء والخطباء بإلقاء خطب وقصائد تحوي عبارات الثناء على الخليفة، وبعد انتهاء الحفل، يؤخذ السفير إلى مقر إقامته، ويمكث هناك حتى يطلبه لإجراء المباحثات وبعد أن يعقد معه عدة جلسات على انفراد تام، يسمح للسفير ومن معه بالقيام ببعض الجولات الترفيهية في أنحاء العاصمة، وذلك بصحبة الوزير المرافق، وبعد عدة أيام يؤذن للوفد بمقابلة الخليفة لوداعه وتقبل هديته3 التي يتم استلامها في بيت الوزراء، إذ أن الخليفة يأمرهم   1- أعمال الأعلام، 2/73-74. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 21-22. 3- المصدر السابق، ص32. نفح الطيب، 1/385. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 بالاجتماع في بيتهم، واستقبال أعضاء الوفد للترحيب بهم، وتسليمهم هدية الخليفة1. وعادة ما تكون أقل من الهدية التي قدمها له الوفد. وقد حفظت لنا المصادر الأندلسية، صوراً للاحتفالات التي كانت تقام بمناسبة وصول أحد السفراء إلى قرطبة لمقابلة الخليفة. فقد بعث الإمبراطور البيزنطي قسطنطين السابع Costantine VII المعروف بـ "بورفيرجينيت Porphyrogenitus" أي لابس الأرجوان2، سفارة إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر، وقد وصلت السفارة الأندلس في شهر صفر سنة 338هـ3 (أغسطس 949م) ، فتأهب الخليفة لاستقبال أعضاء السفارة، "وأمر أن يتلقوا أعظم تلق وأفخمه، وأحسن قبول وأكرمه، وأخرج إلى لقائهم ببجانة يحيى بن محمد بن الليث وغيره لخدمة أسباب الطريق، فلما صاروا بأقرب المحلات من قرطبة خرج إلى لقائهم القواد في العدد والعدة والتعبئة، فتلقوهم قائداً بعد قائد، وكمل اختصاصهم بعد ذلك، بأن أخرج إليهم الفتيين الكبيرين الخصيين ياسراً وتماماً، إبلاغاً في الاحتفال بهم، فلقياهم بعد القواد، فاستبان لهم بخروج الفتيين إليهم بسط الناصر وإكرامه، لأن الفتيان حينئذ هم عظماء الدولة، لأنهم أصحاب الخلوة مع الناصر وحرمه، وبيدهم القصر السلطاني،   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص110. 2- تاريخ الفكر الأندلسي، ص462. 3- قارن: تاريخ ابن خلدون، 4/142. طبقات الأطباء، ص494. تاريخ الفكر الأندلسي، ص462. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وأنزلوا بمنية ولي العهد الحكم المنسوبة إلى نصر بعدوة قرطبة في الربض، ومنعوا من لقاء الخاصة والعامة جملة، ومن ملابسة الناس طُرَّا، ورُتّب لحجابتهم رجال تخيروا من الموالي ووجوه الحشم فصُيّروا على باب قصر هذه المنية ستة عشر رجلاً لأربع دول، لكل دولة أربع منهم، ورحل الناصر لدين الله من قصر الزهراء إلى قصر قرطبة لدخول وفود الروم عليه، فقعد لهم يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من السنة المذكورة في بهو المجلس الزاهر قعوداً حسناً نبيلاً، وقعد عن يمينه ولي العهد من بنيه الحكم، ثم عبيد الله ثم عبد العزيز أبو الأصبغ ثم مروان، وقعد عن يساره المنذر ثم عبد الجبار ثم سليمان، وتخلف عبد الملك لأنه كان عليلاً لم يطق الحضور، وحضر الوزراء على مراتبهم يميناً وشمالاً، ووقف الحجّاب من أهل الخدمة من أبناء الوزراء والموالي والوكلاء وغيرهم، وقد بُسط صحن الدار أجمع بعتاق البُسُط وكرائم الدرانك1. وظُلّلت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج ورفيع الستور، فوصل رسل ملك الروم حائرين مما رأوه من بهجة الملك وفخامة السلطان، ودفعوا كتاب ملكهم صاحب القسطنطينية العظمى قسطنطين بن ليون، وهو في رق مصبوغ لوناً سماوياً مكتوب بالذهب بالخط الإغريقي، وداخل الكتاب مدرجة مصبوغة أيضاً مكتوبة بفضة بخط إغريقي أيضاً فيها وصف هديته التي أرسل بها وعددها، وعلى الكتاب طابع ذهب وزنه   1- الدرانك: البسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 أربعة مثاقيل، على الوجه الواحد منه صورة المسيح، وعلى الأخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده، وكان الكتاب بداخل درج فضة منقوش عليه غطاء ذهب فيه صورة قسطنطين الملك معمولة من الزجاج الملون البديع، وكان الدرج داخل جعبة ملبسة بالديباج، وكان في ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه:قسطنطين ورومانس المؤمنان بالمسيح، الملكان العظيمان ملكا الروم، وفي سطر أخر: العظيم الاستحقاق المفخر الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة الحاكم على العرب بالأندلس، أطال الله بقاءه1، ولما احتفل الناصر لدين الله هذا الاحتفال أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه، لتذكر جلالة مقعده وعظيم سلطانه، وتصف ماتهيأ من توطيد الخلافة في دولته، وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه ولي عهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء، ويقدمه أمام نشيد الشعراء، فأمر الحكم صنيعه الفقيه محمد بن عبد البر الكستياني بالتأهب لذلك، وإعداد خطبة بليغة يقوم بها بين يدي الخليفة، وكان يدَّعي من القدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره، وحضر المجلس السلطاني، فلما قام يحاول   1- كان من بين الهدية التي قدمها الوفد البيزنطي للخليفة نسخة من كتاب الطبيب اليوناني "ديسكوريدس Dioscorides" في الحشائش والنباتات الطبية باللغة اليونانية، ونظراً لعدم وجود من يعرف اليونانية عند الخليفة، لذا فقد بعث إلى الإمبراطور البيزنطي رسالة يطلب فيها منه أن يبعث من عنده من يقوم بترجمة الكتاب، فاستجاب له، وبعث إليه بالراهب نيقولا سنة 340هـ. انظر: طبقات الأطباء ص494. تاريخ الفكر الأندلسي ص462-463. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 التكلم بما رأى هاله وبهره هول المقام وأبهة الخلافة، فلم يهتد إلى لفظه، بل غُشي عليه وسقط إلى الأرض، فقيل لأبي علي البغدادي إسماعيل بن القاسم القالي1 صاحب الأمالي والنوادر، وهو حينئذ ضيف الخليفة الوافد عليه من العراق وأمير الكلام وبحر اللغة: "قم فارقع هذا الوهي"، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ... ثم انقطع القول بالقالي، فوقف ساكتاً مفكراً في كلام يدخل به إلى ذكر ما أراد منه، ... فلما رأى ذلك منذر بن سعيد2 - وكان ممن حضر في زمرة الفقهاء - قام من ذاته، بدرجة من مرقاته، فوصل افتتاح أبي علي لأول خطبته بكلام عجيب، ونادى في الإحسان من ذلك المقام كل   1- أبو علي إسماعيل بن القاسم بن عيدون، جده من موالي بني أمية تعلم ببغداد، ثم ارتحل إلى الأندلس سنة 328هـ، ودخل قرطبة في أواخر شعبان سنة 330هـ واستطوطنها إلى أن وافته المنية بها سنة 356هـ فدفن في مقبرة متعة ظاهر قرطبة. انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 223. عبد العلي الودغيري، أبو علي القالي وأثره في الدراسات اللغوية والأدبية في الأندلس، (طبعة اللجنة المشتركة، المغرب- الأمارات 1403هـ 1983) ص 36-140. 2- أبو الحكم منذر بن سعيد بن عبد الله بن عبد الرحمن البلوطي، من أهل قرطبة، كان عالماً فقيهاً، أدبياً خطيباً، ولي قضاء مدينة لارده، والثغور الشرقية، ثم قُدِّم إلى قضاء الجماعة، فلم يزل في منصبه إلى أن توفي يوم الخميس لليلتين بقيتا من شهر ذي القعدة سنة 355هـ بعد أن ترك عدة مؤلفات. انظر: الزبيدي، طبقات النحويين واللغويين، (تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، دار المعارف، ط الثانية 1984م) ص295-296. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1454. مطمح الأنفس، ص237-259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 مجيب، يسحه سحاً كأنه كان يحفظه من قبل ذلك بمدة، وبدأ من المكان الذي انتهى إليه أبو علي البغدادي1 ... فصلب العلج وغلب على قلبه، وقال: هذا كبير القوم، أو كبش القوم، وخرج الناس يتحدثون عن حسن مقامه، وثبات جنانه وبلاغة لسانه، وكان الناصر أشدهم تعجباً منه2 ... وفي خمس بقين منه نُقل هؤلاء الرسل من منزلهم بمنية نصير بالربض، إلى دار إبراهيم الفتى بداخل قرطبة، وفي آخر هذا الشهر أعاد الناصر لدين الله القعود الثاني لرسل ملك الروم، بقصر الزهراء، فاحتفل لذلك أيضاً، واستكمل له الأهبة، وبالغ في الزينة، وقعد على باب السدة صاحب المدينة، مع من ضُمَّ إليه من العرفاء والشرط والحرس، وهم صفوف قيام، وقام مع سور القصر سماط من الموالي، في الملابس الحسان والسلاح الشاك، وألزم الفصلان كلها جملاً من العبيد والحشم والبوابين وغيرهم، في أشكل زيهم، ثم أعاد القعود، لهم بالزهراء، وهذا القعود الثالث، كان يوم الخميس لثلاث بقين منه، على ما تقدم في الأهبة والاحتفال في الزينة، وفي النصف من جمادى الأولى منها أدخل الناصر لدين الله هؤلاء الرسل على نفسه في مجلس خاص، قعد لهم فيه في قصر الزهراء، في المجلس المشرف على الرياض، فلما خرجوا من عنده، أدخلوا في ديار الصناعات والعدة بأكناف الزهراء ودار السكة، وطيف بهم بأرجائها، ثم صرفوا إلى   1- نفح الطيب، 1/366-369. 2- المصدر السابق 1/372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 دار نزولهم، فاتصل مقامهم بقرطبة في كرامة موصلة وعطايا متوالية، إلى أن كملت الهدية التي كوفئ بها الطاغية مرسلهم، وأُسلمت إليهم، مع أجوبتهم، وأمروا بالرحيل، وجلس لهم الناصر لدين الله في النصف من شوال من السنة بعدها، فدخلوا للوداع، وجُددت لهم الخلع، وانطلقوا لسبيلهم، متعجبين مما رأوا من عز الإسلام"1. وفي عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، وفد إلى قرطبة جعفر2 ويحيى أبنا علي بن حمدون، خالعين لدعوة العبيديين، متقلدين للدعوة الأموية، فاحتفل الخليفة لقدومهما، ومن معهما من الفرسان، فأمر أن يخاطب جميع القادة والعمال في كور الأندلس للقدوم إلى قرطبة لحضور   1- المقري، أزهار الرياض، (المغرب- الإمارات لجنة نشر التراث الإسلامي 1398هـ) 2/260-261. 2- جعفر بن علي بن حمدون بن سملك الجذامي، الشهير بابن الأندلسي، نشأ في بيت القائم بأمر الله بن المهدي في افريقية، تحت رعاية الأستاذ جوذر وبسبب خلاف نشب بين بلكين بن زيري وبين جعفر التحق الأخير ببلاط الخليفة الأموي الحكم المستنصر بالله ثم عاد إلى المغرب، ثم استقدمه المنصور بن أبي عامر ليخلصه من غالب الناصري، فلما تم له ذلك دس عليه معناً التجيبي في طائفة من أصحابه، فقتلوه غيلة وذلك ليلة الأحد الثالث من شهر شعبان سنة 372هـ. انظر: أبو علي الجوذري، سيرة الأستاذ جوذر، (تقديم وتعليق: د. محمد كامل حسين، د. محمد عبد الهادي شعيرة، القاهرة، دار الفكر العربي، 1374هـ /1954م) ص175. المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي،، ص32-57، 59-61، 70، 82، 94، 119 ... البيان المغرب 2/279-281. مفاخر البربر 6-8،18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الاحتفال، وأصدر بذلك كتاباً في يوم الاثنين الرابع من شهر ذي القعدة سنة 360هـ1 (30 أغسطس 971) ثم أرسل في يوم الثلاثاء الثاني عشر من ذي القعدة، صاحب السكة والمواريث وقاضي اشبيلية محمد بن أبي عامر بأربعة من عتاق الخيل وبغل أشهب مزينة بسروج الخلافة ولجمها هبة لجعفر، بالإضافة إلى خمسين فرساً ومائتا زاملة لأصحابه وأثقاله، وكذلك المظال الجليلة والأبنية الفسيحة والقباب المتوسطة والأخبية وعدة أحمال من الوطاء النفيس والغطاء السري والعماريات والهوادج الفاخرة لأجل عيال جعفر، فالتقى به ابن أبي عامر يوم الأحد لأربع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة على أربعة أميال من مالقة، فرحب به وسلم إليه جميع ما أرسله إليه الخليفة، ووجد عنده بسيل وعبد الحميد أبنا أحمد بن عبد الحميد بن بسيل2 عاملي كورة ريه، فقد لزماه لتلبية ما يحتاجه، ثم سار الجميع حتى إذا بلغوا قرية "أقوه ماره" يوم الجمعة الثالث والعشرين من ذي القعدة، التقى بهم غلام مرسل من الخليفة معه ستة أفراس من عراب الخيل بسرج الخلافة، ولجمها هدية لجعفر بن علي،   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 41. 2- بيت بني بسيل من أكبر بيوتات الموالي الأمويين من أهل الشام في الأندلس، وقد كان أول من دخلها منهم عبد السلام بن بسيل الرومي المعروف بالشيخ، وذلك أيام الأمير عبد الرحمن الداخل، مع ابنيه عبد الواحد ويحيى، فاستعمله الأمير الداخل في عدة كور ثم ولاه الوزارة، ومنذ ذلك الوقت تأصلت الخطط في بني بسيل. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، تعليق: رقم 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الذي واصل سيره حتى نزل مع أخيه يحيى ومن معهما من بني خزر في فحص السرادق1 شرقي قرطبة، وذلك يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة، فعدل بعيال جعفر ويحيى إلى المدينة حيث دخلوا قرطبة في الليل بصحبة ثقات الرجال، وفق أوامر الخليفة، وتم اختيار الدار المنسوبة ليوسف بن سليمان المعروف بابن البياني سكناً لعيال جعفر، كما أمر الخليفة بابتياع الدار المنسوبة إلى قاسم بن يعيش من ورثته لتكون منزلاً لعيال يحيى بن علي، فتم ذلك في نفس الليلة، وفي غداة يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي القعدة ذهب صاحب الشرطة العليا ومعه طبقات الجند والوفود والحرس في تعبئة كاملة إلى فحص السرادق، حيث اصطحب الزعيمين جعفر ويحيى إلى منية ابن عبد العزيز لتكون منزلاً لهما، فسار الجميع في موكب امتد من محلة فحص السرادق إلى باب المنية، فنزلها الزعيمان، ومكثا فيها بأرغد عيش2، ولما حان موعد استقبال الخليفة لهما، أقيم احتفال بهي، حرص الخليفة فيه على إظهار كل ما لديه من قوة مادية وعسكرية، فأمر بجمع شباب قرطبة وتوزيع التراس والحراب عليهم من خزانة السلاح ليكونوا في موكب إلى الزهراء، كما تم ترتيب الكتائب   1- فحص السرادق: يقع بالطرف الشرقي من قرطبة، وكان في أول الأمر قصراً ريفياً لتنزه الأمراء الأمويين، ومن المرجح أن يكون هذا الفحص قد تحول في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر إلى مكان لوضع سرادق الخليفة عند استعراض الجيوش قبل خروجها للغزو. انظر: قرطبة حاضرة الخلافة، 1/210، ومصادره. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 41-46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وتنظيم العساكر، ثم انطلق صاحب الشرطة العليا في الجيوش من قصر الزهراء إلى منية ابن عبد العزيز لاصطحاب جعفر ويحيى، فلما وصل إلى المنية، وجدهما على أهبة الاستعداد، فركبوا ومعهم أكابر رجالات الدولة الأموية "فساروا من باب المنية بين صفين مصطفين من رجالة الأرباض بقرطبة المسلحين من عند السلطان، انتهت عدتهم في التحصيل ستة عشر ألف راجل عم جميعهم بالتراس والرماح، ثم انتقلوا بين مراتب الفرسان المدرعين الذين كُلف أهل الخدمة صقالبة القصر إركابهم من عندهم في الأسلحة الشاكة، وكانوا عدة وافرة1 ثم تقدموا بين صفوف فرسان الطنجيين المدرعين، ثم نهضوا بين ترتيب فرسان الخمسيين، وعبيد الدرق، والعبيد الرماة، وعلى جميعهم الدروع السابغة، والبيض اللامعة، ثم اشتقوا بين صفي فرسان العبيد الرماة الخاصة لابسي الأقبية البيض متقلنسي المقاريف2 الوبر متنكبي قسيهم وكنانهم الزغرية3، ثم نفذوا بين الفرسان المدرعين حاملي القنوات الناصلة وكانت عدتها مائة قناة، ثم صاروا بين سماطي أصحاب الجواشن ثم أفضوا إلى صفي الفرسان أصحاب التجافيف، وكانت عدتهم مائتي تجفاف، ثم انتقلوا إلى تعبئة أصحاب العدة الرائقة من البنود الغريبة الأنواع والصفات والتماثيل الرائعات: من الأسود الفاغرة والنمور الجائشة والعقبان الكاسرة والثعابين المضطربة،   1- المصدر السابق، ص47-48. 2- المشهور "اقاريف" جمع أقارف وهو لباس للرأس مخروطي الشكل. 3- الزغرية منسوبة إلى زغر بالشام وكنائنها تعمل من أدم حمر وتطلى بالذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وكانت عدتها مائة صورة، ثم ولجوا بين صفي الجنائب خيول أمير المؤمنين المقربة مكسوة بسروج الخلافة ولجمها: المحرقة1 والمعرقة، وكانت عدتها مائة فرس انتهى موقفها في هذا الترتيب إلى باب الصورة القبلي من أبواب مدينة الزهراء، ثم ولجوا باب المدينة بين صفين مرتبين من فرسان العبيد والعرفاء المدرعين، ثم نهضوا بين صفين من رجالة المسددين والرماة المختلطين الرامين بنوعي القياس2 من الأحرار والعبيد ومن ضُمَّ إليهم من أصحاب الصناعات، وقد لبسوا الثياب الملونة من الإفرند وغيره، على عواتقهم القسي العربية؛ وكان صاحب المدينة بالزهراء محمد بن أفلح قد استوى على كرسيها قاعداً يرتب ما يلزمه ترتيبه، إلى أن دخل القائد صاحب الشرطة إلى القصر، ودخل بدخوله الرسل النافذون إلى جعفر ومن معه لأول عبورهم: محمد بن أبي عامر وابن ناجيت وابن عبد الملك وأبنا بسيل ومعهم جعفر ويحيى بنو خزر وكان في فصلان3 باب السدة جراً إلى دويرات البرطلات4: الدولتان5 من البوابين والعبيديين والغلمان والوكلاء بدار الخيل وغيرهم من طبقاتهم قعوداً في المصاطب على اتصالهم في أحسن زيهم، متقلدي السيوف الحالية، متقلنسين بالقلانس الموشيَّة،   1- المحرقة: التي بردت برداً جيداً. 2- القياس: جمع قوس. 3- فصلان: جمع فصيل وهو الرحبة عند مدخل البيت. 4- البرطلات: جمع برطل أي المدخل. 5- الدولتان: الجماعتان أو الفئتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وأفضوا إلى دار الجند وقد ترتب فيها رجالة الرماة، لابسي أنواع الثياب الملونة، وعلى رؤوسهم المقاريف الدرية وقد تنكبوا القسي الكبار أشباه الحنايا، بأيديهم الطبرزينات والأجوزة والدماغات والأعمدة؛ فعندها تقدم صاحب الشرطة إلى موضع نزوله في المجلس القبلي بدار الوزراء مع أصحابه، وتأخر محمد بن أبي عامر وصحبه المتكنفون لجعفر وأخيه يحيى وبني خزر بجماعتهم عن مداه، فنزلوا عند باب السدة، وصاروا إلى مجالس الجند مع أصحابهم، وقد استوى جلوس الخليفة المستنصر بالله على السرير بالمجلس القبلي الموفي على الرياض المنيفة على السطح العلي؛ (وكان) قد تقدم بإنذار الإخوة فمن دونهم من طبقات أهل المملكة، بالحضور أحفل ماجرت به عادتهم، فأهطعوا لدعوته وتوصلوا على مراتبهم إلى محلة، فكان أول مأذون له منهم الإخوة الثلاثة، قعد منهم أبو الأصبغ عبد العزيز شقيقه عن يمينه، وتحته أبو المطرف المغيرة أصغرهم، وقعد عن يساره أبو القاسم الأصبغ، ثم توصل الوزراء فقعدوا على مراتبهم بأثر الأخوة بعد فجوة، وقام الحاجب منهم عن ذات اليمين: جعفر بن عثمان وصاحب الحشم محمد بن قاسم بن طملس وَوَلِيَ محمد بن قاسم صاحب الخيل زياد بن أفلح؛ ثم توصل أصحاب الشرطة العليا والوسطى فقاموا حجاباً على منازلهم عن ذات اليمين أو اليسار، ثم أذن لأصحاب المخزول والخُزَّان والعُرَّاض وغيرهم من طبقات أهل الخدمة، ولمن أنذر من قريش والموالي والقضاة والفقهاء والعدول، فتوصل جميعهم ومثلوا قياماً على أقدامهم، وقام صفان من الكتَّاب والمقدمين والوصفاء الأكابر ومن دونهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 طبقات الخدم الخصيان من بين يدي آخر المجلس والمعُتَرض، في زيهم الجميل عليهم اللامات السابغة، والسيوف الحالية، والمرصعة بالجواهر الفاخرة، فكانوا من أبهى حلى المملكة، انتظم بصفَّي أكابرهم في طول السطح العلي من دونهم من الوصفاء وطبقات أهل الخدمة بالدار على سماطين، دارعين متقلدين بالسيوف الحالية وعلى رؤوسهم الطشنيات المفضضة المرقَّشة، متهيئين إلى المعُتَرض بين يدي مجلس الأمراء الغربي إلى باب الفصلان، واتصلوا صفين على انتظام الفصلان إلى فصيل الكتاب الذي يشرع بابه إلى دار الوزراء، وانتظمت التعبئة بعدهم إلى دار الوزراء من رجالة فرسان الرياض ومن متخيَّري عبيد الحاجب جعفر الهالك، عصبة رائقة المرأى، كاملة الشكة، على رؤوسهم البيضات المذهبة، بأيمانهم الحراب الواسعة العريضة على صنعة السيوف الإفرنجة الملونة العصيّ، المزينة بأنابيب الفضة، انتهت تعبئتهم إلى الفصيل المعروف بفصيل أبي العرَّاض، وانتظم في مصاطب تلك الفصلان الطوال بياضُ الكور المستدعون اليوم متزينين بأحسن الزينة اللائقة بهم. ولما استقر جعفر ويحيى أبنا علي وبنو خزر في البهو الأوسط من مجالس دار الجند وتهذبت التعبئة، خرج الفتيان الكتَّاب إليهم بالإذن في دخولهم، فتقدموا وتقدم بهم محمد بن أبي عامر وأصحابه المخُرَجون أولاً للمجيء بهم فنهضوا داخلين إلى أن صاروا في السطح العلي، ثم استنهضوا إلى المجلس الذي قعد فيه الخليفة، فلما أنهضوا إلى بابه قبلوا البساط مرة بعد أخرى، ثم تقدم بهم إلى السرير وناولهم الخليفة يده، فتقدمهم جعفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 بالتقديم والتسليم، ثم تلاه يحيى أخوه ثم قدم بنو خزر الأسن فالأسن، فقضوا ما عليهم من ذلك وأمرهم الخليفة بالقعود إكراماً لهم، وقُدِّم أصحابهم إثرهم الأسن فالأسن فقبلوا وسلموا، وشافه الخليفة جعفراً قبلهم فأوسع يسأله عما لديه وبسطه وفعل ذلك بأخيه يحيى وبني خزر أصحابهما، ونطق بتقبل نزعهم وتحقيق رجائهم واعتقاد مكافأتهم على محبتهم وصياغتهم ووعدهم بالإحسان إليهم والتشريف لهم، فأعلنوا الشكر واستهلوا بالدعاء وأكثروا من الثناء وحمدوا الله تعالى على مامنحهم له من تجديد إسلامهم وتأكيد إيمانهم، في قصدهم حرم أمير المؤمنين وإسنادهم إلى عز سلطانهم ونبذهم لدعوة الضلال وشيعة الكفار، واعتياضهم من ذلك بالسنة والجماعة والعز والطاعة، وغرب جعفر بن علي في غرابة الأدب مقامه ذلك عند مشافهة أمير المؤمنين له، إذ كان لا يرد الجواب إليه إلا بعد أن يستوي قائماً ويكلمه فيرد جوابه إلى أن انقضى المجلس، فاستُبدع ذلك من أدبه، وانطلقت الجماعة من المجلس عند انتهائه، فصاروا إلى مقعدهم الأول في مجلس الجند، ومحمد بن أبي عامر وصحبه الموكلون بهم لا يفارقونهم إلى أن ركب بهم صاحب الشرطة العليا القائد هشام بن محمد بحضرتهم لمنصرفهم، فركبوا معه وسار بهم مشيعاً لهم ومبلغاً إلى الوزراء الذين تقدم الأمر بإنزالهم فيها بقرطبة، وكان ركوبهم من الموضع الذي نزلوا فيه عند الأبهاء بدار الجند، وابن أبي عامر وصحبه لا يزايلونهم، فخرجوا من قصر الزهراء مع هشام بن محمد، والترتيب الذي جاؤوا فيه على هيئته، فبلغوا زعيمهم جعفر بن علي إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 دار يوسف بن علي بن سليمان التي أنزل فيها أهله وثقله، ونهضوا بأخيه يحيى إلى دار قاسم بن يعيش وانتهوا ببني خزر إلى دار إبراهيم الفتى الخليفة الموسومة بـ"النزل" فاغتدى يوم دخولهم إلى دار إبراهيم هذا، يوم الأحد، أحد الأيام العُقم التي طار خبرها بالأندلس في الحسن والزينة. ولما أن استقر جعفر ويحيى بداريهما اطمأنا فيهما، عهد أمير المؤمنين بإجراء ألف دينار دراهم على كل واحد منهما للشهر، ومن القمح لنفقتهما لكل شهر لكل واحد منهما سبعون مدياً توسعةً عليهما وإغداقاً في الأفضال عليهما وأجرى أيضاً على بني خزر من الدنانير والقمح والعلوفة مايفيض ولايغيض، ثم تضاعفت على الجماعة الجرايات وترددت الصلات، فأضحوا مغتبطين بما سنَّى لهم المقدار متغمسين في الحبرة"1. والاحتفالات التي كانت تجري عند استقبال الوفود، لا يقتصر إقامتها على حاضرة الخلافة، وإنما قد يكون معسكر الجيش مكاناً لإجراء مراسم الاستقبال، فقد أقام الخليفة عبد الرحمن الناصر حفل استقبال وهو في معسكر الجيش، للملكة طوطه عندما أرغمها على أن تفد إليه وتطأ بساطه وهو في المعسكر وذلك سنة 322هـ (934م) عند خروجه لتأديب المتحالفين ضده في الشمال من مسلمين ونصارى، فقد أذعنت الملكة لأوامر الخليفة، وجاءت إلى معسكره في محلة قلهرَّه ومعها وجوه رجالها وقوامسها وأساقفتها، فأمر الخليفة بتعبئة الجيوش وإقامة الترتيب   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 48-53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وإظهار العدة والزينة، فرأت الملكة ما أدهشها، فخضعت للخليفة في كلامها، وتذللت له في سؤالها، فأكرمها، وأحسن استقبالها، وأجابها إلى طلبها ووفق شروط اشترطها وتعهدت الملكة بالتزامها1. وقد ذكر ابن حيان أن آخر احتفال أقيم في الأندلس أيام الدولة الأموية، كان الحفل الذي أقامه الحاجب عبد الملك المظفر بن المنصور بن أبي عامر سنة 393هـ (1003م) بعد حملته على برشلونة وما حولها من ديار النصارى، إذ أنه بعد عودته إلى قرطبة مظفراً غانماً، وصل إليه رسول من صاحب برشلونة، فأعد "عبد الملك لوروده أكمل العدة من ترتيب الجنود، فكان يوم دخول ذلك الرسول بقرطبة آخر أيام الزينة، إذ انتقض الملك على أثره سريعاً ووقعت الفتنة"2. موكب الأمير أو الخليفة: اعتبر مؤرخو رسوم الدولة، أن كثرة ظهور السلطان للرعية، تنقص هيبته في قلوبهم، مما يكون دافعاً للجرأة عليه، والنيل منه إن أمكن، ولذا فقد قال الثعالبي3: "إن كثرة ظهور الملك عليه مجلبة لابتذال العيون إياه،   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 335-336. 2- الذخيرة، ق4 م1 ص 85. 3- أبو منصور عبد الملك بن محمد إسماعيل الثعالبي، عربي من سكان نيسابور، كان فراءاً يخيط جلود الثعالب فنسب إلى صناعته، اشتغل بالأدب والتاريخ، فنبغ فيهما، وصنف في ذلك كتباً كثيرة، وبعد أن تنقل بين مدن بخارى وهراة وغزنه، عاد إلى بلدته نيسابور حيث توفي فيها سنة 429هـ. انظر: الثعالبي، أداب الملوك، (تحقيق: د. جليل العطية، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط الأولى 1990م) ، مقدمة المحقق ص5-13 ومصادره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ومن حقه التصون عن ذلك، وبناء أموره وأحواله كلها على ما يزيد في هيبته، ويعود بعلو شأنه وجلالة سلطانه"1. وذكر المرادي2 أن على السلطان أن يكون احتجابه وظهوره بقدر، لئلا يتسبب احتجابه في إدخال القلق على النفوس بسبب طول غيبته، فتفسد الرعية، ويكثر الإرجاف ولا يكثر من الظهور للعامة لئلا تسقط هيبته من قلوبهم، وتمكن صاحب المقاصد السيئة من نيل مراده منه3. لأجل ذلك نجد أن الأمير عبد الرحمن الداخل كان في بداية عهده يكثر من الاختلاط بالناس، ويمشي بينهم ويصلي فيهم، ويحضر الجنائز، ويعود المرضى، حتى إذا كان في أحد الأيام وهو منصرف من جنازة، تصدى له رجل عامي متظلم، فمسك عنان فرسه، وكلمه بكل جرأة،   1- أداب الملوك ص 105. 2- أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي المرادي كان رجلاً نبيهاً عالماً وإماماً في أصول الدين، ذا حظ وافر في الأدب والبلاغة، توفي بمدينة أزكد بصحراء المغرب وهو قاضي بها سنة 489هـ. انظر الصلة، ترجمة رقم 1326. 3- أبو بكر محمد بن الحسن المرادي، كتاب السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة (تحقيق: د. سامي النشار، المغرب، الدار البيضاء، دار الثقافة،1401هـ/1981م) ص 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 طالباً إنصافه، ويبدو أن الأمير قد أحس بسبب قلة حرسه ومرافقيه، بضعف موقفه أمام هذا المتظلم، ولذا فما كان منه إلا أن استدعى القاضي إليه وأنصف المتظلم، فلما عاد إلى قصره، كلمه بعض رجاله ممن كان يكره كثرة خروجه واختلاطه بالناس، فقال له: "إن هذا الخروج الكثير - أبقى الله تعالى الأمير – لا يجمل بالسلطان العزيز، وإن عيون العامة تخلق تجلته، ولا تؤمن بوادرهم عليه، فليس الناس كما عُهدوا1" ومنذ ذلك اليوم ترك الأمير عبد الرحمن الداخل شهود الجنائز وحضور المحافل، وأناب عنه ولده هشام للقيام بذلك2. وبذلك وضع الأمير عبد الرحمن الداخل، لكل من أتى بعده، من أمراء وخلفاء بني أمية رسماً تمسكوا به، وهو عدم الظهور للعامة إلا في مناسبات معينة، فإذا خرج أحدهم، لا يكون ذلك إلا في موكب مهيب، يصعب الاقتراب منه البتة. ولنا أن نتصور عظم ذلك الموكب، إذ عرفنا أن زرياباً3 مغني الأمير عبد الرحمن الأوسط كان يسير في موكب فيه مائة   1- نفح الطيب 3/37. 2- المصدر السابق 3/37. 3- أبو الحسن علي بن نافع، اختلف في السبب الذي من أجله أطلق عليه لقب زرياب، كان فصيح اللسان واسع الإلمام بصنعة الغناء والموسيقى، عاش في كنف الأمير عبد الرحمن الأوسط مكرماً معززاً إلى أن توفي قريباً من سنة 230هـ بعد أن ترك أثاراً واضحة في المجتمع الأندلسي بالذات في الحياة الإجتماعية. انظر: العقد الفريد، 6/34 نفح الطيب، 3/ 122، 124، 125، 130، 140-142. جول رووانيت، تاريخ الموسيقى العربية (ترجمة: اسكندر شلقون، المعهد الموسيقي الفرنس، د. ت) . 1/133-137. د. محمود حنفي، زرياب موسيقار الأندلس، (الدار المصرية للتأليف والترجمة، د. ت.) ص9-10، 45، 87، 90، 108-110. د. عبد الرحمن الحجي، تاريخ الموسيقى الأندلسية، (بيروت، دار الرشاد 1389هـ/1969م) ص25-27، 36.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 غلام1، بينما كان الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي أيام كان متقلداً خطط الدولة، في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله وأوائل عهد ابنه الخليفة هشام المؤيد بالله، يسير من قصره إلى قصر الخلافة في موكب ضخم لا يمكن لأحد الاقتراب منه، جاعلاً على طرفي الموكب بعض الكتَّاب لأخذ الشكاوى من الناس الذي كانت تزدحم بهم السكك وأفواه الطرق وهم يدعون له ويسعون بين يديه2، فإذا كان هذا موكب مغني وحاجب، فكيف يكون إذاً موكب الأمير أو الخليفة؟. ومما يؤسف له، أن المصادر لم تهتم بذكر رسوم مواكب الأمراء كما اهتمت بذكر مواكب الخلفاء، لكي يساعدنا ذلك على معرفة التطور الذي طرأ عليها، ولكن هذا لا يمنع من القول بأن المواكب في عهد   1- أبو الفضل أحمد بن طاهر، المعروف بابن طيفور، كتاب بغداد، (بعناية: محمد زاهد الكوثري، نشر: عزت العطار الحسيني، القاهرة، مكتب نشر الثقافة الإسلامية، 1368هـ/1949م) ص153. 2- مطمح الأنفس ص 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الخلافة كانت أكثر فخامة مما كانت عليه في عهد الإمارة، وذلك لعظم مكانة الدولة وقوتها. وقد وُصف موكب الأمير هشام الرضا: 172-180هـ (788ـ 796م) بالفخامة حتى أن الأصوات المنبعثة بسبب حركة الموكب، تحول دون سماع الأمير لمن يناديه من المتظلمين1. وذكر ابن حيان أن موكب الأمير محمد بن عبد الرحمن: 238-273هـ (852 - 886م) كان فخماً غليظ الحجاب، يحيط به حرس من الصقالبة لا يمكنون أحداً من الاقتراب منه2. ويبدو أن الأمر في فخامة المواكب، بلغ أوج عظمته، في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر: 300-350هـ (912- 961م) فقد كان عدد الذين يركبون لركوبه وينزلون حوالي اثني عشر ألف رجل بكامل زينتهم3. وقد كان الرسم يقتضي ترتيب احتفال بهي، عندما يظهر الخليفة للناس، إذ يتم تنظيمهم ليتلقوا الخليفة فوجاً بعد فوج كل في مرتبته، وفي نهاية الاحتفال يتبارى الشعراء في إلقاء قصائدهم التي يمدحون فيها الخليفة، ويذكرون فيها المناسبة التي دفعته إلى الظهور لهم.   1- انظر: أخبار مجموعة، ص 121. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 149. 3- نهاية الأرب: 23/398. ولكن كيف تتسع شوارع قرطبة لهذا العدد الضخم؟ إلا إذا كان المقصود أن هذا الموكب يصاحب الخليفة أثناء خروجه للنزهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وقد حدث أن أصيب الخليفة الحكم المستنصر بالله، بعلة ألمت به يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة 364هـ (ديسمبر سنة 974م) طاولته إلى نهاية شهر ربيع الآخر من العام نفسه1 واحتجب بسبب ذلك عن الظهور للعامة، فلما كان يوم السبت الحادي عشر من شهر رجب سنة 364هـ (28 مارس 975م) ظهر الخليفة في موكبه متحولاً عن الزهراء إلى قصر الخلافة بقرطبة حسب نصيحة الأطباء له، فجرى بهذه المناسبة احتفال فخم سار فيه الموكب وفق مراسم دقيقة، فقد ركب الخليفة ومعه ولده الأمير هشام ركوباً حافلاً، احتفل لمشاهدته كبار رجالات الدولة، فخرجا من الباب القبلي المسمى بباب الورد، وسبق هشام والده الخليفة في البروز للناس، فلما رآه الوزير الكاتب صاحب المدينة بقرطبة جعفر بن عثمان المصحفي ترجل له، وفعل مثله صاحب الخيل والمدينة بالزهراء زياد بن أفلح، وتبعهما كل من كان معهما من أصحاب الخطط وطبقات أهل الخدمة، مسلمين مبتهلين، وبعد ذلك برز الخليفة، فتقدموا إليه وقبلوا الأرض بين يديه، وسلموا ودعوا، وتتابع على ذلك سائر أهل الموكب من الأحرار والعبيد، وكان يحجب الخليفة ويحف به الفتيان الكبيران الأثيران فائق وجؤذر مع أصحابهما من الفتيان الخلفاء وأكابر الفتيان، فوقف الخليفة قليلاً متأملاً حسن ترتيب عبيده ومواليه، ثم سار بموكبه حتى وصل منية "أرحاء ناصح" فنزل بها   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 203-204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وبات فيها، وفي صباح الغد سار إلى منية الناعورة، وأقام بها إلى أن صلى الظهر، وقد نفذ العهد إلى الوزراء وأصحاب الشرطة وطبقات أهل الخدمة والحكام ورجال الدولة بالركوب إليه إلى قصر الناعورة فلما توافوا بها، خرج الخليفة مع ولده هشام يريد قصر قرطبة، وتولى حجابته جعفر بن عثمان وزياد بن أفلح وأصحاب الشرطة العليا مع أكابر الفتيان، وعندما رآه الوزراء وطبقات أهل الخدمة ترجلوا وسلموا عليه وعلى الأمير ولده، ثم ركبوا وترتبوا في الموكب حسب منازلهم، وسار الموكب، فلما وصل الخليفة قرب المصارة، تلقاه بها رجال من كبار قريش، ونفر من وجوه الموالي نزلوا ودعوا ومجدوا، ثم سار الخليفة إلى أن أتى السوق الكبرى بقرطبة، فتلقاه بها صاحب الشرطة والسوق أحمد بن نصر فسلم عليه، وتلقاه بعده بياض أهل قرطبة، ووجوه أهل السوق وغيرهم، مسلمين مبتهجين داعين، وسار الخليفة وأفواج القرطبيين تتلقاه فوجاً بعد فوج من الخاصة والعامة، إلى أن انتهى إلى قصر قرطبة فدخله من باب الجديد القبلي، واختتم الاحتفال بالشعراء الذي أنشدوا قصائدهم بين يدي الخليفة، يحمدون فيها الله تعالى على معافاته للخليفة، ويذكرون له سرورهم واغتباطهم بمشاهدته، ويصفون عظم موكبه وينالون مقابل ذلك الصلات الجزيلة منه1.   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 212-215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وعندما ظهر الإرجاف بقرطبة، لعدم ظهور الخليفة هشام المؤيد للناس - بسبب حجر المنصور بن أبي عامر عليه - أضطر المنصور إلى إبراز الخليفة، إذ أن الكثير منهم لم يره قط "فأبرزه للناس، وركب ركبته المشهورة، وقد برزوا له في خلق عظيم لا يحصيهم إلا من أحصى آجالهم، في بهجة ولبوس وهيئة، معمماً على الطويلة، سادلاً للذؤابة، والقضيب في يده، زي الخلافة، وإلى جانبه المنصور راكباً يسايره، وقدامه الحاجب عبد الملك راجلاً يمشي، ويسير الجيش أمامه، ومن المواكب وطوائف الجند والغلمان والفتيان القصريين والعامريين ما عجب من كثرتهم"1. وبعد اندلاع الفتنة سنة 399هـ (1009م) اختفت رسوم مواكب الخلفاء، وإن ظهرت فإن الناس لا يأبهون بها، بسبب افتقار تلك المواكب لكل مقومات الفخامة، حتى أن الخليفة الأموي الأخير هشام المعتد بالله: 418 - 422هـ (1028-1031م) عندما دخل قرطبة في شهر ذي الحجة سنة 420هـ (ديسمبر 1029م) كان "في زي تقتحمه العين وهناً وقلة وعدم رواء وبهجة وعدداً وعدة، فوق فرس دون مراكب الملوك بحلية مختصرة سادلاً سمل غفارة إلى ما تحتها من كسوة رثة، قدامه سبع جنائب من خيل الموالي العامريين صيروها معه للزينة دون علم ولا مطرد"2.   1- الذخيرة، ق4 م1 ص 73. 2- البيان المغرب، 3/147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 موكب الصلاة: كان الأمير عندما يذهب إلى الصلاة، يصطحب معه بعض رجاله، ومجموعة من الحرس والأعوان، الذي يحيطون به عند أدائه للصلاة، وبعد أن أنشئت المقصورة سنة 250هـ1 (864م) في المسجد الجامع بقرطبة، أصبح الحرس يقفون حولها، ولعل عددهم لم يعد كما كان سابقاً، خاصة بعد إنشاء الأمير عبد الله بن محمد: 275ـ 300هـ (888-912م) للساباط الموصل بين قصر الإمارة وجامع قرطبة2 لأن من يسلك الساباط يصل المقصورة دون أن يراه أحد، وذلك من خلال باب يعرف "بباب الجامع، وهو باب قديم كان يدخل منه الخلفاء يوم الجمعة إلى المسجد الجامع"3. وقد ذكر ابن حيان أن الأمير محمد بن عبد الرحمن: 238-273هـ (852 - 886م) بعد أن أتم الزيادة التي أضافها إلى جامع قرطبة سنة 250هـ (864م) قام بزيارة له، للإطلاع على تلك الزيادة، فركب من قصره وبصحبته أكابر خدمه وخواص وزرائه ووجوه أهل إمارته، وهو   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، 220. البيان المغرب، 2/98. 2- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص36. 3- نفح الطيب، 1/465. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 راكب "على بغل مشرف القذال1، وعالي لبوسه طاق أبيض، فنزل ودخل من باب الصومعة الجوفي، وقد أمر بإغلاق أبواب الجامع، فلم يدخل معه غير فتيانه الأكابر وصاحب الصلاة، فنظر إلى البنيان ... وتقدم إلى المحراب فصلى فيه، ثم خرج فرجع إلى قصره"2. وكان الرسم يقتضي أن إذا خرج الأمير أو الخليفة لأداء صلاة الاستسقاء في المصلى مع الناس، أن يكون لباسه البياض3، وعلى رأسه أقرف وشي أغبر، والخشوع ظاهر عليه، ودموعه تسيل على لحيته، فإذا وصل إلى جانب المحراب جلس على يمين الإمام على غير فراش، فإذا قضيت الصلاة أمر بتفريق الأموال والصدقات على الفقراء والمساكين تقرباً إلى الله تعالى4. موكب الصيد والنزهة: اعتاد أمراء وخلفاء بني أمية، الخروج في رحلات للصيد والنزهة، وكان الرسم يقتضي حينئذ تقديم المطبخ بالمسير قبل الموكب5 إلى المكان   1- القذال: جمع مؤخر الرأس، وهم معقد العذار خلف الناصية. انظر: ابن جزي، كتاب الخيل، (تحقيق: وتقديم: محمد العري الخطابي، بيروت، دار الغرب الإسلامي 1406هـ /1986م) ص266. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 220. 3- البياض هو لباس الحزن عند الأندلسيين. 4- النباهي، ص 79. 5- البيان المغرب 3/68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 المعين لهذا الغرض، وذلك لكي يقوم أهل الخدمة بإعداد ما يلزم من وسائل الراحة، ويكون الموكب فخماً نبيلاً، يتبارى الشعراء في وصفه1، وعندما يجتاز الموكب القنطرة المقامة على الوادي الكبير، يكون صاحب المدينة قد منع الناس من عبورها، كما أنه يتولى إبعادهم عن المكان الذي سيتوجه إليه الموكب للصيد، ومن خالف ذلك، فإن صاحب المدينة يقبض عليه، ويلقي به في السجن، إلى حين عودة الموكب، ولا يستثنى أحد من هذا الإجراء، حتى وإن كان من أبناء الأسرة الأموية2. ومن الوسائل المفضلة في الصيد عند الأمويين، الصقور "البزاة" ولأجل هذا فقد اعتنوا فيها كثيراً، وخصصوا أراض شاسعة لتربيتها والعناية بها، مثل جزيرة يابسة3، والمناطق الجبلية في أشبونة4.   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 75. 2- البيان المغرب، 2/146. 3- جزيرة يابسة "أبيثا Ibiza" مشتق من اسمها الفينيقي ابيوسوس "Ebusuz" وهي كبرى جزر الصنوبر "Islas de Pinos" الواقعة غربي ميورقة، وهي جزيرة خصبة اشتهرت بالفواكه وأخشاب الصنوبر، بالإضافة إلى شهرتها في انتاج الملح، وجبالها من أفضل الأماكن لتربية فراخ البزاة الجيدة، وقد خرجت من أيدي المسلمين سنة633هـ. انظر: أثار البلاد وأخبار العباد، ص282. المغرب في حُلى المغرب 2/470. الروض المعطار، ص616. د. عصام سالم، جزر الأندلس المنسية (بيروت، دار العلم للملايين،1984) ، ص13،28-31. 4- اشبونه "Lisbonne" وتكتب لشبونة ولسبونة، تقع غربي باجه، اشتهرت بكثرة أشجارها، وبضروب الصيد في البر والبحر، وبزاتها الجبلية أطير البزاة وأعتقها، وهي= =عاصمة البرتغال حالياً، وتقع على ساحل المحيط الأطلسي عند مصب نهر التاجو. انظر: وصف الأندلس للرازي، ص 90. تعليق منتقى، ص22،291. آثار البلاد وأخبار العباد ص496-497. الروض المعطار ص 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ومن هذا الاهتمام تم إنشاء إدارة خاصة تتولى رعاية تلك الطيور، وقد عرف المسئول عن هذه الإدارة باسم "صاحب البيازة". وعادة لا تستغرق رحلة الصيد أكثر من نهار واحد1 إلا إذا كان المكان بعيداً عن قرطبة، فقد كان الأمير محمد بن عبد الرحمن، يصل في رحلاته للصيد حتى جزيرة قادس2. وهناك عدة أماكن، اشتهرت في زمن الأمويين بأنها أماكن نزهة لأمرائهم وخلفائهم، من هذه الأماكن،   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 57. 2- المصدر السابق، تحقيق: د. محمود مكي ص 277. وجزيرة قادس تقع في الطرف الجنوبي الغربي من شبه جزيرة إيبريا، وهي تتبع كورة شذونه، ويبلغ طولها نحو 12 ميلاً، وعرضها ميلاً واحدا. وهي على شكل مثلث ذات موقع استراتيجي، غنية بغاباتها ومزارعها، فتربتها رملية سهلة، وفيرة المياه العذبة، بها بعض الآثار الإسلامية وقد سقطت بأيدي النصارى سنة 658هـ، وأصبحت قاعدة بحرية لهم، ومركزاً لمهاجمة الأراضي الإسلامية. انظر: د. سحر عبد العزيز سالم، مدينة قادس ودورها في التاريخ السياسي والحضاري (الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة 1990م) ص 31-143 والمصادر والمراجع الواردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الرصافة1، وقصر الدمشق2، والمنية المصحفية3، وفحص السرادق4، ومنية الجنة بشرق قرطبة5، ومنية الناعورة6، ومنية نصر الخصي7، وقصر قرقريط8، وقصر أرحي   1- الرصافة منتزه يقع شمال قرطبة ناحية الغرب، وحسب قول ابن سعيد فإنها من بناء الأمير عبد الرحمن الداخل، لكن ابن حيان ذكر أن الذي اختطها أحد رحال البربر يدعى رزين البرنس، الذي دخل الأندلس مع طارق بن زياد، وأن الأمير عبد الرحمن الداخل اشتراها من ورثة رزين، فحسنها، واتخذ بها قصراً حسناً، ونقل إليه غرائب الغروس وأكارم الشجر، وأطلق عليها اسم الرصافة تذكراً منه لرصافة جده هشام بن عبد الملك، وقد اندثر مكانها في الوقت الحالي، وأقيم فيه فندق سياحي فخم يعرف باسم: الرصافة. انظر: المقتبس تحقيق: د. محمود مكي ص 227، 234، والتعليق: رقم 405.نفح الطيب 1/466-467. 2- قلائد العقيان، ص 84. 3- نسبة للحاجب جعفر المصفي. انظر: نفح الطيب، 1/471. 4- المصدر السابق 1/475. 5- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 41. 6- هذه المنية من بناء الأمير عبد الله بن محمد، تقع على شط الوادي الكبير أسفل قرطبة متصلة بمصلى فحص المصارة العتيق، اشتراها الأمير عبد الله سنة 253هـ من خليل البيطار فاعتنى بها، وبعد وفاته انتقلت ملكيتها لحفيده عبد الرحمن الناصر. انظر: المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 38. 7- تقع هذه المنية على شط الوادي الكبير، بعدوة الربض إلى جانب مقبرة الربض العتيقة، وهذه المنية كانت لنصر الخصي كبير رجال دولة الأمير عبد الرحمن الأوسط. انظر: المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 38-39. 8- المصدر السابق تحقيق: شالميتا، ص 483. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ناصح1، ومنية البنتلي الواقعة أيضاً شرقي مدينة قرطبة2. وكان الأمراء والخلفاء يرتادون هذه المنتزهات عادة في وقت الحر والربيع، لأجل الفرجة والاستمتاع بالمناظر الطبيعية، فإذا حل الخريف ذهبوا إلى اشبيلية وشواطئها3، وأما في الشتاء فربما انتقل الخلفاء من الزهراء إلى قرطبة4. وقد كان الشعراء يتبارون في وصف المنية التي يبنيها الأمير أو الخليفة لنزهته5، وأما موكب النزهة، فلم يكن يختلف عن موكب الصيد، فبعد أن يتم تقديم المطبخ، كان الأمير أو الخليفة يظهر للناس بكامل زينته، والأعلام تخفق حوله، ورجاله المقربين بين يديه، والحرس قد أحاطوا به، ويخترق الموكب الشوارع، وسط هتافات الجماهير المصطفة على الجانبين، حتى يمضي إلى سبيله. وقد جرت العادة أن الخليفة هشام المؤيد، كان يخرج مستخفياً، والحاجب العامري أمامه، بعد أن يكون قد أمر الجيش بطرد الناس عن   1- البيان المغرب، 3/40. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 57. 3- قضاة قرطبة، ص 49. 4- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 211-213. 5- المصدر السابق، تحقيق: أنطونيه ص 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 طريق مرور موكب الخليفة، الذي يكون مع أهله وجواريه، لابساً للبرنس كما يفعل الجواري فلا يعرف منهن1. موكب الحرب: عند الإعلان عن خروج الجيش للغزو، يظهر موكب الحرب للناس، فإذا تجمع الجند في المكان المخصص، برز إليهم الأمير أو الخليفة، فيتفقد الجيش ويشرف على مدى استعداد أفراده، ويكون لابساً درعه، متلثماً، متقلداً سيفه، ممتطياً جواداً عتيقاً، وقواده قد حفوا به، والأعلام والرايات تخفق فوق رأسه2، فإذا لم يتمكن من قيادة الجيش بنفسه، اكتفى بالجلوس على السطح فوق باب السدة، فإذا مر الجيش أمامه، رفع كفيه إلى السماء يدعو الله تعالى، أن يمنح الجيش التوفيق، ويستمر رافعاً يديه بالدعاء حتى يغيب الجيش عن بيوت قرطبة، وبجانبه ولي عهده يفعل مثل فعله3. وعندما يعود الأمير أو الخليفة من الغزو، يخرج أهل قرطبة وعلماؤهم ووجهاؤهم لتلقيه والسلام عليه، وتهنئته بالنصر، فإذا دخل القصر جلس من الغد لاستقبال المهنئين، فيكون أكابر القرشيين من أبناء البيت الأموي هم أول الداخلين عليه، يليهم القضاة والحكام والفقهاء وأهل العدل، ويتقدم من بعدهم وجوه أهل الأرباض والأسواق من أهل   1- البيان المغرب 3/40. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 333-334. 3- المصدر السابق، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 قرطبة، وآخر من يدخل عليه الشعراء والأدباء مرتبين حسب تسلسل أسماؤهم في السجل الخاص بهم1، لإنشاد قصائدهم التي نظموها في هذه المناسبة2. المجالس الخاصة: رغم الرسوم الدقيقة التي كان الأمير أو الخليفة الأموي يحرص على السير وفقها أثناء المناسبات، ليبرز للناس وهو بكامل هيبته ووقاره، إلا أن المجالس الخاصة، كانت تظهره بمظهر البساطة والتواضع، إذ أنه من خلالها يتخلى عن كافة الضوابط الرسمية، التي لا تمكنه من العيش على سجيته. وفي بداية الحديث عن المجالس الخاصة، لابد من القول بأن أمراء وخلفاء بني أمية منذ عهد الأمير عبد الرحمن الداخل إلى الخليفة الحكم المستنصر بالله كانوا لا يشربون الخمر ويتحامونها، ولا يشربون في تلك المجالس إلا شراب العسل، الذي يعد على نار الزرجون3، باستثناء عبد الرحمن الناصر، الذي كان يشرب في المنادمة، لكنه في النهاية ترك ذلك كله، وقطع المنادمة وتزهد4. وهذه المجالس لا يحضرها إلا الخواص فقط، من الوزراء ورجال القصر، والندماء والمغنين.   1- جذوة المقتبس، ترجمة: رقم 186، 539، 613. 2- البيان المغرب 3/9. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص277. والزرجون هو حطب شجرة الكرم. 4- المغرب في حُلى المغرب، ص 1/184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وهناك آداب لتلك المجالس، يجب على من حضرها الالتزام بها، فلا يغتاب أحداً في المجلس1، ولا ينظر إلى غلام أو وجارية2، ولا يطلب من القينة التي تغني في المجلس إعادة القصيدة التي غنتها3، إذ أن ذلك مدعاة للشك في أن الهيبة لم تملأ قلبه، وهذا ما وقع به الشاعر الطبني، فقد ذكر ابن حيان أن أبا مضر محمد بن الحسين التميمي الطبني4، كان في مجلس خاص مع الحاجب المنصور بن أبي عامر، فشرب معه، وغنت القينة بيتين من شعر أبي مضر الطبني، "فاستعادها أبو مضر، فأنكر ذلك المنصور، وعلم أن هيبته لم تملأ قلبه، فأومأ إلى بعض خصيانه، فأخرج رأس الجارية   1- جذوة المقتبس، ترجمة رقم: 39. 2- الجاحظ، التاج في أخلاق الملوك، (تحقيق: أحمد زكي باشا، القاهرة، المطبعة الأميرية،1332هـ /1914م) ص66-67. 3- عن اهتمام الأمويين في الأندلس بصنعة الغناء. انظر: سالم الخلف، المرجع السابق، ص490-503 والمصادر والمراجع الواردة. 4- أبو مضر محمد بن الحسين التميمي الحماني الطبني الزابي، شاعر مكثر وأديب مفتن من بيت أدب وشعر وجلالة ورياسة، وأبو مضر هو أصل بني الطبني، أهل البيت الشهير بقرطبة، وقد ترك أولاداً بخباء مشهورون في الأدب والفضل. انظر: جذوة المقتبس، ترجمة رقم 50. المغرب في حُلى المغرب 1/206-207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 في طست، ووضعه بين يدي الطبني، وقال له المنصور: مرها فلتعد، فسُقط في يده"1. ورغم ما عُرف عن الخليفة عبد الرحمن الناصر من شدة وتأكيد دائم على إظهار الهيبة والتمسك بمراسم الدولة، إلا أنه كان في مجالسه الخاص متساهلاً متواضعاً مع جلسائه. فقد ذكر ابن حيان أن الخليفة عبد الرحمن الناصر، كان في مجلس خاص مع وزرائه، وكان من بين الحضور الوزير محمد بن سعيد المعروف بابن السليم، وفي هذه الجلسة أخذ الخليفة يعرّض بالوزير ابن السليم، مما أدخل الرعب في قلبه، خشية أن يبطش به الخليفة، ولذا فقد أفرط الوزير في الشراب من شدة الذعر، حتى اضطر إلى إفراغ ما في جوفه، فابتدره الوصفاء بالطست والمناديل، ولم يشعر الوزير إلا بالذي أمسك رأسه وهو يقول له: "استفرغ ما في معدتك، وتأن بنفسك" فأنكر الوزير كلامه من بين الخدم، فصرف رأسه إليه، وإذا به الخليفة، فما تمالك أن خر على قدميه يقبلهما، ويقول "يا ابن الخلائف، إلى هنا انتهيت من بري" وجعل يدعو له ويعظم شكره2.   1- المغرب في حلى المغرب 1/207، هذه هي شخصية المنصور، طغيان وتجبر، تهون عليها الدماء المحرمة في سبيل أطماعه، فهو لا يرى على وجه الأرض سواه، ثم إن مجلساً لا يحوي إلا قينة وشراباً، إذاً لا تستغرب النتيجة. 2- البيان المغرب، 2/225-226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 كذلك كان الخليفة عبد الرحمن الناصر كثيراً ما يمازح وزرائه، ففي أحد مجالسه الخاصة طلب من أبي القاسم لب، أن يهجو الوزير عبد الملك بن جهور، فقال: أخافه، فقال لابن جهور أهجه: فقال أخاف على عرضي منه، فقال: أهجوه أنا وأنت، ثم قال: لبٌّ أبو القاسم ذو لحية ... طويلة في طولها مي   ل فقال ابن جهور: وعرضها ميلان إن كُسِّرت ... والعقلُ مأفون ومدخولُ1 لو أنه احتاج إلى غسلها ... لم يكفه في غسلها النيلُ2 فقال الناصر للبِّ: اهجه فقد هجاك، فقال بديهاً: قال أمين الله في عصرن   ا ... لي لحية أزرى بها الطول وابن جهيرٍ قال قول الذي ... مأكوله القرضيل والفولُ لولا حيائي من إمام الهدى ... نخست بالمنخس شو ... ثم سكت، فقال الناصر: هات تمام البيت، فامتنع، فقال له: "قولو" يعني تمام البيت، فقال لب يا مولانا أنت هجوته، ففطن الناصر والحاضرون، وضحكوا، وأمر له بجائزة3. وأما الخليفة المستنصر بالله، فقد كان بعيداً كل البعد عن عقد المجالس التي يتم فيها الاستماع للقيان،   1- ورد "مخبول" لدى الأزدي، بدائع البدائه، (تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية 1970م) ص195. 2- البيان المغرب، 2/227. 3- انظر هذا الأبيات وشرحها في: بدائع البدائه، ص 195-196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 لما عُرف عنه من شدة التديّن، والاهتمام بمطالعة كتب العلم ومجالسة العلماء، لأنه فضل كل ذلك على كل لذة، ولكنه في مقابل ذلك كان يمازح رجال دولته في جلسات خاصة بهم1. ومازال خلفاء بني أمية يعقدون مثل هذه المجالس إلى أن زالت دولتهم2 والملاحظ أن تلك المجالس قد تكون فرصة للتخلص من بعض المناوئين، أو ممن يخشى جانبهم من رجال الدولة. فالحاجب المنصور بن أبي عامر عندما عزم على الفتك بجعفر بن علي بن حمدون أقام جلسة خاصة، أعلن أنها تكريماً لجعفر، وذلك ليلة الأحد لثلاث خلون من شعبان سنة 373هـ (يناير 984) وفي تلك الجلسة أمر المنصور الوصفاء والخدم أن يكثروا لجعفر من الشراب، فما زالوا به حتى ثقل من شدة السكر، فانصرف مع غلمانه، فخرج إليه معن وأصحابه، فلم يكن به امتناع فقتلوه3. وعندما أراد الحاجب عبد الملك المظفر بن المنصور الفتك بوزيره عيسى بن سعيد عقد مجلساً للشراب ليلة العاشر من ربيع الأول سنة 397هـ4 (4 ديسمبر 1006) واستدعى وزيره عيسى للمجلس وأمر   1- مطمح الأنفس، ص 255-257. 2- الذخيرة، ق3 م1 ص 524-525 البيان المغرب، 3/80، 99، 141، 149. 3- المصدر السابق، 2/280-281. 4- الذخيرة، ق1 م1 ص125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 السقاة أن يكثروا عليه، وبعدها عاتبه عبد الملك وسبه وأفحش عليه ثم ضربه بسيفه وأجهز عليه من حوله من رجاله1. ومن آداب المجالس الخاصة لأمراء وخلفاء بني أمية أن لا أحد ينصرف من المجلس إلا عندما تظهر علامة تدل على رغبة الأمير أو الخليفة بانصراف جلسائه. فمن ذلك مثلاً أن الخليفة عبد الرحمن الناصر كانت علامة رغبته في انصراف ندمائه أن يميل برأسه إلى حجره، أو ينشد:- مازلت أشربها والليل معتكر حتى أكب الكرى رأسي على قدحي2 ورغم كل ما عُرف عن الأمويين من تباسط مع الناس وحسن معاملة، والتقاء بالندماء وجهاً لوجهٍ، إلا أن الحموديين الذي استولوا على الخلافة الأموية بقرطبة، منذ سنة 407-414هـ (1016-1023م) كانوا يتعاظمون، ويقلدون بني العباس، فإذا حضرهم من يحتاج إلى كلام سواء كان شاعراً أو غيره، خاطب الخليفة الحمودي من وراء حجاب، والحاجب واقف عند الستر يجاوب ما يقول له الخليفة3. وعلاقة الأمير أو الخليفة الأموي برجال دولته، علاقة متميزة، فالوزراء وأهل الخدمة ملزمون بالاختلاف إلى القصر كل يوم ليطالعوه بما   1- المصدر السابق، ق1 م1 ص 125-127. 2- المغرب في حلى المغرب، 1/184. 3- نفح الطيب، 1/214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 استجد من الأمور، ويستمعوا لتوجيهاته، كما أنه إذا شفي من علة ألمت به، كان أول شيء يقوم به هو الجلوس لاستقبالهم1. وإذا أجرى الأمير أو الخليفة عملية فصد، تسابق الشعراء إلى إلقاء قصائدهم في هذه المناسبة، بين يديه، فالخليفة عبد الرحمن الناصر عندما أجرى أول فصاد له في الزهراء أنشد أبو عثمان عبيد الله بن يحيى بن إدريس2 قصيدته التي مطلعها: اليوم تعترف القصور بأسرها ... لهلالها ولشمسها ولبدرها إلى أن قال: فكأنما انفجر العبير بفصده ... فجرى على وجه البلاد بعطرها3 كما أن زوجاته يحاولن أن يقدمن له كل طريف بهذه المناسبة، ومن أطرف ما ورد في هذا، ما ذكره المقري من أن الخليفة عبد الرحمن الناصر عندما جلس للفصد، وأخذ الطبيب يجس يده، أقبل طائر زرزور فأخذ يردد بعض الكلمات التي تم تدريبه عليها، فسر الخليفة بذلك، وعندما   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص27. المصدر نفسه، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص203-204. 2- أبو عثمان عبيد الله بن يحيى بن إدريس قرطبي، كان متفننا في ضروب العلم، ثقة، شاعراً، جامعاً للسنن، حافظاً للغريب، متواضعاً شريفاً بنفسه وسلفه، تولى أحكام الشرطة ثم الوزارة، ورغم ذلك فقد كان يؤذن في مسجده وهو وزير توفي رحمه الله في انسلاخ ذي القعدة سنة 352هـ. انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 767. 3- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 44-45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 سأل عمن أرسل إليه هذا الزرزور علم أن زوجته مرجانة أم ولده الحكم هي التي صنعت هذا، فكافأها على هذا الصنع مكافأة سنية1. وهناك مناسبات خاصة يجلس فيها الأمير أو الخليفة الأموي لاستقبال كبار رجال دولته وحاشيته الخاصة، فمن أهم تلك المناسبات: جلوسه في العيد لتلقي التهاني، ولهذا الجلوس ترتيب خاص، فقد ذكر ابن حيان أنه في عيد الفطر من سنة 360هـ (28 يوليو 971م) "قعد الخليفة المستنصر بالله بعد انقضاء صلاة العيد، لتسليم الجند عليه، في محراب المجلس الشرقي من قصر الزهراء، المنيف على السطح العلي، والموفي على الروض البهي، قعوداً فخماً.. شهده طبقات الناس، فكان صدره الأخوة، وجنباته الوزراء وموسطته أهل المراتب من طبقات أهل الخدمة، وسائره لوجوه الموالي وبياض رجال قرطبة"2. وبمناسبة الحديث عن الأعياد فقد عرف الأندلسيون بالإضافة إلى عيدي الفطر والأضحى، عدة أيام اعتبروها أعيادا، وكانوا   1- نفح الطيب، 1/360-361. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص28-29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 يقيمون الاحتفالات بها، كاحتفالهم برأس السنة الميلادية الذي كن يقام في ليلة ين   اير1، ويوم العنصرة2،   1- ليلة يناير هي رأس السنة الميلادية، وقد اعتاد الأندلسيون الاستعداد لتلك الليلة كل على قدره، يتهادون فيها بينهم صنوف الأطعمة وأنواع التحف والطرف، وفي صبيحتها يترك الرجال والنساء أعمالهم، تعظيماً لذلك اليوم. ورأس السنة الميلادية يوافق اليوم= =السابع من ولادة عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، انظر: الونشريسي، المعيار المعرب، (بعناية: د. محمد حجي، بيروت دار الغرب الإسلامي، 1401هـ / 1981م) 11/150. Fernado Dela Granja, Del “Kitab Al-durr Al-Munazzam Flmawlid Al-Nabi Al-muazzam" De Al- azafi, AL- Andalus, Madrid- Granda, 1969, Vol, XXXIV,p.19-20. ومن عادتهم في هذا العيد شراء أنواع معينة من الفواكه كالأترج والجلوز وصنع تماثيل مختلفة من الحلوى، وإلى هذا تشير أمثالهم: "من ماع ترنخ، لينيرِّ يرفعها". انظر:- الزجالي، أمثال العوام في الأندلس 2/327، مثال رقم 1412. والاحتفال برأس السنة الميلادية هو المعروف بالمشرق باسم "النيروز" انظر: التاج في أخلاق الملوك، ص 146. 2- هذا العيد هو مايعرف بالمشرق باسم "المهرجان" وهو بداية دخول فصل الشتاء، انظر المصدر السابق، ص 146. وعيد العنصره "ANSARA" هو عيد سان أخوان "SANJUAN" الذي تحتفل به اسبانيا يوم 24 يونيو من كل عام. انظر د. أحمد مختار العبادي، الإسلام في أرض الأندلس، (المختار من عالم الفكر، العدد الأول، وزارة الأعلام، الكويت 1984م) ، ص141. وفي هذا اليوم يقوم المحتفلون فيه بالسباق على الخيل، وأما النساء فيقمن بإخراج ثيابهن للندا بالليل، كما يقمن برش بيوتهن في ذلك اليوم، ويتركن العمل، ويغتسلن بالماء، وهذا اليوم يوافق ميلاد النبي يحيى بن زكريا على نبينا وعليهما الصلاة والسلام. انظر: المعيار المعرب، 11/151-152 Fernado Dela Granja, Op Cit.p, 19-20. وقد اشتهر عيد المهرجان بالنار التي يتم إشعالها في الأحياء بحيث يجتمع صبيان كل حي حول نارهم ويتبارون في القفز فوقها، وقد جاء في أمثالهم: "الكبش المصوَّف مايكفز العنصره" و"كفزها بحل عنصَرَ". انظر: الزجالي، أمثال العوام في الأندلس، 2/85،267. المثالان رقم 373،1148. وفي عيد المهرجان يقول الوزير أبو عبدة حسان بن مالك بن أبي عبدة: أرى المهرجان قد استبشرا ... غداة بكى المزن واستعبرا إلى أن قال: تهادى به الناس ألطافه ... وسام المقل به المكثرا انظر: مطمح الأنفس، ص214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وليلة العجوز1، وخميس العهد2.   1- ليلة العجوز، هي احدى المناسبات الاجتماعية التي اعتاد بعض مسلمي الأندلس مشاركة النصارى الاحتفال بها. انظر Fernando De ALGranja, Op, Cit, P:25:. 2- خميس العهد هو الخميس الذي يسبق عيد الفصح لدى النصارى بثلاثة أيام. انظر: العبادي، المرجع السابق، ص141، وقد كان لفقهاء الأندلس موقف جاد من احتفال بعض مسلمي الأندلس بتلك الأيام. انظر: المعيار المغرب، 11/150-152. وعن تلك الأيام واحتفال الأندلسيين بها، انظر: الطرطوشي، كتاب الحوادث والبدع (تحقيق: د. محمد الطالبي، تونس، المطبعة الرسمية، 1959) ص140-141، قارن نفس المصدر، (تحقيق: عبد المجيد تركي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1410هـ/1990م) ص 300 حاشية رقم 6. ولقد كان المحقق الأخير على صواب فيما ذهب إليه، من أن الحديث عن تلك الأيام قد أقحم في النسخة التي اعتمد عليها الطالبي، ومما يؤيد ذلك أن نص الحديث عنها في نسخة الطالبي قد وقع بين قولين للإمام مالك رحمه الله تعالى، لا علاقة لهما البتة فيما أثبته المحقق. وعلى العموم فإن احتفال المسلمين بتلك الأيام المذكورة أمر مخالف للشرع، وهو من قبيل التقليد الأعمى للأخرين، ولاشك أن تمادي المسلم في هذا الأمر يذيب شخصيته التي ميزه الله تعالى بها، وهو على خطر من موالاة من حاد الله ورسوله، والتشبه بأعداء الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وهناك أعمال خيرية يعقد الخليفة المجلس لأجلها، فالخليفة الحكم المستنصر بالله، عندما أراد إعتاق بعض مماليكه وإمائه، عقد عقب شهر ربيع الآخر سنة 364هـ (ديسمبر 975م) مجلساً لهذا الشأن، أنفذ فيه "إعتاق جمع كثير من عبيد له وإماء تنيف عدتهم على مائة رقبة، انعقد لكثير منهم عتق بتل، وبعضهم عتق مؤجل، ولبعضهم تدبير1، خلص به جميعهم من الرق، عقدت الوثائق المحكمة العقد لجمعهم، فكان أول من أوقع شهادته فيها الأمير أبو الوليد هشام المرشح لولاية العهد، بخط يده، وتلاه أعمامه الأخوة، ثم الوزراء على مراتبهم، ثم قاضي الجماعة محمد ابن إسحاق2، ووليه الحكام والفقهاء وأهل الشورى ثم العدول"3.   1- عن العتق المؤجل وعتق التدبير، انظر: إبراهيم بن حسن بن عبد الرفيع، معين الحكام على القضايا والأحكام، تحقيق: د. محمد قاسم بن عياد، (بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط 1989م) ج2 ص840-841، 844-847. 2- أبو بكر محمد بن إسحاق بن منذر بن السليم، قرطبي، فقيه، عالم بالحديث، كان فصيحاً بليغاً، متواضعاً، ولي أحكام المظالم بقرطبة، وعندما توفي منذر بن سعيد البلوطي في شهر المحرم سنة 356هـ ولي ابن السليم قضاء الجماعة، وظل في منصبه إلى أن توفي يوم الخميس لسبع بقين من شهر جمادى الأولى سنة 367هـ. انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 1319. النباهي ص75-77. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وعندما أراد الخليفة تحبيس بعض الحوانيت من أجل تعليم أولاد الضعفاء، تم عقد المجلس، فقد ذكر ابن حيان أنه في صدر جمادى الأولى من سنة 364هـ (ديسمبر 975م) أنفذ الخليفة الحكم المستنصر بالله "تحبيس حوانيت السراجين بسوق قرطبة على المعلمين الذين كان قد اتخذهم لتعليم أولاد الضعفاء والمساكين بقرطبة، وأشهد القاضي محمد بن إسحاق في هذا التحبيس يوم الجمعة لسبع خلون منه، وجلت المنقبة، وورث الله به القرآن أمة لم يكن أباؤهم يعرضونهم لوراثته"1. واحتفل الخليفة المستنصر بالله بإسماع ولده هشام من الفقيه يحيى بن عبد الله بن يحيى الليثي2، فقد جرى ترتيب في هذا الشأن قال عنه ابن حيان:- "فلما تم مجلس السماع، وحان انقلاب الشيخ يحيى بن عبد الله نفذ عهد الخليفة بأن يكون ركوبه ونزوله في الفصيل المعروف بفصيل المسجد، تشريفاً وترفيهاً عنه، فجرى أمره على ذلك مدة احتفاله، وعاود   1- المصدر السابق ص 207. 2- أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن يحيى الليثي، فقيه قرطبي، كان قاضياً ببجانة وإلبيرة كما تولى أحكام الرد بقرطبة، سمع منه الكثير من طلاب العلم في الأندلس، توفي ليلة الثلاثاء بعد صلاة العشاء، ودفن يوم الثلاثاء بعد صلاة العصر، لثمان خلت من رجب سنة 367هـ. انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 1597. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الحضور يوم الأربعاء لأربع خلون من شعبان، فأسمع الأمير على رسومه بمشاهدة الوزير الكاتب جعفر بن عثمان، أثير الخليفة والده"1. وكان الخليفة الأموي لا يأنف من قبول هدايا رجال دولته، فالخليفة عبد الرحمن الناصر قبل هدية سنية من الوزير أحمد بن عبد الملك بن شهيد، وذلك لثمان خلون من شهر جمادى الأولى سنة 327هـ (مارس 939م2) . كما تلقى الخليفة الحكم المستنصر بالله هدايا كبار رجال دولته، ومن أعظم تلك الهدايا هدية الفتى الكبير دري الأصغر الخازن الصقلبي، فقد أهداه منيته الغراء بوادي الرمان المنسوبة إليه، بجميع ماكان له فيها داخلها وخارجها من البساتين المسقية والأراضين المزروعة، وما كان له فيها من عبد وأمة وثور ودابة، وذلك في النصف من شهر شهبان سنة 362هـ (مايو 973م) 3. والملاحظ أن الهدايا المقدمة من رجال الدولة لولاة الأمر، لا تعود بالمنفعة إلا على صاحب الهدية وحده، إذ أن ولي الأمر ينعم عليه بمناصب جديدة في الدولة فكأن القضية هي شراء مناصب لا أكثر، فالخليفة عبد الرحمن الناصر مثلاً بعد أن قدم له ابن شهيد هديته الشهيرة، أنعم عليه الخليفة بأن زاد من تقريبه واختصاصه، "وأسمى منزلته على سائر الوزراء   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 217. 2- عن تفاصيل الهدية انظر: نفح الطيب، 1/356-359. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص106-107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 جميعاً، وأضعف له رزق الوزارة، وبلغه ثمانين ألف دينار أندلسية، وبلغ مصروفه إلى ألف دينار، وثنى له العظمة لتثنيته له الرزق فسماه "ذو الوزارتين" لذلك أمر بتصدير فراشه في البيت وتقديم اسمه في دفتر الارتزاق لأول التسمية، فعظم مقداره في الدولة جداً"1. ومن هنا نرى أن المنفعة نالها الوزير فقط، فرزقه من الدولة تضاعف وأصبحت مرتبته مقدمة على الجميع، لأجل هذا، فقبول ولي الأمر لهدية أحد رجال دولته أمر فيه نظر. رسوم عامة لبني أمية: لدينا رسوم عدة عرفها الأمويون في الأندلس، وساروا عليها، فهناك رسوم خاصة بالأولاد، فقد كان الرسم يقضي بأن لا يسكن في القصر مع الأمير أو الخليفة إلا ولي العهد، أما بقية الأولاد فيتم إخراجهم من القصر إلى دورهم الخاصة بهم، فالأمير محمد بن عبد الرحمن عندما تولى الإمارة سنة 238هـ (852م) كان أول شيء اهتم به هو إخراج إخوته من القصر أسوة بإخوتهم الأكابر الذين خرجوا من القصر في حياة أبيهم، فقد ابتاع لهم الأمير محمد الدور الفخمة والضياع المغلة لهم بحسب مقاديرهم، ثم أخرجهم إليها بما يحتاجون إليه من العيال والإماء والعبيد والكراع والفرش والآلة والكسى والمراكب بالحلى الفخمة، فصير كلا منهم   1- نفح الطيب، 1/356. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 بأكمل الجهاز وأتم العدة في داره، وضم إليهم ضياعهم وأجرى عليهم الأرزاق السنية الهلالية1. وأما الخليفة عبد الرحمن الناصر، فقد أخرج أولاده إلى دورهم في شهر شوال سنة 331هـ (يوليو 943م) وكان آخرهم خروجاً أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمن الناصر، وأما المغيرة فقد خرج من القصر في آخر حياة أبيه لأنه كان أصغر إخوته، ولم يبق معه إلا ولده الحكم ولي عهده2. وطبيعي أن يهتم الأمويون بتربية أولادهم وتأديبهم وتثقيفهم، وهذا الأدب لا يقتصر على فترة الصغر، بل يمتد إلى فترة الرشد إن لزم الأمر، وهذا ما فعله الأمير عبد الرحمن الأوسط مع ابنه المنذر، الذي كان معروفاً بسوء الخلق في بداية شبابه، كثير الشك بمن حوله، معاقباً لمن يقدر عليه، مكثر التشكي لوالده لمن لا يقدر عليه، فلما أكثر على أبيه، أمر وكيلاً خاصاً به أن يبني بيتاً منفرداً في أحد الجبال، فلما كمل البناء، أمر ولده المنذر أن يسكن فيه، وأوصى الوكيل أن يمنع عنه الزيارة سواء من أصحابه أو أصحاب غيره، فلما ضجر المنذر من الوحدة، طلب من الوكيل بأن يأذن لمن كان يأنس به بزيارته، فأبلغه الوكيل بأن والده أمر أن لا يصل إليك أحد، لتبقى وحدك تستريح مما يرفع ضدك من وشايه، فعلم المنذر مراد والده، فكتب إليه يستعطفه، فلما وقف الأمير على رقعة   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 194-195. 2- المصدر السابق، تحقيق: شالميتا، ص16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ولده، علم أن الأدب قد بلغ به حقه، فاستدعاه وأخبره بما قصد إليه من إفراده بهذا السكن، ونصحه ووجهه، فقبَّل المنذر يده وانصرف، ولم يزل المنذر يأخذ نفسه بما أوصاه والده حتى تخلَّق بالخلق الجميل، وبلغ ماأوصاه به أبوه، ورفع قدره1. وهناك أوقات محددة يسمح فيها للأبناء بزيارة والدهم، يدل على ذلك أن الأمير عبد الرحمن الداخل عندما استأذن عليه ولده هشام بسبب قصة الكناني، انزعج، لأن الوقت لم يكن وقت زيارة2. والاحترام المتبادل بين أبناء البيت الأموي سمة بارزة في تاريخهم، فالأخ الأصغر يقبل يد أخيه الأكبر3، كما أنه لا يناديه إن كان أميراً أو خليفة إلا بلفظ مولاي، فقد ذكر الحميدي أن عبد العزيز بن عبد الرحمن الناصر وُلد له وَلد، فعاش إلى أن دخل الكتاب، فظهرت منه نجابة، فأول لوح كتبه، بعث به إلى أخيه المستنصر بالله، وكتب إليه بعدة أبيات من شعره، جاء في مطلعها قوله:- هاك يا مولاي خط   اً ... مطه في الل   وح مطا4   1- نفح الطيب، 3/575-577. 2- أخبار مجموعة، ص 121-124. نفح الطيب، 1/335-336. 3- ابن القوطية، ص116. 4- جذوة المقتبس، ترجمة رقم 648. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وكانت قصور بني أمية تشهد حفلات زواج، ولا توجد لدينا معلومات عنها، ولكن يمكن تكوين صورة عنها من خلال معرفتنا لما كان يجري في حفلات زواج العامة أو بعض وجهاء الدولة. فقد كانت الأسر الموسرة تتفاخر في تجهيز بناتها، حتى أن الأمر يكلف بعضهم ما لا يطيق، فقد روى ابن حيان عن أبيه أن محمد بن أفلح غلام الخليفة الحكم المستنصر بالله، اضطر عند تجهيزه لابنته إلى بيع لجام مُحلَّى ثقيل الوزن كان يستخدمه لزينته أيام المواكب1. وكانت حفلة الزواج تستمر أسبوعاً كاملاً2، يمر فيه موكب الزفاف في أحد شوارع قرطبة، ومع موكب الحفل جماعة من الملهين ومعهم أحد المشهورين بالزمر، يكون في وسط الحفل، وعلى رأسه قلنسوة وشي وعليه ثوب خز عبيدي وفرسه بالحلية المحلاة يمسكه غلامه3، وتقام الولائم في منزل والد العروس، ويصاحب ذلك سماع ضرب البوق أو ضرب الكير أو المزهر أو الطنبور أو العود، إلى جانب غناء المغنين والمغنيات والراقصات4.   1- الذخيرة، ق4 م1 ص 63. 2- د. محمد عبد الوهاب خلاف، قرطبة الإسلامية في القرن الحادي عشر الميلادي-الخامس الهجري- الحياة الاقتصادية والاجتماعية، (تونس الدار التونسية 1984) ص282. 3- جذوة المقتبس، ترجمة رقم 244. 4- قرطبة الإسلامية ص 284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 هذه صورة سريعة عن زواج بعض الأسر الموسرة في قرطبة، لعلها تعطي تصوراً عما كانت عليه حفلات زواج أمراء وخلفاء بني أمية أو أحد أولادهم، فلا شك أنها كانت على مستوى كبير يتناسب مع ما هم عليه من عزٍ وثراء، وقد ذكر ابن حيان أن أعظم حفلة عرس جرت في الأندلس، أقيمت بمناسبة زواج المنصور بن أبي عامر من أسماء بنت غالب بن عبد الرحمن الناصري سنة 367هـ1 (977م) . ومن الحفلات التي كانت تقام في قصور بني أمية، حفلة "العقيقة" عندما يرزق أحدهم بمولود، ففي هذه المناسبة تقام وليمة عظيمة يدعى إليها كبار رجالات الدولة ووجهاء البلد، وتكون الأفراح متصلة عدة أيام2 وأما عملية الختان فقد كانت تتم بصورة جماعية لأبناء الأمويين، فالخليفة عبد الرحمن الناصر أقام سنة 320هـ (932م) بقصره في قرطبة صنيعاً فخماً احتفل فيه لإعذار عدة من أولاده الأصاغر، أعد "فيه صنوف الأطعمة الرفيعة، والفواكه الغريبة، والطبوب المثمنة، وزانه بما أظهر فيه من الآلات السلطانية والأدوات البديعة وفاخر الآنية وبديع الزينة، ... فكان صنيعاً مشهوراً بقرطبة، عظُم شأنه، وكثر حمله، واعتلت عليه النفقة"3.   1- الذخيرة، ق4 م1 ص 65. 2- البيان المغرب، 3/31. 3- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 320-321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وفي بعض الأحيان يُختن مع أولادهم أولاد كبار رجالات الدولة، ومجموعة كبيرة من أولاد الضعفاء، ويقام احتفال كبير بهذه المناسبة، فالحاجب المنصور بن أبي عامر عندما ختن أولاده، ختن معهم من أولاد أهل دولته خمسمائة صبي، ومن أولاد الضعفاء عدد لا ينحصر، وأقام احتفالاً كبيراً بلغت فيه النفقة خمسمائة ألف دينار1. وفي مثل هذه المناسبات، يدعى كبار رجالات الدولة والفقهاء والمشاورون من العدول ووجهاء البلد لحضور الاحتفال، ومن تخلف عن الحضور تتم مساءلته. فالخليفة عبد الرحمن الناصر عندما أقام حفل ختان لأولاد ابنه عبيد الله، اتخذ لذلك صنيعاً عظيماً بقصر الزهراء، لم يتخلف عنه أحد من كبار المدعويين، إلا الفقيه العالم أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن مسرة2، فافتقد   1- نفح الطيب، 1/596. 2- أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن مسرة التجيبي، من موالي بني هلال ولد سنة 277هـ أصله من طليطلة، سكن قرطبة لطلب العلم، ثم استوطنها، كان خيراً فاضلاً ديناً ورعاً، مجتهداً عابداً، زاهداً وقوراً مهيباً، من أهل العلم والفهم والفضل، مشاوراً في الأحكام، صدراً في الفتيا، يناظر عليه في الفقه، كان رحمه الله صليباً في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد كان الخليفة الحكم المستنصر بالله معظماً لابن مسرة حتى أنه إذا دخل عليه مد رجليه أمامه ويعتذر بكبر سنه، فلا يعارضه الخليفة. توفي رحمه الله بطليطلة في رجب أو شعبان سنة 352هـ وهو غازٍ مع الخليفة الحكم المستنصر بالله. انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 235. ترتيب المدارك، 6/126-134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 الخليفة مكانه، فبعث إليه ولده الحكم بكتاب يسأله فيه عن سبب تخلفه، فأجابه بعذر قبله منه الخليفة1. وهناك رسوم خاصة بجنائز بني أمية، فالكفن والحنوط والطيب، يبعث بهما الأمير أو الخليفة لأهل المتوفى، وهذا ما فعله الأمير محمد بن عبد الرحمن عندما توفي عمه سعيد الخير بن الأمير الحكم الربضي، في صدر شهر ربيع الآخر سنة 240هـ (سبتمبر 854م) فقد أرسل الأمير محمد "بكفنه وحنوطه وطيبه من عنده، وعهد إلى بنيه وإخوته وأهل بيته ووزرائه وأهل خدمته بشهوده والمشي بين يدي نعشه"2. ثم طرأت عملية تضميخ النعش بالغالية، وهذا الرسم استُحدث أيضاً في عهد الأمير محمد فقد ذكر ابن حيان أن أبا القاسم الأصبغ بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط توفي وعمره تسع وعشرين سنة وشهر، وذلك في حياة أبيه، فلما اتخذ النعش للأصبغ، أدخل على أمه، وكان وحيدها، فأمرت بتضميخ نعشه بالغالية، فهي التي استحدثت هذا الرسم3، وأصبح معمولاً به إلى نهاية الدولة. ومن مات من أبناء البيت الأموي، تقدم للصلاة عليه أحدهم، فالأمير عبد الرحمن الداخل كان قد كلف ولده هشام بالصلاة على جنائز   1- ترتيب المدارك 6/133. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 91-93. 3- المصدر السابق ص213-214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 أهل القصر، كما أن الأمير عبد الرحمن الأوسط قد قدم ولده بشراً لهذه المهمة1. وقد درج أمراء وخلفاء بني أمية على الاحتفاظ بنفيس الأعلاق والجواهر في موضع خاص لا يهُتدى إليه، ويتم إثباتها في سجل خاص، ويتولى أحد الفتيان الأكابر الخلفاء، الإشراف على المكان والاحتفاظ بالسجل، ولا يعلم أحد سواه خبر تلك المدخرات. وقد ذكر ابن عذاري أن المهدي عندما استولى على قصر قرطبة سنة 399هـ (1009م) كان الفتى فاتن الكبير مريضاً، فلما حضرته الوفاة، كتب إلى المهدي يطلب منه الحضور لأمر ضروري، فلما جاءه المهدي "دفع إليه فاتن كتاباً فيه جميع ما تركه الخلفاء الأمويون، وذخائرهم مما لم يقف عليه ابن عبد الجبار ولا اهتدى إلى موضعه من بيوت الأموال، وغير ذلك من نفيس الأعلاق والجواهر والأمتعة العالية والآنية وما شبه ذلك فاحتوى ابن عبد الجبار على الجميع"2.   1- الحلة السيراء: 1/126. 2- البيان المغرب 3/76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الفصل الثاني: النظام الإداري والمالي المبحث الأول: النظام الإداري ... المبحث الأول: النظام الإداري عندما حكم القوط إسبانيا لم يضعوا لها تقسيماً إدارياً، فقد أخذوا بالتقسيم الروماني الذي وجدوه في البلاد عند دخولهم، فهو يقسم اسبانيا إلى قسمين إداريين كبيرين، يحكم كل منهما موظف كبير يلقب بروكنسل "Proconcul" أولاً، ثم لقب برايتور "Praetor" فيما بعد، وهذان القسمان هما: اسبانيا الدنيا "Hispania Citerior" واسبانيا القصوى "Hispania Ulterior" والتي انقسمت بدورها إلى ولايتي "بيطي Betica" و "لشدانية Lusitania" وذلك سنة 27 ق. م. ثم ظهرت ولاية إسبانيا الدنيا الجديدة الأنطونية "Hispania Nova Citerior Antoniana" وتضم إقليمي جليقية وأشتريش، بعد ذلك ظهرت ولايتا إسبانيا الطركونية "Hispania Tarraconensis" وإسبانيا القرطاجنية "Hispania Cartaginensis". وهذا التقسيم يصل بنا إلى تقسيم دقلديانوس الأخير الذي ينسب إلى قسطنطين، الذي يمقتضاه أصبحت اسبانيا ديوقنية "Diocesis" - أي عملا كبيرا بالمصطلح العربي - تابعة لمديرية الغالتين "Pracfectura Galliarum" داخلة في القسم الغربي من الدولة الرومانية، وبمقتضاه أصبحت اسبانيا تضم ست ولايات "Provinciae" وهي: باطقة ولشدانية، وجليقية، والولاية الطركونية، والولاية القرطاجنية، ثم أضفيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 إليها مرطانية الطنجية "Mauretania Tingitana" والجزائر الشرقية "Prpvincia Balearica"1. وقد أورد أبو عبيد البكري في جغرافيته نصاً أكثر تفصيلاً وأهمية للتقسيم الإداري أيام الرومان، بل أيام المسلمين، وهذا النص يقسم الأندلس إلى ست مناطق، جعل الجزء الأول من مدينة نربونه وهو حد مابين غاليوش وبين الأندلس، وأضاف إليها سبع مدن مما حواليها، وهي: بَطرِّش "Beziers" وطليوشة "Tolose" ومقلونة "Maguelonna" ونومشو "Nemauso" وقرقشونة "Carcassonne". وجعل الجزء الثاني: من مدينة براقرة "Bracara" وهو حوز جليقية وشلطانية "Saldana" وهو بلد ابن غُومِس. وجعل لها اثني عشر مدينة مما حواليها، منها: مدينة برطقال "بورتو Porto" ومدينة توذى "Tude" ومدينة أورية "Auria" ومدينة لكُّه "Lugo" ومدينة برطانية "Britonia" ومدينة اشترقة "Astorga" ومدينة شانت ياقو "Santiago" ومدينة إيرية "Iria" ومدينة بطقة ومدينة شارّة "Sarria". وجعل الجزء الثالث: من مدينة طَرَّكُونَة "Tarrgona"وأضاف إليها مدينة سرقسطة "Zaragoza" وأشقة "Huesca" ولاردة Lerida" وطرطوشة "Tortosa" وتطيلة "Tudela" وأعمال بلد ابن شانجو كلها وبلد بَلْيارش "Pallars" وبرشلونة "Barcelona" وجُرنُدة "Gerona"   1- انظر: د. حسين مؤنس، فجر الأندلس ص535-538. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ومدينة أَنْبُور [يش] "Ampurlas" ومدينة بنبلونة "Pamplona" ومدينة أُوقة "Oca" ومدينة قَلَهُرَّة "Calahorra" ومدينة طرَسَوُنة "Tarazona" ومدينة أماية "Amaya".وجعل الجزء الرابع: عشرين مدينة، قاعدتها مدينة طليطلة "Toledo"، وأضاف إليها مدينة أوريط "Oreto" ومدينة شَغُوبَية "Segovia"ومدينة أَرْكَبيقة "Ercavica" ومدينة وادي [الحجارة] "Guadalajara" ومدينة شِغُونْسَة "Siguenza" ومدينة أكشُمة "Oxuma" ومدينة بلنسية "Valencia" ومدينة بلازيا ومدينة أوريولة "Orihuela" ومدينة ألش "Elche" ومدينة شاطبة "Jativa" ومدينة دانية "Denia" ومدينة بياسة "Baeza" ومدينة قسطلونة "Gazlona" ومدينة منتيشه "Mentesa" ومدينة وادي آش "Guadix" ومدينة بسطة "Baza" ومدينة أرش "Urci" وهي بجانة "Pechina". وجعل الجزء الخامس: قاعدته مدينة ماردة "Merida"، وأضاف إليها اثنتي عشرة مدينة وهي: باجة "Beja"، ومدينة أكشونبة "Ocsonoba" [ومدينة صيوتلة؟] ويابرة "Evora" وشنترة "Cintra" وشنترين "Santarem"والأشبونة "Lisbona " وقلنبرية "Coimbra" وقورية "Coria" وشلمنقة "Salamanca"وصمورة "Zamora"، وهي محدثة بَرَا إلى شنت ياقوب "Santiago de Compostela." وجعل الجزء السادس: قاعدته مدينة إشبيلية "Seville"، وأضاف إليها لبلة "Niebla" وقرطبة "Cordoba" وقرمونة "Carmona" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 ومورو "Moron" ومرشانة "Marchena" والجزيرة "Algeciras" وتاكرنا "Takurunna" وريه "Rejio" وأشونة "Osuna" وإستجة "Ecija" وقبرة "Cabra" وأعمالها إلى بجانة "Pechina" وإلبيرة "Elvira" وجيان "Jaen" ومنتيتة "Mentesa" وباركتة "Bakartah" وأبدة "Ubeda"وبياسة "Baeza"1. وبناء على ما سبق فيمكن القول بكل اطمئنان بأن المسلمين قد وجدوا عند دخولهم شبه الجزيرة الأيبرية، تقسيماً إدارياً ثابتاً للبلاد، فساروا عليه، مع إجراء بعض التعديلات الشكلية التي اقتضتها الأحوال الجديدة، واستبدلوا ما وجدوا من التسميات والمصطلحات بما حملوه معهم من المشرق2، ومما يؤيد هذا الرأي هو ذلك الاتفاق العجيب بين المصادر الجغرافية الأندلسية عند حديثها عن التقسيم الإداري في الأندلس3. ومن الواضح أن هناك تشابهاً في الأسس التي سار عليها كل من الرومان والمسلمين في تقسيماتهم الإدارية، فقد كانت المدينة هي الأساس الذي قام عليه التنظيم الإداري الروماني، وكانت المدن هي المراكز التي اعتمد عليها المسلمون في الحكم والإدارة 4.   1- جغرافية الأندلس وأوربا، ص 59-64. 2- فجر الأندلس، ص 536. 3- المصدر السابق، ص 535. 4- نفسه ص 546. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ولقد كان الإتجاه الإداري في الأندلس يميل نحو الأقسام الإدارية الصغيرة تيسيراً لضبط الأمن وربط المال، واكتفى المسلمون بالكور، كل كورة تتبعها مدن وكل مدينة تتبعها أقاليمها أو زماماتها، وهذا النظام أدى بدوره إلى تبسيط السلم الإداري، فالإدارة المركزية يتبعها عمال الكور، وعمال الكور يتبعهم عمال المدن، وهم المسئولون عن زمامات المدن وأقاليمها، وجرت العادة أن يعين عامل المدينة عاملاً خاصاً بالمدينة نفسها يسمى صاحب المدينة1. وفي ظل المسلمين عرفت الأندلس نظام الأجناد أو الكور المجندة، وهو النظام الذي أخذه المسلمون عن البيزنطيين2، والمراد به ولايات عسكرية ينزلها جند، ويسميها العرب بند والجمع بنود، وهي تقابل الثغور ويحكمها قائد عسكري. ولم يعرف نظام الأجناد إلا في الشام، ومنها انتقل إلى الأندلس، وذلك على أيام أبي الخطار الكلبي3 سنة 125هـ (743م) مع اختلاف   1- نفسه ص 554-555. 2- عبد العزيز عبد الله السلومي، ديوان الجند، نشأته وتطوره في الدولة الإسلامية حتى عصر المأمون. (مكة المكرمة، مكتبة الطالب الجامعي، ط الأولى 1406هـ) ص328-336. 3- أبو الخطار الحسام بن ضرار بن سلامان الكلبي، دمشقي من خيار أهل الشام، شاعر فارس، ولي إمارة الأندلس سنة 125هـ، وعلى يديه خمدت فتنة كانت قد اندلعت بين المسلمين هناك، وهو الذي فرق العرب الشاميين على الكور، ورغم أن أبا الخطار كان موضع رضى الشاميين والبلديين، إلا أنه في سنة 128هـ انحرف في سياسته، فتعصب لليمانية، فآل به الأمر إلى الخلع والفرار إلى جهة باجة في غرب الأندلس، ثم حاول العودة لاستلام الإمارة، إلا أنه هُزم ومن معه في معركة عُرفت بأنها قاطعة الأرحام وقعت بشقندة، وتم القبض عليه، وقتل صبراً أواخر سنة 130هـ. انظر: ابن القوطية، ص 19-21. أخبار مجموعة، ص 45-46، 56-60. جذوة المقتبس، ترجمة رقم 402، الحلة السيراء، 1/61-66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 واحد أن الجند في الشام كان يضم كوراً كثيرة، أما في الأندلس فكان يقابل كورة واحدة1. وقد ذكر العذري أن الكورة أو المدينة في الأندلس قد قسمت إلى مدن أو نواح لكل منها حوز يسمى إقليماً، وإلى جانب الأقاليم أقسام إدارية أخرى تسمى الأجزاء، وهو يورد هذه الأجزاء بعد الأقاليم مباشرة2. وبذلك نرى أن المسلمين حين قسموا الأندلس تقسيماً إدارياً ساروا على ما وجدوه مع تكييفه على نحو يتفق مع ظروفهم في شبه جزيرة إيبيريا، دون أن يغيروا أساسه، فقد ظلت المدينة هي الأساس تتبعها الأرض، وحينما حولوا بعض المدن إلى كور ظلت المدينة أساس الكورة، ولم تكن الكورة هي الأساس تتبعها المدينة3.   1- فجر الأندلس، ص 555. 2- نصوص عن الأندلس، ص20. 3- فجر الأندلس ص 587. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 والمدينة في الأندلس تتبع المعنى الروماني، فهي نواة لإقليم أو أقاليم كل أهلها يعتبرون من أهل المدينة، وهي بذلك تختلف عن معناها في المشرق الذي تعتبر فيه المدينة عبارة عن مجموعة من الأبنية يحيط بها سور. وقد اقتضى الأمر اعتبار الكثير من مدن الجنوب في الأندلس وحدات مستقلة، فجعلوها كورا، ذلك لأن مركز الثقل في الأندلس كان في الجنوب، من أجل هذا صغرت مساحات الكور في الجنوب بينما اتسعت في الشرق والغرب، وأما في الوسط ونواحي الشمال فقد ظلت مدناً بالمعنى الروماني القديم، لها أحواز وفي أحوازها تقع مدناً أخرى ذات أحواز1. كما جرت العادة أن تسمى المدينة الرئيسة بالأم والجمع أمهات، والمدن الفرعية بالبنات، مفردها بنت، وقد تتحول الأم إلى بنت إذا زادت عليها في العمارة احدى بناتها، قال الحميري في كلامه عن طرسونه " .... ثم عادت طرسونة من بنات تطيلة عند تكاثر الناس بتطيلة، وإيثارهم إياها لفضل بقعتها واتساع خطتها"2. ومن غير الميسور الآن تقدير حوز كل كورة ومدينة، أو رسم خريطة دقيقة للأندلس وتقسيماتها الإدارية، لأن مالدينا من معلومات في المصادر الجغرافية التي وصلت إلينا لاتعين على ذلك3.   1- المرجع السابق ص 588. 2- الروض المعطار، ص 389. 3- فجر الأندلس، ص 590. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وقد ذهب بروفنسال إلى أنه من الممكن رسم صورة كاملة للتقسيم الإداري للأندلس بالاستعانة بكتب التاريخ، وهذا صحيح، ولكن مابين أيدينا من أصول تاريخ الأندلس مبتور من مواضع شتى كما هو الحال في جغرافية العذري1، وقد أحصى بروفنسال سبعاً وعشرون كورة غير الثغور، وهذه الكور هي قرطبة، فحص البلوط، قبرة، استجة، إشبيليه، قرمونة، لبله، اكشونبه (شلب) باجه، مورور، شذونه (قلسانه) الجزيرة الخضراء، تاكرنا، ريه، إلبيرة، جيان، بجانة، تدمير، شاطبة، بلنسية، طليطلة، طلبيرة، ماردة، بطليوس، شنترين، لشبونة، قلمرية2. وقد علق الدكتور حسين مؤنس على هذه القائمة بقوله: قد تكون هذه هي كور الأندلس في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) إلا أنه نظراً لعدم وقوفنا على إحصاء كامل لما في كتب التاريخ من معلومات، فإننا لا نستطيع مناقشة ما ذكره بروفنسال3. وإذا أتينا إلى تعريف الكورة، نجد ياقوت يعرفها بقوله "الكورة كل صقع يشتمل على عدة قرى، ولابد لتلك القرى من قصبة أو مدينة أو نهر يجمع اسمها ذلك اسم الكورة، كقولهم: دار بجرد، مدينة بفارس لها عمل واسع يسمى ذلك العمل بجملته كورة دار بجرد، ونحو نهر الملك، فإنه نهر   1- المصدر السابق، ص 590. 2- L.Prorencal OP. Cit. V,III,P: 49-51. 3- فجر الأندلس، ص591. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 عظيم مخرجه من الفرات ويصب في دجلة، عليه نحو ثلاثمائة قرية، ويقال لذلك جميعه نهر الملك"1. وإذا أتينا إلى الأندلس نجد أن التعريف الذي أدلى به ياقوت ينطبق على الكورة، إذ نجد أن لكل كورة عملاً واسعاً ولها قصبة أو حاضرة. فكورة إشبيلية - مثلا - تنسب إلى حاضرتها2، بينما نجد كوراً أخرى لاتنسب إلى حواضرها، فكورة شذونة حاضرتها مدينة شريش3، وكورة ريُّه حاضرتها أرشذونة4، وكورة مورور حاضرتها مدينة شَلْب5. وكل قسم إداري سواء كان مدينة أو كورة ينقسم إلى أقاليم، والإقليم عند أهل الأندلس هو "كل قرية كبيرة جامعة فإذا قال الأندلسي: أنا من إقليم كذا، فإنما يعني بلدة، أو رستاقا بعينه"6. فكورة إشبيلية يتبعها من الأقاليم: إقليم المدينة، إقليم ألية، إقليم السهل، إقليم الشعراء، إقليم البصل، إقليم طالقة، إقليم الشرف، إقليم الوادي، إقليم طشانة، إقليم الفحص، إقليم قرطشانة، إقليم المنستير7.   1- معجم البلدان، 1/36-37. 2- تعليق منتقى، ص292-293. 3- المصدر السابق ص294. 4- نفسه، ص 294. 5- نفسه ص 295. 6- معجم البلدان، 1/26. 7- جغرافية الأندلس وأوربا، ص 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وكل إقليم يكون متبوعاً بعدد كبير من القرى، فقرطبة كان يتبعها خمسة عشر إقليميا، إقليم المدور: عدد قراه تسعون قرية، إقليم القصب: عدد قراه سبعة وثمانون قرية، إقليم لوره: عدد قراه أربعة وستون قرية، إقليم الصدف: عدد قراه ثمانية وعشرون قرية، إقليم بني مسرة، عدد قراه سبع عشرة قرية، إقليم منيانة: عدد قراه ست وعشرون قرية، إقليم كرتش: عدد قراه ستون قرية، إقليم القتل: عدد قراه ثمان وأربعون قرية، إقليم الهزهاز: عدد قراه ثلاث وسبعون قرية، إقليم وابة الملاحة: عدد قراه أربعة وثمانون قرية، إقليم وابُه الشعراء: عدد قراه أربع وتسعون قرية، إقليم أولية السهلة: القرى مائة قرية وقريتان1. من هنا يتضح أن الأقاليم كانت محددة تحديداً دقيقاً لمعرفة مايترتب على كل منها من الناحية المالية، وعلى هذا فالإقليم كانت الدولة تنظر إليه على أنه وحدة مالية، كما أن أسماء معظم الأقاليم ليس عربياً، مما يدل على أن الإقليم بحدوده واسمه كان موجوداً قبلهم2. وهكذا يتضح مما مضى أن كل قسم إداري ينقسم إلى عدة أقاليم، وكل إقليم يكون متبوعاً بعدد من القرى، ويطلق على كل   1- نصوص عن الأندلس ص 124-127. 2- فجر الأندلس، ص583. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ما يدخل في حوز القسم الإداري اسم عمل1، أو حوز2، أو نظر3، أو ولاية4. خطة عمالة الكور: قبل وصول الأمير عبد الرحمن الداخل للأندلس، لم تورد المصادر الأندلسية أي ذكر لعمال الكور هناك، وإنما هناك زعامات قبلية تتولى السيطرة على مساحة شاسعة من الأراضي. لأجل هذا، نجد الأمير عبد الرحمن الداخل قد عمل جاهداً على إحلال سلطة الدولة مكان سلطة القبيلة، وبدأ بهذه الخطوة الهامة عقب انتصاره في معركة المصارة مباشرة، إذ لم ينكل بمعارضيه من القيسية، كما أنه منع أنصاره اليمانية من السلب والنهب5. وبعد أن استتب الأمر في الأندلس للأمير عبد الرحمن الداخل، عمد إلى تعيين الولاة على الكور، واختار في البداية الزعماء القبليين ليكونوا   1- الروض المعطار، ص115،469. 2- تعليق منتقى، ص284، 285، 286، 287، 290. 3- الروض المعطار، ص 350. 4- المصدر السابق، ص 469. 5- أخبار مجموعة، ص 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 ولاة في مناطق سيادتهم، فجعل أبا الصباح حي بن يحيى اليحصبي1 والياً على إشبيلية2، وسليمان بن يقظان3 على برشلونة4.   1- أبو الصباح حي بن يحيى اليحصبي، زعيم العرب اليمانية في إشبيلية فارس شجاع، لبى دعوة الأمير عبد الرحمن الداخل وبايعه، واشترك معه في معركة المصارة، ومن ثم تغيرت عليه نفس الأمير عبد الرحمن الداخل بسبب مؤامرة كان أبو الصباح يدبرها ضده. انظر: ابن القوطية، ص21-22، 25،30. أخبار مجموعة ص 105، 106، 107. الكامل في التاريخ، 5/123، 189. الحلة السيراء، 1/59-60. البيان المغرب، 2/52، 53. 2- أخبار مجموعه، ص105. 3- سليمان بن يقظان الكلبي أحد وجوه العرب في منطقة الثغر الأعلى، كان أحد الزعماء ذوي الطموح، أعلن تمرده ضد الأمير عبد الرحمن الداخل سنة 157هـ وهزم جيشه وأسر قائده سنة 158هـ ومن ثم تواطأ مع شارلمان، وأرسل إليه بخطة مع ثقاته، مقابل تسليمه بعض المواقع في شمالي إسبانيا، ورغم الحملة الكبيرة التي قادها شارلمان ضد الأندلس، إلا أنه هزم وسحقت مؤخرة جيشه، وعاد سليمان إلى سرقسطه بعد إنقاذه من أسر شارلمان، وأعلن التمرد مرة أخرى ضد الأمير عبد الرحمن الداخل، إلا أن الأخير دبر عملية اغتياله فتخلص منه وذلك سنة 164هـ. انظر: أخبار مجموعة، ص 110، 112، 113، 114. العذري، نصوص عن الأندلس، ص25،26. البيان المغرب 2/58. أرسلان، غزوات العرب، ص 117-120، 121. د. إبراهيم طرخان، المسلمون في أوربا، ص172، 173، 176، 177- 178، 183. كارلس ديفز، شارلمان، ص 100،102. السامرائي، الثغر الأعلى، ص 234. 4- أخبار مجموعه، ص 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ويبدو أن الأمير الداخل قد قام بهذه الخطوة، رغبة منه في استمالة القوى القبلية حتى يقوى أمره، ومن ثم يفرض رؤيته الخاصة عن نظام الحكم والإدارة، فهو رغم إدراكه لما كان قد أضمره له أبو الصباح بعد معركة المصارة1، إلا أنه ولاه اشبيلية إلى حين تأتي الفرصة المناسبة للقضاء عليه بهدوء، وهو ما حصل، فقد أصدر الأمير أمراً بعزل أبي الصباح عن منصبه إضعافاً لأنصاره الذين كثرت حركات تمردهم على إمارة قرطبة، ولأن أبا الصباح رفض تنفيذ الأمر، فقد أعلن عن عصيانه وتمرده، فأرسل له الأمير كتاب أمان استدرجه به إلى قصر قرطبة، وهناك قضى عليه وذلك سنة 149هـ2 (766م) ثم عزل جميع الزعماء القبيليين الذين لم يرق لهم الانصياع لنظام الحكم الجديد، وعين بدلاً منهم أمراء من البيت الأموي، أو الموالي أبناء البيوتات المساندة، فقد جعل حبيب بن عبد الملك3 والياً على طليلطة4، وعبد الملك بن عمر   1- المصدر السابق، ص 91. 2- نفسه ص 105-107. الحلة السيراء، 1/59-60. البيان المغرب، 2/53. 3- أبو سليمان حبيب بن عبد الملك بن عمر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، هو جد الحبيبيين الذين بقرطبة ورية، كانت له منزلة خاصة لدى الأمير عبد الرحمن الداخل لم تكن لأحد سواه، ولاه طليطلة وأعمالها، وكان دائم الاستشارة له، توفي حبيب في أيام الأمير عبد الرحمن الداخل، فشهد جنازته ومعه ستة من ولده. انظر: جمهرة أنساب العرب، ص 89-90. الحلة السيراء، 1/59-60. 4- الحلة السيراء 1/59-60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 بن مروان1 والياً على اشبيلية وولده عبد الله2 على مورور3، كما جعل عبد السلام بن بسيل مولى هشام بن عبد الملك على عدة كور4. ووجود والٍ أو عامل في كورة، الغرض منه القيام بإدارة هذه الكورة وتصريف شئونها الإدارية والعسكرية والمالية وغيرها، نيابة عن الأمير أو الخليفة، وتمثيله في جميع المناسبات التي تجري في تلك الكورة. ويمكن القول بأن تعيين العمال في الكور والثغور يخضع لاعتبارات خاصة، فلا يمكن اعتبار عمالة كورة داخلية مثل أهمية عمالة أحد الثغور   1- أبو مروان عبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم، قعيد الأمويين في وقته وفارسهم، دخل الأندلس سنة 140هـ ومعه عشرة من بنيه كل منهم فارس، وقد كان له الأثر الكبير في تثبيت حكم الأمير عبد الرحمن الداخل وبالذات في بداياته، ولذا فقد كافأة الأمير بأن استوزر بنيه، وزوج ابنته كنزه من ابنه هشام. انظر: جمهرة أنساب العرب، ص 107-108. الحلة السيراء، 1/56-57، أخبار مجموعة، ص 95-99. 2- عبد الله بن عبد الملك بن عمر، قدم مع أبيه من مصر، ودخل الأندلس سنة 140هـ، كان فارساً قاد الجيوش ضد يوسف الفهري وأبلى في حربه وقد قتل عبد الله على يد أبيه وذلك بسبب فراره من إحدى المعارك. انظر: الحلة السيراء، 1/56. 3- الحلة السيراء 1/56. مورور، تقع على سفح جبل يحمل نفس الاسم Sierra de Moron، كانت في بداية الأمر كورة قاعدتها تحمل نفس الاسم، إلا أن المعتمد بن عباد ضمها إلى اشبيلية سنة 438هـ ومنذ ذلك الحين أصبحت مورور وأقليمها من توابع اشبيلية، وقد سقطت مورور في يد فرناندو الثالث سنة 646هـ. وهي اليوم مركز إدري تسمى Moron. انظر: الحلة السيراء، 2/371، حاشية رقم (1) . 4- الحلة السيراء، 2/371. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 البرية أو البحرية، فقد حرص الأمويون على أن يكون ولاة الثغور من رجال الحرب، الذين يتميزون بالكفاية الإدارية والحربية، فالأمير عبد الرحمن الداخل على سبيل المثال أسند ولاية وشقة وطرطوشة وطرسونة لأحد نقباء دولته تمام بن عامر الثقفي1. الذي أظهر براعة فائقة في القدرة على مواجهة حركات التمرد والعصيان والقضاء عليها2. ونظراً لأهمية وجود الخبير بشئون البحر، نجد الأمويين يسندون أمر عمالة أو إدارة الثغور البحرية لرجال لهم الدراية الكافية في هذا المجال، فقد عمد الأمير عبد الرحمن الداخل إلى تولية الرماحس بن عبد العزيز3   1- الحلة السيراء 1/143. أبو غالب تمام بن علقمة الثقفي، دخل الأندلس في طالعة بلج بن بشر، وكان أبو غالب أحد النقباء القائمين بدولة الأمير عبد الرحمن الداخل، تقلب في المناصب الوزارية والولايات كما قاد الجيوش وعُمِّر طويلاً وتوفي في آخر دولة الأمير الحكم الربضي. انظر: الحلة السيراء 1/143. 2- البيان المغرب 2/53. 3- الرماحس بن عبد العزيز بن الرماحس بن الرُّسارس الكناني، كان على شرطة الخليفة الأموي مروان بن محمد، وبعد سقوط الدولة الأموية، هرب الرماحس إلى الأندلس، فولاه الأمير عبد الرحمن الداخل على الجزيرة، إلا أنه لم يلبث أن أعلن التمرد، فلم تمض مدة عشرة أيام على تمرده إلا والأمير عبد الرحمن على رأس قواته يهاجم الجزيرة، فلم يجد الرماحس بداً من أخذ أهله والهرب إلى سبته ومنها إلى المشرق، وذلك سنة 164هـ، انظر: جمهرة أنساب العرب، ص 189. أخبار مجموعة، ص 112. نصوص عن الأندلس، ص 117-118. إلا أنه جعل الحركة سنة 155هـ.البيان المغرب 2/56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ثغر الجزيرة الخضراء1، ويعتبر الرماحس باني مجد بيت بني الرماحس في الأندلس، وقد اشتهر أبناء هذه الأسرة فيما بعد بالمهارة الفائقة في قيادة الأساطيل الحربية الأندلسية، ولعل عبد الرحمن بن محمد بن رماحس كان أشهر أبناء أسرته في تاريخ الدولة الأموية2. ونجد في عصر الإمارة، أن العديد من أبناء البيت الأموي كانوا عمالاً للكور، وغالباً مايتم إسناد الولايات المهمة لهم، فبالإضافة إلى من تولوا العمالة من الأمويين في عهد الأمير الداخل، كان الأمير عبد الرحمن الأوسط قد جعل ولاية كورة إليبرة مداولة بين ولديه الحكم وعبد الله3،   1- نصوص عن الأندلس ص 117-118. البيان المغرب 2/56. الجزيرة الخضراء: كورة تشتمل على عدة مدن قاعدتها مدينة الجزيرة الخضراء، تقع في الطرف الجنوبي لشبه الجزيرة الأيبيرية في مواجهة سبتة، وبجوارها جبل طارق. وقد سقطت بأيدي النصارى سنة 747هـ ثم استردها محمد الخامس الغني بالله سلطان غرناطة وذلك سنة 771هـ إلا انه دمرها تدميرا كاملاً لئلا يستفيد منها النصارى أو بني مرين في المغرب وهي اليوم مركز إداري في مديرية قادس ويكتب اسمها Algeciras. انظر: نصوص عن الأندلس، ص 120. الحلة السيراء، 2/199 حاشية رقم (3) . الروض المعطار، ص 223-224. الحلل السندسية، 1/81 ومابعدها. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص24، 28، 58، 80، 87، 89، 90، 96، 98، 105، 116، 216. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 بينما كان أخوهما محمد والياً على مارده1، وأما مسلمة بن الأمير محمد بن عبد الرحمن فقد كان والياً على كورة شذونة2. وفي عصر الخلافة لم نعد نسمع بذكر ولاة للكور من أبناء البيت الأموي، إلا أنه كان هناك ولاة من القرشيين3. وهناك من يتم الإسجال له على نصف مدينة فقط، فالأمير محمد بن عبد الرحمن عندما كان في إحدى غزواته حل بطليطلة وأصلح شأنها، وبسبب اختلاف أهواء أهلها في عمالهم، فقد قسمها الأمير بين مطرٍّف بن عبد الرحمن ومنافسه طربيشة بحيث يلي كل واحد منهما جانباً، وذلك سنة 259هـ (873م) 4. وأحياناً يتم الإسجال لأحدهم على ولاية إحدى النواحي، مكافأة له، وهذا ما فعله الأمير محمد بن عبد الرحمن، فقد مر أثناء عودته من إحدى مغازيه بأرض شنت برية، فاعتل له خصي من أكابر خصيانه الخلفاء، فتركه عند ذي النون بن سليمان5، فمرَّضه وعالجه إلى أن برئ   1- قضاة قرطبة، ص 73. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 211. 3- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 356،377. 4- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 329-330، وما ورد في التعليقين رقم: 540،541. 5- ذو النون بن سليمان بن طوريل بن الهيثم بن إسماعيل بن السمح (الداخل منهم إلى الأندلس) بن وردحيقن الهواري، واسم ذو النون اسم شائع في البربر بـ"زنون" ولكن مع استقرار هذه العائلة في الأندلس تصحف الاسم إلى ذي النون وقد كان لهذه العائلة الزعامة منذ أن حل السمح باني مجدها في شنت برية. والأمير محمد بن عبد الرحمن هو الذي نوه بذكر هذه الأسرة ورفع شأنها بسبب عناية ذو النون بخصي الأمير، وقد ظل ذو النون معترفاً بفضل الأمير مستمسكاً بالطاعة إلى أن توفي سنة 274هـ. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 341-342. والمقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص17-18. البيان المغرب، 3/276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 من علته، ثم جاء به بنفسه إلى قرطبة، فكافأة الأمير محمد بأن أسجل له على ناحيته وقدمه على قومه وذلك سنة 260هـ1 (874م) . وهناك كور بقيت مدة دون عمال، ففي سنة 277هـ (890م) غدر عمر بن حفصون بخير بن شاكر 2 القائم بدعوة المولدين والعجم ضد العرب بشوذر ونواحيها من كورة جيان، فقتله وبعث برأسه   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 341. 2- خير بن شاكر، أحد المولدين الذين أعلنوا التمرد ضد الدولة الأموية، كان شديد البغض للعرب ولأجل ذلك قام بدعوة المولدين والعجم سن 276هـ، هاجم أماكن تجمع العرب حول غرناطة فأوقع بهم وأباد خلقاً منهم، ولأنه كان حليفاً لعمر بن حفصون وديسم بن إسحاق، فقد تمكن الأمير عبد الله بن محمد من إفساد ضمير ابن حفصون على خير بن شاكر، فكانت النتيجة أن ذهب الأخير ضحية ذلك، حيث قتله غدراً أحد رجال ابن حفصون وبعث الأخير برأس خير إلى الأمير عبد الله وذلك سنة 277هـ. انظر: المقتبس، تحقيق أنطونيه ص 24. البيان المغرب، 2/122، 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 إلى الأمير عبد الله بن محمد، وبسبب ذلك أقامت جيان وإلبيرة مدة دون عامل من الأمير1. وإذا اتفقت كلمة أهل بلد على تقديم أحدهم ليكون والياً عليهم، نجد أن حكومة قرطبة لا تعارض فعندما اتفق أهل بجانة والمرية سنة 303هـ (916م) على تقديم مسعود بن علي مكان أخيه قاسم بن علي وافقهم الأمير على ذلك، وعينه والياً عليهم.2 ويتم أحياناً الإسجال لإحدهم على نصف كورة، فقد أسجل الخليفة الحكم المستنصر بالله لأصبغ بن محمد بن فطيس على نصف كورة ريَّة، وذلك في يوم الاثنين لخمس خلون من رمضان سنة 361هـ3 (يونيو 972م) . كما يتم أحياناً عقد ولاية لأحدهم على إحدى الكور إتقاء لشره، وهذا النمط برز بوضوح في عهد الأمير عبد الله بن محمد 275-300هـ (888-912م) فقد أسجل للب بن محمد بن لب بن موسى القسوي4 على   1- المقتبس، تحقيق: أنطونية ص 24. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 111. 3- المصدر السابق، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 77. 4- لُبّ بن محمد بن لُبّ بن موسى بن موسى بن فرتون بن قسي، وكان ولاء أسرته للخليفة الوليد بن عبد الملك وهي إحدى الأسر المتنفذة في الثغر الأعلى الأندلسي، ومنذ سنة 194هـ بدأت هذه الأسرة تمردها ضد الإمارة الأموية، إلا أن العلاقة بين الطرفين تحسنت منذ سنة 235هـ، وبعد اغتيال محمد بن لب سنة 285هـ، سار ابنه لب على خطاه ثم أظهر الطاعة للأمير عبد الله بن محمد، فأسجل له على بعض أراضيه، واستمر لب في زعامته إلى أن قتل في إحدى المعارك ضد نصارى نافار سنة 294. انظر: جمهرة أنساب العرب، ص 502. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 161، 307، 318- 327، 328، 335، 338، والتعليق رقم 331. المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 17، 118. نصوص عن الأندلس، ص 29، 36، 37-38. البيان المغرب، 2/ 139، 141، 142، 143. السامرائي، الثغر الأعلى، ص289-290، 292، 300-312، 316-321، 322-332. أبا الخيل، المرجع السابق، ص 181-188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 تطيله1 وطرسونة2 وأعمالها اتقاء لشره وكفاً لأذاه3.   1- تطيلة Tudela مدينة تقع على بعد 78 كيلو متر إلى الشمال الغربي من سرقسطة، امتازت بطيب المناخ وخصوبة التربة وغزارة المياه، ومن أشهر أنهارها إبره، وتطيلة أقصى ثغور المسلمين، وقد اختطت في عهد الأمير الحكم الربضي بواسطة عمروس بن يوسف، والبلدة لا تزال تحتفظ بطابعها العربي المميز، وحتى القرى والأرياف المحيطة بها لها نفس الصفة، وتطيلة وتوابعها كلها الآن ضمن مقاطعة نبارة Navarra. انظر: وصف الأندلس للرازي، ص 76. ابن غالب، تعليق منتقى، ص 287. ذكر بلاد الأندلس 1/74. الروض المعطار، ص 133. رحلة الأندلس، ص288. تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس، ص 69-70. 2- طرسونة Tarazona كانت مستقر العمال والقَّواد بالثغر. وبعد أن اتسعت تطيلة أصبحت طرسونة تابعة لها، والمسافة بينهما أثنا عشر ميلا. انظر: الروض المعطار، ص389. 3- المقتبس، تحقيق: أنطونية ص 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وبعد أن تمكن محمد بن عبد الرحمن التجيبي من قتل والي سرقسطة أحمد بن البراء في شهر رمضان سنة 296هـ (يونيو 909م) كتب التجيبي للأمير عبد الله بن محمد يذم عنده أحمد ابن البراء ويقدح فيه، ويسأله الإسجال له على سرقسطة وماحولها، فلبى الأمير طلبه لعجزه عن مواجهته أو مواجهة غيره1. كما أن الأمير عبد الله أسجل لمحمد بن عبد الكريم بن الياس2 على بلده "ورد" من كورة شذونه، كفاً لشره3. وإذا كانت حكومة قرطبة غير متأكدة من صدق ولاء من يريد الإسجال له على بلده، وفي الوقت نفسه لا تستطيع رده خائباً، ففي هذه الحالة يتم أخذ أحد أولاد صاحب الطلب ليبقى رهينة بقرطبة مكرماً معززاً، فالأمير محمد بن عبد الرحمن بعد أن أسجل لذي النون بن سليمان   1- المصدر السابق ص 21. 2- محمد بن عبد الكريم بن الياس، ينتسب إلى قبيلة مغيلة من بربر البتر، كان والده من أنصار الدولة الأموية لكن بعد وفاة الأمير المنذر بن محمد أعلن عبد الكريم تمرده في محلته ورد، وقد أقره الأمير عبد الله بن محمد على محلته مكتفياً منه: إعلان الطاعة، وبعد وفاة عبد الكريم نهج ولده محمد على خطاه، وسعى للفتنة، فراسله الأمير عبد الله وداراه، فأعلن الطاعة وأسجل له الأمير على بلده، وظل على حاله إلى أن استنزله عبد الرحمن الناصر وأسكنه قرطبة وأكرم منزلته وشرف فيها عقبه. انظر: جمهرة أنساب العرب، ص 499. المقتبس، تحقيق أنطونية، ص24. نصوص عن الأندلس ص 113. 3- المقتبس، تحقيق أنطونيه، ص 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 على بلده "شنت بريه"1 وقدمه على قومه، ارتهن منه بعض ولده وذلك سنة 260هـ (874م) 2. وعندما يتم تعيين أحد الولاة عاملاً في إحدى الكور، لابد من إصدار ظهير له في هذه المناسبة من قرطبة، وقد حفظت لنا المصادر ظهيراً أصدره الخليفة الحكم المستنصر بالله لأصبغ بن محمد بن فطيس في رمضان سنة 361هـ (يونيو 972م) عندما ولاه على نصف كورة ريّة جاء فيه "بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإنما تستدام النعمة بشكرها، وتعرف النصيحة باستعمالها، وبالنصيحة تتفاوت منازل العبيد لدى ساداتها، وقد رأى أمير المؤمنين فيك رأياً عظمت به عليك النعمة، فاسْعَ للمحافظة عليها بمقدار عقلك وكفايتك، أو بحسب نقصك وتدبيرك، فاستعن بالله وخذ بالرفق في أمرك، وقلة الرغبة في شأنك، واجتنب التحامل على رعيتك فإنها من حفي عناية أمير المؤمنين بموضع لايترك معه البحث عن أحوالها والكشف عن سيرتك فيها إن شاء الله، ورأى تقليدك شطر كورة   1- شنت بريه Santaver مدينة قديمة البناء، تقع شرقي قرطبة، مع الميل إلى الشمال، بينها وبين طليطلة سبعون ميلاً، امتازات بخصوبة الأرض، وهي قاعدة كورة سميت باسمها، وهي اليوم تعرف باسم Albarracin الواقعة في مديرية ترويل، انظر: ذكر بلاد الأندلس، 1/58، تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس، ص 104. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 341-342. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ريّه، وهي من أهم كور الأندلس عليه، براً وبحراً، وجباياتها وضياعها، فانظر أي خادم تكون، وشاكراً للنعمة تظهر، إن شاء الله"1. وكان عمال الكور وقادة الثغور، يقيمون في عاصمة الكورة أو الثغر، وهذه العاصمة تعرف باسم القاعدة2 أو الحاضرة3 أو القصبة4. وبطبيعة الحال فإن قرطبة ومن ثم الزهراء والزاهرة، كانت تحوي وزارات إدارية ووزارات خدمات، وكل كورة في الأندلس هي مثل قرطبة ولكن على شكل مصغر، ففيها القاضي وصاحب الشرطة، وصاحب الصلاة، وصاحب السوق وغير ذلك من وظائف، والكورة ترتبط ببيت الوزراء الملحق بقصر الإمارة أو الخلافة، فهو الذي يعيِّن الولاة والعمال، وإليه ترد مكاتبات عمال الكور وقادة الثغور، والوزراء بدورهم يرفعون الأخبار بواسطة الحاجب للأمير أو الخليفة. وعندما تكون هناك غزوة ويتطلب الأمر حشد قوات من الكور، يتولى عمالها إخراج العدد المطلوب من المقاتلين5، كما أن هناك مكتب في حاضرة الكورة يتولى عملية تقدير الضرائب وجمعها وإرسالها لقرطبة، وكان يطلق على متولي شئون المال في الكورة اسم "الأمين" يساعده في   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص77. 2- الروض المعطار، ص25. 3- تعليق منتقى، ص 291. 4- معجم البلدان، 1/518. 5- البيان المغرب، 2/176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ذلك المحصلون ومثمن المحصول، ومن هذه الأموال المجموعة يتم صرف أرزاق موظفي الكورة وجنودها، بينما يرسل الباقي والمسمى الفائض أو المستفاض إلى العاصمة قرطبة1. ويبدو أن منصب عمالة الكور، كان فرصة للثراء العريض، وذلك من جراء سطو بعضهم على الأموال الواجب إرسالها إلى قرطبة، ولذا فأحيانا يتم إغرام بعض العمال عند عزلهم، فالأمير عبد الله بن محمد عندما عزل جهور بن عبد الملك البختي2 من عمل كورة إلبيرة، أغرمه ثلاثة آلاف دينار3. كما كانت أحياناً تتم مقاسمة العمال أموالهم. وهذا ما كان يفعله الخليفة عبد الرحمن الناصر مع عماله4.   1- الحلة السيراء، 1/241 والحاشية رقم 1. 2- جهور بن عبد الملك بن جهور بن يوسف بن بخت الفارسي، جده الأعلى يوسف بن بخت هو أول من ولي الحجابة للأمير عبد الرحمن الداخل، ومنذ ذلك الحين استمر أبناء هذه الأسرة في المناصب ولذا فهي من الأسر الأندلسية الموالية للأسرة الأموية، وقد كان جهور عاملاً على إلبيرة لكن الأمير عبد الله بن محمد عزله عنها لتظلم الرعية منه وعندما عمد الأمير إلى مشاورة الوزراء من أجل إغرام جهور، دافعوا عنه إلا الوزير سليمان بن وانسوس، فإنه هجاه بثلاثة أبيات نالت إعجاب الأمير، فأمر بإغرام جهور ثلاثة آلاف دينار وقال "ياسليمان لو زدتنا في الأبيات لزدنا الحمار في الغرم" انظر: المقتبس، تحقيق د. محمود مكي ص 192-193. الحلة السيراء 1/160-161. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 192-193. 4- البيان المغرب 2/225-226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 ويظهر أن حكومة قرطبة على علم تام بما يختلسه العمال في الكور من الأموال، وأن وظيفة العمالة هي فرصة للإثراء، لأجل هذا نجد أن منصب العمالة يسند إلى أحدهم تعويضاً له عن هدية قدمها للأمير أو الخليفة1. وقد عرف عن بني أمية حرصهم الشديد على رعيتهم، ولذا فقد كان يتم إرسال بعض الثقات للثغور والكور لسؤال الناس هناك عن سيرة عمالهم وقادتهم فيهم، ومن ثبت عليه شيء يتم عزله ومعاقبته. فالأمير هشام الرضا كان يبعث بقوم يثق بهم من أهل العدل إلى كافة الكور والثغور سراً يسألون الناس عن سير عمالهم2، وفعل مثل ذلك الخليفة الحكم المستنصر بالله، فقد أمر صاحب الرد عبد الملك بن منذر بن سعيد بالخروج إلى الكور الغربية شريش ولقنت وأشبيلية ولبله ومورور واستجة وشذونة لمطالعة رعايها والتعرف على أحوالهم والكشف عن سير عمالهم فيهم3.   1- المصدر السابق 2/226. 2- ذكر بلاد الأندلس، 1/122. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وإذا قُدمت شكاوى ضد أحد العمال، جرى التحقيق في القضية، فإذا ثبتت الدعوى اقتص من العامل سواء استوجب الأمر عقوبة جسدية أو مالية إضافة إلى العزل عن المنصب1. وخطة العمالة من الخطط الهامة في الدولة، فكلما كان العامل حليماً، عاقلاً، عادلاً، كلما عاد ذلك على الدولة بالاستقرار والأمان، إذ أن الرعية لا تتمرد غالباً إلا بسبب جور العمال. ولأجل هذا فقد كان بيت الوزراء في قرطبة لا يختار للعمالة إلا الأكفاء ذوي المروءة، لكن الأمر تغير عندما أصبح الوزير هاشم بن عبد العزيز هو المدبر لدولة الأمير محمد بن عبد الرحمن فقد عدل عن اختيار "العمال من الكهول والشيوخ ومال إلى الأحداث وشاطرهم أرباحهم فكان العمال بذلك يسمون المناصفين ففسد بذلك الأمر2" إذ أصبحت المسألة قائمة على ما يمكن أن نسميه بيع المناصب، فالعامل بدوره يشتط على الرعية في جمع الأموال لتعويض ما دفعه للوزير هاشم بن عبد العزيز وكل هذا على حساب الرعية، التي تضيق بالأمر، مما يؤدي بالنهاية إلى اندلاع حركات التمرد والعصيان، وهو ما شهدته الدولة الأموية ابتداء من منتصف القرن الثالث الهجري   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص341-342. المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص105. ترتيب المدارك، 4/467. البيان المغرب، 2/283. ذكر بلاد الأندلس، 1/122. 2- ابن القوطية، ص 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 (التاسع الميلادي) واستمر الوضع حتى مطلع القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) . خطة الكتابة: حرص الأمويون في الأندلس على إيجاد إدارة حازمة تعمل على تسيير شئون دولتهم الإدارية والمالية، وقد عُرفت هذه الإدارة باسم "الكتابة"1. وهذه الإدارة هي أعلى أجهزة الدولة، وتقع عند الباب الرئيسي للقصر بقرطبة، والمعروف بباب السدة2. وعندما تحدث ابن سعيد الأندلسي عن الخطط الأندلسية، ذكر أن خطة الكتابة تنقسم إلى قسمين، كاتب الرسائل، وكاتب الزمام3. وقد عرف المكان الذي يعمل فيه كاتب الرسائل باسم ديوان الرسائل4، وكانت مهمة هذا الديوان هي إعداد وصياغة المكاتبات الرسمية التي تصدر عن الأمير أو الخليفة.   1- نفح الطيب، 1/217. 2- الحلة السيراء، 1/253. ونظراً لبناء الناصر والمنصور لمدينتي الزهراء والزاهرة، فقد انتقلت هذه الإدارة إليهما تباعاً، مثلها في ذلك مثل بقية أجهزة الدولة، ولكن منذ مطلع القرن الرابع الهجري عاد ديوان الرسائل مع بقية أجهزة الدولة إلى قرطبة وذلك بعد خراب الزاهراء والزاهرة. 3- نفح الطيب، 1/217. 4- مقدمة ابن خلدون، ص 680. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وصاحب ديوان الرسائل يُعد من أبرز موظفي الدولة ويعرف بكاتب الرسائل، ومن تولى هذا المنصب عند الأمويين أصبح له حظ في قلوب وعيون الأندلسيين، ومن أراد منهم تعظيمه وتكريمه فلا يخاطبه إلا باسم الكاتب1. لأجل هذا فقد كانت هناك شروط لابد من توافرها فيمن يلي هذه الخطة الشريفة، وهي أن يكون مسلماً حسن الديانة سليم العقل، عالماً بفنون الكتابة، حافظاً للقرآن الكريم والسيرة النبوية وأخبار العرب القدماء، حافظاً للأشعار، بليغاً، فصيحاً، وقوراً، مهيباً، له معرفة عامة بعلوم النحو، محباً للعلم، قادراً على كتمان السر2. فكاتب الرسائل يحتل أرفع المناصب، وربما يكون هو أقرب الناس للأمير أو الخليفة الأموي، مقدماً على من سواه، مطالعاً له بأسراره التي يظن بها على أخص الأخصاء من الأقارب والوزراء، فهو الذي يتولى الإشراف على فض الرقاع والمراسلات الخاصة بشؤون الإدارة وترتيبها ليعرضها على الأمير أو الخليفة لأخذ رأيه فيها، وكتابة الردود التي استقر الرأي عليها مع إثبات تاريخ وصول الرسالة وتاريخ الرد عليها في سجل خاص3، وعليه فالكاتب هو "لسان الملك عند الخاص والعام"4.   1- نفح الطيب، 1/217. 2- ابن منجب الصيرفي، ديوان الرسائل، ص 94،108. 3- المصدر السابق، ص 108،112. 4- ابن أبي الربيع: سلوك المالك في تدبير الممالك، (طبع حجر بشكل جداول أو شجيرات، المطبعة الخاصة بجمعية المعارف، القاهرة 1286هـ) ص126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 من أجل هذا نجد أن الأندلسيين لا يكادون يغفلون عن عثرات كاتب الرسائل لحظة، فإن كان نقاصاً عن درجات الكمال لم ينفعه جاهه ولا مكانه من سلطانه من تسلط الألسن في المحافل والطعن عليه وعلى صاحبه1. وكان يعمل في ديوان الرسائل عدد من الكتَّاب والموظفين، الذين يشترط فيهم أن يكونوا من ذوي الكفاية العالية في فنون الكتابة، إضافة إلى إجادة كل منهم لعمل معيَّن في الديوان. فهناك كاتب مهمته ترتيب الكتب التي ستعرض على الأمير أو الخليفة وتلخيصها2، وكاتب مختص بكتابة مراسيم التعيين والأحداث الهامة التي تتلى على المنابر3، وكاتب مختص بمكاتبة الملوك4، وآخر لمكاتبة رجالات الدولة وولاتها5.   1- نفح الطيب، 1/217. 2- ابن منجب، ديوان الرسائل، ص116،117. 3- المصدر السابق، ص 119. 4- نفسه، ص 172،179. 5- نفسه، ص 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 ولابد أن يوجد في الديوان مكان خاص بحفظ السجلات والأوامر الصادرة عن ديوان الرسائل1، وهذا المكان هو مايعرف بالوقت الحالي باسم "الإرشيف". ومع التطور الكبير الذي شهدته الدولة الأموية في عصر الخلافة، واتساع المهام الواجب على كل جهاز من أجهزة الدولة القيام بها، نجد الخليفة عبد الرحمن الناصر يصدر أوامره سنة 344هـ (955م) بتوزيع أمور الخدمة السلطانية بين وزرائه، فقلَّد الوزير جهور بن أبي عبد ة النظر في كتب جميع أهل الخدمة، وقلَّد الوزير عيسى بن فطيس النظر في كتب أهل الثغور والسواحل والأطراف وغير ذلك، وقلَّد الوزير الكاتب عبد الرحمن الزجالي النظر في تنفيذ كل ما يخرجه من العهود والتوقيعات، وينفذ به الأمر أو الرأي وغير ذلك، وقلَّد الوزير محمد بن حدير النظر في مطالب الناس وحوائجهم، وتنجيز التوقيعات لهم2. ولا يصل أحد إلى خطة الكتابة إلا بعد اجتيازه لاختبار يمر به، فإن أثبت كفاءته نال المنصب، فالأمير محمد بن عبد الرحمن عندما أراد تقديم حامد الزجالي3   1- نفسه، ص 138،139. 2- البيان المغرب، 2/220. 3- هو حامد بن محمد بن سعيد الزجالي، ورث مكان والده في الأدب والمعرفة والكتابة والبلاغة، كان كاتباً، وزيراً، أديباً، حليماً، عفا، جميل الخصال، إلا أنه كان يعاب بالبخل، مما عرضه للهجاء، وقد مكث حامد في خطته حتى توفي سنة 268هـ. انظر: ابن القوطية، ص 83-85. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 32، 36-38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 لخطة الكتابة، أمر بإدخاله إلى المكان المخصص للكتَّاب، ثم أمره بأن يكتب كتاباً على لسانه لأحد رجاله في الثغر يحذره من أحد المناوئين، فلما استحسن الأمير ما رفعه إليه حامد، أمر أن يوضع له فراش مع الوزراء1. من هذه الحادثة يتضح لنا أيضاً أن الكاتب يحمل لقب "وزير" فيقال له "الكاتب الوزير" وبطبيعة الحال له من المميزات مثل ما للوزير إضافة إلى طبيعة عمله وهو الكتابة. ولم يتخذ الأمويون كاتباً خاصاً لهم في بداية أمرهم، فالكاتب الموجود في بيت الوزراء يكتب للأمير الأموي متى ما دعت الحاجة إلى ذلك، لكن هذا الرسم تغير منذ عهد الأمير عبد لرحمن الأوسط، فقد اتخذ كاتباً خاصاً به لا يكتب لأحد غيره، وأول من نال هذا المنصب محمد بن سعيد الزجالي2، وبذلك ظهر رسم جديد في الدولة أن للأمير أو الخليفة الأموي كاتب خاص، وللوزراء كاتب خاص بهم. والكاتب الخاص هو المعروف في الدولة الأموية بالأندلس بصاحب القلم الأعلى، أو "صاحب قلم بني أمية الأعلى وكاتبهم العظيم3"   1- ابن القوطية، ص84-85. 2- محمد بن سعيد بن أبي سليمان الزجالي وصف بأنه كان ذكيا، مشهوراً بالحفظ، ولذا فقد لُقِّب بالأصمعي، ويعتبر محمد هو باني مجد الزجاجلة في الأندلس توفي سنة 232هـ. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 31-36. 3- ابن القوطية، ص 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ولا يمكن أن يصل إليه إلا من كان مسلماً، ولأجل هذا فعندما أصيب عبد الله بن محمد بن أمية بن يزيد1 بعلة أقعدته عن ممارسة مهام صاحب القلم الأعلى، وذلك في سنة 240هـ (854م) تقريباً، قام قومس بن أنتنيان بأعمال عبد الله بن أمية، فلما توفي ابن أمية، قال الأمير محمد "لو أن قومساً كان مسلماً ما استبدلناه" ولأجل هذا بادر قومس إلى إعلان إسلامه والإشهاد على ذلك، فولاه الأمير خطة الكتابة2. وما كان الأمويون يتسامحون في أمر من أمور الكتابة، فهناك رسوم على الجميع التقيد بها، وهي أن يُحكِمْ الكاتب "الخط، فيقيم حروفه، ويراعي المداد فيجيد صنعته، ويميز الرقَّ فيحسن اختياره، وعجزه الحزم النافذ والحُكم الصَّادع، بأن تكون صدور كتب الاعتراضات وعنواناتها وتواريخها والأعداد في رؤوس رسومها"3.   1- عبد الله بن محمد بن أمية بن يزيد بن عبد الرحمن ابن أبي جوثرة، مولى معاوية بن مروان بن الحكم، جده أمية دخل الأندلس في طالعة بلج، وتولى مهمة الكتابة للأمير عبد الرحمن الداخل، وفي عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط كان عبد الله بن محمد بن أمية يتولى منصب ولاية العرض، ثم تولى الوزارة والكتابة للأميرين عبد الرحمن الأوسط وابنه الأمير محمد. وأسرة أمية بن يزيد هي من الأسر التي وصفت بالنجابة واستحوذ أبناؤها على خطة من خطط الدولة. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 31، والتعليق رقم 100. الحلة السيراء 2/373. 2- ابن القوطية، ص82. 3- الذخيرة، ق1 م1 ص 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 ولا يعفى أحد من ولاة الكور وقادة الثغور من اتباع هذه الرسوم، فمن أرسل كتاباً إلى بيت الوزراء بقرطبة في رقٍ رديِّ، أو مداد دنيٍّ، أو كان خطه غير جيد، أو في عبارته لحن، وما شاكل ذلك، فلا ينظر في طلبه، بل سيعاقب بالعزل وإغرام المال1. وقد كانت هناك أنواعاً عدة من الكتب تصدر عن حكومة قرطبة، تباينت أغراضها مابين أمان2، وتولية3، وفتح4، وهدم5، واستنزال عصاة6، وتنديد بأهل البدع7، وكتب استسقاء8، وإسقاط بعض المغارم9، واستنفار للجهاد10، ومنح ألقاب11 واتخاذها12، وكتب   1- المصدر السابق، ص 107. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا. ص405. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 77، 111-114. 4- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 226-231. 5- المصدر السابق، ص 232-237. 6- نفسه، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 178-181. 7- نفسه، تحقيق: شالميتا، ص 25-29. 8- نفسه، ص 251-252. 9- نفسه، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 207. 10- نفسه، تحقيق: شالميتا، ص 433. 11- نفسه، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص69. 12- الحلل الموشية، ص31-32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 صلح1، وهذه الكتب بمجرد صدورها تُحمَلْ للوزير الكاتب ليثبتها في السجلات2. وخطة الكتابة متوارثة في الدولة الأموية شأنها في ذلك شأن بقية الخطط، فالأمويون يحرصون على وضع خطط دولتهم بأيدي أبناء أسر معينة، فإذا توفي صاحب الخطة، نظروا في ذريته، واستقدموا أحدهم ليليها مكان أبيه، حتى وإن كان ذلك الولد لا يملك ما يؤهله لتوليها، وهذا ما فعله الأمير محمد بن عبد الرحمن، فبعد وفاة كاتبه عبد الله بن أمية استدعى ولده عبد الملك بن عبد الله3، وولاه الكتابة ورغم إقرار عبد الملك للأمير بالعجز عن الكتابة، إلا أن الأمير أمره بتقلدها ونصحه بالاستعانة بمن يثق به، لقاء رزق يجرى له، حتى يتقن عبد الملك الكتابة4. ويُعد أمية بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي حوثرة، مولى معاوية بن مروان بن الحكم باني مجد بيت آل أبي حوثرة في الأندلس، فقد دخل أمية الأندلس مع طالعة بلج بن بشر القشيري، ثم تولى الكتابة للأمير   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 114-115. 2- البيان المغرب، 3/41. 3- لقد حاول الوزير هاشم بن عبد العزيز الحيلولة دون تولي عبد الملك هذا المنصب الرفيع إلا أن الأمير محمد أعرض عنه، مما عُدَّ من كريم أفعاله. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 143-144. الحلة السيراء، 2/373-374. 4- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 144-145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 عبد الرحمن الداخل منذ وقت مبكر1، واستمر في منصبه حتى توفي سنة 154هـ2 (771م) ، وتولى ولده محمد بن أمية الكتابة للأمير هشام الرضا حتى وفاته، وكذلك السنوات الأربع الأولى من عهد الأمير الحكم الربضي، لكنه عزله لاتهامه إياه بالوقوف ضده مع عمه سليمان بن الأمير عبد الرحمن الداخل3، فمات محمد بن أمية خاملاً سنة 226هـ4 (841م) وتولى ابنه عبد الله الكتابة للأميرين عبد الرحمن الأوسط وابنه الأمير محمد5، وظل في منصبه إلى سنة 240هـ (854م) ثم أصيب بمرض أقعده حتى وفاته سنة 246هـ6 (860م) . ثم تولى الكتابة ابنه عبد الملك للأمير محمد، وذلك سنة 268هـ (881م) وأقره عليها الأمير المنذر وفي عهد الأمير عبد الله جمعت لعبد الملك القيادة مع الكتابة والوزارة، وظل في منصبه حتى قتله غدراً المطرف بن الأمير عبد الله بالقرب من اشبيلية، وذلك سنة 282هـ7 (895-896م) وكان مروان ابن عبد الملك يخلف أباه على الكتابة عند   1- الحلة السيراء، 2/373. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 31. 3- الحلة السيراء، 2/373. 4- المقتبس، تحقيق د. محمود مكي، ص 31. 5- الحلة السيراء، 2/373. 6- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 31. 7- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 110-111. الحلة السيراء، 2/373-374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 غيابه، إلا أنه اتهم بالقدح بالأمير عبد الله، فحبس بالمطبق ثم قتل ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 284هـ1 (سبتمبر 897م) . ومثل بيت ابن أبي حوثرة، لدينا بيت الزجاجلة2، فقد توارثوا خطة الكتابة في الدولة الأموية منذ عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط حتى أواخر عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، باستثناء عدة سنوات ابتداءً من سنة 302هـ (914-915م) وهي السنة التي توفي فيها الكاتب الوزير عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن سعيد الزجالي، حيث لم يبرز أحد   1- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 122. الحلة السيراء، 2/374. 2- بيت الزجاجلة، من بني يطفت من نفزة، دخل أولهم الأندلس أيام الفتح، واستقروا مع البرابر النازلين بمدينة تاكرنا من كورة رندة، بدأت نباهة هذا البيت على يد محمد بن سعيد بن أبي سليمان وارشكين المعروف بحمدون والشهير بالأصمعي لذكائه وقوة حفظه، وذلك عندما استكتبه الأمير عبد الرحمن الأوسط واستخصه. وقد توارثت ذرية الأصمعي خطة الكتابة فقد تولى حامد بن محمد بن سعيد الزجالي الكتابة ثم الوزارة للأمير محمد بن عبد الرحمن. ومن ثم جاء عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن سعيد الزجالي، فتولى خطتي الكتابة والوزارة للأمير عبد الله بن محمد ولحفيده عبد الرحمن الناصر، وأما محمد بن عبد الله الزجالي فقد تولى الوزارة لعبد الرحمن الناصر، وفي 319هـ قدم الخليفة عبد الرحمن الناصر عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد الزجالي لعدة مهام إلى أن ولاه منصبي الوزارة والكتابة. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 32-38، والتعليقات أرقام 105، 107، 108، 109، 113. المغرب في حلى المغرب، 1/330-331. أمثال العوام في الأندلس، مقدمة المحقق ص7-12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 من بيت الزجالي، حتى عادت إليهم الكتابة بعبد الرحمن بن عبد الله بن محمد الزجالي سنة 329هـ (941م) وكان عبد الرحمن هذا هو أخر من ورد ذكره من أفراد أسرته، ومن بعده لانسمع لهذه العائلة أي ذكر في خطة الكتابة في الدولة الأموية1. ولعل أشهر من تولى الكتابة في الدولة الأموية على الإطلاق هو الخليفة عبد الرحمن الناصر، فقد اختبره جده الأمير عبد الله بن محمد عندما أمره أن يكتب كتاباً لأحد عماله بأمر هام، ويبدو أن عبد الرحمن قد أصاب بغية جده، الذي لم يخف سروره بنبوغ حفيده، فاتخذه كاتباً لسره2. ونظراً لأن الفتنة التي اندلعت في مطلع القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) قد عصفت بالدولة الأموية، وأثرت على كافة أجهزتها، فقد كانت الكتابة من بين تلك الأجهزة التي تأثرت بها، إذ أصبح يرتقي إليها من لا يفقه فيها شيئاً، وقد وصف ابن حيان أحد أولئك الكتبة فقال فيه "ونعي إلينا فلان الدغل، غازله السِّل، كالأفعوان الصِّل، وكان أحد أعاجيب الدنيا في الفجور والخبث، والزهو والكبر، والعقوق   1- انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص31-33. 2- المقتبس، تحقيق: انطونيه، ص 39،40 وكان عبد الرحمن في ذلك الوقت دون العشرين من عمره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 والجرأة، .... وكان إذا كتب مضطراً يضحك من تأمله، له في ذلك نوادر محفوظة، أمسى بها من حُجج الله تعالى في الرزق المقسوم"1. وقال في وصف كاتب أخر "وفلان ساذج الكتابة، بيِّن الجهل والتخلف، طلق اللسان بالخنا والهجر، أحد الأفسال من أولي النباهة، عظيم البطالة والباطل، ومن كل حلية جميلة عاطل، من رجل عيّ اللسان، مثلوم الجنان، فدم الخلقة، طويل اللحية متهافت، لم يُرهف الأدب طباعه، ولا استخرج من كلمة حكمة2". كاتب الزمام: وبعد أن عرفنا كاتب الرسائل فإن الكاتب الأخر هو كاتب الزمام، هكذا يعرفون كاتب الجهبذة3، وهذه الوظيفة من الوظائف المهمة في أي دولة، إذ أن متوليها يشرف على أعمال الجبايات وحفظ حقوق الدولة في الدخل والخرج، ويقوم بإحصاء العساكر بأسمائهم، وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم في أوقاتها4.   1- الذخيرة، ق1م2 ص 593. 2- المصدر السابق ق1م2 ص 595. 3- نفح الطيب 1/217، والجهبذ هو الشخص المتخصص في الشئون المالية النقدية، وقد عرفه ابن مماتي بأنه كاتب مهمته استخراج الأموال وقبضها وكتب الوصولات بها. انظر: الأسعد بن مماتي، قوانين الدواوين، (جمع وتحقيق: عزيز سوريال عطية. القاهرة، الجمعية الزراعية الملكية، ط الأولى، 1943م) ص304. 4- مقدمة ابن خلدون، ص 675. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ويتضح من ذلك أن كاتب الزمام يعتمد في عمله على الاحتفاظ بسجلات من كافة إدارات الدولة، تحتوي على بيانات دقيقة عن الواردات والمصروفات، ليتمكن بالتالي من تقييم الموازنة بينهما. ويعمل مع كاتب الزمام عدد من الموظفين المهرة في الأمور الحسابية، ويعرف المكان الذي يباشرون فيه أعمالهم، تحت إشراف رئيسهم كاتب الزمام باسم الديوان1، كما أن رئيس الديوان يعرف أحيناً باسم "صاحب الأعمال الخراجية"2. وقد تبوأ كاتب الزمام مكانة سامية في الدولة الأموية في الأندلس، حتى أنه كان يعد أعظم من الوزير، ولأجل هذا فقد حرص الأمويون على ألاَّ يلي هذا المنصب نصرانياً ولا يهودياً البتة، ذلك أن متوليه "إليه تميل الأعناق، ونحوه تمد الأكف، والأعمال مضبوطة بالشهود والنظار، ومع هذا إن تأثلت حالته، واغتر بكثرة البناء والاكتساب نُكب وصودر. وهذا راجع إلى تقلب الأحوال وكيفية السلطان"3. خطة البريد: رغم شح المصادر الأندلسية، التي تمكنت من الاطلاع عليها، فيما يتعلق بالبريد وتنظيمه في الدولة الأموية بالأندلس، إلا أن هذا لا يمنع من القول بأن البريد عند الأمويين في الأندلس، كان منظماً تنظيماً دقيقاً،   1- المصدر السابق، ص 675. 2- نفح الطيب، 1/217. 3- المصدر السابق، 1/217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 يكفل ضمان تسيير الأمور والمعاملات، ويجعل ولاة الأمر على اطلاع تام بأحوال دولتهم ورعاياهم. وبناءً على التشابه المتوقع في نظام البريد لدى الأمويين في الأندلس، والعباسيين ببغداد، لأجل هذا فسأستعين بنظام البريد هناك لتكوين صورة تقريبية عما كان عليه عند أمويي الأندلس. فالبريد هو أن تكون هناك خيل مضمرات في عدة أماكن، فإذا وصل صاحب الخبر المسرع إلى مكان منها، وقد تعب فرسه، ركب غيره فرساً مستريحاً حتى يصل مسرعاً1. وهذا ما فسره أحدهم بقوله "إن كلمة بريد مأخوذة من الكلمة اللاتينية "Veredus" أي الدابة التي يركبها العامل في نقل مكاتبة من مكان لأخر، فالبريد في الأصل اسم الدابة التي يركبها العامل، ثم نقلت مجازاً إلى المسافة المقطوعة، فهو عندهم كذلك واستعملت للنظام كلمة كمصلحة البريد"2.   1- د. حسن إبراهيم حسن، النظم الإسلامية، (القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ط الأولى، 1358هـ/1939م) ص254. 2- د. نظير حسان سعداوي، نظام البريد في الدولة الإسلامية، (القاهرة، مكتبة مصر بالفجالة، 1372هـ/ 1953م) ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وعلى ذلك، فإن كلمة بريد تعني مسافة معلومة بين مركزي بريد، قدرها الفقهاء وعلماء المسالك والممالك بأنها أربعة فراسخ أو أثنى عشر ميلا1، وهذه مسافة البريد المعمول بها في المغرب2. وكان البريد قد انقطع في الأندلس أواخر عصر الولاة3، وذلك بسبب القحط الذي تعرضت له البلاد عدة سنوات والتي عرفت بسني برباط4، ولم يتم إعادة تنظيم البريد في الأندلس مرة أخرى إلا بعد أن تمكن الأمير عبد الرحمن بن معاوية من إقامة الدولة الأموية في الأندلس، فقد بنى داراً خاصة بالبريد، كانت تقع في صدر السوق على الجانب الغربي لقصر الإمارة بقرطبة5.   1- الشيخ عبد الحي الكتاني، نظام الحكومة النبوية، المعروف بالتراتيب الإدارية، (بيروت، دار الكتاب العربي. د. ت) 1/191. 2- نظام البريد في الدولة الإسلامية، ص 21. 3- أخبار مجموعة ص 69. 4- أبتليت الأندلس في عهد واليها يوسف الفهري بقحط شديد استمر من سنة 131-136هـ، فهرب الكثير من الأندلسيين إلى طنجة وأصيلا وريف البربر، وجاء مرورهم إلى هذه الديار من خلال وادي برباط الذي انعكس اسمه على تلك السنين. انظر: أخبار مجموعة ص 61-62، البيان المغرب 2/37-38، 118. ونهر برباط "Rio Barbate" ينبع من البحيرة الواقعة بالقرب من الجزيرة الخضراء والبحيرة تعرف اليوم باسم Una De La Janda LAG انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي تعليق رقم 511. 5- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ولنا أن نتوقع اهتماماً جاداً من الأمير عبد الرحمن الداخل بالبريد بعد أن أوجد داراً خاصة به، الأمر الذي كفل له سرعة وصول الأخبار إليه من كافة أرجاء دولته، ويكفي للدلالة على نجاحه في هذه الخطوة، أن والي الجزيرة الخضراء الرماحس بن عبد العزيز عندما أعلن عصيانه على الأمير عبد الرحمن الداخل سنة 164هـ (780م) وصل الخبر بسرعة كبيرة لقرطبة، فقد أعلن الرماحس عصيانه يوم الاثنين وبلغ خبره الأمير عبد الرحمن يوم الجمعة1، وطبيعي أن في سرعة وصول الخبر لقرطبة دليل على التنظيم الجيد للبريد. وقد أفاد الأمير الحكم الربضي من البريد المنظم في الدولة الأموية، وتجلى ذلك في سرعة تصديه لحركات التمرد ووأدها وهي في المهد2. ويبدو أن الدولة الأموية قد أولت البريد عناية فائقة، بالذات بعد أن تعرضت دولتهم لهجمات الغزاة النورمانديين في سنة 229هـ3 (844م) ، حتى إذا عادوا مرة أخرى لغزو الأندلس سنة 247هـ (861م) لم يجدوا غرة ليفعلوا بالمسلمين كما فعلوا بهم في المرة السابقة4، وذلك لما عُرف عن الأمير محمد بن عبد الرحمن من اهتمام   1- نصوص عن الأندلس، ص 117-118، أخبار مجموعة ص 112. 2- انظر: أخبار مجموعة، ص129، 130، 131-132. 3- البيان المغرب، 2/78. غارات النورمانديين على الأندلس، ص31. 4- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 شديد بأخبار السواحل، حتى أن خشبة ظهرت بالقرب من ساحل بجانة بلغ الأمير محمد خبرها وطولها وعرضها1. وقد ظلت دار البريد التي بناها الأمير عبد الرحمن الداخل في مكانها، ولم يجدد مبناها، إلا في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، فقد تعرضت لحريق أتى عليها وعلى ما جاورها من السوق وذلك في العشرين من شهر رمضان سنة 324هـ2 (12 أغسطس 936م) فأعاد الخليفة بناءها وفق رسم أعده بنفسه، وأمر أن ترفع فوقها علية، لتقيها من الأضرار من مطر وغيره3. وفي عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله جرى نقل دار البريد من موقعها فقد أصدر أوامره في يوم الأحد 20 من شهر المحرم سنة 361هـ (نوفمبر 971م) بنقل دار البريد من موقعها بجانب القصر، إلى دار الزوامل الواقعة بالمصارة في طرف قرطبة4. والبريد لم يكن آنذاك لخدمة الجمهور، يحمل رسائلهم ووصاياهم، وإنما كان خاصاً بأعمال الدولة، كما أن صاحب البريد كان يراقب العمال ويتجسس على الأعداء، وهو بذلك أشبه مايكون بقلم المخابرات في الوقت الحالي، وقد كانت مهمة صاحب البريد أول الأمر توصيل   1- المصدر السابق، ص 264-265. 2- نفسه، تحقيق: شالميتا، ص 383. 3- المصدر السابق والصفحة. 4- نفسه، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الأخبار إلى ولي الأمر من عماله في الأقاليم، ثم توسعت مهامه حتى أصبح عيناً لولي الأمر، ينقل أمره إلى ولاته، كما ينقل أخبارهم إليه1. وهذا ما كان مطبقاً لدى الأمويين في الأندلس، فالأمير الحكم الربضي وصل إليه خبر وفاة قاضي الجماعة المصعب بن عمران، بنفس الليلة التي توفي بها، حتى أن بعض من كان معه في القصر لم يعرف بخبر وفاة القاضي2. وعندما حاول عباس بن عبد الله المرواني التشكيك في نزاهة قاضي الجماعة محمد بن بشير لدى الحكم الربضي، طلب الأمير من ذلك المرواني الذهاب للقاضي في داره فإن أذن له فسيعزله عن منصبه، وبعث خلفه بأحد ثقاته ليأتيه بما يجري بين القاضي والمرواني3. وكان من بين عيون الأمير محمد بن عبد الرحمن شرحبيل الزامر يأتيه بأخبار المجالس التي يتواجد فيها4، في حين أن الخليفة عبد الرحمن الناصر كان على علم بكل ما يدور في المجالس والأسواق، بسبب كثرة ثقاته الذين بثهم بين الناس لهذه المهمة5.   1- النظم الإسلامية، ص 255. 2- أخبار مجموعة، ص 126. 3- المصدر السابق، ص 128. 4- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص149-151. 5- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 23-24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وعندما أوصل البريد للخليفة الحكم المستنصر بالله خبر تجاوزات بعض عماله، أرسل إليهم كتاباً عنفهم فيه على جرأتهم وحذرهم من مغبة جورهم1. وفي الدولة الأموية لم يكن صاحب البريد يعنى فقط بالأخبار التي تمس سياسة الدولة، بل كان يبلِّغ ماعدا ذلك من النوادر، مثل قصة الخشبة التي رُفع خبرها للأمير محمد بن عبد الرحمن، وكذلك ما حدث في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، عندما رُفع إليه خبر الصبي المتفاوت الخلق، فقد أحضره فائق صاحب البرد والطراز عنده بالزهراء، ثم أوصله إلى الخليفة الذي استقبله مرتين، كانت الثانية منهما بحضور ولي العهد وذلك في شهر ذي الحجة سنة 360هـ2 (أكتوبر 971م) . والخبران الأخيران، سواء عن الخشبة أو الصبي، يدلان على دقة عمال البريد في استقصاء الأخبار ورفعها بتفصيلاتها لولي الأمر، ليصدر في شأنها ما يراه مناسباً، ولكن هذا لا يعني قبول كل الأخبار المرفوعة إلى الحاكم الأموي بدون تمحيص، فالأمير محمد بن عبد الرحمن كانت ترفع إليه كتب كثيرة عن بعض رجال دولته، حتى لقد رفع إليه ضد وزيره هاشم بن عبد العزيز مائة كتاب، كل واحد منها يكفي لقتله، إلا أن الأمير لم يأخذ بها، وفي الوقت نفسه لم يعاقب من رفعها إليه، أو حتى   1- البيان المغرب، 2/239. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 62-63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 يقطع مكافأته، لأنه إن فعل ذلك، أحجم الباقون عن رفع الأخبار إليه، فتعمى عليه أحوال الناس1. ولعل من الضروري أن يكون لعمال البريد علامة تميِّزهم عمن سواهم، وذلك تيسيراً لهم في أداء مهامهم، فقد كانت علامة عمال البريد عند العباسيين وجود قطعة فضة بقدر الكف، يعلقها العامل على كتفه، ويكتب على إحدى صفحتي هذه القطعة "البسملة واسم الخليفة وعلى الصفحة الأخر {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} 2. ويستخدم عمال البريد الخيول، ويجعل في أعناقها جلاجل أو سلاسل إذا تحركت سمعت لها قرقعة، تعرف عندهم بقرقعة البريد3، وتجعل المراسلات في أكياس من الجلد توضع على ظهور الدواب4. وبطبيعة الحال فإن ديوان البريد وصاحبه، ومن يعمل معه من العمال والموظفين، سواء في قرطبة أو بقية الكور والثغور، هم بحاجة إلى نفقات تقوم بشؤونهم، فبالإضافة إلى رزق كل منهم، والذي يجب أن يكون مغنياً لهم عن التطلع لما في أيدي الآخرين، هناك نفقات المحطات   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 147-148.لأجل ذلك فإن على ولي الأمر عدم التسرّع في قبول الأخبار المرفوعة إليه، كما يجب عليه استعمال الثقات الأمناء. 2- من الآية رقم 45، سورة الأحزاب. التراتيب الإدارية، 1/193-194. 3- جرجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي (القاهرة، مطبعة الهلال، 1902م) .1/182. 4- سعداوي، نظام البريد في الدولة الإسلامية، ص 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 البريدية المقامة بين قرطبة وبقية نواحي الدولة الأموية، وكذلك نفقات شراء الدواب وما يلزمها من علوفة ونحوها، ورغم صمت المصادر الأندلسية عن ذكر أي ميزانية للبريد، إلا أننا نتوقع أنها لم تكن بالشيء اليسير، خاصة إذا عرفنا أن الدولة الأموية أصبحت متسعة الأطراف بالذات في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) إذ أصبح بر العدوة المغربية ضمن سلطة الخلفاء الأمويين في ذلك القرن، ففي أواخر شهر ذي القعدة سنة 362هـ (سبتمبر 973م) أمر الخليفة الحكم المستنصر بالله في رسالة بعث بها إلى الوزير القائد الأعلى غالب بن عبد الرحمن الناصري، المتواجد مع الجيوش الأموية في المغرب رسالة ضمنها أمره للقائد بأن ينظم البريد، ويتخذ الدواب، وأن يأمر الخازن قبله بإجراء العلوفة على الدواب والنفقات على الفرانقيين والخدمة1، الأمر الذي يكفل سرعة وصول الأخبار إلى الخليفة. وقد كانت مكاتبات الدولة الرسمية المرسلة إلى قرطبة، تصل كلها إلى ديوان البريد في حين أن التقارير المرفوعة من أصحاب البريد، فإنه نظراً لسريتها، فإنها تصل إلى الأمير أو الخليفة مباشرة، وقد كان ديوان البريد في قرطبة وما يتبعه من مراكز بريديه في الكور والثغور وطرق البريد، تضم عدداً كبيراً من الموظفين والعمال على رأسهم صاحب البريد،   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 والذي يشغل أحياناً خطة أخرى مع خطته، ولعل الفتى فائق الصقلبي صاحب البرد والطراز كان أشهرهم1. ونظراً لأهمية منصب "صاحب البريد" فقد كان يُشترط في متوليه أن يكون أهلاً للثقة، كتوماً للسر، إذ أنه يطلع على أخبار ليس من اليسير أن يطلع عليها غيره. وصاحب البريد يشرف على استلام كل ما يرد إلى ديوان البريد من مكاتبات تأتي من الكور والثغور، والديوان بدوره يوزعها على بقية دواوين الدولة، كما أن صاحب البريد يقوم بمراقبة عمال البريد وموظفيه، سواء منهم من كان يعمل في قرطبة أو بقية النواحي، كما أن عليه دفع أرزاقهم. ولابد أن هناك أوقاتاً محددة لسير البريد في الأوقات العادية، لأجل هذا فعلى صاحب البريد مراعاة ذلك، فالأمير أو الخليفة الأموي كان شديد الحرص على معرفة أخبار الثغور والكور والسواحل في دولته، وقد بلغ الأمر بالأمير محمد بن عبد الرحمن أنه عندما تأخر عليه خبر الثغر، استدعى أحد رجاله ويدعى مطرف بن نصير2، وأمره أن يذهب إلى الثغر ويأتيه بالخبر اليقين عما أهمه، وضرب له أجلاً لأداء مهمته، مدته أربعة عشر يوماً وتوعده بسفك دمه إن هو تجاوزها3.   1- المصدر السابق، ص 66. 2- عن مطرف بن نصير: انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، التعليق: رقم 33. 3- المقتبس تحقيق: د. محمود مكي ص 132-133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 كما أن على صاحب البريد التفقد الدائم لطرق البريد وحفظها من اللصوص، ومناقشة احتياجات محطات البريد المنتشرة على تلك الطرق. وعندما يقع اختيار الأمير أو الخليفة على أحد ثقاته ليلي خطة البريد، فإنه يكتب له ظهيراً لاستلام هذه الخطة يوصيه فيه بتقوى الله تعالى في السر والعلانية، وألا يرفع إليه إلا الصدق، وألا يستعين بأحد في أداء عمله إلا بمن يثق بصناعته، وورعه، ونزاهته. ثم يتطرق الظهير إلى صلاحيات صاحب البريد، فهو مراقب لعمال الخراج والضياع، مستقصياً لأخبارهم، منهيا لها على الحق والصدق، ويتعرف على حال عمارة البلاد، وما يجري في أمور الرعية من الإنصاف والجور، كما أن عليه أن يتعرف على أحوال الحكام في أحكامهم، وحال دار الضرب وما يجري عليه مما يُضرب فيها من العين والورق، وأن يبث العيون في المجالس لمعرفة ما يجري فيها، وأن يحصي أسماء المرتبين لديه لحمل خرائط البريد، مبينا رزق كل منهم، وعدد السكك في جميع عمله وأميالها ومواضعها، وأن يحث رجاله بضرورة الإسراع بوصول البريد، وإثبات وقت مروره بكل موقع، على أن يُكتب كل غرض من هذه الأغراض في سجل خاص، فأخبار القضاة في سجل، وعمال المعاون والأحداث في سجل، وأخبار الخراج في سجل، وهكذا كل غرض في كتاب، لكي لا يكون هناك تداخلاً في الأعمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وفي نهاية الظهير وصية لصاحب البريد بالتمسك بالعهد الذي أخذه عليه ولي أمره، الذي يدعو لعامله بالتوفيق1. بقي أن أشير إلى أن بعض المصادر الأندلسية قد تعرضت لذكر بعض من كان يعمل في البريد لدى الأمويين في الأندلس، فقد ذكرت "الرقاص" والرقاص عند الأندلسيين والمغاربة هو ساعي البريد2، ويبدو أنه اكتسب هذا اللقب من سيره على قدميه، كما ورد مصطلح "عرفاء أصحاب الرسائل3" ومن هذا المصطلح يتضح لنا أن لكل مجموعة من العاملين في خطة البريد "عريف" يكون مسئولاً عن مجموعته، كما ورد مصطلح "كتاب الفُرانقين4" والفرانقيون5 هم الذين يقومون بملاحظة سير السعاة والخيالة وحالة المحطات، فهم أشبه بالمفتشين، وعلى جميع الفرانقيين تقديم تقارير مفصلة عن كل مايحدث في خطوط البريد ومحطاته إلى ديوان البريد بقرطبة، كما أن من واجبهم إصدار الرسائل إلى الكور   1- قدامه بن جعفر، الخراج وصناعة الكتاب، (شرح وتحقيق: د. محمد حسين الزبيدي، بغداد، وزارة الثقافة والأعلام، 1981م) ص 50-52. 2- نفح الطيب، 2/146. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 91. 4- المصدر السابق ص 91. 5- فرونق كلمة محرفة من برونك الفارسية ومعناها منذر أو دليل. انظر: نظام البريد في الدولة الإسلامية، ص 70 حاشية رقم 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 والثغور، ويجمعوا تقارير الموظفين الموزعين على أنحاء الدولة، لمراقبتها وتنظيمها وإرسالها إلى ديوان البريد1.   1- المرجع السابق، ص 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 المبحث الثاني: النظام المالي عرفت الدولة الأموية في الأندلس، ثلاث أنواع من خزائن المال، هي خزانة بيت مال المسلمين، والخزانة الخاصة بالأسرة الأموية، والخزانة العامة للدولة، ولكل نوع من هذه الأنواع الثلاث، واردات ومصروفات، ونظام دقيق تسير عليه، وسنتعرف على كل نوع منها على حده. أولاً: خزانة بيت مال المسلمين. عرفت الدولة الأموية في الأندلس هذا النوع من الخزائن، في عهد الأمير المنذر بن محمد 273-275هـ (886-888م) فهو الذي أمر بإنشائه لاستلام أموال الأوقاف، وأطلق عليه لقب "بيت المال1 " ورغم أنه أقيم في داخل جامع قرطبة، إلا أن ذلك لم يجعله في منأى عن اللصوص، فقد تعرض للسرقة وذلك في شهر شوال سنة 353هـ2 (أكتوبر 964م) . وقد أُسندت مهمة الإشراف على بيت مال المسلمين، لقاضي الجماعة، وهو بدوره لا يمكِّن أحداً من العمل فيه، إلا من كان غنياً، عدلاً، ثقة، ومع ذلك يكون القاضي دائم التفقد لهم، والسؤال عن أحوالهم في كل شهر إن أمكن، كما أن على القاضي أن يجتهد في إنماء تلك الأموال، مستعيناً على ذلك بآراء الفقهاء، ليكون بعضهم على بعض   1- البيان المغرب،2/230. 2- المصدر السابق، 2/236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 شهيدا، ويكونوا جميعاً على علم بما يُدخل إلى بيت المال وما يُخرج منه، وفي أي شيء صُرف، وبذلك لا تكون هناك فرصة للتلاعب بالأموال1. وقد تنوعت موارد بيت مال المسلمين، مابين أحباس، ومال غيبة، وزكاة. فأما الأحباس، فقد كان أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس، يتنافسون مع الأثرياء من رعاياهم في التحبيس لوجه الله تعالى، طلباً لمرضاته، وطمعاً في ثوابه، ومواساة لضعفاء المسلمين2. كما أن من غاب عن أملاكه ولم يكن له ورثة، أُدخلت أمواله إلى بيت مال المسلمين، ومن مات وليس له وارث إلا أحد الزوجين، فإن الفاضل من ميراثه يذهب لبيت مال المسلمين3. كما أن أي ذمي مات وترك مالاً منقولاً أو غير منقول، ولم يكن له وارث، ذهبت أمواله إلى بيت مال المسلمين4. وكذلك المرتد إذا لم يتب، فإن أمواله تدخل إلى بيت مال المسلمين5.   1- ابن عبدون، رسالة في القضاء والحسبة (ضمن مجموعة ثلاث رسائل في الحسبة تحقيق: ليفي بروفنسال، القاهرة 1955م) . ص 10. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 207. الإحاطة 3/549. الونشريسي، المعيار المعرب 7/416-417. 3- عبد القديم زلّوم، الأموال في دولة الخلافة، (بيروت، دار العلم للملايين، 1403هـ 1983م) ص 129. 4- المرجع السابق، ص 129-130. 5- نفسه، ص 131-132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وأما الزكاة فهي حق مقدَّر يجب في أموال معينة، وهي عبادة من العبادات وركنا من أركان الإسلام الخمسة، وبذلك فهي فرض عين على كل مسلم يملك النصاب فاضلاً عن ديونه، ويمضي عليه الحول، ومتى وجبت في مال المسلم لا تسقط عنه، وقد حرص الأمويون في الأندلس على إرشاد ولاتهم في الكور والثغور وبر العدوة المغربية، على أخذ الزكاة من مستحقيها بشروطها الشرعية، ويتضح هذا جلياً في الكتاب الذي أرسله الخليفة الحكم المستنصر بالله لأبي العيش بن أيوب عندما ولاه النظر على جماعته من قبيلة كتامة، وذلك في يوم الثلاثاء لست خلون من شهر رمضان سنة 362هـ (يونيو 973م) 1. وكان هناك أُناس قد تخصصوا بجمع الزكاة من الذين وجبت عليهم، ويطلق على من يقوم بجمعها اسم "مصدق"2. وقد تعددت وجوه إنفاق أموال بيت مال المسلمين، فهناك الصدقات التي يتم توزيعها على مستحقيها، ومن أجل تنظيم هذه الناحية بصورة أكثر مما كانت عليه، أنشأ الخليفة الحكم المستنصر بالله داراً للصدقة غربي المسجد الجامع بقرطبة وذلك سنة 360هـ (971م) 3.   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 111-114. 2- المصدر السابق، ص113. 3- نفسه، ص 19. البيان المغرب،2/240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 كما يتم بناء المساجد من بيت مال المسلمين، فالأمير عبد الرحمن الداخل قام ببناء جامع قرطبة من مال الأحباس1، وبيت مال المسلمين هو ساعد قوي للدولة عند تعرضها لأزمة اقتصادية2، وإذا أراد الأمير أو الخليفة الأموي القيام بوجه من أوجه الخير، مثل غزاة، أو إصلاح موضع من الثغور، أو مدافعة عدو عن المسلمين، دفع إليه القاضي من بيت مال المسلمين ما يراه على طريق المعونة، وصلاح أمور المسلمين3. وفي الفتنة البربرية، أثناء محاصرة البربر لقرطبة سنة 401هـ (1010م) وافق قاضي الجماعة أحمد بن عبد الله بن هرثمة بن ذكوان4 على إعطاء المدافعين   1- محمد بن عبد الوهاب الغساني، رحلة الوزير في افتكاك الأسير، (بعناية: الفريد البستاني، نشر مؤسسة الجنرال فرانكو 1939م) ص 19. 2- قضاة قرطبة، ص 93-94. 3- ابن عبدون، ص 11. 4- أبو العباس أحمد بن عبد الله بن هرثمة بن ذكوان بن عبد الله بن عبدوس بن ذكوان، أصله من جيان، كان من شيوخ أهل العلم، مذكوراً بالفضل، من أهل بيت فهم وعلم ورياسة، كان ملازماً للمنصور بن أبي عامر، لايفارقه في حضر ولاسفر، والمنصور دائم الاستشارة له، ولاه خطة الرد، ثم قضاء الجماعة، ثم جمع له الصلاة والخطبة، وفي عهد المظفر استمرت مكانة ابن ذكوان بازدياد لديه، رغم تعرضه للعزل عن مناصبه مدة تسعة أشهر، وقد كان المظفر ما يجري شيئا من أمور الدولة إلا عن مشورة ابن ذكوان، وفي عهد عبد الرحمن بن المنصور أصبح ابن ذكوان قاضي القضاة، فهو أول من تسمى بهذا الاسم في الأندلس، كما ولاه عبد الرحمن الوزارة، وبذلك فهو أول من جمع بين المنصبين في الأندلس، فلما تولى المهدي الخلافة، وكان حاقداً على ابن ذكوان، نزع عنه مسمى قاضي القضاة، وأبقاه على قضاء الجماعة، ولم يجرؤ على مساسه بالأذى لجلالة مكانته في قلوب الخاصة والعامة، وفي سنة 401هـ تم طرد بني ذكوان من الأندلس إلى العدوة المغربية، بسبب مكائد واضح الصقلبي، لأن ابن ذكوان كان يدعو للسلم والصلح مع البربر، وبعد أن قُتل واضح، عاد ابن ذكوان وأسرته إلى الأندلس، إلا أنه رفض المناصب رغم الإلحاح عليه، ومازال ابن ذكوان عظيم أهل الأندلس قاطبة، وأعلاهم محلاً، وأوفرهم جاهاً، هيبته في مرتبة هيبة الخليفة، إلى أن توفي رحمه الله، حيث دفن بعد صلاة العصر من يوم الأحد لتسع بقين من رجب سنة 413هـ، بمقبرة بني العباس، عن إحدى وسبعين سنة، ولم يتخلف عن شهود جنازته كبير أحد من الخاصة أو العامة، وشهد الصلاة عليه الخليفة يحيى بن علي بن حمود، فقدم للصلاة عليه أخاه أبا حاتم محمد بن عبد الله بن ذكوان صاحب المظالم. انظر: جذوة المقتبس، ترجمة رقم 223. ترتيب المدارك 7/166-175. الصلة، ترجمة رقم 65. المرقبة العليا، ص 84-87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 خمسمائة فرس من مال الأحباس يحمل عليها مرتجلة العبيد1، ويبدو أن موقفه هذا كان نتيجة تأثره بموقف أهل قرطبة منه عندما طلبوا منه أن يمكنهم من الأموال المخزونة بالجامع ليدفعوها للنصارى حلفاء الخليفة المهدي وذلك سنة 400هـ (1010م) فقد رفض القاضي طلبهم، إلا أن عامة أهل قرطبة هجموا على المسجد الجامع وكسروا باب المقصورة وأخذوا الأموال ودفعوها، مع ما قد جمعوه من قبل للنصارى2.   1- البيان المغرب، 3/104. 2- المصدر السابق، 3/98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 ثانياً: الخزانة الخاصة وهذه عُرفت باسم "بيت مال الخاصة1" ويُحمل إلى هذه الخزانة، الأموال التي تركها الأمراء والخلفاء الأمويين لأبنائهم، ولعل الأخماس التي لبني أمية في الأندلس، كانت من أهم موارد الخزانة الخاصة، فقد كانت من ضخامتها لا يحصيها ديوان2 يضاف إليها ما يحصله القائمون على الأسواق من جراء أخذهم الضريبة من بائعي الخضر والفواكه وغيرها، وهو ما يسمى بالمستخلص، وهذا المستخلص يبدو أنه كان ضخماً جداً، فقد كان مقدار ما يصل منه لبيت مال الخاصة سنوياً في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر 765ألف دينار3. وهناك الأموال التي كانت تدرها ضياع الأمراء والخلفاء الأمويين، والمنتشرة في أرجاء الأندلس، وهذه تعتبر مورداً هاماً من موارد الخزانة الخاصة، ولنا أن نتصور ضخامة تلك الضياع ومقدار ما تدره من الأموال، إذا عرفنا أن الخليفة الحكم المستنصر بالله قد حبَّس ربع ما ورثه عن والده في جميع كور الأندلس وأقاليمها من الضياع، ليفرَّق على ضعفاء الدولة الأموية ومساكينها عاماً بعد عام، إلا أذا حلَّت مجاعة بأهل قرطبة، فإنها تصرف إليهم إلى أن يجبرهم الله تعالى4. فإذا كان ربع الدخل يغطي   1- الذخيرة، ق4 م1 ص 72. 2- نفح الطيب، 1/330. 3/30، 379. 3- البيان المغرب، 2/232. 4- البيان المغرب، 2/234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 احتياجات فقراء الدولة ومساكينها، إذاً كم كان مقدار ما يصل إلى الخزانة الخاصة كل عام؟. وطبيعي أن هذه الضياع الشاسعة والمتناثرة في أرجاء الدولة بحاجة لأيدي عاملة تقوم بخدمتها ومراعاة احتياجاتها، وهذه العمالة بحاجة لإدارة كاملة تتولى شئونها، وقد عُرفت هذه الإدارة بخطة الضياع، يتولاها أحد كبار موظفي الدولة، ويعرف باسم "صاحب الضياع"1. و"خطة الضياع" لا نجد لها أي ذكر، إلا ابتداءاً من عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، ولعل هذا يدفعنا إلى القول بأن هذه الضياع، لم تكن بالاتساع الذي شهدته في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، خاصة أن الدولة الأموية مرت بأزمات وفتن كادت أن تعصف بها، وذلك في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) وبذلك فهي وإن كانت موجودة من قبل، إلا أنه لم يعد لها ذكر إبان تلك الفترة الحرجة، وذلك لانعدام سيطرة الإمارة الأموية على كافة أرجاء الأندلس، وعندما تمكن الخليفة عبد الرحمن الناصر من إخضاع البلاد لسيطرته، استعاد تلك الضياع وزاد عليها، ونظراً لضخامتها فقد أنشأ لها إدارة خاصة للعناية بها. وممن تولى "خطة الضياع" في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، غالب بن محمد بن عبد الرؤوف، وعندما عُزل عنها في نهاية جمادى الآخرة سنة   1- المصدر السابق، 2/199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 316هـ (أغسطس928م) تولاها محمد بن عبد الله بن مضر، ثم عُزل عنها ووليها خلف بن أيوب بن فرج الكاتب1. وقد كانت "خطة الضياع" تُسند أحياناً لاثنين مشتركين، ففي سنة 319هـ (931م) تولاها كل من: محمد بن عبد الله بن مضر وعبد الله بن معاذ بن بزيل2. ومن الموارد المهمة للخزانة الخاصة ما يسمى بـ"المستغلات"3 وهي المصادرات المالية التي كان يتعرض لها بعض رجال الدولة، فالأمير المنذر بن محمد، نكب الوزير هاشم بن عبد العزيز ثم قتله، وسجن أولاده وحاشيته، وانتهب ماله، وألزم أولاده غُرم مائتي ألف دينار4. وهناك الهدايا التي يتلقاها أمراء وخلفاء بني أمية، وهذه تعتبر من الموارد الهامة للخزانة الخاصة، كهدية ابن شُهيد للخليفة عبد الرحمن الناصر سنة 327هـ5 (939م) والهدية التي تلقاها الخليفة الحكم المستنصر بالله يوم مبايعته بالخلافة، فقد قدم له الحاجب جعفر المصحفي هدية سنية6،   1- نفسه،، 2/199. 2- نفسه، 2/205. 3- النباهي، ص 114. 4- البيان المغرب، 2 /116. 5- نفح الطيب، 1/356-359. 6- المصدر السابق، ص382. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 كما تلقى الخليفة الحكم هدية فتاه دريّ الأصغر الخازن وذلك سنة 362هـ1 (973م) . ويقوم الخليفة الأموي أحياناً باستقطاع جزء من ثروات عماله، ليضعها في الخزينة الخاصة، وهم بدورهم يقدمونها عن طيب خاطر، وذلك كما فعل ابن السليم عندما دفع للخليفة عبد الرحمن الناصر مائة ألف دينار دراهم2. والوفود والسفارات التي تصل قرطبة، تقدم هدايا خاصة للأمير أو الخليفة، وهذه بدورها تذهب إلى الخزانة الخاصة3. ولقد كانت الخزانة الخاصة تغص بالأموال، لكن ليس لدينا تحديد دقيق لمقدار تلك الأموال في أي سنة من عمر الدولة الأموية، إلا أن لدينا بعض الأرقام التي تساعد على تصور مدى ضخامة تلك الخزانة، فقد ذكر ابن حيان أن "صبح" أم الخليفة هشام المؤيد بالله، قد أخرجت جزءاً من مدخرات الخزانة الخاصة، فبلغ ثمانين ألف دينار4. وعندما قام عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر بنقل بيت مال الخاصة من قصر قرطبة إلى الزاهرة، تنفيذاً لأوامر والده، وذلك يوم الثلاثاء الثالث   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 106-107. 2- البيان المغرب،2/226. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 32، 110. نفح الطيب، 1/385. أزهار الرياض، 2/260-261. 4- الذخيرة، ق4 م1 ص 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ممن جمادى الأولى سنة 386هـ1 (مايو 996م) تمكن عبد الملك خلال ثلاثة أيام من حمل ما قدره: من الورق خمسة آلاف ألف دينار دراهم قاسمية، ومن الذهب سبعمائة ألف جعفرية2، ومع ذلك لم يتمكن من أخذ كل ما في بيت مال الخالصة لوقوف السيدة "صبح" ومن معها من أهل القصر دونه3. وعندما سيطر المهدي على الخلافة، استصفى ما كان في حوزة العامريين في الزاهرة من أموال، فقد تمكن خلال ثلاثة أيام من نقل خمسة آلاف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، ومن الذهب ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، ثم وجد فيها بعد ذلك خوابي مملوءة من الورق، مدفونة في الأرض، فيها مقدار مائتي ألف دينار4. ويمكن أن نلحق بالخزانة الخاصة، تلك الأموال السريَّة التي كان أمراء وخلفاء بني أمية يحتفظون بها بطريقة سريَّة، فقد كانوا يعمدون إلى نفيس جواهرهم وذخائرهم ويحتفظون بها في مكان سري بقصر قرطبة، ولا يعلم أحد عن تلك المدخرات، إلا واحد من كبار فتيان القصر، وتكون تلك المدخرات مسجلة في سجل خاص يحتفظ به ذلك الفتى5.   1- المصدر السابق، ص 72. 2- نفسه، ص73. 3- نفسه، ص 72. 4- البيان المغرب،3/61. 5- المصدر السابق،3/76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ورغم صمت المصادر عن ذكر أي مسئول يتولى إدارة الخزانة الخاصة، إلا أننا نتوقع أن هناك عددا من الموظفين الماهرين في العمليات الحسابية يعملون في تلك الخزانة، تحت إشراف أحد رجال القصر، الذي يعمل تحت مسمى وظيفة سرية. وأموال الخزانة الخاصة ينفق منها أمراء وخلفاء بني أمية على لوازم قصورهم وضياعهم والمنى التي يتروحون فيها، وكذلك الإنفاق على الخدم والحشم والحرس الذين يعملون معهم. وقد كان عدد الفتيان الصقالبة بقصر الزهراء في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر ثلاثة ألاف وسبعمائة وخمسون، ومن النساء الكبار والصغار وخدم الخدمة ستة ألاف وثلاثمائة امرأة، ولذا فقد كان القصر الخلافي يستهلك يومياً من اللحم فقط ثلاثة عشر ألف رطل، هذا بخلاف الدجاج والحجل وصنوف الطير وضروب الحيتان1. في حين أن جاري قصر الزاهرة في عهد المنصور بن أبي عامر تسعة ألاف رطل من اللحم على نسائه في قصره على طبقاتهن، وأما وظيفة مطبخة الخاصة المقامة كل يوم، فلم يوقف عليه لضخامته2. كما ينفق أمراء وخلفاء بني أمية من الخزانة الخاصة على ما يقومون ببنائه من منى وضياع، سواء كان لأنفسهم أو لأولادهم عندما يتم   1- نفسه، 2/232. 2- أعمال الأعلام، 2/102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 إخراجهم من القصر -باستثناء ولي العهد- وإجراء الأرزاق الشهرية والحولية1، بالإضافة إلى الإنفاق على بعض الأقارب2. وهناك الوفود والسفارات التي تصل إلى قرطبة، فالأمير أو الخليفة، يُعوِّض الوفد عن هديته، كما أنه يقوم بالإنفاق على أعضاء الوفد طيلة مكوثهم بقرطبة3. ومن لجأ إلى الدولة الأموية فله الصلة والرزق والجرايات إكراماً له4، كما يتم إكرام بعض رجال الدولة في بعض المناسبات5، والإنفاق على العلماء6 ومكافأة الشعراء7، وتكريم قادة الجيوش بمنحهم السيوف المذهبة وإغداق الأموال عليهم8، بالإضافة إلى ما تكلفه الحفلات الخاصة والمنح التي تعطى للمغنيين9.   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 226، 227، 236، 237. المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 14. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 92. نفح الطيب، 3/38. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص266، 267. 4- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص53. 5- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 170-171. 6- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 133-134. 7- المقتبس، تحقيق د. محمود مكي، ص 279، 281، 284، 285، 286. 8- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 80. 9- ابن القوطية، ص 60، 68-69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ثالثاً: الخزانة العامة للدولة عُرفت هذه الخزانة باسم "خزانة المال1" أو "الخزانة2" أو "الخزانة الكبرى3" وكان موقعها داخل قصر الإمارة بقرطبة، ثم انتقلت إلى قصر الخلافة بالزهراء، ومن ثم إلى الزاهرة، وأخيراً عادت إلى قصر قرطبة ابتداءاً من مطلع القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) ووجود الخزانة داخل القصر، يعني أنها في مكان حصين، وتحت حراسة مشددة، إذ لم نسمع أنه قد تم السطو عليها، كما حصل لبيت مال المسلمين الموجود في المسجد الجامع4. ويبدو أن خزانة الدولة، لم تكن ضخمة في بداية أمرها، مما جعل أمر إدارتها يسيراً، لذا فقد تأخر إنشاء خطة خاصة بهذا الجهاز الذي يعد أهم وأضخم أجهزة الدولة الأموية، فالأمير الحكم الربضي هو الذي أنشأ خطة الخزانة، وجعلها جهازاً قائماً بذاته، وسفيان بن عبد ربه5 "هو أول   1- البيان المغرب، 2/164. 2- المصدر السابق، 2/158. 3- المقتبس، تحقيق د. محمود مكي، ص 25. 4- البيان المغرب،2/236. 5- سفيان بن عبد ربه المصمودي، لم يكن من أسرة عريقة في خطط الدولة الأموية تولى خدمة الخزانة الكبرى، وتنقل في عدة مناصب، حتى نال منصب الحجابة للأمير عبد الرحمن بن الحكم، ولم يزل في منصبه هذا حتى توفى سنة 211هـ، وقد كان سفيان موصوفاً بالغناء والكفاية والعفة والأمانة، وعندما ذكره ابن حزم في جمهرته أشار إلى أن سلالة سفيان قد بادت ولا يعلم لهم خبرا. انظر: ابن القوطية، ص62، إلا أنه ذكره باسم "مهران". جمهرة أنساب العرب، ص 500، المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 25-26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 من استُخزن بالأندلس1" وذلك في أواخر القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) . وطبيعي أن ابن عبد ربه لم يكن يقوم بأداء مهام خطته لوحده فقد كان لديه مجموعة من الموظفين ذوي المهارة في الأعمال الحسابية، كما أن هناك العديد من المكاتب المالية المتناثرة في كور وثغور الدولة الأموية، كلها تتبع خطة الخزانة، فقد كانت تلك المكاتب تقوم بإرسال ماتنجزه من مهام مالية إلى الخزانة العامة للدولة ويرأس كل مكتب من تلك المكاتب موظف يعرف باسم الأمين أو الخازن2، يقوم بجباية الضرائب بأنواعها، وبعد أن يصرف منها رواتب الموظفين والجند وبعض النفقات يرسل الفائض إلى الإدارة المالية بالعاصمة. ولا تسند هذه الخطة إلا لمن كان ثقة أميناً، ذا دراية واسعة بالحسبان، ويسمى صاحب هذه الخطة "الخازن" ويطلق على معاونيه اسم "الخُزاَّن" وكان عددهم يصل أحياناً إلى ثلاثة3، يرأسهم الخازن الذي يعرف بـ"شيخ الخُزَّان4" وعندما تعرض ابن خلدون لذكر هذه الخطة   1- المصدر السابق، ص25. 2- الحلة السيراء 1/241. 3- ابن القوطية، ص 62. 4- المصدر السابق، ص62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 عند أموي الأندلس، ذكر أن متوليها له جزء من رئاسة الدولة1. لأجل هذا فقد كانت الدولة الأموية لا تسندها إلا لمن كان من ثقاتها، ويخرج بمناسبة التعيين ظهير للخازن الجديد تحدد له فيه الصلاحيات، ويرشد إلى بعض الأمور، بعد أخذ العهد عليه، ويدعى له بالتوفيق. ولقد كانت شخصيات رجال الدولة الأموية، شخصيات فذة، سمتها الإخلاص، وظهر هذا جلياً في موقف شيخ الخزَّان موسى بن حدير الذي رفض تنفيذ أمر الأمير عبد الرحمن الأوسط بصرف مبلغ ثلاثين ألف دينار للمغني زرياب، فقد قال موسى بن حدير لصاحب الرسائل الذي حمل الأمر "نحن وأن كنَّا خُزَّان الأمير أبقاه الله، فنحن خُزَّان المسلمين، نجبي أموالهم وننفقها في مصالحهم، ولا والله ما ينفذ هذا، ولامنا من يرضى أن يرى هذا في صحيفته غدا، أن نأخذ ثلاثين ألفا من أموال المسلمين وندفعها إلى مغن في صوت غناه، يدفع إليه الأمير أبقاه الله ذلك مما عنده"2. والبيانات الحسابية التي يقدمها الخُزَّان وشيخهم لا يصادق عليها مباشرة، وإنما تتم عملية مراجعتها من قبل الأمير أو الخليفة، ومناقشتهم فيها، ويتم التغاضي عن الخطأ إن كان يسيرا3، لكنه ربما أدى ذلك إلى عزل الخزّان وشيخهم، وهذا ما فعله الخليفة عبد الرحمن الناصر سنة   1- مقدمة ابن خلدون، ص 678. 2- ابن القوطية، ص68-69. إن من توفيق الله لولي الأمر أن تكون بطانته صالحة. 3- المقتبس، تحقيق د. محمود مكي، ص 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 316هـ (928م) عندما أمر بعزل جميع خُزَّان المال، وكانوا خمسة، وولى مكانهم أربعة خُزَّان1. وقد كان الخليفة الحكم المستنصر بالله لا يكتفي بالعزل، بل يصحب ذلك الإهانة والإذلال، وهذا ما تعرض له الفتى دري الكبير الصقلبي، المعروف بالخازن، فقد غضب عليه الخليفة الحكم لتقصيره في عمله، فأقصاه وأهانه وولى إذلاله صاحب المدينة بالزهراء زياد بن أفلح، وذلك في شهر رجب سنة 362هـ2 (إبريل 973م) . وكانت الخزانة العامة تتلقى مواردها من عدة طرق، منها الجزية والخراج والصدقات والعشور والغنائم والمصادرات وغيرها. فالجزية هي "الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام"3 وبذلك فهي ضريبة على الرؤوس، فالذمي يلتزم بأداء مقدار من المال للدولة الإسلامية في موعد محدد، متى ما توافرت شروطها، وذلك مقابل حمايته وحماية أملاكه، وفي هذا يقول الماوردي إن الجزية "موضوعة على الرؤوس، واسمها مشتق من الجزاء، إما جزاء على كفرهم لأخذها منهم صغارا، وإما جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقا"4 والأصل   1- البيان المغرب،2/197.لكن العزل الذي أجراه الناصر هنا ربما كان جرياً على عادته في التغيير المستمر لرجال دولته، ونقلهم من خطة لأخرى. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 103. 3- ابن قدامة، عبد الله بن أحمد، المغني (القاهرة 1367هـ) ج5 ص495. 4- الأحكام السلطانية، ص 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 فيها قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1 وهي بذلك تسقط عند الدخول في الإسلام. ورغم أننا نفتقر لنصوص تبين لنا الكيفية التي كانت تُجبى عليها الجزية في الأندلس، إلا أننا لا نشك في أن التعامل مع أهل الذمة هناك في هذه المسألة، كان يسير وفق هدي الشريعة السمحة، فكل ذمي يدفع الجزية وفق طاقته، ويعفى منها المسكين2، والأعمى3، والمقعد4، والمريض الذي لا يرجى شفاؤه5، كما أعفي منها المملوك، والمجنون، والصبيان، والنساء، والقسس والرهبان6. وكانت الجزية تؤخذ من فئات ثلاث من فئات أهل الذمة، فمن الموسر يؤخذ ثمانية وأربعون درهماً، ومن الوسط أربعة وعشرون درهماً،   1- سورة التوبة آية رقم 29. 2- أبو يوسف، كتاب الخراج، (القاهرة، المطبعة السلفية ومكتبتها، ط الثانية 1352هـ) ص122. 3- المصدر السابق، ص 122. 4- نفسه، ص 122. 5- نفسه، ص 123. الأحكام السلطانية ص 130. 6- كتاب الخراج، ص122. الأحكام السلطانية، ص 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 ومن الذي يعمل بيده كالخياط والصباغ والاسكافي والخراز ومن أشبههم، اثنا عشر درهماً1. لكن في الأندلس كان الدينار بسبعة عشر درهما2، وعليه فإن الموسر يدفع واحد وخمسين درهما، والوسط أربعة وثلاثين درهما، والعامل بيده سبعة عشر درهماً، تؤخذ منهم كل سنة3. ويتولى قبض الجزية من أهل الذمة في كل كورة ومدينة، موظف من موظفي الدولة ممن يوثق بدينه وأمانته، ويكون معه أعوان لمساعدته، فيقومون بجمعها بدون ظلم وتعسف4، فإذا اجتمعت لديه الأموال حملها إلى بيت المال5. وأما الخراج فهو "ما وضع على رقاب الأرض من حقوق تؤدى عنها"6 وهي الأرض التي صولح عليها المشركون من أرضهم، وهي على نوعين: أحدهما ما هرب عنه أصحابه، فخلص للمسلمين بغير قتال، فتصبح وقفاً على مصالح المسلمين، ويضرب عليها الخراج ويكون أجرة تقر على الأبد وإن لم يقدر بمدة، والأخر ما أقام فيه أهله وصولحوا على   1- كتاب الخراج، ص 122،123-124. الأحكام السلطانية، ص 128. 2- صورة الأرض، ص 108. 3- أبو رميله، نظم الحكم في الأندلس، ص 219. 4- كتاب الخراج، ص 124. 5- المصدر السابق، ص 124. 6- الأحكام السلطانية، ص 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 إقراره في أيديهم بخراج يضرب عليهم، وهذا بدوره ينقسم إلى قسمين، أحدهما: أن ينزلوا عن ملك الأرض فتصبح وقفاً على المسلمين، ويكون الخراج المضروب عليهم أجرة لا تسقط إلا بإسلامهم، والأخر: أن يستبقوها على أملاكهم ولا ينزلوا عن رقابها ويصالحوا عليها بخراج1. والحديث عن الخراج في الأندلس يتطلب تتبع عملية الفتح، والإجراء الذي قام به موسى بن نصير ومن أتى بعده من الولاة، وعندما تعرض الدكتور حسين مؤنس للحديث عن الخراج في الأندلس، ذكر بأن عقدة العقد في تاريخ عصر الولاة هي ناحية الخراج2. ثم ناقش هذه القضية باستفاضة، وخلص إلى أن موسى بن نصير قد قام بتخميس الأراضي الواقعة جنوب الوادي الكبير، فجعل أربعة أخماس تلك الأراضي بأيدي القبائل المشتركة في عملية الفتح، والخمس ملكاً للدولة، وانسحب هذا الحكم على الأراضي الواقعة بين الوادي الكبير ووادي آنه، ومابين هذا النهر والمحيط الأطلسي، فيما عدا ثلاثة مدن، وهي التي استسلم أهلها للمسلمين، وبذلك لم يجر عليها حكم العنوة. وبذلك أصبحت أراضي الجنوب والغرب، التي تقاسمها العرب إقطاعات، ملكاً لأصحابها، يتوارثها الأبناء عن الآباء، وهو ماأيده الخليفة الوليد بن عبد الملك، حيث منح زعماء تلك القبائل سجلات بذلك،   1- المصدر السابق، ص 131-132. 2- فجر الأندلس، ص 614. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وعندما جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز أيد فعل الخليفة الوليد، واعتبر ما فتحه المسلمون من الأرضين إقطاعات1. وعلى ضوء الدراسة الوافية التي قام بها الدكتور حسين مؤنس للناحية المالية ومسائل أراضي الخراج في الأندلس، يمكن القول بأن نصيب خزانة الدولة كانت ثلث خراج أراضي الخمس2، وطيلة عهد الدولة الأموية كان ذلك الثلث معلوم المقدار، ولم يختل إلا بعد أن اندلعت الفتن، وانتزى كل زعيم بجزء من أراضي الدولة الأموية، مشكلاً دولة من دول الطوائف3. في حين أن العرب والبربر الذين دخلوا الأندلس في أوائل الفتح واستقروا في إقطاعاتهم، كانوا يدفعون العشر فقط4، إضافة إلى قيامهم بتلبية نداء حكومة قرطبة عند الغزو، واستمر الوضع بهذه الصورة إلى أن أعفاهم الحاجب المنصور بن أبي عامر من الغزو، شريطة دفعهم لمبالغ إضافية زيادة على العشر5.   1- انظر: الرسالة الشريفية في الأقطار الأندلسية "منشورة في آخر كتاب: افتتاح الأندلس لابن القوطية" ص 198-207. رحلة الوزير في افتكاك الأسير، ص 112-116. فجر الأندلس ص615-629. 2- انظر: الرسالة الشريفية، ص112-116.الإحاطة1/106. رحلة الوزير في افتكاك الأسير، ص112. 3- الرسالة الشريفية، ص203، رحلة الوزير في افتكاك الأسير ص114. 4- الإحاطة، 1/110. 5- مذكرات الأمير عبد الله ص 17. أعمال الأعلام 2/68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وأما أراضي الصلح، فإن أهلها كانوا يقومون بدفع جزية عن رؤوسهم وخراجاً عن أراضيهم، وهذا الخراج جُعلت قيمته تبعاً لطيب الأرض وغلتها1. ويتولى جباية خراج أراضي الصلح، أحد موظفي الدولة، يساعده في ذلك رؤساء أهل الذمة، وهم "أشياخ من أهل دينهم، أولو حنكة ودهاء ومداراة ومعرفة بالجباية اللازمة لرؤوسهم2" ولعل أرطباس القومس زعيم أهل الذمة في الأندلس، كان أشهر مستخرجي خراج الذميين للمسلمين3. بينما نجد القبائل العربية صاحبة الإقطاعات، يتولى زعيم كل قبيلة جمع خراج قبيلته، فإن كانت القبيلة شامية اكتفى زعيمها بإرسال ما تمت المقاطعة به على أموال أهل الذمة التي في أيديهم لحكومة قرطبة، وذلك دون العشر، لأنهم معفيين منه، إذ أن قبائلهم معدة للغزو4، إضافة إلى تقديم الدولة الأموية في الأندلس لهم على من سواهم، وأما إن كانت القبيلة بلدية، أدت ضربية العشر إضافة إلى ما تمت المقاطعة عليه5.   1- رحلة الوزير في افتكاك الأسير، 116، فجر الأندلس ص 626. 2- الإحاطة، 1/107. 3- المصدر السابق،1/103. 4- نفسه، 1/104. 5- نفسه، 1/104-105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ومن الموارد التي كانت تستفيد منها الخزانة العامة، الأموال التي كان يبعث بها القادة المرابطين في بعض الكور والثغور، وهذه الأموال أو الضرائب برزت بصورة قوية في عهد الأمير عبد الله بن محمد 275-300هـ (888-912م) وذلك بسبب اندلاع الفتن في أرجاء الدولة الأموية، وحصول قادة تلك الفتن على ما يشبه الحكم الذاتي مقابل دفعهم لمبالغ مادية سنوية لحكومة قرطبة. ويبدو أن الأموال التي كانت تحصل عليها الدولة من هذا الجانب، ضخمة جداً، يدل على ذلك أنه قد أنشئ ديوان خاص بها، يتولى استقبال تلك الأموال، وكان ذلك الديوان ضخماً، بحيث أطلق عليه مصطلح "خطة القُطُع"1 ويرأس هذه الخطة أحد كبار رجال الدولة وكان موسى بن محمد بن سعيد بن موسى بن حدير من بين الذين تولوا هذه الخطة للأمير عبد الله بن محمد2. وهناك مورد آخر للخزانة، فقد كانت حكومة قرطبة تتحفظ على أموال المتوفين أو الغائبين أو من تطالبهم الدولة بأموال حتى يتم الفصل في أمرها، وقد أنشأت خطة خاصة بهذه الأموال تسمى "خطة العقل"3. وتعد الضرائب من الموارد الهامة لخزانة الدولة، منها: ضريبة القطيع، ويبدو أنها فرضت عند آخر عهد الدولة الأموية، عندما أصبح خلفاء الفتنة لا يجدون مورداً مالياً يغطي نفقات أطماعهم، وعن ضريبة القطيع   1- الحلة السيراء 1/230. 2- المصدر السابق،1/233. 3- نفسه، 1/243، الحاشية رقم 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 يقول ابن حزم "وأما في زماننا هذا وبلدنا هذه فإنما هي جزية على رؤوس الناس يسمونها القطيع ويؤدونها مشاهرة1" ومن هنا يتضح أنها لا تفرق بين ذمي أو مسلم2. وهناك ضريبة تجنيها الدولة تسمى "القبالة" وهي "أن يدفع السلطان أو نائبه صقعاً أو بلدة أو قرية إلى رجل مدة سنة مقاطعة بمال معلوم يؤديه إليه عن خراج أرضها وجزية رؤوس أهلها إن كانوا أهل ذمة فيقبل ذلك ويكتب عليه بذلك كتاب3". والقبالة مفيدة لولي الأمر إذ أنه يحصل على الأموال مباشرة، كما أنها مفيدة للمتقبل إذ أنه سيجني أكثر مما دفعه، والضحية في ذلك الرعية، فهم يتعرضون لظلم ذلك المتقبل وعسفه الذي لايعنيه من الأمر سوى الربح، ولذا نجد الخليفة الحكم المستنصر بالله يحذر المتقبلين لديه من التعرض في شيء لعابري السبيل4. ولكن يبدو أن أمر القبالة والمتقبلين   1- د. إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي عصر سيادة قرطبة، ص 84-85. 2- هذه الحالة ربما تكون هي أخر مرحلة تعيشها الدولة عند السقوط، إذ يصبح هم صاحب الدولة منحصراً في كيفية الحصول على الأموال دونما أي اعتبار لمصدرها أو تأثيرها على الآخرين. 3- عبد العزيز بن محمد الرحبي الحنفي، فقه الملوك ومفتاح الرتاج المرصد على خزانة كتاب الخراج، (تحقيق: د. أحمد عبيد الكبيسي، نشر رئاسة ديوان الأوقاف الجمهورية العراقية 1975م) 2/3. 4- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 113-114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 أصبح شراً على الأندلسيين، من جراء الظلم الذي كانوا يتعرضون له، ولذا نجد ابن عبد ون يحمل على المتقبل، ويعتبره شر خلق الله، ويصفه بالزنبور الذي خلق للضرر، لا للنفع لأنه لا يسعى إلا بمضرة المسلمين، فهو "ملعون من الله ومن الناس أجمعين، فيجب على القاضي أن يستحلفه ويحد له ما يصنع في تصرفه، ولا يتركه يتحكم في أموال الناس باختياره وعلى ما يراه أنه صواب لنفعه، ويغلظ له في القول والتوبيخ، وأن يرتب له الوزير بحضرة القاضي ما يأخذ من الأشياء التي يتقبلها ولا يزيد فيها ولا ينقص، ومتى تعدى على أكثر من ذلك أُدِّب وسُجن ونُكِّل"1. ومن قبل ابن عبد ون، كان القاضي أبو يوسف قد هاجم المتقبلين وطراءقهم في جمع الخراج فقال "والمتقبل لا يبالي بهلاكهم بصلاح أمره في قبالته، ولعله يستفضل بعد ما يتقبل به فضلا كثيرا، وليس يمكنه ذلك إلا بشدة منه على الرعية، وضرب لهم شديد، وإقامته لهم في الشمس، وتعليق الحجارة في الأعناق، وعذاب عظيم ينال أهل الخراج مما ليس يجب عليهم من الفساد الذي نهى الله عنه"2. وعرفت الخزانة عدة ضرائب أخرى منها: العشور، وهي رسوم تؤخذ من الرعية بلا استثناء فعلى المسلم ربع العشر، والذمي نصف العشر، والحربي العشر3، وهذه الضريبة تؤخذ من التجار، فهي بالنسبة   1- رسالة ابن عبدون في آداب الحسبة والمحتسب، ص 30. 2- كتاب الخراج، ص 105. 3- كتاب الخراج، ص 132. المغني، 8/518. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 للمسلم زكاة، ولأهل الذمة تنفيذاً لعقود الصلح المبرمة معهم، وتؤخذ من الحربي الذي يمر بتجارته في أراضي المسلمين لقاء حمايته، وطبيعي أنها لا تؤخذ إلا بعد بلوغ النصاب1. ومنصب متولي آخذ العشور، باب للثراء على حساب الآخرين، ولذا يجب أن لا يليه إلا من يوثق بدينه وأمانته، ويقف عند الحدود التي حدها له القاضي، ويعمل بوصيته، فيرفق بأصحاب التجارة والمزارعين ولا يشطط عليهم، وإذا أتى بالزمام الذي دَّون فيه ما قبضه من عشور، فلابد أن يريه القاضي ليمضي عليه، وصاحب العشور يستلم أجرته من عند رئيسه، ولا يستلمها ظلماً وجوراً من أصحاب الأموال المعشَّرة2. ويبدو أن متولي مهمة قبض العشور كانوا لا يلزمون النهج الشرعي في عملهم، ولذا نرى ابن عبد ون يندد بهم، ويصفهم بالظلمة الفسقة، ويعتبرهم "أكلة سحتٍ، أشراراً، سفلة، لا خوف ولا حياء ولا دين ولا صلاة لهم، باعو أديانهم بدنيا غيرهم"3. ولنا أن نتوقع أن المبالغ التي يتم تحصيلها من العشور كانت ضخمة للغاية، وهذه متوقفة على الحالة الاقتصادية للدولة، والأندلس بلغت في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله الغاية في المستوى الاقتصادي، وفي عهده تم إجراء حصر لما يتم بيعه من السمك المملح فقط، بقرطبة خلال   1- كتاب الخراج، ص133. المغني، 8/519. 2- رسالة ابن عبدون، ص 6. 3- المصدر السابق، ص6-7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 يوم واحد، فبلغ ذلك عشرين ألف دينار دراهم1. وأما المنصور بن أبي عامر فقد أمر بإحصاء أحمال الحطب التي تصل إلى قرطبة في اليوم الواحد، فبلغ ذلك ستة آلاف وستمائة حمل على اختلافها2. وكانت هناك ضريبة تؤخذ من المواريث تسمى رسوم المواريث، وكانت تجري بقرطبة وسائر كور الأندلس على الأمانة3. ومن الضرائب التي كانت تدر دخلاً على الخزانة العامة، ضريبة تدفعها الرعية لمعاونة الدولة تسمى "المعاون"4 ومن اسمها يتضح أنها تُفرض وقت الحاجة، كذلك لدينا ضرائب المراصد5، والجزاء6، والبيزرة7، والطبل العام وهي لقاء الإعفاء من الاشتراك في الغزوات8. وهناك ضريبة تعرف باسم "المغارم" وهي عقوبة يفرضها الأمير أو الخليفة الأموي على أهل كورة من الكور عقاباً لهم، ولذا نجد الأمويين   1- أعمال الأعلام، 2/104. 2- المصدر السابق، ص104. 3- نفسه، 2/98. 4- نفسه، 2/98. 5- أبو رميلة، نظم الحكم في الأندلس، ص233. 6- المرجع الصابق، ص 233. 7- هي كل ماله صلة بأمور الصيد. 8- أبو رميلة، نظم الحكم في الأندلس، ص 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 يتحببون إلى رعاياهم بإسقاط المغارم عنهم كلها أو بعضها1، كما كانوا يتحببون إليهم بإسقاط جزء من ضريبة البقية، وهي ما تبقى من الضرائب التي لم تدفعها الرعية، أو إعفائهم منها كلية مراعاة لظروفهم2. ومن الضرائب كذلك ضريبة تلتزم بها الرعية للجيش وتسمى النازلة أو إنزال أو التقوية3، وهي التي تبرأ منها الخليفة القاسم بن حمود4. ومن موارد الخزانة العامة، الأموال التي يدفعها العمال للدولة عند عزلهم عن مناصبهم نتيجة إساءتهم السيرة5. وهناك ضريبة يمكن أن نسميها ضريبة استخدام المرافق، وهي ما تحصله الدولة من الرعية لقاء استخدامهم لمنشأة من المنشآت الهامة، وهذا نوع من أنواع المكس، ولا ندري هل طبقت هذه الضريبة في الأندلس أم لا. فقد ورد خبر لدى ابن سعيد، أن أحد رجال الخراج رفع للأمير عبد الرحمن الأوسط كتاباً يقترح فيه أن يتم تحصيل ضريبة   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص207. البيان المغرب، 2/101، 109، 114، 249، 259. 3/3. 2- أبو رميلة، نظم الحكم في الأندلس، ص 234. 3- L-Provencal, Op. Cit. T.III, p.40. 4- البيان المغرب، 3/130. 5- الخشني، أخبار الفقهاء والمحدثين، ص 141. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 192-193. البيان المغرب،2/116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 على الدواب والأحمال التي تعبر قنطرة قرطبة، لكن الأمير اعتبر ذلك مكساً قبيحاً ووبخ الرجل على اقتراحه1. ومن خلال قيام الجيوش الأموية بحملات الصوائف والشواتي، ضد الممالك والإمارات النصرانية في الشمال الأسباني، أصبحت الغنائم التي تنتج عن تلك الغزوات أحد الموارد الهامة للخزانة العامة، حتى قال فيها أحد الشعراء يمتدح أحد القادة المشهورين بالغزو: ففي كلِّ صيف وفي كلِّ مشتى ... غزاتان منك على كل حال فتلك تبيدُ العدو وهذي ... تفيد الإمام بها بيت مال2 ففي عهد الأمير هشام الرضا بلغ خمس الغنائم خمسة وأربعين ألف من الذهب العين وذلك سنة 177هـ (793-794م) 3 وبلغت الغنائم أوجها في عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر حتى أنه كان يعرف بالجلاّب4. ولكي تتجنب تلك الممالك والإمارات ضربات الجيوش الأموية، كانت تلتزم بدفع الجزية، ومن تأخر عن موعده تولت الجيوش   1- المغرب في حلى المغرب، 1/51. 2- البيان المغرب،2/139. 3- المصدر السابق،2/64. 4- نفسه، 3/13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الأندلسية إرغامه على دفعها1. بالإضافة إلى ما كانت الجيوش الأندلسية تحصل عليه جراء تصديها للمناوئين في بر العدوة المغربية2. بقي أن أشير إلى أنه كانت هناك ضريبة عينية، تسمى وظائف مخزنية، إذ يتم فيها استلام الحبوب ممن فُرض عليهم دفعها، وتخزينها في مستودعات خاصة تسمى "أهراء" وهذه الأهراء يجب أن تبقى ملأى بالحبوب، إما لمواجهة سنوات القحط، أو لتكون عونا للجيوش الغازية، أو لبيعها أحياناً في الأسواق عندما تقل الحاجة إليها3، وقد تغيرت هذه الضريبة فيما بعد، إذ أصدر الخليفة علي بن حمود قراراً يقضي بتحصيلها نقداً لا عيناً، على أساس ستة دنانير لكل مدي قمح، وثلاثة دنانير لكل مدي شعير4. ومن كل هذه الأنواع العديدة من الضرائب، لا عجب أن تكون الخزانة العامة غاصة بالأموال. وطبيعي أن المقدار الذي كانت الدولة   1- المقتبس، تحقيق د. عبد الرحمن الحجي، ص 224-225. 2- المصدر السابق، ص 134-135. 3- أعمال الأعلام، 2/99. 4- أبو رميلة، نظم الحكم في الأندلس، ص243. ومن الملاحظ أن المصادر الأندلسية شحيحة المعلومات عند الحديث عن المكاييل والموازين في الأندلس، فلم تعرف بالإضافة للمدي سوى القفيز، والمدي القرطبي يزن ثمانية قناطير والستة أقفزة هي نصف مدي، وتزن أربعة قناطير. انظر: نصوص عن الأندلس، ص 124، 125. المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 109. المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 53. تعليق منتقى، ص32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 الأموية في الأندلس تحصل عليه من الجباية سار بالتدريج من القلة إلى الكثرة. وهذا الأمر لا يقتصر على الدولة الأموية بل ينسحب على جميع الدول، وهو ما تعرض ابن خلدون لمناقشته، حيث أشار إلى أن الدولة في بداية عهدها تكون قليلة الجباية، لتمسكها بأمور الشرع من جهة، ولتخلقها بأخلاق البداوة إن كانت ذات عصبية، وهي بذلك تعمد إلى المسامحة والغفلة عن التحصيل إلا ما ندر، وإذا وصلت الدولة إلى مرحلة الحضارة وجاء الملك العضوض احتاج ولاة الأمر إلى أموال تغطي حياة الترف التي يعيشونها، فيعمدون عندها إلى فرض الضرائب والمكوس، ويكثرون منها، فتكثر الجباية، ثم تتدرج الزيادات فيها بمقدار بعد مقدار، والرعية لا تشعر بثقل تلك المغارم، فيهضموها كأنها عادة مفروضة1. وإذا أتينا إلى الدولة الأموية في الأندلس، نجد أن كلام ابن خلدون قد طُبق هناك تماماً، ففي عهد الأمير عبد الرحمن الداخل، بلغت جملة الجباية 300000دينار2، وارتفع هذا الرقم إلى الضعف في عهد الأمير الحكم الربضي 180-206هـ (796-822م) حيث بلغ 600000دينار3، وفي عهد ابنه الأمير عبد الرحمن الأوسط 206-238هـ (822-852م) كان دخل الدولة من الجباية مليون دينار4.   1- مقدمة ابن خلدون، ص 729-731. 2- نفح الطيب، 1/146. 3- المصدر السابق،1/146. 4- المغرب في حلى المغرب، 1/46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 والحالة الاقتصادية لأي دولة ذات ارتباط وثيق بالاستقرار السياسي، فأي اهتزاز في الوضع السياسي، يعني انعكاساً سلبياً على الناحية الاقتصادية. وهذا ما جرى في الأندلس، فقد تعرضت منذ منتصف القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) إلى هزات سياسية عنيفة، واندلعت الفتن في أرجاء الدولة، الأمر الذي قصر سيطرتها على قرطبة وبعض النواحي، مما أدى إلى حرمان الدولة من مصادر مالية عديدة، وبالتالي فإن مقدار الجباية قل كثيراً عما كان عليه سابقاً. لكن مع بسط الخليفة عبد الرحمن الناصر نفوذه على أرجاء الدولة ككل، تحسن الوضع الاقتصادي كثيراً، فارتفعت المبالغ المحصلة من الجباية فقط إلى 5480000دينار1" خمسة ملايين وأربعمائة وثمانون ألف دينار" ويبدو أن الثراء الاقتصادي الذي كانت تعيشه الأندلس، قد بهر الرحالة ابن حوقل، مما دفعه إلى التصريح بذلك، فقد اعتبر أن الخزانة العامة في الأندلس لا مثيل لها في العالم الإسلامي إلا ما كان عند الغضنفر أبي تغلب بن الحسن بن عبد الله بن حمدان2.   1- انظر الحلة السيراء، 1/233، حاشية رقم 1. 2- صورة الأرض، ص 107. أبو تغلب الغضنفر بن الحسن بن عبد الله بن حمدان التغلبي، تولى إمارة الموصل عوضا عن أبيه الذي أصيب بعقله، وذلك سنة 356هـ، كان الغضنفر بطلاً سائساً، خاض معارك عديدة في جهات متفرقة، وبسببها هرب إلى دمشق ونزل بظاهرها، ثم انتقل إلى الرملة بفلسطين في شهر محرم سنة 369هـ وهناك= =أسر وقتل صبراً بين يدي الأمير مفرج الطائي وبعث برأسه إلى العزيز بالله الحاكم العبيدي في مصر. انظر: الكامل في التاريخ، 7/384-385. سير أعلام النبلاء، 16/306-307.، النجوم الزاهرة، 4/136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ويذكر ابن حوقل اعتماداً على ما سمعه من أحد محصلي الجبايات في الأندلس على عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، أن الأموال التي دخلت خزانة الدولة منذ سنة 320-340هـ (932-951م) كانت قريباً من عشرين ألف ألف دينار1، وعندما توفي كان في خزائنه من الأموال خمسة آلاف ألف ألف ثلاث مرات2، ولكن لعل هذا المبلغ دراهم لا دنانير3. ويعد عهد الخليفة الحكم المستنصر امتداداً طبيعياً لعهد والده، ولذا فمن المتوقع أن الدخل قد زاد عن سابقه، ثم بلغ في عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر أربعة آلاف ألف دينار، عدا رسوم المواريث والمصادرات ونحوها4، ونظراً للغزوات العديدة التي اشتهر بها المنصور، وحرصه الشديد على تحصيل الأموال وتنميتها، فقد وجد في بيوت الأموال بعد وفاته من الأموال النقدية أربعة وخمسين بيتا5.   1- المصدر السابق، ص 107. 2- مقدمة ابن خلدون، ص 564. 3- أبو رميلة، نظم الحكم في الأندلس، ص246. 4- أعمال الأعلام، 2/98. 5- البيان المغرب،2/301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وهذه الدخول الضخمة، كان لها في المقابل وجوه إنفاق متعددة، لخصها أحد المؤرخين بقوله أن الأمويين كانوا يقسمون مال الخزانة لديهم إلى ثلاثة أقسام: ثلث للجيش، وثلث للصرف العام، وثلث يدخر1. وقد ذكر ابن سعيد عند حديثه عن الخليفة عبد الرحمن الناصر أنه كان يقسم أموال الجباية إلى ثلاثة أقسام: قسم للجند والحرب، وقسم للبنيان2، وقسم ينفق منه في غير هذين من المصالح، ويخزن باقية ذخيرة3. والظاهر من النص أن الجباية تقسم أربعة أقسام، لكن لعل الأصح أنها ثلاثة إذ ان المال المدخر هو المتبقي من الثالث المعد للصرف في غير الجند والبنيان. وقد ذكر ابن الخطيب نقلاً عن ابن حيان معلومات أكثر تفصيلاً عن الإنفاق الذي كان يسير عليه الأمويون، فقد ذكر أن الأموال توضع في أربع بيوت تؤخذ النفقات السلطانية منها على المشاهرة بالزيادة والنقصان، مابين الشهر والشهر مائتي ألف دينار إلى مائة وخمسين ألفا، وعند دخول شهر يونيو يتضاعف الإنفاق فيه استعداداً للغزو، حيث يصل   1- نفح الطيب، 1/146. 2- عن البناء في الأندلس، واهتمام الدولة الأموية به، انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص224. المغرب في حلى المغرب، 1/179. ذكر بلاد الأندلس، 1/46، 50، 76، 77، 179. نفح الطيب، 1، 162، 526، 527، 579. 3- المغرب في حلى المغرب 1/183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 إلى خمسمائة ألف دينار وأكثر، والفائض من الدخل بعد كل المصاريف يتم ادخاره1. خطة السكة: تتألف السكة في نظر ابن خلدون من الدرهم والدينار فقط، ويكونان بوزن معلوم، ومقدار معين تجري عليهما أحكام الشرع الخاصة بالزكاة والأنكحة والحدود، ثم ذكر أن الدرهم الشرعي هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب، والأوقية منه أربعين درهما وبذلك فهو يساوي سبعة أعشار الدينار، والمثقال من الذهب يزن ثنتين وسبعين حبة من الشعير، والدرهم خمسة وخمسين حبة من الشعير2. وفي الأندلس، كان ضرب العملة من الأعمال السيادية للدولة الأموية، لكن يجب أن نشير إلى أنه كان للخاصة أيضاً مطلق الحرية في أن يجلبوا لدار السكة ما لديهم من ذهب وفضة، لكي تضرب لهم بقيمتها دنانير ذهبية ودراهم فضية3.   1- أعمال الأعلام، 2/98. 2- مقدمة ابن خلدون، ص 703. 3- ذكر ابن حيان رواية عن أمية، ما فعله محمد بن أبي عامر عندما كان صاحب السكة في زمن الخليفة الحكم المستنصر بالله، فقد قبل ابن أبي عامر أن يأخذ من محمد بن أفلح غلام الخليفة الحكم، لجاماً محلى ثقيل الوزن ردئ العيار، فوزن له اللجام بحدائده وسيوره، وأعطاه قدر ذلك الوزن دراهم، تقديراً من ابن أبي عامر للضائقة المالية التي كان يمر بها محمد بن أفلح. انظر: الذخيرة، ق4 م1 ص 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وحق سك النقود محدد بعمولة نسبية، تتراوح مابين 1.75% للذهب، وأقل بقليل من 3% للفضة1، وهذه العمولة تعود على الخزانة العامة للدولة بدخل ضخم، بلغ في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر مائتي ألف دينار أو ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف درهم سنوياً، إذ أن الدينار في الأندلس، يصرف بسبعة عشر درهماً2. وقد ذكر بعض المؤرخين أن الأندلس لم تعرف ضرب العملة منذ أن فتحها العرب، وأن أول من نظم السك الرسمي للنقود، هو الأمير عبد الرحمن الأوسط، إذ أنه قام بإحداث دار السكة بقرطبة وضرب الدراهم باسمه3. ولعل هذا ناتج عن أن العرب كانوا في الأندلس يتعاملون بالقطع القوطية، أو بالعملة الذهبية والفضية التي اعتاد بعض المسافرين جلبها معهم من المشرق، بقصد الاتجار بها في الأندلس4، وأن الوضع استمر على هذه الصورة حتى عصر الأمير عبد الرحمن الأوسط، الذي امتثل لنصيحة أحد رجاله المخلصين، فقام بسك العملة. ولكن رغم ذلك لم تكن عملية السك تتم باستمرار، أو حتى بصورة تغطي الاحتياجات،   1- Live Provencal, op. cit, ovl, III, P.42. 2- صورة الأرض ص 104. 3- ابن سعيد، المغرب في حلى المغرب، 1/46. ابن عذاري، البيان المغرب،2/91. ذكر بلاد الأندلس، 1/140-141. 4- ذكر بلاد الأندلس، 1/141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 لأجل هذا استمر التعامل بالقطع النقدية القادمة من المشرق حتى أواخر عصر الأمير عبد الرحمن الأوسط1. ولكن القول بأن الأندلس لم تشهد ضرباً للسكة إلا في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط 206-238هـ (822-852م) لا يمكن التسليم به فقد ثبت أن العملة كانت تضرب في الأندلس، منذ عصر الولاة2، 95-138هـ (714-755م) فقد وُجد دينار ضرب بالأندلس سنة 98هـ (716-717م) في عهد الوالي الحر بن عبد الرحمن الثقفي، 97-100هـ (716-719م) كتب في مركزه عبارة "محمد رسول الله" وعلى الطوق "ضرب هذا الدينر بالأندلس سنة ثمان وتسعين" وكان وزن ذلك الدينار "4.29غم"3 واستمر ضرب العملة في   1- L.provencal, op. cit. Vol. III, p:42-43 2- لقد شهدت الأندلس ضرب العملة في مرحلة الفتح، إلا أن تلك العملة كانت الكتابات اللاتينية تغظي منطقتي الوجه والظهر، انظر: كتاب معرض المسكوكات (إصدار مكتبة الملك عبد العزيز العامة الرياض 1414هـ) ص 13. 3- Al-Andalus, The Art Islamic Spain. p.386. وهناك دينار ذهب ضرب في نفس السنة، وزنه 4.12غم وقطره 24مم وفي الوجه كتابة بالعربية "محمد رسول الله، ضرب هذا الدينر بالأندلس سنة ثمان وتسعين" وعلى الظهر كتابة لاتينية. انظر: كتاب معرض المسكوكات، ص 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 الأندلس خلال السنوات 102هـ1 (721م) وسنة 104هـ2 (722-723م) وسنة 105هـ3 (723م)   1- كان على هذا الشكل في المركز وجه القطعة ... ظهر القطعة بسم الله ... لا إله الرحمن ... إلا الله الرحيم ... وحده الطوق: ضرب هذا الدينر بالأندلس سنة ثنتين ومائة. G.C. Miles: TheCoinage ofTheUmayyads of spain New york, 1950. p:113-114 انظر: كتاب معرض المسكوكات، ص 14. 2- هذا درهم ضرب على عهد الوالي عنبسة بن سحيم الكلبي الذي استمرت ولايته من 103-107هـ وكان شكل الدرهم بهذه الصورة: المركز وجه القطعة ... ظهر القطعة الله احد الله ... لاإله إلا الصمد لم يلد ... الله وحده ولم يولد ولم يكن ... لاشريك له له كفوا أحد ... الطوق: بسم الله ضرب هذا الدرهم بالأندلس سنة أربع ومائة. Miles, Op. Cit. p: 115-116. 3- هذا درهم صفته مثل سابقة إلا أن الكتابة عكست فما كان في الوجه جعل في الظهر، وزيد عليه في الهامش عبارة "محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون". انظر د. عبد الرحمن فهمي، فجر السكة العربية، (القاهرة، دار الكتب،1965م) ص 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وسنة 106هـ1 (724م) وسنة 110هـ2 (728م) وسنة 116هـ3 (734م) .   1- ضرب هذا الدينار بالأندلس في عهد الوالي عنبسة بن سحيم الكلبي وجاء على هذه الصورة: المركز وجه القطعة ... ظهر القطعة بسم الله ... لا إله الرحمن ... إلا الله الرحيم ... وحده ... محمد رسول الله ... أرسله بالهدى ... ودين الحق الطوق ضرب هذا الدينر بالأندلس سنة ست ومائة الوزن: 4.24 غم انظر AL-Andalus, op. cit. p: 386. 2- هذا فلس ضرب بالأندلس إما في عهد حذيفة بن الأحوص القيسي أو في عهد خلفه عثمان بن أبي نسعة الخثعمي. وقد جاء بسيطاً على هذه الصورة: المركز وجه القطعة ... ظهر القطعة محمد ... لا إله رسول الله ... إلا الله الطوق:"الوجه" ضرب هذا الفلس بالأندلس سنة عشر ومائة انظر: Miles, op. cit p:118. 3- هذا درهم ضرب في عهد الوالي عقبة بن الحجاج السلولي، 116-123هـ وقد جاء الدرهم على هذه الصورة: المركز وجه القطعة ... ظهر القطعة لا إله ... الله أحد الله الله وحده ... الصمد لم يلد ولا شريك له ... لم يولد، ولم يكن ... له كفوا أحد الطوق: "الوجه" بسم الله ضرب هذا الدرهم بالأندلس سنة ست عشرة ومية، "الظهر" محمد رسول الله أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون". الوزن، 2.900غم، القطر 27مم، انظر: ناصر النقشبندي، نقود أندلسية من أسبانية، (مجلة سومر، الجزء الأول، المجلد السابع، مديرية الآثار القديمة العامة، بغداد، 1951م) ص81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وسنة 135هـ1 (754م) . وفي عهد الأمير عبد الرحمن الداخل، مؤسس الدولة الأموية بالأندلس، بدأ ضرب السكة. وهذا يدل على أنه هو الذي أحدث داراً لضرب السكة لا الأمير عبد الرحمن الأوسط، وربما يكون دور الأخير مقتصر على تجديد الدار وتوسعتها.   1- درهم ضرب في عهد الوالي يوسف الفهري، 129-138هـ وهو مثل سابقه، إلا أن وزنه وقطره أصبحا أقل، فقد بلغ وزنه 2.600غم، وقطره 26مم. انظر: ناصر النقشبندي، المرجع السابق ص81-82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 ففي سنة 150هـ (767م) ضُرب درهم بالأندلس في العاصمة قرطبة1. ودرهم أخر سنة 153هـ2 (770م) وسنة 156هـ3 (773م) وسنة 170هـ4 (786م) . وفي عهد الأمير الحكم الربضي ضُربت العملة وذلك سنتي 187هـ (802م) 5 وسنة 196هـ6 (811م) وفي عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، ضُربت الدراهم في أعوام 229هـ7 (843م) و237هـ8 (851م)   1- جاء هذا الدرهم على صورة سابقه تماما. انظر: Miles, op, cit. p: 117-119. 2- كان هذا الدرهم على صورة سابقة. انظر: ناصر النقشبندي، المرجع السابق، ص 82. 3- على الهيئة السابقة، انظر: AL-Andalus, op, cit, p:387. 4- مثل سابقه، إلا أنه توجد زخرفة في الأعلى وذلك في مركز الظهر، أما الوزن فكان 2.700غم، والقطر 32مم، انظر: النقشبندي، المرجع السابق، ص 83. 5- هذا الدرهم مثل سابقه، إلا أن وزنه أصبح 2.450غم وقطره 27مم. انظر: النقشبندي، المرجع السابق، ص83. 6- مثل سابقه، إلا أنه يوجد هلال صغير في مركز الوجه، الوزن 2.700غم، القطر 26مم. انظر: النقشبندي، المرجع السابق، ص83. 7- مثل سابقه، الوزن 2.500غم، القطر 25مم. انظر: النقشبندي، المرجع السابق، ص 83. 8- مثل سابقه، الوزن 2.200غم، القطر 26مم. انظر: النقشبندي، المرجع السابق، ص 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 و238هـ1 (852م) وضربت العملة في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، وذلك في سنتي 255هـ2 (868م) وسنة 260هـ3 (873م) وضرب فلس في عهد الأمير عبد الله بن محمد وذلك سنة 282هـ4 (895م) . ونظراً للاضطراب السياسي الذي تعرضت له الدولة الأموية في الأندلس في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) فقد أصبحت العملة قليلة التداول لعدم وفرتها، إذ يبدو أن دار الضرب قد أُغلقت، مما تسبب في فقدان العملة من أيدي الناس5، واستمر انقطاع العملة مدة طويلة حتى أمر الخليفة عبد الرحمن الناصر بإنشاء دار السكة داخل قرطبة وذلك سنة 316هـ (928م) وأمر أن تضرب فيها الدنانير الذهبية والدراهم الفضية6.   1- مثل سابقه، الوزن 2.65غم، القطر 27مم. انظر: النقشبندي، المرجع السابق، ص 84. 2- مثل سابقه، الوزن 2.700غم، القطر 30مم. انظر النقشبندي المرجع السابق ص 84. 3- مثل سابقه، الوزن 2.450غم، القطر 25مم. انظر: النقشبندي، المرجع السابق، ص 84. 4- Miles, op. cit p. 121. 5- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 243. 6- المصدر السابق، ص 243. كانت دار العملة في عصر الولاة موجودة في طليطلة وإشبيلية، ثم نقلت إلى قرطبة. انظر: فجر السكة العربية، ص80، 85-86، وكان= =موقعها بقرطبة في مكان يسمى باب العطارين. انظر: الهمداني، مختصر كتاب البلدان، (مطبعة بريل، ليدن، 1302هـ) ص88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ويمكن القول بأن دار السكة في الأندلس، أصبحت لها شخصيتها القائمة بذاتها منذ عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، فطيلة العهود التي سبقته لم نسمع بذكر لمتولي السكة، لكن في عهده أصبح هناك مسئول عن دار السكة، وغدت هذه الإدارة خطة من الخطط الهامة في الدولة، يعمل فيها مجموعة من الموظفين والسكاكين المهرة، تحت إشراف مسئول من كبار مسئولي الدولة يعرف باسم صاحب خطة السكة1، أو صاحب السكة2، الذي ينبغي أن يكون أميناً صاحب علم ومعرفة بهذه الصنعة، مع دراية بأنواع خطوط الطوابع، نزيهاً، ديناً3. كما يجب أن يكون الرجل الذي يضع الرسم الذي تُسك عليه العملة ويكتب نصفها بارع الخط4، وأن تكون آلاته وأقلامه محفوظة في   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص243. 2- المقتبس، تحقق: د. عبد الرحمن الحجي، ص41. 3- أبو الحسن علي بن يوسف الحكيم، الدوحة المشتبكة في ضوابط السكة (تحقيق: د. حسين مؤنس، مدريد، معهد الدراسات الإسلامية، ط الأولى، 1379هـ /1960م) ص52. 4- المصدر السابق، ص55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 حرز لا تخرج منه إلا عند الحاجة1، وكل ما يجري في دار السكة لا يتم إلا تحت شاهدي العدل المتواجدين دائماً في هذه الدار2. وأول من تولى خطة السكة في الأندلس أحمد بن محمد بن حدير، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان سنة 316هـ (نوفمبر 928م) ومنذ ذلك اليوم بدأت عملية ضرب العملة من خالص الذهب والفضة3. وعندما نقلت دار السكة إلى الزهراء كان عبد الرحمن بن يحيى هو أول من تولاها4، وذلك سنة 336هـ5 (947م) .   1- نفسه، ص56. 2- نفسه، ص 53-54. 3- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص343. والملاحظ أنه لم نسمع بضرب العملة الذهبية في الأندلس إلا في عصر الولاة، بينما اختفى ذلك تماماً في عصر الإمارة، انظر: Miles, op, cit p:24,40,96. 4- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 344. 5- البيان المغرب،2/215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 كما يتم أحياناً ضرب اسم صاحب خطة السكة على العملة مع اسم ولقب الخليفة1، وفي بعض الأحيان يضرب اسم الحاجب2، 1- ضرب الدينار في الأندلس سنة 331هـ، فجاء على هذه الصفة: ... وجه القطعة ... ظهر القطعة المركز: ... لا إله إلا ... الإمام الناصر ... الله وحده ... لدين الله عبد الرحمن ... لا شريك له ... أمير المؤمنين ... قاسم ... الطوق: ... محمد رسول الله أرسله ... بسم الله ضرب هذا ... بالهدى ودين الحق ليظهره ... الدينر سنة إحدى ... على الدين كله ولو كره ... وثلاثين وثلاثمائة ... المشركون ... انظر، أبو رميله، نظم الحكم في الأندلس، ص258، وقاسم المذكور في هذه العملة هو قاسم بن خالد، الذي تولى خطة السكة سنة 330هـ وهو صاحب العيار الجيد المضروب به المثل، فإلى وقت ابن حيان كان يقال: الدينار أو الدراهم القاسمية لجودتها، وقد قتل قاسم بأيدي عبيده في ذي القعدة سنة 332هـ، انظر المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 243-244، 486-487. 2- ضرب في الأندلس سنة 398هـ: المركز وجه القطعة ... ظهر القطعة هلال صغير في أعلاه" لا شريك له" ... الحاجب ... الإمام هشام ... أمير المؤمنين ... المؤيد بالله ... عبد الملك =الطوق: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، الوزن 3.250غم، القطر 24سم. انظر النقشبندي المرجع السابق ص 84-85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وكذلك اسم ولي العهد، ولدينا من هذه نموذجاً ضرب في عهد الخليفة المستعين بالله سنة 400 1 (1009م) . وقد قام خلفاء الفتنة، 399-422هـ (1008-1031م) بضرب نقود تحمل أسماءهم، ولعلها لا تختلف عما كان شائعاً لدى الأمويين من قبل2، والتدليس في العملة أمر خطير جداً، فهو من العوامل الرئيسة في ضرب الاقتصاد لأي دولة، وهو ما يعرف حالياً بالتزوير، كما أنه عُدُّ من الإفساد بالأرض3، وقد بينَّ الفقهاء عقوبة المدلِّس، فمنهم من اكتفى بالجلد4، لكن هناك من يرى الضرب والحلق والتجريس5، والبعض يرى قطع يده6، وهناك من يرى سجنه حتى الموت7، بل إن بعض الفقهاء جعل السلطان مخيراً في عقوبة من يقوم بالتدليس8.   1- النقشبندي، المرجع السابق ص85. 2- انظر: قرطبة الإسلامية في القرن الخامس الهجري، ص172-176. 3- الدوحة المشتبكة في ضوابط السكة، ص 122. 4- المصدر السابق، ص 122-123. 5- نفسه، ص 122-123. 6- نفسه، ص 123. 7- المعيار المعرب، 2/414. 8- الدوحة المشتبكة، ص122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وقد كان البعض يقوم بإضافة بعض القطع المعدنية الصغيرة للدرهم أو الدينار لكي يصل إلى الوزن المطلوب، وقد عُثر في مدينة شلب بالبرتغال، على دفينة تحوي دراهم ضُربت بالأندلس سنة 153هـ (770م) وسنة 261هـ (875م) فيها عدة دراهم قد ثقبت بآلة حادة وأضيفت إليها قطع صغيرة من الدراهم طويت عند حافتها1. وإذا جاء التدليس من رجل غير مسئول، فربما ينظر إليه نظرة تختلف كثيراً عن النظرة لصاحب خطة السكة الذي يقوم هو نفسه بالتدليس، وقد اشتهر الوزير صاحب السكة سعيد بن حسان بالتدليس وعندما وقف الخليفة عبد الرحمن الناصر على فعلته سخط عليه وحبسه مهانا2.   1- د. أمين توفيق الطيبي، دراسات وبحوث في تاريخ المغرب والأندلس، (ليبيا-تونس، نشر: الدار العربية للكتاب، 1984م) ص 331. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 الفصل الثالث: الخطط السياسية المبحث الأول: خطة الحجابة ... المبحث الأول: خطة الحجابة لم تعرف الأندلس تنظيماً إداريا واضح المعالم، إلا بعد وصول الأمير عبد الرحمن الداخل إلى سدة الحكم هناك، واقامته الدولة الأموية فيها، فقد وضع الركائز الأساسية للنظام السياسي والإداري، عندما أنشأ عدة مناصب سياسية منها "خطة الحجابة" فبعد أن أعلن عن قيام إمارته، اتخذ عدداً من المشاورين والأعوان إختصهم بمجالسته، واختار من بينهم شخصاً لقبه بالحاجب1. ويوضح لنا ابن خلدون الفرق بين منصب الحاجب لدى الأمويين بالأندلس عنه لدى العباسيين ببغداد، فهو لدى العباسيين خاص "بمن يحجب السلطان عن العامة ويغلق بابه دونهم أو يفتحه لهم على قدره في مواقيته، وكانت هذه مُنَزَّلة عن الخطط مرؤوسة لها، إذ الوزير متصرف بما يراه ... وأما في الدولة الأموية بالأندلس فكانت الحجابة لمن يحجب السلطان عن الخاصة والعامة، ويكون واسطة بينه وبين الوزراء فمن دونهم"2.   1 نفح الطيب، 1/216. وقد ذكر ابن الآبار أن عيسى بن أحمد بن محمد الرازي قد ألَّف كتاباً خاصاً بمن تولى الحجابة لبني أمية في الأندلس، أسماه "الحجاب للخلفاء بالأندلس" انظر: الحلة السيراء، 1/138. ولاشك أنه لو وصل إلينا هذا الكتاب لسد فراغاً أكيداً في المعلومات المتعلقة سواءاً بخطة الحجابة أو نظام الحكم في الأندلس. 2 ابن خلدون، المقدمة، ص 671. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وطيلة عهد الإمارة والخلافة الأموية بالأندلس تولى منصب الحجابة عدة شخصيات نالت ثناء المؤرخين، من أشهر أولئك الحجاب:- عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث ت 209هـ (824م) الذي تولى الحجابة معظم إمارة الحكم بن هشام وثلاث سنوات من إمارة ابنه عبد الرحمن الأوسط فقد قال عنه ابن القوطية "لم يختلف مختلف من شيوخ الأندلس أنه لم يخدم بني أمية بالأندلس أكرم منه عناية وأكثر طاعة ... إلا أنه كان يقبل الهدية والمكافأة على قضاء الحاجة1" ووصفه الرازي بأنه "أكمل من حمل هذا الاسم وأجمعهم لكل حسنة2" ويرى ليفي بروفينسال أنه "أعظم رجال دولة الحكم على الإطلاق3"، فقد كان يجمع خصالاً لم تكن تتوفر للكثيرين من رجال الدولة في عصره، فقد كان عسكرياً ممتازا، وسياسياً محنكاً، وكاتباً أدبياً عالماً4. كما برز اسم حاجب آخر تولى الحجابة للأمويين عبد الرحمن الأوسط وابنه الأمير محمد هو الحاجب عيسى بن شُهيد ت243هـ (857م) الذي تولى الحجابة بعد سفيان بن عبد ربه وذلك سنة 218هـ (822م) 5 فآثره الأمير عبد الرحمن الأوسط على أصحابه "وكان أهلاً   1 ابن القوطية، ص 74. 2 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 25. 3 I. provencal: op, cit , I p:166. 4 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، تعليق: رقم 82. 5 البيان المغرب، 2/84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 لإيثاره إذ كان من أعيان رجال الموالي في الدولة ... ومن أشهرهم بالحلم والوقار والحصافة والعلم والمعرفة والحزم والجزالة، وقد قاد بالصوائف فأحمدت سياسته وكانت له في التدبير آراء صائبة، وفي الحروب مقاومة كريمة1" ويفضل على نظيره عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث بأنه لم يكن يقبل الهدية أو المكافأة على قضاء الحاجة2 بل كان يهجر من عرضها عليه3. وعندما نقلب صفحات تاريخ حجاب بني أمية بالأندلس، نجد أن أياً منهم لم يصل إلى هذا المنصب إلا إن كان من صنائعهم، بالإضافة إلى أنه لابد من المرور بعدة مناصب هي أشبه ما يكون بالتدرج الوظيفي، فإذا ظهرت كفاءته فيها، رقي إلى منصب الحجابة. فالحاجب سفيان بن عبد ربه "كان من أكابر رجال أهل الخدمة الكفاة المستقلين بأعبائها، ... تولى خدمة الخزانة الكبرى أيام الأمير الحكم ... ولم يزل ينتقل في مراتب الخدمة إلى أن نال الحجابة"4، وهذا التدرج الذي مر به الحاجب سفيان بن عبد ربه سلكه خلفه الحاجب عيسى بن شُهيد، فقد ولاه الأمير عبد الرحمن الأوسط "خطة الخيل، ثم   1 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 26. 2 ابن القوطية، ص 74. 3 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 30. 4 المصدر السابق، ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 استوزره، وولاه النظر في المظالم وتنفيذ الأحكام على طبقات أهل المملكة، ثم استحجبه1". وورد في المقتبس أن سعيد بن محمد بن السليم كان من صناع الأمير عبد الله بن محمد قبل أن يصبح أميراً، فلما تولى الإمارة ولى ابن السليم خطة السوق، فظهرت منه صرامة وقوة، وتمكن من ضبط أمور العامة، وبلغ من قوة بأسه أنه سجن خصياً للمطرف ابن الأمير عبد الله بن محمد بعد أن شقق أثوابه وضربه مائتي سوط، نتيجة قلة أدب ذلك الخصي، وإساءته لابن السليم في مجلس نظره وسط السوق، وبعد ذلك أبلغ ابن السليم الأمير عبد الله بما جرى، فصوَّب الأمير فعله واستحسنه، وأدرك مدى استقلاله بعمله وكفاءته، ولذا فبعد مدة وجيزة من تلك الحادثة ولاه الوزارة ثم الحجابة2. وهذا موسى بن محمد بن سعيد بن موسى بن حدير تدرج في عدة مناصب حتى وصل إلى الحجابة، فقد تولى للأمير عبد الله بن محمد خطة القُطُع، ثم ولي خطة المدينة، ثم تولى الوزارة في أول عهد عبد الرحمن الناصر وظل بها إلى أن توفي الحاجب بدر بن أحمد3 سنة 309هـ   1 نفسه، ص 26. 2 المقتبس، تحقيق: أنطونيه ص 4-5. 3 هو أبو الغصن بدر بن أحمد الصقلبي، كان وصيفاً للأمير عبد الله بن محمد، فأعتقه وصرَّفه في الخطط وأصبح في مقام الحاجب، وفي عهد عبد الرحمن الناصر تولى بدر عدة خطط ثم رقاه للحجابة، امتاز بآرائه الصائبة، ومازال بدر في سؤدد حتى توفي ليلة الجمعة لست خلون من رجب سنة 309هـ. وقد أطلق عليه ابن حيان لفظ "الخصي" رغم أنه كان له أولاد.انظر: المقتبس، تحقيق: أنطونيه ص 4،130-132. المصدر السابق، تحقيق: شالميتا، ص173. الحلة السيراء 1/252-253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 (921م) ، فاستحجبه الناصر وظل في هذا المنصب إلى وفاته سنة 320هـ1 (932م) ، ولقد كانت لهذا الحاجب شخصية نفاذة تستقطب الأنظار نحوها، حتى أن الوزير عبد الملك بن جهور يقول عنه: "مارأيت مثل موسى: لم يجمعه أمير المؤمنين مع أحدٍ إلا كان المستحوذ على المجلس في الجد والهزل"2. مهام الحاجب: وللحاجب مهام ومسؤوليات أنيطت به، عليه الالتزام بها وتأديتها على الوجه الأكمل، فعن طريقه يتم الوصول للأمير أو الخليفة3 كما أنه هو المتحدث معهما نيابة عن الوزراء4. ف"هو صاحب الكلام وقيمِّ البيت5" كما أنه يفصل فيما يجري بين الوزراء من اختلاف6 وعليه اتخاذ التدابير اللازمة لنزهة الأمير أو الخليفة7، وإذا كونت لجنة للإشراف   1 الحلة السيراء، 1/232-233. 2 المصدر السابق، ص 233. 3 ابن القوطية، ص37. 4 انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 27-152. 5 المصدر السابق ص 154 ويعني البيت بيت الوزراء. 6 انظر: نفح الطيب، 3/540. 7 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 على بناء ورفع تقرير مفصل عن هذه المهمة للأمير أو الخليفة فالحاجب يتولى رئاسة تلك اللجنة1، كما أن من وظائفه النظر في أحباس الخليفة2، وأخذ البيعة لولي العهد3، وفي بعض الأحيان يتولى الحاجب أمر إدارة الدولة وتسيير شئونها4. والحاجب يجمع إلى جانب خطته، خططاً أخرى، فالحاجب بدر بن أحمد حاجب الخليفة عبد الرحمن الناصر كان يتولى مع الحجابة خطة الوزارة وخطة الخيل والبُرُد، بالإضافة إلى قيادة الجيوش والإشراف على الولاة5، ومن قبله الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث فقد كان يتولى للأمير الحكم الربضي الحجابة والكتابة وقيادة الجيوش6. ومن هنا ندرك أن منصب الحجابة لا يتولاه إلا أشهر رجال الدولة، فإما أن يكون من أهل السيف مثل بدر بن أحمد أو من رجال القلم مثل عيسى بن   1 نفسه ص 221. البيان المغرب، 2/233. 2 المصدر السابق، 2/234. 3 المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص66. البيان المغرب، 2/158،262. 4 ابن القوطية، ص45. مطمح الأنفس، 145. البيان المغرب، 2/259. دولة الإسلام في الأندلس، ع1 ق2ص460. 5 الحلة السيراء، 1/253. 6 المصدر السابق، 1/135-136. البيان المغرب، 2/69، 75، 81،82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 شُهيد وجعفر المصحفي، أو من رجال السيف والقلم معاً مثل عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث وهاشم بن عبد العزيز1. وللحاجب فراش أرفع من بقية فرش الوزراء ويختلف عنهم، إذ أن فراشه من الديباج بينما فرشهم من الكتان، إلا أنه ابتداءً من عهد الخليفة هشام المؤيد أصبح فراش الحاجب مثل فرش الوزراء، والسبب في ذلك ما ذكره ابن حيان من أن جعفر المصحفي عندما تقلد حجابة الخليفة هشام المؤيد، ورفع فراشه فوق فرش الوزراء كما هي العادة، وكان فراشه من الديباج، خاطب جعفر هشاماً قائلاً "إني أستحي من أصحابي أن أتمهد أفضل من فرشهم، مع عجزي عن درك شأوهم، غير أنا نسلم لأمير المؤمنين اختياره، فإما يساوي بيننا في فرش كرامته، وإما أقرنا على الأمر الأول ولا كفران لنعمته، فأفرش للجميع فرش الكتان، فجرى عليه الرسم إلى آخر الزمان"2. وكان الحاجب يتقاضى راتباً على وظيفته مقداره ثمانون ديناراً في الشهر3.ولايسير إلا في موكب ضخم، فقد كان الحاجب جعفر المصحفي - بسبب ضخامة موكبه - يعمد إلى وضع عدد من الكتاب على   1 الحلة السيراء، 1/257-258. البيان المغرب، 2/115. دولة الإسلام في الأندلس ع1ق2،ص684. 2 الذخيرة، ق4م1،ص 59. 3 البيان المغرب، 2/267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 جانبي موكبه لأخذ القصص المرفوعة من الناس إليه1، وعندما تقام الاحتفالات الرسمية سواءً بمناسبة الأعياد أو الاستقبالات التي تجري للوفود الزائرة أو غير ذلك، فإن الحاجب يكون عن يمين الخليفة2. من كل ما مضى ندرك أهمية منصب الحجابة، ورفعة شأن متوليه، ولذا فقد كان التنافس شديداً بين الوزراء للوصول إلى هذا المنصب، فقد ذكر ابن القوطية أنه بعد وفاة الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث سنة 209هـ (921م) أكثر الوزراء من الكتابة للأمير عبد الرحمن الأوسط كل واحد منهم يخطب منصب الحجابة لنفسه، فلما أكثروا عليه ضجر، وجعلها معطلة مدة يسيرة، ثم ولاها أحد الخزان3. فهذا التنافس أبلغ دليل على سمو منصب الحجابة، كما أن تعطيلها وتوليتها لواحد من غيرهم فيه مصالح عدة، من أهمها أن الأمير لم يكسب عداوة أحد منهم، وفي الوقت نفسه لم يترك للضغينة والحقد مجالاً بينهم، بالإضافة إلى أن في حرمانهم منها لفترة فيه تأديب لهم وتهديد بخروج هذا المنصب عنهم دائماً وأبداً. ومنصب الحجابة عرضة لأن يتم تعطيله، فالأمير محمد بن عبد الرحمن 238-273هـ (852-886م) لم يتخذ سوى حاجبين   1 الذخيرة، ق4م1، ص67. البيان المغرب، 2/270-271. 2 المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص28-30، 50. 3 ابن القوطية، ص62. المقتبس، تحقيق: محمود مكي، ص27-28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 طيلة فترة حكمه1، كان آخرهما عيسى بن الحسن بن أبي عبد ة الذي تولى الحجابة عام 2472 (857م) ثم إن الوزير هاشم بن عبد العزيز أصبح هو المدبر لدولة الأمير محمد بن عبد الرحمن، رغم أنه لم يطلق عليه لقب حاجب، لأجل هذا فمن المتوقع أن يكون منصب الحجابة معطلاً طيلة المدة التي أعقبت وفاة ابن أبي عبد هـ التي لم يدَّون تاريخها، خاصة وأن سنة وفاة الحاجب ابن أبي عبد ة غير معروفة. ثم تكررت عملية تعطيل منصب الحجابة مرتين، ففي عهد الأمير عبد الله بن محمد بقي منصب الحجابة شاغراً عدة سنوات وذلك بعد عزل الحاجب سعيد بن محمد بن السليم عنها3، وفي عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر ظل منصب الحجابة معطلاً طيلة ثلاثين سنة، فبعد وفاة حاجبه موسى بن محمد بن سعيد بن موسى في منتصف شهر صفر سنة 320هـ (فبراير 932م) ، لم يستحجب من بعده أحداً حتى وفاته سنة 350هـ4 (961م) .   1 البيان المغرب، 2/93، ذكر بلاد الأندلس، 1/146. 2 تولى ابن أبي عبد ة الحجابة بعد وفاة الحاجب عيسى بن شهيد سنة 243هـ. 3 البيان المغرب، 2/151. كان ابن السليم قد تولى الحجابة سنة 276هـ. 4 الحلة السيراء: 1/232-233. الحق أن المرء يقف عاجزاً عندما يريد تعليل ترك منصب الحجابة شاغراً، فإذا كان بفضل ابن القوطية وقفنا على السبب في تعطيل الأمير عبد الرحمن الأوسط لهذا المنصب، فنحن نجهل علة تكرار حدوثه في عهد الأمير عبد الله وحفيده الخليفة عبد الرحمن الناصر فربما رأى الأمير عبد الله أن يكون بابه مفتوحاً أمام وزرائه لكي يكون قريباً منهم وليعمل الوزراء على سرعة تنفيذ تعليماته خاصة في ظل الظروف السياسية الصعبة التي كانت تمر بها الإمارة آنذاك، وأما الخليفة عبد الرحمن الناصر فلعله قد عمد إلى تعطيل منصب الحجابة بعد وفاة حاجبه موسى، بدافع من إغراقه في الأخذ بالسياسة المركزية المتشددة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 ولقد كان متولي الحجابة عرضة لحسد الآخرين ومكائدهم، والمصادر الأندلسية فيها من النصوص ما يكفي للتدليل على ذلك، من هذه النصوص:- ما ذكره ابن حيان عن الرازي أن نصر الخصي الغالب على دولة الأمير عبد الرحمن الأوسط كان في قلبه غصة على الحاجب عيسى بن شُهيد بسبب مساندة الأخير لمحمد بن الأمير عبد الرحمن ليصبح ولياً للعهد، مخالفاً بذلك رغبة نصر وسيدته طروب حظية الأمير عبد الرحمن في تقديم ولدها عبد الله، ولذا فقد استغل نصر الخصي احتجاب الأمير عبد الرحمن بسبب إصابته بمرض ألم به، فسارع إلى تزوير مرسوم على لسان الأمير بصرف ابن شُهيد عن الحجابة إلى الوزارة وترقية الوزير عبد الرحمن بن رستم1 ليكون حاجباً، وتم تنفيذ الأمر، فلما شفي الأمير   1 ينتمي عبد الرحمن هذا إلى عبد الرحمن بن رستم بن بهرام، مؤسس الدولة الرستمية في تاهرت في المغرب الأوسط، ويرى بروفنسال أن عبد الرحمن الذي قدمه نصر الخصي للحجابة، ربما يكون إما ابنا أو أخاً لمحمد بن سعيد بن رستم الذي تصرف في الوزارة والقيادة للأمير عبد الرحمن الأوسط، انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، تعليق رقم 87 والمصادر الوارده في التعليق. ولكني أستبعد أن يكون ابنا لمحمد بن سعيد، المتوفي سنة 235هـ، إذ كيف يصبح رئيساً لأبيه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 من علته "قعد لأهل خططه فدخلوا عليه يتقدمهم الوزراء، وعيسى في عرضهم، فتقدم عبد الرحمن بن رستم جماعتهم في التسليم على الأمير، ثم قعد فوق ابن شُهيد فاستنكر الأمير ذلك، فلما استقر بهم المجلس، قال لعيسى بن شُهيد فيما يخاطبه به: "ما شأن كذا؟ " - لأمر سأله عنه - فقال له: "يا مولاي لست بحاجب، وهذا هو الحاجب" وأشار إلى ابن رستم. فَعلت الأمير عبد الرحمن كبرة، وعرف من حيث أُتي فكظم غيظه واصطبر، فلما خرج الوزراء دعا بنصر، فسأله عن عزل ابن شُهيد وولاية ابن رستم، فما يمكنه إنكاره، وادعى أن وصية خرجت إليه من لدنه صدر علته فكذبه الأمير، وعلم أنها من تحامله وجسراته، فسبَّه وأغلظ له، وهم به، ثم عفا عنه وأعاد عيسى بن شُهيد إلى الحجابة وعزل عنها عبد الرحمن بن رستم وتركه على الوزارة"1. من هذا النص تتضح لنا رسوم دولة بني أمية في الأندلس فالأمير بعد أن يبرأ من علته يجلس لاستقبال أصحاب الخطط، وأن الحاجب يتقدم الجميع عند السلام على الأمير ويجلس على فراش أرفع من فرش الوزراء وهو الذي يتولى الرد على أسئلة الأمير واستفساراته. وهذا الحاجب عيسى بن الحسن بن أبي عبد هـ، حاجب الأمير محمد بن عبد الرحمن، تعرض لمكيدة من الوزراء هاشم بن عبد العزيز وتمام بن   1 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 عامر بن تمام1 ومحمد بن موسى وغيرهم، فقد كانوا "لا يألونه ختالاً، ولايدعون استطراده عثاراً" من ذلك أنهم أجمعوا على توريطه عند الأمير محمد في أمر دفعوه لكي يكون أول المتكلمين به -أي الحاجب- لأنه حسب الرسم هو المتكلم بلسانهم، وضمنوا له إتمام الحديث بعد أن يفتتح هو القول2، ويبدو أنه كان من رسوم بني أمية بالأندلس أن الأمير إذا سكت عن الحديث فإن هذا يعني ضرورة انصراف الحضور، يدل على ذلك أن أولئك الوزراء اشترطوا على ابن أبي عبده أن يفاتح الأمير بالموضوع المتفق عليه في آخر المجلس، وتم لهم ماأرادوا، فبعد أن تحدث معهم الأمير فيما يريد سكت ووجب القيام، فأشار هاشم إلى عيسى لكي يخاطب الأمير فيما اتفق عليه جميعهم، فتقدم عيسى إلى الأمير وطلب الإذن منه ليفاتحه بذلك الموضوع فلما أقبل عليه الأمير، وإذا بهاشم بن عبد العزيز وبقية الوزراء قد نهضوا وغادروا المجلس ففطن الحاجب   1 هو الوزير الأديب أبو غالب تمام بن عامر بن أحمد بن تمام بن علقمة الثقفي، ينتمي لإحدى الأسر المساندة للأسرة الأموية، تولى خطة الوزارة للأمير محمد ولولديه الأميرين المنذر وعبد الله، وكان عالماً أديباً، نظم أرجوزة مشهورة في ذكر افتتاح الأندلس وتسمية ولاتها وأمرائها ووصف حروبها منذ دخول طارق بن زياد إلى آخر أيام الأمير عبد الحمن بن الحكم، وقد طال عمر تمام بن عامر حيث توفي سنة 283هـ. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 179-184، والتعليق رقم 351، والمصادر الواردة فيه. الحلة السيراء، 1/143-144. 2 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 لمكيدتهم، فغير الحديث مع الأمير فخاطبه بأمر من أمور المصلحة العامة، مما جعل الأمير يسعفه في طلبه هذا ويثني عليه، ثم خرج الحاجب من عند الأمير فلما وصل إلى بيت الوزراء وإذا هاشم وأصحابه في قهقهة ولجب مما أورطوه فيه، وعندما سأله هاشم ساخراً، أجابه الحاجب بقوله " ... فطنت لكم لما أردتموني، فأفردت رغبتي فيما أعناني من طاعة ربي، فهداني قصد سبيلي" قال الرازي "فرفعوا الطمع في استغفاله، وعجبوا من حسن تخلصه بعد تورطه"1. وأما الحاجب جعفر المصحفي فلم يقف أمره مع الوزراء على حد الحسد والمكيدة، بل إن العداوة كانت سمة لعلاقتهم به، فقد كون جمعهم قوة ضخمة وقفت إلى جانب المنصور محمد بن أبي عامر ضد المصحفي، وقد بين لنا الفتح بن خاقان2 سبب نصرتهم لابن أبي عامر فقال:- "وكان مما أعين به ابن أبي عامر على جعفر المصحفي ميل الوزراء إليه، وإيثارهم له عليه، وسعيهم في ترقيه، وأخذهم بالعصبية فيه، فإنها وإن تكن حمية أعرابية، فقد كانت سلفية سلطانية، يقتفي القوم فيها سلفهم، ويمنعون   1 المصدر السابق، ص 152-153. 2 عن الفتح بن خاقان ونسبه وأسرته وحياته، انظر: كتاب مطمح الأنفس، مقدمة المحقق 18-61، والمصادر الواردة في التحقيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 بها ابتذال شرفهم، غادروها سيرة، وخلفوها عادة أثيره، تشاح الخلف فيها تشاح أهل الديانة وصانوا بها مراتبهم أعظم صيانة، ورأوا أن أحداً لايلحق فيها غاية، ولايتلقى لها راية، فلما اصطفى الحكم المستنصر بالله جعفر بن عثمان واصطنعه ووضعه من أثرته حيث وضعه وهو نزيع بينهم، ونابغ فيهم، حسدوه وذموه وخصّوه بالمطالبة وعمّوه، وكان أسرع هذه الطائفة من أعالي الوزراء وأعاظم الدولة إلى مهاودة المنصور عليه، والانحراف عنه إليه، آل أبي عبده1   1 أسرة آل أبي عبدة من أكبر أسر موالي بني أمية في الأندلس، والعلاقة بين الأسرتين تعود إلى أيام مروان بن الحكم بالشام، فقد كان عبد الله بن جابر رأس أسرة آل أبي عبده من أشد الناس إخلاصاً لمروان بن الحكم في معركة مرج راهط التي وقعت سنة 64هـ وقد انتقل حسان بن مالك بن عبد الله بن جابر إلى الأندلس سنة 113هـ فهو رأس أسرة آل أبي عبدة في الأندلس، وترك أولاده في المشرق فقتلوا جميعاً إلا عبد الغافر فقد كتبت له الحياة لصغر سنه، فنشأ عبد الغافر مع عبد الرحمن بن معاوية وتربى معه، ثم إن عبد الغافر ترك المشرق وذهب لأبيه في الأندلس قبل وصول ابن معاوية، ولذا فما أن سمع أبو عبده حسان بن مالك بمقدم بدر داعية لابن معاوية، حتى سارع وأرسل إليه ولده عبد الغافر، وعمل على مناصرته، فلما توطد الحكم للأمير عبد الرحمن الداخل استوزر أبا عبده وقدمه على جيوشه ومازال يكلفه بالمهام حتى توفي بأشبيلية. وبعد وفاة أبي عبدة حرص الأمير الداخل على ضمان ولاء هذه الأسرة، فسارع إلى استخدام عبد الغافر ابن حسان في الوزارة، ليضع قانوناً سار عليه الأمويون من بعده، وهو حفظ مناصب الدولة بأيدي أبناء أسر معينة. لذا نجد أسرة آل أبي عبده يلي رجالها المناصب الإدارية العليا في الدولة الأموية، ويرتفع شانها بقوة حتى أنها ورثتها بعد سقوطها سنة 422هـ، فقد أقام أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور الذي ينتهي نسبه إلى عبده، دولة بني جهور بقرطبة إبان عصر دويلات الطوائف. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 25-29، 137،152-153، 196-198، 312، وكذلك التعليق رقم 97 وماورد به من مصادر. المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 97،203، 210، 213، 215، 242. أخبار مجموعة، ص51، 52، 55، 68، 76، 82، 94، 95، 99، 100، 102. الحلة السيراء1/120-121، 245-252، 2/30-34. البيان المغرب، 2/61،63،84،93،145،158،160، 164، 167، 195، 197، 208. المصدر السابق 3/152، 185-187، 232-235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وآل شُهيد1،   1 يعتبر شهيد بن عيسى بن شهيد بن الوضاح، رأس هذه الأسرة في الأندلس، وقد ذكر ابن الأبار أن هذه الأسرة عربية تنتمي لأشجع، إلا أن الرازي ذكر أن جدهم كان مولى لمعاوية بن مروان بن الحكم، وهذا هو الصواب، إذ أن ابن حزم لم يذكرهم أثناء حديثه عمن استقر في الأندلس من قبيلة أشجع، والاتصال بين أسرتي آل شهيد والأسرة الأموية يعود إلى أيام معركة مرج راهط، فقد كان الوضاح الجد الأعلى لآل شهيد مع الضحاك بن قيس، وشهيد بن عيسى هو الداخل إلى الأندلس في أيام عبد الرحمن بن معاوية، وقد كان موضع ثقته، فاستخلفه على قصره عندما خرج لإخماد حركة عبد الغفار اليحصبي سنة 154هـ، كما قدمه على الجيوش في مهام عسكرية متعددة، أثبت فيها شهيد كفاءته وإخلاصه. وبعد وفاة الأمير عبد الرحمن الداخل استمر شهيد في القيادة العسكرية للأمير هشام الرضا، وهكذا أصبح آل شهيد ركن رئيسي في الدولة الأموية،= =فقد تعاقب آل شهيد على المناصب الهامة في الدولة من حجابة ووزارة وكتابة وقيادة جيوش، حتى أن أول من سمي في الأندلس بذي الوزارتين كان أحد أبناء أسرة آل شهيد. انظر: ابن القوطية، ص31،62،74،75،94،103. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص20، 21، 25-26،27، 28، 102، 104، 107، 108، 141، 152، 171،320،321. والتعليق رقم 86 وماورد فيه من مصادر. المقتبس، طبعة أنطونية، 4، 49، 53، 119، 142. الحلة السيراء، 1/237-240. البيان المغرب، 2 / 63، 80، 84، 87، 93، 105، 113، 120، 124، 142، 148، 151، 152، 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وآل فطيس1 من الخلفاء وأصحاب الردافة وأولي الشرف والأنافة وكانوا في الوقت أزمَّة الملك، وقوام الخدمة، ومصابيح الأمة،   1 يعتبر أبو سليمان فطيس بن سليمان بن عبد الملك بن زيان، عميد أسرة آل فطيس في الأندلس، فقد دخلها في عهد الأمير عبد الرحمن الداخل، فضمه لابنه هشام، فأصبح كاتباً له، وعندما تولى الإمارة ولاه السوق، ثم أسند إليه ولاية قبره، وأخيراً رقاه إلى الوزارة، وعندما تولى الإمارة الحكم الربضي، أقره على وزارته واستكتبه، وهو الذي أشار عليه بهدم الربض وتحريم بنائه، وتشريد أهله، وذلك في الهيج المشهور الذي حدث سنة 202هـ. وقد ذكر الرازي أنه رأى اسم فطيس بن سليمان في ديوان الأمير الحكم الربضي أول اسم، وكان راتبه خمسمائة دينار، وفي أواخر أيام الحكم الربضي توفي فطيس، فاستمر أبناؤه وأحفاده في المناصب القيادية في الدولة الأموية، كالكتابة العليا، والخزانة والولاية والوزارة وخطة المدينة. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص76،80،182، والتعليق رقم 186،187. الحلة السيراء، 2/365. البيان المغرب، 2/61، 68، 144، 148، 164، 195، 197، 208. المغرب في حلى المغرب، 1/44. ابن سماك المالقي، الزهرات المنثورة ص38-42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وأغير الخلق على جاه وحرمة"1. وإذا أضفنا إلى مقولة الفتح بن خاقان القول بأن رجالات الدولة الأموية بالأندلس من حجاب فما دونهم من الوزراء والقادة والكتاب منذ نشوء الدولة إلى عهد المستنصر بالله كانوا جميعاً ينتمون إلى بيوتات معدودة أشهرها على الإطلاق أسر آل أبي عبده وآل شُهيد وآل فطيس، أدركنا سبب وقوف أولئك الوزراء في وجه الحاجب المصحفي ومساندتهم لابن أبي عامر ضده، إذ أن تلك البيوتات كانت حريصة كل الحرص على عدم خروج الأمر عنها، وإنها ستقف بكل قوة في وجه من يحاول سلبها مكانتها. ولكن يبدو أن الحاجب المصحفي لم يدرك هذه الحقيقة، فجلب على نفسه عداوة أبناء تلك الأسر بعمله الذي أثار ضغائن نفوسهم وجعلهم يتوجسون خيفة من مقاصده، إذ عندما بويع هشام المؤيد بالخلافة وأصبح المصحفي حاجباً له، عمل على السيطرة على وزارات الدولة، فقد تمكن من تعيين ابن أخيه هشام بن محمد بن عثمان في خطة الخيل ثم أصبح وزيراً. وولى بنيه محمد وعثمان وعبد الرحمن وأخاه سعيد وابن أخيه محمد الشرطة العليا والوسطى وجعل على المدينة ابنه محمدا2،   1 مطمح الأنفس، ص 161-163. 2 الحلة السيراء 1/258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 فلا عجب إذاً والحالة هذه أن يعمل أولئك الوزراء على إسقاطه بأي صورة. وإذا تتبعنا حال الحجابة في الدولة الأموية بالأندلس، نجد أن متوليها حتى نهاية خلافة الحكم المستنصر لايختلف عن الوزارء بشيء، اللهم إلا ببعض الرسوم التي عرفناها، فهو لايعدو كونه منفذ للأوامر الصادرة إليه من الأمير أو الخليفة، حتى أن عزله واعادة تنصيبه تتم بمنتهى السهولة1، ولذا فهو أشبه مايكون بوزير التنفيذ، إلا أن الأمر تبدل منذ وصول المنصور محمد بن أبي عامر إلى الحجابة في عصر الخليفة هشام المؤيد، إذ أصبح بحق رئيساً للوزراء، فهو يعزل منهم من شاء ويبقي من أراد، وبذلك تحول منصب الحاجب من وزير تنفيذ إلى وزير تفويض. ولقد جرت في منصب الحجابة حادثة فريدة لم تحدث إلا مرة واحدة خلال تاريخ دولة بني أمية بالأندلس، فقد وجد حاجبان اشتركا معاً في تولي الحجابة، وذلك أن الخليفة هشام المؤيد أصدر أوامره بإشراك الوزير القائد الأعلى غالب بن عبد الرحمن الناصري في منصب الحجابة مع جعفر المصحفي، فأصبح فراش غالب في الصدر وعن يمينه جعفر المصحفي وعن يساره ابن أبي عامر، واستمر الاشتراك بالحجابة قرابة أربعة أشهر تقريباً وكان ذلك راجعاً لدهاء ومكر المنصور وحيلته ليضرب أهم شخصيتين في الدولة بعضهما ببعض، ثم أصدر الخليفة أمره في يوم   1 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 367هـ (مارس 987م) بإعفاء المصحفي من منصبه1. تسلط الحجابة على الخلافة بعد أن صدر أمر الخليفة هشام المؤيد بعزل جعفر المصحفي عن الحجابة، وتنصيب ابن أبي عامر مكانه2، أمر الخليفة بإلقاء القبض على المصحفي وعلى ولده وأنسابه وابن أخيه هشام وسائر طبقته وأوكل أمر محاسبتهم إلى ابن أبي عامر، فصادرهم ونكل بهم وأول ما بدأ بهشام ابن أخي جعفر فقتله بالمطبق بالزهراء3، ثم اخذ يحاسب جعفراً وصادره حتى اضطره إلى بيع داره التي بالرصافة، وهي من أعظم قصور قرطبة وقد تفنن ابن أبي عامر وصهره غالب في تعذيب جعفر وإعناته وإلحاق الإهانة به، حتى خبت نار حقدهما عليه، فأودعاه في المطبق بالزهراء إلى أن مات وأسلمت جثته لأهله سنة 372هـ4 (982م) .   1 البيان المغرب، 2/267. 2 ورد في ذكر بلاد الأندلس، 1/179 أن المنصور تولى الحجابة في أواخر ربيع الآخر سنة 367هـ. 3 ـ كان المنصور يحمل ضغينة على هشام هذا بوجه خاص، والسبب في ذلك يعود إلى ان المنصور عندما عاد من غزوته الثالثة احضر معه رؤوس القتلى، فما كان من هشام إلا أن أمر بسرقة تلك الرؤوس وألقاها بالنهر. انظر: الذخيرة، ق4م1ص66. 4 الذخيرة ق4م1، ص66-67. البيان المغرب، 2/267-268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وبعد هلاك المصحفي رسم المنصور بن أبي عامر لنفسه سياسة توصله إلى الاستبداد التام بالخلافة، فأسقط رجال دولة الخليفة الحكم المستنصر بالله من سائر الطبقات، ومزقهم، واتخذ عوضا عنهم رجالاً اطمأن إلى مدى إخلاصهم له، فسدوا مكان أسلافهم، ومحوا ذكرهم وأعانوا المنصور على مراده1. ولم ينس المنصور موقف الصقالبة بعد وفاة الحكم المستنصر وعملهم على تنصيب المغيرة2 بن عبد الرحمن الناصر بدلاً من هشام المؤيد3، ولذا   1 الذخيرة ق4م1 ص66. 2 كان المغيرة بن عبد الرحمن الناصر فتى القوم كرماً ورجلة، وكانت الأنظار معلقة به بعد أخيه الحكم المستنصر بالله، وبأمر جعفر المصحفي وتنفيذ ابن عامر، تم قتل المغيرة خنقاً في مجلسه ثم علقت جثته على هيئة المنتحر، ثم دفن في مجلسه، وذلك ليلة الاثنين لأربع خلون من شهر صفر سنة 366هـ، وكان عمره آنذاك سبعة وعشرون عاماً، كل هذا تم أمام أهله، رغم أنه كان قد بادر إلى إعلان بيعته لابن أخيه هشام المؤيد عندما أخبره ابن أبي عامر بوفاة أخيه الحكم المستنصر بالله. انظر: الذخيرة، ق4م1 ص58-59. البيان المغرب، 2/260-263. 3 عندما توفي الخليفة الحكم المستنصر بالله، لم يعلم أحد بموته إلا الفتى فائق المعروف بالنظامي صاحب البرد والطراز، وزميله جؤذر صاحب الصاغة والبيازرة، فعقدا العزم على أن يمكنا المغيرة بن عبد الرحمن الناصر من تولى الخلافة، على أن يجعل هشاماً ابن أخيه الحكم ولياً لعهده، وبذلك يضمن الصقالبة استمرارية مكانتهم في القصر، وفي الوقت نفسه يفون لمولاهم الخليفة الحكم بما أوصى به. واما مجلس الوصاية المكون من المصحفي وابن أبي عامر وصبح والدة هشام فهم حريصون على تولية هشام الخلافة،= =وكلا الطرفين الصقالبة وأعضاء مجلس الوصاية انطلق في موقفه من حساب دقيق للمصالح الخاصة، ولكن كما قال ابن عذاري عن موقف الصقالبة "وكان رأيا حسنا لو أراد الله به". انظر: البيان المغرب، 2/259-260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 فقد كان على حذر منهم، فما أن ثبت قدمه بالسلطة حتى ابتدأ بهم فصادر أموالهم وحاسب كتابهم ومن يسير في ركابهم، وشتت شملهم نفياً وقتلاً حتى هلكوا عن آخرهم1. وبعد أن استفحل أمر المنصور وعظم شأنه وكثر حساده، قرر أن يتخذ لنفسه قصراً ينزل فيه اتقاء لشر مكيدة يدبرها حساده، من جراء كثرة تردده على قصر الخليفة2، إضافة إلى حرصه على استكمال مظاهر الملوك3، ولذا فقد بدأ في سنة 368هـ4 (979م) ببناء مدينة الزاهرة حيث أقام فيها قصره، وبعد سنتين من ابتداء البناء "انتقل إليها واتخذ فيها الدواوين للأعمال، والحجر للغلمان، والسقائف للحراس، والقصور للولد والخاصة والاصطبلات للظهر والكراع، وعمل داخلها الأهراء الواسعة والخزائن الوثيقة، وانتقل إليها، ورتب فيها مقاعد الوزراء وسقائف العمال، وكتب بأن تجلب إليها الوظائف والجبايات والأموال"5.   1 الذخيرة، ق4 م1، ص61. 2 البيان المغرب، 2/275. 3 أعمال الأعلام، 2/62. 4 البيان المغرب، 2/275. 5 أعمال الأعلام، 2/62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وبعد أن انتقل المنصور إلى الزاهرة وانتقلت بانتقاله الدولة بأسرها، أصبح قصر الخلافة معطلاً، إذ سد المنصور بابه، وأحكم قبضته عليه، وأقام حوله خندقاً وسوراً منيعاً، ورتب الحراس والبوابين والسمار والمنتابين يلازمونه ليلاً ونهاراً ويراقبون حركات من فيه سراً وجهاراً، وجعل في القصر أحد ثقاته لضبطه وبسط الأمر والنهي فيه وبذلك حجر المنصور على الخليفة الذي لم يبق له من وظائف الخلافة إلا نقش اسمه في السكة، والطرز والدعوة له في الخطبة1. وكان المنصور يصدر أوامره باسم الخليفة، فكان يدخل إلى القصر ويخرج ويقول: "أمرني أمير المؤمنين بكذا ونهى عن كذا2" ثم أراد   1 انظر: ذكر الأندلس، 1/180. البيان المغرب، 2/276. 2 ذكر بلاد الأندلس، 1/179. وفي هذه الأثناء ساءت العلاقة بين الصهرين المنصور وغالب إذ أن الأخير غضب بسبب استبداد المنصور بأمور الدولة وحجره على الخليفة، والمنصور بدوره لايحتمل أن يرى له معارضاً، ولذا أخذ كل منهما يستعد للقضاء على الآخر، ولكن نظراً لأن غالب كان يتفوق بالفروسية والشجاعة على المنصور، لذا فقد استنجد المنصور بجعفر بن علي بن حمدون المعروف بالأندلسي فقدم إليه من العدوة واستورزه المنصور، وجرت صدامات قوية بين غالب والمنصور انتهت بوفاة غالب في أوائل شهر المحرم سنة 371هـ، ثم تخلص المنصور من جعفر بأن سلط عليه أبا الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبي فارس العرب فقتله، ثم قتل المنصور أبا الأحوص وبذلك انفرد بملك الأندلس وأصبح الشخصية التي لاتقاوم. انظر: نقط العروس، ص81-82. أعمال الأعلام، 2/62-65. البيان المغرب، 2/278-279. مفاخر البربر، ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 أن يستريح من كثرة الدخول على الخليفة ويستبد بالأمر فأشاع بين الناس بأن الخليفة، قد فوضه في تولي شئون الحكم لأنه يريد التفرغ للعبادة1. ولقد كان المنصور يدرك بأن تصرفاته هذه لاترضى بني أمية، ولذا فقد أخذ حذره منهم فأصدر أوامره إليهم بلزومهم منازلهم ولم يسمح لهم بالركوب والخروج إلا لضرورة، وبث العيون من حولهم، وفرق الناس عنهم وأجبرهم على ملازمة أناس من ثقاته، ومنع أحداً من الدخول عليهم، إلا أن يكون غلاماً أو وكيلاً أو معلماً او طبيباً، ولم يكتفي بذلك بل أخذ يصحبهم معه في غزاوته حتى أرهقهم وأهمتهم أنفسهم2. ولكي يسيطر على الدواوين ومايجري فيها، عين من عنده كاتباً يدور في الدواوين وينقل إليه مايقع فيها3، وبالجملة فلم "يبق يداً يحذر بطشها إلا شلها، ولاعينا بريبة نظرها إلا فقأها4". وبعد مضي سنة على سكنى ابن أبي عامر مدينة الزاهرة، قرر اتخاذ ألقاب الخلفاء "استيفاءً لرسوم الملوك5" ففي سنة 371هـ (981م) اتخذ لقب "المنصور" وأصبحت الكتب تنفذ عنه على الصورة التالية: "من   1 أعمال الأعلام، 2/62. 2 المصدر السابق، ص2/77. 3 نفسه 2/77. 4 نفسه 2/65. 5 البيان المغرب، 2/279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 الحاجب المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر إلى فلان1" وأصدر أمره بأن يدعى له بهذا اللقب على كافة المنابر بالأندلس بعد ذكر الخليفة المؤيد والدعاء له2 ومنذ ذلك الوقت أصبح الرسم يقضي بضرورة تقبيل يده، فأخذ الوزراء وكذا وجوه بني أمية ومن دونهم يمتثلون هذا الرسم3، بل فرض على الكل بأن تكون مخاطبته بلفظ "مولاي4"، ويصور لنا ابن عذاري شدة وطأة المنصور على رجال دولته وغيرهم بأنهم "إذا بدا لأبصارهم طفل من ولده قاموا إليه، فاستبقوا ليده تقبيلاً وعموا طرفه لثما5". بهذه الرسوم أصبح الحاجب المنصور مساوياً للخليفة بكل شيء ولافرق بينهما إلا في الاسم عند تصدير الكتب أو نقشه على السكة والطراز، بل إنه فيما بعد أمر بنقش اسمه على السكة وطرزه على القباب6. ويبدو أن المنصور كان إحساسه بالعظمة يزداد يوماً بعد يوم، فأصبح ينظر إلى الحجابة نظرة ازدراء، وشعر بأنها لاتليق بمكانته وهو   1 نفس المصدر والصفحة. 2 ذكر بلاد الأندلس 1/181. 3 البيان المغرب، 2/279. 4 المصدر السابق، 2/279. 5 نفس المصدر والصفحة. 6 تاريخ ابن خلدون، 4/148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 الحاكم المطلق بالأندلس، ولذا فقد قرر التنازل عن هذا المنصب تمهيداً للاستيلاء على منصب الخلافة، فأصدر أمره سنة 381هـ (991) بترك اسم الحاجب واقتصر على لقب "المنصور" فأصحبت الكتب تنفذ منه بهذه الصورة: "من المنصور أبي عامر وفقه الله إلى فلان1" بحذف اسم الحجابة، ورشح ولده عبد الملك لتولي الحجابة بالإضافة إلى القيادة العليا وكافة الخطط التي كان يشغلها 2، كما قدم ولده الآخر عبد الرحمن للوزارة3. حقق المنصور كل مايصبو إليه، وبسط نفوذه على سائر السلطات السياسية والعسكرية بالأندلس، ولم يبق إلا الخطوة الأخيرة ليكمل مراده، وذلك عندما يعلن نفسه خليفة بدلاً من هشام المؤيد، ويدفعه إلى فعل ذلك نجاحه في تجاوز العقبات التي اعترضته، ويؤيده في ذلك جيش هو عماد دولته، وفي الوقت نفسه يدين له بتكوينه وتنظيمه، إذ أنه أسس جيشاً كما يريد، وفي هذا الخصوص يقول ابن عذاري: "استبدل المنصور جند الأندلس بالبربر فأقام لنفسه جنداً اختصهم باستصناعه واسترقهم بإحسانه4" إلا أن العقبة الحقيقية التي كان المنصور يخشاها تتمثل بالرعية، فهو يخشى ثورتها في وجهه عندما يعلن نفسه خليفة بدلاً من خليفتهم   1 البيان المغرب، 2/293. 2 المصدر السابق 2/293. 3 نفس المصدر والصفحة. 4 البيان المغرب، 2/294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 المؤيد لتعلقهم به من جهة، وللطرق الملتوية التي أوصلت ابن أبي عامر إلى ماوصل إليه من جهة أخرى، ولذا عمد المنصور إلى استشارة خواصه في هذا الموضوع. وقد ذكر ابن حزم أن المنصور عقد اجتماعاً مع كبار أهل قرطبة ليري موقفهم مما عزم عليه، وكان من بين المدعوين لحضور هذا الاجتماع ابن عياش وابن فطيس بالإضافة إلى والد ابن حزم ومن الفقهاء محمد بن يبقى بن زرب وأبو عمر بن المكوي1 والأصيلي2، يقول ابن حزم: "فأما ابن عياش وابن فطيس فصوبا ذلك له، وأما أبي رحمه الله فقال له: إني أخاف من هذا تحريك ساكن، والأمور كلها بيدك، ومثلك لاينافس في هذا المعنى، وأما محمد بن يبقى بن زرب فإنه قال له: وصاحب الأمر   1 أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هاشم الإشبيلي، المعروف بابن المكوي، مولى بني أمية، انتهت إليه رياسة العلم بقرطبة، كان فقيهاً معظماً، ومفتيا مقدماً، رفض مرتين أن يلي قضاء الجماعة، لكنه تولى الشورى، ولم يزل معظماً عند الناس، رفيع الذكر بينهم، حتى توفي فجأة ليلة السبت، ودفن يوم السبت بعد صلاة العصر لسبع خلون من جمادى الأولى سنة 401هـ. انظر: جذوة المقتبس، ترجمة رقم 231. ترتيب المدارك، 7/123-135. الصلة، ترجمة رقم 38. 2 أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن محمد الأصيلي، من أهل أصيلة، من كبار أصحاب الحديث والفقه، تولى الشورى في آخر أيام الحكم المستنصر بالله، وكان الأصيلي حرج الصدر، ضيق الخلق، عالماً بالكلام والنظر، توفي ليلة الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة 392هـ. انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 760. جذوة المقتبس، ترجمة رقم 542. ترتيب المدارك، 7/135-145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ماشأنه؟ فقال له: لايصلح لهذا، فقال له: يرى ويجرب، فقال له: أفي مسائل الفقه؟ يريد أن يسأله، قال: لا، ولكن في مسائل السياسة وتدبير المملكة، قال: فإن لم يقم، قال: ينظر في قريش، فأعرض عنه مغضباً ونظر إلى الأصيلي وإلى ابن المكوى، فقال له الأصيلي: يامولاي عربي ضابط خير من قرشي مضيع، قال: فنظر إلى ابن المكوى: فجعل يضحك له ويقول: يامولاي ومثلك يفكر في هذا وأنت الكل وكل شيء بيدك، وإنما يرغب في الأسماء من لايحقق، والمدار على الحقيقة، وهي بيدك، فسكت ابن أبي عامر، وقاموا واحداً واحداً1" وبهذه المشورة وقف المنصور على حقيقة الأمر فعدل عن رأيه، لأنه خشي من هيجان شعبي يودي به وبدولته. وتمهيداً للوصول إلى الخلافة أصدر المنصور أوامره سنة 382هـ (922م) تقريباً بإلغاء خاتم الخليفة هشام المؤيد من الكتب واقتصاره على خاتمه الخاص2، لطمس أي ذكر للخليفة. بعد هذه الخطوات اتخذ المنصور خطوة هامة، فقد أصدر أوامره سنة 386هـ (996م) بأن يخص وحده بلفظ "السيد" دون سائر الناس بالأندلس، فتليت الكتب بهذا الخصوص على منابر الأندلس، واستمر هذا   1 نقط العروس ص 77، ومن المؤكد أن هذه القصة وقعت أحداثها في سنة 381هـ إذ أن القاضي محمد بن يبقى بن زرب توفي في شهر رمضان سنة 381هـ. انظر: ابن الفرضي: ترجمة رقم 1363. 2 ذكر بلاد الأندلس، 1/184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 الرسم بقية حياته، وطيلة تلك الفترة كان يخاطب: بـ"الملك الكريم" وبولغ في تعظيمه وتكريمه1. وبعد هذه الأحداث، ساءت العلاقة بين الخليفة المؤيد والمنصور، وشاع بين الناس أنه يريد أن يسطو على منصب الخلافة2، وكان لصبح والدة الخليفة دورها في نشر تلك الشائعات بواسطة دعاتها وأعوانها3، واشتدت العداوة بين أهل قصر الخليفة ومن في قصر المنصور، وحاول المنصور أن يقضي على تلك العداوة، فطرد العديد من الخدم المتواجدين في قصر الخليفة، ولم يترك إلا ثقاته، ومع ذلك فقد شدد عليهم في الحراسة وبث العيون التي عملت على إحصاء أنفاسهم4. ولمواجهة المنصور استنجدت صبح والدة الخليفة بزيري بن عطية5، وبعثت إليه بثمانين ألف دينار سراً6، وعندما علم المنصور بذلك، جمع   1 -البيان المغرب، 2/294. 2 الذخيرة، ق4 م1 ص70-71. 3 دولة الإسلام في الأندلس، ع1ق2 ص555. 4 الذخيرة، ق4م1،ص71. 5 زيري بن عطية، زعيم زناته، وفد على المنصور قادما من العدوة حوالي عام 380هـ، فاحتفل المنصور بقدومه، ثم غادر زيري إلى العدوة، وساءت علاقته بالمنصور بسبب تسلط الأخير على الخليفة المؤيد، وجرت حروب شديدة في العدوة المغربية بين زيري وقادة المنصور، كان آخرها المعركة التي جرت يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال سنة 391هـ والتي على أثرها مات زيري بن عطية متأثراً بجراحه التي أصيب بها في تلك المعركة. انظر: مفاخر البربر، ص22-32. 6 مفاخر البربر، ص27. دولة الإسلام في الأندلس، ع1 ق2 ص555. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 كل رجاله فاتفقت كلمتهم على ضرورة بقاء كل الأموال عند المنصور لأنه على حفظها أقدر، إلا أن علة ألمت به اضطرته إلى تأخير نقل بيت المال إلى الزاهرة واستغل أعداء المنصور هذا الوضع الطارئ، "فراسلوا حاشية الخليفة سراً، وجهزوا للقيام عليه، فلم يكن فيهم فضل لذهاب أعيانهم1" وبالنهاية تمكن المنصور بواسطة قوة عسكرية جهزها بقيادة ولده عبد الملك من نقل بيت المال إلى الزاهرة وذلك في جمادى الأولى سنة 386هـ (يونيو 996م) في حين تعذر عليهم الوصول لبيت مال الخاصة لوقوف السيدة صبح أم هشام دونه2. وبعد أن عوفي المنصور من علته، ركب إلى الخليفة هشام المؤيد، ووصل إلى مجلسه وبصحبته كبار رجال دولته، ولأنه أدرك مافي نفوس الناس وحبهم لرؤية هشام3، عمل على استغلال هذه النقطة لصالحه، فأبرزه للناس في أحد أيام الجمع من سنة 387هـ (997م) فصلى بجامع قرطبة ولم يكن لهشام عهد بشهود صلاة الجمعة -بسبب الحجر المفروض عليه من المنصور- وبعد الصلاة توجه الجميع إلى الزاهرة وهناك جددت   1 الذخيرة، ق1م4 ص72. 2 المصدر السابق، ق4م1 ص72. وانظر: ذكر بلاد الأندلس، 1/184. 3 الذخيرة، ق4م1 ص73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 البيعة للخليفة هشام المؤيد1، وبالمقابل تبرأ الخليفة من الملك لبني عامر وولى المنصور الإشراف التام على شئون الدولة2. وأظهر المنصور الإشفاق على الخليفة من بني أمية، ولذا عمد إلى الفتك بهم "حتى أفنى من يصلح منهم للولاية، ثم فرق باقيهم في البلاد، وأدخلهم زوايا الخمول عارين من الطراف والتلاد3". وأخيراً فرغم مابلغه المنصور بن أبي عامر من رفعة وسؤدد، حتى أضحى الرجل الأول بالأندلس قاطبة، إلا أنه في الواقع كان يحتمي باسم الخليفة هشام المؤيد ليضمن عدم المعارضة وتسيير أموره كما يريد، ولولا هذا لما وصل إلى ما وصل إليه. فمن ذلك أنه هو القائل مادحاً ذاته:- تلاد أمير المؤمنين وعبده ... وناصحه المشهور يوم المفاخر4 وقد تناول قضية احتماء المنصور باسم المؤيد الخليفة، الأمير عبد الله في مذكراته، فقال: "كان المنصور بن أبي عامر على دقة شأنه، ولأنه لم يكن من أهل بيت المملكة فيستحقها عن الآباء ولاكانت به قدرة على الدنيا، فقد حصل على عظائم الأمور بدهائه، ومخرقته على العامة، مع ماهيأت السعادة له، وكانت أقوى الأسباب في سلطانه، ولولا قيامه بدعوة الخليفة، وإظهاره الإنخضاع له في جميع مايأتي ويذر إلى طاعته   1 ذكر بلاد الأندلس، 1/184-185. 2 انظر: الذخيرة، ق4م1، ص73. ذكر بلاد الأندلس، 1/185. 3 نفح الطيب، 1/591. 4 ذكر بلاد الأندلس، 1/178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وإقامة أوده، وتوليته الحجابة والوزارة وإخماله لأهل الدولة الحكمية، وتقصيهم بالقتل، متأولاً في ذلك أن دولته تصفو به ويقوى سلطانه، وأن بقاءهم في كثرة الخلاف، وإيثار الفتن وهلاك المسلمين، حتى اتسق له ماأمل، وبلغ من ذلك الغاية القصوى، ولو أن أحداً اشتهر ببعض ماأتى هو به دون تعلق بسبب، أو إظهار طاعة لكان قتل من ساعته، ولو كان من أهل بيت الخلافة1". والحق أن المنصور لم يكن يحتمي باسم الخليفة فقط، بل كان يخشى أن يظهر من الخليفة مايقضي على مالديه من الآمال والتطلعات، وينزع سلطانه منه، ولقد كانت هذه القضية تسبب له أرقاً يفقده لذيذ النوم، ولذا فقد كان يفرط في السهر، وعندما عاتبه فتاه شعله على ذلك محذراً إياه من مغبته، أفصح المنصور عما في نفسه حيث قال: "ياشعلة، حارس الدنيا لاينام إذا نامت الرعية، لو استوفيت نومي، لما كان في دور هذا البلد عين نائمة، ولو كنت من صاحب القصر [وأشار ناحية الخليفة] على مثل مسافة بسطة لأحرمت النوم، فكيف وإنما بيننا مدى صيحة2". وبعد وفاة المنصور بن أبي عامر قام بأمر الدولة من بعده ابنه عبد الملك، حيث زار الخليفة المؤيد، ونعى إليه والده المنصور، فلاطفه   1 عبد الله بن بُلقين، كتاب التبيان "مذكرات الأمير عبد الله" (نشر وتحقيق: ليفي بروفنسال، القاهرة، دار المعارف، 1955) ص15. 2 أعمال الأعلام، 2/76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 الخليفة ثم أصدر أوامره بأن يتولى عبد الملك الحجابة مكان أبيه1، وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من شهر رمضان المبارك سنة 392هـ2 (أغسطس 1002م) وخلع عليه3، وأخرجت الكتب بهذا الخصوص وتليت على منابر الأندلس والمغرب4 وبعد أن أحكم عبد الملك قبضته على البلاد سار على نهج والده تجاه الخليفة المؤيد، فقد حجر عليه طوال أيامه حتى أنه لم يشهد صلاة قط5، إلا أنه كان يكثر من إخراجه للنزهة ولكن وفق ماكان المنصور يفعل معه من قبل6. وقد سلك عبد الملك بن المنصور سبيل التدرج في طلب الألقاب الملوكية، والرتب السلطانية، وهو النهج الذي سار عليه والده من قبل7، فبعد أن مضى على توليه الحجابة خمس سنين وثلاثة أشهر، أثبت خلالها جدارته في هذا المنصب، ووقرت محبته في قلوب الناس، بدأ يطلب منحه ماكان يخطط له، ففي شهر ذي الحجة من سنة 397هـ (أغسطس   1 الذخيرة، ق4م1 ص78. 2 البيان المغرب، 3/3. 3 نفح الطيب، 3/94. 4 أعمال الأعلام، 2/84. 5 الذخيرة، ق4م1 ص82. 6 المصدر السابق، ص82-83. 7 البيان المغرب، 3/15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 1007م) وصل إلى قرطبة بعد أن قاد المسلمين في غزوة قلونية1، وبعد أن استشار خاصته فيما سوف يلتمسه من الخليفة من الألقاب، وجه الحاجب إلى الخليفة دعوة للنزهة في الزاهرة، وذلك في أوائل الشهر المحرم من سنة 398هـ2 (سبتمبر 1007م) فوصل الخليفة إلى الزاهرة على السبيل المعهود منذ أيام المنصور3، ثم انفرد به عبد الملك، وطلب منه أن يصدر مرسوماً ينعم به عليه بلقب "المظفر" وأن يكنى في جميع مايجري به ذكره بأبي مروان ... وأن يثني وزارة ابنه محمد فيصيره بها ذا الوزارتين ويعلي بذلك مرتبته على سائر الوزراء4، فما كان من الخليفة إلا الموافقة على طلب الحاجب، بل زاد على مراده بأن كنى ابنه محمدا بأبي عامر كنية جده، حرصاً من الخليفة على إدخال المسرة على حاجبه5. وفي النصف من شهر المحرم سنة 398هـ (أغسطس 1007م) ركب الخليفة -وفق الطريقة المعهودة- متجهاً نحو قصر ناصح بالزاهرة6، وبعد أن قر به المقام بالقصر، استدعى حاجبه عبد الملك   1 المصدر السابق، 3/14. 2 نفسه 3/16. 3 اعمال الأعلام، 2/88 أي أنه كان مستخفياً عن عيون الناس لابساً للبرنس والحاجب قد طرد الناس من أمامه. 4 البيان المغرب، 3/16. 5 المصدر السابق 3/16. 6 نفس المصدر والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وناقشه في بعض الأمور، وبعد أن غادر عبد الملك المجلس صدر من الخليفة المرسوم التالي، يقال أنه كان بخط يده:- "بسم الله الرحمن الرحيم، من هشام المؤيد، أتم الله عليك نعمته وهنأك قسمه وألبسك عفوه وعنايته، لما رأيناك - سلمك الله - من صنع الله الجسيم، وفضله العظيم، لنا عليك ما شفى الصدور، وأقر العيون، استخرنا الله في أن سميناك المظفر.. كذلك أبحناك التكني في مجالسنا ومحافلنا، وفي الكتب الجارية منك وإليك في أعمال سلطاننا، وسائر ما يجري فيه اسمك معنا ودوننا،.. كذلك شرفنا فتاك أبا عامر محمد بن المظفر تلادنا أسعده الله بالإنهاض إلى خطة الوزارتين، وجمعناه بها في التكني على المشيخة، والترتيب إثرك في الدولة لأنك تربيتنا، وسيف دولتنا ... 1".   1 أعمال الأعلام، 2/88 وانظر: البيان المغرب، 3/16، هذا هو أسلوب العامريين مع الخليفة المؤيد، فأي واحد منهم، عندما يريد من الخليفة استصدار أمر فيه رفعة له، فإنه يجتمع به على انفراد، ويملي رغبته عليه، وبعد عدة أيام يستدعي الخليفة حاجبة صاحب الطلب، ومن ثم ينعم عليه بمراده، مظهراً للناس أن هذا تم بإنعام منه، وأنه هو الذي يدبر الدولة، والحاجب لا شك حريص على هذا الأسلوب لأن في صدور مرسوم من الخليفة بالإنعام عليه في شيء ما، مهم بالنسبة لوضعه بين الناس فضلاً عن إضفائه الصفة الشرعية على ما حظي به الحاجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وبهذه المناسبة أظهر الحاجب المظفر السرور بما أصدره الخليفة، فاحتفل لذلك احتفالاً خاصاً وزعت فيه الصلات على جميع الأجناد1. وبعد هذا المرسوم أصبحت الكتب التي تصدر من عبد الملك بن المنصور وفق الصورة التالية: "من الحاجب المظفر سيف الدولة أبي مروان عبد الملك بن المنصور2" وبذلك يكون عبد الملك أول من اجتمع له لقبان من حجاب الأندلس وسار على إثره في اتخاذ لقبين من جاء بعده من ملوك الفتنة3. وهكذا ظل الحاجب المظفر يمارس سلطاته بالأندلس حتى وافته المنية يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر صفر سنة 399هـ4 (أكتوبر 1009) وقيل بأنه قد دُسَّ له السم من قبل أخيه عبد الرحمن5. وبعد وفاة المظفر قام بالأمر أخوه عبد الرحمن، حيث ضبط المدينة الزاهرة، وجلس مجلس أخيه المظفر، واستقبل المهنئين، ثم توجه إلى الخليفة ونعى إليه أخاه، فعزاه الخليفة وقلده الحجابة بعد أن خلع عليه6، وعندما وصل إلى الزاهرة جلس لاستقبال المهنئين، وبعد عشرة أيام من استلامه   1 البيان المغرب، 3/17. 2 أعمال الأعلام، 2/89. 3 المصدر السابق، 3/17. 4 أعمال الأعلام، 2/89. 5 البيان المغرب، 3/37. 6 أعمال الأعلام، 2/90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 الحجابة منحه الخليفة لقب المأمون مضافاً إلى اسمه الأول ناصر الدولة كما شرفه بالتكنية، وأصدر الخليفة في ذلك مرسوماً بخط يده، جاء في العنوان "الحاجب المأمون ناصر الدولة أبو المطرف، حفظه الله، بسم الله الرحمن الرحيم أدام الله حفظك، وأحسن على الصلاح عونك، ... تسميتك في كتبنا إليك وتحليتك بالمأمون في مخاطبتك زائداً على أول أسمائك ... فاعتمل فيما ينفذ من الكتب عنك وإليك على عنوان كتابنا هذا إليك1" وأمر الخليفة بإنقاذ هذه الرقعة إلى الوزير الكاتب جهور بن محمد، ليثبت هذه التسمية في الأزمة، وتكون معتمدة رسمياً في المخاطبة، وتنفذ في ذلك الكتب لتتلى على منابر الأندلس كافة2. وفي يوم الثلاثاء 14 من ربيع الأول سنة 399هـ (17 نوفمبر 1008م) توصل عبد الرحمن بن المنصور إلى استصدرا مرسوم من الخليفة يقضي بتعيينه ولياً للعهد، بعد أن أقنع الخليفة بضرورة ترقيته إلى هذا المنصب، محتجاً بالقرابة التي تربطهما من جهة الأم3. وفي الوقت نفسه   1 البيان المغرب، 3/41. 2 المصدر السابق، 3/41. 3 نفسه ص 3/42، وأما عن القرابة التي بين المؤيد وعبد الرحمن فهي كما يلي:- شاع في الأندلس زواج المسلمين من نصرانيات، وكانت هناك مصاهرات بين حكام الأندلس والشمال الأندلسي ومن ذلك أن الخليفة الحكم المستنصر تزوج بامرأة بشكنسية تدعى "صبح" Aurora فولدت هشام المؤيد، كما أن المنصور بن أبي عامر قد تزوج من ابنة شانجة بن غرسيه "Sancho Gures II" ملك بلاد النافار التي عاصمتها بمبلونه Pamplona وتعرف بالمصادر الأندلسية باسم "عبد هـ" أثنت عليها المصادر وهي أم عبد الرحمن وهي التي أطلقت عليه اسم "شنجول" تصغيراً لاسم أبيها وتدليلاً لابنها. انظر: اعمال الأعلام، 2/42،66،73. البيان المغرب، 2/253، 3/83، الحلة السيراء، 1/272 حاشية رقم 1. محمد عنان، تراجم إسلامية شرقية وأندلسية. (القاهرة، مكتبة الخانجي، ط الأولى، 1390هـ /1970م) ص 199-211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 دس إليه من خوفه بأنه ينوي الفتك به إن لم يجعله ولياً للعهد1. فأصبح عبد الرحمن بن المنصور يدعى له بولاية العهد على المنابر في الخطبة بعد الدعاء للخليفة مع بقية الألقاب التي منحه2. وبذلك تخلى عبد الرحمن عن الحجابة إذ قلدها ولده عبد العزيز مجموعة له بسيف الدولة لقب عمه المظفر، حيث ظل في هذا المنصب طيلة حياة والده3. ولم تقف طموحات عبد الرحمن بن المنصور الشهير بشنجول السريعة الخطى عند الوصول إلى منصب ولاية العهد، بل كان يريد الوثوب على الخلافة بأقصر وقت، وبأي وسيلة ففي شتاء سنة 399هـ (1009م) خرج على رأس جيشه متجهاً إلى الشمال الأسباني4، وكان على شرطته أحد سفال قرطبة يقال له: ابن الرسان5، فإذا سكر شنجول أمر صاحب شرطته بأن ينادي في الجيش: يأمركم أمير المؤمنين بكذا   1 البيان المغرب، 3/39. 2 أعمال الأعلام، 2/93. 3 المصدر السابق، 2/94. 4 نفسه، 2/96. 5 البيان المغرب، 3/49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وكذا، فإذا عاد سأله عن رد فعل الناس فيخبره أنهم غير مبالين، فيأمره عندها بتكرار النداء مرات ومرات1 متلذذاً بسماع ذلك، إلا أن هذه اللذة لم يكتب لها الاستمرار، إذ هبت نيران الفتنة بقرطبة بقيادة محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر الملقب بالمهدي، فعاد شنجول نحو قرطبة، وعندما بلغ قلعة رباح تبرأ من ولاية العهد وأعلن اقتصاره على الحجابة وأرسل كتاباً بذلك لكن أحداً لم يأبه به2، فعزم على دخول قرطبة، وأصر على ذلك، رغم نصيحة البعض له بالفرار3، فكان في إصراره حتفه، إذ قتل بمنزل هانئ عند دير أرملاط، وذلك عقب صلاة المغرب يوم الجمعة لأربع خلون من رجب سنة 399هـ (4مارس سنة 1009م) 4. الحجابة في عصر الفتنة: مرت الحجابة في ذلك الوقت بفترات اتضحت خلالها قوتها، وعانت من الضعف أكثر وقتها، والملاحظ على الحجابة آنذاك، هو كثرة من تولاها، مع قصر مدتهم، بسبب مايتعرضون له من مفاجآت غير سارة، من قتل وعزل وهروب.   1 أعمال الأعلام، 2/97. 2 البيان المغرب، 3/69. 3 المصدر السابق، 3/69-70. 4 نفسه، 3/72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 ففي بداية عهد الفتنة سنة 399هـ (1009م) تولى الحجابة الأمير عبد الجبار بن المغيرة لابن عمه الخليفة محمد المهدي1 وهذه هي المرة الأولى التي تولى فيها الحجابة أحد أبناء البيت الأموي، وذلك في الخلافة الأولى للمهدي، وأما في الخلافة الثانية فإنه استحجب الفتى "واضح الحكمي العامري2" بسبب مساعدته له عندما لجأ إلى طليطلة، وبالتالي وقوفه إلى جانبه إلى أن تولى الخلافة للمرة الثانية3، ويمكن القول بأن الحاجب واضح كان شريكاً للمهدي في تدبير الدولة4 إلا أن طموحه كان أكبر من ذلك بكثير، فهو يتطلع إلى تكرار سيرة مواليه العامريين المنصور وبنيه، وذلك من خلال إعادة الخلافة لهشام المؤيد، ومن ثم السيطرة عليه -بالإضافة إلى الأخذ بثأرهم من المهدي5- لأجل ذلك تآمر مع بعض زملائه الصقالبة، فقتلوا المهدي يوم الأحد الثامن من ذي الحجة سنة 4006 (24 يوليو 1010م) وبعد قتل المهدي تولى الخلافة   1 أعمال الأعلام، 2/110. البيان المغرب، 3/95. 2 المصدر السابق، 3/100. وأما صاحب ذكر بلاد الأندلس، 1/199 فقد ذكر أن اسمه "عامر الفتى". 3 أعمال الأعلام، 2/113-114. 4 انظر: المصدر السابق، 2/115-116. البيان المغرب، 3/95-99. 5 البيان المغرب، 3/99. 6 الحلة السيراء، 2/7. أعمال الأعلام، 2/116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 هشام المؤيد، فتولى واضح الحجابة له، وكما يريد فقد استبد بالسلطة1، إلا أنه شعر بعدم قدرته على ضبط الأمور بصورة قوية، بل أصبح عرضة للسخرية والسب من قبل الجند، ولذا فقد عزم على الهرب طلباً للنجاة، إلا أن أمره انكشف، فأسرع إليه ابن وداعة بطائفة من الجند، فأخرجوه من داره وعاتبوه على تفريطه ثم قتلوه2، فأصبح منصب الحجابة شاغراً، إذ أن الخليفة هشام المؤيد أظهر الاستغناء عن الحاجب وأخذ يباشر الأمور بنفسه3، لكنه لم يلبث أن ولى عبد الرحمن بن متيوه مهام الحجابة4، وسماه بذي الوزارتين5، إلا أن أمره لم يستمر إذ ما إن شعر بخطورة الموقف وتدهور الأوضاع حتى هرب إلى بطليوس بعد أن سرق كل نفيس من قصر الخليفة هشام المؤيد6 وبهرب ابن متيوه، ظل منصب الحجابة شاغراً حتى دخل سليمان المستعين مدينة قرطبة في شهر شوال سنة 403هـ (إبريل 1013م) 7 فتقلد المناصب في دولته بما فيها الحجابة   1 الذخيرة، ق1م1 ص25. 2 انظر: أعمال الأعلام، 2/118. البيان المغرب، 3/103-105. 3 أعمال الأعلام، 2/118. 4 الذخيرة، ق1م1 ص46. وأما ابن عذاري فقد أسماه بابن مناو. انظر: البيان المغرب، 3/107. 5 البيان المغرب، 3/107. 6 المصدر السابق، ص 3/109. 7 الحلة السيراء 2/7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 أنصاره البرابر1 وأصبحت دولة المستعين - كما يقول ابن عذاري - "دولة البرابر"2. ونظراً لأن كل من آنس في نفسه قوة انتزى في ناحية من نواحي الأندلس وبسط نفوذه عليها، لأجل ذلك وجد أكثر من حاجب إذ أصبح لكل خليفة من الخلفاء المتنافسين على عرش قرطبة حاجب خاص3. ولدينا بالإضافة إلى هؤلاء الخلفاء المتنافسين بعض أصحاب الطموح الذين يريدون أن يلوا منصب الحجابة في ظل خليفة ضعيف تبرز فيها شخصياتهم فمن هؤلاء:- خيران العامري، فبعد أن غادر قرطبة عقب تولي علي بن حمود الخلافة بها في شهر المحرم سنة 407هـ (يوليو 1016م) توجه إلى جيان4 وهناك وجد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن   1 ذكر بلاد الأندلس 1/203. 2 البيان المغرب، 3/114. 3 الذخيرة، ق1م1 ص41. 4 جيان Jaen مدينة أندلسية قديمة تقع في قلب الأندلس، على بعد مائة كيلو متر شرقي قرطبة وبمثلها من ناحية الشمال، وقد امتازت جيان بأراضيها الخصبة ولذا فقد كثرت القرى التابعة لها، وقد كانت في أيام الدولة الإسلامية من أعظم قواعد الأندلس، إلى أن سقطت بأيدي النصارى سنة 644هـ، وقد بقى من آثار المسلمين بها الحصن أو القصبة الأندلسية والمعروفة اليوم باسم: حصن سانتا كاتالينا Castillo de sta catalina. انظر: فرحة الأنفس، ص284. الحلل السندسية 1/127-128. الآثار الأندلسية الباقية، ص219-227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 الناصر الملقب بالمرتضى، فبايعه بالخلافة في شهر ذي الحجة سنة 408هـ (إبريل 1018م) على أمل أن يلي الحجابة له ويسيطر على الدولة باسمه، إلا أنه لم يلبث أن غدر به وأسلمه للقتل حول غرناطة سنة 409هـ (1018م) 1. وقبل خيران العامري، وجد مجاهد العامري المتوفى سنة 436هـ (1044م) الذي سبق الجميع إلى استغلال عواطف الأندلسيين تجاه الخلافة الأموية، فقد عمد في خلافة المستعين سليمان بن حكم إلى مبايعة رجل من بني أمية، عرف "بالنبل والذكاء والشرف2" هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبيد الله بن الوليد المعيطي، وذلك في أول سنة 405هـ (1014م) 3 مستغلاً فرصة عبور علي بن حمود على رأس قواته من سبتة بالمغرب إلى مالقة بالأندلس4، فأخذ مجاهد البيعة للمعيطي في جميع أعماله، وتولى مجاهد منصب الحجابة للمعيطي، إلا أن الود بينهما لم يستمر، فاضطر مجاهد إلى طرد المعيطي بعد خلعه5.   1 الذخيرة، ق1م1 ص453-455، البيان المغرب، 3/125-127. 2 الصلة، رقم 593. 3 أعمال الأعلام، 2/220. 4 الذخيرة، ق1م1 ص 41. 5 انظر: ترتيب المدارك، 8/26. الصلة، رقم 593. أعمال الأعلام، 2/220، تاريخ ابن خلدون، 4/164. كيليا سار فللي، مجاهد العامري، ص 155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وبوجه عام، فقد استمر وجود الأدعياء الذين بويعوا بالخلافة لهدف أراده من نصبهم وبايعهم، ويكفي للدلالة على سوء الوضع المتعلق بهذه الأمور قول ابن حزم:"أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، كلهم تسمى بأمرة أمير المؤمنين ويخطب لهم بها في زمن واحد، وهم خلف الحصري1 بإشبيلية على أنه هشام بن حكم، ومحمد بن القاسم بن حمود بالجزيرة، ومحمد بن إدريس بن علي بن حمود بمالقة، وإدريس بن يحيى بن علي ابن حمود ببشتر2". وكما تولى الحجابة أصحاب السيف والقلم في عهد قوة الدولة الأموية، فكذلك تولاها بعض العلماء أصحاب الشخصيات الدينية   1 بعد أن استقر يحيى بن علي بن حمود الملقب بالمعتلي، في مالقة، وبسط حكمه على معظم قواعد الأندلس الغربية الجنوبية، بدأ بالتطلع إلى إشبيلية وأرهق صاحبها ابن عباد بالغارات المتوالية، فما كان من الآخر، بعد أن شعر بخطورة الموقف، إلا أن أتى برجل فقير يعمل مؤذناً في مسجد بإحدى قرى إشبيلية مستغلاً غيبة هشام المؤيد والأراجيف التي كانت تقول بوجوده، وبقرب ظهوره، وبالشبه الشديد بينه وبين ذلك الرجل المؤذن المدعو خلف الحصري، فألبسه الكسوة الخلافية ومشى بين يديه وصائح يصيح بأن هذا هو أمير المؤمنين هشام، وأجلسه في القصر وأخذ له البيعة وطالب الأهالي بمبايعته ومن أبى حل به البلاء. كل هذا حرصاً من ابن عباد على الدنيا ودفعاً لابن حمود عن الخلافة. انظر: البيان المغرب، 3/197-200. 2 نقط العروس، ص 83-84. وعن أولئك الحموديين: انظر: البيان المغرب، 3/217. لويس سيكودي لوثبنا، الحموديين سادة مالقة والجزيرة الخضراء، ص 42-47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 والأدبية، فقد تولى أبو محمد علي بن أحمد بن حزم، تدبير دولة الخليفة عبد الرحمن المستظهر1، الذي بويع بالخلافة يوم 4 رمضان سنة 414هـ (41 نوفمبر 1023م) إلا أنه لم يمكث في هذا المنصب سوى سبعة أسابيع بسبب مقتل المستظهر وبذلك فقد ابن حزم منصبه وكلما أقبلت الدولة على الوصول إلى نقطة النهاية، كلما أصبحت المناصب متاحة لأي كان، فمنصب الحجابة ارتقى إليه أصحاب المهن الوضيعة، فهذا أحمد بن خالد رجل حائك كان هو المدبر لدولة الخليفة المستكفي بالله 414-416هـ (1024-1025م) وكما يقول المراكشي: "فقل في دولة يدبرها حائك"2. وكانت نهاية هذا الحائك سيئة، إذ اقتحم عليه عوام قرطبة داره وضربوه بالحديد حتى مات3. وما يقال عن دولة المستكفي فإنه يقال عن دولة المعتد بالله 418-422هـ (1027-1031م) الخليفة الأموي الأخير بالأندلس، فقد تولى أمر تدبير دولته حائك يدعى حكم بن سعيد القزاز، فأساء التصرف وأثار حفيظة الناس، فلما عيل صبرهم وثبوا عليه وقتلوه وحزوا رأسه وطافوا به بالبلد4.   1 المعجب، ص 93. 2 المصدر السابق، ص 107. 3 نفس المصدر والصفحة. 4 البيان المغرب، 3/146-150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 المبحث الثاني: خطة الوزارة إن نظام الوزارة1 في دولة بني أمية بالأندلس يدين في وجوده وتنظيمه للأمير عبد الرحمن الأوسط 206-238هـ (822-852م) ، أما قبل ذلك فلم يكن هناك تنظيم حقيقي لهذا الجهاز، فالأمير عبد الرحمن الداخل أنف من اتخاذ الوزراء2، ولكنه اتخذ مجموعة من المعاونين والمستشارين الذين توسم فيهم الإخلاص والوفاء والكفاءة، واختصهم بمجالتسه وبذل المشورة له عندما يطلب منهم ذلك3، واختار أحدهم   1 أُختلف كثيراً في اشتقاق لفظ الوزارة، فقيل أنه مأخوذ من "الوزر" بكسر الواو وسكون الزاي، وهو الثقل، لأن الوزير يحمل عن الملك أثقاله، انظر: الأحكام السلطانية ص 20. فالوزير هو الذي يتولى أعباء إدارة الدولة. وفي هذا يقول ابن خلدون في مقدمته، ص 663 "إن السلطان نفسه ضعيف يحمل أمراً ثقيلاً، فلابد له من الاستعانة بأبناء جنسه، وإذا كان يستعين بهم في ضرورة معاشه فما ظنك بسياسة نوعه ومن استرعاه الله من خلقه وعباده" وقيل إنه مأخوز من "الوَزَر" وهو الملجأ والمعتصم. الأحكام السلطانية ص 20. قال تعالى: {كَلاَّ لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} سورة القيامة الآيتان رقم 11-12. وقيل أنه مأخوذ من "الأَزْر" وهو الظهر لأن الملك يقوى بوزيره كقوة البدن بالظهر. الأحكام السلطانية ص 20. قال تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} سورة طه الآيات من 29-32. ولعل الرأي الثالث هو أقرب الآراء لمفهوم الوزارة في الأندلس، فهي المؤازرة والمعاونة. 2 مقدمة ابن خلدون. ص 670. ربما لأنه كان متأثراً بأسلافه بالمشرق. 3 نفح الطيب، 3/45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وجعله رئيساً عليهم، ويتردد بينه وبينهم وقد عُرف متولي هذا المنصب ب "الحاجب"1. ورغم أن الأمير عبد الرحمن الداخل لم يسم أولئك المعاونين والمستشارين بالوزراء، إلا أن معنى الوزارة كان واضحاً في ذهنه، يدل على ذلك مقولته لعبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم، بعد إحدى المعارك التي حسم أمرها شجاعة عبد الملك وصرامته2، فقد قال له: "يا ابن عم، قد أنكحت ابني وولي عهدي هشاماً ابنتك فلانة، وأعطيتها كذا وكذا، وأعطيتك كذا، ولأولادك كذا، أقطعتك وإياهم، ووليتكم الوزارة"3. وذكر ابن الأبار أن الأمير عبد الرحمن الداخل قد استوزر ولديه سليمان وهشام4، بالإضافة إلى كل من عبد الله وإبراهيم وحكم أبناء   1 المصدر السابق، 1/216. 2 هذه المعركة جرت سنة 156هـ عندما ثار أهل الأندلس بقيادة حيوة بن ملامس الحضرمي وعبد الغفار اليحصبي بن طالوت. انظر: اخبار مجموعة، ص 107. تاريخ ابن خلدون، 4/123. نفح الطيب، 3/48،59. 3 نفح الطيب، 3/59. 4 الحلة السيراء، 1/42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 عبد الملك بن عمر بن مروان1، كما أن بعض المؤرخين قد أطلق على معاوني الأمير الداخل ومستشاريه لقب "وزراء"2. ومن كل ما مضى نستطيع القول بأن الأمير عبد الرحمن الداخل كان متأثراً بشدة بنظام الحكم الذي كان قائماً في دولة أسلافه الأمويين بالشام، إذ أن الخلفاء الأمويين اتخذوا كتَّاباً أسندوا إليهم بعض المهام، فقربوهم واتخذوهم مستشارين خاصين يساعدونهم في إدارة دولتهم الشاسعة، وعلى ذلك فقد كانوا يقومون بعمل الوزراء دون أن يتلقبوا بهذا اللقب3. وذكر ابن عذاري أن عدد وزراء الأمير هشام الرضا كانوا ثمانية4، بينما كان عددهم لدى ابنه الحكم خمسة وزراء5. وقد تولى إدارة دولة الأمير عبد الرحمن الأوسط عدد من الشخصيات القوية أمثال: عبد الكريم ابن عبد الواحد بن مغيث، وعيسى بن شُهيد وغيرهما، وفيهم قال ابن حيان نقلاً عن ابن مفرج:-   1 المصدر السابق، 1/56. 2 أخبار مجموعة، ص106. البيان المغرب، 2/48. 3 أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري، كتاب الوزراء والكتّاب، (تحقيق: مصطفى السقا وغيره، القاهرة، مكتبة مصطفى الحلبي، 1401هـ /1980م) ص 24،27. 4 البيان المغرب، 2/61. 5 المصدر السابق، 2/68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 "وكان قد اجتمع للأمير عبد الرحمن من سراة الوزراء أولي الحلوم والنهى والمعرفة والذكاء عصابة لم يجتمع مثلها عند أحد من الخلفاء قبلهم ولا بعدهم1" فوجود مثل هؤلاء في وقت واحد جعل من الضروري اختصاص كل واحد منهم بأعمال محددة وألقاب معينة. وبذلك برزت المناصب بقوة منذ ذلك الوقت، وبالتالي أصبح التنظيم الإداري لأجهزة الدولة أمراً ضرورياً. وبعد أن تمت عملية التنظيم برزت الوزارة، فوزعت الاختصاصات، وأصبح لكل وزير عملاً معيناً يقوم به وفي ذلك يقول ابن خلدون:- "وأما دولة بني أمية بالأندلس، فأنفوا اسم الوزير في مدلوله أول الدولة، ثم قسموا خطته أصنافاً، وأفردوا لكل صنف وزيراً، فجعلوا لحسبان المال وزيراً، وللترسيل وزيراً، وللنظر في حوائج المتظلمين وزيراً، وللنظر في أحوال أهل الثغور وزيراً"2. ولم يكن لأولئك الوزراء في البداية مجلس خاص بهم يجتمعون فيه فقد كان الأمير يستدعيهم متى شاء، إلا أن الأمير عبد الرحمن الأوسط نظم تواجدهم، وأصبح تنظيمه هذا معمولاً به إلى نهاية الدولة، فقد "ألزم هؤلاء الوزراء الاختلاف إلى القصر كل يوم، والتكلم معهم في الرأي،   1 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 29. 2 مقدمة ابن خلدون، ص670. والوزارة بهذا التصنيف تكون شديدة الشبه بالتقسيمات الوزارية الحاصلة في الوقت الراهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 والمشورة لهم في النوازل، وأفردهم ببيت رفيع داخل قصره مخصوص بهم، يقصدون إليه ويجلسون فيه فوق أرائك، قد نضدت لهم، يستدعيهم إذا شاء إلى مجلسه جماعة وأشتاتاً، يخوض معهم فيما يطالع به من أمور مملكته، ويفحص معهم الرأي فيما يبرمه من أحكامه، وإذا قعدوا في بيتهم أخرج رقاعه ورسائله إليهم بأمره ونهيه، فينظرون فيما يصدر إليهم من عزائمه، جرى على ذلك من تلاهم إلى اليوم"1. وعلى هذا، فالوزراء أصبح لديهم عمل رسمي يزاولونه بشكل يومي، ومجلس خاص بهم، يمارسون فيه أعمالهم كل حسب اختصاصه، وفي بيت الوزارة يجلسون بشكل دائري على فرش الكتان2 والحاجب في صدر المجلس على فراش الديباج أرفع من فرشهم، وحسب التوجيهات العامة التي تصدر إليهم من الأمير تدور المناقشات بينهم في أمور الدولة،   1 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 29. وأما النص الذي ورد لدى ابن القوطية في "افتتاح الأندلس" ص61 فقد جاء فيه: "وعبد الرحمن أول من رتب اختلاف الوزراء إلى القصر والتكلم في الرأي على ما هو جار إلى اليوم". 2 الذخيرة، ق4م1 ص59. الوزراء كانوا يجلسون على فرش لم تكن ترتفع عن الأرض كثيراً، يدل على ذلك ما ورد لدى الخشني عند ذكره لاجتماع عمرو بن عبد الله وسليمان بن أسود عند الوزراء في بيتهم، وبعد أن انتهت المناقشة وأراد عمرو بن عبد الله أن ينهض وضع يديه جميعاً في الأرض ليقوم. [انظر: قضاة قرطبة ص 86] ولا يمكن أن يضع يديه جميعاً في الأرض إلا إذا كان الفراش المعد للجلوس لا يرتفع عن الأرض إلا يسيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 وما يصدر عنهم من قرارات يتولى الحاجب حملها إلى الأمير فيعرضها عليه، فالذي يوافق عليه الأمير يحول إلى ديوانه الخاص، لكي يصاغ صياغة ديوانية ملائمة، ثم يتولى الوزير صاحب العرض حملها إلى الأمير ليختمها بالختم الرسمي للدولة، ومن ثم يصدر المرسوم. وقد شهدت الوزارة في الأندلس تقسيمات متعددة، فقد كانت تضم عدة خطط تعتبر من أخطر مناصب الدولة على الإطلاق1. وهناك خطط يتقلدها أكثر من واحد في نفس الوقت، من ذلك أن خزانة بيت المال في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط كانت تحت إشراف أربعة يعرفون بالخزَّان2، كما أن خطة العرض كان يتولاها أربعة من كبار رجالات الدولة، وذلك في بداية عهد عبد الرحمن الناصر3. ومن الملاحظ هنا أنه عندما تسند عملية الإشراف على خطة من الخطط لأكثر من شخص واحد، فإن اختصاص كل منهم لابد أن يكون واضحاً لديه لكي لا تكون هناك ازدواجية في الأداء. وكما يتم اشتراك أكثر من واحد في خطة واحدة، فمن الممكن أن يتولى رجل واحد، ممن لا يحملون لقب وزير، مسئولية عدة خطط، فمثلاً   1 دولة الإسلام في الأندلس، ع1ق1 ص685. 2 هم: ابن بسيل الملقب بالغماز، وطاهر بن هارون، وسفيان بن عبد ربه، وشيخهم موسى بن حدير. انظر: ابن القوطية، ص62. 3 المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 محمد بن أبي عامر "المنصور" كان في عهد الحكم المستنصر يتولى خطة المواريث وقضاء إشبيلية ولبله1 وأعمالها وكذا الأمانات بالعدوة وخطة الشرطة الوسطى بالإضافة إلى وكالة هشام بن الحكم المستنصر2. وفي الوقت نفسه، من الممكن أن يتولى من يحمل لقب "وزير" الإشراف -بالإضافة إلى وزارته -على عدة خطط، فهذا: الوزير أحمد بن عبد الملك بن شُهيد كان يتولى بالإضافة إلى الوزارة خطتي الشرطة العليا والمظالم والإشراف على دار السكة3. وعلى هذا يمكن القول بأن من يترقى أو يُنقل من خطة إلى أخرى ليس بالضرورة أن يتخلى عن خطته أو خططه السابقة، بل بإمكانه الجمع بين أكثر من خطة، لكن إذا رقي إلى رتبة وزير فلا شك أنه سيتخلى عن خططه السابقة، ويقتصر على حمل لقب وزير مضافاً إليه ذكر الخطة الجديدة التي أسندت إليه، فعبد الحميد بن بسيل كان على خزانة المال، ثم   1 لبلة "Niebla" كورة في غربي الأندلس، سهلية جبلية برية بحرية، تكثر بها المزارع والمياه، وهذا الإقليم معد لتربية الحيوانات، وأحواز لبلة مختلطة بأحواز كورة أكشونبة على نهر آنة وبأحواز كورة باجه، ومدينة لبله هي المعروفة بالحمراء من أعمال ولبه، وهي تقع على الطريق بين اشبيلية وولبه. انظر: وصف الأندلس للرازي، ص 92. جغرافية الأندلس وأوروبا، ص 64،127. ابن الشباط، صلة السمط وسمة المرط، (تحقيق: د. أحمد العبادي، مدريد، معهد الدراسات الإسلامية، 1971م) ص145. 2 المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص72. 3 المصدر السابق، تحقيق: شالميتا، ص 486. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 استوزره عبد الرحمن الناصر وجعله مع منصب الوزارة قائداً للجيش، فأصبح يعرف ب"الوزير القائد"1. كيفية الوصول إلى منصب الوزارة: من الطبيعي أنه لا يمكن وضع أي فرد في هذا المنصب الخطير إلا بعد اختبار وتجربة يثبت من خلالها أنه كفؤ لما سيصل إليه، وهذه التجربة تكون من خلال إسناد بعض المهام الإدارية إليه، ومن خلال التدرج في المناصب يرقى إلى مرتبة "وزير" فالوزير فطيس بن سليمان بن عبد الملك بن زيان، كان يتولى الكتابة لهشام الرضا عندما كان ولياً للعهد، فلما تولى هشام الإمارة ولاه السوق وكورة قبره2 وأخيراً جعله وزيراً3. ولكن من الممكن أن يصل أحدهم إلى منصب الوزارة دون تدرج وظيفي، فقد ذكر ابن القوطية أن الأمير محمد بن عبد الرحمن في صبيحة   1 البيان المغرب، 2/185. 2 قبرة "Cabra" بلدة صغيرة من أعمال قرطبة، وهي تقع منها على بعد نحو سبعين كيلو مترا إلى الجنوب الشرقي، وهي مدينة حصينة جداً، وبها العديد من الحصون، كما اشتهرت بوفرة المياه وكثرة الأشجار. انظر: وصف الأندلس للرازي، ص89. الروض المعطار، ص 153. 3 الحلة السيراء، 2/365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 اليوم الذي تولى فيه الإمارة رقى محمد بن موسى الإشبيلي إلى خطة الوزارة مباشرة1. كذلك من أساليب الوصول إلى الوزارة تقديم طلب للأمير بهذا الخصوص، فهذا الوليد بن عبد الرحمن بن غانم2 قدم طلباً للأمير محمد بن عبد الرحمن لاتخاذه وزيراً، وقد استجاب الأمير لطلبه، ولكن يشترط لذلك أن تكون كفاءته قد ثبتت مسبقاً من خلال تجارب وظيفية إضافة إلى شيء مهم وهو أن تكون له سابقة في الدولة3. وإذا أراد الأمير أو الخليفة تقليد أحد رجاله منصب الوزارة فإنه يرسل إليه صاحب الرسائل ويحضره ويجلسه في بيت الوزراء مباشرة4.   1 إن الأمير محمدا لم يول محمد بن موسى الإشبيلي الوزارة اعتباطا، وإنما تم ذلك بعد طول صحبة واختبار في مواقف عديدة، لعل آخرها موقفه ليلة وصول الأمير محمد للإمارة، ولذا فقد حظيت أسرة محمد بن موسى بلقب بني الوزير، انفردت به من بين أسر جميع الوزراء في قرطبة. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 139-141. 2 وليد بن عبد الرحمن بن عبد الحميد بن غانم، تولى خطتي الوزارة والمدينة بالإضافة لقيادة الجيوش، في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، كان كاتباً، أديباً مرسِّلاً، بليغاً، عرف بالنزاهة في أدائه لمهام منصبه، توفي في شعبان سنة 392هـ. انظر: ابن القوطية، ص85، 87، 88. الحلة السيراء، 2/374. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 141، 172، 175، 177، 178، 252، 271، 388-390. 3 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 177. 4 المقتبس، تحقيق: شالميتا، 5/487. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 وللوزير اختصاصات يعمل على عدم تجاوزها، فهو ينفذ الأوامر الصادرة إليه، وإذا أصبح منصب من مناصب الدولة شاغراً فإن الوزير وزملاءه يقترحون على الأمير أحد الأسماء. فإذا رضي الأمير عن الاقتراح أرسل في طلب المرشح لاستلام وظيفته1. ومن اختصاصات الوزير التحقيق في الشكاوى المقدمة ضد أحد أصحاب المناصب الهامة في الدولة2 والاجتماع بالفقهاء في بيت الوزارة للإفتاء في بعض المسائل3، وكذلك الإشراف على بناء يشاد4، واستقبال رؤساء الوفود الزائرة في بيت الوزارة5، كما يتولى بعض الوزراء الإشراف على أحباس الخليفة6 في حين أن الوزير صاحب المدينة يتولى في بعض الأحيان مسئولية استنفار الناس للخروج إلى الجهاد7 وعندما يغادر الأمير أو الخليفة قرطبة ويجعل ولي عهده في القصر فإنه يبقي إلى جانبه أحد الوزراء وغالباً مايكون صاحب المدينة8، كما أن على كل وزير تولي قيادة الجيش9 ومن لم   1 النباهي، ص 17. 2 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 65-66. 3 قضاة قرطبة، ص83-85. 4 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 223. البيان المغرب، 2/203. 5 المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 110. 6 البيان المغرب، 2/234. 7 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص44،140. 8 انظر: ابن القوطية، ص 86، المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 65، 317. 9 انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، 140، 271، 321. المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص156، 451. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 يفعل ذلك يكون عرضة للاتهام من قبل السلطة الحاكمة، وأخيراً فإن الوزير قد يتولى الصلاة على الجنائز أحياناً1. مرتب الوزير الشهري: للوزراء ديوان خاص تسجل فيه مرتباتهم الشهرية وأرزاقهم السنوية2، إلا أننا لم نجد ذكراً صريحاً لمقدار مرتب الوزير في الشهر. لكننا عرفنا عند الحديث عن الحجابة أن مرتب الحاجب ثمانون ديناراً في الشهر، وبما أن الحاجب أعلى مرتبة من الوزير، إذاً لابد أن يكون راتب الوزير أقل من ثمانين ديناراً. لكن الوزير يمنح أحياناً ألقاباً تضاف إليه حسب طبيعة عمله، فيمكن أن يكون الوزير القائد مثل يحيى بن محمد بن هاشم3، أو الوزير القائد الأعلى مثل غالب بن عبد الرحمن4 وغير ذلك، بالإضافة إلى أن الوزير يكلف أحياناً بالإشراف على خطط أخرى بجانب العمل في وزارته5. هذه الألقاب التي تمنح للوزير والخطط التي يتولى مسئولية   1 ابن الفرضي، ترجمة رقم 417. 2 الحلة السيراء، 2/365. 3 المقتبس، تحقيق: عبد الرحمن الحجي، ص 142. 4 المصدر السابق، ص 69. 5 نفسه، تحقيق: شالميتا، ص 486. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 الإشراف عليها، يترتب عليها بالمقابل زيادة المرتب. أما ما ذكره ابن عذاري من أن رزق كل وزير من وزراء الأمير عبد الرحمن الأوسط يبلغ ثلاثمائة دينار1، فإن ابن حيان قد فسر هذه النقطة، فعند حديثه عن وزراء الأمير عبد الرحمن الأوسط، ذكر أن الوزير محمد بن السليم "كانت له مع الوزارة خطط يرتزق عليها في كل شهر ثلاثمائة دينار2" ولا شك أن ابن حيان مقدم على ابن عذاري في هذا المجال وإلا فما معنى أن يكون رزق الوزير فطيس بن سليمان خمسمائة دينار في ديوان الأمير الحكم الربضي؟ 3. وهذه المرتبات والأرزاق الواسعة، فيها دلالة على ثراء الدولة كما أنها تدل على حرص بني أمية على إكرام رجال دولتهم، والتوسيع عليهم، حتى لا يتطلعوا إلى ما بأيدي الآخرين، مما يحول دون إغرائهم بأي مقابل، مادي الأمر الذي يكفل بالتالي تسيير الأمور بصورة طيبة. رسوم الوزارة: حكام دولة بني أمية بالأندلس حرصوا على تكريس الوزارات بأيدي أبناء أسر معينة، مثل أسرة آل بني عبد هـ وبني فطيس وآل بسيل وآل شهيد   1 البيان المغرب، 2/80 2 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 28-29. الحلة السيراء، 2/371-372. 3 الحلة السيراء 2/365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 والزجالي وغيرها، بل حدث في عهد الأمير عبد الله بن محمد نادرة -كما يقول ابن حيان- إذ اجتمع لديه أربعة وزراء كلهم من آل بني عبد هـ دفعة واحدة، هم: أبو عثمان عبيد الله بن محمد بن أبي عبد هـ، وأبو العباس أحمد بن عيسى بن أبي عبد هـ، وسليم بن علي بن أبي عبد هـ، وعبد الرحمن بن حمدون بن أبي عبد هـ المعروف ب"دُحيم"1. ولا تقتصر عناية بني أمية بوزرائهم فقط، بل تمتد هذه العناية إلى أولادهم، فإذا حدث أن غاب أحد الوزراء كأن وقع بالأسر أو قتل، فإن ولده يحل محله2، وإن كان هذا الولد غير كفء لتحمل المسؤولية لهذا المنصب الخطير، تم تكليف أحد ذوي الخبرة بالوقوف إلى جانبه وتدريبه حتى يتقن عمله3 وإذا توفي أحد الوزراء، ذهب الخليفة بنفسه إلى والد الوزير ليقدم له التعزية، وحفظاً لود ذلك الوزير يأمر الخليفة بتقديم أحد أبناء المتوفي أو أحد إخوته إلى منصب عالٍ في الدولة4، وعلى هذا يمكن القول بأن أشد الجوانب الإيجابية وضوحاً في هذه السياسة أن بني أمية لا يفرطون برجالهم. وقد شهدت الوزارة في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن تنظيماً جديداً بسبب مشادة جرت بين اثنين من خزان المال، هما: عبد الله بن   1 المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 5-6. 2 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 178-179. الحلة السيراء، 1/142. 3 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 178-179. 4 المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 عثمان بن بسيل ومحمد بن وليد بن غانم على من يكتب اسمه أولاً، واحتج ابن بسيل على صاحبه ابن غانم بأنه شامي فهو أولى بالتقديم، وعندما رفع الخبر إلى الأمير محمد أقر ابن بسيل على حجته وقدمه على ابن غانم1، وعن هذا التنظيم الذي أحدثه الأمير محمد يقول الوزير عبد الحميد بن بسيل أن "الأمير محمد هو الذي قسم مراتب الخدمة، وفصل خططهم النبيهة، وأناف على جميعهم من متقدمة خطة الوزارة، وأشعرهم التعظيم والجلة، وأرجح أهل الشام من الوزراء على أصحابهم الأندلسيين، فقدمهم في الإذن عليه، وأعلاهم في الجلوس على أرائكهم ببيت الوزارة2" وبذلك فإن الأمير محمد يعتبر مجدداً في رسوم الدولة مثل والده الأمير عبد الرحمن الأوسط لكن مسألة تقديم الشامي على البلدي "الأندلسي" بصفة عامة قد أخذت بها الدولة الأموية بالأندلس منذ قيامها، يدل على ذلك ما ذكره الرازي عن التنظيم الذي أجراه الأمير عبد الرحمن الداخل على الجيش وما يترتب على أعضائه الشاميين والبلديين من حقوق أو واجبات3. ولعلنا نستأنس بفعل الأمير عبد الرحمن الداخل على أن الشاميين كانوا مقدمين على البلديين منذ البداية وفي كافة المناصب، وإلا كيف يحتج ابن بسيل على ابن غانم؟ وفضلاً عن ذلك فقد كانت الدولة   1 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 137-138. 2 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 137. 3 انظر: الإحاطة، 1/104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الأموية بالأندلس شامية بكل شيء، فلا غرابة إذاً أن يقدم الشامي على من سواه. وعلى أية حال فقد ظلت مسألة تقديم الشامي على البلدي في الوزارة معمولاً بها حتى بعد إمارة الأمير محمد، فعندما أراد الوزير عيسى بن أحمد بن أبي عبد هـ أن يجلس أعلى من الوزير موسى بن حدير أصدر الأمير عبد الله بن محمد أمره بأن يبقى الوزير ابن حدير مقدماً على الوزير ابن أبي عبده وفقاً لما رسمه والده الأمير محمد من قبل1. وللوزير بالأندلس حاجب ينظم عملية دخول الناس عليه، فإذا زاره وزير مثله، فإن الرسم يقتضي ألا يحجبه ولا لحظة، بل يبادر بالقيام إليه، إذ أن الوزير لا يقوم إلا لوزير مثله2، وكما أن له حاجب فكذلك لديه كاتب خاص3، وعدد من المعاونين أشبه ما يكون بالسكرتارية في الوقت الحالي، وأما الوزراء فإن لديهم كاتب خاص مقره بيت الوزارة 4.   1 الحلة السيراء، 1/120-121، وكذلك حاشية رقم 3 من نفس الصفحة. قارن: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 137 حاشية رقم 2. 2 الحلة السيراء، 1/124. 3 المغرب، 1/144. 4 المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 كذلك جرت العادة لدى بني أمية بالأندلس أن يقدَّم الوزير على القاضي1 كما اتصفوا بكثرة استشارتهم لوزرائهم2، ولذا فإن الآراء التي تقدم من الوزراء لابد أن تكون مكتوبة في بطائق خاصة3. ورغم المكانة العالية للوزراء، فإن للأمير عيون تنقل إليه كل ما يجري لديهم إذا جلسوا في بيتهم4 الذي جرت العادة أن تفوح منه رائحة المسك دائماً5. والوزير يمنح ألقاباً تضاف إليه حسب طبيعة عمله -كما ذكرنا سابقاً- فالخليفة الحكم المستنصر منح وزيره غالب بن عبد الرحمن لقب "القائد الأعلى" وأصدر في ذلك مرسوماً ثبت في الديوان الخاص وفي بيت الوزارة أمر فيه ألا ينادى ولا يخاطب غالب بن عبد الرحمن إلا ب"الوزير القائد الأعلى6". هذا اللقب الذي منحه الخليفة المستنصر للوزير غالب   1 النباهي، ص 88. 2 المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 72،130. 3 ذكر بلاد الأندلس، 1/154. نفح الطيب 1/353. 4 ابن القوطية، ص113. المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص86. ومما يدل على شدة الرقابة المفروضة على الوزراء في بيتهم ماذكره الرازي من أن الوزير هاشم بن عبد العزيز تنفس بطريقة تدل على التذمر عندما أخرج الأمير المنذر إلى الوزراء رقعة بتوقيعه فرفع أمره مباشرة إلى الأمير المنذر. انظر: الحلة السيراء، 1/138-139. 5 جذوة المقتبس، ص 407 ترجمة رقم 975. 6 المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 بن عبد الرحمن ترتبت عليه حقوق ميزته عن نظرائه من الوزراء، إذ أمر الخليفة بتصدير فراش الوزير القائد الأعلى غالب فوق فرش الوزراء جميعاً تشريفا له1، ثم خلع عليه خلعاً متميزة، وقلده سيفين مذهبين من أنفس ما في خزانته وسماه "ذا السيفين" وأمر أن تثبت هذه التسمية مع ما سبق له من الألقاب2. لكن إطلاق لقب "ذا الوزارتين" على أحدٍ من الوزراء هو في الواقع لقب تشريفي ليس إلا، يدل على ذلك أن الخليفة عبد الرحمن الناصر هو أول من أطلقه على أحد وزراء دولته، وكان أول من حظي بهذا اللقب الوزير أحمد بن عبد الملك بن شُهيد، والذي تجدر الإشارة إليه أنه لم ينل هذا اللقب إلا بعد هديته المشهورة للخليفة عبد الرحمن الناصر3. وعلى الرغم من الواجبات العديدة التي اضطلع بها الوزراء، إلا أنه وجد وزراء بدون وزارات، وهو ما يعرف حالياً ب"وزراء دولة" فعليهم التواجد مع الوزراء ليكلفهم الأمير بما شاء ومتى شاء، ومن هؤلاء: بدر الصقلبي مولى الأمير عبد الله بن محمد والسبب في منحه لقب "وزير" أنه أشار على الأمير عبد الله في مسألة ثبت فيها نصحه ونجحت رؤيته، فأعجب الأمير به وأمر بوضع فراش له للشورى مع الوزراء4.   1 المصدر السابق، ص 219. 2 نفسه، ص 220. 3 الحلة السيراء، 1/238. نفح الطيب، 1/356-360. 4 ابن القوطية، ص 112-113. المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص13-131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 وإذا أتينا إلى مسألة عدد الوزراء، نجد أن العدد يختلف من عهد أمير إلى آخر ومن خليفة إلى غيره، بل إن العدد يختلف بين سنة وأخرى، فنجد أن الأمير عبد الله بن محمد هو أول من استكثر من الوزراء حتى بلغ عددهم ثلاثة عشر وزيراً، لكنه عندما توفي لم يكن في بيت الوزارة لدية إلا أربعة وزراء فقط1. وأكبر عدد من الوزراء وجد في دولة بني أمية بالأندلس كان على عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر ففي سنة 330هـ (942) كان عدد الوزراء لديه ستة عشر وزيراً2. وفي الوقت نفسه شهد عصره أقل عدد من الوزراء في الدولة الأموية، إذ أنه أصدر أمره سنة 339هـ (941م) بعزل جميع الوزراء البالغ عددهم تسعة وزراء ولم يبق منهم سوى وزيرين3. ولبني أمية أسلوبهم الخاص في التعامل مع وزرائهم، من ذلك أن الأمير إذا أحس من أحد وزرائه إعجابا بنفسه، نصب إزاءه من يكون مبرزاً في نواحٍ عدة، ويعلي من شأنه ليكسر من حدة ذلك الوزير المعجب   1 هم: العباس بن عبد العزيز القرشي المرواني، وأحمد بن محمد بن أبي عبد هـ، ومحمد بن وليد بن غانم وعبد الله بن محمد الزجالي الكاتب. انظر: المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 6. 2 المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 487. 3 المصدر السابق ص 470. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 بنفسه، وهذا ما فعله الأمير محمد عندما نصب محمد بن عبد الملك بن جهور إزاء الوزير هاشم بن عبد العزيز1. وعندما يرغب الأمير بإعادة وزير سبق أن عزله فإنه يكلف أحد الوزراء بالذهاب إلى الوزير المعزول ويعمل على إقناعه بالعودة إلى الوزارة، شريطة أن يظهر الأمر وكأن الوزير المعزول هو الذي يستجدي الأمير إعادته إلى منزلته السابقة حتى يبقى الأمير هو صاحب الفضل، وفي الوقت نفسه لاتكون لذلك الوزير دالة عليه، لكن إذا حدث أن رفض الوزير المعزول العودة إلى الوزارة عندها يضطر الأمير إلى مخاطبته والإرسال إليه مباشرة لكي يعود إلى مرتبته السابقة. وهذا ما جرى للوزير سليمان بن وانسوس البربري2 عندما أغضبه الأمير عبد الله بن محمد فأغلظ الوزير في الرد عليه وخرج مغضباً، فأمر   1 انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 155-157. الحلة السيراء 2/375. 2 أبو أيوب سليمان بن محمد بن أصبغ بن عبد الله بن وانسوس المكناسي، مولى سليمان بن عبد الملك، أصله من البربر، وله فيهم بيت شرف بالأندلس، كان أديباً مفتناً وشاعراً مطبوعاً، حسن البيان، بليغاً، حصيفاً، داهياً، تصرف في الأعمال حتى أصبح وزيراً في عهد الأمير عبد الله بن محمد وقد توفي سليمان سنة 292هـ. انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 104، 109، 189-193، والتعليق رقم 363، والمصادر الواردة فيه. الحلة السيراء، 1/160-161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الأمير بعزله عن الوزارة لكنه عندما احتاج إليه وعرف سداده لم يقبل ابن وانسوس العودة إلى الوزارة إلا بعد أن أرسل إليه الأمير مباشرة1. وفي قصة الوزير ابن وانسوس دلالة أكيدة على عظم وزراء بني أمية، وفي الوقت نفسه تدل على أن بني أمية رجال أفذاذ يحرصون بشدة على الاستعانة بعظماء الرجال ذوي المروءة والرأي. ولعل هذا ما دلت عليه مقولة الطرطوشي، أن "أول ما يظهر من نبل السلطان وقوة تمييزه وجودة عقله في استنخاب الوزراء"2. وهناك حالات يُعزل فيها الوزير عن منصبه، ومن عُزل يرفع فراشه، وحيث أن بني أمية يحرصون على الوزير المشهود له بالمروءة وحسن الرأي فإن نقصها يكون سبباً في عزل الوزير عن الوزارة، وهذا ما فعله الأمير الحكم الربضي عندما أصدر أمره بطرد الوزير أبي البسام من منصبه بعد غدره بالفقيه طالوت بن عبد الجبار المعافري3. ومن الحالات أيضاً التي يتم فيها عزل الوزير عن الوزارة إذا صدر من الوزير لفظ زائد يجعله موضعاً للشك والريبة، وهذا ما جرى للوزير البراء بن مالك فقد عُرف عنه أنه في منطقه فضل، وحدث أن كان في   1 انظر: جذوة المقتبس، رقم 459. الحلة السيراء، 1/124. 2 سراج الملوك ص 131. 3 طالوت بن عبد الجبار المعافري، أحد تلاميذ الإمام مالك بن أنس، اشتهر طالوت بالصلاح والفضل، وكان ممن اتهم في الهيج ضد الأمير الحكم الربضي. انظر: ابن القوطية، ص53-55. ترتيب المدارك، 3/340-342. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 بيت الوزراة فصدرت منه كلمة نقلت إلى الأمير عبد الله بن محمد فأثارت غيظه وجعلته يتهم وزيره البراء، ولذا أصدر أمراً بعزله عن الوزارة1، كذلك يعزل الوزير ويسخط عليه إذا ظهر تقصيره وغشه في العمل الذي أسند إليه، من ذلك أن الخليفة عبد الرحمن الناصر أصدر أمره بعزل سعيد بن جساس عن خطتي الوزارة والسكة معاً، بل إنه أمر بحبسه وإهانته2. الوزارة في عهد تسلط الحجابة على الدولة: أصبح الوزراء في عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر لا يصلون إلى الخليفة المغلوب على أمره هشام المؤيد إلا نادراً، ومع ندرة وصولهم إليه، فإن عليهم الإنصراف مباشرة بعد أن يسلموا عليه3، وهذا يدل على الضعف الذي أصبحت تعاني منه الوزارة بسبب تسلط المنصور بن أبي عامر على الخليفة ودولته، ومما يؤكد أن الوزارة في ذلك الوقت كانت ضعيفة لا بهاء لها، أن زيري بن عطية المغراوي، زعيم زناته، عندما وصل إلى قرطبة زائراً للمنصور بن أبي عامر وقدم له هدية عظيمة، احتفل له المنصور وتوسع له بالعطاء ودفع له قيمة هديته وولاه خطة الوزارة4 وذلك في شهر رجب سنة 382هـ (سبتمبر 992م) 5 فاستقبح زيري   1 المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 86. 2 المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 486. 3 تاريخ ابن خلدون، 4/147. 4 مفاخر البربر، ص 33. وانظر: الإستقصاء 1/211. 5 أعمال الأعلام، القسم الخاص بالمغرب 3/157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 لقب "الوزارة" واعتبرها إهانة له، وعندما خاطبه بها أحد رجاله نهاه عن ذلك ثم قال له:- "وزير من يا لكع؟ لا والله إلا الأمير بن أمير، واعجباً لابن أبي عامر ومخرقته! لأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، والله لو كان بالأندلس رجل ماتركه على حاله وأن له منا ليوماً1. والله لقد تاجرني فيما أهديت إليه حظاً للقيم، ثم غالطني بما بدله تبتيتا للكرم إلا أن يحتسب بثمن الوزارة التي حطني بها عن رتبتي2". ومن عرف المنصور بن أبي عامر ومنهجه السياسي القائم على الهيمنة المطلقة على الخلافة، يدرك تماماً أنه لا يمكن أن يرتفع لأحد شأن في عهده أياً كان منصبه، فهل يتوقع الوزير والحالة هذه أن تكون له ولوزارته مكانة لديه؟ أو يحسب لهما أي حساب؟ . وعندما تولى الحجابة عبد الملك المظفر، تغيرت أحوال الوزارة، فهذا عيسى بن سعيد المعروف بابن القطاع رغم علو منزلته عند المنصور إلا أنه لم يتنفس الصعداء إلا بعد موت المنصور وتولي ابنه عبد الملك الحجابة. يقول ابن بسام:- "وتبجح عيسى بعد مهلك المنصور بن أبي عامر في دولة ابنه عبد الملك، فتناهى عن الاكتساب بالحضرة وجميع أقطار الأندلس ضياعاً   1 الإستقصاء، 1/211. 2 مفاخر البربر، ص 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 ودوراً، فات الناس إحصاؤها واشتمل على الملك هو وولده وصنائعه1"وذلك لأن عبد الملك المظفر فوض وزيره عيسى بن سعيد في أمر تدبير الدولة2. وقد استغل عيسى بن سعيد منصبه الوزاري وتفويض عبد الملك له في إدارة الدولة فأخذ يبيع المناصب الإدارية3 مما عاد عليه وعلى صنائعه بالثروة الطائلة، وأصبح لايسير إلا في موكب ضخم، كما أن الوصول إليه أصبح أمراً عسيراً4. كل ذلك لم يقنع الوزير ابن القطاع، ولذا فقد أخذ يدبر مؤامرة خطيرة للإطاحة بعبد الملك المظفر، وتسليم الدولة لهشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، وكاد أمره أن يتم لولا أن كشفت خيوط المؤامرة في مراحلها الأخيرة، فذهب ابن القطاع ضحية لها5. وبعد مقتل ابن القطاع لحق الأذى كل فرد من حاشيته، إذ صودرت أملاكه وأملاكهم6، ثم صدر كتاب من عبد الملك بين فيه للناس سبب قتله لابن القطاع7.   1 الذخيرة، ق1 م1، ص124. 2 المصدر السابق، ق4م1 ص50. 3 نفسه ق1م1، ص124. 4 البيان المغرب، 3/28. 5 الذخيرة، ق1م1 ص125-127. 6 البيان المغرب، 3/34. 7 الذخيرة، ق1م1 ص 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 الوزارة في عهد الفتنة: عاشت الوزارة مرحلة مضطربة بسبب الفوضى التي كانت تمر بها الدولة في تلك الفترة، وبالرغم من أن المصادر تناولت تلك الفترة بشيء من التفصيل إلا أنها لم تكن تلقي الضوء على الوزارة والوزراء إلا لماماً، ومن خلال اللقطات السريعة لأحوال وزراء الفتنة نجد أنه لا يمكن مقارنتهم بأي حال من الأحوال بوزراء بني أمية سواءً في عصر الإمارة أو في عصر الخلافة الذي سبق الفتنة. فقد وُصف وزراء الخليفة المهدي بأن العين تقتحمهم هجنة وقماءة1، وأما الخليفة المستعين فقد كانت دولته دولة برابرة2، وعندما تولى الخلافة القاسم بن حمود وكان رجاله من عوام البربر3، في حين أن ابن أخيه يحيى بن علي بن حمود اتخذ السفلة عماداً لدولته4، واتخذ الخليفة المستظهر رجال وزارته من أهل البطالة والترف5 وأما الخليفة المستكفي الذي أجمع أهل المعرفة على أنه "لم يجلس في الإمارة مدة تلك الفتنة   1 البيان المغرب، 3/74. 2 المصدر السابق، 3/114. والمقصود بدولة برابرة أي أن المناصب الإدارية في الدولة كانت بأيدي البربر. 3 الذخيرة، ق1م1 ص 485. 4 انظر: الذخيرة ق1 م1 ص 483. ونفح الطيب 1/486. 5 نفح الطيب، 1/489. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 أسقط منه ولا أنقص1" فقد شهد عصره تهافتاً عجيباً من الناس على خطط الوزارة، فقد كان يقول لهم "ارتعوا كيف شئتم وتسموا بما أحببتم من الخطط2" ولكن سرعان ما تبرأوا منها عندما اكتشفوا زيف ما هم فيه3. وعندما وصل إلى قرطبة الخليفة الأموي الأخير هشام المعتد بالله، اتخذ له مدبر دولته حكم القزاز وزراء ما فيهم إلا "كل نغلٍ دغلٍ أو ماجن فاسق أو سوقي رذل، سقطت به عليهم المشاكلة.. ما فيهم حازم ولا فصيح4". ومهما قيل عن وزراء تلك الفترة، فليس هناك أبلغ من ابن حيان عندما قدم لنا بأسلوب ساخر لاذع وصفاً لهم فقد قال:- "ومات فلان الغني العبام، حجة الله في الرزق وغيظ الأنام، فنهض بريئاً من كل خلة جميلة تدل على فضيلة إلى عيٍ غالب عليه، وكان أخوه مثله في الأفن والجهالة، وكلاهما ممن استهينت به خطة الوزارة بحملهما اسمها الخطير الأثير من غير تعلق بفضيلة في حديث ولا قديم ولا معرفة بشيء من التعاليم5".   1 الذخيرة، ق1م1،ص489. 2 المصدر السابق، ص434-435. 3 نفسه، ص 435. 4 البيان المغرب، 3/148.. 5 الذخيرة، ق1م2 ص591. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 هذه هي صفات الوزارة والوزراء في تلك الفترة، مناصب بلا نفوذ، ولذا فكثير ما كانت قرطبة تعيش تحت إدارة "العبيد وسفَّال الناس1" لأجل ذلك فلا عجب إذا رفض أهل المروءة والشمم العمل في هذا الوسط العجيب، فالوزير حسان بن مالك بن أبي عبد هـ، استوزره الخليفة المستظهر لكنه لم يلبث في بيت الوزارة إلا يسيراً ثم لم يعد يحضر، ثم كتب للمستظهر رقعة بينَّ فيها سبب غيابه فقال:- إذا غبت لم أحضر وإن جئت لم أسل ... فسيان مني مشهد ومغيبُ فأصبحت تيمياً وما كنت قبلها ... لتيم ولكن الشبيه نسيبُ2 من هذه الصورة العجيبة ندرك أن الوزراء لم يعد لهم مكانة حتى أنهم هجروا بيتهم، الذي كان مجلساً لأعلام دولة بني أمية، واتخذوا من الديدبان3 مكاناً لهم. وتميزت اجتماعاتهم بأن القرار الذي يتخذونه اليوم ينقضونه غداً4، وأصبح عملهم مقتصراً على التشاور فيمن يولونه الخلافة من بني أمية بعد كل خليفة ينتهي دوره5.   1 البيان المغرب، 3/190. 2 انظر: جذوة المقتبس، ترجمة رقم 380. مطمح الأنفس، ص 211-215. بغية الملتمس، ترجمة رقم 662. 3 الديدبان/ مجلس يشرف على الخندق الذي حفره أهل قرطبة للدفاع عنها ضد البربر والمجلس من إنشاء الفتى واضح الصقلبي. انظر: البيان المغرب، 3/105. 4 البيان المغرب، 3/105. 5 المعجب، ص 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 ولم يظهر للوزراء القدامى وأهل الرأي من اتفاق قوي على أمر إلا عندما اجتمعت كلمتهم على إزالة الخلافة الأموية وإسقاط رسمها وطرد الأمويين من قرطبة واستلام السلطة فيها عوضاً عنهم1.   1 أعمال الأعلام، 2/139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 المجلد الثاني الفصل الرابع: الخطط الحربية المبحث الأول: خطة الجيش ... المبحث الأول: خطة الجيش بعد أن أتم المسلمون فتح الأندلس، عُرف العرب الداخلون مع القائدين موسى بن نصير وطارق بن زياد "بالبلديين"، وأما من وصل فيما بعد مع بلج بن بشر القشيري1 سنة 123هـ (741م) فقد عرفوا "بالشاميين"2، ومن أجل ضمان استقرار البلديين والشاميين بالأندلس، وللحيلولة ماأمكن دون حدوث اصطدام بينهما، قام أبو الخطار الكلبي 125- 127هـ (742-744م) والي الأندلس، بإبعاد الشاميين عن قرطبة التي استقر بها البلديون، ففرق الشاميين على عدة كور3، وقد راعى عند إنزاله لهم بالكور، أن يكون كل جند4 في منطقة شبيهة   1- بلج بن بشر القشيري كان مع عمه كلثوم بن عياض القشيري، وقد قتل الأخير في معركة الأشراف، ونجا بلج بن بشر من المعركة ولجأ إلى سبته، فتحصن بها من البربر، وعندما تمكن من دخول الأندلس، استطاع الإستيلاء على الزعامة فيها، فتولى ولاية الأندلس سنة 124هـ وتمادى في الولاية مدة أحد عشر شهراً أو أقل. انظر: ابن القوطية، ص14-18. البيان المغرب، 2/31. 2- ابن القوطية، ص16، لسان الدين بن الخطيب، اللمحة البدرية في الدولة النصرية، (تصحيح، محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، 1347هـ) ص 16-17. 3- الحلة السيراء، 1/61-62. الإحاطة، 1/103. 4- كلمة جند: تعني جماعة مسلحة، وهذا المصطلح يطلق على الحاميات العسكرية التي استقر فيها المحاربون العرب، الذين بالإمكان تعبئتهم وتحريكهم في العمليات العسكرية. انظر: د. يونس شنوان، جند الشام في الأندلس والتأثيرات الشامية "زمن الأمير عبد الرحمن الداخل". (مجلة المؤرخ العربي، العددان 41، 42، السنة 16، بغداد 1410هـ/1990م) ص169. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 بأراضيه الأولى بالشام، فأنزل جند دمشق في إلبيره، وجند الأردن في ريه، وجند فلسطين في شذونه، وجند حمص في إشبيليه، وجند قنسرين في جيان، وأما جند مصر فأنزل جزء منهم ببجانه وجزء في تدمير "مرسيه1" وبذلك عُرفت هذه الكور باسم "الكور المجنَّدة2". هذه القبائل العربية أنزلها أبو الخطار على "أموال العجم من أرض ونَعمَ3" وجعل لها "ثلث أموال أهل الذمة من العجم طعمة4" وبذلك أصبح العرب هم أسياد المناطق التي نزلوها، وبمقابل عدم تدخل الإدارة المحلية في قرطبة بشئونهم، فإن على زعماء تلك الكور المجندة تقديم ثلثي   1- ابن القوطية، ص20. البيان المغرب، 2/33. تدمير "Tudmir" الاسم القديم لكورة مُرسيه، كانت قاعدتها بلدة أوريولة Orihuela وعندما اختطت مرسيه سنة 216هـ على يد جابر بن مالك بن لبيد عامل تدمير، انتقلت القاعدة إليها وعرفت الكورة باسم كورة مرسية "Murcie" انظر: وصف الأندلس للرازي، ص11. الحلة السيراء، 1/63، حاشية رقم 1. الروض المعطار ص 131-132. 2- الروض المعطار ص 21. 3- البيان المغرب، 2/33. 4- الإحاطة، 1/103. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 خراج كورهم لقرطبة، في حين أن الثلث الباقي لهم حق التصرف فيه نظير ما يؤدونه من خدمة عسكرية لقرطبة1. وقد اعتمد أبو الخطار على العنصر القبلي، عند توزيعه للقبائل، سواء منها العربية أو البربرية، إذ أن جيوش تلك القبائل عندما دخلت الأندلس، كانت عبارة عن مجموعات قبلية تسير تحت ألوية زعمائها وبذلك أصبح لكل قبيلة مكاناً خاصاً يسمى باسمها، مثل جزء البكريين، جزء اللخميين، جزء البربر وغيرها2. عناصر الجيش الأموي بالأندلس: أولاً: العرب كان الجيش الأموي بالأندلس، يتكون من الجندين: الشامي والبلدي3، وكانت الألوية الغازية تعقد منهما، فللشاميين لواءان، أحدهما يغزو والآخر يقيم، ويُستبدلان كل ثلاثة أشهر، ومثلهم البلديون، إلا أن اللواء الغازي منهم يُستبدل كل ستة أشهر، والسبب في هذا التمايز بين الجندين عائد إلى أن الجند الشامي مقدم على الجند البلدي4، إذ أن الديوان والكتبة في الشاميين، كما أنهم أحرار من العشر، لكونهم مُعدَين   1- فجر الأندلس، ص 221. 2- د. عبد الواحد ذنون طه، الفتح الاستقرار، ص 203-210. 3- ذكر ابن الخطيب أن هناك طائفة ثالثة تتكون من الشاميين والبلديين معاً، يسمون النظراء، يشتركون في الغزو كما يغزو أهل البلد من الفريقين. انظر: الإحاطة، 1/105. 4- هذه سياسة الدولة ككل فهي شامية الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 للغزو، فكل الذي يترتب عليهم هو المقاطعة على أموال أهل الذمة التي في أيديهم1. واللواء الغازي من الجند الشامي له الحق في العطاء دون اللواء المقيم، فأصحاب المعاقد يعطى كل واحد منهم مائتي دينار، في حين أن أقاربه الذين يغزون معه مثل إخوته وبنيه أو بني عمه يعطي لكل منهم عشرة دنانير إكراماً له، ومن كان غازياً معه من غير بيوتات العقد يعطى خمسة دنانير، وأما اللواء الغازي من البلديين فيعطى دون اللواء المقيم، ومقدار عطائه مائة دينار، أما غير المعقود لهم فلا يعطون شيئاً، كما أن عليهم أن يؤدوا ضريبة العشر2. ولم تنحصر عملية تفضيل الجند الشامي على البلدي في هذا فقط، بل إن الجند الشامي مقدم على البلدي في الدخول على أمراء وخلفاء بني أمية بقرطبة، فمنذ بداية الدولة الأموية بالأندلس كان جند دمشق أهل كورة إلبيرة مقدمين على من سواهم في الترتيب، ولواؤهم يأتي في أول الألوية بالميمنة3، يليهم جند حمص وهم أهل كورة إشبيلية ولواؤهم في   1- الإحاطة، 1/104. 2- المصدر السابق، والصفحة. 3- لا غرابة عندما يقدم بنو أمية بالأندلس الجند الشامي على من سواه، إذ أنهم أقرب المجموع إليهم، وهم موطن ثقتهم حتى أن الأمير عبد الرحمن الداخل عندما أسس مدينة إلبيرة، أسكنها بالإضافة إلى جند دمشق الكثير من مواليه، كما امتاز جند دمشق بصدق الولاء لبني أمية، إذ بمجرد استلام عبد الرحمن الناصر مقاليد الإمارة بقرطبة بادر أهل جند دمشق للاستجابة لأمره، وتقديم فروض الطاعة له، فتخلوا عن حصونهم، وجاءوا إلى باب قصره براياتهم. انظر: المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 58. الروض المعطار، ص 28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 الميمنة بعد لواء جند دمشق، ثم جند قنسرين وهم أهل كورة جيان، وبعدهم يأتي دور جند فلسطين وهم أهل كورة شذونة ولواؤهم في الميسرة وأخيراً جند مصر في باجه ولواؤهم في الميسرة بعد جند فلسطين وكذلك جند الأردن أهل كورة رية1. ثانياً: المماليك "الصقالبة " منذ الأيام الأولى لقيام الإمارة الأموية بالأندلس، بدأ الأمير عبد الرحمن الداخل يفكر جدياً في إجراء تعديلات على التنظيم العسكري القائم بالأندلس، مدفوعاً إلى ذلك برغبته الشديدة في إحلال نظام الدولة بدلاً من النظام القبلي، بالإضافة إلى استرابته بالعرب من جراء تعرضه لمحاولة الاغتيال التي دبرت ضده في الساعات الأولى بعد انتصاره على يوسف الفهري في معركة المصارة2، وكذلك بسبب كثرة حركات التمرد والعصيان التي هبت في وجهه بعد إعلانه قيام دولته3.   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 57. الروض المعطار، ص 279-280. 2- انظر: أخبار مجموعة، ص91. 3- المصدر السابق، ص 91-108. البيان المغرب، 2/48-55. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 ولذا فبعد أن أسقط لواء جند باجه بسبب تمرد زعيمه العلاء بن مغيث اليحصبي1 قام الأمير عبد الرحمن الداخل بشراء المماليك ليستعين بهم على العرب2. ويبدو أن الأمير هشام بن عبد الرحمن الداخل قد سار على خطى والده في استخدام الحرس الخاص المكونَّ من المماليك العجم وهم الخرس أو الصقالبة، يدل على ذلك ما ذكره ابن حيان من أن الأمير الحكم الربضي كانت لديه "فرقة من الحرس الخاص معظمهم من فيء أربونة ورثهم عن والده هشام3" وبذلك أرسى تقليداً جديداً في الأندلس سار عليه من أتى بعده4. ولم يكتف الأمير الحكم الربضي بما ورثه عن والده من أولئك المماليك، فقد أخذ يستكثر منهم ويعمل جاهداً على ضم أكبر عدد ممكن منهم إليه، حتى بلغ عددهم لديه نحو خمسة آلاف رجل، منهم ثلاثة   1- الروض المعطار، ص 36. العلاء بن مغيث اليحصبي الجذامي، زعيم عربي، ثار باسم الخليفة أبي جعفر المنصور ضد عبد الرحمن الداخل، وتمكن من فرض حصار عسكري على الأمير الأموي في قرمونة، لكن الأمر انتهى بقتل العلاء وتمزيق قواته، انظر: ابن القوطية، ص 32-33. أخبار محموعة، ص 101-103. البيان المغرب، 2/51-52. 2- المغرب في حلى المغرب، 1/60. 3- دولة الإسلام في الأندلس ع1ق1، ص250. 4- L-Provencal: Op. Cit. III. P: 73. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 آلاف فارس وألفا راجل، وكان يطلق على أولئك المماليك لقب "الخرس" لعدم معرفتهم بالعربية1. وكل هذه الجموع الغفيرة من المماليك كانت تحرس قصر الأمير الربضي، وتقف على أهبة الاستعداد للطوارئ، ولذا، فبعد أن فعلوا ما سرهَّ في يوم هيج الربض سنة 202هـ (818م) كافأهم بالعتق وأغدق عليهم صلاته2. وفضلاً عن هذه المجموعة، فقد كان لدى الأمير الحكم الربضي ألفا فرس مرتبطة على شاطئ النهر تجاه القصر "يجمعها داران على كل دار عشرة عرفاء تحت يد كل عريف مائة فرس3" ودائماً تقف هذه القوة على أهبة الاستعداد لإخماد أي حركة تهب بصورة مفاجئة ضد صاحب السلطة السياسية في البلاد4. وقد ذكر ابن حيان أن الأمير عبد الرحمن الأوسط سار على خطى والده في الاحتفاظ بأولئك المماليك الخرس، ولأجل ذلك قام بشراء أنصبة إخوانه منهم، واستخدم تلك القوة في حراسة القصر5.   1- المغرب، 1/39. الكامل، 5/466. 2- دولة الإسلام في الأندلس، ع1ق1 ص250. 3- أخبار مجموعة، ص 129. 4- المصدر السابق، ص 130. 5- انظر: دولة الإسلام في الأندلس، ع1ق1 ص277. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 وهؤلاء المماليك "الخرس" هم الذين يطلق عليه "الصقالبة" القادمون من الأراضي الممتدة من بحر قزوين إلى البحر الأدريائي"1. ثم توسع لفظ الصقالبة فأصبح يطلق على كل رقيق جلب من الممالك النصرانية وعمل في قصر الخلافة2. ولم يقتصر عمل الصقالبة على الحراسة، بل كانت توكل إليهم مهام عديدة مثل إرسالهم للاشتراك مع قوات الحكومة لمواجهة الاضطرابات التي قد تحدث خارج العاصمة3. وعندما تعيِّن حكومة قرطبة أحد الولاة في إحدى الكور، فإنها ترسل معه مجموعة من أولئك الصقالبة لمساعدته في استلام منصبه4، وكان لدى الأمير عبد الله بن محمد مجموعة منهم عرفت باسم "رماة المماليك" مهمتها الذود عن سرادق الأمير عبد الله برشق النبال5، وبمقابل ذلك وجد من الصقالبة من يعمل في الخفاء مع المتمردين ضد حكومة قرطبة6.   1- صورة الأرض، ص106، الصقالبة في إسبانيا، ص8. 2- المرجع السابق ص9. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص6. 4- العذري، نصوص عن الأندلس، ص30. 5- المقتبس، تحقيق: أنطونية، ص 94. 6- نصوص عن الأندلس، 30. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 وقد نظر أمراء وخلفاء بني أمية إلى أولئك الصقالبة نظرة ود وثقة، فكان أكابرهم يعرفون بالخلفاء1 أو الفتيان الأكابر2، كما فتحوا المجال أمامهم للوصول إلى مناصب عسكرية عليا في الدولة، فمثلاً كان أفلح صاحب الخيل3، وتولى دري بن عبد الرحمن منصب صاحب الشرطة4، كما كان نجده بن حسين الحيري يتولى أمر العلافة بالجيش5، ثم أصبح قائداً للجيش6، وعندما توفي الخليفة عبد الرحمن الناصر كان لديه منهم بالزهراء ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسين رجلاً7. وقد سار الخليفة المستنصر على سياسة والده في الاستكثار من الصقالبة وتوليتهم المناصب الرفيعة8، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه طالب الناس بالتغاضي عن التجاوزات التي تحدث من الصقالبة محتجاً بأنهم مؤتمنون على من في القصر، وأنه لأجل ذلك لا يمكن معاتبتهم أو معاقبتهم في كل وقت خشية إثارة ما كمن في نفوسهم9.   1- المقتبس تحقيق: د. محمود مكي، ص 341. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص119. 3- البيان المغرب، 2/191. 4- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 213. 5- المصدر السابق، ص343. 6- نفسه، ص420. 7- أعمال الأعلام، 2/40-41. 8- البيان المغرب، 2/259. 9- المصدر السابق، 2/259. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 وعندما توفي الخليفة الحكم المستنصر كان لصقالبة قصره قوة يحسب حسابها، إذ أن عددهم بلغ أكثر من ألف مجبوب دون من يتبعهم، يتولى رئاستهم فائق صاحب البرد والطراز ويليه في القيادة جؤذر صاحب الصاغة والبيازرة، وقد بلغ من قوة أولئك الصقالبة أنهم كادوا يحولون الخلافة من هشام المؤيد إلى عمه المغيرة بن عبد الرحمن الناصر1. وفي عهد الخليفة هشام المؤيد تمكن الحاجب المنصور بن أبي عامر من السيطرة على صقالبة القصر بطرقه الملتوية،2 وفي الوقت نفسه تمكن من كسب ود كثير منهم فولى بعضهم قيادة الجيوش3 وعلى نهجه سار ابنه عبد الملك المظفر4. ويرى بعض الباحثين أن الأمويين قد اعتمدوا على الصقالبة في الإدارة والجيش من أجل الحد من نفوذ العرب في الحكم بالإضافة إلى إضعاف الجنود العرب والبربر5، ولعل من أنصع الأمثلة على ذلك أن الخليفة عبد الرحمن الناصر جعل مملوكه نجدة بن حسين قائداً عاماً للحملة التي سار بها الخليفة لقتال راميرو الثاني Ramiro ملك ليون Leon فقرر بعض كبار قادة العرب أن يتركوا القائد الصقلبي نجدة ومن معه يواجهون   1- نفسه، 2/259-260. 2- نفسه، 262-263. 3- نفسه، 2/282. 4- نفسه، 3/11. 5- الصقالبة في أسبانيا، ص12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 مصيرهم في تلك المعركة التي عرفت باسم شنت مانكش Simoncas أو الخندق سنة 327هـ (939م) فذهب ضحية ذلك القائد الصقلبي وآلاف المسلمين حتى أن الخليفة عبد الرحمن الناصر لم ينج إلا بأعجوبة حيث لم يعد بعدها إلى الخروج للغزو1. ثالثاً: البربر ضم الجيش الأموي بالأندلس بالإضافة إلى العرب والصقالبة عناصر من البربر، حيث عملوا مرتزقة منذ الفترة الأولى لقيام الدولة الأموية هناك، إذ أن الأمير عبد الرحمن الداخل استقدم الكثير منهم إلى الأندلس بعد أن استراب بالعرب امتثالاً لنصيحة ابن عمه ومستشاره بشر بن عبد الملك بن مروان2، فأحسن معاملتهم3، فتوافدوا عليه، حتى أصبح لديه منهم أعداد كبيرة4، لكن يبدو أن من أتى بعده من الأمراء لم يسلكوا منهجه تجاه البربر، إذ أننا لا نجد ذكراً واضحاً لهم إلا في عهد الأمير عبد الله بن محمد5، فقد كان يبعث برجاله إلى طنجة لإقناع من يمكن إقناعه من البربر للإنخراط في جيش الإمارة لديه مقابل أجر   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص432-447. أعمال الأعلام، 2/36-37. د. رجب محمد عبد الحليم، العلاقات بين الأندلس الإسلامية وأسبانيا النصرانية، ص221-225. 2- المغرب في حلى المغرب، 10/60 3- أخبار مجموعة، ص 108. 4- نفح الطيب 3/37. 5- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص24، 31-32. نصوص عن الأندلس، ص 113. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 مادي1، ورغم ذلك فإن الإمارة الأموية جوبهت بثورات متعددة قام بها البربر2، مما جعلها تحد من عملية نزوح البربر من العدوة إلى الأندلس، واستمر الخليفة عبد الرحمن الناصر في نهج الموقف الحذر تجاه البربر، فكان لا يستنجد بهم ولايستخدم إلا أراذلهم، مطلقاً عليهم اسم الطنجيين، ويكلفهم بأدنى أنواع الخدمة وأشقها مقابل أجور زهيدة3. وأما الخليفة الحكم المستنصر فقد اتخذ موقفاً متناقضاً تجاه البربر، ففي بداية حكمه كان متشدداً تجاههم، بل إن الأمر بلغ به إصدار أمر بمعاقبة أحد العبيد لأنه كان راكباً على فرس بسرج عدوي الصنعة وتم إحراق السرج بدار الجند أمام الحضور4. ومواقف الخليفة الحكم المستنصر انتقلت بطبيعة الحال إلى أهل قرطبة إذ ما إن حصل نزاع بين بعض طوائف الجند وبين الطنجيين عند اجتماعهم بباب السدة من قصر قرطبة حتى هب سواد أهل قرطبة ووقفوا مع الجند ضد الطنجيين5.   1- L-Provenca: OP. Cit.lll, p: 76-77. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 330،342. المقتبس تحقيق: أنطونيه 18، 25، 31-32، 69، 117، 127، 129. المقتبس، تحقيق: شالميتا 239. البيان المغرب 2/116، 138، 237. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 190. 4- المصدر السابق،، ص 190-191. 5- نفسه، ص 87. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 وبعد أن عانى الخليفة الحكم المستنصر وقواته كثيراً بسبب شدة صمود البربر ضد جيوشه في العدوة، بدأت نظرته لهم تتغير، فأخذ يرسل الأموال لاستمالتهم فنجح في ذلك1، واستخدم كثيراً من الوافدين إليه في جيشه2. ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل إن كراهيته السابقة لهم تحولت إلى إعجاب فقد صار يستمتع بالنظر إلى فرسانهم وهم يستعرضون مهاراتهم في ركوب الخيل، ويكيل المديح لهم أمام سامعيه3. هذه الحالة استغلها المنصور بن أبي عامر، حيث أدرك أنه بهم سيحقق أهدافه الخاصة، إذ أنه متى ما فرضهم على بقية الطوائف في الجيش الأموي بالأندلس فإن ذلك سيحدث شحناء بين تلك الطوائف وبين البربر، والبربر بدورهم يرون في المنصور الملاذ الذي يحميهم من سطوة الآخرين، وبذلك ضمن المنصور الولاء الدائم من البربر، من أجل ذلك عمد إلى زيادة أعدادهم في جيشه من خلال استدعائهم من العدوة، فأرسل إلى رؤسائهم وشجعان فرسانهم، فأقبلت عليه قبائل زناتة ومغراوة وإزداجة وصنهاجة، وبنوبرزال وبنو يفرن وغيرهم، فكان ينتقي من تلك الجموع الهائلة من تثبت كفاءته لديه ويلحقه بديوان الجند عنده4.   1- نفسه، ص 191-192. 2- نفسه، 96، 115، 123-124، 171-173، مفاخر البربر، ص44. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 193. 4- أعمال الأعلام، 2/66. مفاخر البربر، ص 44-45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 وقد استخدم المنصور مع هؤلاء سياسة حكيمة تعزز وتقوي محبته عندهم، فقد كان الرجل منهم يأتيه على فرس أعجف بلباس خلق، فيبدل الأعجف بالجواد العتيق، والخز الطرازي عوضاً عن اللباس الخلق، ويسكنه في قصر لا يدور في خياله أن يدخل مثله لا أن يسكنه، ورفعهم على من سواهم من طوائف الجند1، و"اختصهم باستصناعه واسترقهم بإحسانه"2. وبسبب إكرام المنصور للبربر أخذت أعداد هائلة تنزح من العدوة إلى الأندلس، فغدت أعدادهم كبيرة في الجيش الأندلسي ولايمكن تقدير عددهم الكلي خاصة إذا أخذنا بالاعتبار أن قبائل عديدة بأكملها نزحت إلى الأندلس وانخرط الكثير من أبنائها في الجيش تحت قيادة المنصور بن أبي عامر3. رابعاً: الحشم كان للحشم مسئول يتولى الإشراف عليهم يعرف باسم "الناظر في الحشم4" أو "صاحب الحشم5" ويكون برتبة وزير6، ومن بين الذين   1- البيان المغرب، 2/279. 2- المصدر السابق، ص 293. 3- البيان المغرب، 2/294. 4- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 47. 5- المصدر السابق، ص 22. 6- نفسه، ص 30. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 تولوا هذا المنصب محمد بن قاسم بن طملس1 وتولى من بعده ولده قاسم هذا المنصب مضافاً إليه الشرطة العليا2 ثم تولاها زياد بن أفلح بالإضافة إلى خطة الخيل3. ويبدو أن هؤلاء الحشم لا يقتصر تواجدهم على قرطبة فحسب، إذ تذكر المصادر تواجد الكثير منهم في العديد من المدن الأندلسية4، ومهام الحشم بصفة عامة تختلف عن المهام المنوطة بالخرس، ففي الوقت الذي كانت فيه مهمة الخرس هي حراسة أمراء وخلفاء بني أمية وقصورهم، كان الحشم بالمقابل يتولون مهام عديدة في الجيش، فمثلاً في المعارك كان قسم منهم مسئولاً عن تعبئة العساكر5، بينما في أوقات السلم كانوا يقومون بالإشراف على ترتيب الجند، وتحديد مراتبهم وذلك عند الاستعراضات العسكرية عندما يكون هناك وفد رسمي زائر6، وبالإضافة إلى مشاركتهم الفعالة في المعارك7 فإن لهم مهمة خاصة أهلتهم لها   1- نفسه، ص 30. 2- نفسه، ص 119. 3- نفسه، ص 196. 4- المقتبس، تحقيق: أنطونيه ص53-54. المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص5/91. البيان المغرب، 2/142. 5- المقتبس، تحقيق: أنطونيه ص 165. 6- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص195-196. 7- انظر: المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص81، 322، 468، 486. البيان المغرب،2/205، 210، 232. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 الكفاءة العسكرية التي كانوا يتمتعون بها، إذ كانوا دائماً يشكلون طلائع رئيسة للجيش تعمل على تمهيد السبيل أمامه وتقوم بضبط الحصون بعد افتتاحها1. وفي بعض الأحيان تسند للحشم مهمة تقصي الحقائق في مسألة معينة ومن ثم رفع الخبر على وجه الصحة للأمير في قرطبة2، كما أن صاحب الحشم يقوم أحياناً بمهمة إجراء المفاوضات3. ومن خلال المعلومات التي وردت في بعض المصادر ندرك أن أعداد الحشم لم تكن قليلة، يدل على ذلك ما ذكره ابن حيان من أن الأمير محمد بن عبد الرحمن أرسل أخاه الحكم بن عبد الرحمن على رأس صائفة، فوصل إلى قلعة رباح فأعاد إعمارها وأتقنها واسترجع أهلها إليها، وجعل عندهم جيشاً كثيفاً من الحشم4، كما أن الخليفة عبد الرحمن الناصر شحن مدن الأندلس وحصونها وقصابها وفروج ثغورها بالحشم5، وهناك نص لابن حيان أكد فيه كثرة أعداد أولئك الحشم، فقد ذكر أن صاحب الشرطة محمد بن قاسم بن طملس خرج من قرطبة قائداً ومدداً للوزير القائد   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص71، 72، 86، 155، 232، 247. 2- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص111. 3- البيان المغرب، 2/130. 4- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 294. 5- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص455-456. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 غالب بن عبد الرحمن "فكان خروجه فخماً ظاهراً في عسكر لجب من طبقات الحشم الذين استجاز حملاتهم"1. وإلى جانب هذه العناصر التي ذكرناها والتي تشكل في مجملها القوات النظامية في الجيش الأموي بالأندلس، وجد المتطوعه الذين يخرجون للجهاد في سبيل الله تعالى بأموالهم وأنفسهم طلباً لما عند الله تعالى وإعلاءً لكلمته، فقد كان هؤلاء المتطوعة بمجرد أن يسمعوا نداء الأمير أو الخليفة للجهاد يسارعون بتلبية النداء بلاد تردد، وكانت العدوة المغربية مصدراً من مصادر المتطوعة الذين يرون في الأندلس "دار جهاد وموطن رباط2". وقد كان المتطوعة موضع ثناء أمراء وخلفاء بني أمية لسرعة استجابتهم وصالح بلائهم3 ورغم أنه كان يسمح لهم بالعودة إلى ديارهم ومنازلهم بعد الغزو، إلا أن بعضهم يرفض العودة إلى أهله، مفضلاً المرابطة في سبيل الله تعالى وحراسة الثغور على كل شيء، فأقاموا الربط4 التي   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 228. 2- جغرافية الأندلس وأوربا، ص130. وانظر ابن الزبير، صلة الصلة، (تحقيق: ليفي بروفنسال، المطبعة الاقتصادية، الرباط 1937م) . ترجمة رقم 332. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص226. 4- عن الربط انظر: المالكي، رياض النفوس، (تحقيق: د. حسين مؤنس، مكتبة النهضة المصرية ط الأولى 1951م) ج1 ص25-27 من مقدمة المحقق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 كان لها بالليل دوي كدوي النحل من تلاوة القرآن وترديد ذكر الله تعالى، وفي النهار كان المرابطون فرساناً أشاوس يرهب جانبهم1. ورغم أننا لا نجد بياناً خاصاً برواتب الجند النظاميين، فإننا لا نشك بأنه كانت هناك مرتبات شهرية تدفع لهم، فقد كان الأمويون لا "يزيدون فارساً على خمسة دنانير للشهر شيئاً، مع نفقته وعلف فرسه2". وهذا المرتب كان يتأثر بالحالة السياسية للدولة، فإنه نظراً للإضطراب السياسي الذي كانت تعاني منه الدولة الأموية إبان إمارة الأمير عبد الله بن محمد بسبب كثرة الفتن، نجد أنه ضيَّق على جنوده وقلل أعطياتهم3. وكما أن المرتبات تتأثر بالوضع السياسي للدولة، فكذلك يتأثر عطاء كل جندي وفق بسالته وشجاعته، "فمن ظهرت نجدته وإعانته وشجاعته أكرموه بولاية موضع ينتفع بفوائده4"، والأمير عبد الرحمن الداخل عندما كان في إحدى معاركه في الثغر الأعلى نظر إلى أحد فرسانه وقد أظهر كفاءة وشجاعة نادرتين، فأمر أحد فتيانه أن يسأل عن الرجل، فإن كان من أشراف الناس أعطاه ألف دينار، وإن كان من أفناء   1- دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، ص296-300. 2- الحلل الموشية، ص82. 3- أخبار مجموعة، ص 150-151. 4- الحلل الموشية، ص 82. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 الناس فيعطيه نصفها1، وأما من استشهد من جند الجيش الأموي فإن عطاؤه وأرزاقه تنتقل إلى ذريته2. وأما المتطوعة الذين لا ذكر لهم في الديوان، فهم بالإضافة إلى ما يغنمونه من المعارك فإن لهم صلات من الأمراء والخلفاء3. بقي أن نقول إن المنصور بن أبي عامر كان يدرك تماماً أن الكثير من أبناء الشعب الأندلسي غير راضٍ عن السياسة القهرية التي ينهجها، ولذا فقد كان يخشى من حركة تهب في وجهه أو عصيان يدبر ضده فيطيح به، وهو مدرك في الوقت نفسه أن الجيش له الكلمة الفاصلة في هذا الموضوع، لأجل ذلك عمل على إجراء تغييرات جذرية في تركيبة الجيش، فنسخ تنظيمه الداخلي الذي كان سائدا طيلة عهد أمراء وخلفاء بني أمية إلى عصر الخليفة هشام المؤيد4،وذلك عندما جعل كل تشكيل من   1- أخبار مجموعة ص119، والمكافأة على الشجاعة والاستبسال أول من أقرها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد كتب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه بأن يفرض لخارجة بن حذافة رضي الله عنه في شرف العطاء لشجاعته. انظر: البلاذري، فتوح البلدان، (بعناية: رضوان محمد رضوان، المكتبة التجارية الكبرى القاهرة، ط الأولى 1350هـ) ، ص442. 2- أخبار مجموعة، ص120. وهو في هذا متبع لفعل الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، انظر: فتوح البلدان، ص 447. 3- البيان المغرب 3/4. 4- كان الجيش الأموي قبل عهد المنصور يعتمد في أساسه على تجميع الفئات والقبائل من مختلف الرتب، كل صنف على حدة مع إيجاد عملية التآلف بين الجميع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 تشكيلات الجيش يشتمل على كافة العناصر والفئات، فقد وزع الجند في مجموعات ضمن سرايا دون النظر إلى العصبية القبلية التي ينتمي إليها كل جندي، وكل مجموعة أو سرية لها قائد يرعى شؤونها، كما قرر أرزاقاً شهرية تصرف لكل جندي، وبذلك ضمن المنصور سهولة تجميع القوات في أي وقت، بالإضافة إلى الانضباط الذي أصبح سمة الجيش آنذاك1 وكما ضمن عدم حدوث عملية التفاف ضده. تعداد الجيش: إن من العسير إعطاء رقم صحيح لعدد أفراد الجيش الأموي بالأندلس بكافة فئاته وطوائفه، إذ أن المصادر تعنى بالتشكيلات العسكرية المختلفة للجيش المتجه للغزو. وتجدر الإشارة إلى أن هناك جيش خاص بالثغور وآخر خاص بالعاصمة، وقد عرف الأخير باسم "جيش الحضرة" الذي أمدنا ابن حيان ببيان تفصيلي عن تقسماته في عهد الخليفة الحكم المستنصر، فذكر منها2 "طبقات الجند من القرطبيين والزهراويين" "وبياض الجند الأندلسيون والطنجيون" و "طبقات العبيد الخمسيون" و "الصيديون" و "أكابر الخمس" و "فرسان الرياضة" و "رجالة الأرباض" و "العبيد الجعفريين".   1- سراج الملوك، ص 229، أعمال الأعلام، 2/101. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص30، 40، 48، 50، 51، 78، 91، 120، 136، 137، 156، 174، 190، 195، 196، 197، 199، 223. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 وقد كانت الكور المجندة تشكل ركيزة أساسية من ركائز القوة العسكرية بالأندلس، ولدينا بيان أورده ابن حيان1 وضح فيه العدد الذي تؤمنه كور الموسطة للصائفة المتجهة إلى الشمال النصراني، فذكر أن:- كورة إلبيرة قدمت 2900 فارس، جيان 2200 فارس، قبرة 1800 فارس، باغة900 فارس، تاكرنا 269 فارس، الجزيرة 290 فارس، إستجه 1200 فارس، قرمونة 185 فارس، شذونه 6790 فارس، رية 2607 فارس، فريش 342 فارس، فحص البلوط 400 فارس، مورور 1403 فارس، تدمير 256 فارس، ربينة 106 فارس، قلعة رباح وأوريط 387 فارس، حصن شندلة 113 فارس، وأما قرطبة التي تركت لهمة أهلها فقد كانت تنفر منها أعداد هائلة2. ورغم حرص حكومة قرطبة على أن تلتزم كل كورة بما تقدمه من فرسان، إلا أن الوضع السياسي العام للدولة له أكبر الأثر في أعداد أولئك الفرسان، ففي عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن كان عدد الجيش مائة ألف فارس منهم عشرون ألفاً بدروع الفضة3، وأما في عهد الأمير عبد الله بن محمد فقد كانت الدولة تعيش فترة مضطربة، بسبب كثرة حركات التمرد والعصيان التي اندلعت في أرجاء الأندلس، مما قلص نفوذ الإمارة كثيراً بحيث لم يعد يتجاوز قرطبة وما جاورها، حتى أن الأمير عبد الله عندما   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 271-272. 2- المصدر السابق، ص 273. 3- ابن الكردبوس، ص 57. ابن أبي دينار، ص99. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 خرج سنة 278هـ (891م) لمواجهة ابن حفصون كان تعداد القوة التي رافقته أربعة عشر ألف رجل بمن فيهم جنده والحشم والموالي والمطوعة والمرتزقة1. بل إن قائده الشهير أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي عبد هـ كان يخوض معاركة بثلاثمائة فارس انتخبهم من خيرة المدونة2. وعلى العكس من عصر الأمير عبد الله نجد أن الجيش أصبح تعداده هائلاً في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، إذ أدرك منذ وصوله للحكم معنى توفر قوة عسكرية ضاربة لدى حكومته، فعمل على إصلاح الجيش وحشد الجند، حتى أنه كان ينفق ثلث خزينة الدولة على جيشه3، حتى أصبح لديه أفضل جيش في العالم4 ولنا أن نتصور ضخامة الجيش الذي خاض معركة "الخندق" بعد أن حُشر له الناس حشرا5، وإذا كان عدد قتلى المسلمين في المعركة بلغ أربعين أو خمسين ألف 6، فكم سيكون العدد الكلي للجيش إذن؟   1- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص104. العرب في إسبانيا، ص89. 2- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 129. 3- البيان المغرب، 2/231. 4- مختصر تاريخ العرب، ص 420. 5- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 433. 6- العرب في إسبانيا، ص108. دولة الإسلام في الأندلس، ع1ق2 ص 414. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 ونظراً لاهتمام المنصور بن أبي عامر بجلب المرتزقة من كافة الطوائف، فقد ازداد عدد الجيش في عهده، حتى أن عدد الفرسان في بعض صوائفه بلغ ستة وأربعين ألف فارس1. وقد كان على أهل قرطبة وأقاليمها ضريبة تعرف بـ"ضريبة الحشود والبعوث" عليهم إخراجها كل سنة للصوائف الغازية للمالك النصرانية في الشمال، ويتولى الوزير صاحب المدينة مسئولية إخراج الناس لتلك البعوث، ولا يمكن أن يتخلف أحد قادر على حمل السلاح إلا إذا كان لديه عذر شرعي أو أغلق عليه داره، بعلم الوزير صاحب المدينة، شريطة ألا يغادر منزله إلا بعد عودة الجيش من الغزو2، كما يتولى صاحب المدينة مسئولية حشد فتيان قرطبة القادرين على حمل السلاح، وذلك في المناسبات التي تقام فيها استعراضات عسكرية3. ولم تلغ ضريبة الحشود والبعوث عن أهل قرطبة إلا في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن الذي ترك الأمر عائداً لهمة أهلها، إلا في حالة تعرض البلاد لهجوم مفاجئ من أي جهة كانت، ثم أعيدت هذه الضريبة في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر4، وأصبح المتطوعة يشكلون قوة رئيسة في الجيش لديه، وقد كثرت أعدادهم في جيشه، حتى أن "جموعهم إذا   1- أعمال الأعلام، 2/99. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 44-45. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص47-48. 4- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 271. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 توافت، وأعدادهم إذا تكاملت تضيق عنهم بلاد العدو ولا تسعهم غلاتها، ولا ترويهم مياهها1"، وقد توقف العمل بتلك الضريبة بعد معركة الخندق2، ففي سنة 328هـ (939م) اقتصر الخليفة عبد الرحمن الناصر   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص449. 2- وذلك لأن القتلى والأسرى في تلك المعركة كان جلهم من المتطوعة انظر: المقتبس، تحيقيق: شالميتا ص 436. اهتم الأندلسيون بأمر التطوع، ووصل الأمر ببعضهم أن وضع أقوالاً نسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلها تحض على الجهاد في الأندلس، كما أن المرابطة في الثغر إلى نيل الشهادة كانت اولى الحلول لدى الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى بوصفها كفارة للقاتل إذا أبى أهل القتيل القصاص أو الدية. انظر: بغية الملتمس، ص 14. النباهي، تاريخ قضاة الندلس، ص 62. ومن هنا لا نستغرب كثرة المتطوعة الذين يخرجون للجهاد في سبيل الله تعالى. وقد ذكر ليفي بروفنسال L.Provencal: Op. Cit. 3, P: 68 وتابعه هشام أبو رميلة في رسالته عن "نظم الحكم في الأندلس، ص307" أن الحشاد الذين يتم تكليفهم من قبل حكومة قرطبة، لأجل حشد المتطوعة واستنفارهم، كانوا يلجأون إلى طرق ملتوية في الحشد، ولم يفسر بروفنسال ولا من تابعه تلك الطرق الملتوية. وأود أن أذكر هنا أنه إذا كانت كلمات الحشاد التي تعتمد على إثارة الناس من خلال تذكيرهم بعظيم الأجر والمثوبة لمن جاهد حتى تكون كلمة الله هي العليا وما ادخر للشهيد من ثواب، وكذلك إلهاب حماس المخاطبين بالأشعار والأقوال المؤثرة، إذا كان هذا هو التحايل فقول بروفنسال مردود عليه. وبمقابل جهود الحشاد في استنفار الناس للجهاد، نجد أن الرهبان مع ألفونس الثاني "227هـ /842م" ملك جليقية "وليون" قد اخترعوا "سنة 197هـ/813م" قصة القديس يعقوب وذلك لإثارة النصارى ودفعهم للاستماتة في القتال ضد المسلمين. انظر العلاقات بين الأندلس الإسلامية وأسبانيا النصرانية، ص 119. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 على غلمانه وحشمه وجنده المدونين المدربين عند تجهيز الجيش لغزو جليقية1. وفي سنة "388هـ (998م) أصدر المنصور بن أبي عامر قراراً عاماً بإعفاء أهل قرطبة وغيرهم من الإشتراك الإلزامي في الصوائف، بعد أن أصبح ديوان الجند لديه غاصاً بالأعداد الغفيرة منهم، فجعل "من تطوع خيراً فهو خير، ومن خف إليه، فمبرور ومأجور، ومن تثاقل فمعذور2". التنظيمات والمناصب العسكرية: أ- القيادة: منذ قيام دولة الأمويين في الأندلس وقيادة الجيوش موضع اهتمامهم، فهي أهم المناصب العسكرية على الإطلاق، ولذا فقد كان أمراء بني أمية يقودون الجيوش بأنفسهم3، وفي حالة تعذر خروجهم كانوا يكلفون أحد اولادهم بالخروج بالجيش شريطة أن يكون معه أحد القادة العسكريين من ذوي الخبرة والمهارة ليتولى إدارة المعركة4.   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 449. 2- أعمال الأعلام، 2/68. 3- انظر: البيان المغرب، 2/48، 50، 51، 53، 54، 55، 56، 57، 70، 72، 73، 84، 86، 94، 100، 116، 122، 123. 4- انظر: المصدر السابق، 2/63، 86، 98، 102، 105، 106، 124، 138، 140، 142، 143، 144، 145، 147، 149. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 وفي عصر الخلافة كان الخليفة عبد الرحمن الناصر يقود الجيوش بنفسه، ولا نجد ذكراً لأولاده، ولم يترك القيادة إلا بعد هزيمته في معركة الخندق، وعندما تولى الخلافة الحكم المستنصر خرج على رأس جيش إلى الشمال النصراني سنة 351هـ (962م) ففتح عدة حصون وغنم وعاد سالماً1. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الخليفة المستنصر لم يكرر الخروج للغزو مرة أخرى، ويبدو أن خروجه على رأس الجيش عندما تولى الخلافة كان رسماً جرى عليه أمراء وخلفاء بني أمية بالأندلس، إذ يكون الغزو في سبيل الله تعالى أول أعمال من يستلم الحكم منهم. ونظراً لأهمية منصب قيادة الجيش، ولسعي المنصور بن أبي عامر للسيطرة على الجيش، -بعد وفاة الخليفة الحكم المستنصر بالله-، نجد أن ابن أبي عامر يتحين الفرص لتحقيق مراده، وجاءته الفرصة عندما وصلت الأخبار بأن الملك ردمير الثالث راميرو (966-985م) 2 355-375هـ ملك ليون، قد أغار على الثغر الأوسط3، ولما لم يبد أحد من الوزراء استعداده لرد المعتدين، سارع ابن أبي عامر إلى الخروج على رأس الجيش، وذلك لثلاث خلون من شهر رجب سنة 366هـ (26 فبراير   1- نفسه، 2/234. 2- أندلسيات، 2/51. 3- تطلق بعض المصادر مسمى الثغر الأدنى على منطقة الثغر الأوسط، وهذا الثغر مواجه لمملكة ليون، وكانت مدينة سالم قاعدة الثغر الأوسط، ثم استبدلت بمدينة طليطلة الواقعة على نهر التاجه. انظر: خليل إبراهيم السامرائي، الثغر الأعلى الأندلسي، ص40. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 977م) وعاد إلى قرطبة بعد ثلاثة وخمسين يوماً من خروجه وهو محمل بالسبي والغنائم1. والشيء المهم في هذه الغزوة، أن ابن أبي عامر تمكن من كسب محبة الجند وتفانيهم في خدمته، وذلك لما رأوه من كرمه وجوده وحسن عشرته وسعة مائدته2، وهذا هو الذي كان يهم ابن أبي عامر فقد أدى ذلك إلى أن أصدر الخليفة المؤيد أمره بتولية ابن أبي عامر قيادة جيش الحضرة3. ولدينا أسماء عديدة لقادة عسكريين أداروا المعارك العسكرية بكل كفاءة واقتدار، منهم: بدر مولى الأمير عبد الرحمن الداخل وتمام بن علقمة الثقفي وعبيد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن الداخل الشهير بصاحب الصوائف4 وعبد الواحد بن يزيد الأسكندراني5، وهاشم بن عبد العزيز6   1- نصوص عن الأندلس، ص 74. البيان المغرب، 2/64. 2- أعمال الأعلام 2/60، وقد ذكر ابن عذاري أن ابن أبي عامر عندما رأى إحجام الوزراء عن الخروج بالجيش لصد النصارى، بادر إلى القيام بهذه المهمة، لكنه اشترط أن يختار الرجال الذين سيخرجون معه، وأن يأخذ من بيت المال مبلغ مائة ألف دينار، وعندما استكثر بعض الوزراء المبلغ، قال له ابن أبي عامر "خذ ضعفها وامضي وليحسن غناؤك". انظر: البيان المغرب، 2/264. وبواسطة هذا المبلغ، ملك ابن أبي عامر قلوب الجند، إذ بذل لهم منه ما جعلهم يفتدونه بأرواحهم، الأمر الذي سهل له السبيل أمام تحقيق هدفه. 3- البيان المغرب، 2/265. 4- المصدر السابق، 2/53. 5- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 2. 6- المصدر السابق، ص 395. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 وغالب بن عبد الرحمن الناصري الذي برز ذكره لأول مرة سنة 335هـ (946م) عندما كلفه الخليفة عبد الرحمن الناصر بالخروج على رأس جيش كبير لإعادة بناء مدينة سالم1 كما قاد العديد من الحملات العسكرية الناجحة2، وعندما هاجم النورمانديون السواحل الغربية للأندلس في أوائل رمضان سنة 360هـ (يونيو 971م) عهد الخليفة المستنصر إلى قائده غالب الناصري بالإشراف العام على القوات البرية والبحرية" لضلاعته وغنائه وعلمه بثقوب نظره ومحمود اكتفائه3". ويلاحظ أن القيادة العسكرية للجيش الأموي في الأندلس كانت تسند إلى أبناء أسر معينة سطروا صفحات ناصعة البياض ليس في المجال العسكري فحسب، بل في كافة المجالات الإدارية في الدولة، من أشهر تلك الأسر، أسرة آل أبي عبد هـ الذين برز دورهم القوي في عهد الأمير عبد الله بن محمد وذلك في قمع الفتن الداخلية التي اندلعت في كافة أنحاء الأندلس، وقد لمعت أسماء عدة وزراء من هذه الأسرة كلهم تولى القيادة العسكرية واجتمع منهم أربعة في وقت واحد عند الأمير عبد الله   1- البيان المغرب، 2/213-214. 2- المصدر السابق، ص 219، 220، 221، 240. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، 23-24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 ابن محمد1. كذلك اشتهرت أسرة مغيث الرومي، فقد برز اسم عبد الواحد بن مغيث بالإضافة إلى ولديه عبد الكريم وعبد الملك، وعبد الوهاب بن أحمد بن عبد الواحد بن مغيث2.   1- الوزراء الأربعة الذين كانوا من بين وزراء الأمير عبد الله بن محمد هم: أبو عثمان عبيد الله بن محمد وسلمة بن أبي عبده وعبد الرحمن بن حمدون بن أبي عبده والوزير القائد الشهير أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي عبده، عن هؤلاء وأدوارهم البطولية، انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص319-320. المقتبس، تحقيق: أنطونيه، 3/25-29، 53،94-97، 99-105، 117-118، 128-131، 139-143، 145-147. المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 53، 82،92،107،127، 135-136، 199. البيان المغرب، 2/129، 132-133، 138-139، 142، 148-149، 152، 165، 167، 169-171. 2- عن جهودهم العسكرية، انظر: المقتبس: تحقيق: د. محمود مكي ص 25. وماورد في التعليقات أرقام 27، 28، 30، 31، 38، 77، 325، 326 وما ورد في التعليق رقم 82. نصوص عن الأندلس، ص31-32، 61-62. الحلة السيراء 1/135. البيان المغرب 2/48،61،65،75،82،100،101. المغرب في حلى المغرب 1/44. وأسرة بني مغيث تنتمي لمغيث بن الحويرث بن جبلة بن الأيهم الغساني، مولى الوليد بن عبد الملك، عربي أزدي، شارك مغيث في فتح الأندلس مع طارق بن زياد، وتولى فتح قرطبة، وإليه ينسب "بلاط مغيث" وبعد حياة حافلة بالأحداث قتل مغيث في معركة بقدوره بالمغرب، ويعتبر مغيث باني بيت آل مغيث بالأندلس، فقد ترك أولاداً أشهرهم عبد الواحد الذي تولى الحجابة للأميرين الداخل والرضا وتوفي في عهد الأمير الربضي سنة 198هـ وخلفه أولاده الثلاث عبد الكريم وعبد الملك وعبد الحميد الذين كانوا من كبار رجال الدولة الأموية سياسة وقيادة وكياسة وعلماً، واستمرت هذه الأسرة عالية المقام مهيبة الجانب إلى أن تم إسقاطها نهائياً في القرن الرابع الهجري تقريباً (العاشر الميلادي) والسبب في ذلك هو إقدام أحمد بن مغيث على التغزل بإحدى بنات الأسرة الأموية، فقد صدر الأمر باستئصال آل مغيث والتسجيل عليهم ألا يستخدم أي منهم أبداً، حتى كان سبباً في هلاكهم وانقراض بيتهم، فلم يبق منهم في أوائل القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) إلا الشريد الضال. انظر: جمهرة أنساب العرب، ص 372.طوق الحمامة، ص38. أخبار مجموعة، ص10، 11، 12، 19، البيان المغرب 2/9-10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 ولهؤلاء القادة الوزراء مكانة سامية لدى أمراء وخلفاء بني أمية، ففي الاحتفالات الرسمية التي تقام سواء في الأعياد أو عند استقبال السفراء والوفود الرسمية الزائرة تكون مجالس أولئك القادة الوزراء بالقرب من الأمير أو الخليفة ففي الاحتفال الذي أقامه الخليفة الحكم المستنصر بالله في الزهراء يوم السبت لأربع خلون من شهر رمضان سنة 360هـ (1 يوليو 971م) عند استقباله للسفير "بون فليو Enneco Bonfill" المبعوث من قبل حاكم برشلونة بريل بن شنير Borrell Sunier، جلس الخليفة في محراب المجلس الشرقي، وأحاط به رجال دولته كل وفق مرتبته، فقد جلس الوزير القائد غالب بن عبد الرحمن عن يمين الخليفة وتحته الوزير صاحب الحشم قاسم بن محمد بن طلمس، وعن يسار الخليفة جلس الوزير صاحب المدينة بقرطبة جعفر بن عثمان وتحته صاحب المدينة بالزهراء محمد ابن أفلح1.   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 20-21 والحاشية رقم 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 ولم يقتصر إكرام الدولة لأولئك القادة على تشريفهم في الاحتفالات، بل إنها كانت تضع الثقة الكاملة بهم، فعند تعرض البلاد لأي خطر عسكري فإن أمراء وخلفاء بني أمية يضعون موارد الدولة وإمكاناتها تحت تصرف أولئك القادة1، كما يتم إرسال المنح السنية والمكافآت المالية إليهم وهم في مواقعهم العسكرية من أجل شد عزائهم، وبث الحماسة في جنودهم، وبالذات عندما تصل من القائد أخبار تسر الأمير أو الخليفة2. وعند عودة القائد مع قواته منتصراً، كانت الاحتفالات تقام بقرطبة ابتهاجاً بهذه المناسبة، وتكريماً له ولمن معه، فالوزير القائد غالب بن عبد الرحمن عندما عاد من أرض العدوة المغربية محققاً انتصاراً قوياً على مناوئي الدولة، أمر الخليفة الحكم المستنصر بإقامة احتفال كبير بهذه المناسبة واستُقبل القائد استقبالاً رسمياً كان الخليفة في مقدمة الحضور وذلك في شهر المحرم سنة 364هـ (سبتمبر 974م) 3. ونظراً إلى انقسام الجيش إلى فرسان "خيالة" ورجالة "مشاة" فإن لكل قسم منهما قائد خاص4، وعندما تريد حكومة قرطبة تكريم أحد القادة العسكريين يتم منحه مظلاً يستظل به عن الشمس، ويقف تحته عند   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 191. 2- المصدر السابق، ص135. البيان المغرب، 2/247. 3- انظر: المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 194-202. 4- أخبار مجموعة، ص 87. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 إدارته للمعركة1، وقبل أن يغادر القائد العاصمة بقواته، تصدر إليه الأوامر من قبل الأمير أو الخليفة، بتحديد المنطقة التي عليه مهاجمتها2 وإن قصر في عمله كتب إليه الأمير رسالة يعنفه فيها على تقصيره. فعندما ثار هاشم الضراب بطليطلة في عهد الأمير عبد الرحمن بن الحكم سنة 214هـ (829م) تم تكليف القائد محمد بن رستم عامل الثغر بالقضاء على ثورة الضراب، ويبدو أن القائد ابن رستم لم يحسم المسألة بسرعة، فأرسل إليه الأمير مدداً عسكرياً وكتب إليه كتاباً يعنفه فيه على تقصيره وذلك سنة 216هـ3 (831م) . وكما أن القائد إذا قصر في عمله يتعرض للمساءلة الرسمية، فكذلك نجد أن هناك مواقف على المستوى الشعبي العام – ربما كانت أشد إيلاماً من المواقف الرسمية، هذه المواقف الشعبية يتعرض لها القائد العسكري إذا حدث أن فر من أرض المعركة، إذ يقابل القائد بالسخرية ويشنع عليه فراره حتى من أقرب الناس إليه، وهذا ما حدث في شوال سنة 239هـ (مارس854م) عندما أخرج الأمير محمد ابن عبد الرحمن قائديه قاسم بن العباس وتمام بن أبي العطاف على رأس قوة عسكرية من الحشم، لتأديب أهل طليطلة، وعندما التحم جيش الإمارة بأهل طليطلة، تمكن الطليطليون من تحقيق نصر قوي فر على إثره القائدان ابن العباس وابن أبي العطاف،   1- المصدر السابق، ص112. المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 115. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص318. المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص281. 3- البيان المغرب 2/83. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 تاركين ما في المعسكر لأهالي طليطلة فانهالت قصائد الشماتة على ذينك القائدين1. والعامة دوماً لا تنظر إلا إلى مصالحها الآنية، ولا تلتمس عذراً لمن يمنع عنها تلك المصالح، فقد اعتاد العامة في قرطبة على كثرة السبي الذي كان يحضره المنصور بن أبي عامر من الإمارات والممالك النصرانية الشمالية، وبعد وفاته تولى قيادة العمليات الحربية من بعده ابنه عبد الملك المظفر، وفي غزوته الرابعة التي خرج بها إلى بنبلونة سنة 396هـ (1006م) لم يحضر معه إلى قرطبة السبي المعتاد، فأخذ نخاس الرقيق يرددون عبارة "مات الجلاب، مات الجلاب2" ب- خطة الخيل: يتضح لنا من اسم هذه الخطة أن الأمر متعلق بالخيول وما يتصل بها، ونظراً لضخامة الجيش الأموي بالأندلس، فإنه لابد من وجود أماكن معدة لرعاية هذه الخيول والعناية بها وقد عرفت هذه الأماكن باسم "دار الخيل3"، وهي دار تمتاز بالسعة والضخامة، لذا فالأمر يتطلب وجود جهاز إداري متكامل يتولى عملية الإشراف عليها، وهذا الجهاز الإداري له مشرف مسئول عنه وعن الدار ومحتوياتها أمام الأمير أو الخليفة الأموي،   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 294. البيان المغرب 2/94. 2- البيان المغرب، 3/13. 3- أخبار مجموعة، ص 144. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 ويعرف هذا المشرف باسم "صاحب الخيل1"، وعلى هذا فإن صاحب الخيل هو المشرف على شئون الخيل اللازمة للجيش وما يلزم كل جواد من سرج ونحوه2، وأحيانا نرى أنه يجمع مع خطة الخيل الحشم3. ومن واجبات صاحب هذه الخطة ترتيب الجند، وفض المنازعات التي تحدث بينهم4، وقيادة الحملات العسكرية5، في حين تناط بمساعديه مهمة حمل الأموال والمنح المرسلة لمن يثبت حسن صنيعه وغناه في الحروب6. وقد شهدت "خطة الخيل" بعض التغيرات شأنها في ذلك شأن بعض الخطط، فبعد أن كانت مرتبطة بالقيادة كما هو الحال في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن7 نجدها في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر تصبح منفصلة تماماً عن القيادة8، رغم أنها جمعت معها في بعض الفترات9.   1- البيان المغرب، 2/94. 2- الحلة السيراء، 1/223. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 25. 4- المصدر السابق، ص 78. 5- نفس المصدر والصفحة. البيان المغرب، 2/94، 153. 6- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 24، 151. 7- انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 294. البيان المغرب 2/94. 8- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 172،186، 204. 9- المصدر السابق، ص 330. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 جـ- خطة العرض العرض وظيفة من وظائف التنظيم العسكري، وهي خاصة باستعراض الجنود المدونين في أوقات منتظمة للتأكد من وجودهم وسلامة استعدادهم1 ويسمى من يتولى هذه الخطة بـ"العارض2"، وإذا حان موعد استعراض الجند، جلس الأمير أو الخليفة على سطح باب السدة وبجواره ولي عهده، فإذا أعطى إشارة البدء للقائد، تبدأ عملية الاستعراض التي تقوم بها طائفة من الجند، قد تم اختيارها مسبقاً، وفي الاستعراض يعمل أفراد تلك الطائفة، على إبراز مهاراتهم الحربية، فتكون هناك عملية مبارزة ومطاردة بين المتبارزين، شريطة أن يكون كل منهما حريصاً على عدم إلحاق الأذى بزميله، ومن خالف ذلك تعرض للعقوبة والسجن، في حين أن المصاب يؤمر له بجائزة، وقبيل الظهر تنتهي عملية الاستعراض3. وبالنظر لأهمية هذه الخطة، والازدياد في أعداد الجنود المدونين، فإننا نجدها تسند أحياناً إلى شخص واحد4، وفي بعض الأحيان تسند إلى أربعة5 يتولون معاً مهمة الإشراف على هذه الخطة النبيلة، على أن تكون الاختصاصات مقسمة فيما بينهم.   1- الحلة السيراء، 1/145، حاشية رقم 3. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 97. البيان المغرب، 2/158. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 223. 4- البيان المغرب، 2/159. 5- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 97. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 د- خطة خازن السفر: إن الإعلان عن قيام الخلافة الأموية بالأندلس، وازدهار البلاد بعد أن فرض الخليفة عبد الرحمن الناصر نفوذه على معظم شبه الجزيرة الأيبرية وبعض أراضي العدوة بالمغرب، كل هذا، أوجد تعقيداً إدارياً في كافة أجهزة الدولة، وذلك بسبب الحال التي أصبحت عليها الدولة الأموية من قوة وثراء ومكانة عالمية بين الدول آنذاك. وللدلالة على التعقيد الإداري نشوء هذه الوظيفة رغم أنها لم تكن معروفة في عهد الإمارة، ولم تكن لتوجد فيما بعد لولا الضخامة التي أصبح عليها الجيش الأموي هناك، والمهام العديدة التي عليه تأديتها. وخازن السفر هو الذي يأخذ الأموال من بيوت المال ويذهب بها إلى الجيش ويوصلها بنفسه، سواء كان شمالاً في جهة الممالك النصرانية أو جنوباً ناحية العدوة المغربية1 وإذا لزم الأمر إرسال مزيداً من الأموال فيما بعد إلى الجيش، فإن الخليفة يكلف شخصاً آخر لأخذ الأموال اللازمة ويتوجه بها إلى الجيش ويوصلها إلى قائد الجيش والخازن المتواجد معه2.   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 149. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 210. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 هـ- خطة خزانة السلاح: الجيش الأموي بالأندلس لا يعرف الهدوء والسكينة، فهو إن لم يكن في صائفة في جهاد ضد نصارى الشمال، نجده يتولى قمع اضطراب في إحدى أرجاء البلاد، كما أصبحت أراضي العدوة المغربية مسرحاً لعملياته في عصر الخلافة. لأجل ذلك، كان لزاماً على القائمين على الجيش توفير الأسلحة لأفراده، ونظراً لضخامة الأسلحة المعدة فهي تودع في مخازن خاصة عرفت بـ"خزانة السلاح" ومتوليها يشغل منصباً عالياً في الدولة1. والأسلحة لأي جيش تكون على نوعين، أسلحة هجومية، وأخرى دفاعية، وكل نوع من هذين النوعين ينقسم إلى قسمين آخرين، فالهجومية منها تكون خفيفة وثقيلة، وكذلك الدفاعية وهذه الأسلحة بأنواعها تكون أيضاً على قسمين: فردية وجماعية. أي أن منها ما يكون صالحاً للاستخدام الفردي وآخر للاستخدام الجماعي. وليس بدعاً أن يكون الجيش الأموي بالأندلس قد استخدم كافة أنواع الأسلحة المعروفة آنذاك، الهجومية منها والدفاعية الفردية والجماعية، فالأسلحة الفردية كالسيوف والرماح والقسي والسهام والطبرزينات2 كلها أسلحة هجومية فردية. في حين أن هناك عدة   1- المصدر السابق، ص97. البيان المغرب، 2/159، 164، 169. 2- الطبرزينات: جمع طبرزينة وهي عبارة عن نصل حديد مركب في قائم من الخشب كالفأس بحيث يكون النصل مدبباً من ناحية، ومن الناحية الأخرى رقيقاً مشحوذاً كالسكين، وتستخدم في القتال مع السيوف. انظر: المعجم الوسيط، مادة "طبر". الفن الحربي في صدر الإسلام ص129-155. وعن الأسلحة الفردية الهجومية واستخداماتها انظر: كتاب السلاح، ص 17-28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 أسلحة دفاعية خفيفة، منها: الترس وهي آلة يتقي بها المقاتل ضربات خصمه، ويأتي على أنواع وأصناف شتى كل منها صالح لشيء معين1 وكذلك الدرق التي هي من أنواع التروس2، والبيضة أو الخوذة التي يلبسها المقاتل على رأسه3، والمغفر4 والدرع5. هذه هي الأسلحة الهجومية والدفاعية الخفيفة الفردية، فالجنود المشهود لهم بشدة البأس والرجولة في الجيش الأموي بالأندلس، تميزوا بتقلد السيوف الأفرنجية وبحمل التراس والرماح المستوية الأسنه، ومن كان   1- انظر: كتاب السلاح، ص 30. تبصرة أرباب الألباب، ص 12-13. نهاية الآرب، 6/239-240. تاريخ التمدن الإسلامي، 1/139-140. الفن الحربي في صدر الإسلام، ص 186-189. 2- انظر: لسان العرب، مادة "درق". كتاب السلاح، ص 30. 3- البيضة أو الخوذة: تصنع من الحديد أو الفولاذ ومبطنة ببعض المواد اللينة كالقطن وغيره يلبسها المقاتل على رأسه يتقي بها ضربات خصومه. انظر: عبد الرحمن زكي، السلاح في الإسلام، ص23. الفن الحربي في صدر الإسلام، ص 184. 4- كتاب السلاح، ص 29. تبصرة أرباب الألباب، ص 14. السلاح في الإسلام، ص 27. 5- نهاية الأرب، 6/241-246. الفن الحربي في صدر الإسلام، ص175-183 ومصادره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 منهم على فرس ارتدى الدرع وحمل القناة ولبس الجوشن الذي يغطي به الصدر، ووضع على فرسه تجفاف يحميه أثناء القتال1، في حين أن المشاة كانوا يتنكبون القسي الكبار وبأيدهم الطبرزينات والدماغات والأعمدة2. أما الأسلحة الهجومية والدفاعية الثقيلة التي تستخدم بشكل جماعي، فيأتي المنجنيق3 في مقدمتها، وتليه في الأهمية "العرادة" وهي آلة شديدة الشبه بالمنجنيق ولكنها أصغر منه4، والمنجنيق والعرادة يصلحان في الاستخدامات الدفاعية الهجومية، وتستعمل العرادة في رمي السهام الكبيرة والحجارة، وتستعمل لهدم الأسوار والحصون أو ضرب المعسكرات أو الجند المهاجمين5.   1- المقتبس: تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص49. 2- المصدر السابق، ص50. وعن العمود، انظر: الطرطوسي، تبصرة أرباب الألباب، ص 15-16. 3- عن المنجنيق وأنواعه واستخداماته، انظر: أربنغا الزردكاش، الأنيق في المناجيق، (تحقيق: د. إحسان هندي، منشورات معهد التراث العلمي العربي، حلب 1405هـ 1985م) ص16-30، 39-46، 169-221. الفن الحربي في الإسلام ص156-167 ومصادره. الجيش والقتال في صدر الإسلام، ص 396-406. 4- عبد الرحمن زكي، السلاح في الإسلام، ص 40. 5- الهرثمي: مختصر سياسة الحروب، (تحقيق: عبد الرؤوف عون، لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، 1964م) ، ص58. الجيش والقتال في صدر الإسلام، ص 401-402. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 ومن الأسلحة المهمة المستخدمة في الحصار "الدبابة" وهي آلة حربية يدخل فيها الرجال، فيدبون إلى الأسوار لنقبها، وهي تسبق المشاة حتى تقترب من حصون الأعداء بصورة كبيرة، وكذلك استخدموا "البرج" الذي هو شديد الشبه بـ"الدبابة" إذ كان يستعمل للاقتراب من حصون الأعداء لاقتحامها ولقذف السهام ونحوها على المدافعين. والبرج يُجر على عجلات خشبية أو حديدية وله عدة أدوار يعلو بعضها بعضا يوصل إليها بدرج أو سلم داخلي، وفي أعلى البرج توجد قنطرة خشبية يمكن إلقاؤها على سور الحصن ليعبر عليها المقاتلون لاقتحام الحصن1. وقد كانت معظم الأسلحة التي يستخدمها الجيش الأموي بالأندلس تصنع محلياً، وبالذات التروس والرماح والمغافر2، ولنا أن نتوقع أنواعاً أخرى من الأسلحة تصنع في اشبيلية وذلك لوفرة الفولاذ الجيد فيها3، كما أن طليطلة اشتهرت بصناعة السيوف المشهورة بالصلابة واشتهرت المرية واشبيلية ومرسية وغرناطة بصناعة الدروع وآلات الحرب عامة4.   1- الحسن بن عبد الله العباسي، أثار الأول في تدبير الدول، (مطبوع على هامش تاريخ الخلفاء للسيوطي، القاهرة 1305هـ) . ص 214. تاريخ التمدن الإسلامي، 1/143-144. الفن الحربي في صدر الإسلام. ص 168-169. 2- نفح الطيب 1/202. 3- المصدر السابق، ص 1/202. 4- قصة العرب في إسبانيا، ص 129. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 ويورد لنا ابن حيان1 معلومات دقيقة عن صناعة الأسلحة بالأندلس بصفة عامة، فقد ذكر أن كل عام يصنع من الأخبية على أجناسها للجند ثلاثة آلاف خباء، وهذا غير الأخبية الخاصة بالأمير أو الخليفة وكبار رجالات دولته وغلمانه، ونظراً للتوسع في صناعة التراس فقد كان لصناعها شيخ في ذلك الوقت هو يحيى التراس، وكان يحيى يدير مصنعاً للتراس ينتج كل سنة ثلاثة عشر ألف ترس على أنواعها، وأما القسي فعلى نوعين تركية وعربية فالمصنع الذي بقرطبة خاص بإنتاج القسي العربية ويشرف عليه أبو العباس البغدادي وينتج ستة آلاف قوس في السنة، ومثلها ينتج من القسي التركية في مصنع الزهراء ويشرف على تصنيعها طلحة الصقلبي، وأما النبل فيصنع منه عشرون ألفاً في الشهر2. يضاف إلى ما سبق أن خزائن الأسلحة بالزاهرة كانت ملأى بصنوف الأسلحة خاصة التراس والدروع والجواشن التي يوزع الكثير منها أيام الحشود وأيام البروز والزينة3 ومما يدل على ضخامة مخازن الأسلحة لدى الدولة الأموية أن الحاجب عبد الملك المظفر عندما أراد أن يخرج في أول غزوة له في شهر شعبان سنة 392هـ (يونيو 1002م) أمر   1- أعمال الأعلام، 2/102. 2- المصدر السابق، 2/101. 3- نفسه، 2/102. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 خُزَّان الأسلحة بتوزيع خمسة آلاف درع وخمسة آلاف مغفر على طبقات الأجناد الدارعين في جيشه1. وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن خزائن الأسلحة لم يقتصر وجودها على قرطبة والزهراء والزاهرة بل إن مدينة سالم، على سبيل المثال كانت مستودع أسلحة تمد المنصور بن أبي عامر بما يحتاج إليه من الأسلحة أثناء غزواته نحو الشمال الأسباني، ففي إحدى هذه الغزوات زودته مخازن الأسلحة بمدينة سالم بستة منجنيقات ومائتي ألف سهم وخمسة آلاف ترس2. ومخازن الأسلحة سواء في قرطبة أو غيرها كان لها خُزَّان، وللخُزَّان رئيس هو خازن الأسلحة، وكل موجودات المخازن مقيدة لديه في سجلات خاصة يحتفظ بها في حرز أمين، ومنها نسخة عند جهة إدارية أخرى، حتى إذا أُعفي خازن الأسلحة من منصبه، وُعيِّن آخر بدلاً عنه، يتم تكوين لجنة تقوم بإحصاء ما في المخازن وتطابقها على السجلات الموجودة لديها، وذلك لكي تكون عملية التخزين متقنة لا مجال للتلاعب فيها3.   1- البيان المغرب، 3/4 2- أعمال الأعلام، 2/101. 3- المصدر السابق، 2/102. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 و صاحب العسكر: المراد به هو قائد جيش الحضرة، وقد أطلق عليه لقب: "صاحب العسكر" للتفريق بينه وبين القائد الذي يخرج على رأس الجيش لإخضاع العصاة وللجهاد في الثغور. ومنصب صاحب العسكر، منصب أمني بحت، ينصبُّ اهتمامه على الحراسة المستمرة للجيش عند خروجه للغزو، وكذلك اختيار الأماكن المناسبة لنزوله، بالإضافة إلى تولي أمر العلافة، ولا يكلها إلى غيره، احتياطا منه على من معه من المسلمين، وقبضاً لأيدي المتلصصين من العدو عليهم، وبذلك تكون العلفات متوفرة، والسرايا مثقلة بالغنائم1. ز- اللواء: اللواء رمز الإمارة والقيادة، ولذا فلا عجب أن تهتم به الجيوش أياً كانت، بل إن عدم وجوده يعد غيباً ونقصاً في الجيش وقائده، فهذا الأمير عبد الرحمن بن معاوية - عندما كان في بداية أمره - بعد مغادرته اشبيلية في طريقه إلى قرطبة، لم تكن له راية، بل إن أنصاره كان كل جند منهم يسير تحت راية خاصة2، هذا الوضع المضطرب دفع بعض رؤساء الأجناد إلى انتقاد هذا الوضع، وعرضوا على الأمير عبد الرحمن اتخاذ راية خاصة له يجتمع الجيش كله تحتها، فوافق الأمير على ذلك، وبمجرد وصول الجيش   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 343-344. 2- أخبار مجموعة، ص 84. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 إلى قرية "بلة نوبة البحرين1 Villa Nueva" وقيل قرية قلنبيرة2 من إقليم طشانة "Tocina" جيء بقناتين إحداهما لأبي الصباح اليحصبي والأخرى لأبي عكرمة جعفر بن يزيد جد بني سليم الشذونيين، فعقد له في إحداهما3، وتولى عقد الراية رجل تفاءلوا باسمه بعد أن أقاموا القناة بين شجرتي زيتون لأنهم كرهوا إمالتها4. وقد ظل هذا اللواء دون تجديد طيلة عهد الأمراء الداخل والرضا والربضي إذ كلما خلقت العمامة المعقودة على القناة، تم ستر فضولها وعقد على العقدة، ولم يتم تجديده إلا في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط حيث طرحت الأسمال البالية وجددت العمامة5. وكان اللواء القديم بأسماله البالية محل تقدير وتفاؤل بني أمية والأندلسيين كافة، وبلغ من تفاؤلهم أن الهزائم التي حلت بالجيش الأموي فيما بعد نسبت إلى الخطأ الذي ارتكبه الوزراء عندما طرحوا الأخلاق البالية التي كانت تكوِّن اللواء القديم، وفي ذلك يقول ابن حيان "لم يزل الوهن في ملك بني أمية بالأندلس من ذلك اليوم6".   1- ابن القوطية، ص26. 2- أخبار مجموعة، ص 84. 3- ابن القوطية، ص26. قارن: أخبار مجموعة، ص 84. 4- أخبار مجموعة، ص 84-85. نفح الطيب، 3/50. 5- أخبار مجموعة، ص 85. 6- نفح الطيب، 3/51. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 ولاشك أن هذا الاعتقاد أمر لا يقره الشرع ولا المنطق، إذ العزة الحقة مقرونة بالتمسك الصحيح بالأحكام الشرعية، إضافة إلى اتخاذ الأسباب الكفيلة بالنصر. واللواء عادة لا يحمله إلا من كان أهلاً لحمله، وموضعاً لثقة السلطان، ولذا فإن لواء بني أمية بالأندلس حمله منذ البداية أبو عثمان عبيد الله بن عثمان1 ثم أخذ بتعاقب على حمله مع عبد الله بن خالد بن أبان بن أسلم2، وإذا كانت معظم الخطط الهامة في دولة بني أمية بتوارثها الأبناء عن الآباء فليس بدعاً أن يكون حمل اللواء قد استمر في ذرية أبي عثمان وعبد الله بن خالد. ولعقد الراية عند خروج الجيش للغزو رسوم لا يمكن تجاوزها، فعندما أمر الخليفة الحكم المستنصر بالله بعقد الراية للوزير القائد الأعلى غالب بن عبد الرحمن قام إثنان من كبار الوزراء بإحضار الراية ذات القطع الثلاث -العقدة والعلم والشطرنج3- ثم تولى عريف الخياطين عقد هذه الأعلام، واستدعى محمد بن يوسف القبري إمام قصر الخليفة4 بالإضافة إلى بعض أئمة النافلة ومن معهم من المؤذنين، وبمجرد استلام عريف الخياطين للراية اندفع القاضي يقرأ سورة   1- أخبار مجموعة، ص 87. 2- البيان المغرب، 2/42. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 25. 4- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1337. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 الفتح {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} وكان انتهاؤه منها مع انتهاء عريف الخياطين من عقد الأعلام، وصحب ذلك التكبير والتهليل بصوت مرتفع من كافة الحضور، وهكذا حتى اكتملت المهمة، بعد ذلك خرج عريف الخياطين ومن معه من الوصفاء والمؤذنين ومعهم الرايات الثلاث إلى باب السدة وهم يكبرون ويهللون وسط كوكبة من الفرسان مكتملي الزينة وكان في استقبالهم هناك الوزير صاحب الخيل والحشم ومعه أحد الوزراء ثم واصلوا مسيرهم إلى باب الوزير الأعلى غالب بن عبد الرحمن الذي كانت بانتظار وصولهم ومعهم اللواء فلما وصلوا امتطى صهوة جواده وخرج للغزو من حينه1. ح- العرفاء: هناك نصوص عدة وردت في بعض المصادر الأندلسية، تحدثت عن العرفاء، وأشارت إلى وجود إختصاصات متعددة لهم، فقد كان للأمير الحكم الربضي ألفا فرس في دارين على شاطئ الوادي الكبير مقابل قصر الإمارة بقرطبة معدة للطوارئ، وكل عشرة عرفاء يتولون مسئولية الإشراف على إحدى الدارين2، وعلى هذا فالعريف مسئول عن مائة فارس، لكن في عهد الأمير المنذر بن محمد نجد نصاً يفيد بأن كل عشرة من العرفاء مسئولين عن مائة وخمسين -أي أن العريف مسئول عن خمسة   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 25-26. 2- أخبار مجموعة، ص 129-130. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 عشر فارس- أرسلهم الأمير ومعهم مائة بغل شرط صلح مع الثائر عمر بن حفصون1، مما يفيد بأن العرفاء مسئولين كذلك عن الجنود، وذكر ابن حيان أن الخليفة عبد الرحمن الناصر عيَّن عبد الملك بن العاصي والياً على مارده سنة 315هـ (927م) فوصل إليها "في ألف من العرفاء ومثلهم من الطنجيين وخمسمائة من الرماة وخمسمائة من الملحقين2" وهذا النص يفيد بأن العرفاء يقاتلون كمجموعة مستقلة وذلك لخبرتهم في القتال3. فقد وجد منهم فرقة على عهد الخليفة الحكم المستنصر عرفت بـ"العرفاء المدرعين4" وهناك مجموعة من العرفاء مهمتهم تذليل الصعاب والعقبات التي تعترض طريق الجيش الأندلسي من توسيع طرق، أو توسعة شعاب وما إلى ذلك، وقد ورد في حوادث سنة 244هـ (858م) أن الأمير محمد بن عبد الرحمن عندما حاصر طليطلة أمر عرفاء البنائين والمهندسين بنسف القنطرة الموصلة إلى باب المدينة فتم لهم ذلك5 فغرق من كان عليها من أهل طليطلة، كما أن عرفاء البنائين كانوا يعقدون الجسور لتمكين الجيش الأموي من عبور المجاري المائية التي   1- البيان المغرب، 2/118. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 240-241. 3- البيان المغرب، 2/194. 4- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 49. 5- انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 305-306. البيان المغرب، 2/96. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 تعترض سبيله1 وبذلك يمكن القول بأن هؤلاء العرفاء أشبه ما يكون في العصر الحاضر بسلاح المهندسين الذي لاتستغني عنه الجيوش. ونختتم الحديث عن أولئك العرفاء بالإشارة إلى أن لهم في بعض الأحيان مهام خاصة كأن يكلف الأمير أو الخليفة مجموعة منهم سراً للكشف عن مسألة معينة ورفع الأمر إليه على حقيقته2. وهنك فئات مساندة للجيش ليس بوسعه الاستغناء عن خدماتها، وتعتبر الأدوار التي تؤديها تلك الفئات على جانب كبير من الأهمية بالنسبة لمسيرة الجيش وكذلك سير الأحداث العسكرية. من هذه الفئات، فئة اختصت بحمل الرسائل بين القيادة المركزية في العاصمة وبين قيادة الجيش المتجه إلى الأعداء، وقد جرت العادة أن يتولى حمل هذه الرسائل مجموعة من الخصيان الذين يتم تكليفهم في بعض الأحيان بنقل الأموال إلى الجيش، ولهم عرفاء يتولون عملية الإشراف عليهم3. كما أن هناك فئة تقوم بنقل المعلومات عن الأعداء إلى القيادة العسكرية للجيش الأموي، هذه الفئة هي فئة العيون والجواسيس4، والتي تبدأ عملها عندما يقترب الجيش من أراضي العدو، وأحياناً يتم تكليف   1- البيان المغرب، 2/295. 2- انظر: المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 111. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 91. 4- انظر: سراج الملوك، ص 328. البيان المغرب، 2/295. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 بعض الجواسيس بنقل المعلومات إلى العاصمة مباشرة، من ذلك مثلاً ما ذكره ابن حيان1 من أنه في أوائل شهر ذي القعدة وصل إلى الزهراء الجواسيس الذين ذهبوا إلى سنتياجو "شنت ياقب Santiago De Campostela" لتقصي أخبار النورمانديين وذلك حسب أوامر الخليفة المستنصر. ولدينا فئة تسمى فئة "الطبالين" تقوم بقرع الطبول في أوقات معينة، ولا يقرع الطبل إلا بإذن من قائد الجيش، واعتاد الجيش الأموي إذا قرب من جبهات القتال أن يقوم الطبالون فيه بقرع طبولهم بشدة، يصاحب ذلك رفع الأصوات بالتكبير لإدخال الهلع في قلوب المناوئين2، وقد بلغ عدد الطبالين في جيش المنصور بن أبي عامر مائة وثلاثون فارساً3. التعبئة والأساليب القتالية: "التعبئة" تعني التهيؤ وأخذ كافة الاستعدادات اللازمة للحرب، من وضع خطط قتالية متقنة، وترتيب الجيش، وتوزيع الأسلحة4 وبصفة عامة تعني الاستفادة القصوى من كافة الإمكانات المتاحة، مما يكفل بالتالي تحقيق النصر.   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 92-93. 2- البيان المغرب، 3/6. 3- أعمال الأعلام، 2/99. 4- انظر: لسان العرب، مادة "عبأ". وعن التعبئة وأنواعها، انظر: الجيش والقتال في صدر الإسلام، ص215-235 ومصادره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 وقد كان للمعالم الجغرافية في الأندلس الأثر القوي في وضع نظام تعبئة واضح، فقد شكلت أنهار وأودية الأندلس الممتدة بالعرض بين الشرق والغرب، خطوطاً دفاعية، فقد جعل المسلمون وادي إبرة خطاً دفاعياً أول وأطلقوا عليه مسمى: الثغر الأعلى، وأما الخط الدفاعي الثاني فقد شكله وادي نهر التاجه وأسموه: الثغر الأوسط، في حين اتخذوا من الأراضي الغربية الواقعة بين نهري دويره وتاجه خطاً دفاعياً ثالثاً، مطلقين عليه مسمى: الثغر الأدنى. والمتبع في تعبئة الجيش الأموي وترتيبه هو ما كان سائداً لدى الجيوش الإسلامية عامة، وذلك من حيث تقسيم الجيش إلى مقدمة وساقة وميمنة وميسرة وقلب1 وقد وردت عدة نصوص لدى العذري2 وابن الخطيب3 كلها تفيد استخدام أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس لهذا الترتيب عند تعبئتهم لجيوشهم. وعرفنا مما سبق أن الكور الأندلسية تشترك في عملية تأمين المقاتلين للجيش، وقد ورد نص لدى الخشني ذكر فيه أن الفرج بن كنانة الكناني "غزا معقوداً له على جند شذونة من الغرب مع عبد الكريم بن عبد الواحد إلى جليقية ... 4 وعليه فإن الجيش الأموي في الأندلس، كان قائماً على   1- ابن خلدون، المقدمة، ص 717. 2- نصوص عن الأندلس، ص 68، 101. 3- أعمال الأعلام، 2/63. 4- قضاة قرطبة، ص 41. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 مايمكن أن يسمى بالقوى القبلية، بحيث أن كل مجموعة في الجيش تكون تحت إمرة أحد زعمائها، والقائد العام مسئول عن الكل، فكانت كل قبيلة تحرص على أن لا يأتي الوهَنُ من قبلها، لكن المنصور بن أبي عامر قضى على هذا الترتيب، فأدخل على الجيش الأموي عناصر عدة، أهمها العنصر البربري، وعمل على إعلاء هذا العنصر، مما سبب التنافر بينهم وبين الأندلسيين1، فأصبح القائد يقود جيشاً مكوناً من عناصر شتى، كل هذا لكي يأمن المنصور عدم اضطراب الجيش عليه. وقد كان شعار الجيش الأموي طيلة عصري الإمارة والخلافة ذكر اسم الأمير أو الخليفة وإتباعه بكلمة "يا منصور"2 لكن هذا الشعار تغير بعد سيطرة المنصور بن أبي عامر على الدولة، إذ أصبح الشعار فقط "يا منصور3". ويتعين على قائد الجيش أن تكون قواته دائماً على تعبئة مستمرة سواء أثناء المسير أو عند النزول4 حتى وإن كان العدو غير قريب وذلك خشية المفاجآت، إذ أن التهاون في هذا الأمر يترتب عليه في الغالب الفشل. وهذا ما حصل للوزير القائد هاشم بن عبد العزيز عندما خرج في شعبان سنة 262هـ (876م) لمحاربة عبد الرحمن بن مروان الجليقي، فقد   1- أعمال الأعلام، 2/66. 2- مفاخر البربر، ص29. 3- المصدر السابق، والصفحة. 4- مختصر سياسة الحروب، ص 25-32. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 تهاون في الأمر فكانت النتيجة قتل عدد كبير من أفراد الجيش الأموي ووقوع الوزير القائد هاشم بن عبد العزيز أسيراً بيد أعدائه1. ومن الأمور الواجب على القائد الانتباه لها، توفير المياه وحفظها2، إذ أن إغفال هذا الأمر يترتب عليه تعرض الجند والدواب للعطش، فتذهب أعداد كبيرة منهما ضحية الإهمال، وهذا ما جرى للقائد أحمد بن أبي عبد هـ عندما رحل بقواته في غرة رجب سنة 283هـ (أغسطس 896م) إلى حصن البط –بعد أن دوَّخ عدة حصون- فعدم الماء في الطريق فهلك بسبب ذلك أكثر من ثلاثين رجلاً كما نفقت دواب كثيرة3. هذه العثرات التي يتعرض لها ولأمثالها الجيش الأموي بالأندلس، سيعمد إلى تجاوزها، بل لا نعدو الحقيقة عندما نقول إنه سيوظفها لصالحه من خلال العمل على سد الثغرات التي يمكن أن يأتي منها الخلل، ولذا فإننا نجد الجيش الأندلسي يصل إلى مرتبة متقدمة من التعبئة عند المعارك وذلك في عصر الطوائف - وما كان له أن يصل إليها لولا أنه ورث ذلك التنظيم عن الجيش الأموي - فقد أورد الطرطوشي نصاً تحدث فيه عن ترتيب الجيش عند لقاء العدو، فقال:   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 360-373. 2- مختصر سياسة الحروب، ص 31. 3- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 117. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 "فأما صفة اللقاء وهو أحسن ترتيب رأيناه في بلادنا، وهو أرجى تدبير نفعله في لقاء عدونا، أن نقدم الرجالة بالدرق الكاملة، والرماح الطوال والمزاريق المسنونة النافذة، فيصفوا صفوفهم، ويركزوا مراكزهم، ورماحهم خلف ظهورهم في الأرض، وصدورهم شارعة إلى عدوهم، وهم جاثمون في الأرض، وكل رجل منهم قد ألقم الأرض ركبته اليسرى، وترسه قائم بين يديه، وخلفهم الرماة المختارون التي تمرق سهامهم من الدروع والخيل خلف الرماة، فإذا حملت الروم على المسلمين لم يتزحزح الرجالة عن هيآتها ولا يقوم رجل منهم على قدميه، فإذا قرب العدو رشقهم الرماة بالنشاب والرجالة بالمزاريق، وصدور الرماح تلقاهم، فأخذوا يمنة ويسرة فيخرج خيل المسلمين بين الرماة والرجالة فتنال منهم ما شاء الله"1. وأما ما يتعلق بأساليب القتال فقد عرف الجيش الأموي بالأندلس عدداً منها، فهناك أسلوب الزحف، حيث يقاتل الجنود بصفوف منتظمة طويلة متراصة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} 2 وقبل أن تتم عملية الالتحام المباشر بين الجيشين تكون هناك مبارزة بين بعض الأقران من الطرفين3.   1- سراج الملوك ص 337. 2- سورة الصف آية رقم 4. وعن أنواع الصفوف في اللقاء انظر: مختصر سياسة الحروب، ص 34-35. 3- سراج الملوك، ص 331-332. أعمال الأعلام، 2/72. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 وهناك أسلوب الكمائن الذي يعتمد على وضع فئة من الجند في مكان مستتر لاقتناص غفلة الأعداء، ومهاجمتهم لإلحاق أكبر قدر من الخسائر بهم1، وهذا الأسلوب يستخدم لاستخراج القوة المعادية وبالذات عند مهاجمة المدن إذ تتوجه مجموعات من الجيش ذات عدد قليل نسبياً فتهاجم المدينة، وعندما يرى المدافعون قلة عدد المهاجمين يغريهم ذلك بتتبعهم للقضاء عليهم، فيخرجون من مدينتهم، ويلاحقون المهاجمين، وهنا يظهر الكمناء من مكامنهم فيطبقون عليهم ويشتتون شملهم2. واستخدم الجيش الأموي كذلك أسلوب الحصار للمدن أو الحصون أو القلاع، فعند وصول الجيش إلى المنطقة التي يريد فرض الحصار عليها، يقوم الطبالون بقرع طبولهم بشدة، يرافق ذلك صيحات التكبير والتهليل من المقاتلين، وذلك لبث الرعب والرهبة في نفوس المدافعين، فإذا وصل الجيش الأسوار وزع القائد قواته وكلف كل فئة بإنجاز مهمة معينة، وزيادة في الاحتياط يقوم القائد بإرسال جزء من الجيش لفرض السيطرة على الأماكن القريبة من المنطقة المحاصرة، وذلك لمنع وصول الإمدادات العسكرية والمادية، مثلما فعل الوزير القائد هاشم بن عبد العزيز عند محاصرته لعبد الرحمن ابن مروان الجليقي3، وبعد ذلك تبدأ عملية انتساف   1- عن الكمناء ومايشترط بهم، انظر: مختصر سياسة الحروب، ص50-51. 2- البيان المغرب، 2/84. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص368. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 الزروع المحيطة بالمنطقة وحرقها وقطع كافة سبل المعيشة عن المحاصرين لإجبارهم على الاستسلام1. وفي بعض الأحيان لا يكتفى بفرض الحصار فقط بل تجرى محاولة نقب الأسوار2، أو قطع قنطرة إن وجدت3. كما يستخدم "المنجنيق" وذلك لرمي المقذوفات من حجارة أو كرات نفط حارقة سواء في حالة الهجوم أو الدفاع. وقد استخدم الأمويون المنجيق في حروبهم منذ بداية دولتهم في الأندلس، فالأمير عبد الرحمن الداخل استخدم أثناء حصاره لمدينة سرقسطة ستاً وثلاثين منجنيقاً4، واستخدمها محمد بن الأمير عبد الرحمن الأوسط عندما غزا بالصائفة إلى جليقية وحاصر مدينة ليون سنة 231هـ (846م) 5 كما استخدمت في صد هجوم النورمانديين سنة 230هـ (845م) على اشبيلية6. وأما أسلوب بناء المدن العسكرية إزاء المدن التي يراد إسقاطها، فإنه يعتبر من أشد الوسائل فعالية، نظراً لما يوفر للمهاجمين من مساندة مادية   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 283، البيان المغرب، 2/84-85. 2- البيان المغرب، 3/21-22. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 305-306. 4- أخبار مجموعة، ص 115. 5- البيان المغرب 2/88. 6- المصدر السابق، والصفحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 ومعنوية مما يساعدهم على مواصلة الحصار حتى النهاية، وفي الوقت نفسه فإنه يدخل في نفوس المدافعين اليأس مما يرونه من توطين المهاجمين لأنفسهم على طول الحصار. وقد أدرك الخليفة عبد الرحمن الناصر أهمية المدن العسكرية أو الحصون التي يقيمها لأجل محاصرة مناوئيه، ولذا نراها تنتشر في عهده ويستخدمها بكثرة، من ذلك أنه بنى في سنة 318هـ (930م) مدينة عسكرية بالقرب من طليطلة سماها "مدينة الفتح" بجبل حرنكس1 وفي سنة 323هـ (934م) حاصر مدينة سرقسطة فلم تستسلم، ولذا أقام بإزائها مدينة ارتفع بناؤها أعلى من بناء سرقسطة ذاتها فأصبح ما بداخلها مكشوفاً للمهاجمين2. وهذه المدن العسكرية كانت تشحن بالرجال والقواد والعساكر ويتولى أمرها أحد الوزراء3. الحملات العسكرية: جرت العادة أن تخرج الحملات العسكرية ضد الشمال الأسباني في فصل الصيف4، ولكن يحدث أن تصبح الصائفة شاتية، وذلك إذا اضطر الجيش للبقاء في جبهة القتال مثلما حدث للقائد أحمد بن محمد بن أبي عبد هـ عندما شتى مضطرا سنة 297هـ (910م) بأحد جبال كورة   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 283. 2- المصدر السابق، ص 364. 3- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص283. 4- انظر: البيان المغرب 2/64. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 قبره1، كما يمكن أن تكون الصائفة متجولة من أجل المحافظة على الأمن والاستقرار2. ولكن يحدث أن تكون هناك شاتية تخرج للشمال، فهذا الحاجب عبد الملك المظفر بن المنصور خرج في شتاء سنة 398هـ (1008م) على "رأس حملة نحو الشمال، وهي الغزوة السادسة من غزواته"3. وعندما عزم شنجول على مواصلة المسيرة العسكرية لأبيه وأخيه خرج في أشد أوقات السنة برودة4، متجهاً إلى جليقية. والأمر هنا لا يقتصر على صوائف وشواتي، فقد كانت هناك حملات ربيعية وأخرى خريفية5، ومع توالي الحملات العسكرية ضد الشمال الأسباني، بدأت عملية إعمار الثغور الفاصلة بين الطرفين الإسلامي والنصراني، وذلك في أواخر عهد المنصور بن أبي عامر، ويبدو أن عملية الاستيطان هذه كانت من الضخامة والاتساع إلى الحد الذي جعل   1- المقتبس، تحقيق: أنطونيه ص 146. البيان المغرب 2/146. 2- البيان المغرب، 2/139. 3- المصدر السابق،3/21. 4- نفسه، ص 66. 5- العذري، نصوص عن الأندلس، ص 77-80. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 المنصور يندم على فعلته، ويتمنى لو تمكن من هدم كل ما عَمّره في منطقة الثغور1. وقد سار عبد الملك المظفر بن المنصور على نهج أبيه في إعمار الثغور2، حتى أنه جعل لكل من له رغبة في استيطان الثغور، إثبات اسمه في الديوان، ويتم صرف راتب له مقداره ديناران في الشهر، وله مع ذلك المنزل والمحرث3.   1- عندما حضرت المنصور الوفاة، أخذ يبكي ولما سأله حاجبه كوثر الفتى عن سبب هذا البكاء أجابه قائلاً: "مما جنيت على المسلمين، فلو قتلوني وحرقوني ما انتصفوا مني، ... لما فتحت بلاد الروم ومعاقلهم عمرتها بالأقوات من كل مكان وسجنتها بها حتى عادت في غاية الإمكان، ووصلتها ببلاد المسلمين، وحصنتها غاية التحصين، فاتصلت العمارة، وها أنا هالك وليس في بني من يخلفني، وسيشتغلون باللهو والطرب والشرب، فيجيء العدو فيجد بلاداً عامرة وأقواتاً حاضرة فيتقوى بها على محاصرتها، ويستعين بوجدانها على منازلتها، فلا يزال يتغلبها شيئاً فشيئاً ويطويها طياً فطياً حتى يملك أكثر هذه الجزيرة، فلو ألهمني الله إلى تخريب ماتغلبت عليه وإخلاء ماتملكت.." انظر: ابن الكردبوس، ص64-65. 2- ذكر ابن عذاري أن الحاجب عبد الملك المظفر في غزوته الأولى سنة 393هـ عهد إلى جنده ألا يحرقوا منزلاً ولا يهدموا بناءاً، وذلك لما ذهب إليه من إسكان المسلمين في المناطق المفتوحة. انظر: البيان المغرب، 3/7. 3- المصدر السابق، 3/7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 وقد كان بنو أمية شديدي الإهتمام بأخبار الثغور ولهم عيون تأتيهم بأنبائها تباعاً، وإذا حدث أن أبطأت الأخبار عنهم فإنه يتم إرسال أحد الثقات ليقف على حقيقة الأمر. فالأمير محمد بن عبد الرحمن عندما خفيت عليه أخبار الثغر استدعى رجلاً يدعى مطرف بن نصير فأمره باستطلاع الخبر، وضرب له أجلاً مقداره أربعة عشرة يوماً لا يتجاوزها وإلا ضرب عنقه1. وإذا حدث أن هجم العدو على الأراضي الإسلامية، تولى أحد الوزراء مهمة استنفار الناس2 كما أن صاحب المدينة يقوم بحشدهم3 ولا يؤذن لأحد بالتخلف إلا إن كان صاحب عذر شرعي، أو أغلق عليه باب داره شريطة ألا يغادرها إلا بعد عودة الجيش4. وقد جرت العادة أن تخرج الصوائف في أواخر الربيع وأوائل الصيف، فالخليفة عبد الرحمن الناصر خرج إلى بنبلونه في يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر المحرم سنة 312هـ (مايو 924م) وذلك بسبب اعتداء البشكنس على بني لب وبني ذي النون بحصن بقبره5.   1- المقتبس: تحقيق: د. محمود مكي ص132-133. 2- المصدر السابق، ص140. 3- نفسه، 44. 4- نفسه، 45. 5- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص189. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 وبصفة عامة فإن الحملات العسكرية الضخمة لا تخرج إلا بعد إعداد مسبق لها، فالصوائف يبدأ التجهيز لها في شهر يونيه1، بعد أن تدرس الحالة الإقتصادية في الأقاليم التي سوف يمر عليها الجيش، وبالذات المحصولات، إذ أن الجيش كان يعتمد عليها في تمويله، يدل على ذلك أن السنوات التي يعم فيها القحط لا تكون فيها صائفة2. ويبدو أن المنصور بن أبي عامر قد فطن لهذا الوضع، فعمل على تجاوز تلك الحالات الطارئة التي سيحول وقوعها دون قيامه بغزواته، لأجل ذلك قام بإنشاء مستودعات ضخمة خزّن فيها المحاصيل، ولم يكتف بذلك بل كان يستغل سنوات الخصب فيشتري كميات ضخمة منها، ويدخلها في تلك المستودعات بالإضافة إلى ما يأمر بزراعته من الشعير3.   1- أعمال الأعلام، 2/98. 2- البيان المغرب، 2/168. 3- انظر: أعمال الأعلام، 2/99، 102، ويبدو أن المنصور كان يخزن في مستودعاته محاصيل ضخمة جداً، حتى داخله العجب بنفسه، ويذكر ابن الخطيب "أعمال الأعلام، 2/99. أن المنصور بعد أن علم أن مستودعاته تحوي أكثر من مائتي ألف مدي من الحبوب داخله العجب وقال: "أنا أكثر طعاماً من يوسف صاحب الخزائن" فتوالت بسبب هذه الكلمة سني القحط حتى أتت على جميع مدخراته بل كاد أهل الأندلس أن يذهبوا إلى العدوة المغربية بسببها. وهذا مؤشر على شخصية المنصور الطاغية المغرورة، وصدق الله العظيم، "كلا إن الإنسان ليطغى، آن رآه استغنى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 وبعد أن تؤخذ كافة الاستعدادات، ترسل الوفود إلى جميع كور الأندلس للإستنفار وارتباط الخيل وتهيئتها للمشاركة، وتقرأ كتب الاستنفار على المنابر جمعاً متتالية حتى تثوب نفوس الناس وتتحرك للجهاد1، وهناك اهتمام خاص بأهل الثغر الأعلى وذلك لقربهم من بلاد الحرب وتعودهم على مصادمة رجالهم، وللطبيعة الجبلية التي خبروها، ولذا، فإن الأمير أو الخليفة يبعث إلى عمال الثغر بضرورة الاستعداد للخروج والاشتراك مع الجيش القادم من قرطبة بمجرد اقترابه من جبهة القتال2. ورغم كل هذه الاستعدادات التي دأب الجيش الأموي بالأندلس على الأخذ بها عند تحركه للصائفة، نجد المنصور بن أبي عامر يقوم بجهد خاص لتوفير الخيول لرجاله، ففي الصائفة الأخيرة التي قادها سنة 392هـ (1002م) أنفذ كتبه إلى سائر النواحي استدعى فيها جميع المترجلين من فرسان الجند وأمرهم بالوصول إلى بابه ليشرف على إركابهم بنفسه. وبعد أمن لهم ما يلزم من الخيل، خرج بالصائفة وقاد معه سبعمائة رأس من الخيل للطوارئ، واتخذ من عتاق الخيل خمسين رأساً لركابه، وترك في قرطبة ألف رأس من الخيل، ورغم ذلك استمر في عملية ابتياع   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 156. 2- الثغر الأعلى الأندلسي، ص 158. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 الخيل، فوصل مدينة سالم ومعه ألف رأس من الخيل زائدة عن حاجة الجيش1. مراسم وداع الحملات: وبعد أن يقرر الأمير أو الخليفة الخروج بالصائفة، يبرز لها في مكان محدد يعرف بفحص شقنده "Seconda" أو صحراء الربض بفج المائدة المطل على باب قرطبة الجنوبي2، لكن الخليفة عبد الرحمن الناصر ترك البروز في هذا المكان3، واتخذ عوضاً عنه مكاناً آخر يقع إلى الشمال من نهر الوادي الكبير بالطرف الشرقي من قرطبة، يعرف بمضرب أو مضطرب فحص السرادق4. وهذا البروز هو بمثابة الإعلان الرسمي عن الحملة، وقد وصف ابن حيان فترة البروز هذه بالطول5، فقد تستغرق مدة شهر6، أو أكثر7، يقوم الأمير أو الخليفة خلالها باستعراض الجند المتوافدين على الفحص   1- انظر التفاصيل في:أعمال الأعلام، 2/100. 2- المقتبس، تحقيق: أنطونيه 94. 3- حدث أن برز الخليفة عبد الرحمن الناصر إلى فحص شقنده سنة 328هـ انظر، المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 449. 4- المصدر السابق، ص 287. نفسه، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 43. 5- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص159. 6- المصدر السابق، ص 433. 7- نفسه، ص 189. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 من كافة أنحاء الأندلس، حتى وإن كان لن يقود الحملة حرصاً منه للوقوف على مدى استعداد الجند للحملة. وعندما وصف ابن حيان بروز الخليفة عبد الرحمن الناصر، ذكر أنه برز "دارعاً مستلثماً متقلداً سيفه، راكباً لأشقر معروف بالعتق، من جياد المقرنات، قد حفَّته قواده وكتائبه معبأة أحسن تعبئة"1. وإن تعذر خروج الخليفة مع الجيش، اكتفى بالجلوس على السطح فوق باب السدة في قصر قرطبة، لمشاهدة مسيرة الجيش، فإذا مر الجيش من أمام الخليفة، رفع يديه إلى السماء يدعو الله تعالى أن ينصرهم ويمنحهم السلامة، ولا ينزل يديه إلا بعد أن يغيب الجيش عن بيوت قرطبة، ويكون إلى جانبه ولي عهده يفعل مثل فعله2. وأما الحاجب عبد الملك المظفر فقد برز وهو "شاكي السلاح في درع جديدة سابغة وعلى رأسه بيضة حديد مثمنة الشكل مذهبة شديدة الشعاع وقد اصطفت القواد والموالي والغلمان الخاصة في أحسن تعبئة فساروا أمامه وقد تكنفه الوزراء الغازون معه3"، وقد جرت العادة أن يتجمع أهل قرطبة كبيرهم وصغيرهم ذكرهم وأنثاهم لمشاهدة بروز الخليفة أو غيره حيث يصبح ذلك البروز مجال حديثهم أياماً عديدة4.   1- نفسه ص333-334. 2- نفسه، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 221. 3- البيان المغرب، 3/5. 4- المصدر السابق،2/222. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 وبعد أن تكتمل الاستعدادات، ويتم عقد الألوية وفق الرسوم المتعارف عليها، ينطلق الجيش بقيادة الأمير أو الخليفة أو من ينوب عنهما إلى الجهة المتفق عليها، ويكون موعد الخروج بالحملة سراً لا يعرفه إلا كبار المسئولين فقط، وحتى الجهة التي سيتوجه الجيش إليها لا يعرفها إلا القادة، ففي أول غزوة للخليفة عبد الرحمن الناصر وهي مُونش سنة 308هـ (920م) والتي كانت بالأصل موجهة إلى ألبة والقلاع، خرج من قرطبة ومر بمدينة الفرج "وادي الحجارة Guadalajara" وبعدها وصل مدينة سالم، وتظاهر بأنه يريد الثغر الأعلى، لكنه فجأة عرَّج على طريق ألبة والقلاع وواصل سيره حتى بلغ هدفه1. والصائفة تخرج من قرطبة وتسلك الطريق المارة بطليطلة، ومنها إلى وادي الحجارة ثم إلى مدينة سالم ومنها إلى منطقة الثغر الأعلى، وبعدها تسير إلى محاربة النافار وقاعدتهم ببنبلونه أو تسير إلى ألبة والقلاع ومنها لمحاربة مملكة ليون2. ورغم أن هذه الطريق أصبحت المسار المعتاد للصوائف المتجهة إلى الشمال النصراني، إلا أن القائد البراء بن مالك سار سنة 264هـ (877م) إلى جليقية من ناحية الغرب أي من باب قلمريه "Golimbra" وقد حالفه التوفيق في حملته هذه3، وفي سنة 266هـ (879م) جرت   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 161-163. 2- الثغر الأعلى الأندلسي، ص 157. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 385. البيان المغرب 2/103. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 محاولة غزو جليقيه من ناحية المحيط الأطلسي، وكان القائد عبد الملك بن عبد الله بن محمد بن عبد الحميد بن مغيث، ورغم الأموال الطائلة التي صرفت على هذه الحملة والبروز الفخم الذي ظهر به القائد إلا أن الحملة فشلت نتيجة لغرق الكثير من المراكب بمن فيها بالمحيط1. وفي سنة 312هـ (924م) نجد الخليفة عبد الرحمن الناصر عندما خرج بالحملة ضد بنبلونه نراه يسلك طريقاً شرقياً، فقد اتجه أولاً إلى تدمير ومن ثم بلنسيه وبعدهما وصل إلى تطلية، فسيطر على حصن قَلهرة، ثم أمر بهدمه وتوغل في مملكة النافار2. وفي المعركة يكون مكان القائد العام للجيش القلب3، ويكون أثناء المعركة تحت المظل الخاص به، ومعه وجوه أهل الدولة4، ويكون موقع المظل على تل أو ربوة مرتفعة، حتى يتمكن من الإشراف على المعركة أثناء سيرها، ويوجه قواته وفق محريات أحداثها5.   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 398. البيان المغرب 2/103-104، ولكنه يسمي القائد بـ"عبد لحميد الرعيطي". 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 190-191. البيان المغرب، 2/185-186. 3- أعمال الأعلام، 2/63. 4- البيان المغرب، 3/10. 5- أعمال الأعلام، 2/70-71. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 وقد اعتاد بنو أمية ألا يحاربوا مناوئيهم إلا بعد إنذارهم، وذلك بإخراج الرسل والأمناء إليهم، علهم يفلحوا في إعادتهم إلى الطاعة1، ولم يكن الأمر يقف عند هذا الحد، بل إن الأوامر تصدر إلى قادة الجيش الأموي بضرورة ملاينة بعض المناوئين وملاطفتهم، والعمل على استمالتهم إلى الطاعة وبذل الوعود الجميلة لهم2، وذلك على الرغم من قدرة الجيش على الفتك بهم. وبالمقابل نجد أنه بعد انتهاء المعركة التي تجري بين الجيش الأموي والقوات النصرانية، يتم تجميع رؤوس القتلى من النصارى، والتي تبلغ أحياناً حوالي عشرين أو ثلاثين ألف رأس3 وبعد أن تجمع تلك الرؤوس عند باب المظل، يصعد المؤذن فوقها ويرفع الأذان4، ويتم بعث جزء من تلك الرؤوس إلى السواحل والثغور ومدينة قرطبة5، ثم يبعث القائد بخطاب الفتح إلى قرطبة، ويكون الخطاب على نظيرين، أحدهما يرسل إلى   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 280. 2- المصدر السابق، ص 70. 3- ابن القوطية، ص 97. البيان المغرب، 2/95، 99. 4- ابن القوطية، ص 97. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 298. 5- ابن القوطية، ص 97. المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 124، 193. البيان المغرب 2/95،200. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 الأمير أو الخليفة، والآخر يتلى على المنابر1 كما تبعث عدة نسخ إلى كافة الكور ليتلى نبأ الانتصار على منابرها. وتكون كتب الفتوح موشحة توشيحاً خاصاً بها، حيت تتحدث عن قدرة المسلمين وسطوتهم بأعداء الدين، واستباحتهم لهم وقدرتهم عليهم2. وبعد أن يعود الأمير أو الخليفة من الغزو، تعلق الألوية على جدران المحراب بالمسجد الجامع3، ويجلس الخليفة للتهنئة، ويتبارى الشعراء في إلقاء قصائدهم بين يديه، وكلها تثني على حسن بلائه، وتبارك له بالنصر، وتدعوا له بدوام العز وطول البقاء4. وإن كان الجيش بقيادة أحد القادة، جرى له احتفال كبير عند عودته مظفراً، وأشهر احتفال جرى لقائد، هو الاحتفال الذي أقامه الحكم المستنصر بالله للوزير القائد الأعلى غالب بن عبد الرحمن بعد أن عاد من العدوة المغربية ومعه حسن بن قنون وأنصاره وذلك في أوائل شهر المحرم سنة364هـ5 (سبتمبر 974م) .   1- المصدر السابق،3/23. 2- الذخيرة ق1م1 ص37. 3- أبو رميلة، نظم الحكم في الأندلس، ص 368. 4- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 423. 5- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 194-202. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 وهناك موظف خاص يتولى تلاوة كتب الفتح، وخطته تعتبر من أدنى الخطط، ومن الذين تولوها أبو محمد عبد الله بن محمد الجهني، ت 395هـ1 (1005م) . وبمقابل كتب الفتوح نجد أن كتب استنزال العصاة تبعث إلى كافة نواحي الدولة لتتلى على المنابر2. والجيش الأموي امتاز بالانضباط التام، ووصل ذروة ذلك الانضباط في عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر، فقد ذكر ابن سماك المالقي3 أنه بلغ من شدة المنصور في هذا الأمر أنه إذا استعرض جنده أطرقوا، بل إن خيولهم تمتثلهم، فلا تكثر الصهيل والحمحمه، وحدث في أحد استعراضاته لجنوده، أن أقدم أحد الجنود الذين يقفون في الصفوف الخلفية على سل طرف سيفه عبثاً منه، ظاناً منه أن المنصور لا يراه، فشاء الله تعالى أن وقعت عين المنصور على بريق السيف، فأمر بإحضار الجندي، وبعد أن   1- ترتيب المدارك، 7/209-210، ومتولي هذه الخطة ليس له رزق ولا صلة. انظر: الصلة، رقم 557. 2- المقتبس تحقيق: شالميتا ص 55. 3- عن ابن سماك انظر: الزهرات المنثورة، مقدمة المحقق ص 5-18. ابن الخطيب، الكتيبة الكامنة في من لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة، (تحقيق: د. إحسان عباس، دار الثقافة بيروت بدون تاريخ) ص299-301، قارن نفح الطيب، 1/417 حاشية رقم 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 عاتبه قليلاً مذكراً إياه بأنه لا يجوز لأحد في مثل هذه المواقف أن يشهر سيفاً إلا بإذنه أمر بضرب عنقه بسيفه وطيف برأسه ونودي عليه بذنبه1. وإذا حل العيد والجيش في جبهة القتال، فإن القائد يقيم لجنده مأدبة في صبيحة يوم العيد، وهذا ما كان يفعله الخليفة عبد الرحمن الناصر سواء حل عليه العيد وهو بقرطبة أو في الغزو2، كما أن الأطعمة الزائدة في الجيش والتي يتم الاستيلاء عليها من جراء اكتساح أراضي الأعداء، تجمع ومن ثم تحرق3 وذلك لئلا تعيق حركة الجيش، ولمنع الأعداء من الإستفادة منها تحت أي ظرف طارئ. كذلك يشهد معسكر الجيش في بعض الأحيان إستقبالات رسمية لوفود تطلب الأمان، فالخليفة عبد الرحمن الناصر خرج سنة 322هـ (934م) في غزوة "وخشمة" ناحية سرقسطة، ثم رأى أن يقتحم أراضي بنبلونة لمجاورتها لأراضي الثغر الأعلى الأندلسي، فلما علمت الملكة طوطه "تيودا" ابنة شنير ملكة النافار بما عزم عليه الخليفة أرسلت إليه رسلها طالبة الأمان، فاشترط عليها أن تأتي إليه وتظهر خضوعها له، فامتثلت   1- الزهرات المنثورة: الزهرة الثامنة والأربعون، ولعل هذه الحادثة أبلغ دليل على النهج التسلطي الذي كان المنصور يسير عليه، فقد كان يكفي لتأديب الرجل أي نوع من أنواع العقاب، بحيث لا يصل إلى إيذائه جسدياً فضلاً عن إزهاق روحه. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 401. 3- المصدر السابق، ص176. البيان المغرب 2/180. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 لأمره وحضرت لمعسكره، فجرى لها استقبال فاخر، وحقق لها الخليفة مرادها1. ولاشك أن الحملات العسكرية بأنواعها، والتي كان الجيش الأموي يقوم بها، كانت تكلف خزينة الدولة الشيء الكثير، ويكفي للدلالة على ذلك أن الخليفة عبد الرحمن الناصر كان يخصص ثلث دخل دولته للصرف على جيشه2. وذكرت بعض المصادر دخلاً آخر مخصص للصرف على الجيش مثل "الناض للحشد" وهي ضريبة لا يستثنى منها أحد من الرعية، ويقدم لنا العذري عند حديثه عن قرطبة وأقاليمها معلومات إقتصادية دقيقة، وبالذات ما يتعلق منها بتلك الضرائب، فإقليم المدَّور "Almodovar Del Rio" الذي يقدم من الناض ثلاثة آلاف وتسعمائة وثمانون مثقالاً، ومن الطبل للعام أربعة آلاف ومائة وأربعون دينار3، وأما إقليم "الهزهاز، فكان يقدم للطبل العام أربعة آلاف وأربعمائة وتسعة وثمانون ديناراً4. وهذه الضرائب -لاشك- بأنها كانت تشكل عبئاً إقتصادياً على الرعية، ولذا، فإن من الأساليب التي اتبعها خلفاء وأمراء بني أمية في التحبب إلى رعاياهم هي إسقاط جزء من تلك الضرائب عنهم، فهذا   1- انظر: تفاصيل الاستقبال في المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 335-336. 2- المغرب في حلى المغرب، 1/183. 3- نصوص عن الأندلس، ص124-125. 4- المصدر السابق، ص 126. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 الأمير المنذر بن محمد عندما تولى الإمارة أسقط عشر المغارم عن الرعية1، كما أن الخليفة الحكم المستنصر اغتنم فرصة شفائه من مرض ألم به سنة 364هـ (975م) فأسقط عن رعيته سدس جميع مغرم الحشد2. وفي عهد المنصور بن أبي عامر ازدادت الحملات العسكرية كثافة، وتبع ذلك زيادة هائلة في النفقات اللازمة لإعداد تلك الحملات، فكان الإنفاق يصل أحياناً إلى خمسمائة ألف دينار3. ونختم الحديث عن الجيش بإلقاء الضوء على أهم النتائج، والذي يهمنا في هذه الدراسة الغنائم، فبعد أن تقسم الغنيمة وفق نصوص الشريعة الإسلامية، يقسم الباقي على المقاتلين بطريقة متفاوتة تخضع للرتبة العسكرية والحالة الإجتماعية، وفي سبيل الحصول على سيولة نقدية يسارع الباقي من المقاتلين إلى بيع نصيبه من الغنيمة4. ومن الغنائم: السبي الذي يؤتي به من الإمارات والممالك النصرانية الشمالية، وكان قسم من هذا السبي يوزع على أهل الرباط والفرسان والوفود5.   1- أعمال الأعلام، 2/25. البيان المغرب، 2/114. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، 207. 3- أعمال الأعلام، 2/98. 4- أبو رميلة، نظام الحكم في الأندلس، ص 380. 5- البيان المغرب، 2/23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 أما الأسرى من النصارى فيحدث أحياناً أن يدعوهم الخليفة للإسلام فإذا أسلموا صيرهم في جملة غلمانه1، وفي أحيان أخرى يتم قتل الأسرى في المعسكر أمام الخليفة2، كما يتم إعطاء بعضهم لبعض الأسر المسلمة ليفادوا بهم أسراهم الذين وقعوا في أيدي النصارى3. وأما الأسرى من المسلمين فهناك عدة أساليب لإطلاق سراحهم فبالإضافة إلى مبادلتهم بالأسرى النصارى، نجد الدولة تعطي أهل الأسير المسلم مبلغاً من المال لفدائه4، وإن كان الواقع في الأسر أحد الشخصيات المهمة في الدولة، تولت حكومة قرطبة دفع فدائه، فالوزير القائد هاشم بن عبد العزيز عندما وقع أسيراً لدى ألفونسو الثالث بن أردون الأول ملك اشتوريس سنة 262هـ5 (787م) مكث سنتين في أسره، دفع الأمير محمد مبلغ مائة وخمسين ألف ديناراً فداءاً له6، ويبدوا أن فداء الأسير المسلم إذا كان من ذوي الفئة الاجتماعية المتوسطة لا يتجاوز خمسة آلاف دينار، يدل على ذلك ما ورد لدى ابن الفرضي في ترجمته للقاضي عمر بن يوسف الأموى قاضي تطيلة "من سنة 325-   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 482-483. 2- المصدر السابق، ص 398. 3- البيان المغرب 2/73. 4- المصدر السابق والصفحة. 5- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 378. 6- ابن القوطية، ص89. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 386-387. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 337هـ (937-948م) "أنه وقع بالأسر هو وابنه وأخوه فتم دفع خمسة عشر ألف دينار نظير إطلاق سراحهم1. وفضلا عما سبق، فإن الأساليب التي يتم بموجبها إطلاق سراح الأسرى المسلمين، أن أمراء وخلفاء بني أمية بالأندلس عرف عنهم أن أعظم هدية يقدمها لهم ملوك نصارى الشمال هي إطلاق مجموعة من الأسرى المسلمين، من ذلك أن القومس بون فلي بن سندريط Sinderedo وصل إلى قرطبة سفيراً من قبل بريل بن شنير حاكم برشلونة، وذلك في نهاية شعبان سنة 360هـ (971م) وتقرب إلى الخليفة الحكم المستنصر بتقديم هديته التي هي عبارة عن ثلاثين أسيراً مسلماً مابين ذكر وأنثى وذلك لعلمه أن هذه الهدية هي أفضل مايبتهج به الخليفة ويكافئ عليه2.   1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 954. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 20-21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 المبحث الثاني: خطة الأسطول 1 إن المتأمل في جغرافية الأندلس، يدرك أن لامناص لأهلها من توجيه العناية التامة بالبحر وما يتعلق به، سواء تم ذلك بتنظيم رسمي أو شعبي. ورغم وجود كافة الدوافع الضرورية الكفيلة بقيام بحرية قوية في الأندلس إلا أن الدولة الأموية في بداية عهدها لم تلق بالاً لهذه المسألة، فلا نجد أثراً لأسطول بحري منظم، يكون مكملاً للقوة البرية الدولية2. إلا أن ذلك لا يعني أن الأندلس كانت في عهد الولاة خالية من مراكب بحرية تجري بين العدوتين، يدل على ذلك أن بلج بن بشر القشيري عندما أراد دخول الأندلس، أنشأ قوارب واستعان ببعض مراكب البحارة وبذلك تمكن من دخول الأندلس3. كما أن المركب الذي أوصل الأمير عبد الرحمن الداخل الأندلس، كانت تحت قيادة رجل يدعى أبا فريعة، كان له بصر في ركوب البحر4، وهذا مما يدل على وجود رجال ذوي خبرة في المجال البحري.   1- عن مصطلح كلمة "الأسطول" ومدلولاتها وأصلها. انظر: د. علي محمود فهمي: التنظيم البحري الإسلامي في شرق المتوسط، من القرن 7 حتى القرن 10م، (ترجمة: د. محمود عبده قاسم، دار الوحدة، بيروت 1402هـ 1981م) ص 137-140. 2- د. حسين مؤنس: المسلمون في حوض البحر المتوسط ص 12. 3- ابن القوطية ص 16. 4- المصدر السابق ص24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 ويبدو أن هناك أسباباً حالت دون قيام أمراء قرطبة بإنشاء قوة بحرية تحمي سواحل إماراتهم، فالمتصفح لعهد الأمير عبد الرحمن الداخل، على سبيل المثال، يجد أنه مليء بالفتن الداخلية والحروب الخارجية، وهذه المشاكل استمرت طيلة عهده، ولا يخفى ما لمثل هذه المشاكل من أثر سيء على التنمية الداخلية لأي دولة كانت. يضاف إلى ذلك أن الممالك والأمارات النصرانية الشمالية المجاورة للدولة الأموية بالأندلس، لم تكن لها سمعة في المجال البحري، حتى يحسب الأمويون حسابها، في حين أن السواحل الجنوبية كانت تطل على بلاد إسلامية، لذا أمن الأمويون من المخاطر التي تأتيهم عن طريق السواحل. هذه الأسباب تضافرت فيما بينها، لتقف حائلاً دون التبكير في قيام قوة أموية بحرية. لكن هناك خبر أورده شكيب أرسلان ذكر فيه: أن الأمير عبد الرحمن الداخل قد بث الحركة والحيوية في مراسي طركونة1 وطرطوشة وقرطاجنة واشبيلية والمريه وغيرها2.   1- طركونة "Tarragona" مدينة ساحلية قديمة، على البحر المتوسط، اشتهرت بإنتاج الرخام المحكم الصبغة، ولها أحواز كثيرة وحصون منيعة تتصل بنواحي برشلونة وتبعد عنها بنحو مائة كيلو متر، وقد خرجت طركونة من أيدي المسلمين سنة 472هـ، انظر، وصف الأندلس للرازي، ص 73. تعليق منتقى، ص286، ذكر بلاد الأندلس، 1،72 الروض المعطار، ص392، الأثار الأندلسية الباقية، ص117-118. 2- تاريخ غزوات العرب ص 139. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 ومهما يكن من ملاحظات على هذا الخبر1، إلا أنه يفيد أن بني أمية بقرطبة كانوا مدركين لأهمية التكامل بين القوتين البرية والبحرية، وأنهم كانوا بانتظار الفرصة المناسبة لايجاد التوازن بينهما من خلال إنشاء أسطول بحري يحمية سواحل بلادهم. وأما ما ذهب إليه بعض المختصين بالدراسات الأندلسية، من أن التقارب بين أمراء قرطبة وأباطرة بيزنطة، واشتراكهم في معاداة العباسيين، قد طمأن بني أمية بأن سواحلهم في مأمن من أي هجوم طارئ2، فهي وجهة نظر لا يمكن الأخذ بها، إذ لم تورد المصادر التاريخية ما يدل على قيام أي من الأمويين أو البيزنطيين بعمل عسكري ضد العباسيين لصالح الطرف الآخر. وإذا كانت دولة بني أمية بالأندلس قد تأخرت في إنشاء أسطول بحري منظم، فإن ذلك لم يحل دون قيام جماعات بحرية، كان لها حضوراً مميزاً في المجال البحري، أثبتت فيه كفاءتها القتالية، وأصبحت حامية   1- ذكر أرسلان في المرجع السابق ص 139، أن الأمير الداخل قام بهذه الأعمال سنة 793م (176-177هـ) وهذا كما يتضح من التاريخ بعد عهد الأمير الداخل. 2- د. السيد عبد العزيز: د. أحمد العبادي: تاريخ البحرية الإسلامية في المغرب والأندلس 2/148. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 للسواحل الشرقية للأندلس، بل إنها كانت تقوم بمهاجمة موانئ الإمبراطورية الفرنجية1. وبقدر ما كان الساحل الشرقي للأندلس يعج بالحركة وتحميه المراكب، إلا أن الساحل الغربي كان مكشوفاً لا حماية له، بل إن وضع البحرية الأموية في الأندلس ككل انكشف عند هجوم سفن النورمانديين على الأندلس. ففي يوم الأربعاء أول ذي الحجة سنة 229هـ2 (20 أغسطس 844م) ظهرت أمام سواحل اشبونة، مراكب الغزاة النورمانديين، فسارع عاملها وهب الله بن حزم بإرسال كتاب إلى الأمير عبد الرحمن الأوسط ذكر فيه أنه حل بالساحل قبلة أربعة وخمسون مركباً من مراكب المجوس3، معها أربعة وخمسون قارباً4، فكتب إليه الأمير عبد الرحمن الأوسط وإلى كافة عمال السواحل يأمرهم بالتحفظ وأخذ الحيطة اتقاء   1- انظر: تاريخ العرب العام، ص 311، القوى البحرية، ص162-164، 229-230، تاريخ غزوات العرب، ص140-142،150. أثر ظهور الإسلام في البحر المتوسط، ص121. بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته، ص614. جزر الأندلس المنسية، ص64،66،70. 2- غارات النورمانديين على الأندلس ص 31. 3- المقصود به هم النورمانديين، فقد كان المسلمون يطلقون عليهم اسم المجوس، لأنهم كانوا يشعلون النيران في كل موضع يمرون فيه، لأجل ذلك حسبهم المسلمون مجوساً، انظر المرجع السابق ص24. 4- البيان المغرب، 2/87. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 شر المفاجآت، إلا أن النورمنديين هاجموا إشبونه لكنهم اضطروا لمغادرتها نتيجة المقاومة العنيفة من أهلها1 فسارت مراكب النورمانديين إلى الجنوب بمحاذاة الساحل، فدخل بعضها قادش وبعضها شذونه2، ولكن معظم المراكب تجمعت عند مدخل الوادي الكبير، حيث تقدمت نحو اشبيلية، فاحتلوا جزيرة قبطيل3 "Cabtel" في اليوم الثامن من شهر محرم سنة 230هـ (سبتمبر 844م) ونظراً لما تمتاز به هذه الجزيرة من وفرة الخيرات4 فقد تحصن بها النورمانديين، واتخذوا منها مركزاً لانطلاق هجماتهم على اشبيلية، وبعد ثلاثة أيام دخلوا قرية قورية "Coria Del Rio" الواقعة على بعد اثنى عشر ميلاً من اشبيلية، وذلك في يوم الاثنين الثاني عشر من محرم، وفي اليوم الثالث عشر دخلوا قرية طلياطه5   1- نصوص عن الأندلس ص98. 2- البيان المغرب 2/87. 3- نصوص عن الأندلس ص98. قبطيل، تكتب باللاتينية Capirale وكلمة قبطيل تعني القناة، والقبطيل بالأندلس هو مفرغ وادي طرطوشة في البحر، ويعرف أيضاً بالعسكر لأنه موضع عسكر بن النورمانديون واحتفروا حوله خندقاً. انظر، الروض المعطار، ص154 والحاشية رقم 2 ص 98. 4- غارات النورمانديين ص32. 5- نصوص عن الأندلس، ص 99، الروض المعطار ص 395. غارات النورمانديين، ص37 حاشية رقم 1 طلياطه، قرية كانت على سبع مراحل شمال اشبيلية، وتسمى اليوم Tejada وهي اليوم خرائب مهجورة Despolado على بعد 30 كيلو متراً شمال غربي اشبيلية. انظر الحلة السيراء 2/183، حاشية رقم 2. الروض المعطار، ص 395. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 "Tliata" فارتج أهلها وأخلوها إلى جبالها وإلى قرمونة1، وفي يوم الأربعاء الرابع عشر من محرم سنة 230هـ2 (سبتمبر 844م) وصل النورمانديون اشبيلية في مراكبهم ذات الأشرعة السود التي "كأنما ملأت البحر طيراً جوناً كما ملأت القلوب شجواً وشجوناً3" فدخلوا اشبيلية وقتلوا من المسلمين أعداداً كبيرة، وأقاموا فيها بقية يومهم ثم غادروها من الغد4. بعد هذه الأحداث وصلت القوات الأموية، قادمة من قرطبة وعلى رأسها أربعة قادة من كبار رجالات الأمير عبد الرحمن الأوسط5، فنزلوا بمن معهم في موضع يقال له مشدوم، يقع شرقي اشبيلية وجرت معركة بينهم وبين النورمان قتل فيها منهم نحو سبعين رجلاً، ثم انهزموا ولجأوا إلى مراكبهم، فأحجم قادة الجيش الأموي عن مطاردتهم مكتفين بما ألحقوه بهم من هزيمة سريعة6، فغضب الأمير عبد الرحمن من تصرفهم وأمرهم بالعودة إلى قرطبة وأرسل قوة عسكرية بقيادة محمد بن سعيد بن رستم   1- ابن القوطية ص 63. 2- المغرب في حلى المغرب: 1/49. 3- البيان المغرب 2/87. 4- نصوص عن الأندلس، ص 99، المغرب في حلى المغرب 1/49. 5- هم: عبد الله بن المنذر وعيسى بن شهيد وعبد الواحد بن يزيد الأسكندراني وعبد الرحمن بن كليب بن ثعلبه. 6- نصوص عن الأندلس، ص 99. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 ومعه بعض الوزراء ومن توافد على قرطبة من رجال الكور، فنزل الجميع في قرمونة1، وقدم موسى بن موسى القسوي بمن معه من رجال الثغر الأعلى2 بعد أن استنجد به الأمير عبد الرحمن للمساهمة في دفع أولئك النورمانيين، وقد ذكر ابن القوطية، الذي انفرد بذكر مشاركة موسى في قتال النورمانيين، أن موسى عندما وصل إلى قرمونة لم يختلط بقوات الإمارة، بل انعزل جانباً3، رغبة منه في عدم الوقوف تحت راية نصر الفني كبير رجال قصر الأمير عبد الرحمن الأوسط4. واجتمع موسى بالوزراء قادة الجيش الأموي وعلى ضوء المعلومات المتوفرة وضع خطة عسكرية محكمة، فتمكن المسلمون من طرد النورمانديين من اشبيلية5، وفرضوا عليهم حصاراً قوياً في طلياطه التي لجأوا إليها، وتم نصب المجانيق على جانبي الوادي الكبير، فقتل من الغزاة نحو خمسمائة6، بما فيهم قائدهم7، فلاذ باقيهم بالفرار بعد أن وصلت   1- ابن القوطية ص 63. 2- ذكر ابن سماك العاملي أن قائد الجند بسرقسطة قاعدة الثغر الأعلى كان أحد الثلاثة الذين يعمد الأمير أو الخليفة الأموي بالأندلس إلى استشارتهم في معضلات الأمور التي تهم الدولة. انظر: الزهرات المنثورة: الزهرة الثالثة والثمانون. 3- تاريخ افتتاح الأندلس ص63. 4- غارات النورمانديين على الأندلس ص 36. 5- المطرب، ص130. تاريخ البحرية الإسلامية: 2/157. 6- نصوص عن الأندلس ص 100. 7- المطرب ص 130، تاريخ البحرية الإسلامية 2/157. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 قوات إضافية حكومية، حيث واصل من نجا من النورمانديين فرارهم نحو أشبونه، ومنها عادوا أدراجهم إلى مواطنهم الأولى1. وهناك مجموعة من الغزاة لم تتمكن من الرحيل إلى بلادها، ولذا فقد تحصنوا في جزيرة قبطيل، فحاصرهم القائد ابن رستم فاستسلموا، ودعاهم إلى الدخول في الإسلام فاستجابوا، واستقروا في جنوب مدينة اشبيلية، واشتغلوا بتربية الماشية، وذاعت شهرتهم بصناعة اللبان وأجود أنواع الجبن2. ولقد استوعب الأمير عبد الرحمن الأوسط الدرس الذي لقنه إياه النورمانديون، فأصدر أوامره بتسوير إشبيلية، وكان صدور هذا القرار بمشورة من الفقيه عبد الملك بن حبيب الذي كتب للأمير عبد الرحمن، وكان في ذلك الوقت مشتغلاً بزيارة جامع قرطبة.." إن بنيان سور اشبيلية وتحصينها أوكد عليه من بنيان الزيادة في المسجد الجامع3" ثم أصدر قراراً آخر يقضي بتحصين السواحل الغربية والجنوبية الغربية للأندلس فأنشأت الرباطات والمحارس من اشبونة إلى إلى أرقش، وتسابق   1- نصوص عن الأندلس ص 100. 2- تاريخ المسلمين وأثارهم في الأندلس ص 237. L.provoncal Op. Cit v.I p: 244. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 244. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 المجاهدون في سبيل الله إلى سكني تلك الأربطه والمحارس حفاظاً على أرواح المسلمين1. وذكر ابن القوطية أن الأمير عبد الرحمن الأوسط قد أصدر أوامره بإنشاء دار صناعة بإشبيلية2 وبالرغم من أهمية هذا الخبر، إلا أنه يجب أن نأخذه بحذر، إذ أنه يتعارض مع خبر سابق أورده ابن القوطية نفسه، وذلك عندما ذكر أن سارة القوطية بنت المند قد أنشأت مركباً بإشبيلية، وذهبت به إلى الشام، حيث قابلت الخليفة هشام بن عبد الملك بدمشق ورفعت إليه ظلامتها بسبب اعتداء عمها ارطباس عليها3، ومن خلال هذا الخبر يمكن القول بأن داراً للصناعة بإشبيلية كانت قائمة قبل بني أمية إلا أنها تعطلت لسبب من الأسباب وظلت كذلك حتى أعاد الأمير عبد الرحمن الأوسط تشغيلها مرة ثانية فنسبت إليه4. كما وجه الأمير عبد الرحمن الأوسط عنايته لثغر طرطوشة، واتخذ منها قاعدة من قواعد الأسطول التابع لإمارته، ومن أجل ترغيب رجال البحر الأندلسيين المتواجدين بالقرب من ذلك الثغر، فقد أمد عامله على طرطوشة عبيد الله بن يحيى بن خالد بالأموال والجند، وبتشجيع من الأمير قام العامل بإجراء القطائع على المرابطين بالساحل لديه، كما صرف لهم الرواتب والنفقات   1- غارات النورمانديين على الأندلس ص 41. 2- تاريخ افتتاح الأندلس ص 67. 3- المصدر السابق ص 5. 4- تاريخ البحرية الإسلامية 2/161. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 والعلوفات مما في يده من مال إمارة قرطبة1، كل هذا ترغيباً من الأمير عبد الرحمن الأوسط لرجال البحر الأندلسيين للعمل بقواته واستعانة منه بخبرتهم البحرية لإدارة أسطوله الناشئ. ومما يدل على وعي الأمير عبد الرحمن الأوسط في كيفية انتقاء الرجال، أنه استفاد من تجربة أسلافه بالمشرق عند إنشائهم للبحرية هناك2. فكما أن الأمويين في الشام اعتمدوا على القبائل اليمنية في هذا المجال، نجد الأمير عبد الرحمن الأوسط يعمد إلى جماعة من بني سراج القضاعين نزلوا في بسيط ساحل يعرف ببجانة Pichina يقع بالقرب من مصب وادي أندرش Rio Andarax شرقي المرية فيكلفهم بالمرابطة على الساحل وحراسته ضد أي اعتداء خارجي3، وقد عُرفت المنطقة التي أصبحت تحت حماية بني سراج بـ"أرش اليمن أي أعطيتهم ونحلتهم4" فهم يستثمرون المنطقة ويتمتعون بخراجها مقابل حمايتهم للساحل. وقد شهدت البحرية الأموية في الأندلس تطوراً كبيراً في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط مما مكنها من تحقيق حضور قوي في عدة ميادين   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 6. 2- عن نشأة البحرية لدى الأمويين في الشام، انظر، تاريخ البحرية الإسلامية 1/15-28. 3- مؤنس المسلمون في حوض البحر المتوسط ص 123. 4- العذري، ترصيع الأخبار ص 92، الروض المعطار ص 79. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 ححربية لعل من أهمها ما وقع سنة 234هـ (848م) عندما توجه الأسطول البحري الأموي المكون من ثلاثمائة سفينة لتأديب أهل جزيرتي ميورقة ومنورقة وفي ذلك يقول ابن حيان عند حديثه عن أحداث هذه السنة "وفيها أغزى الأمير عبد الرحمن أسطولاً من ثلاثمائة مركب إلى أهل جزيرتي ميورقة ومنورقه لنقضهم العهد وإضرارهم بمن يمر إليهم من مراكب المسلمين ففتح الله للمسلمين عليهم وأظفرهم بهم فأصابوا سباياهم وفتحوا أكبر جزائرهم1". وعندما تولى الإمارة الأمير محمد بن عبد الرحمن سار على نهج والده في ضرورة الاستعداد البحري الدائم فأخذ يقوي أساطيله حتى أنه أنشأ سبعمائة غراب2 فأصبحت القطع البحرية تقوم بما يمكن تسميته بوحدات دورية تقوم بمهام خفر السواحل إذ أنها تمسح السواحل المطلة على البحر المتوسط والمحيط إلى سواحل جليقية جيئة وذهاباً ترقباً لوصول أي غزاة. ولذا عندما قام النورمانديون بهجومهم الثاني على السواحل الأندلسية سنة 245هـ (859م) وجدوا البحر محروساً ومراكب الأمير محمد فيه جارية مابين حائط أفرنجية في الشرق إلى أقصى حائط غليسية في الغرب3 وجرت صدامات عسكرية حاول فيها الغزاة تكرار فعلتهم   1- المقتبس تحقيق د. محمود مكي ص 2-3. 2- ابن الكردبوس ص 57. المؤنس ص99. 3- المقتبس تحقيق د. محمود مكي ص 308. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 الأولى، لكنهم لم ينجحوا رغم استشهاد بعض المسلمين بسببهم1، فعاد الغزاة أدراجهم من حيث قدموا بعد أن خسروا بعض مراكبهم وعدد من مقاتليهم2. وقد ورد لدى ابن حيان3 والعذري4 أن مراكب النورمانديين ظهرت في سنة 247هـ (861م) قبالة الساحل الأندلسي وبالتحديد بالقرب من الجزيرة الخضراء لكنهم وجدوا السواحل تخضع لحراسة مشددة كما أن أمواج البحر حطمت لهم أربعة عشر مركباً، فآيسوا من غزوتهم هذه ولذا سارعوا بالعودة من حيث أتوا. وبصفة عامة، فقد اشتدت الرقابة على السواحل الأندلسية بحيث يتم رقع كل خبر عنها صغير أو كبير إلى الأمير محمد بن عبد الرحمن، بل لقد بلغ الأمر بعامل بجانه عمر بن أسود الغساني أن رجاله وجدوا بالقرب من الساحل خشبة فأخذوها، فكتب العامل كتاباً بخبرها وطولها وعرضها ورفعه للأمير محمد، الذي شكر لعامله مدى استقصائه في ضبط ثغره   1- انظر نصوص عن الأندلس ص 119 ابن القوطية ص68. المقتبس تحقيق د. محمود مكي ص 308-309. الروض المعطار، ص223، تاريخ البحرية الإسلامية 2/170. 2- انظر التفاصيل في المقتبس، تحقيق د. محمود مكي ص 309، دولة الإسلام في الأندلس ع1ق1ص297. غارات النورمانديين على الأندلس ص72. 3- المقتبس تحقيق: د. محمود مكي ص311. 4- نصوص عن الأندلس ص 119. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 والاهتمام بما يوكل إليه1، وأورد الحميري في روضه2 تفصيلات مهمة في هذا المجال فقد ذكر أن حكومة بني أمية بقرطبة ماكانت تسمح لأحد بمغادرة الأندلس إلا بسراح أي تصريح رسمي ولا تأذن لأحد بالدخول إلى البلاد إلا بعد أن يعرف من هو ولماذا هو قادم ومن أين أتى وإذا وجد قارب يزيد طوله على اثني عشر ذراعاً ممسوح العجز نقض ورد إلى الطول المسموح به وهو اثني عشر ذراعاً مما يدل على أن هناك شكل مميز للقارب الأندلسي. هذه الصرامة في ضبط السواحل ضمنت للأندلس الأمان من أي طارق يأتي عن طريق البحر من أي جهة كانت ولم يركن الأمير محمد بن عبد الرحمن الذي امتاز باليقظة وترك الدعه إلى هذه الإحتياطات فقد أقام داراً للصناعة في قرطبة وعقد لواءاً لقائده عبد الملك بن عبد الله بن محمد بن عبد الحميد بن مغيث سنة 266هـ (879م) وذلك لغزو جليقية من ناحية المحيط الأطلسي، ورغم الأموال التي بُذلت على هذه الحملة والبروز الفخم الذي برز فيه القائد ابن مغيث والذي يصفه ابن حيان بأنه أفخم   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي 133-134، حاشية رقم 4. 2- الروض المعطار ص 80. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 خروج خرج به قائد من قرطبة1 إلا أن الحملة فشلت نتيجة لغرق الكثير من المراكب بمن فيها في المحيط ونجا القائد ابن مغيث مع بعض رجاله2. ومن الدلائل الأكيدة على قوة البحرية الأموية في الأندلس في عهد الأمير عبد الله بن محمد يقامها بإخضاع جزر البليار لسيطرة حكومة قرطبة، إذ يبدو أن أهل تلك الجزر قد نقضوا عهداً سبق إبرامه بينهم وبين المسلمين3 ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن فتح جزر البليار على عهد الأمير عبد الله جاء نتيجة دراسة دقيقة قام بها عصام الخولاني4 الذي نجح بعد عودته إلى الأندلس في إقناع الأمير عبد الله بضرورة فتحها فاقتنع بكلامه "وبعث معه القطائع في البحر ونفَّر الناس معه إلى الجهاد5 "فاتجه عصام سنة "290هـ (902م) " على رأس أسطول معظم أفراده من المتطوعين   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 398. 2- المصدر السابق ص 398-399، البيان المغرب 2/103-104 إلا أنه جعل اسم القائد: عبد الحميد الرعيطي. 3- جزر الأندلس المنسية ص 88. 4- يذكر ابن خلدون أن عصام الخولاني خرج في مركب يريد الحج، فعصفت الريح بمركبه، فنزل هو ومن معه في جزيرة ميورقه، فطال مقامهم فيها، واطلعوا خلال هذه المدة على أحوال الجزيرة وخيراتها، مما أطمعهم في فتحها، انظر: تاريخ ابن خلدون 4/164. 5- تاريخ ابن خلدون 4/164. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 والمرابطين على السواحل الشرقية للأندلس، فحاصرتها هذه القوات عدة أيام وأتمت فتحها حصناً حصناً1. ويجدر بنا قبل أن ننهي الحديث عن البحرية في الأندلس في عهد الإمارة أن نشير بصورة سريعة إلى النشاط البحري في بجانة فقد شهدت المدة الأخيرة من عصر الأمير محمد بن عبد الرحمن قيام قوة بحرية في بجانة شرقي وادي أرش اليمن2 فخططوا مدينة بجانه على مثال قرطبة وطردوا منها مشاهير العرب3، بعد أن استمالوا العناصر المحلية مستغلين في ذلك سوء التفاهم الذي جرى بين أولئك العرب والمحليين4 ويذكر الحميري أن هؤلاء البحريين استأذنوا الأمير محمد بن عبد الرحمن في أن يعقد لرجل منهم يتولى رئاسة بجانة وذلك سنة 276هـ (889م) 5 فوافق على اقتراحهم والشيء الملاحظ أن التاريخ الذي ورد جاء بعد وفاة الأمير محمد إذ أنه توفي سنة 273هـ لكن لعل الصواب أن الحادثة جرت سنة   1- نفس المصدر والصفحة. 2- عن أصول هؤلاء البحريين وكيف استقروا في بجانة انظر: إحسان عباس اتحاد البحرين في بجانة بالأندلس، (مجلة الأبحاث عدد كانون الأول السنة 23 ج1-2 بيروت 1970م) ص7-8،. 3- الروض المعطار ص 80. 4- اتحاد البحرين في بجانة ص 8. 5- الروض المعطار ص 80. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 271هـ1 وأما الموافقة على الاقتراح الذي تقدم به بحريو بجانه والذي يعني تمتعهم بحكم ذاتي يكفل لهم تقدير خضوع اسمي فقط لحكومة قرطبة، فقد جاء نتيجة وقوع حكومة قرطبة تحت ظروف طائلة لا يتيح لها فرصة الاختيار2، وقد ظلت بجانة متمتعة في ظل رجالها البحريين بحكم ذاتي وتعاقب على رئاستها عدة ولاة لا دور لحكومة قرطبة في تعيينهم سوى العقد لهم3 إلى أن تمكن الخليفة عبد الرحمن الناصر من إخضاعها لسيطرة قرطبة وإنها الحكم الذاتي وذلك عندما عين محمد بن رماحس والياً عليها من قبله دونما اقتراح من أهل بجانة وذلك سنة 328هـ (939م) 4.   1- المصدر السابق والصفحة حاشية رقم 1. 2- عن هذه الظروف والأحداث انظر: ابن القوطية، ص88-93، 98-100. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص307-309، 319-320، 321،324-326، 330،341-342،349-355، 358، 393-396. نصوص عن الأندلس، ص32، 34-35، 36، 118-119. الكامل: 6/196،273،343. البيان المغرب 2/99،100-101،103،105،106. نهاية الأرب 23/389،391. 3- قام بحريو بجانه بدور كبير في صد الهجوم الذي شنه الكونت سنتير Sunier صاحب برشلونة سنة 299هـ عندما قام بمهاجمة السفن الإسلامية الراسية في خليج المرية وأحرق عدداً كبيراً منها، ثم حاول دخول بجانه بكن تصدي المسلمين له أجبره على الانسحاب بعد أن وقع الصلح مع عبد الرحمن بن مطرف الحاج أحد القادة البحريين في بجانه. انظر المقتبس نسخة انطونيه ص 89. 4- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 462، اتحاد البحريين في بجانة ص9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 البحرية الأموية في عصر الخلافة عندما بويع الأمير عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بالإمارة سنة 300هـ (912م) كانت الأندلس تعج بالفتن والاضطرابات في كافة أرجائها، ومما جعل الأمر يزداد سوءاً بالنسبة له، هو قيام الدولة العبيدية في إفريقية على انقاض الدولة الأغلبية سنة 296هـ1 (909م) ، ومكمن الخطورة هنا يتمثل في أن العبيديين ورثوا الأسطول البحري للأغالبة، وهو أسطول كان له مجده وحضوره المميز في البحر الأبيض المتوسط وجزائره إبان عهد الأغالبة2. وقد جرى اتصال بين ابن حفصون المتمرد في الجنوب الأندلسي، وبين عبيد الله المهدي الخليفة العبيدي، تأصلت على إثر ذلك العلاقات بين الطرفين3، وأصبحت مراكب ابن حفصون تصل إليه قادمة بالميرة من العدوة المغربية، حتى أن الأمير عبد الرحمن بن محمد عندما دخل الجزيرة الخضراء يوم الخميس لأربع خلون من ذي القعدة سنة 301هـ (يونيو 914م) وافق دخوله الجزيرة وصول عدة مراكب لعمر بن حفصون قادمة من العدوة المغربية وهي تحمل الميرة إليه، فلما عرفوا بخبر الناصر هربوا   1- المقريزي، إتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، (تحقيق: د. جمال الدين الشيال، منشورات لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1387هـ 1967م) 1/63. 2 ـ د. محمد الطالبي، الدولة الأغلبية، (ترجمة د. المنجي الصيادي، دار الغرب الإسلامي بيروت 1985م) . ص425-580. والمصادر المذكورة لديه. 3- أعمال الأعلام 2/32. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 بمراكبهم إلى عرض البحر، فأدركهم رجال الناصر وأعادوهم إلى الجزيرة الخضراء، حيث تم إحراق تلك المراكب جميعاً أمامه1. هذه الحادثة جعلت الأمير الأموي يدرك أهمية البحر، فاستعد للأمر، وأخذ يعمل بجد على ضبط سواحل دولته وفرض كلمته على المياه المحيطة بها، لأجل ذلك قام باستقدام الكثير من قطع الأسطول الأموي المرابطة بمالقة واشبيلية وغيرهما، فحضرت إليه فجعل بعضها ترابط قبالة ساحل الجزيرة الخضراء وهي مستعدة بالرجال وقوارير النفط والآلات الحربية الخاصة بالبحر، كما أمر القسم الباقي من رجال الأسطول الأموي من عرفاء بحريين ونواتيه بالدخول إلى مراكبهم، والقيام برحلات دورية على طول الساحل الجنوبي الشرقي للأندلس، وذلك من ساحل الجزيرة الخضراء وحتى ساحل تدمير2، وبهذا الإجراء أصبحت المراكب لا تستطيع أن تسخدم المرافئ البحرية الأندلسية إلا إن كانت تدين بالطاعة لحكومة قرطبة3. وقد ذكر الحميري أنه كان في الجزيرة الخضراء "دار صناعة بناها عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين للأساطيل، وأتقن بناءها وعالي   1- المقتبس تحقيق: شالميتا ص 87. 2- المصدر السابق، ص87-88. قارن تاريخ ابن خلدون 4/139. د. السيد عبد العزيز سالم، المغرب الكبير، 2/610. 3- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 88. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 أسوارها"1، ويبدو أن السبب في إقامة هذه الدار في الجزيرة راجع إلى أن مرساها أيسر المراسي للجواز وأقربها من بر العدوة2، ولتقف بقوة أمام دار الصناعة الضخمة التي أقامها عبيد الله المهدي في المهدية3. واجتهد الأمير الأموي بتقوية أساطيله، وبلغ به الأمر أنه كان لا يترك لعمال دور الصناعة فرصة للراحة4 كما اهتم ببجانة وأسطولها البحري5، وبواسطة القوة البحرية التي طورها سواء في الجزيرة الخضراء أو غيرها، تمكن من الاستيلاء على بعض ثغور ساحل العدوة المغربية المقابل للسواحل الأندلسية، فبسط نفوذه على مليله سنة 314هـ6 (926م) وعلى سبته في يوم الجمعة صدر ربيع الأول سنة 319هـ (مارس931م) . وعندا استنجد موسى بن أبي الغفافية بالخليفة عبد الرحمن الناصر، ليمده بقوة عسكرية تمكنه من القبض على الحسن بن عيسى بن أبي العيش، بعث إليه الخليفة بقوة عسكرية غادرت إلى مياه العدوة المغربية بواسطة الأسطول الأندلسي، وذلك في يوم السبت لليلتين خلتا من   1- الروض المعطار ص 223. 2- المصدر السابق والصفحة. 3- اتعاظ الحنفا، 1/70. 4- في تاريخ المغرب والأندلس ص 199-200. 5- الروض المعطار ص 80. 6- المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب ص 89. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 جمادى الأولى سنة 319هـ 1 (مايو 931م) وقد وصف ذلك الأسطول بأنه أفخم أسطول أجراه ملك من قبل، فقطعه متكاملة وعدده متواترة، انتهى عدد قطعه إلى مائة وعشرين قطعة، مع الحمالة والفتاشة وقوارب الخدمة، وكان عدة من ركبه نحو سبعة آلاف رجل، خمسة آلاف من البحريين، وألف من الحشم، وغزا فيه من وجوه أهل بجانة والمرية تطوعاً في مراكبهم تسعة رجال2 وتولى قيادة الأسطول أحمد بن محمد بن إلياس، وسعيد بن يونس بن سعديل3. وبعد ذلك أخذت مرافئ العدوة المغربية تخضع تباعاً لكلمة الخليفة عبد الرحمن الناصر، وذلك بفضل وجود أساطيل قوية تحت سيطرته وقادة أكفاء ورجال بحر مدربين، ففي سنة 322هـ (934م) اتجه عبد الملك بن سعيد بن حمامة على رأس الأسطول الأموي فأخضع أصيلة4، وفي العاشر من شهر رمضان من العام التالي صدر أمر الخليفة الناصر للقائد ابن أبي حمامة بالتوجه إلى سبتة وطنجه، فسارع بتنفيذ الأوامر رغم أنه كان عند صدور الأمر إليه في سواحل برشلونة يؤدي مهمة عسكرية كان قد   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 289. المغرب في ذكر بلاد إفريقة والمغرب ص104. 2- منهم، محمد بن رماحس، وإبراهيم بن يزيد الرداد، وقاسم بن عبد الرحمن، ومحمد بن سهل أخو هارون وغيرهم، انظر المقتبس تحقيق شالميتا ص 313. 3- المصدر السابق ص 312-313. 4- نفسه ص 347. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 بدأ بها منذ شهر رجب من تلك السنة1، فتمكن القائد ابن أبي حمامة من إخضاع طنجه، وظل متردداً بين المرافئ الساحلية للمغربين الأقصر والأوسط إلى أن ضمن خضوعها لحكومة قرطبة ثم عاد إلى الأندلس في شهر صفر سنة 324هـ (يناير 936م) 2. هذه المهام الحربية التي كان الأسطول الأموي يقوم بها في الثغور الساحلية للمغربين الأوسط والأقصى، هي في حقيقتها مجابهة حربية مع الأسطول العبيدي، وسيتواصل الاصطدام بين الأسطولين مرات عديدة أفضل إيرادها وفق التسلسل التاريخي لها. والأحداث التي شهدتها السنوات الأول من عصر الخليفة الناصر لم تجعله يغفل عن حقيقة البحريين في بجانة، وأنهم يعيشون أشبه ما يكون في ظل حكم ذاتي، ولذا قرر الخليفة إزالة هذه الصفة عنهم، ففي سنة 328هـ (939م) أصدر أوامره بتعيين محمد بن رماحس والياً على بجانة3، وفي العام التالي ضمت إلبيرة والمرية إلى نظر محمد بن رماحس بجانب إشرافه على بجانة4، وأصبحت منطلقاً للهجمات البحرية التي كان يشنها محمد بن رماحس، ففي سنة 328هـ (940م) كانت له   1- نفسه ص 366-368. 2- نفسه ص 368-369. 3- نفسه ص 462. 4- نصوص عن الأندلس ص81. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 حملة بحرية وصل بها إلى أتيورياس1، وفي يوم الاثنين 12 شوال من سنة 331هـ (20 يوليو من سنة 943م) غادر المرية في ثلاثين مركباً وستة شواني غزا بها بلاد الفرنجة2، ثم في سنة 332هـ (945م) قاد حملة بحرية مكونة من خمس عشرة قطعة حربية وشينين وفتاش ضد بني محمد بالمغرب3 وفي يوم السبت للنصف من ربيع الأول سنة 334هـ (16 أكتوبر سنة 945م) توجه - أيضاً - ابن رماحس على رأس أسطوله فهاجم أسطول العبيديين المتواجد على السواحل الإفريقية4. وبالنظر إلى هذا الحضور المميز للأسطول الأموي، يمكن القول بأنه قد أصبح لدى الخليفة عبد الرحمن الناصر قوة بحرية مرهوبة الجانب، فقد وصل عدد قطع الأسطول الأموي في عهده نحو مائتي قطعة، يتولى قيادتها محمد بن رماحس5 ومن هنا ذهب بعض الباحثين إلى اعتباره المؤسس الحقيقي للبحرية في الأندلس6. وما كان للبحرية الأندلسية أن تصل إلى ما وصلت إليه في عهد الخليفة الناصر لولا توفر عامل معم في هذا المجال، وأعني به إنشاء دور   1- المصدر السابق والصفحة. 2- نفسه والصفحة. 3- نفسه ص 82. 4- نفسه والصفحة. 5- ابن خلدون المقدمة 691. 6- انظر، تاريخ البحرية الإسلامية 2/175. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 "للصناعة1" ومن الطبيعي ألا تقام دور الصناعة إلا على شواطئ البحار وضفاف الأنهار، إذ أن هذا يكفل للقطع البحرية ميزة استراتيجية تتمثل بسرعة الحركة، مما يعني وفرة في الوقت والجهد، وقد رأينا أهمية موقع دار الصناعة عند حديثنا عن المرية وكيف أنها قد تغلبت على بجانة بسبب نزوح الأخيرة عن الساحل. وقد نشأت بالأندلس عدة دور للصناعة اعتنى أمراء وخلفاء بني أمية بتنظيمها وإقامتها وفق أسس تكفل لهم الغرض من وجودها. من هذه الدور: دار صناعة "الجزيرة الخضراء" و "مالقة2" و"لقنت3"   1- دور: جمع دار، ودار الصناعة يطلق على المكان الذي أعد لصناعة السفن، وقد أخذ الأوربيون اللفظ عن العرب وذلك عن طريق اتصالهم بالأندلس، فعرفت بالاسبانية "Darcinah" فطرأ على هذا اللفظ عدة تغيرات حتى أصبحت تعرف بالأسبانية "Arsenal" "Arsenale" ثم عاد العرب وأخذوها عن الإسبان بلفظ "Tarsanah" معتقدين أنها تركية فعربوها إلى ترس خانة أو ترسانه، وتجدر الإشارة إلى أن لفظ أدميرال "Admiral" مأخوذ عن أمير البحار، انظر جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي: 1/161. 2- ابن الخطيب: معيار الإختيار. (تحقيق د. محمد كمال شبانه،) بدون تاريخ، الإمارات- المغرب ص89.. 3- يذكر الإدريسي أن لقنت مع صغرها فإنها كانت تصنع بها المراكب السفرية والحراريق، انظر: نزهة المشتاق، ص558. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 و"شلب1" و"قصر أبي دانس2"و"دانية3" و"شنتمريه بالبرتغال4" و"شلطيش5" و "المنكب6". وأما "طرطوشة" فقد أنشأ فيها الخليفة عبد الرحمن الناصر داراً للصناعة، ومن الملاحظ أنه رغم صمت المصادر الإسلامية عن تدوين   1- انظر، نزهة المشتاق، ص542. الروض المعطار، ص342. 2- البيان المغرب، 2/295 قصر أبي دانس، حصن في ناحية الجوف في الأندلس، ينسب لبانيه دانس بن عوسجة المصمودي، ويسمى الموضع حالياً "Alcacer de sal" أي قصر الملح، وهو اليوم مركز إداري في مديرية يابرة في البرتغال، وفي منتصف المسافة بين باجه والاشبونة، ولازالت بقية الحصن العربي قائمة فيه. انظر، جمهرة أنساب العرب، ص 501، المقتبس، نشرة أنطونيه، ص254، تعليق منتقى، ص290، الحلة السيراء، 2/272 حاشية رقم 1. الروض المعطار ص475. 3- دانيه دار إنشاء والسفن واردة عليها وصادرة منها، كما أنها مركز من المراكز الرئيسية التي ينطلق منها الأسطول في حملاته. انظر: نزهة المشتاق ص 557. الروض المعطار، ص232. 4- وهذه أحد المواقع المهمة التي تنشأ بها السفن، ومما ساعد على ذلك أن بالقرب منها توجد عدة جزر تنبت شجر الصنوبر. انظر الروض المعطار، ص347. 5- شلطيش "Saltes" هي أكبر الجزر الواقعة على مصب النهر الأحمر Rio Tinto ونهر آخر يسمى الأوديل "Odiel" وشلطيش تقع إلى الغرب من إشبيلية، وتبعد عن جزيرة فارس بمائة ميل اشتهرت بصناعة مراسي السفن، ومما ساعد على ذلك وفرة الحديد بها، وقد خرجت من أيدي المسلمين سنة 646هـ. انظر، نزهة المشتاق. ص542 الحلة السيراء، 2/180 حاشية رقم 4. الروض المعطار، ص343-344. 6- انظر: معيار الاختيار، ص94-96. الروض المعطار، ص548. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 تاريخ إنشائها، إلا أن لوحة تذكارية وجدت مثبتة في الجادر الخلفي للكنيسة العظمى في طرطوشة احتوت على معلومات عن دار الصناعة تلك، فاللوحة المذكورة جاءت مربعة الشكل تقريباً، طول ضلعها خمسين سنتيمتر تقريباً، كتب فيها عشرة أسطر جاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بإنشاء هذه الدار عدة الصناعة والمراكب عبد الله عبد الرحمن أمير المؤمنين أيده الله، فتم بناؤها على يد قائده وعبد هـ عبد الرحمن بن محمد بعون الله ونصره في سنة ثلث وثلثين وثلاثمائة وكتب عبد الله بن كليب1". ومما ساعد على قيام دار الصناعة بطرطوشة وفرة أخشاب الصنوبر بغاباتها وهي أخشاب وصفت بأنها من أنسب الأخشاب لصناعة السفن وذلك لطولها وغلظها وعدم تأثير السوس فيها2 وبالإضافة إلى هذه الإنشاءات الوفيرة أنشأ الناصر أيضاً دار صناعة ضخمة في المرية إذ ثبت أهمية المرية كمنطلق رسمي لحركة الأساطيل منها ومع توالي الأيام أخذت   1- الحلل السندسية، 3/10 حاشية رقم 1. الآثار الأندلسية الباقية ص 121-122. 2- نزهة المشتاق ص555، الروض المعطار ص391. وقد اتبع الأندلسيون في نقل هذه الأخشاب المهمة في صناعة السفن طريقة فريدة، فقد ذكر الإدريسي أن هناك حصن "قلصة" تتصل به جبال كثيرة ينبت فيها شجر الصنوبر على نطاق واسع، فيتم قطع هذه الأشجار، ويتم إلقاء الأغصان الصالحة للصناعة في النهر حيث يحملها بدوره إلى جزيرة شقر ومنها إلى حصن قلبيره، ثم تحملها المراكب إلى دانية فتصنع منها السفن الكبار والمراكب الصغار، انظر: نزهة المشتاق ص560. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 تسحب البساط رويداً رويداً من بجانة التي لا تقع على الساحل مباشرة1 وهذا مما يحرم الأساطيل سرعة الحركة فتنبه لهذا الأمر الخليفة عبد الرحمن الناصر، فأمر بإنشاء مدينة المرية سنة 343هـ (954م) 2، وأنشأ بها داراً لصناعة السفن جاءت على قسمين قسم خاص بالمراكب الحربية وآخر بالمراكب التجارية وأحاطها بسور ضخم منيع3 وبذلك أخذت المرية تزدهر تدريجياً فاتسعت رقعتها ونما عمرانها وأصبحت هي وبجانة كفرسي رهان حيث وصفتا بأنهما "بابي المشرق، منها يركب التجار وفيها تحل مراكب التجار وفيها مرفأ ومرسى للسفن والمراكب4". وبعد أن أصبحت المرية قاعدة رئيسة للأساطيل الأموية أصدر الخليفة عبد الرحمن الناصر أوامره سنة 344هـ (955م) للهيئة المشرفة على دار الصناعة بالمرية بأن ينشأ مركب بحري لم يُصنع مثله من قبل ثم شحنه بالأمتعة ووجهه للمشرق وفي أثناء رحلته تلك صادف المركب بطريقه مركب بحري فيه رسول موفد من قبل الحسين بن علي حاكم صقلية متجه إلى زعيم العبيديين المعز لدين الله فأوقفه أصحاب المركب الأندلسي وصادروا ما فيه من أمتعة وكتب كانت مرسلة للمعز لدين الله   1- تاريخ مدينة المرية ص 20. 2- نصوص عن الأندلس ص86، وورد في الروض المعطار ص537 أنها بنيت سنة 344هـ. 3- نصوص عن الأندلس 86. 4- معجم البلدان: 5/119. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 الذي ما أن علم بهذه الحادثة حتى جهَّز أسطولاً كاملاً وولى عليه الحسين بن علي ووجهه إلى الأندلس فهاجم المرية وتمكن رجاله من التوغل في مرسى المرية فوجدوا عدداً من السفن راسية فيه فأحرقوها ووافق هجومهم قدوم المركب الكبير من المشرق محملاً بمختلف أنواع الأمتعة للخليفة عبد الرحمن الناصر بالإضافة إلى الجواري والمغنيات وغيرهن فاستولى عليه المهاجمون ولم يكتفوا بذلك بل دخلوا المرية وقتلوا ونهبوا ثم غادروا إلى المهدية بسلام1، فجاء رد فعل الخليفة الأموي سريعاً فقد هاجم الأسطول الأندلسي بقيادة أمير البحر غالب بن عبد الرحمن سواحل إفريقية سنة 345هـ (956م) في ستين قطعة حربية ركزت هجومها على مرسى الخرز وساحل سوسه2. وهكذا أصبح للأسطول الأندلسي الكلمة النهائية في المياه المحيطة بالأندلس من الناحيتين الشرقية والغربية، فالقطع الحربية البحرية المرابطة في قاعدة المرية تقف في مواجهة أي اعتداء قد يأتي من قبل العبيديين في حين أن قاعدة إشبيلة البحرية تذود عن الساحل الغربي ضد أي هجوم يقوم به النورمانديون3.   1- انظر الكامل 7/253-254. 2- البيان المغرب، 2/221. تاريخ مدينة المرية ص 39. 3- تجدر الإشارة هنا إلى أن خطر الاعتداءات النورماندية على الأندلس بدأ يأخذ نمطاً آخر غير نمط الهجمات السريعة التي اعتادوا شنها كما في عهد الإمارة والشيء الذي طرأ على وضع النورمانيين يعود سنة 300هـ/912م وذلك عندما استقروا في ولاية نورمانديا "Normandia" في غرب فرنسا نتيجة إقطاع ملك فرنسا شارل الثالث الملقب بالساذج Le-Simple زعيم النورماندية رولون Rollon هذه المقاطعة التي عرفت باسم نورمانديا وقد مكنهم في هذه المقاطعة من شن هجمات برية على الثغر الأعلى للأندلس من ذلك أنهم أسروا يحيى بن محمد بن عبد الملك عامل الخليفة عبد الرحمن الناصر على بربشتر والقصر Alquezar، وذلك يوم السبت لثمان مضين من شوال سنة 330هـ/642م ففداه رجل من التجار بألف مثقال وقدم يحيى إلى بلاط الخليفة الناصر فأمر للذي فداه بتضعيف ما أداه وصرفه إلى بربشتر فدخلها سنة 331هـ. انظر، دراسات في تاريخ المغرب والأندلس ص 274-276. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 وعندما تولى الخلافة الحكم المستنصر ازداد اهتمامه بالأساطيل البحرية وأخذت دور الصناعة تنتج المزيد من القطع البحرية فوصل عددها في عهده إلى ستمائة جفن بين غزوي وغيره1، والسبب في ذلك هو حرصه على استمرارية السيطرة على مضيق جبل طارق2 لخشيته من أي هجوم مفاجئ قد يشنه الأسطول العبيدي ولذا نراه يقوم بزيارة تفقدية لقاعدة المرية، وذلك في شهر رجب من سنة 353هـ (964م) فوقف على ما تم إنجازه من أعمال التحصينات وشاهد حصن القبطة ونظر في الأسطول المرابط هناك وجدده وكانت عدد قطعه في ذلك الوقت ثلاثمائة قطعة3.   1- أعمال الأعلام: 2/42. 2- دراسات في تاريخ المغرب والأندلس ص 278. 3- البيان المغرب 2/236، الإحاطة 1/478-479. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 وقبل ذلك بعدة أشهر كتب الخليفة الأموي لأهل سبتة سجلاً أسقط فيه عنهم الوظائف المخزنية والمغارم السلطانية، وذلك في شهر صفر من سنة 353هـ1 (964م) ، كما أنه اتبع سياسة أبيه في التعامل مع أمراء المغرب ورؤساء قبائله، إذ استخدم معهم أسلوبي الترغيب والترهيب، فاستجاب له أولئك الزعماء وبعثوا إليه بوفودهم2. وكان الخليفة الأموي يخشى من تكرار هجوم النورمانديين على سواحل بلاده، ولعل أول هجوم نورماندي على السواحل الأندلسية في عهد المستنصر بالله تم في أول رجب سنة 355هـ (يونيو 966م) فقد هاجموا الساحل الغربي وركزوا هجومهم على قصر أبي دانس، في ثمانية وعشرين مركباً3، في كل مركب ثمانون محارباً4، ثم واصلوا تقدمهم في سهول لشبونة، حيث تصدى لهم المسلمون فسقط عدد من الشهداء والقتلى، وهنا تحرك الأسطول المرابط بإشبيلية المتخصص في الذود عن الساحل الغربي، فأدرك الغزاة النورمانديين بوادي شلب، فتمكن المسلمون من تحطيم معظم مراكب النورمانديين وقتلوا معظم مقاتلتهم واستنقذوا   1- البيان المغرب 1/227. 2- انظر، المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص27، 39-57، مفاخر البربر، ص5-6 البيان المغرب، 2/239-244. 3- المصدر السابق 2/238-239. 4- دراسات في تاريخ المغرب والأندلس ص286. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 مَنْ بأيديهم من أسرى المسلمين وهرب من بقي من النورمانديين وعادوا إلى ديارهم1. ويبدو أن الخليفة المستنصر لفت انتباهه من جراء التقارير التي ترفع إليه بشكل مفصل عن الهجوم النورماندي الأخير أن مراكبهم البحرية تمتاز بالسرعة الأمر الذي يكفل للمهاجمين سرعة الحركة والمناورة ولذا فقد اتخذ خطوة تدل على متابعة دقيقة لمجريات الأحداث واستيعاب جيد لنتائجها فقد أصدر أوامره لوزير عيسى بن فطيس بإنشاء أسطول بنهر الوادي الكبير تكون المراكب فيه على هيئة مراكب النورمانديين2 ليقاتلهم بنفس سلاحهم إذ أنه كان يتوقع عودتهم لمهاجمة السواحل الأندلسية، ولقد صدق ظنه إذ لم تمض خمس سنوات على هجومهم السابق حتى عاودوا الهجوم مرة أخرى فقد ذكر ابن حيان أنه في صدر شهر رمضان المبارك سنة 360هـ (يوليو من سنة 970م) وصلت الأخبار بظهور النورمانديين في مياه خليج الباسك في طريقهم إلى السواحل الغربية للأندلس فاستدعى الخليفة المستنصر قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس وأمره بالتوجه إلى المرية ليقود أسطولها ويتجه إلى الغرب ثم استدعى الوزير القائد غالب بن عبد الرحمن الذي يبدو أنه القائد العام للقوات المسلحة الأندلسية البرية والبحرية وناقش الوضع معه ثم اتفقا   1- البيان المغرب 2/238-239. 2- المصدر السابق، ص239. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 على خطة معينة يذهب بموجبها الوزير القائد غالب إلى الغرب ليتولى قيادة الجيش براً وبحراً1 ورغم هذا الاستنفار الهائل للأساطيل الأندلسية إلا أنه لم يقع اصطدام بينها وبين المراكب النورماندية وذلك لأن النورماندين نزلوا بساحل جليقية في يوم الأحد الثاني عشر من رمضان سنة 360هـ (يوليو 971م) ثم إنهم دخلوا نهر دويره وتقدموا في غارتهم إلى مدينة شنت بريه "Santaver" لكنهم لم يفلحوا فانصرفوا خائبين2. وقد وصل إلى قرطبة في يوم السبت 25 رمضان سنة 360هـ (يوليو سنة 971م) رسول من القومس غند شلب3 يحمل للخليفة الأموي المستنصر أخبار الغزاة النورماندين ويخبره بعودتهم4 وتجد الإشارة هنا إلى أن الخليفة المستنصر لم يعتمد في تحركاته على الأخبار التي تفد إليه من   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص23-24. 2- المصدر السابق، ص27. 3- قد يكون أصل هذا الاسم Gundislavus ثم أصبح بالأسبانية جونثالو Gonzalo انظر: المقتبس، د. عبد الرحمن الحجي ص 254. 4- المصدر السابق، ص27. ولعل السبب في إرسال هذا الرسول إلى قرطبة لتنبية حكومتها على تحركات النورمانديين، ويعود إلى رغبة "غند شلب" في كسب يد لدى الخليفة المستنصر ليضمن فيما بعد مساعدته إما ضد النورمانديين إذا كرروا غزواتهم أو ضد خصومه من رؤساء وممالك النصرانية. ويرى الدكتور أحمد العبادي أن إرسال الرسول يدل على أن تحالفاً وقع بين الخليفة المستنصر وغندب شلب ليمده الأخير بأخبار النورمانديين الذين تفاقم خطرهم خاصة بعد إقامتهم لقاعدتهم في نورمانديا في فرنسا. انظر: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، ص275. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 غند شلب، فقد كان يعتمد على شبكة منظمة من العيون لها تحركات دقيقة تكفل وصول الأخبار إليه أولاً بأول ولذا فإن عيونه أوصلت إليه خبر النورمانديين قبل وصول رسول غند شلب. ورغم كل ذلك نجد أن الخليفة المستنصر لم يركن للدعة بل واصل تحركاته فأصدر أوامره بتكليف الفَتَيين الجعفريين مباركاً ومبشراً بالذهاب إلى كورة رية وشذونه لشحن الأطعمة منها1 وإرسالها للأسطول في إشبيلية المتأهب للذهاب إلى الغرب وعقب شهر رمضان تحرك قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس بأسطول من بجانه إلى اشبيلية حيث تجتمع الأساطيل ويذهب بها جميعاً لمواجهة النورمانديين2 ويبدو أن ابن رماحس قد مكث في اشبيلية عدة أيام ووصلت خلالها أخبار بعودة النورمانديين إلى ديارهم، ولذا فقد عاد بأسطوله إلى المرية وذلك يوم الاثنين 26 ذي القعدة سنة 360هـ (22سبتمبر 971م) 3. وأما الوزير غالب بن عبد الرحمن الذي خرج للغرب لملاقاة النورمانديين فإنه عاد إلى قرطبة حيث وصل فحص السرادق في يوم الخميس ليلة الجمعة الأول من شهر صفر سنة 361هـ (22 نوفمبر 971م) 4.   1- هذا يدل على وجود مستودعات غذائية ضخمة في هذه الكورة. 2- انظر، المقتبس: تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 27-28. البيان المغرب 2/241. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص58. 4- المصدر السابق، ص66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 وواصل الخليفة المستنصر جهوده في التصدي للنورمانديين، ففي يوم الخميس من شهر رمضان سنة 361هـ (21يونيه 972م) عقد الخليفة في مجلسه اجتماعاً خاصاً مع وزرائه تبودلت فيه الأراء بشأن النورمانديين واتفق الجميع على استدعاء صاحب الخيل الناظر في الحشم زياد بن أفلح وصاحب الشرطة هشام بن محمد بن عثمان فأمرهما الخليفة بالتأهب للخروج على رأس الصائفة المتجهة للغرب، وبعد أن أتما استعدادتهما قابلا الخليفة في يوم الأربعاء 11 رمضان (27 يونيه) فأوصاهما بما شاء وخلع عليهما ثم ودعهما1، فانطلقا مباشرة إلى غايتهما حيث وصلا إلى شنترين فتأكدا من عودة النورمانديين إلى ديارهم وزاد تأكدهما من ذلك بعد وصول العيون التي سبق وأن بعثها لها الغرض إلى أن شنت ياقب وبذلك لم يعد أمامهما سوى العودة إلى حاضرة الخلافة فوصلا مدينة الزهراء في الخامس من ذي القعدة سنة 361هـ (أغسطس 972م) 2 وتجدر الإشارة هنا إلى أن تحرشات النورمانديين بالأندلس كانت على عهد الخليفة المستنصر كلها تتم على الساحل الغربي باستثناء غارة واحدة أشار إليها ابن الخطيب فذكر أن حصن القبطة بالمرية على الساحل الشرقي للأندلس تعرض للهجوم من قبل المراكب النورماندية3.   1- نفسه، ص78-79. 2- نفسه ص 92-93. 3- أعمال الأعلام، 2/40-41. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 وبعد وفاة الخليفة المستنصر وتولي ولده هشام المؤيد الخلافة وتسلط المنصور بن أبي عامر عليه واستبداده بجميع أمور الدولة، واصل المنصور الاهتمام بالأساطيل وتطويرها ويبدو أنه حقق في هذا المجال الشيء الكثير وأنشأ من السفن أنواعاً عديدة فأصبح الأسطول بمراكبه حديث المجالس1، ونظراً لاتباع المنصور سياسة سلفه الناصر والمستنصر تجاه المغرب فقد اتخذ من سبتة قاعدة بحرية حربية تنطلق منها عمليات رجاله في المغرب ولقد اهتم بتحصينها اهتماماً كبيراً وتجلى كل هذا الاهتمام بصورة واضحة عندما زحف الأمير بلقين بن زيري صاحب أفريقية فهزم قبيلة زناتة وأجلاها عن أماكنها فاجتاز أمراؤها البحر إلى المنصور بن أبي عامر مستغيثين به، فشمر للأمر وانتقل بعساكره وأجناده إلى الجزيرة الخضراء، ثم أرسل جيشاً إلى سبتة بقيادة جعفر بن علي بن حمدون الأندلسي، ثم أصبح المدد يأتي بانتظام من الجزيرة الخضراء إلى سبتة حتى أن البحر أصبح أبيضاً من كثرة المراكب الأندلسية التي تعبر المضيق جيئة وذهاباً2 فلما أشرف الأمير بلقين بن زيري بقواته من أعلى جبل النور المطل على سبتة وشاهد عظم تحصينها وكثرة العساكر وتوالي المدد القادم من الجزيرة إلى سبته أدرك ألا طاقة له بها، فقال لمن معه قبل أن ينصرف "إنما سبته حية ولت ذنبها حذاءنا وفغرت فاها نحونا3" وتكررت   1- نفح الطيب 4/87. 2- مفاخر البربر ص 17. 3- نفس المصدر والصفحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 استعانة المنصور بالأسطول مرة أخرى وذلك عندما ثار الحسن بن جنون ضد الدولة الأموية بالمغرب فعسكر بالجزيرة الخضراء واتخذها قاعدة عسكرية له يدير منها المعارك ويشرف على سيرها ثم أرسل الأساطيل إلى العدوة المغربية تحمل الرجال والأموال والسلاح فتم القضاء على ثورة الحسن وجيء برأسه إليه في جمادى الأولى سنة 375هـ (سبتمبر 985م) 1. وبالإضافة إلى ماسبق نجد المنصور بن أبي عامر يستخدم الأساطيل لنقل قواته إلى العدوة المغربية وذلك للقضاء على حركة الزعيم المغراوي زيري بن عطية عندما أعلن تمرده ضد المنصور سنة 386هـ (996م) 2 وبعد معارك طاحنة جرت بين الطرفين تمكنت القوات الأندلسية من إخضاع المتمرد وذلك سنة 389هـ (999م) 3. وكما استخدم المنصور الأسطول في نقل قواته ومستلزماتهم إلى العدوة المغربية فكذلك استخدم الأسطول في نقل الأطعمة والأسلحة والعدد في غزوته الثامنة والأربعين التي شنها ضد جليقية في صائفة سنة 387هـ (988م) إذ أمر قائد الأسطول بأن يسبقه فيدخل من المحيط   1- انظر، مفاخر البربر ص19-20، أعمال الأعلام: 3/222-224. البيان المغرب 2/281. الاستقصاء: 1/203-204. 2- مفاخر البربر، ص28. أعمال الأعلام، 3/158، الاستقصاء، 1/213. 3- انظر، مفاخر البربر، ص28-34. أعمال الأعلام 3/159، الاستقصاء 1/214-215. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 الأطلسي ويستمر في مسيره إلى موضع حدده له على نهر دويره بحيث يتم الالتقاء عند هذه النقطة وقد قام الأسطول بنقل أفراد الجيش إلى الجانب الآخر من النهر حيث انطلق المنصور بقواته حتى بلغ شنت ياقب1. أنواع السفن في الأساطيل الأندلسية: "الشواني"، والشيني سفينة حربية كبيرة، تعتبر من أهم وأقدم قطع الأسطول الإسلامي بصفة عامة2 وهي تمتاز بضخامة الحجم، ولذا فهي تحمل مائة وخمسون مقاتلاً3 وتجدف بمائة وأربعين مجذافاً4 كما أنها مزودة بأهراء "مخازن" لحفظ الأطعمة، وصهاريج لخزن الماء العذب5. ويبدو أن هذا النوع من السفن كانت تقام عليه الأبراج والقلاع للدفاع والهجوم ورمي الأعداء بقوارير النفط، يدل على ذلك قول الشاعر ابن حمديس في مدحه لأبي يحيى الحسن بن علي ابن يحيى حيث قال:- أنشأت شواني طائرة ... وبنيت علىماء مدنا ببروج قتال تحسبها ... في شم شواهقها قننا ترمي ببروج إن ظهرت ... لعدو محرقة بطنا   1- البيان المغرب، 2/295-296. 2- البحرية في مصر الإسلامية وآثارها الباقية ص 352. 3- جمال الدين محمد بن سالم، مفرج المكروب في أخبار بني أيوب، (تحقيق: د. جمال الدين الشيال، المطبعة الأميرية القاهرة، 1975م) ، 2/13. 4- الأسعد بن مماتي، قوانين الدواوين، ص340، عبد الرحمن زكي السلاح في الإسلام، ص36. 5- د. عبد المنعم ماجد، تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى ص74. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 وبنفط أبيض تحسبه ماء وبه تذكي السكنا1 "الأغربة" جمع غراب وغربان وقد سمي بهذا الاسم لأن مقدمه يشبه رأس الغراب أو الطائر2، ويبدو أن الشراع المستخدم فيه كان أبيض، يتضح ذلك من قول ابن حمديس: سواد الغراب في بياض الحمامة ... تطير به سبحاً على الماء أو تجري3 وقد عبَّر ابن الآبار عن ذلك التشابه القائم بين هذا النوع من المراكب وبين الغربان بقوله: ياحبذا من بنات الماء سابحة ... تطفو لما شبَّ أهل النار تطفئهُ تُطيرُها الريح غرباناً بأجنحة الـ ... حمائم البيض للإشراك تَرزَؤُه من كلّ أدهم لا يُلفى به جَربٌ ... فما لراكبه بالقار يهنئه يدعى غراباً وللفتخاء سرعته ... وهو ابن ماء وللشاهين جُؤجُؤه4 وعدد المجاديف في هذا النوع من المراكب مائة وثمانين مجدافاً، ويمتاز الغراب بأنه مزوَّد بجسر من الخشب يمكِّن الجند من الوصول إلى مركب   1- عبد الجبار بن حمديس، الديوان، (تصحيح، د. احسان عباس، دار صادر، بيروت 1379هـ) ، ص513. 2- السلاح في الإسلام ص 42. 3- ديوان ابن حمديس، ص226. 4- هذه الأبيات هي من قصيدة طويلة مدح فيها أبا زكريا الحفصي عند احتلاله تلمسان وفرار يغمراسن، وذلك سنة 640هـ، انظر:- ديوان ابن الأبار القضاعي، (قراءة وتعليق د. عبد السلام الهراس، تونس، الدار التونسية للنشر ط. 1405هـ / 1985م) . ص42. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 العدو1، ويبدو أنه كان مركباً حربياً قوياً بحيث أن له دور فعال في أي معركة يخوضها حتى شبه بأنه أشد فتكاً من الصقر وفيه يقول الشاعر:- أساطيل ليست في أساطير من مضى ... فكل غراب راح أقنص من صقر2 "الحراريق" جمع حراقة، ويبدو أنها كانت في البداية من المراكب المعدة للنزهة والنقل3 لكن يظهر أنها تعرضت لبعض التغييرات عليها فيما بعد فأصبحت تصلح للعمليات الحربية، وتتضح مهمتها الحربية من اسمها، إذ أنها تختص بقذف مراكب الأعداء بقوارير النفط ولذا فهي مزودة بالأسلحة النارية4، وتجدف بمائة مجداف5، وقد وصفها الشاعر الأندلسي أبو عبد الله بن الحداد بقوله:- ذات هُدبٍ من المجاذيف حاكٍ ... هُدبَ باكٍ لدمعه إسعادُ   1- السلاح في الإسلام ص 42. 2- هذا البيت من قصيدة لبهاء الدين زهير بن محمد بن علي القوصي يمدح بها السلطان الملك الكامل، انظر، مفرج الكروب، (تحقيق: د. حسنين ربيع. مراجعة د. سعيد عاشور ط1، دار الكتب المصرية، القاهرة 1972م) . 4/103-104. 3- يدل على ذلك أن الخليفة العباسي الأمين كان له خمسة حراقات في نهر دجله صنعت كل واحدة منها على صورة حيوان، فكانت على صورة الأسد والعقاب والحية والفيل والفرس. انظر: تاريخ الطبري 8/509. 4- البحرية في مصر الإسلامية، ص 339. 5- قوانين الدواوين، ص 340. نفح الطيب، 4،58-59. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 حُمَمٌ فوقها من البيض نارٌ ... كل من أرسلت عليه رمادُ1 "الطريدة" مركب بحري يبدو من اسمه أنه سريع الحركة كأنه مخصص للمطاردة، ويظهر من خلال الاستعمالات المتعددة له أنه يكون على أنواع، فمنها مالايزيد طوله على سبعة أذرع وعرضه ذراعان ونصف على هيئة برميل هائل بدون مسطح2، وهناك نوع آخر كبير الحجم مخصص لحمل الخيل إذ باستطاعته أن يحمل أربعين فرساً3، وهذا النوع له باب في الخلف يفتح ويغلق، ومنها مايكون معداً لحمل الرجال4. "البَطْسَة" أو البُطْسة، والجمع بَطسات وبُطس، ويسميها المقريزي "البطشة5"، والبطسة مركب هائل الحجم إذ يصل عدد أشرعته إلى أربعين شراعاً6 ويمتاز هذا المركب الحربي بأنه متعدد الطبقات، كل طبقة خاصة بفئة من الجيش7 ويتم شحنه بأنواع الأسلحة وسائر آلات الحرب   1- نفح الطيب 4/56. 2- مفرج الكروب: 2/12 حاشية رقم 3. 3- قوانين الدواوين، ص 340. مفرج الكروب: 2/12-13. 4- البحرية في مصر الإسلامية ص 354. 5- الخطط المقريزية، (نشر، مكتبة المليجي الكتبي القاهرة 1324هـ) ، 369. 6- السلام في الإسلام ص 13. 7- البحرية في مصر الإسلامية ص331. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 والحصار حتى البروج والمنجنيقات فضلاً عن الأقوات والميرة1، ونظراً لضخامة حجم هذا المركب فهو يحمل أعداداً كبيرة من المقاتلين يصل عددهم إلى ستمائة وخمسين رجلاً2، ولكن المقريزي ذكر أن بعضها يحمل ألف وخمسمائة رجلاً3 وألف وسبعمائة رجلاً4. "الشلندي" مركب حربي كبير مسطح، كان مخصصاً لنقل المقاتلين والأسلحة، وهو يعادل في اهميته الشيني والحراقة5، والشلندي "مركب مسقف تقاتل الغزاة على ظهره وجذَّافون يجذَّفون تحتهم6 "وله ساريتان أو ثلاث يبلغ طولها حوالي "195" قدماً وعرضها "32" قدماً، وحمولته ستمائة رجلاً تقريباً7. "المسطح" مركب بحري ضخم يشبه البطسة8، ولعلنا ندرك من اسمه أنه عبارة عن مركب كبير له سطح شاسع غالباً ما يكون خلف   1- ابن شداد، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية سيرة صلاح الدين. (نشر مطبعة الآداب والمؤيد، القاهرة، 1317هـ) ، ص 123. 2- المصدر السابق ص 149. 3- الخطط، 2/369. 4- المقريزي، كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، (تصحيح، محمد مصطفى زيادة، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1934م) ، ج1 ق1 ص77. 5- السلاح في الإسلام ص 36. 6- قوانين الدواوين ص 340. 7- أبو رميلة، نظم الحكم في الأندلس ص 401. 8- البحرية في مصر الإسلامية ص 368. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 السفن الحربية لنقل الأطعمة والأموال والأسلحة1، وعلى هذا أشبه ما يكون بناقلة متخصصة بالإمدادت العسكرية، ويمكن من خلال نصوص تاريخية وردت في بعض المصادر الوقوف على حقيقة هذا المركب، فقد ورد لدى ابن واصل أن المسطح يتسع لخمسمائة رجل2، أما ابن مماتي فقد ذكره بعد أن عرف بالشلندي ثم قال: "إن المسطح هو في معناه3" وعلى هذا فالمسطح مركب مكون من طابقين يقاتل الغزاة على ظهره والمجذفون يجذفون تحتهم. "العشاري" أو "العشيري" نوع من المراكب، يجر بعشرين مجدفاً4، ويستعمل في الأنهار والبحار للرحلات القصيرة5، وربما سار وراء السفن الكبيرة أشبه ما يكون بقوارب النجاة المعروفة حالياً6 وقد تكون سميت بهذا الاسم لأنها تتسع لعشرة أشخاص7.   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص191. 2- مفرج الكروب، 2/374. 3- قوانين الدواوين ص 340. 4- السلاح في الإسلام ص 42. 5- عن العشاري ووصفه واستخداماته. انظر، عبد اللطيف البغدادي، الإفادة والاعتبار (تحقيق: أحمد غسان سابنو. دار قتيبة، دمشق، ط الأولى 1403هـ / 1983م دار قتيبة دمشق. ص 71-72. 6- انظر، ابن جبير، الرحلة (تحقيق: د. حسين نصار، مكتبة مصر، 1374هـ 1955م) ص312. 7- الحلة السيراء: 1/297 حاشية رقم 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 "أجفان" جمع "جفن" مركب نهري، يمتاز بأن الجذافين يجدفون فيه وهم قيام في وسط المركب، في حين أن الركاب يكونون في المقدم أو المؤخرة1. "القراق" أو "القرقور" والجمع قراقير، والقرقور سفينة كبيرة من مهامها القيام بتموين الأساطيل بالمتاع والذخيرة 2، ويمتاز القرقور بتعدد الأشرعة والصواري، ولذا فهو لا يتأثر كثيراً بالرياح العاصفة، إذ هو قادر على السير تحت كفاة الظروف3. "الحمالة" والجمع "الحمالات" وهي كما عرفها ابن مماتي: نوع من السفن المخصصة لنقل مؤونة الجيش وكل ما يحتاج إليه الأسطول4. وبالإضافة إلى ما سبق ذكره من أنواع المراكب البحرية الحربية التي كان يستخدمها الأسطول الأموي بالأندلس، هناك قطع بحرية أخرى، ورغم صغر حجمها، إلا أنه لا غناء لأي أسطول كان عن خدمتها. منها:- "الشباك" "Jabeque" مركب حربي صغير الحجم5، له ثلاثة أشرعة وأحياناً يسير بالتجديف6.   1- البحرية في مصر الإسلامية، ص336. 2- السلاح في الإسلام ص 47. 3- البحرية في مصر الإسلامية ص 363. 4- قوانين الدواوين، ص339-340. 5- السلاح في الإسلام ص38. 6- تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى ص 75. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 "القارب" مركب صغير خفيف الحركة، ويكون دائماً تبعاً للأسطول ولخدمة أصحاب المراكب الكبيرة، ويمكن أن يستخدم لتنقلات عمال الدولة من إقليم لآخر لأداء ما كلفوا به من أعباء وظيفية1. "الزورق" له ملامح القارب ومميزاته بالإضافة إلى قيامه بمهام الإنقاذ2. وهناك أيضاً "القياسات" و"الفلايك" والملاحظ أن هذه المراكب الأربعة الأخيرة جميعها مراكب بحرية صغيرة سريعة الحركة لا تعتمد على الأشرعة، وهي مخصصة لنقل الأشخاص والأزواد3. بقي أن أشير إلى أن قطع الأساطيل الأموية بالأندلس كانت تستخدم الأشرعة البيض، ويتضح ذلك من خلال عبارة وردت في أحد المصادر عند الحديث عن أساطيل حكومة قرطبة عندما عبرت البحر متجهة إلى العدوة المغربية، وذلك لحماية أراضي العدوة من هجوم بلقين بن زيري. إذ أن العبارة تنص على أن بلقين عندما أشرف من أعلى جبل النور المطل على سبتة عاين "اتصال مدد الأندلس وابيضاض بحرهم بانتظام الشرع من تلقائهم4".   1- قوانين الدواوين ص 297. 2- رحلة ابن جبير ص 312. 3- تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى ص75. 4- مفاخر البربر ص 17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 إدارة الأسطول: كل جهاز سواء كان بسيطاً أم معقداً، لابد له من إدارة تتولى شئونه، والأسطول جهاز مهم في أي دولة كانت، ومن البديهي أن تكون الإدارة التي تشرف عليه ذات مناصب متدرجة، وما ينطبق على الأسطول ككل، ينطبق على أي سفينة من سفنه، إلا المراكب الصغيرة منها، فكل سفينة تحتاج إلى "نوتي" وهو "الملاح الذي يدير السفينة في البحر1" إذ تقع عليه مسئولية الإشراف على ما تحتاج إليه السفينة من أمور الحرب من السلاح والمقاتلة2، واما الرئيس وهو قبطان السفينة فهو مسئول عن سير السفينة سواء بالريح أو بالمجاذيف واختيار المرسى المناسب3، مستعيناً بكتاب يعرف بـ"الرهنامج" يعينه على اختيار المسالك البحرية الصحيحة4. كما يقوم أيضاً الرئيس بعملية التوجيه للملاحين، ولذا فهو بحاجة لمنادي يمتاز بصوت جهوري يبلغ أوامره لهم5 ويذكر ابن خلدون أنه إذا صدرت الأوامر للأسطول بالغزو، يتم تجميع السفن المحاربة بأحد   1- المعجم الوسيط، ص 970. 2- مقدمة ابن خلدون ص691. 3- المصدر السابق ص691. 4- محمد ياسين الحموي، تاريخ الأسطول الإسلامي، (مطبعة الشرقي. دمشق 1945م) ، ص 48. وللاستزادة عن كتاب والرهنامج انظر البحرية في مصر الإسلامية ص274-275. 5- تاريخ الأسطول الإسلامي ص 49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 المرافئ، وبعد أن تشحن بالرجال والعتاد والمئونة، يتم تعيين أمير عليهم من بين رجالات الدولة المعدودين، بحيث يتولى الإشراف العام على الأسطول وبالتالي فهو المسئول الأول عنه أمام الخليفة، وله الحق وحده في إصدار أوامر الإبحار والرسو1، وهذا الأمير هو قائد البحر وقائد الأسطول2، ويكون مقامه في المرية القاعدة البحرية الرئيسية للأساطيل الأندلسية3، وكان عبد الرحمن بن محمد بن رماحس هو الذي يتولى قيادة البحرية في الأندلس4 وبذلك فقد كان ابن رماحس يتمتع بمقام سامٍ في الدولة الأموية بالأندلس، يدل على ذلك ما ذكره ابن سماك المالقي في "الزهرات المنثورة" من أن أي قرار يهم الخليفة الأموي لايصدر إلا بعد استشارة شخصيات ثلاثة، منها: قائد الأسطول بالمرية، وذلك لأن المرية كانت تضم دار الصناعة الرئيسية في الأندلس، بل كان قائد أسطول المرية   1- مقدمة ابن خلدون ص 691. 2- عرفت البحرية بالأندلس وبالذات في عصر الخلافة عدة أسماء لامعة كانت لها شهرتها في المجال البحري، من هذه الأسماء: عبد الرحمن بن محمد بن رماحس، غالب بن عبد الرحمن الناصري، سعيد الجزري، رشيق بن عبد الرحمن المعروف بالبرغواطي، وعبد الله بن شعيب، وابن الأزرق البحري، عبد الرحمن ابن أبي جوشن، عبد الله بن مروان المعروف بابن مسلمة، عبد الرحمن بن يوسف الأرمطيل، إسماعيل بن عبد الرحمن بن الشيخ، وعبد الله بن رابحين. انظر، المقتبس، تحقيق: الحجي، ص21، 24، 81، 87، 105. 3- المصدر السابق، الحجي ص 24. 4- مقدمة ابن خلدون، ص691. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 في العصر الأموي يشارك الخليفة إلى حدّ ما في سلطاته، فإذا كان الخليفة يحكم في البر، فإن قائد الأسطول يحكم في البحر1. الأسلحة المستخدمة في المعارك البحرية: استخدم البحريون الأندلسيون في معاركهم البحرية عدة أنواع من الأسلحة، فبالإضافة إلى السيوف والرماح ونحوها والمنجنيقات والعرادات، عرفوا: اللت والعمود والدبوس: وهي بالجملة عمد حديد، منها ما يكون بأكمله من الحديد، ومنها ما تكون خرزته فقط من الحديد ونصابه من الخشب، وتكون الخرزة إما مضرسة أو مسننة، في حين يكون رأس الدبوس مدوراً، وأما العمود فلا يكون إلا من الحديد2. الأقواس والنشاب: استخدم البحريون القسي بنوعيها العربي منها الذي يشد باليد، وكذلك القسي الفرنجية وهي التي توتر وتدفع بالرجل، وأجود أنواع القسي الفرنجية ما صنع من الخشب التخش وبعده خشب الزبَّوج3، وبهذه القسي يمكن رمي حتى قوارير النفط بدلاً من السهام4. الكلاليب: وهي نوع من الخطاطيف مربوطة في نهاية سلاسل قوية، كانت تلقى على مراكب العدو فتوقفها، ثم يشدونها إليهم،   1- الزهرات المنثورة: الزهرة الثالث والثمانون. 2- تبصرة أرباب الألباب ص 15. 3- المصدر السابق ص 8. 4- نفسه، ص9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 ويقيمون عليها ألواحاً خشبية عريضة يمكن من خلال العبور عليها الوصول إلى المركب العدو، ليقاتلوهم وكأنهم على اليابسة1. الباسليقات: وهي سلاسل من حديد يكون في رؤوسها رمانة من حديد، حيث تستخدم في القتال على سطح السفن2. كما عرفوا من الآلات الحربية "التوابيت" وهي صناديق مفتوحة من أعلى، توضع في أعلى السفن يصعد عليها المقاتلون ومعهم الحجارة في مخلاة معلقة بجانب الصندوق، فيرمون بها الأعداء ويستترون منهم داخل تلك التوابيت3 وقد يجعلون بدلاً من الحجارة قوارير من النفط لإشعال النار في مراكبهم4، ويرمونهم بجرار مملوءة بالنورة المسحوقة غير المطفأة، فيعمى غبارها وقد تلتهب عليهم إذا تبددت، وقد يرمونهم بقدور الصابون الليِّن، إذ أنها تمنع أقدام الأعداء من الثبات على ظهور سفنهم5، وقد يرمونهم بقدر مليئة بالعقارب والحيات6.   1- أثار الأول في تدبير الدول، ص216. تاريخ الأسطول الإسلامي، ص70. تاريخ التمدن الإسلامي ص1/162. 2- تاريخ التمدن الإسلامي: 1/161. البحرية في مصر الإسلامية ص203. 3- أثار الأول، ص215-216. تاريخ التمدن الإسلامي، ص 1/162، تاريخ الأسطول الإسلامي: ص70. البحرية في مصر الإسلامية، ص 203. 4- أثار الأول، ص215-216. تاريخ التمدن الإسلامي، ص 1/162، وعن النفط وأنواعه واستخداماته انظر: الطرطوسي تبصرة أرباب الألباب ص 20-23. 5- أثار الأول ص 215-216. 6- تاريخ التمدن الإسلامي: 1/162. البحرية في مصر الإسلامية ص 203. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 "اللجام " وهي أداة حديدية طويلة ذات رأس حاد جداً، وأسفلها مجوَّف، تُجعل هذه الأداة في خشبة كالقناة بارزة في مقدم المركب يقال لها الاسطام، يستخدمها الجنود في طعن مراكب الأعداء بقوة فيخرقونها، مما يجعل المركب عرضة للغرق بسبب امتلائه بالماء، فيضطر أصحابه لطلب الأمان1. كما استخدم المقاتلون البحريون في معاركهم البحرية أدوات الحصار، مثل "الأبراج" و"الدبابات" و"الستائر" والأخيرة هي عبارة عن حائط خشبي يستخدمه المهاجمون للوقاية من قذائف العدو2، و"الحبال3" و"النار الإغريقية4". وكما أن هناك أسلحة للقتال، فهناك أدوات تقاوم تلك الأسلحة، فمثلاً "الكلاليب" يستخدم المدافعون ضدها فؤوساً حادة من الفولاذ بحيث يضرب بها الكلاب المتعلق بالسفينة فينقطع5، ولعل النفط6 من   1- أثار الأول ص 216. تاريخ التمدن الإسلامي: 1/162. تاريخ الأسطول الإسلامي، ص70. البحرية في مصر الإسلامية ص 203-204. 2- التعريف بالمصطلح الشريف، ص272. 3- صبح الأعشى: 10/413. 4- البحرية في مصر الإسلامية ص 232-234. 5- أثار الأول، ص236. 6- عن صفة النفط الذي يمشي على الماء لحرق المراكب انظر: تبصرة أرباب الألباب، ص21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 أشد الأسلحة فتكاً بالمراكب، ولذا كان المدافعون يبطلون مفعوله بتعليق اللبود المبلل بالخل والماء حول سفنهم، أو يبلوها بالخل الممزوج بالنطرون والشب، وإما بطلاء سفنهم بالطين الممزوج بالنظرون1، كما أن المقاتلين يدهنون أجسادهم بدهن البلسان2. ووسائل التمويه كانت معروفة آنذاك، فقد كان قائد السفينة يأمر بصنع أشرعة زرقاء لسفينته3 لكي تصبح مثل لون الماء او السماء، كما يأمر بعدم إشعال النار بالمركب4 مما يمكنه بالتالي من الاستفادة من عنصر المباغتة. وقد اعتاد القائمون على الأساطيل الأموية في الأندلس، إجراء تمارين حربية، تجري خلالها اصطدامات أشبه ما تكون بمعارك بحرية حقيقية، والهدف منها رفع الطاقة الاستعدادية لرجال الأساطيل، وبذلك يكونون على أهبة الاستعداد لأي طارئ. ومن أجل رفع الروح المعنوية، يتم حضور الأمير أو الخليفة وسائر رجالات الدولة لتلك التمارين، مما يمكنهم بالتالي من الوقوف على مدى كفاءة أولئك الرجال، وذلك وسط حضور جماهيري كثيف كما هو في الاستعراضات التي كان يقوم بها الجيش وعرفناها من قبل.   1- أثار الأول ص 236. 2- صبح الأعشى 10/413. 3- أصار الأول ص 216. 4- تاريخ التمدن الإسلامي 1/162. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 ومن أجل إجراء تمارين مكثفة لأفراد الأساطيل الأموية دونما إشعارهم بالضغط والتكليف، كانت الأعياد والمناسبات الاجتماعية الكبرى فرصة تستغل لإجراء مثل هذه التمارين1. وأخيراً بقي أن نتحدث عن المرابطة فقد ورد في القرآن الكريم مايحث عليها ويرغب فيها قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2، والمراد بالمرابطة هنا - كما ورد في بعض المصادر- المدوامة في مكان العبادة والثبات وانتظار الصلاة بعد   1- من ذلك مثل: قول أبي بكر محمد بن عيسى الداني يصف لعب الأسطول في يوم المهرجان: بشرى بيوم المهرجان فإنه ... يوم عليه من احتفائك رونقُ طارت بنات الماء فيه وريشها ... ريش الغراب وغير ذلك شوذق وعلى الخليج كتيبة جرارة ... مثل الخليج كلاهما يتدفق وبنو الحروب على الجواريِّ التي ... تجري كما تجري الجيادُ السُّبَّقُ ملأ الكماة ظهورها وبطونها فأتت ... كما يأتي السحابُ المغدق خاضت غدير الماء سابحة به ... فكأنما هي في سرابٍ أينق عجبا لها ما خلت قبل عيانها ... أن يحمل الأسد الضواري زورق هزت مجاديفاً إليك كأنها ... أهداب عين للرقيب تحدِّق وكأنها أقلام كاتب دولةٍ ... في عرض قرطاس تخط وتمشق المعجب، ص 215-216. 2- سورة آل عمران: الآية رقم 200. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 الصلاة، وقيل المراد بالمراطبة هاهنا مرابطة الغزو في نحو الأعداء وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة المسلمين1"، وعندما تعرض الطرطوشي لمعنى "المرابطة" اختار ما يدل على أن المراد بها "الجهاد2" وهو ماذهبت إليه المعاجم من أن المرابطة ملازمة الثغور والمخافة، وأن يربط كل من الفريقين خيولهم في ثغرة وكل معد لصاحبه، ولذلك يسمى المقام في الثغر رباطاً3. ويقول الفقيه عبد الملك بن حبيب "وليس من سكن الثغر بأهله وولده مرابط، وإنما المرابط من خرج من منزله معتقداً الرباط في موضع الخوف4". وقد وردت عدة أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم كلها تحض على المرابطة في سبيل الله وترغب فيه، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ينقطع عن صاحبه إذا مات إلا المرابط في سبيل الله،   1- تفسير ابن كثير 1/444. 2- سراج الملوك، ص179. 3- انظر القاموس المحيط "مادة ربطة". أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد: 1/374. المعجم الوسيط "مادة ربط". 4- ابن رشد: المقدمات: (مطبعة السعادة، القاهرة) 2/276. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 فإنه ينمَّى له عمله، ويُجرى عليه رزقه إلى يوم الحساب1 " وقوله صلى الله عليه وسلم "رباط يوم صيام شهرين، ومن مات مرابطاً أجير من فتنة القبر، وأُجرى له صالح عمله إلى يوم القيامة2 ". وبذلك اتخذ المسلمون المرابطة نظاماً حربياً، فاجتهدوا في اتخاذ المحارس والقلاع على طول خطوط المواجهة الأمامية سواء السواحل منها أو الداخلية. ونظراً لأن السواحل الشمالية الإفريقية كانت عرضة للهجمات البحرية البيزنطية والصقلية أو تلك القادمة من جنوب إيطاليا3، لأجل هذا اعتبرها ثغوراً لابدّ من القيام على التواجد فيها حماية للمسلمين، ومن هناك نشأت الأربطة بتلك المنطقة4، فبنيت أربطة عدة كانت تعرف بالقصور والمحاريس5، ثم انتقل نظام الأربطة إلى المغرب الأقصى، فبنى المغاربة رُبُطاً كثيرة لعل من أقدمها وأشهرها "رباط أصيلا" الذي تم بناؤه في زمن الأمير عبد الرحمن الأوسط وذلك بعد أن طرق النورمانيون أراضي   1- إسناده حسن. انظر: الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن أبي عاصم الشيباني كتاب الجهاد، (تحقيق مساعد بن سليمان الحميد، دار القلم، دمشق، ط الأولى 1409هـ / 1989م) ج2 ص680. 2- نفس المصدر، ص 689-691. 3- أبو محمد عبد الله بن محمد التجاني، رحلة التجاني، (تقديم، حسن حسني عبد الوهاب. الدار العربية للكتاب، ليبيا- تونس 1981م) ، ص32. 4- نفس المصدر والصفحة. 5- نفسه ص 33، 68، 69، 85، 316، 336. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 تلك المنطقة1 ومن خلال هذا التدرج في انتشار الأربطة، أدرك الأندلسيون أهميتها، وتسابق المجاهدون منهم إلى إعمارها والحرص على جعلها عقبة كئودا أمام الأعداء، لكي لا يروعوا المسلمين الآمنين في داخل البلاد، وقد سجل عصر الأمير عبد الرحمن الأوسط البدايات الأولى للأربطة في الأندلس، إذ بعد أن عاني المسلمون هناك من شدة وطأة الغزوة الأولى للنورمانديين، أخذت الأربطة تظهر تباعاً على طول السواحل الشرقية والجنوبية الشرقية الأندلس، فعرفت في تلك المنطقة الشاسعة أربطة عدة، من أشهرها: "رباط المرية": وهو أشهر وأهم الأربطة التي عرفها الأندلسيون، واسم هذا الرباط يوضح الهدف منه، إذ أن موقعه اتخذ مرأى لاكتشاف ما يمكن أن يأتي من البحر على حين غرة2 وبالذات بعد الهجوم النورماندي الأول الذي وقع في عصر الأمير عبد الرحمن الأوسط، وبالإضافة إلى هذا فرباط المرية محرس بحري لمدينة بجانه التي هي على بعد ستة أميال شمالاً3.   1- المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، ص 112. 2- الروض المعطار: 537. ويذكر الدكتور حسيبن مؤنس أن "المرية" لفظ عربي صرف، معناه، الناظور المرتفع الذي يقام على شاطئ البحر ليقيم فيه حراس يراقبون الشاطئ حذراً من غزاة البحر الذين نسميهم القرصان، وهو لغة في "المرئية" التي ترى من بعيد. انظر: رحلة الأندلس ص270. 3- نزهة المشتاق، ص563. صبح الأعشى: 5/217. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 "رابطة القابطة أو القبطة" ويقع إلى الشرق من المرية1، كما توجد عدة أربطة أخرى بالقرب من المرية، كانت مثوى عدد من المجاهدين -رحمهم الله تعالى- مثل رباط عمروس ورباط الخشني وغيرهما2. وهناك "مدينة دانية" التي استفادت كثيراً من جبل يعرف باسم "جبل قاعون" لكونه مشرفاً عليها، وفائدته تتمثل في أن المرابطين فيه يستطيعون اكتشاف العدو القادم عن طريق البحر من مسافة بعيدة3، كما أن حصانته تتيح لمن حوله فرصة الاختباء به، ولذا نجد أن رباطاً قد أقيم فيه لاتزال أثاره قائمة إلى اليوم ويعرف ذلك الرباط باسم "الآمبروي Alambroy"4. وعلى ساحل مدينة مالقة أقيم رباط على جبل "فارَّة5" ولأهمية الموقع الذي كان يتميز به الجبل، فقد كان اهتمام المسلمين فيه كبيراً، ولذا أقاموا عليه عدة حصون استمر تواجدهم فيها إلى سنة 892هـ   1- المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، ص89. دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، ص297. ويذكر بروفنسال "أنها تقابل اليوم المكان المعروف باسم "Cabe de Gota" انظر: L.Provencal: Op.Cit T-3 P: III. 2- دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، ص297-298. 3- نزهة المشتاق ص 557. 4- دراسات في تاريخ المغرب والأندلس ص298. 5- نزهة المشتاق ص 570. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 (1487م) 1 كما أن تسمية الجبل باسم "فارُّه" لازالت قائمة إلى اليوم إذ لازال يعرف باسم جبل فارو2 Gibralfaro". وتجدر الإشارة إلى أن الأربطة لم يقتصر تواجدها على السواحل الشرقية أو الجنوبية الشرقية للأندلس، فقد وجدت أربطة عدة متناثرة على الساحل الغربي للأندلس، فهناك -مثلاً- رباط "روطة3" الذي لايزال حصنه قائماً عند مدخل ميناء قادس ويعرف باسم "Castillo De Rota" ويذكر ابن بشكوال أن أبا محمد الشنتجيالي ت 436هـ (1044م) قد رابط ببطليوس ومرجيق Monchique وشلب ورباط الريحانة من عمل شلب، وكان له فرس اسمه "مرزوق" وقد كان كثيراً مايجر يده على ناصيته ويقول له "يامرزوق رزقني الله الشهادة عليك4". صورة الرباط: يتكون الرباط من عدة عناصر هي:- "الخندق": ويتم حفره حول السور ككل، أو في النقطة الضعيفة، وتكون الحراسة حوله مشددة، ومن   1- نفح الطيب 4/520. 2- دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، ص299. 3- يذكر الحميري: أن هذا الحصن كان مقصداً للصالحين وتوجد فيه بئر عجيبة، إذا كثر المرابطون في الحصن زاد الماء حتى يستسقي من رأس البئر باليد، فإذا قل الناس وتفرقوا عنه نضب الماء. انظر: الروض المعطار ص 340. 4- الصلة: ترجمة رقم 597. وانظر الحاشية رقم 1 ص 263. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 الضروري وجود ما يمكن تسميته بالجسر المتحرك يوضع على الخندق ويرفع عند اقتراب الأعداء منه لعدم تمكينهم من العبور1. "المدخل" عبارة عن سقيفة بعد سقيفة، ومن أجل زيادة التحصين يكون باب السقيفة من حديد متين، ويتم تثبيت الباب بطريقة قوية ومحكمة فيكون خلعه متعذراً بأي صورة كانت2. "الحسك": باب فولاذي مكون من جرات كأنها السكاكين، وفيها يد وسلسلة ومتى ماقُبض على اليد وجُذبت السلسلة وانغلقت تلك الجرات على بعضها البعض فأنها تقطع ما وقع بين أجزائها، وهي على نوعين عامودي وأفقي يغرس على الأرض3. "صحن الرباط" وهو الفناء الذي تربط فيه دواب المرابطين بالإضافة إلى أنه توجد فيه المرافق في حين أن غرف المرابطين والجامع الكبير المخصص للصلاة لإلقاء الدروس كلها توجد في الطابق الأول4. ومن البديهي أن تكون الحراسة متواجدة في أعلى مكان في الرباط أو ملحقة به، وذلك لكشف الأعداء القادمين من مسافة بعيدة، بحيث تكون هناك فرصة جيدة لإعلان الإنذار فيأخذ المدافعون أهبتهم، ويعرف   1- عثمان الكعاك: العلاقات بين تونس وإيران عبر التاريخ، (الشركة التونسية للتوزيع. د. ت) ص92. 2- نفس المرجع والصفحة. 3- نفس المرجع والصفحة. 4- نفس المرجع والصفحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 الحراس الليليون باسم "السمَّار1" والرباط مزود بمنارة أو منار، فإذا كان الوقت ليلاً وأحس أولئك السمَّار باقتراب سفن الأعداء في البحر أو قدوا في تلك المنارة ناراً بكيفية معلومة، فيراها السمَّار والملازمون للمنار بالرباط المجاور فيشعلون النار مثل سابقيهم وهكذا يتم الإعلان عن الخطر القادم بصورة سريعة، وإن كان الوقت نهاراً تم إثارة الدخان2 أو استخدموا المرايا3 إلى جانب استخدام الطبل والنفير4 وهذه الصورة المنظمة في طرق الإنذار المبكر -إن صحت التسمية- نجدها واضحة بصورة جلية فيما بين الإسكندرية وطرابلس الغرب، فقد ذكر المراكشي أن "بين الإسكندرية وطرابلس المغرب حصون متقاربة جداً، فإذا ظهر في البحر عدوِّ نوّر كل حصن للحصن الذي يليه، واتصل التنوير، فينتهي خبر العدو من طرابلس إلى الإسكندرية أو من الإسكندرية إلى طرابلس في ثلاث ساعات أو أربع ساعات من الليل، فيأخذ الناس أهبتهم ويحذرون عدوهم5".   1- دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، ص301. 2- أحسن التقاسيم، ص177. التعريف بالمصطلح الشريف، ص259. 3- L.Provencal: Op. Cit. T-3. P: III. 4- أحسن التقاسيم ص 177. 5- المعجب ص 432. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 حياة المرابطين وقد كانت حياة المرابطين داخل الأربطة منظمة بدقة، فالمرابطون وطدوا أنفسهم على الوقوف في وجه الأعداء، فكانت الأربطة تتعاون فيما بينها للدفاع عن المسلمين، فإذا لاح الخطر، وأعطيت الإشارات على اقترابه، آوى المرابطون إلى رباطهم يعتصمون به من العدو، وأغلقوا الأبواب في وجهه، وعملوا كل ما في وسعهم لدفعه وإحلال الهزيمة به. ونظراً للإقبال المتوقع من رجال الجهاد على تلك الأربطة، فمن المحتمل أن تخضع الفئة الجديدة لما يمكن تسميته بالإعداد العسكري، وعلى هذا فالتدريب والتجهيز العسكري سمة لدى المرابطين، ليكون الكل جاهز لصد عادية المعتدين، كما أن المرابطين يحيون حياة جماعية تعاونية، وهذا مطلب ضروري لبعدهم عن حواضر المدن. ونظراً لوقوع هذه الأربطة على السواحل، فالمرابطون لابد أن تشتغل فئة منهم باصطياد الأسماك، وإن كانت هناك مزارع فهم يفلحون أراضيهم بأنفسهم، فضلاً عن تعاونهم بإعداد احتياجاتهم من الطعام. وبصفة عامة فإن حياة المرابطين يغلب عليها طابع التقشف، فهي بعيدة كل البعد عن الملذات، وأما اللهو والمجون فلا سبيل إلى تواجدهما بالقرب من الرباط فضلاً من أن يكون فيه شيء من ذلك1.   1- ورد لدى المالكي أن الأمير إبراهيم بن أحمد الأغلبي، نزل يوماً في قصره بسوسه، فأظهر بعض من كان معه من الحشم وغيرهم شيئاً من اللهو والعزف بالات الطرب، فاحتج على ذلك أهل الرباط المجاور، وسار كبارهم إلى قصر الأمير مطالبين بإبطال تلك الملاهي، ورفضوا مغادرة القصر حتى خرج الحاجب إليهم وأبلغهم على لسان الأمير بأنه لن يحدث شيئاً تكرهونه بعد اليوم. انظر، رياض النفوس، ص393-394. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 كما حرص المرابطون على أن تكون قراءة القرآن من أبرز سماتهم، لأجل هذا، كانت تدوي بقراءة القرآن، وتعج بالحفاظ، ويقوم المرابطون بذكر الله تعالى بصوت مرتفع، فقد ذكر ابن أبي زمنين عن الفقيه عبد الملك بن حبيب: قوله: "ورأيت أهل العلم يستحبون التكبير في العساكر والثغور والمرابطات دبر صلاة العشاء وصلاة الصبح تكبيراً عالياً ثلاث تكبيرات، ولم يزل ذلك من شأن الناس قديماً1".   1- ابن أبي زمنين، كتاب قدوة الغازي: (دراسة وتحقيق د. عائشة السليماني، دار الغرب الإسلامي. بيروت 1986م) ، ص 182-183. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 الفصل الخامس: الخطط الدينية المبحث الأول: خطة القضاء ... المبحث الأول: خطة القضاء القضاء في اللغة يطلق على معان متعددة1 يهمنا منها في هذه الدراسة ما يفيد الحكم والحتم. قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعبدوا إلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 2 أي حكم وحتم. والقضاء يأتي على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، وكل ما أُحكم عمله، أو أُتم أو خُتم أو أُدي أداء أو أُوجب أو أُعلم أو أُنفذ أو أُمضي فقد قُضي3، والحكم يأتي بمعنى العلم والفقه والقضاء العدل وهو مصدر حكم يحكم4. وأما في الاصطلاح فالقضاء يعني فصل الخصومات وفض المنازعات عن طريق إلزام الخصوم بالأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والاجتهاد بطريقة   1- انظر: إبراهيم نجيب محمود عوض، القضاء في الإسلام، تاريخه ونظامه، (مجمع البحوث الإسلامية، القاهرة، 1395هـ (1975م) ص4-5. 2- سورة الإسراء الآية رقم 23. 3- ابن منظور، لسان العرب، مادة "قضي". 4- المصدر السابق، مادة قضى. 5- ابن الخصاف، كتاب أدب القاضي، شرح: أبو بكر أحمد بن علي الرازي، (تحقيق: فرحات زياده، الجامعة الأمريكية، القاهرة، 1979م) ، ص29. 6- كتاب لباب الألباب، ص253. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 وقد نظر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى اختصاصات القاضي نظرة واسعة، فذكر أن "القاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما، سواء كان خليفة أو سلطاناً أو نائباً، أو ولياً، أو كان منصوباً ليقضي بالشرع أو نائباً له حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا، هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر1"، ونظراً لأن القضاء هو الوسيلة التي تتحقق فيها العدالة التي هي مطلب النفوس السوية، مما يكفل السعادة لأي مجتمع توجد فيه، لأجل هذا فقد اهتم الإسلام بالقضاء اهتماماً واسعاً، فلا عجب أن يتبوأ من يشغل منصب "القاضي" أسمى المراتب في المجتمع الإسلامي. والله جل ثناؤه قد ترك للحكام تصريف أمور الناس فحكموا في الدماء والأبضاع والأموال والحلال والحرام، لأجل هذا فخطة القضاء أشرف الخطط بعد الخلافة2. وفي الأندلس كان القاضي يحتل مكانة بارزة، حتى أن لقب "القاضي" كان يطلق على البعض تشريفاً لهم، فهذا أحمد بن محمد   1- ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، (دار الكتاب العربي، القاهرة، 1371هـ ـ 1952م) ص،13-14. 2- النباهي، ص2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 القيسي، المتوفى سنة 345هـ (956م) ، كان يلقب بالقاضي لوقاره1، رغم أنه لم يكن قاضياً. وقد كان الولاة الأوائل في الأندلس هم القضاة أيضاً، ولم يتم الفصل بين منصبي الولاية والقضاء إلا في سنة 116هـ (734م) أي في عهد الوالي عقبة بن الحجاج السلولي حيث تم تعيين مهدي بن مسلم قاضياً في قرطبة2. وقد كان القضاة في الأندلس على مراتب ودرجات، فقضاة القرى الصغيرة يطلق على الواحد منهم لقب مسدَّد3 أما في قرطبة فقد عرف في عهد الولاة بلقب قاضي الجند أو العسكر4 وبعد أن قامت الدولة الأموية أخذ اللقب يتغير، إذ ظهر مسمى جديد هو "قاضي الجماعة" بدلاً   1- هو أبو عمر أحمد بن محمد بن هاشم بن خلف بن عمرو القيسي، من أهل قرطبة، يُعرف بالأعرج، أتقن علم النحو، وأدب به، كان وقوراً مهيباً، ولأجل ذلك لقب بالقاضي. ابن الفرضي، ترجمة رقم 138. 2- د. محمد عبد الوهاب خلاف: تاريخ القضاء في الأندلس من الفتح إلى نهاية القرن الخامس الهجري، ص 25-26، ومن المعلوم أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من فصل القضاء عن السلطة التنفيذية فقد أوفد قضاته إلى الأقاليم وضمن لهم الاستقلال الكامل عن الولاة. انظر: مقدمة ابن خلدون، ص 627. 3- نفح الطيب، 1/218. 4- النباهي، ص 21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 من "قاضي الجند" وأول من حمل هذا اللقب هو يحيى بن يزيد1 الذي كان يشغل منصب "قاضي الجند" قبل وصول الأمير عبد الرحمن الداخل للحكم وبعد أن قامت الإمارة وتولى الأمير الداخل الحكم أقر القاضي يحيى بن يزيد على منصبه2 وأما من يلي القضاء في إحدى الكور، فقد كان يعرف بلقب "قاضي" منسوباً إلى الكورة التي هو فيها، فيقال قاضي كورة كذا3. وتسمية يحيى بن يزيد بقاضي الجماعة ربما يكون السبب فيها عائد إلى كتابته للعهد الذي أبرم بين الأمير عبد الرحمن الداخل وبين آخر ولاة الأندلس الوالي يوسف الفهري الذي اشترط حضور قاضيه لكتابة العهد4 لمبايعة المسلمين للأمير عبد الرحمن الداخل بالإمارة لأجل ذلك أُطلق على يحيى ابن يزيد لقب "قاضي الجماعة" أي أنه أصبح هو قاضي الجماعة الجديد في الأندلس5.   1- يحيى بن يزيد التجيبي، من عرب الشام الساكنين في إفريقية، قدم الأندلس مع أبي الخطار الكلبي، واستلم قضاء الجند بقرطبة، وكان رحمه الله رجلاً صالحاً، اعتزل الحرب عند دخول الأمير عبد الرحمن بن معاوية الأندلس. انظر: قضاة قرطبة، ص 14-15. 2- قضاة قرطبة، ص14. 3- ابن الفرضي: رقم 199. التكملة، (طبعة كوديرا) ترجمة رقم 1773. 4- قضاة قرطبة، ص 14. 5- تاريخ القضاء في الأندلس، ص162. قارن أبو رميلة، نظم الحكم في الأندلس، ص263. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 وأما ما ذهب إليه النباهي من أن لقب "قاضي الجماعة" المقصود منه جماعة القضاة1، فهو رأي لايمكن التسليم به وبالذات إذا عرفنا أن قاضي الجماعة لا سلطان له على القضاة خارج قرطبة. وقد ذكر ابن القوطية أن الفقيه عمرو بن عبد الله2 هو أول من تسمى بقرطبة بقاضي الجماعة، وهذا القول يوضحه ما جاء بعده، فقد قال ابن القوطية أن عمرو بن عبد الله "لم يكن من الجند فنسب إليهم، وكان القضاة من أجناد العرب3" وبذلك يتضح أن ابن القوطية أراد أن يقول أنه أول قاضٍ للجماعة من غير العرب4، وهذا ما صرح به ابن الفرضي بقوله "وهو أول من استُقضي بقرطبة من الموالي5".   1- النباهي، ص21. 2- أبو عبد الله عمرو بن عبد الله بن ليث، قرطبي يعرف بالقُبْعَة، مولى إحدى بنات الأمير عبد الرحمن الداخل، ولاه الأمير محمد خطتي القضاء والصلاة سنة 250هـ، إلا أنه سرعان ما صرفه عن خطة الصلاة بسبب معارضة العرب له. وكان عمرو بن عبد الله معروفاً بالفضل والعقل والأدب وقوراً حسن السمت مؤثراً للعدل صاحب هيبة شديدة ومروءة ظاهرة، لقب بالقبعه لأنه كان قصيراً دحداحاً إذا قعد يكاد يخف، ولي القضاء مرتين، الأخيرة كانت سنة 260هـ وعزل عنه سنة 263هـ وقد أصيب عمرو في عقله آخر عمره وتوفي سنة 273هـ انظر: قضاة قرطبة، ص67-73، 82-83. ابن الفرضي، ترجمة رقم 938. 3- ابن القوطية، 73. 4- تاريخ القضاء في الأندلس، ص163. 5- ابن الفرضي، 1/363. وانظر: الخشني قضاة قرطبة، ص 67. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 وظهر في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) لقب جديد، وهو "قاضي القضاة" وصاحب هذا اللقب لا شأن له بقرطبة، إذ أن دائرة اختصاصه محصورة في الثغور، وأول من أُطلق عليه هذا اللقب منذر بن سعيد البلوطي وذلك سنة 330هـ (937م) فقد ولاه الخليفة عبد الرحمن الناصر "القضاء في جميع الثغور، وصُير قاضي القضاة في جميعها، وجعل إليه الإشراف على جميع القضاة والعمال بها، والنظر في المختلفين من بلاد الإفرنج إليها"1. وبهذه الصورة أصبحت الدولة الأموية تضم أربعة أصناف من مراتب القضاة، فهناك "مسدد" وهو قاضي القرية الصغيرة، و"القاضي" وهو من تولى القضاء في الكورة، و"قاضي قضاة" الذي يشرف على عمال الثغور وقضاته، وأخيراً "قاضي الجماعة" بالعاصمة قرطبة. وقد استمر لقب "قاضي الجماعة" طيلة القرنين الثالث والرابع الهجريين (التاسع والعاشر الميلاديين) من عمر الدولة الأموية، إلا أنه في عهد الحاجب عبد الرحمن بن المنصور الشهير بشنجول، حل محله لقب "قاضي القضاة" وأول من حمل هذا اللقب أبو العباس أحمد بن عبد الله بن   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 488. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 ذكوان1، ثم حمله من بعده أبو بكر يحيى بن عبد الرحمن بن وافد اليحصبي2. والملاحظ أن لقب "قاضي القضاة" عرفته الأندلس من المشرق وبالتحديد من الخلافة العباسية التي اقتبسته بدورها من النظم الفارسية الساسانية3، والدولة الأموية في الأندلس لم تسمح بهذا اللقب في حاضرتها إلا بعد أن أخذت تسير سريعة نحو الانحلال. وكما كان القاضي ابن ذكوان أول من لُقِّب بـ"قاضي القضاة" في الأندلس فكذلك هو أول من اجتمع له منصبي الوزارة والقضاء4، ولقب الوزارة هنا ليس لقباً شرفياً، وإنما للقيام بأعباء الوزارة كاملة إضافة إلى   1- ترتيب المدارك، 7/171. 2- أبو بكر يحيى بن عبد الرحمن بن وافد اللخمي، قرطبي كان فقيهاً حافظاً ذاكراً للمسائل بصيراً بالأحكام، مع الورع والفضل والدين والتواضع، ولي القضاء مرتين في عهد الخليفة هشام المؤيد، فحمد الناس سيرته، وكان طيلة مدتي قضائه يؤذن في مسجده ويقيم الصلاة فيه، وصفه ابن حيان بأنه كان آخر كملاء القضاة بالأندلس، وعندما تغلب البرابر على قرطبة نالت ابن وافد منهم محنة شديدة وبلاء عظيم، وحبس بقصر قرطبة إلى أن توفي رحمه الله منتصف شهر ذي الحجة سنة 404هـ. انظر: ترتيب المدارك، 7/176-181. الصلة، ترجمة رقم 1457. النباهي، ص 88-89. 3- كان يطلق على قاضي القضاة في الدولة الساسانية "موبذان موبذ" وتعريبه: قاضي القضاة، وهو أعلى وظائف الدولة الدينية قدراً ورتبه. انظر: كتاب التاج في أخلاق الملوك، ص15. 4- ترتيب المدارك، 7/170-171. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 أعباء القضاء1 وفي هذه الحالة كانت رسوم الدولة الأموية تقتضي تقديم لقب الوزارة على القضاء في المكاتبات فابن2 ذكوان "كان يكتب عنه من الوزير قاضي القضاة3" إلى فلان. وقبل أن ننهي الحديث عن الألقاب التي حصل عليها قضاة الأندلس، لابد من الإشارة إلى أهمية منصب قاضي الجماعة بقرطبة، ويكفي في هذا الخصوص أن أمراء وخلفاء بني أمية كانوا إذا احتاروا في أمر من الأمور لا يقطعون فيه حتى يستشيروا ثلاثة من أصحاب المناصب العليا، أحدهم قاضي الجماعة بقرطبة4. رسوم تعيين قاضي الجماعة: من الملاحظ أن عدد قضاة الجماعة بقرطبة طيلة العهد الأموي، بلغ واحد وثلاثون قاضياً، منهم سبعة من أهل قرطبة والباقي من خارجها5. وإذا بحثنا عن السبب في هذا الوضع نجد أن ابن خلدون يذكر أن خطة القضاء لدى بني أمية بالأندلس لا تسند إلا لأهل العصبية6، ورغم أنه لم يأت بما يؤيد رأيه، إلا أنه يمكن القول بأنه قد ذهب إلى هذا من   1- تاريخ القضاة في الأندلس، ص164. 2- النباهي، ص 88. 3- المغرب في حلى المغرب، 1/215. 4- الزهرات المنثورة، الزهرة الثالث والثمانون، ص52-53. 5- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 173-176 ومصادره. 6- مقدمة ابن خلدون، ص623، 630. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 خلال اختيار الخليفة عبد الرحمن الناصر قضاة من أبناء البيوتات، ذات المكانة في الكورة نفسها أو غيرها من الكور، من ذلك أنه استقضى محمد بن عبد الخالق الغساني في النصف من ربيع الآخر سنة 300هـ (نوفمبر 912م) 1 كما أنه اختار الفقيه معن بن محمد بن معن الأنصاري على قضاء سرقسطة سنة 326هـ (938م) وظل على خطته بسرقسطه حتى وفاته سنة 330هـ (943م) فقد كان الفقيه معن متولياً الأنصار من أهل سرقسطة وأحد رجالاتها وقدوة جماعتها2. وبعد أن يقع الاختيار على أحدهم ليتولى قضاء الجماعة، يتم استدعاؤه للأمير أو الخليفة، حيث يعهد إليه بالقضاء ويعظه ويحدد له الحدود ويرسم له الرسوم، وما يقف عليه من أسباب القضاء ووجوه الأحكام. ومما يلفت الانتباه في هذا الخصوص أن حكام بني أمية كانوا على درجة عالية من الثقافة والإلمام الواسع بمقتضيات الأمور، من ذلك أن الخليفة عبد الرحمن الناصر عندما استدعى الفقيه ابن أبي عيسى ليوليه قضاء الجماعة، خاطبه بما أراد ووعظه ووصاه، وعندما حدَّث ابن أبي عيسى أبا عمر أحمد بن عبادة الرعيني3 (ت332هـ) بما جاء في وصايا الخليفة له،   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص58. 2- التكملة، (طبعة كوديرا) ، ترجمة رقم 1157. 3- ابن الفرضي، ترجمة رقم 105. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 قال له الرعيني: "لو أن أباك حياً، واجتهد في عظتك ما بلغ من النصح لك هذا المبلغ1". وبعد أن تنتهي المقابلة، يتم إصدار مرسوم في هذا الصدد2 وقد حفظت لنا المصادر ظهيراً أصدره الخليفة الحكم المستنصر يوم الإثنين للنصف من شهر شعبان سنة 353هـ (أغسطس 964م) يقضي بتعيين محمد بن السليم قاضياً للجماعة، جاء فيه: إن الخليفة يأمر قاضيه بالاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يصلح سريرته، ويبرأ من الهوى ليكون الناس أمامه سواسية، كما نصحه بعدم الغرور بمنصبه، وأطلعه على خطورة ما يتقلده، وأنه طريقه إلى الجنة أو النار، ثم تعرَّض للشهادات وما يجب عليه في قبولها، وأوصاه بضرورة التفقد الدائم لكاتبه وحاجبه وأهل خدمته، كما نصحه بالتريث في إصدار الأحكام، وأشار عليه بأنه متى ما واجهته معضلة لم يستطع تجاوزها فعليه رفعها إلى الخليفة ليصدر فيها ما يراه3.   1- قضاة قرطبة، ص 118. 2- هناك ظهير أصدره والي الأندلس عقبة بن الحجاج لقاضيه مهدي بن مسلم حين ولاه القضاء بقرطبة، انظر: قضاة قرطبة، ص 9-12. التكملة: (طبعة كوديرا) ترجمة رقم 1162. 3- النباهي، ص75-76. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 والشروط الواجبة توفرها فيمن يلي القضاء عامة، هي أن يكون معروفاً بالخير والصلاح والفضل والورع1، أو سبق أن اشتهر أمره بالأمانة2، وكذلك معرفة الأمير أو الخليفة بأخلاق ذلك المرشح3، أو أن يكون ذو شخصية تميزه عن غيره من الفقهاء4 أو أن تجتمع آراء الوزراء على تقديم فقيه بعينه5. وكان بعض أولئك المرشحين يشترط شروطاً لتولي ذلك المنصب، والقيام بمهامه الخطيرة، فمحمد بن بشير المعافري عندما استدعاه الأمير   1- الأمير عبد الرحمن الداخل استدعى عبد الرحمن بن طريف اليحصبي من مارده وولاه قضاة الجماعة بعد أن سمع عن صلاحه. قضاة قرطبة، ص 23. 2- كان سعيد بن محمد بن بشير المعافري، قد حفظ وديعة لربيع القومس، ورغم النداء الذي أصدره الأمير الحكم الربضي بأن من عنده وديعة لربيع ولم يسلمها خلال ثلاثة أيام فإن دمه يكون مسفوكاً، إلا أن سعيداً المعافري تجاهل هذا التحذير، محتجاً بأن الأمانة تؤدى للبر والفاجر، فلما وقف الأمير الحكم الربضي على ذلك أدرك مدى أمانة سعيد فأوصى الوزراء بتوليته قضاء الجماعة. انظر: قضاة قرطبة، ص39. 3- الأمير محمد بن عبد الرحمن ولى سليمان بن أسود قضاء الجماعة، إذ أنه كان على معرفة مسبقة به عندما كان والياً على مارده وسليمان بن أسود قاضياً فيها. انظر: قضاة قرطبة، ص 73. 4- قضاة قرطبة، ص 67-68. 5- الأمير عبد الله بن محمد جمع الوزراء بعد وفاة قاضي الجماعة محمد بن سلمة، واستشارهم فيمن يقدم للقضاء، فاتفقت كلمتهم على: الحبيب أحمد بن محمد بن زياد اللخمي. انظر: قضاة قرطبة، ص101. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 الحكم الربضي ليتولى قضاء الجماعة وافق على الترشيح ولكنه اشترط "نفاذ حكمه على كل أحد من الأمير إلى حارس السوق، وأنه إذا ظهر له العجز من نفسه أُعفي وأن يكون رزقه كفافاً من المال الفيء1". علاقة أمراء وخلفاء بني أمية بقضاتهم: يقول القاضي الباجي: "على الملك أن يشرف منزلة القاضي، ويقوي سلطانه، وينفذ حكمه في نفسه وولده وأهله وفي جميع أهل مملكته، كما فعلت الخلفاء الراشدون والأئمة الهادية والسلف الصالح لأن سلطانه من سلطانه"2. ومن هذا المنطلق حرص الأمويون على إيجاد القاضي العدل، ومساندة أحكامه، وإن كانت لا تتفق مع أهوائهم، فقاضي الجماعة عبد الرحمن بن طريف اليحصبي3، لم يخش هيبة الأمير عبد الرحمن الداخل4، ولم يجامله، فقد رفض تعليماته بضرورة التريث في قضية   1- النباهي، ص 47-48. 2- أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي، فصول الأحكام وبيان ما مضى عليه العمل عند الفقهاء والحكام تحقيق: الباتول بن علي، ص172. 3- عبد الرحمن بن طريف اليحصبي، استقدمه الأمير عبد الرحمن الداخل من ماردة عندما سمع بصلاحه وصلابته وورعه، فسار بالقضاء أجمل سيره، وقد بلغ من زهده وورعه أنه إذا شغل عن القضاء يوماً واحد لم يأخذ لذلك اليوم أجراً. انظر: قضاة قرطبة، ص 23-24. ابن الفرضي، ترجمة رقم 774. النباهي، ص 44 إلا أنه سماه "نصر بن ظريف". 4- ابن الفرضي: ترجمة رقم 469. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 حبيب القرشي الذي اغتصب ضيعة أحدهم، ولم يكتف بذلك، بل سارع إلى التسجيل على حبيب وإنفاذ الحكم عليه بمحضر الفقهاء والعدول، وعندما عاتبه الأمير على مخالفته أوامره، أجابه قائلاً "أيها الأمير، ما الذي يحملك على أن تتحامل لبعض رعيتك على بعض، وأنت تجد من ذلك وجهاً أن ترضي من تُعنى به من مالك1". وأما الأمير هشام الرضا، فيكفي في إظهار موقفه من قضاته، أنه عندما استدعى المصعب بن عمران ليوليه قضاء الجماعة، قال له في معرض حديثه "ونفسي طيبة عليك لصلاح أمور المسلمين، ولو وضعت المنشار على رأسي لم أعترضك2". وبطبيعة الحال لن يضع القاضي منشاره على رأس الأمير، ولكن هذه الجملة تعني الخضوع المطلق لأحكام القاضي الشرعية، وفي الوقت نفسه هي دليل على مدى ثقة الأمير بمن اختاره للقضاء. ولقد كانت أفعال الأمير هشام مؤيدة لقاضيه، حتى أنه عندما اشتكى إليه أحد رجاله من أن القاضي سجل عليه في داره وأخرجه منها،   1- قضاة قرطبة، 23-24، وقد ذكر الخشني أن حبيباً القرشي بعد أن اشترى الضيعة من أصحابها بالثمن الذي ارتضوه كان يقول: "جزى الله عني ابن طريف خيرا، كانت بيدي ضيعة حرام فجعلها ابن طريف حلالاً" المصدر السابق، ص 24. 2- ابن القوطية، 44. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 رد عليه قائلاً: "وماذا تريد مني؟، والله لو سجل عليَّ القاضي في مقعدي هذا، لخرجت عنه1". وأما الأمير الحكم الربضي، الذي اختلفت المصادر في الحديث عن شخصيته2 فقد ذكر الخشني، أنه عندما بلغه أن قاضي الجماعة محمد بن بشير، يحتضر، قام في جوف الليل يصلي في مكان منفرد في القصر، ويبتهل إلى الله تعالى أن يوفقه بقاضٍ يكون عوضاً لقاضيه ابن بشير3، وذلك على الرغم من أن هذا القاضي كانت له مواقف من الأمير الحكم، فقد أصدر القاضي حكمه في قضية "أرحى القنطرة" ضد رغبة الأمير الحكم، الذي لم يخف استحسانه لفعله، حيث قال "رحم الله محمد ابن بشير فلقد أحسن فيما فعل بنا على كره منا، كان في أيدينا شيء مشتبه فصححه لنا حلالاً طيباً فطاب لنا ملكه4"، وكانت له كلمة مشهورة تدل على حرصه على العدل، فقد ذكر ابن عذاري أنه كان يقول: "ماتحلى الخلفاء بمثل العدل"5.   1- البيان المغرب، 2/66. 2- انظر: نقط العروس، 73. جذوة المقتبس، ص 10. المعجب، ص44. البيان المغرب، 2/78-79. ذكر بلاد الأندلس، ص125،127، 128. نفح الطيب، 1/342. 3- قضاة قرطبة، ص 37-38. 4- قضاة قرطبة، ص 29-30. 5- البيان المغرب، 2/79. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 وأما الأمير عبد الرحمن الأوسط، فقد كان يقال لأيامه أيام العروس1، وذلك لما امتازت به من العدل والهدوء، ومما يدل على حزمه في إقراره العدل قصة التاجر اليهودي الذي شكى لقاضي مارده سليمان بن أسود2 من أن أحد أعوان الأمير محمد بن عبد الرحمن - حاكم كورة ماردة في ذلك الوقت - قد أخذ جاريته منه ولم يسدد ثمنها، أو يردها عليه، وعندما حاول القاضي إقناع الأمير محمد بضرورة إنصاف اليهودي، عمد الأمير إلى الإنكار، فهدده القاضي بأنه سوف يذهب بنفسه إلى والده بقرطبة ويعرض عليه القضية كاملة، فلم يكن أمام الأمير محمد إلا الرضوخ لحكم القاضي، حيث تم تسليم الجارية لليهودي3.   1- ذكر بلاد الأندلس، 139. 2- أبو أيوب سليمان بن أسود بن يعش ابن جشبيد الغافقي، من سكان مدينة غافق، ولي القضاء في كوره مارده، استدعاه الأمير محمد وولاه قضاة الجماعة بقرطبة، وصف بأنه كان رجلاً صالحاً، متقشفاً، مهيباً، صليباً في حكمه، فيه ذكرة وتحامل على كبار رجالات الدولة وقلة مداراة لهم، تولى القضاء بقرطبة مرتين عزل عن الأولى سنة 260هـ، وفي سنة 263هـ أعيد للقضاء وتمادى فيه حتى عزل عنه في عهد الأمير المنذر بن محمد، وقد توفي سليمان بن أسود وهو ابن تسع وتسعين سنة وعشرة أشهر. انظر: قضاة قرطبة، ص 73-82، 83-89. ابن الفرضي، ترجمة رقم 549. النباهي، المرقبة العليا، ص56-59. 3- النباهي، ص56-57، وانظر: قضاة قرطبة، ص73. إلا أن الخشني ذكر أن أحد أعوان الأمير محمد انتزع من رجل ابنته، وهذا في الواقع بعيد الحصول لأنه لايمكن في الوسط الإسلامي انتزاع أي بنت كانت أياً كان والدها، فالنباهي كان دقيقاً عندما ذكر أنها جارية لأحد اليهود والجارية كما هو معروف تباع وتشترى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 وفي عصر الخلافة نجد الخليفة عبد الرحمن الناصر يرضخ لحكم قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي، فقد ذكر ابن غالب أن الخليفة أراد شراء دار أيتام زكريا أخي بخدة الحيري، لحظية من نسائه، وكان أولئك الأيتام في حجر القاضي، وكما هو معروف أنه لا يجوز البيع في هذه الحالة إلا عن رأيه ومشورته، ولذا ما إن شعر القاضي أن الخليفة سوف يدفع ثمناً أقل مما يجب في الدار، حتى سارع وأمر الوصي بنقض الدار حيث بيعت الأنقاض بثمن أكثر مما كان الخليفة سيدفعه، وحين اتصل الخبر بالخليفة سأل القاضي عن هذا التصرف، فكان رده {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} 1 فما كان من الخليفة إلا أن استحسن رد القاضي وتصرفه، وقال له: نحن أولى من الانقياد إلى الحق، فجزاك الله عنا وعن أمانتك خيراً2". وهكذا يتضح مما سبق - والأمثلة كثيرة - أن سياسة بني أمية مع القضاة كانت تتسم بالاحترام والتأييد والمساندة في إنفاذ أحكامهم، وعدم نقضها، بالرغم من أن بعضها كان لا يوافق رغباتهم. كل هذا حرص منهم   1- سورة الكهف الآية رقم 79. 2- فرحة الأنفس، ص 304. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 على إتباع الحق، ونشر العدل إذ أن "الظلم مؤذن بخراب العمران1" ولا ننسى أنهم كانوا شديدي الحرص على سلامة سمعتهم، ليس فقط بين رعاياهم أو الممالك النصرانية المجاورة، وإنما ألا يصل إلى مسامع العباسيين إلا كل جميل عنهم وعن قضاتهم، يدل على ذلك قصة قاضي الجماعة عمرو بن عبد الله، المتوفى سنة 273هـ (886م) الذي دارت حوله شكوك في قضية مال لأحد الأيتام، فقد أفتى الفقهاء بتحليف القاضي علناً، إلا أن الأمير محمد بن عبد الرحمن أخذ برأي الفقيه بقي بن مخلد، المتوفى سنة 276هـ (889م) الذي قال للأمير: "إن اتصل ببني العباس أنّا نحلف قضاتنا، كان ذلك أعظم ما نعاب به عندهم2". وبالمقابل لهذه المساندة التي يقدمها أمراء وخلفاء بني أمية لقضاتهم، نجد الفقهاء يعملون دوماً على تحسين صورة أولئك الحكام أمام رعاياهم، من ذلك مثلاً: العلاقة الوطيدة التي كانت قائمة بين الأمير عبد الرحمن الأوسط والفقيه يحيى بن يحيى الليثي3 ت 234هـ (848م) فقد عبر   1- مقدمة ابن خلدون، ص 741. 2- قضاة قرطبة، ص 84. 3- أبو محمد يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس بن شملل بن منقايار قرطبي، بربري مصمودي، مولى بني ليث، ولد سنة 152هـ سمع من فقهاء عصره في قرطبة ثم رحل إلى المشرق فسمع من الليث بن سعد ومالك بن أنس وتلاميذه في مصر، ولذلك جمع يحيى فقهه من مدرستي المدينة ومصر المالكيتين، فعاد إلى الأندلس بعلم وفير، وغدا إمام وقته، وعادت الفتيا في الأندلس إليه وتعتبر روايته للموطأ أوسع الروايات انتشارا في المغرب الإسلامي بوجه عام، كان رحمه الله رجلاً عاقلاً، عظيم القدر جليل الذكر، لم ينل أحد من أهل العلم بالأندلس مثل مانال يحيى من الرئاسة والحرمة، وعندما وقع هيج الربض، كان يحيى ممن اتهم فيه، ففر بسبب ذلك إلى طليطلة، فكتب له الأمير الحكم الربضي كتاب أمان، فعاد إلى قرطبة، وعندما تولى الإمارة الأمير عبد الرحمن الأوسط، غدت منزلة يحيى أرفع منزلة رغم رفضه تولي منصب القضاء ومازال في سؤدد حتى وافته المنية، رحمه الله، انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 1556. ترتيب المدارك، 3/379-394. سير أعلام النبلاء، 10/519-525. نفح الطيب، 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 عنها ابن القوطية بقوله "وكان يلتزم من إعظام يحيى بن يحيى وبره ما لا يلتزم الابن البار للأب الحاني1" حتى أنه لم يعص له أمراً إلا مرة واحدة2 ومقابل هذا البر كان الفقيه يحيى صاحب مهارة وكياسة في كيفية تزيين اثار الأمير لدى الرعية وحضهم على طاعته واستنهاضهم لتكاليفه3.   1- ابن القوطية، ص 58. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 40-41. 3- المصدر السابق، ص42-43، ولاشك أنه عندما تكون العلاقة بين الفقهاء وبين ولاة الأمر علاقة طيبة وكلمتهم واحدة للعمل بما فيه صالح الإسلام والمسلمين، فإن ذلك ينعكس بصورة إيجابية على المجتمع، فيتحقق الاستقرار والهدوء الأمر الذي يكفل النماء لكافة مقومات الحياة السعيدة والعكس لا يجلب إلا فتنا لانهاية لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 وكان الأمير محمد بن عبد الرحمن يجل الفقيهين بقي بن مخلد ومحمد بن عبد السلام الخشني1 ت268هـ (882م) وناصرهما ضد من وقف في وجهيهما من الفقهاء بعد عودتهما من المشرق2، وبمقابل ذلك كان الفقيه ابن مخلد دائم الدعاء للأمير محمد واصفاً لآثاره معجباً به3، كما   1- أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن ثعلبة الخشني، من أهل قرطبة، إمام حافظ متقن علامة، طلب العلم على شيوخ عصره، ثم رحل إلى المشرق قبل سنة 240هـ، فأدى فريضة الحج، وطلب علم الحديث وعلوم اللغة على علماء العراق ومكة ومصر، وأدخل الأندلس علماً كثيراً بعد أن مكث في المشرق خمساً وعشرين سنة. ولم يكن الخشني فقيهاً، بل كان لغوياً راوية للحديث كما كان رحمه الله ثقة مأموناً. وبسبب إدخاله كتاب الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد تعرض لإنكار بعض الفقهاء، بل ضيق عليه وسجن حتى أنقذه الله تعالى بسبب الأمير محمد بن عبد الرحمن، وقد وصف الخشني بفصاحة اللسان، وجزالة المنطق، كما كان صارماً أنوفاً منقبضاً عن الأمراء، وعندما أراده الأمير محمد على القضاء رفض بشدة، وقد خلط البعض بينه وبين محمد بن حارث الخشني صاحب كتاب قضاة قرطبة. توفي رحمه الله يوم السبت لأربع بقين من شهر رمضان سنة 286هـ. انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 1134. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 250-261. جذوة المقتبس، ترجمة رقم 100. سير أعلام النبلاء، 13/459-460. Francisco pons Boigues: Storiadores y Geografos Arabico- Espanoiles- Madrid, 1898, p: 48> 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 248-252. 3- العقد الفريد، 4/494-495. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 أن الفقيه الخشني كان إذا قعد للإسماع ابتدأ القارئ عليه بالدعاء للأمير محمد، وإذا فرغ ختم به1". وفي عهد الخليفة هشام المؤيد كان الحاجب المنصور بن أبي عامر لا ينفذ بعض أحكام قضاته2، فقد تدخل في حكم قضائي صدر ضد قاسم بن محمد المرواني المعروف بالشبانسي، الذي أودع السجن تميهداً لقتله، إلا أنه أفرج عنه لقصيدة مدحه فيها 3. وقد اقتضت رسوم الدولة الأموية في الأندلس أن تكون مخاطبة القاضي للأمير أو الخليفة الأموي بـ"التسييد4" وهذا ما كان يلتزمه الفقيه يحيى بن يحيى الليثي مع الأمير عبد الرحمن الأوسط5، كما أن قاضي   1- المقتبس، تحقيق: محمود مكي، ص 252. 2- عندما وُضعت جنازة الخليفة الحكم المستنصر بالله تقدم ابنه هشام المؤيد للصلاة عليه، فقال القاضي ابن سليم، وما تغني صلاة أمير المؤمنين عنه، ثم برز عن الصف بنية الإمامة، وروى عنه أن قال: لولا إني نويت عقد الصلاة بمقامي هذا لدفن بغير صلاة، انظر: ترتيب المدارك: 6/288-289. فلما علم المنصور بذلك أخذ يسعى في توهين أمر ابن السليم ويتعرض لأحكامه وينقض قضاياه. 3- جذوة المقتبس، ترجمة رقم 767. بغية الملتمس، ترجمة رقم 1296. نفح الطيب، 3/592. 4- النباهي، ص 78. 5- المقتبس، تحقيق: د. محمود علي مكي، ص 44. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 الجماعة محمد بن يبقى بن زرب1، المتوفى سنة 381هـ "991م" كان يخاطب الخليفة هشام المؤيد بـ"أصلح الله أمير المؤمنين سيدي وأبقاه وأيده بطاعته2". ونظراً لأن الحاجب المنصور بن أبي عامر سبق وأن أصدر أوامره بأن تكون مخاطبته بلفظ "سيدي3" لأجل هذا فقد كان القاضي ابن زرب يخاطبه بـ"يا سيدي ومن وفقه الله لطاعته وعصمه بتقواه4".   1- أبو بكر محمد بن يبقى بن محمد بن زرب بن يزيد بن مسلمه، قرطبي ولد يوم الجمعة التاسع من شهر رمضان سنة 317هـ، وطلب العلم على فقهاء قرطبة، برع في حفظ المسائل على المذهب المالكي حتى عد أحفظ أهل زمانه لها كان أحد المشاورين عند قاضي الجماعة محمد بن إسحاق بن السليم، وبعد وفاته تولى محمد بن يبقى قضاء الجماعة يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة 367هـ فكان في أحكامه بعيداً عن الحيف، وكان لا يجلس للقضاء حتى يأكل كما كان كثير الصلاة كثير التلاوة للقرآن، بصيراً بالعربية، فيه سلامة تجعله يقبل .... مواجهة، وقد ألف كتاباً في الفقه أجاد فيه، وكان المنصور بن أبي عامر يجله ويعظمه ويتحرك له ويجلسه على فراشه، ومع ذلك لم يقبل له ابن زرب يداً قط، وقد توفي رحمه الله ليلة الأحد الثاني عشر من شهر رمضان سنة 381هـ ودفن يوم الأحد بعد صلاة العصر في مقبرة قريش، ففقده الناس وأثنوا عليه ثناءً حسناً، وأظهر المنصور لموته غماً شديداً، انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 1363. بغية الملتمس، ترجمة رقم 325، ابن فرحون الديباج المذهب (القاهرة، مكتبة عباس عبد السلام شقرون، ط الأولى 1351هـ) ص 268-269. 2- النباهي، ص78. 3- البيان المغرب، 2/294. 4- النباهي، ص 78. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 تعطل منصب قاضي الجماعة: بالرغم من الاهتمام الكبير الذي أولاه الأمويون في الأندلس للقضاء إلا أن المصادر أوردت ذكر تعطل منصب "قاضي الجماعة" ثلاث مرات طيلة تاريخ الدولة الأموية هناك. ففي عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، وبعد أن توفي قاضي الجماعة يحيى بن معمر الألهاني سنة 209هـ (824م) بقي الناس بغير قاضي مدة ستة أشهر1. وفي عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن تعطل القضاء، فقد خرج قاضي الجماعة عمرو بن عبد الله للغزو مع وليد بن هاشم سنة 263هـ (877م) وعند عودته لم يؤمر بالنظر في القضايا، وعدم صدور الأمر للقاضي بالنظر بعد عودته من الغزو علامة على أنه قد عُزل عن منصبه، وبذلك ظل منصب قاضي الجماعة معطلاً طيلة ستة أشهر حتى أعيد إلى القضاء سليمان بن أسود للمرة الثانية2. وأما الخليفة المستعين بالله سليمان بن الحكم، فقد عطل خطة القضاء ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر بحجة أنه لم يجد الكفء لهذه الخطة، بعد أن اعتذر عنها وليه أحمد بن ذكوان3.   1- قضاة قرطبة، 51. 2- المصدر السابق، ص83. 3- النباهي، ص 89. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 وتعطيل منصب القضاء في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط وابنه محمد أمر مثير للتساؤل، خاصة في وسط يعج بالفقهاء الأكفاء، كما هو حال المجتمع الأندلسي آنذاك، وقد كان بمقدور أي منهما تكليف أحد الفقهاء للقيام بهذه المهمة أو أن يدل على من هو أهل لها1، وبما أن بقاء الناس بدون قاضي مفسد لأحوالهم. إذاً ما هو العذر في تعطيل ذلك المنصب الهام؟ لعل حجة الأمير عبد الرحمن الأوسط وابنه في تعطيل منصب القضاء راجع إلى حرصهما على أن يكون القاضي الجديد لا يقل كفاءة عن سلفه2. وأما تعطله في عهد المستعين، فالناس كانوا في فتنة عظيمة لا ينال فيها صاحب الحق حقه حتى وإن كان القاضي في مجلسه، بالإضافة إلى هرب معظم الفقهاء من قرطبة بسبب الفتنة. وبالرغم من المكانة السامية التي يتمتع بها قاضي الجماعة بقرطبة، إلا أن سلطته تبدو محدودة مقارنة بمكانته، فسلطته لا تتجاوز قرطبة، وقضاؤه يتوقف عند حدودها، وليس له على قضاة كور الأندلس أي سلطة. والسبب في ذلك يوضحه لنا ابن حيان، فقد ذكر أن بني أمية في الأندلس "لم يفوضوا أمر القضاة إلى قاضي في وقت من الأوقات3" سواء   1- من ذلك فعل الأمير عبد الرحمن الأوسط مع الفقيه يحيى بن يحيى الليثي. انظر: قضاة قرطبة، ص5. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 58-59. النباهي، ص 14-15. 2- انظر: قضاة قرطبة، ص5. قارن: النباهي، ص 14-15. 3- المغرب في حلى المغرب، 1/215. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 في الأحكام أو التعيين والعزل، لكننا نجد لدى الخشني نص يفيد بأن هذه القاعدة يمكن تجاوزها، شريطة أن يصدر تفويض من الأمير بذلك، يتمكن من خلاله قاضي الجماعة من بسط نفوذه حيث يصبح بإمكانه إصدار أوامره لأحد قضاة الكور وتفقد أحواله أو حتى عزله وتعيين سواه، من ذلك أن أهل كورة استجه رفعوا للأمير الحكم الربضي كتاباً يسألونه فيه تعيين قاضٍ يقضي بينهم، فأحال الأمير كتابهم إلى قاضي الجماعة سعيد بن محمد ابن بشير المعافري ليختار لهم من يراه1. ثقافة القاضي: جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً، أنه قال له: "كيف تقضي إن عرض عليك القضاة؟ "قال: "أقضي فيما في كتاب الله" قال: "فإن لم يكن ذلك في كتاب الله؟ " قال: "أقضي بسنة رسول الله" قال: "فإن لم يكن ذلك في سنة رسول الله؟ "قال: "أجتهد رأيي ولا آلو" قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره   1- قضاة قرطبة، ص 38. لقد اخُتلف كثيراً في جواز حكم القاضي في قضية وقعت خارج النظام الإقليمي المحدد لولايته، عن الآراء في هذه المسألة. انظر: أبو إسحاق إبراهيم بن حسن بن عبد الرفيع، معين الحكام على القضايا والأحكام، (تحقيق: د. محمد بن قاسم بن عياد: دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط الأولى 1989م) 2/613-614. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 بيده، وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله" 1. هذا الحديث الشريف الذي أقر فيه النبي صلى الله عليه وسلم قول معاذ رضي الله عنه قد جمع المصادر التي يمكن بواسطتها استنباط الأحكام. فعندما يكون النص من الكتاب والسنة متعذراً لابد من الاجتهاد، والذي تجدر الإشارة إليه أن الاجتهاد الذي يلجأ إليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم على قيد الحياة، لا يأخذون به إلا في حالة بعد الشقة بينهم وبينه، والأمر يتطلب البت حالاً، أما في حالة كونهم معه فإنهم يرجعون إليه في كل صغيرة وكبيرة ليمتثلوا أوامره عليه الصلاة والسلام2. وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزود من يوليهم القضاء بوصاياه وإرشاداته الكريمة3، وعلى هذا المنوال سار من أتى بعده من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وغيرهم، ولعل أشهر تلك الوصايا كتاب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما4.   1- أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، الجامع الصحيح "سنن الترمذي، (دار الفكر للنشر والتوزيع. القاهرة، 1400هـ 1980م) 2/394. 2- محمود محمد عرونس، تاريخ القضاء في الإسلام، (المطبعة المصرية الأهلية الحديثة، القاهرة، 1352هـ 1934م) ص19. 3- سنن الترمذي، 2/395. 4- أدب القاضي، ص 45. العقد الفريد، 1/101. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 هذه الوصايا والإرشادات التي وصلت إلينا منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه رضي الله عنهم، جميعها تشكل القاعدة الرئيسية للثقافة التي يجب أن يتحلى بها من يلي القضاء. ومن اجتمع فيه الدين والعلم وكان "مطلعاً على أقضية من مضى، غير مستكبر عن مشاورة من معه من أهل العلم، ورعاً، ذكياً فطناً، فهماً غير عجول، نزيهاً عما في أيدي الناس عاقلاً، مرضي الأحوال، غير هيَّاب للأئمة1" كان هو الأصلح للقضاء. ولأن من النادر اجتماع هذه الخصال في رجل واحد - باستثناء السلف الصالح - لأجل هذا نجد الإمام مالك بن أنس، المتوفى سنة 179هـ (795م) رحمه الله، يقول: "ولا أرى خصال القضاء تجتمع اليوم في أحد، فإن اجتمع منهما خصلتان: العلم والورع، ولي2"، في حين يرى الفقيه عبد الملك بن حبيب3، أن صفتي العقل والورع تؤهلان الرجل   1- معين الحكام، 2/608. 2- لباب الألباب، ص 254. معين الحكام، 2/609. 3- أبو مروان عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون السلمي، أصله من قرية قورت، ولد بالبيرة سنة 174هـ، ونشأ بها، ثم تحول إلى قرطبة طلباً للعلم، ومن أجله رحل إلى المشرق سنة 208هـ، ثم انصرف إلى الأندلس سنة 210هـ حاملاً معه علماً كثيراً، نشره في بلدته، وعندما ذاعت شهرته وعرفت مكانته أمر الأمير عبد الرحمن الأوسط بنقله إلى قرطبة، وجعله مشاوراً مع يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان، وقد ألف عبد الملك كتباً كثيرة تجاوزت الألف كتاب في فنون شتى كالفقه والحديث والسير والشمائل والتراجم والتاريخ والطب، ويعتبر كتابه "الواضحة" من أشهر مصنفاته. وصف بأنه عالم الأندلس، فقد كان نحوياً عروضياً شاعراً، حافظاً للأخبار والأنساب والأشعار، متصرفاً في فنون العلم، إلا أنه مع غزارة علمه لم يكن له علم بالحديث ولا كان يعرف صحيحه من سقيمه وبعد وفاة يحيى بن يحيى انفرد عبد الملك بن حبيب برئاسة العلم، ومازال رحمه الله، في سؤدد حتى وافته المنية يوم السبت الخامس من شهر رمضان سنة 238هـ. انظر: قضاة قرطبة، ص50،52-53، 59-60. ابن الفرضي، ترجمة رقم 816. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص45-48، 55-56،، 59-60. ترتيب المدارك 4/122-142. الإحاطة في أخبار غرناطة، 3/548-553. الديباج المذهب، ص 154-156.Bolgues, op. cit- p: 29-37 محمد العربي الخطابي، الطب والأطباء في الأندلس الإسلامية، (دار الغرب الإسلامي بيروت. ط الأولى 1988م) ، 1/85-89. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 للقضاء، لأنه بالعقل يسأل ويشير وبالورع يعف1، وورد لدى النباهي أن "كثير العقل مع قليل العلم أنفع من كثير العلم مع قليل العقل، وليس العلم بكثرة الرواية والحفظ، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، وإنما العلم نور يضعه الله في القلب2". وقد ذكر ابن عبد ون الصفات الخلقية التي يجب أن يكون عليها القاضي باعتباره قدوة الجميع فهو يرى أن القاضي يجب "أن يكون جزلاً   1- لباب الألباب، ص254. النباهي، ص2. معين الحكام، 2/609. 2- النباهي، ص 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 في قوله، صارماً في أمره، محقاً في حكمه، مصوناً عند الناس وعند الرئيس والجمهور عارفاً بحكم الله1". وقد استقصت بعض المصادر2 ذكر تلك الخصال وكلها تدور حول كون القاضي قدوة للخاصة والعامة ولذا فلابد أن تتوافر فيه الشروط التي تؤهله لذلك. وعندما نقلب صفحات تراجم قضاة قرطبة، نجد أن معظمهم قد توفرت فيهم العديد من الصفات التي اشترطها الفقهاء فيمن يلي القضاء3. وبالمقابل لصور هؤلاء القضاة، نجد صوراً أخرى قاتمة لقضاة وجدوا في عصر الفتنة، من سنة 399هـ-422هـ (1009-1031م) ويصور لنا ابن حيان حال أحدهم في تلك الفترة، فذكر أن رجلاً كان فلاحاً ثم ناسب أسرة ابن ذكوان، وتولى القضاء آنذاك، فكان ذلك الرجل، مع ثرائه "مضاع الجار، ممطول الغريم، عاتب الصديق، مكرها للأنام ... ضيق الباع في العلم والفضل، والاتساع في الجهل، فلا يحفظ في الفقه مسألة، ولا يوثق من الشروط عقداً، ولا يتخلص في التلاوة من سورة، ولا يفيض في الأدب ببيت شعر، ثم يأوي بجهله إلى حرج صدر، وغالب نزق، فلا   1- رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة، ص 7. 2- أدب القاضي، ص108. الأحكام السلطانية، ص 53-54، النباهي، ص3-5. المعيار المعرب، ص10/76-77. 3- قضاة قرطبة، ص14، 61، 74-75، 111. ترتيب المدارك، 7/168. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 تلقاه الخصوم أبداً إلا سريع الغضب، سيء التناول، ينازق الذباب شراسة1". صلاحيات القاضي واختصاصاته: للقاضي صلاحيات وسلطات يمارسها دون غيره من أهل الخطط، فهو ينظر في عشر مسائل، هي: الفصل في المنازعات، والعمل على إيصال الحقوق لمستحقيها، وإلزام الولاية للسفهاء والمجانين والحجر على المفلس حفظاً للأموال، والنظر في الأحباس والوقوف والتفقد لأحوالها وأحوال الناظر فيها، كذلك له تنفيذ الوصايا على شروط الموصي إذا وافقت الشرع، ويتولى تزويج الأيامى من الأكفاء في حالة عدم وجود الأولياء، وله إقامة الحقوق سواء كانت من حقوق الله تعالى أو من حقوق الآدميين، بالإضافة إلى النظر إلى مصالح العامة من كف التعدي في الطرقات والأفنية، وإخراج مالا يستحق من الأجنحة والأقنية، وتفقد أحوال الشهود والأمناء واختبار من يرتضيه لذلك، وأخيراً، وجوب التسوية في الحكم بين القوي والضعيف وتوخي العدل بين الشريف والمشروف2. وإذا نظرنا إلى قضاة قرطبة، نجد أنهم كانوا يطبقون تلك الاختصاصات والصلاحيات تطبيقاً عملياً، فقد كانوا يتناولون في   1- الذخيرة ق1 م1 ص592. 2- النباهي، ص5-6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 أحكامهم مسائل متنوعة، وتكون الأحكام الصادرة عنهم مرتكزة على آراء الفقهاء والمشاورين الذين تتم استشارتهم في تلك القضايا، من ذلك "قضية وارث غائب في المشرق وله شرك في دار وطلب الورثة قسمة الدار، وأفتى الفقهاء ببيع الدار، وحفظ حق الوريث الغائب في قيمة ميراثه، وذلك لأن الدار لا تحتمل القسمة1". وعندما تقدمت جارية مملوكة للقاضي وادعت أن سيدها غاب عنها ولم يترك لها نفقة، أمر القاضي ببيعها، وحفظ الثمن عند أحد الثقات إلى أن يرجع سيد الجارية فيسلم له2. وقاضي الجماعة يركب لحيازة أرض محبسة3، أو للوقوف على أطوال أرض معينة، مثل ركوب قاضي الجماعة أحمد بن بقي4 بن مخلد   1- تاريخ القضاء في الأندلس، ص204. 2- معين الحكام، ص 2/620. 3- مطمح الأنفس، ص 255. 4- أبو عبد الله أحمد بن بقي بن مخلد بن يزيد، ولد في شهر ذي الحجة سنة 260هـ، فتربى ونشأ في حجر أبيه، وطلب العلم عليه، نبغ مبكراً، وارتفعت منزلته حتى أن الأمير عبد الله بن محمد شاوره وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، رزق هيبة عظيمة، وقد بلغ من عظم مكانته عند الناس، أن الحاجب موسى بن محمد بن حدير قال عنه: عافانا الله من أحمد بن بقي أنه مال إلى الآخرة وطريقها ولو مال إلى الدنيا لشغلنا بأنفسنا، وقد كان رحمه الله زاهداً، فاضلاً، حليماً، عاقلاً، حصيفاً، أديباً، بليغاً، أنيس المجلس، صادق اللهجة، متواضعاً، رقيق القلب، من رآه أحبه، شديد الحفظ للقرآن، كثير التلاوة له، عالم بتفسيره ومعانيه واختلاف العلماء فيه، تولى قضاء الجماعة مقروناً مع الصلاة والخطبة سنة 314هـ. فحمدت سيرته، وظل في منصبه حتى وافته المنية ليلة الاثنين الأول من جمادى الأولى سنة 364هـ. انظر: قضاة قرطبة، ص111-117. ابن الفرضي، ترجمة رقم 103. ترتيب المدارك 5/200-209. سير أعلام النبلاء 15/83-84. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 إلى مقبرة الربض لامتحان الحدود التي سبق وأن أثبتها قاضي الجماعة الأسوار بن عقبة1، وكذلك معاينة حائط فيها تنازع2، ومنع الضرر الحادث من دخان فرن ونحوه3، والتحقيق في قضايا القتل الخطأ4، والحكم بالعقلة5، والإشراف على المساجد والميضأة ونظافة أفنيتها وفتح أي باب من أبواب المسجد أغلق منذ مدة طويلة6.   1- قضاة قرطبة، ص 49. أبو عقبة الأسوار بن عقبة بن حسان بن عبد الله النصري، من أهل جيان، ولاه الأمير عبد الرحمن الأوسط القضاء بعد عزله للقاضي يحيى بن معمر الألهاني سنة 260هـ، وقد وصف الأسوار بأنه كان من أهل التحري والخير والفضل والتواضع وحسن السيرة، عاقلاً له مسجد يعرف باسمه يقع في الزقاق الكبير بقرطبة، عزله الأمير عبد الرحمن عن القضاء سنة 213هـ ثم رأى بعد ذلك إعادته إلا أن الأسوار رفض بشدة. انظر: قضاة قرطبة، ص48-49. ابن الفرضي، ترجمة رقم 279. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص40، 57-58. 2- تاريخ القضاء في الأندلس، ص205. 3- قضاة قرطبة ص79. 4- د. محمد عبد الوهاب خلاف، وثائق في أحكام القضاء الجنائي في الأندلس، مستخرجه من مخطوط الأحكام الكبرى للقاضي ابن أبي الأصبع بن سهل ص47. 5- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 209. 6- المرجع السابق ص210. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 كما أن له الإشراف على المقصورة المقامة في المسجد الجامع بقرطبة، ولا يؤذن لأحد بالصلاة فيها إلا بأمره1، والنظر في المشاجرات سواء التي كانت تنشأ بين الزوجين أو بين أي اثنين من أفراد المجتمع بسبب رهن أو بيع فيه عيوب ونحو ذلك2. ومن الأمور التي يبرز فيها دور القاضي في تهدئة الأحوال في مجتمعه أنه عقب هيج الربض الذي اندلع بقرطبة ضد الأمير الحكم الربضي، أُتهم أحد أقارب قاضي الجماعة الفرج بن كنانة3 بالاشتراك في ذلك الهيج، فتسور الأعوان عليه داره ليقتلوه، فعلت أصوات النساء، وعندما استفسر الفرج بن كنانة عن سبب ذلك الصراخ، وأخبر بحقيقة الأمر خرج مسرعاً إلى رئيس الأعوان وخاطبه في الأمر، فرد عليه رداً جافاً، فغضب الفرج وذهب للأمير الحكم وقال له: "أيها الأمير، أصلحك الله، إن قريشاً حاربت النبي صلى الله عليه وسلم وناصحته   1- قضاة قرطبة، ص 104. 2- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 213-214. 3- أبو القاسم فرج بن كنانة بن نزار بن غسان بن مالك بن كنانة الكناني، من أهل شذونة، كان من أهل العلم والعبادة، رحل إلى المشرق طلباً للعلم، وبعد عودته ولاه الأمير الحكم الربضي قضاء الجماعة بقرطبة وذلك سنة 198هـ. فمكث في منصبه إلى أن استعفى منه سنة 200هـ، وكان له الأثر العظيم في الأمان الذي بذله الأمير الحكم الربضي لأهل الربض، وقد كان الفرج فارساً شجاعاً، ولذا فقد قاد الجيوش في أعمالها العسكرية في الثغور، كما تولى الحكم في سرقسطة فأصلح الله به أحوال أهلها. انظر: قضاة قرطبة، ص 40-44. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1030. ترتيب المدارك 4/144-145. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 العداوة، ثم أنه صفح عنهم وأحسن إليهم، وأنت أحق الناس بالاقتداء به لقرابتك منه، ثم حكى له القصة وما عرض له، فأمر بضرب الناظر في ذلك الشغب وعفا عن بقية أهل قرطبة، وبسط الأمان لجماعتهم، واستألفهم إلى أوطانهم1. ولقاضي الجماعة دور في محاربة الأهواء والبدع، فقاضي الجماعة أسلم بن عبد العزيز2، المتوفى في أواخر شهر رجب سنة 319هـ (أغسطس سنة 931م) أمر بضرب أحد النصارى لأنه ادعى لنفسه   1- قضاة قرطبة، 41. 2- أبو الجعد أسلم بن عبد العزيز بن هاشم بن خالد بن عبد الله، ولد سنة 231هـ، من ذرية أبان مولى الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه أصله من لوشه بغرناطة، وأسرته معروفة هناك، وفيهم أعلام وفضلاء، كان من خيار أهل إلبيرة، طلب العلم بها، ثم أخذ عن أعلام قرطبة، وبالذات بقي بن مخلد فقد صحبه طويلاً وفي سنة 260هـ رحل أسلم إلى المشرق، وأخذ العلم عن أعلامه وعاد إلى الأندلس بإسناد عالٍ وعلم جم، فنال الوجاهة العظيمة، وكان الخليفة عبد الرحمن الناصر عارفاً بمروءة أسلم وحسن طويته ولذا فقد ولاه قضاء الجماعة يوم الأربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة 300هـ فحمدت سيرته، فقد كان قليل المداراة في الحق، وفي سنة 309هـ عزل عنه، ثم أعيد إليه سنة 312هـ، ولم يزل إلى أن مل واستعفى وقد كان الخليفة الناصر يستخلفه في سطح القصر إذا خرج لمغازيه وتوفي أسلم رحمه الله لسبع بقين من رجب سنة 369هـ. انظر: قضاة قرطبة، ص 106-109، 111. ابن الفرضي، ترجمة رقم 280، جذوة المقتبس، ترجمة رقم 322. ترتيب المدارك، 5/194-200. سير أعلام النبلاء، 14/549. الإحاطة 1/419-422. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 الإتيان بمعجزات لم تكن إلا لعيسى عليه السلام1، كما أن قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي، المتوفى أواخر شهر ذي القعدة سنة 355هـ (نوفمبر سنة 966م) أفتى بكفر وإلحاد أبي الخير2 ووجوب قتله دون أن يستتاب لأنه كان يسب الصحابة ويطعن في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ويرمي أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها بالكذب، وكان مادحاً للخمر شارباً له زانياً لواطاً آكلاً للحم الخنزير هازلاً بكتاب الله طاعناً في السنن وأهلها، محتجاً على أهل السنة بالبدع، مؤولاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم على غير مقصده، تاركاً للصلوات الخمس، وحضور الجمعة، مدعياً بأحقية علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنبوة، وأن محاربة بني أمية أحق من محاربة الشرك، وكان يدعو لدعوة أبي تميم معد الملقب بالمعز لدين الله الفاطمي3، ويرى الخروج على   1- قضاة قرطبة ص 108-109. 2- عن أبي الخير وحقيقة اسمه، انظر: د. محمد عبد الوهاب خلاف، ثلاث وثائق في محاربة الأهواء والبدع في الأندلس. (القاهرة، المركز العربي الدولي للإعلام، ط الأولى 1981م) ص48-49. 3- معد بن إسماعيل بن القائم بن المهدي أحد حكام العبيديين، ولد بالمهدية في المغرب سنة 319هـ، بويع بالحكم في المنصورية بعد وفاة أبيه سنة 341هـ، ودخل القاهرة المسماة بـ"القاهرة المعزية" يوم الخامس من رمضان سنة 362هـ. وقد كان معد عاقلاً لبيباً حازماً ذا أدب وعلم ومعرفة وجلالة وكرم، قال عنه الذهبي "ولولا بدعته ورفضه لكان من خيار الملوك، مات معد في ربيع الآخر سنة 365هـ بالقاهرة، انظر: ابن سعيد، النجوم الزاهرة في حُلى حضرة القاهرة، تحقيق: د. حسين نصار، (القاهرة وزارة الثقافة، 1970م) ص 46-48. ابن تفري بردي، النجوم الزاهرة، (القاهرة دار الكتب المصرية، ط الأولى، 1352هـ/1933م) 4/69-109. المقريزي، إتعاظ الحنفاء، 1/ 93-150، 208-235. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 الخليفة، الحكم المستنصر بالله بالسلاح، ويطعن على أئمة المسلمين وخلفائهم وفقهائهم، وينكر الشفاعة، ويدعي تخليد المذنبين من الموحدين في النار1. وقد أيد الخليفة الحكم المستنصر بالله رأي القاضي ومن معه من الفقهاء، وأصدر في ذلك كتاباً قرئ على منابر الأندلس فيه الوعيد الشديد للزنادقة، ولمن أفتى بغير المذهب المالكي2. وبالإضافة إلى ما سبق، فقد كان من مهام القاضي المحافظة على القيم الإسلامية في المجتمع الأندلسي، فقد ذكر أنه كان في تطيلة امرأة "لها لحية كاملة كلحى الرجال، وكانت تتصرف في الأسفار وسائر ما يتصرف فيه الرجال فلا يؤبه لها حتى أمر قاضي الناحية نسوة من القوابل بالنظر إليها، فأخبرنه أنها امرأة فأمر القاضي بحلق لحيتها، وأن تتزيا بزي النساء، وألا تسافر إلا بذي محرم3".   1- انظر: د. محمد عبد الوهاب خلاف: ثلاث وثائق في محاربة الأهواء والبدع في الأندلس، ص57-82. 2- المعيار المعرب، 2/333. 3- فرحة الأنفس، ص 287. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 وللقاضي الإشراف على بيت المال، وعليه أن يتفقد أمر العاملين فيه كل عام وإن أمكن كل شهر، ولا يأذن لأحد في التصرف فيه إلا عن رأيه، والقاضي والفقهاء يدبرون أمر بيت المال ويصلحون شأنه بحيث يكون بعضهم على بعض شهيداً1. ويتولى القاضي في بعض الأحيان مساءلة العمال إذا كثرت شكاوى الرعية منهم، فقاضي الجماعة سليمان بن أسود حكم على يوسف بن بسيل عامل شذونه، وذلك بسبب دعاوى رفعت ضده، كلها تتهمه باستغلال منصبه واغتصاب أموال بعض الأهالي في شذونه2. والقاضي يتولى عملية الإشراف على الوثائق والتدقيق فيها، وإنزال العقوبة في من يثبت تدليسه فيها، فقد ذكر النباهي أن قاضي الجماعة محمد بن بشير المعافري3 قد ثبت لديه أن رجلاً كان يدلس في الوثائق   1- رسالة ابن عبدون، ص 10،22. 2- قضاة قرطبة، 77-78. 3- أبو عبد الله محمد بن بشير بن شراحيل المعافري، أصله من جند باجة من عرب مصر، طلب العلم عند شيوخ قرطبة، ثم رحل إلى المشرق فحج ولقي الإمام مالك بن أنس وجالسه وسمع منه، كما طلب العلم بمصر ثم انصرف إلى الأندلس، فعمل كاتباً للقاضي المصعب بن عمران إلى أن توفي فولاه الأمير الحكم منصب القضاء وفق شروط اشترطها ابن بشير، فظل في منصبه محمود السيرة إلى وفاته رحمه الله سنة 198هـ، وقد كان ابن بشير محل ثناء علماء الأندلس، وقد قال عنه الأمير الحكم "كنت مستريحاً من أخبار الناس وظلامتهم لما علمت من عدله وثقته" كما اعتبره ابن القوطية بأنه خير القضاة بالأندلس وأفضلهم وأعدلهم. انظر: قضاة قرطبة، ص28-38. ابن القوطية، ص44، 45،57. ترتيب المدارك، 3/327-339. بغية الملتمس، ترجمة رقم 69. النباهي، ص47-53. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 وأنه قد عقد وثيقة مدلَّسة على أحد التجار، فأمر القاضي ابن بشير بقطع يد ذلك الرجل فقطعت1. كذلك تعرض على القاضي مسائل الحبس الخطأ2، ويقوم بتعيين إمام مسجد السجن وتكون أجرته من بيت المال3 كما يتولى مراقبة ما يصرف من أجرة أو إنفاق أو إصلاح موضع من الثغور ومدافعة عدو4. ومن مهام القاضي ارتقاب شهر رمضان المبارك لإبلاغ الخليفة بذلك، ونشر الخبر بين الناس5. وفي أحداث الفتنة البربرية كان لقاضي الجماعة ابن ذكوان موقفاً معتدلاً، فقد كان يرى ضرورة الصلح وإيقاع السلم مع البربر وقائدهم سليمان بن الحكم6، كما حذر هشام بن سليمان من الفتنة وسوء   1- النباهي، ص 48. 2- وثائق في أحكام القضاء الجنائي، ص52،54. 3- ابن عبدون، ص 19. 4- المصدر السابق، ص 11. 5- النباهي، ص 78. 6- ترتيب المدارك: ص 7/173. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 العاقبة1، ونصح الخليفة هشام المؤيد بعدم الأخذ بآراء حاجبه واضح الصقلبي2. هذه صورة مجملة، للمهام التي أنيطت بالقاضي، الذي هو بدوره ركيزة أساسية يقوم عليها أي مجتمع كان، فهو القدوة، وبيده تحقيق العدالة التي هي سر الاستقرار والأمان، ولذا فعندما عمت الفتنة البربرية وتوارى دور القضاة، نجد ابن عبد ون يحملهم مسئولية ما وقع في قرطبة وغيرها من مدن الأندلس، فبعد أن تحدث عن الفساد الذي أصاب قلوب الناس، وما تبع ذلك من وقوع الهرج، قال "لا يصلح هذه الأمور إلا نبي بإذن الله، فإن لم يكن زمن نبي، فالقاضي مسئول عن ذلك كله، ومن كان في عون المسلمين كان الله في عونه، فعليه أن يصرح بالحق، ويجري إلى الصلاح والعدل والتخلص، وينظر لنفسه فعسى يتخلص، والله بعزته يسدّده ويوفقه للخير ويعينه عليه، إنه منعم بذلك، والقادر على كل شيء3".   1- البيان المغرب، 3/79. 2- ترتيب المدارك، 7/173. 3- ابن عبدون ص 60. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 مجلس القاضي ورسومه: كان المسجد النبوي الشريف مكاناً للقضاء، وذلك طيلة عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفي عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه تم بناء أول دار للقضاء1. وبعد ذلك اتخذ قضاة الأمصار في الدولة الإسلامية الجامع مكاناً لانعقاد مجالس القضاء "لأنه أسهل المجالس، وأرفقه بالناس، وأحرى ألا يخفى على من أراد مجلس القاضي2" وفي هذا يقول الفقيه ابن العطار، المتوفى سنة 399هـ (1009م) : "إن للقاضي أن يلتزم النظر في المسجد، فهو كان من فعل المتقدمين بهم السالفين، ليصل إليهم القوي والضعيف، ولا ينبغي أن يحجب عنه أحداً، وهو أقرب إلى التواضع وأحوال النساك والصالحين3". وكون المسجد الجامع، هو المكان الرئيسي للقضاء، لا يعني بالضرورة عدم جواز عقده فيما سواه، فللقاضي أن يجلس للقضاء في   1- محمد سلام مدكور، القضاء في الإسلام، ص26. 2- أدب القاضي، ص 85. 3- كتاب الوثائق والسجلات، ص492. وانظر ما ورد لدى السقطي عن موقف صاحب الحسبة ببغداد عندما وجد القاضي قد جلس للقضاء في الجامع، أبو عبد الله محمد بن أبي محمد السقطي، آداب الحسبة، (نشر: س. كولان. ليفي بروفنسال، باريس،1931م) ص2-3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 المساجد المجاورة لبيته1، بل ربما كان بيت القاضي مكاناً للقضاء، فقد كان قاضي الجماعة إبراهيم بن العباس القرشي في بعض الأحيان يجلس في بيته يقضي بين الناس وجاريته تنسج في ناحية من نواحيه2. ويستحب للقاضي إذا دخل المسجد لعقد الجلسة القضائية، أن يركع ركعتين أو أربعاً، يدعو لنفسه فيهما أن يوفقه الله تعالى للصواب ويعصمه من الزلل3، وعند جلوسه لابد أن يكون في حالة لا تكدرها أي منغصات من غضب أو جوع أو نحوهما4، فقد نهى المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم عن الحكم في حال الغضب، فقال: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" 5. ثم يجلس للحكم مستقبلاً القبلة بوجهه6، ولا حرج عليه أن يكون متربعاً أو محتبياً أو متكئاً7.   1- قضاة قرطبة، ص 30، 69-70. 2- المصدر السابق، ص 51. 3- أدب القاضي، ص85-86. 4- فصول الأحكام، ص 187.ابن فرحون، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، (راجعه وقدم له: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1406هـ/ 1986م) 1/40. 5- سنن ابن ماجه، 2/776. 6- أدب القاضي، ص86. تبصرة الحكام 1/38. 7- تبصرة الحكام، 1/40. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 وكما ذكرت فإن جلوس القاضي في بيته للقضاء بين الناس لا يكون دائماً، بل وفق ظروف معينة، كجلوسه للقضاء في رحبة المسجد مثلاً، مما يتيح له فرصة الفصل في القضايا التي يكون أحد أطرافها غير مسموح له بدخول المسجد مثل اليهودي والنصراني1، وأينما عقدت جلسة القضاء فإنها دائماً تكون علنية يشهدها من أحبّ، فذلك أبلغ ما يكون في النزاهة2. وقد ورد لدى الخشني أن معظم قضاة قرطبة ما كانوا يقضون أثناء مسيرهم إلى مجلس القضاء أو عند عودتهم إلى دورهم. فقد كان قاضي الجماعة أحمد بن زياد اللخمي لا يقبل أن يخاطب في شيء من أمر الخصوم إلا في مجلس نظره، ومن ألح عليه أمر بسجنه3، كما أن قاضي الجماعة عمرو ابن عبد الله بن ليث كان يلازمه شيخ يسير دوماً إلى جانبه، فإذا   1- أبو الوليد هشام عبد الله الأزدي القرطبي، مفيد الأحكام في نوازل الأحكام، ورقة 6 مخطوط رقم 103، رقم الفهرست 2/217. بتاريخ 1277هـ مكتبة المسجد النبوي الشريف، المدينة المنورة. 2 ـ ومما تجدر الإشارة إليه هنا ما ذكره قاضي الجماعة ابن عبد الرفيع من أن الذي يحضر مجلس القاضي ثلاث مرات من غير حاجة تسقط شهادته. انظر: معين الحكام، 2/645. وذكر ابن فرحون أن عدالته تكون مجروحة. انظر: تبصرة الحكام، 1/38. 3- قضاة قرطبة، ص 65. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 ذهب أحد ليدنو من القاضي أثناء مسيره إلى المسجد، دفعه ذلك الشيخ وقال له: "اذهب حتى يجلس القاضي في مجلس القضاء1". وأما عن طريقة ذهاب القاضي إلى المسجد الجامع للقضاء، فإن الأمر متوقف على بعد أو قرب دار القاضي من المسجد الجامع، وإن كنا نتوقع أنه أثناء ذهابه إلى المسجد يكون ماشياً، بينما يكون عند عودته إلى دراه راكباً، ومما يقوي هذا الرأي أن القاضي عند توجهه لمجلس القضاء في المسجد، يجمع بين قيامه بمصلحة المسلمين وفضيلة جلوسه في المسجد، ولذا يفضل المشي على الركوب لكي تكثر خطاه إلى المسجد فتكثر حسناته، وجلسة القضاء لا تعقد إلا في طرفي النهار وهذا هو وقت النشاط فلا بأس من السير مشياً نحو مجلس القضاء، وقد ذكر الخشني أن قاضي الجماعة بقرطبة سعيد ابن سليمان وعمرو بن عبد الله كانا يذهبان إلى المسجد الجامع مشياً2. وقد جرى الرسم في ذهاب القاضي إلى مجلس الحكم وعودته منه أن لا يماشيه ولا يراكبه أحد، فقاضي الجماعة عمرو بن عبد الله "كان إذا ركب لا يصحبه صاحب ولا يصير إلى جانبه راكب3".   1- المصدر السابق، ص69. 2- قضاة قرطبة، ص 64. 3- المصدر السابق، ص 68. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 ومما يزيد الأمر توضيحاً في رسم المسير مع القاضي ما ذكره قاسم بن أحمد الجهني من أن قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي "ركب يوماً لحيازة أرض محبسة، في ركب فيهم أبو إبراهيم اللؤلؤي ونظراؤه، قال: فسرنا نقفوه وهو أمامنا وأمامه أمناؤه، ويحملون خرائطه، وذووه عليهم السكينة والوقار، وكانت القضاة حينئذ لا تراكب ولا تماشى1". لكن هذه القاعدة تخرم أحياناً، فقد ذكر الفقيه محمد بن أحمد العتبي أنه كان يمشي مع بعض الفقهاء بصحبة قاضي الجماعة سعيد بن سليمان وهو منصرف من مجلس القضاء نحو داره، فمر القاضي بالفرن وأخذ خبزته ووضعها تحت عضده، ثم توجه نحو داره، يقول العتبي: "ونحن نمشي معه، وقد أخرنا دوابنا إجلالاً له، حتى أديناه إلى منزله، فسلم علينا ودخل وانصرفنا عنه"2. أما قاضي الجماعة، عمرو بن عبد الله فقد كان متساهلاً، بالذات وهو عائد من مجلس القضاء، فقد ذكر الخشني أنه إذا قام إلى داره قام الناس معه، فإذا بلغ القاضي باب داره "وقف وحول وجهه واتكأ على عصاه، ثم قال من كان له حاجة فليتكلم فيها"3.   1- مطمح الأنفس، ص 255. 2- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 53. 3- قضاة قرطبة، ص 70. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 وقد عرف القضاة بمشية خاصة، فهي أقرب ما تكون إلى البطء، فالقاضي يمشي وعليه السكينة والوقار، يدل على ذلك ما حُكي عن عالم المرية القاضي أبي الحسن مختار الرعيني، المتوفى سنة 435هـ (1043-1044م) أنه عندما استدعاه زهير العامري حاكم المرية المتوفى سنة 429هـ (1038م) أتاه وهو يمشي قليلاً قليلاً ووصفت تلك المشية بمشية القاضي1. مواعيد مجلس القضاء ولباس القاضي: كان القاضي يعقد مجلس الحكم في أوقات متعارف عليها، وذلك ليتم الالتزام بتلك الأوقات من قبل الجميع، فالقاضي يجلس للقضاء في أول النهار وآخره، واختيار هذين الوقتين فيه مراعاة لنشاط الحركة بين الناس، إذ أن أغلب المعاملات وأكثر الخصومات تقع في هذين الوقتين، فانتشار الناس للعمل فيهما أكثر بكثير من وقتي الظهيرة والمساء، هذا من ناحية الخصوم، وأما من ناحية القاضي فجلوسه للقضاء في هذين الوقتين أنسب ما يكون، لأن نشاطه الجسدي في قمة طاقته، إذ يسبق كلا منهما وقت كاف للراحة. وقد تطرق ابن هشام الأزدي للأوقات التي تنعقد بها مجالس الحكم، فذكر أنه لا بأس أن يقضي القاضي في شهر رمضان، ولكن لا يقضي في أيام العيدين، ولا في يوم التروية، ولا في يوم عرفة، ولا بين المغرب   1- نفح الطيب، 3/381. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 والعشاء، ولا في الأسحار، إلا أن يكون الأمر يتطلب ذلك، فلا يمكنه عندها إلا الجلوس للنظر1. وزاد ابن فرحون أن القاضي لا يجلس يوم سفر الحاج ويوم قدومه، وعند شهود المهرجان، وحدوث ما يعم من سرور أو حزن، وكذلك إذا كثر الوحل والمطر2. وقد كان قاضي الجماعة بقرطبة محمد بن بشير يقعد لسماع الخصومة من غدوة إلى قبيل الظهر بساعة، ثم يقعد بعد صلاة الظهر إلى صلاة العصر لا يكون نظره غير السماع من البينات ولا يسمع من بينة في غير ذلك الوقت3 وكذلك كان قاضي الجماعة سعيد بن سليمان يجلس للقضاء في الغداة والعشي4. ولم تكن هناك رسوم خاصة بالجلسة القضائية فيما يتعلق بلباس القاضي، كأن يلبس مايدل على الشعار الرسمي للدولة الأموية، فقد اعتاد قاضي الجماعة محمد بن بشير لبس قلنسوة خز5، ورداء معصفراً ويفرق شعره إلى شحمة أذنيه6، وعندما نوقش عن السبب في اتخاذه هذا الزي،   1- مفيد الحكام، ورقة 4. 2- تبصرة الحكام، 1/40. 3- قضاة قرطبة، ص 30. ترتيب المدارك، 3/331. 4- قضاة قرطبة، ص 64. 5- المصدر السابق، ص 30. ترتيب المدارك، 3/328. 6- المصدر السابق، 3/335. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 أجاب بأنه متبع في إرسال لمته لسيد القراء محمد بن المنكدر، المتوفى سنة 130هـ (748م) ولفقيه المدينة هشام بن عروة، المتوفى سنة 146هـ (763م) وأما في لبس الخز فاتباع لمحمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه1. وكان قاضي الجماعة سعيد بن سليمان يجلس "للحكم وعليه جبة صوف بيضاء وفي رأسه أقروف أبيض وغفارة بيضاء من ذلك الجنس2". كما كان قاضي الجماعة عمرو بن عبد الله يجلس للحكم في المسجد وعليه أحياناً ثوب شركاب3. من هنا ندرك أن للقاضي في الأندلس لبس ما شاء عند حضوره لمجلس الحكم. وبطبيعة الحال كانت اللغة المستخدمة في مجلس الحكم اللغة العربية، لكن يحدث أحياناً استخدام اللغة العجمية، فقد ذكر الخشني أن امرأة تقدمت إلى قاضي الجماعة سليمان بن أسود وقالت له بالعجمية "يا قاضي، انظر لشقيتك هذه، فقال لها بالعجمية: لست أنت شقيتي، إنما شقيتي بغلة ابن عمار التي تلوك لجامها على باب المسجد طول النهار4.   1- نفسه، 3/336. 2- قضاة قرطبة، ص62. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص52. 3- قضاة قرطبة، ص 70. 4- ابن عمار هذا كان أحد العدول، وكان ملازماً لمجلس القاضي لا يغادره إلا بقيام القاضي وانصرافه إلى منزله، وبغلته التي أشار إليها القاضي، كانت هزيلة تلوك لجامها طول النهار على باب المسجد حتى ظهر عليها الجهد والجوع. انظر: قضاة قرطبة، ص80. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 ويكون مجلس القضاء متصفاً بالوقار والهيبة، فلا صخب ولا تداخل أصوات، وإنما هدوء وسكينة، وعلى هذه الصورة كان مجلس القاضي ابن ذكوان، فقد كان "إذا قعد للحكم في المجلس، وهو غاص بأهله، لم يتكلم أحدٌ منهم بكلمة، ولم ينطق بلفظة غيره وغير الخصمين بين يديه، وإنما كان كلام الناس بينهم إيماءً ورمزاً، إلى أن يقوم1". سير الخصومة في مجلس الحكم: كانت المساواة بين الخصوم هي أول الوصايا التي وردت في رسالة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما2، كما أنها كانت محل اهتمام من أرخ للقضاء وأحكامه3. ولذا فقد كانت جلسة القضاء في الأندلس علنية -كما سبق وأن ذكرنا- يحضرها من شاء، ويكون القاضي مقابلاً للحضور، ويجلس الخصوم أمامه، وبقية الخصوم بعيدين نوعاً ما بحيث لا يمكن تلقين الخصوم4، وأمام القاضي يتساوى الخصوم5، وحرص القاضي على هذه   1- النباهي، ص 84. 2- أدب القاضي، ص 45. العقد الفريد، 1/101. 3- أدب القاضي، ص96. الوثائق والسجلات، ص495. مفيد الحكام، ورقة 4. تبصرة الحكام، 1/46. 4- أدب القاضي ص 86. 5- فقد ذكر أبو وليد الباجي أن القاضي يقدم خصومه بين يديه الأول فالأول دونما محاباة لأحد دون أحد. انظر: فصول الأحكام، ص 184. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 المساواة تكون سبباً في رفعة منزلته عند أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس، وقد وردت لدى الخشني عدة نصوص تدل على ذلك. منها أن قاضي الجماعة إبراهيم بن العباس القرشي ازداد رفعة لدى الأمير عبد الرحمن الأوسط عندما رفض استقبال أحد كبار القرشيين في منزله لسماع شكايته بصورة مفردة، وأخبر الرسول بأن عليه الذهاب إلى المسجد والانتظار لحين عقد مجلس الحكم فيه1، كما أن القاضي عمرو بن عبد الله أمر أحد كبار رجال الدولة بالحضور إلى مجلس قضائه والمثول أمامه مع خصمه2. وتتم مناقشة القضايا المعروضة على القاضي وفق ترتيب يعده فكل من كانت له خصومه عنده عليه أن يكتب اسمه في رقعة، وعندما تجتمع الرقاع عنده يخلطها بين يديه، ومن ثم يبدأ النداء على أصحاب القضايا على ضوء ما يسفر عنه خلط تلك الرقاع3. ومن الطبيعي أن القاضي لا يستطيع دائماً إنهاء جميع القضايا التي تصل إليه في يومه، ولذا فقد جرى الرسم أن من تأخر دور رقعته وانتهى   1- قضاة قرطبة: ص53-54. 2- المصدر السابق ص 71-72. 3- نفسه، ص 69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 موعد الجلسة، يؤجل النظر في رقعته إلى اليوم التالي، على أن يكون ترتيبها متقدماً، لا علاقة لها بالقضايا الجديدة1. وقد كانت هناك رسوم متبعة في استدعاء الخصم إذا كان غير موجود، وتحدثنا المصادر عن أن قاضي الجماعة محمد بن بشير هو الذي ابتكر هذا الرسم في الأندلس، إذ أنه عندما تولى قضاء الجماعة، قام بختم عشرة رقاع بخاتمه، وكل رقعة من هذه الرقاع تعرف باسم "طابع" فإذا جاء أحد يريد من القاضي طابعاً ليستدعي به خصمه، فالقاضي يسأل عن هذا الخصم، فإن كان قريباً بقرطبة، أعطى المدعي الطابع، وأمر كاتبه أن يثبت في السجل لديه اسمه ومسكنه، وفي من أخذ الطابع2، ومن ثم يخبره القاضي بأن عليه إعادة الطابع بمجرد حضور الخصم3. وأما إن كان الخصم غير متواجد بقرطبة ولا بالقرب منها، فإن القاضي في هذه الحالة يؤجل له على مقدار بعده عن قرطبة4. وإذا أبلغ شخص بالحضور لخصومة لدى القاضي ورفض الامتثال، فإن القاضي يرسل أعوانه لإحضاره طوعاً أو كرهاً بغض النظر عن منزلته في الدولة5، وأما إذا تغيب المطلوب للخصومة عن حضور مجلس   1- ترتيب المدارك، 4/171. 2- قضاة قرطبة ص 30. وانظر فصول الأحكام ص 200. 3- ترتيب المدارك، 3/332. 4- قضاة قرطبة، ص31. ترتيب المدارك 3/332. 5- قضاة قرطبة ص 77. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 الحكم رغم إبلاغه بأمر القاضي، فللقاضي في هذه الحالة أن يطبع على باب مسكنه، أو يسمره إن كان ذلك لا يضر الباب، بعد أن يخرج ما فيه من بني آدم وغيرهم من المخلوقات1. فإذا حضر الخصمان بين يدي القاضي ظلا واقفين على أقدامهما2 فيسأل المدعي عن دعواه، فإن كان لا يترتب فيها على المدعى عليه حق أخبره بذلك، دون أن يسأل المدعى عليه وأمرهما بالخروج عنه3، وإن كانت الدعوى ناقصة أمر المدعي باستكمالها، فإذا استحقت الدعوى النظر أصدر حكمه بعد أن يتضح له الحق، وسجل الشهادات والحكم في السجل الخاص بالقضايا4. وللقاضي إذا رأى أثناء سير الخصومة بين يديه أن أحد الخصمين لا يحسن الإدلاء بحجته، فله أن ينصحه بما ينفعه دون أن يلقنه حجة وما شاكلها. ومن ذلك ما فعله قاضي الجماعة أحمد بن بقي بن مخلد عندما اختصم عنده رجلان، فرأى أن أحدهما يحسن ما يقول والآخر بعكسه، لكنه توسم فيه الخير وملازمة الحق، فقال له القاضي "يا هذا، لو قدمت   1- الوثائق والسجلات، ص 494 انظر: فصول الأحكام، ص 200-201. 2- ترتيب المدارك 3/331. 3- معين الحكام 2/616. 4- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 235. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 من يتكلم عنك؟ وأرى صاحبك يدري ما يتكلم، فقال له، أعزك الله إنما هو الحق أقوله كائناً، فقال: ما أكثر من قتله قول الحق1". طرق الإثبات: روى الإمام مسلم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطى الناس دعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه2". وفي هذا الحديث الجليل بيان لقاعدة شرعية فيما يتعلق بالدعاوى والخصومات، إذ لو ترك الباب مفتوحاً لكل دعوى دونما حاجة إلى بينة تقطع الشك، لوصل الأمر ببعض مرضى النفوس المطالبة بدماء رجال وأموالهم دون وجه حق. والبينة هي الحجة التي تظهر صدق الدعوى، سواء عقلية كانت أو محسوسة3، وأما في الاصطلاح فالمراد بها الشهود4. فإذا احتاج أحد الخصمين إلى أجل لإثبات بينته، منحه القاضي وقتاً محدداً لتحقيق ذلك، وهذا الوقت محكوم بأيام محدودة، ومقدارها متروك   1- قضاة قرطبة، ص 116. 2- صحيح مسلم، 3/1336. 3- المفردات في غريب القرآن، ص 68. 4- أعلام الموقعين، 1/66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 للقاضي والحكام واجتهادهم، لكن هذه المدة لاتخرج عن ثلاثين يوماً مجزأة1. وقد وضح القاضي ابن سهل الصيغة التي تكتب فيها الآجال المضروبة، فذكر أنه إن كان القاضي هو الذي كتب الأجل بيده، كتب "أجلنا فلان بن فلان في المدفع الذي ادعاه الشاهدان اللذان شهدا عليه بما ذكر في العقد الذي في أعلى الكتاب ... ثمانية أيام". فإذا انقضت كتب "وأجلاً ثانياً من ستة أيام" فإذا انقضت كتب "وأجلا ثالثاً من أربعة أيام" فإذا انقضت كتب "تلومنا عليه بعد انصرام الآجال المضروبة له فوق هذا ثلاثة أيام كذا وكذا2". أما إذا كتب عن القاضي كاتبه فإنه يكتب "أجل القاضي فلان بن فلان قاضي حاضرة كذا وفقه الله، فلان بن فلان فيما ذهب إليه من حمل ما ثبت عنده عليه لفلان بن فلان في العقد الواقع في بطن هذا الكتاب بعد معرفته بما فيه وبما ثبت آجلاً جامعاً للتلوم وغيره من أحد وعشرين يوماً، أولها يوم كذا لعشرة خلون من شهر كذا من سنة كذا، ثم يكتب القاضي بخط يده: هذا صحيح، وإن شاء كتب، هذا الأجل صحيح، أو كتب، الأجل صحيح، وقد يكتب هذا على غير وجه سوى ما ذكرنا3".   1- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 246-247. 2- المرجع السابق، ص 347-348. 3- نفسه، ص 248. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 وإذا انقضت الآجال والتلوم، وعجز المؤجل عن إحضار ما وعد به، فإن القاضي في هذه الحالة لا يلتفت إلى ادعاء المؤجل بأن لديه حجة، فيصدر حكمه ويسجل عليه، ثم لا يلتفت بعد ذلك إلى ما يدلي به من حجة1، واستثنى ابن سهل من ذلك: العتق والطلاق والنسب2. شهادة الشهود: تعتبر الشهادة3 أهم الوسائل التي يعتمد عليها القضاء في معرفة صاحب الحق، ويكفي للدلالة على أهميتها أن الله تعالى قد نص عليها في كتابه العزيز في ستة مواضع، في الدين4، والوصية5، والطلاق6، والرجعة7، والزنا8، وفيما يدفع الحد عن القاذف9.   1- معين الحكام، 2/618. 2- تاريخ القضاء في الأندلس، ص248. 3- الشهادة لغة، خبر قاطع، تقول: شهد الرجل على كذا، وشهد الشاهد عند الحاكم أي بين ما يعلمه وأظهره. انظر: لسان العرب، مادة: شهد. وقيل: الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة إما بالبصر أو البصيرة. انظر: المفردات في غريب القرآن، ص267-268. 4- سورة البقرة: الآية رقم 82. 5- سورة المائدة: الآية رقم 106. 6- سورة الطلاق: الآية رقم 2. 7- سورة الطلاق: الآية رقم 2. 8- سور النور: الآية رقم 13. 9- سورة النور: الآية رقم 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 ولأجل ذلك فلا غرابة أن تنال الشهادة الاهتمام الجاد من قبل القضاة، ففي الأندلس نجد أمر الشهادة والشهود يقلق ولاة الأمر هناك، حتى أن الخليفة الحكم المستنصر بالله عندما أصدر ظهيراً بمناسبة تعيينه محمد بن إسحاق بن السليم قاضياً للجماعة، وذلك في يوم الاثنين من شهر شعبان سنة 353هـ (28 أغسطس 963م) أمره فيه بعدة أمور، منها "أن يتحفظ في حين وقوع الشهادات عنده، فلا يقضي بين المسلمين منها إلا بما أقامه به التحقيق على السنة العدول، ذوي القبول، وإن استراب في شهادة أحدهم وقتاً ما، أن يبحث عنها، فإن ثبت أنه ارتشى، أو شهد بالهوى، فعليه أن يسقط شهادته، ويخل عدالته، تنكيلاً له، وتشديداً لمن خلفه1". فإذا حضر الشهود فعلى القاضي أن يبادر إلى إدخالهم عليه والاستماع لأقوالهم إذ أن التراخي في ذلك، ربما أدى إلى ضجر صاحب الحق فيتخلى عنه أو بعضه بالمصالحة خشية ظهور الملل على الشهود2. فإذا شهد الشاهد لدى القاضي، فعليه أن يبادر إلى كتابة شهادته واسم قبيلته ونعته ومسكنه ومسجده3 الذي يصلي فيه، والشهر الذي   1- النباهي، ص76. 2- فصول الأحكام، ص180. تبصرة الحكام، 1/54. 3- لأنه لا يمكن أن يزكي الشاهد إلا أهل مسجده وسوقه وجيرانه، إلا أن يكون مشهوراً بالعدالة. انظر: معين الحكام، 2/644. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 شهد فيه وكذلك السنة، ثم يوقع ذلك في صك عنده ويجعله في ديوانه، لئلا تسقط للمشهود له شهادته فيزيد فيها أو ينقص1. وقد ذكر ابن العطار في وثائقه أن قاضي الجماعة محمد بن عبد الله بن أبي عيسى قد استن سنة جيدة في كتابة الشهادات في السجل، وأصبحت سنة لمن جاء بعده2. وعن قبول القاضي للشاهد ذكر الخشني أن قاضي الجماعة محمد بن بشير كان في بعض الأحيان يقبل الشاهد على التوسم والفراسة، وفي أحيان أخرى يكشف عنه في السر3، وبعد نصيحة شيخ الفقهاء يحيى بن يحيى الليثي للقاضي ابن بشير بضرورة تعديل الشاهد بين الحين والآخر واتباعه لتلك النصيحة، بدأ الناس يأخذون حذرهم من القاضي4. ذلك لأن الفراسة ربما لا تصدق دائماً، لسبب أو لآخر، كما أن الناس يمرون بظروف متقلبة تجعلهم عرضة أحياناً للوقوع في أمر فيه شيء من الغموض، مما يجعل قبول شهاداتهم أمر فيه نظر.   1- أدب القاضي، ص 98. 2- الوثائق والسجلات، ص642. وقد كان القضاة لا يسجلون شهادة الشهود، وأول من استن سنة تسجيل الشهادة قاضي مصر سليم بن عتر التجيبي، المتوفى سنة 75هـ، انظر: الكندي، كتاب الولاة وكتاب القضاة، ص 309-310. 3- قضاة قرطبة، ص 35. 4- المصدر السابق، ص 35-36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 وكان للخصوم آداب لابد من التزامهم بها وهم في مجلس القضاء، فإذا أخل أحدهم بما يجب عليه تجاه هذه الآداب، فإن للقاضي الحق في تأديبه، من ذلك ما ذكره الخشني من أن الفقيه يحيى الليثي شهد في قضية عند قاضي الجماعة إبراهيم بن العباس، فلما خرج من عند القاضي تناوله بعض الخصوم وأساء إليه بالكلام، فرجع الفقيه إلى القاضي وأخبره بما جرى وطلب منه تأديبه، وعندما سأله القاضي عن أدبه طلب أن يبعث به إلى السجن، فسجن القاضي ذلك الرجل، لكنه سرعان ما غادر السجن بطلب من الفقيه الليثي1. وإذا استخف أحد الخصوم بمن شهد عليه، فإنه يؤدب وربما يصل الأمر إلى ضربه بالمسجد عدة أسواط، وهذا ما حصل لرجل يدعى غراباً كان جاهلاً عاتياً، فقد شهد شاهد ضده، فقال غراب، ومن شهد عليّ لو كان الشاهد مثل الليث بن سعد. وذلك على سبيل الاستخفاف بالشاهد والشهادة، فأمر قاضي الجماعة محمد بن زياد اللخمي بقمع غراب في المسجد عدة أسواط تأديباً له2. ويحدث أن يرجع الشاهد في إحدى القضايا عن شهادته، فإن كانت رجعته قبل إصدار الحكم، لم ينفذ الحكم بشهادته، ثم يتم التدقيق في حال هذا الشاهد، فإن كان عدلاً مأموناً، قُبل رجوعه ولا تسقط   1- نفسه، ص 51-52. 2- قضاة قرطبة، ص 58. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، 72. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 شهادته في المستقبل عند القضاة، وإن كان بغير تلك الصفة، يقبل رجوعه ولكن لا تقبل شهادته أبداً1. واختلف الفقهاء في تأديب من رجع عن شهادته، فابن القاسم وابن حبيب نصا على ضرورة تأديبه أدباً موجعاً، في حين اعترض على التأديب كل من ابن عبد الحكم وأشهب وسحنون محتجين بأنه إذا جرى تأديب أحد من الناس فإنه لا يرجع عن شهادته. ويبدو أن الرأي الثاني أولى بالقبول من سابقه وبه جرى العمل2. وأما إن كان رجوع الشاهد عن شهادته بعد إصدار الحكم، فإنه لا يلتفت إلى كلامه ولا ينتقض الحكم برجوعه3. فقد حدث أن قاضي الجماعة محمد بن بشير نظر في إحدى القضايا، وأصدر الحكم على ضوء البينة، وبعد فترة استدعاه أحد الشاهدين، وكان ذلك الشاهد على فراش الموت، فلما حضر القاضي عنده، أخبره الشاهد أنه سبق وأن شهد عنده شهادة زور في تلك القضية، وطلب منه فسخ الحكم الذي أصدره بشأنها، يقول الخشني: "فلم يزد محمد بن بشير على أن وضع يديه في ركبتيه ثم قام وجعل يقول: مضى الحكم وأنت إلى النار، مضى الحكم وأنت إلى النار، وخرج عنه4".   1- لباب الألباب، ص265. معين الحكام، 2/662-663. 2- معين الحكام، 2/663. 3- المصدر السابق والصفحة. 4- قضاة قرطبة، ص 33-34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 وشاهد الزور إذا أقر بتعمد الزور فإن على القاضي تغريمه ما أتلف بشهادته1، كما أن له تأديبه2، وعن جزاء شاهد الزور هناك عدة أقوال للفقهاء، منها أنه يعزر على الملأ دون حلق رأسه أو لحيته، بينما رأى البعض ضرورة تسويد وجهه، وهناك من يرى الطواف به على المجالس والحلَقْ في المسجد الجامع ويشهر أمره بين الناس ليحذروه، وزاد البعض على التشهير والضرب الموجع بالإضافة إلى كتابة وثيقة في ذلك تؤخذ منها عدة نسخ وتوضع عند الثقات ولا تقبل شهادته أبداً3. وفي الأندلس نجد أن هذه العقوبات قد طبقت على شاهد الزور، فإبراهيم بن حسين بن خالد بن مرتنيل، المتوفى في شهر رمضان سنة 249هـ (نوفمبر سنة 863م) صاحب الشرطة في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، أقام شاهد زور عند الباب الغربي الأوسط للمسجد الجامع "فضربه أربعين سوطاً وحلق لحيته وسخم وجهه وأطافه إحدى عشرة طوفة بين الصلاتين يصاح عليه هذا جزاء شاهد الزور4". وللقاضي عيونه التي يستطلع بها أحوال بعض الشهود في بعض القضايا، فقاضي الجماعة أسلم بن عبد العزيز عندما بلغه أن بعض الشهود قد أخذ رشوة مقابل شهادته، وكانت الرشوة بساطا، فلما دخل عليه   1- لباب اللباب، ص 266. 2- أدب القاضي، ص 776-777. 3- لباب اللباب، ص 266. المعيار المعرب، 2/215. 4- المصدر السابق، 2/215. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 الشاهد ليؤدي شهادته وأخذ يخلع خفيه ليمشي على بساط القاضي، أخذ يناديه "أيا فلان البساط، البساط، تحفظ من البساط، الله الله"1 ففطن الشاهد لمراد القاضي ولم يجسر على الإدلاء بشهادته. وإن حدث - وهو نادر - وكان الأمير أو الخليفة الأموي شاهد في قضية، فإن الرسم يقضي أن تُرسل الشهادة مع فقيهين يؤديانها للقاضي، وهذا ما جرى في قضية لسعيد الخير عم الأمير الحكم الربضي، فقد كانت لديه وثيقة شهودها عدول، ولكنهم توفوا جميعاً إلا واحد فقط، فاضطر إلى شاهد آخر، فمال إلى ابن أخيه الأمير الحكم، وأقنعه بأنه في حاجة لشهادته، ورغم اعتراض الأمير على عمه إلا أنه اضطر أمام إلحاحه على موافقته، فأرسل شهادته لقاضي الجماعة محمد بن بشير الناظر في القضية، وتقدم فقيهان أرسلهما الأمير بشهادته فأدياها لدى القاضي2. وهناك حالات تم فيها عدم قبول شهادة الشاهد رغم انتفاء ما يقدح في شهادته شرعاً، فمن اشتهر بالهزل أصبح قبول شهادته لدى بعض القضاة أمراً عسيراً، وممن رُدت شهادته لهذا السبب محمد بن عيسى الأعشى المتوفى سنة 221هـ (836م) فقد كان مشهوراً بالدعابة3، وحدث أن تقدم للشهادة لدى قاضي الجماعة الأسوار بن عقبة النصري،   1- ترتيب المدارك، 5/197. 2- المصدر السابق، 3/338. 3- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1102. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 فقال له القاضي "أنت رجل يُكثر الهزل، ولست أدري كانت شهادتك هذه من جدك أو هزلك1". وكذلك حدث أن رفض بعض القضاة شهادة من عرف بأنه قد تابع هواه في يوم ما، حتى وإن كان صديقاً للقاضي، وهذا ما فعله قاضي الجماعة محمد بن بشير عندما رد شهادة أحد أصدقائه وكان رفيقاً له في النشأة وطلب العلم وطريق الحج بسبب أنه اشترى جارية بمصر بيدها صنعة وهو لم يكن بحاجة لصناعتها2. وإذا كان من حق المدعى عليه معرفة الشهود الذين شهدوا ضده، فإن القاضي يعمد أحياناً إلى عدم تعريفه بمن شهد ضده، وذلك إذا كان المدعي عليه صاحب سلطة وسطوة، وخشي القاضي على الشهود من سطوته، وهذا ما فعله قاضي الجماعة محمد بن بشير مع ابن فطيس3. وعندما طلب الأمير الحكم الربضي القاضي بتعريف ابن فطيس بالشهود، أجابه القاضي بقوله "ليس ابن فطيس ممن يُعرَّف بمن شهد عليه لأنه إن لم   1- قضاة قرطبة، ص 49. 2- انظر: القصة كاملة لدى الخشني في قضاة قرطبة، ص 31. 3- لعله: حمدون بن فطيس المتوفى سنة 220هـ، ووالده أبو سليمان فطيس بن سليمان بن عبد الملك بن سليمان تولى الوزارة للأميرين هشام بن الداخل وابنه الحكم الربضي، ومما يقوي ما ذهبت إليه من أن الذي رفض القاضي إخباره بالشهود أنه حمدون بن فطيس ورود قصة أخرى صرح فيها الخشني باسم حمدون بن فطيس عندما تظلم حمدون من القاضي ابن بشير لدى الأمير الحكم الربضي. انظر: قضاة قرطبة، ص 36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 يجد سبيلاً إلى تجريحهم طلب آذاهم في غير ذلك حتى يجليهم عن أموالهم1". وأخيراً فإن للقاضي أن يصرف القضية عنه إلى قاضٍ آخر إذا لم يتبين له الحق، إذ أن رُبَّ حق لا يثبت عند قاضٍ ويثبت عند غيره2. وقد ذكر صاحب معين الحكام أن من حق القاضي الرجوع عما حكم به إذا تبين له فيه وهم مادام على قضائه، أما إذا عزل أو مات فلا يحل لأحد من بعده فسخ حكمه، إلا أن كان فيه جور أو قضى بخطأ لا اختلاف بين أهل العلم فيه3، ولكن لابد أن يوضح القاضي السبب الذي من أجله فسخ حكمه الأول، فإذا لم يوضح ذلك لا يعتبر فسخه هذا فسخاً4. ونختم الحديث عن هذه الخطة بذكر نصين لابن العطار بين فيهما تسجيل القاضي برجوعه عن قضاء قضى به له الخطأ فيه، جاء في النص: "أشهد القاضي فلان بن فلان قاضي موضع كذا، أن فلان بن فلان كان قد قام عنده في دار كذا بموضع كذا، وثبت له فيها كذا، أو في أملاك بقرية كذا من إقليم كذا من عمل موضع كذا، صفتها كذا، وحدودها كذا، وقضى له بكذا، وسجل بذلك في كتاب أشهد فيه على   1- المصدر السابق، ص 30. 2- تبصرة الحكام، 1/58. 3- معين الحكام، 2/638. 4- المصدر السابق، 2/639-640. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 ما ثبت عنده على نسختين أو نسخ تاريخ كذا، ثم تبين له الخطأ في قضائه والوهم في حكومته، وانكشف له من أمر الشهود الذي قضى بهم له أو من باطن قصة الطالب فلان وأمره فيما حكم له به ما أوجب عليه الرجوع عن حكمه والتسجيل بنقض ما تقدمه من حكمه وانكشف فسخه، لقول عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رحمه الله: لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع فيه، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل1". ويواصل ابن العطار كلامه: وإن كان القاضي قضى بمذهب أهل العلم في شيء من نظره ثم تبين له الصواب في غيره ورجع عنه، قلت: "أنه كان قضى لفلان بن فلان بكذا وكذا على مذهب كذا. أو على قول الشافعي أو فلان، ثم تبين له أن الحق فيما قاله فلان أو في مذهب كذا، وأن القول الذي تقدم قضاؤه فيه، والمذهب الذي حكم به باطل، فرجع عن قضيته وخرج عن حكومته، وقضى بفسخ ما تقدم من قضائه لفلان بن فلان في قصة كذا وأبطله، وأشهد على ذلك في تاريخ كذا. لقول عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رحمه الله لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت في لرشدك أن ترجع فيه، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل أشهد على إشهاد   1- الوثائق والسجلات، ص 635. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 القاضي فلان بن فلان قاضي أهل موضوع كذا لما ذكره عنه في هذا الكتاب، وذلك في شهر كذا من سنة كذا، والكتاب نسختان"1. العدالة2: يقول ابن خلدون عن طبيعة وظيفة العدالة أنها، القيام عن إذن القاضي بالشهادة بين الناس فيما لهم وعليهم، تحملاً عند الإشهاد. وأداءً عند التنازع، كتباً في السجلات3 وذلك محافظة على حقوق الناس وسائر معاملاتهم، وعلى هذا فإن وظيفة العدالة داخلة ضمن ولاية القضاء، فلا يعمل بها إلا عن إذن القاضي، وتكون خاضعة لتصرفه4.   1- المصدر السابق، ص 636. 2- يقول ابن الحاجب: العدالة "صفة مظنة لمنع موصوفها البدعة وما يشينه عرفاً ومعصية غير قليل الصغائر" انظر: الشيخ قاضي الجماعة محمد الأنصاري، المشهور بالرصاع التونسي، كتاب شرح حدود الإمام أبي عبد الله بن عرفة، (المغرب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 1412هـ/1992م) ص638. وذكر البكري أن العدالة "هيئة راسخة في النفس تحث على ملازمة التقوى باجتناب الكبائر وتوقي الصغائر والتحاشي عن الرذائل المباحة". انظر: لباب اللباب، ص 260. وأما أبو إسحاق الشاطبي فقال: العدالة لغة تعني الاستواء والاستقامة على الجملة وأما في الشرع فهي الاستقامة في الأحوال الدينية والدينوية. انظر: المعيار المعرب، 10/202. 3- المقدمة، ص 635. 4- المصدر السابق، والصفحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 ولا يتصف بالعدالة إلا من كان مسلماً مكلفاً جارياً على مقتضى السنة، ذو تقوى ومروءة1، متنزهاً عن الكبائر، والخير أغلب عليه من الشر، متصفاً بالعدالة الشرعية والبراءة من الجروح، فقيهاً، عاقداً للشروط2. وللخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قول في تحديد السمات العامة للعدل، فقد جاء في رسالته الشهيرة التي بعث بها إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ما نصه "المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة"3.   1- المعيار المعرب، 10/202، والمروءة هي المحافظة على فعل ما تركه من مباح يوجب الذم عرفاً، كترك الانتعال في بلد يستقبح فيه مشي مثله حافياً، وعلى ترك ما فعله من مباح يوجب ذمه عرفاً كالأكل في الأسواق أو في حانوت الطباخ لغير الغريب. انظر: كتاب شرح حدود ابن عرفه، ص 642، ويقول البكري: "المروءة هي التصون والسمت الحسن وحفظ اللسان وتجنب السخف والمجون والارتفاع عن كل خلق رديء يرى أن من تخلق به لا يحافظ معه على دينه وإن لم تكن في نفسه جرحه" انظر: لباب اللباب، ص260. 2- مقدمة ابن خلدون، ص 635. 3- أدب القاضي، ص 45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 وكل الأقوال التي أدلى بها العلماء للتعريف بالرجل العدل جميعها تتفق على ضرورة اتصاف ذلك الرجل بالتقوى والاستقامة في جميع أحواله الدينية والدنيوية، بمعنى أن يكون مأمونا في السر والعلن. وينبغي للقاضي إن لم يكن من أهل البلد أن يبدأ بالتعرف على عدول وثقات البلد الذي كلف القيام بأعباء القضاء به، وإن استطاع أن يفعل ذلك قبل أن يصل البلد فهو الأفضل، فإذا عرفهم يكتب اسم كل واحد منهم في ثبت لديه، ثم لا يكتفي بذلك، بل إن عليه أن يعمد إلى السؤال عنهم سراً كل منهم على حده، وذلك بعد استقراره في البلد1. وكل أهل بلد وبالذات القرى البعيدة عن الحواضر، إن لم يكن لديهم حكام يقيموا الحدود بينهم، تولى إقامتها فيهم من ارتضوهم عدولاً منهم، كالمؤذنين والأئمة والموسومين بالخير2. وهؤلاء العدول على القاضي قبول شهادتهم، وأن يداوم على السؤال عنهم سراً، فمن لم يثبت عليه اشتهار في كبيرة فهو عدل حتى يثبت عكس ذلك3. وفي الأندلس لا يقدم لمرتبة العدالة إلا من طال اختباره، وتجاوز مجالس المذاكرة التي تعقد لاختباره، ويشهد له الفقهاء بالصلاح واعتدال الطريقة، وتثبت الشهادات لدى صاحب الشرطة الذي يتولى السؤال   1- أدب القاضي، ص 83-84. 2- المعيار المعرب، 10/143، 145. 3- النباهي، ص 74. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 والكشف عن هذا الرجل المعدل وهو بدوره يرفعها إلى الأمير أو الخليفة فيصدر فيه أمره يجعله أحد العدول الذين لهم الحق في الفتيا وكتابة الوثائق وتزكية الشهود. كما أن كون الرجل المرشح للعدالة صاحب مال، أمر ضروري، إذ يُخشى عليه من الفقر أن يطمع بما في أيدي الناس، وقد ورد في رسالة الشقندي في الدفاع عن الأندلس أن الأمير الحكم الربضي أراد تقديم بعض من يعني به إلى مرتبة العدالة، وطبيعي لابد من أخذ رأي الفقهاء في هذه المسألة. ولذا، فعندما عرض الأمير اقتراحه على الفقهاء، أجابوه بأنه أهل، إلا أنه فقير لا مال له، فاضطر الأمير إلى أعطاء الرجل من المال ما أغناه وبذلك أزال اعتراض الفقهاء1. ونظراً لأهمية مكانة العدول، فإن لهم أماكن خاصة بهم، اعتادوا الجلوس بها، فيأتي إليهم كل من كانت له قضية تحتاج للإشهاد والتقييد في الكتاب2. وللقاضي التجريح والتعديل بعلمه سواء علم ذلك قبل استلامه القضاء أو بعده3، وهو مافعله قاضي الجماعة محمد بن سلمة الكلابي   1- نفح الطيب، 3/214ـ 215. 2- مقدمة ابن خلدون، ص 636. 3- معين الحكام، 2/643. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 عندما حضر عنده الفقيهان ابن لبابه والحبيب بن زياد لتعديل ابن شراحيل المعروف بالعجيزه1. والقاضي ابن سلمه عندما رفض تعديل الفقيهين لابن شراحيل ذلك لمعرفته بباطنه أكثر منهما، ولذا قال ابن لبابه للقاضي "نحن قد عدلناه بمبلغ علمنا، ومن عرف الباطن فهو أحق ممن عرف الظاهر"2. وكذلك الفقيه محمد بن خميس بن عبد الواحد المعروف بالأعشى رفض تعديل أحد أصدقائه عند القاضي عندما رد شهادته. بعد أن أدرك الفقيه أن صديقه جاهل لا الخير يدري ولا الشر يدري3، لأجل هذا قال سحنون: "لا يقبل في التزكية إلا العدل المبرز الفطن الذي لا يخدع في عقله، ولا يستنزل في رأيه"4. وذكر الخشني أن لقاضي الجماعة محمد بن بشير طريقة خاصة في قبول تعديل من لا يعرفه يقول قاسم بن هلال "دخلنا على محمد بن بشير لنعدل عنده رجلاً، فقال: "احلفوا بالله الذي لا إله إلا هو أنه عدل رضا، فقالوا: بيمين أصلحك الله، فقال: والله لا كتبتها حتى تحلفوا"5.   1- قضاة قرطبة، ص 97. 2- المصدر السابق والصفحة. 3- ترتيب المدارك، 4/116. 4- معين الحكام، 2/643-644. 5- قضاة قرطبة، ص 35. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 ومن الملاحظ أن الأندلسيين لا يغمضوا أعينهم ولا يكفوا ألسنتهم عمن اتخذه القاضي عدلاً وهو غير أهل لذلك، فقد كان يتعرض لسخرية الناس، مما يضطر القاضي في النهاية إلى نزع العدالة عن ذلك الرجل1. وقد سبق وان عرفنا قصة العدل ابن عمار وبغلته مع قاضي الجماعة سليمان بن أسود ومنها ندرك أن على العدل ملازمة مجلس القاضي، إذ هو بحاجة مستمرة لأقواله طالما أن هناك قضايا تعرض. ومن النادر أن نجد بعض العدول يدلي بأقواله مجاملة لأحد كبار رجالات الدولة، مثل من جامل الوزير هاشم بن عبد العزيز في قضية قومس بن أنتينان2. ومن الواجب على العدل عدم قبول الهدية لأن في ذلك إثارة للشبهات من حوله، ويقوى المنع إذا كانت الهدية مقدمة ممن له خصومة لدى القاضي، من ذلك أن أحد كبار عدول قرطبة قد أخذ هدية هي عبارة عن جبة خضراء، فشعر بأمرها خصم المهدي، فبلغ قاضي الجماعة سليمان بن أسود بحقيقة الوضع، فأراد القاضي تأديب ذلك العدل، الذي كان من سلامة قلبه يداوم على لبس تلك الجبة في المحافل، ولذا قال القاضي لخصم المهدي: "إذا رأيت الشيخ وعليه الجبة، وأفتى عليك فقل:   1- انظر: ما قاله الشاعر يحيى بن حكم الغزال في عدلين اسم أحدهما أبو حفص والآخر يدعى يحيى بن مالك، كانا من عدول قاضي الجماعة معاذ بن عثمان الشعباني، المقتبس، تحقيق: مكي، ص 70. 2- انظر: القصة في قضاة قرطبة، ص 75-77. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 يا قاضي: ليس الشيخ يكلمك إنما تكلمك الجبة التي عليه ... ففعل الخصم ما أمره به القاضي، فاستحيا الشيخ وانقلب خجلاً1". وللعدول مهام عدة، منها استلام ديوان القاضي عند عزله، ووضع الديوان في بيت الوزراء حتى يتم تعيين قاضي آخر2، وإذا وضع القاضي مالاً موقوفاً لديه بيد أحد العدول به عليه، وإذا استرجعه القاضي منه، كتب له بذلك كتاباً، ثم أشهد العدل على القاضي بأنه قد استرد المال الذي كان في حوزته. هذا وقد أورد الخشني قصة أنكر فيها القاضي عمرو بن عبد الله، البراءة والشهود الذين شهدوا عليه في استرجاع مال موقوف لدى أحد العدول يبلغ عشرة آلاف دينار هي عبارة عن ثلث أوصى تاجر يعرف بابن القصبي بتفرقته3. والقاضي يعمل دائماً على الكشف عن عدوله، ويبدو أن له عيوناً تأتيه بأخبارهم، من ذلك أن رجلاً من أصحاب قاضي الجماعة محمد بن عبد الله بن أبي عيسى أتاه في الليل وأنهى إليه أن اثنين من الفقهاء العدول الملازمين له، قد اتفقا فيما بينهما على الإدلاء بشهادة مزوَّرة، وأنهما سيحضران عنده غداً لأجل هذا الغرض، فجلس القاضي في الغد وقد أخذ   1- المصدر السابق، ص 80-81. 2- انظر نفسه، ص 81-82. 3- نفسه، ص 83-84. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 حذره، فتقدم إليه أحدهما، فعبس القاضي في وجهه عله يفهم المراد، فينصرف من تلقاء نفسه، لكنه تمادى، فعندها ألقى القاضي في حجره - دون أن يشعر ذلك العدل - بطاقة مطوية، كتب فيها بيتين من الشعر هما: أتتني عنك أخبار ... لها في القلب آثار فدع ما قد أتيت له ... ففيه العار والنار فعندما انتبه الرجل لها وقرأ ما فيها، انطلق مسرعاً، ولقي صاحبه في الخارج وطلب منه الانصراف معه، وأخبره أن القاضي قد عرف بأمرهما1. ولما كانت كتابة الوثائق من بين المهام الرئيسية للعدول، وطبيعي أن يترتب عليها أحكام قاطعة، لأجل ذلك، فهي مجال واسع لأكل الأموال بالباطل من قبل ضعاف الإيمان، ولذا فقد كان جزاء من يدلس في الوثيقة صارماً، يعمل في بعض الأحيان إلى قطع يد ذلك المدلس، وهذا ما فعله قاضي الجماعة محمد بن بشير برجل اشتهر أمره بالتدليس في الوثائق2. ويبدو أن قطع يد المدلس في الوثائق يتوقف على مدى الضرر الذي أحدثه تدليسه يدل على ذلك أن أبا محمد عبد الله بن محمد الأنصاري المعروف بابن واقزان، كان حافظاً للمسائل والرأي ومن المتقدمين في عقد   1- ترتيب المدارك، 6/100-101. 2- النباهي، ص 48. المعيار المعرب، 2/414. وقد اخلتف في جواز أخذ كاتب الوثائق للأجرة، لكن الرأي الراجح أنه يأخذها بدون اشتراط لئلا يكون شبيهة بالحرفة. انظر: تبصرة الحكام، 1/286-287. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 الوثائق، لكنه اشتهر بالتدليس في العقود، ورغم ذلك اكتفى قاضي الجماعة أسلم بن عبد العزيز بأن أمر ابن واقزان بترك كتابة الوثائق، وعدم التعرض لما يتعلق بها والتزام بيته، فظل على هذه الحال إلى أن توفي سنة 320هـ (938-939م) 1. من هنا ندرك أن كتابة الوثائق ذات خطورة ملموسة، وعليه فقد حدد ابن عبد ون من المؤهل لكتابتها؟ فقال: "لا يجب أن يكتب الوثائق إلا من شهد له في ذلك بحسن الخط وترتيب اللفظ، واتساع في العلم، من رجل خير عالم ورع، ليكفي القاضي والحاكم عند رؤية خطه ولفظه البحث والتعب فيهما من براءة التدليس والتلبيس2. من ما مضى يتضح لنا أن وظيفة العدول قائمة على ركيزتين هما: كتابة العقود بين الناس وفق الشروط الشرعية، بالإضافة إلى تزكية الشهود الذين سيدلون بشهاداتهم عند القاضي. وبصفة عامة لم يكن أولئك العدول يتمتعون بسمعة طيبة، حتى أن سفيان الثوري يقول "الناس عدول إلا العدول" ويقول عنهم عبد الله بن المبارك "هم السفلة" وأنشد بعضهم في العدول: قوم إذا غضبوا كانت رماحهم ... بثَّ الشهادة بين الناس بالزور هم السلاطين إلا أن حكمهم ... على السجلات والأملاك والدور3   1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 675. 2- رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة، ص 13. 3- معيد النعم ومبيد النقم، ص 63. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 لكن لا يمكن أن تكون هذه الصورة عامة لجميع العدول، لأن من التزم منهم بالحق وسار على نهجه ما عليه من سبيل، أما الذين يسارعون في تحمل الشهادات ويؤدونها مقابل أجرة معلومة يتقاسمونها فيما بينهم في حوانيتهم، فهؤلاء الذين في خطر من أمرهم إن لم يقلعوا عنه ويتوبوا إلى الله تعالى منه. هذا وقد حفظت لنا كتب التراجم أسماء عديدة اشتهرت بالعدالة من هؤلاء: محمد بن عيسى المعافري، الشهير بالأعشى1، ومحمد بن يوسف بن مطروح، المتوفى يوم عاشوراء سنة 271هـ (8 يوليو سنة 884م) وكان أحد الثلاثة الذين تدور عليهم الفتيا أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن2. أبو القاسم أصبغ بن خليل، قرطبي، كان حافظاً للرأي على مذهب مالك وأصحابه، فقيهاً في الشروط، بصيراً بالعقود، منسوباً للصلاح والورع، دارت عليه الفتيا بالأندلس طيلة خمسين عاماً، توفي سنة 273هـ (886م) 3.   1- ترتيب المدارك، 4/116. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1113. 3- المصدر السابق، ترجمة رقم 247. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن هانئ العطار، قرطبي، يعرف بابن اللباد، كان أحد العدول القرطبيين، توفي ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 375هـ (ديسمبر 985م) 1. أبو عبد الله محمد بن أبي سليمان بن حارث المغيلي القسام، من أهل قرطبة، وهو أحد عدولها، كان حسن الخلق، كثير الدعابة، ذو مكانة سامية لدى حكومة قرطبة، توفي يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة 377هـ (مارس 988م) 2. أبو عبد الله محمد بن فتح اللحام، قرطبي كان أحد العدول عند قاضي الجماعة محمد بن يبقى ابن زرب توفي في شهر رجب سنة 378هـ (988م) 3. أبو الوليد محمد بن محمد بن عبد المؤمن بن يحيى، من أهل قرطبة، وأحد عدولها، كان منسوباً للثقة، توفي يوم الأحد مطلع رجب سنة 389هـ (18 يونيو 998م4) . وكان أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن أبي دليم، المتوفى سنة 392هـ (1001م) وعبد الله بن المعيطي أشهر الناس عدالة بقرطبة في وقتهما5.   1- نفسه، ترجمة رقم 1347. 2- نفسه، ترجمة رقم 1350. 3- نفسه، ترجمة رقم 1352. 4- نفسه، ترجمة رقم 1379. 5- ترتيب المدارك، 6/151. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن ضيفون بن مروان اللخمي، الحداد، قرطبي، صالح، عدل، حدث وكتب الناس عنه، توفي ليلة السبت لثمان بقين من شوال سنة 394هـ (سبتمبر سنة 1004م) 1. أبو القاسم خلف بن سليمان بن خميس، قرطبي، كان أحد العدول، قتله البربر يوم دخولهم قرطبة في شهر شوال سنة 403هـ (إبريل سنة 1013م) 2. أبو بكر عبد الرحمن بن أحمد التجيبي، يعرف بابن حوبيل، من أهل قرطبة "كان فقيهاً مشاوراً، بصيراً بعقد الوثائق، مشهور العدالة المبرزة بقرطبة، وممن عُني بالعلم وشهر بالحفظ3". وفي عهد الفتنة البربرية، تأثرت العدالة مثل غيرها بأحداث تلك الفتنة، فقد أصبحت الثقة بالعدول مهزوزة بشكل كبير. حتى أن قاضي الجماعة عبد الرحمن بن بشر 407-419هـ (1016-1028م) كان لا يقبل شهادة بعضهم في الباطن، ولا يقضي بها إذا انفردت عن غيرها4.   1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1393. 2- الصلة، ترجمة رقم 363. 3- المصدر السابق، ترجمة رقم 687. 4- د. محمد عبد الوهاب خلاف: وثائق في شئون الحسبة في الأندلس، مستخرجه من محفوظ الأحكام الكبرى، للقاضي ابن سهل الأندلسي، (القاهرة، المركز الدولي العربي للإعلام، ط الأولى 1985م) ص76. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 ولم يقتصر اهتمام المصادر الأندلسية على ذكر أهل العدالة من المسلمين فقط، بل امتد اهتمامها لذكر من اشتهر بالعدالة من أهل الذمة، من هؤلاء مثلاً:- ينير الأعجمي فقد كان معروفاً بالخير وحسن المذهب، مقدماً عند القضاة، مقبول الشهادة لديهم، ولذا فقد كانت شهادته سبباً في عزل قاضي الجماعة يخامر بن عثمان الشعباني عن منصبه، وذلك في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط1. وكما أن الإنسان يبلغ العدالة وفق شروط متعارف عليها، فبالمقابل فإن الإخلال بتلك الشروط يعني إسقاط العدالة عن ذلك العدل، ففي عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط سجل قاضي الجماعة يحيى بن معمر الألهاني بالسخطة على سبعة عشر فقيهاً، وهذا يعني أنه أزال صفة العدالة عنهم2. كما أن قاضي الجماعة الحبيب أحمد بن زياد، قد سجل بالسخطة على الفقيه العدل محمد بن يحيى بن لبابه الشهير بالبوجون3، فقد رفع القاضي للخليفة عبد الرحمن الناصر أشياء قبيحة عن ابن لبابه، فأمر الخليفة بإسقاط ابن لبابه عن منزلته عن العدالة والشورى وكلفه بلزوم بيته4.   1- قضاة قرطبة، ص 55. 2- قضاة قرطبة، ص 47. 3- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1231. 4- ترتيب المدارك، 6/87-91. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 من هنا يتضح أن رفع منزلة أحد الفقهاء للعدالة أو إسقاطه منها، لابد أن يصدر به ظهير من الأمير أو الخليفة. ويبدو أن إزالة العدالة عن أحد العدول، أمر غير متوقف على ارتكاب ذلك العدل لما يقدح بسيرته من جهة الشرع، بل إن للأهواء دور في هذا أحياناً، من ذلك قصة إسقاط الفقيه الموثق ابن العطار عن الشورى والشهادة ثم إعادته إليها1. وتكرر نفس العمل مع قاضي الجماعة أبي بكر يحيى بن عبد الرحمن بن وافد اليحصبي، المتوفى سنة 404هـ (1014م) ، فقد كان مستبحراً في المذهب المالكي، حاذقاً بحفظ المسائل والأجوبة، ولذا فقد تقلد الشورى والشهادة في عهد الدولة العامرية، لكن المنصور بن أبي عامر سخط عليه لأنه خالف رغبته وأفتاه بعدم جواز التجميع في مسجد الزاهرة، ولذا فقد أصدر المنصور أمره بإسقاط ابن وافد عن مرتبتي الشورى والشهادة وفرض عليه الإقامة الجبرية في داره2. وللسبب ذاته تعرض الفقيه أصبغ بن الفرج بن فارس الطائي، المتوفى سنة 397هـ (1007م) قاضي بطليوس وثغورها للأذى من المنصور بن أبي عامر فعزله عن القضاء والفتيا3.   1- المصدر السابق 7/148-158. 2- نفسه 7/160. 3- المصدر السابق 7/159-161. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 الوكالة1: الوكالة لها أوجه عدة2، يهمنا في هذا المقام ما يتعلق بالخصومات أي التقاضي والمشهور في المذهب المالكي أن التوكيل حق مشروع للطالب والمطلوب، إلا أن سحنون رحمه الله لا يقبل التوكيل من المدعي عليه إلا في حالات خاصة، مثل المرأة الشابة التي تخشى فتنتها3، أو مريض أو مريد سفر، أو صاحب عذر بيِّن، أو من كان في شغل الأمير، أو كونه يشغل خطة لا يستطيع مفارقتها، كالحاجب مثلاً، وبالمقابل كان يقبل التوكيل من كل مدعي4. وحول هذا المعنى جاء رأي الفقيه الموثق ابن العطار، لكنه أضاف أن من دواعي التوكيل الرغبة في التنزه عن التبذل في الخصومة، والجلوس في مجالس الحكام خشية سماع قول خشن أو اعتراض بما لا يصلح5.   1- الوكالة جمعها الوكالات، والوكالة اسم مصدر بمعنى التوكيل من وكل إليه الأمر وكلاً ووكولاً، سلمه وفوضه إليه واكتفى به. انظر: لسان العرب، مادة وكل. وأما اصطلاحاً فقد عرفها الشيخ ابن عرفه بقوله "هي نيابة ذي حق غير ذي إمرة ولا عبادة لغيره في غير مشروطة بموته" الحدود الكبرى، ص 457. 2- انظر: الحدود الكبرى، ص461. معين الحكام، 2/669 وما بعدها. 3- ابن عبدون يرى ألا يكون هناك وكيل للمرأة، وذلك لأن بعض ضعاف النفوس ربما اتخذ هذه الوكالة سبيلاً للمساس بشرف موكلته. انظر: رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة، ص 12-13. 4- معين الحكام، 2/683-684. 5- الوثائق والسجلات، ص 497. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 ومن أراد أن يوكل وكيلاً فلابد أن يحضر جلسة لدى القاضي، ينعقد من خلالها ما يكون من الخصمين من الدعوى والإقرار والإنكار، ثم له الحق في أن يوكل من شاء1، ولكن إذا جلس الخصمان لدى القاضي ثلاث جلسات فأزيد عندها لا يجوز لأحدهما إقامة وكيل عنه، إلا أن يكون خصمه قد شاتمه فحلف أن لا يخاصمه بنفسه أو اضطر للسفر2. وعن اشتراط الإقرار أو الإنكار من قبل المدعي عليه قبل أن يوكل يذكر الخشني أن امرأة من جيران موسى بن حدير - تولى فيما بعد خطة الخزانة الكبرى للأمير عبد الرحمن الأوسط - رفعت عليه دعوى عند قاضي الجماعة إبراهيم بن العباس القرشي، فأرسل إليه القاضي فأحضره وأخبره بما تدعيه عليه المرأة، فطلب موسى من القاضي أن يأذن له في إقامة وكيلاً عنه، لكن القاضي رفض وأصر على موسى أن يقر أو ينكر ثم بعد ذلك يوكل، فلما رأى موسى إصرار القاضي قال له: "جميع ماتدعيه -المرأة - حق وهي المصدقة3". ولا يجوز لأحد الخصمين إقامة أكثر من وكيل في قضية واحدة4، ولا يصح للوكيل أن يوكل غيره إلا بإذن موكله5، وللموكل عزل الموكل   1- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 274-275. 2- الوثائق والسجلات، ص497. 3- قضاة قرطبة، ص 53. 4- معين الحكام، 2/685. 5- أدب القاضي، ص 513. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 ما لم تبدأ جلسات القاضي، فإذا كان الوكيل قد حضر ثلاث جلسات أو أكثر فليس للموكل عزله1، إلا إذا ظهر منه غش أو أصيب بمرض2. والوكالة لابد أن تكون مكتوبة، ولها صيغة محددة، وقد زودنا الفقيه ابن العطار بنص الوكالة، فذكر تحت عنوان: وثيقة توكيل على الخصام، ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم وكل فلان بن فلان بن فلان عند القاضي فلان قاضي الجماعة بقرطبة، أو عند صاحب أحكام كذا، أو المدينة أو السوق بقرطبة، على المخاصمة عنه، وله الإقرار عليه والإنكار عنه، بوكالة التفويض التامة التي أقامه فيها مقام نفسه، وقبل فلان من توكيله. شهد". وإن كانت وكالة جامعة، قلت بعد قولك: والإنكار عنه "وطلب حقوقه واستخراجها، وتقاضي الأيمان إن وجبت له، وقبض حقوقه، والبيع عليه والابتياع له، والمصالحة عنه" وله أن يزيد هذه الزيادة إذا كان توكيلاً جامعاً لغير خصم، إن شاء الله، ثم يقول: شهد على إشهاد الموكل فلان والموكل فلان نفسهما بما ذكر عنهما في هذا الكتاب من عرفهما وسمعه منهما وهما بحال الصحة وجواز الأمر، وذلك شهر كذا من سنة كذا، وإن شئت عقدت الإشهاد على التوكيل خاصة، وقلت قبل التاريخ:   1- معين الحكام، 2/685. 2- المصدر السابق، 2/686. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 ممن أشهده الخصم فلان على قبول التوكيل المذكور وذلك في شهر كذا من سنة كذا1". وهناك نموذج آخر وضعه ابن العطار وهو عبارة عن توكيل يجعل للوكيل الحق في توكيل من يراه، جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، وكّل فلان فلاناً على المخاصمة عنه وله الإقرار عليه والإنكار عنه بوكالة التفويض التامة، أقامه بها مقام نفسه ... وجعل إليه توكيل من رأى توكيله بمثل توكيل المذكور وقبل فلان ذلك من توكيله "ثم يذكر الشهود والتاريخ2. هذا، وقد ذم ابن عبد ون الوكلاء، وكان يرى أن منعهم أفضل، إذ أن عملهم يتيح لهم أكل أموال الناس بالباطل، ويتوصلون إلى ذلك بالقدرة على الجدال، وتزيين الكلام والملق والكذب، والتلبيس على من يخاصمون عنده، إذ أن خصال الخير غير موجودة فيهم، وإن كان لابد من وجودهم فقد اشترط ابن عبد ون أن يكون عددهم قليلاً، ومع قلتهم فيجب أن يكون الوكيل ممن اشتهر أمره بالورع والعلم والعفاف والخير،   1- الوثائق والسجلات، ص 498. 2- المصدر السابق، ص 500. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 ولا يكون شاباً ولا شريباً، ولا ممن يفجر أو يفسق1. وقال فيهم البعض: "هم أناس عليهم الفضول فباعوه لغيرهم"2. ثم أنه بالرغم من عدم تمتع الوكلاء بنظرة احترام في مجال الخصومات إلا أن القاضي ربما نصح أحد الخصمين بإقامة وكيل يخاصم عنه، خاصة إذا توسم القاضي في أحد الخصمين الخير والصلاح مع عدم القدرة على الإدلاء بحجته، وذلك كما عرفنا من قبل قصة قاضي الجماعة، أحمد بن بقي بن مخلد عندما عمد إلى ذلك في إحدى القضايا3. والوكيل يقبل الوكالة لقاء أجر مادي يتفق عليه مع موكله، ويبدو أن أمر الموكلين كان مشهوراً بقرطبة، إلى درجة أصبح معها عملهم شبه رسمي، أو بالأصح صار من يعمل التوكيل محترفاً له، يدل على ذلك ما فعله قاضي الجماعة سعيد بن سليمان القاضي عندما أدب وكلاء أساءوا الأدب عنده ثم منعهم من الحضور عنده لمدة سنة فكاد أن يورثهم الفقر4.   1- رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة، ص 12. قارن: أبو رميلة، نظم الحكم في الأندلس، ص274. 2- معيد النعم ومبيد النقم، ص 63. 3- قضاة قرطبة، ص 116. 4- المصدر السابق، ص63. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 تسجيل الأحكام: من بين الأعوان الذي يستعين بهم القاضي في مجلسه، الكاتب أو كاتب الجلسة، والعلة في اتخاذ القاضي للكاتب هو تسجيل الأحكام في ديوان القضاء، حفظاً للحقوق وقطعاً للإنكار من قبل البعض، بالإضافة إلى أنه لا يمكن للقاضي أن يتولى تسجيل الأحكام بيده، إذ أن ذلك يشق عليه كثيراً، ولذا فلابد له من اتخاذ كاتب يتولى هذه المهمة عنه. وقد كان كاتب القاضي محل اهتمام حكام بني أمية، حتى أن الخليفة الحكم المستنصر بالله كشف عن مدى اهتمامه بكاتب القاضي ونص على ذلك في الظهير الذي أصدره لمحمد بن إسحاق ابن السليم عندما ولاه قضاء الجماعة، فقد جاء فيه أنه "أمره أن يختبر كاتبه وحاجبه وخدمته، ويتفقد عليهم أحوالهم إذا غابوا عن بصره"1. ونظراً إلى أهمية العمل الذي يؤديه كاتب القاضي، فلابد أن يكون على دراية واسعة بمدلولات الألفاظ العرفية واللغوية2، "ويكون فقيهاً عدلاً يقظاً3" فهو بالفقه يتمكن من الحذف والاختصار من الكلام الزائد الذي يدلي به الخصمان، وهذا أمر لا يتقنه إلا من كان لديه إلمام طيب بالفقه، وفي هذا يقول الوليد الباجي: "وينبغي لكاتب القاضي أن   1- النباهي، ص 76. 2- معيد النعم ومبيد النقم، ص60. 3- الوثائق والسجلات، ص 493. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 يتولى عقد المقالات المتصرفة بين يدي القاضي، ويترك التطويل والإكثار ويقصد الإيجاز والاختصار في تقييد المقالات"1، كما أن العدالة تجعله من أهل المروءة والأمانة فلا يعبث بنصوص الأحكام، فضلاً عن أن عدالته تمكن القاضي من الاستعانة بشهادته إذا احتاج إليها، واليقظة تجعل التغرير به أمراً عسيراً. وعندما نقلب صفحات تراجم كُتَّاب قضاة الجماعة بالأندلس في عهد الدولة الأموية، نجد أنهم قد توافرت فيهم الشروط التي نص عليها الفقيه ابن العطار وهي: الفقه والعدالة واليقظة، بل إن بعضم وصل إلى منصب قاضي الجماعة، من هؤلاء محمد بن بشير فقد كان يكتب لقاضي الجماعة المصعب بن عمران، ثم رحل إلى المشرق فلقي الإمام مالك بن أنس، وجالسه وسمع منه، وطلب العلم بمصر، ثم انصرف إلى الأندلس، فلزم ضيعته بباجه، وبعد أن توفي المصعب بن عمران، تولى ابن بشير قضاء الجماعة2. وكذلك الفقيه عمرو بن عبد الله بن ليث القبعه، تولى الكتابة لقاضي الجماعة أحمد بن زياد، وبعد استعفاء ابن زياد أصدر الأمير محمد بن   1- فصول الأحكام، ص 195. 2- قضاة قرطبة، ص 28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 عبد الرحمن أمره بتولية عمرو بن عبد الله قضاء الجماعة سنة 250هـ (864م) 1. ومن هؤلاء الكُتَّاب من أصبح فيما بعد قاضياً في إحدى الكور، منهم الفقيه أحمد بن إسحاق ابن مروان الغافقي، قرطبي كتب لقاضي الجماعة محمد بن إسحاق بن السليم ثم تولى القضاء بطليطلة وتوفي سنة 372هـ (982م2) . وهذا الفقيه عبد الملك بن الحسن المعروف بزونان، تولى الكتابة لقاضي الجماعة إبراهيم بن العباس القرشي وذلك بإشارة من الفقيه يحيى بن يحيى الليثي3، ويذكر ابن حيان أن الفقيه القرطبي أبو بكر عبد الله بن محمد بن معدان كان كاتباً لقاضي الجماعة أبي الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث ومن قبله، وكان أمينهم على تنفيذ الوصايا، وقد توفي الفقيه ابن معدان يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 426هـ (21أكتوبر سنة 1035م) وصلى عليه القاضي يونس بن عبد الله4. ومما استعرضنا ذكره ظهر لنا أن أغلب كتَّاب قضاة الجماعة بقرطبة كانوا من الفقهاء الذين عينوا فيما بعد قضاة في قرطبة أو غيرها من مدن الأندلس، وذلك نتيجة إلمامهم في الفقه، وملازمتهم للقضاة.   1- المصدر السابق، ص 67-68. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 170. 3- قضاة قرطبة، ص 51. 4- الصلة، ترجمة رقم 588. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 وننهي الحديث عن كاتب القاضي بأن تسجيل الأحكام القضائية قد شهد تطوراً تدريجياً، ورغم وقوفنا على ما يوضح ذلك التطور بصورة تفصيلية، إلا أن نصاً أورده القاضي عياض يؤكد لنا حدوث عملية التطور تلك، فقد ذكر أن قاضي الجماعة أسلم بن عبد العزيز يقول إن الفقيه بقي بن مخلد قال: إن سجلات القضاء لدى قاضي الجماعة محمد بن بشير كانت دقيقة ولطيفة، والسجل لا يذكر فيه إلا لب القضية فقط في أسطر قليلة، بخلاف ما أصبحت عليه فيما بعد، إذ أخذت تمتاز بكثرة التفاصيل1. وعملية التطور هذا حدثت في فترة لا تتجاوز ثلاثة أرباع القرن وهي الفترة الفاصلة بين وفاة قاضي الجماعة بن بشير سنة 198هـ (814هـ) ووفاة الفقيه بقي بن مخلد سنة 276هـ (889م) ولاشك أنها شهدت فيما بعد مزيداً من الإطالة والتفصيل، وكما يقول أحد المهتمين بدراسة القضاء في الأندلس عن تسجيلات الأحكام أنها "قد أصبحت في القرن الخامس مزيدة ومفصلة لكل جوانب القضية وأحكامها، ولعل نوازل ابن سهل خير مصداق لمنهج تحرير الأحكام وتسبيبها في تلك الفترة2".   1- ترتيب المدارك، 3/332-333. 2- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 284. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 تنفيذ الأحكام: بناء على ما يثبت لدى القاضي من ظهور الحق في القضية المطروحة عنده، فإنه يصدر حكمه فيها، ومتى ما صدر الحكم أصبح من المتعذر إعادة النظر فيه1 إلا ما كان منها ظاهر الجور أو مخالف للشرع أو تبين للقاضي الخطأ في قضائه والوهم في حكمه2. وقد جاء في رسالة عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: "ولا يمنعك قضاء قضيته فراجعت فيه نفسك أو هديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطل ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل3". كما ورد في العهد الذي أصدره والي الأندلس عقبة بن الحجاج للقاضي مهدي بن مسلم أن "لا يعجل بإمضاء الحكم حتى يستقصي حجج الخصوم وبيناتهم ومزكيهم، ويضرب لهم الآجال ويوسع فيها عليهم، حتى تنجلي له حقائق أمورهم وتتكشف له أغطيتها4". ولذا فقد عُرف قاضي الجماعة أحمد بن بقي بن مخلد بلين الجانب والتطويل في الأحكام لأنه كان لا ينفذ منها إلا الظاهر البين، أما ما كان   1- من ذلك أن قاضي الجماعة محمد بن بشير رفض إعادة النظر في قضية الفتى المملوك الذي ادعى أن سيده أعتقه وأنكحه ابنته. انظر: قضاة قرطبة، ص 33-34. 2- الوثائق والسجلات، ص 635-636. معين الحكام، 2/638-639. 3- أدب القاضي، ص 45. 4- قضاة قرطبة، ص 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 ملتبساً عليه منها، أو لديه شك فيها فإنه كان يستعمل الأناة والتؤدة حتى تنجلي له الحقيقة أو يتصالح الخصمان، وعندما بلغه من يعيب عليه اللين والتطويل، قال: "أعوذ بالله من لين يؤدي إلى ضعف، ومن شدة تبلغ إلى عنف ... واحتج بفساد أحوال بعض الناس وما يسببه هذا الفساد من التباس الأمور حتى لا يكاد يستبين الحق منها، كما احتج بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما اشتبه عليه الحكم في قضية، فأطال فيها، وكره أن يحكم على الاشتباه وأمر بابتداء الخصومة من أولها1". أعوان القاضي: لابد للقاضي من أعوان يستعين بهم على ضبط هيبة مجلس القضاء، فهم الذين يحفظون نظامه ويدخلون الخصوم إلى القاضي بالترتيب الأول فالأول، كما أنهم يخرجون من يطلب القاضي إخراجه عند إساءته الأدب ونحوه. وهؤلاء الأعوان يشترط فيهم الصلاح والأمانة، فيؤمن جانبهم بعدم قبول الرشوة، فلا يُقَدَّم أحد في الدخول إلى القاضي، كما أن صلاح الأعوان ضروري لكي يعاملوا أولئك الخصوم المتزاحمين على باب القاضي بالرفق واللين، فضلاً عن دورهم في إحضار الخصوم وتنفيذ الأحكام. وفي هذا يقول ابن العطار "يجب أن يكون أعوان القاضي في زي الصالحين   1- المصدر السابق، ص 116. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 أحوال الناسكين مستمسكين بهديه وحاله، فإنه يستدل بأحوال المرء بصاحبه وغلامه1". ويقول ابن عبدون: "لا يستعمل القاضي ... من الأعوان من كان غائظاً ولاشريباً ولا غضوباً ولا مهذاراً كثير الكلام واللدد، فيهذب ذلك منهم2" كما يجب أن يكون للقاضي رقبة عليهم وهيبة، يخوفهم لئلا يقدموا على أمر فيفعلونه، أو قول فيقولونه، أو أمر فيفسدونه، ولا يمكّن من الدخول عليه أحد منهم حتى يدعى عند الحاجة إليه، فهو موضع رشوة وفساد3" لأجل هذا نجد أن قاضي الجماعة أحمد بن بقي بن مخلد كان قد اتخذ أعواناً شيوخاً توسم بهم الخير والسداد4. وعن عدد الأعوان لدى القاضي ذكر ابن عبد ون -معاصر المرابطين- أن عددهم لدى القاضي في اشبيلية كان لا يتجاوز العشرة، منهم أربعة سودان برابر لأجل المرابطين والبقية من أهل الأندلس5. وعلل سبب بلوغ عددهم العشرة ما عرف عن أهل اشبيلية في ذلك الوقت من كثرة الخصومات بسبب اشتداد الخلاف بين أهلها6، وعليه فمن   1- الوثائق والسجلات، ص 493. 2- رسالة ابن عبدون، ص 12. 3- المصدر السابق، ص 10. 4- النباهي، ص 64. 5- رسالة ابن عبدون، ص 9. 6- المصدر السابق، ص 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 المتوقع ألا يكون عددهم في قرطبة إبان الدولة الأموية أقل من ذلك ويتم صرف أرزاق أولئك الأعوان من بيت مال المسلمين مثلهم في ذلك مثل القاضي الذي يأخذ رزقه من بيت المال1، يدل على ذلك أن قاضي الجماعة أحمد بن بقي بن مخلد عندما تولى القضاء سنة 314هـ (926م) طلب من الأمير عبد الرحمن بن محمد أن يكون رزق أعوانه من بيت المال2، ولكن ربما صرفت أرزاقهم من موارد أخرى، إما من رزق القاضي أو من المدعى أو المدعي عليه إذا عرف بالمماطلة3. مرتب القاضي وموارد دخله: إن من الحقوق التي ضمنت للقاضي، تقديم الأرزاق له، وذلك مقابل تحمله عبء الجلوس لصالح الناس. وهذا الجلوس يستغرق جل وقته، مما يحول بينه وبين التكسب من طرق أخرى، لأجل هذا كان لابد من صرف مرتب له يغنيه عن الاحتياج للآخرين، ويجعله في مأمن عن التطلع لما في أيديهم. ويكفي للدلالة على وجوب فرض مرتب للقاضي فعل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عندما بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن ليتولى   1- الوثائق والسجلات، ص 493-494. 2- النباهي، ص 64. 3- معين الحكام، 2/614. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 القضاء فقد فرض له رزقاً مقابل ذلك وقال له: "لعل الله يجبرك ويؤدي عنك دينك1 ". كذلك فرض الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم لقضاتهم أرزاقاً فقد كتب عمر بن الخطاب إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة رضي الله عنهم عندما كانا في الشام "أن انظروا رجالاً من الصالحين قبلكم فاستعملوهم على القضاء ووسعوا عليهم في الرزق2" كما فرض علي بن أبي طالب رضي الله عنه لشريح خمسمائة درهم في الشهر عندما ولاه القضاء3، واستمرت عملية صرف المرتبات للقضاة طيلة عهد الدولة الأموية في الشام4. وفي الأندلس سار القضاة هناك على مثل ما كان عليه نظرائهم في المشرق، فقد كانت لهم أرزاق تدفع من بيت المال. وقد حدد لنا أبو الوليد الأزدي فيما يرويه عن أصبغ بن الفرج موارد رزق القاضي، فقد قال "وحق على الإمام أن يوسع على القاضي في رزقه، ويجعل له خدمة   1- صحيح البخاري، 9/67-68. 2- أدب القاضي، ص 110. 3- المصدر السابق، والصفحة. 4- انظر: محمد بن عبد الله الغنام، تاريخ القضاء في عهد الدولة الأموية من 41-132هـ، (رسالة ماجستير مقدمة لكلية العلوم الاجتماعية قسم التاريخ والحضارة جامعة الإمام محمد بن سعود الرياض 1407هـ. غير منشورة) ص 98-110. ومصادره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 يقومون بأمره، ويدفعون الناس عنه، ويجري له ثمناً لوقوف يدون أقضيته فيها، وشهادتهم، وبمصابيح الليل ينظر منها في أمور الناس ويدبرها، ولا ينبغي له أن يأخذ رزقه إلا من الخمس أو من الجزية أو من عشر أهل الذمة1". ويبدو أن الرزق المقدم للقاضي كان شهريا2، وكان واسعاً نوعاً ما. بل إنه كان يمكن البعض من تدبير أموره بفائض من هذا الرزق طيلة العام المقبل حتى وإن كان معزولاً، مثلما حدث لمعاوية بن صالح عندما كان الأمير عبد الرحمن الداخل يداول بينه وبين عمر بن شراحيل في القضاء3. والذي تجدر الإشارة إليه أن القاضي معاوية بن صالح بما أنه يدبر شئونه طيلة العام المقبل من خلال الفائض من رزق العام الذي يتولى فيه القضاء بالرغم من أنه لا يمارس أي عمل آخر طيلة العام الذي يتولى فيه صاحبه عمر بن شراحبيل القضاء، لهو دليل أكيد على حياة الزهد التي كان يعيشها، وإن كنا لا نستطيع التغاضي عن ضخامة الرزق الذي تقدمه الدولة للقاضي.   1- مفيد الحكام، ورقه 4. 2- قضاة قرطبة، ص 22. 3- المصدر السابق، والصفحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 والأمثلة على حياة الزهد التي كان يحياها قضاة الجماعة بقرطبة كثيرة، فبالإضافة إلى ما سبق كان قاضي الجماعة سعيد بن سليمان إذا انصرف من صلاة الجمعة، ذهب إلى الفران وأخذ خبزته ووضعها تحت عضده ودخل بيته1. وعندما عُزل قاضي الجماعة يحيى بن معمر الألهاني عن منصبه، بعث إليه أحد خواصه من الوزراء أحد أبنائه ومعه بعض الأعوان والزوامل لحمل أمتعته، لكنهم فوجئوا عند دخولهم بيت القاضي بأنهم لم يجدوا من المتاع إلا حصير وخابية دقيق وصحفة وقلة للماء وقدح وسرير كان يرقد عليه2. ومن شدة زهد أولئك القضاة أن أحدهم كان إذا شغل عن القضاء يوماً لا يأخذ لذلك اليوم أجراً3، بل إن أحدهم إذا كان له دخل من غير منصب القضاء، فإنه يتعفف عن رزق القضاء، وإن كان في الواقع بحاجة إليه، فقاضي الجماعة سعيد بن سليمان كانت له ضيعة في فحص البلوط، وكان وكيله على هذه الضيعة المدعو ناصر بن قيس يُحضر للقاضي نتاج ضيعته من القمح والشعير، وهذا النتاج يبلغ سبعة أمداد من شعير وثلاثة أمداد من قمح، وكان القاضي يقول لمن حوله عن هذا الطعام "وهذا   1- نفسه، ص 64. 2- نفسه، ص 48. 3- نفسه، ص 22، النباهي، ص 44. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 مقيتي ومقيت عيالي بحول الله1" كما كان قاضي الجماعة ابن السليم يتعيش على اصطياد الأسماك من نهر قرطبة ويتعفف عن رزق القضاء2. وبمقابل من كان يعيش من قضاة قرطبة عيشة الزهد والتقشف كانت فئة منهم تعيش في سعة وبحبوحة، فمثلاً كان قاضي الجماعة الحبيب أحمد بن محمد بن زياد تاجراً قبل أن يتولى خطة القضاء سنة 291هـ (904م) 3". وأما قاضي الجماعة أحمد بن بقي بن مخلد فيذكر عنه ابنه عبد الرحمن أنه إذا طرق أباه ضيف في الليل لم يذبح له شيئاً من الطير، لأنه يعتبره أماناً لها، ويكتفي بأن يقدم للضيف في ذلك المساء العسل والسمن والبيض وما شاكل ذلك4. ويذكر ابن حيان أن قاضي الجماعة محمد بن يبقى بن زرب كان ذا سعة وثراء، فلما تولى القضاء في أوائل عهد الخليفة هشام المؤيد، جاءه أصحابه من الفقهاء والمشاورين لتهنئته بهذا المنصب، فما كان منه إلا أن احتبسهم عنده ثم أطلعهم على ما لديه من الأموال وأخبرهم عما تحويه   1- قضاة قرطبة، ص 63. 2- المغرب في حلى المغرب، 1/214. 3- قضاة قرطبة، ص 102. 4- قضاة قرطبة، ص 114-115. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 مخازنه منها، وما قدر عليه تجارته من أرباح، وذلك لكي لا يتعرض لتهمة الخيانة فيما بعد إذا ظهر ثراؤه بصورة كبيرة1. وكذلك كان قاضي الجماعة عبد الرحمن بن فطيس ميسور الحال، يدل على ذلك ما ذكره ابن حيان من أن ولده محمد بن عبد الرحمن بن فطيس المتوفى سنة 409هـ (1018م) كان سريا2. كما كان عبد الرحمن بن بشر الذي تولى للحموديين بقرطبة خطتي القضاء والوزارة من أهل الثراء، يدل على ذلك ما ذكره النباهي عن مجلس لابن بشر كان يقضي فيه أنسه وخلوته، فقد كان ذلك المجلس "عجيب الصفة حسن الآلة، ملبَّس كله بالخضرة، جدرانه وأبوابه، وسقفه وفرشه وستوره ونمارقه، وكل ذلك متشاكل الصفات، قد ملأه بدفاتر العلم ودواوين الكتب التي ينظر فيها ويخرج منها3". بعض المهام التي كان يتولاها القاضي أحيانا: من الملاحظ أن قاضي الجماعة بقرطبة كان في بعض الأحيان يقوم بأداء مهام وظيفية أخرى، وذلك إلى جانب منصبه، فهناك من كان   1- النباهي، ص 77. 2- الصلة، ترجمة رقم 1088. تاريخ القضاء في الأندلس، ص 295. 3- النباهي، ص 88. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 يشترك في الغزوات التي كان يقوم بها جيش الدولة1، بل إن منهم من كان يتولى أحياناً قيادة الجيش2. واشتراك القاضي في الغزو قد يكون رغبة منه في الجهاد والمرابطة، وأما إن كان الأمر نتيجة تكليف من ولي الأمر فالهدف من وجوده هو إمامة الجند في الصلاة وبث الحماس في نفوسهم من خلال الخطب التي يلقيها عليهم. ومن المهام التي أسندت لقاضي الجماعة الإشراف على الثغور وإصلاح ما وهى من حصونها، وقد كان قاضي الجماعة محمد بن عبد الله بن أبي عيسى كثيراً ما يخرج لأجل هذه المهمة، وفي آخر خرجاته إلى هناك، اعتل في قرية نحارس ومات هناك، فنقل جثمانه إلى طليطلة حيث دفن فيها في يوم السبت مستهل ربيع الأول سنة 399هـ (نوفمبر 1008م) 3. وأما لدينا العمالة على الكور، فقد ذكر الخشني أن الأمير الحكم الربضي استقدم الفرج بن كنانة من شذونة فولاه القضاء بقرطبة، وبعد أن أعفى الأمير ابنه عبد الرحمن من ولاية سرقسطة، وولاها عبد الرحمن بن أبي عبد هـ، حدثت بعض الفتن هناك، فأرسل الأمير إليهم قاضي الجماعة   1- قضاة قرطبة، ص 17-18،83. 2- المصدر السابق، ص 41. 3- نفسه، ص 120. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1253. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 الفرج ابن كنانة والياً على سرقسطة، فتمكن بحسن معالجته للأمور من إخماد الفتنة1. وقبل أن يصل محمد بن عبد الله بن أبي عيسى إلى منصب قاضي الجماعة في ذي الحجة سنة 326هـ (أكتوبر 938م) كان قد تقلد القضاء في عدة كور، فقد ولاه الخليفة عبد الرحمن الناصر القضاء ببجانة وطليطلة وجيان، وصرَّفه في عدة أمانات، فاضطلع بها، وكان آخر ما تولاه قضاء إلبيرة، وقلده مع القضاء أمانة الكور والنظر على عمالها، فكانوا لا يصدرون إلا عن أمره، ولا يظلم أحد في أي كورة تحت تصرفه إلا نصره2. وبعد أن تولى ابن أبي عيسى قضاء الجماعة كلفه الخليفة عبد الرحمن الناصر في منتصف شهر رجب سنة 328هـ (إبريل 940م) بالخروج إلى الثغور الشرقية للنظر في مصالح أهلها، فخرج إليها وحسن أثره فيها3، وازداد رفعة وقرباً من الخليفة حتى أنه أصبح المؤتمن على أسراره، كما خوله حضور جلسة مجلس الوزراء دون أن يطلق عليه لقب وزير4. ومن المهام التي كان يتولاها قاضي الجماعة عرضاً الكتابة، فقد ذكر الخشني أن الأمير عبد الله ابن محمد كان في أحد أيام الجمعة في الساباط،   1- قضاة قرطبة، ص 41-43. 2- ترتيب المدارك، 6/97. 3- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص453. 4- ترتيب المدارك، 6/96. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 فورد عليه كتاب لابد من الإجابة عليه فوراً، فطلب كاتبه عبد الله بن محمد الزجالي فلم يجده، فأراد أن يرسل في استدعائه، لكن القاضي النضر بن سلمة عرض نفسه على الأمير للرد على هذا الكتاب، فأذن له، فجاوب فأحسن وكتب فأبلغ، فأعجب الأمير به وشكر له فضله1. ومن المهام الجسيمة التي كان يضطلع بها قاضي الجماعة أحياناً، الاستخلاف في سطح قصر الإمارة، وهذا لم يحدث إلا في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر قبل أن يكبر ولي عهده الحكم، فقد كان كثيراً ما يستخلف قاضي الجماعة أسلم بن عبد العزيز على سطح القصر عند خروجه لمغازيه2. والحق إن استخلاف القاضي على سطح القصر لهو أبلغ دلالة على مدى عظم منصب قاضي الجماعة، بالإضافة إلى الثقة القوية التي كانت متبادلة بين أمراء وخلفاء بني أمية وبين قضاتهم. كذلك كانت تناط بقاضي الجماعة مهمة الإشراف على البنيان، وفي هذا يذكر الخشني أن الخليفة عبد الرحمن الناصر كان كثيراً ما يكلف القاضي ابن أبي عيسى بالإشراف على الثغور وتفقد مصالحها وبنيان   1- قضاة قرطبة، ص92. 2- المصدر السابق، ص 109. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 حصونها، كما أنه هو الذي تولى للخليفة عبد الرحمن الناصر بناء مدينة سالم مع القائد غالب بن عبد الرحمن1. والقاضي يتولى الإشراف على أموال الوقف في المسجد الجامع2 كما كان يقوم بمهمام النظر في شئون الأيتام3، وهو الذي يعيِّن الأوصياء عليهم لاستصلاح أموالهم4. ولا يتم بيع شيء من ممتلكات الأيتام إلا بإذن القاضي5 حتى وإن كان ذلك ضد رغبة الخليفة6. كذلك كانت تسند للقاضي مهمة القيام بالسفارة لأجل الإصلاح، ففي شهر رمضان سنة 328هـ (يونيو 940م) انتدب الخليفة عبد الرحمن الناصر قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي للسفر إلى العدوة المغربية للتوسط بين الزعيمين الخير بن محمد بن خزر وبين مدين بن موسى بن أبي   1- ترتيب المدارك، 6/99. 2- قضاة قرطبة، ص 83. 3- المصدر السابق، ص 66. 4- يحدث أحياناً أن القاضي يعين للأيتام أوصياء سوء ومن أولئك الأوصياء الذين عينهم قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي وعندما عاتبه الخليفة عبد الرحمن الناصر على تعيين تلك المجموعة السيئة رد عليه القاضي بأنه لا يجد سواهم فالذي يرجى منهم الصلاح لا يقبلوا الوصاية على الأيتام، ثم طلب من الخليفة أن يحيله على أهل الصلاح وله أن يجبرهم بكل وسيلة وهو يضمن له ألا يسمع بعد ذلك إلا كل خير. انظر: مطمح الأنفس، ص 257. 5- نفح الطيب، 2/16. 6- مطمح الأنفس، ص252-254. نفح الطيب، 2/16-17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 العافية المكناسي لإيقاف الحرب بينهما ومنع سفك الدماء، فنفذ منذر لما ندب له، وعالج الأمر برؤية فوفق في مهمته1. وفي عهد الفتنة أرسل الخليفة المهدي قاضي الجماعة أبا العباس بن ذكوان لإقناع هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر ومن معه من العبيد العامريين بالعدول عن إثارة الفتنة وترك الخروج ضد المهدي2. وقاضي الجماعة يؤخذ العهد أمامه بالطاعة، فقد ذكر ابن ذكوان أنه في غزوة ربيع الأخر سنة 328هـ (ديسمبر 939م) قدم إلى قرطبة موسى بن محمد صاحب مدينة وشقه وحكم بن منذر صاحب قلعة أيوب مستأمنين للخليفة عبد الرحمن الناصر، فأخرج إليهما كتب الأمان، وعقد لهما على أعمالهما، وذلك بعد أن أحلف كل واحد منهما في المسجد الجامع بقرطبة خمسين يميناً على الالتزام بالطاعة والوفاء بشروطها والنصح للخليفة في السر والعلن، كل هذا تم بمحضر قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي ومن معه من الحكام والفقهاء والعدول3. وأخيراً، إن القارئ ليقف موقف المتسائل من القدرة التي كان عليها قضاة الجماعة والتي أهلتهم للتصدي بكفاءة لكل ما وكل إليهم من المهام، وربما تسرب إلى الخاطر أن معظم تلك المهام لم تكن إلا تشريفية   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 460. 2- البيان المغرب، 3/79-80. 3- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 453. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 لا أكثر1، لكن الصواب هو ما ذهب إليه أحد المختصين بدراسة القضاء في الأندلس حيث يقول "إن مجال التشريف بألقاب القاضي لم يكن معمولاً به في الأندلس، وأن الخطط التي جمعت إلى قضاة الأندلس كان القاضي يمارسها بنفسه، فإذا لم يستطع فبالاستخلاف أو التفويض أو بمعونة مساعديه وتحت مراقبته ومسئوليته"2. ويكفي لتأييد هذا الرأي وأن الألقاب لم تكن تشريفية ما ورد على لسان الحاجب المنصور بن أبي عامر عند وصفه لأحد رجال دولته، المدعو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحضرمي الشهير بابن الشرفي، المتوفى في شهر شعبان سنة 396هـ (مايو سنة 1006م) فقد قال "في أصحابي رجل بصير بدنياه، يصلح لكل خطة، من مكاني في الحجابة، إلى مكان بوابي فلان، فمن بينهما من ذي منزله، ويستقل بكل أمر، ويصلح لكل خطة فإذا استفسر عنه، قال هو الشرفي3". ولتأكيد مقولة المنصور أورد القاضي عياض وصف ابن حيان لابن الشرفي، فذكر أنه قال "كان من أحد رجالات قرطبة المعدودين في الجزالة والرجولة، مع جودة المعرفة وغزارة العلم ومتانة الخطابة، والسداد   1- انظر: الدكتور محمود مكي في مقدمة تحقيقه لكتاب المقتبس، ص 44. 2- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 302. 3- ترتيب المدارك، 7/193. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 في الحكومة مع الصلابة والنزاهة، ولي الشرطة والأحكام بقرطبة والصلاة والخطبة بجامعها مع المواريث1". مستخلف القاضي: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} 2 فطاعة ولي الأمر واجبة - بغير معصية - والقاضي هو وكيل عن ولي الأمر، ولا يجوز للوكيل إقامة وكيلاً له إلا بتفويض من الموكل، فكذلك لا يجوز للقاضي أن يستخلف قاضياً آخر مكانه مالم يأذن ولي الأمر بذلك3. وعليه "فليس للقاضي أن يستخلف قاضياً مكانه ينظر بين الناس ويريح نفسه إذا كان حاضراً ولا إن عاقه شغل، إلا بعد استئذان الذي قدمه أو يكون تقديمه انعقد على ذلك4". وقد حدد الفقيه ابن العطار في وثائقه المجال العام الذي يمكن للقاضي المستخلف أن يعمل فيه، فقد ذكر أن القاضي إذا استخلف قاضياً آخر مكانه فللمستخلف الاستماع لشهادة الشهود، وقبول عدالة   1- المصدر السابق، 7/192-193. 2- سورة النساء جزء من الآية 59. 3- أدب القاضي، ص357-358، وقد ورد في تاريخ قضاة الأندلس أن القاضي محمد بن الحسن الجذامي النباهي عندما أمره يحيى المعتلي بتولي القضاء بمالقة، اشترط لقبول الولاية عدة شروط، منها: أن يستخلف عنه من يظهر له متى احتاج إلى ذلك وإن كان مقيماً في قصره. انظر: النباهي، ص 90. 4- معين الحكام، 2/611. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 من عرف منهم بالعدالة، وأن يعدل من احتاج إلى تعديل. فبعد أن يثبت لديه حيازة ما شهد به الشهود، يرفع ذلك كله إلى القاضي الذي استخلفه، وذلك بحضرة شاهدي عدل، فيلزم القاضي حينئذ إقرار فعل مستخلفه، وتنفيذ ما ثبت عنده من ذلك، ويسجل به للمحكوم وينعقد التسجيل في ذلك والإشهاد على القاضي1، ثم أضاف أنه إذا كان المخلف غائباً، فإنه يسجل القضية بشهادة الشهود والإثباتات ثم يطبع على الكتاب الذي سجل فيه القضية ويبعثه مع عدلين، يتوجهان به إلى القاضي ويسلمانه الكتاب، ويشهدان عنده أن مخلفه فلان بن فلان قد دفعه إليهما وأشهدهما على ما فيه، وينفذ القاضي قولهما إذا قبلهما بمعرفته بهما أو بتعديل من عدلهما لديه2. وقد استخدم بعض قضاة الجماعة بقرطبة حق الاستخلاف، من هؤلاء قاضي الجماعة محمد بن عبد الله بن أبي عيسى الذي كان يستخلف على قضائه عند خروجه من قرطبة قاسم بن محمد صاحب الوثائق، وفي بعض الأحيان يستخلف عبد الرحمن بن علي3. وكان قاضي الجماعة ابن ذكوان ملازماً للحاجب المنصور بن أبي عامر لم يتخلف عنه في غزوة من غزواته ولا فارقه في إقامة ولا سفر،   1- الوثائق والسجلات، ص642. 2- المصدر السابق، ص642-643. 3- ترتيب المدارك، 6/99. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 وكذلك كانت حالته مع ولديه عبد الملك المظفر وعبد الرحمن شنجول1 ولذا فقد كان القاضي ابن ذكوان يستخلف أخاه أبا حاتم صاحب المظالم طيلة غيابه عن قرطبة2. والمستخلف ربما حاول أن يقنع ولي الأمر بأنه أولى بالمنصب ممن استخلفه، وأنه أقدر عليه منه، وقد حدث ذلك في قرطبة مرة واحدة، فقد استخلف قاضي الجماعة محمد بن عبد الله بن أبي عيسى في إحدى خرجاته عن قرطبة الفقيه ابن زونان، فصلى بهم الجمعة ثم استغل غيبة القاضي، فكتب للخليفة عبد الرحمن الناصر كتاباً ذكر فيه "أنه شيخ من شيوخ المسلمين، ومن أهل العلم فيهم، وولاؤه أشرف الولاء، إذ كان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يكون مع هذا مخالفاً لابن أبي عيسى؟ وهو صبي في عدد ولده، يسأل أمير المؤمنين أن يأنف من هذا3" لكن الخليفة لم يلتفت إلى كتابة ابن زونان، ولم ير بديلاً لابن أبي عيسى الذي ما إن علم بالأمر حتى عاد مسرعاً وصرف ابن زونان ولم يستخلفه بعدها4. والاستخلاف في القضاء لم يقتصر العمل به على قضاة الجماعة بقرطبة، فقد كان معمولاً به في الكور، فالفقيه الحافظ أبو الفرج عبد الله   1- المصدر السابق، 7/168-169. 2- نفسه، 7/175. 3- النباهي، ص 60. 4- المصدر السابق، والصفحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 بن عبد الوارث1 بن منتيل، المتوفى ليلة السبت لسبع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان سنة 373هـ (فبراير 984م) كان مستفتياً في الأحكام ببلدة طليطلة، ومن أهل الثقة والورع في جميع أموره، ولذا فقد كان محمد بن يحيى بن عبد العزيز يستخلفه أيام قضائه بطليطلة2. وقد نظر ابن عبد ون إلى مسألة الاستخلاف نظرة حذرة، خشية ماقد يطرأ على الحقوق من ظلم بسبب هذا الاستخلاف، فبعد أن ذكر الشروط التي على القاضي التحلي بها، بدأ يعدد الأمور التي يجب عليه أن يأخذ حذره منها "ألا يستخلف في ذلك لأنه باب فساد لحاله، وباب من الهوان كبير قد فتحه على نفسه، فإن الناس يميلون إلى مستخلفه ويبقى هو مهوناً لا يعبأ به، ويحدث المستخلف عليه خلافاً عظيماً، لاسيما إذا ارتشى أو كان ذا غفلة، ولم تكن له حنكة3". ثم حدد ابن عبد ون السمات التي على القاضي أن يراعيها في مستخلفه، وحدد له الصلاحيات التي يمنحها المستخلف لكي يضمن السلامة، فقال "أن يجعل حاكماً عالماً خيراً غنياً يجعله للعوام في الأمر القريب من الأحكام لا في رقاب الأموال، ولا حكم على الأيتام، ولا فيما فيه أمر من أمور السلطان والعمال4".   1- لدى ابن الفرضي، ترجمة رقم 730: عبد الحارث. 2- لدى ابن الفرضي ترجمة رقم 730. ترتيب المدارك، 7/30. 3- رسالة ابن عبدون، ص 8-9. 4- المصدر السابق، ص 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 العزوف عن القضاء: من الملاحظ أنه بالرغم من الأهمية البالغة، والمكانة السامية، للقاضي في المجتمع الإسلامي، إلا أن بعض الفقهاء يرفض بشدة تولي القضاء، ورفض هذا المنصب مدعاة للتساؤل. لكن إذا وضعنا في الاعتبار احتياط ذلك الفقيه لنفسه من الوقوع في المحذور، وخشيته من القضاء لشدة عقوبة من اتبع هواه فيه، فسوف نعذره، فقد وردت أحاديث عديدة كلها تحذر من القضاء، من ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جعل قاضياً بين الناس فقد ذُبح بغير سكين1 ". لكن العزوف عن القضاء لمجرد التحذير أمر فيه نظر، إذ أن في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم أسوة حسنة، كما أن القاضي الذي يقضي بالحق ويجهد نفسه في مرضاة الله تعالى لاشك أن له من الله تعالى أجر عظيم، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يغلق الباب أمام تولي القضاء، فهو كما أنه حذر منه، تجده في أحاديث أخرى يرغب فيه فقد قال: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد وأخطأ فله أجر "2.   1- سنن ابن ماجه،2/774. رقم الحديث 2308. 2- المصدر السابق. رقم الحديث 2314. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 ويرى الخشني أن قبول بعض الفقهاء للقضاء ناتج عن رغبة منهم في شرف الدنيا والاتكال على عفو الله تعالى ورحمته، وأما من نفر منه فذلك لخشيته من موقف يوم القيامة، وحذراً من وقوع حيف على يديه يستجلب به غضب الله تعالى1". وفي الأندلس وجد الكثير من الفقهاء الذين رفضوا منصب القضاء، شأنهم في ذلك شأن من رفضه من المشارقة، وقد علل أحد المهتمين بدراسة القضاء في الأندلس هذا الرفض "بالخوف من عدم القدرة على إقامة العدل على الأقوياء، وتحرجاً من خدمة أمراء لا يرضون عن تصرفاتهم، وخوف الفقهاء من الدسائس التي تحدث بين بعضهم ورجال السلطة وأصحاب النفوذ في الدولة، وخوفهم أيضاً من التنكيل بهم بيد أصحاب السلطة إذا عارضوا ووقفوا أمام ظلمهم2". وإذا طبقنا هذا الرأي على الواقع في الأندلس، نجد أنه بحاجة لإعادة نظر، فهو لا ينطبق إلا على عهد الخليفة هشام المؤيد، وهذا أيضاً في حالات معدودة بالإضافة إلى مدة الفتنة وهي مدة لا يمكن اعتبارها صورة لحالة الدولة بأي حال من الأحوال، أما منذ قيام الدولة سنة 138هـ وحتى وفاة الخليفة الحكم المستنصر سنة 366هـ (977م) فإن أغلب   1- قضاة قرطبة، ص 2. 2- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 308. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 الصور عن القضاء ومن تولاه هي صور طيبة تبرز بجلاء موقف أمراء وخلفاء بني أمية من العدل. هذا ولدينا شخصيات أندلسية كثيرة رفضت منصب القضاء، ولعل الفقيه يحيى بن يحيى الليثي هو خير مثال على ذلك، إذ يمكن اعتباره أبرز شخصية دينية أندلسية على الأقل في عصره. وعندما نحاول الوصول إلى معرفة الأسباب الحقيقية التي حالت دون تولي الفقيه الليثي للقضاء، نضع في الاعتبار مسألة تأثير الإمام مالك بن أنس على أتباع مذهبه بصفة عامة وتلاميذه بصفة خاصة. فالمذهب المالكي يمتاز عن بقية المذاهب بالتأثير السلوكي الذي يظهر جلياً على اتباعه، فهو غير مقتصر على كونه مذهباً فقهياً فحسب، بل هو مذهب سلوكي1 وإذا حاولنا التعرف على الأسباب التي أدت إلى أخذ الأندلسيين بالمذهب المالكي، نجد أن من بينها "العامل التربوي" والذي أقصده هو القول بأن تأثيراً تربوياً تمت ممارسته بطريق غير مباشر من قبل الإمام مالك على تلاميذه الأندلسيين، فقد وجد هؤلاء التلاميذ إماماً مهيباً2، على درجة كبيرة من العلم والوقار وحسن الهيئة، لذا فليس   1- د. حسين مؤنس، شيوخ العصر في الأندلس، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 1986م) ص 16. 2- عن هيبة الأندلسيين للإمام مالك يقول سعيد بن أبي هند: "ما هبت أحداً هيبتي لعبد الرحمن بن معاوية حتى حججت فدخلت على مالك فهبته هيبة شديدة حتى صغرت عندي هيبة عبد الرحمن لهيبته" انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 469. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 من المستغرب أن يقتدوا به، ويتخلقوا بأخلاقه وحرصوا كل الحرص على أن يسلكوا السبيل الذي اختطه لنفسه1. ومن أجل محاولة الوصول إلى الأسباب التي حالت دون تولي الفقيه يحيى الليثي للقضاء يجب أن نتذكر أن رفض الإمام مالك للقضاء جعل العباسيين يرمقونه بنظرة إجلال واحترام، وهي صورة يسعى الكثير من الطلاب لنيلها، ولذا فلا عجب أن يرفض الفقيه يحيى الليثي منصب القضاء، وهو مدرك لمعنى هذا الرفض، إذ أنه نصب نفسه مشرفاً عاماً على القضاء، وذلك عندما قال لرسول الأمير عبد الرحمن بن الحكم عندما ألح عليه في القضاء: "المكان الذي أنا به لما تريدون خير لكم، إنه إذا تظلم الناس من قاض أجلستموني فنظرت عليه، وإن كنت القاضي فتظلم الناس مني، من تجلسون للنظر علي؟ من هو أعلم مني أو من هو دوني في العلم2" وإذا علمنا أن أكبر عدد من القضاة في قرطبة وجد في عهد الأمير عبد الرحمن بن الحكم 206-238هـ (822-852م) وأن ذلك كان بسبب الفقيه يحيى الليثي، إذ كان مستشاراً للأمير في تعيين القضاة وعزلهم، ولا يولي الأمير أحداً إلا بمشورته3، كما أن هو الذي يولي مكان القاضي المعزول4، بل لقد بلغ من سلطانه في مجال تعيين القضاة وعزلهم   1- سالم الخلف، المرجع السابق، ص 285. 2- قضاة قرطبة، ص 5. 3- ابن القوطية، ص 58. 4- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 40-41. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 أنه إذا أنكر من القاضي شيئاً قال له "استعف وإلا رفعت بعزلك1" إذا عرفنا هذا أدركنا لماذا امتنع الفقيه يحيى عن القضاء. ولابد من الإشارة هنا إلى أنه ما ينطبق على الفقيه يحيى الليثي لا يمكن تعميمه على كل من رفض القضاء في الأندلس، إذ أن المصادر لم تتطرق لذكر الأسباب الحقيقية وراء الرفض كما أن هناك من رفض القضاء وقبل بتولي خطة أخرى مثل خطة الشورى وخطة الصلاة والخطبة والتعليم في المسجد2. وبمقابل الامتناع عن تولي القضاء، هناك من عمل بالقضاء ثم طلب الإعفاء منه، ولدينا أمثلة عدة، فمن هؤلاء: محمد بن إبراهيم بن مزين الأودي، من أهل أكشونبه غربي الأندلس، ولاه الأمير عبد الرحمن الداخل قضاء الجماعة بقرطبة، وذلك في شهر المحرم سنة 170هـ (يوليو 786م) فاستمر في منصبه عدة أشهر ثم طلب الاستعفاء فأعفي ورحل للحج وقابل الإمام مالكا ثم عاد إلى الأندلس ومات سنة 183هـ (799م) 3. العزل عن القضاء: من الملاحظ أن بالرغم من المكانة السامية لخطة القضاء إلا أنه كان عرضه للعزل، ورغم أن ذلك كان أمراً مألوفاً في المجتمع الأندلسي حتى   1- البيان المغرب، 2/80. 2- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 309. ربما أنهم وجدوا أن هذه الخطط أخف وطأة من مسئولية القضاء. 3- نفح الطيب، 2/514. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 نهاية القرن الخامس الهجري1 (الحادي عشر الميلادي) ، إلا أن الأمر غير مرتبط برضى أو سخط حاكم الدولة الأموية، والمصادر الأندلسية تعج بالأمثلة المؤيدة لذلك، فكم من موقف خالف فيه القاضي رغبة الأمير أو الخليفة الأموي ولم يعزله عن منصبه2. ومادام الأمر على هذه الصورة، فلابد أن تكون هناك أسباب للعزل، إذ أن العزل بدون سبب مقنع هو نوع من التعسف في استعمال السلطة، وإخلال بالعدالة، فالقاضي متى ما شعر أنه عرضة لهوى الحاكم أصبح غير مطمئن، وبالتالي تأتي أحكامه بعيدة عن العدالة المنشودة3. وهناك هيئة من الفقهاء تتولى متابعة القاضي ومؤاخذته إذا دعت الضرورة لذلك، وفي الوقت نفسه تركت للقاضي حق الدفاع عن نفسه، والأمثلة على ذلك متوفرة، فقد ورد لدى الخشني أن الفقيه يحيى بن يحيى الليثي ذكر أن حمدون بن فطيس تظلم من قاضي الجماعة محمد بن بشير في شيء حكم به عليه، ورفع الشكوى للأمير الحكم الربضي، الذي أصدر أوامره بتكوين مجلس من الفقهاء للنظر في حكم القاضي الذي سبب هذا التظلم4.   1- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 312. 2- انظر: قضاة قرطبة، ص 25-26،29. النباهي، ص 69-72. 3- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 312. 4- قضاة قرطبة، ص 36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 وعندما تورط قاضي الجماعة عمرو بن عبد الله بالثلث الذي أوصى ابن القصيبي بتفرقته، وذلك بسبب تواطئ ولد القاضي مع أولاد العدل الذي عنده المال، فأراد الأمير محمد بن عبد الرحمن التثبت من براءة القاضي، فبعث إليه أحد فتيانه، وحلفه في بيته سراً وذلك بمشورة الفقيه بقي بن مخلد1. وإذا حاولنا التعرف على الأسباب التي كانت وراء عزل القضاة في الأندلس، نجد أنها متعددة، منها: انتهاء مدة ولاية القاضي، فهو إذا حددت مدته بسنة واحدة مثلاً، فإنه يعتبر معزولاً بانتهائها، ومثال ذلك ما عرفناه في عهد الأمير عبد الرحمن الداخل، فقد كان يداول بين معاوية بن صالح وعمر ابن شراحيل المعافري على قضاء الجماعة، فكان كل واحد منهما يتولى القضاء سنة واحدة ثم يلي صاحبه، وإذا تجاوز أحدهما السنة فإن الآخر ينبه الأمير على ذلك ليعزله2. كذلك ما يمكن اعتباره عداوة بين الفقهاء والقاضي، تكون سبباً في عزله، وهذا ما جرى لقاضي الجماعة يحيى بن معمر الألهاني3 وبسبب اتباع قاضي الجماعة محمد بن سعيد لهواه، وحكمه برضى الناس، اضطر الفقيه يحيى الليثي إلى طلب الاستعفاء، بعد أن قال له " ... فأما إذا صرت   1- المصدر السابق، ص 83-85.ابن القوطية، ص72. 2- قضاة قرطبة، ص 22. 3- المصدر السابق، ص 46-48. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 تتبع الهوى وتقضي برضى مخلوق ضعيف فلا خير فيما تجيء به ولا في إن رضيته منك1". ومن دواعي عزل القاضي اشتراكه مع الحاكم بالنسب، وقد ظهرت هذه الصورة جلية في حادثة عزل قاضي الجماعة إبراهيم بن عباس القرشي، فقد حدثت شحناء بين هذا القاضي وبين الحاجب موسى بن حدير في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، فأضمر الحاجب في نفسه الانتقام من القاضي، فدس عليه امرأة خاطبت القاضي بمجلس قضائه قائلة له: "يا ابن الخلائف2" فلم ينكر عليها القاضي ذلك فرفعت الكلمة للأمير، وصور الأمر له بأن هناك مؤامرة ضده يدبرها القاضي مع الفقيه يحيى الليثي، إلا أن الفقيه عبد الملك بن حبيب أقنع الأمير بأن ذلك غير صحيح، ثم أشار عليه بعزل القاضي حيث قال له: " ... وأما القاضي فلا ينبغي للأمير أن يشركه في عدله من يشركه في نسبه3" فكان ذلك سبباً لعزل القاضي سنة 220هـ (835م) . وكذلك قد تكون الأخلاق الصعبة سبباً في العزل عن القضاء، فالقاضي يخامر بن عثمان الشعباني كان يعامل الناس "بخلق صعب، ومذهب وعر، وصلابة جاوزت المقدار4" فلم يحتمل الناس من ذلك،   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 63. 2- قضاة قرطبة، ص 53. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص61. 3- قضاة قرطبة،: 52-53. 4- المصدر السابق، ص 54. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 وتسلطت عليه الألسن، ورفع أمره للأمير عبد الرحمن، فكلف الوزراء بتولي السؤال عن القاضي وكشف أمره، وبعد أن ظهرت الحقيقة أمر الأمير بعزله1. ولقد كانت كثرة القضايا التي ينظرها القاضي في فترة وجيزة مدعاة لعزله، وهذا ما حدث للقاضي معاذ بن عثمان الشعباني، فقد مكث في منصبه مدة سبعة عشر شهراً، أحصى عليه خلالها تنفيذ سبعين قضية، فاستكثرت منه2 وخيف عليه الزلل، فرفع الفقهاء أمره للأمير عبد الرحمن الأوسط فأمر بعزله3. وللخشني موقف من مسألة القاضي معاذ بن عثمان، فهو يرى أن القول بأن كثرة القضايا التي نظر بها، والأحكام التي أصدرها في فترة حكمه أنها هي السبب بعزله أمر غير مقبول، ويرى "أنها حكاية مدخولة لأنه لا تذكر تنفيذ الأقضية وكثرتها مع حضور الحق وانكشاف الصدق4" فإذا صح رأيه فإنها لا تعدو أن تكون من تحامل بعض الفقهاء من مشاورين وعدول وأهل فتيا، إذ أن من مصلحتهم التريث في الأحكام لأنه كلما طالت الخصومات كان ذلك أنفع لهم مادياً5.   1- نفسه، ص 54-55. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 63-67. 2- قضاة قرطبة، ص 55. 3- النباهي، ص 55. 4- قضاة قرطبة، ص 56. 5- المصدر السابق، ص 56. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 وإذا جيء القاضي بمن عرَّض بسب الله تعالى ولم يأمر بقتله، كان مدعاة لعزله، وهذا ما حصل لقاضي الجماعة الحبيب محمد بن زياد، فقد جيء إليه بابن أخي عجب1، وقد شُهِدَ عليه بأنه عَرَّض بسب الله تعالى، وذلك أنه خرج يوماً فأخذه المطر، فقال: "بدأ الخرَّاز يرش جلوده2" تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فأفتى القاضي حينئذ بتأديبه فقط، وبه أفتى بعض الفقهاء، في حين أفتى عبد الملك بن حبيب وأصبغ بن خليل بوجوب قتله، وعندما رفعت الآراء للأمير عبد الرحمن الأوسط، أمر بعزل القاضي وتأنيبه ومن تابعه من الفقهاء وعزلهم عن مناصبهم كما أمر بقتل ابن أخي عجب3. وإذا أحدث أحد أولاد القاضي حدثاً يمس أمن الدولة، فإن ذلك يكون سبباً في عزله، فقاضي الجماعة أحمد بن زياد أحدث أحد أولاده بشذونه حدثاً أقلق الأمير محمد بن عبد الرحمن فأمر بعزل القاضي عن منصبه4، وبوشاية الحاقدين أصدر الأمير محمد بن عبد الرحمن أوامره بعزل قاضي الجماعة سليمان بن أسود سنة 260هـ (874م) وهي نهاية ولايته الأولى5.   1- عجب هي محظية الأمير الحكم الربضي. 2- المعيار المعرب، 2/362. 3- قضاة قرطبة، ص 59-60. 4- المصدر السابق، ص66-67. 5- نفسه، ص 81-82. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 ويحدث أن يكون فساد الولد مدعاة لعزل أبيه، وهذا ما ينطبق على قاضي الجماعة عمرو بن عبد الله ففي ولايته الثانية سنة 262هـ (876م) تغيرت حالته، وأصبحت الهدايا تدخل بيته وذلك بسبب ولده المكنى بأبي عمرو، والذي نسب إليه التدليس في الديوان في مال قد أوصى به تاجر يدعى ابن القصيبي، فكثر الحديث وتناولته الألسن، وهجاه بعض الشعراء، فلما وصلت هذه الأخبار إلى الأمير قال: قد أكثر الناس في عمرو وفي ولده، فعزله حينئذ وذلك سنة 263هـ (877م) 1. والقاضي يعتبر معزولاً إذا خرج للغزو ثم عاد ولم يُصدر الأمير أو الخليفة ظهيراً يجدد به ولايته، إذ أنه لا يستطيع العودة إلى مجلس قضائه حتى يُعهد إليه بذلك، فقد "كان الرسم حينئذ إذا غزا القاضي ثم قدم لم ينظر حتى يعهد إليه بالنظر"2. وبسبب الهرم وكبر السن أصدر الأمير المنذر بن محمد أوامره سنة 273هـ (886م) بعزل قاضي الجماعة سليمان بن أسود3. وعزل قاضي الجماعة النضر بن سلمة لأنه رفض أن يحكم بصرف المال الموقف بالجامع إلى بيت المال إلا باجتماع آراء الفقهاء، فرفع موقفه   1- نفسه، ص 82-83. 2- نفسه، ص 83. 3- نفسه، ص 88-89. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 ذلك إلى الأمير عبد الله بن محمد بعد أن حُرّف معناه، وصُرف القول إلى أسوأ الوجوه فعزله الأمير حينئذ1. كذلك يتم عزل القاضي مباشرة عن منصبه إذا علم فساد حاله، فبعد أن عزل الأمير عبد الله ابن محمد قاضي الجماعة النضر بن سلمة الكلابي عين بدلاً منه موسى بن محمد بن زياد الجذامي، إلا أنه لم يمكث في منصبه سوى أسبوعاً واحداً فقط، ثم عزله الأمير بعد أن وصلت إليه أخبار تفيد بأن ظاهره غير باطنه، كما لم يثن عليه زملاؤه من الفقهاء2. ويعزل قاضي الجماعة عن منصبه في حالة استبداله بمن هو أفضل منه، فعندما تولى الأمير عبد الرحمن بن محمد الإمارة أقر قاضيه الحبيب أحمد بن زياد على منصبه فترة وجيزة ثم عزله وجعل مكانه أسلم بن عبد العزيز بعد عودته من رحلته إلى المشرق وما سمعه عنه من اتصافه بالمذهب الحسن والمروءة الكاملة وذلك سنة 300هـ (913م) 3. وقد يعزل القاضي عن منصبه نتيجة موقف سياسي، وهذا لم يحدث طيلة عصر الدولة الأموية إلا عندما تسلط العامريون على الخلافة الأموية، فقد أمر الحاجب المنصور بن أبي عامر بعزل القاضي أصبغ بن الفرج   1- نفسه، ص 93. 2- نفسه ص 94. المغرب في حلى المغرب، 1/154. 3- قضاة قرطبة، ص 105-106. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 الطائي قاضي بطليوس، المتوفى سنة 397هـ (1007م) عن منصبه لأنه عارضه في القول بالتجميع في مسجد الزاهرة1. وبسبب وشاية الوزير عيسى بن سعيد أصدر الحاجب عبد الملك المظفر أوامره بعزل قاضي الجماعة ابن ذكوان عن منصبه وذلك يوم الخميس لثلاث خلون من ذي الحجة سنة 394هـ (21 سبتمبر 1004م) 2. وفي الولاية الثانية لابن ذكوان صدرت أوامر الخليفة هشام المؤيد بطرد بني ذكوان من الأندلس قاطبة وذلك سنة 401هـ (1011م) كل هذا بسبب تآمر الحاجب واضح الصقلبي ضد القاضي الذي سبق وأن أشار على الخليفة بضرورة مسالمة البربر وعدم الاستماع لآراء حاجبه واضح3. وبسبب الموقف الذي اتخذه قاضي الجماعة ابن وافد من البربر وخليفتهم سليمان المستعين، فإنه تعرض بمجرد دخول المستعين لقرطبة في يوم الاثنين لثلاث بقين من شوال سنة 403هـ (مايو 1013م) للعزل والتنكيل والإهانة وكاد أن يصلب لولا شفاعات الكثير من الفقهاء والصالحين، حتى أن والد الخليفة المستعين قد شفع به، فاكتفى المستعين   1- ترتيب المدارك، 7/159-161. 2- المصدر السابق، 7/169-170. الصلة، ترجمة رقم 65. 3- ترتيب المدارك، 7/173-174. النباهي، ص86-87. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 بسجنه في المطبق وظل كذلك إلى أن مات في منتصف ذي الحجة سنة 404هـ (يونيو 1014م) 1. ونختتم أسباب العزل بقاضي الجماعة عبد الرحمن بن أحمد بن سعيد بن أحمد بن بشر بن غرسيه المشهور بابن الحصّار، تولى القضاء سنة 407هـ (1016م) في عهد علي بن حمود، وتمادى في منصبه إلى أن عزله الخليفة هشام المعتد بالله سنة 419هـ بسبب وشايات بعض الفقهاء وسعيهم ضده2. والقاضي إذا عُزل عن منصبه فإن كتاباً يصدر بذلك وتصله نسخة منه3 وعلى القاضي المعزول أن يقوم بتسليم ما لديه من سجلات وهو ما كان يعرف بالديوان، ويتولى مهمة الاستلام أربعة من عدول قرطبة يختارهم صاحب المدينة ويكلفهم باستلام الديوان من القاضي المعزول ووضعه في بيت الوزراء إلى حين يتم اختيار قاضٍ آخر ليستكمل فيه القضايا4. لكن هذا الرسم كان يُخرق أحياناً، من ذلك أن قاضي الجماعة أحمد بن زياد عندما عزل عن منصبه وتم تعيين كاتبه عمرو بن عبد الله بدلاً منه، أصر الأخير على ألا يستلم الديوان إلا من يد القاضي ابن زياد   1- النباهي، ص 88-89. البيان المغرب، 3/113. ترتيب المدارك، 7/178-181. 2- الصلة، ترجمة رقم 698. 3- المصدر السابق، ترجمة رقم 686. 4- قضاة قرطبة، ص 82. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 شخصياً، فلم يكن أمام ابن زياد إلا أن حمل الديوان بنفسه وذهب به إلى المسجد الجامع حيث سلمه لعمرو بن عبد الله وقال له: "يا عمرو قد فتحت على القضاء باباً لا يخطئك شره"1. بقي أن نشير أخيراً إلى المذهب الذي سار عليه القضاة في إصدار أحكامهم فالمذهب المالكي هو المذهب الرسمي للدولة، وعلى وفقه تصدر أحكام القضاة2، ولا يسمح للقاضي أن يتجاوز المذهب المالكي إلى ما عداه، حتى ولو كان القاضي غير مالكي، فقد كان قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي ظاهري المذهب، لكنه كان إذا جلس للقضاء سار على مذهب الإمام مالك وأصحابه رحمهم الله تعالى3. وأخيراً أود أن أختم الحديث عن القضاء بذكر ما يمكن تسميته بأوليات في القضاء بالأندلس، فأول قاض من الموالي تم تعيينه في منصب "قاضي الجماعة" هو عمرو بن عبد الله بن ليث القبعة، ويذكر الخشني أن العرب قد شق عليهم ذلك، وأخذوا يتحدثون في مجالسهم بما ينبئ عن عدم رضاهم، فلما بلغ الأمير محمد بن عبد الرحمن ذلك، قال: "وجدت فيه مالم أجد فيهم4".   1- المصدر السابق، ص68. 2- عن المذهب المالكي ودخوله الأندلس وموقف الدولة الأموية منه، انظر: سالم الخلف، المرجع السابق، ص276-308. 3- النباهي، ص 74-75. 4- قضاة قرطبة، ص 67. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 وفي عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر عين مولداً يدعى عبد الله بن الحسن المعروف بابن السندي قاضياً على وشقة وما جاورها، وقد أفاد ابن السندي من ولايته أموالاً عظيمة ونعماً جسيمة، كما أنه كان شديد التعصب للمولدين، عظيم الكراهية للعرب، منتقصاً لهم، حافظاً لمثالبهم، ولأجل ذلك فقد استوزره عبد الملك بن محمد الطويل ومن بعده أخوه فرتون طيلة حياته، حتى أنهما كان لا يصدران إلا عن رأيه1. وذكر ابن عبد البر أن قاضي الجماعة موسى بن محمد بن زياد الجذامي الذي ولي القضاء بعد النضر بن سلمة الكلابي في عهد الأمير عبد الله بن محمد، هو أول من أفسد في خطة القضاء، إذ أن ظاهره كان خلاف باطنه، وكان صديقه أسلم بن عبد العزيز يصفه بأشياء قبيحة2 كما أن محمد بن عمر بن لبابه لايحسن الثناء عليه، ولذا فقد عُزل الجذامي عن منصبه بعد أسبوع من ولايته3. وركوب القاضي إلى السلاطين والدخول معهم في أمورهم يعتبر إهانة لخطة القضاء، وبسبب هذا الصنيع اعتبر ابن عبد البر أن أبا القاسم أحمد بن محمد بن زياد اللخمي، الذي تولى قضاء الجماعة في عهد الأمير   1- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 302. ابن الفرضي، ترجمة رقم 687. 2- المغرب في حلى المغرب، 1/154. 3- قضاة قرطبة، ص 94. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 عبد الله بن محمد وبعض السني الأولى من عهد الأمير عبد الرحمن بن محمد، أنه قد أهان خطة القضاء بكثرة دخوله على السلاطين وتبذله في ذلك1. ويعتبر أبو العباس أحمد بن عبد الله بن ذكوان قاضي الجماعة أول من تولى الوزارة والقضاء معاً، وذلك في عهد الحاجب عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر سنة 399هـ (1009م) وكان يكتب عنه "من الوزير قاضي القضاة" وهو أول من كتب عنه بذلك من قضاة الأندلس2.   1- المغرب في حلى المغرب،: 1/155. 2- ترتيب المدارك، 7/170-171. المغرب في حلى المغرب، 1/251. النباهي، ص88. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 المبحث الثاني: خطة الصلاة والخطبة ... البمحث الثاني: خطة الصلاة والخطبة عندما عدد ابن خلدون الخطط الدينية، جعل خطة الصلاة في أولها، ثم قال: "فهي أرفع هذه الخطط كلها، وأرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة"1. وللدلالة على أهميتها نجد أن إمامتها كانت من الأدلة الأكيدة على استخلاف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه2. لأجل هذا، كان الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم لا يقلدونها غيرهم، وسار الأمويون في الشام على نهجهم استئثاراً بها واستعظاماً لرتبتها، إلا أن الأمر لم يستمر على هذا المنوال، إذ أن الملك قد عظمت مظاهره، وبالذات لدى العباسيين الذين غلظ لديهم الحجاب، لذا نراهم يقيمون نواباً عنهم للإمامة في الصلاة، إلا أنهم تحملوا مهام الإمامة في بعض الأحيان، مثل صلاة العيدين والجمعة للإشادة بهم والتنويه بذكرهم3. وامتداداً لاهتمام الخلفاء الأمويين في الشام بالإمامة في الصلاة، نجد أن حفيدهم الأمير عبد الرحمن الداخل كان واعياً لمعنى الإمامة في الصلاة، ولذا نراه منذ بداية الأمر يؤكد على أحقيته في هذا الجانب، فقبل أن يعبر   1- مقدمة ابن خلدون، ص 625. 2- المصدر السابق، ص 625. 3- نفسه، ص 626. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 مع وفد الموالي الأندلسيين الذي أتى لاصطحابه من الشاطئ المغربي إلى الشاطئ الأندلسي، نجده عندما حان وقت صلاة العصر، يتقدم ويصلي بهم1. ثم إن الأمير عبد الرحمن الداخل ما أن استولى على قرطبة في يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة سنة 138هـ (16 مايو 756م) حتى خرج إلى الجامع وصلى بالناس صلاة الجمعة2. ولكن نظراً لاشتغاله بتثبيت قواعد ملك أسرته، فقد كان كثير الغياب عن قرطبة، ولذا فقد كان لزاماً عليه إقامة إمام يتولى الصلاة بالناس في المسجد الجامع بقرطبة، وممن كان يتولى هذه المهمة صعصعة بن سلام، المتوفى سنة 192هـ (808م) وذلك معظم أيام الأمير عبد الرحمن الداخل وصدراً من أيام ابنه الأمير هشام الرضا3. ولقد كان الأمير هشام الرضا بن عبد الرحمن الداخل يتولى مسئولية إمامة الناس بالصلاة والخطبة بهم أثناء مقامه بقرطبة، فإذا غاب عن عاصمته، تولى المهمة نيابة عنه قاضي الجماعة المصعب بن عمران الهمداني4.   1- ذكر بلاد الأندلس، 1/112. 2- ابن القوطية، 28-29. أخبار مجموعة، ص 90. البيان المغرب، 2/47. 3- ابن الفرضي، ترجمة رقم 610. 4- قضاة قرطبة، ص25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 ويبدو أن من أتى بعد الأمير هشام الرضا من الأمراء والخلفاء قد تنازلوا عن الإمامة في الصلاة فضلاً عن الخطبة إذ لا نسمع لهم ذكراً في المصادر فيما يتعلق بهذه المسألة. والمساجد تأتي على صنفين، فالمساجد الكبيرة المعدة للصلوات العامة، والتي يغشاها خلق كثير، يكون أمرها راجع إلى الأمير أو الخليفة، أو من يفوض إليه الأمر من سلطان أو زير أو قاضٍ، فعن طريق أحد هؤلاء يتم تعيين إمام لها لأداء الصلوات الخمس والجمعة والعيدين والخسوفين والاستقساء، وأما المساجد المختصة بقوم أو محلة فأمرها راجع إلى الجيران يقدمون من يتفقون عليه، دونما حاجة من نظر أمير أو خليفة أو من يفوضه1. هذا، وقد جُعل أمر الصلاة في المسجد الجامع بقرطبة أو الزهراء لقاضي الجماعة، فقد كان معاوية بن صالح يلي القضاء والصلاة في عهد الأمير عبد الرحمن الداخل، وكذلك كان المصعب بن عمران يلي القضاء والصلاة في عهد الأمير هشام الرضا وبعد أن تولى الإمارة ابنه الحكم الربضي أقره عليها2، وبعد وفاته تولاهما محمد بن بشير المعافري3.   1- مقدمة ابن خلدون، ص 626. 2- قضاة قرطبة، ص25. 3- المصدر السابق، ص 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 وعندما نستعرض تراجم قضاة الجماعة نجد أن معظمهم قد تولى بالإضافة إلى القضاء مهام الصلاة والخطبة1. ويحدث في بعض الأحيان أن تسند مهمة القيام بشئون الصلاة والخطبة لأحد الفقهاء، دون أن يكون للقاضي علاقة بالأمر، فقد كان أحمد بن بقي بن مخلد يتولى الصلاة، ثم ولاه الأمير عبد الرحمن بن محمد قضاء الجماعة سنة 314هـ (926) 2 وفي الوقت الذي كان فيه محمد بن عبد الله بن أبي عيسى يتولى قضاء الجماعة سنة 326هـ (938) كان الفقيه محمد بن أيمن هو صاحب الصلاة، فلما ضعف ابن أيمن استعفى، فأعفاه الخليفة عبد الرحمن الناصر وأسند الخطبة والصلاة لابن أبي عيسى3. ورسوم الدولة الأموية في الأندلس، كانت تقتضي ألا يقدم للإمامة في الصلاة إلا العرب4 ونظراً لتأصل العصبية في المجتمع الأندلسي، فقد كان السبب في اندلاع الفتنة بين المولدين والعرب في استجه زمن الأمير عبد الرحمن الأوسط يعود إلى رفض المولدين الصلاة خلف إمام عربي،   1- النباهي، ص 54، 60،64،86،87، 88. 2- قضاة قرطبة، ص111-116. النباهي، ص64. 3- قضاة قرطبة، ص118-120. النباهي، ص60. 4- أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي، طبقات النحويين واللغويين، (تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، دار المعارف المصرية، ط الثانية 1984م) ص254. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 ولقد أطفئت تلك الفتنة بعد أن تراضى الطرفان على أن يتولى الفقيه عبد الرحمن بن موسى الهواري إمامة الصلاة1. وعندما أسند الأمير محمد بن عبد الرحمن القضاء والصلاة لعمرو بن عبد الله بن ليث القبعة، عارض العرب توليه الصلاة لأنه من الموالي، وقالوا: "أما القضاء فإنا لا نعترض عليه لأنه من سلطانه -أي من سلطان الأمير- وأما الصلاة فإنا لا نصلي وراءه، فولى الأمير - رحمة الله عليه - الصلاة النميري عبد الله بن الفرج2". والملاحظ على هاتين الحادثتين، أنهما بقدر ما تدلان على تغلغل العصبية في الوسط الأندلسي، بقدر ما تؤكدان على أن الإمامة في الصلاة هي زعامة ذات مستوى غير عادي، فهي تعبير حقيقي عن القيادة في أسمى الأعمال والأماكن. وهناك قصة تكفي للدلالة على إحساس أفراد المجتمع الأندلسي عامة والفقهاء بصفة خاصة، بما للإمامة في الصلاة من مكانة يشعر متوليها بالسؤدد والرفعة، ولذا ترى الحرص من بعض الفقهاء على توليها بأية وسيلة. والقصة التي نحن بصددها رواها محمد بن أيمن، فقد ذكر أن قاضي الجماعة وصاحب الصلاة سليمان بن أسود كان يدرك مدى حرص   1- المصدر السابق، ص 254. 2- قضاة قرطبة، ص 67. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 الفقيه إبراهيم بن قلزم على تولي الصلاة، فأراد أن يتلاعب به، ويكشف ما في نفسه للآخرين، وقد حانت الفرصة للقاضي لتنفيذ مراده عندما أراد الحضور إلى بيته إبراهيم بن قلزم وذلك في أحد أيام الجمعة وقت الضحى، فلما علم القاضي بمقدمه أمر غلامه أن يخرج إلى ابن قلزم وهو يبكي ويخبره أن القاضي يحتضر، واضطجع القاضي وسجى على نفسه، وأخذ يتنفس بطريقة توحي لمن عنده بأنه في سياق الموت، فدخل عليه ابن قلزم، فلما رآه استرجع واستعبر، ثم خرج مسرعاً إلى الوزير هاشم بن عبد العزيز لأنه تربطه به علاقة خاصة، فذكر له أن القاضي يحشرج، وأنه لا يحين وقت صلاة الجمعة إلا وقد مات، ونظراً لكون ابن قلزم مترشحاً للصلاة، فقد طلب من الوزير أن يرسل كتاباً بسرعة للأمير محمد بن عبد الرحمن يخبره فيها عن حالة القاضي، فلما وصل كتاب الوزير للأمير لم يستعجل في إصدار أوامره، بل إنه فكر في الأمر فعلم أن ابن قلزم شديد التطلع للإمامة بالإضافة إلى أن عيون الأمير لم تأتيه بأخبار مرض قاضيه، ولذا فقد أدرك أن في الأمر سراً، فأرسل أحد فتيانه، لينظر حالة القاضي، ويأتيه بالخبر اليقين فلما وصل الفتى إلى القاضي وجده جالساً جلوساً صحيحاً، وبعد أن ذكر له الفتى الغرض من مجيئه إليه، قام القاضي وتوضأ ولبس ثيابه وخرج مع الفتى راجلاً إلى الجامع، فلما رجع الفتى إلى الأمير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 أخبره بما جرى، فتعجب الأمير من فعل القاضي وضحك على ذلك ضحكاً عظيماً1. ولقد كان قاضي الجماعة وصاحب الصلاة سليمان بن أسود شديد الحرص على أن تقام الصلاة في وقتها، ولذا فقد كان يقول لمؤذني جامع قرطبة "إذا حضر وقت الصلاة فلا تؤخروها عن وقتها وإن أحسستم أني نزلت عند باب الصومعة فلا تنتظروني وأقيموا الصلاة وصلوا2". وخطبة الجمعة التي يلقيها صاحب الصلاة هي فرصة للتحدث عن بعض الأمور الهامة وذلك بصورة لا لبس فيها ولا غموض حتى وإن كان في الأمر تقريع للأمير أو الخليفة، من ذلك، أن الخليفة عبد الرحمن الناصر اشتغل ببناء مدينة الزهراء، فأخذت جل وقته، حتى أنه لم يشهد الصلاة ثلاث جمع متتالية، وعندما حضر الجمعة الرابعة أراد قاضي الجماعة وصاحب الصلاة منذر بن سعيد البلوطي تذكير الخليفة وموعظته، فاختار كلمات مناسبة لهذا الموقف وأجاد في الموعظة، فرقت قلوب الحاضرين وضجوا بالبكاء، ورغم أن الخليفة كان على علم تام بأنه هو المقصود، فقد كان أكثرهم بكاءً وتأثراً، لكنه حمل في نفسه على القاضي وأقسم ألا يصلي خلفه، فكان يذهب ويصلي في جامع قرطبة خلف صاحب الصلاة فيها أحمد بن مطرف، وعندما زيَّن له ابنه وولي عهده الحكم المستنصر   1- قضاة قرطبة، ص 87-88. النباهي، ص 58-59. 2- قضاة قرطبة، ص 81. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 عزل منذر بن سعيد عن الصلاة في الزهراء زجره وانتهره وقال له "أمثل منذر بن سعيد في فضله وعلمه وخيره؟ لا أم لك! يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الحق! هذا مما لا يكون، وإني لأستحي من الله أن لا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه، ولكنه أحرجني فأقسمت، ولوددت أني أجد سبيلاً إلى كفارة يميني، بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله1". ولم يقتصر الأمر بالنسبة للخليفة عبد الرحمن الناصر أن يُقَرَّع فقط من قبل قاضي الجماعة منذر ابن سعيد، بل لقد كان على موعد لموقف آخر مع صاحب الصلاة بجامع قرطبة الفقيه أحمد بن مطرف الأزدي الشهير بابن المشاط، المتوفى سنة 352هـ (963م) فقد عُرف هذا الفقيه بأنه كان يطيل خطبة الجمعة نوعاً ما، وهذا ما كان على خلاف رغبة الخليفة عبد الرحمن الناصر، ولذا فقد أرسل في أحد أيام الجمعة وزيره عثمان بن إدريس إلى ابن المشاط لإقناعه بضرورة قصر الخطبة، فوعد الفقيه الوزير أنه سيفعل إن تمكن، لكن الذي حصل خلاف ذلك، إذ أن ابن المشاط ألقى خطبة تعمد فيها الإطالة، وركز فيها على الوعظ حتى بكى وأبكى الناس وتحول المسجد إلى شبه مأتم، فما كان من الخليفة بعد   1- النباهي، ص 70. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 الصلاة إلا أن دعا ابن المشاط وأثنى عليه وجزاه خيراً، وأعطاه ألف دينار يتصدق بها عنه1. هذه القصص ومثيلاتها هي صورة رائعة عن حاكم مسلم، لا يحتاج إلا إلى التذكير بالحسنى بكلام منتقى لا يراد به إلا وجه الله تعالى فالخليفة رغم سلطانه وقدرته إلا أنه لم يمس أحداً من أولئك الفقهاء بسوء، بل الملاحظ أنهم كلما قسوا عليه بالموعظة ازداد لهم إكراماً. وبالمقابل فإن ذلك العصر ضم نخبة من الفقهاء هم زينة الحياة لما يتوسم فيهم من الصلاح والتقى ولعدم خشيتهم في الله لائم، لا يريدون من نصائحهم للخليفة إلا وجه الله تعالى وابتغاء رضوانه، ولذا كان التأييد لهم من الله تعالى مضموناً. والمرء أمام هذه الشخصيات سواء الخليفة أو الفقهاء لا يملك إلا أن ينظر إليها بعين الإكبار والتقدير، وباختصار فهي جديرة بالقيادة مؤهلة للنجاح في كل معترك، ومثلها من يبني وينهض بالأمة. ويحدث أن يستمع الأمير لخطبة فيستحسنها، فيأمر صاحب الصلاة بالتزامها وعدم استبدالها، فالأمير عبد الله بن محمد استمع في بداية دولته لخطبة ألقاها قاضي الجماعة وصاحب الصلاة النضر بن سلمة فأعجب بها، فأمره بتكرارها في كل جمعة، فالتزم بها طيلة ولايته الأولى البالغة نحواً   1- ترتيب المدارك، 6/137-138. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 من عشر سنوات حتى حفظت عنه، بل إن كل قاضٍ أتى بعده كان يعيد نفس الخطبة في مبتدأ ولايته1. وفي أوائل القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) حدث ما يمكن أن نطلق عليه رسم جديد في الخطبة، وذلك تمشياً على طريقة قاضي الجماعة وصاحب الصلاة أحمد بن بقي بن مخلد في خطبة الجمعة، فقد استبحر في الدعاء في إحدى خطبة، فلما وصل إلى قوله "واخلصوا لله دعائكم" سكت ملياً إلى أن قدَّر أن الناس دعوا بدعائه، ثم وصل خطبته ودعاءه لهم، وأصبحت هذه الطريقة سنة لمن جاء بعده من الخطباء، وعُمل بها إلى منتصف القرن السادس الهجري وفي هذا يقول القاضي عياض: "وامتثل كثير من الخطباء طريقته في هذه السكتة في آخر الخطبة الثانية أثناء الدعاء إلى يومنا هذا في بلاد الأندلس2". وبمناسبة الحديث عن خطبة الجمعة تجدر الإشارة إلى أنها كانت موضع اختبار من الفقهاء لصاحب الخطبة والصلاة، وبالذات صلاة العيد، من ذلك أن قاضي الجماعة يحيى بن معمر الألهاني في ولايته الأولى 209-210هـ (824-825م) عندما جاء إلى مصلى العيد فوجئ بأن كبار الفقهاء وكبار رجالات الدولة قد جلسوا بالقرب من سترة الإمام، ففطن أن السبب في تجمعهم هو حرصهم على اختبار خطبته، فبادر القاضي ابن   1- قضاة قرطبة، ص 92. 2- ترتيب المدراك، 5/209. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 معمر فأمر قوام المصلى بأن يقدموا السترة محتجاً بازدحام الناس، فلما قدمت السترة تثاقل الفقهاء ورجال الدولة عن القيام من أماكنهم في حين سارع سواد الناس فابتدروها وصار من كان بالأول متقدماً قد تأخر1. والصلاة على الجنائز من اختصاصات صاحب الصلاة، فعليه تقع مهمة القيام بها، وهو في الوقت نفسه لا يأذن لأحد بالتقدم عليه في هذا المجال، بل إن الأمر يصل إلى حد تأديب من يتجاهل أحقيته بها، وهذا ما فعله قاضي الجماعة وصاحب الصلاة ابن السليم، فقد حضر مرة جنازة رجل، فلما وضع النعش تقدم ابن الميت فصلى عن غير إذن، وبعد أن انتهت مراسم الدفن وتفرق الناس، أمر ابن السليم بحمل ابن الميت إلى الحبس، فلما سأله عن ذنبه، أجابه "جهلك إذ تقدمت بمحضري ولم تستأذني، ولا رعيت حق الخليفة، إذ الصلاة له وأنا خليفته، فليس لأحد أن يتقدم إلا بإذننا، فلم تفعل فلابد من تأديبك لأشرد بك مثلك من خلفك2" إلا أن ابن الميت لم يمكث في الحبس إلا الوقت الذي استغرقه القاضي في الوصول إلى داره، فقد أمر بإطلاق سراح الرجل واعتبر ذلك كافياً لتأديبه3. وإذا انحبس المطر وعم الجدب، خرجت الكتب من الأمير أو الخليفة إلى جميع العمال بالكور بالأمر بالاستسقاء، والكتب تكون على نسخة   1- قضاة قرطبة، ص 48. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص55. 2- ترتيب المدارك، 6/283-284. 3- المصدر السابق، 6/284. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 واحدة، وقد حفظ لنا ابن حيان نصاً احتوى على نسخة من كتاب الخليفة عبد الرحمن الناصر الذي بعثه إلى جميع عماله للاستسقاء وذلك في أواخر سنة 317هـ (930م) ذكَّرهم فيه بأن الله تعالى بيده مقاليد الأمور، وأنه يحتبس ما شاء عن عباده ليسألوه ويتضرعوا إليه، ويلحوا في المسألة ويصدقوا في التوبة، ثم ذكر الخليفة أن على صاحب الصلاة في كل جامع الدعاء بنزول الغيث في خطبة الجمعة والجمعة التي تليها إن لم ينزل المطر، ثم يخرج بجماعة المسلمين إلى مصلاهم لأداء صلاة الاستسقاء وذلك يوم الاثنين، وشدد على كل عامل من عماله أن يؤكد على الخطيب قبله بتنفيذ هذه الأوامر1. والأمير أو الخليفة إذا لم يخرج للمصلى مع الناس لأداء صلاة الاستسقاء، فإنه يصعد إلى مكان مرتفع في قصره، ويجلس فيه منفرداً بنفسه، لابساً أخشن ثيابه مفترشاً التراب، يبكي ويعترف بذنوبه، مناجياً ربه تعالى ألا يعذب الرعية بسببه2، وإن خرج معهم فإن لباسه يكون البياض3، وعلى رأسه أقرف وشيٍ أغبر، والخشوع ظاهر عليه، ودموعه تسيل على لحيته، فإذا وصل إلى جانب المحراب جلس عن يمين الإمام على   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 251-252. 2- مطمح الأنفس، ص251. 3- عرفنا من قبل أن البياض هو لباس الحزن عند الأندلسيين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 غير فراش، فإذا قضيت الصلاة أمر بتفريق الأموال والصدقات على الفقراء والمساكين تقرباً إلى الله تعالى1. وقد حفظت لنا المصادر هيئة قاضي الجماعة وصاحب الصلاة منذر بن سعيد البلوطي عند خروجه لأداء صلاة الاستسقاء، فقد ذكرت أنه عندما أجدبت الأرض من جراء احتباس المطر وذلك في أواخر عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، تأهب القاضي للخروج لأداء صلاة الاستسقاء بناء على أوامر الخليفة، فصام قبل اليوم المحدد ثلاثة أيام تقرباً لله تعالى، وفي مصلى الربض برز الناس في جمع عظيم، فلما غصَّ المصلى بالناس، أقبل القاضي نحوهم ماشياً متضرعاً مخبتاً متخشعاً ثم خطبهم ووعظهم فرقت قلوبهم فبكى الناس وضجوا بالدعاء، فما انقضى النهار حتى أرسل الله تعالى برحمته المطر وأزال القحط2. وللعامة موقف من صاحب الصلاة إذا استسقى بهم ولم يمطروا، وهذا الموقف يأخذ طابع الشدة التدريجي بعد كل صلاة لا يسقوا عقبها، فهذا قاضي الجماعة وصاحب الصلاة ابن زرب صلى بالناس عشر مرات متتاليات صلاة الاستسقاء ولكن دون أن ينزل المطر، فسلّط العامة عليه ألسنتهم بالذم، وطعنوا بدينه، وعابوا عليه شدة التصاقه الحاجب المنصور بن أبي عامر وركونه إليه وقبوله لهداياه، ولما تكرر بروزه للاستسقاء ولم   1- النباهي، ص 79. 2- مطمح الأنفس، ص249-251. النباهي، ص70-71. أزهار الرياض، 2/279-280. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 ينزل المطر، هاجت العامة وثارت ضده، وخاطبوه بعد الصلاة بقولهم: "بئس الوسيلة أنت إلى الله تعالى والشفيع في إرسال الرحمة، إذ أصبحت إمام الدين، وقيم الشريعة، ثم لا تتورع عن قبول ما يُرسل إليك من الهدية التي لا تليق إلا بالجبابرة1" ثم هموا أن يبسطوا إليه أيديهم، لكنه هرب من أمامهم ولاذ بالتربة المنسوبة إلى السيدة مرجانة بمقبرة الربض2 فتحصن بها، واستغاث بصاحب المدينة، فسارع إلى نجدته بالفرسان ورجال الشرطة، فتم تفريق العوام عنه وأوصلوه إلى داره سالماً، وفي البروز الآخر أرسل معه المنصور بن أبي عامر خيلاً كثيراً أحاطت بالمصلى، فلم يجسر أحد من العوام والسفهاء التعرض له بشيء3. وأما عن مكان الاستسقاء فقد كان مداولة بين مصلى المصارة ومصلى الربض لكن في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط أصبحت الصلاة تؤدي في مصلى الربض بصورة أكثر، وذلك بتأثير نصر الفتى، كبير فتيان الأمير عبد الرحمن الأوسط ومدبر قصره والغالب على أمره، ذلك لأن مصلى الربض قريب من قصر نصر فلما هلك نصر وأمر الأمير عبد الرحمن الأوسط بأداء صلاة الاستسقاء وتم تحديد مصلى الربض لأدائها كما جرت العادة، اعترض الفقيه عبد الملك بن حبيب على أدائها في ذلك المكان، محتجاً بأن نصر الفتى هو الذي أعاق الناس عن مصلى المصارة،   1- النباهي، ص 79. 2- أي أنه اختبأ بالمقبرة المنسوبة لأم الخليفة الحكم المستنصر بالله. 3- النباهي، ص79. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 وذلك على الرغم من حوادث الغرق التي كانت تحصل لبعض الناس بسبب تزاحمهم في القنطرة القائمة على نهر قرطبة والمؤدية إلى مصلى الربض، فضلاً عن ارتكاب الأحداث لبعض الأفعال المشينة بوسط ذلك الازدحام، بينما مصلى المصارة أرفق بالناس وأقرب للبلد، بالإضافة إلى أن الفرصة متاحة لمن أراد أن يجدد طهارته لسهولة استخدام شط النهر وتناثر الأشجار الكثيفة من حوله لتستخدم سترة لصاحب الحاجة، فصوب الأمير رأي الفقيه وأمر بأداء الصلاة في مصلى المصارة1. ولكن يبدو أن أداء صلاة الاستسقاء لم يستمر بمصلى المصارة، إذ أن قرطبة اتسعت، وتم إنشاء مدينتي الزهراء والزاهرة، فأصبحت الصلاة تؤدي بمصلى الربض لقربه منهما. بقى أن نشير إلى أنه كان لقصر الإمارة بقرطبة أو الخلافة بالزهراء إمام خاص، فقد كان الأمير الحكم الربضي يستدعي أبا عمر حفص بن عبد السلام السلمي، من أهل سرقسطة، ليؤم به في الصلاة طيلة شهر رمضان من كل عام2 كما كان أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد الله الشهير بابن الحذَّاء يصلي بالأمير عبد الله بن محمد مدة أربعة عشر عاماً   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص46-47. هنا سؤال يطرح نفسه، لماذا لم يحتج الفقيه ابن حبيب على موقع المصلى إلا بعد وفاة نصر الفتى؟ لعل هذا عائد إلى عظم مكانة نصر= =لدى الأمير عبد الرحمن الأوسط وسيطرته عليه بحيث لا يسمع من غيره، وربما أيضاً خشية من سطوة نصر وانتقامه. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 365. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 وذلك من سنة 286-300هـ (899-913) ثم صلى بالأمير عبد الرحمن بن محمد من أول إمارته إلى أن توفي ابن الحذّاء يوم الاثنين لثلاث بقين من ذي الحجة سنة 305هـ (يونيو 918م1) ". وكان نمئ بن علي بن نمئ القاري، المتوفي سنة 322هـ (934م) يصلي بالخليفة عبد الرحمن الناصر2، ثم اتخذ من بعده محمد بن يوسف الجهني، المتوفى يوم السبت للنصف من شهر رمضان سنة 372هـ (مارس 982م) ليصلي به في قصره بالزهراء3 وكان أبو عثمان سعيد بن إدريس بن يحيى السلمي إماماً للخليفة هشام المؤيد بقصره في قرطبة، وظل على ذلك مدة طويلة فلما وقعت الفتنة سنة 399هـ (1009) خرج من قرطبة وتوجه إلى موطنه اشبيلية فسكنها إلى أن توفي بها سنة 429هـ (1038م) 4. وهناك من عُرض عليه منصب "صاحب الصلاة" فرفضه وطلب الاستعفاء، فقد ذكر ابن الفرضي أن أبا الحسن عبد الرحمن بن أحمد بن بقي بن مخلد، المتوفى في شهر ربيع الأول سنة 366هـ (نوفمبر 976م)   1- المصدر السابق، رقم 107. 2- نفسه، ترجمة رقم 1504. 3- نفسه، ترجمة رقم 1337. 4- الصلة، ترجمة رقم 499. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 أُريد على الصلاة عند علة محمد بن يحيى فاستعفى من ذلك، فجمعت الصلاة والقضاء لمحمد بن إسحاق بن السليم1. وصاحب الصلاة إن لم يكن حائزاً على رضى أقارب الأمير ورجالات الدولة فما أسهل أن يعملوا على طرده عن منصبه بأي وسيلة كانت حتى وإن دعت الضرورة إلى الكذب عليه والتلفيق ضده، وهذا ما جرى لأبي الجودي بن محمد بن سلمة، فقد كان أبوه يتولى القضاء والصلاة للأمير عبد الله بن محمد، فحدث أن اعتل ابن سلمة في بعض الجمع فصلى بالناس بدلاً منه ابنه أبو الجودي وذلك بأمر الأمير، إلا أن رجالات الدولة لم يرتضوه، لصلابة أبيه فحاولوا تشويه صورة أبي الجودي لدى الأمير وذلك من خلال بطائق رفعوها إليه تشير بكل قبيحة لأبي الجودي، وبما أن سياسة بني أمية تقوم على عدم الأخذ بالوشايات، لذا فقد فشلت تلك البطائق في تحقيق مراد خصوم أبي الجودي، لأجل هذا فقد لجأوا إلى حيلة أخرى، فقد أرسل الحاجب ابن حدير إلى الفقيه محمد بن وليد بن محمد بن عبد الله، المتوفى في النصف من ذي القعدة سنة 309هـ (18 مارس سنة 922م) فلما حضر عنده أخبره بمراده فاستعد الفقيه لتأدية ما طلب منه، وكان الفقيه طويل اللسان كثير الملق يضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم2، بالإضافة إلى أنه كان   1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 798. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1180. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 يكره القاضي ابن سلمة وولده أبا الجودي، وكان الأمير معجباً بهذا الفقيه لأنه كان يخدعه بإظهار الزهد1، ولذا عندما أعاد الحاجب ابن حدير الحديث مع الأمير حول أبي الجودي ووجد الأمير على رأيه السابق فيه وأنه لن يتغير عن موقفه إلا بدليل لا يقبل الشك، عندها أشار عليه الحاجب أن يستدعي الفقيه محمد بن وليد ويسأله عن رأيه بأبي الجودي، ففعل الأمير وسأل الفقيه عن مراده، فأجابه ذلك الفقيه بكل خبث، "إني - أكرم الله الأمير - ليست بيني وبين ولد القاضي خلطة، ولا أعرفه، غير أني رأيت الناس بعد صلاة الجمعة يعيدون الصلاة، فسألت عن ذلك، فقالوا: لما اعتل القاضي تقدم بالناس ابنه، فلم يرضوه فأعاد أكثر الناس الصلاة، فلما سمع الأمير هذا قال: لا يعيد الناس إلا من أمر عرفوه منه، لا يصلي بعد هذا"2.   1- عن الطريقة التي اتبعها الفقيه محمد بن وليد في خداع الأمير عبد الله بن محمد، انظر: المغرب في حلى المغرب، 1/154-155. 2- المصدر السابق: 1/155. إن كل من اشترك ضد أبي الجودي يمكن اعتبارهم أصحاب دنيا تهمهم مناصبهم، ولكن الفقيه محمد ابن وليد يمتاز عنهم بأنه ممن يخدع الدنيا بالدين والعياذ بالله، فالأمير عبد الله يرى من ذلك الفقيه ما يدل على نزاهته وصدقه وزهده ولذا فقد ارتضى مقولته، وصنف هذا الفقيه هو صنف هدام لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، وكيف نستغرب منه افتراؤه على أبي الجودي وهو قد تجرأ بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 هذا، وقد وجد في كور الأندلس وثغورها كما في قرطبة والزهراء صاحب الصلاة، ففي إلبيرة أحمد بن عبد الله الأنصاري، يلي الصلاة في أهلها طيلة السنوات الأخيرة من عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، وظل في منصبه حتى توفي في صدر أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن1. ومحمد بن أشعب بن قيس، من أهل رية، كان فاضلاً دينا، تولى الصلاة في بلده ريه حتى ضعف عنها، فعزله الأمير محمد بن عبد الرحمن2 وولى عوضاً عنه محمد بن عوف العكي الذي استمر في منصبه حتى وفاته3. وفي باجه كان صاحب الصلاة بها أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى بن أصبغ، المتوفى سنة 278هـ (882م) 4 وفي طليطلة كان حزم بن غالب الرعيني يلي القضاء والصلاة وذلك في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن5، ثم تولاهما عيسى بن محمد بن دينار بن واقد، وذلك في عهد الأمير عبد الله   1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 83. 2- المصدر السابق، ترجمة رقم 1112. 3- نفسه، ترجمة رقم1111،وقد ذكر الحميدي أنه توفي سنة320هـ. انظر: جذوة المقتبس، ترجمة رقم120. 4- ابن الفرضي، ترجمة رقم 5. 5- المصدر السابق، ترجمة رقم 361. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 بن محمد1، وأما في قبرة فكان زيد بن شريح هو صاحب الصلاة بها وذلك في عهد الأمير عبد الله بن محمد2. وفي لاردة كان عبد الملك بن نمير الفارسي، المتوفى قريباً من سنة 290هـ (902) يلي الصلاة بها3، بينما كان معاصره أبو زكريا يحيى بن قطام يتولى القضاء والصلاة معاً في بلده طليطلة، واستمر في منصبه حتى نقم عليه بعض ولاتها فقتله سنة 293هـ (906م) 4. وفي سرقسطة كان صاحب الصلاة بها خطاب بن إسماعيل الغافقي، المتوفى سنة 297هـ (910م) 5، وكان محمد بن يوسف يلي الصلاة في بلدة شذونة وذلك على عهد الأمير عبد الله بن محمد6. وفي القرن الرابع الهجري كان أبو هاشم خالد بن زكريا صاحب الصلاة ببلدة وادي آش7، وأما في بطليوس فكان صاحب الصلاة بها أبو الحكم منذر بن حزم بن سليمان، المتوفى سنة 306هـ (918م) 8 في   1- نفسه، ترجمة رقم 978. 2- نفسه، ترجمة رقم 462. 3- نفسه، ترجمة رقم 817. 4- نفسه، ترجمة رقم 1569. 5- نفسه، ترجمة رقم 403. 6- نفسه، ترجمة رقم 1154. 7- نفسه، ترجمة رقم 396. 8- نفسه، ترجمة رقم 1451. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 حين كان معاصره أبو عثمان عفان بن محمد، المتوفى سنة 307هـ (919م) يلي الصلاة في بلدة وشقة1. وفي إلبيرة كان صاحب الصلاة بها أبو جعفر أحمد بن عمرو بن منصور، المتوفى سنة 312هـ (924م) 2. وفي رية تولى الصلاة بها سعدان بن إبراهيم الشهير بابن الجرز سنة 316هـ (928م) 3. يعاصره في سرقسطة أبو عبد الحميد إسحاق بن عبد الرحمن، المتوفى قريباً من سنة 320هـ (932م) 4. وفي طرطوشة كان صاحب الصلاة بها أحمد بن سعيد بن ميسرة الغفاري، المتوفى سنة 322هـ (934م) 5. أما في الجزيرة فكان الفقيه يوسف بن خطار بن سليمان بن خالد هو صاحب الصلاة فيها، والملاحظ أنه استمر في منصبه أربعين سنة، فقد تولى الصلاة ببلده سنة 282هـ (895م) وذلك في عهد الأمير عبد الله بن محمد، وظل في منصبه إلى أن توفي سنة 322هـ (934م) في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر6.   1- نفسه، ترجمة رقم 913. 2- نفسه، ترجمة رقم 76. 3- نفسه، ترجمة رقم 543. 4- نفسه، ترجمة رقم 233. 5- نفسه، ترجمة رقم 93. 6- نفسه، ترجمة رقم 1626. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 وكان أبو الحسن علي بن عبد القادر بن أبي شيبة الكلاعي، المتوفى سنة 325هـ (937م) يلي الصلاة ببلدة اشبيلية وقد ذكر ابن الفرضي أن أبا الحسن الكلاعي قد كُتب على قبره أنه كان كذاباً1. وكان أبو عبد الله محمد بن حبيب بن كسرى اليحصبي قد تولى الصلاة ببلدة استجه إلى أن توفي ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر المحرم سنة 327هـ (نوفمبر 938م) 2. وفي رية كان إبراهيم بن سليمان بن أبي زكريا، يلي الصلاة بها إلى أن توفي سنة 326هـ (938م) 3، فتولاها من بعده الفقيه الزاهد أحمد بن عبد الله القيني4، وكان الفقيه أبو محمد بن قاسم بن نضير بن رقاص بن عيشون الشهير بأبي الفتح، من أهل شذونه، كان خطيب أهل قلسانه، وصاحب صلاتهم، إلى أن توفي في شهر ذي الحجة سنة 338هـ (950م) 5. وفي إلبيرة كان صاحب الصلاة بحاضرتها أبو سعيد عثمان بن سعيد بن كليب، المتوفى سنة 340هـ أو 341هـ (952م) 6.   1- نفسه، ترجمة رقم920. 2- نفسه، ترجمة رقم 1217. 3- نفسه، ترجمة رقم 29. 4- نفسه، ترجمة رقم 130. 5- نفسه، ترجمة رقم 1069. 6- نفسه، ترجمة رقم 900. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 وفي قلعة أيوب كان أبو عبد الله محمد بن نصر هو صاحب الصلاة بها إلى أن توفي سنة 345هـ (956م) 1. وكان أبو إسحاق إبراهيم الباجي، المتوفى في أوائل سنة 350هـ (961م) يلي الصلاة ببلده باجه2. أما في تطيله فكان أبو بكر محمد بن الشبل بن بكر القيسي، المتوفى سنة 353هـ (964م) يلي الصلاة بها3. وكان أحمد بن مطرف بن محمد بن خلف الأشعري، من أهل رية، تولى الصلاة بحاضرة بلده إلى أن توفي في أيام الخليفة الحكم المستنصر4. وأبو القاسم أصبغ بن قاسم بن أصبغ من أهل أستجه، تولى الصلاة والقضاء بإستجه إلى أن توفي سنة 363هـ (974م) وكان أهل موضعه لا يثنون عليه5. وأبو محمد عبد الله بن محمد إبراهيم بن إسحاق، المتوفى يوم الجمعة لسبع بقين من رجب سنة 369هـ (فبراير 970م) من أهل باجه تولي الصلاة ببلدة6.   1- نفسه، ترجمة رقم 1273. 2- نفسه، ترجمة رقم 33. 3- نفسه، ترجمة رقم 1281. 4- نفسه، ترجمة رقم 145. 5- نفسه، ترجمة رقم 255. 6- ابن الفرضي، ترجمة رقم 711. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 وفي بجانة كان صاحب الصلاة والخطبة بها أبو القاسم أحمد بن خالد بن يزيد الأسدي المعروف بابن أبي هاشم، توفي يوم الثلاثاء لست خلون من شوال سنة 368هـ (8 مايو 979م) 1. وأبو خالد يزيد بن أسباط المخزومي، المتوفى في أواسط القرن الرابع الهجري، من أهل شذونه، سكن شريش وكان صاحب الصلاة بها2. وهذا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، المتوفى ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال سنة 387هـ (أكتوبر 997م) تولى الصلاة ببلدة استجه3. وأبو عبد الله محمد بن سعيد بن سليمان بن أسود الغافقي، المتوفى سنة 389هـ (999م) من أهل فحص البلوط، تولى الصلاة بموضعه4. وأبو عبد الله محمد بن يزيد، من أهل بطليوس، كان رجلاً صالحاً فاضلاً، تولى الصلاة بموضعه نحو سنة ثم توفي في أواخر سنة 390هـ (1000م) 5.   1- نفسه، ترجمة رقم 153. 2- نفسه، ترجمة رقم1610. 3- نفسه، ترجمة رقم 1376. 4- نفسه، ترجمة رقم 1381. 5- نفسه، ترجمة رقم 1384. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 وأبو يزيد أسباط بن يزيد المخزومي، من أهل شذونة، سكن شريش وأصبح صاحب الصلاة بعد وفاة والده، ولم يزل عليها إلى أن توفي في أواخر سنة 392هـ (1002م) 1. وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد الأنصاري، من أهل رية، كان زاهداً تولى الصلاة بموضعه مدة طويلة إلى أن توفي ليلة الجمعة لثمان بقين من شعبان سنة 394هـ (يونيو 1003م) 2. وأبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن عباس بن عبد الله بن النعمان، من أهل شذونه كان صاحب الصلاة ببلده، توفي يوم الاثنين أول يوم من ربيع الأول سنة 413هـ (4 يونيو 1022م) 3. وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن عثمان الشهير بابن القشاوي، من أهل طليطلة كان ديناً ثقة ورعاً شاعراً، تولى الصلاة والخطبة بجامع طليطله، توفي ليلة السبت لليلتين خلتا من شهر شعبان سنة 417هـ (سبتمبر 1026م) 4. وأبو بكر محمد بن عبد الغني بن حبيب، صاحب الصلاة بأستجة، توفي سنة 424هـ (1033م) 5.   1- نفسه، ترجمة رقم 281. 2- نفسه، ترجمة رقم 1392. 3- نفسه، ترجمة رقم 199. 4- الصلة ترجمة رقم 582. 5- المصدر السابق، ترجمة رقم 1067. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 ومن خلال التراجم السابقة لمن كان يتولى الصلاة سواء في قرطبة أو غيرها من حواضر الأندلس، نجد أن كل واحد منهم قد تولى الصلاة ببلده، أو في بلد سبق وأن عاش بها فترة طويلة، كما أن الصفة العلمية المشتركة بينهم هي الفقه وإتقان اللغة العربية وآدابها، الأمر الذي يمكن كل منهم من أداء الخطابة بصورة جيدة. ويظهر لنا أن هذه الخطة متوارثة في بعض الأسر التي اشتهر رجالها بالفقه مع إتقان العربية، ونالت حظاً وافراً من التدين والخلق والسمعة العالية الرفيعة بين فئات المجتمع التي تتوارث الإمامة في الصلاة في هذه الأسر أمراً محبباً إلى نفوسهم، وقد تعرفنا فيما سبق على بعض تلك الأسر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 المبحث الثالث: خطة الرد هذه الخطة من الخطط التي انفرد بها المغرب والأندلس عن بقية بلاد العالم الإسلامي1، وكذلك انفرد القاضي ابن سهل بالتعريف بها دون كل من سبق وكتب عن القضاء، إذ أن المصادر لم تحفظ لنا إلا قوله عن هذه الخطة، فقد ذكر ابن سهل أن خطة الرد من بين الخطط الست التي كانت تجري على يد أصحابها الأحكام. وهي القضاء، الشرطة، المظالم، الرد، المدينة السوق2، ثم تحدث ابن سهل عن اختصاصات صاحب الرد. فقال: "وإنما كان يحكم صاحب الرد فيما استرابه الحكام وردوه عن أنفسهم3". ويمكن أن نفهم من كلام ابن سهل أنه كان للقاضي حرية الامتناع عن النظر في أي قضية لم تكن واضحة المعالم لديه، ولكي يتخلص منها يحيلها إلى صاحب الرد كي يبت فيها. وقد حفظت لنا كتب التراجم أسماء الذين تولوا هذه الخطة في عهد الدولة الأموية بالأندلس، منهم: الفقيه أبو عمر حارث بن أبي سعد المتوفى سنة 221هـ (836م) كان يتولى الشرطة الصغرى والرد في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط4".   1- تاريخ القضاء في الأندلس، ص519. 2- النباهي، ص5. 3- المصدر السابق، والصفحة. 4- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 87. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 كما كان موسى بن محمد الجذامي يتولى خطتي الشرطة والرد في عهد الأمير عبد الله بن محمد1. وفي مطلع القرن الرابع الهجري كان أبو الوليد محمد بن محمد بن أبي زيد، المتوفى يوم الخميس لعشر بقين من صفر سنة 333هـ (أكتوبر 944م) يتولى خطة الرد، رغم اتصافه بقلة العلم2، ثم عزل عن منصبه سنة 304هـ (916م) وعين بدلاً عنه يحيى بن إسحاق الطبيب مضافة إليه الشرطة الصغرى3. وكان الفقيه أبو عيسى يحيى بن عبد الله الليثي، المتوفى ليلة الثلاثاء لثمان خلت من رجب سنة 367هـ (20 فبراير سنة 978م) 4 يتولى خطة الرد. وكان أبو عبد الله محمد بن تمليخ التميمي المتوفى في شهر رمضان سنة 361هـ (يونيو 971م) يتولى خطتي الرد والشرطة في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، وأنه كان يتمتع بمنزلة رفيعة لديه5. ثم تولى خطة الرد بعد ابن تمليخ عبد الملك بن منذر بن سعيد البلوطي، واستمر في منصبه طيلة عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، وأقره   1- قضاة قرطبة، ص94. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1241. 3- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 134. 4- قضاة قرطبة، ص 118-120. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1597. 5- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1301. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 على منصبه ابنه الخليفة هشام المؤيد، ثم اتُهم عبد الملك بن منذر أنه يتآمر ضد الخليفة هشام وحاجبه المتسلط عليه المنصور بن أبى عامر، فألقي القبض عليه وصُلب على باب سدة السلطان وذلك يوم الخميس للنصف من جمادى الآخرة سنة 368هـ (19 يناير 979م) 1. ثم أُسندت خطة الرد لأبي بكر عبد الله بن هرثمة بن ذكوان، واستمر عليها إلى أن توفي بكركي في غزوة الصائفة وذلك في صدر شهر رمضان سنة 370هـ (مارس 981م) 2. ومن بعده تولاها ابنه أبو العباس أحمد بن عبد الله بن هرثمة بن ذكوان فلم يزل قائماً بخطة الرد مشاوراً في الأحكام إلى أن قلده المنصور بن أبي عامر قضاء الجماعة وذلك يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من شهر المحرم سنة 392هـ (ديسمبر 1001م) 3. وبعد أحمد بن ذكوان تولى خطة الرد الفقيه يونس بن عبد الله بن محمد، المعروف بابن الصفار المتوفى ليلة الجمعة لليلتين بقيتا لشهر رجب سنة 429هـ (مايو 1038م) . ويبدو أن ابن الصفار لم يستمر في منصبه طويلاً، إذ ولي خطة القضاء والصلاة والخطبة بجامع قرطبة مع الوزارة4 فتولى خطة الرد من   1- المصدر السابق، ترجمة رقم 823. 2- نفسه، ترجمة رقم 724. 3- الصلة، ترجمة رقم 65. 4- المصدر السابق، ترجمة رقم 1512. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 بعده أبو عبد الملك راشد بن عبد الله، لكنه لم يلبث فيها إلا أياماً من سنة 401هـ (1011م) وهي السنة التي تولى فيها خاله أبو بكر بن وافد قضاء القضاة بقرطبة مع الوزارة وعندما حلت المحنة بابن وافد من جراء دخول المستعين إلى قرطبة1 هرب أبو عبد الملك راشد بن إبراهيم عن قرطبة متوجها إلى الشمال، لكنه قبض عليه في الطريق فُذبح وذلك سنة 404هـ (1014م) 2. ويمكن اعتبار الفقيه عبد الله بن سعيد بن عبد الله الأموي، المعروف بابن الشقاق، آخر من تولى خطة الرد في عهد الدولة الأموية، وظل على مرتبته إلى أن توفي يوم الثلاثاء الثامن عشر من شهر رمضان سنة 426هـ (يوليو 1035م) 3. والملاحظ أن معظم الأسماء التي تولت خطة الرد كانت تلي أيضاً خطة الشرطة أي الجمع بين الخطتين، ولعل الهدف من هذا هو ضمان سرعة تنفيذ الأحكام4. ومعظم من تولى خطة الرد، قد وصل إلى منصب قضاء الجماعة مباشرة وهذا يعني أن من يلي خطة الرد لابد وأن يكون متصفاً بالصفات   1- النباهي، ص 88. 2- الصلة، ترجمة رقم 425. 3- ترتيب المدارك، 7/295-296. الصلة، ترجمة رقم 587. 4- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 520. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 المؤهلة لمنصب قاضي الجماعة، كما يعني أيضاً أن منصب قاضي الجماعة أعلى من منصب صاحب الرد كما أنها خطة قابلة للتوارث. ولصاحب الرد مهام غير ما ذُكر، فقد كانُ يكلَّف بمطالعة رعايا الكور والوقوف على أحوالهم، ففي جمادى الآخرة من عام 362هـ (مارس 973م) كلف الخليفة الحكم المستنصر بالله صاحب الرد عبد الملك بن منذر البلوطي بالخروج إلى الكور الغربية وهي شريش ولقنت واشبيلية ولبله وقرمونه ومورور واستجة وشذونة، وذلك لمطالعة رعاياها والتعرف على أحوالهم والكشف عن سير عمالهم فيهم1. وذكر ابن حيان أنه في شهر رجب من سنة 362هـ (إبريل 972) خرج صاحب الرد قاضي فحص البلوط2 عبد الملك بن منذر بن سعيد ومعه الخازن أحمد بن محمد الكلبي إلى مدينة الفرج أمينين ليتعرفا حقيقة ما رفعه أهلها على قائدها رشيق بن عبد الرحمن صاحب الركاب فينصفانهم منه3".   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 100. 2- فحص البلوط، El valle de los Pedroches هو سهل منبسط ممتد في شمال غربي قرطبة، ومجاور لأراضي أو ريط، وتتصل بأحواز فحص البلوط بأحوار فريش، ومن هذا الفحص يصدر الزئبق للآفاق، ونظراً لاشتهار المنطقة بشجر البلوط، لذا فقد نسبت إليه. انظر: وصف الأندلس للرازي، ص83. الروض المعطار، ص435-436. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 104-105. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 ونظراً لأن صاحب الرد يتمتع بأحقية ولاية النظر في الطعن في الأحكام فإنه يملك سلطة رد الحكم وتعديله وتصويبه إذا خالف الشرع، وبذلك فإن صاحب الرد يملك سلطة نقض الحكم ونظر دعوى المخاصمة1.   1- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 526. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 المبحث الرابع: خطة المظالم نظام المظالم هو لون من ألوان القضاء، امتزجت فيه سطوة السلطان بنصفة القضاء ولذا فقد عرفه الماوردي بقوله: "ونظر المظالم هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة1". والناظر في المظالم يختلف عن القاضي، فهو أوسع صلاحيات وأكثر سلطة. إذ يكفي في هذا المجال أن له النظر فيما تنظر إليه القضاة، وما لا تنظر فيه من الحكومات، وبالجملة فهو يمتاز عن القاضي بأشياء كثيرة منها أن له من الهيبة وقوة اليد ما ليس للقضاة، كما أن الناظر في المظالم أفسح مجالاً وأوسع مقالاً، وأن له من قوة الإرهاب ما ليس للقضاة، وله حرية التعامل مع الخصمين وفق مجريات القضية، وكذلك له الحق في استدعاء الشهود وأطراف الدعوى والعمل على اتخاذ كافة الإجراءات التي تزيل الشك عنده2 وعندما تناول الحديث عنها الكاتب الأعرج ذكر أن لصاحب المظالم" النظر قبل التظلم إليه في الجرائم والظلامات، وله إرهاب المتهوم بالظلم والجريمة قبل الثبوت بالإقرار أو البينة القوية، وله الحمل على الاعتراف بالحق، والحبس في المظالم، وله الضرب للاعتراف عند ظهور الإمارات في الجرائم وله تأديب المدعى عليه   1- الأحكام السلطانية، ص 64. 2- المصدر السابق، ص 70- 71. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 إذا ثبت الحق بالبينة بعد الإنكار، وله حمل المجرمين على التوبة بالإجبار1". ومجلس صاحب المظالم لابد وأن يضم خمسة أصناف من أهل الاختصاص هم: الحماة والأعوان، والقضاة والحكام، والفقهاء، والكتاب، والشهود2 فإذا انتظم المجلس بأعضائه، فلصاحب المظالم حينئذ النظر في عدة قضايا، وهذه القضايا عشرة أقسام هي: النظر في تعدي الولاة على الرعية، وجور العمال فيما يجبونه من الأموال، وكُتَّاب الدواوين لأنهم أمناء المسلمين على أموالهم، وتظلم المسترزقة من نقص أرزاقهم أو تأخرها عنهم، والنظر في الغصوب بنوعيها، السلطانية وماتغلب عليه ذوو الأيدي القوية، والنظر في مشارفة الأوقاف العامة والخاصة، وتنفيذ ما وقف القضاة من أحكام لضعفهم عن إنفاذها وعجزهم عن المحكوم عليه لتعزيره وقوة يده أو لعلو قدره وعظم خطره. كما أن له النظر فيما عجز عنه الناظرون في الحسبة من المصالح العامة، وله مراعاة العبادات الظاهرة كالجمع والأعياد والحج والجهاد من تقصير فيها وإخلال بشروطها، وكذلك له النظر بين المتشاجرين والحكم بين المتنازعين3. ومن أجل هذه المهام الجسيمة الملقاة على عاتق صاحب المظالم، فإنه لابد وأن يكون متصفاً بصفات تؤهله لتحمل تلك المهام، وعليه فلابد،   1- تحرير السلوك، ص38. 2- الأحكام السلطانية، ص67. تحرير السلوك، 39. 3- الأحكام السلطانية، ص67-70. تحرير السلوك، ص39-40. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 "أن يكون جليل القدر، نافد الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر الفقه، قليل الطمع كثير الورع، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا تُدنس دينه ولا عرضه الرشوة بالقائم، إذ يحتاج إلى سطوة الولاة وتثبت القضاة، فينبغي أن يكون جامعاً بين صفتي الفريقين، ويكون لجلالة قدره نافذ الأمر من الجهتين"1. وخطة المظالم في الأندلس هي إحدى الخطط الدينية الست التي ذكرها ابن سهل وجعل لأصحابها الحق في إصدار الأحكام2. والملاحظ أنه في بداية الدولة الأموية بالأندلس لم يكن يوجد صاحب مظالم، إذ أن هذه الخطة لم تنشأ هناك إلا متأخرة، ولكن هذا لا يعني عدم الاهتمام بها، إذ أن الأمير عبد الرحمن الداخل كان "يقعد للعامة، ويسمع منهم، وينظر بنفسه فيما بينهم ويتوصل إليه من أراده من الناس فيصل الضعيف منهم إلى رفع ظلامته إليه دون مشقة3". وذكر ابن حيان أن الأمير عبد الرحمن الداخل بلغ من شدة اهتمامه بالمظالم أنه كان يتصدى لها في أي مكان وزمان، وفي أثناء عودته من حضور جنازة في إحدى الأيام تصدى له أحد العوام وخاطبه بصوت عال طالباً منه أن ينصفه ممن ظلمه، فوقف الأمير ودعا بالقاضي المرافق له وأنصف الرجل4.   1- تحرير السلوك، ص38. 2- النباهي، ص5. 3- نفح الطيب، 1/332. 4- المصدر السابق، 3/37. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 كذلك نجد الأمير عبد الرحمن الداخل يعطي الشاعر أبا المخشي ألفي دينار ويضاعف له دية عينيه1، رغم أن الرجل لم يتظلم له من مصابه، ولكن شعور الأمير بأن الرجل قد ظلم دفعه لمواساته ومحاولة إنصافه. وأما الأمير هشام الرضا بن عبد الرحمن الداخل فإنه انتصف لأحد أعوانه المظلومين قبل أن يلي الإمارة2، وبعد أن تولاها كان أول شيء اهتم به هو تسريح السجون من غير أهل الحدود ورد المظالم3 كما أنه كان يبعث برجال عدول يذهبون إلى الكور يسألون الناس عن سير عمالهم فيهم، ثم ينصرفون إليه ويطلعونه على حقيقة الأوضاع فيصدر على ضوئها أوامره بما يحقق العدالة4. ومن شدة حرص الأمير هشام الرضا على العدل أن رجلاً اعترض طريقه وهو يستغيث من ظلم أحد العمال له، فحاول بعض مرافقي الأمير إرضاء ذلك الرجل خشية من سخط الأمير على ذلك العامل، إلا أن الأمير بعث إلى الشاكي وأحضره وقال له: "احلف على كل ما ظلمك فيه، فإن كان ضربك فاضربه، أو هتك لك ستراً فاهتك ستره، أو أخذ لك مالاً فخذ من ماله مثله، إلا أن يكون أصاب منك حداً من حدود   1- ابن القوطية، ص35. 2- انظر القصة في: أخبار مجموعة، ص121-124. ذكر بلاد الأندلس، 1/122-124. البيان المغرب، 2/67-68. 3- ذكر بلاد الأندلس، 1/119. 4- البيان المغرب، 2/66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 الله، فجعل الرجل لا يحلف على شيء إلا أقيد منه، فكان زجره هكذا لعماله أبلغ فيهم من النكال والأدب1". وقد وصُف الأمير هشام بأنه كان عادلاً فاضلاً جواداً كريماً ورعاً ... متشبهاً بورعه وزهده بعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى "يجري في أحكامه على القريب والبعيد وينصف الصغير من الكبير والفقير من الغني والضعيف من القوي وينصف من نفسه وقرابته2". وأما الأمير الحكم الربضي فرغم القسوة التي عرف بها، إلا أنه كان محباً للعدل، وقد حُفظت عنه كلمة كان يداوم على ترديدها تدل على حرصه على الإنصاف، فقد كان يقول: "ما تحلى الخلفاء بمثل العدل3" وعندما أفضت الإمارة إليه خصص يومين من كل أسبوع يقعد فيهما للعامة بنفسه وينظر في أمورهم4. وحدث في عهده أن عاملاً في جيان5 اغتصب جارية من صاحبها، فلما عزل العامل عن الولاية تقرَّب إلى الأمير الحكم بأن أهدى إليه   1- المصدر السابق، 2/66. 2- ذكر بلاد الأندلس، 1/120. 3- المصدر السابق، 1/126. البيان المغرب، 2/79. 4- ذكر بلاد الأندلس، 1/128. 5- جيان "Jaen" تقع إلى شرق قرطبة وتبعد مسافة مائة كيلو متر، وإلى شمال غرناطة وتبعد عنها بنفس المسافة، وتحدها التلال العالية من الجنوب الشرقي ومن الغرب، وقد كانت جيان من أعظم قواعد الأندلس الوسطى، وأشهرها حصانة ومنعة، وقد خرجت من أيدي المسلمين سنة 643هـ، وهي اليوم عاصمة إحدى المحافظات التي تتألف منها مقاطعة الأندلس "Andalucia" انظر: الرازي وصف الأندلس، ص68-69. الحميري، الروض المعطار، ص183-184. محمد عنان، الآثار الأندلسية الباقية، ص221-222. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 الجارية، فحضر صاحبها عند قاضي الجماعة المصعب بن عمران وشرح له القصة، وأقام البينة على ذلك، فدخل القاضي على الأمير وأنهى إليه خبر الجارية، وطلب منه إبرازها تمهيداً لإصدار الحكم، ورفض عرض الأمير بشراء الجارية بالسعر الذي يبتغيه سيدها فخضع الأمير لرأي القاضي وسُلِّمت الجارية لسيدها، وأمره القاضي ألا يبيعها إلا في بلدة جيان لينتشر ذكر العدل ويقوى من ظلم على رفع ظلامته1. وتكرر موقف القاضي المصعب بن عمران مع الأمير الحكم وذلك في مظلمة رفعها أيتام من جيان ضد العباس بن عبد الله القرشي، المتوفى سنة 219هـ (834م) الذي اغتصب ضيعة أبيهم، ورغم محاولات الأمير التدخل في القضية لصالح القرشي إلا أنه في النهاية خضع لحكم القاضي، وقال للقرشي "ما أشقاه من لطمه قلم القاضي2".   1- أخبار مجموعة، ص125-126. وقد ذكر ابن عذاري في البيان المغرب، 2/78 أن القاضي كان محمد بن بشير. 2- قضاة قرطبة، ص25-26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 وبالإضافة إلى ما سبق فقد جرت في عهده عدة قضايا خاصة بالمظالم كانت له فيها مواقف مشرفة.1 ورغم ما يمكن أن نلمسه في بعض مواقف الأمير الحكم مع قضاته بخصوص المظالم من أنه يحاول التحيز نوعاً لمن يعنى به، إلا أننا لا يمكن أن ننكر موقفه من مناصرة الحق في النهاية، وذلك من خلال خضوعه للحكم الذي يصدره القاضي وقد توَّج اهتمامه بالمظالم عندما أحدث خطة خاصة بها، فهو أول من أحدثها بالأندلس، وولى عليها مولاه مسرة الخصي2. وأما الأمير عبد الرحمن الأوسط فبعد أن استلم الإمارة كان أول شيء فعله أن سرَّح السجون -من غير أهل الحدود- ورد المظالم3. ومن المظالم التي ردها الأمير عبد الرحمن الأوسط مظلمة حسانة التميمية التي وفدت إليه من إلبيرة شاكية واليها جابر بن لبيد عندما لم يمتثل لكتاب معها سبق وأن كتبه لها الأمير الحكم الربضي بيده4. وقد تولى عيسى بن شهيد، المتوفى سنة 243هـ (857م) خطة المظالم في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط فقد "ولاه النظر في المظالم وتنفيذ الأحكام على طبقات أهل المملكة5".   1- انظر تاريخ القضاء في الأندلس، ص542 ومصادره. 2- ذكر بلاد الأندلس، 1/128. 3- المصدر السابق، 1/139. 4- نفسه، 1/142-143. 5- المقتبس، تحقيق: د. محمود علي مكي، ص26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 وبذلك أصبح من صلاحيات صاحب المظالم مساءلة ذوي المناصب الإدارية العليا في الدولة عن أي تجاوزات تحدث من قبلهم، وممن تعرض لمساءلة صاحب المظالم الشاعر السفير يحيى الغزال، المتوفى سنة 250 (864م) وقصة ذلك أن الغزال كان قد مدح الأمير عبد الرحمن الأوسط بقصيدة ولاه بسببها قبض الأعشار ببلاط مروان واختزانها في الأهراء1، وحدث أن عم القحط في ذلك العام، وقل الطعام وارتفعت الأسعار، فأخذ الغزال يبيع ما في مستودعات الدولة لديه حتى نفذ ما بها، وبعد أن نزل الغيث وتوفر الطعام، علم الأمير بما حدث، فغضب وأنكر تصرف الغزال، وأمر باستيفاء الثمن منه، ولكنه أبى فحمل إلى قرطبة مقيداً، حيث سجن هناك ثم أطلق سراحه2.   1- الأهراء: المستودعات الضخمة المعدة لخزن الأطعمة. 2- المطرب، ص128. والأستاذ الدكتور إحسان عباس يشك في أن هذه الحادثة وقعت زمن الأمير عبد الرحمن الأوسط، محتجاً بأن قحطاً لم يقع في حياته، ويرجح أنها حدثت زمن الأمير الحكم الربضي سنة 199هـ، انظر: د. إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي عصر سيادة قرطبة، ص159. لكن الواقع يشير إلى خلاف ذلك فقد ذكر ابن حيان أنه في سنة 207هـ، في صدر أيام الأمير عبد الرحمن الأوسط، نالت أهل الأندلس مجاعة شديدة بسبب انتشار الجراد. ولحسه الغلات وتردده في الجهات، وفي سنة 232هـ قلت الأمطار وعم القحط العام، أما القحط الخاص فقد أصيبت به عدة كور منها مثلاً في سنة 236هـ كورة تدمير، انظر: المقتبس، ابن حيان، تحقيق: د. محمود مكي، الصفحات: 93، 1،7 على التوالي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 وفي عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط تولى قضاة الجماعة بقرطبة وكذلك قضاة الكور رد المظالم إلى أهلها1. وأما الأمير محمد بن عبد الرحمن فقد وصف بأنه كان "مهتبلاً بأمور رعيته مراقباً لمصالحها2" كما أنه اهتم بالمظالم، وأشرف على الكثير منها، من ذلك قصة الثلث الذي أوصى ابن القصيبي بتفريقه3، وكذلك اغتصاب وزيره هاشم بن عبد العزيز لأرض بوثيقة مزورة، واللطيف في هذه القصة هي الطريقة التي تمت بها عرض المظلمة، فقد ذكر ابن حيان أن صاحب الأرض عندما فشل في إقناع الوزير بالعدول عن الأرض، تصدى للأمير محمد عند ركوبه إلى بعض منتزهاته، ونظراً لضخامة الموكب وصعوبة الاقتراب من الأمير، فقد ابتكر الرجل حيلة مناسبة، حيث صعد على حائط يمر الأمير بالقرب منه، وكتب مظلمته على منشور وربطها بعصا ورفعها فوق رأسه فلما حاذاه الأمير، أخذ الرجل يستغيث به ويشير بعصاه والكتاب فيها، فأمر الأمير بأخذ الكتاب فلما قرأه أحضر وزيره هاشم الذي حاول عبثاً تكذيب الرجل، لكن الأمير ضيق عليه حتى اعترف وأقر بظلمه له وتعديه عليه فأنصفه الأمير منه4.   1- تاريخ القضاء في الأندلس، ص543 ومصادره. 2- البيان المغرب، 2/109. 3- قضاة قرطبة، ص83-85. ابن القوطية، ص71-73. 4- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص148-152. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 وهناك عدة قضايا خاصة بالمظالم نظرها قضاة الجماعة في عهد الأمير محمد، منها: قصة إخفاء الأمير أبي إسحاق لرجل استحق الحكم عليه وكذلك اغتصاب أحد المرشحين لخطة المدينة منزلاً لأحد الناس، واغتصاب الفتى بدرون الصقلبي وصيف الأمير منزلاً لامرأة، وتظلم أحدهم من صاحب المدينة، بالإضافة إلى الدعوى التي رفعت ضد يوسف بن بسيل الذي كان عاملاً على شذونة1. وأما الأمير المنذر بن محمد فقد كانت مدة إمارته قصيرة لا تتجاوز السنتين 273-275هـ (886-888) كما أن تلك الفترة قضاها في حروب متصلة لإخضاع المتمردين، لأجل هذه فلا يوجد أثر للمظالم في عهده، ونكتفي في هذا المجال بالقول بأنه في اليوم الثاني لبيعته بالإمارة أمر بتفريق "العطاء في الجند، وتحبب إلى أهل قرطبة والرعايا بأن أسقط عنهم عشر العام وما يلزمهم من جميع المغرم2". وقد عُرف الأمير عبد الله بن محمد بشدة وطأته على أهل الظلم3، ومن أجل نصرة المظلوم كان يجلس في الساباط قبل صلاة الجمعة وبعدها، يرى الناس ويشرف على تصرفاتهم ويسمع قول المتظلم منهم4.   1- انظر تاريخ القضاء في الأندلس، ص544-545 ومصادره. 2- البيان المغرب، 2/114. 3- ذكر بلاد الأندلس، 1/153. 4- المقتبس، تحقيق: أنطوينه، ص34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 ثم ازداد اهتمام الأمير عبد الله بالمظالم، فأمر بفتح باب عند أحد أركان قصره أطلق عليه اسم باب العدل1، وجعل عليه باب حديد صنع مشرجباً ليلقي كل متظلم رقعته من خلاله2، وذلك في حال عدم تواجد الأمير في قرطبة، أما إذا كان في القصر فبإمكان أي متظلم مناداته من قبل ذلك الباب دون أن تكون لحاجب سلطة عليه، فتؤخذ الرقعة سريعاً أو يصل المتظلم للأمير فيخاطبه بظلامته ويعمل الأمير على إنصافه، فعظمت المنفعة بهذا الباب3، وأخذ أهل المكانات وذوو الأقدار يأخذون حذرهم من كل أمر يوجب الشكوى بهم، ويتحاشون ظلم من هم دونهم، مهابة للأمير وخشية من افتضاح أمرهم أمامه4. وفي أوائل عهد الأمير عبد الرحمن بن محمد رفع إليه عجم أهل أبطليش دعوى ضد أسماء بنت ابن حيون، فأمر الأمير قاضي الجماعة بالنظر فيها5. وقد كان الخليفة عبد الرحمن الناصر يترفع عن النظر في المظالم وبالذات ما كان منها يتعلق بمشاكل العوام، ومن ذلك، أنه كان يسير في موكب فاعترضه أحد العوام وهو يصيح بصوت منكر، فلما وقف   1- المصدر السابق، ص37. 2- البيان المغرب، 2/153. 3- المقتبس، تحقيق: انطونيه، ص37. 4- البيان المغرب، 2/153. 5- وثائق في أحكام قضاء أهل الذمة في الأندلس، ص58-59. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 واستفسر منه، وجد أن قضيته تدور حول حمار اشتراه وظهر فيه عيب، فغضب الخليفة وأنكر عليه تجاوزه للقاضي وأهل السوق ورفع هذا الأمر التافه له، ثم أمر به فُضرب ونودي عليه بذلك مجرَّساً ليكون عبرة لسواه1. والخليفة عبد الرحمن الناصر لم يترفع عن النظر في المظالم فحسب، بل إنه عدَّ الجلوس لها مضيعة للوقت وسببا في تدهور الدولة وعاب على جده الأمير عبد الله بن محمد جلوسه لها، وعدَّ اهتمامه بها سبباُ في الاضطراب الذي أصاب الدولة في عهده، فقد خاطب الخليفة عبد الرحمن الناصر وزراءه قائلاً: "أعلمتم أن الأمير عبد الله جدي بنزوله للعامة في الحكم للمرأة في غزلها والحمال في ثمن ما يحمله، والدلال في ثمن ما ينادي عليه، وإضاعة كبار الأمور ومهامتها، والنظر في حروبه، ومداراة المتوثبين عليه، حتى اضطرمت جزيرة الأندلس وكادت الدولة ألا يبقى لها رسم، أي مصلحة في نظر غزل امرأة ينظر فيه أمين سوق الغزل، وإضاعة النظر في قطع الطرق وسفك الدماء وتخريب العمران2" والذي يمكن قوله في هذا المقام، أن تصرف الخليفة عبد الرحمن الناصر مع صاحب الحمار فيه تأديب له لأمثاله، وفي الوقت نفسه تكريس لهيبة الدولة في نفوس الرعية والمناوئين لها، كما أن فيه تأكيد على التسلسل الوظيفي إذ لا يجوز لأحد   1-المغرب في حلى المغرب، 1/185. 2- المصدر السابق، 1/185. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 عرض قضية على ذي منصب كبير قبل أن تأخذ تدرجها الطبيعي ابتداء من أدنى السلم. وولي الأمر لابد وأن يهتم دائماً وأبداً بالصالح العام للرعية، وعليه أن يكرس جهده فيما يعود بالنفع عليها. ولاشك أن الاهتمام بقمع المناوئين وقطَّاع الطرق أعظم أهمية من صرف الانتباه لقضايا أقل ما يقال عنها أن بالإمكان حلها بأيسر السبل دون أن يكون لها أي ذكر في المجتمع. وملامة الخليفة لجده هي في الواقع أمر منطقي، إذ أن الدولة في عهده كانت معرضة للإنهيار، بل إن حكومة قرطبة في بعض الأحيان لم يعد لها سيطرة في الأندلس إلا على قرطبة والأماكن القريبة منها فقط، فأي مصلحة والوضع بهذه الصفة من الخطر في الاستماع لامرأة تدور قضيتها حول الغزل، وترك الفتن تستعر في أرجاء البلاد، الأمر الذي يترتب عليه انعدام الأمن وتدهور الحالة الاقتصادية إلى خلاف ذلك من أمور، المجتمع في غاية الغنى عن خوض تجربتها. ومن الطرائف التي جرت على يدي الخليفة عبد الرحمن الناصر أن تاجراً زعم أن صرة له قد ضاعت وهي تحوي مائة دينار، وجعل لمن وجدها مكافأة مقدارها عشرة دنانير، فجاء بها رجل عليه سمة أهل الخير، فلما قبضها التاجر ادعى أنه كان بها مائة وعشرة دنانير وأن الرجل أخذ عشرة دنانير وهي المكافأة، وأبى أن يدفع الشرط، فرفع الأمر للخليفة فوقع على الكتاب "صدق التاجر والرجل الذي وجد المال، ولولا صدق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 الرجل ما أتى بشيء مجهول، فاردد عليه المائة، وناد على مال التاجر فإنه مائة وعشرة1". ويبدو أن الخليفة عبد الرحمن الناصر أخذ يهتم بالمظالم أكثر من ذي قبل، فعزم على تنظيمها وإقامة جهاز إداري خاص بها، فقد ذكر ابن حيان أنه في شهر ربيع الأول من سنة 325هـ (يناير 937م) أصدر الخليفة أمره بنقل "محمد بن قاسم بن طملس من خطة العرض إلى خطة المظالم، أفرد بها، وأجرى عليه الرزق لها، فكان أول من ارتزق بهذه الخطة، وصيرها الناصر لدين الله من هذا الوقت خطة بذاتها، وقد كان نظر في المظالم قبله جماعة أضيفت إليهم، منهم الوزير أحمد بن حدير، والوزير عبد الله بن جهور، فأفردت من هذا التاريخ، وجل قدرها وعظمت المنفعة بها2". من ما مضى ندرك أن خطة المظالم لم تأخذ تنظيمها النهائي إلا في آخر الربع الأول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) ، فرغم أنها كانت موجودة في السابق إلا أنها لم تكن قائمة بذاتها بل كانت مضافة إلى غيرها من الخطط، ومنذ أن أفردت خطة المظالم لوحدها، لم تتم إضافتها إلى غيرها من الخطط طيلة تاريخ الدولة الأموية في الأندلس، باستثناء مرة واحدة وذلك عندما أضافها الخليفة عبد الرحمن الناصر لذي   1- نفسه، 1/185-186. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص416. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 الوزارتين أحمد بن عبد الملك بن شهيد مجموعة له مع الشرطة العليا بالإضافة إلى قيامه بأعباء الوزارة وذلك سنة 328هـ (940م) 1. والخليفة عبد الرحمن الناصر رجل إداري صاحب تجديدات وإضافات ملموسة ذات تأثير على الجهاز الإداري للدولة ككل. من ذلك أنه في سنة 344هـ (955م) قام بتوزيع المهام الإدارية بين وزرائه، منها انه كلف وزيره محمد بن حدير القيام بمهام النظر في مطالب الناس وحوائجهم وتنجيز التوقيعات لهم2. وعندما تولى الحكم المستنصر الخلافة، كانت أول أعماله الاهتمام بإصلاح شأن رعيته، فأحسن إليها وحط وظائفها، وأمر بإطلاق سراح من في السجن من غير أهل الحدود، وتصدق من ماله الخاصة بمائة ألف دينار، وفدى الأسرى، وأدى عن أهل الديون ديونهم، وعدل في الرعية3. وقد بلغ اهتمامه بالعدل أنه بعث في سنة 353هـ (964م) أمناءه إلى سائر الكور والثغور وذلك لتفقد أحوال الرعية ومتابعة سير عمالهم فيهم4، ورفع تقرير متكامل عن ذلك إليه لتتم محاسبة المسيء ومكافأة المنصف الحريص على تأدية الحق إلى مستحقه.   1- المصدر السابق، ص461-462. 2- البيان المغرب، 2/220. 3- ذكر بلاد الأندلس، 1/170. 4- المصدر السابق، 1/171. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 ووتكرر إرساله لأمنائه، ففي سنة 355هـ (966م) بعث عدة من ثقاته وذلك لتفقد أحوال الرعية في سائر بلاد الأندلس، وقبل أن يغادروا قرطبة متجهين حيث أرسلوا، خاطبهم الخليفة قائلاً "إن لم تنصحوا فأنا المباشر لها بنفسي، فإني أنا المسئول عنهم، فما العذر بين يدي السائل1". ويبدو أن الخليفة قد وقف على تجاوزات كبيرة لبعض العمال، ولذا ففي سنة 356هـ، (967م) أوقع الخليفة بأولئك المتجاوزين الظالمين للرعية ونكل بهم2، وكتب كتاباً بتعنيفهم قرئ على كافة منابر الأندلس، جاء فيه "أما بعد، فإن الله جل ثناؤه لا يظلم مثقال ذرة ولا يقوي الظالم، وهو الكفيل بنصرة المظلوم وقد أعد للظالمين عذاباً أليماً، وقد علمتم عنايتنا بالمسلمين وحفظهم حفيظتنا بالعباد، فأحفظتموها إلى العنف والاستبداد، وحماكم السخف المركب فيكم، ووصيتنا بالداني والقاصي والمطيع والعاصي ونبذتم بالعراء أمرنا، فلتراجع التوبة عما أنتم بسببه من الجور، وأثبتوا العدل {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (سورة الشعراء من الآية رقم 227) والسلام3.   1- نفسه، 1/172. 2- البيان المغرب، 2/239. وقد جاء في ذكر بلاد الأندلس، 1/172. أن الخليفة أوقع بأولئك العمال في سنة 355هـ. ولكن الأقرب للصواب هو ماذهب إليه ابن عذري، وذلك لأن الوفد الذي شكل لتفقد أحوال الرعية غادر قرطبة في الربع الأخير من تلك السنة تقريباً فكيف يتم انجاز كل تلك المهام في مدة أربعة أشهر تقريباً؟ 3- ذكر بلاد الأندلس، 1/172. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 وميزان العدالة لدى الخليفة الحكم المستنصر لا يعرف المحاباة لأحد دون أحد، حتى أقاربه لا يمكن استثناؤهم من الخضوع للحق، ولذا ففي يوم الاثنين صدر شهر شوال من سنة 362هـ (يوليو 973م) انتدب الخليفة الحكم الوزير صاحب المظالم عبد الرحمن بن موسى بن حدير للنظر في القضية المرفوعة من أهل اشبيلية ضد واليهم ابن الخال سعيد الذي يبدو أنه استغل منصبه فيما يعود عليه بالمنفعة المادية دون تجنب وقوع الحيف على أهل اشبيلية1. من ما مضى ندرك أن خطة المظالم أو بالأحرى صاحب المظالم جُعل لتنفيذ الحقوق ضد أولئك الأقوياء سواء كانوا أقارب للأمراء والخلفاء أو من يلوذ بهم، وإنصاف المستضعفين من طغيانهم. ويبدو أن قاضي الجماعة وبالذات في المدة الأخيرة من عهد الدولة الأموية لم يعد من القوة بحيث ينفذ الحق على من وقع عليه دونما اعتبار لمكانته، ولذا أصبح صاحب المظالم صاحب اليد الطولى في هذا المجال. فعندما عجز قاضي الجماعة عبد الرحمن بن فطيس عن إنفاذ الحق ضد وصيف مقرَّب من الحاجب المنصور بن أبي عامر، استغاث صاحب الحق بالمنصور ضد وصيفه، فما كان من المنصور إلا أن أمر صاحب   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص86. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 الشرطة بأخذ ذلك الوصيف وإيقافه مع خصمه عند صاحب المظالم لإنفاذ الحق في قضيتهما1. وكان للفتنة أثرها على خطة المظالم، فأصبح يتصدى لها من ليس أهلاً لها، ويدعي حمل مسئوليتها من لا يقوى عليها، وقد وصف ابن حيان رجلاً من أصحاب المظالم الذين تسلطوا على الناس في الفتنة يدعى فزارة، فقال: "من رجل معدن من معادن الجهل والأفن والغباوة وحجة من حجج الله تعالى في الرزق، واستظهر بما رأى الناس فيه من شدة وطأة المجاعة بما شاء من وفور الزاد وكثرة الطعام ونفاسة البر وسعة الثروة، فاغتذى على فرط الزلزلة في المجاعة بكثرة القوت والطعام أرسى من ثهلان وثبير، بما يفوت التقدير وولي المظالم صدر اكتهاله أيام التخليط الواقع بمنبعث الفتنة: ومن المظالم أن وليت على المظالم يا فزاره2". وممن تقلد المظالم زمن الفتنة المشاور أبو عبد الله الحسين بن حي بن عبد الملك التميمي، المتوفى يوم الخميس لثمان خلون من ذي العقدة سنة 401هـ (14 يونيو 1011م) وكان صدراً في المفتين بقرطبة وتولى خطة الوثائق في عهد الحاجب عبد الملك المظفر، كما تولى القضاء بعدة كور، ولكنه لم يلبث أن وقع في حب الدنيا، فاشترك في الفتنة، وكان أحد دعاة المهدي الذي ماأن تولى الخلافة حتى استوزره ثم ولاه المظالم3.   1- البيان المغرب، 2/289. 2- الذخيرة، ق1 م2، ص598-599. 3- ترتيب المدرك، 7/199-200. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 وعندما تولى الخلافة على بن حمود، أخذ الناس بالإرهاب والسطوة، وأخضع البرابر للحق، فبعد أن كانت مطالبتهم من الأمور العسيرة، إن لم تكن مستحيلة، صار أقل الرعية يرفع دعواه ضد أعتاهم وهو مطمئن لنيل حقوقه كاملة، واهتم علي بن حمود بالمظالم، فجلس لها بنفسه، وجعل بابه مفتوحاً للوارد والصادر والكبير والصغير. ويصف ابن حيان حال الناس بقرطبة في ظل اهتمام علي بن حمود بالمظالم، فبعد أن كان الناس منقبضين قد زهدوا الدنيا وزينتها من شدة وطأة الفتنة عليهم، "انتشروا في الأرض ذات الطول والعرض، وسلكت السبل، ورخا السعر، وأرقوا الأغذية وشاموا النساء، وطلبوا النسل، وكان أكثرهم يقول بالعزلة، واتخذوا الحلواء على طول عهد بها"1. وقد باشر علي بن حمود المظالم، فجلس لها وكان يقيم الحدود بنفسه على من وقع عليه الحق دون مراعاة لمكانته، فقد ذكر ابن حيان أنه قُدِّم لعلي بن حمود مجموعة من كبار البربر ارتكبوا من الجرائم ما تجاوز حد النكال، فأمر بضرب أعناقهم وعشائرهم تنظر إليهم لا يستطيع أحد أن يدلي بشفاعته2. كما أمر بقتل أحد البربر بسبب حمل عنب قال إنه أخذه كما يأخذ الناس، فضرب عنقه ورفع رأسه في الحمل وطيف به سائر البلد3.   1- الذخيرة، ق1 م1 ص97-98. 2- المصدر السابق، ص98. 3- نفسه، ص98. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 وأما الخليفة الأموي الأخير المعتد بالله، فقد كان أول شيء فعله بعد دخوله قرطبة هو جلوسه للمظالم بنفسه1، ونظراً للضعف الذي اتصف به هذا الخليفة فقد عُدَّ جلوسه للمظالم بنفسه نادرة من النوادر، إذ أنه عاجز عن ضبط أي أمر من أمور الدولة، فكيف يمكن أن ينفذ الأحكام على من توجه إليه الحق. هذا وقد حفظت لنا المصادر أسماء بعض من اشتغل بالمظالم، منهم: أبو محمد عبد الله بن أصبغ، المعروف بابن الصناع، كان يتصرف في رفع كتب المظالم إلى أن توفي في شهر رجب سنة 373هـ (ديسمبر 983م) 2. أبو محمد موسى بن أحمد بن سعيد اليحصبي، المعروف بالوتد، تصرف في رفع كتب المظالم وأصحاب الحوائج للمنصور بن أبي عامر، ظل كذلك إلى أن توفي ليلة الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة 377هـ (21 مايو 987م) 3. أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس المتوفى سنة 402هـ (1011م) من علماء قرطبة المعدودين، وأبرزهم في جمع   1- نفسه، ق3م1ص517. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 728. 3- المصدر السابق، ترجمة رقم 1466. ترتيب المدارك، 7/158. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 الحديث وتدوينه، اشتهر بالزهد والفقه والصلابة، فقلد المظالم والأحكام للمنصور بن أبي عامر ومن بعده، فقام بها أحسن قيام1. أبو حاتم محمد بن عبد الله بن ذكوان كان طلق اللسان، حسن الطبع، ولاه الحاجب عبد الملك المظفر خطة المظالم، فحُمدت سيرته فيها، توفي في منتصف شهر رمضان سنة 414هـ (نوفمبر 1023م) 2.   1- ترتيب المدارك، 7/181. 2- نفسه، 7/175-176. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 المبحث الخامس: خطة الشورى عندما تحدث ابن خلدون عن الخطط الدينية الشرعية، ذكر خطة الشورى تحت مسمى: الفتيا. فقال: "اعلم أن الخطط الدينية الشرعية من الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة1". وبما أن كلمة مفتي تعني كلمة مشاور، فلا حرج علينا هنا من استخدام أي اللفظين لأنهما يؤديان نفس المعنى. ومن تولى مهمة الإفتاء فقد تصدر لأمر جسيم، لأن المفتي يوضح ماغَمُض على العامة من أمور دينهم ويدلهم على المسلك القويم الذي في انتهاجه الفلاح والنجاح. ويكفي للدلالة على عظم منصب الإفتاء أن الباري جل وعلا قد تولاه بنفسه، فقد قال تعالى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} 2. كما أن متوليه نائب عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في رواية العلم الشرعي الذي تركه المصطفى عليه الصلاة والسلام فيبلغه للناس وينشره بينهم، فقد روى البخاري ومسلم بسنديهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بينا أنا نائم إذ أتيت بقدح لبن، فشربت منه حتى لأرى   1- مقدمة ابن خلدون، ص625. 2- سورة النساء، من الآية رقم 127. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلى عمر بن الخطاب"، فقالوا: فما أولتها يا رسول الله؟ قال: "العلم" 1. من هنا تتضح عظم منزلة المفتي فهو مخبر عن الله تعالى، ونائب عن النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الأحكام الشرعية، وعليه فإن علم الفتوى "علم تروى فيه الأحكام الصادرة عن الفقهاء في الوثائق الجزئية ليسهل الأمر على القاصرين من بعدهم2". وبما أن الأمر متعلق بالأحكام، إذاً ربما تساءل البعض عن الفرق بين المفتي والقاضي؟ وقد أجاب ابن فرحون عن هذا، فذكر أنه لا فرق بينهما سوى أن المفتي مخبر بحكم شرعي ولكنه لا يملك صفة الإلزام، بعكس القاضي الذي تكون أحكامه ملزمة3. والملاحظ أن كل مجتمع من المجتمعات، وفي أي عصر من العصور، يسير وفق أنظمة محددة دينية أو اقتصادية ونحوها. وفي كل مجتمع تبرز ظواهر ذات أثر ملموس على سلوك أفراد المجتمع وتوجيه طاقاتهم. والواجب على من اختص بتتبع الظواهر الاجتماعية محاولة توظيف الإيجابي منها لصالح المجتمع والعمل على الحد إن لم يمكن إزالة السلبي منها.   1- محمد حبيب الله بن سيدي عبد الله الجكني الشنقيطي، زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم، (القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1359هـ) 1/101. 2- مفتاح السعادة، 2/601. 3- تبصرة الحكام، 1/74. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 وبما أن المجال الذي نتحدث فيه هو عن الفتوى أو الإفتاء، فإن من الظواهر الملموسة جهل الكثير من أبناء الأمة الإسلامية بالكثير من أمور دينهم، وهنا يأتي دور المفتي في الإجابة على أسئلة الذين يعانون من نقص في معلوماتهم الشرعية. والمستفتي يسير في معالجة هذا النقص وفق الإرشاد الذي يقدمه له المفتي، من هنا تتضح عظم المهمة الملقاة على عاتق المفتي تجاه أمته، ولذا فإن من عُرف بالتساهل والتسرع لا يجوز أن يستفتى، لأنه في هذه الحالة عرضة لأن يَضل أو يُضل، بل إن المفتي الذي يتعمد إفتاء العامة بالتشديد والخاص من ولاة الأمور بالتخفيف وذلك في المسائل التي فيها أكثر من قول، هو رجل قد فرغ قلبه من تعظيم الله تعالى، وانصرف بكليته إلى الدنيا وحب الرئاسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق1. وما أشبه هذا بالمفتي الماجن "الذي لا يبالي أن يُحرم حلالاً أو بالعكس"2 وبمقابل هذا فإن الفتيا لا تجوز إلا بما يرويه العدل عن المجتهد الذي يقلده المفتي3. ثقافة المفتي: اهتم الأندلسيون بشدة في المفتي أو المشاور، حتى أن بني أمية كانوا لا يقدمون لهذا المنصب إلا من كان عالماً، ولا يكتفى بذلك، بل لابد من   1- المصدر السابق، 1/74. 2- كشاف اصطلاحات الفنون، 3/1156-1157. 3- تبصرة الحكام، 1/77. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 اختباره بواسطة مجالس مذاكرة متعددة تعقد لذلك1، وعلى هذا فلابد أن يكون المتقدم لهذا المنصب صاحب ثقافة دينية قوية، تمكنه من اجتياز تلك المجالس، والحد الأدنى من هذه المعرفة الفقهية هي أن يكون قد نظر في المدونة والموطأ والمختصر، أو بقول لابن القاسم أو لأحد من نظرائه أو لسحنون أو لابن المواز أو لأصبغ أو لابن عبد وس أو أمثالهم2. وإلى جانب هذه الكتب والأقوال؛ هناك مصادر أخرى على من أراد أن يكون راسخ القدم في الإفتاء إتقان تلك المصادر، من ذلك ما ذكره ابن بشكوال عند ترجمته لأبي القاسم خلف مولى يوسف بن بهلول الشهير بالبربلي، المتوفى سنة 443هـ (1051م) أن أبا الوليد هشام بن أحمد كان يقول: "من أراد أن يكون فقيهاً من ليلته فعليه بكتاب البربلي3". ومن أضاف كتاب الأحكام الكبرى للقاضي ابن سهل ومنتخب ابن أبي زمنين وغيرهما من كتب الأحكام إلى الكتب التي سبق ذكرها بالإضافة إلى المداومة على دراسة الأصول، فإنه على حد قول ابن سهل، يحرز علم الأحكام على وجهه، ويدرك معرفة الأقضية على حقائقها، ويتعرف على المسلك الذي سار عليه شيوخ الفتيا في هذا المجال4.   1- نفح الطيب، 3/214. 2- تبصرة الحكام، 1/75. 3- الصلة، ترجمة رقم 383. 4- تاريخ القضاء في الأندلس، ص232. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 796 ولكن مهما بلغت ثقافة المفتي الدينية، وتبحره في المسائل، فإنه لا يستغني أبداً عن الدربة التي تمكنه من فهم ما يلقى إليه من أسئلة، وقد اعترف كبار أهل الفتيا بالأندلس أنهم في مجالسهم الأولى عانوا بشدة من قلة الدربة، وفي هذا يقول ابن سهل: "وكثيرا ما سمعت شيخنا أبا عبد الله بن عتاب رضي الله عنه يقول: "الفتيا صنعة"، وقد قاله قبله أبو صالح أيوب بن سليمان بن صالح رحمه الله، قال: "الفتيا دربة، وحضور الشورى في مجالس الحكام منفعة وتجربة، وقد ابتليت بالفتيا فما دريت ما أقول في أول مجلس شاورني فيه سليمان بن أسود، وأنا أحفظ المدونة والمستخرجة الحفظ المتقن والتجربة أصل في كل فن ومعنى مفتقر إليه1". وهناك شروط لابد من توافرها في من سيتم اختياره للفتيا، وهي نفس الشروط الواجب توفرها فيمن يلي القضاء، إلا أن سلامة الحواس أمر يمكن تجاوزه عند اختيار المفتي. ولدينا نماذج متعددة لفقهاء تولوا الفتيا بالأندلس لم يكونوا سليمي الحواس بصورة مكتملة من هؤلاء:- الفقيه القرطبي محمد بن يوسف بن مطروح، المتوفى يوم عاشوراء سنة 271هـ (يوليو 884م) كانت الفتيا دائرة عليه أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن رغم أنه كان أعرجاً2.   1- المعيار المعرب، 10/79. 2- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 131. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1113. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 الفقيه أحمد بن محمد بن زكرياء، الشهير بالرصافي، قرطبي مفتي، كان مكفوفاً، يجتمع حوله أهل الحسبة. توفي في شهر صفر 362هـ (نوفمبر 972م) 1. الفقيه سعيد بن حمدون بن محمد القيسي، المتوفى يوم الخميس لأربع بقين من ذي القعدة سنة 378هـ (مارس 989م) فقد كان أعور2 العين اليمنى، ولذا فقد كانت العامة تسميه: دجال الفقهاء3. سن المفتي: ورد لدى القاضي عياض أن الفقيه العدل القرطبي محمد بن محمد بن أبي دليم، المتوفى ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة من شهر رمضان سنة 372هـ (مارس 983م) "كان لا يرى أن يسمى طالب العلم فقيهاً حتى يكتهل ويكمل سنه4". من هذا النص يتضح لنا أن هناك سناً قانونية لابد من بلوغها لمن أراد أن يتخذ لقب فقيه، والمفتي بطبيعة الحال لابد أن يكون فقيهاً، وعليه فكأن المسألة فيها تحديد عمر المفتي، لكن هذه القاعدة لم تطبق دوماً في الأندلس، إذ وجد من قُدِّم للفتيا وهو دون سن الكهولة بكثير.   1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 162. 2- المصدر السابق، ترجمة رقم 525. 3- ترتيب المدارك، 7/12. 4- المصدر السابق، 6/151. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 فالفقيه أحمد بن بقي بن مخلد قدمه الأمير عبد الله بن محمد للشورى وهو ابن خمس وعشرين سنة، وذلك لأنه "كان في حداثة سنه معظماً، موسوماً بالخير، معروفاً بالفضل، ظاهر السؤدد1". وكان الفقيه عبد الملك بن العاص بن محمد بن بكر السعدي، المتوفى يوم السبت لثمان بقين من شهر المحرم 330هـ (أكتوبر 941م) قد ظهر فقهه مبكراً، ولذا نرى قاضي الجماعة أسلم بن عبد العزيز يقدمه للشورى حتى قبل أن يرحل للمشرق2. وكان قاضي الجماعة أحمد بن بقي بن مخلد يشاور الفقيه محمد بن عبد الله بن أبي عيسى المتوفى سنة 339هـ (أغسطس 950م) مع سائر الفقهاء وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره3. ولم يقف الأمر عند تقديم من بلغ سن الثلاثين من عمره للشورى، فقد قُدِّم لها من هو دون ذلك بكثير، فالفقيه ابن الباجي أحمد بن عبد الله بن محمد اللخمي، المتوفى ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر   1- قضاة قرطبة، ص 112. 2- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 330. ابن الفرضي، ترجمة رقم 820. ترتيب المدارك، 6/145. 3- ولد ابن أبي عيسى سنة 284هـ، ورحل إلى المشرق سنة 312هـ، وعاد سنة 314هـ، انظر: قضاة قرطبة، ص119-120. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 المحرم سنة 396هـ (أكتوبر 1000م) شاوره قاضي اشبيلية ابن أبي الفوارس وهو ابن ثماني عشرة سنة فقط1. وبصفة عامة فإن مسألة تقديم الشباب للشورى هي مسألة استثنائية يحكمها في الغالب النبوغ الفقهي المبكر لذلك الشاب، أما في الأحوال العادية فلا يقدم لها إلا من اكتهل سنه كما ذكر ذلك الفقيه ابن أبي دليم2. معايير التقديم للفتيا "الشورى": إذا اشتهر أمر أحد طلاب العلم بسعة المعرفة ورسوخ القدم في الفقه، لاشك أنه سيقدم لمرتبة الإفتاء لكفاءته. لكن يحدث أحياناً أن يُقَّدم أحدهم للشورى ويُستدعى من موطنه إلى قرطبة لتوليها نتيجة لعداوة تنشب بين فقهاء قرطبة، فقد وصل الفقيه عبد الملك بن حبيب إلى خطة الشورى بقرطبة بعد أن طلب قاضي الجماعة يحيى بن معمر من الأمير عبد الرحمن الأوسط استدعاءه من إلبيرة، وذلك ناتج عن تلك العداوة المستحكمة بين القاضي وبقية فقهاء قرطبة3. كما أن الفقيه عبد الأعلى بن وهب بن عبد الأعلى، المتوفى سنة 261هـ (875م) وصل إلى خطة الشورى بعد أن "شهد يحيى بن يحيى   1- الصلة، ترجمة رقم 15. 2- تاريخ القضاة في الأندلس، ص 337. 3- قضاة قرطبة، ص50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 وسعيد بن حسان وقاضي الجماعة آنذاك وبعض الفقهاء عند الأمير عبد الرحمن الأوسط بأنه يستحق التقديم لخطة الشورى، فأمر بتقديمه1. ووصل الفقيهان "أبو عمر أحمد بن عبد الملك المعروف بابن المكوي وأبو بكر محمد بن عبد الله المعيطي إلى خطة الشورى بعد أن تمكنا من جميع أقوال الإمام مالك بن أنس رحمه الله من كافة الروايات بمائة جزء وأسمياه "الاستيعاب الكبير" وبعد أن تصفحه الخليفة الحكم المستنصر "سُرَّ به ووصل كل واحد منهما بألف دينار، ومنديل كتب وقدمهما للشورى2". لباس المفتي: جرت العادة في الأندلس على أن لا يقدم للفتوى إلا من توفرت فيه شروط سبق معرفتها فإذا اتفقت الكلمة على تقديم أحدهم لهذا المنصب، جعلوا له لباساً خاصاً يكون دلالة على المرتبة التي وصلها، واللباس الذي يختص به هو "القالس والرداء3" إذ لا يضع القالس عندهم إلا من حفظ المدونة وحفظ عشرة آلاف حديث بأسانيدها عن النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم4.   1- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 333. ابن الفرضي، ترجمة رقم 837. 2- ترتيب المدارك، 7/121-122. 3- نفح الطيب، 3/216. 4- ذكر بلاد الأندلس، 1/34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 وقد كان عدد الذين يلبسون القالس والرداء في الأندلس كثيراً، ومن كان منهم سكنه بالقرب من قرطبة حضر للصلاة يوم الجمعة في قرطبة ثم يسلم على الأمير أو الخليفة ويطالعه بأخبار بلده1، وكان يشهد صلاة الجمعة بجامع الزهراء مع الخليفة عبد الرحمن الناصر من العلماء والفقهاء ثلاثة آلاف وخمسمائة مقلس2. وعلى المفتي أن يهتم بهيئته، وذلك فيما يتعلق بجمال المظهر وحسن الزي وفق الوضع الشرعي، لأن في الحرص على ذلك وقع ملموس على نفس المقابل، إذ الخلق مجبولون على تعظيم الصور الظاهرة، واهتمام المفتي بهيئته تجعل له مكانة في قلوب العامة، الأمر الذي يجعل هناك مجالاً واسعاً للإقتداء به. ويكفي للدلالة على أهمية المظهر أن الذي لديه رغبة أكيدة في التعلم عليه أن يهتم بمظهره، وهذا ما نصح به الفقيه الأندلسي زياد بن عبد الرحمن الفقيه يحيى بن يحيى الليثي في بداية طلبه العلم عند زياد، فقد قال له "يابني إن كنت عازماً على التعلم، فخذ من شعرك وأصلح زيك3". ثم لابد أن يلتزم بمظهر الاحتشام والأدب، ويتصف بالسكينة والوقار لأن ذلك مدعاة لأن يرغب المستمع في قبول ما يقوله وينصح به.   1- المصدر السابق، 1/34. 2- نفسه، 1/166. 3- ترتيب المدارك، 3/380. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 وعندما سئل الفقيه يحيى بن يحيى الليثي عن عدم انبساطه أمام الناس في المحافل العامة كانبساطه في مجالسه الخاصة، قال: "لو فعلت ذلك لتلوعب بين يدي، وأنا أحب أن يقتدى بي كما اقتديت أنا بغيري1". موارد دخل المفتي: إن ارتفاع المستوى المادي نوعاً ما للمفتي أمر محبب وذلك خشية أن يميل به الفقر إلى الطمع فيما في أيدي الناس فيبيع به حقوق الدين2. وقد أورد المقري قصة الأمير الحكم الربضي عندما أراد تقديم أحد الفقهاء للإفتاء، فقد جمع كبار أهل الفيتا أمثال يحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب وغيرهما، وعندما طرح الأمير رغبته عليهم، أجابوه بأنه أهل لذلك إلا أنه فقير لا مال له، وهو في هذه الحالة على خطر عظيم، لأنه سوف يتعرض للمواريث والوصايا وما شابههما واضطر الحكم الربضي أمام صلابة موقف الفقهاء بالإضافة إلى رأي ابنه الأمير عبد الرحمن إلى إعطاء ذلك الفقيه الذي يريد ترشيحه للإفتاء من المال ما أغناه به وأهلَّه لتلك المنزلة، وأعطاه من اصطبله الخاص مركوباً، فكانت هذه الأعطية مكرمة لا خفاء فيها3.   1- المصدر السابق، 3/390. 2- نفح الطيب 3/214 هذا ليس على إطلاقه، ولكن للاحتياط فالأولى أن يكون من أهل الثراء لكي لا يلتفت للأموال التي ستجري على يديه، كما أنه لا يمكن إغراؤه بها، وإن كان أمر مخافة الله تعالى ليس له علاقة بالغنى أو الفقر. 3- المصدر السابق، 3/214-216. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 وإذا أتينا للتطبيق الفعلي على أهل الفتيا بالأندلس لنرى أحوالهم المادية، سنجدهم من الموسرين بصفة عامة، فالفقيه العدل محمد بن عيسى بن عبد الواحد المعافري المعروف بالأعشى، المتوفى سنة 222هـ (837م) كان من الميسورين حتى أنه عندما غلت الأسعار بقرطبة أمر بتفريق مخازن أطعمته على الناس بطريقة جعلت الكل فيها يأخذ حتى الشريف المحتاج والمتعفف المستور ومن لا ينكشف لأخذ الصدقة1. وكان شيخ الفقهاء يحيى بن يحيى الليثي يلبس ملابس غالية الثمن كلها من الوشي الرفيع وذلك في الأعياد والمناسبات الرسمية أو عندما يريد الدخول على الأمراء2. كما كان نعل زوجته مرصعاً بالدر والياقوت الأمر الذي عرضه لانتقاد بعض زملائه من الفقهاء3. وكان الفقيه المشاور عبد الملك بن حبيب المتوفى سنة 238هـ (853م) قد حبَّس أملاكه بالبيرة على المسجد الجامع بقرطبة4، وكان أبوه حبيب يعمل عطاراً، ولذا فقد ذكر أن ابنه عبد الملك كان يعصر الأذهان ويستخرجها5.   1- ترتيب المدارك، 4/115-116. 2- المصدر السابق، 3/391. 3- تاريخ القضاء في الأندلس، ص371. 4- الإحاطة، 3/549. 5- ترتيب المدارك، 4/122. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 وأما الفقيه عبد الأعلى بن وهب فقد كان موسراً، إذ كانت له جنة بالقرب من مقبرة قريش يعمل بها مع بعض تلاميذه والكل يشاركه في طعامه1. وقد بلغ ثراء الفقيه المشاور أبو زيد عبد الرحمن بن سعيد التميمي الشهير بالجزيري المتوفى في شهر شعبان 275هـ (ديسمبر 888م) درجة كبيرة، حتى أن الوصفاء كانوا يقفون على رأسه فقد كان متشبهاً بأمراء بني أمية ورجالهم من حجاب ووزراء مخالطاً لهم، حتى كانوا يأتونه ويأتيهم2. وأما الفقيه المشاور عبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثي المتوفى يوم الاثنين لعشر خلون من رمضان سنة 298هـ (13مايو 911م) فقد كان كريماً عظيم المال والجاه، وبجوده تضرب الأمثال حتى قال فيه أحدهم: وإنك غيث آخر الدهر هامع ... كما أنت بدر آخر الليل طالع وقد سرني أن فزت بالحمد والعلا ... وأنك للدنيا وللدين جامع3   1- المصدر السابق، 4/248. 2- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 316. ترتيب المدارك، 4/263. 3- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 310. ترتيب المدارك، 4/421-423. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 وكان الفقيه المشاور محمد بن إبراهيم بن عيسى الكتاني الشهير بابن حيوه، المتوفى سنة 328هـ (940م) عظيم الوجاهة، مشبهاً بأهل الدنيا، خارجاً من طبقة أهل العلم1. وأما الفقيه عبد الله بن محمد بن موسى، المتوفى بحاضرة استجة يوم الأربعاء للنصف من جمادى الأولى سنة 379هـ (23 أغسطس 989م) فقد كان صدرا فيمن يستفتى ببلده استجة، ويصفه ابن الفرضي بقوله أنه "كان عظيم الجاه والحرمة، كريم النفس، سرياً متصرفاً في أمور الناس، مداخلاً للسلطان2". والفقيه المشاور أبو بكر عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي، والد الوزير ابن زيدون، توفي بالبيرة في توجهه إليها لتفقد ضيعته، وذلك لست خلون من ربيع الآخر سنة 405هـ (أكتوبر 1014م) 3. وكان الفقيه أبو بكر بن زهر الإيادي من أهل اشبيلية، توفي بطلبيرة سنة 422هـ (1031م) وكان يمتلك باشبيلية الأموال الكثيرة والضياع4.   1- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 204. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1221إلا إنه ذكر أنه اشتهر بابن جُيوية. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 745. 3- ابن الأبار، التكملة، (طبعة الحسيني) ، ترجمة رقم 1941. 4- تاريخ القضاء في الأندلس، ص373. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 مما سبق نلاحظ أن جل أولئك الفقهاء الذين تصدروا للإفتاء والمشاورة كانوا من المستورين إن لم يكونوا من المياسير. لكن هذه الصورة لا يمكن أن تشمل الكل فقد وجد بين أهل الإفتاء من كان أقرب إلى الفقر منه إلى الغنى، فالفقيه أصبغ بن خليل، المتوفى سنة 273هـ (886م) كان يلي رئاسة الإفتاء بالأندلس مدة خمسين عاماً1. ومع ذلك فقد كان فقيراً لم يكتسب شيئاً، حتى أن أبا عمر ابن عبد البر يذكر أن تركة أصبغ عند وفاته بلغت مائة دينار فقط2. ونظراً لأهمية منصب المفتي في الأندلس، فلنا أن نتوقع أن لا يتصدر أحد للإفتاء إلا من بعد صدور ظهير رسمي من قبل الأمير أو الخليفة، ولعل من الأدلة المؤيدة لهذا ما جرى في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط عندما قام قاضي الجماعة آنذاك بمشاورة الفقيه عبد الأعلى بن وهب دون إذن مسبق من الأمير الذي ما إن علم بالأمر حتى عنَّف قاضي الجماعة وأغلظ له، كما لحقت الفقيه ابن وهب غضاضة3.   ومن الملاحظ أن منصب الإفتاء -الشورى- يمكن أن يكون متوارثاً، حاله في ذلك حال بقية المناصب في دولة بني أمية بالأندلس، فالفقيه المشاور يحيى بن يحيى الليثي ترك ولدين هما: إسحاق المتوفى سنة 261هـ (875م) وعبيد الله المتوفى سنة 298هـ (911م) ، وكلاهما 1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 247. 2- تبصرة الحكام، 1/70. 3- ابن الفرضي، ترجمة رقم 837. ترتيب المدارك، 4/246-247. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 تولى الإفتاء بقرطبة، بل إن عبيد الله كان منفرداً برئاستها1، كما أن أحمد بن حكم بن محمد العاملي تولى الشورى بقرطبة بعد وفاة أخيه يحيى في عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر2. رئاسة الإفتاء بقرطبة: يحتل فقهاء قرطبة المالكيون مكانة رفيعة لدى أهل المغرب والأندلس، حتى أنه إذا وقعت مسألة فقهية في إحدى النواحي، وأفتى فيها فقهاء تلك الناحية، ربما أصرَّ صاحب المسألة على ضرورة الوقوف على رأي فقهاء الحضرة بقرطبة. وقد ذكر القاضي عياض قصة حادثة وقعت بمدينة سبتة في أواخر القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) أفتى فقهاء سبتة بفتوى لم يقتنع بها صاحب الدعوى، فطلب من القاضي أن يرسل بتفاصيل المسألة إلى فقهاء قرطبة، فأتتهم الفتوى من الفقيه ابن المكوي بخلاف رأي فقهاء سبتة الذين تلقوه بالقبول3. ولا يصل لرئاسة فقهاء الفتيا بقرطبة إلا من كان متميزاً عن أقرانه من معاصريه بمزايا علمية تؤهله لذلك المنصب، ويلاحظ أحياناً اشتراك أكثر من فقيه بالرئاسة، ومن خلال تتبع تراجم فقهاء الأندلس حاولت أن أخرج بترتيب زمني لرئاسة الفتيا بقرطبة وهم:   1- المصدر السابق، 4/421-424. 2- الصلة، ترجمة رقم 25. 3- ترتيب المدارك، 7/130-131. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 808 الفقيه قاضي الجماعة معاوية بن صالح، المتوفى سنة 168هـ (785م) هو رأس أهل الإفتاء في الأندلس طيلة ستة وعشرين عاماً، وذلك على عهد الأمير عبد الرحمن الداخل، فهو "إمام فقيه1" وكان من طبقة الإمام مالك بن أنس رحمه الله بل إنه شاركه في بعض رجاله2 " وكان ممن يستغني بعقله وعلمه وفهمه عن مشاورة غيره3". الفقيه عامر بن أبي جعفر المتوفى في أيام الأمير هشام الرضا، كانت الفتيا بقرطبة تدور عليه مع من عاصره من شيوخ الفتيا بقرطبة4. الفقيه أبو عبد الله صعصعة بن سلام الشامي، توفي سنة 192هـ (827م) كانت الفتيا دائرة عليه في الأندلس5. الفقيه أبو عبد الله عيسى بن دينار بن واقد الغافقي، المتوفى سنة 212هـ (872م) كان أفقه من يحيى بن يحيى الليثي، وفي زمانه كانت الفتيا دائرة عليه، وذلك طيلة أيام الأمير الحكم الربضي ومطلع أيام الأمير عبد الرحمن الأوسط6.   1- تذكرة الحفاظ، م1 ج1 س 176. 2- قضاة قرطبة، ص 15. 3- النباهي، ص43. 4- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 370. ابن الفرضي، ترجمة رقم 628. 5- المصدر السابق، ترجمة رقم 610. 6- نفسه، ترجمة رقم 975. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 809 الفقيه أبو محمد يحيى بن يحيى الليثي، المتوفى سنة 234هـ (848م) رحل إلى المشرق وعمره ثمان وعشرون سنة، وبعد عودته إلى الأندلس عادت فتيا الأندلس بعد عيسى بن دينار إلى رأيه1 ورغم مكانة الفقيهين عيسى بن دينار ويحيى بن يحيى إلا أنهما كانا يمتنعان عن الإفتاء إذا قدم إلى قرطبة أبو موسى عبد الرحمن بن موسى الهواري حتى يرحل عنها2. وذلك إجلالاً لقدره واعترافاً بسعة علمه وفضله. ورغم هذه المكانة السامية للهواري إلا أنه لم يتولى رئاسة أهل الإفتاء، ولعل السبب في هذا يعود إلى عوامل منها أنه ربما لم يكن أسن نظرائه، إذ أن عامل السن مهم في هذا الأمر، كذلك لم يكن من سكان قرطبة إذ كان يقيم ببلدة استجة، إضافة إلى أن للعلاقة التي بينه وبين إمارة قرطبة أثر في هذه المسألة. الفقيه أبو مروان عبد الملك بن حبيب، اشتهر بالعلم والرواية في بلده البيرة، وسمع الأمير عبد الرحمن الأوسط به وبفضله، فأمر بنقله إلى قرطبة، فتولى فيها زعامة الإفتاء مع الشيخ الفقيه يحيى ابن يحيى، وبعد وفاته سنة 234هـ (848م) انفرد ابن حبيب برئاسة الفتيا من بعده إلى أن أدركته الوفاة في أوائل أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن سنة 238هـ3.   1- نفسه، ترجمة رقم 1556. 2- نفسه، ترجمة رقم 778. 3- ابن الفرضي، ترجمة رقم 816. ترتيب المدارك، 4/122-141. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 810 وفي عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن كانت الفتيا في الأندلس دائرة على ثلاثة من فقهاء قرطبة هم: عبد الأعلى بن وهب1، ومحمد بن يوسف بن مطروح2، وأصبغ بن خليل3، ومن بعد هؤلاء الثلاثة برزت شخصية الفقيه أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد، المتوفى ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة 276هـ (29 أكتوبر 889م) فقد بلغ رتبة الإمامة والاجتهاد وجمع فتاوى الصحابة والتابعين، وكثيراً ما كان الأمير عبد الله بن محمد يستشيره4. وطيلة عهد الأمير عبد الله بن محمد كانت الفتيا دائرة على أبي مروان عبيد الله بن يحيى الليثي المتوفى يوم الاثنين لعشر خلون من شهر رمضان سنة 298هـ (13 مايو 911م) فقد كان مقدماً في الفتيا، منفرداً برئاستها غير مدافع5. وخلال السنتين الأخيرتين من عهد الأمير عبد الله بن محمد والأربعة عشر عاماً الأولى من عهد الأمير عبد الرحمن بن محمد كانت رئاسة الفتيا   1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 837. 2- المصدر السابق، ترجمة رقم 1113. 3- نفسه، ترجمة رقم 247. 4- جذوة المقتبس، ترجمة رقم 63. 5- ابن الفرضي، ترجمة رقم 764. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 811 بالأندلس للفقيه أبي عبد الله محمد بن عمر بن لبابه، المتوفى ليلة الاثنين لأربع بقين من شعبان سنة 314هـ (نوفمبر 926م) 1. والفقيه أبو بكر أحمد بن عبد الله بن أحمد الأموي، المعروف باللؤلؤي المتوفى يوم الأربعاء لثلاث ليال خلون من جمادى الأولى سنة 348هـ (13 يوليو 959م) كان إماماً في حفظ الرأي على مذهب الإمام مالك، ولذا فقد كان مقدماً في الفتيا على أصحابه واستمر على منصبه قرابة ثلاثة عقود2 وانتهت رئاسة الإفتاء في عهد الخليفة الحكم المستنصر إلى عبيد الله بن الوليد، المعروف بالمعيطي، المتوفى في شهر محرم سنة 378هـ (988م) فقد كان عالماً بصيراً في المسائل والشروط، ومشاوراً في الأحكام3. ومن أواخر عهد الخليفة الحكم المستنصر إلى مطلع القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) ، كانت رئاسة الإفتاء لأبي عمر أحمد بن عبد الملك المعروف بابن المكوي، فقد كان شيخ فقهاء الأندلس في وقته4، مقدماً على جميع من إليه الفتوى بقرطبة إذ انتهت إليه الرئاسة في ذلك5، قلده الخليفة الحكم المستنصر الإفتاء برأي قاضي الجماعة ابن   1- المصدر السابق، ترجمة رقم 1189. 2- نفسه، ترجمة رقم 124. 3- ترتيب المدارك، 6/290. 4- المصدر السابق، 7/123. 5- جذوة المقتبس، ترجمة رقم 231. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 812 السليم سنة 365هـ (976م) 1 ودارت الفتيا بالأندلس على ابن المكوي إلى وفاته في جمادى الأولى سنة 401 هـ (ديسمبر 1010م) 2. وبعد الفقيه ابن المكوى، آلت رئاسة الإفتاء للفقيه عبد الله بن سعيد بن عبد الله الأموي، الشهير بابن الشقاق، المتوفى يوم الثلاثاء الثامن عشر من شهر رمضان سنة 426هـ3 (1035م) فقد كان أخر العلماء الأندلسيين النحارير المبرزين في الفقه والحفظ والحذق بالفتوى والشروط4. وقد كان مشيخة الإفتاء يجتمعون عند قاضي الجماعة في المسجد الجامع أو أحد المساجد الصغيرة وهذه الجلسات لا يحضرها سواهم، يقول الفقيه ابن عتاب: كنا نجتمع مع شيوخ الإفتاء عند قاضي الجماعة ابن بشر، فتطرح مسألة يختلف فيها القاضي مع الشيوخ، فيحاجهم ويناظرهم ويستظهر عليهم بالروايات والكتب حتى ينصرفوا وهو يقولون بقوله5.   1- ترتيب المدارك، 7/124. 2- المصدر السابق، 7/127. 3- الصلة، ترجمة رقم 587. 4- ترتيب المدارك، 7/295. 5- الصلة، ترجمة رقم 698. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 813 وقد حذر ابن عبد ون من أن المشاور لا يشاور في داره أبداً، إذ أن ذلك مدعاة إلى أكل أموال الناس بالباطل، فضلاً عن أن مقابلته في داره ليس أمراً متيسراً دائماً1. والفتيا في الأندلس كانت دائرة في عصر الولاة على رأي السلف الذي وصل إلى هناك بواسطة التابعين ومن أتى بعدهم رحمهم الله تعالى2، ثم أصبحت الفتيا قائمة على مذهب الإمام الأوزاعي المتوفى سنة 157هـ (774م) وذلك عندما عرف الأندلسيون ذلك المذهب في السنوات الأولى من عهد الأمير عبد الرحمن الداخل على يدي الفقيه أسد بن عبد الرحمن السبئي3 وعند مطلع القرن الثالث الهجري أخذ المذهب   1- ابن عبدون، رسالة في القضاة والحسبة، ص9. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 391، 816 الحميدي، جذوة المقتبس ص6. وترجمة رقم 444. نفح الطيب، 1/278-288، 3/12. د. محمود مكي، رواد الثقافة الدينية الأولى بالأندلس، (مجلة البينة، الرباط، المغرب ج 6،7، جمادي الثانية 1382هـ /1962م) ص51. 3- ورد في ترتيب المدارك 1/26، ونفح الطيب 3/230، أن أهل الأندلس كانوا على مذهب الأوزاعي منذ الفتح، ولكن إذا عرفنا أن الإمام الأوزاعي قد ولد سنة 88هـ وفتح الأندلس ثم سنة 92هـ أدركنا عدم صحة ما ذهب إليه القاضي عياض والمقري. ويمكن القول بأن الفقيه الأندلسي أسد بن عبد الرحمن السبئي (كان حياً بعد 150هـ) هو أول من أدخل مذهب الأوزاعي للأندلس، فقد سبق جميع الأندلسيين في الأخذ عن الأوزاعي. انظر: الخشني، أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 53. ابن الفرضي، ترجمة رقم 239. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 814 المالكي يحل بقوة محل مذهب الأوزاعي، واختص الأندلسيون بآراء عبد الرحمن بن القاسم المتوفى سنة 191هـ (806م) 1 من بين أراء تلاميذ الإمام مالك حتى أنه أطلق على المغاربة عامة والأندلسيين خاصة أنهم "مالكية قاسميون2" فقضاة الأندلس يعتبرون ابن القاسم مرجعهم الأول، حتى أن يحيى بن معمر الألهاني قاضي الجماعة في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، رفض أن يحكم في إحدى القضايا برأي أشهب بن عبد العزيز، المتوفى سنة 204هـ (819م) رغم أنه تلميذه، وعدل عنه إلى رأي ابن القاسم محتجاً بأن هذا ما وجد عليه إجماع أهل قرطبة3. وبعد وفاة ابن القاسم كان قضاة الأندلس يستشيرون تلميذه أصبغ بن الفرج، المتوفى سنة 225هـ (840م) 4 فقد تمسك الأندلسيون بآرائه بنحو لا يقبل التجديد والتعديل أبداً ولعل أكثر من يمثل هذا الاتجاه المتشدد الفقيه المفتي أصبغ بن خليل القرطبي المتوفى سنة 273هـ (886م) الذي تتلمذ على ابن الفرج، وقد بلغ من شدة تمسك أصبغ بن خليل بآراء ابن القاسم أنه رغم فقره الشديد فقد كان يرفض الإغراءات   1- عبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي، ولد بمصر سنة 132هـ، ثم انتقل إلى المدينة ولازم الإمام مالك عشرين عاماً ويعد من أشهر تلاميذه ورواته، انظر: ترتيب المدارك، 3/244-261. 2- قضاة قرطبة، ص50. 3- المصدر السابق، ص50. 4- نفسه، ص46-47. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 815 المادية على أن يتنازل في الإفتاء عن رأي ابن القاسم، يقول أبو عمر بن عبد البر: سمع أحمد بن خالد يقول "دخلت على أصبغ بن خليل فقال لي: ياأحمد، فقلت نعم، فقال انظر إلى هذه الكوة، لكوة فوق رأسه في حائط بيته، فقلت نعم، فقال: والله الذي لا إله إلا هو، لقد رددت منها ثلاثمائة دينار صحاحاً على أن أفتي في مسألة بغير رأي ابن القاسم مما قاله غيره من أصحاب مالك فما رأيت نفسي في سعة من ذلك1". من هنا نخلص إلى أن الإفتاء في الأندلس كان معتمداً على المذهب المالكي وبالذات آراء ابن القاسم. عرض فقهاء الشورى لآرائهم: إذا كانت هناك ضرورة لانعقاد مجلس الشورى لمناقشة أمر ما، أو الإفتاء في قضية من القضايا، فالمتوقع أنه لابد أن يتم توزيع نص المشكلة على كل عضو من أعضاء المجلس قبل إنعقاده بوقت كاف، ليتمكن كل منهم من مراجعة أقوال العلماء إن كان ناسياً ويتثبت من معلوماته إن كان غير متيقن. وكان من المتبع أن يقوم كاتب القاضي بتسجيل أراء أولئك الفقهاء، لكن عندما تولى قضاء الجماعة الحبيب أحمد بن محمد بن زياد اللخمي، سنة 291هـ (904م) طلب من الفقهاء المشاورين أن يقوم   1- تبصرة الحكام، 1/70. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 816 كل منهم بتسجيل فتواه بيده في السجل، فكان هو أول من وضع هذا الرسم وأصبح معمولاً به من بعده في الأندلس1. وطريقة التسجيل بالكتابة لآراء الفقهاء المشاورين هي إحدى طرق وصول رأي المشاور للقاضي، إذ أن هناك طريقة أخرى هي المشافهة وطريقة ثالثة تقوم على المناقشة والمناظرة2 وكذلك تعتمد طريقتي المشافهة3 والكتابة4 لوصول آراء فقهاء الشورى للأمير أو الخليفة. عدد فقهاء الشورى: كانت الفتيا في عهد الأمير عبد الرحمن الداخل والأيام الأولى من عهد ابنه الأمير هشام دائرة على ثلاثة فقهاء هم: عامر بن أبي جعفر5، وصعصعة بن سلام6، والغازي بن قيس المتوفى سنة 199هـ (815م) 7. وفي عهد الأمير هشام الرضا كان مجلس الشورى لدى قاضي الجماعة المصعب بن عمران يتكون من صعصعة بن سلام، والغازي بن   1- قضاة قرطبة، ص102. 2- تاريخ القضاء في الأندلس، ص368-369. 3- نفح الطيب، 2/10-11. 4- قضاة قرطبة، ص59-60. 5- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 72. ابن الفرضي، ترجمة رقم 628. 6- ابن الفرضي، ترجمة رقم 610. 7- المصدر السابق، ترجمة رقم 1015. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 817 قيس وعبد الرحمن بن موسى الهواري، وعبد الملك بن حسن المعروف بزونان، المتوفى سنة 232هـ (847م) 1. وكان مجلس شورى القاضي محمد بن بشير المعافري يتكون من: الغازي بن قيس وأبو محمد إسماعيل بن البشر التجيبي، المتوفى في أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم، وأبو عمرو حارث بن أبي سعد، المتوفى سنة 221هـ أو 222هـ (835م أو 836م) وعبد الملك بن حسن المعروف بزونان ومحمد بن سعيد السبائي2. وقد ذكر ابن عبد البر أن الفتيا في أيام الأمير الحكم الربضي وابنه الأمير عبد الرحمن الأوسط كانت تدور على عيسى بن دينار ومحمد بن خالد الأشج، المتوفى سنة 220هـ (835م) وأبو عبد الله محمد بن عيسى بن عبد الواحد المعافري المعروف بالأعشى المتوفى سنة 221هـ (836م) وزونان، ويحيى بن يحيى الليثي وسعيد بن حسان، المتوفى سنة 236هـ (850م) وعبد الملك بن حبيب3. وفي عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط كانت الفتيا في الأندلس تدور على الفقيه عيسى بن دينار وبعد وفاته أصبحت الفتيا تدور على الفقيه 1- هذه الشخصيات هي مزيج من الأوزاعية والمالكية، وبصفة عامة يعتبر القاضي المصعب بن عمران ومجلس شوراه ممثلين للفترة الانتقالية من المذهب الأوزاعي إلى المذهب المالكي. انظر: سالم الخلف، المرجع   السابق، ص 263-264. 2- ترتيب المدارك، 3/332. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص42. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 818 يحيى بن يحيى الليثي وحده من سنة 212هـ (827م) إلى سنة 218هـ تقريباً (833م) إذ شاركه منذ ذلك التاريخ في زعامة الفتيا الفقيه أبو مروان عبد الملك ابن حبيب1. وقد ذكر ابن حيان أن خمسة عشر فقيهاً دارت عليهم الفتيا في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن وولديه المنذر وعبد الله، وهؤلاء الفقهاء هم: بقي بن مخلد، وحسن بن يحيى بن مزين المتوفى في صدر أيام الأمير عبد الله بن محمد، ومحمد بن أسباط المخزومي، المتوفى سنة 286هـ (899م) ومحمد بن وضاح المتوفى سنة 287هـ (900م) ويحيى بن عبد الله المعروف بابن الخراز المتوفى سنة 295هـ (907م) وعبيد الله بن يحيى بن يحيى المتوفى في سنة 298هـ (911م) ومطرف بن قيس، وأبو صالح أيوب بن سليمان بن صالح، وسعيد بن خمير، المتوفى سنة 301هـ (913م) وخالد بن وهب المعروف بالصغير، المتوفى سنة 302هـ (914م) وسعد بن معاذ الشعباني، المتوفى سنة 308هـ (920م) ومحمد بن وليد. المتوفى سنة 309هـ (922م) ومحمد بن عمر بن لبابه، المتوفى سنة 314هـ (926م) وسعيد بن عبد الملك بن السمح2.   1- قضاة قرطبة، ص46،50. ابن الفرضي، ترجمة رقم 975. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص57. 2- المقتبس، تحقيق: أنطونيه ص 8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 819 ثم ألحق بهم ابن حيان مشيخة الفقهاء في عصر الأمير عبد الله بن محمد، وهم: محمد بن غالب المعروف بابن الصفار، المتوفى سنة 295هـ (908م) وأصبغ بن مالك المتوفى سنة 299هـ (912م) وأحمد بن بيطير، المتوفى سنة 303هـ (915م) ويحيى بن إسحاق بن يحي بن أبي عيسى، المتوفى سنة 303هـ (915م) ومحمد الزراد، وأحمد بن عيسى بن يحيى بن يحيى الملقب بالثائر1. وأما في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر فقد بلغ عدد فقهاء الشورى ستة عشر فقيها مشاوراً، وكان المكمل للستة عشر هو الفقيه أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن مسرة المتوفى بطليطلة سنة 352هـ (963م) وقد تم تقديمه للشورى على يد قاضي الجماعة ابن أبي عيسى، دل عليه ولي العهد الحكم في عدة ارتيدوا لها، فكملت عدتهم إذ ذاك ستة عشر مشاورا2. ومن ما مضى نلاحظ أن عدد فقهاء الشورى بقرطبة كان في بداية عهد الدولة الأموية قليلاً إذ لم يتجاوزوا الثلاثة، ثم أخذ عددهم بالازدياد تدريجياً، لكنه لم يتجاوز الستة عشر، وربما تكون الزيادة في العدد، ذات   1- نفس المصدر والصفحة. 2- ترتيب المدارك، 6/127. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 820 ارتباط وثيق باتساع قرطبة وكثرة سكانها وأنها أصبحت مركزاً علمياً، وبذلك كثر عدد طلاب العلم فيها، وبسبب ذلك تزايد عدد الفقهاء. وقد سبق أن عرفنا أن القالس والرداء هما علامة للفقيه المفتي، وقد كان المقلسون المتواجدون في القرى المحيطة بقرطبة، يأتون لأداء صلاة الجمعة مع أمراء وخلفاء بني أمية وبعد الصلاة يلتقون بهم ويسلمون عليهم ويطلعونهم على أحوال أماكنهم التي وفدوا منها1. وكان فقهاء الشورى يتم اختيارهم من بين المجموع الكلي للفقهاء لأجل هذا فلا غرابة أن يصل تعداد فقهاء الشورى زمن الخليفة عبد الرحمن الناصر إلى ستة عشر فقيها، خاصة إذا عرفنا أن عدد من يشهد معه صلاة الجمعة من الفقهاء والعلماء كانوا ثلاثة آلاف وخمسمائة مقلس2. وبالمناسبة فإن فقهاء الشورى لا يقتصر عملهم على مشاورة القاضي لهم فيما يعرض عليه من قضايا، إذ أن منهم من كان الأمير أو الخليفة يعتمد على رأيه في معالجة مشاكل الرعية وتدبير شئون الحكم، فقد كان الفقيه يحيى بن يحيى الليثي مرجعاً للقضاة، ولكنه في الوقت نفسه كان شديد الصلة بالأمير عبد الرحمن الأوسط حتى أنه غلب على رأيه "وألوى بإيثاره فصار يلزم من إعظامه وتكريمه وتنفيذ أوامره ما يلتزمه الوالد   1- ذكر بلاد الأندلس، 1/34. 2- المصدر السابق، 1/166. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 821 لأبيه1، وبالإضافة إلى أن الفقيه المشاور يقوم بعمله تجاه القاضي وأحياناً الأمير أو الخليفة، فإنه يحدث في بعض الأحيان أن تسند إليه مهام جسام في الدولة، من هؤلاء:- الفقيه حارث بن أبي سعد كان مفتياً في آخر أيام الأمير الحكم الربضي وأحد أعضاء مجلس شورى قاضي الجماعة محمد بن بشير2، ومع ذلك فقد ولاه الأمير عبد الرحمن الأوسط الشرطة الصغرى، ولم يزل عليها إلى أن توفي سنة 221هـ أو 222هـ (835م) 3. أبو محمد إسماعيل بن البشر التجيبي، كان أحد فقهاء الشورى في آخر أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن الذي ولاه الصلاة4. أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطروح كان أحد الذين تدور عليهم الفتيا أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن الذي ولاه كذلك الصلاة5. الفقيه المشاور أبو عبد الملك حسن بن عبيد الله بن محمد بن عبد الملك، المتوفى سنة 336هـ (948م) كان قاضي الجماعة ابن أبي عيسى كثيراً ما يستخلفه على الصلاة بقرطبة6.   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 42. 2- ترتيب المدارك، 3/332. 3- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 87. ابن الفرضي، ترجمة رقم 326. 4- ابن الفرضي، ترجمة رقم 209. 5- المصدر السابق، ترجمة رقم 1113. 6- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 72. ابن الفرضي، ترجمة رقم 343. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 822 أبو محمد موسى بن أحمد بن سعيد اليحصبي المعروف بالوتد، المتوفى سنة 377هـ (987م) كان كاتباً لقاضي الجماعة محمد بن برطال، ثم قلد الشورى، وتولى رفع كتب المظالم وأصحاب الحوائج إلى المنصور بن أبي عامر1. وأبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد الأموي، المعروف بالجالطي، قلده قاضي الجماعة ابن فطيس الشورى سنة 395هـ (1005م) وتولى الصلاة بالمسجد الجامع بالزهراء، فكان آخر خطيب قام على منبره كما ولاه الخليفة هشام المؤيد أحكام الشرطة، قتله البربر يوم دخولهم قرطبة، في جوف بيته، يوم الاثنين لست خلون من شوال سنة 403هـ (21 إبريل 1013م) 2. ومن المهام التي كانت تسند أحياناً للفقيه المشاور القيام بالإصلاح بين المتشاكسين، فقد اختار الأمير محمد بن عبد الرحمن الفقيه المشاور عبد الله بن محمد بن خالد بن مرتنيل المتوفى سنة 256هـ (872م) ليذهب إلى باجه لإصلاح ما وقع بين قبيلتي مضر واليمن بسبب العصبية3.   1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1466. ترتيب المدارك، 7/158-159. 2- الصلة، ترجمة رقم 1060. 3- تجدر الإشارة إلى أن الفقيه رفض الذهاب إلى باجه إذ اعتبر أن مهمته قائمة فقط على نقل الكتب من الأمير إلى زعماء القبائل وبسبب رفضه سجن ثلاثة أشهر. ترتيب المدارك، 4/239-242. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 823 كما كان الفقيه المشاور أبو محمد عبد الله بن محمد الصابوني الشهير بابن بركة المتوفى سنة 387هـ (988م) كثيراً ما يستعين به القضاة للإصلاح بين الناس وذلك لما امتاز به من حسن تناوله للمشاكل وصدق نيته في الإصلاح بين المتخاصمين1. ومن المهام التي يقوم بها الفقيه المشاور الوصاية على الأيتام، ولكن دون أن يكون ملزماً بالاستجابة للقاضي إن طلب منه القيام بهذه المهمة. يدل على ذلك أن الخليفة الحكم المستنصر عندما عاتب قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي على تقديمه لأوصياء سوء ليكونوا مسئولين عن الأيتام رد عليه القاضي بأن هذا غير مستغرب طالماً أن الفقهاء المشاورين الذين يُتوسم الخير فيهم لا يتم إلزامهم بالقوة لتولي مهام الوصية على الأيتام2. وعندما نقرأ تراجم فقهاء خطة الشورى، نجد أن العلاقة بينهم لم تكن على ما يرام بصفة دائمة، بل إنها للتوتر أقرب منها إلى الصفاء، ولعل هذا ناجم عن التنافس في العلم فيما بينهم. والنماذج على التنافر الموجود بين الفقهاء لا حصر لها، فمن ذلك نجد: أن قاضي الجماعة يحيى بن معمر الألهاني كانت علاقته بالفقيه يحيى بن يحيى الليثي وبقية فقهاء قرطبة غير طيبة لأن القاضي ابن معمر كان   1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 743. 2- الفتح بن خاقان، مطمح الأنفس، ص257. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 824 لا يلين لهم فيما يريدون، ولا يصغي لهم فيما يحبون، لذا كانوا كلهم ضده، وكانت النتيجة عزله عن القضاء1. كذلك العلاقة بين الفقيهين المشاورين يحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب لم تكن على ما يرام، ورغم ما كان بينهما من شحناء إلا أن ذلك لم يخرج أي منهما عن جادة الحق، حتى أن الأمير عبد الرحمن الأوسط عندما بلغه أن الفقيه يحيى بن يحيى وقاضي الجماعة إبراهيم بن العباس يتآمران على خلعه، استدعى الفقيه ابن حبيب وسأله عن حقيقة هذه القصة، فأجابه قائلاً: "قد علم الأمير مابيني وبين يحيى ولكني لا أقول عليه إلا الحق ليس يجئ من يحيى إلا ما يجيء مني، وكل ما رفع عليه فباطل2". وكان الفقيه عبد الملك بن حبيب محسوداً من قبل بقية الفقهاء لأنه مبرز في علوم هم على غير علم بها3. وفي منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) نجد أن الفقيهين ابن المكوي والمعيطي قد جرى بينهما خلاف شديد على من يكتب اسمه أولاً على الكتاب الذي جمعا به أقوال الإمام مالك بمائة جزء وأسمياه كتاب الاستيعاب الكبير4.   1- قضاة قرطبة، ص47-48. 2- ترتيب المدارك، 4/131. 3- المصدر السابق، 4/129. 4- نفسه، 7/122. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 825 وهذا الفقيه الموثق ابن العطار يُعزل عن خطة الشورى ويُسقط عن الفتيا وذلك بسبب تمالؤ الفقهاء عليه1. وهكذا نجد أنفسنا أمام فئة أقل ما يقال عن العلاقة بين أفرادها أنها غير ودية نوعاً ما ولذا فلا عجب عندما نرى أن أحدهم يُسجَّل عليه بالسخطة ويعزل عن منصبه، ثم إن فقهاء الشورى بعلاقاتهم تلك قد فتحوا المجال أمام رجال السلطة من حجاب ووزراء وغيرهم، بالدخول بينهم وزيادة التوتر في علاقاتهم، مما يجعل أحدهم صيداً سهلاً للحكام، حتى أن المنصور بن أبي عامر لم يحتمل أن يصحح له الفقيه ابن العطار كلمة أخطأ فيها المنصور واعتبر ذلك إهانة، فوبخه وأمر بإخراجه واستمال الكثير من الفقهاء للشهادة ضده حتى أُسقط عن رتبته2. رفض منصب الشورى: كان الفقيه المشاور ينظر إلى منصبه نظرة كلها حذر، ويكفي للدلالة على نظرته تلك ومعاناته من ذلك المنصب، ما أورده ابن بشكوال من أن شيخ أهل الشورى في زمانه الفقيه محمد بن عتاب بن محسن الجذامي، المتوفى سنة 462هـ (1070م) كان يهاب الفتوى ويخاف عاقبتها بالآخرة، وكان يقول: "من يحسدني فيها جعله الله مفتياً" وإذا   1- نفسه، 7/148. 2- نفسه، 7/151. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 826 رُغِّب في ثوابها وغُبط بالأجر عليها يقول: "وددت أني أنجو منها كفافاً لا علي ولا ليا1". لأجل هذا نجد أن الكثير من الفقهاء يرفضون منصب "الفقيه المشاور" منهم: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن باز، المعروف بابن القزاز، المتوفى ليلة الخميس لثمانية أيام مضين من شهر ربيع الآخر سنة 274هـ (أغسطس 887م) فقد عرض عليه الأمير محمد بن عبد الرحمن قضاء الجماعة فرفض، ثم طلب منه الأمير أن يكون أحد الداخلين عليه ليستشيره في أموره، لكنه رفض أيضاً، وعندما حاول الأمير أن يضغط عليه لقبول المشاورة أخبره الفقيه ابن باز بأنه سوف يرحل عن الأندلس إن كرر عليه هذا الطلب، فما كان من الأمير إلا أن أعرض عنه2. كذلك رفض منصب الشورى الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد الجبليَّ، المتوفى سنة 313هـ (925م) 3 والفقيه أبو عمر أحمد بن عبادة بن علكدة الرعيني المتوفى في شهر رجب 332هـ (944م) 4. وفي أوائل القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) حاول الخليفة على بن حمود بإشارة من قاضي الجماعة عبد الرحمن بن بشر المتوفى سنة 422هـ (1031م) أن يقدم الفقيه عبد الرحمن بن مروان بن عبد الرحمن   1- الصلة، ترجمة رقم 1194. 2- قضاة قرطبة، ص106. ابن الفرضي، ترجمة رقم 10. 3- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 179. ابن الفرضي ترجمة رقم 1185. 4- ترتيب المدارك، 6/93-94. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 827 الأنصاري المعروف بالقنازعي، المتوفى سنة 413هـ (1022م) لخطة الشورى، لكنه رفض، ولم يرهب سطوة الخليفة علي بن حمود التي قدَّر القاضي ابن بشر أن الفقيه القنازعي سيداريها، ثم اعتذر عن ذلك بأنه يحتاج لطلب العلم حتى يكون مؤهلاً لهذا المنصب1. وكما أن هناك من رفض منصب الشورى، فإن هناك من تقلده ثم طلب الاستعفاء منه، فهذا الفقيه محمد بن عبيد الله بن الوليد المعيطي، المتوفى سنة 367هـ (978م) قد قدم للفتيا وهو في شبابه، وصارت إليه رئاسة قرطبة بالعلم والشرف والقرب من الخليفة، ولكنه سرعان ما زهد في ذلك كله وطلب الإعفاء من الفتيا وانقطع للعبادة حتى وافته المنية2. ولا يتم عزل الفقيه المشاور إلا إذا طلب هو الاستعفاء، أو تمت ترقيته إلى منصب أعلى3، وكما ذكرنا من قبل أن هناك ظهير يصدر عند ترقية أحد الفقهاء للشورى، فإن ظهيراً آخر يصدر عند إعلان السخطة عليه وعزله عن منصبه، وكما أن الشهادات التي من قبل الفقهاء تسجل لصالحه في المرة الأولى، فهي في الثانية تثبت ضده، كلها تجرح في عدالته وتؤكد عدم أهليته لمنصبه. ويحدث أحياناً أن ترفع قضية من القضايا للأمير أو الخليفة فيها فتاوى الفقهاء، وبعد تقليبه لها، وتدقيقه   1- الصلة، ترجمة رقم 694. 2- ترتيب المدارك، 7/119-123. 3- تاريخ القضاء في الأندلس، ص378. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 828 فيها، يصدر حكمه على ضوئها، فربما تكون تلك الفتاوى سبباً في عزل أحد فقهاء الشورى1. وأما إذ كان الفقيه المشاور سيء الذكر فإن العزل مصيره، فالفقيه المشاور محمد بن يحيى بن لبابه لم يكن بالمرضي في نفسه وكان الثناء عليه من أقرانه قليلاً2، ولذا فقد سجل عليه قاضي الجماعة الحبيب بن زياد سخطته، ثم رفع ذلك إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر الذي أصدر ظهيراً بإسقاط ابن لبابه عن منزلة الشورى، وأمره بلزوم بيته وعدم إفتاء أحد3. وللأمور السياسية دور في العزل عن خطة الشورى، وهذا ما فعله المنصور بن أبي عامر مع الفقيهين أصبغ بن الفرج الطائي وأبي بكر بن وافد بسبب عدم إفتائهما بجواز التجميع بمسجد الزاهرة4. وقد عرفنا من قبل أنه لا يتم إسقاط الفقيه المفتي عن مرتبته إلا بشهادة الفقهاء ضده بأنه غير أهل للرتبة التي هو فيها، وعلى هذا الأساس يرفع قاضي الجماعة كتاباً للأمير أو الخليفة بهذا الخصوص، فيصدر من لدنه ظهيراً بإسقاط ذلك المفتي من مرتبته.   1- قضاة قرطبة، ص59-60. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1231. 3- ترتيب المدارك، 6/87. 4- المصدر السابق، 7/159-160. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 829 وبالرغم من أن الفقيه المشاور ابن العطار قد أُسقط عن منزلته نتيجة موقف سياسي، إلا أننا وجدنا في قصته أنموذجاً واضحاً لمشاور جُرِّد من منصبه ثم أعيد إليه. فبعد أن سلَّط عليه الحاجب المنصور بن أبي عامر قاضي الجماعة ابن زرب وبقية الفقهاء، جاءت الشهادات ضده من جميع الفقهاء إلا القلة، وعلى ضوء ذلك تم إسقاط ابن العطار عن منزلته وأوصى إليه المنصور بأن لا يغادر منزله ومنعه من الاختلاط بالناس، وبعد وفاة القاضي ابن زرب الذي كان المنصور يستحي منه كلما أراد إعادة ابن العطار لمنصبه، أصدر المنصور أمره لصاحب الشرطة بالبحث في شأن عدالة ابن العطار فظهرت وثيقة بصلاحه وإقتدائه بالسلف واعتدال طريقته، شهد فيها ثقاتهم وعلماؤهم، ثم رفعت الوثيقة للمنصور، فجمع أهل العلم وأفتوا بسقوط السخطة عنه، فرفع المنصور الوثيقة إلى الخليفة هشام المؤيد، فأصدر ظهيراً أمر به قاضي الجماعة ابن برطال بإعادة ابن العطار إلى منصبه1. من هذه القصة - بغض النظر عن ملابساتها - نعرف أن ليس بالإمكان إسقاط فقيه مفتي عن منصبه إلا بإجماع أغلب شهادات الفقهاء ضده، وتُذكر الأشياء المأخوذة عليه، ثم إذا صلحت حاله وشهد الثقات بعدالته، بعد أن يبحث صاحب الشرطة في شأن حال ذلك الفقيه، يرفع   1- نفسه، 7/150-154. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 830 ذلك كله للحاجب، والذي هو بدوره يوصلها للخليفة فيصدر من قبله ظهيراً يأمر فيه قاضي الجماعة بإعادة ذلك الفقيه إلى منصبه السابق. نماذج لبعض فقهاء الشورى: هذه صور لبعض فقهاء الشورى، لأصحابها شخصيات خاصة بهم ميزتهم عن بقية نظرائهم، ولا يعني التميز هنا الأفضلية، بل لتخلقهم بأخلاق نأت بهم على الأقل عما عُرف عن زملائهم من سعة في العلم واتصاف بالورع والقدوة بالسلف الصالح. فهذا الفقيه عبد الأعلى بن وهب، المتوفى سنة 261هـ (874م) تأثر بكتب المعتزلة وأهل الكلام وكان يقول أن الأرواح تموت1، وذكر القاضي عياض أن عبد الأعلى بن وهب "كان يُزن بالقدر2" وكانت نظرة الفقهاء المعاصرين له بالذات يحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب وإبراهيم بن حسين بن عاصم لا تنم عن القبول3، وعندما أفتى ابن وهب بعدم سفك دم ابن أخي عجب الذي تطاول على جناب الله تعالى، أرسل الأمير عبد الرحمن الأوسط فتاه حسان ليوصل رسالته لصاحب المدينة فيبلغها بدوره لابن وهب، وقد جاء في رسالة الأمير " ... وأما أنت يعني   1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 837. 2- ترتيب المدارك، 4/245. 3- المصدر السابق، والصفحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 831 عبد الأعلى فكان يحيى بن يحيى يشهد عليكم بالزندقة ومن كانت هذه حالة فحري ألا يسمع فتياه1". الفقيه أبو عبد الله محمد بن غالب المعروف بابن الصفار، المتوفى سنة 295هـ (908م) كانت الفتيا دائرة عليه مع عبد الله بن يحيى ومحمد بن لبابه وأصحابهم، لكنه مالت به الدنيا فكان يتبع الهوى في فتياه ويخلط2. الفقيه أبو عبد الله محمد بن وليد بن محمد، المتوفى سنة 309هـ (922م) كانت للأمير عبد الله ابن محمد عناية به، وكان طويل اللسان، كثير الملق، وكان يضع الأحاديث وينسبها للرسول صلى الله عليه وسلم، ويرفعها للأمير عبد الله، وقد اشتهر أمره بالكذب حتى أن خالد بن سعد كان يقول "محمد بن وليد كذاب"3. الفقيه أبو محمد عبد الله بن محمد الأنصاري المعروف بابن واقزن المتوفى سنة 320هـ (932م) ذكر ابن الفرضي عن أبي أيوب سليمان بن أيوب أن ابن واقزن كان "يضرب على الخطوط في الشهادات ويدلس في العقود، شهد بذلك مرة وثانية، فأوصى إليه أسلم بن عبد العزيز القاضي أن يلزم بيته ويترك الوثائق والشهادات والفتيا، فلم يزل كذلك إلى أن توفي4".   1- قضاة قرطبة، ص 60. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1148. 3- المصدر السابق، ترجمة رقم 1180. 4- نفسه، ترجمة رقم 675. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 832 الفقيه المشاور أبو بكر محمد بن إبراهيم الكتاني، المعروف بابن جيويه، المتوفى سنة 328هـ (940م) وصف بأنه كان متشبها بأهل الدنيا، خارجاً من طبقة أهل العلم1. الفقيه أبو الأصبع عيسى بن مكرم الغافقي المتوفى سنة 336هـ (947م) كان متصرفاً في الفتيا وعقد الشروط، وفي نفسه لم يكن بالمشهور في العلم ولا بالنافذ فيه2. الفقيه أبو الأصبغ عيسى بن محمد بن إبراهيم الكتاني، المتوفى سنة 374هـ (985م) كان مشاوراً في الأحكام، فلما تولى محمد بن إسحاق بن السليم قضاء الجماعة، ترك مشاورته فقد كان أقرب في العلم إلى الأدب من الفقه والحديث، وهو أشبه بأهل الدنيا من طلبة العلم ولذا لم يؤخذ عنه لأنه لم يكن أهلاً لذلك3. الفقيه موسى اليحصبي المعروف بالوتد، المتوفى سنة 377هـ (978م) يقول عنه ابن الفرضي بأنه "كان ينُسب إليه تخليط كثير شُهر به وعُرف منه4". الفقيه أبو محمد عبد الله بن محمد الصابوني، المعروف بابن بركه، المتوفى سنة 378هـ (988م) قدمه قاضي الجماعة ابن زرب للشورى،   1- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 204. ابن الفرضي ترجمة رقم 1221. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 983. 3- المصدر السابق، ترجمة رقم 989. 4- نفسه، ترجمة رقم 1466. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 833 فلم يزل يستفتى مع المشاورين إلى وفاته، رغم أنه كان موصوفاً بقلة العلم1. الفقيه أبو العاص أمية بن أحمد بن حمزة القرشي الأموي، المتوفى سنة 393هـ (1003م) شاوره قاضي الجماعة ابن زرب، وتولى أحكام الشرطة، والذي تجدر ملاحظته أن أبا العاص كان متأخراً في علمه وعقله2. أبو الوليد عبد الله بن محمد بن السليم، المتوفى سنة 402هـ (1012م) قدمه الخليفة سليمان المستعين لخطة الشورى، وذلك أيام الفتنة تنويها بمكانه، رغم أنه لم يكن أهلاً لذلك3. الشورى زمن الفتنة: عندما اندلعت الفتنة وعمت قرطبة وما جاورها، تركت أثراً قويا على خطة الشورى، فهي من جهة جعلت الكثير من فقهاء الشورى يهربون من قرطبة ينشدون الأمان في بلد غيرها، وهذا لا يعني أنهم سوف يتولون الشورى في البلاد التي هربوا إليها، ذلك أن الخليفة الذي عينهم أساساً هو لا يملك من الأمر شيء، إذ أن البلاد أخذت بالتجزؤ، وأصبح لكل مقاطعة حاكم جديد، وتم تولية من هرب من قرطبة من فقهاء الشورى في وظائف قضائية وتنفيذية في الكور التي لجأوا إليها.   1- نفسه، ترجمة رقم 743. 2- نفسه، ترجمة رقم 266. 3- ترتيب المدارك، 6/289. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 834 ومن جهة أخرى فإن الفتنة فتحت المجال أمام من هم ليسو أكفاء لتولي خطة الشورى، فرغبتهم في المناصب ازدادت، وأصبحت أمامهم فرصة أخذ الأموال دون تمييز طيبها من خبيثها، بل المجاهرة فيها هي ديدنهم، وازدادت أعدادهم فإذا كنا قد عرفنا أن أعلى عدد لهم هو ستة عشر فقيهاً مشاوراً، فإن عددهم في عهد الخليفة المستكفي كان أربعين رجلاً. وقد حفظ لنا ابن بسام نصاً لابن حيان يصف به حال الشورى زمن الفتنة، فبعد أن ذكر تهافت الناس بكافة فئاتهم على الخطط، قال: " ... فأسهم منهم الفقهاء، فآثر العلية منهم المشاورين أصحاب الفتوى بالإرقاء إلى خطة الوزارة،.. ففتنوا بهذه الخطة وشدوا أيديهم عليها وهجروا من حطهم في خطاب عنها، معرضين بما يعاب من ذلك، إلى أن مضوا بسبيلهم، وارتقى المستكفي أيضاً بكثير ممن يحمل المحابر، ويدرس مسائل الدفاتر، ومن أصاغر الطبقة الفقهية، إلى ما بلغت عليتهم من منزلة الشورى، فوسم كافتهم بوسم الفتوى، فأسرف في ذلك، حتى بلغ عددهم بقرطبة يومئذ إلى الأربعين، وذلك مالم يعهد في الغابرين1". وأما عن حال الشورى في عهد الخليفة هشام المعتد بالله، فقد قال ابن حيان: "وزاد في رزق مشيخة الشورى من مال العين، ففرض لكل واحد خمسة عشر ديناراً مشاهرة، فقبلوا ذلك على خبث أصله، وتساهلوا في مأكل لم يستطبه فقيه قبلهم على اختلاف السلف في قبول جوائز   1- الذخيرة، ق1م1 ص435-436. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 835 الأمراء الذين سكبوا خبائث الضرائب والمكوس القبيحة، فاستدر القوم مرية هذه الطعمة الخبيثة، وكنت أحسب فقهاء الشورى بعده أنهم يكتمون شأن ذلك الراتب حتى سمعت أبرهم يُلح في طلبه، وينتظر بلوغ وقته، فانكشف لي شأنه، والقوم أعلم بما يأتونه وهم القدوة لا جعلهم الله لنا فئة وقد حُدثتُ أن هشاماً أطعمهم من قمح ولد القاضي ابن ذكوان أيام فرَّ عنه وأخذ ماله فقبلوه قبول مال الفيء1". الفقهاء المشاورون في الكور: كان عدد الفقهاء المشاورين في كور الأندلس أقل من نظرائهم في قرطبة، فعلى سبيل المثال نجد أن قاضي شذونه يشاور ثلاثة فقهاء سوية هم: أبو مروان حمدان بن سعدون بن بطال التميمي المتوفى سنة 364هـ (975م) 2، وأبو عثمان سعيد بن يوسف الخولاني، المعروف بابن البيضاء3، المتوفى آخر سنة 365هـ (976م) 4وأبو عثمان سعيد بن مرشد العكي كان مشاوراً في الأحكام مع أصحابه، ثم رحل حاجاً وعند عودته توفي بمصر سنة 373هـ (984م) 5.   1- المصدر السابق، ق3 م1 ص517-518 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 380. 3- ابن الفرضي، ترجمة رقم 512 4- ترتيب المدارك، 7/16. 5- المصدر السابق، ترجمة رقم 515. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 836 وقد حفظت لنا المصادر أسماء من كان في الكور من فقهاء مشاورين، منهم: الفقيه حفص بن عمر، المتوفى سنة 288هـ (901م) من أهل وادي الحجارة، كان مفتياً ببلده1. الفقيه أبو عبد الله محمد بن سليمان بن محمد بن تليد المعافري، المتوفى سنة 295هـ (908م) من أهل وشقه، كان مفتي موضعه وإليه كانت الرحلة في وقته، وكان شديد العصبية للمولدين2، كما كان "رأس فقهاء الثغر، المتقدم فيهم، يقر له بذلك الجميع ويقفون عند أمره ولا يعدون فتياه3". الفقيه أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن عيسى المرادي، من أهل استجة، وكان له ببلده قدر عظيم في الفتيا والرئاسة، ثم انتقل إلى قرطبة حيث توفي بها أواخر أيام الأمير عبد الله بن محمد4. الفقيه أبو علي حسن بن شرحبيل، من أهل بطليوس، كان فقيهاً عالماً في موضعه، وكان مدار الفتيا عليه في وقته إلى أن توفي أخر أيام الأمير عبد الله بن محمد5.   1- نفسه، ترجمة رقم 367. 2- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 196. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1149. 3- ترتيب المدارك، 4/472. 4- ابن الفرضي، ترجمة رقم 320. 5- المصدر السابق، ترجمة رقم 238. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 837 الفقيه عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم، من أهل طليطلة، كان صاحب فتيا ببلده، توفي قريباً من سنة 300هـ (912م) 1. الفقيه محمد بن سعيد بن حكم، من أهل بجانة، تولى الإفتاء بها حتى وفاته سنة 303هـ (915م) 2. الفقيه أبو وهب حزم بن الأحمر، تولى الإفتاء ببلده بطليوس حتى وفاته سنة 305هـ (917م) 3. الفقيه محمد بن ميمون، تولى الإفتاء ببلده طليطلة حتى وفاته سنة 305هـ (917م) 4 الفقيه محمد بن عبد الله بن محمد بن بدرن الحضرمي، تولى الإفتاء ببلده الجزيرة حتى وفاته سنة 311هـ (923م) 5. الفقيه نابغة بن إبراهيم بن عبد الواحد المتوفى سنة 313هـ (925م) من أهل إلبيرة من قلعة يحصب، كان متصرفاً في الفتيا وعقد الشروط6.   1- نفسه، ترجمة رقم 863. 2- نفسه، ترجمة رقم 1161. 3- نفسه، ترجمة رقم 362. 4- نفسه، ترجمة رقم 1169. 5- نفسه، ترجمة رقم 1182. 6- نفسه، ترجمة رقم 1495. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 838 الفقيه سعدان بن إبراهيم بن عبد الوارث، يعرف بابن الجرز، من أهل رية، ومن ساكني أرجذونه، كان حافظاً للمسائل مفتياً بموضعه إلى أن توفي سنة 316هـ (928م) 1 الفقيه محمد بن أحمد بن حزم بن تمام، المتوفى قريباً من سنة 320هـ (932م) من أهل طليطلة، كان مفتيا فيها2. الفقيه عثمان بن محمد بن أحمد بن مدرك، من أهل قبره، كان معتنياً بالعلم، حافظاً للمسائل، عاقداً للشروط، تولى الإفتاء ببلده حتى وفاته سنة 320هـ (932م) 3. الفقيه عمر بن عبد الخالق من أهل الجزيرة، تولى الإفتاء بها حتى وفاته سنة 320هـ (932م) 4. الفقيه أبو الحسن علي بن عبد الله بن أبي شيبه الكلابي المتوفى سنة 325هـ (937م) من أهل اشبيلية، كان مشاوراً في الأحكام مع نظرائه، كما أنه كان بصيراً بالفتيا، لكنه كان مشهوراً بالكذب5.   1- نفسه، ترجمة رقم 543. 2- نفسه، ترجمة رقم 1207. 3- نفسه، ترجمة رقم 893. 4- نفسه، ترجمة رقم 948. 5- نفسه، ترجمة رقم 920. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 839 الفقيه سعدان بن معاوية المتوفى سنة 327هـ (939م) انتقل من بلده قرطبة وسكن إقليم القصب فكان مفتي أهل ذلك الموضع وعاقد شروطهم1. الفقيه جحاف بن يمن، المتوفى سنة 327هـ (939م) من أهل بلنسية، وعليه كان مدار الفتيا ببلده2. الفقيه محمد بن إبراهيم بن إسحاق، المتوفى سنة 328هـ (940م) كان فقيه حاضرة باجه وصاحب فتياهم نحواً من ثلاثين سنة3. الفقيه أبو المطرف عريف مولى ليث بن فضيل، المتوفى سنة 328هـ (940م) من أهل لورقه كان ضابطاً للفقه، بصيراً بالفتيا، جامعاً للعلم، بلغ مبلغ السؤدد في موضعه وكان معوّل أهل لورقه في وقته عليه4. الفقيه أبو رزين هشام بن محمد بن أبي رزين، من أهل شذونه، كان حافظاً للمسائل، مفتي أهل شذونه وما والاها، وكان يرحل إليه للسماع منه، كان معظماً في موضعه حتى أدركته الوفاة بحاضرة شريش سنة 336هـ (947م) 5.   1- نفسه، ترجمة رقم 544. 2- ترتيب المدارك، 6/178-179. 3- ابن الفرضي ترجمة رقم 1224. 4- المصدر السابق، ترجمة رقم 1005. 5- نفسه، ترجمة رقم 1546. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 840 الفقيه أبو القاسم عيسى بن خلف الخولاني، المتوفى سنة 342هـ (953م) من أهل اشبيلية، كان حافظاً للمسائل، عالماً بها، مقدماً في الفتيا بموضعه1. الفقيه أبو سعيد فرج بن سلمة بن زهير البلوي، المتوفى سنة 345هـ (956م) أصله من باجه، وانتقل إلى فحص البلوط، كان حافظاً للرأي على مذهب مالك، عاقداً للشروط، مشاوراً في الأحكام2. الفقيه أبو عثمان سعيد بن أحمد بن رمح الخولاني، المتوفى بعد سنة 350هـ (961م) من أهل شذونه، كان معتنياً في موضعه مقدماً في الشورى ببلده3. الفقيه محمد بن حصين، المتوفى سنة 351هـ (962م) من أهل بلنسية كان عالماً فقيهاً نبيهاً نبيلاً حاد الفهم، وعليه وعلى أبي جعفر جحاف بن يمن كان مدار الفتيا في وقتهما ببلنسيه4. الفقيه أبو عبيد قاسم بن خلف بن فتح بن عبد الله، المتوفى سنة 371هـ (981م) يعرف بالجبيري، أصله من طرطوشه، كان فقيهاً   1- نفسه، ترجمة رقم 986. 2- ترتيب المدارك، 6/126. 3- ابن الفرضي، ترجمة رقم 509. 4- ترتيب المدارك، 6/178. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 841 عالماً، حسن النظر. وقد عهد الخليفة الحكم المستنصر إلى الحكام بمشاورته، فكان صدراً في أهل الشورى1. الفقيه أبو محمد عبد الله بن محمد الحارث بن منتيل، المتوفى سنة 379هـ (989م) كان صدراً فيمن يستفتى ببلده استجه2. الفقيه أبو الأصبغ عيسى بن أبي العلاء، من أهل تدمير، تولى الفتيا في موضعه حتى توفي سنة 391هـ (1001م) 3. الفقيه أبو محمد قاسم بن حامد الأموي، من أهل ريه، كان مدار الفتيا ببلده عليه وعلى صاحبه محمد بن عوف 4. الفقيه مهدي بن عمر الجذامي، من أهل استجه، تولى الفتيا ببلده، ثم رحل أيام الفتنة إلى قرطبة فتوفي بها5.   1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1077. 2- المصدر السابق، ترجمة رقم 745. 3- نفسه، ترجمة رقم 993. 4- نفسه، ترجمة رقم 1061. 5- نفسه، ترجمة رقم 1487. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 842 المبحث السادس: خطة السوق"الحسبة" عُرفت هذه الخطة في المشرق باسم "الحسبة"1 لكنها في الأندلس كانت تعرف باسم: خطة السوق ويطلق على من يتولاها: صاحب السوق، وهذا هو الاسم الذي استخدمه القاضي ابن سهل عند تعديده للخطط التي من حق أصحابها إصدار الأحكام2. ولعل الأندلسيين استخدموا مصطلح "صاحب السوق" دون "الحسبة" ربما لكون عمل صاحب السوق كان أكثره متعلق بالأسواق وما يجري فيها، فمن ذلك قد يكون اكتسب التسمية. إلا أن الأندلسيين لم يتمادوا في استخدام هذا المصطلح، إذ ما إن حل القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) حتى أصبح استخدام مصطلح "المحتسب" شائعاً في الأندلس3. لأجل ذلك آثرت استخدام مصطلح "خطة السوق" لأنه هو السائد في الأندلس طيلة فترة الدراسة. وتجمع المصادر على ما لهذه الخطة من أهمية، وذلك لارتباطها الوثيق بخطط القضاء والشرطة والمظالم.   1- عن الحسبة في المشرق وأشهر المصادر عنها، انظر: الأحكام السلطانية، ص208-224. نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص10-216. معالم القربة في أحكام الحسبة، ص7-242. ابن تيمية، الحسبة، ص79-398. 2- النباهي، ص5. 3- خطة الحسبة في النظر والتطبيق والتدوين، 17-18. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 843 فالماوردي يرى أنها "واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم1" وقد وافقه السقطي على ذلك2، بينما يرى المجيلدي أنها "بين خطة القضاء وخطة الشرطة جامعة بين نظر شرعي ديني وزجر سياسي سلطاني3". فهي تهدف إلى العناية بكل ما يكفل السعادة للإنسان من أبواب الدين والدنيا4، ولأجل هذا كان لابد من وجود سمات معينة، يتحلى بها من يلي هذه الخطة، إذ ينبغي أن يكون فقيهاً نزيه النفس، عالي الهمة، ظاهر العدالة، معروفاً بالأناة والحلم، يقظاً، حاد الفهم، بحيث لا ترتجى لشدة يقظته غفلته، ولا تؤمن على ذي منكر سطوته5، خبيراً بأحوال المجتمع وسياسة أفراده، لا يستفزه مطمع، قوي الشخصية بحيث لايجرؤ أحد على الاستهانة به، وفي الوقت نفسه لا تأخذه في الله لومة لائم6.   1- الأحكام السلطانية، ص209. 2- آداب الحسبة، ص2. 3- أحمد سعيد المجيلدي، التيسير في أحكام التسعير، (تقديم وتعليق: موسى لقبال، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر 1970م) ص42. 4- رسالة ابن عبدون، ص21. 5- السقطي، ص20،24. المجليدي، ص42. 6- رسالة ابن عبدون، ص20. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 844 وبالجملة فإن الصفات التي يجب أن يتحلى بها صاحب السوق، هي نفسها التي يجب أن يكون عليها أصحاب الخطط الدينية لأن الأمر مرتبط بأمور شرعية لها وضع خاص. ويتم تعيين صاحب السوق من قبل الأمير أو الخليفة الأموي، وذلك بعد استشارة قاضي الجماعة بالنسبة لمن يلي السوق بقرطبة، وقضاة الكور لمن يلي الأسواق بها1. وأما ابن عبد ون فيرى أن القاضي هو الذي يعين صاحب السوق، شريطة أن يستشير ولي الأمر، وعلل ذلك بقوله: "لتكون للقاضي حجة عليه إن أراد أن يعزله أو يبقيه2". ويتسلم صاحب السوق مرتبه الشهري، من بيت المال، ورغم أن المصادر لم توضح مقدار هذا المرتب، إلا أنه لابد أن يكون قد روعي فيه أن يكفي حاجته3. وقد ذكر ابن سعيد أثناء حديثه عن عبد الرحمن الأوسط أنه هو الذي ميَّز ولاية السوق عن غيرها من الخطط، وجعل رزق صاحبها ثلاثين ديناراً في كل شهر4.   1- تاريخ القضاء في الأندلس، ص383. 2- رسالة ابن عبدون، ص20. 3- المصدر السابق والصفحة. 4- المغرب في حلى المغرب، 1/46. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 845 ونظراً لكون أحوال الناس في المجتمع الإسلامي، لا تضبط إلا من خلال أمور الدين، لأجل هذا، نرى اهتماماً كبيراً من بني أمية في الأندلس، بأمر السوق ومن يتولاه، ويتضح هذا الاهتمام بصورة مجملة من خلال بعض الأحداث التي ذكرتها كتب التراجم. فقد ذكر ابن الفرضي أن العباس بن قرعوس الثقفي كان يلي السوق بقرطبة، في عهد الأمير الحكم الربضي، وقد عُرف العباس بالشدة وأنه لا تأخذه في الله لومة لائم، فقد التقى في أحد الأيام أثناء خروجه من قرطبة، برسول لسعيد الخير الكبير وهو يحمل وعاءً فيه شراب، فنظر إليه العباس، وأمر بأخذه، فأخبر الرسول بأن مولاه عند الأمير، وأنه أمره بإحضاره، فما كان من العباس إلا أن أمر بكسر الإناء وإهراق ما فيه، ثم ضرب الرسول ضرباً موجعاً، فلما علم سعيد الخير بأمر رسوله، أنهى الخبر للأمير، وحرضه ضد العباس، لكن الأمير لم يلتفت لقول سعيد، بل خاطبه قائلاً: "هذا قوة لملكنا، ألا استتر رسولك؟ 1". وهذا الفقيه محمد بن خالد بن مرتنيل، المعروف بالأشج، المتوفى سنة 224هـ (839م) تولى عدة خطط في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، من بينها السوق، وقد كان صلباً لا تأخذه في الله لومة لائم، كان لا يهاب أحداً من جلاس الأمير، وكان ينفذ عليهم من الحقوق ما ينفذه على السوقة والعوام، وقد ضرب رجلاً من أصحاب الأمير يعرف   1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1084. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 846 بالتمار أصاب منكراً، أربعمائة سوطاً ثم حبسه، فضج فيه أصحاب الأمير وأكثروا عليه عنده، وزينوا له عزله، لكنه أبى واكتفى بان أمرهم بالتحفظ منه، وحدث أن عزله الأمير عشية، لكنه رده صباحاً لما رأى من سداده1. وعندما حدثت المجاعة الشديدة في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، وحاول بعض الأشرار الاستفادة من هذا الظرف الطارئ لمصلحتهم، على حساب أمن الآخرين وحرياتهم، وعندما كثرت الشكاوى من ذلك، لجأ الأمير محمد للقضاء على ذلك العبث، إلى تولية إبراهيم بن حسين بن عاصم، المتوفى سنة 256هـ (870م) خطة السوق، ومنحه صلاحيات واسعة، بحيث أذن له بالتنفيذ في القطع والصلب بلا مؤامرة منه ولا استئذان2. وفي عهد الأمير عبد الله بن محمد: 275-300هـ (888-912) كان سعيد بن محمد السليم يلي خطة السوق، فظهرت منه صرامة في عمله أكسبته مهابة، لما فعله بأحد غلمان المطرف بن الأمير عبد الله، فقد تطاول ذلك الغلام على ابن السليم وهو في مجلس نظره بوسط السوق، فما كان من ابن السليم إلا أن أمر أعوانه بإحضار الغلام عنده، فشق أثوابه، وضربه مائتي سوط، وأرسل به إلى السجن، وخاطب من وقته   1- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 126. 2- قضاة قرطبة، ص 103-104. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 847 الأمير عبد الله بخبره بما جرى، فما كان من الأمير إلا أن صوَّب فعله واستحسنه، وأدرك عظم كفاءته، ولذا فبعد مدة يسيرة، رفعه إلى الوزارة ثم ولاه الحجابة1. وصاحب السوق لا يستطيع أن يقوم بكل شيء بمفرده، فهناك أعوان له يساعدونه في أداء مهامه، وهو بدوره يقوم بمراقبتهم، ويتفقدهم دائماً، فلا يجعل لأحد شغلاً معيناً كوزن الخبز على الخبازين وغيره، لأن ذلك مدعاة لرشوته، كما يجب على صاحب السوق ألا يخبر أعوانه عن وجهته لأمر من أمور الخطة، إذ ربما حدث تواطؤ من أحدهم مع أحد أصحاب المهن، فيرسل إليه يعلمه بمقدم صاحب السوق، فيغير كل فاسد لديه، وبذلك لا يمكن إقامة الحجة عليه، ويتولى صاحب السوق بنفسه إعدام الشيء الفاسد2. ولصاحب السوق مجلس في وسط السوق، يجري فيه أحكامه3 فإذا أراد التجول في الأسواق، نهض ومعه أعوانه، وفي يد أحدهم ميزان، يزن به الخبز، لأنه معلوم الوزن لديهم، كما أن اللحم موضح عليه سعره من خلال ورقة تلصق به، لذا لا يمكن التدليس على أحد بقيمتها، لأن الكل يخشى من صاحب السوق الذي كان يعمد إلى إرسال صبي صغير أو جارية فتشتري إما خبزاً أو لحماً، فيزنه بميزانه، فإن وجده ناقصاً، علم أنه   1- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص5. 2- السقطي، ص24. 3- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 848 غشاش، فيعاقبه بالضرب والتجريس في الأسواق، فإن لم يتب نفاه من البلد1. وتحدثنا كتب التراجم الأندلسية، عن مهام صاحب السوق، فهو بالإضافة إلى مراقبته للأسواق، وما يجري فيها من عمليات البيع والشراء، يقوم بمعاقبة من يشهد زوراً، فقد ذكر القاضي عياض أن إبراهيم بن حسين خالد بن مرتنيل، المتوفى سنة 249هـ (863م) "ضرب شاهد زور عند باب الجامع أربعين سوطاً وحلق لحيته وسخَّم وجهه2". كما يتولى صاحب السوق، أمر من يأتي بشيء من الأمور الدينية غير معروف في البلد، مثلما جرى في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن عندما قام صاحب السوق أبو عبد الله محمد بن الحارث بن أبي سعيد القرطبي، المتوفى سنة 260هـ (874م) باستدعاء الفقيه محمد بن عبد السلام الخشني، المتوفى سنة 286هـ (899م) بعد عودته من المشرق، وذلك عندما بلغه أنه يقول إن في القرآن ناسخاً ومنسوخاً3. ومن بين المهام التي يضطلع بها صاحب السوق، الإشراف على توسعة الشوارع الضيقة، وبالذات ما يمكن أن يطلق عليها الشوارع التجارية، فقد ذكر ابن حيان أنه يوم السبت لثمان خلون من جمادى   1- نفح الطيب، 2/218-219. 2- ترتيب المدارك، 4/244. 3- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1134. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص250-256. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 849 الأولى سنة 361هـ (فبراير 972م) أصدر الخليفة الحكم المستنصر بالله أمره لصاحب الشرطة والسوق أحمد بن نصر "بتوسيع المحجة العظمى بسوق قرطبة؛ لضيقها عن مخترق الناس وازدحامهم فيها، وهدّ الحوانيت المتحيّفة لعرضها، المضيقة لسبيلها، كيما ينفسح الطريق ولا يضيق بالواردين والصادرين1". وقد تولى السوق بقرطبة عدد من الأعلام الأندلسيين، منهم: العباس بن أبي قرعوس بن عبيد الثقفي، تولى السوق في عهد الأمير الحكم الربضي، وقد كان معروفاً بالشدة والقسوة على أهل الريب، حتى أنه كان يضربهم ضرباً شديداً، الأمر الذي أقلق ابنه قرعوس، فسأل الإمام مالك عن الضرب الذي كان والده يضربه للناس فأجابه الإمام بقوله: "إن كان فعل هذا غضباً لله وذباً عن محارمه فأرجو أن يكون خفيفاً2". وقد ورث الفقيه قرعوس بن العباس خطة السوق عن أبيه وسلك سبيله في التشدد على أهل الريب3، وكان ممن اتُهم بأمر هيج الربض سنة 202هـ (818م) فوقاه الله شر سطوة الأمير الربضي، وقد توفي قرعوس سنة 220هـ (835م) في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط4.   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص71. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1084. 3- تاريخ القضاء في الأندلس، ص385. 4- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1084. ابن حيان، المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص79-80. الحميدي، جذوة المقتبس، ترجمة رقم 780. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 850 الفقيه محمد بن مرتنيل، المعروف بالأشج، المتوفى سنة 224هـ (839م) ولي السوق بقرطبة، وكان صلباً في أحكامه، ورعاً فاضلاً لا تأخذه في الله لومة لائم1. الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن حسين بن خالد بن مرتنيل، المتوفى في شهر رمضان سنة 249هـ2 (أكتوبر 863م) كان يلي السوق بقرطبة سنة 232هـ (847م) وفي ذلك الوقت هدم ابن مرتنيل حوانيت بني قتيبة، مخالفاً في ذلك علماء عصره، فتظاهروا عليه، وأبانوا خطأه، وأيد قاضي الجماعة معاذ بن عثمان الشعباني رأيهم وفسخ حكم ابن مرتنيل3. الفقيه أبو الوليد حسين بن عاصم بن كعب الثقفي، تولى السوق بقرطبة في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، وقد اتصف بالشدة على أهل الريب فكان يضرب ضرباً شديداً4. الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن حسين بن عاصم، المتوفى شهر رجب سنة 256هـ5 (يونيو 870م) ورث خطة السوق عن والده في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن وقد عهد إليه الأمير بالتحفظ، وأذن له   1- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 126. ترتيب المدارك، 4/117-118. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1. 3- قضاة قرطبة، ص56-57. 4- ابن الفرضي، ترجمة رقم 351، المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص77. وأُختلف في تاريخ وفاته وقد ناقش ذلك القاضي عياض، انظر: ترتيب المدارك، 4/120-121. 5- ابن الفرضي، ترجمة رقم 3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 851 بالعقوبات بلا مؤامرة ولا استئذان، فبلغ من الشدة مبلغاً حاد فيه عن سنن القضاء1. أبو عبد الله محمد بن الحارث بن أبي سعيد، أقره الأمير محمد بن عبد الرحمن على الشرطة، وولاه السوق، فلم يزل في منصبه حتى توفي سنة 260هـ 2 (784م) ، وقد كان ابن الحارث أشد الثلاثة القائمين على الفقيه بقي بن مخلد، المتوفى سنة 276هـ (889م) والفقيه محمد بن عبد السلام الخشني، المتوفى سنة 286هـ (899م) وذلك بعد عودتهما من المشرق، وقد عُرف ابن الحارث بقلة الفقه3، وبالأفن والجهالة4. عبد الله بن حسين بن عاصم الثقفي، تصرف للأمير محمد في خطط عدة، منها خطة السوق، وقد كان "عسوفاً فيها متمرداً على الغاشين من التجار والصناع له في ذلك أخبار معروفة5". وممن تولى خطة السوق في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن أحد رجال البربر، يدعى سليمان بن محمد بن أصبغ بن وانسوس، كان من   1- ترتيب المدارك، 4/254-255. 2- أخبار الفقهاء، والمحدثين، ترجمة رقم 145. 3- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1107. 4- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص250-256. 5- المصدر السابق، ص186. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 852 الأدباء والأشراف وقد عزله الأمير محمد عن السوق بسبب كلمة بدرت منه استهجنها الأمير وعابها عليه فعزله1. ومن الذين تولوا خطة السوق في عهد الأمير عبد الله بن محمد الفقيه المشاور أبو صالح أيوب بن سليمان المعافري، المتوفى يوم الخميس لسبع بقين من شهر المحرم سنة 203هـ2 (أغسطس 914م) . وقد ذكر القاضي عياض أن أبا صالح المعافري تولى السوق "ضرورة وحمية وذلك لذلة نالته من بعض العامة، وقيل بسبب فران رفضه3" وقد عزل عن السوق كراهية من أهلها كما يقول ابن الفرضي4 لكن هذا القول لا يمكن الاطمئنان إليه متى ما عرفنا أن أبا صالح، كان جواداً سمحاً على قلة ماله، حسن الأخلاق والمعاشرة5" فمن كانت هذه صفاته، كيف يكون مكروهاً من الآخرين؟ لكن لعل سبب العزل ما ذكره الخشني من أن أبا صالح صاحب السوق "كان له ختن جعل إليه شيئاً من أمور السوق، فكان ذلك سبب عزله6".   1- نفسه، ص189-191. 2- ترتيب المدارك، 5/153. 3- المصدر السابق، 5/105. 4- ابن الفرضي، ترجمة رقم 267. 5- ترتيب المدارك، 50/150. 6- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 853 وذكر ابن عذاري أنه في سنة 295هـ (908م) توفي محمد بن يحيى بن أبي غسان صاحب السوق، وتولى الخطة بدلاً منه يحيى بن سعيد بن غسان1. ولعل سعيد بن محمد السليم هو أشهر من تولى السوق في عهد الأمير عبد الله، والسبب في شهرته يعود إلى فعلته بغلام المطرف بن الأمير عبد الله مما أهله للوزارة ومن ثم الحجابة2. وفي شهر ربيع الآخر من سنة 301هـ (نوفمبر 913م) أصدر الأمير عبد الرحمن بن محمد أوامره بعزل عمر بن أحمد بن فرج، المتوفى سنة 305هـ3 (917م) عن خطة السوق، وجعل مكانه محمد بن عبد الله الخروبي4، لكنه لم يلبث إلا أقل من سنة، ثم تولى السوق بدلاً منه أحمد بن حبيب بن بهلول، وذلك سنة 302هـ5 (914) . ويبدو أن ابن بهلول قد استمر في ولاية السوق فترة طويلة، وهو أمر يخالف ما عُرف عن سياسة الأمير عبد الرحمن بن محمد "الناصر" القائمة على عدم بقاء أحد من رجاله في منصبه أكثر من سنة أو سنتين، وقد ظل ابن بهلول في ولاية السوق حتى شهر شوال من سنة 313هـ (يناير   1- البيان المغرب، 2/144. 2- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص5. 3- البيان المغرب، 2/171. 4- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص97. 5- المصدر السابق، ص103. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 854 926م) حيث أصيب بعلة أبطلت حركته، فتولى السوق بدلاً منه يحيى بن يونس القبري1. وهناك خطة أخرى موازنة لخطة السوق، وهي خطة تغيير المنكر، وقد ظهرت هذه الخطة في سنة 326هـ (938م) وهي السنة التي عُزل فيها حسين بن أحمد بن عاصم عن خطة السوق، وقدم إلى خطة تغيير المنكر2. وقد انحصر وجود خطة تغيير المنكر، في قرطبة فقط، دون بقية كور الأندلس، والسبب في إنشائها يعود إلى حرص الدولة الأموية، بقيادة الخليفة عبد الرحمن الناصر إلى الوقوف في وجه المد الباطني القادم بقوة من الشمال الأفريقي3، بدعم شديد من العبيديين الذين حاولوا التسلل إلى الأندلس من خلال زحف أفكارهم الباطنية في الوسط الاجتماعي هناك. وعندما تسلط الحاجب المنصور بن أبي عامر على الخليفة هشام المؤيد، جعل على ولاية السوق وقضاء جيان، أبا المطرف عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الرعيني، المعروف بابن المشاط، المتوفى في شهر جمادى الآخرة من سنة 397هـ4 (مارس 1007م) .   1- البيان المغرب، 2/191. 2- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 428. 3- تاريخ القضاء في الأندلس، ص388. 4- تريتب المدارك، 7/197. الصلة، ترجمة رقم 678. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 855 والملاحظ أن هناك تقارباً شديداً بين خطتي السوق والشرطة، إذ أن كلاً منهما ذات اتصال وثيق الجماهير، وعليهما تقع مسئولية حفظ الأمن والنظام، ومن أجل تحقيق التكامل بين هذين الجهازين يحدث أحياناً الجمع بينهما في يد موظف واحد. فقد كان محمد بن الحارث المتوفى سنة 260هـ (874) يلي الشرطة والسوق للأمير محمد بن عبد الرحمن1، كما كان أحمد بن يونس الجذامي، المعروف بالحراني، يلي خطتي الشرطة والسوق للخليفة هشام المؤيد بالله2. وآخر من جمع هاتين الخطتين محمد بن محمد بن إبراهيم القيسي، المتوفى لثلاث عشر ليلة خلت من شهر المحرم سنة 342هـ (1040م) فقد كان يلي الشرطة والسوق بقرطبة في عهد الخليفة هشام المعتد بالله، وكان القيسي معروفاً بالصرامة في أحكامه3. وهناك وظيفة نشأت داخل ولاية السوق، وهي وظيفة الإفتاء في السوق، وقد نشأت هذه الوظيفة منذ عصر الإمارة4، فقد كان الفقيه القرطبي علي بن محمد العطار، المتوفى في شهر ربيع الأول سنة 306هـ   1- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 145. 2- طبقات الأمم، ص 190-191. التكملة (طبعة أبي شنب) ترجمة رقم 22. 3- الصلة، ترجمة رقم 1142. 4- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 390. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 856 (أغسطس 918م) يلي منصب المفتي في السوق، وذلك في عهد الأمير عبد الله بن محمد1. وفي عصر الخلافة كان الفقيه أبو عبد الله محمد الحداد، فضيل بن هذيل، يتولى الفتيا في السوق وقد استشهد الحداد في موقعة الخندق، وذلك يوم الجمعة لعشر بقين من شهر شوال سنة 327هـ2 (يوليو 939م) . يوسف بن سمؤال، كان مفتياً في السوق بقرطبة، توفي في القرن الرابع الهجري3. الفقيه أبو عمر أحمد بن هلال بن زيد العطار، كان مفتياً في السوق بقرطبة، توفي في أواخر شهر صفر سنة 364هـ4 (نوفمبر974م) .   1- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 385. 2- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 217. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1219. وقد ورد فيهما أن أبا عبد الله هذا اسمه محمد بن فيصل، وتابعهما في ذلك الأستاذ عبد الرحمن الفاسي، في خطة الحسبة، ص71. ولكني اخترت ما أثبته في المتن متابعة لما ذهب إليه الأستاذ محمد خلاف في تاريخ القضاء في الأندلس، ص391. وذلك؛ لأن اسم فيصل غير شائع إطلاقاً آنذاك، فضلاً عن إمكانية الخلط بينه وبين فضيل، كما أن أبا عبد الله لم يكن نسبه المعروف هو الحداد ولكن لقب بهذا اللقب لملازمته لسوق الحديد. 3- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1630. 4- المصدر السابق، ترجمة رقم 150. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 857 المبحث السابع: خطة الشرطة : يقول ابن سعيد الأندلسي: "وأما خطة الشرطة1 بالأندلس فإنها مضبوطة إلى الآن، معروفة بهذه السمة، ويعرف صاحبها في ألسن العامة بصاحبة المدينة وصاحب الليل2". وعندما تحدث ابن خلدون عن "الشرطة" ذكر أن صاحبها يعرف بالأندلس بـ"صاحب المدينة3". من هذين النصين يتبادر إلى الذهن بأن صاحب الشرطة هو صاحب المدينة، أو أن امتزاجاً حصل بين المنصبين لدرجة أنه يصعب الفصل بينهما، وهذا ما وقع فيه البعض4، لكن الحقيقة خلاف ذلك، فالمدينة لها موظف خاص كما هو الحال بالنسبة للشرطة، ويكفي للدلالة على ذلك أن القاضي ابن سهل الأندلسي، المتوفى سنة 486هـ (1093م) ذكر أن   1- عن كلمة الشرطة ونشأة نظامها: انظر: محمد الشريف الرحموني، نظام الشرطة في الإسلام إلى أواخر القرن الرابع الهجري (الدار العربية للكتاب 1983م) ص29-61. د. أرسن موسى رشيد، الشرطة في العصر الأموي (ترجمة: د. أحمد مبارك البغدادي، الكويت، مكتبة السندس، ط الأولى 1410هـ/1990م) ص15-17. 2- نفح الطيب، 1/218. 3- مقدمة ابن خلدون، ص 687. 4- محمد رضا عبد العال، النظام القضائي في الأندلس، في عهد الخلافة الأموية 316-447هـ (رسالة ماجستير، كلية الآداب، جامعة القاهرة 1402هـ (1982م) لم تطبع) ص128. L.provencal: Op. Cit, V, III: P: 158. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 858 هناك خططاً ستاً تجري على يد أصحابها الأحكام وهي: القضاء والشرطة والمظالم والرد والمدينة والسوق1 ففصل بذلك خطتي الشرطة والمدينة، ولاشك أن ابن سهل أدرى بأخبار الأندلس من ابن سعيد وابن خلدون. وعندما نستعرض كتابات المؤرخ ابن حيان عن الاحتفالات التي تقام بمناسبة الأعياد أو الزيارات الدبلوماسية، نجد ان صاحب الشرطة يأتي في الترتيب بالجلوس بعد صاحب المدينة2. ومن هنا ندرك أن للشرطة في الأندلس جهازاً قائماً بذاته، كما أن الشرطة بأقسامها وصلاحيات أصحابها تعطي دلالة على ضخامتها وكثرة عدد أفرادها. ويعرف من يلي خطة الشرطة في الأندلس بصاحب الشرطة أو والي الشرطة أو الشرطة، أو صاحب الأحكام3. ويأتي تعيينه عن طريق الأمير4 أو الخليفة5، ويصدر في هذه المناسبة سجل يحوي أمر التعيين6.   1- النباهي، ص5. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص30 وغيرها. 3- انظر، ابن الفرضي، تراجم رقم 3،166،167،208،326،707،746،1073،1101، 1107، 1287،1301،1325، 1327. 4- أخبار مجموعة، ص91. 5- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص252. 6- البيان المغرب، 2/235. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 859 وأول من تولى الشرطة لبني أمية في الأندلس هو عبد الرحمن بن نعيم، فقد ولاه الأمير عبد الرحمن الداخل الشرطة بمجرد أن وضع يده على قصر قرطبة بعد انتهاء معركة المصارة1. وبعد أن استوثق الأمر للأمير عبد الرحمن الداخل ولى شرطته الحصين بن الدجن بن عبد الله العقيلي، لما عرف عنه الأمير من صالح بلائه وشدة بأسه ونجدته وموقفه من يوسف الفهري ووزيره الصميل2. ومن خلال كتاب أرسله الخليفة الأموي بالشام مروان بن محمد إلى ولده عبد الله يمكن الوقوف على السمات التي يجب توافرها فيمن يلي الشرطة فقد جاء في الكتاب: "فول شرطتك وأمر عسكرك أوثق قوادك عندك، وأظهرهم نصيحة لك، وأنفذهم بصيرة في طاعتك، وأقواهم شكيمة في أمرك، وأمضاهم صريمة، وأصدقهم عفافاً، وأجزأهم غناء، وأكفاهم أمانة، وأصحهم ضميراً، وأرضاهم في العامة ديناً، وأحمدهم عند الجماعة خلقاً، وأعطفهم على كآفتهم رأفة، وأحسنهم لهم نظراً، وأشدهم في دين الله وحقه صلابة، ... مجرباً، ذا رأي وتجربة وحزم في المكيدة، له نباهة في الذكر، وصيت في الولاية، معروف البيت، مشهور الحسب3". كما تحدث ابن عبد ون عن تلك السمات فذكر أن صاحب الشرطة -الحاكم- لابد "أن يكون رجلاً خيراً، عفيفاً، غنياً، عالماً، متحنكاً في   1- أخبار مجموعة، ص91. 2- الحلة السيراء، 2/354-355. 3- صبح الأعشى، 10/215-216. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 860 علم الوثائق ووجوه الخصومات، ويكون ورعا، لا يرتشي ولا يميل، ويجري في حكمه وأمره إلى الحق والاعتدال، ولا يخاف في الله لومة لائم، ويكون أكثر جريه في حكمه إلى الإصلاح بين الناس1". ولقد كانت تلك السمات متوفرة في معظم أصحاب الشرطة لدى بني أمية في الأندلس، فأبو عبد الله محمد بن خالد الأشج، المعروف بابن مرتنيل، المتوفى سنة 220هـ (835) كان فقيها فاضلاً، ورعاً صليباً، ولاه الأمير عبد الرحمن الأوسط الشرطة والصلاة معاً2. ولكن وجد بالمقابل من تولى الشرطة وهو خالٍ من بعض تلك السمات، فقد وجد من أصحاب الشرطة من كان متأخراً في علمه وعقله3، وهناك من كان قليل العلم4، "ولعل سبب اختيار هؤلاء وأمثالهم في خطة الشرطة هو شرف بيوتاتهم ونباهتها5" فضلاً عن أن الخطط لدى أمويي الأندلس متوارثة، أي أنها محصورة في بيوتات معينة، ولذا فإنه يتم تعيين أحد أبناء تلك الأسرة في تلك الخطة حتى وإن كان يعاني من نقص معرفي وعقلي نوعاً ما، وحفاظاً على عدم خروج أي خطة في الدولة عن أي من الأسر المساندة لبني أمية.   1- رسالة في القضاء والحسبة، ص11. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1101. 3- المصدر السابق، ترجمة رقم 266. 4- الصلة، ترجمة رقم 1102. 5- تاريخ القضاء في الأندلس، ص487. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 861 أقسام الشرطة: عندما وجدت الشرطة في الدولة الأموية في الأندلس، لم تكن خطة قائمة بذاتها، وإنما كانت مضافة إلى غيرها من الخطط، بالذات ولاية السوق؛ ولأجل هذا لم تكن مقسمة إلى أقسام، واستمر الوضع على هذه الصورة حتى أوائل القرن الثالث الهجري، ففي عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط تم فصل الشرطة عن ولاية السوق1، وأصبحت الشرطة منقسمة إلى قسمين: الشرطة الكبرى، والشرطة الصغرى، وإلى هذين القسمين أشار ابن خلدون أثناء حديثه عن الشرطة لدى بني أمية في الأندلس2. ولكن ابن سهل الأندلسي ذكر أن الشرطة لدى بني أمية كانت منقسمة إلى ثلاثة أقسام: شرطة كبرى، شرطة صغرى، وشرطة وسطى3، ولا ريب أن ابن سهل آكد من ابن خلدون في هذا؛ لقربه من الأحداث؛ ولوجود ما يؤيد قوله، وذلك ما ذكره ابن حيان من إنشاء الشرطة الوسطى سنة 317هـ4 (929) . وهناك فروع للشرطة، منها: فرع مختص بالعسس، وهو الطواف بالليل أو ما يسمى في الأندلس بالدرابين، ومهمة أولئك الدرابين المحافظة على الأمن عند حلول المساء، إذ ينشط الأشرار، فلا "تكاد في الأندلس   1- المغرب في حلى المغرب، 1/46. 2- مقدمة ابن خلدون، ص687. 3- تاريخ القضاء في الأندلس، ص471. 4- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص252. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 862 تخلو من سماع دار فلان دخلت البارحة، وفلان ذبحه اللصوص على فراشه1"، وقد سمي هذا الفرع بالدرابين ذلك "لأن بلاد الأندلس لها دروب بأغلاق تغلق بعد العتمة، ولكل زقاق باءت فيه، له سراج معلق وكلب يسهر وسلاح معدّ2". وأما الفرع الآخر فهو "شرطة العدو" وهذا الفرع أنشأه الأمير عبد الرحمن الأوسط، وعندما حقق الدكتور محمود مكي كتاب المقتبس لابن حيان، لم يهتد إلى إعطاء تفسير لها، واكتفى بالقول بأن تحريفاً وقع في ألفاظها أو سقط منها شيء،3 وتابعه في ذلك بعض الباحثين4، إلا أن أحد الأساتذة المهتمين بالدراسات التاريخية الأندلسية وهو الدكتور محمد خلاف ذكر أن شرطة العدو هي فرقة من الشرطة أشبه ما تكون برجال الدرك إذ أن كلا الطرفين يستخدمان الخيل في عملهما، ويكون مكان تواجد شرطة العدو خارج أبواب قرطبة، وذلك لمراقبة الخارجين منها والداخلين إليها، من اللصوص وقطاع الطرق الذين يستخدمون الخيل في تنقلاتهم فتقوم شرطة العدو بمطاردتهم والقبض عليهم؛ لينالوا   1- نفح الطيب، 1/219. 2- المصدر السابق، والصفحة. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 38، حاشية رقم 3. 4- النظام القضائي في الأندلس، ص128. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 863 الشرطة الكبرى مختصة بشئون الخاصة، والشرطة الصغرى مختصى بالعامة، ونظراً لأن الخليفة عبد الرحمن الناصر كان صاحب تجديدات في الدولة، فإنه لم يشأ أن يزيد تكاليف أي من الشرطتين الكبرى والصغرى، ولأجل هذا فقد أمر بإنشاء الشرطة الوسطى سنة 317هـ (929م) لتتولى شئون تلك الفئة الجديدة وأول من تولاها هو سعيد بن جدير1. وقد ذكر ابن حيان أن الخليفة عبد الرحمن الناصر جعل الرزق الشهري لصاحب الشرطة الوسطى وسطاً بين الشرطتين الكبرى والصغرى2 وعلى هذا الأساس وبناء على التطور الهائل الذي أصبحت عليه الدولة الأموية في زمن الخليفة عبد الرحمن الناصر يمكن أن نتوقع رزقاً شهرياً لأصحاب الشرطة الثلاثة يتناسب والرخاء الاقتصادي الذي كانت تعيشه الدولة آنذاك3. والمصادر لم تحدثنا عن الزي الذي يرتديه صاحب الشرطة، لكننا من خلال قصة رويت عن عالم المرية القاضي أبي الحسن الرعيني، المتوفى سنة 435هـ (1043ـ 1044م) يمكن أن نتصور الشكل العام الذي   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 252. 2- المصدر السابق، والصفحة. 3- تجدر الإشارة إلى أن ابن حيان ذكر أن الخليفة الحكم المستنصر بالله أصدر أوامره في شهر رمضان سنة 361هـ) بتولية علي بن أبي الحسين الشرطة الصغرى مجموعة له إلى عمل القضاء بالثغر، وجعل مرتبه ثلاثين ديناراً في الشهر. انظر: المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص81. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 865 يظهر به صاحب الشرطة، فهو رجل يمشي مظهراً قوته من خلال سرعة مشيته، بعد أن يشمر ثيابه ويمسك بيده عصا1، وإن كنّا نتوقع أن الأمير أو الخليفة لابد وأن يمنح صاحب الشرطة زياً خاصاً يعرف به بين الناس. أهمية منصب صاحب الشرطة: تتضح أهمية منصب صاحب الشرطة، من خلال المهام المناطة به، وقبل الحديث عن هذه المهام نشير إلى قول شيخ الإسلام ابن تيمية من أن صاحب الشرطة في المغرب ليس له حكم في شيء وإنما هو منفذ لأحكام القاضي2، وفي هذا دلالة على تبعية صاحب الشرطة للقضاء، ويبدو أن هذا كله كان في بداية عهد الدولة الأموية في الأندلس، إذ أن ابن خلدون يذكر في حديثه عن الشرطة أنها كانت في البداية تقوم "باستيفاء الحدود3" أي تنفيذ الأحكام التي يصدرها القاضي، بعد أن تقوم بجمع الأدلة ضد المتهم، وإثباتها عليه، ثم أنهم أرداوا أن ينزهوا القاضي عن النظر في بعض الجرائم التي تتعلق بالحدود كالزنا وشرب الخمر، فاختصروا الوقت الذي يستلزم عرض مثل هذه القضايا على القاضي وجعلوها مناطة بالشرطة؛ لأنها هي التي تستوفي الأدلة، الأمر الذي أدى إلى انفصال الشرطة عن القضاء.   1- نفح الطيب، 3/381. 2- شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية، الحسبة في الإسلام، (نشرها، قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة 1387هـ) ص8. 3- مقدمة ابن خلدون، ص687. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 866 وقد سبق أن عرفنا أن في الدولة الأموية بالأندلس تنقسم الشرطة إلى ثلاثة أقسام:- الشرطة الصغرى: أنشأها الأمير عبد الرحمن الأوسط، وذلك عندما ميَّز الشرطة عن ولاية السوق، ويُذكر أن الفقيه المفتي حارث بن سعيد هو أول من تولى الشرطة الصغرى، ولم يزل عليها إلى أن توفي سنة 221هـ (836م) 1 ومجلس صاحب الشرطة يكون في مشبَّك يُبنى له خصيصاً في سقيفة المسجد الجامع بقرطبة مع مشبك مجلس القاضي2 وذلك لكي يحضر مجلس القاضي للتشاور معه في الأمور التي تحتاج لابداء المشورة، بالإضافة إلى إيجاد رقابة من القاضي عليه، فيكون دائماً تحت نظره، يراجع أحكامه ويبحث في سيرته3.   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص80-99. ومما تجدر الإشارة إليه أن ابن حيان ذكر أن الأمير الحكم الربضي هو الذي ولى حارث بن أبي سعد الشرطة الصغرى، فكان أول من وليها، وأن الأمير عبد الرحمن الأوسط أقره عليها، انظر: المقتبس، تحقيق: مكي، ص 99. 2- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 79. 3- ابن عبدون، رسالة في القضاء والحسبة، ص13. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 867 الشرطة الوسطى: أنشأها الخليفة عبد الرحمن الناصر سنة 317هـ (929م) وأول من تولاها سعيد بن حدير، ولعل مجلس صاحبها يكون مع صاحب الشرطة الصغرى في المسجد الجامع أو أحد مساجد البلد1. الشرطة العليا: وهذه من ابتكارات الأمير عبد الرحمن الأوسط، ولعل محمد بن خالد بن مرتنيل المعروف بالأشج، المتوفى سنة 220هـ (835م) هو أول من تولاها2. ويذكر ابن خلدون أن صاحب الشرطة الكبرى - العليا - كان ينصب له "كرسي بباب دار السلطان ورجاله يتبوءون المقاعد بين يديه، فلا يبرحون عنها إلا في تصريفه3". والشرطة العليا هي أهم أنواع الشرطة وأعلاها مرتبة، ولأجل هذا فقد "كانت ولايتها للأكابر من رجالات الدولة، حتى كانت ترشيحاً للوزارة والحجابة4".   1- تاريخ القضاء في الأندلس، ص486. 2- ترتيب المدارك، 4/117-118. وقد اعتبرت محمد الأشج أول من تولى الشرطة العليا رغم عدم تصريح المصادر بذلك، لأني قد وجدت معاصره ابن سعيد كان يلي الشرطة الصغرى، بالإضافة إلى سطوة الأشج بأحد أصحاب الأمير، وهذا لا يكون إلا لصاحب الشرطة العليا. 3- مقدمة ابن خلدون، ص 688. 4- المصدر السابق والصفحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 868 ومن خلال تتبع المصادر الأندلسية حاولت أن أخرج بقائمة تحوي أسماء أصحاب الشرطة بأنواعها الثلاث، مسلسلة زمنياً قدر الاستطاعة. فعندما وصل الأمير عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس واصطدم بواليها يوسف الفهري، جعل عبد الرحمن بن نعيم والياً لشرطته مكافأة له على نصحه إياه وتحذيره ممن أراد الفتك به1. وبعد أن استوثق الأمر للأمير عبد الرحمن الداخل جعل على شرطته الحصين بن الدَّجْن بن عبد الله العُقيلي، الذي كان على خيل الداخل يوم المصارة، كما أنه يعتبر فارس أهل الشام بأساً ونجده، وعندما كُتب عقد الأمان بين الأمير عبد الرحمن الداخل وبين يوسف الفهري كان الحصين أحد شهود العقد2 وبعده تولى الشرطة قاسم بن أبي ... 3. وفي عهد الأمير هشام الرضا بن عبد الرحمن الداخل تولى الشرطة كل من: الحسن بن بسام وعبد الغافر بن أبي عبده4. وفي عهد الأمير الحكم الربضي تولى الشرطة كل من جودي بن أسباط السعدي5 ومن بعده محمد بن كليب بن ثعلبة6 وعندما وصل   1- أخبار مجموعة، ص 91. 2- الحلة السيراء، 2/354-355. 3- ذكر بلاد الأندلس، 1/110. 4- البيان المغرب، 2/61. 5- المقتبس، تحقيق: انطونيه، ص 123. ذكر بلاد الأندلس، 1/126. 6- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، 38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 869 عبد الرحمن بن الحكم للإمارة أقر محمد بن كليب بن ثعلبة على الشرطة ثم رقاه إلى الوزارة1، ثم نظم الشرطة وقسمها قسمين كما عرفنا من قبل، فتولى الشرطة الصغرى شخصيات عدة، منها:- حارث بن أبي سعد الفقيه المفتي، المتوفى سنة 222هـ (837م) 2، ومن بعده تولاها محمد بن الحارث، ورغم أنه اتصف بقلة العلم، إلا أن الأمير عبد الرحمن الأوسط ولاه الشرطة الصغرى؛ لأن من سياسة الأمويين إبقاء الخطط متوارثة في أسر معينة، ولم يزل محمد بن الحارث يلي الشرطة الصغرى طيلة عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط فلما توفي تولى الإمارة ابنه محمد أقر ابن الحارث على الشرطة الصغرى، وولاه السوق، وظل بالولاية حتى وفاته سنة 260هـ (874م) 3. وفي عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن تولى الشرطة الصغرى أبو سعيد محمد ابن عبد الرحمن بن إبراهيم، وقد ذكر الخشني قصة وقوف صاحب الشرطة محمد بن عبد الرحمن في وجه قاضي الجماعة أحمد بن زياد اللخمي عندما أراد أن يحبس محمد بن يوسف4.   1-المصدر السابق، تحقيق: د. محمود مكي، 29،38. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 326. ترتيب المدارك، 4/113. 3- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1107. 4- قضاة قرطبة، ص 65-66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 870 كما تولاها موسى بن محمد بن زياد الجذامي1، قبل أن يلي قضاء الجماعة، وكذلك تولاها مسرور المعلم2. وفي عهد الأمير عبد الله بن محمد كان الفقيه أبو عبد الله محمد بن سعيد الموثق، المعروف بابن الملون، يلي الشرطة الصغرى بعهد من الأمير لكنه لم يستمر في منصبه إذ مات في صدر أيام الأمير عبد الله3. وعندما توفي الأمير عبد الله كان أحمد بن محمد بن حدير يلي الشرطة الصغرى، فأقره عليها الأمير عبد الرحمن بن محمد، ثم نقله منها إلى الوزارة والقيادة وذلك لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة 300هـ (ديسمبر سنة 912م) وولي مكانه محمد بن محمد بن أبي زيد، ثم عزله عنها وولاها يحيى بن إسحاق سنة 304هـ (916) 4 ثم أعاد ابن أبي زيد للشرطة الصغرى وذلك يوم السبت لخمس بقين من شوال سنة 310هـ (فبراير 923م) 5 وفي سنة 311هـ (924م) تولى الشرطة الصغرى يحيى بن يونس القبري6.   1- المصدر السابق، ص 94. 2- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 170. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1431. 3- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1125. ترتيب المدارك، 4/452. 4- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 134. البيان المغرب، 2/167. 5- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص182. البيان المغرب، 2/183. 6- البيان المغرب، 2/185. ورد الاسم لدى ابن عذاري "القبرسي" والتصحيح من المقتبس، تحقيق شالميتا، ص 314. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 871 وتولاها مع السوق والسكة يحيى بن عبد الله بن يونس المرادي، المتوفى سنة 326هـ (938م) 1 ثم تولاها حسين بن أحمد بن عاصم الذي تنازع مع الفقيه ابن لبابه في مجلس قاضي الجماعة محمد بن عبد الله بن أبي عيسى فاحتدم الخصام بين الاثنين مما تسبب في اضطراب جسم بن لبابة ففلج، وحمل إلى داره، وذلك يوم الخميس لثلاث خلون من ذي الحجة، وتوفي يوم الأحد لست خلون من ذي الحجة سنة 330هـ (أغسطس 942م) 2. ومن الذين تولوا خطة الشرطة في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي دليم، المتوفى في شهر جمادى الأولى سنة 351هـ (يونيو 962) كان نبيلاً في الحديث، ضابطاً لما روى، بصيراً في الإعراب، تولى قضاء إلبيرة وبجانه وأحكام الشرطة، وكانت له لدى الخليفة المستنصر منزلة خاصة3. ونظراً لشدة تعلق الخليفة المستنصر، بالعلم والعلماء، نجده يميل إلى تولية بعض العلماء لمناصب دولته، ومنها الشرطة، فبالإضافة إلى ابن أبي دليم نجد أبا عبد الله محمد بن أبان ابن سيد اللخمي، الذي كان عالماً   1- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 491. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1231. ترتيب المدارك، 6/92. 3- ابن الفرضي، ترجمة رقم 707. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 872 بالعربية واللغة، وحافظاً للأخبار والأنساب والأيام والمشاهد والتواريخ، يلي أحكام الشرطة للخليفة الحكم وله مكانة عنده1. وكذلك تولى الشرطة الصغرى أبو عبد الله محمد بن تمليخ التميمي، المتوفى في شهر رمضان سنة 361هـ (يوليو 972م) تولى خطة الرد والشرطة، وقد كانت له منزلة عند الخليفة الحكم المستنصر، كما كان عالماً بالطب2. ويذكر ابن حيان أنه في يوم السبت السادس من شهر شوال سنة 361هـ (21 يوليو 972) عُزل خالد بن هشام عن الشرطة الصغرى3 وكان قبل ذلك في شهر رمضان من العام نفسه قد تمت تولية علي بن محمد بن أبي الحسن الشرطة الصغرى مجموعة له إلى القضاء بالثغر، وبلغ رزقه ثلاثين ديناراً، وفي اليوم نفسه قدم أخوه حسن بن علي إلى الشرطة الصغرى أيضاً إلى ما يليه من قضاء الثغر4، كما تولاها لفترة وجيزة محمد بن يحيى بن عبد العزيز المعروف بابن الخراز، الذي لزم داره طيلة السنوات السبع الأخيرة من عمره، حيث توفي يوم الأحد لسبع خلون من شوال سنة 369هـ (28 إبريل 980م) 5.   1- المصدر السابق، ترجمة رقم 1287. 2- نفسه، ترجمة رقم 1301. 3- المقتبس، تحقيق: د. الحجي ص86. 4- المصدر السابق، ص81. 5- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1325. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 873 وفي صدر دولة الخليفة هشام المؤيد بالله، تولى أحكام الشرطة أبو عثمان سعيد بن أحمد بن محمد بن سعيد بن موسى بن حدير، ثم لزم بيته وانقبض عن الخدمة إلى أن توفي غداة يوم الثلاثاء لتسع بقين من ربيع الأول سنة 391هـ (فبراير 1001م) 1. كما تولاها في عهد الخليفة هشام المؤيد عدد من أعلام قرطبة، منهم:- أبو عبد الله محمد بن يحيى بن الخليل توفي لليلتين خلتا من رجب سنة 370هـ (8 يناير 981م) 2، والعالم اللغوي محمد بن حسن الزبيدي، المتوفى يوم الخميس مستهل جمادى الآخرة سنة 379هـ (5 ديسمبر 989م) 3، والأديب العالم أحمد بن أبان بن سيد، المتوفى سنة 382هـ (992م) 4، أبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد الأموي، المعروف بالجالطي، كان من أهل العلم والأدب والدراية والرواية، تولى أحكام الشرطة للخليفة هشام المؤيد بالله، فكان محموداً في حكومته، قتلته البرابرة يوم تغلبهم على قرطبة في جوف بيته مدافعاً عن أهله وولده، وذلك يوم الاثنين لست خلون من شوال سنة 403هـ (21 إبريل 1013م) 5.   1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 531. 2- المصدر السابق، ترجمة رقم 1328. 3- نفسه، ترجمة رقم 1357. 4- الصلة، ترجمة رقم 6. 5- المصدر السابق، ترجمة رقم 1060. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 874 وهذا الشاعر الطبني أبو عبد الله محمد بن الحسين بن محمد بن أسد الحماني، مشرقي، قدم الأندلس سنة 331هـ (943م) وكانت له عند العامريين حظوة خاصة، تولى بسببها الشرطة عندهم، وعاش إلى أن علت سنه، توفي غداة يوم الاثنين لثلاث بقين من ذي الحجة سنة 394هـ (أكتوبر 1004م) 1. ومحمد بن يحيى بن زكريا بن برطال، كان يلي الشرطة حتى سنة 381هـ (991م) 2. وعبد الرحمن بن محمد بن أحمد الرعيني المعروف بابن المشاط، المتوفى سنة 397هـ (1007م) كان يلي للحاجب المنصور بن أبي عامر أحكام الشرطة وخطة الوثائق السلطانية وقضاء إستجه وأشونه وقرمونة ومورور وتاكرنا، جمعهن له، وقد تنقل في وظائف عدة إلى أن توفي سنة 397هـ (1007م) 3. وعبد الله بن أحمد بن قند، المتوفى سنة 400هـ (1010م) 4. وعبد الله بن حسين بن إبراهيم بن حسين بن عاصم، المتوفى سنة 403هـ (1013م) 5 وعبد الملك بن   1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1406. قارن الصلة، ترجمة رقم 1304. 2- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1390. 3- الصلة، ترجمة رقم 678. 4- المصدر السابق، ترجمة رقم 565. 5- التكملة، (طبعة كويرا) ترجمة رقم 1277. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 875 مروان بن أحمد بن شهيد، المتوفى سنة 408هـ (1017م) 1 ومحمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن حدير، المتوفى سن 414هـ2 (1024م) . وأما الشرطة الوسطى فقد تعاقب على ولايتها شخصيات عدة، والأسماء التي سوف أوردها على أنها قد تولت الشرطة الوسطى، لم تصرح المصادر بتولي بعضها لتلك الخطة، وهذا قليل، وقد أدرجتها ضمن القائمة بناء على استقراء لبعض الأحداث التاريخية، وإن كان الأمر لا يمكن القطع به، فعندما أنشأ الخليفة عبد الرحمن الناصر الشرطة الوسطى، كان أول ولاتها هو: سعيد بن سعيد بن حدير، كما تولاها جعفر بن عثمان المصحفي المتوفى سنة 372هـ (982م) فقد استخدمه الحكم بن عبد الرحمن الناصر عندما كان وليا للعهد فاستكتبه "ورقاه إلى خطة الشرطة الوسطى والنظر في عدة من الأعمال والكور3". وفي سنة 329هـ (941م) تولى عبيد الله بن يحيى بن إدريس خطة الشرطة الوسطى4 وقد بلغ من تواضعه رحمه الله، انه رغم توليه الوزارة فيما بعد فقد كان يؤذن في مسجده، ولم تزده الخطط الرفيعة إلا تواضعاً، وقد توفي في أواخر ذي القعدة سنة 352هـ (نوفمبر 962م5) .   1- الصلة، ترجمة رقم 761. 2- المصدر السابق، ترجمة رقم 1099. 3- البيان المغرب، 2/254. 4- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص471. 5- ابن الفرضي، ترجمة رقم 767. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 876 كما شغل هذه الخطة في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله أبو محمد قاسم بن محمد بن قاسم بن سيار، المتوفى سنة 353هـ (964م1) . ويذكر ابن حيان أنه في شهر جمادى الأولى من سنة 361هـ (فبراير 9722) قدم الخليفة الحكم المستنصر بالله "محمد بن عبد الله بن أبي عامر إلى خطة الشرطة الوسطى مجموعة له إلى مافي يده من خطة المواريث والقضاء بإشبيلية ووكالة الأمير أبي الوليد هشام3". ويذكر ابن حيان أنه في الاحتفال الذي أقامه الخليفة الحكم المستنصر بالله بمناسبة عيد الأضحى لعام 362هـ (سبتمبر 974م) كان عبد الرحمن بن يحيى بن هشام التجيبي يلي الشرطة الوسطى حيث كان من بين الذين حجبوا الأمير هشام بن الحكم المستنصر4. وحدث أن عتب الخليفة الحكم المستنصر بالله على صاحب الشرطة الوسطى يعلى بن أحمد بن يعلى فأمر بإقصائه عن منصبه وذلك يوم السبت لسبع بقين من شهر رمضان سنة 364هـ (يونيو 975م5) .   1- تاريخ القضاء في الأندلس، ص491. 2- المقتبس، تحقيق: د. الحجي، ص72. وقد جعل ابن عذاري ذلك في شهر جمادى الآخرة، البيان المغرب، 2/251. 3- المقتبس، تحقيق: د. الحجي، ص72. 4- المصدر السابق، ص 185. 5- نفسه، ص228. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 877 وفي يوم الثلاثاء لخمس بقين من شعبان سنة 364هـ قدم عبد العزيز بن حكم التجيبي من الشرطة الوسطى إلى الشرطة العليا1. وفي يوم السبت العاشر من شهر صفر سنة 366هـ (أكتوبر 976) أصدر الخليفة هشام المؤيد بالله أوامره بترقية محمد بن أبي عامر من الشرطة الوسطى إلى خطة الوزارة2، وتولى بدلاً منه أبو القاسم نزار بن كوثر، المتوفى قريباً من سنة 380هـ (990م3) . وفي عهد تسلط الحاجب المنصور بن أبي عامر على الخليفة هشام المؤيد بالله، تولى الشرطة الوسطى عبد الله بن سعيد بن محمد بن بتري، المتوفى سنة 401هـ (1011م) وقد كلفه المنصور في ذلك الوقت بالإشراف على الزيادة التي أجراها على جامع قرطبة سنة 377هـ (987م4) . ويمكن اعتبار الفقيه إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحضرمي، المعروف بابن الشرفي، المتوفى في نصف شهر شعبان سنة 396هـ (مايو 1006م) آخر أصحاب الشرطة في عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر، فقد تولى خطط الشرطة والمواريث والصلاة والخطبة بالمسجد الجامع بقرطبة ولم يزل يشغلها حتى وفاته5.   1- نفسه، ص 225. 2- البيان المغرب، 2/254. 3- تاريخ القضاء في الأندلس، ص485. 4- التكملة، (طبعة كوديرا) ، ترجمة رقم 1277. البيان المغرب، 2/287. 5- ترتيب المدارك، 7/192-194. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 878 ومجلس صاحب الشرطة الوسطى يكون دائماً بعد صاحب الشرطة العليا ففي عيد الفطر الكائن في سنة 361هـ (16 يوليو 972م) جلس الخليفة الحكم المستنصر بالله وجلس كبار رجالات الدولة من حوله بالترتيب، وكان جلوس صاحب الشرطة الوسطى آنذاك محمد بن عبد الله بن أبي عامر تحت صاحب الشرطة العليا محمد بن سعد1. وعند استقبال الخليفة رجال دولته يكون ترتيب صاحب الشرطة الوسطى بالتسليم على الخليفة بعد صاحب الشرطة العليا2. وأما الشرطة العليا فيمكن اعتبار محمد بن خالد بن مرتنيل، المعروف بالأشج أول من تولاها في الأندلس، وذلك بالنظر إلى سلطته الواسعة، حتى أنه أدب أحد أصحاب الأمير عبد الرحمن الأوسط وحبسه، وعندما عاتبه الأمير على ذلك أجابه ابن مرتنيل بأنه عندما تولى الشرطة لم يوصه الأمير بمراعاة أحد دون أحد3، ومما يقوي اعتبار أن ابن مرتنيل أول من تولى الشرطة العليا أن معاصره حارث بن أبي سعد كان يلي الشرطة الصغرى، وهذا كانت وفاته سنة 222هـ (837) وابن مرتنيل توفي سنة 220هـ (835م) .   1- المقتبس، تحقيق: د. الحجي، ص81. 2- المصدر السابق، ص 30. 3- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 111. ترتيب المدارك، 4/117-118. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 879 كما تولى الشرطة العليا في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط سعيد بن عياض القيسي1، وكان حارث بن أبي سعد يلي الشرطة الصغرى في الوقت نفسه. وفي عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن كان على الشرطة العليا إبراهيم بن حسين بن خالد بن مرتنيل، المتوفى في شهر رمضان سنة 249هـ (نوفمبر 863م) وكما نلاحظ من نسبه فإنه من أسرة أفرادها هم أول ولاة الشرطة العليا، وقد عرف إبراهيم بن حسين بأنه كان خبيراً فقيهاً عالماً بالتفسير، واتصف بالصلابة في حكمه، والعدالة عندما كان والياً للشرطة وقد ذكر ابن لبابة أن إبراهيم هذا قد عاقب أحد شهود الزور بأن أقامه عند الباب الغربي لجامع قرطبة ثم ضربه أربعين سوطاً وحلق لحيته وسخم وجهه2. وممن كان يلي الشرطة العليا في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن الأديب الشاعر عبد الله بن عاصم، فقد كان رجلاً سريع البديهة كثير النوادر، ولذا فقد كان من جلساء الأمير محمد3. وكذلك إبراهيم بن حسين بن عاصم، المتوفى في شهر رجب من سنة 256هـ (يونيو 870م) 4 ويبدو أنه في عهد ولايته للشرطة العليا   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 38. 2- ترتيب المدارك، 4/242-244. المعيار المعرب، 2/215. 3- جذوة المقتبس، ترجمة رقم 560. 4- ابن الفرضي، ترجمة رقم 3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 880 قد كثر أهل الشر والفساد ولأجل هذا فقد قال عنه القاضي عياض، أنه قد غلب "على أهل الشر، وقد قتل وصلب كثيراً بلا مشاورة سلطان ولا فقيه1". وفي عهد الأمير عبد الله بن محمد كان مروان بن عبد الملك بن عبد الله بن أمية يلي الشرطة العليا، وظل في منصبه حتى عزله الأمير عن سخطه في سنة 283هـ (896م2) ثم أودع مع غيره في سجن المطبق بداخل قصر الإمارة حيث قتل ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 284هـ (14 سبتمبر 897م) 3. ثم تولى الشرطة من بعده موسى بن محمد بن زياد الجذامي، فقد كان على الشرطة الصغرى والرد ثم نقله الأمير للشرطة العليا4، واستمر في منصبه حتى تولى قضاء الجماعة بعد النضر بن سلمة الذي عزله الأمير عبد الله عن منصبه سنة 285هـ (898م) بعد أن استمر في القضاء مدة عشرة أعوام تقريباً5.   1- ترتيب المدارك، 4/254. 2- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص118. 3- المصدر السابق، ص122. 4- قضاة قرطبة، ص94. 5- المصدر السابق، ص 92-93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 881 وبعد موسى بن محمد بن زياد تولى الشرطة العليا عمه يحيى بن زياد، فلما توفي بقيت الشرطة دون والٍ مدة سنتين ثم وليها قاسم بن وليد الكلبي فظل عليها حتى توفي الأمير عبد الله بن محمد1. فلما تولى الإمارة الأمير عبد الرحمن بن محمد أقر قاسم بن وليد على الشرطة العليا2، ثم عزله عنها وجعل مكانه عيسى بن أحمد بن أبي عبد هـ3 ولأربع بقين من ربيع الآخر سنة 300هـ (ديسمبر 912م) عزل عيسى وجعل مكانه قاسم بن وليد4، ثم عزله عنها وجعل مكانه أحمد بن محمد بن مسلمة وذلك في شهر رجب من سنة 301هـ (مارس 914م5) . ثم عُزل عنها ابن سلمه وأعيد قاسم بن وليد إلى ولايتها6، ثم عزل مسخوطاً عليه وذلك أواخر ذي الحجة سنة 301هـ (يوليو 914م) وتولاها عباس بن الوزير القائد أبي عباس أحمد بن محمد بن أبي عبد هـ7 فاستمر في منصبه إلى أن قتل يوم الأحد مستهل ذي الحجة سنة 302هـ   1- البيان المغرب، 2/152. 2- المصدر السابق، 2/158. 3- نفسه، 2/159. 4- نفسه، 2/160. 5- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 81. 6- البيان المغرب، 2/164. 7- المصدر السابق، 2/165. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 882 (18 يونيو 915م) أثناء محاصرته مُنت روبي، فولى الأمير مكان عباس أخاه عبد الله بن أحمد إكراماً لأبيه ومواساة له1. وفي سنة 303هـ (915م) تولى الشرطة العليا محمد بن أبي زيد2، ثم عزل عنها في أواخر شهر ربيع الآخر من سنة 308هـ (سبتمبر 920م) وولاها مولاه دري بن عبد الرحمن3 الذي استمر في ولايته إلى سنة 316هـ (928م) فعزله الخليفة عبد الرحمن الناصر وولى مكانه أحمد بن أبي قابوس، وبعد شهر من ذلك أعاد الخليفة مولاه دري إلى الشرطة العليا4. ويذكر ابن حيان أنه في سنة 325هـ (938) كان صاحب الشرطة العليا عبد الله بن بدر أحد شهود عقد الأمان الذي أبرمه الخليفة عبد الرحمن الناصر لمحمد بن هاشم التجيبي5. وفي سنة 328هـ (940م) عزل عبد الله بن بدر عن الشرطة العليا وأضيفت مع خطة المظالم والوزارة لذي الوزارتين أحمد بن عبد الملك بن شهيد6. وفي سنة 330هـ (942م) أزاح الخليفة الشرطة عن ابن شهيد   1- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص107. البيان المغرب، 2/167. 2- البيان المغرب، 2/168. 3- المصدر السابق، 2/180. 4- نفسه، 2/199. 5- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص408. 6- المصدر السابق، ص461-462. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 883 وولاها مولاه نجدة بن حسين الحيري1. وفي سنة 347هـ (958م) كان أحمد بن يعلى هو صاحب الشرطة العليا2. هذا، وقد شغل خطة الشرطة العليا في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله عدد من الشخصيات هم بالترتيب: عبد الله بن بدر بن أحمد، محمد بن جهور3، هشام بن محمد بن عثمان، أحمد بن سعد الجعفري، أحمد بن نصر، يحيى بن عبيد الله بن يحيى بن إدريس، محمد بن سعد، عبد الرحمن بن رماحس، قاسم بن محمد بن قاسم بن طملس، أحمد بن عيسى بن فطيس، محمد بن عبد الله بن أبي عامر، رائق بن حكم الجعفري، رزق بن الحكم الجعفري، أحمد بن عبد الله بن بسيل وعبد العزيز بن حكم التجيبي4. وطيلة عهد الخليفة هشام المؤيد بالله وهي فترة تسلط الحجاب العامريين على الخلافة، تعاقب على الشرطة العليا مجموعة من رجالات الدولة منهم:   1- نفسه، ص487. 2- البيان المغرب، 2/221. 3- المصدر السابق، 2/235. 4- المقتبس، تحقيق: د. الحجي الصفحات:20،21، 44،66،72،81،89،106،119، 123، 149،151،184، 225. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 884 زياد بن أفلح1، محمد بن بسيل2 عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الرعيني المعروف بابن المشاط، المتوفى سنة 397هـ (1007م3) . وآخر من تولى الشرطة العليا في عهد الحجاب العامريين هو المدعو: ابن الرسان، كان رجلاً من سفَّال أهل قرطبة، ورغم ذلك ولاه الحاجب عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر، ولاه الشرطة العليا، وكان يصطحبه معه في عزواته، ويأمره أن ينادي في المعسكر بأن أمير المؤمنين المأمون -يعني نفسه- يأمركم بكذا وكذا4. وعندما تمكن محمد بن عبد الجبار المهدي من الاستيلاء على قرطبة، وصلب شنجول على باب السدة، أمر ابن الرسان صاحب شرطة شنجول أن ينادي عليه هذا شنجول المأبون، ثم يلعنه ويلعن نفسه، وذلك يوم السبت لأربع خلون من شهر رجب سنة 399هـ (1 مارس 1009م) 5. ولصاحب الشرطة دور أساسي في استتاب الأمن، والأمر متوقف على قوة شخصيته، ويعتبر محمد بن عبد الله بن أبي عامر أشهر من تولى خطة الشرطة في الأندلس، خاصة بعد انقضاء عهد الأمراء والخلفاء   1- تاريخ القضاء في الأندلس، ص486. 2- ذكر بلاد الأندلس، 1/174. 3- الصلة، ترجمة رقم 678. 4- البيان المغرب، 3/49. 5- المصدر السابق، 3/73. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 885 الأقوياء، ويمكن أن نتصور قوة ابن أبي عامر في هذا المجال من خلال ما ذكره ابن عذاري من أن أهل قرطبة كانوا، قبل سيطرة ابن أبي عامر على كرسي شرطة المدينة "في بلاء عظيم، يتحارسون الليل كله، ويكابدون من روعة طراقه ما لا يكابد أهل الثغور من العدو1" ولأجل القضاء على هذه المشكلة الحساسة قام "بسد باب الشفاعات وقمع أهل الفسق والذراعات، حتى ارتفع البأس، وأمن الناس، وأُمنت عادية المتجرمين من حاشية السلطان، حتى لقد عثر على ابن عم له يعرف بعسقلاجة، فاستحضره في مجلس الشرطة وجلده جلداً مبرحاً كان فيه حمامه2". وبذلك "ضبط المدينة ضبطاً أنسى أهل الحضرة من سلف من أفراد الكفاة وأولي السياسة3". وفي الاحتفالات الرسمية التي تقيمها الدولة سواء بمناسبة الأعياد أو الاستقبالات الدبلوماسية يكون ترتيب صاحب الشرطة العليا سواء في السلام على الخليفة أو حجابته بعد الوزير صاحب المدينة4، ويكون مكان جلوسه في القصر في المجلس القبلي بدار الوزراء مع أصحابه5.   1- البيان المغرب، 2/266. 2- المصدر السابق والصفحة 3- نفسه، والصفحة. 4- المقتبس، تحقيق: د. الحجي، ص 81. 5- المصدر السابق، ص 50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 886 أما المهام التي يضطلع بها صاحب الشرطة العليا فهي جسيمة ومتعددة، منها: قيادة الجيش وفرض الحصار1 وحضور عقد الأمان الذي يعقده الخليفة لأحد المناوئين التائبين2، كما يتم أحياناً تكليفه بقيادة الأساطيل البحرية3، وكذلك دفع التعويضات المالية للأهالي في إحدى الكور لقاء ما أخذته منهم الدولة من مواد بغية تجهيز السفن الحربية4 وفي بعض الأحيان يخرج صاحب الشرطة العليا على رأس طائفة من الجند؛ ليكون مددا لبعض قادة الجيش5، وبناءً على أوامر الخليفة يقوم صاحب الشرطة العليا بنفسه بإلقاء القبض على أحد كبار رجالات الدولة ووضعه في السجن6. ومن ناحية الأمور المتعلقة بالمسائل الدبلوماسية يتم تكليفه باصطحاب الرسل والوفود من مكان إقامتهم إلى قصر الخليفة لمقابلته7.   1- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص200-201، 213-214.المقتبس، تحقيق: د. الحجي ص92-100. 2- المقتبس، تحقيق شالميتا، ص408. 3- المقتبس، تحقيق د. الحجي، ص89 البيان المغرب، 2/222. 4- المقتبس، تحقيق: د. الحجي ص 101. 5- المصدر السابق، ص 106. 6- نفسه، ص153. 7- نفسه، ص47-77. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 887 وعندما يريد الخليفة أن يخرج أموالاً خاصة به، ليتم تفريقها على الفقراء والمساكين، تعبيراً منه على شكره لله تعالى لقاء أمر أدخل السرور على قلبه مثل ما فعل الخليفة الحكم المستنصر بالله عندما عاين إقبال ولده الأمير هشام على التعلم من مؤدبه الفقيه أحمد بن محمد بن يوسف الملقب بالقسطلي، ففي هذه الحالة يتم تكليف صاحب الشرطة العليا بتولي تفريق الأموال على الضعفاء والمساكين وأبناء السبيل1. ومن أجل نشر العدل في الرعية يتولى صاحب الشرطة العليا التحقيق في الشكاوى المرفوعة ضد بعض العمال2 كما يقوم بتنفيذ أوامر الخليفة أو الحاجب في الإفراج عن بعض المسجونين3. وفيما يتعلق بولي العهد فإن صاحب الشرطة العليا يقوم بأخذ البيعة لولي العهد من الناس على مراتبهم4 كما يقوم بأخذها له بعد استلامه الحكم5. وعندما يأمر الخليفة بإقامة بعض المنشآت العمرانية6 أو إجراء توسعة لبعض الشوارع الضيقة7، فإن صاحب الشرطة العليا يتولى   1- المقتبس، تحقيق: د. الحجي ص77. 2- المصدر السابق، ص100. 3- جذوة المقتبس، ترجمة رقم 215. 4- البيان المغرب، 2/194. 5- المصدر السابق، 2/254. 6- ابن الفرضي، ترجمة رقم 167. 7- المقتبس، تحقيق: د. الحجي، ص71. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 888 مسئولية الإشراف على إنجازها كما يتولى الإشراف على نقل الأشياء الهامة مثل النقل الذي تم لدار البرد من غرب قرطبة إلى دار الزوامل التي بالمصارة في طرف قرطبة1. لأجل هذا، فإن منصب الشرطة العليا من أهم مناصب الدولة الأموية في الأندلس، ولذا فلا يليه إلا كبار رجالات الدولة. وقد بلغ من اهتمام بني أمية في صاحب هذا المنصب أن من يليه يصبح ركوبه من على حجر يعرف بـ"حجر الأعزة2" في داخل القصر ولا يؤذن لأحد بالركوب منه إلا لخواص كبار رجالات الدولة. وصاحب الشرطة العليا حتى وإن بدا منه أحياناً العنف ضد بعض أصحاب أمراء وخلفاء بني أمية، فإن هذا لا يدفعهم إلى عزله أو تعنيفه، بل يعمدون إلى تحذير خواصهم من الوقوع بيده3، ويقرونه على منصبه؛ لإدراكهم أن في قوته ضمان للأمن، مما يكفل لهم عدم الاصطدام برعيتهم، وذلك بسبب إعطاء كل ذي حق حقه، دونما اعتبار إلى مكانة من ترتب عليه الحق، الأمر الذي يشعر الجميع بالرضا، وهو ما ينتج عنه بالنهاية استمرار حكم الأسرة الأموية.   1- المصدر السابق، ص 66. 2- نفسه، ص 225. 3- ترتيب المدارك،4/117-118. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 889 هذا، وقد أشار الأستاذ محمد خلاف عند دراسته لخطة الشرطة إلى نقطة جديرة بالملاحظة، وهي تكرار ورود لفظ "صاحب الشرطة العليا" عند ابن حيان دونما تحديد منه لمكان شغل هذه الخطة، واستشهد على ذلك بما ورد في المقتبس عن رسوم جلوس الخليفة الحكم المستنصر بالله في عيد الفطر سنة 362هـ/973م1 وكذلك في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة عيد الأضحى سنة 363هـ (974م2) بالإضافة إلى ما ورد في أحداث شهر رجب سنة 364هـ (975م3) . ومن ذلك استنتج الأستاذ خلاف أن تكرار لفظ "صاحب الشرطة العليا" المراد به تعدد كراسيها في قرطبة والزهراء وبقية الكور الأندلسية4، ورغم وجاهة هذا الاستنتاج إلا أنني أميل إلى استنتاجه الآخر الذي قال فيه: "أو ربما كان يجلس في هذه المقاعد كل من كان يشغل خطة الشرطة العليا الذين ما زالوا على قيد الحياة والحاليين حسب أقدميتهم وسنهم5".   1- المقتبس، تحقيق: د. الحجي ص119. 2- المصدر السابق، ص184-185. 3- نفسه، ص 216. 4- تاريخ القضاء في الأندلس، ص484. 5- المرجع السابق، ص484. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 890 ومما يرجع هذا الرأي عندي، أن اللقب الذي يحصل عليه أحد رجالات الدولة، لا يسحب منه بمجرد عزله عن ذلك المنصب، كما أن عزله لا يعني إبعاده عن الأمير أو الخليفة الأموي، إذ أن الأمر مرتبط بولاء شديد تقدمه الأسر التي تنحصر فيها الخطط للأسرة الأموية، والأخيرة بدورها تحرص كل الحرص على استمرارية هذا الولاء؛ لأنه يمثل سياج الحماية لها ضد كل المناوئين. توارث خطة الشرطة: خطة الشرطة في دولة بني أمية بالأندلس، كانت متوارثة، شأنها في ذلك شأن معظم خطط الدولة، فقد تعاقب على خطط الشرطة بدرجاتها الثلاث أبناء أسر معينة، فقد تولاها: حارث بن أبي سعد، المتوفى سنة 222هـ (8371) وخلفه عليها ابنه محمد المتوفى سنة 260هـ (874م2) ومن أسرة آل عاصم تولى الشرطة كل من: إبراهيم بن حسين بن عاصم، المتوفى سنة 256هـ (870م) 3، وعبد الله ابن عاصم الذي كان من جلساء الأمير محمد بن عبد الرحمن4،   1- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 79. ابن الفرضي، ترجمة رقم 326. ترتيب المدارك، 4/113. 2- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 145. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1107. 3- ابن الفرضي، ترجمة رقم 3. 4- جذوة المقتبس، ترجمة رقم 560. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 891 وحسين بن أحمد ابن عاصم1، وأخيراً عبد الله بن حسين بن إبراهيم بن عاصم المتوفى سنة 403هـ (1013م2) . ومن أسرة مرتنيل، تولى خطة الشرطة كل من: محمد بن خالد بن مرتنيل، المعروف بالأشج المتوفى سنة 220هـ3 (835م) كما تولاها إبراهيم بن حسين بن خالد بن مرتنيل، المتوفى سنة 249هـ (8634) . وهناك ثلاثة من أسرة ابن حدير تولوا خطة الشرطة، هم: سعيد بن سعيد بن حدير، وهو أول من تولى الشرطة الوسطى في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر سنة 317هـ (929م5) وسعيد بن أحمد بن محمد بن سعيد بن موسى بن حدير، المتوفى سنة 391هـ6 (1001م) وأخيراً محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن حدير، المتوفى سنة 414هـ (1024م) 7.   1- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1231. 2- التكملة، (طبعة كوديرا) ، ترجمة رقم 1277. 3- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 126. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1101. 4- ترتيب المدارك، 4/242-244. 5- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 252. 6- ابن الفرضي، ترجمة رقم 531. 7- الصلة، ترجمة رقم 1099. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 892 ومن أسرة ابن أبي عبده، هناك عيسى بن أحمد بن أبي عبده1، وعباس بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي عبده2، وعبد الله بن أحمد بن أبي عبد هـ3. السجون: عندما استولى الأمير عبد الرحمن بن معاوية على قرطبة وقصر إمارتها، كان السجن يقع بالقرب من ذلك القصر الذي اتخذه الأمير الأموي مقراً لإمارته. وعندما تحدث ابن الآبار عن ذلك السجن، ذكر أنه كان ملاصقاً للقصر، ويصل بين السجن وبين نهر الوادي الكبير سرداب اتخذ للمساجين ينتهي بهم إلى الجزء المنخفض من شاطئ النهر ليستخدموه للطهور والوضوء، والرقباء يتابعونهم ولا يغفلوا عنهم لحظة طيلة خروجهم إلى النهر4. ومن هذا السجن هرب أبو الأسود محمد بن يوسف الفهري عندما حبسه الأمير عبد الرحمن الداخل، إذ تمكن من التمثيل على الموكل به في السجن أنه أعمى وأجاد التمثيل إلى أن انطلت حيلته عليه فهرب5.   1- البيان المغرب، 2/159. 2- المصدر السابق، 2/165. 3- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 107. 4- الحلة السيراء، 2/351. 5- المصدر السابق، 2/351. البيان المغرب، 2/50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 893 ولعل هذا الحبس هو الذي أراده ابن حوقل عندما ذكر أثناء حديثه عن قرطبة أن الحبس يقع بالقرب من المسجد الجامع1، وربما يكون هو الذي أطلق عليه ابن القوطية مسمى "دار الرهائن2" إذ ذكر أنه مجاور لباب القنطرة المؤدي إلى قنطرة قرطبة المقامة فوق نهر الوادي الكبير، وبما أن السجناء كانوا يستخدمون حافة النهر للطهارة والوضوء، فمن الطبيعي أن يكون المكان عراء، يفتقد إلى شيء يستتر خلفه من أراد قضاء حاجته، وهذا أمر متعمد، لكي تسهل عملية المراقبة. وقد ذكر ابن حيان أن السجناء كانوا يغشون هذا الموضع من غير سترة3، الأمر الذي جعل الفقيه محمد بن عبد السلام الخشني، المتوفى سنة 286هـ (899م) يأنف من هذه الصورة، وبسببها لم يذق الطعام طيلة ثلاثة أيام، وهي المدة التي قضاها في السجن وبذلك لم يضطر للذهاب إلى هذا المكان4. وهناك سجن آخر يسمى "حبس الدويرة" ذكره ابن القوطيه أثناء حديثه عن الأمير الحكم الربضي5، ويرى الدكتور عبد العزيز سالم أن حبس الدويرة هو نفس الحبس القديم الذي كان أبو الأسود قد سجن به،   1-صورة الأرض، ص 108. 2- ابن القوطية، ص94. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص255. 4- المصدر السابق، ص255. 5- ابن القوطية، ص56. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 894 ويحتج على ذلك بأن الفترة الزمنية الفاصلة بين الأمير عبد الرحمن الداخل وبين حفيده الأمير الحكم الربضي من القصر بحيث لا تسمح باستحداث سجن جديد1. ولكني أرى أنه سجن آخر، إذ أن اسمه أولاً يدل على صغر حجمه، وبذلك لا يصلح أن يكون سجناً عاماً، فضلاً عن أن ابن القوطيه عاد وذكر قصة تؤيد ما ذهبت إليه، وهي قصة الوزير صاحب المدينة أمية بن عيسى بن شهيد عندما استخلفه الأمير محمد بن عبد الرحمن عند خروجه إلى بعض مغازيه، وكان على سطح القصر أحد أولاد الأمير، وعندما حاول هذا الولد مغادرة السطح هدده الوزير ابن شهيد بأنه سوف يضع قيود الحديد في رجليه ويلقي به في حبس الدويره حتى يرجع والده2. وهذه القصة تؤكد على أن حبس الدويره غير الحبس القديم، إذ أنه يقع في القصر، فضلاً عن أنه من المستحيل وضع ولد الأمير مع بقية المساجين في السجن العام. ويمكن أن يكون حبس الدويره مخصصاً لعلية القوم، إن لم يكن خاصاً بأبناء البيت الأموي، فقد ذكر ابن حيان أن الأمير محمد بن عبد الرحمن عندما تولى الإمارة، كان أول أمر أصدره هو الإفراج عن القاسم وعبد الملك وعبد العزيز أبناء العباس المرواني، إذ كانوا مسجونين في   1- قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس، 1/218. 2- ابن القوطية، ص86-87. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 895 سجن الدويره1، وقبله كان الأمير الحكم الربضي قد سجن به مجموعة خاصة من الفقهاء الذين ثاروا ضده2. ويذكر بروفنسال أن هذا الحبس كان يقع تحت الأرض في القصر، وأنه كان مخصصاً لمن حكم عليه بالإعدام3. وهناك حبس آخر يحمل نفس المسمى "الدويره" أنشأه الخليفة الحكم المستنصر بالله سنة 361هـ (972م) في الدار المنسوبة للسقائين بالقرب من سجن الزهراء4. وهناك سجن آخر يدعى "دار البنيقة5" كان يقع داخل قصر الإمارة بقرطبة، وفيه حبس الأمير عبد الله بن محمد ولده محمد وأخاه القاسم بن محمد6. ومن أشهر سجون قرطبة سجن يدعى "المطبق" ويرى بعض المختصين بالدراسات الأندلسية أنه استحدث زمن الدولة الأموية7، وإذا   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص120. 2- ابن القوطية، ص56. 3- L.Provencal: op. cit. T. III p:159 4- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 88. 5- يسميه الدكتور عبد العزيز سالم، دار النقيقه. انظر: قرطبة حاضرة الخلافة، 1/219. 6- البيان المغرب، 2/150. 7- قرطبة حاضرة الخلافة، 1/219. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 896 كان الأمر كذلك، فيكون إنشاؤه قد تم قبل سنة 210هـ (825م) إذ ان ابن حيان ذكر أنه في هذه السنة مات مالك بن القتيل في المطبق1. ويقع سجن المطبق داخل قصر قرطبة، ومن أشهر نزلائه الوزير هاشم بن عبد العزيز، عندما سجنه الأمير المنذر بن محمد، ومن هذا السجن كتب الوزير هاشم إلى جاريته "عاج" عدة أبيات، أولها: وإني عداني أن أزورك مطبق وباب منيع بالحديد مضبب2 كما أن الأمير عبد الله بن محمد قد سجن في المطبق كلاً من: أخيه هشام، ومروان بن عبد الملك بن عبد الله بن أمية وسعيد بن وليد الشامي وأحمد بن هشام بن الأمير عبد الرحمن وموسى بن محمد بن زياد، وذلك يوم الخميس لست خلون من شعبان سنة 284هـ (9سبتمبر 897م3) ويوجد في سجن المطبق، بيت يعرف "ببيت البراغيث" وفيه كان المنصور بن أبي عامر قد سجن به الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي4. ومما تجدر الإشارة إليه أن الأمير أو الخليفة الأموي إذا سخط من أحد رجالات دولته، بسبب إهماله أو نحو ذلك، ففي هذه الحالة ليس بالضرورة أن يبعث به إلى السجن العام، بل يتم سجنه في أحد الأماكن بالقصر، مثل ما فعل الخليفة الحكم المستنصر بالله عندما سخط على الخازن   1- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص77. 2- الحلة السيراء، 1/140. 3- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص122. 4- البيان المغرب، 2/270. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 897 أحمد بن محمد بن حاجب فأمر بعزله عن الخزانة وحبسه في بيت العمال بفصيل باب الجنان من قصر قرطبة، وذلك في شهر المحرم من سنة 364هـ (أكتوبر 974م1) . وفي السجون رجال اختصوا بتعذيب المساجين، يعرف كل منهم باسم "الضاغط" ولدينا عدة أسماء اشتهرت بالقسوة، فهناك ضاغط يدعى "عمير" كان مسئولاً عن التعذيب في السجن إبان عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، وهو الذي عناه الشاعر عبد الله بن حسين بن عاصم عندما خاطب الأمير محمد بن عبد الرحمن مغرياً إياه بابن عمه سعيد بن عبد الملك بن سعيد بن عاصم، صاحب الطراز، وذلك عندما نكبه الأمير، فقد قال عبد الله بن عاصم:- أحل عليهم عميرا أن يذيقهم ... طيب العصافير إن القوم قد سمقوا2 وعمير هذا هو الذي عناه الشاعر السفير يحيى الغزال بقوله وهو يخوف أحد الظلماء:- فكأني بعمير منك ... قد سل الحشاشة أنت والله كما حا مت ... على النار الفراشة3 ويصف ابن حيان عميرا هذا بقوله: "كان ضاغطاً للأمير محمد، وكان يتولى له تعذيب من يسخط عليه، يبدع في ذلك مكاره يستعاذ بالله   1- المقتبس، تحقيق: د عبد الرحمن الحجي، ص202. 2- المقتبس، تحقيق د. محمود مكي ص185. 3- المصدر السابق، ص185-186. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 898 منها، وكان شديد القساوة، فظاً لايعرف الرحمة، فله في شأنه أخبار معروفة، وكانت العصافير آلة من آلات تعذيبه1". وكان الذي يلي تعذيب الحاجب المصحفي يدعى واثق الضاغط، وهو الذي سلطه المنصور بن أبي عامر على المصحفي، يضيق عليه في سجنه ويحضره مراراً إلى مجلس الوزراء لمحاسبته، وفي كل مرة كانت الشدة والقسوة السمة البارزة لتعامل واثق الضاغط معه2. ويذكر ابن حيان أن الخليفة المستظهر بالله عبد الرحمن بن هشام عندما قبض على جماعة من وزرائه لمصادرتهم، ولى مسئولية محاسبتهم وإخراج ما بأيديهم أحد مسئولي التعذيب ويدعى نجاح الضاغط3، ولا نعرف أنواع التعذيب التي كانت تجري داخل السجون في تلك الفترة، لكن ابن حزم ذكر أن الخليفة عبد الرحمن الناصر كان يعلق أولاد السودان في ناعورة قصره بدلاً من الأقداس الغارقة في الماء4. كما كانت لديه دار خاصة بالأسود، اتخذها لإرهاب الناس، وهذه الدار تقع "ظهر قصره فوق القنطرة الماثلة على الخندق، وبجوفه المطبق به ينسب إليها اليوم فتدعى قنطرة الأسود5".   1- نفسه، ص 185. 2- البيان المغرب، 2/268. 3- الذخيرة، ق1م1 ص52. 4- نقط العروس، ص73. المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص37. 5- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 899 ويبدو أن المسئولين عن التعذيب قد اختيروا بعناية فائقة، فهم باختصار أجساد بلا قلوب، يدل على ذلك ما ذكره ابن حيان عن كيفية مقتل الشاعر الأديب عبد الملك بن إدريس الجزيري، في سجن المطبق بالزاهرة، حيث خُنق بداخل السجن على أيدي بعض السودان1 وقد نقل لنا ابن حبان كيفية الخنق تلك، فقال: "أخبرني أبي خلف بن حسين، قال: سألت الذي تولى قتل الجزيري في محبسه، فجعل يصف لي سهولة ما عانه منه لقضافته وضعف أسره، ويقول: ما كان الشقي إلا كالفروج في يدي، دققت رقبته بركبتي فما زاد أن نفخ في وجهي، فعجبت من جهل هذا الأسود2". وكان التعذيب البدني يجري لبعض السجناء، فقد ذكر ابن بشكوال أن أبا عمر أحمد بن محمد بن فرج، أحد الشعراء، قد نقلت عنه كلمة عامية ضد الدولة، وذلك في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، فسجن بسجن جيان مدة سبعة أعوام أو أكثر، وخلال هذه المدة نيل بمكروه في جسده ولم يخرج إلا بعد وفاة الخليفة الحكم، لكنه لم يلبث إلا يسيراً ثم توفي3. والدولة الأموية في الأندلس، كانت تحرص على تثقيف المساجين -من غير الأعلام- ثقافة موجهة، تخدم نظام الحكم في المقام الأول؛ ولأجل   1- الذخيرة، القسم الرابع، 1/52. 2- المصدر السابق، 1/52. 3- الصلة، ترجمة رقم 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 900 تحقيق هذا الغرض يتم تكليف أحد رواة الأخبار بالاختلاف إلى السجن في أوقات محددة، حيث يجتمع بالمساجين، ويسمعهم قصص ذات نهج محدد، وإذا ما انحرف المؤدب عن هذا النهج تتم معاقبته. ومما يدل على ذلك ما ذكره ابن القوطية من أن الوزير صاحب المدينة في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، أمية بن عيسى بن شهيد "خطر بدار الرهائن المجاورة لباب القنطرة ورهائن بني قسي ينشدون شعر عنترة، فقال لبعض الأعوان: "ايتني بالمؤدب ... فقال له: لولا أني أعذرك بالجهل لأدبتك، تعمد إلى شياطين قد شجى الخلفاء بهم، فترويهم الشعر الذي يزيدهم بصيرة في الشجاعة، كفّ عن هذا ولا ترويهم إلا خمريات الحسن بن هانئ وشبهها من الأهزال1". الشرطة في زمن الفتنة: اختفت في تلك الفترة التقسيمات التي عرفناها من قبل للشرطة، فلم يعد هناك إلا نوع واحد منها يتمتع بكافة صلاحيات الأنواع الأخرى من الشرطة2. ونظراً لأن فترة الفتنة كانت مضطربة، لم تعرف الاستقرار، لذا نرى كثرة الأسماء التي تعاقبت على خطة الشرطة، إذ أن كل من انتزى على كرسي الخلافة، أحضر صاحب شرطته معه3.   1- ابن القوطية، ص94. 2- تاريخ القضاء في الأندلس، ص499. 3- أعمال الأعلام، 2/110. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 901 وممن تولى خطة الشرطة في تلك الفترة محمد بن المغيرة تولاها لابن عمه الخليفة المهدي في بداية وصوله للخلافة1 كما تولاها اللغوي القرطبي عبد الله بن أحمد بن قند، المتوفى سنة 400هـ2 (1010م) . وأما ابن وداعة فقد تولى الشرطة للخليفة هشام المؤيد في بداية خلافته الثانية3. وقد ذكر ابن الأبار أن العالم ابن الغربالي عبد الله بن حسين بن إبراهيم بن حسين بن عاصم، قد تولى الشرطة بقرطبة، وقد قتله البربر يوم دخولهم قرطبة سنة 403هـ4 (1013م) . وتولى خطة الشرطة الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عفيف، المتوفى سنة 410هـ5 (1019م) . ومحمد بن يحيى بن عبد الله بن قاسم القيسي المعروف بابن الخفاريه، المتوفى سنة 411هـ6 (1021م) . ومحمد بن يونس بن عبد الله المتوفى سنة 418هـ7 (1028م) .   1- المصدر السابق، 2/110. 2- ترتيب المدارك، 8/25-26. 3- البيان المغرب، 3/150. 4- التكملة، طبعة الحسيني، ترجمة رقم 1940. 5- ترتيب المدارك، 8/8-9. 6- الصلة، ترجمة رقم 1102. 7- المصدر السابق، ترجمة رقم 1109. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 902 وأبو عبد الله محمد بن علي بن هشام بن عبد الرؤوف، المتوفى سنة 424هـ1 (1033م) .   1- ترتيب المدارك، 8/11-12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 903 المبحث الثامن: خطة المدينة : ذكر الأستاذ حسين مؤنس أنه كان يوجد في النظام السائد في الأندلس قبل الفتح الإسلامي حاكم خاص للمدينة، يسمى DEFENSOR CIVITATIS أي حامي المدينة أو حارسها، ثم أصبحت في عجمية أهل الأندلس ZAHALMEDINA أو ZAFALMEDINA أو ZALMEDINA أي صاحب المدينة، واستمر هذا المصطلح متداولاً ومعمولاً به في ظل الحكم الإسلامي للأندلس1. ولكن رغم أن المسلمين قد ورثوا هذا المصطلح عن القوط والرومان، إلا أن المصادر الإسلامية لم تستخدمه بوضوح إلا في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، ولعل هذا راجع إلى أن هذا الأمير هو المنظم للجهاز الإداري للدولة الأموية في الأندلس، بالإضافة إلى أن منصب "المدينة" كان متداخلاً مع غيره من المناصب، ولم يصبح مستقلاً بذاته إلا في أوائل القرن الثالث الهجري "التاسع الميلادي" وذلك عندما ميز الأمير عبد الرحمن الأوسط "ولاية السوق عن أحكام الشرطة المسماة بولاية المدينة2".   1- فجر الأندلس، ص463. 2- المغرب في حلى المغرب، 1/46. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 904 وخطة المدينة هي إحدى الخطط الدينية التي تخوّل صاحبها حق إصدار الأحكام، وفي هذا يقول القاضي ابن سهل "وللحكام الذين تجري على أيديهم الأحكام ست خطط: أولها القضاء.. والشرطة.. وصاحب المظالم، وصاحب الرد ... وصاحب المدينة، وصاحب السوق1". ومن هنا يتضح لنا أن خطة المدينة أصبحت قائمة بذاتها، لها كيانها الذي يميزها عن سواها، وإذا كان البعض يرى أن هناك ازدواجية بين عمل صاحب المدينة وأصحاب الشرطة2، فذلك راجع إلى أن أصحاب الشرطة -العليا والوسطى والصغرى- هم تحت إمرة صاحب المدينة الذي يعتبر المسئول عما يجري داخلها، فهو أشبه ما يكون بوزير داخلية، المسئول الأول عن الأمن. ومن يشغل هذه الخطة يسمى "حاكم المدينة3" أو "متقلد المدينة4" وكذلك "والي المدينة5" ولكن المصطلح الذي اشتهر استخدامه هو: "صاحب المدينة6".   1- النباهي، ص5. 2- أبو رميلة، نظم الحكم في الأندلس، ص293. 3- البيان المغرب، 3/54. 4- المصدر السابق، 3/58. 5- قضاة قرطبة، ص59. 6- المصدر السابق، ص75،77،81،101. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 905 وصاحب المدينة -كما يرى ابن عبد ون- لابد أن يكون "رجلاً عفيفاً فقيهاً شيخاً؛ لأنه في موضع الرشوة وأخذ أموال الناس، وربما فجر إن كان شاباً شريباً1". ولابد له من أعوان ينفذون أوامره ويساعدونه على أداء المهام المناطة به، ونظراً لحساسية منصبه، فعليه أن يكون حذراً في التعامل مع أعوانه، فلا يقبل منهم شيئاً إلا ببينة لا تحتمل الشك، ذلك لأنهم إلى الشر أقرب منهم إلى الخير2. ولقاضي الجماعة دور في عمل صاحب المدينة، فهو رقيب عليه، ومن أجل ضبط هذه الرقابة، فمن حق القاضي استخلافه أحياناً من أجل اختبار فقهه وحسن تصرفه3. وبأمر القاضي فليس من حق صاحب المدينة أن يرسل أكثر من واحد برسالة خارج البلد، وعلل ابن عبد ون ذلك بقوله "لئلا يكثر الجُعل والأذى والنهب4". وبالجملة فليس من حق صاحب المدينة أن يقدم على تنفيذ أي أمر من الأمور الجسيمة، إلا بعد إطلاع الأمير أو الخليفة، وقاضي الجماعة على ذلك5.   1- ابن عبدون، رسالة في القضاء والحسبة، ص16. 2- المصدر السابق، ص16. 3- نفسه، والصفحة. 4- نفسه، والصفحة. 5- نفسه، والصفحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 906 ويبدو أن ابن عبد ون قد أدلى بآرائه هذه، وهو متأثر بأحداث عصره "عصر ملوك الطوائف" أما في عهد دولة بني أمية، وبالذات الأقوياء من الأمراء والخلفاء، فليس من الضروري أن تصدق تلك الآراء في تلك المدة أو تطبق1. ومهما يكن، فالأمر لم يترك مفتوحاً أمام الأعوان ليمارسوا سلطاتهم، كما تمليه عليهم رغباتهم، بل إن ابن عبد ون، الذي استفاد مما كان سائداً قبله في عهد الأمويين، وضع لأولئك الأعوان ضوابط يسيروا وفقها في أداء مهامهم، لكي لا ينحرف الهدف الذي من أجله تمت الاستعانة بهم، وهذه الضوابط هي بالنهاية سياج يحمي كرامة الآخرين من تسلطهم، فقد ذكر أن الحد يقام على من استحقه منهم، إذ ليس أقبح من أن يكونوا يغيروا المنكر بزعمهم وهم يفعلونه، كما يجب أن يمنعوا من التفتيش ليلاً كان أو نهاراً، فذلك فيه هتك لستر من يتم تفتيشه، كما أن من ألقوا عليه القبض في الليل، وهو ممن لاتأخذه تهمة ولا ظنه، فعليهم أن يوصلوه إلى داره وهو موفور الكرامة، وأما من اشتبه بأمره فعليهم ألا يلحقوا به الأذى سواء مادياً أو معنوياً، بل يحضروه عند صاحب المدينة   1- تاريخ القضاء في الأندلس، ص443. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 907 بالهيئة التي وجدوه عليها، فإن سجنوه، يتم سجنه في أحد الفنادق بكفالة ساكنيه حتى الصباح1. ولقاضي الجماعة الحق في إحضار صاحب المدينة إلى مجلسه، وذلك لمساءلته عن تجاوزاته، فقد ذكر الخشني أن قاضي الجماعة سليمان بن أسود، أحضر صاحب المدينة إلى مجلسه، ليقضي بينه وبين من رفع دعوى ضده2. وعندما جرى في قرطبة أمر أخل بالأمن، ولم يتخذ صاحب المدينة أمية بن عيسى الحلول اللازمة، قام قاضي الجماعة سليمان بن أسود برفع الأمر للأمير محمد بن عبد الرحمن طالبه فيه بعزل صاحب المدينة عن منصبه لتقصيره3. وبمقابل ذلك فإنه عندما يهيج العوام ضد قاضي الجماعة، مثلما فعلوا بالقاضي محمد بن يبقى بن زرب، المتوفى سنة 381هـ (991م) بسبب تكراره لصلاة الاستسقاء وعدم نزول المطر، فإن صاحب المدينة هو الذي يتولى حمايته منهم4، كما أنه إذا تطاول أحدهم على الخطيب   1- رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة، ص18. 2- قضاة قرطبة، ص77. 3- المصدر السابق، ص74-75. 4- النباهي، ص 78-79. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 908 أثناء خطبة الجمعة، فإن صاحب المدينة يأمر بالقبض على ذلك المتطاول وحمله إلى السجن1. مهام صاحب المدينة: نظراً لفخامة منصب صاحب المدينة، فإن المهام المناطة به، تبدو جسيمة تناسب أهمية المنصب، ولعل من أعظم المهام الملقاة على صاحب المدينة، أن الأمير أو الخليفة الأموي، يستخلفه أحياناً أثناء غيابه عن العاصمة2. وقد عرفنا من قبل أن من رسوم بني أمية أنه عند مغادرة الأمير أو الخليفة للعاصمة، فإنه يترك أحد أولاده، سواء كان ولي العهد أو غيره، على سطح القصر، ويجعل صاحب المدينة ملازماً له على الدوام، ويكون من حقه منع الولد من مغادرة السطح حتى وإن اضطر إلى تهديده بوضع قيد الحديد في رجله، وهذا ما كاد أن يفعله صاحب المدينة أمية بن عيسى بن شهيد بأحد أولاد الأمير محمد ابن عبد الرحمن3، الأمر الذي يعطي دلالة أكيدة على قوة شخصية صاحب المدينة، حتى أنه لم يأبه بولد الأمير مادام في الأمر مصلحة للدولة.   1- البيان المغرب، 3/54. 2- ابن القوطية، ص86. 3- المصدر السابق، ص87. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 909 ومما يدل على نزاهة صاحب المدينة أمية بن عيسى بن شهيد، وقوة شخصيته أنه وقف أمام رغبة الأمير محمد عندما أمره أن يحبس أحد أهل العلم. والقصة كما رواه ابن القوطية تدور حول فقيه كان يقطن في إحدى الكور، لكنه فر من عاملها إلى قرطبة، فكتب ذلك العامل للأمير محمد كتاباً يغريه فيه بذلك الفقيه، ويزين له ضمه إلى الحبس، فأصدر الأمير أوامره لابن شهيد بحبس ذلك الفقيه، فرد عليه قائلاً: "لاوالله، ماأحبس رجلاً من أهل العلم والرواية، فرَّ من جور ظالم مشهور بالظلم، ولو كان فيه خير مافرّ مثله عنه1" فما كان من الأمير إلا أن عدل عن رأيه وكتب إلى ذلك العامل كتاباً يوبخه فيه على فعله2. ولم يقتصر الأمر في قوة الشخصية والنزاهة على أمية بن عيسى بن شهيد فقط، فلدينا صاحب المدينة وليد بن عبد الرحمن بن غانم، المتوفى سنة 292هـ (905م) ففي أثناء ولايته للمدينة، حدثت مجاعة شديدة سنة 260هـ3 (874م) " لم يزرع فيها بالأندلس حبة ولا رفعت4" "ومات فيها أكثر الخلق5" فاستشار الأمير محمد الوزراء وأصحاب   1- نفسه، ص 86. 2- نفسه، ص 86. 3- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص343. 4- ابن القوطية، ص87. 5- البيان المغرب، 2/102. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 910 المشورة، وعرض عليهم رأيه في فرض العشور على الغلات، والزام الرعية بذلك لمواجهة تلك الأزمة، فوافقوه على ذلك، ولم يعترض عليه إلا صاحب المدينة وليد بن عبد الرحمن الذي طلب من الأمير أن يرفق بالرعية في ظل هذه المحنة، وأن يخرج مما في مستودعات الدولة وبيت المال، لينفق على الجنود والرعية المتعبة من شدة المجاعة1، ثم قال له: "فإنه الحق على مثلك من ولاة العدل، فقد بلغنا أن طواغيت الروم فعلته بقسطنطينة ورومه، وأنتم أولى بذلك2". إلا أن الأمير لم يقتنع برأي ابن غانم، الذي أصر على موقفه، فكانت فرصة لأحد الطغاة الظلمة، يدعى حمدون بن بسيل المعروف بالأشهب، الذي عرض على الأمير أن يوليه المدينة، وهو يتكفل له بتنفيذ مراده، فوافق ذلك هوى في نفس الأمير، فعزل ابن غانم وولى الأشهب الذي "هتك الستور وضرب الظهور وقتل الأنفس بالتعليق3" فضج الناس عليه بالدعاء في كل جمعة، حتى أماته الله تعالى، وهنا استدعى الأمير محمد وليد بن غانم وأراده أن يعود إلى المدينة، فأجابه قائلاً: "أما وقد صرت   1- ابن القوطية، ص87. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص172. 2- المصدر السابق والصفحة. 3- ابن القوطية، ص 88. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 911 عندك في محل من يديله حمدون بن بسيل أو مثله، فلا والله لا خدمتك في المدينة أبداً، فولى غيره"1. ومن بين مهام صاحب المدينة، التحقيق في حوادث القتل التي تحدث في البلد، مثل حادثة الرجل الذي وجد مقتولاً في قرطبة، وذلك في يوم الأول لولاية محمد بن السليم للمدينة في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط2. وإذا احتاج الأمير إلى رأي الفقهاء في أمر ما، فإنه يكلف صاحب المدينة بالقيام في هذه المهمة، مثل ما حدث في قصة ابن أخي عجب، وما نسب إليه من ألفاظ تطاول على الباري جل وعلا3، فبعد أن اجتمع بهم صاحب المدينة ابن السليم في مجلسه المسمى: مجلس النشمه4، عرض عليهم القضية وطلب أن يكتب كل واحد منهم رأيه في صك منفرد ليعرضها جميعاً على الأمير، الذي ما أن تصفحها حتى أصدر قراره بعزل   1- المصدر السابق والصفحة. الحق أن ولاة الأمور هم أحوج ما يكون للبطانة الصالحة، فابن غانم لم يجد له من بين أصحابه من الوزراء وبقية رجالات الدولة مناصراً؛ لذا فالأمير لم يتأثر بمقولته، وإلا فإن الوضع العام سيئ إلى درجة خطيرة، إذ أن القحط، قد عم كور الأندلس، وليس لدى الناس قدرة على مواجهة هذا الموقف الخطير، بل إنهم بأمس الحاجة لوقوف الدولة إلى جانبهم فكيف يصبح الوضع عندما تقف الدولة مع المجاعة ضد الرعية؟ 2- ابن القوطية، ص 69-70. 3- قضاة قرطبة، ص99-60. المعيار المعرب، 2/363. 4- قضاة قرطبة، ص59. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 912 قاضي الجماعة الحبيب محمد بن زياد عن منصبه ومن تابع رأيه من فقهاء الشورى، كما أمر بصلب ابن أخي عجب1. من هذه القصة، ندرك أن لدى صاحب المدينة مجلس خاص به، وأنه هو الذي يتولى رفع الآراء التي تتم في هذا المجلس للأمير، كما أنه هو الذي يبلغ قاضي الجماعة وفقهاء الشورى بعزلهم عن مناصبهم. ومن مهام صاحب المدينة، تفقد السجن العام وما يدور فيه2 وإخراج بعضهم منه بأمر الأمير3 أو الخليفة4، وإذا مات قاضي الجماعة أو عزل، تولى صاحب المدينة قبض ديوان القاضي، ويتحفظ عليه حتى يعين الأمير قاضٍ آخر5. ونظراً لأن من رسوم الدولة أن الأمير أو الخليفة إذ أراد الخروج للصيد والنزهة، فإنه لا يسمح لأحد بعبور قنطرة قرطبة أو الاقتراب من مكان النزهة، فإن صاحب المدينة يقوم بهذه المهمة، ومن وجده مخالفاً للأوامر فإنه يحبسه6.   1- المصدر السابق، 60. 2- ابن القوطية، ص94. المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص73-74. 3- ابن القوطية، ص 102. 4- البيان المغرب، 2/250. 5- قضاة قرطبة، ص101. 6- البيان المغرب، 2/146. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 913 كما أن صاحب المدينة يتولى أخذ البيعة الخاصة والعامة للأمير عند توليه للإمارة1. وعندما يكون هناك وفد رفيع المستوى، يقوم بزيارة رسمية للدولة، فإن الخليفة يصدر أوامره لصاحب المدينة، بأن يجمع فتيان قرطبة وأحداثها، ويظهروا قوتهم للوفد الزائر، وذلك من خلال حملهم السلاح، وهذا ما قام به الوزير صاحب المدينة جعفر بن عثمان المصحفي في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة وفود جعفر ويحيى ابني علي بن حمدون على الخليفة الحكم المستنصر بالله، وذلك في أواخر شهر ذي القعدة سنة 360هـ (سبتمبر 971م) 2. كما يتولى تقديم الخلع والهبات للوافدين على الخليفة3، ويشرف على نقل بعض الأجهزة الإدارية من موقع لآخر4، ومعاقبة المفسدين ومثيري الفتن بسجنهم وتعقب الفارين منهم5، وكذلك مطاردة أهل البدع والتضييق عليهم وإخافتهم والزج بمن قبض عليه منهم في السجن6.   1- المصدر السابق، ص2/158. 2- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص47-48. 3- المصدر السابق، ص111. 4- نفسه، ص 66. 5- نفسه، ص73-75،104. 6- نفسه، تحقيق: شالميتا، ص25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 914 وبأمر من الخليفة يتولى صاحب المدينة إذلال وتوبيخ من سخط عليه الخليفة، حتى وإن كان من كبار رجالات الدولة1. ومن مهام صاحب المدينة تنفيذ أوامر الأمير أو الخليفة باستنفار الناس للجهاد، ولا يأذن لأحد بالتخلف إلا إن كان من أهل الأعذار، أو أن صاحب المدينة تغاضى عنه شريطة ألا يظهر من داره حتى يعود الجيش الغازي2، ومن فر من أرض المعركة فإن صاحب المدينة يتولى مسئولية القبض عليه بأمر من الأمير أو الخليفة، وإذا صدرت الأوامر بصلبهم تولى الإشراف على تنفيذه3، كما أنه يتولى مصادرة من نكب من رجالات الدولة ومصادرة المقربين إليه4. والأمير أو الخليفة الأموي حريص على صلة رحمة من خلال تفقد أحوالهم، وإن كان الأمر لا يخلو من نظرة أمنية، وصاحب المدينة هو الذي يقوم بهذه المهمة، إذ يعمد إلى تكليف أمناء العطب والنوازل بتحديد يوم من كل أسبوع لا يخلون فيه أبداً، يقومون فيه بتفقد أحوالهم، وإبلاغ صاحب المدينة بكل شيء، ليرفع ذلك بتفاصيله للخليفة ليرى فيه رأيه5.   1- نفسه، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص103-104. 2- نفسه، تحقيق: د. محمود مكي، 43-45. 3- نفسه، تحقيق: شالميتا، ص 446. 4- ترتيب المدارك، 7/215. 5- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 92. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 915 وصاحب المدينة لا يسير إلا في موكب خاص يرافقه أثناء ذهابه إلى مجلسه الكائن بجوار مجلس الخزَّان1، في حين أن من جمعت له المدينة مع الشرطة العليا فإنه يستخدم كرسي الشرطة العليا بباب قصر قرطبة أو قصر الزهراء مكاناً له2. ومن رسوم الدولة الأموية في الأندلس أن الوزير صاحب المدينة بقرطبة مقدم على نظيره الوزير صاحب المدينة بالزهراء، ويتضح ذلك من خلال ترتيب جلوسهما أثناء الاحتفالات الرسمية التي تقام في قرطبة، سواء عند السلام على الخليفة لتهنئته بأحد العيدين أو بمناسبة زيارة وفد رفيع المستوى. ففي الاحتفال الذي أقامه الخليفة الحكم المستنصر بالله عند جلوسه لرعيته، لتهنئته بعيد الفطر سنة 362هـ (يوليو 973م) كان الوزير صاحب المدينة بقرطبة جعفر بن عثمان المصحفي يحجب الخليفة عن يمينه، وقام عن يساره صاحب المدينة بالزهراء محمد بن أفلح3. ولكن إذا تعذر جلوس صاحب المدينة بقرطبة عن يمين الخليفة، فعندها يصبح مكانه عن يسار الخليفة، ويجلس تحته صاحب المدينة بالزهراء، وهذا ما جرى في الاحتفال بمناسبة قدوم الوزير القائد الأعلى غالب بن عبد الرحمن الناصري من العدوة المغربية، ففي هذا الاحتفال   1- قضاة قرطبة، ص77. 2- تاريخ القضاء في الأندلس، ص457. 3- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص28-30. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 916 الذي أقيم في يوم السبت لسبع خلون من شهر المحرم سنة 364هـ (سبتمبر 974م) جلس الخليفة الحكم المستنصر بالله، وقام للحجابة عن يمينه الوزير القائد الأعلى غالب بن عبد الرحمن وعن يساره الوزير صاحب المدينة بقرطبة جعفر بن عثمان المصحفي وتحته محمد بن أفلح صاحب المدينة بالزهراء1. وصاحب المدينة إن لم يحمل لقب وزير، ففي هذه الحالة يكون أقل مرتبة من الوزير، دل على ذلك ما ذكره ابن حيان من أن الأمير عبد الرحمن الأوسط ولي عبد الواحد بن يزيد الاسكندراني خطة المدينة، ثم رقاه بعد ذلك إلى الوزارة والقيادة2. وممن تولى خطة المدينة بقرطبة، بالإضافة إلى خطة إحدى المدينتين الزهراء أو الزاهرة، فإنه يطلق عليه لقب "صاحب المدينتين" ولم يرد في المصادر طوال فترة الدراسة أن أحداً حمل هذا اللقب إلا عمرو بن عبد الله بن أبي عامر3 الملقب بعسكلاجه، فقد ولاه ابن عمه الحاجب المنصور بن أبي عامر مدينة قرطبة، وعندما أتم المنصور بناء مدينة الزاهرة أقامه عليها، فأصبح يلقب بـ"صاحب المدينتين4".   1- المصدر السابق، ص 198. 2- نفسه، تحقيق: د. محمود مكي ص30-31. 3- الحلة السيراء، 1/277. 4- المصدر السابق، والصفحة، حاشية رقم 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 917 وكان مرتب صاحب المدينة في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط يبلغ مائة دينار، فهو عندما مّيز ولاية السوق عن أحكام الشرطة المسماة بولاية المدينة، فأفردها وصير لواليها ثلاثين ديناراً في الشهر ولوالي المدينة مائة دينار1". ونظراً للوضع الاقتصادي المتميز الذي عاشته الأندلس بالذات في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) ، فمن المتوقع أن يكون مرتبه الشهري قد تجاوز ما كان عليه أيام الأمير عبد الرحمن الأوسط. من تولى خطة المدينة: المصادر الأندلسية لم تورد ذكراً للقب "صاحب المدينة" قبل عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، ولكن هذا لا يعني أبداً أن هذا اللقب أو المصطلح لم يكن مستعملاً. وبصفة عامة يمكن القول بأن أبا عثمان عبيد الله بن عثمان، كبير موالي بني أمية بالأندلس، هو أول من قام بأعباء "صاحب المدينة" في الدولة الأموية، ونستشف ذلك من خلال ما أورده أحد المؤرخين من أن الأمير عبد الرحمن الداخل عندما بلغه أن يوسف الفهري والصميل بن حاتم قد استوليا على إلبيره، جمع قواته ثم غادر قرطبة وخلف عليها أبا   1- المغرب في حلى المغرب، 1/46. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 918 عثمان1، كما كان الأمير عبد الرحمن الداخل يستخلف أحياناً مولاه بدراً على قرطبة عند مغادرته لها2. وغير هذين الخبرين لا نجد ذكراً لصاحب المدينة إلا في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط. ورغم هذا النقص، فإننا لا نعرف من تولى المدينة منذ بداية عهده، إذ نفاجأ بما ذكره ابن القوطية من أن الأمير عبد الرحمن الأوسط قد سئم من كثرة الشكاوى المقدمة إليه ضد كل من تولى المدينة، وكانوا جميعاً من القرطبيين، فأقسم ألا يوليها رجلاً من أهل قرطبة، ثم أخذ يسأل عَمن يستحقها فاستدل على رجل من أهل إحدى الكور، عُرف بالفطنة وحسن العقل، يدعى محمد بن السليم، فاستدعاه وولاه المدينة3. وذكر ابن الفرضي أن ممن تولى المدينة للأمير عبد الرحمن الأوسط، رجلاً يدعى ابن لُبيد، وفي سجنه ختم الفقيه يحيى بن يزيد الأزدي، القرآن أربعين مرة، وفي هذا يقول الفقيه يحيى بن يحيى الليثي، مخاطباً يحيى الأزدي: "ما أشقى من ختمت القرآن في حبسه أربعين مرة4".   1- أخبار مجموعة، ص92. 2- المصدر السابق، ص 107. 3- ابن القوطية، ص 69. 4- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1554. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 919 وكان الأمير محمد بن عبد الرحمن يداول في ولاية المدينة بين أمية بن عيسى بن شهيد وبين وليد بن عبد الرحمن بن غانم، وذلك لإدراكه رجاحة عقليهما، وأنهما لا يراقبان في أحكامهما إلا الله تعالى1. وفي عهد الأمير المنذر بن محمد كان حفص بن بسيل يلي المدينة2. وورد لدى ابن حيان أن في سنة 281هـ (894م) عزل الأمير عبد الله بن محمد حفص ابن بسيل عن المدينة وجعل مكانه عبد الله بن محمد بن نصر3، لكنه لم يستمر في منصبه أكثر من سنة، فقد صُرف وولي مكانه مروان بن عبد الملك بن أمية وذلك سنة 282هـ4 (895م) ولأمر ما فقد سخط الأمير على ابن أمية فعزله وجعل بدلاً منه أحمد بن محمد بن أبي عبد هـ سنة 283هـ5 (896م) . ثم تولى المدينة محمد بن أمية بن عيسى بن شهيد، ولا ندري متى كان ذلك، لكن خبراً ورد لدى الخشني أفاد بأنه في سنة 289هـ (902م) كان محمد بن أمية هو صاحب المدينة في ذلك الوقت6، وقد تمادى في منصبه إلى أن عزل سنة 293هـ (906م) ووليها محمد بن   1- ابن القوطية، ص85-86. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 171. 2- ابن القوطية، ص102. 3- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 110. 4- المصدر السابق، ص114. 5- نفسه، ص 118. 6- قضاة قرطبة، ص 101. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1141. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 920 وليد بن غانم، وكانت ولايته ستة أشهر، ووليها مكانه موسى بن محمد بن حدير1 الذي عزل عنها سنة 295هـ (908م) ووليها محمد بن عبيد الله بن أبي عثمان، وذلك يوم الخميس، لكنه طلب الإعفاء سريعاً، فعزل ثاني يوم ولايته، وولي مكانه علي بن محمد المعروف باليابسه، الذي لم يستمر أكثر من ثلاثة أيام، إذ سُرعان ما عُزل وأعيد إليها موسى بن محمد بن حدير، فتمادى في ولايتها طيلة ما بقي من عهد الأمير عبد الله2، وأقره عليها الأمير عبد الرحمن بن محمد إلى سنة 302هـ (915م) ثم عزله عنها في شهر شوال من تلك السنة، وجعل مكانه محمد بن عبد الله الخروبي3، فظل في منصبه إلى أن توفي في أوائل شهر صفر سنة 314هـ (إبريل 926م) . ثم تولى المدينة عيسى بن أحمد بن أبي عبد هـ، الذي كان إذا غادر قرطبة بصحبة الأمير عبد الرحمن بن محمد، يخلف عليها ولده أحمد بن عيسى4. وفي سنة 316هـ (928م) عزل الخليفة عبد الرحمن الناصر أحمد بن عيسى عن المدينة وجعل مكانه أحمد بن عبد الوهاب بن   1- المقتبس، تحقيق: انطونيا، ص 142. 2- البيان المغرب، 2/144. قارن: المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص143. 3- المصدر السابق، ص 103. 4- البيان المغرب، ص 2/193، 196. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 921 عبد الرؤوف1، ثم عزله عنها في غرة جمادى الأولى2 سنة 319هـ (مايو 931م) وولاها يحيى بن يونس القبري3، لكنه لم يستمر أكثر من أربعة أشهر، إذ عزل عنها ووليها عبد الحميد بن بسيل وذلك في شهر شوال من تلك السنة4 واستمر في منصبه إلى أن عزل عنها في شهر شوال من سنة 320هـ (أكتوبر 932م) ووليها بدلاً منه فطيس بن أصبغ5. وقد ذكر ابن حيان أنه في شهر ربيع الأول من سنة 326هـ (يناير 938م) ولي خطة المدينة الوزير جهور بن عبيد الله مكان أحمد بن عيسى بن أبي عبد هـ6، وفي سنة 327هـ (939م) عزل الوزير جهور عن المدينة ووليها الخال سعيد بن أبي القاسم7. وفي سنة 328هـ (940م) تولى المدينة عبيد الله بن بدر بن أحمد بدلاً من ابن أبي القاسم8.   1- المصدر السابق، ص2/197. 2- نفسه، 2/205. 3- ورد لدى ابن عذاري "البيان المغرب، 2/205، لفظ "القبرسي" والتصحيح من المقتبس، تحقيق شالميتا، ص 314. 4- البيان المغرب، 2/205. 5- المصدر السابق، 2/208. 6- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص428. 7- المصدر السابق والصفحة. 8- نفسه، ص 461. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 922 وكان جعفر بن عثمان المصحفي يتولى خطة المدينة بقرطبة، بينما كان محمد بن أفلح يشغل خطة المدينة بالزهراء، وذلك في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله1. وفي سنة 366هـ (977م) صدر أمر الخليفة هشام المؤيد بالله بتولية محمد ابن عبد الله بن أبي عامر خطة المدينة بقرطبة، بدلاً من محمد بن جعفر المصحفي2. ثم إن ابن أبي عامر استخلف على المدينة ابن عمه عمرو بن عبد الله بن أبي عامر، الملقب بعسكلاجه3 "فسلك في أهل الشر سبيله، بل أربى عليه في ذلك4".   1- نفسه، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 22. 2- الذخيرة، ق4م1، ص 64. البيان المغرب، 2،266. وقد ذكر القاضي عياض أن أحمد بن عبيد الله الموروري الحضرمي قد تحول من طبقته طبقة العلماء، إلى طبقة أهل الدنيا، فصحب ابن أبي عامر، فنال الوزارة، وتقلد المدينة، ثم توفي في شهر رمضان سنة 366هـ وترك من الأموال مالا كفاء له، مما غله، فحاز ابن أبي عامر أكثره. انظر ترتيب المدارك، 7/215-216. ولم يتضح لي مما ذكره القاضي عياض متى تولى الموروري المدينة، ومن الذي ولاه؟ وبالذات أن المصحفي كان آنذاك مسيطراً على كل شيء، كما أن ابن أبي عامر لم يلِ المدينة إلا بعد عودته من غزوته الثانية، والتي لم يخرج إليها إلا يوم الفطر سنة 366هـ، أي بعد وفاة الموروري، ولعل هذا ما يدفعني إلى الشك في وصول الموروري لخطة المدينة. 3- الحلة السيراء، 1/277. 4- البيان المغرب، 2/276. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 923 ونظراً لكفاءة عمرو بن عبد الله فقد ولاه ابن أبي عامر خطة مدينتي قرطبة والزهراء، فأصبح يعرف بصاحب المدينتين1. كما تولى مفرج العامري خطة المدينة في زمن المنصور وابنه عبد الملك المظفر2، وأما في عهد الحاجب شنجول فقد كان يلي المدينة عبد الله بن عمر الذي قتله الخليفة المهدي عند استيلائه على قرطبة3. توارث خطة المدينة: خطة المدينة خطة متوارثة، شأنها في ذلك شأن بقية الخطط في الدولة الأموية، ولدينا عدة أسر تعاقب أفرادها على خطة المدينة. فعبيد الله بن عثمان الذي يعتبر أول من تولى خطة المدينة لدى الأمويين، نجد من ذريته محمد بن عبيد الله يلي المدينة في آخر عهد الأمير عبد الله بن محمد، ومن أسرة ابن شهيد تولى المدينة كل من: أمية بن عيسى بن شهيد وولده محمد بن أمية. ومن أسرة ابن غانم وليد بن عبد الرحمن بن غانم وولده محمد بن وليد، وهناك ثلاثة من أسرة ابن أبي عبد هـ تولوا المدينة، وهم: أحمد بن محمد بن أبي عابده وابنه عيسى ومن بعده أحمد بن عيسى. والأسرة الأموية تحرص على أن تحصر خطط الدولة في أسر معينة؛ ولذا نجد الخليفة الحكم المستنصر بالله عندما بلغه نبأ وفاة صاحب المدينة   1- الحلة السيراء، 1/277. 2- تاريخ القضاء في الأندلس، ص495. 3- البيان المغرب، 3/54. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 924 بالزهراء محمد بن أفلح يوم السبت إحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة 364هـ (فبراير 975م) سارع إلى تعيين زياد بن أفلح مكان أخيه المتوفى مجموعة إلى ما بيده من خطتي الخيل والحشم وولاية كورة فريش1.   1- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 210. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 925 النتائج: وبعد هذه الدراسة التي تعرفنا من خلالها على نظم حكم الأمويين ورسومهم في الأندلس أود أن أختم ذلك بذكر عدد من النتائج. نظام الحكم في الدولة الأموية وراثي، يرثه الأبناء عن الآباء، ولم يحدث أن تولى الأخ بعد أخيه إلا مرة واحدة، وذلك عندما تولى الأمير عبد الله بن محمد رئاسة الدولة بعد أخيه المنذر، فولاية العهد كانت تسند للأصلح من الأبناء دونما اعتبار للسن. الصراع الذي شهدته الدولة الأموية يمكن تقسيمه إلى قسمين، وقعا في فترتين مختلفتين، ففي النصف الأول من ذلك العصر كان الصراع منحصراً في أبناء البيت الأموي، وعندما اختفى هذا النمط من الصراع ظهر نوع آخر، حيث اندلعت حركات التمرد والعصيان في كافة أرجاء الأندلس، وإذا كان هدف النوع الأول من الصراع الوصول إلى السلطة، فإن النوع الثاني كان تعبيراً لزعماء تم تجاهلهم والاستئثار دونهم بكل شيء، وهو نتاج طبيعي للفساد الإداري الذي عاشته الدولة في النصف الثاني من عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن. عمد الأمير عبد الرحمن الداخل منذ تأسيس دولته إلى اصطناع الموالي والرقيق والصقالبة، فاستعان بهم على تدعيم سلطانه، وسار من أتى بعده من الأمراء والخلفاء على هذه السياسة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 928 الدولة الأموية قدمت كل من هو شامي على نظيره البلدي، سواء في الإدارة أو الجيش أو رسوم الدخول على الحكام أو ما سوى ذلك، وهذا الرسم وضعه الأمير عبد الرحمن الداخل منذ بداية قيام دولته. إن ظهور الزعامات القبلية في الأندلس يعود سببه إلى توزيع الأراضي إقطاعاً على القبائل التي شاركت في الفتح، وهذا الإجراء جعل كل قبيلة تحافظ على وحدتها، مما حال دون انصهار طوائف المجتمع، الأمر الذي أدى إلى اندلاع الحروب بين تلك الفئات فيما بعد. الدولة الأموية اعتمدت على أسر مساندة حصرت الخطط في أبنائها، فعاشت قوية متماسكة، وصمدت أما الهزات، هذه السياسة حاربها المنصور بن أبي عامر، فأخمل ذكر تلك الأسر، واختار أسوأ الرجال وأقلهم كفاءة، فجعل الخطط في أيديهم، ولذا فقد عاشت الدولة من بعده فراغاً سياسياً كبيراً، أدى إلى انهيارها بسرعة بعد وفاته. تعيين الولاة في الثغور البرية والبحرية غالباً ما يخضع لاعتبارات خاصة، فالأمير عبد الرحمن الداخل جعل الرماحس والياً على الجزيرة الخضراء لأنه كان من رجال البحر، وأما عمال الثغور البرية فهم في الغالب من أرباب السيف ورجال الحرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 929 هيمنة الوزراء على الأمير أو الخليفة وتسلطه عليه، هو نذير شؤم على الدولة ككل، إذ أن أهل الطموح يتحركون للتخلص من ذلك المتسلط بأي وسيلة، وهذا ما عاشته الدولة في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن بسبب تسلط الوزير هاشم بن عبد العزيز علي، وتكرر في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله عندما تسلط عليه جعفر المصحفي، مما دفع بقية أبناء البيوتات المساندة للأسرة الأموية أن تسعى جاهدة للتخلص من المصحفي، وعندما تم لهم ذلك كانت النتيجة وصول المنصور بن أبي عامر للسلطة، والقضاء على هيبة بني أمية. الدولة الأموية دولة رجال، تحرص دائماً على الأكفأ، يدل على ذلك أن قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي عندما قرع الخليفة عبد الرحمن الناصر في خطبة الجمعة بسبب تخلفه ثلاث مرات عن شهودها، لم يعزله الخليفة بل ثبته في منصبه. الخليفة عبد الرحمن الناصر لم يهتم إلا بابنه الحكم، فقد أعده إعداداً سياسياً وإدارياً، وأما بقية أبنائه فلا نصيب لهم من ذلك الاهتمام، وهذا ما كان له أثره القوي في سرعة انهيار الدولة لعدم وجود المؤهل من الأسرة الأموية بعد الحكم المستنصر بالله. الخليفة الحكم المستنصر بالله لم يستطع التخلص من أزمة السلطة الوراثية التي لا تعترف بالأكفاء، وإنما بالابن المحبب، فجره ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 930 إلى تقديم ولده الصبي هشام لولاية العهد من بعده، دون أن يدرك أنه في تصرفه هذا قد مهد الطريق بقوة لسقوط الدولة. المنصور بن أبي عامر لم يعمل قط إلا لمصلحة نفسه، ورفعة شأنه، ولأجل هذا فقد وجه سهامه ضد الخلافة الأموية، ناسياً أنها الرمز القوي لوحدة البلاد. الأمويون عند معالجتهم للأحداث الطارئة، ساروا على منهج يقوم على نبذ العجلة وعدم التسرع، فكل خبر يرفع إليهم، يعملون على كشفه والتأكد من، فإذا ثبتت صحته، عالجوا ما يمكن معالجته، بالصفح والمصالحة أو التأديب الذي لا يتلف الروح، هذه السياسة غيرها المنصور بن أبي عامر، فقد جعل مكان اللين غلظة، والسكون حركة، واستخدم البطش بدلا الأناة، وجعل المحاربة مكان السلم والموادعة. المنصور بن أبي عامر كان حريصاً على نيل الخلافة، ولكن خشيته من قيام الرعية ضده، حال بينه وبين ما يشتهي، وهذا ما غفل عنه ابنه شنجول عندما تسمى بولاية العهد، مما تسبب في هيجان شعبي أودى به. منصب الحاجب منذ بداية الدولة الأموية وحتى نهاية عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، لم يختلف عن منصب الوزارة بشيء، إذا استثنيا بعض الرسوم، فهو أشبه ما يكون بوزير تنفيذ، ولكن هذا المنصب بلغ أوج عظمته عندما تسلط العامريون على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 931 الخلافة، فقد أصبح الحاجب العامري بحق رئيساً للوزراء، فبيده عزلهم وتعيينهم، ولذا فقد تحول منصب الحاجب في تلك الفترة إلى وير تفويض. المنصور بن أبي عامر أخل بتركيبة الجيش الأموي، الذي كان يتميز بالقبائل والعشائر والبطون والأفخاذ، فقدم المنصور القواد على الأجناد، وفي هذه الحالة أصبح في جند القائد فرق من قبائل شتى، وبذلك قضى على الروح القبلية التي كانت كل قبيلة تحرص على حفظ كرامتها من خلال سمعتها في المعارك، كل هذا فعله المنصور ليتحكم في الجيش ويجعله أداة قمع بيده ضد الرعية. جميع الرسوم التي درجت عليها الدولة الأموية اختفت في الفتنة التي تركت آثارها السلبية على كافة مجالات الحياة. الصقالبة كان لهم دورهم القوي في الدولة الأموية، فقد بلغوا مكانة أصبحوا معها يمثلون طبقة متميزة في المجتمع، وبلغوا أوج عظمتهم في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، حتى أن أمر دولته كان بيد جعفر الصقلبي، ورغم ضجر الرعية منهم ومن تصرافتهم، إلا أن الخليفة كان لا يوقفهم عند حدهم، بل كان يطالب الرعية باحتمالهم وغض الطرف عنهم، الأمر الذي دفع الناس إلى محاربتهم بمجرد وفاة الخليفة، مما مكن ابن أبي عامر من بلوغ مرامه والانفراد بالسلطة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 932 وبذلك تم البحث، فلله جل وعلا الحمد والثناء، الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 933 مصادر ومراجع ... قائمة المصادر والمراجع1 أولاً المصادر: ابن الأبار (أبو عبد الله محمد بن عبد الله القضاعي) : - الحلة السيراء، تحقيق: د. حسين مؤنس، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة 1963م. - التكملة لكتاب الصلة: القسم الأول، تحقيق: الفريد بل وابن أبي شنب، طبعة الجزائر سنة 1337هـ (1919م) والجزآن التاليان اللذان نشرهما كوديرا، طبعة مدريد 1886-1887م، والقسم الذي نشره عزت العطار الحسيني، طبعة القاهرة، 1375هـ (1955م) . ابن الأثير (أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد) : - الكامل في التاريخ، تحقيق: أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ (1987م) . الإدريسي (أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله) : نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، مكتبة الثقافة الدينية القاهرة، بدون تاريخ. الأزدي (علي بن ظافر) : 1 - اقتصرت في هذه القائمة على ذكر أهم المصادر والمراجع وأغفلت ذكر ما كانت الفائدة منه محدودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 936 - بدائع البدائه، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1970م. الأزدي (أبو الوليد هشام بن عبد الله) : - مفيد الحكام في نوازل الأحكام، مخطوط رقم 103، رقم الفهرست 2/217، بتاريخ 1277هـ، مكتبة المسجد النبوي الشريف، المدينة النبوية. الأصطخري (أبو إسحاق إبراهيم بن محمد) : المسالك والممالك، تحقيق: د. محمد جابر عبد العال، مراجعة: محمد شفيق غربال، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة، 1381هـ (1961م) . ابن أبي أصييعه (أبو العباس أحمد بن القاسم) : - عيون الأبناء في طبقات الأطباء، شرح وتحقيق: د. فؤاد رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت. الأعرج (أبو الفضل محمد) : تحرير السلوك في تدبير الملوك، تحقيق ودراسة: د. فؤاد عبد المنعم أحمد، مكتبة شباب الجامعة الأسكندرية، 1982م. ابن بسام (أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني) : - الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق: د. إحسان عباس، الدار العربية للكتب، ليبيا - تونس، 1399هـ (1979م) . ابن بشكوال (أبو القاسم خلف بن عبد الملك) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 937 - الصلة، لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، 1966م. البكري (أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز) جغرافية الأندلس وأوربا من كتاب "المسالك والممالك" تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي دار الإرشاد، بيروت، 1387هـ (1968م) . - المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، نشر دي سلان De Slane الجزائر، 1858م. البكري (أبو عبد الله محمد بن عبد الله) : لباب اللباب، المطبعة التونسية، تونس، 1346هـ. التهانوي (محمد علي بن شيخ علي بن قاضي محمد) : - كشاف إصطلاحات الفنون، طبعة كلكته، 1862م. الثعالبي (أبو منصور عبد الملك بن محمد) آداب الملوك، تحقيق: د. جليل العطية، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990م. الجاحظ (أبو عثمان عمر بن بحر) : -كتاب التاج في أخلاق الملوك، تحقيق: أحمد زكي المطبعة الأميرية، القاهرة، 1332هـ (1914م) . ابن حزم (أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد) : - جمهرة أنساب العرب، تحقيق: عبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، 1391هـ (1971م) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 938 - طوق الحمامة، تحقيق: حسن صيرفي، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، بدون تاريخ. - نقط العروس في تواريخ الخلفاء، تحقيق: د. شوقي ضيف، مجلة كلية الأداب، جامعة فؤاد الأول، م13 ج2 ديسمبر 1951م. - الفصل في الملل والأهواء والنحل، وبهامشه الملل والنحل للشهرستاني، المطبعة الأدبية القاهرة، 1317هـ. الحضرمي (أبو بكر محمد بن المرادي) : - كتاب السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة، تحقيق: د. سامي النشار، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، 1401هـ (1981م) . الحموي (شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت) : - معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1975م. الحميدي (أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح الأزدي) : - جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة 1966م. الحميري (أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم) : - الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق: د. إحسان عباس، مكتبة لبنان، بيروت 1984م. ابن حوقل (أبو القاسم محمد بن علي) : - صورة الأرض، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979م. ابن حيان (أبو مروان حيان بن خلف) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 939 - المقتبس في تاريخ رجال الأندلس، نشر ملشور م. انطونيا، باريس، 1937م. - المقتبس في أخبار بلد الأندلس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، دار الثقافة، بيروت 1983م. - المقتبس، تحقيق: د. محمود علي مكي، دار الكتاب العربي، بيروت 1973م. - المقتبس الجزء الخامس، نشره: ب. شالميتا، ف. كورنيطي، م. صبح، المعهد الأسباني العربي للثقافة، مدريد 1979م. الخشني (أبو عبد الله محمد بن حارث) : - قضاة قرطبة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة 1966م. - أخبار الفقهاء والمحدثين، تحقيق: لويس مولينا، المجلس الأعلى للأبحاث العلمية، مدريد، 1992م. ابن الخصاف (أحمد بن عمرو بن مهر الشيباني) : - كتاب أدب القاضي، شرح: أبو بكر أحمد بن علي الرازي، تحقيق: فرحات زياده، الجامعة الأمريكية، القاهرة، 1979م. ابن الخطيب (لسان الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله) : - الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق، محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1393-1397هـ (1973-1976م) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 940 - أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام "تاريخ إسبانيا الإسلامية" نشر: ليفي بروفنسال، دار المكشوف، بيروت، 1956م. أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام "تاريخ المغرب العربي في العصر الوسيط" تحقيق: د. أحمد مختار العبادي ومحمد إبراهيم الكتاني، دار الكتاب، الدار البيضاء، المغرب، 1964م. - معيار الإختيار، تحقيق: د. محمد كمال شبانة، الإمارات -المغرب، بدون تاريخ. ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد) - المقدمة، تحقيق: د. علي عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ. - تاريخ ابن خلدون، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1391هـ (1971م) ابن دحية (أبو الخطاب عمر بن الحسن) : المطرب في أشعار أهل المغرب، تحقيق: مصطفى عوض، الخرطوم 1954م. الرصاع (قاضي الجماعة محمد الأنصاري التونسي) : - كتاب شرح حدود الإمام أبي عبد الله بن عرفة، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، المغرب، 1412هـ (1992م) . الرقيق القيرواني (أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 941 - تاريخ إفريقية والمغرب، تحقيق: د. عبد الله العلي الزيدان، د. عز الدين موسى، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990م. الزبيدي (أبو بكر محمد بن الحسن) : -طبقات النحويين واللغويين، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1984م. السبكي (قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب) :- -معيد النعم ومبيد النقم، تحقيق: محمد علي النجار، وغيره، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1367هـ (1948م) . ابن سعيد (علي بن موسى المغربي) - المغرب في حلى المغرب، تحقيق: د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة 1969م. السقطي (أبو عبد الله محمد بن أبي محمد) : - آداب الحسبة، نشر: ج. س. كولان، وليفي بروفنسال، باريس، 1931م. ابن سلام (أبو عبيد القاسم) : -كتاب السلاح، تحقيق: د. صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405هـ (1985م) . ابن سماك (أبو القاسم محمد بن أبي العلاء المالقي) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 942 -الزهرات المنثورة في نكت الأخبار المأثورة، تحقيق: د. محمود علي مكي، مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية، المجلدان 20-21، مدريد 1979-1980م/1981-1982م. الشاطبي (أبو إسحاق إبراهيم بن موسى) : - الفتاوى، تحقيق: محمد أبو الأجفان، تونس، 1406هـ (1958م) . صاعد (أبو القاسم صاعد بن أحمد البغدادي) : - طبقات الأمم، تحقيق: حياة العيد أبو علوان، دار الطليعة، بيروت 1985م. الضبي (أبو جعفر أحمد بن يحيى) : - بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس: نشر: فرانسيسكو كوديرا "F.CODERA" وخليان ربيرا "J. RIBERA" مطبعة روخس، مجريط 1884م. طاش كبرى زاده (أحمد بن مصطفى) : - مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، مراجعة وتحقيق: كامل بكري وعبد الوهاب أبو النور، دار الكتب الحديثة القاهرة، 1968م. الطرطوسي (مرضي بن علي بن مرضي) . - تبصرة أرباب الألباب، تحقيق: ونشر: كلود كاهين، بيروت 1948م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 943 الطرطوشي (أبو بكر محمد الوليد) : - سراج الملوك، المكتبة المحمودية، القاهرة، 1354هـ (1953م) . العباسي (الحسن بن عبد الله بن محمد) : - آثار الأول في تدبير الدول، مطبوع على هامش تاريخ الخلفاء للسيوطي، القاهرة، 1305هـ. ابن عبد ربه (أبو عمر أحمد بن محمد) : - العقد الفريد، تحقيق: أحمد أمين، وغيره، لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، 1359هـ (1940م) . ابن عبد الرفيع (أبو إسحاق إبراهيم بن حسين) : - معين الحكام على القضايا والأحكام، تحقيق: د. محمد بن قاسم بن عباد، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1989م. ابن عبد ون (محمد بن عبد الله النخعي، أو محمد بن أحمد التجيبي) : - في القضاء والحسبة (ضمن مجموعة ثلاث رسائل في الحسبة) تحقيق: ليفي بروفنسال، القاهرة، 1955م. ابن عذاري (أبو العباس أحمد بن محمد) : البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب: تحقيق: ج. س. كولان، وليفي بروفنسال، دار الثقافة، بيروت، 1983هـ. العذري (أبو العباس أحمد بن عمر) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 944 نصوص عن الأندلس من كتاب "ترصيع الأخبار وتنويع الآثار والبستان في غرائب البلدان والمسالك إلى جميع الممالك "تحقيق: د. عبد العزيز الأهواني، معهد الدراسات الإسلامية، مدريد، 1965م. ابن العطار (محمد بن أحمد الأموي) : كتاب الوثائق والسجلات، تحقيق: ب. شالميتا- ف. كورينطي، المعهد الأسباني العربي للثقافة، مدريد، 1983م. عياض (القاضي أبو الفضل بن موسى بن عياض) : - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، تحقيق: سعيد أحمد غراب، وزميليه، وزارة الثقافة والشئون الإسلامية، المغرب، 1402هـ (1982م) . ابن غالب (محمد بن أيوب) : - قطعة من كتاب "فرحة الأنفس في أخبار الأندلس" نشر قطعة منه د. لطفي عبد البديع، تحت عنوان "تعليق منتقى من فرحة الأنفس" مجلة معهد المخطوطات العربية، العدد الأول، القسم الثاني، القاهرة 1375هـ (1955م) ، عن كور الأندلس ومدنها بعد الأربعمائة، تحقيق: د. لطفي عبد البديع، مطبعة مصر، القاهرة 1956م. الغساني (محمد بن عبد الوهاب) -رحلة الوزير في افتكاك الأسير، بعناية، الفريد البستاني، نشر، مؤسسة الجنرال فرانكو 1939م ابن فرحون (برهان الدين إبراهيم بن علي) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 945 - تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، راجعه وقدم له: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1406هـ (1986م) . - الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، مكتبة عباس بن عبد السلام بن شقرون، القاهرة، 1351م. ابن الفرضي (أبو الوليد عبد الله بن محمد الأزدي) : - تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس، نشر: عزت العطار الحسيني، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1408هـ (1988م) . ابن فضل الله العمري (أحمد بن يحيى) : - التعريف بالمصطلح الشريف، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية بيروت، 1408هـ (1988م) . الفيروزبادي (أبو طاهر محمد بن يعقوب) : - القاموس المحيط، المطبعة المصرية، القاهرة، 1352هـ (1933م) . ابن القوطية (أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز) : - تاريخ افتتاح الأندلس، ملحق به "الرسالة الشريفية في الأقطار الأندلسية" نشر: باسكوال دي جايانجوس "P.GAYANGOS" مدريد، 1868م. ابن الكردبوس (أبو مروان عبد الملك) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 946 - الأندلس، قطعة من كتاب الإكتفاء في تاريخ الخلفاء "تحقيق: د. أحمد مختار العبادي، معهد الدراسات الإسلامية، مدريد، 1971م. الماوردي (أبو الحسن علي بن محمد) : - كتاب الأحكام السلطانية، تصحيح: السيد محمد بدر الدين الحلبي مكتبة الخانجي، القاهرة 1327هـ (1909م) . المراكشي (عبد الواحد بن علي) : - المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق: محمد سعيد العريان، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية القاهرة 1383هـ (1963م) . المقري (أبو العباس أحمد بن محمد) : - أزهار الرياض في أخبار عياض، تحقيق: مجموعة من الأساتذة، لجنة التراث الإسلامي المشتركة بين دولتي الإمارات العربية والمملكة المغربية، 1398هـ (1978م) . - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1388هـ (1968م) . ابن منظور (جمال الدين محمد بن مكرم) : لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1374هـ (1955م) . مؤلف مجهول: - أخبار مجموعة في فتح الأندلس وذكر أمرائها رحمهم الله والحرب الواقعة فيما بينهم، نشر: لافونتي أي الكنترا LA FUENTE Y ALCANTARA، مع ترجمة إسبانية، مدريد 1867م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 947 مؤلف مجهول: - تاريخ عبد الرحمن الناصر، تقديم: د. عدنان محمد آل طعمه، دار سعد الدين، دمشق 1992م. مؤلف مجهول: - الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، تحقيق: د. سهيل زكار وعبد القادر زمامه، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء المغرب، 1399هـ (1979م) . مؤلف مجهول: - ذكر بلاد الأندلس، تحقيق: لويس مولينا، الجزء الأول، مدريد 1983م. مؤلف مجهول: - كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار، تحقيق: د. سعد زغلول، الدار المغربية، المغرب 1985م. مؤلف مجهول: - نبذ تاريخية في أخبار البربر في القرون الوسطى، منتخبة من كتاب مفاخر البربر، نشر: ليفي بروفنسال، مطبوعات معهد العلوم العليا المغربية، المغرب، 1352هـ (1934م) . النباهي (أبو الحسن علي بن عبد الله) : - تاريخ قضاة الأندلس، المسمى بكتاب المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، تحقيق: ليفي بروفنسال، بيروت، بدون تاريخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 948 النويري (أحمد بن عبد الوهاب) : - نهاية الأرب في فنون الأدب، الجزء الثالث والعشرون، تحقيق: د. أحمد كمال زكي، مراجعة: د. محمد مصطفى زياده، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1980م. الونشريسي (أحمد بن يحيى) : - المعيار المعرب والجامع المغرب من فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب، بإشراف: د. محمد حجي، نشر: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية للملكة المغربية، 1401هـ (1981م) . أبو يوسف (يعقوب بن إبراهيم) : - كتاب الخراج، نشر المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، 1352هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 949 ثانياً المراجع: أحمد بن خالد الناصري: - الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق: جعفر ومحمد أحمد الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1954م. أحمد مختار العبادي: - دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، الناشر: محمد أحمد بسيوني، مؤسسة شباب الجامعة الأسكندرية 1968م. - الصقالبة في أسبانيا، لمحة عن أصلهم ونشأتهم وعلاقتهم بحركة الشعوبية، المعهد المصري للدراسات الإسلامية، مدريد، 1373هـ (1952م) . - تاريخ المغرب والأندلس، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1986م. - مشاهدات لسان الدين بن الخطيب في بلاد المغرب والأندلس، جامعة الأسكندرية 1958م. د. إسماعيل العربي: - دولة الأدارسة ملوك تلمسان وفاس وقرطبة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1403هـ (1984م) . آنخل جنثالث بالنثيا: - تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة: د. حسين مؤنس، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1955م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 950 شكيب أرسلان: - تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزر البحر المتوسط، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة، 1352هـ. د. حسن الباشا: - الألقاب الإسلامية في التاريخ والوثائق والآثار، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1957م. د. حسين مؤنس: - أثر ظهور الإسلام في الأوضاع السياسية والاقتصادية في البحر الأبيض المتوسط، المجلة التاريخية المصرية، المجلد السابع، العدد الأول، مايو 1951م، القاهرة. - رحلة الأندلس حديث الفردوس المفقود، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة، 1963م. - غارات النورمانديين على الأندلس بين سنتي 229-245هـ (844-859م) المجلة التاريخية المصرية، المجلد الثاني، العدد الأول، مايو 1949م القاهرة. - فجر الأندلس، دراسة في تاريخ الأندلس من الفتح الإسلامي إلى قيام الدولة الأموية، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة 1959م. - معالم تاريخ المغرب والأندلس، دار ومطابع المستقبل، القاهرة، 1980م. د. رجب محمد عبد الحليم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 951 - العلاقات بين الأندلس الإسلامية وأسبانيا النصرانية في عصر بني أمية وملوك الطوائف، منشورات: دار الكتب الإسلامية، القاهرة -بيروت، 1985م. ستانلي بول: - العرب في أسبانيا، ترجمة: علي الجارم، دار المعارف، القاهرة، 1947م. د. سعاد ماهر: - البحرية في مصر الإسلامية وآثارها الباقية، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1967م. د. سيد عبد العزيز سالم: - تاريخ البحرية الإسلامية في حوض البحر الأبيض المتوسط، مؤسسة شباب الجامعة، الأسكندرية، 1981م. - تاريخ مدينة المرية الإسلامية، قاعدة أسطول الأندلس، مكتبة شباب الجامعة، الأسكندرية، 1984م. - تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس، من الفتح العربي حتى سقوط الخلافة بقرطبة، دار المعارف، القاهرة، 1962م. - قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس، دراسة تاريخية عمرانية أثرية، في العصر الإسلامي، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1984م. شكيب أرسلان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 952 - الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية، المكتبة التجارية الكبرى بفاس، 1355هـ (1936م) . د. صلاح الدين المنجد: - معجم بني أمية، مستخرج من تاريخ دمشق، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1970م. د. عبد الرحمن الحجي: - أندلسيات، المجموعة الثانية، دار الإرشاد، بيروت 1389هـ (1969م) . عبد الرحمن زكي: - السلاح في الإسلام، الجمعية الملكية للدراسات التاريخية، القاهرة، 1901م. عبد الرحمن الفاسي: -خطة الحسبة في النظر والتطبيق والتدوين، مكتبة دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، 1404هـ (1984م) . عبد الرؤوف عون: - الفن الحربي في صدر الإسلام، دار المعارف القاهرة، 1961م. عبد الواحد ذنون طه: - دراسات أندلسية في التاريخ الأندلسي، بيروت 1987م. علي بهجت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 953 - قاموس الأمكنة والبقاع التي يرد ذكرها في كتب الفتوح، شركة طبع الكتب العربية القاهرة، 1324هـ (1906م) . كليليا سارنللي تشركوا: - مجاهد العامري، قائد الأسطول العربي في غربي البحر المتوسط في القرن الخامس الهجري، لجنة البيان العربي، القاهرة 1961م. ليفي بروفنسال: الحموديون سادة مالقة والجزيرة الخضراء، ترجمة: د. عدنان محمد آل طعمه، دار سعد الدين، دمشق 1992م. لويس سيكودي لوثينا: - الإسلام في المغرب والأندلس، ترجمة د. عبد العزيز سالم ومحمد صلاح الدين، مراجعة: لطفي عبد البديع، مكتبة النهضة المصرية، 1956م. محمد سالم مذكور: - القضاء في الإسلام، دار النهضة العربية القاهرة، 1383هـ (1964م) . محمد عبد الله عنان: - الآثار الأندلسية الباقية في أسبانيا، دراسة تاريخية أثرية، مؤسسة الخانجي، القاهرة، 1381هـ (1961م) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 954 - دولة الإسلام في الأندلس، الخلافة الأموية والدولة العامرية، العصر الأول، القسم الثاني، مؤسسة الخانجي القاهرة، 1380هـ (1960م) . - دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي لجنة التأليف والترجمة القاهرة 1380هـ. - دولة الإسلام في الأندلس، العصر الأول، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1382هـ (1962م) . محمد عبد الوهاب خلاف: - تاريخ القضاء في الأندلس، من الفتح إلى نهاية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة، 1413هـ (1992م) . - ثلاث وثائق في محاربة الأهواء والبدع في الأندلس، مستخرجه من مخطوط الأحكام الكبرى للقاضي أبي الأصبغ بن سهل، المركز العربي الدولي للأعلام، القاهرة 1981م. - قرطبة الإسلامية في القرن 11م/5 هـ، الحياة الإقتصادية والإجتماعية، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984م. - وثائق في أحكام أهل الذمة في الأندلس، مستخرجة من مخطوط الأحكام الكبرى للقاضي ابن سهل، المركز الدولي العربي للأعلام، القاهرة، 1980م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 955 - وثائق في أحكام القضاء الجنائي في الأندلس، مستخرجة من مخطوط الأحكام الكبرى للقاضي أبي الأصبغ بن سهل، المركز العربي الدولي للأعلام، القاهرة، 1980م. - وثائق في شئون الحسبة في الأندلس، مستخرجة من الأحكام الكبرى للقاضي ابن سهل الأندلسي، المركز الدولي العربي للأعلام، القاهرة، 1985م. محمد مختار باشا: - التوفيقات الإلهامية، في مقارنة التواريخ الهجرية بالسنين الأفرنجية والقبطية، المطبعة الأميرية، بولاق، القاهرة، 1311هـ. محمد ياسين الحموي: - تاريخ الأسطول الإسلامي، مطبعة الترقي، دمشق، 1945م. محمود محمد عرنوس: - تاريخ القضاء في الإسلام، المطبعة المصرية الأهلية الحديثة، القاهرة، 1352هـ (1934م) . ناصر النقشبندي: - نقود أندلسية من أسبانية، مجلة سومر، الجزء الأول، المجلد السابع، مديرية الأثار القديمة العامة، بغداد، 1951م. هشام سليم عبد الرحمن أبو رميلة: - نظم الحكم في الأندلس في عصر الخلافة، (رسالة ماجستير) مقدمة إلى كلية الآداب، جامعة القاهرة، 1975م (لم تطبع) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 956 المراجع الأجنبية: 1- DE LAGRANJ - FERNANDO: - Del “Kitab AL-Durr AL-Munazzam Flmawlid Alnabi AL-Muzzam" De AL-Azafi, AL-Andalus, Madrid- Granada, 1969 Vol XXXIV. 2- F.SIMONET - AND J.LERCHUNOL: - Arabico - Espanola - Granada, 1881. 3- G.C.MILES: The Coinage of the umayyade of spain. New York 1950. 4- JERRIL: AL-Andalus, The art of Islamic spain new york 1992. 5- PROVENCAL: - Histoire de L’ Espagne Musulmane. 3 vols, paris, 1950. - La description de I’espagne, de razi, AL-Andaluse, Vol XVIII 1953. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 957